المهذب
____________________
(1/1)
قال الشيخ الإمام الزاهد الموفق أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي أسعده الله في الدارين الحمد لله الذي وفقنا لشكره وهدانا لذكره وصلواته على محمد خير خلقه وعلى آله وصحبه
____________________
(1/2)
هذا كتاب مهذب أذكر فيه إن شاء الله أصول مذهب الشافعي رحمة الله بأدلتها وما تفرع على أصوله من المسائل المشكلة بعللها وإلى الله عز وجل أرغب وإياه أسأل أن يوفقني فيه لمرضاته وأن ينفعني به في الدنيا والآخرة إنه قريب مجيب وعلى ما يشاء قدير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هو حسبي ونعم الوكيل
كتاب الطهارة باب ما تجوز به الطهارة من المياه وما لا تجوز يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بالماء المطلق وهو ما نزل من السماء أو
____________________
(1/3)
نبع من الأرض فما نزل من السماء ماء المطر وذوب الثلج والبرد والأصل فيه قوله عز وجل { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الآبار والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة
فصل فيما يكره من المياه ولا يكره من ذلك الا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ومن أصحابنا من قال لا يكره كما لا يكره ما تشمس ( بنفسه ) في البرك والأنهار والمذهب الأول والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها وقد سخنت ماء بالشمس يا حميراء لا تفعلي هذا فإنه يورث البرص ويخالف ماء البرك والأنهار لأن ذلك لا يمكن حفظه من الشمس فلم يتعلق به المنع فإن خالف وتوضأ به صح الوضوء لأن المنع منه لخوف الضرر فلم يمنع صحة الوضوء كما لو توضأ بماء يخاف من حره أو برده
فصل في حكم ما سوى الماء المطلق وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فأوجب التيمم على من لم يجد الماء فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في دم الحيض ( يصيب الثوب ) حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء فأوجب الغسل بالماء فدل على أنه لا يجوز بغيره
فصل في تكميل الماء المطلق بغيره فإن كمل الماء المطلق بمائع بأن احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ومعه أربعة أرطال فكمله بمائع لم يتغير به
____________________
(1/4)
كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان قال أبو علي الطبري لا يجوز الوضوء به لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء وبعضها بالمائع ومن أصحابنا من قال إنه يجوز لأن المائع استهلك في الماء فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه
باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده إذا اختلط بالماء شيء طاهر ولم يتغير به لقلته لم يمنع الطهارة ( به ) لأن الماء باق على إطلاقه وإن لم يتغير به لموافقته الماء في الطعم واللون والرائحة كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان أحدهما إن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به لبقاء اسم الماء المطلق وإن كانت الغلبة للمخالط لم يجز لزوال إطلاق اسم الماء
والثاني إن كان ذلك قدرا لو كان مخالفا للماء في صفاته لم يغيره لم يمنع وإن كان قدرا لو كان مخالفا له غيره منع لأن الماء لما لم يغير بنفسه اعتبر بما يغيره كما نقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر لما لم يمكن اعتبارها بنفسها اعتبرت بالجناية على العبيد وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لأنه لا يمكن صون الماء عنه فعفي عنه كما عفي عن النجاسة اليسيرة ( رتى الثوب ) والعمل القليل في الصلاة وإن كان مما يمكن حفظ الماء منه نظرت فإن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة ( به ) لأنه كان ماء في الأصل فهو كالثلج إذا ذاب فيه وإن كان ترابا طرح فيه لم يؤثر لأنه يوافق الماء في التطهير فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك مما يستغنى الماء عنه لم يجز الوضوء به لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر والماء مستغن عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم وماء الباقلاء وإن وقع فيه ما لا يختلط به فتغيرت به رائحته كالدهن الطيب والعود ففيه قولان قال في البويطي لا يجوز الوضوء به كما لا يجوز بما تغير بالزعفران وروى المزني أنه يجوز ( الوضوء به ) لأن تغيره عن مجاوره فهو كما لو تغير بجيفة بقربه وإن وقع فيه قليل كافور فتغير به ريحه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز الوضوء به كما لو تغير بالزعفران
والثاني يجوز لأنه لا يختلط به وإنما يتغير من جهة المجاورة
باب ما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو إما أن يكون راكدا أو جاريا أو بعضه راكدا وبعضه جاريا فإن كان راكدا نظرت في النجاسة فإن كانت نجاسة يدركها الطرف من خمر أو بول أوميتة لها نفس سائلة نظرت فإن تغير أحد أوصافه الماء من طعم أو لون أو رائحة فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه فنص على الطعم والريح وقسنا اللون عليهما لأنه في معناهما وإن تغير بعضه دون بعض نجس الجميع لأنه ماء واحد فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض وإن لم يتغير
____________________
(1/5)
نظرت فإن كان الماء دون القلتين فهو نجس وإن كان قلتين فصاعدا فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث ولأن القليل يمكن حفظه من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتان حدا فاصلا بينهما والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي لأنه روي في الخبر بقلال هجر قال ابن جريج رأيت قلال هجر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئا فجعل الشافعي رحمه الله الشيء نصفا احتياطا وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصار الجميع خمسمائة رطل وهل ذلك تحديد أو تقريب فيه وجهان أحدهما أنه تقريب فإن نقص منه رطل أو رطلان لم يؤثر لأن الشيء يستعمل فيما دون النصف في العادة
والثاني أنه تحديد فلو نقص منه ما نقص نجس لأنه لما وجب أن يجعل الشيء نصفا احتياطا وجب استيفاؤه كما أنه لما وجب غسل شيء من الرأس احتياطا لغسل الوجه صار ذلك فرضا
فإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف ففيه ثلاث طرق
من أصحابنا من قال لا حكم لها لأنها لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السرجين
ومنهم من قال حكمها حكم سائر النجاسات لأنها نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف
ومنهم من قال فيه قولان أحدهما لا حكم لها
والثاني لها حكم
ووجههما ما ذكرناه
وإن كانت النجاسة ميتة لا نفس لها سائلة كالذباب والزنبور وما أشبههما ففيه قولان أحدهما أنها كغيرها من الميتات لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فهو كالحيوان الذي له نفس سائلة
والثاني أنه لا يفسد الماء لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وقد يكون الطعام حارا فيموت بالمقل فيه فلو كان يفسده لما أمر بمقله ليكون شفاء لنا إذا أكلناه فإن كثر من ذلك ما غير الماء ففيه وجهان أحدهما أنه ينجس لأنه ماء تغير بالنجاسة
والثاني لا ينجس لأن ما لا ينجس الماء إذا وقع فيه وهو دون القلتين لم ينجسه وإن تغير به كالسمك والجراد
فصل في كيفية تطهير الماء النجس إذا أراد تطهير الماء النجس نظرت فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو بأن يؤخذ بعضه لأن النجاسة بالتغير وقد زال وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان
____________________
(1/6)
قال في الأم لا يطهر كما لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة
وقال في حرملة يطهر وهو الأصح لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر
ويفارق الكافور والمسك لأن هناك يجوز أن تكون الرائحة باقية وإنما لم تطهر لغلبة رائحة الكافور والمسك وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر ( به ) لأنه ينقص عن قلتين وفيه نجاسة وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء آخر حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة
ومن أصحابنا من قال لا يطهر لأنه دون القلتين وفيه نجاسة والأول أصح لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه وههنا ورد الماء على النجاسة فلم ينجس إذ لو نجس لم يطهر الثوب النجس إذا صب عليه الماء
فصل في الطهارة بالماء الذي طهر وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت فإن كان دون القلتين وطهر بالمكاثرة بالماء لم تجز الطهارة به لأنه وإن كان طاهرا فهو غير مطهر لأن الغلبة للماء الذي غمره وهو ماء أزيل به النجاسة فلم يصلح للطهارة وإن كان أكثر من قلتين نظرت فإن كانت النجاسة جامدة فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه لأنه لا حكم للنجاسة القائمة فكان وجودها كعدمها وقال أبو إسحق وأبو العباس بن القاص لا يجوز حتى يكون بينه وبين النجاسة قلتان فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز لأنه لا حاجة به إلى استعمال ماء فيه نجاسة قائمة وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان قال أبو إسحق لا تجوز الطهارة به لأنه ماء واحد فإذا كان ما يبقى بعدما غرف منه نجسا وجب أن يكون الذي غرفه نجسا والمذهب أنه يجوز لأن ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته فبقي على الطهارة وإن كانت النجاسة ذائبة جازت الطهارة به
ومن أصحابنا من قال لا يتطهر بالجميع بل يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير أنه يأكل الجميع إلا تمرة وهذا لا يصح لأن النجاسة لا تتميز بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمرة
فصل في الماء الجاري إذا كان فيه نجاسة جارية فإن كان الماء جاريا وفيه نجاسة جارية كالميتة والجرية المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر لأنه لم يصل إلى النجاسة فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق والذي بعدها طاهر أيضا لأنه لم تصل إليه النجاسة وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلتين ولم يتغير فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس كالراكد
وقال أبو العباس بن القاص فيه قول آخر قاله في القديم أنه لا ينجس الماء الجاري إلا بالتغير لأنه ماء ورد على النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء المزال به النجاسة وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها فإن ما قبلها وما بعدها طاهر وما يجري عليها إن كان قلتين فهو طاهر وإن كان دونهما فهو نجس وكذلك كل ما يجرى عليها بعدها فهو نجس ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين
وقال أبو إسحق وأبو العباس بن القاص والقاضي أبو حامد ما لم تصل إلى الجيفة فهو طاهر والماء الذي بعد الجيفة يجوز أن يتوضأ منه إذا كان بينه وبين الجيفة قلتان والأول أصح لأن لكل جرية حكم نفسها فلا يعتبر فيه القلتان
فصل من النهر يجري بعضه دون بعض وإن كان بعضه جاريا وبعضه راكدا بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء والماء يجري بجنبه والراكد زائل عن سمت الجري فوقع في الراكد نجاسة وهو دون القلتين فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس وتنجس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتان فيطهر
____________________
(1/7)
باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده الماء المستعمل ضربان مستعمل في طهارة الحدث ومستعمل في طهارة النجس فأما المستعمل في طهارة الحدث فينظر فيه فإن استعمل في رفع حدث فهو طاهر لأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا فكان طاهرا كما لو غسل به ثوب طاهر وهل تجوز به الطهارة أم لا فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان المنصوص أنه لا يجوز لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران
وروي عنه أنه قال يجوز الوضوء به لأنه استعمال لم يغير صفة الماء فلم يمنع الوضوء به كما لو غسل به ثوب طاهر ومن أصحابنا من لم ( يثبت ) هذه الرواية
فإن قلنا لا يجوز الوضوء به فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا فيه وجهان قال أبو القاسم الأنماطي وأبو علي بن خيران رحمة الله عليهما يجوز لأن للماء حكمين رفع الحدث وإزالة النجس فإذا رفع الحدث بقي عليه إزالة النجس والمذهب أنه لا يجوز لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم يزل النجس كالماء النجس فإن جمع الماء المستعمل حتى صار قلتين ففيه وجهان أحدهما أنه يزول حكم الاستعمال كما يزول حكم النجاسة ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال فإذا بلغ قلتين وجب أن يزول عنه حكم الاستعمال
ومن أصحابنا من قال لا يزول لأن المنع منه لكونه مستعملا وهذا لا يزول بالكثرة
وإن استعمل في نفل الطهارة كتجديد الوضوء والدفعة الثانية والثالثة ففيه وجهان أحدهما أنه لا تجوز الطهارة به لأنه مستعمل في طهارة فهو كالمستعمل في رفع الحدث
والثاني أنه يجوز لأنه ماء لم يرفع به حدث ولا نجس فهو كما لو غسل به ثوب طاهر
فصل في الماء المستعمل في النجس وأما المستعمل في النجس فينظر فيه فإن انفصل من المحل متغيرا فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه وإن كان غير متغير ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه طاهر وهو قول أبي العباس وأبي إسحق لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة
والثاني أنه ينجس وهو قول أبي القاسم الأنماطي لأنه ماء قليل لاقى نجاسة فأشبه ما إذا وقعت فيه نجاسة
والثالث أنه إن انفصل والمحل طاهر فهو طاهر وإن انفصل والمحل نجس فهو نجس وهو قول أبي العباس بن القاص لأن المنفصل من جملة الباقي في المحل فكان حكمه في النجاسة والطهارة حكمه فإذا قلنا إنه طاهر فهل يجوز الوضوء به فيه وجهان قال أبو علي بن خيران يجوز وقال سائر أصحابنا لا يجوز وقد مضى توجيههما
باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه إذا تيقن طهارة الماء وشك في نجاسته توضأ به لأن الأصل بقاؤه على الطهارة وإن تيقن نجاسته وشك في طهارته لم يتوضأ به لأن الأصل بقاؤه على النجاسة وإن لم يتيقن طهارته ولا نجاسته توضأ به لأن الأصل طهارته فإن وجده متغيرا ولم يعلم بأي شيء تغير توضأ به لأنه يجوز أن يكون تغيره بطول المكث وإن رأى حيوانا يبول في ماء ثم وجده متغيرا وجوز أن يكون تغيره بالبول لم يتوضأ به لأن الظاهر أن تغيره من البول وإن رأى هرة أكلت نجاسة ثم وردت على ماء قليل فشربت منه ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أنها تنجسه لأنا تيقنا نجاسة فمها
والثاني أنها إن غابت ثم رجعت لم تنجسه لأنه يجوز أن تكون قد وردت على ماء فطهر ( فمها ) فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك
والثالث لا ينجس بكل حال لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفي عنها فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنها من الطوافين عليكم والطوافات
فصل في متى يقبل الإخبار بنجاسة الماء وإن ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شيء نجس لجواز أن يكون قد رأى سبعا ولغ فيه فاعتقد أنه نجس بذلك فإن بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره بالقبلة ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد
____________________
(1/8)
لأن أخبارهم مقبولة ويقبل خبر الأعمى فيه لأن له طريقا إلى العلم به بالحس والخبر ولا يقبل فيه قول صبي ولا فاسق ولا كافر لأن أخبارهم لا تقبل وإن كان معه إناءان فأخبره رجل أن الكلب ولغ في أحدهما قبل قوله ولم يجتهد لأن الخبر مقدم على الاجتهاد كما نقول في القبلة وإن أخبره رجل أنه ولغ في هذا دون ذاك وقال آخر بل ولغ في ذاك دون هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما بأن يكون قد ولغ فيهما في وقتين وإن قال أحدهما ولغ في هذا دون ذاك في وقت معين وقال الآخر بل ولغ في ذاك دون هذا في ذلك الوقت بعينه فهما كالبينتين إذا تعارضتا فإن قلنا إنهما يسقطان سقط خبرهما وجازت الطهارة بهما لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما وإن قلنا إنهما لا يسقطان أراقهما أو صب أحدهما في الآخر ثم تيمم
فصل في الاشتباه في الماء وإن اشتبه عليه ماءان طاهر ونجس تحرى فيهما فما غلب على ظنه طهارته ( منهما ) توضأ به لأنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال فجاز له الاجتهاد فيه عند الاشتباه فيه كالقبلة
فإن انقلب أحدهما قبل الاجتهاد ففيه وجهان أحدهما أنه يتحرى في الثاني لأنه قد ثبت جواز الاجتهاد فيه فلم يسقط بالانقلاب
والثاني وهو الأصح أنه لا يجتهد لأن الاجتهاد يكون بين أمرين فإذا قلنا لا يجتهد فما الذي يصنع فيه وجهان قال أبو علي الطبري يتوضأ به لأن الأصل فيه الطهارة فلا يزال اليقين بالشك
وقال القاضي أبو حامد يتيمم ولا يتحرى لأن حكم الأصل قد زال بالاشتباه بدليل أنه منع من استعماله من غير تحر فوجب أن يتيمم وإن اجتهد فيهما فلم يغلب على ظنه شيء أراقهما أو صب أحدهما في الآخر وتيمم فإن تيمم وصلى قبل الإراقة أو الصب أعاد الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين وإن غلب على ظنه طهارة أحدهما توضأ به والمستحب أن يريق الآخر حتى لا يتغير اجتهاده بعد ذلك فإن تيقن أن الذي توضأ به كان نجسا غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة لأنه تعين له يقين الخطأ فهو كالحاكم إذا أخطأ النص وإن لم يتيقن ولكن تغير اجتهاده فظن أن الذي توضأ به كان نجسا قال أبو العباس يتوضأ بالثاني كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده والمنصوص في حرملة أنه لا يتوضأ بالثاني لأنا لو قلنا إنه يتوضأ به ولم يغسل ما أصابه الماء الأول من ثيابه وبدنه أمرناه أن يصلي وعلى بدنه نجاسة بيقين وهذا لا يجوز وإن قلنا إنه يغسل ما أصابه من الماء الأول نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد وهذا لا يجوز ويخالف القبلة فإن هناك لا يؤدي إلى الأمر بالصلاة إلى غير القبلة ولا إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وإذا قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه وإن قلنا بالمنصوص فإنه يتيمم ويصلي هذا يعيد الصلاة ( أم لا ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يعيد لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع فصار وجوده كعدمه كما لو تيمم ومعه ماء يحتاج إليه للعطش
والثاني يعيد لأنه تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته
والثالث وهو قول أبي الطيب بن سلمة إن كان قد بقي من الأول بقية أعاد لأن معه ماء طاهرا بيقين وإن لم يكن بقي معه شيء لم يعد لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين
وإن اشتبه عليه ماءان ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته ففيه وجهان أحدهما لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين فلا يؤدى بالاجتهاد كالمكي في القبلة
والثاني أنه يتحرى لأنه يجوز إسقاط الفرض بالطاهر في الظاهر مع القدرة على الطاهر بيقين ألا ترى أنه يجوز أن يترك ما نزل من السماء ويتيقن طهارته ويتوضأ بما يجوز نجاسته وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء مستعمل ففيه وجهان أحدهما لا يتحرى لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين بأن يتوضأ بكل واحد منهما
والثاني أنه يتحرى لأنه يجوز أن يسقط الفرض بالطاهر مع القدرة على اليقين
وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء ورد لم يتحر بل يتوضأ بكل واحد منهما وإن اشتبه عليه ماء ( ورد ) وبول انقطعت رائحته لم يتحر بل يريقهما ويتيمم لأن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير فيرد إلى الاجتهاد وإن اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس تحرى فيهما لأن أصلهما على الإباحة فهما كالماءين وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى ففيه قولان قال في حرملة لا يتحرى لأن عليه أمارات تتعلق بالبصر فهو كالقبلة وقال في الأم يتحرى لأن له طريقا إلى إدراكه بالسمع والشم فيتحرى فيه كما يتحرى في وقت الصلاة فإذا قلنا يتحرى فلم يكن له دلالة على الأغلب عنده ففيه وجهان
من أصحابنا من قال لا يقلد لأن من جاز له الاجتهاد في شيء لم يقلد فيه ( غيره ) كالبصير
ومنهم من قال يجوز أن يقلد وهو ظاهر قوله في الأم لأن أماراته تتعلق
____________________
(1/9)
بالبصر وغيره فإذا لم تغلب على ظنه دل على أن أماراته تعلقت بالبصر فصار كالأعمى في القبلة وإن اشتبه ذلك على رجلين فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده ولم يأثم أحدهما بالآخر لأنه يعتقد أن صلاة إمامه باطلة وإن كثرت الأواني وكثر المجتهدون فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به وتقدم أحدهم وصلى بالباقين الصبح وتقدم آخر وصلى بهم الظهر وتقدم آخر وصلى بهم العصر فكل من صلى خلف إمام يجوز أن يكون طاهرا فصلاته خلفه صحيحة وكل من صلى خلف إمام يعتقد أنه نجس فصلاته خلفه باطلة وبالله التوفيق
باب الآنية كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله عليه الصلاة والسلام أيما إهاب دبغ فقد طهر ولأن الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ وأما الكلب والخنزير وما توالد منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لأن الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدباغ
فصل فيما يدبغ به الجلود ويجوز الدباغ بكل ما ينشف فضول الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشب والقرظ وغير ذلك مما يعمل عمله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال أليس في الماء والقرظ ما يطهرانه فنص على القرظ لأنه يصلح الجلد ويطيبه فوجب أن يجوز بكل ما عمل عمله
وهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ فيه وجهان أحدهما لا يفتقر لأن طهارته تتعلق بالاستحالة وقد حصل ذلك فطهر كالخمر إذا استحالت ( خلا ) وقال أبو إسحق لا يطهر حتى يغسل بالماء لأن ما يدبغ به تنجس بملاقاة الجلد فإذا زالت نجاسة الجلد بقيت نجاسة ما يدبغ به فوجب أن يغسل حتى يطهر
فصل في حكم الجلد المدبوغ وإذا طهر الجلد بالدباغ جاز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به وهل يجوز بيعه فيه قولان قال في القديم لا يجوز لأنه حرم التصرف فيه بالموت ثم رخص بانتفاع فيه فبقي ما سوى الانتفاع على التحريم وقال في الجديد يجوز لأنه منع من بيعه لنجاسته وقد زالت النجاسة فوجب أن يجوز البيع كالخمر إذا تخللت
وهل يجوز أكله ينظر فإن كان من حيوان يؤكل ففيه قولان قال في القديم لا يؤكل لقوله صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الميتة أكلها
وقال في الجديد يؤكل لأنه جلد طاهر من حيوان مأكول فأشبه جلد المذكى وإن كان من حيوان لم يؤكل لم يحل أكله لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة والذكاة لا تبيح ما لا يؤكل لحمه فلأن لا يبيحه الدباغ أولى وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني عن القاضي أبي القاسم بن كج أنه حكى وجها آخر أنه يحل لأن الدباغ عمل في تطهيره كما عمل في تطهير ما يؤكل فعمل في إباحته بخلاف الذكاة
____________________
(1/10)
فصل في النجاسة بالموت كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص وروي عن الشافعي رحمه الله أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق
فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال ينجس الشعر بالموت قولا واحدا لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء
ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعا عن تنجيس جميع الشعور فجعل في الشعور قولين أحدهما ينجس لما ذكرناه
والثاني لا ينجس لأنه لا يحس ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت
ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعا عن تنجيس شعر الآدمي خاصة فجعل في الشعور قولين أحدهما ينجس الجميع لما ذكرناه
والثاني ينجس الجميع إلا شعر الآدمي فإنه لا ينجس لأنه مخصوص بالكرامة ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله
وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا إن شعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة وإذا قلنا إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه السلام وجهان أحدهما أنه نجس لأن ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم
وقال أبو جعفر الترمذي هو طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس
وكل موضع قلنا إنه نجس عفي عن الشعرة والشعرتين في الماء والثوب لأنه لا يمكن الاحتراز منه فعفي عنه كما عفي عن دم البراغيث فإن دبغ جلد الميتة وعليه شعر فقد قال في الأم لا يطهر لأن الدباغ لا يؤثر في تطهيره
وروى الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر لأنه شعر نابت على جلد ( طاهر ) فكان كالجلد في الطهارة كشعر الحيوان في حال الحياة وإن جز الشعر من الحيوان نظرت فإن كان من حيوان يؤكل لم ينجس لأن الجز في الشعر كالذبح في الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس فكذلك إذا جز شعره وإن كان من حيوان لا يؤكل فحكمه حكم الحيوان ولو ذبح الحيوان كان ميتة فكذلك إذا جز شعره وجب أن يكون ميتة
فصل في العظم والسن وغيرهما فأما العظم والسن والقرن والظلف والظفر ففيه طريقان من أصحابنا من قال هو كالشعر والصوف لأنه لا يحس ولا يألم
ومنهم من قال ينجس ( ذلك ) قولا واحدا
فصل في اللبن الصائبة بضرع الميتة وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس وأما البيض في جوف الدجاجة الميتة فإن لم يتصلب قشره فهو كاللبن وإن تصلب قشره لم ينجس كما لو وقعت بيضة في شيء نجس
فصل في الحيوان المذبوح إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شيء من أجزائه ويجوز الانتفاع بجلده وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة لأنه جزء طاهر من حيوان ( طاهر ) مأكول فجاز الانتفاع به بعد الذكاة كاللحم
وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه كما ينجس بموته لأنه ذبح لا يبيح أكل اللحم فنجس به كما ينجس بالموت كذبح المجوسي
فصل في الآنية من الذهب والفضة ويكره استعمال أواني الذهب والفضة لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشربوا في آنية ( الذهب ) والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة وهل يكره كراهية تنزية أو تحريم قولان قال في القديم كراهية تنزية لأنه إنما نهى عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم وهذا لا يوجب التحريم
وقال في الجديد يكره كراهية تحريم وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم فتوعد عليه بالنار فدل على أنه محرم وإن توضأ منه صح الوضوء لأن المنع لا يختص بالطهارة فأشبه الصلاة في الدار المغصوبة ولأن الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء وليس في ذلك معصية وإنما المعصية في استعمال الظرف دون ما فيه فإن أكل أو شرب منه لم يكن المأكول والمشروب حراما لأن المنع لأجل الظرف دون ما فيه
وأما اتخاذها ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز لأن الشرع ورد بتحريم
____________________
(1/11)
الاستعمال دون الاتخاذ الثاني لا ( يجوز ) وهو الأصح لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالطنبور والبربط
وأما أواني البلور والفيروزج وما أشبههما من الأجناس المثمنة ففيه قولان روى حرملة أنه لا يجوز لأنه أعظم في السرف من الذهب والفضة فهو بالتحريم أولى
وروى المزني أنه يجوز وهو الأصح لأن السرف فيه غير ظاهر لأنه لا يعرفه إلا الخواص من الناس
فصل في المضبب بالذهب أو الفضة وأما المضبب بالذهب فإنه يحرم قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها فإن اضطر إليه جاز لما روي أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذا أنفا من ذهب وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن كان قليلا للحاجة لم يكره لما روى أنس ( بن مالك ) أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشفة سلسلة من فضة
وإن كان للزينة كره لأنه غير محتاج إليه ولا يحرم لما روى أنس قال كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه من فضة وما بين ذلك حلق الفضة
وإن كان كثيرا للحاجة كره لكثرته ولم يحرم للحاجة وإن كان كثيرا للزينة حرم لقول ابن عمر لا يتوضأ ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة وعن عائشة رضي الله عنها أنها نهت أن تضبب الأقداح بالفضة
ومن أصحابنا من قال يحرم في موضع الشرب لأنه يقع الاستعمال به ولا يحرم فيما سواه لأنه لا يقع به الاستعمال
ومنهم من قال يكره ولا يحرم لحديث أنس في سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل في أواني المشركين وثيابهم ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال لا تأكلوا في آنيتهم إلا إن لم تجدوا عنها بدا فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها ولأنهم لا يجتنبون النجاسة فكره لذلك
فإن توضأ من أوانيهم نظرت فإن كانوا ممن لا يتدينون باستعمال النجاسة صح الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر من جرة نصراني ولأن الأصل في أوانيهم الطهارة
وإن كانوا ممن
____________________
(1/12)
يتدينون باستعمال النجاسة ففيه وجهان أحدهما أنه يصح الوضوء لأن الأصل في أوانيهم الطهارة
والثاني لا يصح لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة كما يتدين المسلمون بالماء الطاهر
فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة
ويستحب تغطية الإناء لما روى أبو هريرة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الإناء وإيكاء السقاية
باب السواك السواك سنة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ويستحب في ثلاثة أحوال أحدها عند القيام للصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك
والثاني عند اصفرار الأسنان لما روى العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال استاكوا لا تدخلوا علي قلحا
والثالث عند تغير الفم وذلك قد يكون من النوم وقد يكون بالأزم وهو ترك الأكل وقد يكون بأكل شيء يتغير به الفم لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك وإنما استاك لأن النائم ينطبق فمه ويتغير وهذا المعنى موجود في كل ما يتغير به الفم فوجب أن يستحب له السواك
ولا يكره إلا في حالة واحدة وهو للصائم بعد الزوال لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والسواك يقطع ذلك فوجب أن يكره ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهداء
والمستحب أن يستاك عرضا لقوله صلى الله عليه وسلم استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا
____________________
(1/13)
والمستحب ألا يستاك بعود رطب لا يقلع ( الصفرة ) ولا بيابس يجرح اللثة بل يستاك بعود بين عودين وبأي شيء استاك مما يقلع القلح ويزيل التغير كالخرقة الخشنة وغيرها أجزأه لأنه يحصل به المقصود وإن أمر إصبعه على أسنانه لم يجزئه لأنه لا يسمى سواكا
فصل في الأظافر ويستحب أن يقلم الأظافر ويغسل البراجم ويقص الشارب وينتف الإبط ويحلق العانة لما روى عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الفطرة عشرة المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وتقليم الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط والانتضاح بالماء والختان والاستحداد
فصل في حكم الختان ويجب الختان لقوله عز وجل { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } وروي أن إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم ولأنه لو لم يكن واجبا لما كشفت له العورة لأن كشف العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه
باب نية الوضوء الطهارة ضربان طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن النجس فلا تفتقر إلى النية لأنها من باب التروك فلم تفتقر إلى النية كترك الزنا والخمر واللواط والغصب والسرقة وأما الطهارة عن الحدث فهي الوضوء والغسل والتيمم فإنه لا يصح شيء منها إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال فلم تصح من غير نية كالصلاة
فصل في وجوب النية ويجب أن ينوي بقلبه لأن النية هي القصد تقول العرب نواك الله بحفظه أي قصدك الله بحفظه فإن تلفظ بلسانه وقصد بقلبه فهو آكد
فصل الأفضل في محل النية والأفضل أن ينوي من أول الوضوء إلى أن يفرغ منه وأن يكون مستديما للنية فإن نوى عند غسل الوجه ثم عزبت نيته أجزأه لأنه أول فرض
فإذ نوى عنده اشتملت النية على جميع الفروض وإن عزبت نيته عند المضمضة قبل أن يغسل شيئا من وجهه ففيه وجهان أحدهما يجزئه لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض فإذا عزبت النية عنده أجزأه كغسل الوجه
والثاني لا تجزئه وهو الأصح لأن نيته عزبت قبل الفرض فأشبه إذا عزبت عند غسل الكف
وما قاله الأول يبطل بغسل الكف فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض ثم إذا عزبت النية عنده لم تجزئه
فصل في صفة النية وصفة النية أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة من الحدث وأيهما نوى أجزأه لأنه نوى المقصود وهو رفع الحدث فإن نوى الطهارة
____________________
(1/14)
المطلقة لم تجزئه لأن الطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس فلم تصح بنية مطلقة وإن نوى الطهارة للصلاة أو لأمر لا يستباح إلا بالطهارة كمس المصحف ونحوه أجزأه لأنه لا يستباح مع الحدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث فإن نوى الطهارة لقراءة القرآن والجلوس في المسجد وغير ذلك مما يستحب له الطهارة ففيه وجهان أحدهما أنه لا تجزئه لأنه يستباح من غير طهارة فأشبه ما إذا توضأ للبس الثوب
والثاني تجزئه لأنه يستحب له ألا يفعل ذلك وهو محدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث وإن نوى بطهارته رفع الحدث والتبرد والتنظف صح وضوءه على المنصوص في البويطي لأنه نوى رفع الحدث وضم إليه ما لا ينافيه
ومن أصحابنا من قال لا يصح وضوءه لأنه أشرك في النية بين القربة وبين غيرها
وإن أحدث أحداثا ونوى رفع حدث منها ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يصح وضوءه لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع واحد ارتفع الجميع
والثاني أنه لا يصح لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث
والثالث أنه إن نوى به رفع الحدث الأول صح وإن نوى رفع ما بعده لم يصح لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول دون ما بعده والأول أصح وإن نوى أن يصلي به صلاة وألا يصلي غيرها ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يصح وضوءه لأنه لم ينو كما أمر
والثاني يصح لأن نيته للصلاة تضمنت رفع الحدث ونيته ألا يصلي غيرها لغو
والثالث أنه يصح لما نوى اعتبارا بنيته وإن نوى نية صحيحة ثم غير النية في بعض الأعضاء بأن ينوي بغسل الرجل التبرد أو التنظف ولم يحضر نية الوضوء لم يصح ما غسله للتبرد والتنظف
وإن حضرته نية الوضوء وأضاف إليها نية التبرد فعلى ما ذكرت من الخلاف
باب صفة الوضوء المستحب ألا يستعين في وضوئه بغيره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا لا نستعين على الوضوء بأحد فإن ستعان بغيره جاز لما روي أن أسامة والمغيرة والربيع بنت معوذ بن عفراء صبوا على النبي صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ وإن أمر غيره حتى وضأه ونوى هو أجزأه لأن فعله غير مستحق في الطهارة ألا ترى أنه لو وقف تحت ميزاب فجرى الماء عليه ونوى الطهارة أجزأه
فصل استحباب التسمية على الوضوء ويستحب أن يسمى الله تعالى على الوضوء لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ وذكر سم الله تعالى عليه كان طهورا لجميع بدنه فإن نسي التسمية في أولها وذكرها في أثنائها أتى بها حتى لا يخلو الوضوء من سم الله عز وجل وإن تركها عمدا أجزأه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ ولم يذكر سم الله عليه كان طهورا لما مر عليه الماء
فصل في غسل الكفين ثم يغسل كفيه ثلاثا لأن عثمان وعليا كرم الله وجههما وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلا اليد ثلاثا ثم ينظر فإن لم يقم من النوم فهو بالخيار إن شاء غمس يده ثم غسل وإن شاء أفرغ الماء على يده ثم غمس فإن قام من النوم فالمستحب ألا يغمس يده حتى يغسلها لقوله صلى الله عليه وسلم إذا ستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده فإن خالف وغمس لم يفسد الماء لأن الأصل الطهارة فلا يزال اليقين بالشك
فصل في المضمضة والاستنشاق ثم يتمضمض ويستنشق والمضمضة أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثم يمجه ولاستنشاق أن يجعل الماء في أنفه ويمده بنفسه إلى خياشيمه ثم يستنثر لما روى عمر بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ثم يستنشق ويستنثر إلا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء
والمستحب أن يبالغ فيهما لقوله عليه الصلاة والسلام للقيط بن صبرة أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في لاستنشاق إلا أن تكون صائما ولا يستقصي في المبالغة فيكون سعوطا فإن كان صائما لم يبالغ للخبر وهل يجمع بينهما أو يفصل قال في الأم يجمع لأن علي بن أبي طالب عليه السلام وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض مع لاستنشاق
____________________
(1/15)
بماء واحد وقال في البويطي يفصل بينهما لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة ولاستنشاق ولأن الفصل أبلغ في النظافة فكان أولى
وختلف أصحابنا في كيفية الجمع والفصل
فقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة واحدة فيتمضمض منها ثلاثا ويستنشق منها ثلاثا ويبدأ بالمضمضة وعلى رواية البويطي يغرف غرفة فيتمضمض منها ثلاثا ثم يغرف غرفة أخرى فيستنشق منها ثلاثا
وقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة أخرى فيتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف غرفة ثالثة فيتمضمض منها ويستنشق فيجمع في كل غرفة بين المضمضة ولاستنشاق
وعلى رواية البويطي يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق
والأول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله لأنه قال يغرف غرفة لفيه وأنفه
والثاني أصح لأنه أمكن
فإن ترك المضمضة ولاستنشاق جاز لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي توضأ كما أمرك الله وليس فيما أمر الله تعالى المضمضة ولا لاستنشاق ولأنه عضو باطن دونه حائل معتاد فلا يجب غسله كالعين
فصل في غسل العين ولا تغسل العين ومن أصحابنا من قال يستحب غسلها لأن بن عمر رضي الله عنهما كان يغسل عينه حتى عمي والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا ولا فعلا فدل على أنه ليس بمسنون ولأن غسلها يؤدي إلى الضرر
فصل في غسل الوجه وحده ثم يغسل وجهه وذلك فرض لقوله تعالى { فاغسلوا وجوهكم } والوجه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيين طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ولاعتبار بالمنابت المعتادة لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته ولا بمن نزل الشعر إلى جبهته وفي موضع التحذيف وجهان قال أبو العباس هو من الوجه لأنهم أنزلوه من الوجه
وقال أبو إسحاق هو من الرأس لأن الله عز وجل خلقه من الرأس فلا يصير وجها بفعل الناس
فإن كان ملتحيا نظرت فإن كانت لحيته خفيفة لا تستر البشرة وجب غسل الشعر والبشرة للآية وإن كانت كثيفة تستر البشرة وجب إفاضة الماء على الشعر لأن المواجهة تقع به ولا يجب غسل ما تحته لما روى بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة وغسل بها وجهه
وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر مع كثافة اللحية ولأنه باطن دونه حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف
والمستحب أن يخلل لحيته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته فإن كان بعضها خفيفا وبعضها كثيفا غسل ما تحت الخفيف وأفاض الماء على الكثيف
ولا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في الوضوء إلا في خمسة مواضع الحاجب والشارب والعنفقة والعذار واللحية الكثة للمرأة لأن الشعر في هذه المواضع يخف في العادة وإن كثف لم يكن إلا نادرا فلم يكن له حكم
فإن سترسلت اللحية ونزلت عن حد الوجه ففيها قولان أحدهما لا تجب إفاضة الماء عليها لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض فلم يكن محلا للفرض كالذؤابة
والثاني يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا غطى لحيته فقال كشف لحيتك فإنها من الوجه ولأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه فأشبه شعر الخد
فصل في غسل اليدين ثم يغسل يديه وهو فرض لقوله تعالى { وأيديكم إلى المرافق } ويستحب أن يبدأ باليمنى ثم باليسرى لما روى أبو هريرة بميامنكم فإن بدأ باليسرى أجزأ لقوله تعالى { وأيديكم إلى المرافق }
____________________
(1/16)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأتم فبدءوا ولو وجب الترتيب فيهما لما جمع بينهما
ويجب إدخال المرفقين في الغسل لما روى جابر رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه وإن طالت أظافيره وخرجت عن رؤوس الأصابع ففيه طريقان
قال أبو علي بن خيران يجب غسلها قولا واحدا لأن ذلك نادر
ومن أصحابنا من قال فيه قولان كاللحية المسترسلة
وإن كان له إصبع زائدة أو كف زائد لزمه غسلها لأنه في محل الفرض فإن كانت له يدان متساويتان على منكب أو مرفق لزمه غسلهما لوقوع سم اليد عليهما وإن كانت إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالتامة هي الأصلية وينظر في الناقصة فإن كانت خلقت على محل الفرض لزمه غسلها كالإصبع الزائدة وإن خلقت على العضد ولم تحاذ محل الفرض لم يلزمه غسلها وإن حاذت بعض محل الفرض لزمه غسل ما حاذى منها محل الفرض لأن سم اليد يقع عليهما وإن تقلع جلد من الذراع وتدلى منها لزمه غسله لأنه في محل الفرض وإن تقلع من الذراع وبلغ التقلع إلى العضد ثم تدلى منه لم يلزمه غسله لأنه صار من العضد وإن تقلع من العضد وتدلى منه لم يلزمه غسله لأنه جلد تدلى من غير محل الفرض وإن تقلع من العضد وبلغ التقلع إلى الذراع ثم تدلى منه لزمه غسله لأنه صار من الذراع وإن تقلع من أحدهما ولتحم بالآخر لزمه غسل ما حاذى منه محل الفرض لأنه بمنزلة الجلد الذي على الذراع إلى العضد فإن كان ذلك متجافيا عن ذراعه لزمه غسل ما تحته وإن كان أقطع اليد ولم يبق من محل الفرض شيء فلا فرض عليه والمستحب أن يمس ما بقي من اليد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة وإن لم يقدر الأقطع على الوضوء ووجد من يوضئه بأجرة المثل لزمه كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل وإن لم يجد صلى وأعاد كما لو لم يجد ماء ولا ترابا وإن توضأ ثم قطعت يده لم يلزمه غسل ما ظهر بالقطع من الحدث وكذلك لو مسح شعر رأسه ثم حلقه لم يلزمه مسح ما ظهر لأن ذلك ليس ببدل عما تحته فلم يلزمه بظهوره طهارة كما لو غسل يده ثم كشط جلده فإن أحدث بعد ذلك لزمه غسل ما ظهر بالقطع لأنه صار ظاهرا وإن حصل في يده ثقب لزمه غسل باطنه لأنه صار ظاهرا
فصل في مسح الرأس ثم يمسح برأسه وهو فرض لقوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم }
والرأس ما شتمل عليه منابت الشعر المعتاد والنزعتان منه لأنه في سمت الناصية والصدغ من الرأس لأنه من منابت شعره
والواجب منه أن يمسح ( منه ) ما يقع عليه سم المسح وإن قل
وقال أبو العباس بن القاص أقله ثلاث شعرات كما نقول في الحلق في الإحرام
والمذهب أنه لا يتقدر لأن الله تعالى أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير
والمستحب أن يمسح جميع الرأس فيأخذ الماء بكفيه ثم يرسله ثم يلصق طرف سبابته بطرف سبابته الأخرى ثم يضعهما على مقدم رأسه ويضع إبهاميه على صدغيه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه لما روي أن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ولأن منابت شعر الرأس مختلفة ففي ذهابه يستقبل الشعر الذي على مقدم رأسه فيقع المسح على باطن الشعر دون ظاهره ولا يستقبل الشعر من مؤخر رأسه فيقع المسح على ظاهر الشعر فإذا رد يديه حصل المسح على ما لم يمسحه في ذهابه فإن كان عليه شعر فمسح الشعر أجزأه وإن مسح البشرة أجزأه لأن الجميع يسمى رأسا وإن كان له ذؤابة قد نزلت عن الرأس فمسح ما نزل منها عن الرأس لم يجزئه لأنه لا يقع عليها سم الرأس وإن كان له شعر مسترسل عن منبته ولم ينزل عن محل الفرض
____________________
(1/17)
فمسح أطرافه أجزأه لأن سم الرأس يتناوله
ومن أصحابنا من قال لا يجزئه لأنه مسح على شعر في غير منبته فهو كطرف الذؤابة وليس بشيء
وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته والمستحب أن يتمم المسح بالعمامة لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته وعلى عمامته فإن قتصر على مسح العمامة لم يجزئه لأنها ليست برأس ولأنه عضو لا تلحق المشقة في إيصال الماء إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد
فصل في مسح الأذنين ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لما روى المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في جحري أذنيه ويكون ذلك بماء جديد غير الماء الذي مسح به الرأس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه بأذنيه
ولأنه عضو تميز عن الرأس في لاسم والخلقة فلا يتبعه في الطهارة كسائر الأعضاء
قال في الأم والبويطي ويأخذ لصماخيه ماء جديدا غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه لأن الصماخ في الأذن كالفم والأنف في الوجه فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء فكذلك الصماخ في الأذن فإن ترك مسح الأذن جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي توضأ كما أمرك الله وليس فيما أمر الله تعالى مسح الأذنين
فصل في غسل الرجلين ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا ويجب إدخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى { وأرجلكم إلى الكعبين } قال أهل التفسير مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم والدليل عليه ما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه وقال أقيموا صفوفكم فلقد رأيت الرجل ( منا ) يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه فدل على أن الكعب ما قلناه
ويستحب أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى لما ذكرناه في اليد فإن كانت أصابعه منفرجة فالمستحب أن يخلل بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة خلل بين الأصابع وإن كانت ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل وجب التخليل لقوله صلى الله عليه وسلم خللوا بين أصابعكم لا يخلل الله بينها بالنار والمستحب أن يغسل فوق المرفقين وفوق الكعبين لقوله صلى الله عليه وسلم تأتي أمتي يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن ستطاع أن يطيل غرته فليفعل
فصل والمستحب أن يتوضأ ثلاثا والمستحب أن يتوضأ ثلاثا ثلاثا لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين ثم قال من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء خليلي إبراهيم عليه السلام فإن قتصر على مرة وأسبغ أجزأه لقوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإن خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا جاز لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين فإن زاد على الثلاث كره لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم
ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وحكى أبو العباس بن القاص قولا آخر أنه إن نسي الترتيب جاز والمشهور هو الأول والدليل عليه قوله عز وجل { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } فأدخل المسح بين الغسلين
____________________
(1/18)
فصل في وجوب ترتيب الوضوء ويجب أن يرتب الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه وقطع النظير عن النظير فدل على أنه قصد إيجاب الترتيب ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة يرتبط بعضها ببعض فوجب فيها الترتيب كالصلاة والحج فإن غسل أربعة أنفس أعضاءه الأربعة دفعة واحدة لم يجزئه إلا غسل الوجه لأنه لم يرتب
وإن غتسل وهو محدث من غير ترتيب ونوى الوضوء ففيه وجهان أحدهما أنه يجزئه لأنه إذا جاز ذلك عن الحدث الأعلى فلأن يجوز عن الحدث الأدنى أولى
والثاني لا يجزئه وهو الأصح لأنه أسقط ترتيبا واجبا بفعل ما ليس بواجب
فصل في الموالاة بين أعضائه ويوالي بين أعضائه فإن فرق تفريقا يسيرا لم يضر لأنه لا يمكن الاحتراز منه وإن فرق تفريقا كثيرا وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان قال في القديم لا يجزئه لأنه عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة
وقال في الجديد يجزئه لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة
فإذا قلنا إنه يجوز فهل يلزمه ستئناف النية فيه وجهان أحدهما أنه يلزمه لأنها نقطعت بطول الزمان
والثاني لا يستأنف لأنه لم يقطع حكم النية فلم يلزمه لاستئناف
فصل في الذكر عقب الوضوء والمستحب لمن فرغ من الوضوء أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة يدخلها من أي باب شاء ويستحب أن يقول أيضا سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ وقال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يفتح إلى يوم القيامة
ويستحب لمن توضأ ألا ينفض يده لقوله صلى الله عليه وسلم إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم
فصل هل ينشف أعضاءه ويستحب ألا ينشف أعضاءه من بلل الوضوء لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسلا من الجنابة فأتيته بالمنديل فرده ولأنه أثر عبادة فكان تركه أولى فإن تنشف جاز لما روى قيس بن سعد رضي الله عنهما قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلا فغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فلتحف بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه
فصل في فروض الوضوء وسننه والفرض مما ذكرناه أشياء النية وغسل الوجه وغسل اليدين ومسح بعض الرأس وغسل الرجلين والترتيب وأضاف إليه في القديم الموالاة فجعله سبعا
وسننه ثنتا عشرة التسمية وغسل الكفين والمضمضة ولاستنشاق وتخليل اللحية الكثة ومسح جميع الرأس ومسح الأذنين وإدخال الماء في صماخي أذنيه وتخليل أصابع الرجلين وتطويل الغرة ولابتداء بالميامن والتكرار
وزاد أبو العباس بن القاص مسح العنق بعد مسح الأذنين فجعلها ثلاث عشرة وزاد غيره أن يدعو على وضوئه فيقول عند غسل الوجه اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه وعلى غسل اليد اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشمالي وعلى مسح الرأس اللهم حرم شعري وبشري على النار وعلى مسح الأذن اللهم جعلني من الذين يستمعون القول
____________________
(1/19)
فيتبعون أحسنه وعلى غسل الرجلين اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم فجعلها أربع عشرة وبالله التوفيق
باب المسح على الخفين يجوز المسح على الخفين في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقلت يا رسول الله نسيت فقال بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر ولا يجوز ذلك في غسل الجنابة لما روى صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم ثم نحدث بعد ذلك وضوءا ولأن غسل الجنابة يندر فلا تدعو الحاجة فيه إلى المسح على الخف فلم يجز
فصل في توقيت المسح وهل هو موقت أم لا فيه قولان قال في القديم غير مؤقت لما روى أبي بن عمارة قال قلت يا رسول الله أمسح على الخف قال نعم قلت يوما قال ويومين قلت وثلاثة قال نعم وما شئت وروي ( وما بدا لك ) وروي حتى بلغ سبعا قال ( نعم وما بدا لك ) ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الجبائر ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر وقال يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من يوم وليلة للمقيم وإلى أكثر من ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر فلم تجز الزيادة عليه
وإن كان السفر معصية لم يجز أن يمسح أكثر من يوم وليلة لأن ما زاد يستفيده بالسفر والسفر معصية فلا يجوز أن يستفاد بها رخصة ويعتبر ابتداء المدة من حين يحدث بعد لبس الخف لأنها عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة
فصل في المسح في السفر والحضر فإن لبس الخف في الحضر وأحدث ومسح ثم سافر أتم مسح مقيم لأنه بدأ بالعبادة في الحضر فلزمه حكم الحضر كما لو أحرم بالصلاة في الحضر ثم سافر وإن أحدث في الحضر ثم سافر ومسح في السفر قبل خروج وقت الصلاة أتم مسح مسافر من حين أحدث في الحضر لأنه بدأ بالعبادة في السفر فثبت له رخصة السفر
وإن سافر بعد خروج وقت الصلاة ثم مسح ففيه وجهان قال أبو إسحاق يتم مسح مقيم لأن خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في وجوب الإتمام فكذلك في المسح
وقال أبو علي بن أبي هريرة يتم مسح مسافر لأنه تلبس بالمسح وهو مسافر فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت ويخالف الصلاة لأن الصلاة تفوت وتقضى فإذا فاتت في الحضر ثبتت في الذمة صلاة الحضر فلزمه قضاؤها والمسح لا يفوت ولا يثبت في الذمة فصار كالصلاة قبل فوات الوقت
وإن أحدث في السفر ومسح ثم أقام أتم مسح مقيم وقال المزني إن مسح يوما وليلة مسح ثلث يومين وليلتين وهو ثلثا يوم وليلة لأنه لو مسح ثم أقام في الحال مسح ثلث ما بقي له وهو يوم وليلة فإذا بقي له يومان وليلتان وجب أن يمسح ثلثهما ووجه المذهب أنه عبادة تتغير بالسفر والحضر فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب حكم الحضر ولم يقسط عليهما كالصلاة
وإن شك هل مسح في الحضر أو في السفر بنى الأمر على أنه مسح في الحضر لأن الأصل غسل الرجلين والمسح رخصة بشرط فإذا لم يتيقن شرط الرخصة رجع إلى أصل الفرض وهو الغسل وإن شك هل أحدث في وقت الظهر أو في وقت العصر بنى الأمر على أنه أحدث في وقت الظهر لأن الأصل غسل الرجلين فلا يجوز المسح إلا فيما تيقنه
وإن لبس خفيه فأحدث ومسح وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم شك هل كان مسحه قبل الظهر
____________________
(1/20)
أو بعده بنى الأمر في الصلاة ( على ) أنه صلاها قبل المسح فتلزمه الإعادة لأن الأصل بقاؤها في ذمته وبنى الأمر في المدة أنها من الزوال ليرجع إلى الأصل وهو غسل الرجلين
فصل في صفة الخف ويجوز المسح على كل خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه سواء كان من الجلود أو اللبود أو الخرق أو غيرها
فأما الخف المخرق ففيه قولان
قال في القديم إن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه جاز المسح عليه لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه فأشبه الصحيح
وقال في الجديد
إن ظهر من ( الرجل ) شيء لم يجز المسح عليه لأن ما انكشف حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح والجمع بينهما لا يجوز فغلب حكم الغسل كما لو انكشفت إحدى الرجلين واستترت الأخرى
وإن تخرقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة جاز المسح عليه وإن كانت تشف لم يجز لأنه كالمكشوف
وإن لبس خفا له شرج في موضع القدم فإن كان مشدودا بحيث لا يظهر شيء من الرجل واللفافة إذا مشى فيه جاز المسح عليه
وإن لبس جوربا جاز المسح عليه بشرطين أحدهما أن يكون صفيقا لا يشف
والثاني أن يكون منعلا
فإن اختل أحد هذين الشرطين لم يجز المسح عليه
وإن لبس خفا لا يمكن متابعة المشي عليه إما لرقته أو لثقله لم يجز المسح عليه لأن الذي تدعو الحاجة إليه ما يمكن متابعة المشي عليه وما سواه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة
وفي الجرموقين وهو الخف الذي يلبس فوق الخف وهما صحيحان قولان قال في القديم والإملاء يجوز المسح عليه لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه فأشبه المنفرد
وقال في الجديد لا يجوز لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر فلا تتعلق به رخصة عامة كالجبيرة
فإن قلنا بقوله الجديد وأدخل يده في ساق الجرموق ومسح على الخف ففيه وجهان قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله لا يجوز
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لأنه مسح على ما يجوز المسح عليه فأشبه إذا نزع الجرموق ثم مسح عليه فإذا قلنا يجوز المسح على الجرموق فلم يمسح عليه وأدخل يده إلى الخف ومسح عليه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لأنه يجوز المسح على الظاهر فإذا أدخل يده ومسح على الباطن لم يجز كما لو كان في رجله خف منفرد فأدخل يده إلى باطنه ومسح الجلد الذي يلي الرجل
والثاني يجوز لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح على ما شاء منهما
وإن لبس خفا مغصوبا ففيه وجهان قال ابن القاص لا يجوز المسح عليه لأن لبسه معصية فلم تتعلق به رخصة
وقال سائر أصحابنا يجوز لأن المعصية لا تختص باللبس فلم تمنع صحة العبادة كالصلاة في الدار المغصوبة
فصل في اشتراط اللبس على طهارة ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة فإن غسل إحدى الرجلين وأدخلها الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح عليه حتى يخلع ما لبسه قبل كمال الطهارة ثم يعيده إلى رجله والدليل عليه ما روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما
فإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث ثم لبس الجرموقين لم يجز المسح عليه قولا واحدا لأنه لبس الجرموقين على غير طهارة وإن مسح على الخفين ثم لبس الجرموقين ثم أحدث وقلنا يجوز المسح على الجرموقين ففيه وجهان أحدهما لا يجوز المسح عليه لأن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبس على حدث
والثاني يجوز لأن مسح الخف قام مقام غسل الرجلين
وإن تطهر فلبس خفيه فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف لم يجز له المسح نص عليه في الأم لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ باللبس وهو محدث
فصل في الخف للمستحاضة وإذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثا غير حدث الاستحاضة ومسحت على ( الخفين ) جاز لها أن تصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاءت من النوافل وإن تيمم المحدث ولبس الخف ثم وجد الماء لم يجز له المسح على
____________________
(1/21)
الخف لأن التيمم طهارة ضرورة فإذا زالت الضرورة بطلت من أصلها فتصير كما لو لبس الخف على حدث وقال أبو العباس بن سريج يصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاء من النوافل كالمستحاضة
فصل في الكيفية المستحبة للمسح والمستحب أن يمسح أعلى الخف وأسفله فيغمس يديه في الماء ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف وكفه اليمين على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله وهل يمسح على عقب الخف فيه طريقان من أصحابنا من قال يمسح عليه قولا واحدا لأنه خارج من الخف يلاقي محل الفرض فهو كغيره
ومنهم من قال فيه قولان أحدهما يمسح عليه وهو الأصح لما ذكرناه
والثاني لا يمسح لأنه صقيل وبه قوام الخف فإذا تكرر المسح عليه بلي وخلق وأضر به وإن اقتصر على مسح القليل من أعلى الخف أجزأه لأن الخبر ورد بالمسح وهذا يقع عليه اسم المسح فإن اقتصر على مسح ذلك من أسفله ففيه وجهان قال أبو إسحق يجزئه لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض فهو كأعلاه
وقال أبو العباس ( بن سريج ) لا يجزئه وهو المنصوص في البويطي وهو ظاهر ما نقله المزني
فصل فيما يفعله من خلع الخف أو انقضت مدة مسحه إذا مسح على الخف ثم خلعه أو انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح قال في الجديد يغسل قدميه وقال في القديم يستأنف الوضوء واختلف أصحابنا في القولين فقال أبو إسحق هي مبنية على القولين في تفريق الوضوء فإن قلنا يجوز التفريق كفاه غسل القدمين وإن قلنا لا يجوز التفريق لزمه استئناف الوضوء
وقال سائر أصحابنا القولان أصل في أنفسهما أحدهما يكفيه غسل القدمين لأن المسح قائم مقام غسل القدمين فإذا بطل المسح عاد إلى ما قام المسح مقامه كالمتيمم إذا رأى الماء
والثاني يلزمه استئناف الوضوء لأن ما أبطل بعض الوضوء أبطل جميعه كالحدث
فإن مسح على خفيه ثم أخرج الرجلين من قدم الخف إلى الساق لم يبطل المسح على المنصوص لأنه لم تظهر الرجل من الخف وقال القاضي أبو حامد في جامعه يبطل وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأن استباحة المسح تتعلق باستقرار القدم في الخف ولهذا لو بدأ باللبس فأحدث قبل أن تبلغ الرجل إلى قدم الخف ثم أقرها لم يجز ( المسح عليه ) وإن مسح على الجرموق فوق الخف وقلنا يجوز المسح عليه ثم نزع الجرموق في أثناء المدة ففيه ثلاث طرق أحدها أن الجرموق كالخف المنفرد فإذا نزعه كان على قولين أحدهما يستأنف الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويمسح على الخفين
والثاني لا يستأنف الوضوء فعلى هذا يكفيه ( الوضوء ) والمسح على الخفين
والطريق الثاني أن نزع الجرموق لا يؤثر لأن الجرموق مع الخف تحته بمنزلة الطهارة مع البطانة ولو تعلقت الطهارة بعد المسح لم يؤثر في طهارته
والطريق الثالث أن الجرموق فوق الخف كالخف فوق اللفافة فعلى هذا إذا نزع الجرموق نزع الخف كما ينزع اللفافة
وهل يستأنف الوضوء أم يقتصر على غسل الرجلين فيه قولان
باب الأحداث التي تنقض الوضوء والأحداث التي تنقض الوضوء خمسة الخارج من السبيلين والنوم والغلبة على العقل بغير النوم ولمس النساء ومس الفرج فأما الخارج من السبيلين فإنه ينقض الوضوء لقوله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } ولقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء إلا من صوت أو ريح
فإذا نسد المخرج المعتاد ونفتح دون المعدة مخرج نتقض الوضوء بالخارج منه لأنه لا بد للإنسان من مخرج يخرج
____________________
(1/22)
منه البول والغائط فإذا نسد المعتاد صار هذا هو المخرج فنتقض الوضوء بالخارج منه وإن نفتح فوق المعدة ففيه قولان أحدهما ينتقض الوضوء بالخارج منه لما ذكرناه
وقال في حرملة لا ينتقض لأنه في معنى القيء
وإن لم ينسد المعتاد ونفتح فوق المعدة لم ينتقض الوضوء بالخارج منه وإن كان دون المعدة ففيه وجهان أحدهما لا ينتقص الوضوء بالخارج منه لأن ذلك كالجائفة فلا ينتقض الوضوء بما تخرج منه
والثاني ينتقض لأنه مخرج يخرج منه الغائط فهو كالمعتاد
وإن أدخل في إحليله مسبارا وأخرجه أو زرق فيه شيئا وخرج منه نتقض وضوءه
فصل في النوم وأما النوم فينظر فيه فإن وجد منه وهو مضطجع أو مكب أو متكىء نتقض وضوءه لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ وإن وجد منه وهو قاعد ومحل الحدث متمكن من الأرض فإنه قال في البويطي ينتقض وضوءه وهو ختيار المزني لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ما نقض الوضوء في حال لاضطجاع نقضه في حال القعود كالإحداث والمنصوص في الكتب أنه لا ينتقض وضوءه لما روى أنس رضي الله عنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون ولا يتوضؤون وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء ويخالف الإحداث فإنها تنقض الوضوء لعينها والنوم ينقض لأنه يصحبه خروج الخارج وذلك لا يحس به إذا نام زائلا عن مستوى الجلوس ويحس به إذا نام جالسا وإن نام راكعا أو ساجدا أو قائما في الصلاة ففيه قولان قال في الجديد ينتقض وضوءه لحديث علي رضي الله عنه ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس فأشبه المضطجع
وقال في القديم لا ينتقض وضوءه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته يقول عبدي روحه عندي وجسده ساجد بين يدي فلو نتقض وضوءه لما جعله ساجدا
فصل في زوال العقل بغير نوم وأما زوال العقل بغير النوم فهو أن يجن أو يغمى عليه أو يسكر أو يمرض فيزول عقله فينتقض وضوءه لأنه إذا نتقض الوضوء بالنوم فلأن ينتقض بهذه الأسباب أولى ولا فرق في ذلك بين القاعد وغيره ويخالف النوم فإن النائم إذا كلم تكلم وإذا نبه تنبه فإذا خرج منه الخارج وهو جالس أحس به بخلاف المجنون والسكران قال الشافعي رحمه الله قد قيل إنه قل من يجن إلا وينزل فالمستحب أن يغتسل حتياطا
فصل في لمس النساء وأما لمس النساء فإنه ينقض الوضوء وهو أن يلمس الرجل بشرة المرأة أو المرأة بشرة الرجل بلا حائل بينهما فينتقض وضوء اللامس منهما لقوله عز وجل { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } وفي الملموس قولان أحدهما ينتقض وضوءه لأنه لمس بين الرجل والمرأة ينقض طهر اللامس فينتقض طهر الملموس كالجماع
وقال في حرملة لا ينتفض لأن عائشة رضي الله عنها قالت فتقدت رسول
____________________
(1/23)
الله صلى الله عليه وسلم في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه فلما فرغ من صلاته قال أتاك شيطانك ولو نتقض طهره لقطع الصلاة ولأنه لمس ينقض الوضوء فنقض طهر اللامس دون الملموس كما لو لمس ذكر غيره
وإن لمس شعرها أو ظفرها لم ينتقض الوضوء لأنه لا يلتذ بمسه وإنما يلتذ بالنظر إليه
وإن لمس ذات رحم محرم ففيه قولان أحدهما ينتقض وضوءه للآية والثاني لا ينتقض لأنها ليست بمحل لشهوته فأشبه لمس الرجل الرجل والمرأة المرأة
وإن لمس صغيرة لا تشتهى أو عجوزا لا تشتهى ففيه وجهان أحدهما ينتقض لعموم الآية والثاني لا ينتقض لأنه لا يقصد بلمسها الشهوة فأشبه الشعر
فصل في متى ينقض مس الفرج وأما مس الفرج فإنه إن كان ببطن الكف نقض الوضوء لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون قالت عائشة رضي الله عنها بأبي وأمي ( يا رسول الله ) هذا للرجال أفرأيت النساء قال إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ
وإن كان بظهر الكف لم ينتقض الوضوء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف ولأن ظهر الكف ليس بآلة لمسه فهو كما لو أولج الذكر في غير الفرج فإن مس بما بين الأصابع ففيه وجهان المذهب أنه لا ينتقض لأنه ليس بباطن الكف
والثاني ينتقض لأن خلقته خلقه الباطن
وإن مس حلقة الدبر نتقض وضوءه وحكى ابن القاص قولا أنه لا ينتقض وهو غير مشهور ووجهه أنه لا يلتذ بمسه والدليل على أنه ينتقض أنه أحد السبيلين فأشبه القبل
وإن نسد المخرج المعتاد ونفتح دون المعدة مخرج فمسه ففيه وجهان أحدهما لا ينتقض لأنه ليس بفرج
والثاني ينتقض لأنه سبيل للحدث فأشبه الفرج
وإن مس فرج غيره من صغير أو كبير أوحي أو ميت نتقض وضوءه لأنه إذا نتقض بمس ذلك من نفسه ولم يهتك به حرمته فلأن ينتقض بمس ذلك من غيره وقد هتك حرمته أولى
وإن مس ذكرا مقطوعا ففيه وجهان أحدهما لا ينتقض وضوءه كما لو مس يدا مقطوعة من امرأة
والثاني ينتقض لأنه قد وجد مس الذكر ويخالف اليد المقطوعة فإنه لم يوجد لمس المرأة
وإن مس فرج بهيمة لم يجب الوضوء وحكى بن عبد الحكم قولا آخر أنه يجب الوضوء وليس بشيء لأن البهيمة لا حرمة لها ولا تعبد عليها
وإن مس الخنثى المشكل فرجه أو ذكره أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض الوضوء حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض الوضوء ولذا لو تيقنا أنه نتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما لأن الطهارة متيقنة فلا يزال ذلك بالشك
فصل فيما لا ينقض الوضوء وما سوى هذه الأشياء الخمسة لا ينقض الوضوء كدم الفصد والحجامة والقيء لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه
وكذلك أكل شيء من اللحوم لا ينقض الوضوء وحكى ابن القاص قولا آخر أن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء وليس بمشهور والدليل على أنه لا ينقض الوضوء ما روى جابر رضي الله عنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار ولأنه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير وهو حرام فلأن لم ينتقض بغيره أولى
وكذلك لا ينتقض الطهر بقهقهة المصلي لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء
والمستحب أن يتوضأ من الضحك في الصلاة ومن الكلام القبيح لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لأن أتوضأ من الكلمة
____________________
(1/24)
الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب وقالت عائشة رضي الله عنها يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة العوراء وقال ابن عباس رضي الله عنهما الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان
فصل اليقين لا يزال بالشك ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة لأن الطهارة يقين فلا يزال ذلك بالشك وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث لأن الحدث يقين فلا يزال بالشك وإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما نظرت فإن كان قبلهما طهارة فهو الآن محدث لأنه قد تيقن أن الطهارة ( قبلهما ) ورد عليها حدث فأزالها وهو يشك هل رتفع هذا الحدث بطهارة بعده أم لا فلا يزال يقين الحدث بالشك وإن كان قبلهما حدث فهو الآن متطهر لأنه قد تيقن أن الحدث قبلهما قد ورد عليه طهارة فأزالته وهو يشك هل رتفعت هذه الطهارة بحدث بعدها أم لا فلا يزال يقين الطهارة بالشك وهذا كما تقول في رجل أقام بينة بدين وأقام المدعى عليه بينة بالبراءة فإنا نقدم بينة البراءة لأنا تيقنا أن البراءة وردت على دين واجب فأزالته ونحن نشك هل شتغلت ذمته بعد البراءة بدين بعدها فلا نزيل يقين البراءة بالشك
فصل فيما يحرم على المحدث ومن أحدث حرمت عليه الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور ويحرم عليه الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام ويحرم عليه مس المصحف لقوله تعالى { لا يمسه إلا المطهرون } ولما روى حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ويحرم عليه حمله في كمه لأنه إذا حرم ( عليه ) مسه فلأن يحرم حمله وهو في الهتك أبلغ وأولى
ويجوز أن يتركه بين يديه ويتصفح أوراقه بخشبة لأنه غير مباشر له ولا حامل له
وهل يجوز للصبيان حمل الألواح وهم محدثون فيه وجهان أحدهما لا يجوز كما لا يجوز لغيرهم
والثاني يجوز لأن طهارتهم لا تنحفظ وحاجتهم إلى ذلك ماسة
وإن حمل رجل متاعا وفي جملته مصحف وهو محدث جاز لأن القصد نقل المتاع فعفي عما فيه من القرآن كما لو كتب كتابا إلى دار الشرك وفيه آيات من القرآن
وإن حمل كتابا من كتب الفقه وفيه آيات من القرآن أو حمل الدراهم الأحدية أو الثياب التي طرزت بآيات من القرآن ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لأنه يحمل القرآن
والثاني يجوز لأن القصد منه غير القرآن
وإن كان على موضع من بدنه نجاسة فمس المصحف بغيره جاز وقال القاضي أبو القاسم الصيمري رحمه الله لا يجوز كما لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف بظهر وإن كانت الطهارة تجب في غيره وهذا لا يصح لأن حكم الحدث يتعدى وحكم النجاسة لا يتعدى محلها
باب الاستطابة إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله عز وجل فالمستحب له أن ينحيه لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه وإنما وضعه لأنه كان عليه محمد رسول الله
ويستحب أن يقول إذا دخل الخلاء بسم الله لقوله صلى الله عليه وسلم ستر ما بين عورات ( أمتي ) وأعين الجن بسم الله
ويستحب أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روى أنس رضي الله عنه
____________________
(1/25)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال ذلك ويقول إذا خرج غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني وروت عائشة رضي الله عنها قالت ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط إلا قال غفرانك
ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى وفي الخروج رجله اليمنى لأن اليسار للأذى و ( اليمين ) لما سواه
وإن كان في الصحراء أبعد لما روى المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد
ويستتر عن العيون بشيء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستتر به
ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول ويجوز ذلك في البنيان لما روت عائشة رضي الله عنها أن ناسا كانوا يكرهون ستقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقد فعلوها حولوا بمقعدتي إلى القبلة ولأن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن يصلون فيستقبلهم بفرجه وليس في البنيان ذلك
ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روى بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض
ويرتاد موضعا للبول ( فإن كانت الأرض صلبة دقها بعود أو حجر حتى ) لا يترشش عليه ( البول ) لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله
ويكره أن يبول قائما من غير عذر لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ما بلت قائما منذ أسلمت ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه ولا يكره ذلك للعذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما لعلة بمأبضيه
ويكره أن يبول في ثقب أو سرب لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في جحر ولأنه ربما خرج عليه ما يلسعه أو يرد عليه البول
ويكره أن يبول في الطريق والظل والموارد لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تقوا الملاعن الثلاثة البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل
ويكره أن يبول في مساقط الثمار لأنه يقع عليه فينجس
ويكره أن يتكلم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله تبارك وتعالى يمقت على ذلك
ويكره أن يرد السلام أو يحمد الله إذا عطس أو يقول مثل ما يقول المؤذن لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( سلم ) عليه رجل فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر
والمستحب أن يتكىء على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك رضي الله عنه قال علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسار ولأنه أسهل في قضاء الحاجة
ولا يطيل القعود
____________________
(1/26)
لما روي عن لقمان عليه السلام أنه قال طول القعود على الحاجة ييجع منه الكبد ويأخذ منه الباسور فاقعد هوينا وأخرج
وإذا بال تنحنح حتى يخرج إن كان هناك شيء ويمسح ذكره من مجامع العروق ثم ينتره
والمستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لما روي عنه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه
فصل في الاستنجاء والاستنجاء واجب من البول والغائط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وليستنج بثلاثة أحجار ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبا فلم تصح الصلاة معها كسائر النجاسات
وإن خرجت منه حصاة أو دودة لا رطوبة معها ففيه قولان أحدهما يجب منه الاستنجاء لأنها لا تخلو من رطوبة
والثاني لا يجب وهو الأصح لأنه خارج من غير رطوبة فأشبه الريح
ويستنجي قبل أن يتوضأ فإن توضأ ثم ستنجى صح الوضوء وإن تيمم ثم ستنجى لم يصح التيمم
وقال الربيع فيه قول آخر أنه يصح قال أبو إسحق هو من كيسه والأول هو المنصوص عليه في الأم ووجهه أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما تستباح به الصلاة من نجاسة النجو فلا تستباح مع بقاء المانع ويخالف الوضوء فإنه يرفع الحدث فجاز أن يرفع الحدث والمانع قائم
وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير موضع لاستنجاء ففيه وجهان أحدهما أنه كنجاسة النجو والثاني أنه يصح التيمم لأن التيمم لا تستباح به الصلاة من هذه النجاسة فصح فعله مع وجودها بخلاف نجاسة النجو
وإذا أراد لاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولا أو غائطا ولم تجاوز الموضع المعتاد جاز بالماء والحجر والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء فقال سبحانه وتعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون فقالوا نتبع الحجارة الماء فإن أراد لاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه أبلغ في الإنقاء وإن قتصر على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر رضي الله عنه خلفه بكوز من ماء فقال ما هذا يا عمر فقال ماء تتوضأ به قال ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ ولو فعلت لكان سنة ولأنه قد يبتلى بالخارج في موضع لا يلحق الماء فيه فسقط وجوبه
وإن أراد لاقتصار على الحجر لزمه أمران أحدهما أن يزيل العين حتى لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء
والثاني أن يستوفي ثلاث مسحات لما روي أن رجلا قال لسلمان رضي الله عنه علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال أجل نهانا أن نجتزىء بأقل من ثلاثة أحجار فإن ستنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه لأن القصد عدد المسحات وقد وجد ذلك
وفي كيفية لاستنجاء بالحجر وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة رضي الله عنه يضع حجرا على مقدم صفحته اليمنى ويمره إلى آخرها ثم يدير الحجر إلى الصفحة اليسرى ويمره عليها إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثاني فيمره على الصفحة اليسرى ويمره إلى آخرها ثم يديره إلى صفحته اليمنى فيمره عليها ( من أولها ) إلى أن ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه ويأخذ الثالث فيمره على الصفحتين والمسربة لقوله صلى الله عليه وسلم يقبل بواحد ويدبر بآخر ويحلق بالثالث
____________________
(1/27)
وقال أبو إسحق يمر حجرا على الصفحة اليمنى وحجرا على الصفحة اليسرى وحجرا على المسربة لقوله صلى الله عليه وسلم أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجران للصفحتين وحجر للمسربة والأول أصح لأنه يمر كل حجر على المواضع الثلاثة
ولا يجوز أن يستنجى بيمينه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى
فإن كان يستنجي ( بغير الماء ) أخذ ذكره بيساره ومسحه على ما يستنجي به من أرض أو حجر فإن كان الحجر صغيرا غمز عقبه عليه أو أمسكه بين إبهامي رجليه ومسح ذكره عليه بيساره وإن كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره فإن خالف وستنجى بيمينه أجزأه لأن لاستنجاء يقع بما في اليد لا باليد فلم يمنع صحته
فصل فيما ينوب عن الماء في الاستنجاء ويجوز لاستنجاء بالحجر وما يقوم مقامه
قال أصحابنا يقوم مقامه كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان
فأما غير الماء من المائعات فلا يجوز لاستنجاء به لأنه ينجس بملاقاة النجاسة فيزيد في النجاسة وما ليس بطاهر كالروث والحجر النجس لا يجوز لاستنجاء به لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لاستنجاء بالروث ولأنه نجس فلا يستنجى به كالماء النجس فإن ستنجى بذلك لزمه بعد ذلك أن يستنجي بالماء لأن الموضع قد صار نجسا بنجاسة نادرة فوجب غسله بالماء
ومن أصحابنا من قال يجزئه الحجر لأنها نجاسة على نجاسة فلم يؤثر
وما لا يزيل العين لا يجوز لاستنجاء به كالزجاج والحممة لما روى بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لاستنجاء بالحممة ولأن ذلك لا يزيل النجو
وما له حرمة من المطعومات كالخبز والعظم لا يجوز لاستنجاء به لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لاستنجاء بالعظم وقال هو زاد إخوانكم من الجن فإن خالف وستنجى به لم يجزئه لأن لاستنجاء بغير الماء رخصة والرخص لا تتعلق بالمعاصي
وما هو جزء من الحيوان كذنب ( حمار ) لا يجوز الاستنجاء به ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أصح لأنه جزء من حيوان فلم يجز لاستنجاء به كما لو ستنجى بيده ولأن له حرمة فهو كالطعام
وإن ستنجى بجلد مدبوغ ففيه قولان قال في حرملة لا يجوز لأنه كالرمة وقال في الأم يجوز لأنه إن كان لينا فهو كالخرق وإن كان خشنا فهو كالخزف وإن ستنجى بجلد حيوان مأكول اللحم مذكى غير مدبوغ ففيه قولان قال في الأم وحرملة لا يجوز لأنه لا يقلع النجو للزوجته
وقال في البويطي يجوز والأول هو المشهور
فصل فيما إذا جاوز الخارج المعتاد وإن جاوز الخارج الموضع المعتاد فإن كان غائطا فخرج إلى ظاهر الألية لم يجز فيه إلا الماء لأن ذلك نادر فهو كسائر النجاسات وإن خرج إلى باطن الألية ولم يخرج إلى ظاهرها ففيه قولان أحدهما أنه لا يجزىء فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كما لو خرج إلى ظاهر الألية
والثاني يجزىء فيه الحجر لأن المهاجرين رضي الله عنهم هاجروا إلى المدينة فأكلوا التمر ولم يكن ذلك عادتهم ولا شك أنه رقت بذلك أجوافهم ولم يؤمروا بلاستنجاء بالماء ولأن ما يزيد على المعتاد لا يمكن ضبطه فجعل الباطن كله حدا ووجب الماء فيما زاد وإن كان بولا ففيه طريقان قال أبو إسحاق إذا جاوز مخرجه حتى رجع على الذكر أعلاه أو أسفله
____________________
(1/28)
لم يجز فيه إلا الماء لأن ما يخرج من البول لا ينتشر إلا نادرا بخلاف ما يخرج من الدبر فإنه لا بد من أن ينتشر
ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما لا يجوز ( فيه ) إلا الماء نص عليه في البويطي ووجهه ما قال أبو إسحاق
والثاني أنه يجوز فيه الحجر ما لم يجاوز موضع الحشفة نص عليه في الأم لأنه لما جاز الحجر في الغائط ما لم يجاوز باطن الألية لتعذر الضبط وجب أن يجوز في البول ما لم يجاوز الحشفة لتعذر الضبط وإن كان الخارج نادرا كالدم والمذي والودي أو دودا أو حصاة وقلنا إنه يجب منه لاستنجاء فهل يجزىء فيه الحجر أم لا فيه قولان أحدهما أنه كالبول والغائط وقد بيناهما
والثاني لا يجزىء فيه إلا الماء لأنه نادر فهو كسائر النجاسات
باب ما يوجب الغسل والذي يوجب الغسل إيلاج الحشفة في الفرج وخروج المني والحيض والنفاس فأما إيلاج الحشفة فإنه يوجب الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا التقى الختانان وجب الغسل والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج وذلك أن ختان الرجل هو الجلد الذي يبقى بعد الختان وختان المرأة جلدة كعرف الديك فوق الفرج فتقطع منها في الختان فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها فإذا تحاذيا فقد التقيا ولهذا يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضاما
فإن أولج في فرج امرأة ميتة وجب عليه الغسل لأنه فرج آدمية فأشبه فرج الحية وإن أولج في دبر امرأة أو رجل أو بهيمة وجب عليه الغسل لأنه فرج حيوان فأشبه فرج المرأة وإن أولج في دبر خنثى مشكل وجب عليه الغسل وإن أولج في فرجه لم يجب لجواز أن يكون ذلك عضوا زائدا فلا يجب الغسل بالشك
فصل في خروج المني وأما خروج المني فإنه يوجب الغسل على الرجل والمرأة في النوم واليقظة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الماء من الماء وروت أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال نعم إذا رأت الماء
فإن احتلم ولم ير المني أو شك هل خرج المني لم يلزمه الغسل وإن رأى المني ولم يذكر احتلاما لزمه الغسل لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه
____________________
(1/29)
وإن رأى المني في فراش ينام فيه هو وغيره لم يلزمه الغسل لأن الغسل لا يجب بالشك والأولى أن يغتسل وإن كان لا ينام فيه غيره لزمه الغسل وإعادة الصلاة من آخر نوم نام فيه
ولا يجب الغسل من المذي وهو الماء الذي يخرج بأدنى شهوة لما روي عن علي كرم الله وجهه قال كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال لا تفعل إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة فإذا نضحت الماء فاغتسل ولا من الودي وهو ماء يقطر منه عند البول لأن الإيجاب بالشرع ولم يرد الشرع إلا في المني فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه الوضوء منه لأن وجوب غسل الأعضاء متيقن وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه فلا يجب بالشك
ومنهم من قال هو مخير بين أن يجعله منيا فيجب الغسل منه وبين أن يجعله مذيا فيجب الوضوء وغسل الثوب منه لأنه يحتمل الأمرين احتمالا واحدا
وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه لأنا إن جعلناه منيا أوجبنا ( عليه ) غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك والأصل عدمه وإن جعلناه مذيا أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب في الوضوء بالشك والأصل عدمه وليس أحد الأصلين أولى من الآخر ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة والتخيير لا يجوز لأنه إذا جعله مذيا لم يأمن أن يكون منيا فلم يغتسل له وإن جعله منيا لم يأمن أن يكون مذيا ولم يغسل الثوب منه ولم يرتب الوضوء منه وأحب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين
فصل في الحيض والنفاس وأما الحيض فإنه يوجب الغسل لقوله عز وجل { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن } الآية قيل في التفسير هو الاغتسال ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي وأما دم النفاس فإنه يوجب الغسل لأنه حيض مجتمع ولأنه يحرم الصوم والوطء ويسقط فرض الصلاة فأوجب الغسل كالحيض
وأما إذا ولدت المرأة ولدا ولم تر دما ففيه وجهان أحدهما أنه يجب عليها الغسل لأن الولد مني منعقد
والثاني لا يجب لأنه لا يسمى منيا
وإن استدخلت المرأة المني ثم خرج منها لم يلزمها الغسل
فصل في الغسل لمن أسلم وإن أسلم الكافر ولم يجب عليه غسل في حال الكفر فالمستحب أن يغتسل لما روي أنه أسلم قيس بن عاصم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل ولا يجب ذلك لأنه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل وإن وجب عليه غسل في حال الكفر ولم يغتسل لزمه أن يغتسل وإن كان قد اغتسل في حال الكفر فهل يجب عليه إعادته فيه وجهان أحدهما لا تجب الإعادة لأنه غسل صحيح بدليل أنه تتعلق به إباحة الوطء في حق الحائض إذا طهرت فلم تجب إعادته كغسل المسلم
والثاني تجب إعادته وهو الأصح لأنه عبادة محضة فلم تصح من الكافر في حق الله تعالى كالصوم والصلاة
فصل فيما يحرم بالجنابة ومن أجنب حرم عليه الصلاة والطواف ومس المصحف وحمله لأنا دللنا على أن ذلك يحرم على المحدث فلأن يحرم على الجنب أولى ويحرم عليه قراءة القرآن لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن ويحرم عليه اللبث في المسجد ولا يحرم عليه العبور لقوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل } وأراد موضع الصلاة وقال في البويطي ويكره أن ينام حتى يتوضأ لما روي أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب قال نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد قال أبو علي الطبري وإذا أراد أن يطأ أو يأكل أو يشرب توضأ ولا يستحب ذلك للحائض لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ويؤثر في حدث الجنابة لأنه يخففه ويزيله عن أعضاء الوضوء
____________________
(1/30)
باب صفة الغسل إذا أراد الرجل أن يغتسل من الجنابة فإنه يسمي الله عز وجل وينوي الغسل من الجنابة أو الغسل لاستباحة أمر لا يستباح إلا بالغسل كقراءة القرآن والجلوس في المسجد ويغسل كفيه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء ثم يغسل ما على فرجه من الأذى ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يدخل أصابعه العشر في الماء فيغرف بها غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات ثم يفيض الماء على سائر جسده ويمر يديه على ما قدر عليه من بدنه ثم يتحول من مكانه ثم يغسل قدميه لأن عائشة وميمونة رضي الله عنهما وصفتا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك والواجب من ذلك ثلاثة أشياء النية وإزالة النجاسة إن كانت وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته وما زاد على ذلك سنة لما روى جبير بن مطعم قال تذاكرنا الغسل من الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما أنا فيكفيني أن أصب على رأسي ثلاثا ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي
وإن كانت امرأة تغتسل من الجنابة كان غسلها كغسل الرجل
فإن كان لها ضفائر فإن كان الماء يصل إليها من غير نقض لم يلزمها نقضها لأن أم سلمة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للغسل من الجنابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت
وإن لم يصل إليها الماء إلا بنقضها لزمها نقضها لأن إيصال الماء إلى الشعر والبشرة واجب
وإن كانت تغتسل من الحيض فالمستحب لها أن تأخذ فرصة من المسك فتتبع بها أثر الدم لما روت عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض فقال خذي فرصة من مسك فتطهري بها فقالت كيف أتطهر بها فقال صلى الله عليه وسلم سبحان الله تطهري بها قالت عائشة رضي الله عنها قلت تتبعي بها أثر الدم فإن لم تجد مسكا فطيبا غيره لأن القصد تطييب الموضع فإن لم تجد فالماء كاف
ويستحب ألا ينقص في الغسل من صاع ولا في الوضوء عن مد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل ( بالصاع ) ويتوضأ بالمد فإن أسبغ بما دونه أجزأه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بما لا يبل الثرى قال الشافعي رحمه الله وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي
فصل في وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد ويجوز أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ويجوز أن يتوضأ أحدهما بفضل وضوء الآخر لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت
____________________
(1/31)
أجنبت فآغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه فقلت ( يا رسول الله ) إني قد اغتسلت منه فقال الماء ليس عليه جنابة واغتسل منه
فصل في اجتماع الحدث والجنابة فإن أحدث وأجنب ففيه ثلاثة أوجه أحدها ( أنه ) يجب الغسل ويدخل فيه الوضوء
وهو المنصوص في الأم لأنهما طهارتان فتداخلتا كغسل الجنابة وغسل الحيض
والثاني أنه يجب عليه الوضوء والغسل لأنهما حقان مختلفان يجبان بسببين مختلفين فلم يتداخل أحدهما في الآخر كحد الزنا والسرقة
والثالث أنه يجب عليه أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر البدن لأنهما متفقان في الغسل ومختلفان في الترتيب فما اتفقا فيه تداخلا وما اختلفا فيه لم يتداخلا
قال الشيخ الإمام رحمه الله وأحسن توفيقه وسمعت شيخنا أبا حاتم القزويني رحمه الله يحكي فيه وجها رابعا أنه يقتصر على الغسل إلا أنه يحتاج أن ينويهما ووجهه أنهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى فدخلت الصغرى في الكبرى في الأفعال دون النية كالحج والعمرة
فإن توضأ من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أو اغتسل من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أجزأه ما غسل من الحدث عن الجنابة لأن فرض الغسل في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد وبالله التوفيق
باب التيمم يجوز التيمم عن الحدث الأصغر لقوله عز وجل { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ويجوز عن الحدث الأكبر وهو الجنابة والحيض لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال أجنبت فتمعكت في التراب فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال إنما كان يكفيك هكذا وضرب يديه على الأرض ومسح وجهه وكفيه ولأنها طهارة عن حدث فناب عنها التيمم كالوضوء ولا يجوز ذلك عن إزالة النجاسة لأنها طهارة فلا يؤمر بها للنجاسة في غير محل النجاسة كالغسل
فصل في صفة التيمم والتيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بالتراب بضربتين أو بأكثر والدليل عليه ما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال في القديم التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين ووجهه في حديث عمار وأنكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله ذلك وقال المنصوص في القديم والجديد هو الأول ووجهه أنه عضو في التيمم فوجب ستيعابه كالوجه وحديث عمار رضي الله عنه يتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين بدليل حديث أبي أمامة وبن عمر
فصل في اشتراط التراب للتيمم ولا يجوز التيمم إلا بالتراب لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض مسجدا وجعل ترابها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوص الملائكة فعلق الصلاة على الأرض ثم نزل في التيمم إلى التراب فلو جاز التيمم بجميع الأرض لما نزل عن الأرض إلى التراب ولأنه طهارة عن الحدث فاختص بجنس واحد كالوضوء
فأما الرمل فقد قال في القديم والإملاء يجوز التيمم به وقال في الأم لا يجوز فمن أصحابنا من قال لا يجوز قولا واحدا وما قال في القديم والإملاء محمول على رمل يخالطه التراب
ومنهم من قال على قولين أحدهما يجوز لما روى أبو هريرة رضي الله
____________________
(1/32)
عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا بأرض الرمل وفينا الجنب والحائض ونبقى أربعة أشهر لا نجد الماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالأرض
والثاني لا يجوز لأنه ليس بتراب فأشبه الجص
وإن أحرق الطين وتيمم بمدقوقه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز التيمم به كما لا يجوز بالخزف المدقوق
والثاني يجوز لأن إحراقه لم يزل سم الطين والتراب عن مدقوقه بخلاف الخزف
ولا يجوز إلا بتراب له غبار يعلق بالعضو فإن تيمم بطين رطب أو بتراب ندى لا يعلق غباره ( باليد ) لم يجز لقوله عز وجل { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد ولأنه طهارة فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة كمسح الرأس ولا يجوز بتراب نجس لأنه طهارة فلا تجوز بالنجس كالوضوء ولا يجوز بما خالطه دقيق أو جص لأنه ربما حصل في العضو فمنع من وصول التراب إليه ولا يجوز بما ستعمل في العضو فأما ما تناثر من أعضاء المتيمم ففيه وجهان أحدهما لا يجوز التيمم به كما لا يجوز الوضوء بما تساقط من أعضاء المتوضى
والثاني يجوز لأن المستعمل منه ما بقي على العضو وما تناثر غير مستعمل فجاز التيمم به ويخالف الماء لأنه لا يدفع بعضه بعضا والتراب يدفع بعضه بعضا فدفع ما أدي به الفرض في العضو ما تناثر منه
فصل في وجوب النية للتيمم ولا يصح التيمم إلا بالنية لما ذكرناه في الوضوء وينوي بالتيمم ستباحة الصلاة فإن نوى به رفع الحدث ففيه وجهان أحدهما لا يصح لأنه لا يرفع الحدث
والثاني يصح لأن نية رفع الحدث تتضمن آستباحة الصلاة
ولا يصح التيمم للفرض إلا بنية الفرض فإن نوى بتيممه صلاة مطلقة أو صلاة نافلة لم يستبح الفريضة وحكى شيخنا أبو حاتم القزويني رحمه الله أن أبا يعقوب البارودي حكى عن الإملاء قولا آخر أنه يستبيح به الفرض ووجهه أنه طهارة فلم يفتقر إلى نية الفرض كالوضوء والذي يعرفه البغداديون من أصحابنا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني وشيخنا القاضي أبي الطيب رحمهما الله أنه لا يستبيح به الفرض لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه بخلاف الوضوء فإنه يرفع الحدث فستباح به الجميع وهل يفتقر إلى تعيين الفريضة فيه وجهان أحدهما أنه يفتقر إلى تعيينها لأن كل موضع فتقر إلى نية الفريضة فتقر إلى تعيينها ( كأداء الصلاة )
والثاني لا يحتاج إلى تعيينها ويدل عليه قوله في البويطي فإن تيمم للنفل كان له أن يصلي على ( الجنازة ) نص عليه في البويطي لأن صلاة الجنازة كالنافلة وإن تيمم لصلاة الفرض ستباح به النفل لأن النفل تابع للفرض فإذا ستباح التبرع ستباح التابع كما إذا أعتق الأم عتق الحمل
فصل في الصفة المستحبة للتيمم وإذا أراد التيمم فالمستحب له أن يسمي الله عز وجل لأنه طهارة عن حدث فستحب فيها اسم الله عز وجل عليه كالوضوء ثم ينوي ويضرب يديه على التراب ويفرق أصابعه فإن كان التراب ناعما فترك الضرب ووضع اليدين جاز ويمسح بهما وجهه ويوصل التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه وإلى ما ظهر من الشعر ولا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والشارب والعذارين ( والعنفقة )
ومن أصحابنا من قال يجب ذلك كما يجب إيصال الماء إليه في الوضوء
والمذهب الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف التيمم وقتصر على ضربتين ومسح وجهه بإحداهما ( مسح ) اليدين بالأخرى وبذلك لا يصل التراب إلى باطن هذه الشعور ويخالف الوضوء لأنه لا مشقة في إيصال الماء إلى ما تحت هذه الشعور وعليه مشقة في إيصال التراب فسقط وجوبه ثم يضرب ضربة أخرى فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف فإذا بلغ الكوع جعل أطراف أصابعه على حرف الذراع ثم يمر ذلك إلى المرفق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمره عليه ويرفع إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم يمسح بكفه اليمنى يده اليسرى مثل ذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل أصابعهما لما روى أسلم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا جنب فنزلت آية التيمم فقال يكفيك هذا فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه ثم أمرهما على لحيته ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض ثم دلك إحداهما بالأخرى ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما
____________________
(1/33)
فصل في فروض التيمم وسننه والفرض مما ذكرناه النية ومسح الوجه ومسح اليدين بضربتين أو أكثر وتقديم الوجه على اليدين وسننه التسمية وتقديم اليمنى على اليسرى
فصل فيمن يممه غيره قال في الأم فإن أمر غيره حتى يممه أو نوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص رحمه الله لا يجوز قلته تخريجا قال في الأم وإن سفت الريح عليه ترابا ناعما فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد وقال القاضي أبو حامد رحمه الله هذا محمول عليه إذا لم يقصد فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص
فصل التيمم للمكتوبة بعد دخول الوقت ولا يجوز التيمم للمكتوبة إلا بعد دخول الوقت لأنه قبل دخول الوقت مستغن عن التيمم فلم يصح تيممه كما لو تيمم مع وجود الماء وإن تيمم قبل دخول الوقت لفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت الحاضرة ففيه وجهان قال ( أبو بكر ) بن الحداد رحمه الله يجوز أن يصلي به الحاضرة بعد دخول الوقت لأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول الوقت
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها فأشبه إذا تيمم لها قبل دخول الوقت
فصل من يجوز له التيمم ولا يجوز التيمم بعد دخول الوقت إلا للعادم للماء أو للخائف من ستعماله فأما الواجد فلا يجوز له التيمم لقوله صلى الله عليه وسلم الصعيد الطيب وضوء المسلم ما لم يجد الماء فإن وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فهو كالعادم لأنه ممنوع من ستعماله فأشبه إذا وجد ماء وحال بينهما سبع
فصل طلب الماء قبل التيمم ولا يجوز للعادم للماء أن يتيمم إلا بعد الطلب لقوله عز وجل { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب ولأنه بدل أجيز عند عدم المبدل فلا يجوز فعله إلا بعد ثبوت العدم كالصوم في الكفارة لا يفعله حتى يطلب الرقبة ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت لأنه إنما يطلب ليثبت شرط التيمم وهو عدم الماء فلم يجز في وقت لا يجوز فيه فعل التيمم
والطلب أن ينظر عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غيره صعده ونظر حواليه وإن كان معه رفيق سأله عن الماء فإن بذله له لزمه قبوله لأنه لا منة عليه في قبوله فإن باعه منه بثمن المثل وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة والطعام للمجاعة فإن لم يبذله له وهو غير محتاج إليه لنفسه لم يجز له أن يكابره على أخذه كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة وصاحبه لا يحتاج إليه لأن الطعام ليس له بدل وللماء بدل
فإن دل على ماء ولم يخف فوات الوقت ولا نقطاعا عن الرفقة ولا ضررا على نفسه وماله لزمه طلبه وإن طلب فلم يجد فتيمم ثم طلع عليه ركب قبل أن يدخل في الصلاة لزمه أن يسألهم عن الماء فإن لم يجده معهم أعاد التيمم لأنه لما توجه عليه الطلب بطل التيمم وإن طلب ولم يجد جاز له التيمم لقوله عز وجل { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهل الأفضل أن يقدم التيمم والصلاة أم لا ينظر فيه فإن كان على ثقة من وجود الماء آخر الوقت فالأفضل أن يؤخر التيمم لأن الصلاة في أول وقتها فضيلة والطهارة بالماء فريضة فكان نتظار الفريضة أولى وإن كان على إياس من وجوده فالأفضل أن يتيمم ويصلي لأن الظاهر أنه لا يجد الماء فلا يضيع فضيلة أول الوقت لأمر لا يرجوه وإن كان يشك في وجوده ففيه قولان أحدهما أن تأخيرها أفضل لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة فكان تقديم الفريضة أولى
والثاني أن تقديم الصلاة بالتيمم أفضل وهو الأصح لأن فعلها في أول الوقت فضيلة متيقنة والطهارة بالماء مشكوك فيها فكان تقديم الفضيلة المتيقنة أولى
فإن تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان كما لو نسي عضوا من أعضائه فلم يغسله وروى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله أنه قال تصح صلاة ولا إعادة عليه لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع وإن كان في رحله ماء فأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى ففيه وجهان قال أبو علي الطبري رحمه الله لا تلزمه الإعادة لأنه غير مفرط في الطلب
ومن أصحابنا من قال تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل فلزمته الإعادة
فصل إذا وجد ماء لا يكفيه وإن وجد بعض ما يكفيه للطهارة ففيه قولان قال في الأم يلزمه ستعمال ما معه ثم يتيمم لقوله عز وجل { فلم تجدوا ماء فتيمموا }
____________________
(1/34)
وهذا واجد للماء فيجب ألا يتيمم ( وهو واجد له ) ولأنه مسح أبيح للضرورة فلا ينوب إلا في موضع الضرورة كالمسح على الجبيرة
وقال في القديم والإملاء يقتصر على التيمم لأن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز لاقتصار على البدل كما نقول فيمن وجد بعض الرقبة في الكفارة
فصل في الماء المحتاج إليه من غير واحد وإن جتمع ميت وجنب أو ميت وحائض نقطع دمها وهناك ماء يكفي أحدهما فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به لأنه محتاج إليه لنفسه فلا يجوز له بذله لغيره فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء وإن كان الماء مباحا أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى لأنه خاتمة طهارته والجنب والحائض يرجعان إلى الماء ويغتسلان وإن جتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان أحدهما أن صاحب النجاسة أولى لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل وهو التيمم فكان صاحب النجاسة أحق بالماء
والثاني أن الميت أولى وهو ظاهر المذهب لأنه خاتمة طهارته
وإن جتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما ففيه وجهان قال أبو إسحق رحمه الله الجنب أولى لأن غسله منصوص عليه في القرآن
ومن أصحابنا من قال إن الحائض أولى لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى
وإن جتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أولى لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الجنب أولى لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع فإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب ستعماله في الجنابة
والثاني أن المحدث أولى لأن فيه تشريكا بينهما في الماء
والثالث أنهما سواء فيدفع الماء إلى من شاء منهما لأنه يرفع حدث كل واحد منهما ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع
فصل فيمن عدم الماء والتراب وإن لم يجد ماء ولا ترابا صلى على حسب حاله و ( أعاد الصلاة ) لأن الطهارة شرط من شروط الصلاة فالعجز عنها لا يبيح ترك الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة وستقبال القبلة والقيام والقراءة
فصل فيمن فقد الماء حكما لا حقيقة وأما الخائف من ستعمال الماء فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من ستعمال الماء أو في برد شديد يخاف من ستعمال الماء فينظر فيه فإن خاف التلف من ستعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر } إلى قوله { فلم تجدوا ماء فتيمموا } قال ابن عباس رضي الله عنهما إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن ( يغتسل ) فيموت فإنه يتيمم بالصعيد وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن غتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت سمعت الله تعالى يقول { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم لا يتيمم وقال في القديم والبويطي والإملاء يتيمم إذا خاف الزيادة فمن أصحابنا من قال هما قولان
أحدهما يتيمم لأنه يخاف الضرر من ستعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف
والثاني لا يجوز لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من ستعماله فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد
ومنهم من قال لا يجوز قولا واحد وما قال في القديم والبويطي والإملاء محمول على ما إذا خاف زيادة مخوفة
وحكى أبو علي في الإفصاح طريقا آخر أنه يتيمم قولا واحدا وإن خاف من ستعمال الماء شينا فاحشا في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض لأنه يألم قلبه بالشين الفاحش كما يألم قلبه بزيادة المرض
وإن كان في بعض
____________________
(1/35)
بدنه قرح يخاف من ستعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح
وقال أبو إسحق يحتمل قولا آخر أنه يقتصر على التيمم كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز والأول أصح لأن العجز هناك ببعض الأصل وههنا العجز ببعض البدن وحكم الأمرين مختلف ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في جواز لاقتصار على البدل ولو كان نصفه حرا ونصفه عبدا لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز ( في ) الجميع بل إذا ملك بنصفه الحر مالا لزمه أن يكفر بالمال
فصل التيمم لكل فريضة ولا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة وقال المزني يجوز وهذا خطأ لما روي عن بن عباس رضي الله عنه أنه قال من السنة ألا يصلي بتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه طهارة ضرورة فلا يصلي بها فريضتين من فرائض الأعيان كطهارة المستحاضة فإن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولا يعرف عينها قضى خمس صلوات وفي التيمم وجهان أحدهما أنه يكفيه ( للجميع ) تيمم واحد لأن المنسية واحدة وما سواها ليس بفرض
والثاني أنه يجب لكل واحدة منها تيمم لأنه صار كل واحدة منها فرضا
وإن نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة ولا يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات قال ابن القاص يجب أن يتيمم لكل واحدة منها لأنه أي صلاة بدأ بها يجوز أن تكون هي المنسية فزال بفعلها حكم التيمم ويجوز أن تكون ( الثانية ) هي التي تليها فلا يجوز أداؤها بتيمم مشكوك فيه
ومن أصحابنا من قال يمكن أن يصلي ثماني صلوات بتيممين فيزيد ثلاث صلوات وينقص ثلاث تيممات فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكون قد صلى إحداهما بالتيمم الأول والثانية بالتيمم الثاني
وإن نسي صلاتين من يومين فإن كانتا مختلفتين فهما بمنزلة الصلاتين من يوم وليلة وإن كانتا متفقتين لزمه أن يصلي عشر صلوات فيصلي خمس صلوات بتيمم ( واحد ) ثم يتيمم ويصلي خمس صلوات وإن شك هل هما متفقتان أو مختلفتان لزمه أن يأخذ بالأشد وهو أنهما متفقتان
فصل التيمم الواحد للنوافل الكثيرة ويجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل لأنها غير محصورة فخف أمرها ولهذا أجيز ترك القيام فيها فإن نوى بالتيمم الفريضة والنافلة جاز أن يصلي النافلة قبل الفريضة وبعدها لأنه نواهما بالتيمم وإن نوى بالتيمم الفريضة ولم ينو النافلة جاز أن يصلي النافلة بعدها وهل يجوز أن يصليها قبلها فيه قولان قال في الأم له ذلك لأن كل طهارة جاز أن يتنفل بها بعد الفريضة جاز قبلها كالوضوء
وقال في البويطي ليس له ذلك لأنه يصليها على وجه التبع للفريضة فلا يجوز أن تتقدم على متبوعها ويجوز أن يصلي على جنائز بتيمم واحد إذا لم يتعين ( عليه ) لأنه يجوز تركها فهي كالنوافل وإن تعينت عليه ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز أن يصلي بتيمم واحد أكثر من صلاة لأنها فريضة تعينت عليه فهي كالمكتوبة
والثاني يجوز وهو ظاهر المذهب لأنها ليست من جنس فرائض الأعيان
فصل فيما يباح بالتيمم إذا تيمم عن الحدث ستباح ما يستباح بالوضوء فإن أحدث بطل تيممه كما يبطل وضوءه ويمنع مما كان يمنع منه قبل التيمم وإن تيمم عن الجنابة ستباح ما يستباح بالغسل من الصلاة وقراءة القرآن ( وغيرهما ) فإن أحدث منع من الصلاة ولم يمنع من قراءة القرآن لأن تيممه قام مقام الغسل ولو غتسل ثم أحدث لم يمنع من القراءة فكذلك إذا تيمم ثم أحدث وإن تيمم ثم ارتد بطل تيممه لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستباح به الصلاة والمرتد ليس من أهل لاستباحة
فصل فيمن وجد الماء بعد التيمم وإن تيمم لعدم الماء ثم رأى الماء فإن كان قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه لأنه لم يحصل في المقصود فصار كما لو رأى الماء في أثناء التيمم
وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نظر فإن كان في الحضر أعاد الصلاة لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل فلم يسقط معه فرض الإعادة كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن كان في السفر نظرت فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة لأن عدم الماء في السفر عذر عام فسقط معه فرض الإعادة كالصلاة مع سلس البول وإن كان في سفر قصير ففيه قولان أشهرهما أنه لا تلزمه الإعادة لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبا فأشبه السفر الطويل
وقال في البويطي لا يسقط الفرض عنه لأنه لا يجوز له القصر فلا يسقط الفرض عنه بالتيمم كما لو كان في الحضر
وإن كان في سفر معصية ففيه وجهان أحدهما
____________________
(1/36)
تجب عليه الإعادة لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر والسفر معصية فلا يجوز أن تتعلق به رخصة
والثاني لا يجب لأنا لما أوجبنا عليه ذلك صار عزيمة فلا تلزمه الإعادة
وإن كان معه في السفر ماء ودخل عليه وقت الصلاة فأراقه أو شربه من غير حاجة وتيمم وصلى ففيه وجهان أحدهما تلزمه الإعادة لأنه مفرط في إتلافه
والثاني لا تلزمه الإعادة لأنه تيمم وهو عادم للماء فصار كما لو أتلفه قبل دخول الوقت
وإن رأى الماء في أثناء الصلاة نظرت فإن كان ذلك في الحضر بطل تيممه وصلاته لأنه تلزمه الإعادة لوجود الماء وقد وجد الماء فوجب أن يشتغل بالإعادة وإن كان في السفر لم يبطل تيممه
وقال المزني يبطل والمذهب ( الأول ) لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود فلا يلزمه لانتقال إليه كما لو حكم بشهادة شهود الفرع ثم وجد شهود الأصل وهل يجوز الخروج منها فيه وجهان أحدهما لا يجوز وإليه أشار في البويطي لأن ما لا يبطل الطهارة والصلاة لم يبح الخروج منها كسائر الأشياء
وقال أكثر أصحابنا يستحب الخروج منها كما قال الشافعي رحمه الله فيمن دخل في صوم الكفارة ثم وجد الرقبة أن الأفضل أن يعتق فإن رأى الماء في الصلاة في السفر ثم نوى الإقامة بطل تيممه وصلاته
لأنه جتمع الحضر حكم والسفر في الصلاة فوجب أن يغلب حكم الحضر ويصير كأنه تيمم وصلى وهو حاضر ثم وجد الماء وإن رأى الماء في أثناء الصلاة في السفر فأتمها وقد فني الماء لم يجز له أن يتنفل حتى يجدد التيمم لأن برؤيته الماء حرم عليه فتتاح الصلاة وإن رأى الماء في صلاة نافلة فإن كان قد نوى عددا أتمها كالفريضة وإن لم ينو عددا سلم من ركعتين ولم يزد عليهما
وإن تيمم للمرض وصلى ثم برىء لم تلزمه الإعادة لأن المرض من الأعذار العامة فهو كعدم الماء في السفر
وإن تيمم لشدة البرد وصلى ثم زال البرد فإن كان في الحضر لزمه الإعادة لأن ذلك من الأعذار النادرة وإن كان في السفر ففيه قولان أحدهما لا يجب لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم وصلى لشدة البرد وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمره بالإعادة
والثاني يجب لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل فهو كعدم الماء في الحضر
ومن صلى بغير طهارة لعدم الماء والتراب لزمه الإعادة لأن ذلك عذر نادر غير متصل فصار كما لو نسي الطهارة فصلى مع القدرة على الطهارة
فصل من المسح على الجبيرة إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وضع الجبائر وضع الجبيرة على طهر فإن وضعها على طهر ثم أحدث وخاف من نزعها أو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح على الجبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر ولأنه تلحق المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخف
وهل يلزمه مسح الجميع أم لا فيه وجهان أحدهما يلزمه مسح الجميع لأنه مسح أجيز للضرورة فوجب فيه لاستيعاب كالمسح في التيمم
والثاني أنه يجزيه ما يقع عليه لاسم لأنه مسح على حائل منفصل فهو كمسح الخف
وهل يجب التيمم مع المسح ( فيه قولان ) قال في القديم لا يتيمم كما لا يتيمم مع المسح على الخف
وقال في الأم يتيمم لحديث جابر رضي الله عنه أن رجلا أصابه حجر فشجه في رأسه ثم حتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم قالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فغتسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة يمسح عليها ويغسل سائر جسده ولأنه يشبه الجريح لأنه يترك غسل العضو لخوف الضرر ويشبه لابس الخف لأنه لا يخاف الضرر من غسل العضو وإنما يخاف المشقة من نزع الحائل كلابس الخف فلما أشبههما وجب عليه الجمع بين المسح والتيمم فإن برىء وقدر على الغسل فإن كان قد وضع الجبائر على غير طهر لزمه إعادة الصلاة وإن كان قد وضعها على طهر ففيه قولان أحدهما لا يلزمه الإعادة كما لا يلزم ماسح الخف
والثاني يلزمه لأنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل
فكان كما لو ترك غسل العضو ناسيا
____________________
(1/37)
باب الحيض إذا حاضت المرأة حرم عليها الطهارة لأن الحيض يوجب الطهارة وما يوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول
ويحرم عليها الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة ويسقط ( عنها ) فرض الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقضي الصلاة ولا نؤمر بالقضاء ولأن الحيض يكثر فلو أوجبنا قضاء ما يفوتها لشق وضاق
ويحرم عليها الصوم لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فدل على أنهن كن يفطرن ولا يسقط فرضه لحديث عائشة رضي الله عنها ولأن الصوم في السنة مرة فلا يشق قضاؤه فلم يسقط
ويحرم عليها الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها صنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي ( بالبيت ) ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا يصح منها الطهارة
ويحرم عليها قراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن
ويحرم عليها حمل المصحف ومسه لقوله تعالى { لا يمسه إلا المطهرون }
ويحرم عليها اللبث في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض فأما العبور فيه فإنها إن ستوثقت من نفسها ( بالشد والتلجم ) جاز لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد فلا يمنع العبور كالجنابة
ويحرم الوطء في الفرج لقوله عز وجل { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فإن وطئها مع العلم بالتحريم ففيه قولان قال في القديم إن كان في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار وإن كان في آخره لزمه أن يتصدق بنصف دينار لما روى بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار
وقال في الجديد لا تجب عليه الكفارة لأنه وطء محرم للأذى فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر
ويحرم لاستمتاع فيما بين السرة والركبة
وقال أبو إسحاق لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم صنعوا كل شيء غير النكاح لأنه وطء محرم للأذى فختص به الفرج كالوطء في الدبر والمذهب الأول لما روى عمر رضي الله عنه أنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال ما فوق الإزار وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم لأن تحريمه بالحيض وقد زال الحيض ولا تحل الصلاة والطواف وحمل المصحف وقراءة القرآن لأن المنع منها لأجل الحدث والحدث باق ولا يحل لاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } قال مجاهد حتى يغتسلن فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل لأن التيمم قائم مقام الغسل فستبيح به ما يستباح بالغسل وإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها ومن أصحابنا من قال يحرم وطؤها بفعل الفريضة كما يحرم فعل الفريضة بعدها والأول أصح لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل
فصل في سن الحيض ومدته أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين قال الشافعي رحمه الله أعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة فإنهن يحضن لتسع سنين فإذا رأت الدم لدون ذلك فهو دم فساد لا يتعلق به أحكام الحيض
وأقل الحيض يوم وليلة وقال في موضع آخر يوم فمن أصحابنا من قال هما قولان ومنهم من قال هو يوم وليلة قولا واحدا وقوله يوم أراد بليلته ومنهم من قال يوم قولا واحدا وإنما قال يوم وليلة قبل أن يثبت عنده اليوم فلما ثبت عنده اليوم رجع إليه والدليل على ذلك أن المرجع في ذلك إلى الوجود وقد ثبت الوجود في هذا القدر قال الشافعي رحمه الله رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوما لا تزيد عليه وقال الأوزاعي ( رحمه الله كانت ) عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية
وقال عطاء رأيت من النساء من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر يوما
وقال أبو عبد الله الزبيري رحمه الله كان في نسائنا من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر يوما
وأكثره خمسة عشر يوما لما رويناه عن
____________________
(1/38)
عطاء وأبي عبد الله الزبيري
وغالبه ست أو سبع لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش رضي الله عنها تحيضي في علم الله تعالى ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن
وأقل طهر فاصل بين الدمين خمسة عشر يوما لا أعرف فيه خلافا فإن صح ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في النساء نقصان دينهن إن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي دل ذلك على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما لكني لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقه
وفي الدم الذي تراه الحامل قولان أحدهما أنه حيض لأنه دم لا يمنعه الرضاع فلا يمنعه الحمل كالنفاس
والثاني أنه دم فساد لأنه لو كان ذلك حيضا لحرم الطلاق وتعلق به نقضاء العدة فإن رأت يوما طهرا ويوما دما ولم يعبر خمسة عشر يوما ففيه قولان أحدهما أنه لا يلفق ( الدم ) بل يجعل الجميع حيضا لأنه لو كان ما رأته من النقاء طهرا لانقضت العدة بثلاثة منها
والثاني أنه يلفق الدم إلى الدم والطهر إلى الطهر فتكون أيام النقاء طهرا وأيام الدم حيضا لأنه لو جاز أن يجعل أيام النقاء حيضا لجاز أن يجعل أيام الدم طهرا ولما لم يجز أن تجعل أيام الدم طهرا لم يجز أن تجعل أيام النقاء حيضا فوجب أن يجري كل واحد منهما على حكمه
فصل رؤية الدم في غير موعده إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض فإن نقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دم فساد فتتوضأ وتصلي وإن نقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يوما أو لما بينهما فهو حيض فتغتسل عند نقطاعه سواء كان الدم على صفة دم الحيض أو على غير صفته وسواء كان لها عادة فخالفت عادتها أو لم تكن
وقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله إن رأت الصفرة أو الكدرة في غير وقت العادة لم يكن حيضا لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا ولأنه ليس فيه أمارة الحيض فلم يكن حيضا والمذهب أنه حيض لأنه دم صادف زمان الإمكان ولم يجاوزه فأشبه إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام عادتها وحديث أم عطية يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا وقوله إنه ليس فيه أمارة غير مسلم بل وجوده في أيام الحيض أمارة لأن الظاهر من حالها الصحة والسلامة وأن ذلك دم الجبلة دون العلة
وإن عبر الدم الخمسة عشر فقد ختلط حيضها بلاستحاضة فلا تخلو إما أن تكون مبتدأة غير مميزة أو مبتدأة مميزة أو معتادة غير مميزة أو معتادة مميزة أو ناسية غير مميزة أو ناسية مميزة
فإن كانت مبتدأة غير مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر والدم على صفة واحدة ففيها قولان أحدهما أنها تحيض أقل الحيض لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بكونه حيضا
والثاني أنها ترد إلى غالب عادة النساء وهي ست أو سبع وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن ولأنه لو كانت لها عادة ردت إليها لأن الظاهر أن حيضها في هذا الشهر كحيضها فيما تقدم فإذا لم يكن لها عادة فالظاهر أن حيضها كحيض نسائها ولداتها فردت إليها وإلى أي عادة ترد فيه وجهان أحدهما إلى غالب عادة النساء لحديث حمنة
والثاني إلى غالب عادة نساء بلدها وقومها لأنها أقرب إليهن فإن ستمر بها الدم في الشهر الثاني غتسلت عند نقضاء اليوم والليلة في أحد القولين وعند نقضاء الست أو السبع في الآخر لأنا قد علمنا في الشهر الأول أنها مستحاضة وأن حكمها ما ذكرناه فتصلي وتصوم ولا تقضي الصلاة
وأما الصوم فلا تقضي ما تأتي به بعد الخمسة عشر وفيما تأتي به قبل الخمسة عشر وجهان أحدهما تقضيه لجواز أن يكون قد صادف زمان الحيض فلزمها قضاؤه كالناسية
والثاني لا تقضي وهو الأصح لأنها صامت في زمان حكمنا بالطهر فيه بخلاف الناسية فإنا لم نحكم لها بحيض ولا طهر
____________________
(1/39)
فصل في المبتدأة المميزة فإن كانت مبتدأة مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر ودمها في بعض الأيام بصفة دم الحيض وهو المحتدم القانىء الذي يضرب إلى السواد وفي بعضها أحمر مشرق أو أصفر فإن حيضها أيام السواد بشرطين أحدهما أن يكون الأسود لا ينقص عن أقل الحيض
والثاني ألا يزيد على أكثره والدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أستحاض أفأدع الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق ولأنه خارج يوجب الغسل فجاز أن يرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني فإذا رأت في الشهر الأول يوما وليلة دما أسود ثم حمر أو صفر أمسكت عن الصلاة والصوم لجواز ألا يجاوز الخمسة عشر يوما فيكون الجميع حيضا وفي الشهر الثاني يلزمها أن تغتسل عند تغير الدم وتصلي وتصوم لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة فإن رأت في الشهر الثالث السواد في ثلاثة أيام ثم حمر أو صفر وفي الشهر الرابع رأت السواد في أربعة أيام ثم حمر أو صفر كان حيضها في كل شهر الأسود
وإن رأت خمسة أيام دما أحمر أو أصفر ثم رأت خمسة أيام دما أسود ثم حمر الدم إلى آخر الشهر فالحيض هو الأسود وما قبل الأسود وما بعده ستحاضة وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجهين ضعيفين أحدهما أنه لا تمييز لها لأن الخمسة الأول حيض لأنه دم بدأ بها في وقت يصلح أن يكون حيضا والخمسة الثانية أولى أن تكون حيضا لأنه في وقت يصلح للحيض وقد نضم إليه علامة الحيض وما بعدهما يصير بمنزلتهما فيصير كأن الدم كله مبهم فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة
والوجه الثاني أن حيضها العشر الأول لأن الخمسة الأول حيض بحكم البداية في وقت يصلح أن يكون حيضا والخمسة الثانية حيض باللون وإن رأت خمسة أيام دما أحمر ثم رأت دما أسود إلى آخر الشهر فهي غير مميزة لأن السواد زاد على الخمسة عشر يوما فبطلت دلالته فيكون على القولين في المبتدأة غير المميزة وخرج أبو العباس فيه وجها آخر أن بتداء حيضها من أول الأسود إما يوم وليلة وإما ست أو سبع لأنه بصفة دم الحيض وهذا لا يصح لأن هذا اللون لا حكم له إذا عبر الخمسة عشر وإن رأت خمسة عشر يوما دما أحمر وخمسة عشر يوما دما أسود ونقطع فحيضها الأسود وإن ستمر الأسود ولم ينقطع لم تكن مميزة فيكون حيضها من بتداء الدم يوما وليلة في أحد القولين أو ستا أو سبعا في القول الآخر وعلى الوجه الذي خرجه أبو العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الدم الأسود يوما وليلة أو ستا أو سبعا في الآخر
وإن رأت سبعة عشر يوما دما أحمر ثم رأت دما أسود وتصل لم يكن لها تمييز فيكون حيضها يوما وليلة من أول الدم الأحمر في أحد القولين أو ستا أو سبعا في الآخر
وقال أبو العباس رضي الله عنه يكون حيضها يوما وليلة من أول الأحمر وخمسة عشر طهرا وتبتدىء من أول الدم الأسود حيضا آخر في أحد القولين يوما وليلة وفي الآخر الثاني يجعل حيضها ستا أو سبعا والباقي ستحاضة إلا أن يكون الأسود في الثالث والعشرين
فإنه إذا كان بتداء الأسود من الثالث والعشرين فعلى قول أبي العباس رضي الله عنه يكون حيضها من أول الأحمر سبعة وخمسة عشر طهرا وتبتدىء من أول الأسود حيضا آخر يوما وليلة في أحد القولين وستا أو سبعا في القول الآخر
فصل في المعتادة غير المميزة فإن كانت معتادة غير مميزة وهي التي كانت تحيض من كل شهر أياما ثم عبر الدم عادتها وعبر الخمسة عشر ولا تمييز لها فإنها لا تغتسل لمجاوزة الدم عادتها لجواز أن ينقطع الدم لخمسة عشر يوما فإذا عبر الخمسة عشر ردت إلى عادتها فتغتسل بعد الخمسة عشر وتقضي صلاة ما زاد على عادتها لما روي أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فستفتت لها أم سلمة رضي الله عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتدع الصلاة قدر ذلك
فإن ستمر بها الدم في الشهر الثاني وجاوز العادة غتسلت عند مجاوزة العادة لأنا قد علمنا بالشهر
____________________
(1/40)
الأول أنها مستحاضة فتغتسل في كل شهر عند مجاوزة العادة بمرة
وتصلي وتصوم
وتثبت العادة بمرة واحدة فإذا حاضت في شهر مرة خمسة أيام ثم ستحيضت في شهر بعده ردت إلى الخمسة ومن أصحابنا من قال لا تثبت إلا بمرتين فإن لم تحض الخمسة مرتين لم تكن معتادة بل هي مبتدأة لأن العادة لا تستعمل في مرة والمذهب الأول لحديث المرأة التي ستفتت لها أم سلمة رضي الله عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إلى الشهر الذي يلي شهر لاستحاضة ولأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه
وتثبت العادة بالتمييز كما تثبت بانقطاع الدم فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دما أسود ثم صفر وتصل ثم رأت في الشهر الثاني دما مبهما كانت عادتها أيام السواد
ويثبت الطهر بالعادة كما يثبت الحيض فإذا حاضت خمسة أيام وطهرت خمسا وخمسين يوما ثم رأت الدم وعبر الخمسة عشر جعل حيضها في كل شهرين خمسة أيام والباقي طهر
ويجوز أن تنتقل العادة فتتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص فترد إلى آخر ما رأت من ذلك لأن ذلك أقرب إلى شهر لاستحاضة وإن كانت عادتها الخمسة الثانية من الشهر فرأت الدم من أول الشهر وتصل فالحيض هو الخمسة المعتادة وقال أبو العباس رضي الله عنه فيه وجه آخر أن حيضها هي الخمسة الأول لأنه بدأ بها في زمان يصلح أن يكون حيضا والأول أصح لأن العادة قد ثبتت في الخمسة الثانية فوجب الرد إليها كما لو لم يتقدمها دم وإن كانت عادتها خمسة أيام من أول كل شهر ثم رأت في بعض الشهور الخمسة المعتادة ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم وعبر الخمسة الأول عشر يوما فإنها ترد إلى عادتها وهي الخمسة الأول من الشهر وخرج أبو العباس رضي الله عنه وجها آخر أن الخمسة الأول من الدم الثاني حيض لأنها رأته في وقت يصلح أن يكون حيضا والأول هو المذهب لأن العادة قد ثبتت في الحيض من أول كل شهر فلا تتغير إلا بحيض صحيح
فصل في المعتادة المميزة فإن كانت معتادة مميزة وهي أن تكون عادة أن تحيض في كل شهر خمسة أيام ثم رأت في شهر عشرة أيام دما أسود ثم رأت دما أحمر أو أصفر وتصل ردت إلى التمييز وجعل حيضها أيام السواد وهي العشرة وقال أبو علي بن خيران رحمه الله ترد إلى العادة وهي الخمسة والأول أصح لأن التمييز علامة قائمة في شهر لاستحاضة فكان عتباره أولى من عتبار عادة قد نقضت
فصل في الناسية المميزة وإن كانت ناسية مميزة وهي التي كانت لها عادة ونسيت عادتها ولكنها تميز الحيض من لاستحاضة باللون فإنها ترد إلى التمييز لأنها لو ذكرت عادتها لردت إلى التمييز فإذا نسيت أولى وعلى قول من قال تقدم العادة على التمييز حكمها حكم من لا تمييز لها واحد ونحن نذكر ذلك إن شاء الله تعالى
فصل في الناسية غير المميزة وإن كانت ناسية للعادة غير مميزة لم يخل إما أن تكون ناسية للوقت والعدد أو ناسية للوقت ذاكرة للعدد أو ناسية للعدد ذاكرة للوقت
فإن كانت ناسية للوقت والعدد وهي المتحيرة ففيها قولان أحدهما أنها كالمبتدأة التي لا تمييز لها نص عليه في العدد فيكون حيضها من أول كل هلال يوما وليلة في أحد القولين أو ستا أو سبعا في الآخر فإن عرفت متى رأت الدم جعلنا بتداء شهرها من ذلك الوقت وعددنا لها ثلاثين يوما وحيضناها لأنه ليس بعض الأيام بأن يجعل حيضا بأولى من البعض فسقط حكم الجميع وصارت كمن لا عادة لها ولا تمييز
والثاني وهو المشهور والمنصوص في الحيض أنه لا حيض لها ولا طهر بيقين فتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز أن يكون ذلك وقت نقطاع الحيض ولا يطؤها الزوج وتصوم مع الناس شهر رمضان فيصح لها أربعة عشر يوما لجواز أن يكون اليوم الخامس عشر من حيضها بعضه من أول يوم من الشهر وبعضه من السادس عشر فيفسد عليها بذلك يومان ثم تصوم شهرا آخر فيصح لها منه أربعة عشر يوما فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصا
( صح لها منه ثلاثة عشر يوما من الصوم لجواز أن يكون بتداء الحيض من بعض اليوم الأول ونتهاؤه في بعض السادس عشر فيبطل عليها صوم ستة عشر يوما ويصح لها صوم ثلاثة عشر يوما فإن كان شهر قضائها كاملا بقي عليها قضاء يومين وإن كان ناقصا بقي قضاء ثلاثة أيام وإن كانا كاملين بقي قضاء يومين وإن كان شهر الأداء كاملا وشهر القضاء ناقصا بقي قضاء ثلاثة أيام وإن قضت في شوال صح لها صوم ثلاثة عشر يوما إن كمل وثني عشر إن نقص وإن قضت في ذي الحجة فعشرة إن كمل وتسعة إن نقص فإن كان الشهر الذي صامه الناس ناقصا ) وجب عليها قضاء يوم فتصوم أربعة أيام من سبعة عشر يوما يومين في أولها ويومين في آخرها وإن كان الشهر تاما وجب عليها قضاء يومين فتصوم ستة أيام من ثمانية
____________________
(1/41)
عشر يوما ثلاثة في أولها وثلاثة في آخرها فيصح لها صوم الشهر وإن لزمها صوم ثلاثة أيام قضتها من تسعة عشر يوما أربعة من أولها وأربعة من آخرها وإن لزمها صوم أربعة أيام قضتها من عشرين يوما خمسة في أولها وخمسة في آخرها وكلما زاد في المدة يوم زاد في الصوم يومان ( يوم ) في أولها ويوم في آخرها وعلى هذا القياس يعمل في طوافها
فصل فيمن نسيت الوقت وذكرت العدد وإن كانت ناسية لوقت الحيض ذاكرة للعدد فكل زمان تيقنا فيه الحيض ألزمناها جتناب ما تجتنبه الحائض وكل زمان تيقنا فيه طهرها أبحنا فيه ما يباح للطاهر وأوجبنا ما يجب على الطاهر وكل زمان شككنا في طهرها حرمنا وطأها وأوجبنا ما يجب على الطاهر حتياطا وكل زمان جوزنا فيه نقطاع الحيض أوجبنا عليها أن تغتسل فيه للصلاة ويعرف ذلك بتنزيل أحوالها ونذكر من ذلك مسائل تدل على جميع أحكالها إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق
فإن قالت كان حيضي عشرة أيام من الشهر لا أعرف وقتها لم يكن لها حيض ولا طهر بيقين لأنه يمكن في كل وقت أن تكون حائضا ويمكن أن تكون طاهرا فيجعل زمانها في الصوم والصلاة زمان الطهر فتتوضأ في العشر الأول لكل فريضة ولا تغتسل لأنه لا يمكن نقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر أمرناها بالغسل لإمكان نقطاع الدم ثم نلزمها بعد ذلك أن تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر لأن كل وقت من ذلك يمكن نقطاع الدم فيه فإن عرفت وقتا من اليوم كان ينقطع فيه دمها ألزمناها أن تغتسل كل يوم في ذلك الوقت ولا يلزمها أن تغتسل في غيره لأنا قد علمنا وقت نقطاع دمها من اليوم وإن قالت كنت أحيض إحدى العشرات الثلاث من الشهر فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين فنجعل زمانها زمان الطهر فتصلي من أول الشهر وتتوضأ لكل فريضة وتغتسل في آخر كل عشر لإمكان نقطاع الدم فيه وإن قالت كان حيضي ثلاثة أيام في العشر الأول من الشهر فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشر فتصلي من أول العشر ثلاثة أيام بالوضوء ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر إلا أن تعرف نقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل ذلك الوقت في كل يوم وتتوضأ في غيره وإن قالت كان حيضي أربعة أيام من العشرة الأول صلت بالوضوء أربعة أيام ثم تغتسل لكل صلاة إلى ( آخر العشر ) وعلى هذا التنزيل في الخمس والست والسبع والثمان والتسع فإن علمت يقين طهرها في وقت من الشهر بأن قالت كان حيضي عشرة أيام في كل شهر وأعلم أني كنت في العشر الأخيرة طاهرا فإنها في العشر الأول تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل نقطاع الدم فيه فإذا مضت العشر غتسلت لكل صلاة إلا أن تعلم نقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه دون غيره وفي العشر الثالثة طاهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام في العشر الأول وكنت في اليوم الأول من العشر الأول طاهرا ففي اليوم الأول طهر بيقين فتتوضأ فيه لكل صلاة فريضة وفي اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل فريضة والسادس حيض بيقين فإنه على أي تنزيل نزلنا لم يخرج اليوم السادس منه فتترك فيه ما تترك الحائض ثم تغتسل في آخره لإمكان نقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر العاشر ثم تدخل في طهر بيقين فتتوضأ لكل فريضة وإن قالت ( كان حيضي ستة أيام في العشر الأول كان لها يومان حيض بيقين وهما الخامس والسادس لأنه إن بتدأ الحيض من أول العشر فآخره السادس وإن بتدأ من الخامس فآخره العاشر والخامس والسادس داخلان فيه بكل حال وإن قالت كان حيضي سبعة أيام من العشر الأول حصل لها أربعة أيام حيض بيقين وهي من الرابع إلى السابع وإن قالت ثمانية كان حيضها بيقين ستة من الثالث إلى آخر الثامن فإن قالت تسعة كان ثمانية من الثاني إلى آخر التاسع لما بيننا ) وإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام لا أعرفها وكنت في اليوم السادس طاهرا فإنها من أول الشهر إلى آخر السادس في طهر بيقين ومن السابع إلى آخر الشهر في طهر مشكوك فيه فتتوضأ لكل فريضة إلى أن يمضي عشرة أيام بعد السادس ثم تغتسل لإمكان نقطاع الدم فيه ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلا أن تعرف الوقت الذي كان ينقطع فيه الدم فتغتسل كل يوم فيه دون غيره وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة أيام لا أعرف موضعها وأعلم أني كنت في الخمسة الأخيرة طاهرا وأعلم أن لي طهرا صحيحا غيرها في كل شهر فإنه يحتمل أن يكون حيضها ( في الخمسة الأولى والباقي طهر ويحتمل أن يكون حيضها ) في الخمسة الثانية والباقي طهر ولا يجوز أن يكون في الخمسة الثالثة لأن ما قبلها وما بعدها دون أقل الطهر ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة ويكون ما قبلها طهرا ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة ويكون ما قبلها طهرا فيلزمها أن تتوضأ لكل صلاة في الخمسة الأولى وتصلي لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل فريضة من
____________________
(1/42)
أول السادس إلى آخر العاشر لأنه طهر مشكوك فيه ويحتمل نقطاع الدم في كل وقت منه ومن أول الحادي عشر ( إلى آخر الخامس عشر ) فتتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين ومن أول السادس عشر تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشرين لأنه طهر مشكوك فيه لا يحتمل نقطاع الحيض فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس والعشرين لأنه طهر مشكوك فيه وتغتسل لكل صلاة لأنه يحتمل نقطاع الحيض في كل وقت منها ومن أول السادس والعشرين إلى آخر الشهر تتوضأ لكل فريضة لأنه طهر بيقين وإن علمت يقين الحيض في بعض الأيام بأن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام وكنت أكون في اليوم العاشر حائضا فإنه يحتمل أن يكون العاشر آخر حيضها ويكون بتداؤها من أول الشهر ويحتمل أن يكون العاشر أول حيضها فيكون آخره التاسع عشر ويحتمل أن يكون بتداؤها ما بين اليوم الأول من الشهر واليوم العاشر فهي من أول الشهر إلى اليوم التاسع في طهر مشكوك فيه ولا يحتمل نقطاع الدم فيه فتتوضأ لكل صلاة وتصلي واليوم العاشر يكون حيضا بيقين تترك فيه ما يجب على الحائض تركه وتغتسل في آخره ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام التاسع عشر إلا أن تعلم نقطاع الدم في وقت بعينه فتغتسل فيه من الوقت إلى الوقت ثم بعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة فريضة فإن قالت كان حيضي في كل شهر عشرة أيام ولي في كل شهر طهر صحيح وكنت في اليوم الثاني عشر حائضا فإنها في خمسة عشر يوما من آخر الشهر في طهر بيقين وفي اليوم الأول والثاني من أول الشهر في طهر بيقين وفي الثالث والرابع والخامس في طهر مشكوك فيه تتوضأ فيه لكل فريضة وفي السادس إلى تمام الثاني عشر في حيض بيقين ومن الثالث عشر إلى تمام الخامس عشر في طهر مشكوك فيه ويحتمل نقطاع الحيض في كل وقت منها فتغتسل لكل صلاة وإن قالت كان حيضي خمسة أيام من العشر الأول وكنت في اليوم الثاني من الشهر طاهرا وفي اليوم الخامس حائضا فإنه يحتمل أن يكون بتداء حيضها من الثالث وآخره إلى تمام السابع ويحتمل أن يكون من الرابع وآخره إلى تمام الثامن ويحتمل أن يكون بتداؤه من الخامس وآخره تمام التاسع فاليوم الأول والثاني طهر بيقين والثالث والرابع طهر مشكوك فيه والخامس والسادس والسابع حيض بيقين ثم تغتسل في آخر السابع فيكون ما بعده إلى تمام التاسع طهرا مشكوكا فيه تغتسل فيه لكل صلاة وإن قالت كان لي في كل شهر حيضتان ولا أعلم موضعهما ولا عددهما فإن الشيخ أبا حامد الإسفراييني رحمه الله ذكر أن أقل ما يحتمل أن يكون حيضها يوم من أول الشهر ويوم من آخره ويكون ما بينهما طهرا وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها أربعة عشر يوما من أول الشهر أو من آخره ويوم وليلة من أول الشهر أو من آخره ويكون بينهما خمسة عشر يوما طهرا ويحتمل ما بين الأقل والأكثر فيلزمها أن تتوضأ وتصلي في اليوم الأول من الشهر لأنه طهر مشكوك فيه ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال نقطاع الدم فيه ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهرا بيقين لأنه إن كان بتداء الطهر في اليوم الثاني فاليوم السادس عشر آخره وإن كان من الخامس عشر فالخامس عشر والسادس عشر داخل في الطهر ومن السابع عشر إلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله هذا خطأ لأنا إذا نزلناها هذا التنزيل لم يجز أن يكون هذا حالها في الشهر الذي بعده بل يجب أن تكون في سائر الشهور كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقته فتغتسل لكل صلاة ولا يطؤها الزوج وتصوم رمضان وتقضيه على ما بيناه
فصل فيمن ذكرت الوقت ونسيت العدد فإن كانت ذاكرة للوقت ناسية للعدد نظرت فإن كانت ذاكرة لوقت بتدائه بأن قالت كان بتداء حيضي من أول يوم من الشهر حيضناها يوما وليلة من أول الشهر لأنه يقين ثم تغتسل بعده فتحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس عشر وتصلي وتغتسل لكل صلاة لجواز نقطاع الدم فيه وما بعده طهر بيقين إلى آخر الشهر فتتوضأ لكل صلاة وإن كانت ذاكرة لوقت نقطاعه بأن قالت كان حيضي ينقطع في آخر الشهر قبل غروب الشمس حيضناها قبل ذلك يوما وليلة وكانت طاهرا من أول الشهر إلى آخر الخامس عشر تتوضأ لكل صلاة فريضة ثم تحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر التاسع والعشرين تتوضأ لكل صلاة لأنه لا يحتمل نقطاع الدم ولا يجب الغسل إلا في آخر الشهر في الوقت الذي تيقنا نقطاع الحيض فيه وإن قالت كان حيضي في كل شهر خمسة عشر يوما وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر أربعة عشر في أحد النصفين ويوما في النصف الآخر ولا أدري أن اليوم في النصف الأول أو الأربعة عشر فهذه يحتمل أن يكون اليوم في النصف
____________________
(1/43)
الثاني والأربعة عشر في النصف الأول فيكون بتداء الحيض من اليوم الثاني من الشهر وآخره تمام السادس عشر ويحتمل أن يكون اليوم في النصف الأول والأربعة عشر في النصف الثاني فيكون بتداء الحيض من أول الخامس عشر وآخره التاسع والعشرون فاليوم الأول والآخر من الشهر طهر بيقين والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين ومن الثاني إلى الخامس عشر طهر مشكوك فيه ومن أول السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين طهر مشكوك فيه فتغتسل في آخر السادس عشر وفي آخر التاسع والعشرين لأنه يحتمل نقطاع الدم فيهما وعلى هذا التنزيل والقياس فإن قالت كان حيضي خمسة عشر يوما وكنت أخلط اليوم وأشك هل كنت أخلط بأكثر من يوم فالحكم فيه كالحكم في المسألة قبلها إلا في شيء واحد وهو أن ههنا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة بعد السادس عشر لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم فيكون ذلك الوقت وقت نقطاع الحيض إلا أن تعلم نقطاع الحيض في وقت بعينه من اليوم فتغتسل فيه في مثله
فصل في المستحاضة إذا تخلل وقتها طهر هذا الذي ذكرناه في المستحاضة إذا عبر دمها الخمسة عشر ولم يتخللها طهر فأما إذا تخللها طهر بأن رأت يوما وليلة دما ورأت يوما وليلة نقاء إلى أن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة وقال بن بنت الشافعي رضي الله عنه الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وبين ما بعده فيكون الدم في الخمسة عشر حيضا وفي النقاء الذي بينهما قولان في التلفيق لأنا حكمنا في اليوم السادس عشر لما رأت النقاء بطهارتها وأمرناها بالصوم والصلاة وما بعده ليس بحيض بل هو طهر فكان بمنزلة ما لو نقطع الدم بعد الخمسة عشر ولم يعد والمنصوص أنها مستحاضة ختلط حيضها بلاستحاضة لأنه لو كان النقاء في اليوم السادس عشر يميز لوجب أن يميز في الخمسة عشر كالتمييز باللون فعلى هذا ينظر فيها فإن كانت مميزة بأن ترى يوما وليلة دما أسود ثم ترى النقاء عشرة أيام ثم ترى يوما وليلة دما أسود ثم أحمر فترد إلى التمييز فيكون الحيض أيام الأسود وما بينهما على القولين
وإن كان لها عادة في كل شهر خمسة أيام ردت إلى عادتها فإن قلنا لا يلفق كانت الخمسة كلها حيضا وإن قلنا يلفق كانت أيام الدم حيضا وذلك ثلاثة أيام ونقض يوما من العادة ومن أصحابنا من قال يلفق لها قدر العادة من الخمسة عشر يوما فيحصل لها خمسة أيام من تسعة أيام
وإن كانت عادتها ستة أيام فإن قلنا لا يلفق كان حيضها خمسة أيام لأن اليوم السادس من أيام العادة لا دم فيه لأن الدم في الأفراد فلم يجز أن يجعل حيضا لأن النقاء إنما يجعل حيضا على هذا القول إذا كان واقعا بين الدمين فعلى هذا ينقص من عادتها يوم
وإذا قلنا يلفق من أيام العادة كان حيضها ثلاثة أيام وينقص يومان وإذا قلنا يلفق من خمسة عشر حصل لها ستة أيام من أحد عشر يوما
وإن كانت عادتها سبعة أيام فإن قلنا إن الجميع حيض كان حيضها سبعة أيام لا ينقص منها شيء لأن اليوم السابع دم فيمكن ستيفاء جميع أيام عادتها وإن قلنا يلفق لها من أيام العادة كان حيضها أربعة أيام وإن قلنا يلفق من خمسة عشر كان لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يوما وعلى هذا القياس
وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة ففيها قولان أحدهما ترد إلى يوم وليلة فيكون حيضها من أول ما رأت يوما وليلة والباقي طهر
وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع فهي كمن عادتها ستة أيام أو سبعة أيام وقد بيناه فأما إذا رأت نصف يوم ( دما ونصف يوم ) نقاء ولم تجاوز الخمسة عشر فهي على القولين في التلفيق
وقال بعض أصحابنا هذه مستحاضة هذه لا يثبت لها حكم الحيض حتى يتقدم لها أقل الحيض
ومنهم من قال لا يثبت لها حكم الحيض إلا أن يتقدمه أقل الحيض متصلا ويتعقبه أقل الحيض متصلا والصحيح هو الأول وأنها على القولين في التلفيق فإذا قلنا لا يلفق حصل لها أربعة عشر يوما ونصف يوم حيضا وإذا قلنا يلفق حصل لها سبعة أيام ونصف حيضا وما بينهما من النقاء طهر
وإن جاوز الخمسة عشر كانت مستحاضة فترد إلى التمييز إن كانت مميزة أو إلى العادة إن كانت معتادة
وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها ولا عادة فإن قلنا إنها ترد إلى ست أو سبع كان ذلك كالعادة
وإن قلنا ترد إلى يوم وليلة فإن قلنا لا يلفق فلا حيض لها لأنه لا يحصل لها يوم وليلة من غير تلفيق وإن قلنا يلفق من أيام العادة لم يكن لها حيض لأن اليوم والليلة كأيام العادة ولا يحصل لها من اليوم والليلة أقل الحيض
وإن قلنا يلفق من الخمسة عشر لفق لها مقدار يوم وليلة من يومين وليلتين
وإن رأت ساعة دما وساعة نقاء ولم يجاوز الخمسة عشر فإن كان الدم بمجموعه يبلغ أقل الحيض فقد قال أبو العباس وأبو إسحاق فيه قولان في التلفيق وإن كان لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض مثل أن ترى ساعة
____________________
(1/44)
دما ثم ينقطع ثم ترى في آخر الخامس عشر ساعة دما قال أبو العباس إذا قلنا يلفق فهو دم فساد لأنه لا يتلفق منه ما يكون حيضا وإذا قلنا لا يلفق احتمل وجهين أحدهما يكون حيضا لأن زمان النقاء على هذا القول حيض فلا ينقص الحيض عن أقله بل الخمسة عشر حيض
والثاني لا يكون حيضا لأن النقاء إنما يكون حيضا على سبيل التبع للدم والدم لم يبلغ بمجموعه أقل الحيض فلم يجعل النقاء تابعا له
وإن رأت ثلاثة أيام دما ثم انقطع اثني عشر يوما ثم رأت ثلاثة أيام دما وانقطع فالأول حيض لأنها رأته في زمان إمكانه والثاني دم فساد ولا يجوز أن يجعل بتداء الحيض لأنه لم يتقدمه أقل الطهر ولا يمكن ضمه إلى ما رأته قبل الخمسة عشر لأنه خارج عن الخمسة عشر
وإن رأت دون اليوم دما ثم انقطع إلى تمام الخمسة عشر يوما ثم رأت ثلاثة أيام دما فإن الحيض هو الثاني والأول ليس بحيض لأنه لا يمكن إضافته إلى ما بعد الخمسة عشر ولا يمكن أن يجعل بانفراده حيضا لأنه دون أقل الحيض
فصل اشتراك دموي النفاس والحيض في الحكم دم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض ويسقط ما يسقطه الحيض لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل فكان حكمه حكم الحيض فإن خرج قبل الولادة شيء لم يكن نفاسا وإن خرج بعد الولادة كان نفاسا وإن خرج مع الولد ففيه وجهان أحدهما أنه ليس بنفاس لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل ولهذا يجوز للزوج رجعتها فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل
وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن أبي أحمد بن القاص هو نفاس لأنه دم انفصل بخروج الولد فصار كالخارج بعد الولادة
وإن رأت الدم قبل الولادة خمسة أيام ثم ولدت ورأت الدم فإن الخارج بعد الولادة نفاس
وأما الخارج قبله ففيه وجهان من أصحابنا من قال هو ستحاضة لأنه لا يجوز أن يتوالى حيض ونفاس من غير طهر كما لا يجوز أن يتوالى حيضتان من غير طهر
ومنهم من قال إذا قلنا إن الحامل تحيض فهو حيض لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل وأكثر النفاس ستون يوما
وقال المزني أربعون يوما والدليل على ما قلناه ما روي عن الأوزاعي أنه قال عندنا امرأة ترى النفاس شهرين
وعن عطاء والشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري والحجاج بن أرطأة أن النفاس ستون يوما وليس لأقله حد وقد تلد المرأة ولا ترى الدم
وروي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر نفاسا فسميت ذات الجفوف
فإن ولدت توأمين بينهما زمان ففيه ثلاثة أوجه أحدها يعتبر النفاس من الولد الأول لأنه دم يعقب الولادة فاعتبر المدة منه كما لو كان وحده
والثاني يعتبر من الثاني لأنه ما دام معها حمل فالدم ليس بنفاس كالدم الذي تراه قبل الولادة
والثالث أن يعتبر بتداء المدة من الأول ثم يستأنف المدة من الثاني لأن كل واحد منهما سبب للمدة فإذا وجدا اعتبر الابتداء من كل واحد منهما كما لو وطىء امرأة بشبهة فدخلت في العدة ثم وطئها فإنها تستأنف العدة
فإن رأت دم النفاس ساعة ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم يوما وليلة ففيه وجهان أحدهما أن الأول نفاس والثاني حيض وما بينهما طهر
والوجه الثاني أن الجميع ( نفاس لأن الجميع ) وجد في مدة النفاس وفيما بينهما القولان في التلفيق
وإن نفست المرأة وعبر الدم الستين ( يوما ) فحكمها حكم الحيض إذا عبر الخمسة عشر يوما في الرد إلى التمييز والعادة والأقل والغالب لأنه بمنزلة الحيض في أحكامه وكذلك في الرد عند الإشكال
فإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوما فإن شهرها عشرون يوما فإن ولدت في وقت حيضها ورأت عشرين يوما الدم ثم طهرت خمسة عشر يوما ثم رأت الدم بعد ذلك واتصل وعبر الخمسة عشر كان حيضها وطهرها على عادتها فتكون نفساء في مدة العشرين وطاهرا في مدة الخمسة عشر وحائضا في الخمسة أيام بعدها
وإن كانت عادتها أن تحيض عشرة أيام وتطهر عشرين يوما فإن شهرها ثلاثون يوما فإن ولدت في وقت حيضها فرأت عشرين يوما دما وانقطع وطهرت شهرين ثم رأت الدم بعد ذلك وعبر الخمسة عشر فإن حيضها لم يتغير بل هي في الحيض على عادتها ولكن زاد طهرها فصار شهرين بعدما كان عشرين يوما فتكون نفساء في العشرين الأولى وطاهرا في الشهرين بعدها وحائضا في العشر التي بعدها
فصل في صنيع المستحاضة ويجب على المستحاضة أن تغسل الدم وتعصب الفرج وتستوثق بالشد والتلجم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
____________________
(1/45)
لحمنة بنت جحش رضي الله عنها أنعت لك الكرسف فقالت إنه أكثر من ذلك فقال تلجمي فإن استوثقت ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد لم تبطل صلاتها لما روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت وإن قطر الدم على الحصير
ولا تصلي بطهارة أكثر من فريضة لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ويجوز أن تصلي ما شاءت من النوافل لأن النوافل تكثر فلو ألزمناها أن تتوضأ لكل نافلة شق عليها ولا يجوز أن تتوضأ لفرض الوقت قبل الدخول لأنه طهارة ضرورة فلا يجوز قبل وقت الضرورة
فإن توضأت في أول الوقت وأخرت الصلاة فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة كانتظار الجماعة وستر العورة والإقامة صحت صلاتها وإن كان لغير ذلك ففيه وجهان أحدهما أن صلاتها باطلة لأنها تصلي مع نجاسة يمكن حفظ الصلاة منها
والثاني تصح لأنه وسع في الوقت فلا يضيق عليها
فأن أخرتها حتى خرج الوقت لم يجز أن تصلي به لأنه لا عذر لها في ذلك
ومن أصحابنا من قال يجوز أن تصلي بعد خروج الوقت لأنا لو منعناها من ذلك صارت طهارتها مقدرة بالوقت وذلك لا يجوز عندنا
وإن دخلت في الصلاة ثم انقطع دمها ففيه وجهان أحدهما لا تبطل صلاتها كالمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة
والثاني تبطل لأن عليها طهارة حدث وطهارة نجس ولم تأت عن طهارة النجس بشيء وقد قدرت عليها فلزمها الإتيان بها
وإن انقطع دمها قبل الدخول في الصلاة لزمها غسل الدم وإعادة الوضوء فإن لم تفعل حتى عاد الدم فإن كان عوده بعد الفراغ من الصلاة لا تصح صلاتها لأنه اتسع الوقت للوضوء والصلاة من غير حدث ولا نجس وإن كان عود الدم قبل الفراغ من الصلاة ففيه وجهان أحدهما أنها تصح لأنا تيقنا بعود الدم أن الانقطاع لم يكن له حكم لأنه ( قدر ) لا يصلح للطهارة والصلاة
والثاني وهو الأصح أن صلاتها باطلة لأنها استفتحت الصلاة وهي ممنوعة منها فلم تصح بالتبين كما لو استفتح لابس الخف الصلاة وهو شاك في انقضاء مدة المسح ثم تبين أن المدة لم تنقض
فصل في سلسي البول والمذي وسلس البول وسلس المذي حكمهما حكم المستحاضة فيما ذكرناه
ومن به ناصور أو جرح يجري منه الدم حكمهما حكم الاستحاضة في غسل النجاسة عند كل فريضة لأنها نجاسة متصلة لعلة فهو كالاستحاضة
باب إزالة النجاسة النجاسة هي البول والغائط والقيء والمذي والودي ومني غير الآدمي والدم والقيح وماء القروح والعلقة والميتة والخمر والنبيذ والكلب والخنزير وما توالد منهما وما توالد من أحدهما ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي ورطوبة فرج المرأة وما تنجس بذلك
فأما البول فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه
وأما الغائط فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والمذي والدم والقيء
وأما سرجين البهائم وذرق الطيور فهو كالغائط في النجاسة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال إنها ركس فعلل نجاستها بأنه ركس والركس الرجيع وهذا رجيع فكان نجسا ولأنه خارج من الدبر
____________________
(1/46)
أحالته الطبيعة فكان نجسا كالغائط
وأما القيء فهو نجس لحديث عمار ولأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد فكان نجسا كالغائط
وأما المذي فهو نجس لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال كنت رجلا مذاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة ولأنه خارج من سبيل الحدث لا يخلق منه طاهر فهو كالبول
وأما الودي فهو نجس لما ذكرت من العلة ولأنه يخرج مع البول فكان حكمه حكم البول
وأما مني الآدمي فهو طاهر لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولو كان نجسا لما انعقدت معه الصلاة ولأنه مبدأ خلق بشر فكان طاهرا كالطين
وأما مني غير الآدمي ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير لأنه خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أصله فكان طاهرا كالبيض ومني الآدمي
والثاني أن الجميع نجس لأنه من فضول الطعام المستحيل وإنما حكم بطهارته من الآدمي لحرمته وكرامته كما أحل لبنه مع كونه لا يؤكل لحرمته وكرامته وهذا لا يوجد في غيره
والثالث ما أكل لحمه فمنيه طاهر كلبنه وما لا يؤكل لحمه فمنيه نجس كلبنه
وأما الدم فهو نجس لحديث عمار وفي دم السمك وجهان أحدهما أنه نجس كغيره
والثاني أنه طاهر لأنه ليس بأكثر من الميتة وميتة السمك طاهرة فكذلك دمه
وأما القيح فهو نجس لأنه دم استحال إلى النتن فإذا كان الدم نجسا فالقيح أولى
وأما ماء القروح فإن كان له رائحة فهو نجس كالقيح وإن لم يكن له رائحة فهو طاهر كرطوبة البدن
ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما أنه طاهر كالعرق
والثاني أنه نجس لأنه تحلل بعلة فهو كالقيح
وأما العلقة ففيها وجهان قال أبو إسحاق هي نجسة لأنه دم خارج من الرحم فهو كالحيض
وقال أبو بكر الصيرفي هي طاهرة لأنه دم غير مسفوح فهو كالكبد والطحال
فأما الميتة سوى السمك والجراد والآدمي فهي نجسة للآية لأنها محرمة الأكل من غير ضرر فكانت نجسة كالدم
وأما السمك والجراد فهما طاهران لأنه يحل أكلهما ولو كانا نجسين لم يحل أكلهما
وأما الآدمي ففيه قولان أحدهما أنه نجس لأنه ميت لا يحل أكله فكان نجسا كسائر الميتات
والثاني أنه طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا ولأنه لو كان نجسا لما غسل كسائر الميتات
وأما الخمر فهو نجس لقوله عز وجل { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ولأنه يحرم تناوله من غير ضرورة فكان نجسا كالدم
وأما النبيذ فهو نجس لأنه شراب فيه شدة مطربة فكان نجسا كالخمر
وأما الكلب فهو نجس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فأجاب ودعي إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك فقال ( إن في دار فلان كلبا ) فقيل وفي دار فلان هرة فقال ( الهرة ليست بنجسة ) فدل على أن الكلب نجس
وأما الخنزير فهو نجس لأنه أسوأ حالا من الكلب لأنه مندوب إلى قتله من غير ضرر فيه ومنصوص على تحريمه فإذا كان الكلب نجسا فالخنزير أولى
وأما ما توالد منهما أو من أحدهما فهو نجس لأنه مخلوق من نجس ( فكان ) مثله
وأما لبن ما لا يؤكل لحمه غير
____________________
(1/47)
الآدمي ففيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري هو طاهر لأنه حيوان طاهر فكان لبنه طاهرا كالشاة والبقرة
والمنصوص أنه نجس لأن اللبن كاللحم المذكى بدليل أنه يتناول من الحيوان ويؤكل كما يتناول اللحم المذكى ولحم ما لا يؤكل نجس فكذلك لبنه
وأما رطوبة فرج المرأة فالمنصوص أنها نجس لأنها رطوبة متولدة في محل النجاسة فكانت نجسة
ومن أصحابنا من قال هي طاهرة كسائر رطوبات البدن
وأما ما ينجس بذلك فهي الأعيان الطاهرة إذا لاقاها شيء من هذه النجاسات وأحدهما رطب والآخر يابس فينجس بملاقاتها
فصل فيما يطهر بالاستحالة ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان أحدهما جلد الميتة إذا دبغ وقد دللنا عليه في موضعه
والثاني الخمر إذا استحالت بنفسها خلا فتطهر بذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال لا يحل خل من خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها فعند ذلك يطيب الخل
ولا بأس أن يشتروا من أهل الذمة خلا ما لم يتعمدوا إلى إفساده ولأنه إنما حكم بتحريمها للشدة المطربة الداعية إلى الفساد وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها فوجب أن يحكم بطهارتها
وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر لما روي أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال أهرقها
قال أفلا أخللها قال ( لا ) فنهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز ولأنه لو جاز لندبه إليه لما فيه من إصلاح مال اليتيم ولأنه إذا طرح فيها الخل نجس الخل
فإذا زالت الشدة المطربة بقيت نجاسة الخل النجس فلم تطهر
فإن نقلها من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس حتى تخللت ففيه وجهان أحدهما تطهر لأن الشدة قد زالت من غير نجاسة خلفتها
والثاني لا تطهر لأنه فعل محظور توصل به إلى استعجال ما يحل في الثاني فلم يحل كما لو قتل مورثه أو نفر صيدا حتى خرج من الحرم إلى الحل
وإن أحرق العذرة أو السرجين حتى صار رمادا لم يطهر لأن نجاستهما لعينهما
وتخالف الخمر فإن نجاستها لمعنى معقول وقد زال ذلك
وأما دخان النجاسة إذا أحرقت ففيه وجهان أحدهما أنه نجس لأنه أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد
والثاني أنه ليس بنجس لأنه بخار نجاسة فهو كالبخار الذي يخرج من الجوف
فصل في كيف الطهارة من ولوغ الكلب وإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضوا منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب فعلق طهارته بسبع مرات فدل على أنه لا يطهر بما دونه والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيها جعل جاز لعموم الخبر
وإن جعل بدل التراب الجص أو الأشنان وما أشبههما ففيه قولان أحدهما لا يجزئه لأنه تطهير نص فيه على التراب فاختص به كالتيمم
والثاني أنه يجزئه لأنه تطهير نجاسة نص فيه على جامد فلم يختص به كالاستنجاء والدباغ
وفي موضع القولين وجهان أحدهما أن القولين في حال عدم التراب فأما مع وجود التراب فلا يجوز بغيره قولا واحدا
والثاني أن القولين في الأحوال كلها لأنه جعله في أحد القولين كالتيمم وفي الآخر جعله كالاستنجاء والدباغ وفي الأصلين جميعا لا فرق بين وجود المنصوص عليه وبين عدمه
وإن غسل بالماء وحده ففيه وجهان أحدهما أنه يجزئه لأن الماء أبلغ من التراب فهو بالجواز أولى
والثاني لا يجزئه لأنه أمر بالتراب ليكون معونة للماء لتغلظ النجاسة وهذا لا يحصل بالماء وحده
وإن ولغ كلبان ففيه وجهان أحدهما أنه يجب لكل كلب سبع مرات كما أمر في بول الرجل بذنوب ثم يجب في بول رجلين ذنوبان
والثاني أنه يجزئه للجميع سبع مرات وهو المنصوص في حرملة لأن النجاسة لا تتضاعف بعدد الكلب بخلاف البول
وإن ولغ الكلب في إناء ووقعت فيه نجاسة أخرى أجزأه سبع مرات للجميع لأن الطهارة تتداخل ولهذا لو وقع فيه بول ودم أجزأه لهما غسل مرة واحدة
وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات ففيه وجهان أحدهما يغسل من كل غسلة مرة لأن كل
____________________
(1/48)
غسلة تزيل سبع النجاسة فيغسل منه بقدر السبع
والثاني حكمه حكم الإناء الذي انفصل عنه لأن المنفصل كالبلل الباقي في الإناء وذلك لا يطهر إلا بما بقي من العدد فكذلك المنفصل
فإن جمع ماء الغسلات ففيه وجهان أحدهما أن الجميع طاهر لأنه ماء انفصل من الإناء وهو طاهر
والثاني أنه نجس وهو الصحيح لأن السابع طاهر والباقي نجس فإذا اختلط بعضه ببعض ولم يبلغ قلتين وجب أن يكون نجسا
فصل وإن ولغ الخنزير فقد قال ابن القاص قال في القديم يغسل مرة واحدة
وقال سائر أصحابنا يحتاج إلى سبع مرات
وقوله في القديم مطلق لأنه قال يغسل وأراد به سبع مرات والدليل عليه أن الخنزير أسوأ حالا من الكلب على ما بيناه فهو باعتبار العدد أولى
فصل ويجزىء في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح وهو أن يبله بالماء وإن لم ينزل عنه ولا يجزىء في بول الصبية إلا الغسل لما روى عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بول الرضيع يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام
فصل وما سوى ذلك من النجاسات ينظر فيها فإن كانت جامدة كالعذرة أزيلت ثم غسل موضعها على ما بينته وإن كانت ذائبة كالبول والدم والخمر فإنه يستحب أن يغسل منه ثلاثا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده فندب إلى الثلاث الشك في النجاسة فدل على أن ذلك يستحب إذا تيقن ويجوز الاقتصار على غسل مرة واحدة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة
والغسل الواجب في ذلك أن يكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه فإن كانت النجاسة على الأرض أجزأته المكاثرة لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في بول الأعرابي بذنوب من ماء
وإنما أمر بالذنوب لأن ذلك يغمر البول ويستهلك فيه
وقال أبو سعيد الاصطخري وأبو القاسم الأنماطي الذنوب تقدير فيجب في بول واحد ذنوب وفي بول اثنين ذنوبان
والمذهب أن ذلك ليس بتقدير لأن ذلك يؤدي ألى أن يطهر البول الكثير من الرجل بذنوب وما دون ذلك من رجلين لا يطهر إلا بذنوبين
وإن كانت النجاسة على الثوب ففيه وجهان أحدهما تجزىء فيه المكاثرة كالأرض
والثاني لا تجزىء حتى يراق ما فيه ثم يغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء فليهرقه ثم ليغسله سبع مرات
وإن كانت النجاسة خمرا فغسلها وبقيت الرائحة ففيه قولان أحدهما لا يطهر كما لو بقي اللون
والثاني يطهر لأن الخمر لها رائحة شديدة فيجوز أن يكون لقوة رائحتها تبقى الرائحة من غير جزء من النجاسة
وإن كانت النجاسة دما فغسله فلم يذهب الأثر أجزأه لما روى أن خولة بنت يسار قالت يا رسول الله أرأيت لو بقي أثر فقال صلى الله عليه وسلم الماء يكفيك ولا يضرك أثره
وإن كان الثوب نجسا فغمسه في إناء فيه دون القلتين من الماء نجس الماء ولا يطهر الثوب
ومن أصحابنا من قال إن قصد إزالة النجاسة لم ينجسه وليس بشيء لأن القصد لا يعتبر في إزالة النجاسة ولهذا يطهر بماء المطر وبغسل المجنون
قال أبو العباس بن القاص إذا كان ثوب كله نجس فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه إذا صب على بعضه ماء ورد جزء من البعض الآخر على الماء فنجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب
فصل إذا أصاب الأرض نجاسة ذائبة في موضع ضاح فطلعت عليه الشمس وهبت عليه الريح فذهب أثرها ففيه قولان قال
____________________
(1/49)
في القديم يطهر لأنه لم يبق شيء من النجاسة فهو كما غسل بالماء
وقال في الأم لا يطهر وهو الأصح لأنه محل نجس فلا يطهر بالشمس كالثوب النجس
وإن طبخ اللبن الذي خلط بطينه السرجين لم يطهر لأن النار لا تطهر النجاسة
وقال أبو الحسن بن المرزبان إذا غسل طهر ظاهره فتجوز الصلاة عليه ولا تجوز الصلاة فيه لأن ما فيه من السرجين كالزئبر في الثوب فيحترق بالنار ولهذا يتثقب موضعه
وإذا غسل طهر فجازت الصلاة عليه والمذهب الأول
وإذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه على الأرض نظرت فإن كانت النجاسة رطبة لم يجز وإن كانت يابسة ففيه قولان قال في الجديد لا يجوز حتى يغسله لأنه ملبوس نجس فلا يجزىء فيه المسح كالثوب
وقال في الإملاء والقديم يجوز لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه فإن كانت خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما ولأنه تتكرر فيه النجاسة فأجزأ فيه المسح كموضع الاستجناء
كتاب الصلاة الصلوات المكتوبات خمس لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله عليك في اليوم والليلة فقال هل علي غيرها فقال لا إلا أن تطوع
فصل في شروط وجوب الصلاة ولا يجب ذلك إلا على مسلم بالغ عاقل طاهر
فأما الكافر فإن كان أصليا لم تجب عليه وإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله عز وجل { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيرا عن الإسلام فعفي عنه
وإن كان مرتدا وجبت عليه وإذا أسلم لزمه قضاؤها لأنه اعتقد وجوبها وقدر على التسبب إلى أدائها فهو كالمحدث
وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولا يجب
____________________
(1/50)
عليه القضاء إذا بلغ لأن زمان الصغر يطول فلو أوجبنا القضاء لشق فعفي عنه
وأما من زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فنص على المجنون وقسنا عليه كل من زال عقله بسبب مباح
ومن زال عقله بمحرم كمن شرب المسكر أو تناول دواء من غير حاجة فزال عقله وجب عليه القضاء إذا أفاق لأنه زال عقله بمحرم فلم يسقط عنه الفرض
وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما فعل الصلاة لما ذكرناه في باب الحيض
فإن جن في حال الردة ففاته صلوات لزمه قضاؤها
وإن حاضت المرأة في حال الردة ففاتها صلوات لم يلزمها قضاؤها لأن سقوط الصلاة عن المجنون للتخفيف والمرتد لا يستحق التخفيف
وسقوط الصلاة عن الحائض عزيمة ليس لأجل التخفيف والمرتد من أهل العزائم
فصل فيمن يؤمر بالصلاة ولا يؤمر أحد ممن لا يجب عليه فعل الصلاة بفعلها إلا الصبي فإنه يؤمر بفعلها لسبع ويضرب على تركها لعشر لما روى سمرة الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علمو الصبي الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر
فإن دخل في الصلاة ثم بلغ في أثنائها قال الشافعي رحمه الله تعالى أحببت أن يتم ويعيد ولا يبين لي أن عليه الإعادة
قال أبو إسحاق يلزمه الإتمام ويستحب له أن يعيد
وقوله أحببت يرجع إلى الجمع بين الإتمام والإعادة وهو الظاهر من المنصوص والدليل عليه أن صلاته صحيحة وقد أدركه الوجوب وهو فيها فلزمه الإتمام ولا يلزمه أن يعيد لأنه صلى الواجب بشروطه فلا يلزمه الإعادة وعلى هذا لو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره أجزأه ذلك عن الفرض لأنه صلى صلاة الوقت بشروطها فلا يلزمه الإعادة
وحكي عن أبي العباس مثل قول أبي إسحاق وحكي عنه أنه قال يستحب الإتمام وتجب الإعادة فعلى هذا إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره لزمه أن يعيد لأن ما صلى قبل البلوغ نفل فاستحب إتمامه ويلزمه أن يعيد لأنه أدرك وقت الفرض ولم يأت به فلزمه أن يأتي به
ومن أصحابنا من قال إن خرج منها ثم بلغ ولم يبق من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لم يلزمه الإعادة وإن بقي من وقتها ما يمكن قضاؤها فيه لزمه الإعادة وهذا غير صحيح لأنه لو وجبت الإعادة إذا بقي من الوقت قدر الصلاة لوجبت الإعادة إذا أدرك من الوقت مقدار ركعة
فصل في حكم تارك الصلاة ومن وجبت عليه الصلاة وامتنع من فعلها فإن كان جاحدا لوجوبها فهو كافر ويجب قتله بالردة لأنه كذب الله تعالى في خبره
وإن تركها وهو معتقد لوجوبها وجب عليه القتل
وقال المزني يضرب ولا يقتل والدليل على أنه يقتل قوله صلى الله عليه وسلم نهيت عن قتل المصلين ولأنها إحدى دعائم الإسلام لا تدخلها النيابة بنفس ولا مال فقتل بتركها كالشهادتين ومتى يقتل فيه وجهان قال أبو سعيد الاصطخري يقتل بترك الصلاة الرابعة إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك لأنه يجوز أن يكون ما دون ذلك تركه لعذر
وقال أبو إسحاق يقتل بترك الصلاة الثانية إذا ضاق وقتها فيقال له إن صليت وإلا قتلناك ويستتاب كما يستتاب المرتد لأنه ليس بأعظم من المرتد
وفي استتابة المرتد قولان أحدهما ثلاثة أيام
والثاني يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل وكيف يقتل المنصوص أنه يقتل ضربا بالسيف
وقال أبو العباس لا يقصد قتله لكن يضرب بالخشب وينخس بالسيف حتى يصلي أو يموت كما يفعل بمن قصد النفس أو المال
ولا يكفر بترك الصلاة لأن الكفر بالاعتقاد واعتقاده صحيح فلم يحكم بكفره
ومن أصحابنا من قال يكفر بتركها لقوله صلى الله عليه وسلم بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر والمذهب الأول والخبر متأول
باب مواقيت الصلاة أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وآخره إذا صار ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون للشخص عند الزوال والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل شيء مثله
____________________
(1/51)
فصل في وقت العصر وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد أدنى زيادة وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وصلى بي جبريل العصر حين كان ظل كل شيء مثله ثم صلى بي المرة الأخيرة حين كان ظل كل شيء مثليه
ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز والأداء إلى غروب الشمس
وقال أبو سعيد الإصطخري إذا صار ظل كل شيء مثليه فاتت الصلاة ويكون ما بعده وقت القضاء
والمذهب الأول لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى
فصل في وقت المغرب وأول وقت المغرب إذا غابت الشمس لما روي أن جبريل عليه السلام صلى المغرب حين غابت الشمس وأفطر الصائم وليس لها إلا وقت واحد وهو بمقدار ما يتطهر ويستر العورة ويؤذن ويقيم الصلاة ويدخل فيها
فإن أخر الدخول عن هذا الوقت أثم لما روى بن عباس أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة كما صلاها في المرة الأولى ولم يغير ولو كان لها وقت آخر لبين كما بين في سائر الصلوات
فإن دخل فيها في وقتها ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب
والثاني لا يجوز له أن يستديمها أكثر من قدر ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام صلى ثلاث ركعات
والثالث أن له أن يصلي مقدار أول الوقت في سائر الصلوات لأنه لا يكون مؤخرا في هذا القدر ويكون مؤخرا فيما زاد عليه
ويكره أن يسمي صلاة المغرب العشاء لما روى عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاة المغرب ويقول الأعراب العشاء
فصل في وقت العشاء وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وهو الحمرة
وقال المزني الشفق البياض والدليل عليه أن جبريل عليه السلام صلى العشاء الأخيرة حين غاب الشفق
والشفق هو الحمرة والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقت المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق ولأنها صلاة تتعلق بإحدى النيرين المتفقين في الاسم الخاص فتعلقت بأظهرهما وأنورهما كالصبح
وفي آخره قولان قال في الجديد إلى ثلث الليل لما روي أن جبريل عليه السلام صلى في المرة الأخيرة العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل
وقال في القديم و الإملاء إلى نصف الليل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني
وقال أبو سعيد الإصطخري إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه فاتت الصلاة وتكون قضاء
والمذهب الأول لما رويناه من حديث أبي قتادة ويكره أن يسمى العشاء العتمة لما روى بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم قال ابن عيينة إنها العشاء
وإنهم يعتمون بالإبل
ويكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روى أبو هريرة قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها
فصل في وقت الصبح ووقت الصبح إذا طلع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق الذي يحرم به الطعام والشراب على الصائم وآخره إذا أسفر الصبح لما روي أن جبريل عليه السلام صلى الصبح حين طلع الفجر وصلى من الغد حين أسفر ثم التفت وقال هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك وفيما بين هذين وقت
ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى ( حين ) طلوع الشمس
____________________
(1/52)
وقال أبو سعيد الإصطخري يذهب الوقت وما بعده وقت القضاء
والمذهب الأول لحديث أبي قتادة ويكره أن تسمى صلاة الغداة لأن الله تعالى سماها بالفجر فقال تعالى { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فقال من أدرك ركعة من الصبح فقد أدركها
فصل في وجوب الصلاة في أول الوقت وتجب الصلاة في أول الوقت لأن الأمر تناول أول الوقت فاقتضى الوجوب فيه
والأفضل فيما سوى الظهر والعشاء التقديم في أول الوقت لما روى عبد الله قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال الصلاة في أول وقتها ولأن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها
قال الشافعي رحمه الله ومن المحافظة عليها تقديمها في أول الوقت لأنه إذا أخرها عرضها للنسيان وحوادث الزمان
وأما الظهر
فإنه إن كان في غير حر شديد فتقديمها أفضل لما ذكرناه وإن كان في حر شديد
ويصلي في جماعة في موضع يقصده الناس من البعد فالمستحب إلابراد بها بمقدار ما يحصل فيء يمشي فيه القاصد إلى الصلاة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم
وفي صلاة الجمعة وجهان أحدهما أنها كالظهر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شتد البرد بكر بها وإذا اشتد الحر أبرد بها
والثاني أن تقديمها أفضل بكل حال لأن الناس لا يتأخرون عنها لأنهم قد ندبوا إلى التبكير إليها فلم يكن للتأخير وجه
وأما العشاء ففيها قولان قال في القديم والإملاء تقديمها أفضل وهو الأصح لما ذكرناه في سائر الصلوات
وقال في الجديد تأخيرها أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة
فصل في الصلاة الوسطى وآكد الصلاة في المحافظة عليها الصلاة الوسطى لأن الله عز وجل خصها بالذكر فقال { والصلاة الوسطى }
والصلاة الوسطى هي الصبح والدليل عليه أن الله تعالى قال { وقوموا لله قانتين } فقرنها بالقنوت ولا قنوت إلا في الصبح ولأن الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم فخصت بالمحافظة عليها حتى لا يتغافل عنها بالنوم ولهذا خصت بالتثويب فدل على ما قلناه
فصل في جواز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس فسمح لهم بالتأخير
فإن صلى ركعة في الوقت ثم خرج الوقت ففيه وجهان أحدهما وهو ظاهر المذهب وهو قول أبي علي بن خيران أنه يكون مؤديا للجميع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر
ومن أصحابنا من قال يكون مؤديا لما صلى في الوقت قاضيا لما صلى بعد خروج الوقت عتبارا بما أدركه من الوقت وبما صلى بعد خروج الوقت
فصل من له تأخير الصلاة ولا يعذر أحد من أهل الفرض في تأخير الصلاة عن وقتها إلا نائم أو ناس أو مكره أو من يؤخرها للجمع لعذر السفر والمطر لقوله صلى الله عليه وسلم ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى فنص على النائم وقسنا عليه الناسي والمكره لأنهما في معناه
وأما من يؤخرها لسفر أو مطر فإنا نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى
فصل فيمن زال عنه مانع الصلاة من آخر الوقت إذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو النفساء أو أفاق المجنون أو المغمى عليه وقد بقي من وقت الصلاة قدر ركعة لزمه فرض الوقت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر فإن بقي من الوقت دون الركعة ففيه قولان روى المزني عنه أنه لا يلزمه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ولأن بدون الركعة لا يدرك الجمعة فكذلك ههنا
وقال في كتاب استقبال القبلة يلزمه بقدر تكبيرة لأنه إدراك حرمة فاستوى فيه الركعة والتكبيرة كإدراك الجماعة
وتخالف الجمعة فإنه إدراك فعل فاعتبر فيه الركعة وهذا إدراك حرمة فهو كالجماعة
وأما الصلاة التي قبلها فينظر فيها فإن كان ذلك في وقت الصبح أو الظهر أو المغرب لم يلزمه ما قبلها لأن ذلك ليس بوقت لما قبلها
وإن كان ذلك في وقت العصر أو في وقت العشاء قال في الجديد يلزمه
____________________
(1/53)
الظهر بما يلزم به العصر ويلزم المغرب بما يلزم به العشاء
وفيما يلزم به العصر والعشاء قولان أحدهما ركعة
والثاني تكبيرة والدليل عليه أن وقت العصر وقت الظهر ووقت العشاء وقت المغرب في حق أهل العذر وهو المسافر وهؤلاء من أهل العذر فجعل ذلك وقتا لها في حقهم
وقال في القديم فيه قولان أحدهما يجب بركعة وطهارة
والثاني يجب الظهر والعصر بمقدار خمس ركعات أربع للظهر وركعة للعصر
وتجب المغرب مع العشاء بأربع ركعات ثلاث للمغرب وركعة للعشاء لأن الوقت عتبر لإدراك الصلاتين فاعتبر وقت يمكن الفراغ من إحداهما والشروع في الأخرى وغلط أبو إسحاق في هذا فقال أربع من العصر وركعة من الظهر وأربع من العشاء وركعة من المغرب
وهذا خلاف النص في القديم وخلاف النظر لأن العصر تجب بركعة فدل على أن الأربع للظهر
وخرج أبو إسحاق في المسألة قولا خامسا أنه يدرك الظهر والعصر بمقدار إحدى الصلاتين وتكبيرة
فصل فيمن طرأ عليه العذر بعد أول الوقت وأما إذا أدرك جزءا من أول الوقت ثم طرأ العذر بأن كان عاقلا في أول الوقت ثم جن أو طاهرة فحاضت نظرت فإن لم يدرك ما يتسع لفرض الوقت سقط الوجوب ولم يلزمه القضاء
وقال أبو يحيى البلخي حكمه حكم آخر الوقت فيلزمه في أحد القولين بركعة وفي الثاني بتكبيرة
والمذهب الأول لأنه لم يتمكن من فعل الفرض فسقط وجوبه كما لو هلك النصاب بعد الحول وقبل التمكن من الأداء
ويخالف آخر الوقت فإنه يمكنه أن يبني ما بقي على ما أدرك بعد خروج الوقت فيلزمه وإن أدرك من الوقت ما يسع الفرض ثم طرأ الجنون أو الحيض استقر الوجوب ولزمه القضاء إذا زال العذر
وحكي عن أبي العباس أنه قال لا يستقر حتى يدرك آخر الوقت
والمذهب الأول لأنه وجب عليه وتمكن من أدائه فأشبه إذا وجبت الزكاة وتمكن من أدائها فلم يخرج حتى هلك المال
وأما الصلاة التي بعدها فإنها لا تلزمه وقال أبو يحيى البلخي تلزمه العصر بإدراك وقت الظهر وتلزمه العشاء بإدراك وقت المغرب لأن وقت الأولى وقت الثانية في حال الجمع كما أن وقت الثانية وقت الأولى في حال الجمع فإذا لزمته الأولى بإدراك وقت الثانية لزمته الثانية بإدراك وقت الأولى
والمذهب الأول لأن وقت الأولى وقت الثانية على سبيل التبع ولهذا لا يجوز فعل الثانية حتى تقدم الأولى بخلاف وقت الثانية فإنه وقت الأولى لا على وجه التبع ولهذا يجوز فعلها قبل الثانية
فصل في قضاء الفائتة ومن وجبت عليه الصلاة فلم يصل حتى فات الوقت لزمه قضاؤها لقوله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها
والمستحب أن يقضيها على الفور للحديث الذي ذكرناه وإن أخرها جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصبح فلم يصلها حتى خرج من الوادي
ولو كانت على الفور لما أخرها
وقال أبو إسحاق إن تركها لغير عذر لزمه قضاؤها على الفور لأنه مفرط في التأخير
وإن فاتته صلوات فالمستحب أن يقضيها على الترتيب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات يوم الخندق فقضاها على الترتيب
فإن قضاها من غير ترتيب جاز لأنه ترتيب استحق للوقت فسقط بفوات الوقت كقضاء الصوم
وإن ذكر الفائتة وقد ضاق وقت الصلاة الحاضرة لزمه أن يبدأ بالحاضرة لأن الوقت تعين لها فوجب البداية بها كما لو حضره رمضان وعليه صوم رمضان آخر ولأنه إذا أخر الحاضرة فاتت فوجب البداية بها
وإن نسي صلاة ولم يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات
وقال المزني يلزمه أن يصلي أربع ركعات وينوي الفائتة ويجلس في ركعتين ثم يجلس في الثالثة ثم يجلس في الرابعة ويسلم
وهذا غير صحيح لأن تعيين النية شرط في صحة الصلاة ولا يحصل ذلك إلا بأن يصلي خمس صلوات بخمس نيات
باب الأذان والإقامة الأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ستشار المسلمين فيما يجمعهم على الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود ثم ذكر الناقوس فكرهه من أجل النصارى
فأري تلك الليلة عبد الله بن زيد النداء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن به
وهو أفضل من الإمامة ومن أصحابنا من قال الإمامة أفضل لأن الأذان إنما يراد للصلاة فكان القيام بأمر الصلاة أولى من القيام بما يراد لها
والأول أصح لقوله عز وجل { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا } قالت عائشة رضي الله عنها نزلت في المؤذنين ولقوله صلى الله عليه وسلم الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين والأمناء أحسن حالا من الضمناء
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لو كنت مؤذنا لما باليت ألا أجاهد ولا أحج ولا أعتمر بعد حجة الإسلام
____________________
(1/54)
فإن تنازع جماعة في الأذان وتشاحوا أقرع بينهم لقوله صلى الله عليه وسلم لو يعلم الناس ما في النداء أو الصف الأول ثم لا يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا
فصل في حكم الأذان والإقامة وهما سنتان ومن أصحابنا من قال هما فرض من فروض الكفاية فإن اتفق أهل بلد أو أهل صقع على تركهما قوتلوا عليه لأنه من شعار الإسلام فلا يجوز تعطيله
وقال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري هو سنة إلا في الجمعة فإنه من فرائض الكفاية فيها لأنه لما اختصت الجمعة بوجوب الجماعة اختصت بوجوب الدعاء إليها
والمذهب الأول لأنه دعاء إلى الصلاة فلا يجب كقوله الصلاة جامعة
فصل في حكمهما للفوائت وهل يسن للفوائت فيه ثلاثة أقوال قال في الأم يقيم لها ولا يؤذن والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري قال حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله تعالى { وكفى الله المؤمنين القتال } فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها وأحسن كما تصلى في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ولأنه للإعلام بالوقت وقد فات الوقت والإقامة تراد لافتتاح الصلاة وذلك موجود
قال في القديم يؤذن ويقيم للأولى وحدها ويقيم للتي بعدها والدليل عليه ما روى ( عبد الله ) بن مسعود أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن ثم أقام وصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء ولأنهما صلاتان جمعهما في وقت واحد فكانتا بأذان وإقامتين كالمغرب والعشاء بالمزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين
وقال في الإملاء إن أمل جتماع الناس أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام والدليل عليه أن الأذان يراد لجمع الناس فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه وإذا أمل كان له وجه
قال أبو إسحاق وعلى هذا القول للصلاة الحاضرة أيضا إذا أمل الاجتماع لها أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام ولم يؤذن
فإن جمع بين صلاتين
فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما أذن وأقام للأولى وأقام للثانية كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة
وإن جمع بينهما في وقت الثانية فهما كالفائتتين لأن الأولى قد فات وقتها والثانية تابعة لها وقد بينا حكم الفوائت
فصل في الأذان قبل الوقت ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول الوقت لأنه يراد بها الإعلام بالوقت فلا يجوز قبله
وأما الصبح فيجوز أن يؤذن لها بعد نصف الليل لقول النبي صلى الله عليه وسلم إن بلالا يؤذن بليل فكلوا وشربوا حتى يؤذن بن أم مكتوم ولأن الصبح يدخل وقتها والناس نيام وفيهم الجنب والمحدث فاحتيج إلى تقديم الأذان ليتأهب الناس للصلاة
ويخالف سائر الصلوات فإنه يدخل وقتها والناس مستيقظون فلا يحتاج إلى تقديم الأذان
وأما الإقامة فلا يجوز تقديمها على الوقت لأنها تراد لاستفتاح الصلاة فلا تجوز قبل الوقت
فصل في تعداد كلمات الأذان والإقامة والأذان تسع عشرة كلمة الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد
____________________
(1/55)
أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لما روى أبو محذورة قال ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه فقال قل الله أكبر الله أكبر فذكر نحو ما قلناه
فإن كان في أذان الصبح زاد فيه التثويب وهو أن يقول بعد الحيعلة الصلاة خير من النوم مرتين
وكره ذلك في الجديد وصليت
____________________
(1/56)
وقال أصحابنا يسن ذلك قولا واحدا فإنه إنما كره ذلك في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكه
وقد صح ذلك في حديث أبي محذورة أنه قال له حي على الفلاح الصلاة خير من النوم ( الصلاة خير من النوم ) الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
وأما الإقامة فإنها إحدى عشرة كلمة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
وقال في القديم
الإقامة مرة مرة لأنه لفظ في الإقامة فكان فرادى كالحيعلة
والأول أصح لما روى أنس رضي الله عنه قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولأن سائر ألفاظ الإقامة إلا الإقامة قد قضي حقه في أول الأذان فأعيدت على النقصان كآخر الأذان ولفظ الإقامة لم يقض حقه في الأذان فلم يلحقه النقصان
فصل فيمن يصح أذانه ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل فأما الكافر والمجنون فلا يصح أذانهما لأنهما ليسا من أهل العبادات
ويصح من الصبي العاقل لأنه من أهل العبادات
ويكره للمرأة أن تؤذن ويستحب لها أن تقيم لأن في الأذان ترفع الصوت وفي الإقامة لا ترفع الصوت
فإن أذنت للرجال لم يعتد بأذانها لأنه لا تصح إمامتها للرجال فلا يصح تأذينها لهم
فصل فيما يستحب في المؤذن ويستحب أن يكون المؤذن حرا بالغا لما روى بن عباس رضي الله عنه مرفوعا يؤذن لكم خياركم
وقال عمر رضي الله عنه لرجل من مؤذنوكم فقالوا موالينا أو عبيدنا فقال إن ذلك لنقص كبير
والمستحب أن يكون عدلا لأنه أمين على المواقيت ولأنه يؤذن على موضع عال فإذا لم يكن أمينا لم يؤمن أن ينظر إلى العورات
وينبغي أن يكون عارفا بالمواقيت لأنه إذا لم يعرف ذلك غر الناس بأذانه
والمستحب أن يكون من ولد من جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأذان فيهم أو من الأقرب فالأقرب إليهم لما روى أبو محذورة قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان لنا
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الملك في قريش والقضاء في الأنصار والأذان في الحبشة
والمستحب أن يكون صيتا لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة لصوته
ويستحب أن يكون حسن الصوت لأنه أرق لسامعيه
ويكره أن يكون المؤذن أعمى لأنه ربما غلط في المواقيت فإن كان معه بصير لم يكره لأن ابن أم مكتوم كان يؤذن مع بلال
والمستحب أن يكون على طهارة
لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حق وسنة أن لا يؤذن لكم أحد إلا وهو طاهر ولأنه إذا لم يكن على طهارة انصرف لأجل الطهارة فيجيء من يريد الصلاة فلا يرى أحدا فينصرف
والمستحب أن يكون على موضع عال لأن الذي رآه عبد الله بن زيد كان على جذم حائط ولأنه أبلغ في الإعلام
والمستحب أن يؤذن قائما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا بلال قم فناد ولأنه أبلغ في الإعلام فإن كان مسافرا وهو راكب أذن وهو قاعد كما يصلي وهو قاعد
والمستحب أن يكون مستقبل القبلة فإذا بلغ إلى الحيعلة لوى عنقه يمينا وشمالا ولا يستدبر لما روى أبو جحيفة قال رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فأذن واستقبل فلما بلغ إلى حي على الصلاة حي على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدبر ولأنه إذا لم يكن له بد من جهة فجهة القبلة أولى
والمستحب أن يجعل إصبعيه في صماخي أذنيه لما روى أبو جحيفة قال
____________________
(1/57)
رأيت بلالا وإصبعاه في صماخي أذنيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء ولأن ذلك أجمع للصوت
والمستحب أن يترسل في الأذان ويدرج الإقامة لما روي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس أن عمر رضي الله عنه قال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذم ولأن الأذان للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ والإقامة للحاضرين فكان الإدراج فيها أشبه
ويكره التمطيط وهو التمديد والتغني وهو التطريب لما روي أن رجلا قال لابن عمر إني لأحبك في الله قال وأنا أبغضك في الله إنك تغني في أذانك قال حماد التغني التطريب
والمستحب أن يرفع صوته في الأذان إن كان يؤذن للجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم يغفر للمؤذن مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس ولأنه أبلغ في جمع الجماعة ولا يبالغ بحيث يشق حلقه لما روي أن عمر رضي الله عنه سمع أبا محذورة وقد رفع صوته فقال له أما خشيت أن تنشق مريطاؤك قال أحببت أن يسمع صوتي فإن أسر بالأذان لم يعتد به لأنه لا يحصل به المقصود
وإن كان يؤذن لصلاته وحده لم يرفع الصوت لأنه لا يدعو غيره فلا وجه لرفع الصوت والمستحب أن يكون رفع الصوت في الإقامة دون رفع الصوت في الأذان لأن الإقامة للحاضرين
ويجب أن يرتب الأذان لأنه إذا نكسه لم يعلم السامع أن ذلك أذان
والمستحب ألا يتكلم في أذانه فإن تكلم لم يبطل أذانه لأنه إذا لم تبطل الخطبة بالكلام فلأن لا يبطل الأذان أولى
فإن أغمي عليه وهو في الأذان لم يجز لغيره أن يبني عليه لأن الأذان من الأثنين لا يحصل به المقصود لأن السامع يظن أن ذلك على وجه اللهو واللعب فإن أفاق في الحال وبنى عليه جاز لأن المقصود يحصل به وإن رتد في الأذان ثم رجع إلى الإسلام في الحال ففيه وجهان
أحدهما لا يجوز أن يبني عليه لأن ما فعله قد بطل بالردة
والمذهب أنه يجوز لأن الردة إنما تبطل إذا اتصل بها الموت وههنا رجع قبل الموت فلم يبطل
فصل في الذكر مع الأذان والمستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله لما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله فقال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح فقال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر فقال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله فقال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة فإن سمع ذلك وهو في الصلاة لم يأت به في الصلاة فإذا فرغ أتى به وإن كان في قراءة أتى به ثم رجع إلى القراءة لأنه يفوت والقراءة لا تفوت ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى
____________________
(1/58)
علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ثم سأل الله تعالى الوسيلة فيقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء ذلك حلت له الشفاعة يوم القيامة
وإن كان الأذان للمغرب قال اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فغفر لي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول ذلك
ويدعو الله تعالى بين الأذان والإقامة لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا
والمستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة لأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن وقعد قعدة ولأنه إذا وصل الأذان بالإقامة فات الناس الجماعة فلم يحصل المقصود بالأذان
ويستحب أن يتحول من موضع الأذان إلى موضع غيره للإقامة لما روي في حديث عبد الله بن زيد ثم استأخر غير كثير ثم قال مثل ما قال وجعلها وترا
والمستحب أن يكون المقيم هو المؤذن لأن زياد بن الحرث الصدائي أذن فجاء بلال ليقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم فإن أذن واحد وأقام غيره جاز لأن بلالا أذن وأقام عبد الله بن زيد
ويستحب لمن سمع الإقامة أن يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلة فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وفي لفظ الإقامة يقول أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض لما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة ثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان بلالا وابن أم مكتوم
وإن حتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة لأنه كان لعثمان رضي الله عنه أربعة
والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد كما فعل بلال وابن أم مكتوم ولأن ذلك أبلغ في الإعلام
ويجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن بلالا جاء فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصل بالناس قال ابن قسيط وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل فيما يعطاه المؤذن وإذا وجد من يتطوع بالأذان لم يرزق المؤذن من بيت المال لأن مال بيت المال جعل للمصلحة ولا مصلحة في ذلك
وإن لم يوجد من يتطوع ( بالأذان ) رزق من يؤذن من خمس الخمس لأن ذلك من المصالح
وهل يجوز أن يستأجر فيه وجهان أحدهما لا يجوز وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله لأنه قربة في حقه فلم يستأجر عليه كالإمامة في الصلاة
والثاني يجوز لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال
باب طهارة البدن من النجاسة وما يصلى عليه وفيه الطهارة ضربان طهارة عن حدث وطهارة عن نجس فأما الطهارة عن الحدث فهي شرط في صحة الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وقد مضى حكمها في كتاب الطهارة
وأما طهارة البدن عن النجس
____________________
(1/59)
فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه والنجاسة ضربان دماء وغير دماء
فأما غير الدماء فينظر فيه فإن كان قدرا يدركه الطرف لم يعف عنه لأنه لا يشق الاحتراز منه وإن كان قدرا لا يدركه الطرف ففيه ثلاث طرق أحدها أنه يعفى عنه لأنه لا يدركه الطرف فعفي عنه كغبار السرجين
والثاني لا يعفى عنه لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالذي يدركه الطرف
والثالث أنه على قولين أحدهما يعفى عنه
والثاني لا يعفى عنه ووجه القولين ما ذكرناه
وأما الدماء فينظر فيها فإن كان دم القمل والبراغيث وما أشبههما فإنه يعفى عن قليله لأنه يشق الاحتراز منه فلو لم يعف عنه شق وضاق
وقد قال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي كثيره وجهان قال أبو سعيد الإصطخري لا يعفى عنه لأنه نادر لا يشق غسله
وقال غيره يعفى عنه وهو الأصح لأن هذا الجنس يشق الاحتراز منه في الغالب فألحق نادره بغالبه
وإن كان دم غيرهما من الحيوان ففيه ثلاثة أقوال قال في الأم يعفى عن قليله وهو القدر الذي يتعافاه الناس في العادة لأن الإنسان لا يخلو من بثرة وحكة يخرج منها هذا القدر فعفي عنه
وقال في الإملاء لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره لأنه نجاسة لا يشق الاحتراز منها فلم يعف عنها كالبول
وقال في القديم يعفى عما دون الكف ولا يعفى عن الكف والأول أصح
فصل فيمن كان على بدنه نجاسة إذا كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى وأعاد كما قلنا فيمن لم يجد ماء ولا ترابا
وإن كان على فرجه دم يخاف من غسله صلى وأعاد وقال في القديم لا يعيد لأنها نجاسة يعذر في تركها فسقط معها الفرض كأثر الاستنجاء
والأول أصح لأنه صلى بنجس نادر غير معتاد متصل فلم يسقط عنه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها
وإن جبر عظمه بعظم نجس فإن لم يخف التلف من قلعه لزمه قلعه لأنها نجاسة غير معفو عنها أوصلها إلى موضع يلحقه حكم التطهير لا يخاف التلف من إزالتها فأشبه إذا وصلت المرأة شعرها بشعر نجس
فإن امتنع من قلعه أجبره السلطان على قلعه لأنه مستحق عليه يدخله النيابة فإذا امتنع لزم السلطان أن يقلعه كرد المغصوب
وإن خاف التلف من قلعه لم يجب قلعه
ومن أصحابنا من قال ( يجب ) قلعه لأنه حصل بفعله وعدوانه فانتزع منه وإن خيف عليه التلف كما لو غصب مالا ولم يمكن انتزاعه منه إلا بضرب يخاف منه التلف
والمذهب الأول لأن النجاسة يسقط حكمها عند خوف التلف ولهذا يجوز أكل الميتة عند خوف التلف فكذلك ههنا
وإن مات فقد قال أبو العباس يقلع حتى لا يلقى الله تعالى حاملا للنجاسة
والمنصوص أنه لا يقلع لأن قلعه للعبادة وقد سقطت العبادة عنه بالموت
وإن فتح موضعا من بدنه وطرح فيه دما والتحم وجب فتحه وإخراجه كالعظم
في العظم
ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأن النجاسة حصلت في معدنها فصار كالطعام الذي أكله وحصل في المعدة
فصل في اشتراط طهارة الثوب وأما طهارة الثوب الذي يصلي فيه فهي شرط في صحة الصلاة والدليل عليه قوله تعالى { وثيابك فطهر } وإن كان ومن شرب خمرا فالمنصوص في صلاة الخوف أنه يلزمه أن يتقايا لما
____________________
(1/60)
ذكرناه على ثوبه نجاسة غير معفو عنها ولم يجد ما يغسل به صلى عريانا ولا يصلي في الثوب النجس وقال في البويطي وقد قيل يصلي فيه ويعيد
والمذهب الأول لأن الصلاة مع العري يسقط بها الفرض ومع النجاسة لا يسقط لأنه تجب إعادتها فلا يجوز أن يترك صلاة يسقط بها الفرض إلى صلاة لا يسقط بها الفرض
وإن اضطر إلى لبس الثوب النجس لحر أو برد صلى فيه وأعاد إذا قدر لأنه صلى بنجس نادر غير متصل فلا يسقط معه الفرض كما لو صلى بنجاسة نسيها وإن قدر على غسله وخفي عليه موضع النجاسة لزمه أن يغسل الثوب كله ولا يتحرى فيه لأن التحري إنما يكون في عينين فإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما رده إلى أصله وأنه طاهر بيقين وهذا لا يوجد في الثوب الواحد وإن شقه نصفين لم يتحر فيه لأنه يجوز أن يكون الشق في موضع النجاسة فتكون القطعتان نجستين
وإن كان معه ثوبان وأحدهما طاهر والآخر نجس واشتبها عليه تحرى وصلى في الطاهر على الأغلب عنده لأنه شرط من شروط الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاجتهاد فيه فجاز التحري فيه كالقبلة
وإن جتهد ولم يؤده الاجتهاد إلى طهارة أحدهما صلى عريانا وأعاد لأنه صلى عريانا ومعه ثوب طاهر بيقين
وإن أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما ونجاسة الآخر فغسل النجس عنده جاز أن يصلي في كل واحد منهما
فإن لبسهما معا وصلى فيهما ففيه وجهان قال أبو إسحاق تلزمه الإعادة لأنهما صارا كالثوب الواحد وقد تيقن حصول النجاسة وشك في زوالها لأنه يحتمل أن يكون الذي غسله هو الطاهر فلم تصح صلاته كالثوب الواحد إذا أصابته نجاسة وخفي عليه موضعها فتحرى وغسل موضع النجاسة بالتحري وصلى فيه
وقال أبو العباس لا إعادة عليه لأنه صلى في ثوب طاهر بيقين وثوب طاهر في الظاهر فهو كما لو صلى في ثوب اشتراه لا يعلم حاله وثوب غسله
وإن كانت النجاسة في أحد الكمين واشتبها عليه ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يتحرى لأنه ثوب واحد
وقال أبو العباس يتحرى لأنهما عينان متميزتان فهما كالثوبين وإن فصل أحد الكمين من القميص جاز التحري فيه بلا خلاف
وإن كان عليه ثوب طاهر وطرفه موضوع على نجاسة كالعمامة على رأسه وطرفها على أرض نجسة لم تجز صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فلم تجز صلاته
وإن كان في وسطه حبل مشدود إلى كلب صغير لم تصح صلاته لأنه حامل للكلب لأنه إذا مشى انجر معه وإن كان مشدودا إلى كلب كبير ففيه وجهان أحدهما لا تصح صلاته لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كالعمامة على رأسه وطرفها على نجاسة
والثاني تصح لأن للكلب اختيارا
وإن كان الحبل مشدودا إلى سفينة فيها نجاسة والشد في موضع طاهر من السفينة فإن كانت السفينة صغيرة لم تجز لأنه حامل للنجاسة وإن كانت كبيرة ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لأنها منسوبة إليه
والثاني يجوز لأنه غير حامل للنجاسة ولا لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى والحبل مشدود إلى باب دار فيها نجس
وإن حمل حيوانا طاهرا في صلاته صحت صلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدن النجاسة فهو كالنجاسة التي في جوف المصلي
وإن حمل قارورة فيها نجاسة وقد شد رأسها ففيه وجهان أحدهما يجوز لأن النجاسة لا تخرج منها فهو كما لو حمل حيوانا طاهرا
والمذهب أنه لا يجوز لأنه حمل نجاسة غير معفو عنها في غير معدنها فأشبه إذا حمل النجاسة في كمه
فصل في اشتراط طهارة الموضع طهارة الموضع الذي يصلى فيه شرط في صحة الصلاة لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
____________________
(1/61)
سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة المجزرة والمزبلة والمقبرة ومعاطن الإبل والحمام وقارعة الطريق وفوق بيت الله العتيق
فذكر المجزرة والمزبلة وإنما منع من الصلاة فيهما للنجاسة فدل على أن طهارة الموضع الذي يصلى فيه شرط
فإن صلى على بساط وعليه نجاسة غير معفو عنها فإن صلى على الموضع النجس منه لم تصح صلاته لأنه ملاق للنجاسة وإن صلى على موضع طاهر منه صحت صلاته لأنه غير ملاق للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بالنجاسة فهو كما لو صلى على أرض طاهرة وفي موضع منها نجاسة فإن صلى على أرض فيها نجاسة فإن عرف موضعها تجنبها وصلى في غيرها وإن فرش عليها شيئا وصلى عليه جاز لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بها وإن خفي عليه موضع النجاسة
فإن كانت في أرض واسعة فصلى في موضع منها جاز لأنه غير متحقق لها ولأن الأصل فيها الطهارة وإن كانت النجاسة في بيت وخفي ( عليه ) وضعها لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله ومن أصحابنا من قال يصلي فيه حيث شاء كالصحراء وليس بشيء لأن الصحراء لا يمكن حفظها من النجاسة ولا يمكن غسل جميعها والبيت يمكن حفظه من النجاسة فإذا نجس أمكن غسله وإذا خفي موضع النجاسة منه غسله كله كالثوب وإن كانت النجاسة في أحد البيتين واشتبها عليه تحرى كما يتحرى في الثوبين
وإن حبس في حبس ولم يقدر أن يتجنب النجاسة في قعوده وسجوده تجافى عن النجاسة وتجنبها في قعوده وأومأ في السجود إلى الحد الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة ولا يسجد على الأرض لأن الصلاة قد تجزىء مع الإيماء ولا تجزىء مع النجاسة وإذا قدر ففيه قولان قال في القديم لا يعيد لأنه صلى على حسب حاله فهو كالمريض
وقال في الإملاء يعيد لأنه ترك الفرض لعذر نادر غير متصل فلم يسقط الفرض عنه كما لو ترك السجود ناسيا
وإذا عاد ففي الفرض أقوال قال في الأم الفرض هو الثاني لأن الفرض به يسقط
وقال في القديم الفرض هو الأول لأن الإعادة مستحبة غير واجبة في ( القديم ) وقال في الإملاء الجميع فرض لأن الجميع يجب فعله فكان الجميع فرضا
وخرج أبو إسحاق قولا رابعا أن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء قياسا على ما قال في القديم فيمن صلى الظهر ثم سعى إلى الجمعة فصلاها أن الله تعالى يحسب له بأيتهما شاء
فصل فيمن صلى ثم وجد نجاسة إذا فرغ من الصلاة إذا فرغ من الصلاة ثم رأى على بدنه أو ثوبه أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها نظرت فإن كان جوز أن يكون حدث بعد الفراغ من الصلاة لم يلزمه الإعادة لأن الأصل أنها لم تكن في حال الصلاة فلم تجب الإعادة بالشك كما لو توضأ من بئر وصلى ثم وجد في البئر فأرة فإن علم أنها كانت في الصلاة فإن كان قد علم أنها قبل الدخول في الصلاة لزمته الإعادة لأنه فرط في تركها وإن لم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة ففيه قولان قال في القديم لا يعيد لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/62)
خلع نعليه في الصلاة وخلع الناس نعالهم فقال ما لكم خلعتم نعالكم فقالو رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا فقال أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن فيهما قذرا أو قال دم حلمة فلو لم تصح الصلاة لاستأنف الإحرام وقال في الجديد يلزمه الإعادة لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالجهل كالوضوء
فصل في الصلاة في المقبرة ولا يصلى في مقبرة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام فإن صلى في مقبرة نظرت فإن كانت مقبرة تكرر فيها النبش لم تصح صلاته لأنه قد ختلط بالأرض صديد الموتى وإن كانت جديدة ولم يتكرر فيها نبش كرهت الصلاة فيها لأنها مدفن النجاسة والصلاة صحيحة لأن الذي باشر الصلاة طاهر
وإن شك هل نبشت أو لا ففيه قولان أحدهما لا تصح صلاته لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته وهو يشك في إسقاطه والفرض لا يسقط بالشك
والثاني تصح لأن الأصل طهارة الأرض فلا يحكم بنجاستها بالشك
فصل في الصلاة في الحمام ولا يصلي في الحمام لحديث أبي سعيد الخدري
وختلف أصحابنا لأي معنى منع من الصلاة فيه فمنهم من قال إنما منع لأنه يغسل فيه النجاسات فعلى هذا إذا صلى في موضع تحقق طهارته صحت صلاته وإن صلى في موضع تحقق نجاسته لم تصح وإن شك فعلى قولين كالمقبرة ومنهم من قال إنما منع لأنه مأوى الشياطين لما يكشف فيه من العورات فعلى هذا تكره الصلاة فيه وإن تحقق طهارته فالصلاة صحيحة لأن المنع لا يعود إلى الصلاة
فصل في الصلاة في أعطان الإبل وتكره الصلاة في أعطان الأبل ولا تكره في مراح الغنم لما روى عبد الله بن مغفل المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين ولأن في أعطان الإبل لا يمكن الخشوع في الصلاة لما يخاف من نفورها ولا يخاف من نفور الغنم
فصل في الصلاة في مأوى الشيطان ويكره أن يصلى في مأوى الشيطان لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خرجوا من هذا الوادي فإن فيه شيطانا ولم يصل فيه
____________________
(1/63)
فصل في الصلاة في قارعة الطريق ولا يصلى في قارعة الطريق لحديث عمر رضي الله عنه سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة وذكر قارعة الطريق ولأنه يمنع الناس من الممر وينقطع خشوعه بممر الناس فإن صلى فيه صحت صلاته لأن المنع لترك الخشوع أو لمنع الناس من الطريق وذلك لا يوجب بطلان الصلاة
فصل في الصلاة في الأرض المغصوبة ولا يجوز أن يصلى في أرض مغصوبة لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيها صحت صلاته لأن المنع لا يختص بالصلاة فلم يمنع صحتها
باب ستر العورة ستر العورة عن العيون واجب لقوله تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } قال ابن عباس كانوا يطوفون بالبيت عراة فهي فاحشة وروي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت فإن اضطر إلى الكشف للمداواة أو للمداومة أو للختان جاز ذلك لأنه موضع ضرورة وهل يجب سترها في حال الخلوة فيه وجهان أصحهما أنه يجب لحديث علي كرم الله وجهه
والثاني لا يجب لأن المانع من الكشف للنظر وليس في الخلوة من ينظر فلم يجب الستر
فصل في ستر العورة ويجب ستر العورة للصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فإن انكشف شيء من العورة مع القدرة على الستر لم تصح صلاته
فصل في حد العورة وعورة الرجل ما بين السرة والركبة والسرة والركبة ليستا من العورة ومن أصحابنا من قال هما منها والأول هو الصحيح ولما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته فأما الحرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين لقوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال ابن عباس رضي الله عنهما وجهها وكفيها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة في الحرام عن لبس القفازين والنقاب ولو كان الوجه والكف عورة لما حرم سترهما في الإحرام ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إبراز الكف للأخذ والإعطاء فلم يجعل ذلك عورة
وأما الأمة ففيها وجهان أحدهما أن جميع بدنها عورة إلا موضع التقليب وهي الرأس والذراع لأن ذلك تدعو الحاجة إلى كشفه وما سواه لا تدعو الحاجة إلى كشفه
والثاني وهو المذهب فإن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال على المنبر ألا لا أعرفن أحدا أراد أن يشتري جارية فينظر إلى ما فوق الركبة ودون السرة لا يفعل ذلك أحد إلا عاقبته ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل
فصل ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو ورق فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك
فصل في الثوب المستحب لصلاة المرأة والمستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب خمار تغطي به الرأس والعنق ودرع تغطي به البدن والرجلين
____________________
(1/64)
وملحفة صفيقة تستر بها الثياب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال تصلي المرأة في ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال تصلي في الدرع والخمار والملحفة
والمستحب أن تكثف جلبابها حتى لا يصف أعضاءها وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود حتى ( لا يصف ثيابها )
فصل في الثوب المستحب لصلاة الرجل يستحب للرجل أن يصلي في ثوبين قميص ورداء أو قميص وإزار أو قميص وسراويل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله تعالى أحق من يزين له فمن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود فإن أراد أن يصلي في ثوب فالقميص أولى لأنه أعم في الستر لأنه يستر العورة ويحصل على الكتف فإن كان القميص واسع الفتح بحيث إذا نظر رأى العورة زره لما روى سلمة بن الأكوع قال قلت يا رسول الله إنا نصيد فنصلي في القميص الواحد قال نعم ولتزره ولو بشوكة فإن لم يزره وطرح على عاتقه ثوبا جاز لأن الستر يحصل وإن لم يفعل ذلك لم تصح صلاته وإن كان القميص ضيق الفتح جاز أن يصلي فيه محلول الإزار لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي محلول الإزار فإن لم يكن القميص فالرداء أولى لأنه يمكنه أن يستر العورة به ويبقى منه ما يطرحه على الكتف فإن لم يكن فالإزار أولى من السراويل لأن الإزار يتجافى عنه فلا يصف الأعضاء والسراويل تصف الأعضاء وإن كان الإزار ضيقا ائتزر به وإن كان واسعا التحف به وخالف بين طرفيه على عاتقه كما يفعل القصار في الماء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صليت وعليك ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فأتزر به وروى عمر بن أبي سلمة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه على منكبيه
وإن كان ضيقا فليأتزر به أو صلى في سراويل فالمستحب أن يطرح على عاتقه شيئا لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء فإن لم يجد ثوبا يطرحه على عاتقه طرح حبلا حتى لا يخلو من شيء
فصل في اشتمال الصماء ويكره اشتمال الصماء وهو أن يلتحف بثوب ثم يخرج يديه من قبل صدره لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء ويكره أن يسدل في الصلاة وفي غيرها وهو أن يلقي طرفي الرداء من الجانبين لما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه رأى قوما سدلوا في الصلاة
____________________
(1/65)
فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم
وعن ابن مسعود أنه رأى أعرابيا عليه شملة قد ذيلها وهو يصلي قال إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء في الصلاة ليس من الله لا في حل ولا حرام
ويكره أن يصلي الرجل وهو ملثم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة لأن الوجه من المرأة ليس بعورة ( فهي ) كالرجل
فصل في الصلاة في الحرير ولا يجوز للرجل أن يصلي في ثوب حرير ولا على ثوب حرير لأنه يحرم عليه استعماله في غير الصلاة فلأن يحرم في الصلاة أولى فإن صلى فيه أو صلى عليه صحت صلاته لأن التحريم لا يختص بالصلاة ولا النهي يعود إليها فلم يمنع صحتها ويجوز للمرأة أن تصلي فيه وعليه لأنه لا يحرم عليها استعماله
وتكره الصلاة في الثوب الذي عليه الصور لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان لي ثوب فيه صورة وكنت أبسطه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال لي أخريه عني فجعلت منه وسادتين
فصل في فاقد السترة إذا لم يجد ما يستر به العورة ووجد طينا ففيه وجهان أحدهما يلزمه أن يستر به العورة لانه سترة طاهرة فأشبهت الثوب
وقال أبو إسحاق لا يلزمه لأنه يتلوث به البدن
وإن وجد ما يستر به بعض العورة يستر به القبل والدبر لأنهما أغلظ من غيرهما وإن وجد ما يكفي أحدهما ففيه وجهان أصحهما أنه يستر به القبل لأنه يستقبل به القبلة ولأنه لا يستتر بغيره والدبر يستتر بالأليتين
والثاني أنه يستر به الدبر لأنه أفحش في حال الركوع والسجود
وإن اجتمع رجل وامرأة وهناك سترة تكفي أحدهما قدمت المرأة لأن عورتها أعظم
فإن لم يجد شيئا يستر به العورة صلى عريانا ولا يترك القيام وقال المزني يلزمه أن يصلي قاعدا لأنه يحصل له بالقعود ستر بعض العورة وستر بعض العورة آكد من القيام لأن القيام يجوز تركه مع القدرة بحال والستر لا يجوز تركه بحال فوجب تقديم الستر وهذا لا يصح لأنه يترك القيام والركوع والسجود على التمام ويحصل له ستر القليل من العورة والمحافظة على الأركان أولى من المحافظة على بعض الفرض فإن صلى عريانا ثم وجد السترة لم تلزمه الإعادة لأن العري عذر عام وربما اتصل ودام فلو أوجبنا الإعادة لشق وضاق فإن دخل في الصلاة وهو عريان ثم وجد السترة في أثنائها فإن كانت بقربه ستر العورة وبنى على صلاته لأنه عمل قليل فلا يمنع البناء وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يحتاج إلى عمل كثير وإن دخلت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فأعتقت في أثنائها فإن كانت السترة قريبة منها سترت وأتمت صلاتها وإن كانت بعيدة بطلت صلاتها وإن أعتقت ولم تعلم حتى فرغت من الصلاة ففيها قولان كما قلنا فيمن صلى بنجاسة ولم يعلم بها حتى فرغ من الصلاة
فصل في اجتماع قوم عراة وإن اجتمع جماعة عراة قال في القديم الأولى أن يصلوا فرادى لأنهم إذا صلوا جماعة لم يمكنهم أن يأتوا بسنة الجماعة وهو تقديم الإمام وقال في الأم يصلون جماعة وفرادى فسوى بين الجماعة والفرادى لأن في الجماعة إدراك فضيلة الجماعة وفوات فضيلة سنة الموقف وفي الفرادى إدراك فضيلة الموقف وفوات فضيلة الجماعة فاستويا فإن كان معهم مكتس يصلح للإمامة فالأفضل أن يصلوا جماعة لأنهم يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وفضيلة الموقف بأن يقدموه فإن لم يكن فيهم مكتس وأرادوا الجماعة استحب أن يقف الإمام وسطهم ويكون المأمومون صفا واحدا حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض فإن لم يمكن إلا صفين صلوا وغضوا الأبصار فإن اجتمع نساء عراة استحب لهن الجماعة لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري وإن اجتمع جماعة عراة ومع إنسان كسوة استحب أن يعيرهم فإن لم يفعل لم يغصب عليه لأن صلاتهم تصح من غير سترة فإن أعار واحدا
____________________
(1/66)
بعينه لزمه قبوله فإن لم يقبل وصلى عريانا بطلت صلاته لأنه ترك الستر مع القدرة عليه وإن وهبه لم يلزمه قبوله لأن عليه في قبوله منة وفي احتمال المنة مشقة فلم يلزم وإن أعار جماعتهم صلى فيه واحدا بعد واحد فإن خافوا إن صلى واحد بعد واحد أن يفوتهم الوقت قال الشافعي رحمه الله ينتظرون حتى يصلوا في الثوب وقال في قوم في سفينة وليس فيها موضع يقوم فيه إلا واحد إنهم يصلون من قعود ولا يؤخرون الصلاة فمن أصحابنا من نقل الجواب في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وقال فيهما قولان ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال في السترة ينتظرون وإن خافوا الفوات ولا ينتظرون في القيام لأن القيام يسقط مع القدرة في حال النافلة والستر لا يسقط مع القدرة بحال ولأن القيام يتركه إلى بدل وهو القعود والستر يتركه إلى غير بدل
باب استقبال القبلة استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حالين في شدة الخوف وفي النافلة في السفر والأصل فيه قوله عز وجل { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } فإن كان بحضرة البيت لزمه التوجه إلى عينه لما روى أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ولم يصل وخرج وركع ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة فإن دخل البيت وصلى فيه جاز لأنه متوجه إلى جزء من البيت والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت لأنه يكثر فيه الجمع فكان أعظم للأجر وإن صلى على سطحه نظرت فإن كان بين يديه سترة متصلة به جازت صلاته لأنه متوجه إلى جزء منه وإن لم يكن بين يديه سترة متصلة لم تجز لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة وذكروا منها فوق بيت الله العتيق ولأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فلم يجز كما لو وقف على طرف السطح وستدبره
وإن كان بين يديه عصا مغزوزة غير مثبتة ولا مسمرة ففيه وجهان أحدهما أنها تصح لأن المغروز من البيت ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع الدار
والثاني لا يصح لأنها غير متصلة بالبيت ولا منسوبة إليه
وإن صلى في عرصة البيت وليس بين يديه سترة متصلة ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يجوز وهو المنصوص لأنه صلى عليه ولم يصل إليه من غير عذر فأشبه إذا صلى على السطح
وقال أبو العباس يجوز لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت فأشبه إذا خرج من البيت وصلى إلى أرضه
فصل في استقبال القبلة في الآفاق وإن لم يكن بحضرة البيت نظرت فإن عرف القبلة صلى إليها وإن أخبره من يقبل خبره عن علم قبل قوله ولا يجتهد كما يقبل الحاكم النص من الثقة ولا يجتهد وإن رأى محاريب المسلمين في موضع صلى إليها ولا يجتهد لأن ذلك بمنزلة الخبر
وإن لم يكن شيء من ذلك نظرت فإن كان ممن يعرف الدلائل فإن كان غائبا عن مكة جتهد في طلب القبلة لأن له طريقا إلى معرفتها بالشمس والقمر والجبال والرياح ولهذا قال الله تعالى { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } فكان له أن يجتهد كالعالم في الحادثة وفي فرضه قولان قال في الأم فرضه إصابة العين لأن من لزمه فرض القبلة لزمه إصابة العين كالمكي
وظاهر ما نقله المزني أن الفرض هو الجهة لأنه لو كان الفرض هو العين لما صحت صلاة الصف الطويل لأن فيهم من يخرج عن العين
وإن
____________________
(1/67)
كان في أرض مكة فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي كالجبل فهو كالغائب عن مكة وإن كان بينهما حائل طارىء وهو البناء ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجتهد لأنه في موضع كان فرضه الرجوع إلى العين فلا يتغير فرضه بالحائل الطارىء
والثاني أنه يجتهد وهو ظاهر المذهب لأن بينه وبين البيت حائلا يمنع المشاهدة فأشبه إذا كان بينهما جبل وإن جتهد رجلان فختلفا في جهة القبلة لم يقلد أحدهما ( صاحبه ) ولا يصلي أحدهما خلف الآخر لأن كل واحد منهما يعتقد بطلان جتهاد صاحبه وبطلان صلاته وإن صلى بلآجتهاد إلى جهة ثم حضرت صلاة أخرى ففيه وجهان أحدهما أنه يصلي بلاجتهاد الأول لأنه قد عرف بلاجتهاد الأول
والثاني يلزمه أن يعيد لاجتهاد وهو المنصوص في الأم كما نقول في الحاكم إذا جتهد في حادثة ثم حدثت تلك الحادثة مرة أخرى فإن جتهد للصلاة الثانية فأداه جتهاده إلى جهة أخرى صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية ولا تلزمه إعادة ما صلى إلى الجهة الأولى كالحاكم إذا حكم بجتهاده ثم تغير جتهاده لم ينقض ما حكم فيه بلاجتهاد الأول وإن تغير جتهاده وهو في الصلاة ففيه وجهان أحدهما يستأنف الصلاة لأنه لا يجوز أن يصلي صلاة واحدة بجتهادين كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة بجتهادين
والثاني يجوز لأنا لو ألزمناه أن يستأنف الصلاة نقضنا ما أداه من الصلاة بلاجتهاد بجتهاد بعده وذلك لا يجوز كالحاكم إذا حكم في قضية ثم تغير جتهاده لم ينقض ما حكم به بلاجتهاد الثاني
وإن دخل في الصلاة بجتهاد ثم شك في جتهاده أتم صلاته لأن لاجتهاد ظاهر والظاهر لا يزال بالشك وإن صلى ثم تيقن الخطأ ففيه قولان قال في الأم يلزمه أن يعيد لأنه تعين له يقين الخطإ فيما يأمن مثله في القضاء فلم يعتد بما مضى كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه
وقال في القديم وفي باب الصيام من الجديد لا يلزمه لأنه جهة تجوز الصلاة إليها بلاجتهاد فأشبه إذا لم يتيقن الخطأ
وإن صلى إلى جهة ثم بان له أن القبلة في يمينها أو شمالها لم يعد لأن الخطأ في اليمين والشمال لا يعلم قطعا ولا ينقض به لاجتهاد وإن كان ممن لا يعرف الدلائل نظرت فإن كان ممن إذا عرف يعرف والوقت واسع لزمه أن يتعرف الدلائل ويجتهد في طلبها لأنه يمكنه أداء الفرض بلاجتهاد فلا يؤديه بالتقليد وإن كان ممن إذا عرف لا يعرف فهو كالأعمى لأنه لا فرق بين ألا يعرف لعدم البصر وبين ألا يعرف لعدم البصيرة وفرضهما التقليد لأنه لا يمكنهما لاجتهاد فكان فرضهما التقليد كالعامي في الأحكام الشرعية فإن صلى من غير تقليد وأصاب لم تصح صلاته لأنه صلى وهو شاك في صلاته وإن ختلف عليه اجتهاد رجلين قلد أوثقهما وأبصرهما فإن قلد الآخر جاز وإن عرف الأعمى القبلة بالمس صلى وأجزأه لأن ذلك بمنزلة التقليد فإن قلد غيره ودخل في الصلاة ثم أبصر فإن كان هناك ما يعرف به القبلة من محراب في مسجد أو نجم يعرف به أتم الصلاة وإن لم يكن شيء من ذلك بطلت صلاته لأنه صار من أهل لاجتهاد ولا يجوز أن يصلي بالتقليد فإن لم يجد من فرضه التقليد من يقلده صلى على حسب حاله حتى لا يخلو الوقت من الصلاة فإذا وجد من يقلده أعادها
فصل فيمن خفيت عليه دلائل القبلة وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه لظلمة أو غيم فقد قال في موضع ومن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى وقال في موضع آخر ولا يسع بصيرا أن يقلد غيره قال أبو إسحاق رضي الله عنه لا يقلد لأنه يمكنه لاجتهاد وقوله كالأعمى أو أراد به كالأعمى في أنه يصلي ويعيد كالأعمى لا أنه يقلد
وقال أبو العباس إن ضاق الوقت قلد وإن تسع الوقت لم يقلد وعليه تأويل قول الشافعي رحمه الله
وقال المزني وغيره المسألة على قولين وهو الأصح أحدهما يقلد وهو ختيار المزني لأنه خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى
والثاني لا يقلد لأنه يمكنه التوصل بلاجتهاد
____________________
(1/68)
فصل في ترك القبلة للخوف والقتال فأما في شدة الخوف ولتحام القتال فيجوز أن يترك القبلة إذا ضطر إلى تركها ويصلي حيث أمكنه لقوله عز وجل { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } قال بن عمر رضي الله عنهما مستقبلي القبلة وغير مستقبليها أو لأنه فرض ضطر إلى تركه فصلى مع تركه كالمريض إذا عجز عن القيام
وأما النافلة فينظر فيها فإن كانت في السفر وهو على دابة نظرت فإن كان يمكنه أن يدور على ظهرها كالعمارية والمحمل الواسع لزمه أن يتوجه إلى القبلة لأنها كالسفينة وإن لم يمكنه ذلك جاز أن يترك القبلة ويصلي عليها حيث توجه لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به
ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير لأنه أجيز حتى لا ينقطع عن السير وهذا موجود في السفر القصير والطويل ثم ينظر فيه فإن كان واقفا نظرت فإن كان في قطار لا يمكنه أن يدير الدابة إلى القبلة صلى حيث توجه وإن كان منفردا لزمه أن يدير رأسها إلى القبلة لأنه لا مشقة عليه في ذلك وإن كان سائرا فإن كان في قطار أو منفردا والدابة حرون يصعب عليه إدارتها صلى حيث توجه وإن كان سهلا ففيه وجهان أحدهما يلزمه أن يدير رأسها إلى القبلة في حال الإحرام لما روى أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في السفر وأراد أن يصلي على راحلته ستقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به والمذهب أنه لا يلزمه لأنه يشق إدارة البهيمة في حال السير
وإن صلى على الراحلة متوجها إلى مقصده فعدلت البهيمة إلى جهة أخرى نظرت فإن كانت جهة القبلة جاز لأن الأصل في فرضه جهة القبلة وإذا عدلت إليه فقد أتى بلأصل وإن لم تكن جهة القبلة فإن كان ذلك بختياره مع العلم بطلت صلاته
لأنه ترك القبلة لغير عذر وإن نسي أنه في الصلاة أو ظن أن ذلك طريق بلده أو غلبته الدابة لم تبطل صلاته فإذا علم رجع إلى جهة القصد قال الشافعي رحمه الله وسجد للسهو وإن كان المسافر ماشيا جاز أن يصلي النافلة حيث توجه كالراكب لأن الراكب أجيز له ترك القبلة حتى لا ينقطع عن الصلاة في السفر وهذا المعنى موجود في الماشي غير أنه يلزم الماشي أن يحرم ويركع يسجد على الأرض مستقبل القبلة لأنه يمكنه أن يأتي بذلك من غير أن ينقطع عن السير وإن دخل الراكب أو الماشي إلى البلد الذي يقصد وهو في الصلاة أتم صلاته إلى القبلة وإن دخل إلى بلد في طريقه جاز أن يصلي حيث توجه ما لم يقطع السير لأنه باق على السير وأما إذا كانت النافلة في الحضر لم يجز أن يصليها إلى غير القبلة وقال أبو سعيد الاصطخري رحمه الله يجوز لأنه إنما رخص في السفر حتى لا ينقطع عن التطوع وهذا موجود في الحضر والمذهب الأول لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام فلا مشقة عليه في ستقبال القبلة
فصل في السترة وما يستحب فيها والمستحب لمن يصلي إلى سترة أن يدنو منها لما روى سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ( حتى ) لا يقطع الشيطان عليه صلاته والمستحب أن يكون بينه وبينها قدر ثلاثة أذرع لما روى سهل بن سعد الساعدي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وبينه وبين القبلة قدر ممر العنز وممر العنز قدر ثلاثة أذرع فإن كان يصلي في موضع ليس فيه بين يديه بناء فالمستحب أن ينصب بين يديه عصا لما روى أبو جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة له حمراء فركز عنزة فجعل يصلي إليها بالبطحاء يمر الناس من ورائها والكلب والحمار والمرأة والمستحب أن يكون ما يستره قدر مؤخرة الرحل لما روى طلحة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك
قال عطاء مؤخرة الرحل ذراع فإن لم يجد عصا فليخط بين يديه خطا إلى القبلة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا فإن لم يجد عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه ويكره أن يصلي وبين يديه رجل يستقبله بوجهه لما روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يصلي ورجل جالس مستقبله بوجهه فضربهما بالدرة
وإن صلى ومر بين يديه مار فدفعه لم تبطل صلاته بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لا يقطع صلاة المرء شيء ودرأوا ما ستطعتم
____________________
(1/69)
باب صفة الصلاة إذا أراد أن يصلي في جماعة لم يقم حتى يفرغ المؤمن من الإقامة لأنه ليس بوقت للدخول في الصلاة والدليل عليه ما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن بلالا أخذ في الإقامة فلما قال قد قامت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها وقال في سائر الإقامة مثل ما يقوله فإذا فرغ المؤذن قام والقيام فرض في الصلاة المفروضة لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فأما في النافلة فليس بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على الراحلة وهو قاعد لأن النوافل تكثر فلو وجب فيها القيام شق ونقطعت النوافل
فصل في فرض النية ثم ينوي والنية فرض من فروض الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل مرىء ما نوى ولأنها قربة محضة فلم يصح من غير نية كالصوم ومحل النية القلب فإن نوى بقلبه دون لسانه أجزأه ومن أصحابنا من قال ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان وليس بشيء لأن النية هي القصد بالقلب ويجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لأنه أول فرض من فروض الصلاة فيجب أن تكون النية مقارنة له فإن كانت الصلاة فريضة لزمه تعيين النية فينوي الظهر أو العصر لتتميز عن غيرها وهل يلزمه نية الفرض فيه وجهان قال أبو إسحاق يلزمه لتتميز عن ظهر الصبي وظهر من صلى وحده ثم أدرك جماعة فصلاها معهم
وقال أبو علي بن أبي هريرة تكفيه نية الظهر أو العصر لأن الظهر والعصر لا يكونان في حق هذا إلا فرضا
ولا يلزمه أن ينوي الأداء والقضاء ومن أصحابنا من قال من يلزمه نية القضاء والأول هو المنصوص فإنه قال فيمن صلى في يوم غيم بلاجتهاد فوافق ما بعد الوقت إنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصليها في الوقت وقال في الأسير إذا شتبهت عليه الشهور فصام شهرا بلاجتهاد فوافق رمضان أو ما بعده إنه يجزيه وإن كان عنده أنه يصوم في شهر رمضان
وإن كانت الصلاة سنة راتبة كالوتر وسنة الفجر لم تصح حتى يعين النية لتتميز عن غيرها
وإن كانت نافلة غير راتبة أجزأته نية الصلاة
وإن أحرم ثم شك هل نوى ثم ذكر أنه نوى فإن كان قبل أن يحدث شيئا من أفعال الصلاة أجزأه وإن ذكر ذلك بعد ما فعل شيئا من ذلك بطلت صلاته لأنه فعل ذلك وهو شاك في صلاته
وإن نوى الخروج من الصلاة أو نوى أنه سيخرج أو شك هل يخرج أم لا بطلت صلاته لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطع ذلك بما أحدث فبطلت صلاته كالطهارة إذا قطعها بالحدث
وإن دخل في الظهر ثم صرف النية إلى العصر بطل الظهر لأنه قطع نيتها ولم يصح العصر لأنه لم ينو عند الإحرام
وإن صرف نية الظهر إلى التطوع بطل الظهر لما ذكرناه وفي التطوع قولان أحدهما لا يصح لما ذكرناه في العصر
والثاني تصح لأن نية الفرض تتضمن نية النفل بدليل أن من دخل في الظهر قبل الزوال وهو يظن أنه بعد الزوال كانت صلاته نافلة
فصل في تكبير الإحرام ثم يكبر والتكبير للإحرام فرض من فروض الصلاة لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والتكبير هو أن يقول الله أكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل به في الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فإن قال الله الأكبر أجزأه لأنه أتى بقوله الله أكبر وزاد زيادة لا تحيل المعنى فهو كقوله الله أكبر كبيرا وإن قال أكبر الله ففيه وجهان أحدهما يجزيه كما لو قال عليكم السلام في آخر الصلاة
والثاني لا يجزيه وهو ظاهر قوله في الأم لأنه ترك الترتيب في الذكر فهو كما لو قدم آية على آية وهذا يبطل بالتشهد والسلام
وإن كبر بالفارسية وهو يحسن بالعربية لم يجز لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فإن لم يحسن بالعربية وضاق الوقت أن يتعلم كبر بلسانه
لأنه عجز عن اللفظ فأتى بمعناه وإن تسع الوقت لزمه أن يتعلم فإن لم يتعلم وكبر بلسانه بطلت صلاته لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه وإن كان بلسانه خبل أو خرس حركه بما يقدر عليه لقوله صلى الله عليه
____________________
(1/70)
وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما ستطعتم ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه ويستحب لغيره أن يسر به وأدناه أن يسمع نفسه
فصل في رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام ويستحب أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه لما روى بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ويفرق بين أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشر أصابعه في الصلاة نشرا ويكون بتداء الرفع مع بتداء التكبير ونتهاؤه مع نتهائه فإن سبقت اليد أثبتها مرفوعة حتى يفرغ من التكبير لأن الرفع للتكبير فكان معه وإن لم يمكنه رفعهما أو أمكنه رفع إحداهما أو رفعهما إلى ما دون المنكب رفع ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما ستطعتم وإن كان به علة إذا رفع اليد جاوز المنكب رفع لأنه يأتي بالمأمور به وزيادة هو مغلوب عليها وإن نسي الرفع وذكر قبل أن يفرغ من التكبير أتى به لأن محله باق
فصل في موضع اليدين حال القيام ويستحب إذا فرغ من التكبير أن يضع اليمنى على اليسرى فيضع اليمنى على بعض الكف وبعض الرسغ لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي فنظرت إليه وقد وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد والمستحب أن يجعلهما تحت الصدر لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما على الأخرى والمستحب أن ينظر إلى موضع سجوده لما روى بن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله إذا ستفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده
فصل في دعاء الاستفتاح ثم يقرأ دعاء لاستفتاح وهو سنة والأفضل أن يقول ما رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى المكتوبة كبر وقال وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي وعترفت بذنبي فغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وهدني لأحسن الأخلاق لا يهديني لأحسنها إلا أنت وصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك كما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك غير أن في حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( وأنا أول المسلمين ) فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول المسلمين وغيره لا يقول إلا ما ذكرناه
____________________
(1/71)
فصل في التعوذ ثم يتعوذ فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك قال في الأم كان بن عمر رضي الله عنهما يتعوذ في نفسه وأبو هريرة رضي الله عنه يجهر به وأيهما فعل جاز قال أبو علي الطبري المستحب أن يسر به لأنه ليس بقراءة ولا علم على لاتباع
ويستحب ذلك في الركعة الأولى قال في الأم يقول في أول ركعة وقد قيل إن قاله في كل ركعة فحسن ولا آمر به أمري به في أول ركعة فمن أصحابنا من قال فيما سوى الركعة الأولى قولان أحدهما يستحب لأنه يستفتح القراءة فيها فهي كالأولى
والثاني لا يستحب لأن ستفتاح القراءة في الأولى
ومن أصحابنا من قال يستحب في الجميع قولا واحدا إنما قال في الركعة الأولى أشد ستحبابا وعليه يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى
فصل في فرض الفاتحة ثم يقرأ فاتحة الكتاب وهي فرض من فروض الصلاة لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فإن تركها ناسيا ففيه قولان قال في القديم يجزيه لأن عمر رضي الله عنه ترك القراءة فقيل له في ذلك فقال كيف كان الركوع والسجود قالوا حسنا قال فلا بأس وقال في الجديد لا يجزيه لأن ما كان ركنا من الصلاة لم يسقط فرضه بالنسيان كالركوع والسجود ويجب أن يبتدئها ب بسم الله الرحمن الرحيم فإنها آية منها والدليل عليه ما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية منها ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن فيدل على أنها آية منها فإن كان في صلاة يجهر فيها جهر بها كما يجهر في سائر الفاتحة لما روى بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ب بسم الله الرحمن الرحيم ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة ويجب أن يقرأها مرتبا فإن قرأ في خلالها غيرها ناسيا ثم أتى بما بقي منها أجزأه فإن قرأ عامدا لزمه أن يستأنف القراءة كما لو تعمد في خلال الصلاة ما ليس منها لزمه ستئنافها وإن نوى قطعها ولم يقطع لم يلزمه ستئنافها لأن القراءة باللسان ولم يقطع ذلك بخلاف ما لو نوى قطع الصلاة لأن النية بالقلب وقد قطع ذلك فإن قرأ الإمام الفاتحة وأمن والمأموم في أثناء الفاتحة فأمن بتأمينه ففيه وجهان قال الشيخ أبو حامد الإسفرايني رضي الله عنه تنقطع القراءة كما لو قطعها بقراءة غيرها
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله لا تنقطع لأن ذلك مأمور به فلا يقطع القراءة كالسؤال في آية الرحمة ولاستعاذة من النار في آية العذاب فيما يقرأ في صلاته منفردا
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة لما روى رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ورجل يصلي فلما نصرف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال له أعد صلاتك فإنك لم تصل فقال علمني يا رسول الله فقال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم قرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر إلى إن قال ثم صنع في كل ركعة ذلك ولأنها ركعة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة مع القدرة كالركعة الأولى وهل تجب على المأموم ينظر فيه فإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة وجبت عليه وإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة ففيه قولان قال في الأم والبويطي يجب عليه لما روى عبادة بن الصامت قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما نصرف قال إني لأراكم تقرءون خلف إمامكم قلنا والله أجل يا رسول الله نفعل هذا قال لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ولأن من لزمه قيام القراءة لزمه القراءة مع القدرة كالإمام والمنفرد وقال في القديم لا يقرأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال هل قرأ معي أحد منكم فقال رجل نعم يا رسول الله قال إني أقول ما لي أنازع القرآن فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل في التأمين وإذا فرغ من الفاتحة أمن وهو سنة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمن وقد قال صلوا كما رأيتموني أصلي فإن
____________________
(1/72)
كان إماما أمن وأمن المأموم معه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن بتأمينه فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة جهر الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمن الإمام فأمنوا ولو لم يجهر به لما علق تأمين المأموم عليه ولأنه تابع للفاتحة فكان حكمه حكمها في الجهر كالسورة وأما المأموم فقد قال في الجديد لا يجهر وقال في القديم يجهر فمن أصحابنا من قال على قولين أحدهما يجهر لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون وراءه حتى إن للمسجد للجة
والثاني لا يجهر لأنه ذكر مسنون في الصلاة فلم يجهر به المأموم كالتكبيرات
ومنهم من قال إن كان المسجد صغيرا يبلغهم تأمين الإمام لم يجهر به لأنه لا يحتاج إلى الجهر به وإن كان كبيرا جهر لأنه يحتاج إلى الجهر للإبلاغ وحمل القولين على هذين الحالين
فإن نسي الإمام التأمين أمن المأموم وجهر به ليسمع الإمام فيأتي به
فصل فيمن لا يحسن الفاتحة فإن لم يحسن الفاتحة وأحسن غيرها قرأ سبع آيات وهل يعتبر أن يكون فيها بقدر حروف الفاتحة فيه قولان أحدهما لا يعتبر كما إذا فاته صوم يوم طويل لم يعتبر أن يكون القضاء في يوم بقدر ساعات الأداء
والثاني يعتبر وهو الأصح لأنه لما عتبر عدد آي الفاتحة عتبر قدر حروفها ويخالف الصوم فإنه لا يمكن عتبار المقدار في الساعات إلا بمشقة
فإن لم يحسن شيئا من القرآن لزمه أن يأتي بذكر لما روى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن أحفظ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني في الصلاة فقال قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ولأنه ركن من أركان الصلاة فجاز أن ينتقل فيه عند العجز إلى بدل كالقيام وفي الذكر وجهان قال أبو إسحاق رضي الله عنه يأتي من الذكر بقدر حروف الفاتحة لأنه أقيم مقامها فعتبر قدرها وقال أبو علي الطبري رضي الله عنه يجب ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة كالتيمم لا تجب الزيادة فيه على ما ورد به النص والمذهب الأول
وإن أحسن آية من الفاتحة وأحسن غيرها ففيه وجهان أصحهما أنه يقرأ الآية ثم يقرأ ست آيات من غيرها لأنه إذا لم يحسن شيئا منها نتقل إلى غيرها فإذا كان يحسن بعضها وجب أن ينتقل فيما لم يحسن إلى غيرها كما لو عدم بعض الماء
والثاني يلزمه تكرار الآية لأنها أقرب إليها
فإن لم يحسن شيئا من القرآن ولا من الذكر قام بقدر سبع آيات وعليه أن يتعلم فإن تسع الوقت ولم يفعل وصلى لزمه أن يعيد لأنه ترك القراءة مع القدرة فأشبه إذا تركها وهو يحسن فإن قرأ القرآن بالفارسية لم يجزه لأن القصد من القرآن اللفظ والنظم
وذلك لا يوجد في غيره
فصل في قراءة سورة بعد الفاتحة ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة وذلك سنة والمستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفضل
لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالواقعة فإن كان في يوم الجمعة
( ستحب له أن يقرأ فيها ) { الم تنزيل } السجدة { هل أتى على الإنسان } الظهر بنحو ما يقرأ في الصبح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر بقدر ثلاثين آية قدر { الم تنزيل } السجدة وحزرنا قيامه في الركعتين الأخيرتين على النصف
____________________
(1/73)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ذلك ويقرأ في الأوليين من من ذلك وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخيرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الأخيرتين من العصر على النصف من ذلك ويقرأ في الأوليين من العصر بأوساط المفصل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري ويقرأ في الأوليين من العشاء الأخيرة بنحو ما يقرأ في العصر لما روي عنه عليه الصلاة السلام أنه قرأ في العشاء الأخيرة بسورة الجمعة والمنافقين ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل
فإن خالف وقرأ غير ما ذكرناه جاز لما روى رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض
فإن كان مأموما نظرت فإن كان في صلاة يجهر فيها بالقراءة لم يزد على الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وإن كان في صلاة يسر فيها بالقراءة أو في صلاة يجهر فيها إلا أنه في موضع لا يسمع القراءة قرأ لأنه غير مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام والمنفرد فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين فهل يقرأ السورة فيما زاد على الركعتين فيه قولان قال في القديم لا يستحب لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحيانا وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب في كل ركعة وقال في الأم يستحب لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله ولأنها ركعة شرع فيها الفاتحة فشرع فيها السورة كالأوليين ولا يفضل الركعة الأولى على الثانية في القراءة وقال أبو الحسن الماسرجسي يستحب أن تكون قراءته في الأولى من كل صلاة أطول لما رويناه من حديث أبي قتادة وظاهر قوله في الأم أنه لا يفضل لما رويناه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وحديث أبي قتادة يحتمل أن يكون أطال لأنه أحس بداخل
فصل متى يجهر ومتى يسر ويستحب للإمام أن يجهر بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والأوليين من العشاء والدليل عليه نقل الخلف عن السلف ويستحب للمأموم أن يسر لأنه إذا جهر نازع الإمام في القراءة ولأنه مأمور بالإنصات إلى الإمام وإذا جهر لم يمكنه الإنصات ويستحب للمنفرد أن يجهر فيما يجهر فيه الإمام لأنه لا ينازع غيره ولا هو مأمور بالإنصات إلى غيره فهو كالإمام وإن كانت امرأة لم تجهر في موضع فيه رجال أجانب لأنه لا يؤمن أن يفتتن بها ويستحب الإسرار في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء الأخيرة لأنه نقل الخلف عن السلف وإن فاتته صلاة بالنهار فقضاها في الليل أسر لأنها صلاة نهار وإن فاتته بالليل فقضاها في النهار أسر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فرموه بالبعر ويقال إن صلاة النهار عجماء
قال الشيخ الإمام ويحتمل عندي أن يجهر كما يسر فيما فاته من صلاة النهار فقضاها بالليل
فصل ثم يركع وهو فرض من فروض الصلاة لقوله عز وجل { اركعوا واسجدوا } والمستحب أن يكبر للركوع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ولأن الهوي إلى الركوع فعل فلا يخلو من
____________________
(1/74)
ذكر كسائر الأفعال ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في التكبير ولما ذكرناه من حديث بن عمر في تكبيرة الإحرام
ويجب أن ينحني إلى حد يبلغ راحتاه ركبتيه لأنه لا يسمى دونه راكعا ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه ويفرق أصابعه لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما وفرج بين أصابعه ولا يطبق لما روي عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال صليت إلى جنب سعد بن مالك فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما فضرب بيدي وقال ضرب بكفيك على ركبتيك وقال يا بني إنا قد كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب
والمستحب أن يمد ظهره وعنقه ولا يقنع رأسه ولا يصوبه لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فركع وعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنعه والمستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فإن كانت امرأة لم تجاف بل تضم المرفقين إلى الجنبين لأن ذلك أستر لها ويجب أن يطمئن في الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته
ثم ركع حتى تطمئن راكعا والمستحب أن يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدنى الكمال لما روى بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ركع أحدكم فقال سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري وعظمي ومخي وعصبي لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال ذلك فإن ترك التسبيح لم تبطل صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته ثم ركع حتى تطمئن راكعا ولم يذكر التسبيح
فصل في الرفع من الركوع ثم يرفع رأسه ويستحب أن يقول سمع الله لمن حمده لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في الرفع لما ذكرناه من حديث بن عمر رضي الله عنه في تكبيرة الإحرام فإن قال من حمد الله سمع الله له أجزأه لأنه أتى باللفظ والمعنى فإذا ستوى قائما ستحب أن يقول ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد حق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ذلك
ويجب أن يطمئن قائما لما روى رفاعة بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله عز وجل إلى أن قال ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم ليقم حتى يطمئن قائما ثم ليسجد حتى يطمئن ساجدا
فصل في فرض السجود ثم يسجد وهو فرض لقوله عز وجل { اركعوا واسجدوا } ويستحب أن يبتدىء عند لهوي إلى السجود بالتكبير لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع والمستحب أن يضع ركبتيه ثم يديه ثم جبهته وأنفه لما روى وائل بن
____________________
(1/75)
حجر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه فإن وضع يديه قبل ركبتيه أجزأه لأنه ترك هيئة ويسجد على الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين فأما السجود على الجبهة فهو واجب لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرا قال في الأم فإن وضع بعض الجبهة كرهت له وأجزأه لأنه سجد على الجبهة فإن سجد على حائل متصل به دون الجبهة لم يجزه لما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا
وأما السجود على الأنف فهو سنة لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد ومكن جبهته وأنفه من الأرض وإن تركه أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف
وأما السجود على اليدين والركبتين والقدمين ففيه قولان أشهرهما أنه لا يجب لأنه لو وجب ذلك لوجب الإيماء بها إذا عجز كالجبهة
والثاني يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته فإذا قلنا بهذا لم يجب كشف القدمين والركبتين لأن كشف الركبة يفضي إلى كشف العورة فتبطل صلاته والقدم قد يكون في الخف فكشفهما يبطل المسح والصلاة وأما اليد ففيها قولان المنصوص في الكتب أنه لا يجب كشفها لأنها لا تكشف إلا لحاجة فهي كالقدم
وقال في السبق والرمي قد قيل فيه قول آخر أنه يجب لحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه
ويستحب أن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه
ويستحب أن يقل بطنه عن فخذيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جخ ويروى جخا
والجخ الخاوي وإن كانت امرأة ضمت بعضها إلى بعض لأن ذلك أستر لها ويفرج بين رجليه لما روي أن أبا حميد رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان إذا سجد فرج بين رجليه ويوجه أصابعه نحو القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع أصابعه تجاه القبلة وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتح أصابع رجليه والفتح تعويج الأصابع ويضم أصابع يديه ويضعهما حذو منكبيه لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه ويرفع مرفقيه ويعتمد على راحتيه لما روى البراء ابن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سجدت فضم كفيك ورفع مرفقيك ويجب أن يطمئن في سجوده لحديث رفاعة بن مالك ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا والمستحب أن يقول سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدنى الكمال لما روى
____________________
(1/76)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سجد أحدكم فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه والأفضل أن يضيف إليه اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وأحسن صورته وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد قال ذلك
فإن قال في سجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح فهو حسن لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في سجوده قال الشافعي رحمة الله عليه ويجتهد في الدعاء رجاء الإجابة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء ويكره أن يقرأ في الركوع والسجود لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم فإن أراد أن يسجد فوقع على الأرض ثم نقلب فأصاب جبهته الأرض فإن نوى السجود حال لانقلاب أجزأه كما لو غسل للتبرد والتنظيف ونوى رفع الحدث وإن لم ينو لم يجزه كما لو توضأ للتبرد ولم ينو رفع الحدث
فصل في الرفع من السجود ثم يرفع رأسه ويكبر لما رويناه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ثم يجلس مفترشا فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى لما روي أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها وعتدل حتى رجع كل عضو إلى موضعه
ويكره الإقعاء في الجلوس وهو أن يضع أليتيه على عقبيه كأنه قاعد عليهما وقيل هو أن يجعل يديه في الأرض ويقعد على أطراف أصابعه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعي إقعاء القرد ويجب أن يطمئن في جلوسه لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته ثم رفع حتى تطمئن جالسا ويستحب أن يقول في جلوسه اللهم غفر لي وجبرني وعافني ورزقني وهدني لما روى بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بين السجدتين
فصل في السجدة الثانية ثم يسجد سجدة أخرى مثل الأولى ثم يرفع رأسه مكبرا لما رويناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع قال الشافعي رحمه الله فإذا ستوى قاعدا نهض وقال في الأم يقوم من السجود فمن أصحابنا من قال المسألة على قولين أحدهما لا يجلس لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجدة ستوى قائما بتكبيرة
والثاني يجلس لما روى مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في الركعة الأولى والثانية لم ينهض حتى يستوي قاعدا
وقال أبو إسحاق إن كان ضعيفا جلس لأنه يحتاج إلى لاستراحة وإن كان قويا لم يجلس لأنه لا يحتاج إلى لاستراحة وحمل القولين على هذين الحالين
فإذا قلنا يجلس جلس مفترشا لما روى أبو حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم ثنى رجله فقعد عليها حتى رجع كل عضو إلى موضعه ثم نهض
ويستحب أن يعتمد على يديه في القيام لما روى مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ستوى قاعدا ثم قام وعتمد على الأرض بيديه قال الشافعي رحمه الله ولأن هذا أشبه بالتواضع وأعون للمصلي ويمد التكبير إلى أن يقوم حتى لا يخلو فعل من ذكر ولا يرفع اليد إلا في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع منه لحديث بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع اليدين بين السجدتين وقال أبو علي الطبري
____________________
(1/77)
وأبو بكر بن المنذر رحمهما الله تعالى يستحب كلما قام إلى الصلاة من السجود ومن التشهد لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في القيام من السجود وروى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الركعتين يرفع يديه والمذهب الأول
فصل في كيف يصنع في الركعة الثانية ثم يصلي الركعة الثانية مثل الأولى إلا في النية ودعاء لاستفتاح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته ثم صنع ذلك في صلاتك كلها
وأما النية ودعاء لاستفتاح فإن ذلك يراد للدخول في الصلاة ولاستفتاح وذلك لا يوجد في غير الركعة الأولى
فصل في التشهد بعد الركعتين وإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين جلس في الركعتين ليتشهد لنقل الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سنة لما روى عبد الله بن بحينة رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقام من ثنتين ولم يجلس فلما قضى صلاته سجد سجدتين بعد ذلك ثم سلم ولو كان واجبا لفعله ولم يقتصر على السجود
والسنة أن يجلس في هذا التشهد مفترشا لما روى أبو حميد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الأوليين جلس على قدمه اليسرى ونصب قدمه اليمنى والمستحب أن يبسط أصابع يده اليسرى على فخذه اليسرى وفي اليد اليمنى ثلاثة أقوال أحدها يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة وهو المشهور لما روى بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة وروى بن الزبير رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس فترش اليسرى ونصب اليمنى ووضع إبهامه عند الوسطى وأشار بالسبابة ووضع اليسرى على فخذه اليسرى وكيف يضع الإبهام فيه وجهان أحدهما يضعها تحت المسبحة على حرف راحته أسفل من المسبحة كأنه عاقد ثلاثة وخمسين لحديث بن عمر رضي الله عنهما
والثاني يضعها على حرف أصبعه الوسطى لحديث بن الزبير رضي الله عنه
والقول الثاني قاله في الإملاء يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويبسط المسبحة والإبهام لما روى أبو حميد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
والقول الثالث أنه يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم عقد من أصابعه الخنصر والتي تليها ثم حلق حلقة بأصبعه الوسطى على الإبهام ورفع السبابة ورأيته يشير بها
فصل في صيغة التشهد ويتشهد وأفضل التشهد أن يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة فيقول قولوا التحيات المباركات الصلوات الطيبات وذكر نحو ما قلناه
وحكى أبو علي الطبرى رحمه الله تعالى عن بعض أصحابنا أن الأفضل أن يقول باسم الله وبالله التحيات لله لما روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف المذهب وذكر التسمية غير صحيح عند أصحاب الحديث وأقل ما يجزىء من ذلك خمس كلمات وهي التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله لان
____________________
(1/78)
هذا يأتي على معنى الجميع قال في الأم فإن ترك الترتيب لم يضر لان المقصود يحصل مع ترك الترتيب
ويستحب إذا بلغ الشهادة أن يشير بالمسبحة لما رويناه من حديث ابن عمر وابن الزبير ووائل بن حجر رضي الله عنهم
وهل يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد فيه قولان قال في القديم لا يصلي لانه لو شرع الصلاة عليه لشرع الصلاة على آله كالتشهد الأخير وقال في الأم يصلي عليه لانه قعود شرع فيه التشهد فشرع فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كالقعود في آخر الصلاة
فصل في القيام للركعة الثالثة ثم يقوم إلى الركعة الثالثة معتمدا على الأرض بيديه لما رويناه من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه في الركعة الأولى ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الركعة الثانية إلا فيما قلناه من الجهر وقراءة السورة فإذا بلغ إلى آخر صلاته جلس للتشهد ويتشهد وهو فرض لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل وميكائل السلام على فلان
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله
والسنة في هذا القعود أن يكون متوركا فيخرج رجله من جانب وركه الأيمن ويضع أليتيه على الأرض لما روى أبو حميد رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الأوليين جلس على قدمه اليسرى ونصب قدمه اليمنى وإذا جلس في الأخيرة جلس على أليتيه وجعل بطن قدمه اليسرى تحت مأبض اليمنى ونصب قدمه اليمنى ولان الجلوس في هذا التشهد يطول فكان التورك فيه أمكن والجلوس في التشهد الأول يقصر فكان الافتراش فيه أشبه ويتشهد على ما ذكرناه
فصل في الصلاة على النبي فإذا فرغ من التشهد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض في هذا الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي والأفضل أن يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد لما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والواجب من ذلك أن يقول اللهم صل على محمد وفي الصلاة على آله وجهان أحدهما تجب لما روى أبو حميد رضي الله عنه قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد والمذهب أنها لا تجب للإجماع
فصل في الدعاء بعد التشهد ثم يدعو بما أحب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ثم يدعو لنفسه بما أحب فإن كان إماما لم يطل الدعاء والأفضل أن يدعو بما روى علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بين التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت
فصل في جلسة التورك فإن كانت الصلاة ركعة أو ركعتين جلس في آخرها متوركا ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
وعلى آله ويدعو على ما وصفناه ويكره أن يقرأ في التشهد لانه حالة من أحوال الصلاة لم تشرع فيها القراءة فكرهت فيها كالركوع والسجود
____________________
(1/79)
فصل في التسليم ثم يسلم وهو فرض في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ولانه أحد طرفي الصلاة فوجب فيه النطق كالطرف الأول والسنة أن يسلم تسليمتين إحداهما عن يمينه والأخرى عن يساره والسلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله لما روى عبد الله رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده من ههنا ومن ههنا
وقال في القديم إن اتسع المسجد وكثر الناس سلم تسليمتين وإن صغر المسجد وقل الناس سلم تسليمة واحدة لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولان السلام للإعلام بالخروج من الصلاة وإذا كثر الناس كثر اللغط فيسلم اثنتين ليبلغ وإذا قل الناس كفاهم الإعلام بتسليمة واحدة والأول أصح لان الحديث في تسليمة غير ثابت عند أهل النقل والواجب من ذلك تسليمة واحدة لان الخروج يحصل بتسليمة فإن قال عليكم السلام أجزأه على المنصوص كما يجزئه في التشهد وإن قدم بعضه على بعض
ومن أصحابنا من قال لا يجزئه حتى يأتي به مرتبا كما يقول في القراءة
والمذهب الأول
وينوي الإمام بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على من عن يمينه وعلى الحفظة وينوي بالثانية السلام على من على يساره وعلى الحفظة وينوي المأموم بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على الإمام وعلى الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته في صفه وورائه وقدامه وينوي بالثانية السلام على الحفظة وعلى المأمومين من ناحيته فإن كان الإمام قدامه نواه في أي التسليمتين شاء وينوي المنفرد بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وبالثانية السلام على الحفظة والأصل فيه ما روى سمرة رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أنفسنا وأن يسلم بعضنا على بعض وروى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين ويصلي قبل العصر أربعا يفصل كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معه من المؤمنين وإن نوى الخروج من الصلاة ولم ينو ما سواه جاز لان التسليم على الحاضرين سنة وإن لم ينو الخروج من الصلاة ففيه وجهان قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص لا يجزئه وهو ظاهر النص في البويطي لانه نطق في أحد طرفي الصلاة فلم يصح من غير نية كتكبيرة الإحرام
وقال أبو حفص بن الوكيل وأبو عبد الله الختن الجرجاني رحمهم الله يجزيه لان نية الصلاة قد أتت على جميع الأفعال والسلام من جملتها أو لانه لو وجبت النية في السلام لوجب تعيينها كما قلنا في تكبيرة الإحرام
فصل فيما يقوله من فرغ من صلاته ويستحب لمن فرغ من الصلاة أن يذكر الله تعالى لما روي عن ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان يهلل في أثر كل صلاة يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولا نعبد إلا إياه وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهذا في دبر كل صلاة وكتب المغيرة إلى معاوية رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد
____________________
(1/80)
فصل في الانصراف من الصلاة وإذا أراد أن ينصرف فإن كان خلفه نساء استحب أن يلبث حتى ينصرف النساء ولا يختلطن بالرجال لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء حين يقضي سلامه فيمكث يسيرا قبل أن يقوم قال الزهري رحمه الله فنرى والله أعلم أن مكثه لينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال وإذا أراد أن ينصرف توجه في جهة حاجته لما روى الحسن رحمه الله قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في المسجد الجامع فمن كان بيته من قبل بني تميم انصرف عن يساره ومن كان بيته مما يلي بني سليم انصرف عن يمينه يعني بالبصرة وإن لم يكن له حاجة فالأولى أن ينصرف عن يمينه لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء
فصل في القنوت في الصبح والسنة في صلاة الصبح أن يقنت في الركعة الثانية لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو عليهم ثم تركه وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ومحل القنوت بعد الرفع من الركوع لما روي أنه سئل أنس هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال نعم قيل قبل الركوع أو بعد الركوع قال بعد الركوع والسنة أن يقول اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت
لما روى الحسن بن علي رضي الله عنه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر فقال قل اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره وإن قنت بما روي عن عمر رضي الله عنه كان حسنا وهو ما روى أبو رافع قال قنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح فسمعته يقول اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد إن عذابك بالكفار ملحق اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وأصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم
____________________
(1/81)
على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق واجعلنا منهم ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدعاء لما روي من حديث الحسن رضي الله عنه في الوتر أنه قال تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي وسلم ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤمن من خلفه ويستحب له أن يشاركه في الثناء لانه لا يصلح التأمين على ذلك فكانت المشاركة أولى وأما رفع اليدين في القنوت فليس فيه نص والذي يقتضيه المذهب أنه لا يرفع لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن في الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة ولانه دعاء في الصلاة فلم يستحب له رفع اليد كالدعاء في التشهد وذكر القاضي أبو الطيب الطبري في بعض كتبه أنه لا يرفع اليد وحكى في التعليق أنه يرفع اليد والأول عندي أصح وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه من غير حاجة فإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الفرائض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لاحد أو يدعو على أحد كان إذا قال سمع الله لمن حمده قال ربنا لك الحمد وذكر الدعاء
فصل في جامع فروض الصلاة وسننها والفرض مما ذكرناه أربعة عشر النية وتكبيرة الإحرام والقيام وقراءة الفاتحة والركوع حتى تطمئن فيه والرفع من الركوع حتى تعتدل والسجود حتى تطمئن فيه والجلوس بين السجدتين حتى تطمئن والجلوس في آخر الصلاة والتشهد فيه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليمة الأولى ونية الخروج وترتيب أفعالها على ما ذكرناه والسنن خمس وثلاثون رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والركوع والرفع من الركوع ووضع اليمين على الشمال والنظر إلى موضع السجود ودعاء الاستفتاح والتعوذ والتأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة والجهر والإسرار والتكبيرات سوى تكبيرة الإحرام والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع والتسبيح في الركوع والتسبيح في السجود ووضع اليد على الركبة في الركوع ومد الظهر والعنق فيه والبداية بالركبة ثم باليد في السجود ووضع الأنف في السجود ومجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود وإقلال البطن عن الفخذ في السجود والدعاء في الجلوس بين السجدتين وجلسة الاستراحة ووضع اليد على الأرض عند القيام والتورك في آخر الصلاة والافتراش في سائر الجلسات ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة والإشارة بالمسبحة ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة والتشهد الأول والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه والصلاة على آله في التشهد الأخير والدعاء في آخر الصلاة والقنوت في الصبح والتسليمة الثانية ونية السلام على الحاضرين
باب صلاة التطوع أفضل عبادات البدن الصلاة لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال استقيموا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ولانها تجمع من القرب ما لا تجمع غيرها من الطهارة واستقبال القبلة والقراءة وذكر الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنع فيها من كل ما يمنع منه في سائر العبادات وتزيد عليها بالامتناع من الكلام والمشي وسائر الأفعال وتطوعها أفضل التطوع
وتطوعها ضربان ضرب تسن له الجماعة وضرب
____________________
(1/82)
لا تسن له الجماعة فما سن له الجماعة فصلاة العيد والكسوف والاستسقاء وهذا الضرب أفضل مما لا تسن له الجماعة لانها تشبه الفرائض في سنة الجماعة وأوكد ذلك صلاة العيد لانها راتبة بوقت كالفرائض ثم صلاة الكسوف لان القرآن دل عليها قال الله تعالى { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } وليس ههنا صلاة تتعلق بالشمس والقمر إلا صلاة الكسوف ثم صلاة الاستسقاء ولهذه الصلوات أبواب نذكر فيها أحكامها إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وما لا تسن له الجماعة فضربان راتبة بوقت وغير راتبة فأما الراتبة فمنها السنن الراتبة مع الفرائض وأدنى الكمال منها عشر ركعات غير الوتر وهي ركعتان قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الصبح والأصل فيه ما روى بن عمر رضي الله عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين وبعد العشاء سجدتين وحدثتني حفصة بنت عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين إذا طلع الفجر والأكمل أن يصلي ثماني عشرة ركعة غير الوتر ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء لما ذكرناه من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأربعا قبل الظهر وأربعا بعدها لما روت أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار وأربعا قبل العصر لما روى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعا يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن معهم من المؤمنين والسنة فيها وفي أربع قبل الظهر وبعده أن يسلم من كل ركعتين لما رويناه من حديث علي كرم الله وجهه أنه كان يفصل بين كل ركعتين بالتسليم وما يفعل قبل هذه الفرائض من هذه السنن يدخل وقتها بدخول وقت الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض وما يفعل بعد الفرض يدخل وقتها بالفراغ من الفرض ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض لانها تابعة للفرض فذهب وقتها بذهاب وقت الفرض
ومن أصحابنا من قال يبقى وقت سنة الفجر إلى الزوال وهو ظاهر النص والأول أظهر
فصل في الكلام على الوتر وأما الوتر فهي سنة لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل وأكثره إحدى عشرة ركعة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة وأقله ركعة لما ذكرناه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه وأدنى الكمال ثلاث ركعات يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يأيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذلك والسنة لمن أوتر بما زاد على ركعة أن يسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر ولانه يجهر في الثالثة ولو كانت موصولة بالركعتين لما جهر فيها كالثالثة من المغرب ويجوز أن يجمعها بتسليمة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر والسنة أن يقنت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن تلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول اللهم قاتل الكفرة وقال أبو عبد الله الزبيري يقنت في جميع السنة لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ويقنت قبل الركوع والمذهب الأول وحديث أبي بن كعب غير ثابت عند أهل النقل ومحل القنوت في الوتر بعد الرفع من الركوع ومن أصحابنا من قال محله في الوتر قبل الركوع لحديث أبي بن كعب والصحيح هو الأول لما ذكرت من حديث عمر رضي الله عنه ولانه في الصبح يقنت بعد الركوع فكذلك في الوتر ووقت الوتر ما بين أن يصلي العشاء إلى طلوع الفجر الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام
إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر فإن كان ممن له تهجد فالأولى أن يؤخره حتى يصليه بعد التهجد وإن لم يكن له تهجد فالأولى أن يصليه بعد
____________________
(1/83)
سنة العشاء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل وأوكد هذه السنن الراتبة مع الفرائض سنة الفجر والوتر لانه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما وأيهما أفضل فيه قولان قال في الجديد الوتر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر وقال عليه السلام من لم يوتر فليس منا ولانه مختلف في وجوبه وسنة الفجر مجمع على كونها سنة فكان الوتر أوكد وقال في القديم سنة الفجر آكد لقوله صلى الله عليه وسلم صلوها ولو طردتكم الخيل ولانها محصورة لا تحتمل الزيادة والنقصان فهي بالفرائض أشبه من الوتر
فصل في قيام رمضان ومن السنن الراتبة قيام رمضان وهو عشرون ركعة بعشر تسليمات والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه والأفضل أن يصليها في جماعة نص عليه في البويطي لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه فصلى بهم التراويح
ومن أصحابنا من قال فعلها منفردا أفضل لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي فصلوها معه ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر والمذهب الأول وإنما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لئلا تفرض عليهم وقد روي أنه قال خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها
فصل في صلاة الضحى ومن السنن الراتبة صلاة الضحى وأفضلها ثماني ركعات لما روت أم هانىء بنت أبي طالب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات وأقلها ركعتان لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كل سلامى من أحدكم صدقة ويجزىء من ذلك ركعتان يصليهما من الضحى ووقتها إذا أشرقت الشمس إلى الزوال ومن فاته من هذه السنن الراتبة شيء في وقتها ففيه قولان أحدهما لا يقضي لانها صلاة نفل فلم تقض كصلاة الكسوف والاستسقاء
والثاني تقضى لقوله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاته أو سها فليصلها إذا ذكرها ولانها صلاة راتبة في وقت فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل كالفرائض بخلاف الكسوف والاستسقاء لانها غير راتبة وإنما تفعل لعارض وقد زال العارض
فصل في الصلوات غير الرواتب وأما غير الراتبة وهي الصلوات التى يتطوع بها الإنسان في الليل والنهار وأفضلها التهجد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الصلوات بعد المفروضة صلاة الليل ولانها تفعل في وقت غفلة الناس وتركهم للطاعات فكان أفضل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء بين أشجار يابسة وآخر الليل أفضل من أوله لقوله عز وجل { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } ولان الصلاة بعد النوم أشق ولان المصلين فيه أقل فكان أفضل
وإن جزأ الليل ثلاثة أجزاء فالثلث الأوسط أفضل لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ولان الطاعات في هذا الوقت أقل فكانت الصلاة فيه أفضل ويكره أن يقوم الليل كله لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتصوم النهار فقلت نعم قال وتقوم الليل قلت نعم قال لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني وأفضل تطوع النهار ما كان في البيت لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل صلاة المرء في بيته
____________________
(1/84)
إلا المكتوبة والسنة أن يسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة
فإن جمع ركعات بتسليمة واحدة جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس يجلس في الركعة الأخيرة ويسلم وأنه أوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام وإن تطوع بركعة واحدة جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل فقال يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة فقال إنما هي تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص
فصل في تحية المسجد ويستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين من قبل أن يجلس فإن دخل وقد حضرت الجماعة لم يصل التحية لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ولانه يحصل به التحية كما يحصل حق الدخول إلى الحرم بحجة الفرض
باب سجود التلاوة سجود التلاوة مشروع للقارىء والمستمع لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بسجدة كبر وسجد وسجدنا معه فإن ترك القارىء سجد المستمع لانه توجه عليهما فلا يتركه أحدهما بترك الآخر وأما من سمع القارىء وهو غير مستمع إليه قال الشافعي رحمه الله لا أؤكد عليه كما أؤكد على المستمع لما روي عن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهما أنهما قالا السجدة على من استمع وعن ابن عباس رضي الله عنهما السجدة لمن جلس لها
وهي سنة غير واجبة لما روي عن زيد بن ثابت قال عرضت سورة النجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسجد منا أحد
فصل في سجدات التلاوة وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة في قوله الجديد سجدة في آخر الأعراف عند قوله { ويسبحونه وله يسجدون } وسجدة في الرعد عند قوله تعالى { بالغدو والآصال } وسجدة في النحل عند قوله تعالى { ويفعلون ما يؤمرون } وسجدة في بني إسرائيل عند قوله تعالى { ويزيدهم خشوعا } وسجدة في مريم عند قوله تعالى { خروا سجدا وبكيا } وسجدتان في الحج إحداهما عند قوله تعالى { إن الله يفعل ما يشاء } والثانية عند قوله تعالى { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } وسجدة في الفرقان عند قوله تعالى { وزادهم نفورا } وسجدة في النمل عند قوله تعالى { رب العرش العظيم } وسجدة في الم تتزيل عند قوله تعالى { وهم لا يستكبرون } وسجدة في حم السجدة عند قوله تعالى { وهم لا يسأمون } وثلاث سجدات في المفصل إحداهما في آخر النجم { فاسجدوا لله واعبدوا }
والثانية في { إذا السماء انشقت } عند قوله عز وجل { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون }
والثالثة في آخر اقرأ { واسجد واقترب } والدليل عليه ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتين وقال في القديم سجود التلاوة إحدى عشرة سجدة فأسقط ثلاث سجدات المفصل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة
فصل في الكلام على سجدة { ص } وأما سجدة { ص } فهي عند قوله عز وجل { وخر راكعا وأناب } وليست من سجدات التلاوة وإنما هي سجدة شكر لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقرأ { ص } فلما مر بالسجود تشزنا للسجود فلما رآنا
____________________
(1/85)
قال إنما هي توبة نبي ولكن قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سجدها نبي الله داود توبة وسجدناها شكرا فإن قرأها في الصلاة فسجد ففيه وجهان أحدهما تبطل صلاته لانها سجدة شكر فتبطل بها الصلاة كالسجود عند تجدد نعمة
والثاني لا تبطل لانها تتعلق بالتلاوة فهي كسائر سجدات التلاوة
فصل في حكم سجود التلاوة وحكم سجود التلاوة حكم صلاة النفل يفتقر إلى الطهارة والستارة واستقبال القبلة لانها صلاة في الحقيقة فإن كان في الصلاة سجد بتكبير ورفع بتكبير ولا يرفع يديه وإن كان السجود في آخر السورة فالمستحب أن يقوم ويقرأ من السورة بعدها شيئا ثم يركع فإن قام ولم يقرأ شيئا وركع جاز وإن قام من السجود إلى الركوع ولم يقم لم يجز لانه لم يبتدىء الركوع من قيام وإن كان في غير الصلاة كبر لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالسجدة كبر وسجد
ويستحب أن يرفع يديه لانها تكبيرة افتتاح فهي كتكبيرة الإحرام ثم يكبر تكبيرة أخرى للسجدة ولا يرفع اليد والمستحب أن يقول في سجوده ما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن سجد وجهي للذى خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته وإن قال اللهم اكتب لي عندك بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود عليه السلام فهو حسن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت هذه الليلة فيما يرى النائم كاني أصلي خلف شجرة وكأني قرأت سجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت لسجودي فسمعتها وهي ساجدة تقول اللهم اكتب لي عندك بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة فإن قال فيه مثل ما يقول في سجود الصلاة جاز وهل يفتقر إلى السلام فيه قولان قال في البويطي لا يسلم كما لا يسلم منه في الصلاة وروى المزني عنه أنه قال يسلم لانها صلاة تفتقر إلى الإحرام فافتقرت إلى السلام كسائر الصلوات وهل يفتقر إلى التشهد المذهب أنه لا يتشهد لانه لا قيام فيه فلم يكن فيه تشهد
ومن أصحابنا من قال يتشهد لانه سجود يفتقر إلى الإحرام والسلام فافتقر إلى التشهد كسجود الصلاة
فصل في السؤال والاستعاذة أثناء القراءة ويستحب لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى ولمن مر بآية عذاب أن يستعيذ منه لما روى حذيفة رضي الله عنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ البقرة فما مر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ ويستحب للمأموم أن يتابع الإمام في سؤال الرحمة والاستعاذة من العذاب لانه دعاء فساوى المأموم الإمام فيه كالتأمين
ويستحب لمن تجددت عنده نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة أن يسجد شكرا لله عز وجل لما روى أبو بكرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الشيء الذى يسر به خر ساجدا شكرا لله تعالى وحكم سجود الشكر في الشروط والصفات حكم سجود التلاوة خارج الصلاة
باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها إذا قطع شرطا من شروطها كالطهارة والستارة وغيرهما بطلت صلاته فإن سبقه الحدث ففيه قولان قال في الجديد تبطل صلاته لانه حدث يبطل الطهارة فأبطل الصلاة كحدث العمد
وقال في القديم لا تبطل صلاته بل ينصرف ويتوضأ
____________________
(1/86)
ويبني على صلاته لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى ما لم يتكلم ولانه حدث حصل بغير اختياره فأشبه سلس البول فإن أخرج على هذا القول بقية الحدث لم تبطل صلاته لان حكم البقية حكم الأول فإذا لم تبطل بالأول لم تبطل بالبقية ولان به حاجة إلى إخراج البقية ليكمل طهارته فإن وقعت عليه نجاسة يابسة فنحاها في الحال لم تبطل صلاته لانها ملاقاة نجاسة هو معذور فيها فلم تقطع الصلاة كسلس البول وإن كشفت الريح الثوب عن العورة ثم رده لم تبطل صلاته لانه معذور فيه فلم يقطع الصلاة كما لو غصب منه الثوب في الصلاة فإن ترك فرضا من فروضها كالركوع والسجود وغيرهما بطلت صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته أعد صلاتك فإنك لم تصل وإن ترك القراءة ناسيا ففيه قولان وقد مضى في القراءة
فصل في الضحك والكلام في الصلاة وإن تكلم في صلاته أو قهقه فيها أو شهق بالبكاء وهو ذاكر للصلاة عالم بالتحريم بطلت صلاته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء وروي الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء فإن فعل ذلك وهو ناس أنه في الصلاة ولم يطل لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق ذو اليدين فقالوا نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم وإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم ولم يطل لم تبطل صلاته لما روي عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فحدقنى القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ما لكم تنظرون إلي فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي هو ما رأيت معلما أحسن تعليما منه والله ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثم قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن وإن سبق لسانه من غير قصد إلى الكلام أو غلبه الضحك ولم يطل لم تبطل صلاته لانه غير مفرط فهو كالناسي والجاهل وإن طال الكلام وهو ناس أو جاهل بالتحريم أو مغلوب ففيه وجهان المنصوص في البويطي أن صلاته تبطل لان كلام الناسي والجاهل والمسبوق كالعمل القليل ثم العمل القليل إذا كثر أبطل الصلاة وكذلك الكلام
ومن أصحابنا من قال لا تبطل كأكل الناسي لا يبطل الصوم قل أو كثر فإن تنحنح أو تنفس أو نفخ أو بكى أو تبسم عامدا أولم يبن منه حرفان لم تبطل صلاته لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سجد جعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية فلما قضى صلاته قال فو الذي نفسي بيده لقد عرضت علي النار حتى إني لأطفئها خشية أن تغشاكم ولان ما لم يتبين منه حرفان ليس بكلام فلا يبطل الصلاة فإن كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه لم تبطل صلاته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على أبى بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي فلم يجبه فخفف الصلاة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما منعك أن تجيبني قال يا رسول الله كنت أصلي قال أفلم تجد فيما أوحي إلي { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } قال بلى يا رسول الله لا أعود فإن رأى المصلي ضريرا يقع في بئر فأنذره بالقول ففيه وجهان قال أبو إسحق المروزي رحمه الله لا تبطل صلاته لانه واجب عليه فهو كإجابة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أصحابنا من قال تبطل صلاته لانه لا يجب عليه لانه قد لا يقع في البئر وليس بشيء
فإن كلمه إنسان وهو في الصلاة وأراد أن يعلمه أنه في الصلاة أو وتصفق إن كانت امرأة فتضرب ظهر كفها الأيمن على بطن كفها الأيسر لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال ولتصفق النساء فإذا فعل ذلك للإعلام لم تبطل صلاته لانه مأمور به فإن صفق الرجل وسبحت المرأة لم تبطل الصلاة لانه ترك سنة فإن أراد الإذن لرجل في الدخول فقال { ادخلوها بسلام آمنين } فإن قصد التلاوة والإعلام سها الإمام
____________________
(1/87)
فأراد أن يعلمه بالسهو استحب له إن كان رجلا أن يسبح لم تبطل صلاته لان قراءة القرآن لا تبطل الصلاة وإن لم يقصد القرآن بطلت صلاته لانه من كلام الآدميين وإن شمت عاطسا بطلت صلاته لحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه ولانه كلام وضع لمخاطبة الآدمي فهو كرد السلام وروى يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال لا تبطل الصلاة لانه دعاء بالرحمة فهو كالدعاء لابويه بالرحمة
فصل فيمن أكل عامدا وإن أكل عامدا بطلت صلاته لانه إذا أبطل الصوم الذي لا يبطل بالأفعال فلان يبطل الصلاة أولى وإن أكل ناسيا لم تبطل كما لا يبطل الصوم
فصل في العمل في الصلاة وإن عمل في الصلاة عملا ليس منها نظرت فإن كان من جنس أفعالها بأن ركع أو سجد في غير موضعها فإن كان عامدا بطلت صلاته لانه متلاعب بالصلاة وإن كان ناسيا لم تبطل لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فسبحوا له وبنى على صلاته وإن قرأ فاتحة الكتاب مرتين عامدا فالمنصوص أنه لا تبطل صلاته لانه تكرار ذكر فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين
ومن أصحابنا من قال تبطل لانه ركن زاده في الصلاة فهو كالركوع والسجود وإن عمل عملا ليس من جنسها فإن كان قليلا مثل أن دفع مارا بين يديه أو ضرب حية أو عقربا أو خلع نعليه أو أصلح رداءه أو حمل شيئا أو سلم عليه رجل فرد عليه بالإشارة وما أشبه ذلك لم تبطل صلاته لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه وأمر بقتل الأسودين الحية والعقرب في الصلاة وخلع نعليه وحمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وسلم عليه الأنصار فرد عليهم بالإشارة في الصلاة ولان المصلي لا يخلو من عمل قليل فلم تبطل صلاته بذلك وإن عمل عملا كثيرا بأن مشي خطوات متتابعات أو ضرب ضربات متواليات بطلت صلاته لان ذلك لا تدعو الحاجة إليه في الغالب وإن مشى خطوتين أو ضرب ضربتين ففيه وجهان أحدهما لا تبطل صلاته لان النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه ووضعهما إلى جانبه وهذان فعلان متواليان
والثاني تبطل لانه عمل متكرر فهو كالثلاث
وإن عمل عملا كثيرا متفرقا لم تبطل صلاته لحديث أمامة ابنة أبي العاص رضي الله عنها فإنه تكرر منه الحمل والوضع ولكنه لما تفرق لم يقطع الصلاة لا فرق في العمل بين السهو والعمد لانه فعل بخلاف الكلام فإنه قول والفعل أقوى من القول ولهذا ينفذ إحبال المجنون لكونه فعلا ولا ينفذ إعتاقه لانه قول
فصل فيما يكره في الصلاة ويكره أن يترك شيئا من سنن الصلاة ويكره أن يلتفت في صلاته من غير حاجة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الله تعالى مقبلا على عبده في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت صرف الله عنه وجهه وإن كان لحاجة لم يكره لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلتفت في صلاته يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره ويكره أن يرفع بصره إلى السماء لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة حتى اشتد قوله في ذلك لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان
____________________
(1/88)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه خميصة ذات أعلام فلما فرغ قال ألهتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي الجهم وأتوني بأنبجانيته ويكره أن يصلي ويده على خاصرته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصرا ويكره أن يكف شعره وثوبه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء ونهى أن يكف شعره وثوبه ويكره أن يمسح الحصا في الصلاة لما روى معيقيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تمسح الحصا وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية الحصا ويكره أن يعد الآي في الصلاة لانه يشتغل عن الخشوع فكان تركه أولى ويكره التثاؤب فيها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرد ما استطاع فإن أحدكم إذا قال هاها ضحك الشيطان منه فإن بدره البصاق فإن كان في المسجد لم يبصق فيه بل يبصق في ثوبه ويحك بعضه ببعض وإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ولا عن يمينه بل يبصق تحت قدمه اليسرى فإن بدره بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مسجدا يوما فرأى في قبلة المسجد نخامة فحتها بعرجون معه ثم قال أيحب أحدكم أن يبصق رجل في وجهه إذا صلى أحدكم فلا يبصق بين يديه ولا عن يمينه فإن الله تعالى تلقاء وجهه والملك عن يمينه وليبصق تحت قدمه اليسرى أو عن يساره فإن أصابته بادرة بصاق فليبصق في ثوبه ثم يقول به هكذا فعلمهم أن يفركوا بعضه ببعض فإن خالف وبصق في المسجد دفنه لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال البصاق في المسجد خطيئة وكفارته دفنه وبالله التوفيق
باب سجود السهو إذا ترك ركعة من الصلاة ساهيا فذكرها وهو فيها لزمه أن يأتي بها فإن شك في تركها بأن شك هل صلى ركعة أو ركعتين أو صلى ثلاثا أو أربعا لزمه أن يأخذ بالأقل ويأتي بما بقي لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإن استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة له والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته والسجدتان ترغمان أنف الشيطان وإن ترك ركعة ناسيا وذكرها بعد التسليم نظرت فإن لم يتطاول الفصل أتى بها وإن تطاول استأنف واختلف أصحابنا في التطاول فقال أبو إسحق هو أن يمضي قدر ركعة وعليه
____________________
(1/89)
نص في البويطي
وقال غيره يرجع فيه إلى العادة فإن كان قد مضى ما يعد تطاولا ستأنف الصلاة وإن مضى ما لا يعد تطاولا بنى لانه ليس له حد في الشرع فرجع فيه إلى العادة وقال أبو علي بن أبي هريرة إن مضى مقدار الصلاة التي نسي فيها استأنف وإن كان دون ذلك بنى لان آخر الصلاة يبنى على أولها وما زاد على ذلك لا يبنى عليه فجعل ذلك حدا وإن شك بعد السلام في تركها لم يلزمه شيء لان الظاهر أنه أداها على التمام فلا يضره الشك الطارىء بعده ولانا لو اعتبرنا حكم الشك الطارىء بعدها شق ذلك وضاق فلم يعتبر
فصل فيمن ترك فرضا ساهيا أو شك في تركه وإن ترك فرضا ساهيا أو شك في تركه وهو في الصلاة لم يعتد بما فعله بعد المتروك حتى يأتي بما تركه ثم يأتى بما بعده لان الترتيب مستحق في أفعال الصلاة فلا يعتد بما فعل حتى يأتي بما تركه فإن ترك سجدة من الركعة الأولى وذكرها وهو قائم في الثانية نظرت فإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى خر ساجدا وقال أبو أسحق يلزمه أن يجلس ثم يسجد ليكون السجود عقيب الجلوس
والمذهب الأول لان المتروك هو السجدة وحدها فلا يعيد ما قبلها كما لو قام من الرابعة إلى الخامسة ساهيا ثم ذكر فإنه يجلس ثم يتشهد ولا يعيد السجود قبله وإن لم يكن قد جلس عقيب السجدة الأولى حتى قام ثم ذكر جلس ثم سجد
ومن أصحابنا من قال يخر ساجدا لان الجلوس يراد للفصل بين السجدتين وقد حصل الفصل بالقيام إلى الثانية والمذهب الأول لان الجلوس فرض مأمور به فلم يجز تركه وإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى وهو يظن أنها جلسة الاستراحة ففيه وجهان قال أبو العباس لا يجزئه بل يلزمه أن يجلس ثم يسجد لان جلسة الاستراحة نفل فلا يجزئه عن الفرض كسجود التلاوة لا يجزئه عن سجدة الفرض
ومن أصحابنا من قال يجزئه كما لو جلس في الرابعة وهو يظن أنه جلس للتشهد الأول
وتعليل أبي العباس يبطل بهذه المسألة
وأما سجود التلاوة فلا يسلم فإن من أصحابنا من قال يجزئه عن الفرض
ومنهم من قال لا يجزئه لانه ليس من الصلاة وإنما هو عارض فيها
وجلسة الاستراحة من الصلاة وإن ذكر ذلك بعد السجود في الثانية تمت له ركعة لان عمله بعد المتروك كلا عمل حتى يأتي بما ترك فإذا سجد في الثانية ضممنا سجدة من الثانية إلى الأولى فتمت له الركعة وإن ترك سجدة من أربع ركعات ونسي موضعها لزمه ركعة لانه يجوز أن يكون قد ترك من الأخيرة فيكفيه سجدة ويحتمل أن يكون قد ترك من غير الأخيرة فتبطل عليه الركعة التي بعدها وفي الصلاة يجب أن يحمل الأمر على الأشد ليسقط الفرض بيقين ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من شك فى عدد الركعات أن يأخذ بالأقل ليسقط الفرض بيقين وإن ترك سجدتين جعل إحداهما من الأولى والأخرى من الثالثة فيتم الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة فيحصل له ركعتان وتلزمه ركعتان وإن ترك ثلاث سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدة ومن الرابعة سجدة وتلزمه ركعتان وإن ترك أربع سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدة فيلزمه سجدة وركعتان وإن ترك خمس سجدات جعل من الأولى سجدة ومن الثالثة سجدتين ومن الرابعة سجدتين فيلزمه سجدتان وركعتان وإن نسي ست سجدات فقد أتى بسجدتين فجعل إحداهما من الأولى والأخرى من الرابعة وتلزمه ثلاث ركعات وإن نسي سبع سجدات حصل له ركعة إلا سجدة وإن نسي ثماني سجدات حصل له من ركعة القيام والركوع ويلزمه أن يأتي بما بقي فإن ذكر ذلك بعد السلام أو شك في تركه بعد السلام فالحكم فيه على ما ذكرناه في الركعة
فصل فيمن نسي سنة وإن نسي سنة نظرت فإن ذكر ذلك وقد تلبس بغيرها مثل أن يترك دعاء الاستفتاح فذكر وهو في التعوذ أو ترك التشهد الأول فذكر وقد انتصب قائما لم يعد إليه والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم من الركعتين ولم يستتم قائما فليجلس وإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتين ففرق بين أن ينتصب وبين ألا ينتصب لانه إذا انتصب حصل في غيره وإذا لم ينتصب لم يحصل في غيره فدل على ما ذكرناه وإن نسي تكبيرات العيد حتى افتتح القراءة ففيه قولان قال في القديم يأتي بها لان محلها القيام والقيام باق
وقال في الجديد لا يأتي بها لانه ذكر مسنون قبل القراءة فسقط بالدخول في القراءة كدعاء الاستفتاح
فصل في مقتضى سجود السهو الذي يقتضي سجود السهو أمران زيادة ونقصان فأما الزيادة فضربان قول وفعل فالقول أن يسلم في غير موضع
____________________
(1/90)
السلام ناسيا أو يتكلم ناسيا فيسجد للسهو والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين وأتم صلاته وسجد سجدتين وإن قرأ في غير موضع القراءة سجد لانه قرأ في غير موضعه فصار كالسلام
وأما الفعل فضربان ضرب لا يبطل عمده الصلاة وضرب يبطل فما لا يبطل عمده الصلاة كالالتفات والخطوة والخطوتين فلا يسجد له لان عمده لا يوثر فسهوه لا يقتضي السجود
وأما ما يبطل عمده فضربان متحقق ومتوهم
فالمتحقق أن يسهو فيزيد في صلاته ركعة أو ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا أو يطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو فيسجد للسهو والدليل عليه ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له صليت خمسا فسجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم
وأما المتوهم فهو أن يشك هل صلى ركعة أو ركعتين فيلزمه أن يصلي ركعة أخرى ثم يسجد للسهو ولحديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرناه في أول الباب فإن قام من الركعتين فرجع إلى القعود قبل أن ينتصب قائما ففيه قولان أحدهما يسجد للسهو لانه زاد في صلاته فعلا تبطل الصلاة بعمده فيسجد كما لو زاد قياما أو ركوعا
والثاني لا يسجد وهو الأصح لانه عمل قليل فهو كالالتفات والخطوة
فصل في الكلام على النقصان في الصلاة وأما النقصان فهو أن يترك سنة مقصودة وذلك شيئان
أحدهما أن يترك التشهد الأول ناسيا فيسجد للسهو لما روى ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين فلما جلس من أربع انتظر الناس تسليمه فسجد قبل أن يسلم
والثاني أن يترك القنوت ساهيا فيسجد للسهو لانه سنة مقصودة في محلها فتعلق السجود بتركها كالتشهد الأول وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول فإن قلنا إنها ليست بسنة فلا يسجد وإن قلنا إنها سنة سجد لانه ذكر مقصود في موضعه فهو كالتشهد الأول فإن ترك التشهد الأول أو القنوت عامدا سجد للسهو
ومن أصحابنا من قال لا يسجد لانه مضاف إلى السهو فلا يفعل مع العمد
والمذهب الأول لانه إذا سجد لتركه ساهيا فلان يسجد لتركه عامدا أولى
وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات والجهر والإسرار والتورك والافتراش وما أشبهها لم يسجد لانه ليس بمقصود في موضعه فلم يتعلق بتركه الجبران
وإن شك هل سها نظرت فإن كان في زيادة هل زاد أم لا لم يسجد لان الأصل أنه لم يزد وإن كان في نقصان هل ترك التشهد أو القنوت أم لا سجد لان الأصل أنه لم يفعل فسجد لتركه
فصل في اجتماع سهوين وإن اجتمع سهوان أو أكثر كفاه للجميع سجدتان لان النبي صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين وكلم ذا اليدين واقتصر على سجدتين ولانه لو لم يتداخل لسجد عقيب السهو فلما أخر إلى آخر الصلاة دل على أنه إنما أخر ليجمع كل سهو في الصلاة وإن سجد للسهو ثم سها فيه ففيه وجهان قال أبو العباس ابن القاص يعيد لان السجود لا يجبر ما بعده
وقال أبو عبد الله الختن لا يعيد لانه لو لم يجبر كل سهو لم يؤخر
فصل الإمام يحمل السهو عن المأموم إذا سها خلف الإمام لم يسجد لان معاوية بن الحكم شمت العاطس في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ولم يأمره بالسجود وإن سها الإمام لزم المأموم حكم السهو لانه لما تحمل عنه الإمام سهوه لزم المأموم أيضا سهوه فإن لم يسجد الإمام لسهوه سجد المأموم
وقال المزني وأبو حفص البابشامي لا يسجد لانه إنما يسجد تبعا للإمام وقد ترك الإمام فلم يسجد المأموم
والمذهب الأول لانه لما سها الإمام دخل النقص على صلاة المأموم لسهوه فإذا لم يجبر الإمام صلاته جبر المأموم صلاته وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة وسها فيما أدركه معه وسجد معه ففيه قولان قال في الأم يعيد لان الأول فعله متابعة لإمامه ولم يكن موضع سجوده وقال في الإملاء والقديم لا يعيد لان الجبران حصل بسجوده فلم يعد وإن سها الإمام فيما أدركه وسجد وسجد معه ثم سها المأموم فيما انفرد فإن قلنا لا يعيد السجود سجد لسهوه وإن لم يسجد الإمام أو سجد وإن قلنا يعيد فالمنصوص أنه تكفيه سجدتان لان السجدتين يجبران كل سهو
ومن أصحابنا من قال يسجد أربع سجدات لان إحداهما من جهة الإمام والأخرى من جهته وإن سها الإمام ثم أدركه المأموم فالمنصوص في صلاة الخوف أنه
____________________
(1/91)
يلزم المأموم حكم سهوه لانه دخل في صلاة ناقصة فنقصت بها صلاته
ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لانه لو سها المأموم فيما انفرد به بعد مفارقة الإمام لم يتحمل عنه الإمام فإذا سها الإمام فيما انفرد به لم يلزم المأموم وإن صلى ركعة منفردا في صلاة رباعية فسها فيها ثم نوى متابعة إمام مسافر فسها الإمام ثم قام إلى رابعته فسها فيها ففيه ثلاثة أوجه أصحها أنه يكفيه سجدتان
والثانى يسجد أربع سجدات لانه سها سهوا في جماعة وسهوا في الانفراد
والثالث يسجد ست سجدات لانه سها في ثلاثة أحوال
فصل في حكم سجود السهو وسجود السهو سنة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري كانت الركعة نافلة له والسجدتان ولانه يفعل لما لا يجب فلا يجب
فصل في محل سجود السهو ومحله قبل السلام لحديث أبي سعيد ولحديث ابن بحينة ولانه يفعل لإصلاح الصلاة فكان قبل التسليم كما لو نسي سجدة من الصلاة
ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر إنه إن كان السهو زيادة كان محله بعد السلام والمشهور هو الأول لان بالزيادة يدخل النقص في الصلاة كما يدخل بالنقصان فإن لم يسجد حتى سلم ولم يتطاول الفصل سجد لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا وسلم ثم سجد وإن تطاول الفصل ففيه قولان أحدهما يسجد لانه جبران فلم يسقط بالتطاول كجبران الحج
وقال في الجديد لا يسجد وهو الأصح لانه يفعل لتكميل الصلاة فلم يفعل بعد تطاول الفصل كما لو نسي سجدة من الصلاة فذكرها بعد التسليم وبعد تطاول الفصل
وكيف يسجد بعد التسليم فيه وجهان قال أبو العباس بن القاص يسجد ثم يتشهد لان السجود في الصلاة بعده تشهد وكذلك هذا
وقال أبو إسحق لا يتشهد وهو الأصح لان الذي ترك هو السجود فلا يعيد معه غيره والنفل والفرض في سجود السهو واحد
ومن أصحابنا من حكى قولان في القديم أنه لا يسجد للسهو في النفل
وهذا لا وجه له لان النفل كالفرض في النقصان فكان كالفرض في الجبران
باب الساعات التى نهى الله عن الصلاة فيها وهي خمس اثنتان نهى عنهما لاجل الفعل وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال حدثني أناس أعجبهم إلي عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس وثلاثة نهى عنها لاجل الوقت وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند الاستواء حتى تزول وعند الاصفرار حتى تغرب والدليل عليه ما روى عقبة بن عامر قال ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن نصلي فيها أو أن نقبر موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيف الشمس للغروب
وهل يكره التنفل لمن صلى ركعتى الفجر فيه وجهان أحدهما يكره لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليبلغ الشاهد منكم الغائب أن تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين
والثاني لا يكره لان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا بعد الصبح حتى تطلع الشمس
فصل في متى تجوز الصلاة في الأوقات المكروهة ولا يكره في هذه الأوقات ما لها سبب كقضاء الفائتة والصلاة المنذورة وسجود التلاوة وصلاة الجنازة وما أشبهها لما روي عن قيس بن قهر قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال هاتان الركعتان
____________________
(1/92)
قلت لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان
ولم ينكر عليه فدل على جوازه
فإن دخل إلى المسجد في هذه الأوقات ليصلي التحية لا لحاجة له غيرها ففيه وجهان أحدهما يصلي لانه وجد سبب الصلاة وهو الدخول
والثانى لا يصلي لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها وهذا يتحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها
فصل في الصلاة يوم الجمعة عند استواء الشمس ولا تكره يوم الجمعة عند الاستواء لمن حضر الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ولانه يشق عليه مع كثرة الخلق أن يخرج لمراعاة الشمس ويغلبه النوم إن قعد فعفى عن الصلاة
وإن لم يحضر الصلاة ففيه وجهان أحدهما يجوز للخبر
والثانى لا يجوز لانه لا مشقة عليه في مراعاة الشمس
فصل في استثناء مكة ولا تكره الصلاة في هذه الأوقات بمكة لما روى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة إلا بمكة ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام ولا خلاف أن الطواف يجوز فكذلك الصلاة
باب صلاة الجماعة اختلف أصحابنا في الجماعة فقال أبو العباس وأبو إسحاق هي فرض على الكفاية يجب إظهارها في الناس فإن امتنعوا من إظهارها قوتلوا عليها وهو المنصوص في الإمامة والدليل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان عليك بالجماعة فإنما يأخذ الذئب من الغنم القاصية ومن أصحابنا من قال هي سنة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة
فصل في عدد الجماعة وأقل الجماعة اثنان إمام ومأموم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الاثنان فما فوقهما جماعة وفعلها للرجال في المسجد أفضل لانهم أكثر جمعا وفي المساجد التى يكثر الناس فيها أفضل لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى فإن كان في جواره مسجد تختل فيه الجماعة ففعلها في مسجد الجوار أفضل من فعلها في المسجد الذي يكثر فيه الناس لانه إذا صلى في مسجد الجوار حصلت الجماعة في موضعين وأما النساء فجماعتهن في البيوت أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن فإن أرادت المرأة حضور المسجد مع الرجال فإن كانت شابة أو كبيرة يشتهى مثلها كره لها الحضور وإن كانت عجوزا لا تشتهى لم يكره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن الخروج إلا عجوزا في منقليها
____________________
(1/93)
فصل في اشتراط نية المأموم للجماعة ولا تصح الجماعة حتى ينوي المأموم الجماعة لانه يريد أن يتبع غيره فلا بد من نية الاتباع
فإن رأى رجلين يصليان على الانفراد فنوى الائتمام بهما لم تصح صلاته لانه لا يمكنه أن يقتدي بهما في وقت واحد وإن نوى الاقتداء بأحدهما بغير عينه لم تصح صلاته لانه إذا لم يعين لم يمكنه الاقتداء به وإن كان أحدهما يصلي بالآخر فنوى الاقتداء بالمأموم منهما لم تصح صلاته لانه تابع لغيره فلا يجوز أن يتبعه غيره فإن صلى رجلان فنوى كل واحد منهما أنه هو الإمام لم تبطل صلاته لان كل واحد منهما يصلي لنفسه وإن نوى كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر لم تصح صلاتهما لان كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام
فصل في أعذار سقوط الجماعة وتسقط الجماعة بالعذر وهو أشياء فمنها المطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة نادى مناديه أن صلوا في رحالكم
ومنها أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه أو يدافع الأخبثين لما روت عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين ومنها أن يخاف ضررا في نفسه أو ماله أو مرضا يشق معه القصد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قالوا يا رسول الله وما العذر قال خوف أو مرض
ومنها أن يكون قيما بمريض يخاف ضياعه لان حفظ الآدمي أفضل من حفظ الجماعة
ومنها أن يكون له قريب مريض يخاف موته لانه يتألم عليه بذلك أكثر مما يتألم بذهاب المال
فصل في استحباب المشى للجماعة ويستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها وعليه السكينة والوقار وقال أبو إسحق إن خاف فوت التكبيرة الأولى أسرع لما روي أن عبد الله بن مسعود اشتد إلى الصلاة وقال بادروا حد الصلاة
يعنى التكبيرة الأولى والأول أصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وإن حضر والإمام لم يحضر فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن ينفذ إليه ليحضر لان في تفويت الجماعة افتياتا عليه وإفسادا للقلوب وإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظر لان النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر رضي الله عنه وحضر النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الصلاة فلم ينكر عليهم وإن دخل في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة وإن خشي فوات الجماعة قطع النافلة لان الجماعة أفضل وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة فإن نوى الدخول في الجماعة من غير أن يقطع صلاته ففيه قولان قال في الإملاء لا يجوز وتبطل صلاته لان تحريمته سبقت تحريمة الإمام فلم يجز كما لو حضر معه في أول الصلاة فكبر قبله
وقال في القديم والجديد يجوز وهو الأصح لانه لما جاز أن يصلى بعض صلاته منفردا ثم يصير إماما بأن يجىء من يأتم به جاز أن يصلي بعض صلاته منفردا ثم يصير مأموما
ومن أصحابنا من قال إن كان قد ركع في حال الانفراد لم يجز قولا واحدا لانه يغير ترتيب صلاته بالمتابعة والصحيح أنه لا فرق لان الشافعي رحمه الله لم يفرق ويجوز أن يغير ترتيب صلاته بالمتابعة كالمسبوق بركعة وإن حضر وقد أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بنافلة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقيمت الصلاة فلا
____________________
(1/94)
صلاة إلا المكتوبة فإن أدركه في القيام وخشي أن تفوته القراءة ترك دعاء الاستفتاح واشتغل بالقراءة لانها فرض فلا يشتغل عنها بالنفل
فإن قرأ بعض الفاتحة فركع الإمام ففيه وجهان أحدهما يركع ويترك القراءة لان متابعة الإمام آكد ولهذا لو أدركه راكعا سقط عنه فرض القراءة
والثانى يلزمه أن يتم القراءة لانه لزمه بعض القراءة فلزمه إتمامها
وإن أدركه وهو راكع كبر للإحرام وهو قائم ثم كبر للركوع ويركع
فإن كبر تكبيرة واحدة نوى بها الإحرام وتكبيرة الركوع لم تجزئه عن الفرض لانه أشرك في النية بين الفرض والنفل وهل تنعقد له صلاة نفل فيه وجهان أحدهما تنعقد كما لو أخرج خمسة دراهم ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع
والثاني لا تنعقد لانه أشرك في النية بين تكبيرة هي شرط وتكبيرة ليست بشرط
وإن أدرك معه مقدار الركوع الجائز فقد أدرك الركعة وإن لم يدرك ذلك لم يدرك الركعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة فليضف إليها أخرى ومن لم يدرك الركوع فليصل الظهر أربعا وإن كان الإمام قد ركع ونسي تسبيح الركوع فرجع إلى الركوع ليسبح فأدركه في هذا الركوع فقد قال أبو علي الطبري يحتمل أن يكون مدركا كما لو قام إلى الخامسة فأدركه المأموم فيها والمنصوص في الأم أنه لا يكون مدركا لان ذلك غير محتسب للإمام ويخالف الخامسة لان هناك قد أتى بها المأموم وههنا لم يأت بما فاته مع الإمام
وإن أدركه ساجدا كبر للإحرام ثم سجد من غير تكبير
ومن أصحابنا من قال يكبر كما يكبر للركوع
والمذهب الأول لانه لم يدرك محل التكبير في السجود ويخالف إذا أدركه راكعا فإن هذا موضع ركوعه ألا ترى أنه يجزئه عن فرضه فصار كالمنفرد وإن أدركه في آخر الصلاة كبر للإحرام وقعد وحصل له فضيلة الجماعة فإن أدرك معه الركعة الأخيرة كان ذلك أول صلاته لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال ما أدركت فهو أول صلاتك وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال يكبر فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته فإن كان ذلك في صلاة فيها قنوت فقنت مع الإمام أعاد القنوت في آخر صلاته لان ما فعله مع الإمام فعله للمتابعة فإذا بلغ إلى موضعه أعاد كما لو تشهد مع الإمام ثم قام إلى ما بقي فإنه يعيد التشهد
وإن حضر وقد فرغ الإمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كره أن يستأنف فيه جماعة لانه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد وإن كان المسجد في سوق أو ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لانه لا يحمل الأمر فيه على الكياد وإن حضر ولم يجد إلا من صلى استحب لبعض من حضر أن يصلي معه ليحصل له الجماعة والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يتصدق على هذا فقام رجل فصلى معه
فصل فيمن صلى منفردا ثم أدرك الجماعة ومن صلى منفردا ثم أدرك جماعة يصلون استحب له أن يصلي معهم وحكى أبو إسحاق عن بععض أصحابنا أنه قال إن كان صبحا أو عصرا لم يستحب لانه منهي عن الصلاة في ذلك الوقت
والمذهب الأول لما روى يزيد بن الأسود العامري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغداة في مسجد الخيف فرأى في آخر القوم رجلين لم يصليا معه فقال ما منعكما أن تصليا معنا قالا يا رسول الله قد صلينا في رحالنا فقال لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة فإن صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أخرى ففيه وجهان أحدهما يعيد للخبر
والثانى لا يعيد لانه قد حاز فضيلة الجماعة
وإذا صلى وأعاد مع الجماعة فالفرض هو الأول في قوله الجديد للخبر ولانه أسقط الفرض بالأولى فوجب أن تكون الثانية نفلا
وقال في القديم يحتسب الله له بأيتهما شاء وليس بشيء
فصل في تسوية الصفوف ويستحب للإمام أن يأمر من خلفه بتسوية الصفوف لما روى أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتدلوا في صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري قال أنس فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه والمستحب أن يخفف في القراءة والأذكار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء فإن صلى بقوم يعلم
____________________
(1/95)
أنهم يؤثرون التطويل لم يكره التطويل لان المنع لاجلهم وقد رضوا وإن أحس بداخل وهو راكع ففيه قولان أحدهما يكره أن ينتظر لان فيه تشريكا بين الله عز وجل وبين الخلق في العبادة وقد قال تعالى { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }
والثاني يستحب أن ينتظر وهو الأصح لما روى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر ما دام يسمع وقع النعل
لانه انتظار ليدرك به الغير ركعة فلم يكره كالانتظار في صلاة الخوف
وتعليل الأول يبطل بإعادة الصلاة لمن فاتته الجماعة ويرفع الصوت بالتكبير ليسمع من وراءه فإن فيه تشريكا
ثم يستحب وإن أحس به وهو قائم لم ينتظره لان الإدراك يحصل له بالركوع فإن أدركه وهو يتشهد ففيه وجهان احدهما أنه لا يستحب لما فيه من التشريك
والثاني يستحب لانه يدرك به الجماعة
فصل في متابعة المأموم إمامه وينبغى للمأموم أن يتبع الإمام ولا يتقدمه في شيء من الأفعال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ولا تختلفوا عليه فإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا ولا ترفعوا قبله
فإن كبر قبله أو كبر معه للإحرام لم تنعقد صلاته لانه علق صلاته بصلاته قبل أن تنعقد فلم تصح وإن سبقه بركن بأن ركع قبله أو سجد قبله لم يجز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار
ويلزمه أن يعود إلى متابعته لان ذلك فرض فإن لم يفعل حتى لحقه فيه لم تبطل صلاته لان ذلك مفارقة قليلة
وإن ركع قبل الإمام فلما أراد الإمام أن يركع رفع فلما أراد الإمام أن يرفع سجد فإن كان عالما بتحريمه بطلت صلاته لان ذلك مفارقة كثيرة وإن كان جاهلا بذلك لم تبطل صلاته ولا يعتد له بهذه الركعة لانه لم يتابع الإمام في معظمها وإن ركع قبله فلما ركع الإمام رفع ووقف حتى رفع الإمام واجتمع معه في القيام لم تبطل صلاته لانه تقدم بركن واحد وذلك قدر يسير وإن سجد الإمام سجدتين وهو قائم ففيه وجهان أحدهما تبطل صلاته لانه تأخر عنه بسجدتين وجلسة بينهما
وقال أبو إسحق لا تبطل لانه تأخر بركن واحد وهو السجود وإن سها الإمام في صلاته فإن كان في قراءة فتح عليه المأموم لما روى أنس رضي الله عنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضا في الصلاة وإن كان في ذكر غيره جهر به المأموم ليسمعه الإمام فيقوله وإن سها الإمام في فعل سبح له ليعلمه فإن لم يقع للإمام أنه سها لم يعمل بقول المأموم لان من شك في فعل نفسه لم يرجع فيه إلى قول غيره كالحاكم إذا نسي حكما حكم به فشهد شاهدان عليه أنه حكم به وهو لا يذكره وأما المأموم فإنه ينظر فيه فإن كان سهو الإمام في ترك فرض مثل أن يقعد وفرضه أن يقوم أو يقوم وفرضه أن يقعد لم يتابعه لانه إنما تلزمه متابعته في أفعال الصلاة وما يأتي به ليس من أفعال الصلاة وإن كان سهوه في ترك سنة لزمه متابعته لان المتابعة فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بسنة فإن نسي الإمام التسليمة الثانية أو سجود السهو لم يتركه المأموم لانه يأتى به وقد سقط عنه المتابعة فإن نسيا جميعا التشهد الأول ونهضا للقيام وذكر الإمام قبل أن يستتم القيام والمأموم قد استتم القيام ففيه وجهان
أحدهما لا يرجع لانه قد حصل في فرض
والثاني يرجع وهو الأصح لان متابعة الإمام آكد ألا ترى أنه إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام لزمه العود إلى متابعته وإن كان قد حصل في فرض
فصل في استخلاف الإمام وإن أحدث الإمام واستخلف ففيه قولان قال في القديم لا يجوز لان المستخلف كان لا يجهر ولا يقرأ السورة ولا يسجد للسهو فصار يجهر ويقرأ السورة ويسجد للسهو وذلك لا يجوز في صلاة واحدة
وقال في الأم يجوز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه قال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت يا رسول الله إنه رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر عمر فليصل بالناس فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فمر عليا فليصل بالناس قال إنكن لأنتن صويحبات يوسف
____________________
(1/96)
مروا أبا بكر فليصل بالناس فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج فلما رآه أبو بكر ذهب ليستأخر فأومأ إليه بيده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير
فإن استخلف من لم يكن معه في الصلاة فإن كان في الركعة الأولى أو الثالثة جاز على قوله في الأم وإن كان في الركعة الثانية أو الرابعة لم يجز لانه لا يوافق ترتيب الأول فيشوش وإن سلم الإمام وبقي على بعض المأمومين بعض الصلاة فقدموا من يتم بهم ففيه وجهان أحدهما يجوز كما يجوز في الصلاة
والثاني لا يجوز لان الجماعة الأولى قد تمت فلا حاجة إلى الاستخلاف
فصل فيمن فارق الإمام وإن نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم لنفسه فإن كان لعذر لم تبطل صلاته لان معاذا رضي الله عنه أطال القراءة فانفرد عنه أعرابي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه وإن كان لغير عذر ففيه قولان أحدهما تبطل لانهما صلاتان مختلفتان في الحكم فلا يجوز أن ينتقل من أحداهما إلى الأخرى من غير عذر كالظهر والعصر
والثاني يجوز وهو الأصح لان الجماعة فضيلة فكان له تركها كما لو صلى بعض صلاة النفل قائما ثم قعد
باب صفة الأئمة إذا بلغ الصبي حدا يعقل وهو من أهل الصلاة صحت إمامته لما روي عن عمرو بن سلمة قال أممت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ابن سبع سنين وفي الجمعة قولان قال في الأم لا يجوز إمامته لان صلاته نافلة
وقال في الإملاء يجوز لانه يجوز أن يكون إماما في غير الجمعة فجاز أن يكون إماما في الجمعة كالبالغ ولا تصح إمامة الكافر لانه ليس من أهل الصلاة فلا يجوز أن يعلق صلاته على صلاته فإن تقدم وصلى بقوم لم يكن ذلك إسلاما منه لانها من فروع الإيمان فلا يصير بفعلها مسلما كما لو صام رمضان أو زكى المال وأما من صلى خلفه فإنه إن علم بحاله لم تصح صلاته لانه علق صلاته بصلاة باطلة وإن لم يعلم ثم علم نظرت فإن كان كافرا متظاهرا بكفره لزمته الإعادة لانه مفرط في صلاته خلفه لان على كفره أمارة من الغيار وإن كان مستترا ففيه وجهان أحدهما لا تصح صلاته لانه ليس من أهل الصلاة فلا تصح الصلاة خلفه كما لو كان متظاهرا بكفره
والثاني تصح لانه غير مفرط في الائتمام به
وتجوز الصلاة خلف الفاسق لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله ولان ابن عمر رضي الله عنه صلى خلف الحجاج مع فسقه ولا يجوز للرجل أن يصلي خلف المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تؤم امرأة رجلا فإن صلى خلفها ولم يعلم ثم علم لزمه الإعادة لان عليها أمارة تدل على أنها امرأة فلم يعذر في صلاته خلفها
ولا تجوز صلاة الرجل خلف الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة ولا صلاة الخنثى خلف الخنثى لجواز أن يكون المأموم رجلا والإمام امرأة
فصل في الصلاة خلف المحدث ولا تجوز خلف المحدث لانه ليس من أهل الصلاة فإن صلى خلفه غير الجمعة ولم يعلم ثم علم فإن كان ذلك في أثناء الصلاة نوى مفارقته وأتم وإن كان بعد الفراغ لم تلزمه الإعادة لانه ليس على حدثه أمارة فعذر في صلاته خلفه فإن كان في الجمعة فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم إن تم العدد به لم تصح الجمعة لانه فقد شرط الجمعة وإن تم العدد دونه صحت لان العدد وجد وحدثه لا يمنع صحة الجمعة كما لا يمنع في سائر الصلوات ويجوز للمتوضىء أن يصلي خلف المتيمم لانه أتى عن طهارته ببدل فهو كغاسل الرجل إذا صلى خلف الماسح على الخف وفي صلاة الطاهرة خلف المستحاضة وجهان أحدهما يجوز كالمتوضىء خلف المتيمم
والثاني لا يجوز لانها لم
____________________
(1/97)
تأت بطهارة عن النجس ولانها تقوم مقامها فهو كالمتوضىء خلف المحدث
ويجوز للقائم أن يصلي خلف القاعد لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالسا والناس خلفه قيام ويجوز للراكع والساجد أن يصلي خلف المومىء إلى الركوع والسجود لانه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام
وفي صلاة القارىء خلف الأمي وهو من لا يحسن الفاتحة أو خلف الأرت والألثغ قولان أحدهما يجوز لانه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام
والثاني لا يجوز لانه يحتاج أن يتحمل قراءته وهو يعجز عن ذلك فلا يجوز أن ينتصب للتحمل كالإمام الأعظم إذا عجز عن تحمل أعباء الأمة
ويجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل والمفترض بالمفترض في صلاة أخرى لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة ثم يأتي قومه في بني سلمة يصلي بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء ولان الاقتداء يقع بالأفعال الظاهرة وذلك يمكن مع اختلاف النية
فأما إذا صلى صلاة الكسوف خلف من يصلي الصبح أو الصبح خلف من يصلي الكسوف لم يجز لانه لا يمكن الائتمام مع اختلاف الأفعال
ولا يجوز أن يصلي الجمعة خلف من يصلي الظهر لان الإمام شرط في الجمعة والإمام ليس معهم في الجمعة فيصير كالجمعة بغير إمام
ومن أصحابنا من قال تجوز كما يجوز أن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر
وفي فعلها خلف المتنفل قولان أحدهما يجوز لانهما متفقتان في الأفعال الظاهرة
والثاني لا يجوز لان من شرط الجمعة الإمام والإمام ليس معهم في الجمعة
ويكره أن يصلي الرجل بقوم وأكثرهم له كارهون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يرفع الله صلاتهم فوق رؤوسهم فذكر فيهم رجلا أم قوما وهم له كارهون فإن كان الذي يكرهه الأقل لم يكره أن يؤمهم لان أحدا لا يخلو ممن يكرهه
ويكره أن يصلي الرجل بامرأة أجنبية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان
ويكره أن يصلي خلف التمتام والفأفاء لما يزيدان في الحروف فإن صلى خلفهما صحت صلاته لانها زيادة هو مغلوب عليها
فصل فيمن يقدم للإمامة والسنة أن يؤم القوم أقرؤهم وأفقههم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى وأكثرهم قراءة فإن كانت قراءتهم سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا وكان أكثر الصحابة قراءة أكثرهم فقها لانهم كانوا يقرؤون الآية ويتعلمون أحكامها ولان الصلاة تفتقر صحتها إلى القراءة والفقه فقدم أهلهما على غيرهما فإن زاد أحدهما في القراءة والفقه قدم على الآخر وإن زاد أحدهما في الفقه وزاد الآخر في القراءة فالأفقه أولى لانه ربما حدثت في الصلاة حادثة تحتاج إلى الاجتهاد
فإن استويا في الفقه والقراءة ففيه قولان قال في القديم يقدم الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن وهو الأصح لانه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود البدري ولا خلاف أن الشرف مقدم على الهجرة فإذا قدمت الهجرة على السن فلان يقدم على الشرف أولى
وقال في الجديد يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/98)
قال صلوا كما رأيتموني أصلي وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ولان الأكبر أخشع في الصلاة فكان أولى والسن الذي يستحق به التقديم السن في الإسلام فأما إذا شاخ في الكفر ثم أسلم لم يقدم على شاب نشأ في الإسلام والشرف الذي يستحق به التقديم أن يكون من قريش والهجرة أن يكون ممن هاجر من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أولادهم فإن استويا في ذلك فقد قال بعض المتقدمين يقدم أحسنهم
فمن أصحابنا من قال أحسنهم صورة
ومنهم من قال أراد أحسنهم ذكرا
فصل في تقديم صاحب البيت فإن اجتمع هؤلاء مع صاحب البيت فصاحب البيت أولى منهم لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤم الرجل في أهله ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه فإن حضر مالك الدار والمستأجر فالمستأجر أولى لانه أحق بالتصرف في المنافع وإن حضر مالك العبد والعبد في دار جعلها السيد لسكنى العبد فالسيد أولى لانه هو المالك في الحقيقة دون العبد وإن اجتمع غير السيد مع العبد في الدار فالعبد أولى لانه أحق بالتصرف فإن اجتمع هؤلاء مع إمام المسجد فإمام المسجد أولى لما روي أن ابن عمر كان له مولى يصلي في مسجد فحضر فقدمه مولاه فقال له ابن عمر رضي الله عنه أنت أحق بالإمامة في مسجدك وإن اجتمع إمام المسلمين مع صاحب البيت أو مع إمام المسجد فالإمام أولى لان ولايته عامة ولانه راع وهم رعيته فكان تقديم الراعي أولى وإن اجتمع مسافر ومقيم فالمقيم أولى لانه إذا تقدم المقيم أتموا كلهم فلا يختلفون وإذا تقدم المسافر اختلفوا في الصلاة وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى لانه موضع كمال والحر أكمل وإن اجتمع عدل وفاسق فالعدل أولى لانه أفضل وإن اجتمع ولد الزنا مع غيره فغيره أولى لانه كرهه عمر بن عبد العزيز ومجاهد فكان غيره أولى منه
وإن اجتمع بصير وأعمى فالمنصوص في الإمامة أنهما سواء لان في الأعمى فضيلة وهو أنه لا يرى ما يلهيه وفي البصير فضيلة وهو أن يتجنب النجاسة قال أبو إسحق المروزي الأعمى أولى وعندي أن البصير أولى لانه يتجنب النجاسة التي تفسد الصلاة والأعمى يترك النظر إلى ما يلهيه وذلك لا يفسد الصلاة
باب موقف الإمام والمأموم السنة أن يقف الرجل الواحد عن يمين الإمام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقمت عن يساره فجعلنى عن يمينه فإن وقف على يساره رجع إلى يمينه فإن لم يحسن علمه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن عباس رضي الله عنه فإن جاء آخر أحرم عن يساره ثم يتقدم الإمام أو يتأخر المأموم لما روى جابر رضي الله عنه قال قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدى وأدارني حتى أقامني عن يمينه وجاء جبار بن صخر حتى قام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا بيديه جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه لانه قبل أن يحرم الثانى لم يتغير موقف الأول فلا يزال عن موضعه فإن حضر رجلان اصطفا خلفه لحديث جابر وإن حضر رجل وصبي اصطفا خلفه لما روى أنس رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين
فإن حضر رجال وصبيان تقدم الرجال لقوله صلى الله عليه وسلم ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وإن كانت معهم امرأة وقفت خلفهم لحديث أنس رضي الله عنه فإن كان معهم خنثى وقف خلف الرجل والمرأة خلف الخنثى لانه يجوز أن يكون امرأة فلا تقف مع الرجال
والسنة ألا يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم لما روي أن حذيفة رضي الله عنه صلى على دكان والناس أسفل منه فجذبه سلمان رضي الله
____________________
(1/99)
عنه حتى أنزله فلما انصرف قال له أما علمت أن أصحابك يكرهون أن يصلي الإمام على شيء وهم أسفل منه قال حذيفة بلى قد ذكرت حين جذبتني وكذلك لا يكون موضع المأموم أعلى من موضع الإمام لانه إذا كره أن يعلو الإمام فلان يكره أن يعلو المأموم أولى فإن أراد الإمام تعليم المأمومين أفعال الصلاة فالسنة أن يقف الإمام على موضع عال لما روى سهل بن سعد الساعدي قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والناس وراءه فجعل يصلي عليه ويركع ثم يرفع ثم يرجع القهقرى ويسجد على الأرض ثم يرفع فيرقى عليه فقال أيها الناس إنما صنعت هكذا كيما تروني فتأتموا بي ولان الارتفاع في هذه الحالة أبلغ في الإعلام فكان أولى
فصل في كيف تؤم المرأة النساء والسنة أن تقف إمامة النساء وسطهن لما روي أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أمتا نساء فقامتا وسطهن وكذلك إذا اجتمع الرجال وهم عراة فالسنة أن يقف الإمام وسطهم لانه أستر
فصل في الحكم إذا خالفوا موقفهم فإن خالفوا فيما ذكرناه فوقف الرجل عن يسار الإمام أو خلفه وحده أو وقفت المرأة مع الرجل أو أمامه لم تبطل الصلاة لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه وقف على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فلم تبطل صلاته وأحرم أبو بكر خلف الصف ركع ثم مشى إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد ولان هذه المواضع كلها موافق لبعض المأمومين فلا تبطل الصلاة بالانتقال إليها وإن تقدم المأموم على الإمام ففيه قولان قال في القديم لا تبطل الصلاة كما لو وقف خلف الإمام وحده
وقال في الجديد تبطل لانه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال فأشبه إذا وقف في موضع نجس
فصل في فضل الصف الأول والمستحب أن يتقدم الناس في الصف الأول لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول والمستحب أن يعتمد يمين الإمام لما روى البراء قال كان يعجبنا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه كان يبدأ بمن عن يمينه ويسلم عليه
فإن وجد في الصف الأول فرجة فالمستحب أن يسدها لما روى أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتموا الصف الأول فإن كان نقص ففي المؤخر فإن تباعدت الصفوف أو تباعد الصف الأول عن الإمام نظرت فإن كان لا حائل بينهما وكانت الصلاة في المسجد وهو عالم بصلاة الإمام صحت الصلاة لان كل موضع من المسجد موضع الجماعة وإن كان في غير المسجد فإن كان بينه وبين الإمام أو بينه وبين آخر صف مع الإمام مسافة بعيدة لم تصح صلاته فإن كانت مسافة قريبة صحت صلاته وقدر الشافعي رحمه الله القريب بثلثمائة ذراع والبعيد ما زاد على ذلك لان ذلك قريب في العادة وما زاد بعيد وهل هو تقريب أو تحديد فيه وجهان أحدهما أنه تحديد فلو زاد على ذلك ذراع لم يجزه
والثاني أنه تقريب فإن زاد على ذلك ثلاثة أذرع جاز
وإن كان بينهما حائل نظرت فإن كانت الصلاة في المسجد بأن كان أحدهما في المسجد والآخر على سطحه أو في بيت منه لم يضر وإن كان في غير المسجد نظرت فإن كان الحائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم تصح صلاته لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن نسوة كن يصلين في حجرتها بصلاة الإمام فقالت لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب
وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة كالشباك ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لان بينهما حائلا يمنع الاستطراق فأشبه الحائط
والثاني يجوز لانه يشاهدهم فهو كما لو كان معهم
وإن كان بين الإمام والمأموم نهر ففيه وجهان قال أبو سعيد الاصطخري لا يجوز لان الماء يمنع الاستطراق فهو كالحائط
والمذهب أنه يجوز لان الماء لم يخلق للحائل وإنما خلق للمنفعة فلا يمنع الائتمام كالنار
____________________
(1/100)
باب صلاة المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب
وكيف يقعد فيه قولان أحدهما يقعد متربعا لانه بدل عن القيام والقيام يخالف قعود الصلاة فيجب أن يكون بدله مخالفا له
والثاني يقعد مفترشا لان التربع قعود العادة والافتراش جلوس قعود العبادة فكان الافتراش أولى
فإن لم يمكنه أن يركع أو يسجد أومأ إليهما وقرب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته فإن سجد على مخدة أجزأه لان أم سلمة رضي الله عنها سجدت على مخدة لرمد بها
قال في الأم إن قدر أن يصلي منفردا قائما ويخفف القراءة وإذا صلى مع الجماعة صلى بعضها من قعود فالأفضل أن يصلي منفردا لان القيام فرض والجماعة نفل فكان الانفراد أولى وإن صلى مع الإمام وقعد في بعضها صحت صلاته فإن كان في ظهره علة لا تمنع من القيام وتمنعه من الركوع والسجود لزمه القيام ويركع ويسجد على قدر طاقته فإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته فإن أراد أن يتكىء على عصا كان له ذلك وإن تقوس ظهره حتى صار كأنه راكع رفع رأسه في موضع القيام على قدر طاقته ويحني ظهره في الركوع على قدر طاقته وإن كان بعينيه وجع وهو قادر على القيام فقيل له إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك ففيه وجهان أحدهما لا يجوز له ترك القيام لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه لما وقع في عينيه الماء حمل إليه عبد الملك الأطباء على البرد فقيل له إنك تمكث سبعة أيام لا تصلي إلا مستلقيا فسأل عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فنهتاه
والثاني يجزيه لانه يخاف الضرر من القيام فأشبه المريض
فصل في صلاة العاجز عن القيام والقعود وإن عجز عن القيام والقعود صلى على جنبه ويستقبل القبلة بوجهه
ومن أصحابنا من قال يستلقي على ظهره ويستقبل القبلة برجليه
والمنصوص في البويطي هو الأول والدليل عليه ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يصلي المريض قائما فإن لم يستطع صلى جالسا فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة فإن لم يستطع صلى مستلقيا على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه ولانه إذا اضطجع على جنبه استقبل القبلة بجميع بدنه وإذا استلقى لم يستقبل القبلة إلا برجليه ويومىء إلى الركوع والسجود فإن عجز عن ذلك أومأ بطرفه لحديث علي رضي الله عنه
فصل فيمن افتتح قائما ثم عجز وإن افتتح الصلاة قائما ثم عجز قعد وأتم صلاته وإن افتتحها قاعدا ثم قدر على القيام قام وأتم صلاته لانه يجوز أن يؤدي جميع صلاته قاعدا عند العجز وجميعها قائما عند القدرة فجاز أن يؤدي بعضها قاعدا عند العجز وبعضها قائما عند القدرة
وإن افتتح الصلاة قاعدا ثم عجز اضطجع وإن افتتحها مضطجعا ثم قدر على القيام أو القعود قام أو قعد والتعليل ما ذكرناه
باب صلاة المسافر يجوز القصر في السفر لقوله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }
قال ثعلبة بن أمية قلت لعمر رضي الله عنه قال الله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس قال عمر رضي الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ولا يجوز القصر إلا في الظهر والعصر والعشاء لاجماع الأمة ويجوز ذلك في سفر الماء كما يجوز للراكب في البر
____________________
(1/101)
فصل في مسافة القصر ولا يجوز ذلك إلا في مسيرة يومين وهو أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ فذلك ستة عشر فرسخا لما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك وسأل عطاء ابن عباس أأقصر إلى عرفات فقال لا فقال إلى منى فقال لا لكن إلى جدة وعسفان والطائف قال مالك رحمه الله بين الطائف ومكة وجدة وعسفان أربعة برد ولان في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال وفيما دونه لا تتكرر قال الشافعي رحمه الله وأحب ألا يقصر في أقل من ثلاثة أيام وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يبيح القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام فإن كان للبلد الذي يقصده طريقان يقصر في أحدهما وفي الآخر لا يقصر فسلك الأبعد لغرض يقصد في العادة قصر وإن سلكه ليقصر ففيه قولان قال في الإملاء له أن يقصر لانها مسافة يقصر في مثلها الصلاة فجاز له القصر فيها كما لو لم يكن له طريق سواه
وقال في الأم ليس له أن يقصر لانه طول الطريق للقصر فلا يقصر كما لو مشى في مسافة قريبة طولا وعرضا حتى طال وإن سافر إلى بلد يقصر إليه الصلاة ونوى أنه إن لقي عبده أو صديقه في بعض الطريق رجع لم يقصر لانه لم يقطع على سفر
تقصر فيه الصلاة
وإن نوى السفر إلى بلد ثم منه إلى بلد آخر فهما سفران فلا يقصر حتى يكون كل واحد منهما مما تقصر فيه الصلاة
فصل في متى يفضل القصر على الإتمام إذا كان السفر مسيرة ثلاثة أيام فالقصر أفضل من الإتمام لما روى عمران بن الحصين قال حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين ركعتين وسافرت مع أبي بكر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عمر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عثمان رضي الله عنه فصلى ركعتين ست سنين ثم أتم بمنى فكان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل فإن ترك القصر وأتم جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت يا رسول الله أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال أحسنت يا عائشة ولانه تخفيف أبيح للسفر فجاز تركه كالمسح على الخفين ثلاثا
فصل في سفر المعصية ولا يجوز القصر إلا في سفر ليس بمعصية فأما إذا سافر لمعصية كالسفر لقطع الطريق وقتال المسلمين فلا يجوز القصر ولا الترخص بشيء من رخص المسافر لان الرخص لا يجوز أن تتعلق بالمعاصي ولان في جواز الرخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز
فصل متى يبدأ القصر ولا يجوز القصر إلا أن يفارق موضع الإقامة لقوله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } فعلق القصر على الضرب في الأرض وإن كان من أهل بلد لم يقصر حتى يفارق بنيان البلد فإن اتصل بحيطان البساتين حيطان البلد وفارق بنيان البلد جاز له القصر لان البساتين ليست من البلد وإن كان في قرية وبقربها قرية ففارق قريته جاز له القصر
وقال أبو العباس إن كانت القريتان متقاربتين فهما كالقرية الواحدة فلا يقصر حتى يفارقهما والمذهب الأول لان إحدى القريتين منفردة عن الأخرى فإن كان من أهل الخيام فإن كانت خياما مجتمعة لم يقصر حتى يفارق جميعها وإن كانت
____________________
(1/102)
خياما متفرقة قصر إذا فارق ما يقرب من خيمته
قال في البويطي فإن خرجوا من البلد فأقاموا في موضع حتى يجتمعوا ويخرجوا لم يجز لهم القصر لانهم لم يقطعوا بالسفر وإن قالوا ننتظر يومين أو ثلاثة فإن لم يجتمعوا سرنا جاز لهم القصر لانهم قطعوا بالسفر
فصل فيمن أحرم بالصلاة في الحضر ثم سافر ولا يجوز القصر حتى تكون جميع الصلاة في السفر فأما إذا أحرم بالصلاة في سفينة في البلد ثم سارت السفينة وحصلت في السفر لم يجز له القصر وكذلك إن أحرم بها في سفينة في السفر ثم اتصلت السفينة بموضع الإقامة أو نوى الإقامة لزمه الإتمام لانه اجتمع في صلاته ما يقتضي القصر والإتمام فغلب الإتمام
فصل في اشتراط النية ولا يجوز القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام لان الأصل التمام فإذا لم ينو القصر انعقد إحرامه على التمام فلم يجز له القصر كالمقيم
فصل فيمن ائتم بمقيم ولا يجوز القصر لمن ائتم بمقيم فإن ائتم به في جزء من صلاته لزمه التمام لانه اجتمع ما يقتضي القصر والتمام فغلب التمام كما لو أحرم بها في السفر ثم أقام وإن أراد أن يقصر الظهر خلف من يصلي الجمعة لم يجز لانه مؤتم بمقيم ولان الجمعة صلاة تامة فهو كما لو ائتم بمن يصلي الظهر تامة فإن لم ينو القصر أو نوى الإتمام أو ائتم بمقيم ثم أفسد صلاته لزمه الإتمام لانه فرض لزمه فلا يسقط عنه بالإفساد كحج التطوع وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في الحضر أو نوى القصر أم لا أو هل إمامه مسافر أو مقيم لزمه الإتمام لان الأصل هو التمام والقصر أجيز بشروط فإذا لم تتحقق الشروط رجع إلى الأصل فإن ائتم بمسافر أو بمقيم الظاهر منه أنه مسافر جاز أن ينوي القصر خلفه لان الظاهر أن الإمام مسافر فإن أتم الإمام تبعه في الإتمام لانه بان له أنه ائتم بمقيم أو بمن نوى الإتمام وإن أفسد الإمام صلاته وانصرف ولم يعلم المأموم أنه نوى القصر أو الإتمام لزمه أن يتم على المنصوص وهو قول أبي إسحق لانه شك في عدد الصلاة ومن شك في عدد الصلاة لزمه البناء على اليقين لا على غلبة الظن والدليل عليه أنه إذا شك هل صلى ثلاثا أو أربعا بنى على اليقين وهو الثلاث وإن غلب على ظنه أنه صلى أربعا وحكي عن ابن عباس أنه قال له أن يقصر لانه ائتم بمن الظاهر منه أنه يقصر
فصل في استخلاف الإمام المسافر مقيما قال الشافعي رحمه الله وإن صلى مسافر بمقيمين فرعف واستخلف مقيما أتم الراعف
فمن أصحابنا من قال هذا على القول القديم أن صلاة الراعف لا تبطل فيكون في حكم المؤتم بمقيم
ومن أصحابنا من قال تلزمه على القول الجديد أيضا لان المستخلف فرع للراعف فلا يجوز أن يلزم الفرع ولا يلزم الأصل وليس بشيء
فصل في متى يقيم المسافر وإن نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج صار مقيما وانقطعت عنه رخص السفر لان بالثلاثة لا يصير مقيما لان المهاجرين حرم عليهم الإقامة بمكة ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام فقال يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود من الحجاز ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا
وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب به لانه مسافر فيه فإقامته في بعضه لا تمنعه من كونه مسافرا لانه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم ولان مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم فإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان أحدهما يقصر لما روى أنس رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة
والثاني لا يقصر لانه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلا يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب
وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا تنجزت رحل ولم ينو مدة ففيه قولان أحدهما يقصر سبعة عشر يوما لان الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة
وقد روى ابن عباس رضي الله عنه قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة وبقي فيما زاد على حكم الأصل
والثاني يقصر أبدا لانها إقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر يوما
وخرج أبو إسحق قولا ثالثا أنه يقصر إلى أربعة أيام لان الإقامة أبلغ من نية الإقامة لان الإقامة لا يلحقها الفسخ والنية يلحقها الفسخ ثم ثبت أنه لو نوى إقامة أربعة أيام لم يقصر فلان لا يقصر إذا أقام أولى
فصل في قضاء فائتة السفر إذا فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر ففيه قولان قال في القديم له أن يقصر لانها صلاة سفر فكان قضاؤها
____________________
(1/103)
كأدائها في العدد كما لو فاتته في الحضر فقضاها في السفر
وقال في الجديد لا يجوز له القصر وهو الأصح لانه تخفيف تعلق بعذر فزال بزوال ذلك العذر كالقعود في صلاة المريض وإن فاتته في السفر فقضاها في السفر ففيه قولان أحدهما لا يقصر لانها صلاة ردت من أربع إلى ركعتين فكان من شرطها الوقت كصلاة الجمعة
والثاني له أن يقصر وهو الأصح لانه تخفيف تعلق بعذر والعذر باق فكان التخفيف باقيا كالقعود في صلاة المريض
وإن فاتته في الحضر صلاة فأراد قضاءها في السفر لم يجز له القصر لانه ثبت في ذمته صلاة تامة فلم يجز له القصر كما لو نذر أن يصلي أربع ركعات
وقال المزني له أن يقصر كما لو فاته صوم يوم في الحضر فذكره في السفر فإن له أن يفطر وهذا لا يصح لان الصوم تركه في حال الأداء وقد كان له تركه وههنا تركه في حال الأداء لم يكن له أن يقصر فوزانه من الصوم أن يتركه من غير عذر فلا يجوز له تركه في السفر
فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة وتمكن من فعلها ثم سافر فإن له أن يقصر وقال المزني لا يجوز له أن يقصر ووافقه عليه أبو العباس لان السفر يؤثر في الصلاة كما يؤثر في الحيض ثم لو طرأ الحيض بعد الوجوب والقدرة على فعلها لم يؤثر ذلك فكذلك السفر والمذهب الأول لأن لاعتبار في صفة الصلاة بحال الأداء لا بحال الوجوب والدليل عليه أنه لو دخل عليه وقت الظهر وهو عبد فلم يصل حتى عتق صار فرضه الجمعة وهذا في حال الأداء مسافر فوجب أن يقصر ويفارق الحيض لانه يؤثر في إسقاط الفرض فلو أثر ما طرأ منه بعد القدرة على الأداء أفضى إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب والقدرة والسفر يؤثر في العدد فلا يفضي إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب ولان الحائض تفعل القضاء والقضاء يتعلق بالوجوب والقدرة عليه والمسافر يفعل الأداء وكيفية الأداء تعتبر بحال الأداء والأداء في حال السفر وإن سافر بعد ما ضاق الوقت كان له أن يقصر
وقال أبو الطيب بن سلمة لا يقصر لانه تعينت عليه صلاة حضر فلا يجوز له القصر والمذهب الأول لما ذكرناه مع المزني وأبي العباس وقوله تعينت عليه صلاة حضر يبطل بالعبد إذا عتق في وقت الظهر وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصلاة فإن قلنا إنه مود لجميع الصلاة جاز له القصر وإن قلنا إنه مؤد لما فعل في الوقت قاض لما فعل بعد الوقت لم يجز له القصر
فصل في الجمع بين الصلاتين في السفر يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في السفر الذي تقصر فيه الصلاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر في السفر وفي السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة قولان أحدهما يجوز لانه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة فجاز فيه الجمع كالسفر الطويل
والثاني لا يجوز وهو الأصح لانه إخراج عبادة عن وقتها فلم يجز في السفر القصير كالفطر في الصوم
فصل في وقت الجمع ويجوز الجمع بينهما في وقت الأولى منهما وفي وقت الثانية غير أنه إن كان نازلا في وقت الأولى فالأفضل أن يقدم الثانية وإن كان سائرا فالأفضل أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس وهو في المنزل قدم العصر إلى وقت الظهر وجمع بينهما في الزوال وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر إلى وقت العصر ثم جمع بينهما في وقت العصر ولان هذا أرفق بالمسافر فكان أفضل
وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط أحدها أن ينوي الجمع وقال المزني يجوز الجمع من غير نية الجمع وهذا خطأ لانه جمع فلا يجوز من غير نية كالجمع في وقت الثانية ولان العصر قد يفعل في وقت الظهر على وجه الخطإ فلا بد من نية الجمع ليتميز التقديم المشروع من غيره وفي وقت النية قولان أحدهما يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى لانها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر
والثاني يجوز أن ينوي قبل الفراغ من الأولى وهو الأصح لان النية تقدمت على حال الجمع فأشبه إذا نوى عند الإحرام
والشرط الثاني الترتيب وهو أن يقدم الأولى ثم يصلي الثانية لان الوقت للأولى وإنما يفعل
____________________
(1/104)
الثانية تبعا للأولى فلا بد من تقديم المتبوع
والشرط الثالث التتابع وهو ألا يفرق بينهما والدليل عليه أنهما كالصلاة الواحدة فلا يجوز أن يفرق بينهما كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة فإن فصل بينهما بفصل طويل بطل الجمع وإن فصل بينهما بفصل يسير لم يضر وإن أخر الأولى إلى الثانية لم يصح إلا بالنية لانه قد يؤخر للجمع وقد يؤخر لغيره فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره ويجب أن ينوي في وقت الأولى وأما الترتيب فليس بواجب لان وقت الثانية وقت الأولى فجاز البداية بما شاء منهما وأما التتابع فلا يجب لان الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة فجاز التفريق بينهما
فصل في الجمع بين الصلاتين بعذر المطر ويجوز الجمع بين الصلاتين في المطر في وقت الأولى منهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعا من غير خوف ولا سفر قال مالك رحمه الله أرى ذلك في وقت المطر وهل يجوز أن يجمع بينهما في وقت الثانية فيه قولان قال في الإملاء يجوز لانه عذر يجوز الجمع به في وقت الأولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالسفر
وقال في الأم لا يجوز لانه إذا أخر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر
فصل في اشتراط المطر قبل الجمع فإذا دخل في الظهر من غير مطر ثم جاء المطر لم يجز له الجمع لان سبب الرخصة حدث بعد الدخول فلم يتعلق به كما لو دخل في صلاة ثم سافر فإن أحرم بالأولى مع المطر ثم انقطع في أثنائها ثم عاد قبل أن يسلم ودام حتى أحرم بالثانية جاز الجمع لان العذر موجود في حال الجمع وإن عدم فيما سواها من الأحوال لم يضر لانه ليس بحال الدخول ولا بحال الجمع
فصل في صفة المطر ولا يجوز الجمع إلا في مطر يبل منه الثياب وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يجوز الجمع لاجله لانه لا يتأذى به وأما الثلج فإن كان يبل الثياب فهو كالمطر وإن لم يبل الثياب لم يجز الجمع ( لاجله ) فأما الوحل والريح والظلمة والمرض فلا يجوز الجمع لاجلها فإنها قد كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه جمع لاجلها وإن كان يصلي في بيته أو في مسجد ليس في طريقه إليه مطر ففيه قولان قال في القديم لا يجوز لانه لا مشقة عليه في فعل الصلاة في وقتها
وقال في الإملاء يجوز لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع في المسجد وبيوت أزواجه إلى المسجد وبجنب المسجد
باب صلاة الخوف تجوز صلاة الخوف في قتال الكفار
لقوله عز وجل { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وكذلك يجوز في كل قتال مباح كقتال أهل البغي وقتال قطاع الطريق لانه قتال جائز فهو كقتال الكفار وأما في القتال المحظور كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لاخذ أموالهم فلا يجوز فيه صلاة الخوف لان ذلك رحمة وتخفيف فلا يجوز أن يتعلق بالمعاصي ولان فيه إعانة على المعصية وهذا لا يجوز
فصل في كيف الصلاة في مقابلة العدو وإذا أراد الصلاة لم يخل إما أن يكون العدو في جهة القبلة أو في غيرها فإن كان في غير جهة القبلة ولم يؤمنوا وفي المسلمين كثرة جعل الإمام الناس طائفتين طائفة في وجه العدو وطائفة تصلي معه ويجوز أن يصلي بالطائفة التي معه جميع الصلاة ثم تخرج إلى وجه العدو ثم تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم فيكون متنفلا بالثانية وهم مفترضون والدليل عليه ما روى أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين وبالذين جاءوا ركعتين فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعا ولهؤلاء ركعتين ويجوز أن يصلي بإحدى الطائفتين بعض الصلاة وبالأخرى البعض وهو أفضل من أن يصلي بكل واحدة منهم جميع الصلاة لانه أخف فإن كانت الصلاة ركعتين صلى بالطائفة التي معه ركعة ويثبت قائما وأتمت الطائفة لانفسهم وتنصرف إلى وجه العدو وتجيء الطائفة الأخرى ويصلي معهم الركعة التي بقيت من صلاته ويثبت جالسا وأتمت الطائفة الأخرى ( بأنفسهم ) ثم يسلم بهم والدليل عليه ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف فذكر مثل ما قلنا
____________________
(1/105)
فصل في مفارقة الطائفة الأولى للإمام وتفارق الطائفة الأولى الإمام حكما وفعلا فإن لحقها سهو بعد المفارقة لم يتحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لم يلزمهم سهوه وهل يقرأ الإمام في نتظاره قال في موضع إذا جاءت الطائفة الثانية قرأ وقال في موضع يطيل القراءة حتى تدركه الطائفة الثانية
فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما لا يقرأ حتى تجيء الطائفة الثانية فيقرأ معها لانه قرأ مع الطائفة الأولى قراءة تامة فيجب أن يقرأ مع الثانية أيضا قراءة تامة
والقول الثاني أنه يقرأ وهو الأصح لان أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر والقيام لا يصلح لذكر غير القراءة فوجب أن يقرأ
ومن أصحابنا من قال إن أراد أن يقرأ سورة قصيرة لم يقرأ حتى لا يفوت القراءة على الطائفة الثانية وإن أراد أن يقرأ سورة طويلة قرأ لانه لا يفوت عليهم القراءة وحمل القولين على هذين الحالين
وأما الطائفة الثانية فإنهم يفارقون الإمام فعلا ولا يفارقونه حكما فإن سهوا تحمل عنهم الإمام وإن سها الإمام لزمهم سهوه ومتى يفارقونه قال الشافعي رحمه الله في سجود السهو يفارقونه بعد التشهد لان المسبوق لا يفارق الإمام إلا بعد التشهد وقال في الأم يفارقونه عقيب السجود في الثانية وهو الأصح لان ذلك أخف ويفارق المسبوق لان المسبوق لا يفارق حتى يسلم الإمام وهذا يفارق قبل التسليم فإذا قلنا بهذا فهل يتشهد الإمام في حال الانتظار فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالقراءة ومنهم من قال يتشهد قولا واحدا أو يخالف القراءة فإن في القراءة قد قرأ مع الطائفة الأولى فلم يقرأ حتى تدركه الطائفة الثانية فيقرأ معها والتشهد لم يفعله مع الطائفة الأولى فلا ينتظر
فصل في كون صلاة الخوف مغربا وإن كانت الصلاة مغربا صلى بإحدى الطائفتين ركعة وبالأخرى ركعتين وفي الأفضل قولان قال فى الإملاء الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين لما روي أن عليا رضي الله عنه صلى ليلة الهرير هكذا
وقال في الأم الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة وهو الأصح لان ذلك أخف لانه تتشهد كل طائفة تشهدين وعلى القول الآخر تتشهد الطائفة الثانية ثلاث تشهدات
فإن قلنا بقوله في الإملاء فارقته الطائفة الأولى في القيام في الركعة الثانية لان ذلك موضع قيامها وإذا قلنا بقوله في الأم فارقته بعد التشهد لانه موضع تشهدها وكيف ينتظر الإمام الطائفة الثانية فيه قولان قال في المختصر ينتظرهم جالسا حتى يدركوا معه القيام من أول الركعة لانه إذا انتظرهم قائما فاتهم معه بعض القيام وقال في الأم إن انتظرهم قائما فحسن وإن انتظرهم جالسا فجائز فجعل الانتظار قائما أفضل وهو الأصح لان القيام أفضل من القعود ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم
فصل في كيف الصلاة الرباعية في الخوف وإن كانت الصلاة ظهرا أو عصرا أو عشاء وكان في الحضر صلى بكل طائفة ركعتين وإن جعلهم أربع فرق وصلى بكل طائفة ركعة ففي صلاة الإمام قولان أحدهما أنها تبطل لان الرخصة وردت بانتظارين فلا تجوز الزيادة عليهما
والثاني أنها لا تبطل وهو الأصح لانه قد يحتاج إلى أربع انتظارات بأن يكون المسلمون أربعمائة والعدو ستمائة فيحتاج أن يقف بإزاء العدو ثلثمائة ويصلي بمائة مائة ولان الانتظار الثالث والرابع بالقيام والقراءة والجلوس والذكر وذلك لا يبطل الصلاة فإن قلنا إن صلاة الإمام لا تبطل صحت صلاة الطائفة الأخيرة لانهم لم يفارقوا الإمام والطائفة الأولى والثانية والثالثة فارقوه بغير عذر ومن فارق الإمام بغير عذر ففي بطلان صلاته قولان فإن قلنا إن صلاة الإمام تبطل ففي وقت بطلانها وجهان قال أبو العباس تبطل
____________________
(1/106)
بالانتظار الثالث فتصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة وأما الرابعة فإن علموا ببطلان صلاته بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل
وقال أبو إسحق المنصوص أنه تبطل صلاة الإمام بالانتظار الثاني لان النبي صلى الله عليه وسلم انتظر الطائفة الأولى حتى فرغت ورجعت إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى وانتظر ( الثانية ) بقدر ما أتمت صلاتها وهذا قد زاد على ذلك لانه انتظر الطائفة الأولى حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو ( وانتظر الثانية حتى أتمت صلاتها ومضت إلى وجه العدو ) وجاءت الطائفة الثالثة
وهذا زائد على انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعلى هذا إن علمت الطائفة الثالثة بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل
فصل في إذا كان العدو قبل القبلة وإن كان العدو من ناحية القبلة لا يسترهم عنهم شيء وفي المسلمين كثرة صلى بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فيحرم بالطائفتين ويسجد معه الصف الذي يليه فإذا رفعوا سجد الصف الآخر فإذا سجد في الثانية حرس الصف الذي سجد في الأولى وسجد الصف الآخر فإذا رفعوا سجد الصف الآخر لما روى جابر وابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا
فصل في فيما يدع حمله في الصلاة ولا يحمل في الصلاة سلاحا نجسا ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس
وهل يجب حمل ما سواه قال في الأم يستحب
وقال بعده يجب
قال أبو إسحاق المروزي فيه قولان أحدهما يجب لقوله عز وجل { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } فدل على أن عليهم جناحا إذا وضعوا من غير أذى ولا مرض
والثاني لا يجب لان السلاح إنما يجب حمله للقتال وهو غير مقاتل في حال الصلاة فلم يجب حمله
ومن أصحابنا من قال إن كان السلاح يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين وجب حمله وإن كان يدفع به عن نفسه وعن غيره كالرمح والسنان لم يجب وحمل القولين على هذين الحالين والصحيح ما قال أبو إسحاق
فصل في كيف الصلاة إذا اشتد الخوف وإن اشتد الخوف ولم يتمكن من تفريق الجيش صلوا رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لقوله عز وجل { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } قال ابن عمر مستقبلي القبلة وغير مستقبليها
وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكبا وقائما يومىء إيماء
قال الشافعي رحمه الله ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع أو عمل ما يطول بطلت صلاته
وحكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن أبي العباس رحمهما الله أنه قال إن لم يكن مضطرا إليه بطلت صلاته وإن كان مضطرا إليه لم تبطل كالمشي وحكى عن بعض أصحابنا أنه قال إن اضطر إليه فعل ولكن تلزمه الإعادة كما نقول فيمن لم يجد ماء ولا ترابا إنه يصلي ويعيد فإن استفتح الصلاة راكبا ثم أمن فنزل فإن استدبر القبلة في النزول بطلت صلاته لانه ترك القبلة من غير خوف وإن لم يستدبر
قال الشافعي رحمه الله بنى على صلاته لانه عمل قليل فلم يمنع البناء
وإن استفتحها راجلا فخاف فركب
قال الشافعي ابتدأ الصلاة وقال أبو العباس إن لم يكن مضطرا إليه
ابتدأ لانه عمل كثير لا ضررورة به إليه وإن كان مضطرا لم تبطل لانه مضطر إليه فلم تبطل كالمشي
وقول أبي العباس أقيس والأول أشبه بظاهر النص
فصل في إعادة صلاة الخوف إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا وصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه لم يكن عدوا ففيه قولان أحدهما تجب الإعادة لانه فرض فلم يسقط بالخطإ كما لو ظن أنه أتى بفرض ثم علم أنه لم يأت به
والثاني لا إعادة عليه وهو الأصح لان العلة في جواز الصلاة شدة الخوف والعلة موجودة في حال الصلاة فوجب أن يجزئه كما لو رأى عدوا فظن أنهم على قصده فصلى بالإيماء ثم علم أنهم لم يكونوا على قصده
فأما إذا رأى العدو فخافهم فصلى صلاة شدة الخوف ثم بان أنه كان بينهم حاجز من خندق أو ماء ففيه طريقان من أصحابنا من قال على قولين كالتى قبلها ومنهم من قال تجب الإعادة ههنا قولا واحدا لانه فرط في ترك تأمل المانع فلزمه الإعادة
فأما إذا غشيه سيل أو طلبه سبع جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف فإذا أمن لم تلزمه الإعادة
____________________
(1/107)
قال المزني قياس قول الشافعي رحمه الله أن الإعادة عليه لانه عذر نادر والمذهب الأول لان جنس الخوف معتاد فسقط الفرض بجميعه
باب ما يكره لبسه وما لا يكره يحرم على الرجل استعمال الديباج والحرير في اللبس والجلوس وغيرهما لما روى حذيفة قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال هو لهم في الدنيا ولكم في الآخرة فإن كان بعض الثوب إبريسما وبعضه قطنا فإن كان الإبريسم أكثر لم يحل وإن كان أقل كالخز لحمته صوف وسداه إبريسم حل لما روي عن ابن عباس قال إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير فأما العلم وسدا الثوب فليس به بأس ولان السرف يظهر بالأكثر دون الأقل
وإن كان نصفين ففيه وجهان أحدهما أنه يحرم لانه ليس الغالب الحلال
والثاني أنه يحل وهو الأصح لان التحريم يثبت بغلبة المحرم والمحرم ليس بغالب
إن كان في الثوب قليل من الحرير والديباج كالجبة المكفوفة بالحرير والمجيب بالديباج وما أشبههما لم يحرم ذلك لما روى علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا في موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع
وروي أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج فإن كان له جبة محشوة بالإبريسم لم يحرم لبسها لان السرف فيها غير ظاهر
فصل في توقى لبس الديباج قال في الأم وإن توقى المحارب لبس الديباج كان أحب إلي فإن لبسه فلا بأس والدليل عليه أنه يحصنه ويمنع من وصول السلاح إليه
وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة جاز لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما في لبس الحرير من الحكة
فصل في حرمة الذهب على الرجال فأما الذهب فلا يحل للرجال استعماله لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لاناثها ولا فرق في الذهب بين القليل والكثير لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التختم بالذهب فحرم الخاتم مع قلته ولان السرف في الجميع ظاهر
وإن كان في الثوب ذهب قد صدىء وتغير بحيث لا يبين لم يحرم لبسه لانه ليس فيه سرف ظاهر وإن كان له درع منسوج بالذهب أو بيضة مطلية بالذهب وأراد لبسها في الحرب فإن وجد ما يقوم مقامه لم يجز وإن لم يجد وفاجأته الحرب جاز لانه موضع ضرورة فإن اضطر إلى استعمال الذهب جاز لما روي أن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب
ويحل للنساء لبس الحرير ولبس الحلي من الذهب لحديث علي كرم الله وجهه
فصل فيما يجوز من الجلود ويجوز أن يلبس دابته وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير لانه إن كان مدبوغا فهو طاهر وإن كان غير مدبوغ فالمنع من استعماله للنجاسة ولا تعبد على الدابة والأداة
وأما جلد الكلب والخنزير فلا يجوز استعماله في شيء من ذلك لان الخنزير لا يحل
____________________
(1/108)
الانتفاع به والكلب لا يحل إلا لحاجة وهو الصيد وحفظ الماشية والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ولا حاجة إلى الانتفاع بجلده بعد الدباغ فلم يحل وبالله التوفيق
باب صلاة الجمعة صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر رضي الله عنه
قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا أو جحودا فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره
فصل فيمن لا تجب عليه الجمعة ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون لانه لا تجب عليهما سائر الصلوات فالجمعة أولى ولا تجب على المرأة لما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا على امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض ولانها تختلط بالرجال وذلك لا يجوز ولا تجب على المسافر للخبر ولانه مشغول بالسفر وأسبابه فلو أوجبنا عليه انقطع عنه ولا تجب على العبد للخبر ولانه ينقطع عن خدمة مولاه ولا تجب على المريض للخبر ولانه يشق عليه القصد
وأما الأعمى فإنه إن كان له قائد لزمه وإن لم يكن له قائد لم تلزمه لانه يخاف الضرر مع عدم القائد ولا يخاف مع القائد ولا تجب على المقيم في موضع لا يسمع النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة أو القرية التي تقام فيها الجمعة لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الجمعة على من سمع النداء والاعتبار في سماع النداء أن يقف المؤذن في طرف البلد والأصوات هادئة والريح ساكنة وهو مستمع فإذا سمع لزمه وإن لم يسمع لم تلزمه
ولا تجب على خائف على نفسه أو ماله لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر قالوا يا رسول الله وما العذر قال خوف أو مرض
ولا تجب على من في طريقه إلى المسجد مطر يبل ثيابه لانه يتأذى بالقصد ولا تجب على من له مريض يخاف ضياعه لان حق المسلم آكد من فرض الجمعة
ولا تجب على من له قريب أو صهر أو ذو ود يخاف موته لما روي أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر يسعى إلى الجمعة فترك الجمعة ومضى إليه وذلك لما بينهما من القرابة فإنه ابن عمه ولانه يلحقه بفوات ذلك من الألم أكثر مما يلحقه من مرض أو أخذ مال
فصل فيمن لا جمعة عليه إذا حضر المسجد ومن لا جمعة عليه لا تجب عليه وإن حضر الجامع إلا المريض ومن في طريقه مطر لانه إنما لم تجب عليهما للمشقة وقد زالت بالحضور وإن اتفق يوم عيد ويوم جمعة فحضر أهل السواد فصلوا العيد جاز أن ينصرفوا ويتركوا الجمعة لما روي أن عثمان رضي الله عنه قال في خطبته أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم هذا فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف ولم ينكر عليه أحد ولانهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيأوا بالعيد فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة والجمعة تسقط بالمشقة
ومن أصحابنا من قال تجب عليهم الجمعة لان من لزمته الجمعة في غير يوم العيد وجبت عليه في يوم العيد كأهل البلد والمنصوص في الأم هو الأول
فصل في التخيير بين الظهر والجمعة ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة فإن صلى الجمعة أجزأه عن الظهر لان الجمعة إنما سقطت عنه لعذر فإذا حمل على نفسه وفعل أجزأه كالمريض إذا حمل على نفسه فصلى من قيام
وإذا أراد أن يصلي الظهر جاز لانه فرضه غير أن المستحب ألا يصلي حتى يعلم أن الجمعة قد فاتت لانه ربما زال العذر فيصلى الجمعة
فإن صلى في أول الوقت ثم زال عذره والوقت باق لم تجب عليه الجمعة
وقال أبو بكر بن الحداد المصري إذا صلى الصبي الظهر ثم بلغ والوقت باق لزمه الجمعة
وإن صلى غيره من المعذورين
____________________
(1/109)
لم تلزمه الجمعة لان ما صلى الصبي ليس بفرض وما صلى غيره فرض
والمذهب الأول لان الشافعي نص على أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الظهر ثم بلغ والوقت باق لم تجب عليه إعادة الظهر فكذلك الجمعة
وإن صلى المعذور الظهر ثم صلى الجمعة سقط الفرض بالظهر وكانت الجمعة نافلة
وحكى أبو إسحاق المروزي أنه قال في القديم يحتسب الله له بأيتهما شاء والصحيح هو الأول
وإن أخر المعذور الصلاة حتى فاتت الجمعة صلى الظهر في الجماعة
قال الشافعي رحمه الله وأحب إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين
قال أصحابنا فإن كان عذرهم ظاهرا لم يكره إظهار الجماعة لانهم لا يتهمون مع ظهور العذر
وأما من تجب عليه الجمعة فلا يجوز له أن يصلي الظهر قبل فوات الجمعة فإنه مخاطب بالسعي إلى الجمعة فإن صلى الظهر قبل صلاة الإمام ففيه قولان قال في القديم يجزئه لان الفرض هو الظهر لانه لو كان الفرض هو الجمعة لوجب قضاؤها كسائر الصلوات
وقال في الجديد لا يجزئه ويلزمه إعادتها وهو الصحيح لان الفرض هو الجمعة لانه لو كان الفرض هو الظهر والجمعة بدل عنه لما أثم بترك الجمعة إلى الظهر كما لا يأثم بترك الصوم إلى العتق في الكفارة
وقال أبو إسحاق أن اتفق أهل بلد على فعل الظهر أثموا بترك الجمعة إلا أنه يجزئهم لان كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة
والصحيح أنه لا يجزئهم على قوله الجديد لانهم صلوا الظهر وفرض الجمعة متوجه عليهم
فصل في السفر قبيل الجمعة ومن لزمته الجمعة وهو يريد السفر فإن كان يخاف فوت السفر جاز له ترك الجمعة لانه ينقطع عن الصحبة فينتظر وإن لم يخف الفوت لم يجز أن يسافر بعد الزوال لان الفرض قد توجه عليه فلا يجوز تفويته بالسفر
وهل يجوز قبل الزوال فيه قولان أحدهما يجوز لانه لم تجب عليه فلم يحرم التفويت كبيع المال قبل الحول
والثاني لا يجوز وهو الأصح لانه وقت لوجوب التسبب بدليل أن من كان داره على بعد لزمه القصد قبل الزوال ووجوب التسبب كوجوب الفعل فإذا لم يجز السفر بعد وجوب الفعل لم يجز بعد وجوب التسبب
فصل في البيع قبيل الجمعة وأما البيع فينظر فيه فإن كان قبل الزوال لم يكره له وإن كان بعد الزوال وقبل ظهور الإمام كره فإن ظهر الإمام وأذن المؤذن حرم لقوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فإن تبايع رجلان أحدهما من أهل فرض الجمعة والآخر ليس من أهل الفرض أثما جميعا لان أحدهما توجه عليه الفرض وقد اشتغل عنه والآخر شغله عن الفرض ولا يبطل البيع لان النهي لا يختص بالعقد فلم يمنع الصحة كالصلاة في أرض مغصوبة
فصل في اشتراط الأبنية المجتمعة ولا تصح الجمعة إلا في أبنية مجتمعة يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة في بلد أو قرية لانه لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ولم ينقل أنها أقيمت في بدو
فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز لانه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو
وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها لانهم في موضع الاستيطان
فصل في اشتراط العدد للجمعة ولا تصح الجمعة إلا بأربعين نفسا لما روى جابر رضي الله عنه قال مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطر ومن شرط العدد أن يكونوا رجالا أحرارا عقلاء مقيمين في الموضع
فأما النساء والعبيد والمسافرون فلا تنعقد بهم الجمعة لانه لا تجب عليهم الجمعة فلا تنعقد بهم كالصبيان
وهل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين فيه وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة تنعقد بهم لانه تلزمهم الجمعة فانعقدت بهم كالمستوطنين
وقال أبو إسحاق لا تنعقد بهم لان النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى عرفات وكان معه أهل مكة وهم في ذلك الموضع مقيمون غير مستوطنين فلو انعقدت بهم الجمعة لاقامها فإن أحرم بالعدد ثم انفضوا عنه ففيه ثلاثة أقوال أحدهما إن نقص العدد عن أربعين لم تصح الجمعة لانه شرط في الجمعة فشرط في جميعها كالوقت
والثاني إن بقي معه اثنان أتم الجمعة لانهم يصيرون ثلاثة
وذلك جمع مطلق فأشبه الأربعين
والثالث إن بقي معه واحد أتم الجمعة لان الاثنين جماعة
وخرج المزني رحمه الله قولين آخرين أحدهما إن بقي وحده جاز أن يتم الجمعة كما قال الشافعي رحمه الله في إمام أحرم بالجمعة ثم أحدث أنهم يتمون صلاتهم وحدانا ركعتين
والثاني إن كان قد صلى ركعة ثم انفضوا أتم الجمعة
____________________
(1/110)
وإن انفضوا قبل الركعة لم يتم الجمعة كما قال في المسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة أتم الجمعة وإن لم يدرك ركعة أتم الظهر
فمن أصحابنا من أثبت القولين وجعل في المسألة خمسة أقوال
ومنهم من لم يثبت فقال إذا أحدث الإمام يبنون على صلاتهم لان الاستخلاف لا يجوز على هذا القول فيبنون على صلاتهم على حكم الجماعة مع الإمام وههنا الإمام لا تتعلق صلاته بصلاة من خلفه
وأما المسبوق فإنه يبني على جمعة تمت شروطها وههنا لم تتم جمعة فيبني الإمام عليها
فصل في وقت الجمعة ولا تصح الجمعة إلا في وقت الظهر لانهما فرضا وقت واحد فلم يختلف وقتهما كصلاة السفر وصلاة الحضر
فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح لان الجمعة ردت إلى ركعتين بالخطبة فإذا لم تجز الصلاة قبل الوقت لم تجز الخطبة فإن دخل فيها في وقتها ثم خرج الوقت لم يجز فعل الجمعة لانه لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت فلا يجوز إتمامها كالحج ويتم الظهر لانه فرض رد من أربع إلى ركعتين بشرط يختص به فإذا زال الشرط أتم كالمسافر إذا دخل في الصلاة ثم قدم قبل أن يتم
وإن أحرم بها في الوقت ثم شك هل خرج الوقت أتم الجمعة لان الأصل بقاء الوقت وصحة الفرض فلا يبطل بالشك
وإن ضاق وقت الصلاة ورأى أنه إن خطب خطبتين خفيفتين وصلى ركعتين لم يذهب الوقت لزمهم الجمعة وإذا رأى أنه لا يمكن ذلك صلى الظهر
فصل في خطبتى الجمعة ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يصل الجمعة إلا بخطبتين وروي ابن عمر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما ولان السلف قالوا إنما قصرت الجمعة لاجل الخطبة فإذا لم يخطب رجع إلى الأصل ومن شرط الخطبة العدد الذي تنعقد به الجمعة لقوله تعالى { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } والذكر الذي يفعل بعد النداء هو الخطبة ولانه ذكر شرط في صحة الجمعة فشرط فيه العدد كتكبيرة الإحرام فإن خطب بالعدد ثم انفضوا وعادوا قبل الإحرام فإن لم يطل الفصل صلى الجمعة لانه ليس بأكثر من الصلاتين المجموعتين ثم الفصل اليسير لا يمنع الجمع فكذلك لا يمنع الجمع بين الخطبة والصلاة
وإن طال الفصل قال الشافعي رحمه الله أحببت أن يبتدىء الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة فإن لم يفعل صلى الظهر
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس تجب إعادة الخطبة ثم يصلي بعدها الجمعة لان الخطبة مع الصلاة كالصلاتين المجموعتين فكما لا يجوز الفصل الطويل بين الصلاتين لم يجز بين الخطبة والصلاة وما نقله المزني لا يعرف
وقال أبو إسحاق يستحب أن يعيد الخطبة لانه لا يأمن أن ينفضوا مرة أخرى فجعل ذلك عذرا في جواز البناء
وأما الصلاة فإنها واجبة لانه يقدر على فعلها
فإن صلى بهم الظهر جاز بناء على أصله إذا اجتمع أهل بلد على ترك الجمعة ثم صلوا الظهر أجزأهم
وقال بعض أصحابنا يستحب إعادة الخطبة والصلاة على ظاهر النص لانهم انفضوا عنه مرة فلا يأمن أن ينفضوا عنه ثانيا فصار ذلك عذرا في ترك الجمعة ومن شرطهما القيام مع القدرة والفصل بينهما بالجلسة لما روى جابر بن سمرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيقرأ آيات ويذكر الله عز وجل ولانه إحدى فرضي الجمعة فوجب فيه القيام والقعود كالصلاة
وهل تشترط فيها الطهارة فيه قولان قال في القديم تصح من غير طهارة لانه لو افتقر إلى الطهارة لافتقر إلى استقبال القبلة كالصلاة
وقال في الجديد لا تصح من غير طهارة لانه ذكر شرط في الجمعة فشرط فيه الطهارة كتكبيرة الإحرام
وفرضها أربعة أشياء
أحدها أن يحمد الله تعالى لما روى جابر ( بن سمرة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم الجمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم يقول إن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/111)
وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة من ترك مالا فلاهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي
والثاني أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم لان كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله عز وجل افتقرت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالأذان والصلاة
والثالث الوصية بتقوى الله عز وجل لحديث جابر ولان القصد من الخطبة الموعظة فلا يجوز الإخلال بها
والرابع أن يقرأ آية من القرآن لحديث جابر بن سمرة ولانه أحد فرضي الجمعة فوجب فيه القراءة كالصلاة
ويجب ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية في الخطبتين وفي قراءة القرآن وجهان أحدهما أنها تجب في الخطبتين لان ما وجب في أحد الخطبتين وجب في الأخرى كذكر الله تعالى وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية
والثاني لا تجب إلا في إحدى الخطبتين وهو المنصوص لانه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنه قرأ في الخطبة وهذا لا يقتضي أكثر من مرة
ويستحب أن يقرأ سورة { ق } لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في الخطبة فإن قرأ آية فيها سجدة فنزل وسجد جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم فعل عمر رضي الله عنه بعده فإن فعل هذا وأطال الفصل ففيه قولان قال في القديم يبني وقال في الجديد يستأنف وهل يجب الدعاء فيه وجهان أحدهما يجب رواه المزني في أقل ما يقع عليه اسم الخطبة
ومن أصحابنا من قال يستحب وأما الدعاء للسلطان فلا يستحب لما روي أنه سئل عطاء عن ذلك فقال إنه محدث وإنما كانت الخطبة تذكيرا
فصل في سنن الخطبة وسننها أن تكون على منبر لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ولانه أبلغ في الإعلام
ومن سننها إذا صعد على المنبر ثم أقبل على الناس أن يسلم عليهم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة واستقبل الناس قال السلام عليكم ولانه استدبر الناس في صعوده فإذا أقبل عليهم يسلم
ومن سننها أن يجلس إذا سلم حتى يؤذن المؤذن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم الجمعة جلس يعني على المنبر حتى يسكت المؤذن ثم قام فخطب
ويقف على الدرجة التي تلي المستراح ( لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على هذه الدرجة ) ولان ذلك أمكن
ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا لما روى الحكم بن حزن قال وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه الجمعة فقام متوكئا على قوس أو عصا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ولان ذلك أمكن له فإن لم يكن معه شيء سكن يديه
ومن سننها أن يقبل على الناس ولا يلتفت يمينا ولا شمالا لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه
ويستحب أن يرفع صوته لحديث جابر علا صوته واشتد غضبه ولانه أبلغ في الإعلام
قال الشافعي رحمه الله ويكون كلامه مترسلا مبينا معربا من غير تغن ولا تمطيط لان ذلك أحسن وأبلغ
ويستحب أن يقصر الخطبة لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب وأوجز فقيل له لو كنت تنفست فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قصر خطبة الرجل مئنة ( من ) فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة
فصل في الجمعة ركعتان والجمعة ركعتان لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان
____________________
(1/112)
وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى ولانه نقل الخلف عن السلف
والسنة أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الجمعة وفي الثانية المنافقون لما روى عبد الله بن أبي رافع قال استخلف مروان أبا هريرة على المدينة فصلى بالناس الجمعة فقرأ بالجمعة والمنافقين فقلت يا أبا هريرة قرأت سورتين سمعت عليا قرأهما قال سمعت حبيبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قرأهما
والسنة أن تجهر فيهما بالقراءة لانه نقل الخلف عن السلف
باب هيئة الجمعة والتبكير السنة لمن أراد الجمعة أن يغتسل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جاء منكم الجمعة فليغتسل
ووقته ما بعد طلوع الفجر إلى أن يدخل في الصلاة فإن اغتسل قبل طلوع الفجر لم يجزه لقوله صلى الله عليه وسلم غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم فعلقه على اليوم
والأفضل أن يغتسل عند الرواح لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولانه إنما يراد لقطع الروائح فإذا فعله عند الرواح كان أبلغ في المقصود فإن ترك الغسل جاز لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل فإن كان جنبا فنوى بالغسل الجنابة والجمعة أجزأه عنهما كما لو اغتسلت المرأة فنوت الجنابة والحيض
وإن نوى الجنابة ولم ينو الجمعة أجزأه عن الجنابة وفي الجمعة قولان أحدهما يجزئه لانه يراد للتنظيف وقد حصل ذلك
والثاني لا يجزئه لانه لم ينوه فأشبه إذا اغتسل من غير نية
وإن نوى الجمعة ولم ينو الجنابة لم يجزئه عن الجنابة
وفي الجمعة وجهان أحدهما وهو المذهب أنه يجزئه عنها لانه نواها
والثاني لا يجزئه لان غسل الجمعة يراد للتنظيف والتنظيف لا يحصل مع بقاء الجنابة
ويستحب أن يتنظف بسواك
وأخذ الظفر والشعر وقطع الروائح ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه لما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة واستن ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه وخرج حتى يأتي المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة ما بينها وبين الجمعة
وأفضل الثياب البياض لما روى سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب ويستحب للإمام من الزينة أكثر مما يستحب لغيره لانه يقتدى به والأفضل أن يعتم ويرتدي ببرد لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك
فصل في فضل التبكير للجمعة ويستحب أن يبكر إلى الجمعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة
____________________
(1/113)
غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر وطويت الصحف وتعتبر الساعات من حين طلوع الفجر لانه أول اليوم وبه يتعلق جواز الغسل
ومن أصحابنا من قال تعتبر من حين طلوع الشمس وليس بشيء
ويستحب أن يمشي إليها وعليه السكينة والوقار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا
ويستحب ألا يركب من غير عذر لما روى أوس بن أوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها
ولا يشبك بين أصابعه لقوله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إلى الصلاة
ويستحب أن يدنو من الإمام لحديث أوس ولا يتخطى رقاب الناس لحديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما
قال الشافعي رحمه الله وإذا لم يكن للإمام طريق لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس فإن دخل رجل وليس له موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يتخطى رجلا أو رجلين لم يكره له لانه يسير وإن كان بين يديه خلق كثير فإن رجا إذا قاموا إلى الصلاة أن يتقدموا جلس حتى يقوموا وإن لم يرج أن يتقدموا جاز أن يتخطى ليصل إلى الفرجة ولا يجوز أن يقيم رجلا من موضعه ليجلس فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن يقول تفسحوا أو توسعوا فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس
وأما صاحب الموضع فإنه إن كان الموضع الذي ينتقل إليه دون الموضع الذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك لانه آثر غيره في القربة
وإن فرش لرجل ثوب فجاء آخر لم يجلس عليه فإن أراد أن ينحيه ويجلس مكانه جاز
وإن قام رجل من موضعه لحاجة فجلس رجل مكانه ثم عاد فالمستحب أن يرد الموضع إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع فهو أحق به قال الشافعي رحمه الله وأحب إذا نعس ووجد موضعا لا يتخطى فيه غيره أن يتحول لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره
____________________
(1/114)
فصل فيما يفعله قبل الجمعة وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بذكر الله والصلاة
ويستحب أن يقرأ يوم الجمعة سورة الكهف لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة
ويكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلتها لما روى أوس بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي
ويكثر من الدعاء لان فيه ساعة يستجاب فيها الدعوة فلعله يصادف ذلك وإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل لما روي عن ثعلبة بن أبي مالك قال قعود الإمام يقطع السبحة وكلامه يقطع الكلام وإنهم كانوا لا يزالون يتحدثون يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس على المنبر فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا ولان النفل في هذه الحالة يمنع الاستماع إلى ابتداء الخطبة فكره فإن دخل رجل والإمام على المنبر صلى تحية المسجد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين فإن دخل والإمام في آخر الخطبة لم يصل لانه يفوته أول الصلاة مع الإمام وهو فرض فلا يجوز أن يشتغل عنها بالنفل
فصل في الكلام قبل الخطبة والإنصات أثناءها ويجوز الكلام قبل أن يبتدىء الخطبة لما رويناه من حديث ثعلبة بن أبي مالك ويجوز إذا جلس الإمام بين الخطبتين وإذا نزل من المنبر قبل أن يدخل في الصلاة لما روى أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيقوم معه الرجل فيكلمه في الحاجة ثم ينتهي إلى مصلاه فيصلي ولانه ليس بحال صلاة ولا حال إسماع فلم يمنع من الكلام
وإذا بدأ بالخطبة أنصت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فأحسن الوضوء ثم أنصت للإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام وهل يجب الإنصات فيه قولان أحدهما يجب لما روى جابر قال دخل ابن مسعود والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبي فسأله عن شيء فلم يرد عليه فسكت حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما منعك أن ترد علي فقال إنك لم تشهد معنا الجمعة قال ولم قال لانك تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقام ابن مسعود فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فقال صدق أبي وأطع أبيا
والثاني يستحب وهو الأصح لما روى أنس رضي الله عنه قال دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال متى الساعة فأشار الناس إليه أن اسكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الثالثة ما أعددت لها قال حب الله ورسوله قال إنك مع من أحببت
فإن رأى رجلا ضريرا يقع في بئر أو رأى عقربا تدب إليه لم يحرم عليه كلامه قولا واحدا لان الإنذار يجب لحق الآدمي والإنصات لحق الله تعالى ومبناه على المسامحة وإن سلم عليه رجل أو عطس فإن قلنا يستحب الإنصات رد السلام وشمت العاطس
وإن قلنا يجب الإنصات لم يرد السلام ولم يشمت العاطس لان المسلم سلم في غير موضعه فلم يرد عليه وتشميت العاطس سنة فلا يترك له الإنصات الواجب
ومن أصحابنا من قال لا يرد السلام لان المسلم مفرط ويشمت العاطس لان العاطس غير مفرط في العطاس وليس بشيء
فصل متى يدرك الجمعة ومن دخل والإمام في الصلاة أحرم بها فإن أدرك معه الركوع من الثانية فقد أدرك الجمعة فإذا سلم الإمام أضاف إليها أخرى وإن لم يدرك الركوع فقد فاتت الجمعة فإذا سلم الإمام أتم الظهر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى
فصل في المزاحمة في السجود فإن زوحم المأموم عن السجود في الجمعة نظرت فإن قدر أن يسجد على ظهر إنسان لزمه أن يسجد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه
وقال بعض أصحابنا فيه قول آخر قاله في القديم أنه بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان وإن شاء ترك حتى يزول الزحام لانه إذا سجد حصلت له فضيلة المتابعة وإذا انتظر زوال الزحمة حصلت له فضيلة السجود على الأرض فخير بين الفضيلتين
والأول أصح لان ذلك يبطل بالمريض إذا عجز عن السجود
____________________
(1/115)
على الأرض فإنه يسجد على حسب حاله ولا يؤخر وإن كان في التأخير فضيلة السجود على الأرض وإن لم يقدر على السجود بحال انتظر حتى يزول الزحام فإن زال الزحام لم يخل إما أن يدرك الإمام قائما أو راكعا أو رافعا من الركوع أو ساجدا فإن أدركه قائما سجد ثم تبعه لان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك بعسفان للعذر والعذر ههنا موجود فوجب أن يجوز فإن فرغ من السجود فأدرك الإمام راكعا في الثانية ففيه وجهان أحدهما يتبعه في الركوع ولا يقرأ كمن حضر والإمام راكع
والثاني أنه يشتغل بما عليه من القراءة لانه أدرك مع الإمام محل القراءة بخلاف من حضر والإمام راكع
فصل فيمن يدرك الإمام بعد الزحام فإن زال الزحام فأدرك الإمام رافعا من الركوع أو ساجدا سجد معه لان هذا موضع سجوده وحصلت له ركعة ملفقة
وهل يدرك بها الجمعة فيه وجهان قال أبو إسحاق يدرك لقوله صلى الله عليه وسلم من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يدرك لان الجمعة صلاة كاملة فلا تدرك إلا بركعة كاملة وهذه ركعة ملفقة
فصل في إذا أدركه راكعا وإن زال الزحام وأدرك الإمام راكعا ففيه قولان أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته ثم يركع لانه شارك الإمام في جزء من الركوع فوجب أن يسجد كما لو زالت الزحمة فأدركه قائما
والثاني يتبع الإمام في الركوع لانه أدرك الإمام راكعا فلزمه متابعته كمن دخل في صلاة والإمام فيها راكع
فإن قلنا إنه يركع معه نظرت فإن فعل ما قلناه وركع حصل له ركوعان وبأيهما يحتسب فيه قولان أحدهما أنه يحتسب بالثاني كالمسبوق إذا أدرك الإمام راكعا فركع معه
والثاني يحتسب بالأول لانه قد صح الأول فلم يبطل بترك ما بعده كما لو ركع ونسي السجود فقام وقرأ وركع ثم سجد
فإن قلنا إنه يحتسب بالثاني حصل له مع الإمام ركعة فإذا سلم أضاف إليها أخرى وسلم
وإذا قلنا يحتسب بالأول حصل له ركعة ملفقة لان القيام والقراءة والركوع حصل له من الركعة الأولى وحصل له السجود من الثانية
وهل يصير مدركا للجمعة فيه وجهان قال أبو إسحاق يكون مدركا وقال ابن أبي هريرة لا يكون مدركا
فإذا قلنا بقول أبي إسحاق أضاف إليها أخرى وسلم
وإذا قلنا بقول ابن أبي هريرة قام وصلى ثلاث ركعات وجعلها ظهرا
ومن أصحابنا من قال يجب أن يكون فيه وجهان بناء على القولين فيمن صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة وهذا قد صلى ركعة من الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة فلزمه أن يستأنف الظهر بعد فراغه
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري الصحيح هو الأول والبناء على القولين لا يصح لان القولين فيمن صلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة من غير عذر والمزحوم معذور فلم تجب عليه إعادة الركعة التي صلاها قبل فراغ الإمام ولان القولين فيمن ترك الجمعة وصلى الظهر منفردا وهذا قد دخل مع الإمام في الجمعة فلم تجب عليه إعادة ما فعل كما لو أدرك الإمام ساجدا في الركعة الأخيرة فإنه يتابعه ثم يبنى الظهر على ذلك الإحرام ولا يلزمه الاستئناف وإن خالف ما قلناه واشتغل بقضاء ما فاته فإن اعتقد أن السجود فرضه لم يعد سجوده لانه سجد في موضع الركوع ولا تبطل صلاته لانه زاد فيها زيادة من جنسها جاهلا فهو كمن زاد في صلاته من جنسها ساهيا وإن اعتقد أن فرضه المتابعة فإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته لانه سجد في موضع الركوع عامدا
وإن نوى مفارقة الإمام ففيه قولان أحدهما تبطل صلاته
والثاني لا تبطل ويكون فرضه الظهر وهل يبني أو يستأنف الإحرام بعد فراغ الإمام على القولين في غير المعذور إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام
وأما إذا قلنا إن فرضه الاشتغال بما فاته نظرت فإن فعل ما قلناه وأدرك الإمام راكعا تبعه فيه ويكون مدركا للركعتين
وإن أدركه ساجدا فهل يشتغل بقضاء ما فاته أو يتبعه في السجود فيه وجهان أحدهما يشتغل بقضاء ما فاته لان على هذا القول الاشتغال بالقضاء أولى من المتابعة
ومنهم من قال يتبعه في السجود وهو الأصح لان هذه الركعة لم يدرك منها شيئا يحتسب له به فهو كالمسبوق إذا أدرك الإمام ساجدا بخلاف الركعة الأولى فإن هناك أدرك الركوع وما قبله فلزمه أن يفعل ما بعده من السجود
فإذا قلنا يسجد كان مدركا للركعة الأولى إلا أن بعضها أدركه فعلا وبعضها أدركه حكما لانه تابعه إلى السجود ثم انفرد بفعل السجدتين
وهل يدرك بهذه الركعة الجمعة على وجهين لانه إدراك ناقص فهو كالتلفيق في الركعة وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المأموم السجدتين لم يكن مدركا للجمعة قولا واحدا
وهل يستأنف الإحرام أو يبني على ما ذكرناه من الطريقين فإن خالف ما قلناه وتبعه في الركوع
____________________
(1/116)
فإن كان معتقدا أن فرضه الاشتغال بالسجود بطلت صلاته لانه ركع في موضع السجود عامدا وإن اعتقد أن فرضه المتابعة لم تبطل صلاته لانه زاد في الصلاة من جنسها جاهلا ويحتسب بهذا السجود ويحصل له ركعة ملفقة
وهل يصير مدركا للجمعة على الوجهين وإن ( زحم عن السجود ) وزالت الزحمة والإمام قائم في الثانية وقضى ما عليه وأدركه قائما أو راكعا فتابعه فلما سجد في الثانية زحم عن السجود فزال الزحام وسجد ورفع رأسه وأدرك الإمام في التشهد فقد أدرك الركعتين بعضهما فعلا وبعضهما حكما
وهل يكون مدركا للجمعة على ما ذكرنا من الوجهين
وإن ركع مع الإمام ( في ) الركعة الأولى ثم سها حتى صلى الإمام هذه الركعة وحصل في الركوع في الثانية قال القاضي أبو حامد يجب أن يكون على قولين كالزحام
ومن أصحابنا من قال يتبعه قولا واحدا لانه مفرط في السهو فلم يعذر في الانفراد عن الانفراد عن الإمام وفي الزحام غير مفرط فعذر في الانفراد عن الإمام
فصل في الاستخلاف في الصلاة إذا أحدث الإمام في الصلاة ففيه قولان قال في القديم لا يستخلف
وقال في الجديد يستخلف وقد بينا وجه القولين في باب صلاة الجماعة
فإن قلنا لا يستخلف نظرت فإن أحدث بعد الخطبة وقبل الإحرام لم يجز أن يستخلف لان الخطبتين مع الركعتين كالصلاة الواحدة فلما لم يجز أن يستخلف في صلاة الظهر بعد الركعتين لم يجز أن يستخلف في الجمعة بعد الخطبتين
وإن أحدث بعد الإحرام ففيه قولان أحدهما يتمون الجمعة فرادى لانه لما لم يجز الاستخلاف بقوا على حكم الجماعة فجاز لهم أن يصلوا فرادى
والثاني أنه إذا كان الحدث قبل أن يصلي بهم ركعة صلوا الظهر وإن كان بعد الركعة صلوا ركعة أخرى فرادى كالمسبوق إذا لم يدرك ركعة أتم الظهر وإن أدرك ركعة أتم الجمعة
وإن قلنا بقوله الجديد فإن كان الحدث بعد الخطبتين وقبل الإحرام فاستخلف من حضر الخطبة جاز وإن استخلف من لم يحضر الخطبة لم يجز لان من حضر كمل بالسماع فانعقدت به الجمعة ومن لم يحضر لم يكمل فلم تنعقد به الجمعة ولهذا لو خطب بأربعين فقاموا وصلوا الجمعة جاز ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلوا الجمعة لم يجز
وإن كان الحدث بعد الإحرام فإن كان في الركعة الأولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز له لانه من أهل الجمعة وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز لانه ليس من أهل الجمعة ولهذا لو صلى بانفراده الجمعة لم تصح
وإن كان الحدث في الركعة الثانية فإن كان قبل الركوع
فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز لما ذكرناه
وإن كان بعد الركوع ( فاستخلف من لم يحضر معه قبل الحدث لم يجز لما ذكرناه )
وإن كان معه قبل الحدث ولم يكن معه قبل الركوع فإن فرضه الظهر وفي جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر وجهان فإن قلنا يجوز جاز أن يستخلفه وإن قلنا لا يجوز لم يجز أن يستخلفه
فصل إذن السلطان بالجمعة والسنة ألا تقام الجمعة بغير إذن السلطان فإن فيه افتياتا عليه فإن أقيمت الجمعة من غير إذنه جاز لما روي أن عليا رضي الله عنه صلى العيد وعثمان رضي الله عنه محصور ولانه فرض لله تعالى لا يختص بفعل الإمام فلم يفتقر إلى إذنه كسائر العبادات
فصل الجمعة في المسجد الجامع قال الشافعي رحمه الله ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد والدليل عليه أنه لم يقمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعده في أكثر من موضع
واختلف أصحابنا في بغداد فقال أبو العباس يجوز في مواضع لانه بلد عظيم ويشق الاجتماع في موضع واحد
وقال أبو الطيب بن سلمة يجوز في كل جانب جمعة لانه كالبلدين ولا يجوز أكثر من ذلك
وقال بعضهم كانت قرى متفرقة في كل موضع منها جمعة ثم اتصلت العمارة فبقيت على حكم الأصل
فصل حكم تعدد الجمعات في البلد الواحد وإن عقدت جمعتان في بلد إحداهما قبل الأخرى وعرفت الأولى منهما نظرت فإن لم يكن مع واحدة منهما إمام أو كان الإمام مع الأولى فالجمعة هي الأولى والثانية باطلة وبأي شيء يعتبر السبق فيه قولان أحدهما بالفراغ لانه لا يحكم بصحتها
____________________
(1/117)
إلا بعد الفراغ منها فوجب أن يعتبر السبق بالفراغ
والثاني يعتبر بالإحرام لأنها بالإحرام تنعقد فلا يجوز أن تنعقد بعدها جمعة فإن كان الإمام مع الثانية ففيه قولان أحدهما أن الجمعة هي الأولى لانها جمعة أقيمت شروطها فكانت هي الجمعة
والثاني أن الجمعة هي الثانية لان في تصحيح الأولى افتياتا على الإمام وتفويتا للجمعة على عامة الناس
وإن كانت الجمعتان في وقت واحد من غير إمام بطلتا لانه ليس إحداهما أولى من الأخرى فوجب إبطالهما كما نقول فيمن جمع بين أختين في عقد واحد
وإن لم يعلم هل كانتا في وقت واحد أو في وقتين بطلتا لانه ليس كونهما في وقت واحد بأولى من تقدم إحداهما على الأخرى فحكم ببطلانهما
وإن علم أن إحداهما قبل الأخرى ولم تتعين حكم ببطلانهما لان كل واحدة من الطائفتين شك في إسقاط الفرض والفرض لا يسقط بالشك وفيما يجب عليهم قولان أحدهما تلزمهم الجمعة إن كان الوقت باقيا لان التي تقدمت لما لم تتعين لم يثبت حكمها فصارت كأن لم تكن
والثاني يصلون الظهر لانا تيقنا أن المتقدمة منهما جمعة صحيحة فوجب أن يصلوا الظهر احتياطا
وإن علمت السابقة منهما ثم أشكلت حكم ببطلانهما لانه لا يمكن التوقف إلى أن تعرف لانه يؤدي إلى فوات الوقت أو فواتهما بالموت فوجب الحكم ببطلانهما وبالله التوفيق
باب صلاة العيدين صلاة العيدين سنة وقال أبو سعيد الاصطخري هي فرض على الكفاية والمذهب الأول لما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله على عباده فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع ولانها صلاة مؤقتة لا تشرع لها الإقامة فلم تجب بالشرع كصلاة الضحى
وإن اتفق أهل بلد على تركها وجب قتالهم على قول الاصطخري
وهل يقاتلون على المذهب فيه وجهان أحدهما لا يقاتلون لانه تطوع فلا يقاتلون على تركها كسائر التطوع
والثاني يقاتلون لانه من شعائر الإسلام ولان في تركها تهاونا بالشرع بخلاف شعائر التطوع لانها تفعل فرادى فلا يظهر تركها كما يظهر في صلاة العيد
فصل في وقت صلاة العيدين ووقتهما ما بين طلوع الشمس إلى أن تزول والأفضل أن يؤخرها حتى ترتفع الشمس قيد رمح والسنة أن يؤخر صلاة الفطر ويعجل الأضحى لما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب أن يقدم الأضحى ويؤخر الفطر ولان الأفضل أن يخرج صدقة الفطر قبل الصلاة فإذا أخر الصلاة اتسع الوقت لاخراج صدقة الفطر والسنة أن يضحي بعد صلاة الإمام فإذا عجل بادر إلى الأضحية
فصل استحباب الصلاة في المصلى والسنة أن تصلى صلاة العيد في المصلى إذا كان مسجد البلد ضيقا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ولان الناس يكثرون في صلاة العيد فإذا كان المسجد ضيقا تأذى الناس فإن كان في الناس ضعفاء استخلف في مسجد البلد من يصلي بهم لما روي أن عليا رضي الله عنه استخلف أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه ليصلي بضعفة الناس في المسجد وإن كان يوم مطر صلى في المسجد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر
وإن كان المسجد واسعا فالمسجد أفضل من المصلى لان الأئمة لم يزالوا يصلون صلاة العيد بمكة في المسجد ولان المسجد أشرف وأنظف
قال الشافعي رحمه الله فإن كان المسجد واسعا فصلى في الصحراء فلا بأس وإن كان ضيقا فصلى فيه ولم يخرج إلى المصلى كرهت لانه إذا ترك المسجد وصلى في الصحراء لم يكن عليهم ضرر
وإذا ترك الصحراء وصلى في المسجد الضيق تأذوا بالزحام وربما فات بعضهم الصلاة فكره
____________________
(1/118)
فصل في الأكل قبل الصلاة والسنة أن يأكل في يوم الفطر قبل الصلاة ويمسك في يوم النحر حتى يفرغ من الصلاة لما روى بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من لحم نسيكته
والسنة أن يأكل التمر ويكون وترا لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا
فصل في الاغتسال للعيدين والسنة أن يغتسل للعيدين لما روي أن عليا وابن عمر رضي الله عنهما كانا يغتسلان ولانه يوم عيد يجمع فيه الكافة للصلاة فسن فيه الغسل لحضورها كالجمعة وفى وقت الغسل قولان أحدهما بعد الفجر كغسل الجمعة وروى البويطي أنه يجوز أن يغتسل قبل الفجر لان الصلاة تقام في أول النهار وتقصدها الناس من البعد فيجوز تقديم الغسل حتى لا يفوتهم فجوز على هذا القول أن يغتسل بعد نصف الليل كما يقول في أذان الصبح
ويستحب ذلك لمن يحضر الصلاة ولمن لا يحضر لان القصد إظهار الزينة والجمال فإن لم يحضر الصلاة اغتسل للزينة والجمال
والسنة أن يتنظف بحلق الشعر وبقلم الأظفار وقطع الرائحة لانه يوم عيد فسن فيه ما ذكرناه كيوم الجمعة
والسنة أن يتطيب لما روى الحسن بن علي عليه السلام قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب بأجود ما نجد في العيد
فصل في لبس أحسن الثياب والسنة أن يلبس أحسن ثيابه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس في العيدين برد حبرة
فصل في شهود النساء العيدين ويستحب أن يحضر النساء غير ذوات الهيئات لما روت أم عطية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد فأما الحيض فكن يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين
وإذا أردن الحضور تنظفن بالماء ولا يتطيبن ولا يلبسن الشهرة من الثياب لقوله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات أي غير عطرات ولانها إذا تطيبت ولبست الشهرة من الثياب دعا ذلك إلى الفساد
قال الشافعي رحمه الله ويزين الصبيان بالمصبغ والحلي ذكورا كانوا أو إناثا لانه يوم زينة وليس على الصبيان تعبد فلا يمنعون من لبس الذهب
فصل في التبكير للصلاة والسنة أن يبكر إلى الصلاة ليأخذ موضعه كما قلنا في الجمعة والمستحب أن يمشي ولا يركب لان النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة
ولا بأس أن يركب في العود لانه غير قاصد إلى قربة
فصل في التنفل قبل خروج الإمام وإذا حضر جاز أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام لما روي عن أبي بردة وأنس والحسن وجابر بن زيد أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام ولانه ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه ولا هناك ما هو أهم من الصلاة فلم يمتنع من الصلاة كما ( لو صلى ) بعد العيد والسنة أن لا يخرج الإمام إلا في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة
والسنة أن يمضي إليهما في طريق ويرجع في أخرى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الفطر والأضحى فيخرج من طريق ويرجع ( من ) أخرى
____________________
(1/119)
فصل في النداء للعيدين ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم صلوا العيد قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة
والسنة أن ينادى لها الصلاة جامعة لما روي عن الزهري أنه كان ينادي به
فصل في صفة صلاة العيد وصلاة العيد ركعتان لقول عمر رضي الله عنه صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى
والسنة أن تصلى جماعة لنقل الخلف عن السلف
والسنة أن يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام والركوع لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة الصلاة والتكبيرات قبل القراءة لما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبعا وفي الثانية خمسا قبل القراءة
فإن حضر وقد سبقه الإمام بالتكبيرات أو ببعضها لم يقض لانه ذكر مسنون فات محله فلم يقضه كدعاء الاستفتاح
وقال في القديم يقضي لان محله القيام وقد أدركه وليس بشيء
والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد
ويستحب أن يقف بين كل تكبيرتين بقدر ( آية ) يذكر الله تعالى لما روي أن الوليد بن عقبة خرج يوما على عبد الله وحذيفة والأشعري وقال إن هذا العيد غدا فكيف التكبير فقال عبد الله بن مسعود تكبر وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتكبر وتفعل مثل ذلك فقال الأشعري وحذيفة صدق
والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة بقاف واقتربت لما روى أبو واقد الليثي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بقاف واقتربت الساعة
والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة لنقل الخلف عن السلف
فصل في الخطبة بعد الصلاة والسنة إذا فرغ من الصلاة أن يخطب لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا بكر ثم عمر رضي الله عنهما كانوا يصلون العيد قبل الخطبة
والمستحب أن يخطب على المنبر لما روى جابر رضي الله عنه قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأضحى فلما قضى خطبته نزل عن منبره
ويسلم على الناس إذا أقبل عليهم كما قلنا في الجمعة وهل يجلس قبل الخطبة فيه وجهان أحدهما لا يجلس لان في الجمعة إنما يجلس لفراغ المؤذن من الأذان وليس في العيد أذان
والثاني يجلس وهو المنصوص في الأم لانه يستريح بها ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة
ويجوز أن يخطب من قعود لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته ولان صلاة العيد تجوز قاعدا فكذلك خطبتها بخلاف الجمعة والمستحب أن يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال هو من السنة
ويأتى ببقية الخطبة على ما ذكرناه في الجمعة من ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله وقراءة القرآن فإن كان في عيد الفطر علمهم صدقة الفطر وإن كان في الأضحى علمهم الأضحية لان النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته لا يذبحن أحدكم حتى يصلي
ويستحب للناس استماع الخطبة لما روي عن أبي مسعود البدري أنه قال يوم عيد من شهد الصلاة معنا فلا يبرح حتى يشهد الخطبة فإن دخل رجل والإمام يخطب فإن كان في المصلى استمع الخطبة ولا يشتغل بصلاة العيد لان الخطبة من سنن العيد ويخشى فوتها والصلاة لا يخشى فوتها فكان الاشتغال بالخطبة أولى وإن كان في المسجد ففيه وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة يصلي تحية المسجد ولا يصلي صلاة العيد لان الإمام لم يفرغ من سنة العيد فلا يشتغل بالقضاء
وقال أبو إسحاق المروزي يصلي العيد لانها أهم من تحية المسجد وآكد وإذا صلاها سقط بها التحية فكان الاشتغال بها أولى كما لو حضر وعليه مكتوبة
فصل فيمن يصلي العيد روى المزني أنه تجوز صلاة العيد للمنفرد والمسافر والعبد والمرأة
وقال في الإملاء والقديم والصيد والذبائح لا يصلى العيد حيث لا تصلى الجمعة فمن أصحابنا من قال فيها قولان أحدهما أنهم لا يصلون لان النبي صلى الله عليه وسلم كان بمنى مسافرا يوم النحر فلم يصل ولانها صلاة تشرع لها الخطبة واجتماع الكافة فلم يفعلها المسافر كالجمعة
والثاني أنهم يصلون وهو الصحيح لانها صلاة
____________________
(1/120)
نفل فجاز لهم فعلها كصلاة الكسوف
ومن أصحابنا من قال يجوز لهم فعلها قولا واحدا وتأول ما قال في الإملاء والقديم على أنه أراد به ألا يصلي بالاجتماع والخطبة حيث لا تصلى الجمعة لان في ذلك افتياتا على السلطان
فصل في الشهادة على الرؤية إذا شهد شاهدان يوم الثلاثين بعد الزوال برؤية الهلال ففيه قولان أحدهما لا يقضي
والثاني يقضي وهو الصحيح
فإن أمكن جمع الناس وصلى بهم في يومهم فإن لم يمكن صلى بهم من الغد لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومته قالوا قامت بينة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد الظهر أنهم رأوا الهلال هلال شوال فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا من الغد إلى المصلى
وإن شهدا ليلة الحادي والثلاثين صلوا قولا واحدا ولا يكون ذلك قضاء لان فطرهم غدا لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وعرفتكم يوم تعرفون
باب التكبير التكبير سنة في العيدين لما روى نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن رضي الله عنهم رافعا صوته بالتهليل والتكبير فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى
وأول وقت تكبير الفطر إذا غابت الشمس من ليلة الفطر لقوله عز وجل { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم } وإكمال العدة بغروب الشمس من ليلة الفطر وأما آخره ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال أحدهما ما روى المزني أنه يكبر إلى أن يخرج الإمام إلى الصلاة لانه إذا حضر فالسنة أن يشتغل بالصلاة فلا معنى للتكبير
والثاني ما رواه البويطى أنه يكبر حتى تفتتح الصلاة لان الكلام مباح قبل أن تفتتح الصلاة فكان التكبير مستحبا
والثالث قاله في القديم حتى ينصرف الإمام لان الإمام والمأمومين مشغولون بالذكر إلى أن يفرغوا من الصلاة فسن لمن لم يكن في الصلاة أن يكبر
ومن أصحابنا من قال هو على قول واحد أنه يكبر إلى أن تفتتح الصلاة وتأول رواية المزني على ذلك لانه إذا خرج إلى المصلى افتتح الصلاة وقوله في القديم حتى ينصرف الإمام لانه ما لم ينصرف مشغول بالتكبير في الصلاة
ويسن التكبير المطلق في عيد الفطر وهل يسن التكبير المقيد في أدبار الصلوات فيه وجهان أحدهما لا يسن لانه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثاني أنه يسن لانه عيد يسن له التكبير المطلق فيسن له التكبير المقيد كالأضحى
والسنة في التكبير أن يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثا لما روى ابن عباس أنه قال الله أكبر ثلاثا وعن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال رأيت الأئمة رضي الله عنهم يكبرون بعد أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثا وعن الحسن مثله قال في الأم وإن زاد زيادة فليقل بعد الثلاث الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر لان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على الصفا
ويستحب رفع الصوت بالتكبير لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين رافعا صوته بالتهليل والتكبير لانه إذا رفع صوته سمع من لم يكبر فيكبر
فصل في التكبير في الأضحى وأما تكبير الأضحى ففي وقته ثلاثة أقوال أحدهما يبتدأ بعد الظهر من يوم النحر إلى أن يصلى الصبح من آخر أيام التشريق والدليل على أنه يبتدأ بعد الظهر قوله عز وجل { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } والمناسك تقضى يوم النحر ضحوة
وأول صلاة تلقاهم الظهر
والدليل على أنه يقطعه بعد الصبح أن الناس تبع للحاج وآخر صلاة يصليها الحاج بمنى صلاة الصبح ثم يخرج
والثاني يبتدأ بعد غروب الشمس من ليلة العيد قياسا على عيد الفطر ويقطعه إذا صلى الصبح من آخر أيام التشريق لما ذكرناه
والثالث أنه يبتدأ بعد صلاة الصبح من يوم عرفة ويقطعه بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق لما روى عمر وعلي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في دبر كل صلاة بعد صلاة الصبح يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق
____________________
(1/121)
فصل في التكبير في أيام التشريق السنة أن يكبر في هذه الأيام خلف الفرائض لنقل الخلف عن السلف
وهل يكبر خلف النوافل فيه طريقان من أصحابنا من قال يكبر قولا واحدا لانها صلاة راتبة فأشبهت الفرائض
ومنهم من قال فيه قولان أحدهما يكبر لما قلناه
والثاني لا يكبر لان النفل تابع للفرض والتابع لا يكون له تبع
ومن فاتته صلاة في هذه الأيام فأراد قضاءها في غيرها لم يكبر خلفها لان التكبير يختص بهذه الأيام فلا يفعل فى غيرها وإن قضاها في هذه الأيام ففيه وجهان أحدهما يكبر لان وقت التكبير باق
والثاني لا يكبر لان التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها وقد فات الوقت فلم يقض
باب صلاة الكسوف وصلاة الكسوف سنة لقوله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل فإذا رأيتموهما فقوموا وصلوا
والسنة أن يغتسل لها لانها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فيسن لها الغسل كصلاة الجمعة
والسنة أن تصلى حيث تصلى الجمعة لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ولانه يتفق في وقت لا يمكن قصد المصلى فيه وربما يجلى قبل أن يبلغ المصلى فيفوت فكان الجامع أولى
والسنة أن يدعى لها الصلاة جامعة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رجلا أن ينادي الصلاة جامعة
فصل في صفة صلاة الكسوف وهي ركعتان في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان
والسنة أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها ثم يركع ويسبح بقدر مائة آية ثم يرفع ويقرأ فاتحة الكتاب
ويقرأ بقدر مائتي آية ثم يركع ويسبح بقدر تسعين آية ثم يسجد كما يسجد في غيرها
وقال أبو العباس يطيل السجود كما يطيل الركوع وليس بشيء لان الشافعي رحمه الله لم يذكر ذلك ولا ( نقل ) ذلك في خبر ولو كان قد أطال لنقل كما نقل في القراءة والركوع ثم يصلي الركعة الثانية فيقرأ بعد الفاتحة قدر مائة آية وخمسين آية ثم يركع ( يدعو ) بقدر سبعين آية ثم يرفع ويقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة آية ثم يركع بقدر خمسين آية ثم يسجد
والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال كسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد وانصرف وقد تجلت الشمس
والسنة أن يسر بالقراءة في كسوف الشمس لما روي عن ابن عباس قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فصلى فقمت إلى جنبه فلم أسمع له قراءة ولانها صلاة نهار لها نظير بالليل فلم يجهر فيها بالقراءة كالظهر
ويجهر في كسوف القمر لانها صلاة ليل لها نظير بالنهار فيسن لها الجهر كالعشاء
فصل يخطب للكسوف بعد الصلاة والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم فرغ من صلاته فقام فخطب الناس فحمد الله وأثني عليه وقال الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وتصدقوا
فصل إذا تجلت الشمس ولم يصل فإن لم يصل حتى تجلت لم يصل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رأيتم ذلك فصلوا حتى تنجلي فإن تجلت وهو في الصلاة أتمها لانها صلاة أصل فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصلوات
وإن تجللتها غمامة وهي كاسفة صلى لان الأصل
____________________
(1/122)
بقاء الكسوف وإن غربت الشمس ( وهي ) كاسفة لم يصل لانه لا سلطان لها بالليل وإن غاب القمر وهو كاسف فإن كان قبل طلوع الفجر صلى لان سلطانه باق وإن غاب بعد طلوع الفجر ففيه قولان قال في القديم لا يصلي لان سلطانه بالليل وقد ذهب الليل
وقال في الجديد يصلي لان سلطانه باق ما لم تطلع الشمس لانه ينتفع بضوئه وإن صلى ولم تتجل لم يصل مرة أخرى لانه لم ينقل ذلك عن أحد
ولا تسن صلاة الجماعة لآية غير الكسوف كالزلازل وغيرها لان هذه الآيات قد كانت ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى لها جماعة غير الكسوف
فصل في اجتماع صلاة الكسوف مع غيرها وإن اجتمعت صلاة الكسوف مع غيرها قدم أخوفهما فوتا فإن استويا في الفوت قدم آكدهما فإن اجتمعت مع صلاة الجنازة قدمت صلاة الجنازة لانه يخشى عليها التغير والانفجار وإن اجتمعت مع المكتوبة في أول الوقت بدأ بصلاة الكسوف لانه يخاف فوتها بالتجلى وإذا فرغ بدأ بالمكتوبة قبل الخطبة للكسوف لان المكتوبة يخاف فوتها والخطبة لا يخاف فوتها وإن اجتمعت معها في آخر الوقت بدأ بالمكتوبة لانهما استويا في خوف الفوت والمكتوبة آكد فكان تقديمها أولى وإن اجتمعت مع الوتر في آخر وقتها قدمت صلاة الكسوف لانهما استويا في الفوت وصلاة الكسوف آكد فكانت بالتقديم أولى
باب صلاة الاستسقاء وصلاة الاستسقاء سنة لما روى عباد بن تميم عن عمه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه واستسقى والسنة أن يكون في المصلى لما روت عائشة رضي الله عنها قالت شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ولان الجمع يكثر فكان المصلى أرفق بهم
فصل في عمل الإمام عند الاستسقاء إذا أراد الإمام الخروج إلى الاستسقاء وعظ الناس وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي قبل أن يخرج لان المظالم والمعاصي تمنع المطر والدليل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله أنه قال إذا بخس المكيال حبس القطر وقال مجاهد في قوله عز وجل { ويلعنهم اللاعنون } قال دواب الأرض تلعنهم تقول تمنع القطر خطاياهم ويأمرهم بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ويخرجون في اليوم الرابع وهم صيام لقوله صلى الله عليه وسلم دعوة الصائم لا ترد ويأمرهم بالصدقة لانه أرجى للإجابة ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم لان عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا فيسقوا ويستسقي بأهل الصلاح لما روي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك إلى الله عز وجل فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فثارت سحابة من المغرب كأنها ترش وهبت لها ريح فسقوا حتى كاد الناس ألا يبلغوا منازلهم ويستسقى بالشيوخ والصبيان لقوله صلى الله عليه وسلم لولا صبيان رضع وبهائم رتع وعباد الله ركع لصب عليهم العذاب صبا
____________________
(1/123)
قال في الأم ولا آمر بإخراج البهائم وقال أبو إسحق أستحب إخراج البهائم لعل الله يرحمها لما روي أن سليمان عليه السلام خرج يستسقي فرأى نملة تستسقي فقال ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم
ويكره إخراج الكفار للاستسقاء لانهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم إليه فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا لانهم جاءوا في طلب الرزق
والمستحب أن يتنظف للاستسقاء بغسل وسواك لانها صلاة يسن لها الاجتماع والخطبة فيشرع لها الغسل كصلاة الجمعة
ولا يستحب أن يتطيب لها لان الطيب للزينة وليس هذا وقت زينة ويخرج متواضعا متبذلا لما روى ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي متواضعا مبتذلا متخشعا متضرعا
ولا يؤذن لها ولا يقام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا
والمستحب أن ينادى لها الصلاة جامعة لانها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة ولا يسن لها الأذان والإقامة فيسن لها الصلاة جامعة كصلاة الكسوف
فصل في صفة صلاة الاستسقاء وصلاته ركعتان كصلاة العيد ومن أصحابنا من قال يقرأ في الأولى بقاف وفي الثانية سورة نوح لانها فيها ذكر الاستسقاء والمذهب أنه يقرأ فيها ما يقرأ في العيد لما روي أن مروان أرسل إلى ابن عباس سأله عن سنة الاستسقاء فقال سنة الاستسقاء الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه يساره ويساره يمينه وصلى ركعتين فكبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ { سبح اسم ربك } وقرأ في الثانية { هل أتاك حديث الغاشية } وكبر خمس تكبيرات
والسنة أن يخطب لها بعد الصلاة لحديث أبي هريرة
والمستحب أن يدعو في الخطبة الأولى فيقول اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا ( مريعا ) غدقا مجللا ( طبقا ) سحا عاما دائما اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد والبلاد من اللاواء والضنك والجهد ما لا نشكو إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات
____________________
(1/124)
السماء وأنبت لنا من بركات الأرض اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا
والمستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويحول ما على الأيمن إلى الأيسر وما على الأيسر إلى الأيمن لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة ودعا وحول رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن فإن كان الرداء مربعا نكسه فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وإن كان مدورا اقتصر على التحويل لما روى عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة له سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه
ويستحب للناس أن يفعلوا مثل ذلك لما روي في حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول رداءه وقلب ظهرا لبطن وحول الناس معه قال الشافعي رحمه الله وإذا حولوا أرديتهم تركوها محولة لينزعوها مع الثياب لانه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم غيرها بعد التحويل
ويستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار ليكون أبلغ ولهذا قال الله تعالى { إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا }
ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه
ويستحب أن يكثر من الاستغفار ومن قوله تعالى { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا } لما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي فصعد المنبر فقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا استغفروا ربكم إنه كان غفارا ثم نزل فقيل له يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر
فصل في تكرار الاستسقاء قال في الأم فإن صلوا ولم يسقوا عادوا من الغد وصلوا واستسقوا فإن سقوا قبل أن يصلوا صلوا شكرا لله وطلبا للزيادة
ويجوز الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة لحديث عمر رضي الله عنه
ويستحب لاهل الخصب أن يدعوا لاهل الجدب
ويستحب إذا جاء المطر أن يقول اللهم صيبا هنيئا لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال ذلك
ويستحب أن يتمطر لاول مطر لما روى أنس قال أصابنا مطر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابه المطر فقلنا يا رسول الله لم صنعت هذا قال إنه حديث عهد بربه
ويستحب إذا سال الوادي أن يغتسل فيه ويتوضأ لما روي أنه جرى الوادي فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا بنا إلى هذا الذي سماه الله طهورا حتى نتوضأ منه ونحمد الله عليه ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح لما روى ابن عباس قال كنا مع عمر رضي الله عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق وبرد فقال لنا كعب من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي من ذلك الرعد فقلنا فعوفينا
____________________
(1/125)
كتاب الجنائز باب ما يفعل بالميت المستحب لكل أحد أن يكثر ذكر الم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا نستحيي يا نبي الله والحمد الله قال ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء وينبغي أن يستعد للموت بالخروج من المظالم والإقلاع من المعاصي والإقبال على الطاعات لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبرا فبكى حتى بل الثرى بدموعه وقال إخواني لمثل هذا فأعدوا
فصل فيما يستحب للمريض ومن مرض استحب له أن يصبر لما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يشفيني فقال إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك فقالت أصبر ولا حساب علي
ويستحب أن يتداوى لما روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام
ويكره أن يتمنى الموت لضر نزل به لما روى أنس أن النبي عليه السلام قال لا يتمنين أحدكم الموت لضيق نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي وتوفني ( إذا كانت ) الوفاة خيرا لي
وينبغي أن يكون حسن الظن بالله عز وجل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل
ويستحب عيادة المريض لما روى البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المرضى فإن رجاه دعا له والمستحب أن يقول أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك عافاه الله تعالى من ذلك المرض
وإن رآه منزولا به فالمستحب أن يلقنه قول لا إله إلا الله لما روى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقنوا موتاكم لا إله إلا الله وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة ويستحب أن يقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا على موتاكم يعني يس
ويستحب أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة لما روت سلمى أم ولد رافع قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعي فراشي ههنا واستقبلي بي القبلة ثم قامت واغتسلت كأحسن ما يغتسل ولبست ثيابا جددا ثم قالت تعلمين أني مقبوضة الآن ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها
فصل فيما يصنع بمن مات فإذا مات تولى أرفقهم به إغماض عينيه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة ( فأغمض بصره ثم قال إن الروح إذا قبض تبعه البصر ولانها إذا لم تغمض بقيت ( عيناه ) مفتوحة فيقبح منظره ويشد لحييه بعصابة )
____________________
(1/126)
عريضة تجمع جميع لحييه ثم يشد العصابة على رأسه لانه إذا لم يفعل ذلك استرخى لحياه وانفتح فوه وقبح منظره وربما دخل إلى فيه شيء من الهوام وتلين مفاصله لانه أسهل في الغسل ولانها تبقى جافية فلا يمكن تكفينه وتخلع ثيابه لان الثياب تحمي الجسم فيسرع إليه التغيير والفساد ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره ويجعل على بطنه حديدة لما روي أن مولى أنس مات فقال أنس ضعوا على بطنه حديدة لئلا ينتفخ فإن لم تكن حديدة جعل عليه طين رطب ويسجى بثوب لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجى بثوب حبرة ويسارع إلى قضاء دينه والتوصل إلى إبرائه منه لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى ويبادر إلى تجهيزه لما روى علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث لا تؤخروهن الصلاة والجنازة والأيم إذا وجدت كفؤا فإن مات فجأة ترك حتى يتيقن موته
باب غسل الميت ( وغسل الميت ) فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي سقط من بعيره اغسلوه بماء وسدر فإن كان الميت رجلا لا زوجة له فأولى الناس بغسله الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثأ ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم لانهم أحق بالصلاة عليه فكانوا أحق بالغسل
وإن كان له زوجة جاز لها غسله لما روت عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أسماء بنت عميس لتغسله
وهل تقدم على العصبات فيه وجهان أحدهما أنها تقدم لانها تنظر منه إلى ما لا تنظر العصبات وهو ما بين السرة والركبة
والثاني يقدم العصبات لانهم أحق بالصلاة عليه
وإن ماتت امرأة ولم يكن لها زوج غسلها النساء وأولاهن ( ذات ) رحم محرم ثم ذات رحم غير محرم ثم الأجنبية فإن لم يكن نساء غسلها الأقرب فالأقرب من الرجال على ما ذكرناه
وإن كان لها زوج جاز له أن يغسلها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا وأقول وارأساه فقال بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال وما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك
وهل يقدم على النساء على وجهين أحدهما يقدم لانه ينظر إلى ما لا ينظر النساء منها
والثاني تقدم النساء على الترتيب الذي ذكرناه
فإن لم يكن نساء فأولى الأقرباء بالصلاة فإن لم يكن فالزوج وإن طلق زوجته طلقة رجعية ثم مات أحدهما قبل الرجعة لم يكن للآخر غسله لانها محرمة عليه
____________________
(1/127)
تحريم المبتوتة وإن مات رجل
وليس هناك إلا امرأة أجنبية أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي ففيه وجهان أحدهما ييمم
والثاني يستر بثوب ويجعل الغاسل على يده خرقة ( ثم ) يغسله
فإن مات كافر
فأقاربه الكفار أحق بغسله من أقاربه المسلمين لان للكافر عليه ولاية وإن لم يكن ( له ) أقارب من الكفار جاز لاقاربه من المسلمين غسله لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن يغسل أباه
وإن ماتت ذمية ولها زوج مسلم كان له غسلها لان النكاح كالنسب في الغسل
وإن مات الزوج قال في الأم كرهت لها أن تغسله فإن غسلته أجزأه لان القصد منه التنظيف وذلك يحصل بغسلها
وإن ماتت أم ولد كان للسيد غسلها لانه يجوز له غسلها في حال الحياة فجاز له غسلها بعد الموت كالزوجة
وإن مات السيد فهل يجوز لها غسله فيه وجهان قال أبو علي الطبري لا يجوز لانها عتقت بموته فصارت أجنبية
والثاني يجوز لانه لما جاز له غسلها جاز لها غسله كالزوجة
فصل في صفة الغاسل وينبغي أن يكون الغاسل أمينا لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا يغسل موتاكم إلا المأمونون ولانه إذا لم يكن أمينا لم يؤمن ألا يستوفي الغسل وربما ستر ما يظهر من جميل أو يظهر ما يرى من قبيح
ويستحب أن يستر الميت عن العيون لانه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه وربما اجتمع في موضع من بدنه دم فيراه من لا يعرف فيظن أن ذلك عقوبة وسوء عاقبة
ويستحب ألا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية وإن احتاج إلى معين استعان بمن لا بد له منه
ويستحب أن يكون بقربه مجمرة حتى إن كانت له رائحة لم تظهر والأولى أن يغسل في قميص لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلوه وعليه قميص يصبون عليه الماء ويدلكونه من فوقه ولان ذلك أستر فكان أولى
والماء البارد أولى من الماء المسخن لان البارد يقويه والمسخن يرخيه وإن كان به وسخ لا يزيله إلا المسخن أو البرد شديد أو يخاف الغاسل من استعمال البارد غسله بالمسخن
وهل تجب نية الغسل فيه وجهان أحدهما لا تجب لان القصد منه التنظيف فلم تجب فيه النية كإزالة النجاسة
والثاني تجب لانه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فوجبت فيه النية كغسل الجنابة
ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورته لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ويستحب ألا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لا بد منه ولا يجوز أن يمس عورته لانه إذا لم يجز النظر فالمس أولى ويستحب أن لا يمس سائر بدنه لما روي أن عليا كرم الله وجهه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يتبع بها ما تحت القميص
فصل في مستحبات الغسل والمستحب أن يجلسه إجلاسا رفيقا ويمسح بطنه مسحا بليغا لما روى القاسم بن محمد قال توفي عبد الله بن عبد الرحمن فغسله ابن عمر فنفضه نفضا شديدا وعصره عصرا شديدا ثم غسله ولانه ربما كان في جوفه شيء فإذا لم يعصره قبل الغسل خرج بعده وربما خرج بعدما كفن فيفسد الكفن وكلما أمر اليد على البطن صب عليه ماء كثيرا حتى إن خرج ( منه ) شيء لم تظهر رائحته ثم يبدأ فيغسل أسافله كما يفعل الحي إذا أراد الغسل ثم يوضأ كما يتوضأ الحي لما روت أم عطية قالت لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا ابدأوا بميامنها ومواضع الوضوء ولان الحي يتوضأ إذا أراد الغسل ويدخل أصبعه في فيه ويسوك بها أسنانه ولا يفغر فاه ويتتبع ما تحت أظفاره إن لم يكن قد قلم أظفاره ويكون ذلك بعود لين لا يجرحه ثم يغسله ويكون كالمنحدر قليلا حتى لا يجتمع الماء تحته فيستنقع فيه ويفسد بدنه ويغسله ثلاثا كما يفعل الحي في وضوئه وغسله فيبدأ برأسه ولحيته كما يفعل الحي فإن كانت اللحية متلبدة سرحها حتى يصل الماء إلى الجميع ويكون بمشط منفرج الأسنان ويمشطه برفق حتى لا ينتف شعره ثم يغسل شقه الأيمن حتى ينتهي إلى رجله ثم شقه الأيسر حتى ينتهي إلى رجله ثم يحرفه على جنبه الأيسر فيغسل جانب ظهره كذلك لحديث أم عطية والمستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره اغسلوه بماء وسدر ولان السدر ينظف الجسم ثم يغسل بالماء
____________________
(1/128)
القراح ويجعل في الغسلة الأخيرة شيئا من الكافور لما روت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان في آخر غسلة من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئا من الكافور ولان الكافور يقويه
وهل يحتسب الغسل بالسدر من الثلاث أم لا فيه وجهان قال أبو إسحاق يعتد به لانه غسل بما لم يخالطه شيء ومن أصحابنا من قال لا يعتد به لانه ربما غلب عليه السدر فعلى هذا يغسل ثلاث مرات أخر بالماء القراح
والواجب منها مرة واحدة كما قلنا في الوضوء
ويستحب أن يتعاهد إمرار اليد على البطن في كل مرة فإن غسل الثلاث ولم يتنظف زاد حتى يتنظف
والسنة أن يجعله وترا خمسا أو سبعا لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن
والفرض مما ذكرنا النية وغسل مرة واحدة وإذا فرغ من غسله أعيد تليين أعضائه وينشف بثوب لانه إذا كفن وهو رطب ابتل الكفن وفسد وإن غسل ثم خرج منه شيء ففيه ثلاثة أوجه أحدهما يكفيه غسل الموضع كما لو غسل ثم أصابته نجاسة من غيره
والثاني يجب منه الوضوء لانه حدث فأوجب الوضوء كحدث الحي
والثالث يجب الغسل منه لانه خاتمة أمره فكان بطهارة كاملة وإن تعذر غسله لعدم الماء أو غيره يمم لانه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فانتقل فيه عند العجز إلى التيمم كالوضوء وغسل الجنابة
فصل في تقليم أظفاره وغير ذلك وفي تقليم أظفاره وحف شاربه وحلق عانته قولان أحدهما يفعل ذلك لانه تنظيف فشرع في حقه كإزالة الوسخ
والثاني يكره وهو قول المزني لانه قطع جزء منه فهو كالختان
قال الشافعي رحمه الله ولا يحلق شعر رأسه وقال أبو إسحاق إن لم يكن له جمة حلق رأسه لانه تنظيف فهو كتقليم الأظفار والمذهب الأول لان حلق الرأس يراد للزينة لا للتنظيف
فصل في غسل المرأة وإن كانت امرأة غسلت كما يغسل الرجل وإن كان لها شعر جعل ثلاث ذوائب وتلقى خلفها لما روت أم عطية في وصف غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ضفرنا ناصيتها وقرناها ثلاثة قرون ثم ألقيناها خلفها
فصل في غسل من غسل ميتا ويستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فليغتسل ولا يجب ذلك
وقال في البويطي إن صح الحديث قلت بوجوبه والأول أصح لان الميت طاهر ومن غسل طاهرا لم يلزمه بغسله طهارة كالجنب
وهل هو آكد أو غسل الجمعة فيه قولان قال في القديم غسل الجمعة آكد لان الأخبار فيه أصح
وقال في الجديد الغسل من غسل الميت آكد وهو الأصح لان غسل الجمعة غير واجب والغسل من غسل الميت متردد بين الوجوب وغيره
ويستحب للغاسل إذا رأى من الميت ما يعجبه أن يتحدث به وإن رأى ما يكره لم يجز أن يتحدث به لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة
باب الكفن تكفين الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي خر من بعيره كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ويجب ذلك في ماله للخبر ويقدم على الدين كما تقدم كسوة المفلس على ديون غرمائه فإن قال بعض الورثة أنا أكفنه من مالي
وقال بعضهم بل يكفن من التركة كفن من التركة لان في تكفين بعض الورثة من ماله منة على الباقين فلا يلزم قبولها
وإن كانت امرأة لها زوج ففيه وجهان قال أبو إسحاق يجب على الزوج لان من لزمه كسوتها في حال الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة
____________________
(1/129)
مع السيد
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجب في مالها لانها بالموت صارت أجنبية منه فلم يلزمه كفنها والأول أصح لان هذا يبطل بالأمة فإنها صارت بالموت أجنبية من مولاها ثم يجب عليه تكفينها فإن لم يكن لها مال ولا زوج فالكفن على من يلزمه نفقتها اعتبارا بالكسوة في حال الحياة
فصل في صفة الكفن وأقل ما يجزىء ما يستر العورة كالحي ومن أصحابنا من قال أقله ثوب يعم البدن لان ما دونه لا يسمى كفنا والأول أصح
والمستحب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار ولفافتين لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة
فإن كفن في خمسة أثواب لم يكره لان ابن عمر رضي الله عنه كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ولان أكمل ثياب الحي خمسة قميصان وسراويل وعمامة ورداء
وتكره الزيادة على ذلك لانه سرف
وإن قال بعض الورثة يكفن بثوب وقال بعضهم يكفن بثلاثة ففيه وجهان أحدهما يكفن بثوب لانه يعم ( البدن ) ويستر ( العورة )
والثاني يكفن بثلاثة أثواب لانه هو الكفن المعروف المسنون والأفضل ألا يكون فيه قميص ولا عمامة لحديث عائشة رضي الله عنها
فإن جعل فيها قميص وعمامة لم يكره لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى ابن عبد الله بن أبي ابن سلول قميصا ليجعله في كفن أبيه
وإن كان في الكفن قميص وعمامة جعل ذلك تحت الثياب لان إظهاره زينة وليس الحال حال زينة
والمستحب أن يكون الكفن أبيض لحديث عائشة رضي الله عنها والمستحب أن يكون حسنا لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه
ويكره المغالاة في الكفن لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا
والمستحب أن يبخر الكفن ثلاثا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثا
فصل فيما يصنع بالكفن والمستحب أن يبسط أحسنها وأوسعها ثم الثاني ثم الذي يلي الميت اعتبارا بالحي فإنه يجعل أحسن ثيابه وأوسعها فوق الثياب وكلما فرش ثوبا نثر فيه الحنوط ثم يحمل الميت إلى الأكفان مستورا ويترك على الكفن مستلقيا على ظهره ويؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ويشد عليه كما يشد التبان
ويستحب أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى خراج نافذ إن كان عليه ليخفى ما يظهر من رائحته ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السجود لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال يتتبع بالطيب مساجده ولان هذه المواضع شرفت بالسجود فخصت بالطيب
قال وأحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور
____________________
(1/130)
لان ذلك يقوي البدن ويشده ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب
قال في البويطي فإن حنط بالمسك فلا بأس لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المسك من أطيب الطيب وهل يجب الحنوط والكافور أم لا فيه قولان وقيل فيه وجهان أحدهما يجب لانه جرت به العادة في الميت فكان واجبا كالكفن
والثاني أنه لا يجب كما لا يجب الطيب في حق المفلس وإن وجبت الكسوة
فصل اللف في الكفن ثم يلف في الكفن ويجعل ما يلي الرأس أكثر كالحي ما على رأسه أكثر
رحمة الله وتثنى صنفة الثوب التي على الميت فيبدأ بالأيسر على الأيمن وبالأيمن على الأيسر
وقال في موضع ( آخر ) يبدأ بالأيمن على الأيسر ثم بالأيسر على الأيمن فمن أصحابنا من جعلها على قولين أحدهما يبدأ بالأيسر على الأيمن
والثاني يبدأ بالأيمن على الأيسر
ومنهم من قال هي على قول واحد أنه تثنى صنفه الثوب الأيسر على جانبه الأيمن وصنفة الثوب الأيمن على جانبه الأيسر كما يفعل الحى بالساج ( وهو ) الطيلسان
وهذا هو الأصح لان في الطيلسان ما على الجانب الأيسر هو الظاهر ثم يفعل ذلك في بقية الأكفان وما يفضل من عند الرأس يثنى على وجهه وصدره فإن احتيج إلى شد الأكفان شدت ثم تحل عند الدفن لانه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود
فإن لم يكن له إلا ثوب قصير لا يعم البدن غطي رأسه وترك الرجل لما روي أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة فكان إذا غطي بها رأسه بدت رجلاه وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر
فصل في كفن المرأة وأما المرأة فإنها تكفن بخمسة أثواب إزار وخمار وثلاثة أثواب
وهل يكون أحد الثلاثة درعا فيه قولان أحدهما أن أحدها درع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أم عطية في كفن ابنته أم كلثوم إزارا ودرعا وخمارا وثوبين ملاء
والثاني أنه لا يكون فيه درع لان القميص إنما تحتاج إليه المرأة لتستتر به في تصرفها والميت لا يتصرف فإن قلنا لا درع فيها أزرت بإزار وتخمر بخمار وتدرج في ثلاثة أثواب فإذا قلنا يكون فيها درع أزرت بإزار وتلبس الدرع وتخمر بخمار وتدرج في ثوبين
قال الشافعي رحمه الله ويشد على صدرها ثوب ليضم ثيابها فلا تنتشر وهل يحل عنها الثوب عند الدفن أم لا فيه وجهان قال أبو العباس يدفن معها وعليه يدل كلام الشافعي فإنه ذكر أنه يشد ولم يذكر أنه يحل
وقال أبو إسحاق ينحى عنها في القبر وهو الأصح لانه ليس من جملة الكفن
فصل فيما يصنع بالمحرم إذا مات إذا مات محرم لم يقرب الطيب ولم يلبس المخيط ولم يخمر رأسه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذى ( خر ) من بعيره اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا
وإن ماتت معتدة عن وفاة ففيه وجهان أحدهما لا تقرب الطيب لانها ماتت والطيب محرم عليها فلم يسقط تحريمه بالموت كالمحرمة
والثاني تقرب الطيب لان الطيب حرم عليها في العدة حتى لا يدعو ذلك إلى نكاحها وقد زال ذلك بالموت
____________________
(1/131)
باب الصلاة على الميت الصلاة على الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله وفي أدنى ما يكفي قولان أحدهما ثلاثة لان قوله صلوا خطاب جمع وأقل الجمع ثلاثة
والثاني أنه يكفي أن يصلي عليه واحد لانها صلاة ليس من شرطها الجماعة فلم يكن من شرطها العدد كسائر الصلوات
ويجوز فعلها في جميع الأوقات لانها صلاة لها سبب فجاز فعلها في كل وقت ويجوز فعلها في المسجد وغيره لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد
والسنة أن يصلي في جماعة لما روى مالك بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت
وتجوز فرادى لان النبي صلى الله عليه وسلم مات فصلى عليه الناس فوجا فوجا وإن اجتمع نسوة لا رجل معهن صلين عليه فرادى لان النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت فإن صلين جماعة فلا بأس
فصل في كراهة النعي ويكره نعي الميت للناس والنداء عليه للصلاة لما روي عن حذيفة أنه قال إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدا فإني أخاف أن يكون نعيا وقال عبد الله الإيذان بالميت نعي الجاهلية
فصل فيمن أحق بالصلاة على الميت وأولى الناس بالصلاة عليه الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم على ترتيب العصبات لان القصد من الصلاة على الميت الدعاء للميت ودعاء هؤلاء أرجى للإجابة فإنهم أفجع بالميت من غيرهم فكانوا بالتقديم أحق
وإن اجتمع أخ من أب وأم وأخ من أب فالمنصوص أن الأخ من الأب والأم أولى
ومن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما هذا
والثاني أنهما سواء لان الأم لا مدخل لها في التقديم في الصلاة على الميت فكان في الترجيح بها قولان كما نقول في ولاية النكاح
ومنهم من قال الأخ من الأب والأم أولى قولا واحدا لان الأم وإن لم يكن لها مدخل في التقديم إلا أن لها مدخلا في الصلاة على الميت فرجح بها قولا واحدا كما نقول في الميراث يقدم بها الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب حين كان لها مدخل في الميراث وإن لم يكن لها مدخل في التعصيب
قال الشافعي رحمه الله وإن اجتمع وليان في درجة قدم الأسن لان دعاءه أرجى إجابة فإن لم يوجد الأسن قدم الأقرأ الأفقه لانه أفضل وصلاته أكمل فإن استويا أقرع بينهما لانهما تساويا في التقديم فأقرع بينهما
وإن اجتمع حر وعبد هو أقرب إليه من الحر فالحر أولى لان الحر من أهل الولاية والعبد ليس من أهل الولاية
وإن اجتمع الوالي والولي المناسب ففيه قولان قال في القديم الوالي أولى لقوله صلى الله عليه وسلم لا يؤم الرجل في سلطانه
وقال في الجديد الولي أولى لانها ولاية تترتب فيها العصبات فقدم الولي على الوالي كولاية النكاح
فصل في شروط صحة صلاة الجنازة ومن شرط صحة صلاة الجنازة الطهارة وستر العورة لانها صلاة فشرط فيها الطهارة وستر العورة كسائر الصلوات
ومن شرطها القيام واستقبال القبلة لانها صلاة مفروضة فوجب فيها القيام واستقبال القبلة مع القدرة كسائر الفرائض
والسنة أن يقف الإمام فيها عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة
وقال أبو علي الطبري السنة أن يقف عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة
والمذهب الأول لما روي أن أنسا صلى على رجل فقام عند رأسه وعلى امرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة عند عجيزتها وعلى الرجل عند رأسه قال نعم
فإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم فإن كان رجل وصبي وامرأة وخنثى قدم الرجل إلى الإمام ثم الصبي ثم الخنثى المشكل ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة
____________________
(1/132)
وروى عمار بن أبي عمار أن زيد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا فصلى عليهما سعيد بن العاص فجعل زيدا مما يليه وأمه مما يلي القبلة وفي القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين
والأفضل أن يفرد كل واحد بصلاة فإن صلى عليهم صلاة واحدة جاز لان القصد من الصلاة عليهم الدعاء لهم وذلك يحصل بالجمع في صلاة واحدة
فصل في فرض النية إذا أراد الصلاة نوى الصلاة على الميت وذلك فرض لانها صلاة فوجب لها النية كسائر الصلوات ثم يكبر أربعا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعا وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن
والتكبيرات الأربع واجبة والدليل عليه أنها إذا فاتت وجب قضاؤها ولو لم تكن واجبة لم يجب قضاؤها كتكبيرات العيد
والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه على الجنازة في كل تكبيرة وعن عبد الله بن عمر والحسن بن علي رضي الله عنهم مثله وعن زيد بن ثابت وقد رأى رجلا فعل ذلك فقال أصاب السنة ولانها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فيسن لها رفع اليدين كتكبيرة الإحرام في سائر الصلوات
فصل في قراءة الفاتحة ويقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب لما روى جابر وهي فرض من فروضها لانها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة كسائر الصلوات وفي قراءة السورة وجهان أحدهما يقرأ سورة قصيرة لان كل صلاة قرأ فيها الفاتحة قرأ فيها السورة كسائر الصلوات
والثاني أنه لا يقرأ لانها مبنية على الحذف والاختصار والسنة في قراءتها الإسرار لما روي أن ابن عباس صلى بهم على جنازة فكبر ثم قرأ بأم القرآن فجهر بها ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال إنما جهرت بها لتعلموا أنها هكذا ولا فرق بين أن يصلي بالليل أو النهار
وقال أبو القاسم الداركي إن كانت الصلاة بالليل جهر فيها بالقراءة لان لها نظيرا بالنهار يسر فيها فجهر فيها كالعشاء وهذا لا يصح لان صلاة العشاء صلاة راتبة في وقت من الليل ولها نظير راتب في وقت من النهار يسن في نظيرها الإسرار فيسن فيها الجهر وصلاة الجنازة صلاة واحدة ليس لها وقت تختص به من ليل أو نهار بل يفعل ذلك في الوقت الذي يوجد فيه سببها وسنتها الإسرار فلم يختلف فيها الليل والنهار
وفي دعاء التوجه والتعوذ عند القراءة في هذه التكبيرة وجهان قال عامة أصحابنا لا يأتي به لانها مبنية على الحذف والاختصار فلا تحتمل التطويل والإكثار
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله يأتي به لان التوجه يراد لافتتاح الصلاة والتعوذ يراد للقراءة وفي هذه الصلاة افتتاح وقراءة فوجب أن يأتي بذكرهما
فصل في محل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في التكبيرة الثانية لما ذكرناه من حديث ابن عباس وهو فرض من فروضها لانها صلاة فوجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الصلوات
فصل في الدعاء للميت ويدعو للميت في التكبيرة الثالثة لما روى أبو قتادة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعته يقول اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا
وفي بعضها اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام والإيمان وهو فرض من فروضها لان القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت فلا يجوز الإخلال بالمقصود وأدنى الدعاء ما يقع عليه الاسم
والسنة أن يقول ما رواه أبو قتادة وذكره الشافعي رحمه الله قال يقول اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك وأنت أعلم به اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ( ولقه ) برحمتك ( الأمن ) من عذابك حتى تبعثه إلى
____________________
(1/133)
جنتك يا أرحم الراحمين
وبأي شيء دعا جاز لانه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية مختلفة فدل على أن الجميع جائز
فصل في التسليم قال في الأم يكبر في الرابعة ويسلم قال في البويطي يقول اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده
والتسليم كالتسليم في سائر الصلوات لما روي عن عبد الله أنه قال رأيت ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن وتركهن الناس
إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة والتسليم واجب لانها صلاة يجب لها الإحرام فوجب الخروج منها بالسلام كسائر الصلوات
وهل يسلم تسليمة أو تسليمتين على ما ذكرناه في سائر الصلوات
فصل في إدراك الصلاة إذا أدرك الإمام وقد سبقه ببعض الصلاة كبر ودخل في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته لا ما يقرؤه الإمام لانه يمكنه أن يأتي بما يقتضيه ترتيب الصلاة مع المتابعة
فإذا سلم الإمام أتى بما بقي من التكبيرات نسقا من غير دعاء في أحد القولين لان الجنازة ترفع قبل أن يفرغ فلا معنى للدعاء بعد غيبة الميت
ويدعو للميت ثم يكبر ويسلم في القول الثاني لان غيبة الميت لا تمنع من فعل الصلاة
فصل في البدار بدفن الميت إذا صلي على الميت بودر إلى دفنه ولا ينتظر حضور من يصلي عليه إلا الولي فإنه ينتظر إذا لم يخش على الميت التغير
فإن خيف عليه التغير لم ينتظر
وإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه
وإن حضر من صلى مرة فهل يعيد الصلاة مع من يصلي فيه وجهان أحدهما يستحب كما يستحب في سائر الصلوات أن يعيدها مع من يصلي جماعة
والثاني وهو الصحيح أنه لا يعيد لانه يصليها نافلة وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها
وإن حضر من لم يصل بعد الدفن صلى على القبر لما روي أن مسكينة ماتت ليلا فدفنوها ولم يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها من الغد
وإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر فيه أربعة أوجه أحدها يصلى عليه إلى شهر لان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر
والثاني يصلى عليه ما لم يبل لانه إذا بلي لم يبق ما يصلى عليه
والثالث يصلي عليه من كان من أهل الفرض عند موته لانه كان من أهل الخطاب بالصلاة عليه وأما من ولد بعده أو بلغ بعد موته فلا يصلى عليه لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه
والرابع أنه يصلى عليه أبدا لان القصد من الصلاة على الميت الدعاء والدعاء يجوز في كل وقت
فصل في الصلاة على الغائب وتجوز الصلاة على الميت الغائب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لاصحابه وهو بالمدينة فصلى عليه وصلوا خلفه
وإن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده لانه يمكنه الحضور من غير مشقة
فصل في العمل في بعض الميت وإن وجد بعض الميت غسل وصلي عليه لان عمر رضي الله عنه صلى على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس وصلت الصحابة رضي الله عنهم على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل
فصل إذا استهل السقط أو تحرك ثم مات وغسل وصلي عليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل السقط غسل وصلي عليه وورث وورث ولانه قد ثبت له حكم الدنيا في الإسلام والميراث والدية فغسل وصلى عليه كغيره
وإن لم يستهل ولم يتحرك فإن لم يكن له أربعة أشهر كفن بخرقة ودفن وإن تم له أربعة أشهر ففيه قولان قال في القديم يصلى عليه لانه نفخ فيه الروح فصار كمن استهل
وقال في الأم لا يصلى عليه وهو الأصح لانه لم يثبت له حكم الدنيا في الإرث وغيره فلم يصل عليه
فإن قلنا يصلى عليه غسل كغير السقط وإن قلنا لا يصلى عليه ففي غسله قولان قال في البويطي لا يغسل لانه لا يصلى عليه فلا يغسل كالشهيد
وقال في الأم يغسل لان الغسل قد ينفرد عن الصلاة كما نقول في الكافر
____________________
(1/134)
فصل فيما يصنع بالكافر إذا مات وإن مات كافر لم يصل عليه لقوله عز وجل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } ولان الصلاة لطلب المغفرة والكافر لا يغفر له فلا معنى للصلاة عليه
ويجوز غسله وتكفينه لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا عليه السلام أن يغسل أباه وأعطى قميصه ليكفن به عبد الله بن أبي ابن سلول وإن اختلط المسلمون بالكفار ولم يتميزوا صلوا على المسلمين بالنية لان الصلاة تنصرف إلى الميت بالنية والاختلاط لا يؤثر في النية
فصل في شهيد القتال ومن مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا
وإن جرح في الحرب ومات بعد انقضاء الحرب غسل وصلي عليه لانه مات بعد انقضاء الحرب
ومن قتل في الحرب وهو جنب ففيه وجهان قال أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة يغسل لما روي أن حنظلة بن الراهب قتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله فقالوا جامع فسمع الهيعة فخرج إلى القتال
فلو لم يجب غسله لما غسلته الملائكة
وقال أكثر أصحابنا لا يغسل لانه طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة كغسل الميت
ومن قتل من أهل البغي في قتال أهل العدل غسل وصلي عليه لانه مسلم قتل بحق فلم يسقط غسله والصلاة عليه كمن قتل في الزنا والقصاص
ومن قتل من أهل العدل في حرب أهل البغي ففيه قولان أحدهما يغسل ويصلى عليه لانه مسلم قتل في غير حرب الكفار فهو كمن قتله اللصوص
والثاني أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لانه قتل في حرب هو فيه على الحق وقاتله على الباطل فأشبه المقتول في معركة الكفار
ومن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة ففيه وجهان أحدهما أنه يغسل ويصلى عليه
والثاني لا يغسل ولا يصلى عليه لما ذكرناه في أهل العدل
باب حمل الجنازة والدفن يجوز حمل الجنازة بين العمودين وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش ويجعلهما على كاهله ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة فيبدأ بياسرة المقدمة فيضع العمود على عاتقه الأيمن ثم يجيء إلى ياسرة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيمن ثم يأخذ يامنة المقدمة فيضع العمود على عاتقه الأيسر ثم يجيء إلى يامنة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيسر
والحمل بين العمودين أفضل لان النبي صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين ولانه روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن الزبير رضي الله عنهم
ويستحب الإسراع بالجنازة لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخيرا تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشرا تضعون عن رقابكم ولا يبلغ به الخبب لما روى عبد الله بن مسعود قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة فقال دون الخبب فإن يكن خيرا يعجل إليه وإن يكن شرا
____________________
(1/135)
فبعدا لاصحاب النار
ويستحب اتباع الجنازة لما روى البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصر المظلوم
والمستحب ألا ينصرف من يتبع الجنازة حتى تدفن لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط وإن شهد دفنها فله قيراطان القيراط أعظم من أحد
والسنة ألا يركب لان النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة فإن ركب في الانصراف لم يكن به بأس لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فلما انصرف أتي بفرس معرورى فركبه
والسنة أن يمشي أمام الجنازة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين يديها وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولانه شفيع للميت والشفيع يتقدم على المشفوع له
والمستحب ( له ) أن يمشي أمامها قريبا منها لانه إذا بعد لم يكن معها وإن سبق إلى المقبرة فهو بالخيار إن شاء قام حتى توضع الجنازة وإن شاء قعد لما روى علي كرم الله وجهه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى وضعت وقام الناس معه ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود
ولا يكره للمسلم اتباع جنازة أقاربه من الكفار لما روي عن علي كرم الله وجهه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الضال قد مات فقال اذهب فواره
ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة لما روى عمرو بن العاص أنه قال إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار
وعن أبي موسى أنه أوصى لا تتبعوني بصارخة ولا بمجمرة ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا
فصل في حكم الدفن دفن الميت فرض على الكفاية لان في تركه على وجه الأرض هتكا لحرمته ويتأذى الناس برائحته والدفن في المقبرة أفضل لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع ولانه يكثر الدعاء له ممن يزوره
ويجوز الدفن في البيت لان النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها
فإن قال بعض الورثة يدفن في المقبرة وقال بعضهم يدفن في البيت دفن في المقبرة لان له حقا في البيت فلا يجوز إسقاطه ويستحب أن يدفن في أفضل مقبرة لان عمر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن مع صاحبيه
ويستحب أن تجمع الأقارب في موضع واحد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال أعلم بها على قبر أخي لادفن إليه من مات
وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق منهما لقوله صلى الله عليه وسلم منى مناخ من سبق فإن استويا في السبق أقرع بينهما
ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت إلا أن يعلم أنه قد بلي ولم يبق منه شيء ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض
ولا يدفن في قبر واحد اثنان لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحدا فإن دعت إلى ذلك ضرورة جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الاثنين من قتلى أحد في قبر واحد ثم يقول أيهما كان أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه إلى اللحد
وإن دعت الضرورة لان يدفن مع الرجل امرأة جعل بينهما حائل من التراب
____________________
(1/136)
وجعل الرجل اعتبارا بحال الحياة
ولا يدفن كافر بمقابر المسلمين ولا مسلم في مقبرة الكفار
ومن مات في البحر ولم يكن بقرب ساحل فالأولى أن يجعل بين لوحين ويلقى في البحر لانه ربما وقع إلى ساحل فيدفن ( فيه ) وإن كان أهل الساحل كفارا ألقي في البحر
فصل في تعميق القبر والمستحب أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة لما روي أن عمر رضي الله عنه أوصى أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة ويستحب أن يوسع من قبل رجليه ورأسه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحافر أوسع من قبل رجليه وأوسع من قبل رأسه فإن كانت الأرض صلبة ألحد لقوله صلى الله عليه وسلم اللحد لنا والشق لغيرنا وإن كانت رخوة شق الوسط
فصل فيمن أحق بدفن الميت والأولى أن يتولى الدفن الرجال لانه يحتاج إلى بطش وقوة فكان الرجال أحق وأولاهم بذلك أولاهم بالصلاة عليه لانهم أرفق به وإن كانت امرأة فزوجها أحق بدفنها لانه أحق بغسلها فإن لم يكن لها زوج فالأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم فإن لم يكن لها ذو رحم محرم ولها مملوك كان المملوك أولى من ابن العم لانه كالمحرم والخصي أولى من الفحل فإن لم يكن مملوك فابن العم ثم أهل الدين من المسلمين
والمستحب أن يكون عدد الذي يدفن وترا لان النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس وأسامة رضي الله عنهم
والمستحب أن يسجى القبر بثوب عند الدفن لان النبي صلى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ بثوب لما دفنه
فصل في كيف الدفن ويستحب أن يضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل فيه سلا لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا ولان ذلك أسهل ويستحب أن يقول عند إدخاله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله إذا أدخل الميت القبر
والمستحب أن يضجع في القبر على جنبه الأيمن لقوله صلى الله عليه وسلم إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه ولانه يستقبل القبلة فكان أولى ويوسد رأسه بلبنة أو حجر كالحي إذا نام ويجعل خلفه شيء يسنده من لبن أو غيره حتى لا يستلقي على قفاه
ويكره أن يجعل تحته مضربة أو مخدة أو في تابوت لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا أنزلتموني في اللحد فافضوا بخدي إلى الأرض وعن أبي موسى لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا وينصب اللبن على اللحد نصبا لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلى الله عليه وسلم انصبوا علي اللبن وأهيلوا علي التراب
ويستحب لمن على شفير القبر أن يحثو في القبر ثلاث حثيات من التراب لان النبي صلى الله عليه وسلم حثى في قبر ثلاث حثيات من
____________________
(1/137)
التراب
ويستحب أن يمكث على القبر بعد الدفن لما روى عثمان رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لاخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل
فصل في تسوية القبر ولا يزاد في التراب الذي أخرج من القبر فإن زادوا فلا بأس ويشخص القبر من الأرض قدر شبر لما روى القاسم بن محمد قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة
ويسطح القبر ويوضع عليه الحصى لان النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصى من حصى العرصة وقال أبو علي الطبري الأولى في زماننا أن يسنم لان التسطيح من شعار الرافضة وهذا لا يصح لان السنة قد صحت فيه فلا يعتبر بموافقة الرافضة
ويرش عليه الماء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ولانه إذا لم يرش عليه الماء زال أثره فلا يعرف
ويستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره لان النبي صلى الله عليه وسلم دفن عثمان بن مظعون ووضع عند رأسه حجرا ولانه يعرف به فيزار
ويكره أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد أو يكتب عليه لما روى جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد وأن يكتب عليه ولان ذلك من الزينة
فصل فيما يمكن استدراكه بعد الدفن إذا دفن الميت قبل الصلاة صلي على القبر لان الصلاة تصل إليه في القبر وإن دفن من غير غسل أو ( وجه ) إلى غير القبلة ولم يخش عليه الفساد في نبشه نبش وغسل ووجه إلى القبلة لانه واجب مقدور على فعله فوجب فعله وإن خشي عليه الفساد لم ينبش لانه تعذر فعله فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر
فإن وقع في القبر مال لآدمي وطالب به صاحبه نبش القبر لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خاتمي ففتح موضعا فيه فأخذه وكان يقول أنا أقربكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولانه يمكن رد المال إلى صاحبه من غير ( ضرر ) فوجب رده عليه وإن بلع الميت جوهرة لغيره ومات وطالب صاحبها شق جوفه وردت الجوهرة وإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان أحدهما يشق لانها صارت للورثة فهي كجوهرة الأجنبي
والثاني ( لا يشق ) لانه استهلكها في حياته فلم يتعلق بهم حق الورثة
وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها لانه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت
باب التعزية والبكاء على الميت تعزية أهل الميت سنة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزى مصابا فله مثل أجره
____________________
(1/138)
ويستحب أن يعزى بتعزية الخضر عليه السلام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن يقول إن في الله سبحانه عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجو فإن المصاب من حرم الثواب
ويستحب أن يدعو له وللميت فيقول أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك
وإن عزى مسلما بكافر قال أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وإن عزى كافرا بمسلم قال أحسن الله عزاءك وغفر لميتك
وإن عزى كافرا بكافر قال أخلف الله عليك ولا نقص عددك
فصل في الجلوس للتعزية ويكره الجلوس للتعزية لان ذلك محدث والمحدث بدعة
فصل في البكاء على الميت ويجوز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا إبراهيم إنا لا نغني عنك من الله شيئا ثم ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله أتبكي أو لم تنه عن البكاء قال لا ولكن نهيت عن النوح ولا يجوز لطم الخدود وشق الجيوب لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية
ويستحب زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت
والمستحب أن يقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويدعو لهم لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد
ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله زوارات القبور
فصل في حرمة القبر ولا يجوز الجلوس على القبر لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر ولا يدوسه من غير حاجة لان الدوس كالجلوس فإذا لم يجز الجلوس لم يجز الدوس
وإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوروه إلا بالدوس جاز لانه موضع عذر
ويكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة
فصل في المسجد على القبر ويكره أن يبني على القبر مسجدا لما روى أبو مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى إليه وقال لا تتخذوا قبري وثنا فإنما هلك بنو إسرائيل لانهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قال الشافعي رحمه الله وأكره أن يعظم مخلوق حتى
____________________
(1/139)
يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس
فصل في صنع الطعام لاهل الميت ويستحب لاقرباء الميت وجيرانه أن يصلحوا لاهل الميت طعاما لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه قال النبي صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه
كتاب الزكاة الزكاة ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه والأصل فيه قوله عز وجل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وروى أبو هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا فأتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فلم يروا شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم
فصل في شروط وجوب الزكاة ولا تجب الزكاة إلا على حر مسلم فأما المكاتب والعبد إذا ملكه المولى مالا فلا زكاة عليه لانه لا يملك في قوله الجديد ويملك في قوله قديم إلا أنه ملك ضعيف لا يحتمل المواساة ولهذا لا تجب عليه نفقة الأقارب ولا يعتق عليه أبوه إذا اشتراه فلم تجب عليه الزكاة وفيمن نصفه حر ونصفه عبد وجهان أحدهما أنه لا تجب عليه الزكاة لانه ناقص بالرق فهو كالعبد القن
والثاني أنها تجب فيما ملكه بنصفه الحر لانه يملك بنصفه الحر ملكا تاما فوجبت الزكاة عليه كالحر
وأما الكافر فإنه إن كان أصليا لم تجب عليه الزكاة لانه حق لم يلتزمه فلم يلزمه كغرامات المتلفات وإن كان مرتدا لم يسقط عنه ما وجب في حال الإسلام لانه ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامات المتلفات وأما في حال الردة فزكاته مبنية على ملكه وفي ملكه ثلاثة أقوال أحدهما أنه يزول بالردة فلا تجب عليه الزكاة
والثاني لا يزول فتجب عليه الزكاة لانه حق التزمه بالإسلام فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين
والثالث أنه موقوف فإن رجع إلى الإسلام حكمنا بأنه لم يزل ملكه فتجب عليه الزكاة وإن لم يرجع حكمنا بأنه قد زال ملكه فلا تجب عليه الزكاة
وتجب في مال الصبي والمجنون لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ولان الزكاة تراد لثواب المزكي ومواساة الفقير والصبي والمجنون من أهل الثواب ومن أهل المواساة ولهذا تجب عليهما نفقة الأقارب ويعتق عليهما الأب إذا ملكاه فوجبت الزكاة في مالهما
فصل في تنجيز الزكاة ومن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها لانه حق يجب صرفه إلى الآدمي توجهت المطالبة بالدفع إليه فلم يجز له التأخير كالوديعة إذا طالب بها صاحبها فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها لانه أخر ما وجب عليه مع إمكان الأداء فضمنه كالوديعة ومن وجبت عليه الزكاة وامتنع من أدائها نظرت فإن كان جاحدا لوجوبها فقد كفر وقتل
____________________
(1/140)
بكفره كما يقتل المرتد لان وجوب الزكاة معلوم من دين الله عز وجل ضرورة فمن جحد وجوبها فقد كذب الله تعالى وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم فحكم بكفره
وإن منعها بخلا بها أخذت منه وعزر وقال في القديم تؤخذ الزكاة وشطر ماله عقوبة له لما روى بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء والصحيح هو الأول لقوله صلى الله عليه وسلم ليس في المال حق سوى الزكاة ولانها عبادة فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله كسائر العبادات وحديث بهز بن حكيم منسوخ فإن ذلك كان حين كانت العقوبات في المال ثم نسخت
وإن امتنع بمنعة قاتله الإمام لان أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة
باب صدقة المواشي تجب زكاة السوم في الإبل والبقر والغنم لان الأخبار وردت بإيجاب الزكاة فيها ونحن نذكرها في مسائلها إن شاء الله تعالى ولان الإبل والبقر والغنم يكثر منافعها ويطلب نماؤها بالدر والنسل فاحتملت المواساة بالزكاة
فصل فيما لا تجب فيه زكاة المواشي ولا تجب فيما سوى ذلك من المواشي كالخيل والبغال والحمير لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ولان هذا يقتنى للزينة والاستعمال لا للنماء فلم يحتمل الزكاة كالعقار والأثاث
ولا تجب فيما تولد بين الغنم والظباء ولا فيما تولد بين بقر الأهل وبقر الوحش لانه لا يدخل في إطلاق اسم الغنم والبقر فلا تجب فيه زكاة الغنم والبقر
فصل في اشتراط الملك التام في الزكاة ولا تجب فيما لا يملكه ملكا تاما كالمال الذي في مكاتبه لانه لا يملك التصرف فيه فهو كمال الأجنبي وأما الماشية الموقوفة عليه فإنه يبنى على أن الملك في الموقوف إلى من ينتقل بالوقف وفيه قولان أحدهما ينتقل إلى الله عز وجل فلا تجب زكاته
والثاني ينتقل إلى الموقوف عليه وفي زكاته وجهان أحدهما تجب عليه لانه يملكه ملكا تاما مستقرا فأشبه غير الوقف
____________________
(1/141)
والثاني لا تجب لانه ملك ضعيف بدليل أنه لا يملك التصرف في رقبته فلم تجب الزكاة فيه كالمكاتب وما في يده
فصل في المال المغصوب والضال وأما المال المغصوب والضال فلا تلزمه زكاته قبل أن يرجع إليه فإن رجع إليه من غير نماء ففيه قولان قال في القديم لا تجب لانه خرج عن يده وتصرفه فلم تجب عليه زكاته كالمال الذي في يد مكاتبه
وقال في الجديد تجب عليه لانه مال له يملك المطالبة به ويجبر على التسليم إليه فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في يد وكيله فإن رجع إليه مع النماء ففيه طريقان قال أبو العباس تلزمه زكاته قولا واحدا لان الزكاة إنما سقطت في أحد القولين لعدم النماء وقد حصل له النماء فوجب أن تجب
والصحيح أنه على القولين لان الزكاة لم تسقط لعدم النماء فإن الذكور من الماشية لا نماء فيها وتجب فيها الزكاة وإنما سقطت لنقصان الملك بالخروج عن يده وتصرفه وبالرجوع لم يعد ما فات من اليد والتصرف
وإن أسر رب المال وحيل بينه وبين المال ففيه طريقان من أصحابنا من قال هو كالمغصوب لان الحيلولة موجودة بينه وبين المال وفيه قولان ومنهم من قال تجب الزكاة قولا واحدا لانه يملك بيعه ممن شاء فكان كالمودع
وإن وقع الضال بيد ملتقط وعرفه حولا كاملا ولم يختر التملك وقلنا إنه لا يملك حتى يختار التملك على الصحيح من المذهب ففيه طريقان من أصحابنا من قال هو كما لو لم يقع بيد الملتقط فيكون على قولين
ومنهم من قال لا تجب الزكاة قولا واحدا لان ملكه غير مستقر بعد التعريف لان الملتقط يملك أن يزيله باختيار التملك فصار كالمال الذي في يد المكاتب
وإن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان قال في القديم لا تجب الزكاة فيه لان ملكه غير مستقر لانه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء فيه
وقال في الجديد تجب فيه الزكاة لان الزكاة تتعلق بالعين والدين يتعلق بالذمة فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية
وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق
أحدها إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة لانه قد حصل له النماء وإن كان غير الماشية فعلى قولين كالمغصوب
والثاني أنه تجب فيه الزكاة قولا واحدا لان الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفينة والمجنون
والثالث وهو الصحيح أنه على قولين كالمغصوب لانه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب
وأما القول الأول أنه قد حصل له النماء في الماشية فلا يصح لانه وإن حصل له النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ومحول دونه
والقول الثاني لايصح لان حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف لان وليهما ينوب عنهما في التصرف وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا
فصل لا زكاة في السائمة ولا تجب الزكاة إلا في السائمة من الإبل والبقر والغنم لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب كتاب الصدقة وفيه صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها الصدقة وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون ولان العوامل والمعلوفة لا تقتنى للنماء فلم تجب فيها الزكاة كثياب البدن وأثاث الدار
وإن كان عنده سائمة فعلفها نظرت فإن كان قدرا يبقى الحيوان دونه لم يؤثر لان وجوده كعدمه وإن كان قدرا لا يبقى الحيوان دونه سقطت الزكاة لانه لم يوجد تكامل النماء بالسوم
وإن كان عنده نصاب من السائمة فغصبه غاصب وعلفه ففيه طريقان أحدهما أنه كالمغصوب الذي لم يعلفه الغاصب فيكون على قولين لان فعل الغاصب لا حكم له بدليل أنه لو كان له ذهب فصاغه الغاصب حليا لم تسقط الزكاة عنه
والثاني أنه تسقط الزكاة قولا واحدا وهو الصحيح لانه لم يوجد شرط الزكاة وهو السوم في جميع الحول فصار كما لو ذبح الغاصب شيئا من النصاب
ويخالف الصياغة فإن صياغة الغاصب محرمة فلم يكن لها حكم وعلفه غير محرم فثبت حكمه كعلف المالك
وإن كان عنده نصاب من المعلوفة فأسامها الغاصب ففيه طريقان أحدهما أنها كالسائمة
____________________
(1/142)
المغصوبة وفيها قولان لان السوم قد وجد في حول كامل ولم يفقد إلا قصد المالك وقصده غير معتبر بدليل أنه لو كان له طعام فزرعه الغاصب وجب فيه العشر وإن لم يقصد المالك إلى زراعته
والثاني لا تجب فيه الزكاة قولا واحدا لانه لم يقصد إلى إسامته فلم تجب فيه الزكاة كما لو رتعت الماشية لنفسها
ويخالف الطعام فإنه لا يعتبر في زراعته القصد ولهذا لو تبدد له طعام فنبت وجب فيه العشر والسوم يعتبر فيه القصد ولهذا لو رتعت الماشية لنفسها لم تجب فيها الزكاة
فصل النصاب شرط للزكاة ولا تجب إلا في نصاب لان الأخبار وردت بإيجاب الزكاة في النصب على ما نذكرها في مواضعها إن شاء الله فدل على أنها لا تجب فيما دونها ولان ما دون النصاب لا يحتمل المواساة فلم تجب فيه الزكاة وإن كان عنده نصاب فهلك منه واحد أو باعه انقطع الحول فإن نتج له واحد أو رجع إليه ما باعه استأنف الحول وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول لان الحول لم يخل من نصاب وإن خرج بعض الحمل من الجوف ثم هلك واحد من النصاب قبل أن ينفصل الباقي انقطع الحول لانه ما لم يخرج الجميع لا حكم له فيصير كما لو هلك واحد ثم نتج واحد
فصل شرط الحول للزكاة ولا تجب الزكاة فيه حتى يحول عليه الحول لانه روي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو مذهب فقهاء المدينة وعلماء الأمصار ولانه لا يتكامل نماؤه قبل الحول فلا تجب فيه الزكاة
فإن باع النصاب في أثناء الحول أو بادل به نصابا آخر انقطع الحول فيما باعه
وإن مات في أثناء الحول ففيه قولان أحدهما أنه ينقطع الحول لانه زال ملكه عنه فصار كما لو باعه
والثاني لا ينقطع بل يبني الوارث على حوله لان ملك الوارث مبني على ملك الموروث ولهذا لو ابتاع شيئا معيبا فلم يرد حتى مات رب المال قام وارثه مقامه في الرد بالعيب
وإن كان عنده نصاب من الماشية ثم استفاد شيئا آخر من جنسه ببيع أو هبة أو إرث نظرت فإن لم يكن المستفاد نصابا في نفسه ولا يكمل به النصاب الثاني لم يكن له حكم لانه لا يمكن أن يجعل تابعا للنصاب الثاني فيجعل له قسط من فرضه لانه لم يوجد النصاب الثاني بعد ولا يمكن أن يجعل تابعا للنصاب الذي عنده فإن ذلك انفرد بالحول ووجب فيه الفرض قبل أن يمضي الحول على المستفاد فلا يمكن أن يجعل له قسط من فرضه فسقط حكمه وإن كان يكمل به النصاب الثاني بأن يكون عنده ثلاثون من البقر ثم اشترى في أثناء الحول عشرا وحال الحول على النصاب وجب فيه تبيع وإذا حال الحول على المستفاد وجب فيه ربع مسنة لانه تم بها نصاب المسنة ولم يمكن إيجاب المسنة لان الثلاثين لم يثبت لها حكم الخلطة مع العشرة في حول كامل فانفردت بحكمها ووجب فيها فرضها والعشرة قد ثبت لها حكم الخلطة في حول كامل فوجب فيها بقسطها ربع مسنة وإن كان المستفاد نصابا ولا يبلغ النصاب الثاني وذلك يكون في صدقة الغنم بأن يكون عنده أربعون شاة ثم شترى في أثناء الحول أربعين شاة فإن الأربعين الأولى يجب فيها شاة لحولها وفي الأربعين الثانية ثلاثة أوجه أحدها أنه يجب عليه فيها لحولها شاة لانه نصاب منفرد بالحول فوجب فيه فرضه كالأربعين الأولى
والثاني أنه يجب فيها نصف شاة لانها لم تنفك من خلطة الأربعين الأولى في حول كامل فوجب فيها بقسطها من الفرض وهو نصف شاة
والثالث أنه لا يجب فيها شيء وهو الصحيح لانه انفرد الأول عنه بالحول ولم يبلغ النصاب الثاني فجعل وقصا بين نصابين فلم يتعلق به فرض
وأما إذا كان عنده نصاب من الماشية فتوالدت في أثناء الحول حتى بلغ النصاب الثاني ضمت إلى الأمهات في الحول وعدت معها إذا تم حول الأمهات وأخرج عنها وعن الأمهات زكاة المال الواحد لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال اعتد عليهم بالسخلة التى يروح بها الراعي
____________________
(1/143)
على يديه وعن علي كرم الله وجهه أنه قال عد الصغار مع الكبار ولانه من نماء النصاب وفوائده فلم ينفرد عنه بالحول فإن تماوتت الأمهات وبقيت الأولاد وهي نصاب لم ينقطع الحول فيها فإذا تم حول الأمهات وجبت الزكاة فيها
وقال أبو القاسم بن بكار الأنماطي رحمه الله إذا لم يبق نصاب من الأمهات انقطع الحول لان السخال تجري في حول الأمهات بشرط أن تكون الأمهات نصابا وقد زال هذا الشرط فوجب أن ينقطع الحول
والمذهب الأول لانها جملة جارية في الحول هلك بعضها ولم ينقص الباقى عن النصاب فلم ينقطع الحول كما لو بقي نصاب من الأمهات وما قال أبو القاسم ينكسر بولد أم الولد فإنه ثبت له حق الحرية بثبوته للأم ثم يسقط حق الأم بالموت ولا يسقط حق الولد
وإن ملك رجل في أول المحرم أربعين شاة وفي أول صفر أربعين وفي أول شهر ربيع الأول أربعين وحال الحول على الجميع ففيه قولان قال في القديم تجب في الجميع شاة في كل أربعين ثلثها لان كل واحدة من الأربعينات مخالطة للثمانين في حال الوجوب فكان حصتها ثلث شاة
وقال في الجديد تجب في الأولى شاة لانه ثبت لها حكم الانفراد في شهر وفي الثانية وجهان أحدهما يجب فيها شاة لان الأولى لم ترتفق بخلطتها فلم ترتفق هي
والثاني أنه تجب فيها نصف شاة لانها خليطة الأربعين من حين ملكها
وفي الثالثة وجهان أحدهما أنه تجب فيها شاة لان الأولى والثانية لم ترتفقا بخلطتها فلم ترتفق هي والثاني تجب فيها ثلث شاة لانها خليطة الثمانين من حين ملكها فكان حصتها ثلث شاة
فصل في إمكان الأداء إذا ملك النصاب وحال عليه الحول ولم يمكنه الأداء ففيه قولان قال في القديم لا تجب الزكاة قبل إمكان الأداء فعلى هذا تجب الزكاة بثلاثة شروط الحول والنصاب وإمكان الأداء
والدليل عليه أنه لو هلك المال لم يضمن زكاته فلم تكن الزكاة واجبة فيه كما قبل الحول
وقال في الإملاء تجب وهو الصحيح فعلى هذا تجب الزكاة بشرطين الحول والنصاب وإمكان الأداء شرط في الضمان لا في الوجوب والدليل عليه أنه لو كانت الزكاة غير واجبة لما ضمنها بالإتلاف كما قبل الحول فلما ضمن الزكاة بالإتلاف بعد الحول دل على أنها واجبة فإن كان معه خمس من الإبل وهلك منها واحدة بعد الحول وقبل إمكان الأداء فإن قلنا إن إمكان الأداء شرط في الوجوب سقطت الزكاة لانه نقص المال عن النصاب قبل الوجوب فصار كما لو هلك قبل الحول وإن قلنا إنه ليس بشرط في الوجوب وإنما هو شرط في الضمان سقط من الفرض خمسه ووجب أربعة أخماسه وإن كان عنده نصاب فتوالدت بعد الحول وقبل إمكان الأداء ففيه طريقان أحدهما أنه يبني على القولين فإن قلنا إن إمكان الأداء شرط في الوجوب ضم الأولاد إلى الأمهات فإذا أمكنه الأداء زكى الجميع وإن قلنا إنه شرط في الضمان لم يضم لانه فصل الأولاد بعد الوجوب
ومن أصحابنا من قال في المسألة قولان من غير بناء على القولين
أحدهما يضم المستفاد إلى ما عنده لقول عمر رضي الله عنه اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه والسخلة التي يروح بها الراعي على يديه لا تكون إلا بعد الحول فأما ما توالد قبل الحول فإنه بعد الحول يمشي بنفسه
والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يضم إلى ما عنده لان الزكاة قد وجبت في الأمهات والزكاة لا تسري إلى الولد لانها لو سرت بعد الوجوب لسرت بعد الإمكان لان الوجوب فيه مستقر وحال استقرار الوجوب آكد من حال الوجوب فإذا لم تسر الزكاة إليه في حال الاستقرار فلان لا تسري قبل الاستقرار أولى
فصل هل الزكاة في العين أو في الذمة وهل تجب الزكاة في العين أو في الذمة فيه قولان قال في القديم تجب في الذمة والعين مرتهنة بها ووجهه أنها لو كانت واجبة في العين لم يجز أن يعطى حق الفقراء من غيرها كحق المضارب والشريك
وقال في الجديد تجب في العين وهو الصحيح لانه حق يتعلق بالمال فيسقط بهلاكه فيتعلق بعينه كحق المضارب
فإن قلنا إنها تجب في العين وعنده نصاب وجبت فيه الزكاة فلم تؤد حتى حال عليه حول آخر لم تجب في الحول الثاني زكاة لان الفقراء ملكوا من النصاب قدر الفرض فلا تجب في الحول الثاني زكاة لان الباقى دون النصاب
وإن قلنا تجب في الذمة وجب في الحول الثاني وفي كل حول لان النصاب باق على ملكه
____________________
(1/144)
باب صدقة الإبل أول نصاب الإبل خمس وفرضه شاة وفي عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة وفي إحدى وستين جذعة وهي التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة
والأصل فيه ما روى أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم
هذه فريضة الصدقة التي فرض الله عز وجل على المسلمين التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه
في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر وليس معه شيء فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة
فصل في الزيادة على عدد الفرض فإن زاد على عشرين ومائة أقل من واحد لم يتغير الفرض وقال أبو سعيد الإصطخري يتغير فيجب ثلاث بنات لبون لقوله فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون ولم يفرق
والمنصوص هو الأول لما روى الزهري قال أقرأني سالم نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه فإذا كان إحدى وتسعين ففيها حقتان حتى تبلغ عشرين ومائة فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون ولانه وقص محدود في الشرع فلم يتغير الفرض بعده بأقل من واحدة كسائر الأوقاص
فصل في الأوقاص وفي الأوقاص التي بين النصب قولان قال في القديم والجديد يتعلق الفرض بالنصب وما بينهما من الأوقاص عفو لانه وقص قبل النصاب فلم يتعلق به حق كالأربعة الأولى
وقال في البويطي يتعلق بالجميع لحديث أنس في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض فجعل الفرض في النصاب وما زاد ولانه زيادة على نصاب فلم يكن عفوا كالزيادة على نصاب القطع في السرقة
فإذا قلنا بالأول فملك تسعا من الإبل ثم هلك بعد الحول وقبل إمكان الأداء أربعة لم يسقط من الفرض شيء لان الذي تعلق به الفرض باق
وإذا قلنا بالثاني سقط من الفرض أربعة اتساعه لان الفرض تعلق بالجميع فسقط من الفرض بقسط الهالك
____________________
(1/145)
فصل فيما يجب في الإبل لما دون 25 من ملك من الإبل دون الخمس والعشرين فالواجب في صدقته الغنم وهو مخير بين أن يخرج الغنم وبين أن يخرج بعيرا فإن أخرج الغنم جاز لانه هو الفرض المنصوص عليه وإن أخرج البعير جاز لان الأصل في صدقة الحيوان أن يخرج من جنس الفرض وإنما عدل إلى الغنم ههنا رفقا برب المال فإذا اختار أصل الفرض قبل منه كمن ترك المسح على الخف وغسل الرجل
وإن امتنع من إخراج الزكاة لم يطالب إلا بالغنم لانه هو الفرض المنصوص عليه
وإن اختار إخراج البعير قبل منه أي بعير كان ولو أخرج بعيرا قيمته أقل من قيمة الشاة أجزأه لانه أفضل من الشاة لانه يجزىء عن خمس وعشرين فلان يجزىء عما دونها أولى
وهل يكون الجميع فرضه أو بعضه فيه وجهان أحدهما أن الجميع فرضه لانا خيرناه بين الفرضين فأيهما فعل كان هو الفرض كمن خير بين غسل الرجل والمسح على الخف
والثاني أن الفرض بعضه لان البعير يجزىء عن الخمس والعشرين فدل على أن كل خمس من الإبل يقابل خمس بعير وإن اختار إخراج الغنم لم يقبل دون الجذع والثني في السن لما روى سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نهينا عن الأخذ من راضع لبن وإنما حقنا في الجذعة والثنية
وهل يجزىء فيه الذكر فيه وجهان من أصحابنا من قال لا يجزئه للخبر ولانه أصل في صدقة الإبل فلم يجز فيها الذكر كالفرض من جنسه
وقال أبو إسحاق يجزئه لانه حق لله تعالى لا يعتبر فيه صفة ماله فجاز فيه الذكر والأنثى كالأضحية وتجب عليه من غنم البلد إن كان ضأنا فمن الضأن وإن كان معزا فمن المعز وإن كان منهما فمن الغالب وإن كانا سواء جاز من أيهما شاء لان كل مال وجب في الذمة بالشرع اعتبر فيه عرف البلد كالطعام في الكفارة
وإن كانت الإبل مراضا ففي شاتها وجهان أحدهما لا تجب فيه إلا ما تجب في الصحاح وهو ظاهر المذهب لانه لا يعتبر فيه صفة المال فلم يختلف بصحة المال ومرضه كالأضحية
وقال أبو علي بن خيران تجب عليه شاة بالقسط فتقوم الإبل الصحاح والشاة التي تجب فيها ثم تقوم الإبل المراض فيجب فيها شاة بالقسط لانه لو كان الواجب من جنسه فرق بين الصحاح والمراض فكذلك إذا كان من غير جنسه وجب أن يفرق بين الصحاح والمراض
فصل في فيمن وجبت عليه بنت مخاض ومن وجبت عليه بنت مخاض فإن كانت في ماله لزمه إخراجها وإن لم تكن في ماله وعنده ابن لبون قبل منه ولا يرد معه شيئا لما روى أنس رضي الله عنه في الكتاب الذي كتبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمن لم تكن عنده بنت مخاض وعنده ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ولان في بنت مخاض فضيلة بالأنوثية وفي ابن لبون فضيلة بالسن فاستويا وإن لم تكن عنده بنت مخاض ولا ابن لبون فله أن يشتري بنت مخاض ويخرج لانه أصل فرضه وله أن يشتري ابن لبون ويخرج لان ليس في ملكه بنت مخاض
وإن كانت إبله مهازيل وفيها بنت مخاض سمينة لم يلزمه إخراجها فإن أراد إخراج ابن لبون فالمنصوص أنه يجوز لانه لا يلزمه إخراج ما عنده فكان وجوده كعدمه كما لو كانت إبله سمانا وعنده بنت مخاض مهزولة
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لان عنده بنت مخاض تجزىء ومن وجب عليه بنت لبون وليست عنده وعنده حق لم يؤخذ منه لان بنت اللبون تساوي الحق في ورود الماء والشجر وتفضل عليه بالأنوثية
فصل فيمن كان عنده أقل من الجذعة ومن وجبت عليه جذعة أو حقة أو بنت لبون وليس عنده إلا ما هو أسفل ( منها ) بسنة أخذ منه مع شاتين أو عشرين درهما
وإن وجب عليه بنت مخاض أو بنت لبون أو حقة وليس عنده إلا ما هو أعلى منه بسنة أخذ منه ودفع إليه المصدق شاتين أو عشرين درهما لما روى أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له لما وجهه إلى البحرين كتابا وفيه ومن بلغت صدقته من الإبل الجذعة وليست عنده وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقته الحقة وليس عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى معها شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطيه المصدق عشرين درهما
____________________
(1/146)
أو شاتين فأما إذا وجبت عليه جذعة وليست عنده وعنده ثنية فإن أعطاها ولم يطلب جبرانا قبلت لانها أعلى من الفرض بسنة
وإن طلب الجبران فالمنصوص أنه يدفع إليه لانها أعلى من الفرض بسنة فهي كالجذعة مع الحقة
ومن أصحابنا من قال لا يدفع الجبران لان الجذعة تساوي الثنية في القوة والمنفعة فلا معنى لدفع الجبران
وإن وجبت عليه بنت مخاض وليس عنده إلا فصيل وأراد أن يعطي ويعطي معه الجبران لم يجز لان الفصيل ليس بفرض مقدر وإن كان معه نصاب مراض ولم يكن عنده الفرض فأراد أن يصعد إلى فرض مريض ويأخذ معه الجبران لم يجز لان الشاتين أو العشرين درهما جعل جبرانا لما بين الصحيحين فإذا كانا مريضين كان الجبران أقل من الشاتين أو العشرين الدرهم فإن أراد أن ينزل إلى فرض دونه ويعطي معه شاتين أو عشرين درهما جاز لانه متطوع بالزيادة
ومن وجبت عليه الشاتان أو العشرون درهما كان الخيار إليه لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار فيه إلى من يعطي في حديث أنس فإن اختار أن يعطي شاة وعشرة دراهم لم يجز لان النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين شيئين فلو جوزنا أن يعطي شاة وعشرة دراهم خيرناه بين ثلاثة أشياء
ومن وجب عليه فرض ووجد فوقه فرضا وأسفل منه فرضا فالخيار في الصعود والنزول إلى رب المال لانه هو الذي يعطي فكان الخيار له كالخيار في الشاتين والعشرين الدرهم
ومن أصحابنا من قال الخيار إلى المصدق وهو المنصوص لانه يلزمه أن يختار ما هو أنفع للمساكين ولهذا إذا اجتمع الصحاح والمراض لم يأخذ المراض فلو جعلنا الخيار إلى رب المال أعطى ما ليس بنافع
ويخالف الخيار في الشاتين والعشرين الدرهم فإن ذلك جعل جبرانا على سبيل التخفيف فكان ذلك إلى من يعطي وهذا تخيير في الفرض فكان إلى المصدق
ومن وجب عليه فرض ولم يجد إلا ما هو أعلى منه بسنتين أخذ منه وأعطي أربع شياه أو أربعين درهما وإن لم يجد إلا ما هو أسفل منه بسنتين أخذ منه أربع شياه أو أربعون درهما لان النبي صلى الله عليه وسلم قدر ما بين السنين بشاتين أو عشرين درهما فدل على أن كل ما زاد في السن سنة زاد في الجبران بقدرها فإن أراد من وجب عليه أربعون درهما أو أربع شياه أن يعطى شاتين عن أحد الجبرانين وعشرين درهما عن الجبران الآخر جاز لانهما جبرانان فجاز أن يختار في أحدهما شيئا وفي الآخر غيره ككفارتي يمنين يجوز أن يخرج في إحداهما الطعام وفي الأخرى الكسوة وإن وجب عليه الفرض ووجد سنا أعلى منه بسنة وسنا أعلى منه بسنتين فترك الأقرب وانتقل إلى الأبعد ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز لانه قد عرف ما بينهما من الجبران
والثاني لا يجوز وهو الصحيح لان النبي صلى الله عليه وسلم أقام الأقرب مقام الفرض ثم لو وجد الفرض لم ينتقل إلى الأقرب فكذلك إذا وجد الأقرب لم ينتقل إلى الأبعد
فصل إذا اتفق فرضان في نصاب وإن اتفق في نصاب فرضان كالمائتين هي نصاب خمس بنات لبون ونصاب أربع حقاق فقد قال في الجديد تجب أربع حقاق أو خمس بنات لبون
وقال في القديم تجب أربع حقاق
فمن أصحابنا من قال يجب أحد الفرضين قولا واحدا
ومنهم من قال فيه قولان أحدهما تجب الحقاق لانه إذا أمكن تغير الفرض بالسن لم يغير بالعدد كما قلنا فيما قبل المائتين
والثاني يجب أحد الفرضين لما روى سالم في نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون فعلى هذا إن وجد أحدهما تعين إخراجه لان المخير في الشيئين إذا تعذر عليه أحدهما تعين عليه الآخر كالمكفر عن اليمين إذا تعذر عليه العتق والكسوة تعين عليه الإطعام وإن وجدهما اختار المصدق أنفعهما للمساكين
وقال أبو العباس يختار صاحب المال ما شاء منهما وقد مضى دليل المذهبين في الصعود والنزول
فإن اختار المصدق الأدنى نظرت فإن كان ذلك بتفريط من رب المال بأن لم يظهر أحد الفرضين أو من الساعي بأن لم يجتهد وجب رد المأخوذ أو بدله إن كان تالفا فإن لم يفرط واحد منهما أخرج رب المال الفضل وهو ما بين قيمة الصنفين وهل يجب ذلك أم لا فيه وجهان أحدهما يستحب لان المخرج يجزىء عن الفرض فكان الفضل مستحبا
والثاني أنه واجب وهو ظاهر النص لانه لم يؤد الفرض بكماله فلزمه إخراج الفضل
فإن كان الفضل يسيرا لا يمكن أن يشترى به جزء من الفرض تصدق به وإن كان يمكن ففيه وجهان أحدهما يجب لانه يمكن الوصول إلى جزء من الفرض فلم تجز فيه القيمة
والثاني لا يجب
____________________
(1/147)
لانه يتعذر ذلك في العادة فإن عدم الفرضان في المال نزل إلى بنات مخاض أو صعد إلى الجذاع مع الجبران وإن وجد أحد الفرضين وبعض الآخر أخذ الموجود فإن أراد أن يأخذ بعض الآخر مع الجبران لم يجز لان أحد الفرضين كامل فلم يجز العدول إلى الجبران
وإن وجد من كل واحد منهما بعضه بأن كان في المال ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فأعطى الثلاث الحقاق وبنت لبون مع الجبران جاز وإن أعطى أربع بنات لبون وحقة وأخذ الجبران جاز وإن أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع كل بنت لبون جبران ففيه وجهان أحدهما يجوز كما يجوز في ثلاث حقاق وبنت لبون
والثاني لا يجوز لانه يمكنه أن يعطي ثلاث حقاق وبنت لبون وجبرانا واحدا فلا يجوز ثلاث جبرانات ولانه إذا أعطى ثلاث بنات لبون مع الجبران ترك بعض الفرض وعدل إلى الجبران فلم يجز كما لا يجوز أخذ الجبران إذا وجد أحدهما كاملا وإن وجد الفرضين معيبين لم يأخذ بل يقال له إما أن تشتري الفرض الصحيح وإما أن تصعد مع الجبران أو تنزل مع الجبران
وإن كانت الإبل أربعمائة وقلنا إن الواجب أحد الفرضين جاز أن يأخذ عشر بنات لبون أو ثماني حقاق فإن أراد أن يأخذ عن مائتين أربع حقاق وعن مائتين خمس بنات لبون جاز
وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز كما لا يجوز ذلك في المائتين
والمذهب الأول لانهما فريضتان فجاز أن يأخذ في إحداهما جنسا وفي الأخرى جنسا آخر كما لو كان عليه كفارتا يمين فأخرج في إحداهما الكسوة وفي الأخرى الطعام
باب صدقة البقر وأول نصاب البقر ثلاثون وفرضه تبيع وهو الذي له سنة وفي أربعين مسنة وهي التي لها سنتان وعلى هذا أبدا في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة
والدليل عليه ما روى معاذ رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة بقرة ومن كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة فإن كان فرضه التبيع فلم يجد لم يصعد إلى المسنة مع الجبران وإن كان فرضه المسنة فلم يجد لم ينزل إلى التبيع مع الجبران فإن ذلك غير منصوص عليه والعدول إلى غير المنصوص عليه في الزكاة لا يجوز
باب صدقة الغنم وأول نصاب الغنم أربعون وفرضه شاة إلى مائة وإحدى وعشرين فتجب شاتان إلى مائتين وواحدة فتجب ثلاث شياه ثم تجب في كل مائة شاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة وفيه في الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت على المائتين شاة ففيها ثلاث شياه إلى ثلثمائة فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة والشاة الواجبة في الغنم الجذعة من الضأن والثنية من المعز والجذعة هي التي لها سنة وقيل لها ستة أشهر والثنية هي التي لها سنتان
فصل إذا كانت الماشية صحاحا إذا كانت الماشية صحاحا لم يؤخذ في فرضها مريضة لقوله عليه السلام لا يؤخذ في الزكاة هرمة ولا ذات عوار
وروي ولا ذات عيب وإن كانت مراضا أخذت مريضة ولا يجب إخراج صحيحة لان في ذلك إضرارا برب المال
وإن كان بعضها صحاحا وبعضها مراضا أخذ عنها صحيحة ببعض قيمة فرض صحيح وبعض قيمة فرض مريض لانا لو أخذنا مريضة لتيممنا الخبيث وقد قال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وإن كانت الماشية كبار الأسنان كالثنايا والبزل في الإبل لم يؤخذ غير الفرض المنصوص عليه لانا لو أخذنا كبار الأسنان أخذنا عن خمس وعشرين جذعة ثم نأخذها في إحدى وستين فيؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير
وإن كانت الماشية صغارا نظرت فإن كانت من الغنم أخذ منها صغيرة لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول
____________________
(1/148)
الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه
ولانا لو أوجبنا فيها كبيرة أجحفنا برب المال وإن كانت من الإبل والبقر ففيه وجهان قال أبو إسحاق تؤخذ الفرائض المنصوص عليها بالقسط فيقوم النصاب من الكبار ثم يقوم فرضه ثم يقوم النصاب من الصغار ويؤخذ كبيرة بالقسط
ومن أصحابنا من قال إن كان المال مما يتغير الفرض فيه بالسن لم يجز لانه يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير
وإن كان مما يتغير الفرض فيه بالعدد أخذ صغيره لانه لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير فأخذ الصغير من الصغار كالغنم
والصحيح هو الأول لان هذا يؤدي إلى أن يؤخذ من ست وسبعين فصيلان ومن إحدى وتسعين فصيلان وإن كانت الماشية إناثا أو ذكورا وإناثا نظرت فإن كانت من الإبل والغنم لم يؤخذ في فرضها إلا الإناث لان النص ورد فيها بالإناث على ما مضى ولان في أخذ الذكر من الإناث تيمم الخبيث وقد قال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }
وإن كانت من البقر نظرت فإن كانت في فرض الأربعين لم يجز إلا الإناث لما ذكرناه وإن كانت في فرض الثلاثين جاز فيه الذكر والأنثى لحديث معاذ في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة
وإن كانت كلها ذكورا نظرت فإن كانت من الغنم أخذ واحد منها وإن كانت من الإبل أو من الأربعين من البقر ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يجوز إلا الأنثى فيقوم النصاب من الإناث والفرض الذي فيها ثم يقوم النصاب من الذكور ويؤخذ أنثى بالقسط حتى لا يؤدي إلى التسوية بين الذكور والإناث والدليل عليه أنه لا يؤخذ إلا الأنثى لان الفرائض كلها إناث إلا في موضع الضرورة ولا ضرورة ها هنا فوجبت الأنثى
وقال أبو علي بن خيران يجوز فيه الذكور وهو المنصوص في الأم والدليل عليه أن الزكاة وضعت على الرفق والمؤاساة فلو أوجبنا الإناث من الذكور أجحفنا برب المال
قال أبو إسحاق إلا أنه يؤخذ من ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين حتى لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير في الفرض
وإن كانت الماشية صنفا واحدا أخذ الفرض منه وإن كانت أنواعا كالضأن والمعز والجواميس والبقر والبخاتي والعراب
ففيه قولان أحدهما أنه يؤخذ الفرض من الغالب منهما
وإن كانوا سواء أخذ الساعي أنفع النوعين للمساكين لانا لو ألزمناه الفرض من كل نوع شق فاعتبر الغالب
والقول الثاني أنه يؤخذ من كل نوع بقسطه لانها أنواع من جنس واحد فأخذ من كل نوع بقسطه كالثمار فعلى هذا إذا كان عشرون من الضأن وعشرون من المعز قوم النصاب من الضأن فيقال قيمته مثلا مائة ثم يقوم فرضه فيقال قيمته عشرة ويقوم نصاب المعز فيقال قيمته خمسون ثم يقوم فرضه فيقال قيمته خمسة فيقال له اشتر شاة من أي النوعين شئت بسبعة ونصف وأخرج
____________________
(1/149)
فصل فيما لا يؤخذ في الفرائض ولا يؤخذ في الفرائض الربى وهي التي ولدت ومعها ولدها ولا الماخض وهي الحامل ولا ما طرقها الفحل لان البهيمة لا يكاد يطرقها الفحل إلا وهي تحبل ولا الأكولة وهي السمينة التي أعدت للأكل ولا فحل الغنم الذي أعد للضراب ولا حزرات المال وهي خيارها التي تحزرها العين لحسنها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال له إياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لعامله سفيان قل لقومك إنا ندع لكم الربى والماخض وذات اللحم وفحل الغنم ونأخذ الجذع والثني وذلك وسط بيننا وبينكم في المال
ولان الزكاة تجب على وجه الرفق فلو أخذنا خيار المال خرج عن حد الرفق فإن رضي صاحب المال بإخراج ذلك قبل منه لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله فلم أجد فيها إلا بنت مخاض فقلت له أد بنت مخاض فإنها صدقتك فقال ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لاقرض الله من مالي ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فقلت ما أنا بآخذ ما لم أومر به وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فإن أحببت أن تعرض عليه ما عرضت علي فافعل فإن قبله منك قبلته فخرج معى وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذاك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك فقال فها هي ذى فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة ولان المنع من أخذ الخيار لحق رب المال فإذا رضي قبل منه
فصل لا تجوز القيمة في الزكاة ولا يجوز أخذ القيمة في شيء من الزكاة لان الحق لله تعالى وقد علقه على ما نص عليه فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره كالأضحية لما علقها على الأنعام لم يجز نقلها إلى غيرها فإن أخرج عن المنصوص عليه سنا أعلى منه مثل أن يخرج عن بنت مخاض بنت لبون أجزأه لانها تجزىء عن ست وثلاثين فلأن تجزىء عن خمس وعشرين أولى كالبدنة لما أجزأت عن سبعة في الأضحية فلأن تجزىء عن واحد أولى وكذلك لو وجب عليه مسنة فأخرج تبيعين أجزأه لانه إذا أجزأه ذلك عن ستين فلأن يجزىء عن أربعين أولى
باب صدقة الخلطاء للخلطة تأثير في إيجاب الزكاة وهو أن يجعل مال الرجلين والجماعة كمال الرجل الواحد فيجب فيه ما يجب في مال الرجل الواحد
____________________
(1/150)
فإذا كان بين نفسين وهما من أهل الزكاة نصاب مشاع من الماشية في حول كامل وجب عليهما زكاة الرجل الواحد وكذلك إذا كان لكل واحد منهما مال منفرد ولم ينفرد أحدهما عن الآخر بالحول مثل أن يكون لكل واحد منهما عشرون من الغنم فخلطاها أو لكل واحد منهما أربعون ملكاها معا فخلطاها صارا كمال الرجل الواحد في إيجاب الزكاة بشروط
أحدهما أن يكون الشريكان من أهل الزكاة
والثاني أن يكون المال المختلط نصابا
والثالث أن يمضى عليهما حول كامل
والرابع ألا يتميز أحدهما عن الآخر في المراح
والخامس ألا يتميز أحدهما عن الآخر في المسرح
والسادس ألا يتميز أحدهما عن الآخر في المشرب
والسابع ألا يتميز أحدهما عن الآخر في الراعى
والثامن ألا يتميز أحدهما عن الآخر في الفحل
والتاسع ألا يتميز أحدهما عن الآخر في المحلب
والأصل فيه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وكان فيه لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق مخافة الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ولان المالين صارا كمال الواحد في المؤن فوجب أن تكون زكاته زكاة المال الواحد فأما إذا لم يكن أحدهما من أهل الزكاة بأن كان أحدهما كافرا أو مكاتبا لم يضم ماله إلى مال الحر المسلم في إيجاب الزكاة لان مال الكافر والمكاتب ليس بزكائي فلا يتم به النصاب كالمعلوفة لا يتمم بها نصاب السائمة
وإن كان المشترك بينهما دون النصاب بأن كان لكل واحد منهما عشرون من الغنم فخالط صاحبه بتسعة عشر وتركا شاتين منفردتين لم تجب الزكاة لان المجتمع دون النصاب فلم تجب فيه الزكاة وإن تميز أحدهما عن الآخر في المراح أو المسرح أو المشرب أو الراعي أو الفحل أو المحلب لم يضم مال أحدهما إلى الآخر لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والخليطان ما اجتمعا على الفحل والراعي والحوض فنص على هذه الثلاثة ونبه على ما سواها ولانه إذا تميز كل واحد منهما بشيء مما ذكرناه لم يصيرا كمال الرجل الواحد في المؤن
وفي الاشتراك في الحلب وجهان أحدهما أن من شرطه أن يحلب لبن أحدهما فوق لبن الآخر ثم يقسم كما يخلط المسافرون أزوادهم ثم يأكلون
وقال أبو إسحاق لا يجوز شرط حلب أحدهما فوق الآخر لان لبن أحدهما قد يكون أكثر من لبن الآخر فإذا قسما بالسوية كان ذلك ربا لان القسمة بيع
وهل يشترط فيه نية الخلطة فيه وجهان أحدهما أنه يشترط لانه يتغير به الفرض فلا بد فيه من النية
والثاني أنها ليست بشرط لان الخلطة إنما أثرت في الزكاة للاقتصار على مؤنة واحدة وذلك يحصل من غير نية
فصل انفراد أحد الخليطين بالحول فأما إذا ثبت لكل واحد من الخليطين حكم الانفراد بالحول مثل أن يكون لكل واحد منهما نصاب من الغنم مضى عليه بعض الحول ثم خلطاه نظرت فإن كان حولهما متففا بأن ملك كل واحد منهما نصابه في المحرم ثم خلطاه في صفر ففيه قولان قال في القديم يبنى حول الخلطة على حول الانفراد فإذا حال الحول على ماليهما لزمهما شاة واحدة لان الاعتبار في قدر الزكاة بآخر الحول بدليل أنه لو كان معه مائة وإحدى وعشرون شاة ثم تلفت واحدة منها قبل الحول بيوم لم تجب إلا شاة ولو كانت مائة وعشرون ثم ولدت واحدة قبل الحول بيوم وجبت شاتان وقد وجدت الخلطة ههنا في آخر الحول فوجبت زكاة الخلطة
وقال في الجديد لا يبنى على حول الانفراد فيجب على كل واحد منهما شاة لانه قد انفرد كل واحد منهما في بعض الحول فكان زكاتهما زكاة الانفراد كما لو كانت الخلطة قبل الحول بيوم أو بيومين وهذا يخالف ما ذكروه فإن هناك لو وجدت زيادة شاة أو هلاك شاة قبل الحول بيوم أو يومين تغيرت الزكاة ولو وجدت الخلطة قبل الحول بيوم أو يومين لم يزكيا زكاة الخلطة
وأما في السنة الثانية وما بعدها فإنهما يزكيان زكاة الخلطة
وإن كان حولهما مختلفا بأن ملك أحدهما في أول المحرم والآخر في أول صفر ثم خلطا في أول ربيع الأول فإنه يجب في قوله القديم على كل واحد منهما عند تمام حوله نصف شاة وعلى قوله الجديد تجب على كل واحد منهما شاة وأما في السنة الثانية وما بعدها فإنه يجب عليهما زكاة الخلطة
وقال أبو العباس يزكيان أبدا زكاة الانفراد لانهما مختلفان في الحول فزكيا زكاة الانفراد كالسنة الأولى
والأول هو المذهب لانهما ارتفقا بالخلطة في حول كامل فصار كما لو اتفق حولهما
وإن ثبت لمال أحدهما حكم الانفراد دون الآخر وذلك مثل أن يشتري أحدهما في أول المحرم أربعين شاة واشترى آخر أربعين شاة وخلطها بغنمه ثم باعها في أول صفر من رجل آخر فإن الثاني ملك الأربعين مختلطة لم يثبت لها حكم الانفراد والأول قد ثبت لغنمه حكم الانفراد فإن قلنا بقوله القديم وجب على المالك في أول المحرم نصف شاة وإن قلنا بقوله الجديد وجب عليه شاة وفي المشتري في صفر وجهان أحدهما تجب عليه شاة لان المالك في
____________________
(1/151)
المحرم لم يرتفق بالخلطة فلا يرتفق المالك في صفر
والثاني تجب عليه نصف شاة لان غنمه لم تنفك عن الخلطة في جميع السنة بخلاف المشتري في المحرم وإن ملك رجل أربعين شاة ومضى عليها نصف الحول ثم باع نصفها مشاعا فإذا تم حول البائع وجب عليه نصف شاة على المنصوص
وقال أبو علي بن خيران المسألة على قولين إن قلنا بقوله الجديد أن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد انقطع حول البائع فيما لم يبع وإن قلنا بقوله القديم أن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد لم ينقطع حوله وهذا خطأ لان الانتقال من الانفراد إلى الخلطة لا يقطع الحول وإنما القولان في نقصان الزكاة وزيادتها دون قطع الحول
وأما المبتاع فإنا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالذمة وجب على المبتاع الزكاة وإن قلنا إنها تجب في العين لم يجب عليه زكاة لانه بحول الحول زال ملكه عن قدر الزكاة فينقص النصاب
وقال أبو إسحاق فيه قول آخر أن الزكاة تجب فيه ووجهه أنه إذا أخرجها من غيرها تبينا أن الزكاة لم تتعلق بالعين ولهذا قال في أحد القولين إنه إذا باع ما وجبت فيه الزكاة وأخرج الزكاة من غيره صح البيع
والصحيح هو الأول لان الملك قد زال وإنما يعود بالإخراج من غيره وأما إذا باع عشرين منها بعينها نظرت فإن أفردها وسلمها انقطع الحول فإن سلمها وهي مختلطة بما لم يبع بأن ساق الجميع حتى حصل في قبض المشتري لم ينقطع الحول وحكمه حكم ما لو باع نصفها مشاعا
ومن أصحابنا من قال ينقطع الحول لانه لما أفردها بالبيع صار كما لو أفردها عن الذي لم يبع
والأول هو الصحيح لانه لم يزل الاختلاط فلم يزل حكمه فإن كان بين رجلين أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون ولاحدهما أربعون منفردة وتم الحول ففيه أربعة أوجه أحدها وهو المنصوص أنه تجب شاة ربعها على صاحب العشرين والباقي على صاحب الستين لان مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك فيضم الأربعون المنفردة إلى العشرين المختلطة فإذا انضمت إلى العشرين المختلطة انضمت أيضا إلى العشرين التي لخليطه فيصير الجميع كأنهما في مكان واحد فوجب فيه ما ذكرناه
والثاني أنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة لان الأربعين المنفردة تضم إلى العشرين بحكم الملك فيصير ستين فيصير مخالطا بجميعها لصاحب العشرين فتجب عليه ثلاثة أرباع شاة وصاحب العشرين مخالطا بالعشرين التي له العشرين التى لصاحبه فوجب عليه نصف شاة فأما الأربعون المنفردة فلا خلطة له بها فلم يرتفق بها في زكاته
والثالث أنه تجب على صاحب الستين شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة لان صاحب العشرين مخالط بعشرين فلزمه نصف شاة وصاحب الستين له مال منفرد ومال مختلط وزكاة المنفرد أقوى فغلب حكمها
والرابع أنه تجب على صاحب الستين شاة إلا نصف سدس شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة لان لصاحب الستين أربعين منفردة فتزكى زكاة الانفراد فكأنه منفرد بستين شاة فيجب عليه فيها شاة يخص الأربعين منها ثلثا شاة وله عشرون مختلطة فتزكى زكاة الخلطة فكأن جميع الثمانين مختلطة فيخص العشرين منها ربع شاة فتجب عليه شاة إلا نصف سدس شاة ثلثا شاة في الأربعين المنفردة وربع شاة في العشرين المختلطة وأقل عدد يخرج منه ربع وثلثان اثنا عشر الثلثان منها ثمانية والربع منها ثلاثة فذلك أحد عشر سهما فيجب عليه أحد عشر سهما من اثني عشر سهما من شاة
ويجب على صاحب العشرين نصف شاة لان الخلطة تثبت في حقه في الأربعين الحاضرة
فرع وإن كان لرجل ستون شاة فخالط بكل عشرين رجلا له عشرون شاة ففيه ثلاثة أوجه على منصوص الشافعي رحمه الله في المسألة قبلها يجعل بضم الغنم بعضها إلى بعض وهل كان جميعها مختلطة فيجب فيها شاة على صاحب الستين نصفها وعلى الشركاء نصفها على كل واحد سدس شاة
ومن قال في المسألة قبلها إن على صاحب الستين شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة يجب ها هنا على صاحب الستين شاة لان غنمه يضم بعضها إلى بعض وتجعل كأنها منفردة فتجب فيها شاة ويجب على كل واحد من الثلاثة نصف شاة لان الخلطة في حق كل واحد منهم ثابتة في العشرين التي له وفي العشرين التى لخليطه ومن قال في المسألة قبلها إنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة يجب ها هنا على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة وعلى كل واحد من الشركاء نصف شاة لانه لا يمكن ضم الأملاك الثلاثة بعضها إلى بعض لانها متميزة في شروط الخلطة
وأما الستون فإنه يضم بعضها إلى بعض بحكم الملك ولا يمكن ضم كل عشرين منها إلى واحد من الثلاثة فيقال لصاحب الستين قد انضم غنمك بعضها إلى بعض فضم الستين إلى غنم من شئت منهم فتصير
____________________
(1/152)
ثمانين فتجب فيها شاة ثلاثة أرباعها على صاحب الستين وعلى كل واحد من الثلاثة نصف شاة لان الخلطة ثابتة في حق كل واحد منهم في الأربعين
فصل في زكاة الخلطة فأما أخذ الزكاة من مال الخلطة ففيه وجهان قال أبو إسحاق إذا وجد ما يجب على كل واحد منهما في ماله لم يأخذه من مال الآخر وإن لم يجد الفرض إلا في مال أحدهما أو كان بينهما نصاب والواجب شاة جاز أن يأخذ من أي النصيبين شاء
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز أن يأخذ من أي المالين شاء سواء وجد الفرض في نصيبهما أو في نصيب أحدهما لانا جعلنا المالين كالمال الواحد فوجب أن يجوز الأخذ منهما فإن أخذ الفرض من نصيب أحدهما رجع على خليطه بالقيمة فإن اختلفا في قيمة الفرض فالقول قول المرجوع عليه لانه غارم فكان القول قوله كالغاصب
وإن أخذ المصدق أكثر من الفرض بغير تأويل لم يرجع بالزيادة لانه ظلمه فلا يرجع به على غير الظالم
وإن أخذ أكثر من الحق بتأويل بأن أخذ الكبيرة من السخال على قول مالك فإنه يرجع عليه بنصف ما أخذ منه لانه سلطان فلا ينقض عليه ما فعله باجتهاده وإن أخذ منه قيمة الفرض ففيه وجهان من أصحابنا من قال لا يرجع عليه بشيء لان القمية لا تجزىء في الزكاة بخلاف الكبيرة فإنها تجزي عن الصغار ولهذا لو تطوع بالكبيرة قبلت منه
والثاني يرجع وهو الصحيح لانه أخذه باجتهاده فأشبه إذا أخذ الكبير عن السخال
فصل في الخلطة في غير المواشي فأما الخلطة في غير المواشي وهي الأثمان والحبوب والثمار ففيها قولان قال في القديم لا تأثير للخلطة في زكاتها لان النبي صلى الله عليه وسلم قال والخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرعي
ولان الخلطة إنما تصح في المواشي لان فيها منفعة بإزاء الضرر وفي غيرها لا يتصور غير الضرر لانه لا وقص فيها بعد النصاب
وقال في الجديد تؤثر الخلطة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع ولانه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية ولان المالين كالمال الواحد في المؤن فهي كالمواشي
باب زكاة الثمار وتجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم لما روى عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الكرم أنها تخرص كما يخرص النخل فتؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا ولان ثمرة النخل والكرم يعظم منفعتهما لانهما من الأقوات والأموال المدخرة المقتاتة فهي كالأنعام في المواشي
فصل الثمار التي لا تجب فيها زكاة ولا تجب فيما سوى ذلك من الثمار كالتين والتفاح والسفرجل والرمان لانه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة المقتاتة
ولا تجب في طلع الفحال لانه لا يجيء منه الثمار واختلف قوله في الزيتون فقال في القديم تجب فيه الزكاة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر وعن ابن عباس أنه قال في الزيتون الزكاة وعلى هذا القول إن أخرج الزيت عنه جاز لقول عمر رضي الله عنه ولان الزيت أنفع من الزيتون فكان أولى بالجواز
وقال في الجديد لا زكاة فيه لانه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالخضراوات
واختلف قوله في الورس فقال في القديم تجب فيه الزكاة لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى بني خفاش أن أدوا زكاة الذرة والورس
وقال في الجديد لا زكاة فيه لانه نبت لا يقتات به فأشبه الخضراوات
قال الشافعي رحمه الله من قال لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ومن قال يجب في الورس فيحتمل أن يوجب في الزعفران لانهما طيبان ويحتمل ألا يوجب في الزعفران ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق والزعفران نبات
واختلف قوله في العسل
____________________
(1/153)
فقال في القديم يحتمل أن يجب فيه ووجهه ما روي أن بني شبابة بطنا من فهم كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العشر من عشر قرب قربة
وقال في الجديد لا تجب لانه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض
واختلف قوله في القرطم وهو حب العصفر فقال في القديم تجب إن صح فيه حديث أبي بكر رضي الله عنه
وقال في الجديد لا تجب لانه ليس بقوت فأشبه الخضراوات
فصل بلوغ نصاب الزكاة في الثمار ولا تجب الزكاة في ثمر النخل والكرم إلا أن يكون نصابا ونصابه خمسة أوسق لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة والخمسة الأوسق ثلثمائة صاع وهو ألف وستمائة رطل بالبغدادي
وهل ذلك تقريب أو تحديد فيه وجهان أحدهما أنه تقريب فلو نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة والدليل عليه أن الوسق حمل البعير قال النابغة من ( الرجز )
أين الشظاظان وأين المربعه وأين وسق الناقة المطبعه وحمل البعير يزيد وينقص
والثاني أنه تحديد
فإن نقص منه شيء قليل لم تجب الزكاة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الوسق ستون صاعا ولا تجب حتى يكون يابسه خمسة أوسق لحديث أبي سعيد ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فإن كان رطبا لا يجيء منه ثمر أو عنبا لا يجيء منه زبيب ففيه وجهان أحدهما يعتبر نصابه بنفسه وهو أن يبلغ يابسه خمسة أوسق لان الزكاة تجب فيه فاعتبر النصاب من يابسه
والثاني أنه يعتبر بغيره لانه لا يمكن اعتباره بنفسه فاعتبر بغيره كالجناية التي ليس لها أرش مقدر في الحر فإنه يعتبر بالعبد
وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب وإن اختلفت أوقاته بأن كان له نخيل بتهامة ونخيل بنجد فأدرك ثمر التي بتهامة فجذها وحملت التي بنجد وأطلعت التي بتهامة وأدركت قبل أن يجذ التى بنجد لم يضم أحدهما إلى الآخر لان ذلك ثمرة عام آخر
وإن حملت نخل حملا فجذها ثم حملت حملا آخر لم يضم ذلك إلى الأول لان النخل لا يحمل في عام مرتين فيعتبر كل واحد منهما بنفسه فإن بلغ نصابا وجب فيه العشر وإن لم يبلغ لم يجب
فصل نصاب الخارج من الأرض وزكاته العشر فيما سقي بغير مؤنة ثقيلة كماء السماء والأنهار وما يشرب بالعروق ونصف العشر فيما سقي بمؤنة ثقيلة كالنواضح والدواليب وما أشبههما لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا وروي عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر والبعل الشجر الذي يشرب بعروقه والعثري الشجر الذي يشرب من الماء الذي يجتمع في موضع فيجري كالساقية ولان المؤنة في أحدهما تخف وفي الآخر تثقل ففرق بينهما في
____________________
(1/154)
الزكاة
وإن كان يسقي نصفه بالناضح ونصفه بالسيح ففيه ثلاثة أرباع العشر عتبارا بالسقيين وإن سقى بأحدهما أكثر ففيه قولان أحدهما يعتبر فيه الغالب فإن كان الغالب السقي بماء السماء أو السيح وجب العشر وإن كان الغالب السقي بالناضح وجب فيه نصف العشر لانه اجتمع الأمران ولاحدهما قوة بالغلبة فكان الحكم له كالماء إذا خالطه مائع
والقول الثاني يقسط على عدد السقيات لان ما وجب فيه الزكاة بالقسط عند التماثل وجب فيه بالقسط عند التفاضل كزكاة الفطر في العبد المشترك
وإن جهل القدر الذي سقى بكل واحد منهما جعلا نصفين لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب التسوية بينهما كالدار في يد ثنين
وإذا زادت الثمرة على خمسة أوسق وجب الفرض فيه بحسابه لانه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيه بحسابه كزكاة الأثمان
فصل اشتراط بدو الصلاح في الثمر ولا يجب العشر حتى يبدو الصلاح في الثمار وبدو الصلاح أن يحمر البسر أو يصفر ويتموه العنب لان قبل بدو الصلاح لا يقصد أكله فهو كالرطبة وبعده يقتات ويؤكل فهو كالحبوب فإن أراد أن يبيع الثمرة قبل بدو الصلاح نظرت فإن كان لحاجة لم يكره وإن كان يبيع للفرار من الزكاة كره لانه فرار من القربة ومواساة المساكين فإن باع صح البيع لانه باع ولا حق لاحد فيه وإن باع بعد بدو الصلاح ففي البيع في قدر الفرض قولان أحدهما أنه باطل لان في أحد القولين تجب الزكاة في العين وقدر الفرض للمساكين فلا يجوز بيعه بغير إذنهم وفي الآخر تجب في الذمة والعين مرهونة به وبيع المرهون لا يجوز من غير إذن المرتهن
والثاني أنه يصح لانا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالعين إلا أن أحكام الملك كلها ثابتة والبيع من أحكام الملك وإن قلنا إنها تجب في الذمة والعين مرتهنة به إلا أنه رهن يثبت بغير ختياره فلم يمنع البيع كالجناية في رقبة العبد فإن قلنا يصح في قدر الفرض ففيما سواه أولى وإن قلنا لا يصح في قدر الفرض ففيما سواه قولان بناء على تفريق الصفقة فإن أكل شيئا من الثمار أو استهلكه وهو عالم عزر وغرم وإن كان جاهلا غرم ولم يعزر وإن إصاب النخل عطش بعد بدو الصلاح وخاف أن يهلك جاز أن يقطع الثمار لان الزكاة تجب على سبيل المواساة فلو ألزمناه تركها لحق المساكين صار ذلك سببا لهلاك ماله فيخرج عن حد المواساة ولان حفظ النخيل أنفع للمساكين في مستقبل الأحوال ولا يجوز أن يقطع إلا بحضرة المصدق ولان الثمرة مشتركة بينه وبين المساكين فلا يجوز إلا بمحضر من النائب عنهم ولا يقطع إلا ما تدعو الحاجة إليه فإن قطع من غير حضور المصدق وهو عالم عزره إن رأى ذلك ولا يغرمه ما نقص لانه لو حضر لوجب عليه أن يأذن له في قطعه وإن نقص به الثمرة
ف صل الخرص بعد بدو الصلاح والمستحب إذا بدا الصلاح في النخل والكرم أن يبعث الإمام من يخرص لحديث عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكرم يخرص كما يخرص النخل ويؤدى زكاته زبيبا كما يؤدى زكاة النخل تمرا ولان في الخرص احتياطا لرب المال والمساكين فإن رب المال يملك التصرف بالخرص ويعرف المصدق حق المساكين فيطالب به
وهل يجوز خارص واحد أم لا فيه قولان أحدهما يجوز وهو الصحيح كما يجوز حاكم واحد
والثاني لا يجوز أقل من خارصين كما لا يجوز أقل من مقومين
فإن كانت أنواعا مختلفة خرص عليه نخلة نخلة وإن كانت نوعا واحدا فهو بالخيار بين أن يخرص نخلة نخلة وبين أن يخرص الجميع دفعة فإذا عرف مبلغ الجميع ضمن رب المال حق الفقراء فإن ضمن حقهم جاز له أن يتصرف فيه بالبيع والأكل وغير ذلك
فإن ادعى رب المال بعد الخرص هلاك الثمرة فإن كان ذلك لجائحة ظاهرة لم يقبل حتى يقيم البينة فإذا أقام البينة أخذ بما قال وإن لم يصدقه حلفه
وهل اليمين مستحبة أو واجبة فيه وجهان أحدهما أنها واجبة فإن حلف سقطت الزكاة وإن نكل لزمته الزكاة
والثاني أنها مستحبة فإن حلف سقطت الزكاة وإن نكل سقطت الزكاة وإن ادعى الهلاك بسبب يخفى كالسرقة وغيرها فالقول قوله مع يمينه
وهل اليمين واجبة أو مستحبة على الوجهين فإن تصرف رب المال في الثمار وادعى أن الخارص قد أخطأ في الخرص نظرت فإن كان في قدر لا يجوز
____________________
(1/155)
أن يخطىء فيه كالربع والثلث لم يقبل قوله وإن كان في قدر يجوز أن يخطىء فيه قبل قوله مع يمينه وهل تجب اليمين أو تستحب على الوجهين
فصل تجفيف الثمار قبل الزكاة ولا تؤخذ زكاة الثمار إلا بعد أن تجفف لحديث عتاب بن أسيد في الكرم يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا فإن أخذ الرطب وجب رده وإن فات وجب رد قيمته
ومن أصحابنا من قال يجب رد مثله
والمذهب الأول لانه لا مثل له لانه يتفاوت ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض فإن كانت الثمار نوعا واحدا أخذ الواجب منه لقوله عز وجل { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } وإن كانت أنواعا قليلة أخذ الزكاة من كل نوع بقسطه وإن كانت أنواعا كثيرة أخرج من أوسطها لا من النوع الجيد ولا من النوع الرديء لان أخذها من كل صنف بقسطه يشق فأخذ الوسط
وإن كان رطبا لا يجيء منه التمر كالهلياث والسكر أو عنبا لا يجىء منه الزبيب أو أصاب النخل عطش فخاف عليها من ترك الثمار ففي القسمة قولان إن قلنا إن القسمة فرز النصيبين جازت المقاسمة فيجعل العشر في نخلات ثم المصدق ينظر فإن رأى أن يفرق عليهم فعل وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل وإن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لانه يكون بيع رطب برطب وذلك ربا فعلى هذا يقبض المصدق عشرها مشاعا بالتخلية بينه وبينها ويستقر عليه ملك المساكين ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرق عليهم وإن قطعت الثمار فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين تقاسموا كيلا أو وزنا وإن قلنا إنها بيع لم تجز المقاسمة بل يسلم العشر إلى المصدق ثم يبيعه ويفرق ثمنه
وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة تجوز المقاسمة كيلا ووزنا على الأرض لانه يمكنه أن يخلص حقوق المساكين بالكيل والوزن ولا يمكن ذلك في النخل
والصحيح أنه لا فرق بين أن تكون على الشجر وبين أن تكون على الأرض لانه بيع رطب برطب على هذا القول
باب زكاة الزروع وتجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض مما يقتات ويدخر وينبته الآدميون كالحنطة والشعير والدخن والذرة والجاورس والأرز وما أشبه ذلك لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء والبعل والسيل والعين العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر يكون ذلك في الثمر الحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضراوات فعفو عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية وكذلك تجب الزكاة في القطنية وهي العدس والحمص والماش واللوبيا والباقلا والهرطمان لانه يصلح للاقتيات ويدخر للأكل فهو كالحنطة والشعير
فصل شرط النصاب في الزروع ولا تجب الزكاة إلا في نصاب لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون
____________________
(1/156)
خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة ونصابه خمسة أوسق إلا الأرز والعلس فإن نصابهما عشرة أوسق لانهما ما يدخران في القشر ويجيء من كل وسقين وسق وزكاته العشر ونصف العشر على ما ذكرناه في الثمار
فإن زاد على خمسة أوسق شيء وجب فيه بحسابه لانه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيما زاد على النصاب بحسابه كالأثمان وتضم الأنواع من جنس واحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب فيضم العلس إلى الحنطة لانه صنف منه ولا يضم السلت إلى الشعير والسلت حب يشبه الحنطة في الملاسة ويشبه الشعير في طوله وبرودته
وقال أبو علي الطبري يضم السلت إلى الشعير كما يضم العلس إلى الحنطة والمنصوص في البويطي أنه لا يضم لانهما جنسان بخلاف الحنطة والعلس
فصل في ضم بعض الزرع إلى بعض وإن اختلفت أوقات الزرع ففي ضم بعضه إلى بعض أربعة أقوال أحدها أن الاعتبار بوقت الزراعة فكل زرعين زرعا في فصل واحد من صيف أو شتاء أو ربيع أو خريف ضم بعضه إلى بعض لان الزراعة هي الأصل والحصاد فرع فكان اعتبار الأصل الأولى
والثاني أن الاعتبار بوقت الحصاد فإذا اتفق حصادهما في فصل ضم أحدهما إلى الآخر لانه حالة الوجوب فكان اعتباره أولى
والثالث يعتبر أن تكون زراعتهما في فصل وحصادهما في فصل لان في زكاة المواشي والأثمان يعتبر الطرفان فكذلك ههنا
والرابع يعتبر أن يكونا من زراعة عام واحد كما قلنا في الثمار
فصل اشتراط انعقاد الحب ولا يجب العشر قبل أن ينعقد الحب فإذا انعقد الحب وجب لانه قبل أن ينعقد الحب كالخضراوات بعد الانعقاد صار قوتا يصلح للادخار فإن زرع الذرة فأدرك وحصد ثم سنبل مرة أخرى فهل يضم الثاني إلى الأول فيه وجهان أحدهما إلا يضم كما لو حملت النخل ثمرة فجذها ثم حملت حملا آخر
والثاني يضم
ويخالف النخل لانه يراد للتأبيد فجعل لكل حمل حكم والزرع لا يراد للتأبيد فكان الحملان لعام واحد
فصل اشتراط تصفية الحب ولا تؤخذ زكاة الحبوب إلا بعد التصفية كما لا تؤخذ زكاة الثمار إلا بعد الجفاف
فصل الزكاة على مالك الزرع وإن كان الزرع لواحد والأرض لآخر وجب العشر على مالك الزرع عند الوجوب لان الزكاة تجب في الزرع فوجبت على مالكه كزكاة التجارة تجب على مالك المال دون مالك الدكان
فصل في اجتماع خراج وزكاة فإن كان على أرض خراج وجب الخراج في وقته ويجب العشر في وقته ولا يمنع وجوب أحدهما وجوب الآخر لان الخراج يجب للأرض والعشر يجب للزرع فلا يمنع أحدها الآخر كأجرة المتجر وزكاة التجارة
باب زكاة الذهب والفضة وتجب الزكاة في الذهب والفضة لقوله عز وجل { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }
____________________
(1/157)
ولأن الذهب والفضة معدان للنماء فهو كالإبل والبقر السائمة ولا تجب فيما سواهما من الجواهر كالياقوت والفيروزج واللؤلؤ والمرجان لان ذلك معد للاستعمال فهو كالإبل والبقر العوامل ولا تجب فيما دون النصاب من الذهب والفضة
ونصاب الذهب عشرون مثقالا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ولا يجب في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء ونصاب الفضة مائتا درهم والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا بلغ مال أحدكم خمس أواق مائتي درهم ففيه خمسة دراهم والاعتبار بالمثقال الذي كان بمكة ودراهم الاسلام التي كانت كل عشرة بوزن سبعة مثاقيل لان النبي صلى الله عليه وسلم قال الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة
ولا يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب لانهما جنسان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل والبقر
وزكاتهما ربع العشر نصف مثقال عن عشرين مثقالا من الذهب وخمسة دراهم من مائتي درهم والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات في الرقة ربع العشر وروى عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه أنه قال ليس في أقل من عشرين دينارا شيء وفي عشرين نصف دينار
وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه لانه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيما زاد بحسابه
ويجب في الجيد الجيد وفي الرديء الرديء
وإن كانت أنواعا قليلة وجب في كل نوع بقسطه وإن كثرت الأنواع أخرج من الأوسط كما قلنا في الثمار وإن كان له ذهب مغشوش أو فضة مغشوشة فإن كان الذهب والفضة فيه قدر النصاب وجبت الزكاة وإن لم تبلغ لم تجب
وإن لم يعرف قدر ما فيه من الذهب أو الفضة فهو بالخيار إن شاء سبك الجميع ليعرف الواجب فيخرجه وإن شاء أخرج واستظهر ليسقط الفرض بيقين
فصل الزكاة على الدين وإن كان له دين نظرت فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته لان ملكه غير تام عليه فإن العبد يقدر أن يسقطه وإن كان لازما نظرت فإن كان على مقر مليء لزمه زكاته لانه مقدور على قبضه فهو كالوديعة وإن كان على مليء جاحد
أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب وفيه قولان وقد بيناه في زكاة الماشية
وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان قال أبو إسحاق هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد فيكون على قولين
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا تجب فيه الزكاة فإذا قبضه استقبل به الحول لانه لا يستحقه ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا
والأول أصح لانه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه
وإن كان له مال غائب فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب وإن كان معه أجرة دار لم يستوف المستأجر منفعتها وحال عليها الحول وجبت فيه الزكاة لانه يملكها ملكا تاما
وفي وجوب الإخراج قولان قال في البويطى يجب لانه يملكه ملكا تاما فأشبه مهر المرأة
وقال في الأم لا يجب لان ملكه قبل استيفاء المنفعة غير مستقر لانه قد تنهدم الدار فتسقط الأجرة فلم تجب الزكاة فيه كدين الكتابة
والأول أصح لان هذا يبطل بالصداق قبل الدخول فإنه يجوز أن يسقط بالردة ويسقط نصفه بالطلاق ثم يجب إخراج زكاته
فصل الزكاة في المصوغ ومن ملك مصوغا من الذهب والفضة فإن كان معدا للقنية وجبت فيه الزكاة لانه مرصد للنماء فهو كغير المصوغ فإن كان معدا للاستعمال نظرت فإن كان لاستعمال محرم كأواني الذهب والفضة وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب أو ما يحلى به المصحف أو يؤزر به المسجد أو يموه به السقف أو كان مكروها كالتضبيب القليل للزينة وجبت فيه الزكاة لانه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله وبقي على حكم الأصل
وإن كان لاستعمال مباح كحلي النساء وما أعد لهن وخاتم الفضة للرجال ففيه قولان
أحدهما لا تجب فيه الزكاة لما روى جابر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس في الحلي زكاة
ولانه معد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر
والثاني تجب فيه الزكاة واستخار الله فيه الشافعي
____________________
(1/158)
واختاره لما روي أن امرأة من اليمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
معها ابنتها في يدها مسكتان غليظتان من الذهب فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعطين زكاة هذا فقالت لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله ولانه من جنس الأثمان فأشبه الدراهم والدنانير
وفيما لطخ به اللجام وجهان قال أبو الطيب بن سلمة هو مباح كالذي حلى به المنطقة والسيف فيكون على قولين
وقال أبو إسحاق لا يحل وهو المنصوص لان هذا حلية للدابة بخلاف السيف والمنطقة فإن ذلك حلية للرجل في الحرب فحل
وإن كان للمرأة حلي فانكسر بحيث لا يمكن لبسه إلا أنه يمكن إصلاحه للبس ففيه قولان أحدهما تجب فيه الزكاة لانه لا يمكن لبسه فوجبت فيه الزكاة كما لو تفتت
والثاني لا تجب لانه للإصلاح واللبس أقرب
وإن كان لها حلي معد للإيجارة ففيه طريقان أحدهما أنه تجب فيه الزكاة قولا واحدا لانه معد لطلب النماء فأشبه إذا اشتراه للتجارة
والثاني أنه على قولين لان النماء المقصود قد فقد لان ما يحصل من الأجرة قليل فلم يؤثر في إيجاب الزكاة كأجرة العوامل من الإبل والبقر وإذا وجبت الزكاة في حلي تنقص قيمته بالكسر ملك الفقراء ربع العشر منه ويسلمه إليهم بتسليم مثله ليستقر ملكهم عليه كما قلنا في الرطب الذي لا يجيء منه تمر
وقال أبو العباس يخرج زكاته بالقيمة لانه يشق تسليم بعضه والأول أظهر
باب زكاة التجارة تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته ولان التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية
فصل متى يصير العرض للتجارة ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين أحدهما أن يملكه بعقد يجب فيه العوض كالبيع والإجارة والنكاح والخلع
والثاني أن ينوي عند العقد أنه يتملكه للتجارة فأما إذا ملكه بإرث أو وصية أو هبة من غير شرط الثواب لم يصر للتجارة بالنية وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة
وقال الكرابيسي من أصحابنا إذا ملك عرضا ثم نوى به التجارة صار للتجارة كما إذا كان عند متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية
والمذهب الأول لان ما لا يكون للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى إسامتها ويفارق إذا نوى القنية بمال التجارة لان القنية هي الإمساك بنية القنية وقد وجد الإمساك والنية
والتجارة هي التصرف بنية التجارة وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة
____________________
(1/159)
فصل اجتماع نصابين من جهتين إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينيه كنصاب السائمة والكرم والنخل نظرت فإن وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى كخمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهم وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه لانه وجد سببها ولم يوجد ما يعارضه فوجبت وإن وجد نصابهما ففيه طريقان قال أبو إسحاق إن سبق حول التجارة بأن يكون عنده نصاب من الأثمان مدة ثم اشترى به نصابا من السائمة وجبت زكاة التجارة فيه
وإن سبق وجوب زكاة العين بأن شترى نخلا للتجارة فبدا فيها الصلاح قبل أن يحول حول التجارة وجبت زكاة العين لان السابق منهما قد وجد سبب وجوب زكاته وليس هناك زكاة تعارضها فوجبت كما قلنا في ما وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى
وإن وجد سببهما في وقت واحد مثل أن يشتري بما تجب فيه الزكاة نصابا من الساعة للتجارة ففيه قولان قال في القديم تجب زكاة التجارة لانها أنفع للمساكين لانها تزداد بزيادة القيمة فكان إيجابها أولى
وقال في الجديد تجب زكاة العين لانها أقوى لانها مجمع عليها وزكاة التجارة مختلف في وجوبها ولان نصاب العين يعرف قطعا ونصاب التجارة يعرف بالظن فكانت زكاة العين أولى
وقال القاضي أبو حامد في المسألة قولان سواء اتفق حولهما أو سبق حول أحدهما
والأول أصح فإن كان المشترى نخيلا وقلنا بقوله القديم قوم النخيل والثمرة وأخرج الزكاة عن قيمتهما
وإن قلنا بقوله الجديد لزمه عشر الثمرة وهل يقوم النخيل فيه قولان أحدهما لا يقوم لان المقصود هو الثمار وقد أخرجنا عنها العشر
والثاني يقوم ويخرج الزكاة من قيمتها لان العشر زكاة الثمار فأما الأصول فلم يخرج زكاتها فوجب أن تقوم وتخرج عنها الزكاة
وإن شترى عبدا للتجارة وجبت عليه فطرته لوقتها وزكاة التجارة لحولهما لانهما حقان يجبان بسببين مختلفين فلم يمنع أحدهما الآخر كالجزاء والقيمة وحد الزنا والشرب
وإن اشترى للتجارة عرضا لا تجب فيه الزكاة لم يخل إما أن يشتري بعرض أو نقد فإن شتراه بنقد نظرت
فإن كان نصابا جعل بتداء الحول من حين ملك النصاب من النقد ويبني حول العرض الذي شتراه عليه لان النصاب هو الثمن وكان ظاهرا فصار في ثمن السلعة كامنا فبني حوله عليه كما لو كان عينا فأقرضه فصار دينا
وإن شتراه بدون النصاب نعقد الحول عليه من حين الشراء سواء كانت قيمة العرض نصابا أو أقل
وقال أبو العباس لا ينعقد الحول إلا أن يكون قيمته من أول الحول إلى آخره نصابا كسائر الزكوات
والمنصوص في الأم هو الأول لان نصاب زكاة التجارة يتعلق بالقيمة وتقويم العرض في كل ساعة يشق فلم يعتبر إلا في حال الوجوب
ويخالف سائر الزكوات فإن نصابها في عينها فلم يشق اعتباره في جميع الحول
وإن اشتراه بعرض للقنية نظرت فإن كان من غير أموال الزكاة نعقد الحول عليه من يوم الشراء وإن شتراه بنصاب من السائمة ففيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري يبني حول التجارة على حول السائمة لان الشافعي رحمه الله قال في المختصر ولو شترى عرضا للتجارة بدراهم أو دنانير أو بشيء تجب فيه الصدقة لم يقوم عليه الحول من يوم ملك ثمن العرض والدليل عليه أنه ملكه بما يجزي في الحول فبنى حوله على حوله كما لو شتراه بنصاب من الأثمان
وقال أكثر أصحابنا لا يبني على حول السائمة وتأولوا قوله في المختصر والدليل عليه أن الزكاة تتعلق بقيمة العرض والماشية ليست بقيمة فلم يبن حوله على حولها
ويخالف الأثمان لانها قيمة وإنما كانت عينا ظاهرة فخفيت كالعين إذا صارت دينا
فصل من باع عرضا في أثناء الحول إذا باع عرضا للتجارة في أثناء الحول بعرض للتجارة لم ينقطع الحول لان زكاة التجارة تتعلق بالقيمة وقيمة الثاني وقيمة الأول واحدة وإنما نتقلت من سلعة إلى سلعة فلم ينقطع الحول كمائتي درهم نتقلت من بيت إلى بيت
وإن باع العرض بالدراهم أو الدنانير نظرت فإن باعه بقدر قيمته بنى حول الثمن على حول العرض كما يبني حول العرض على حول الثمن
وإن باعه بزيادة فمثل أن يشتري العرض بمائتين فباعه في أثناء الحول بثلثمائة ففيه طريقان من أصحابنا من قال يزكي المائتين لحولهما ويستأنف الحول للزيادة قولا واحدا
وقال أبو إسحاق في الزيادة قولان أحدهما يزكيها لحول الأصل لانه نماء الأصل فزكى لحول الأصل كالسخال
والثاني يستأنف الحول لانها فائدة غير متولدة مما عنده فلا يزكى لحوله كما لو ستفاد الزيادة بإرث أو هبة
فإذا قلنا يستأنف الحول للزيادة ففي حولها وجهان أحدهما من حين ينض لانه لا يتحقق وجودها قبل أن ينض
____________________
(1/160)
والثاني من حين يظهر وهو الأظهر لانه قد ظهر فإذا نض علمنا أنه قد ملكه من ذلك الوقت
وإن كان عنده نصاب من الدراهم فباعه بالدراهم أو الدنانير فإن فعل ذلك لغير تجارة نقطع الحول فيما باع وستقبل الحول فيما شترى
وإن فعله للتجارة كما يفعل الصيارف ففيه وجهان أحدهما أنه ينقطع الحول لانه مال تجب الزكاة في عينه فانقطع الحول فيه بالمبادلة كالماشية
والثاني لا ينقطع الحول لانه باع مال التجارة بمال للتجارة فلم ينقطع الحول كما لو باع عرضا بعرض
فصل في تقويم العرض إذا حال الحول على عرض التجارة وجب تقويمه لإخراج الزكاة فإن اشتراه بنصاب من الأثمان قوم به لانه فرع لما اشترى به فوجب التقويم به وإن اشتراه بعرض للقنية قوم بنقد البلد لانه لا يمكن تقويمه بأصله فوجب تقويمه بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان قوم بأكثرهما معاملة وإن كانا متساويين نظرت فإن كان بأحدهما يبلغ نصابا وبالآخر لا يبلغ نصابا قوم بما يبلغ به لانه قد وجد نصاب تتعلق به الزكاة فوجب التقويم به وإن كان يبلغ بكل واحد منهما نصابا ففيه أربعة أوجه أحدها أنه يقوم بما شاء منهما وهو قول أبى إسحاق وهو الأظهر لانه لا مزية لاحدهما على الآخر فخير بينهما
والثاني يقوم بما هو أنفع للمساكين كما إذا اجتمع في النصاب فرضان أخذ ما هو أنفع للمساكين
والثالث يقوم بالدراهم لانها أكثر ستعمالا
والرابع يقوم بنقد أقرب البلاد إليه لان النقدين تساويا فجعلا كالمعدومين فإن قومه ثم باعه بزيادة على قيمته قبل إخراج الزكاة ففيه وجهان أحدهما لا يلزمه زكاة تلك الزيادة لانها زيادة حدثت بعد الوجوب فلم تلزمه زكاتها كالسخال الحادثة بعد الحول
والثاني تلزمه لان الزيادة حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب فهو بمنزلة الماشية إذا سمنت بعد الحول فإنه يلزمه إخراج فرض سمين
وإن شتراه بما دون النصاب من الأثمان ففيه وجهان أحدهما يقوم بنقد البلد لانه ملكه بما لا تجب فيه الزكاة فأشبه إذا ملكه بعرض للقنية
والثاني أنه يقوم بالنقد الذي شتراه به لانه أصل يمكن أن يقوم به كما لو كان نصابا
فإن حال الحول على العرض فقوم فلم يبلغ النصاب لم تجب فيه الزكاة فإن زادت قيمته بعد الحول بشهر فبلغت نصابا ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول
الثاني من حين حال الحول الأول لان الحول يبتدأ من حين الشراء وقد تم الحول وهو ناقص عن النصاب فلم تتعلق به الزكاة
وقال أبو علي بن أبي هريرة إذا بلغت قيمته نصابا بعد شهر وجبت فيه الزكاة لانه مضى عليه حول بعد الشراء بشهر وهو نصاب فوجبت فيه الزكاة
فصل كيف الزكاة بعد التقويم إذا قوم العرض فقد قال في الأم تخرج الزكاة مما قوم به
وقال في القديم فيه قولان أحدهما يخرج ربع عشر قيمته
والثاني يخرج ربع عشر العرض
وقال في موضع آخر لا يخرج إلا العين أو الورق أو العرض
فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه يخرج مما قوم به لأن الوجوب تعلق به
والثاني يخرج من العرض لأن الزكاة تجب لاجله
والثالث يخير بينهما لان الزكاة تتعلق بهما فخير بينهما
وقال أبو إسحاق فيه قولان أحدهما أنه يخرج مما قوم به
والثاني أنه بالخيار
وقال أبو علي بن أبي هريرة فيه قولان أحدهما أنه يخرج مما قوم به
والثاني يخرج ( من ) العرض
فصل في الزكاة في المضاربة إذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضا على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صارت ألفين بنيت على أن المضارب متى يملك الربح وفيه قولان
أحدهما يملكه بالمقاسمة
والثاني يملكه بالظهور فإن قلنا بالأول كانت زكاة الجميع على رب المال
فإن أخرجها من عين المال فمن أين تحسب فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه يحسب من الربح لانها من مؤن المال فتحتسب من الربح كأجرة النقال والوزان والكيال
والثاني تحتسب من رأس المال لان الزكاة دين عليه في الذمة في أحد القولين فإذا قضاه من المال حسب من رأس المال كسائر الديون
والثالث أنها تحسب من رأس المال والربح جميعا لان الزكاة تجب في رأس المال والربح فحسب المخرج منهما
وإن قلنا إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور وجب على رب المال زكاة ألف وخمسمائة وإخراجها على ما ذكرناه
وتجب على العامل زكاة خمسمائة غير أنه لا يلزمه إخراجها لانه لا يدري هل يسلم له أم لا فلم يلزمه إخراج زكاته كالمال الغائب فإن أخرج زكاته من غير المال جاز وإن أراد إخراجه من المال ففيه وجهان أحدهما ليس له لان الربح وقاية لرأس المال فلا يخرج منه الزكاة
والثاني أن له ذلك لانهما دخلا على حكم الإسلام ووجوب الزكاة
____________________
(1/161)
باب زكاة المعدن والركاز إذا استخرج حر مسلم من معدن في موات أو في أرض يملكها نصابا من الذهب أو الفضة وجب عليه الزكاة لان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية وأخذ منه الزكاة
فإن استخرجه مكاتب أو ذمي لم يجب عليه شيء لانه زكاة والزكاة لا تجب على المكاتب والذمي وإن وجده في أرض مملوكة لغيره فهو لصاحب الأرض ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه وجب عليه زكاته
وإن وجد شيئا غير الذهب والفضة كالحديد والرصاص والفيروزج والبلور وغيرها
لم تجب فيها الزكاة لانها ليست من أموال الزكاة فلم يجب فيها حق المعدن
وإن وجده دون النصاب لم تلزمه الزكاة لانا بينا أن ذلك زكاة فلم تجب في غير النصاب ولانه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالعشر
وإن وجد النصاب في دفعات نظرت فإن لم ينقطع العمل ولا النيل ضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب وإن انقطع العمل لعذر كالاستراحة أو إصلاح الأداة ضم ما وجده بعد زوال العذر إلى ما وجده قبله فإن ترك العمل لغير عذر لم يضم ما وجده بعد الترك إلى ما وجده قبله وإن اتصل العمل وآنقطع النيل ثم عاد ففيه قولان
قال في القديم لا يضم الثاني إلى الأول لانه إذا لم يضم ما وجده بعد قطع العمل إلى ما وجده قبله فلأن لا يضم ما وجده بعد انقطاع النيل وهو المقصود أولى
وقال في الجديد يضم لان انقطاع النيل بغير اختياره وانقطاع العمل باختياره
فصل حق المعدن بالوجود ويجب حق المعدن بالوجود ولا يعتبر فيه الحول في أظهر القولين لان الحول يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر فيه الحول كالعشر
وقال في البويطي لا يجب حتى يحول عليه الحول لانه زكاة في مال تتكرر فيه الزكاة فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات
فصل في مقدار زكاة المعدن وفي زكاته ثلاثة أقوال أحدها يجب ربع العشر لانا قد بينا أنه زكاة وزكاة الذهب والفضة ربع العشر
والثاني يجب فيه الخمس لأنه مال تجب الزكاة فيه بالوجود فتقدرت زكاته بالخمس كالركاز
والثالث أنه إن أصابه من غير تعب وجب فيه الخمس وإن أصابه بتعب وجب فيه ربع العشر لانه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاختلف قدره باختلاف المؤن كزكاة الزرع
ويجب إخراج الحق بعد التمييز كما قلنا في العشر إنه يجب بعد التصفية والتجفيف
فصل قيمة زكاة الركاز ويجب في الركاز الخمس لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفي الركاز الخمس ولانه يصل إليه من غير تعب ولا مؤنة فاحتمل الخمس ولا يجب ذلك إلا على من تجب عليه الزكاة لانه زكاة ولا تجب إلا فيما وجده في موات أو مملوك لا يعرف مالكه لان الموات لا مالك له وما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لا مالك له فأما إذا وجده في أرض يعرف مالكها فإن كان ذلك لحربي فهو غنيمة وإن كان لمسلم أو لمعاهد فهو لمالك الأرض فإن لم يدعه مالك الأرض فهو لمن انتقلت الأرض منه إليه ولا يجب إلا في مال جاهلي يعلم أن مثله لا يضرب في الإسلام لان الظاهر أنه لم يملكه مسلم إلى أن وجده وإن كان من ضرب الإسلام
____________________
(1/162)
كالدراهم الأحدية وما عليها اسم المسلمين فهو لقطة وإن كان يمكن أن يكون من مال المسلمين ويمكن أن يكون من مال الجاهلية بأن لا يكون عليه علامة أحد فالمنصوص أنه لقطة لأنه يحتمل الأمرين فغلب حكم الإسلام
ومن أصحابنا من قال هو ركاز لان الموضع الذي وجد فيه موات يشهد بأنه ركاز ويجب حق الركاز في الأثمان
وفي غير الأثمان قولان قال في القديم يجب في الجميع لانه حق مقدر بالخمس فلم يختص بالأثمان كخمس الغنيمة
وقال في الجديد لا يجب لانه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاختص بالأثمان كحق المعدن ولا يعتبر فيه الحول لان الحول يعتبر لتكامل النماء وهذا لا يوجد في الركاز
وهل يعتبر فيه النصاب فيه قولان قال في القديم يخمس قليله وكثيره لان ما خمس كثيره خمس قليله كالغنيمة
وقال في الجديد لا يخمس ما دون النصاب لانه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كحق المعدن فعلى هذا إذا وجد مائة درهم ثم وجد مائة أخرى لم يجب الخمس في واحد منهما
وإن وجد دون النصاب وعنده نصاب من جنسه نظرت فإن وجد الركاز مع تمام الحول في النصاب الذي عنده ضمه إلي ما عنده وأخرج الخمس من الركاز وربع العشر من النصاب لان الحول لا يعتبر في الركاز فيصير الركاز مع النصاب كالزيادة مع نصاب حال الحول عليهما
وإن وجده بعد الحول على النصاب ضمه إليه لأن الحول قد حال على ما معه والركاز كالزيادة التي حال عليها الحول وإن وجده قبل الحول على النصاب لم يخمس لان الركاز كبعض نصاب حال عليه الحول وإذا تم حول البعض ولم يتم حول الباقي لم تجب الزكاة فإذا تم حول النصاب أخرج زكاته وإذا تم حول الركاز من حين وجده أخرج عنه ربع العشر وسقط الخمس فأما إذا كان الذي معه أقل من النصاب فإن كان وجد الركاز قبل تمام الحول على ما معه لم يضم إليه بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب فإذا تم الحول أخرج الزكاة وإن وافق وجود الركاز حال حول الحول فالمنصوص في الأم أنه يضم إلى ما عنده فإذا بلغ النصاب أخرج من الركاز الخمس ومن الذي معه ربع العشر لان الركاز لا يعتبر فيه الحول فيجعل كالموجود معه في جميع الحول
ومن أصحابنا من قال لا يضم بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب فإذا حال الحول أخرج عنهما ربع العشر
باب زكاة الفطر زكاة الفطر واجبة لما روى بن عمر رضي الله عنهما قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من قمح أو صاعا من شعير على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين ولا يجب ذلك إلا على مسلم فأما الكافر فإنه إن كان أصليا لم تجب عليه للخبر الوارد وإن كان مرتدا فعلى ما ذكرناه في أول الكتاب من الأقوال الثلاثة
وأما المكاتب فالمذهب أنها لا تجب عليه لانه لا يلزمه زكاة المال فلا يلزمه زكاة الفطر كالكافر
ومن أصحابنا من قال يلزمه لان زكاة الفطر تابعة للنفقة ونفقته على نفسه فكذلك فطرته وهذا يبطل بالذمي فإن نفقته على نفسه ولا تلزمه الفطرة ولا تجب إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته وقت الوجوب ما يؤدى في الفطرة فإن لم يفضل عن نفقته شيء لم تلزمه لانه غير قادر فإن فضل بعض ما يؤديه ففيه وجهان أحدهما لا تلزمه لانه عدم بعض ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه كما لو وجبت عليه كفارة وهو يملك نصف رقبة
والثاني تلزمه لانه لو ملك نصف عبد لزمه نصف فطرته فإذا ملك نصف الفرض لزمه إخراجه في فطرته
فصل الفطرة عمن تلزمه نفقته ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة من تلزمه نفقته إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي عنهم فاضلا عن نفقته فتجب على الأب والأم وعلى أبيهما وأمهما وإن علوا فطرة ولدهما وولد ولدهما وإن سفلوا
وعلى الولد وولد الولد وإن
____________________
(1/163)
سفلوا فطرة الأب والأم وأبيهما وأمهما وإن علوا إذا وجبت عليهم نفقتهم لما روى ابن عمر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون
فإن كان للولد أو الوالد عبد يحتاج إليه للخدمة وجبت عليه فطرته لانه تجب عليه نفقته وتجب على السيد فطرة عبده وأمته لحديث ابن عمر
وإن كان له عبد أبق ففيه طريقان
أحدهما أنه تجب فطرته قولا واحدا لان فطرته تجب بحق الملك والملك لا يزول بالإباق
ومنهم من قال فيه قولان كالزكاة في المال المغصوب
وإن كان عبد بين نفسين وجبت الفطرة عليهما لان نفقته عليهما وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وجب على السيد نصف فطرته وعلى العبد نصف فطرته لان النفقة عليهما نصفان فكذلك الفطرة
وإن كان له مكاتب لم تجب عليه فطرته لانه لا تجب عليه نفقته وروى أبو ثور عن الشافعي رحمه الله أنه قال تجب فطرته لانه باق على ملكه ويجب على الزوج فطرة زوجته إذا وجبت عليه نفقتها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولانه ملك يستحق به النفقة فجاز أن يستحق به الفطرة كملك اليمين في العبد والأمة فإن كانت ممن تخدم ولها مملوك يخدمها وجبت عليه فطرته لانه يجب عليه نفقته فلزمته فطرته فإن نشزت الزوجة لم يلزمه فطرتها لانه لا يلزمه نفقتها ولا تجب عليه إلا فطرة مسلم فأما إذا كان المؤدى عنه كافر لم تجب عليه فطرته لحديث بن عمر على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين ولان القصد من الفطرة تطهير المؤدى عنه لان المؤدي قد طهر نفسه بالفطرة والكافر لا يلحقه التطهير
ولا تجب حتى تفضل الفطرة عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لان النفقة أهم فوجبت البداية بها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك ثم بمن تعول فإن فضل ما يؤدى عن فطرة بعضهم ففيه أربعة أوجه أحدها أنه يبدأ بمن يبدأ بنفقته فإن فضل صاع أخرجه عن نفسه فإن فضل صاع آخر أخرجه عن زوجته فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الصغير فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أبيه فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أمه فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الكبير لانا بينا أن الفطرة تابعة للنفقة وترتيبهم في النفقة على ما ذكرناه فكذلك في الفطرة
والثاني يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه لانها تجب بحكم المعاوضة
والثالث يبدأ بنفسه ثم بمن شاء
والرابع أنه بالخيار في حقه وحق غيره لان كل واحد منهم لو نفرد لزمته فطرته فإذا جتمعوا تساووا
ومن وجبت فطرته على غيره فهل يجب ذلك على المؤدي بتداء أو يجب على المؤدي عنه ثم يتحمل المؤدى فيه وجهان أحدهما تجب على المؤدي بتداء لانها تجب في ماله
والثاني تجب على المؤدى عنه لانها تجب لتطهيره فإن تطوع المؤدي عنه وأخرج بغير إذن المؤدى ففيه وجهان فإن قلنا إنها تجب على المؤدي بتداء لم يجزه كما لو أخرج زكاة ماله عنه بغير إذنه وإن قلنا يتحمل جاز لانه أخرج ما وجبت عليه وإن كان من يمونه مسلما وهو كافر فعلى الوجهين فإن قلنا إنها تجب عليه بتداء لم تجب لانه إيجاب زكاة على كافر
وإن قلنا إنه يتحمل وجب عليه لان الفطرة وجبت على مسلم وإنما هو متحمل وإن كانت له زوجة موسرة وهو معسر فالمنصوص أنه لا يجب عليها
وقال فيمن زوج أمته من معسر إن على المولى فطرتها فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وخرجها على قولين أحدهما لا تجب لانها زكاة تجب عليه مع القدرة فسقطت بالإعسار كفطرة نفسه
والثاني تجب لانه إذا كان معسرا جعل كالمعدوم ولو عدم الزوج وجبت فطرة الحرة على نفسها وفطرة الأمة على مولاها وكذلك ههنا
ومن أصحابنا من قال إن قلنا يتحمل وجب على الحرة وعلى مولى الأمة لان الوجوب عليهما والزوج متحمل فإذا عجز عن التحمل بقي الوجوب في محله
وإن قلنا تجب عليه بتداء لم تجب على الحرة ولا على مولى الأمة لانه لا حق عليهما
وقال أبو إسحاق تجب على مولى الأمة ولا تجب على الحرة لان فطرتها على المولى لان المولى لا تجب عليه التبوئة التامة فإذا سلم كان متبرعا فلا يسقط بذلك ما وجب عليه من الزكاة والحرة غير متبرعة بالتسليم لانه يجب عليها تسليم نفسها وإن لم يقدر على فطرتها سقطت عنها الفطرة
____________________
(1/164)
فصل في وقت وجوب الفطرة ومتى تجب الفطرة فيه قولان قال في القديم تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر لانها قربة تتعلق بالعيد فلا يتقدم وقتها على يومه كالصلاة والأضحية
وقال في الجديد تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر من رمضان والفطر من رمضان لا يكون إلا بعد غروب الشمس من ليلة العيد ولان الفطرة جعلت طهرة للصائم بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين
وانقضاء الصوم بغروب الشمس فإن رزق ولدا أو تزوج امرأة واشترى عبدا ودخل عليه الوقت وهم عنده وجبت عليه فطرتهم
وإن رزق الولد أو تزوج امرأة أو اشترى العبد بعد دخول الوقت أو ماتوا قبل دخول الوقت لم تجب فطرتهم وإن دخل وقت الوجوب وهم عنده ثم ماتوا قبل إمكان الأداء ففيه وجهان أحدهما تسقط كما تسقط زكاة المال
والثاني لا تسقط لانها تجب في الذمة فلم تسقط بموت المرأة ككفارة الظهار ويجوز تقديم الفطرة من أول شهر رمضان لانها تجب بسببين صوم شهر رمضان والفطر منه فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول ولا يجوز تقديمها على شهر رمضان لانه تقديم على السببين فهو كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب
والمستحب أن تخرج قبل صلاة العيد لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة
ولا يجوز تأخيرها عن يومه لقوله صلى الله عليه وسلم أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم
فإن أخره حتى خرج اليوم أثم وعليه القضاء
لانه حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه فلا يسقط عنه بفوات الوقت
فصل في مقدار زكاة الفطر والواجب صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير والصاع خمسة أرطال وثلث لما روى عمرو بن حبيب القاضي قال حججت مع أبي جعفر فلما قدم المدينة قال ئتوني بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعايره فوجده خمسة أرطال وثلثا برطل أهل العراق
فصل في جنس الحب للزكاة وفي الحب الذي يخرجه ثلاثة أوجه أحدها أنه يجوز من كل قوت
لما روى أبو سعيد الخدري قال كنا نخرج صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب
ومعلوم أن ذلك كله لم يكن قوت أهل المدينة فدل على أنه مخير بين الجميع
وقال أبو عبيد بن حرب يجب من غالب قوته وهو ظاهر النص لانه لما وجب أداء ما فضل عن قوته وجب أن تكون من قوته
وقال أبو العباس وأبو إسحاق تجب من غالب قوت البلد لانه حق يجب في الذمة تعلق بالطعام فوجب من غالب قوت البلد كالطعام في الكفارة فإن عدل عن قوت البلد إلى قوت بلد آخر نظرت فإن كان الذي انتقل إليه أجود أجزأه وإن كان دونه لم يجزه
فإن كان أهل البلد يقتاتون أجناسا مختلفة ليس بعضها بأغلب من بعض فالأفضل أن يخرج من أفضلها لقوله عز وجل { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ومن أيها أخرج أجزأه وإن كان في موضع قوتهم الأقط ففيه طريقان قال أبو إسحاق يجزئه قولا وحدا لحديث أبي سعيد
وقال القاضي أبو حامد فيه قولان أظهرهما أنه يجزئه للخبر
والثانى لا يجزئه لانه لا تجب فيه الزكاة فأشبه اللحم
فإذا قلنا يجزئه فأخرج اللبن أجزأه لانه أكمل منه لانه يجيء منه الأقط وغيره وإن أخرج الجبن جاز لانه مثله وإن أخرج المصل لم يجزه لأنه أنقص من الأقط لانه لبن منزوع الزبد وإن كان في موضع لا قوت فيه أخرج من
____________________
(1/165)
قوت أقرب البلاد إليه فإن كان بقربه بلدان متساويان في القوت أخرج من قوت أيهما شاء
ولا يجوز في فطرة واحدة أن يخرج من جنسين لان ما خير فيه بين جنسين لم يجز أن يخرج من كل واحد منهما بعضه ككفارة اليمين لا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة
فإن كان عبد بين نفسين في بلدين قوتهما مختلف ففيه ثلاثة أوجه
أحدها لا يجوز أن يخرج كل واحد منهما من قوته بل يخرجان من أدنى القوتين وقال أبو إسحاق يجوز أن يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته لان كل واحد منهما لم يبعض ما وجب عليه
ومن أصحابنا من قال يعتبر فيه قوت العبد أو البلد الذي فيه العبد لانها تجب لحقه فاعتبر فيه قوته أو قوت بلده كالحر في حق نفسه
ولا يجوز إخراج حب مسوس لان السوس أكل جوفه فيكون الصاع منه أقل من صاع ولا يجوز إخراج الدقيق وقال أبو القاسم الأنماطي يجوز لانه منصوص عليه في حديث أبي سعيد الخدري
والمذهب أنه لا يجوز لانه ناقص المنفعة عن الحب فلم يجز كالخبز وأما حديث أبي سعيد فقد قال أبو داود روى سفيان الدقيق ووهم فيه ثم رجع عنه
باب تعجيل الصدقة كل مال وجبت فيه الزكاة بالحول والنصاب لم يجز تقديم زكاته قبل أن يملك النصاب لانه لم يوجد سبب وجوبها فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع والدية قبل القتل وإن ملك النصاب جاز تقديم زكاته قبل الحول لما روى علي كرم الله وجهه أن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعجل زكاة ماله قبل محلها فرخص له في ذلك ولانه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل محله كالدين المؤجل ودية الخطإ
وفي تعجيل زكاة عامين وجهان قال أبو إسحاق يجوز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين ولان ما جاز فيه تعجيل حق العام منه جاز تعجيل حق العامين كدية الخطإ
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لانها زكاة لم ينعقد حولها فلم يجز تقديمها كالزكاة قبل أن يملك النصاب
فإن ملك مائتي شاة فعجل عنها وعما يتولد من سخالها أربع شياه فتوالدت وصارت أربعمائة أجزأه زكاة المائتين وفى زكاة السخال وجهان أحدهما لا يجوز لانه تقديم زكاة على النصاب
والثاني يجوز لان السخال جعلت كالموجودة في الحول في وجوب زكاتها فجعلت كالموجودة في تعجيل زكاتها
وإن ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات وبقيت السخال فهل يجزئه ما أخرج عن الأمهات عن زكاة السخال فيه وجهان أحدهما لا يجزئه لانه عجل الزكاة عن غير السخال فلا يجزئه عن زكاة السخال
والثانى يجزئه لانه لما كان حول الأمهات حول السخال كانت زكاة الأمهات زكاة السخال
وإن اشترى بمائتي درهم عرضا للتجارة فأخرج عنها زكاة أربعمائة درهم ثم حال الحول والعرض يساوي أربعمائة أجزأه لان الاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول والدليل عليه أنه لو ملك سلعة تساوى مائة فحال الحول وهي تساوى مائتين وجبت فيه الزكاة وإن ملك مائة وعشرين شاة فعجل عنها شاة ثم نتجت شاة سخلة قبل الحول ( لزمته شاة ) أخرى وكذلك لو ملك مائتي شاة فأخرج شاتين ثم نتجت شاة سخلة أخرى قبل الحول لزمه شاة أخرى لان المخرج كالباقي على ملكه ولهذا سقط به الفرض عند الحول فجعل كالباقي على ملكه في إيجاب الفرض
فصل إذا عجل الزكاة ثم هلك النصاب إذا عجل زكاة ماله ثم هلك النصاب أو هلك بعضه قبل الحول خرج المدفوع عن أن يكون زكاة وهل يثبت له الرجوع
____________________
(1/166)
فيما دفع ينظر فيه فإن لم يبين أنها زكاة معجلة لم يجز له الرجوع فإن الظاهر أن ذلك زكاة واجبة أو صدقة تطوع وقد لزمت بالقبض فلم يملك الرجوع
وإن بين أنها زكاة معجلة ثبت له الرجوع لانه دفع عما يستقر في الثاني فإذا طرأ ما يمنع الاستقرار ثبت له الرجوع كما لو عجل أجرة دار ثم انهدمت الدار قبل انقضاء المدة
وإن كان الذي عجل هو السلطان أو المصدق من قبله ثبت له الرجوع بين أو لم يبين لان السلطان لا يسترجعه لنفسه فلم يلحقه تهمة
وإن عجل الزكاة عن نصاب ثم ذبح شاة أو أتلفها فهل له أن يرجع فيه وجهان أحدهما يرجع لانه زال شرط الوجوب قبل الحول فثبت له الرجوع كما لو هلك بغير فعله
والثانى لا يرجع لانه مفرط وربما أتلف ليسترجع ما دفع فلم يجز له أن يرجع
وإذا رجع فيما دفع وقد نقص في يد الفقير لم يلزمه ضمان ما نقص في أصح الوجهين لانه نقص في ملكه فلم يلزمه ضمانه
ومن أصحابنا من قال يلزمه لان ما ضمن عينه إذا هلك ضمن نقصانه إذا نقص كالمغصوب فإن زاد المدفوع نظرت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالسمن رجع فيه مع الزيادة لان السمن يتبع الأصل في الأصل في الرد كما نقول في الرد بالعيب
وإن زادت زيادة تتميز كالولد واللبن لم يجب رد الزيادة لانها زيادة حدثت في ملكه فلا يجب ردها مع الأصل كولد المبيعة في الرد بالعيب
وإن هلك المدفوع في يد الفقير لزمته قيمته وفي القيمة وجهان أحدهما يلزمه قيمته يوم التلف كالعارية
والثانى يلزمه قيمته يوم الدفع لان ما حصل فيه من زيادة حدثت في ملكه فلم يلزمه ضمانها
فصل عجل الزكاة إلى فقير فمات وإن عجل الزكاة فدفعها إلى فقير فمات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزه المدفوع عن الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا فإن لم يبين عند الدفع أنها زكاة معجلة لم يرجع وإن بين رجع فإذا رجع فيما دفع نظرت فإن كان من الذهب أو الفضة وإذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة لانه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على حكم ملكه ولهذا لو عجله عن نصاب سقط به الفرض عند الحول فلو لم يكن كالباقى على حكم ملكه لم يسقط به الفرض وقد نقص المال عن النصاب ولما مات صار كالدين في ذمته والذهب والفضة إذا صارا دينا لم ينقطع الحول ( فيهما ) فضم إلى ما عنده وزكاه
وإن كان الذي عجل شاة ففيه وجهان أحدهما يضم إلى ما عنده كما يضم الذهب والفضة
والثانى لا يضم لانه لما مات صار كالدين والحيوان إذا كان دينا لا تجب فيه الزكاة
فصل إذا استغنى الفقير الآخذ وإن عجل الزكاة ودفعها إلى فقير واستغنى قبل الحول نظرت فإن استغنى بما دفع إليه أجزأه لانه دفع إليه ليستغني به فلا يجوز أن يكون غناه به مانعا من الإجزاء ولانه ( قد ) زال شرط الزكاة من جهة الزكاة فلا يمنع الإجزاء كما لو كان عنده نصاب فعجل عنه شاة فإن المال قد نقص عن النصاب ولم يمنع الإجزاء عن الزكاة
وإن استغنى من غيره لم يجزه ( المدفوع ) عن الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا
وهل يرجع على ما بيناه
وإن دفع إلى فقير ثم استغنى ثم افتقر قبل الحول وحال الحول وهو فقير ففيه وجهان أحدهما لا يجزئه كما لو عجل زكاة ماله ثم تلف ماله ثم استفاد غيره قبل الحول
والثاني أنه يجزئه لانه دفع إليه وهو فقير وحال الحول عليه وهو فقير
فصل إذا هلكت الزكاة في يد الوالي وإن تسلف الوالي الزكاة وهلكت في يده نظرت فإن تسلف بغير مسألة ضمنها لان الفقراء أهل رشد لا يولى عليهم فإذا قبض مالهم قبل محله بغير إذنهم وجب عليه الضمان كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله بغير إذنه وإن تسلف بمسألة رب المال تلف من ضمان رب المال لانه وكيل رب المال فكان الهلاك من ضمان الموكل كما لو وكل رجلا في حمل شيء إلى موضع فهلك في يده
وإن تسلف بمسألة الفقراء هلك من ضمانهم لانه قبض بإذنهم فصار كالوكيل إذا قبض دين موكله بإذنه فهلك في يده
وإن تسلف بمسألة الفقراء ورب المال ففيه وجهان أحدهما أنه يتلف من ضمان رب المال لان جنبته أقوى لانه يملك المنع والدفع
والثاني أنه من ضمان الفقراء لان الضمان يجب على من له المنفعة ولهذا يجب ضمان العارية على المستعير والمنفعة ههنا للفقراء فكان الضمان عليهم
____________________
(1/167)
فصل ما يجب فيه الزكاة من غير حول فأما ما تجب الزكاة فيه من غير حول كالعشر وزكاة المعدن والركاز فلا يجوز فيه تعجيل الزكاة
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز تعجيل العشر والصحيح أنه لا يجوز لان العشر يجب بسبب واحد وهو إدراك الثمرة وانعقاد الحب فإذا عجله قدمه على سببه فلم يجز كما لو قدم زكاة المال على النصاب
باب قسم الصدقات يجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه وهي الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض دينه ثم ليزك بقية ماله
ويجوز أن يوكل من يفرق لانه حق مال فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين
ويجوز أن يدفع إلى الإمام لانه نائب عن الفقراء فجاز الدفع إليه كولي اليتيم
وفي الأفضل ثلاثة أوجه أحدها أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص لانه على ثقة من أدائه وليس على ثقة من أداء غيره
والثانى أن الأفضل أن يدفع إلى الإمام عادلا كان أو جائرا لما روي أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف كيف تصنع في صدقة مالي قال منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان
فقال وفيم أنت من ذلك قال إنهم يشترون بها الأراضي ويتزوجون بها النساء فقال دفعها إليهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفع إليهم ولانه أعرف بالفقراء وقدر حاجاتهم
ومن أصحابنا من قال إن كان عادلا فالدفع إليه أفضل وإن كان جائرا فإن تفرقته بنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه
ولانه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر لانه ربما يصرفه في شهواته
وأما الأموال الظاهرة وهي المواشي والزروع والثمار والمعادن ففي زكاتها قولان قال في القديم يجب دفعها إلى الإمام فإن فرقها بنفسه لزمه الضمان لقوله عز وجل { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ولانه مال للإمام فيه حق المطالبة فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية
وقال في الجديد يجوز أن يفرقها بنفسه لانها زكاة فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن
فصل في بعث السعاة للصدقة ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لاخذ الصدقة لان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة ولان في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه وفيهم من يبخل فوجب أن يبعث من يأخذ
ولا يبعث إلا حرا عدلا ثقة لان هذا ولاية وأمانة والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية
ولا يبعث إلا فقيها لانه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها
ولا يبعث هاشميا ولا مطلبيا ومن أصحابنا من قال يجوز لان ما يأخذه على وجه العوض
والمذهب الأول لما روي أن الفضل بن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوليه العمالة على الصدقة فلم يوله وقال أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس
وفي مواليهم وجهان أحدهما لا يجوز لما روى أبو رافع قال ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال تبعني تصب منها فقلت حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال إن موالي القوم من أنفسهم وإنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة
والثاني أنه يجوز لان الصدقة إنما حرمت على بني هاشم وبني المطلب للشرف بالنسب وهذا لا يوجد في مواليهم
وهو بالخيار بين أن يستأجر العامل بأجرة معلومة ثم يعطيه ذلك من
____________________
(1/168)
الزكاة وبين أن يبعثه من غير شرط ثم يعطيه أجرة المثل من الزكاة
ويبعث لقبض ما سوى زكاة الزرع والثمار في المحرم لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في شهر المحرم هذا شهر زكاتكم ولانه أول السنة فكان البعث فيه أولى
والمستحب للساعي أن يعد الماشية على أهلها على الماء إن كانت الماشية ترد الماء وفي أفنيتهم إن لم ترد الماء لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وعند أفنيتهم فإن أخبره صاحب المال بالعدد وهو ثقة عدل قبل منه وإن بذل له الزكاة أخذها
ويستحب أن يدعو له لقوله عز وجل { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } والمستحب أن يقول اللهم صل على آل فلان لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ماله فقال له صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أوفى وبأي شيء دعا له جاز
قال الشافعي وأحب أن يقول آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت
وإن ترك الدعاء جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد ( على ) فقرائهم ولم يأمره بالدعاء
وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض وعزره على المنع والغلول
وقال في القديم يأخذ منه الزكاة وشطر ماله وقد مضى توجيه القولين في أول الزكاة وإن وصل الساعي قبل وجوب الزكاة ورأى أن يتسلف فعل
وإن لم يسلفه رب المال لم يجبره على ذلك لانها لم تجب بعد فلا يجبر على أدائه وإن رأى أن يوكل من يقبض إذا حال الحول فعل وان رأى أن يتركه حتى يأخذه مع زكاة القابل فعل
وإن قال رب المال لم يحل الحول على المال فالقول قوله
فإن رأى أن يحلفه حلفه احتياطا
وإن قال بعته ثم اشتريته ولم يحل عليه الحول أو قال أخرجت الزكاة عنه وقلنا إنه يجوز أن يفرق بنفسه ففيه وجهان أحدهما يجب تحليفه لانه يدعي خلاف الظاهر فإن نكل عن اليمين أخذت منه الزكاة
والثاني أنه يستحب تحليفه ولا تجب لان الزكاة موضوعة على الرفق فلو أوجبنا اليمين خرجت عن باب الرفق
ويبعث الساعي لزكاة الثمار والزروع في الوقت الذي يصادف فيه الإدراك ويبعث معه من يخرص الثمار فإن وصل قبل وقت الإدراك ورأى أن يخرص الثمار ويضمن رب المال زكاتها فعل وإن وصل وقد وجبت الزكاة وبذلها له أخذها ودعا له فإن كان الإمام أذن للساعي في تفرقتها فرقها وإن لم يأذن له حملها إلى الإمام
والمستحب أن يسم الماشية التي يأخذها في الزكاة لما روى أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسم إبل الصدقة ولان بالوسم تتميز عن غيرها وإذا شردت ردت إلى موضعها
ويستحب أن يسم التي يأخذها في زكاة الإبل والبقر في أفخاذها لانه موضع صلب فيقل الألم بوسمه ويخف الشعر فيه فيظهر
ويسم الغنم في أذنها
ويستحب أن يكتب في ماشية الزكاة لله أو زكاة وفي ماشية الجزية جزية أو صغارا لان ذلك أسهل ما يمكن
ولا يجوز للساعي ولا للإمام أن يتصرف فيما يحصل عنده من الفرائض حتى يوصلها إلى أهلها لان الفقراء أهل رشد لا يولى عليهم فلا يجوز التصرف في مالهم بغير إذنهم
فإن أخذ نصف شاة أو وقف عليه شيء من المواشي وخاف هلاكه أو خاف أن يؤخذ في الطريق جاز له بيعه لانه موضع ضرورة
وإن لم يبعث الإمام الساعي وجب
____________________
(1/169)
على رب المال أن يفرق الزكاة بنفسه على المنصوص لانه حق للفقراء والإمام نائب عنهم وإذا ترك النائب لم يترك من عليه أداءه
ومن أصحابنا من قال إن قلنا إن الأموال الظاهرة يجب دفع زكاتها إلى الإمام لم يجز أن يفرق بنفسه لانه مال توجه حق القبض فيه إلى الإمام فإذا لم يطلب الإمام لم يفرق كالخراج والجزية
فصل وجوب النية للزكاة ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل مرىء ما نوى ولانها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصلاة
وفي وقت النية وجهان أحدهما يجب أن ينوي حال الدفع لانه عبادة يدخل فيها بفعله فوجبت النية في بتدائها كالصلاة
والثانى يجوز تقديم النية عليها لانه يجوز التوكيل فيها ونيته غير مقارنة لاداء الوكيل فجاز تقديم النية عليها بخلاف الصلاة
ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه لان الصدقة قد تكون نفلا فلا تنصرف إلى الفرض إلا بالتعيين ولا يلزمه تعيين المال المزكى عنه وإن كان له نصاب حاضر ونصاب غائب فأخرج الفرض فقال هذا عن الحاضر أو الغائب أجزأه لانه لو أطلق النية لكانت عن أحدهما فلم يضر تقييده بذلك
فإن قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته وإن لم يكن سالما فهو عن الحاضر فإن كان الغائب هالكا أجزأه لانه لو أطلق وكان الغائب هالكا لكان هذا عن الحاضر
وإن قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته أو تطوع لم يجزه لانه لم يخلص النية للفرض
وإن قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته وإن لم يكن سالما فهو تطوع وكان سالما أجزأه لانه أخلص النية للفرض ولانه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه فلم يضر التقييد
وإن كان له من يرثه فأخرج مالا وقال إن كان قد مات مورثي فهذا عن زكاة ما ورثته منه وكان قد مات لم يجزه لانه لم يبن النية على أصل لان الأصل بقاؤه
وإن وكل من يؤدي الزكاة ونوى عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الدفع إلى الفقراء أجزأه وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه لان الزكاة فرض على رب المال فلم تصح من غير نية
وإن نوى رب المال ولم ينو الوكيل ففيه طريقان من أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا لان الذي عليه الفرض قد نوى في وقت الدفع إلى الوكيل فتعين المدفوع للزكاة فلا يحتاج بعد ذلك إلى النية
ومن أصحابنا من قال يبنى على جواز تقديم النية فإن قلنا يجوز أجزأه وإن قلنا لا يجوز
وإن دفعها إلى الإمام ولم ينو ففيه وجهان أحدهما يجزئه وهو ظاهر النص لان الإمام لا يدفع إليه إلا الفرض فاكتفى بهذا الظاهر عن النية
ومن أصحابنا من قال لا يجزئه وهو الأظهر لان الإمام وكيل للفقراء ولو دفع إلى الفقراء لم يجز إلا بالنية عند الدفع فكذلك إذا دفع إلى وكيلهم وتأول هذا القائل قول الشافعى رحمه الله على من امتنع من أداء الزكاة فأخذها الإمام منه قهرا فإنه يجزئه لانه تعذرت النية من جهته فقامت نية الإمام مقام نيته
فصل مصارف الزكاة الثمانية ويجب صرف جميع الصدقات إلى ثمانية أصناف وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل
وقال المزني وأبو حفص الباب شامي يصرف خمس الركاز إلى من يصرف إليه
____________________
(1/170)
خمس الفىء والغنيمة لانه حق مقدر بالخمس فأشبه خمس الفيء والغنيمة
وقال أبو سعيد الإصطخري تصرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء لانه قدر قليل فإذا قسم على ثمانية أصناف لم يقع ما يدفع إلى كل واحد منهم موقعا من الكفاية
والمذهب الأول والدليل عليه قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل } فأضاف جميع الصدقات إليهم بلام التمليك وأشرك بينهم بواو التشريك فدل على أنه مملوك لهم مشترك بينهم
فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام قسمها على ثمانية أسهم سهم للعامل وهو أول ما يبدأ به لانه يأخذه على وجه العوض وغيره يأخذه على وجه المواساة فإن كان السهم قدر أجرته دفعه إليه وإن كان أكثر من أجرته رد الفضل على الأصناف وقسمه على سهامهم وإن كان أقل من أجرته تمم
ومن أين يتمم قال الشافعي يتمم من سهم المصالح
ولو قيل يتمم من حق سائر الأصناف لم يكن به بأس
فمن أصحابنا من قال فيه قولان
أحدهما يتمم من سهم سائر الأصناف لانه يعمل لهم فكانت أجرته عليهم
والثاني يتمم من سهم المصالح لان الله تعالى جعل لكل صنف سهما فلو قسمنا ذلك على الأصناف نقصنا حقهم وفضلنا العامل عليهم
ومن أصحابنا من قال الإمام بالخيار إن شاء تمم من سهم المصالح وإن شاء تمم من سهامهم لانه يشبه الحاكم لانه يستوفي به حق الغير على وجه الأمانة ويشبه الوكيل فخير بين حقيهما
ومنهم من قال إن كان قد بدأ بنصيبه فوجده ينقص تمم من سهامهم
وإن كان قد بدأ بسهام الأصناف فأعطاهم ثم وجد سهم العامل ينقص تممه من سهم المصالح لانه يشق سترجاع ما دفع إليهم
ومنهم من قال إن فضل عن قدر حاجة الأصناف شيء تمم من الفضل وإن لم يفضل عنهم شيء تمم من سهم المصالح
والصحيح هو الطريق الأول ويعطى الحاشر والعريف من سهم العامل لانهم من جملة العمال
وفي أجرة الكيال وجهان
قال أبو علي بن أبي هريرة على رب المال لانها تجب للإيفاء والإيفاء حق على رب المال فكانت أجرته عليه
وقال أبو إسحاق تكون من الصدقة لانا لو أوجبنا ذلك على رب المال زدنا على الفرض الذي وجب عليه في الزكاة
فصل سهم الفقراء وسهم للفقراء والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته فيدفع إليه ما تزول به حاجته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة أو بضاعة يتجر فيها حتى لو حتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له ويحسن التجارة فيها وجب أن يدفع إليه
فإن عرف لرجل مال ودعى أنه فتقر لم يقبل قوله إلا ببينة لانه ثبت غناه
فلا يقبل دعوى الفقر إلا ببينة كما لو وجب عليه دين آدمي وعرف له مال فادعى الإعسار
فإن كان قويا فادعى أنه لا كسب له اعطي لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة فصعد بصره إليهما وصوب ثم قال أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب وهل يحلف فيه وجهان أحدهما لا يحلف لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف الرجلين
والثاني يحلف لان الظاهر أنه يقدر على الكسب مع القوة
فصل في سهم المساكين وسهم للمساكين والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته إلا أنه لا يكفيه
وقال أبو إسحاق المسكين هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته فأما الذي يجد ما يقع موقعا من كفايته فهو الفقير
والأول أظهر لان الله تعالى بدأ بالفقراء والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم فدل على أن الفقير أمس حاجة ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الفقر فدل على أن الفقر أشد
فصل ما يدفع للمسكين ويدفع إلى المسكين تمام الكفاية فإن ادعى عيالا لم يقبل إلا ببينة لانه يدعي خلاف الظاهر
____________________
(1/171)
فصل في سهم المؤلفة قلوبهم وسهم للمؤلفة وهم ضربان مسلمون وكفار فأما الكفار فضربان ضرب يرجى خيره وضرب يخاف شره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم وهل يعطون بعده فيه قولان أحدهما يعطون لان المعنى الذي أعطاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يوجد بعده
والثانى لا يعطون لان الخلفاء رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطوهم قال عمر رضي الله عنه إنا لا نعطي على الإسلام شيئا فمن شاء فليؤمن
ومن شاء فليكفر فإذا قلنا إنهم يعطون فإنهم لا يعطون من الزكاة لان الزكاة لا حق فيها لكافر وإنما يعطون من سهم المصالح
وأما المسلمون فهم أربعة أضرب أحدها قوم لهم شرف فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم
والثانى قوم أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة فيعطون لتقوى نيتهم لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل أحد منهم مائة من الإبل
وهل يعطى هذان الفريقان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيه قولان أحدهما لا يعطون لان الله تعالى أعز الإسلام فأغنى عن التالف بالمال
والثاني يعطون لان المعنى الذي به اعطوا قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أين يعطون فيه قولان أحدهما من الصدقات للآية
والثاني من خمس الخمس لان ذلك مصلحة فكان من سهم المصالح
والضرب الثالث قوم يليهم قوم من الكفار إن أعطوا قاتلوهم
والضرب الرابع قوم يليهم قوم من أهل الصدقات إن أعطوا جبوا الصدقات وفي هذين الضربين أربعة أقوال أحدهما يعطون من سهم المصالح لان ذلك مصلحة
والثاني من سهم المؤلفة من الصدقات للآية
والثالث من سهم الغزاة لانهم يغزون
والرابع وهو الصحيح أنهم يعطون من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة لانهم جمعوا معنى الفريقين
فصل في سهم الرقاب وسهم للرقاب وهم المكاتبون فإذا لم يكن مع المكاتب ما يؤدي في الكتابة وقد حل عليه نجم أعطي ما يؤديه وإن كان معه ما يؤديه لم يعط لانه غير محتاج إليه فإن لم يكن معه شيء ولا حل عليه نجم ففيه وجهان أحدهما لا يعطى لانه لا حاجة به إليه قبل حلول النجم
والثاني يعطى لانه يحل عليه النجم والأصل أنه ليس معه ما يؤدي فإن دفع إليه ثم أعتقه المولى أو أبرأه من المال أو عجز نفسه قبل أن يؤدي المال إلى المولى رجع عليه لانه دفع إليه ليصرفه في دينه ولم يفعل فإن سلمه إلى المولى وبقيت عليه بقية فعجزه المولى ففيه وجهان أحدهما لا يسترجع من المولى لانه صرفه فيما عليه
والثاني يسترجع لانه إنما دفع إليه ليتوصل به إلى العتق ولم يحصل ذلك وإن ادعى أنه مكاتب لم يقبل إلا ببينة فإن صدقه المولى ففيه وجهان أحدهما يقبل لان ذلك إقرار على نفسه
والثاني لا يقبل لانه منهم لأنه ربما واطأه حتى يأخذ الزكاة
فصل في سهم الغارمين وسهم للغارمين وهم ضربان
ضرب غرم لاصلاح ذات البين وضرب غرم لمصلحة نفسه فأما الأول فضربان أحدهما من تحمل دية مقتول فيعطى مع الفقر والغنى لقوله صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة الغازي في سبيل الله أو العامل عليها أو الغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إليه
والثاني من حمل مالا في غير قتل لتسكين فتنة ففيه وجهان أحدهما يعطى مع الغنى لانه غرم لإصلاح ذات البين فأشبه إذا غرم دية مقتول
والثاني لا يعطى مع الغنى لانه مال حمله في غير قتل فأشبه إذا ضمن ثمنا في بيع
وأما من غرم لمصلحة نفسه فإن كان قد أنفق في غير معصية دفع إليه مع الفقر
وهل يعطى مع الغنى فيه قولان قال في الأم لا يعطى لانه يأخذ لحاجته إلينا فلم يعط مع الغنى كغير الغارم
وقال في القديم والصدقات من الأم يعطى لانه غارم في غير معصية فأشبه إذا غرم لإصلاح ذات البين فإن غرم في معصية لم يعط مع الغنى
وهل يعطى مع الفقر ينظر فيه فإن كان مقيما على المعصية لم يعط لأنه يستعين به على المعصية وإن تاب ففيه وجهان أحدهما يعطى لان المعصية قد زالت
والثانى لا يعطى لانه لا يؤمن أن يرجع إلى المعصية
ولا يعطى الغارم إلا ما يقضي به الدين فإن أخذ ولم يقض به الدين أو أبرىء منه أو قضي عنه قبل تسليم المال سترجع منه وإن دعى أنه غارم لم يقبل إلا ببينة
____________________
(1/172)
فإن صدقه غريمه فعلى الوجهين كما ذكرنا في المكاتب إذا ادعى الكتابة وصدقه المولى
فصل سهم سبيل الله وسهم في سبيل الله وهم الغزاة الذين إذا نشطوا غزوا فأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة لانهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء ويعطى الغازي مع الفقر والغنى للخبر الذي ذكرناه في الغارم ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس إن كان فارسا وما يعطي السائس وحمولة تحمله إن كان راجلا والمسافة مما يقصر فيها الصلاة فإن أخذ ولم يغز سترجع منه
فصل في سهم ابن السبيل وسهم لابن السبيل وهو المسافر أو من ينشىء السفر وهو محتاج في سفره فإن كان سفره في طاعة اعطي ما يبلغ به مقصده وإن كان في معصية لم يعط لان ذلك إعانة على معصية وإن كان سفره في مباح ففيه وجهان أحدهما لا يعطى لانه غير محتاج إلى هذا السفر
والثانى يعطى لان ما جعل رفقا بالمسافر في طاعة الله جعل رفقا بالمسافر في مباح كالفطر والقصر
فصل التسوية بين الأصناف ويجب أن يسوى بين الأصناف في السهام ولا يفضل صنفا على صنف لان الله تعالى سوى بينهم والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن وأقل ما يجزىء أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف لان الله تعالى أضاف إليهم بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة فإن دفع لاثنين ضمن نصيب الثالث وفي قدر الضمان قولان أحدهما القدر المستحب وهو الثلث والثاني أقل جزء من السهم لان هذا القدر هو الواجب فلا يلزمه ضمان ما زاد وإن جتمع في شخص واحد سببان ففيه ثلاث طرق
من أصحابنا من قال لا يعطى بالسببين بل يقال له ختر أيهما شئت فنعطيك به
ومنهم من قال إن كانا سببين متجانسين مثل أن يستحق بكل واحد منهما لحاجته إلينا كالفقير الغارم لمصلحة نفسه أو يستحق بكل واحد منهما لحاجتنا إليه كالغازى الغارم لإصلاح ذات البين لم يعط إلا بسبب واحد
وإن كانا سببين مختلفين مثل أن يكون بأحدهما يستحق لحاجتنا إليه وبالآخر يستحق لحاجته إلينا أعطي بالسببين كما قلنا في الميراث إذا جتمع في شخص واحد جهتا فرض لم يعط بهما وإن جتمع فيه جهة فرض وجهة تعصيب أعطي بهما
ومنهم من قال فيه قولان أحدهما يعطى بالسببين لان الله تعالى جعل للفقير سهما وللغارم سهما وهذا فقير غارم
والثاني يعطى بسبب واحد لانه شخص واحد فلا يأخذ سهمين كما لو نفرد بمعنى واحد
فصل في سهم العامل وإن كان الذي يفرق الزكاة رب المال سقط سهم العامل لانه لا عمل له فيقسم الصدقة على سبعة أصناف لكل صنف سهم على ما بيناه وإن كان في الأصناف أقارب له لا تلزمه نفقتهم فالمستحب أن يخص الأقارب لما روت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصدقة على المسلم صدقة وهي على ذي القرابة صدقة وصلة
فصل في نقل الزكاة ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإن نقل إلى الأصناف في بلد آخر ففيه قولان أحدهما يجزئه لانهم من أهل الصدقة فأشبه أصناف البلد الذي فيه المال
والثانى لا يجزئه لانه حق واجب لاصناف بلد فإذا نقل عنهم إلى غيرهم لم يجزه كالوصية بالمال لاصناف بلد
ومن أصحابنا من قال القولان في جواز النقل ففي أحدهما يجوز وفي الثاني لا يجوز فأما إذا نقل فإنه يجزئه قولا واحدا والأول هو الصحيح
فإن كان له أربعون شاة عشرون في بلد وعشرون في بلد آخر قال الشافعي إذا أخرج الشاة في أحد البلدين كرهت وأجزأه فمن أصحابنا من قال إنما أجاز ذلك على القول الذي يقول يجوز نقل الصدقة فأما على القول الآخر فلا يجوز حتى يخرج في كل بلد نصف شاة
ومنهم من قال يجزئه ذلك قولا واحدا لان في إخراج نصف شاة في كل بلد ضررا في التشريك بينه وبين الفقراء
والصحيح هو الأول لانه قال كرهت وأجزأه فدل على أنه على أحد القولين ولو كان قولا واحدا لم يقل كرهت وفي الموضع الذي تنقل إليه طريقان
من أصحابنا من قال القولان فيه إذا نقل إلى مسافة تقصر فيها الصلاة فأما إذا نقل إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة فإنه يجوز قولا واحدا لان ذلك في حكم البلد بدليل أنه لا يجوز فيه
____________________
(1/173)
القصر والفطر والمسح على الخفين
ومنهم من قال القولان في الجميع وهو الأظهر
وإن وجبت عليه الزكاة وهو من أهل الخيم الذين ينتجعون لطلب الماء والكلأ فإنه ينظر فيه فإن كانوا متفرقين كان موضع الصدقة من عند المال إلى حيث تقصر فيه الصلاة فإذا بلغ حدا تقصر فيه الصلاة لم يكن ذلك موضع الصدقة وإن كان في حلل مجتمعة ففيه وجهان أحدهما أنه كالقسم قبله
والثاني أن كل حلة كالبلد
وإن وجبت الزكاة وليس في البلد الذي فيه المال أحد من الأصناف نقلها إلى أقرب البلاد إليه لانهم أقرب إلى المال
وإن وجد فيه بعض الأصناف ففيه ( طريقان ) أحدهما يغلب حكم المكان فيدفع إلى من في بلد المال من الأصناف
والثاني يغلب حكم الأصناف فيدفع إلى من في بلد المال من الأصناف سهمهم وينقل الباقي إلى بقية الأصناف في غير بلد المال وهو الصحيح لان ستحقاق الأصناف أقوى لانه ثبت بنص الكتاب وعتبار البلد ثبت بخبر الواحد فقدم من ثبت حقه بنص الكتاب
فصل هل يرد من صنف لآخر فإن قسم الصدقة على الأصناف فنقص نصيب بعضهم عن كفايتهم ونصيب الباقين على قدر كفايتهم دفع إلى كل واحد منهم ما قسم له ولا يدفع إلى من نقص سهمه عن كفايته من نصيب الباقين شيء لان كل صنف منهم ملك سهمه فلا ينقص حقه لحاجة غيره
وإن كان نصيب بعضهم ينقص عن كفايته ونصيب البعض يفضل عن كفايته فإن قلنا إن المغلب عتبار البلد الذي فيه المال صرف ما فضل إلى بقية الأصناف في البلد
وإن قلنا إن المغلب عتبار الأصناف صرف الفاضل إلى ذلك الصنف الذي فضل عنهم بأقرب البلاد
فصل في صرف زكاة الفطر وإن وجبت عليه الفطرة وهو في بلد وماله فيه وجب إخراجها إلى الأصناف في البلد لان مصرفها مصرف سائر الزكوات وإن كان ماله في بلد وهو في بلد آخر ففيه وجهان أحدهما أن الاعتبار بالبلد الذى فيه المال
والثاني أن الاعتبار بالبلد الذي هو فيه لان الزكاة تتعلق بعينه فاعتبر الموضع الذي هو فيه كالمال فى سائر الزكوات
فصل توريث حق الزكاة وإذا وجبت الزكاة لقوم معينين في بلد فلم يدفع إليهم حتى مات بعضهم نتقل حقه إلى ورثته لانه تعين حقه في حال الحياة فنتقل بالموت إلى ورثته
فصل لا زكاة لهاشمي أو لمطلبي ولا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي لقوله صلى الله عليه وسلم نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة ولا يجوز دفعها إلى مطلبي لقوله صلى الله عليه وسلم إن بني هاشم وبني المطلب شىء واحد وشبك بين أصابعه ولانه حكم متعلق بذوي القربى فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس
وقال أبو سعيد الإصطخري إن منعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم لانهم إنما حرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس فإذا منعوا من الخمس وجب أن يدفع إليهم
والمذهب الأول لان الزكاة حرمت عليهم لشرفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس
وفي مواليهم وجهان أحدهما يدفع إليهم
والثاني لا يدفع وقد بينا وجه المذهبين في سهم العامل
____________________
(1/174)
فصل لا زكاة لكافر ولا يجوز دفعها إلى كافر لقوله عليه السلام أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم
فصل في الغني ولا يجوز دفعها إلى غني من سهم الفقراء لقوله صلى الله عليه وسلم لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب
فصل في المكتسب ولا يجوز دفعها إلى من يقدر على كفايته بالكسب للخبر ولان غناه بالكسب كغناه بالمال
فصل فيمن تلزمه نفقته ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء لان ذلك إنما جعل للحاجة ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة
فصل من أخذ الزكاة فبان أنه غني فإن دفع الإمام الزكاة إلى من ظاهره الفقر ثم بان أنه غني لم يجزه ذلك عن الفرض فإن كان باقيا سترجع منه ودفع إلى فقير وإن كان فائتا أخذ البدل وصرف إلى فقير فإن لم يكن للمدفوع إليه مال لم يجب على رب المال ضمانه لانه قد سقط الفرض عنه بالدفع إلى الإمام ولا يجب على الإمام لانه أمين غير مفرط ( فلا يضمنه ) فهو كالمال الذي يتلف في يد الوكيل
وإن كان الذي دفع إليه رب المال فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة لم يكن له أن يرجع لانه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع فإذا ادعى الزكاة كان متهما فلم يقبل قوله ويخالف الإمام فإن الظاهر من حاله أنه لا يدفع إلا الزكاة فثبت له الرجوع
( فصل ) وإن كان قد بين أنها زكاة رجع فيها إن كانت باقية وفي بدلها إن كانت فائتة فإن لم يكن للمدفوع إليه مال فهل يضمن رب المال الزكاة فيه قولان أحدهما لا يضمن لانه دفع إليه بالاجتهاد ( فهو ) كالإمام
والثاني يضمن لانه كان يمكنه أن يسقط الفرض بيقين بأن يدفعها إلى الإمام فإذا فرق بنفسه فقد فرط فلزمه الضمان بخلاف الإمام
وإن دفع الزكاة إلى رجل ظنه مسلما وكان كافرا أو إلى رجل ظنه حرا فكان عبدا فالمذهب أن حكمه حكم ما لو دفع إلى رجل ظنه فقيرا فكان غنيا
ومن أصحابنا من قال يجب الضمان ههنا قولا واحدا لان حال الكافر والعبد لا يخفى فكان مفرطا في الدفع إليهما وحال الغني قد يخفى فلم يكن مفرطا
فصل في قضاء الزكاة عن الميت ومن وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها فلم يفعل حتى مات وجب قضاء ذلك من تركته لانه حق مال لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي
فإن جتمع مع الزكاة دين آدمي ولم يتسع المال للجميع ففيه ثلاثة أقوال أحدها يقدم دين الآدمي لان مبناه على التشديد والتأكيد وحق الله تعالى مبني على التخفيف ولهذا لو وجب عليه قتل قصاص وقتل ردة قدم قتل القصاص
والثاني تقدم الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحج فدين الله عز وجل أحق أن يقضى
والثالث أنه يقسم بينهما لانهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء
وبالله التوفيق
باب صدقة التطوع لا يجوز أن يتصدق بصدقة تطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندي دينار قال أنفقه على نفسك
قال عندي آخر
قال أنفقه على ولدك قال عندي آخر
قال أنفقه على أهلك قال عندي آخر
قال أنفقه على خادمك
قال عندي آخر
قال أنت أعلم به وقال صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه لانه حق واجب فلم يجز تركه لصدقة التطوع كنفقة عياله فإن فضل عما يلزمه استحب له أن يتصدق لقوله صلى الله عليه وسلم وليتصدق الرجل من ديناره وليتصدق من درهمه وليتصدق من صاع بره وليتصدق من صاع تمره وروى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطعم مؤمنا جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة وإن سقى مؤمنا على ظمإ سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة ومن كسى مؤمنا عاريا كساه الله تعالى من خضر الجنة
____________________
(1/175)
ويستحب الإكثار منه في شهر رمضان لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان
فإن كان ممن يصبر على الإضاقة استحب له التصدق بجميع ماله لما روى عمر رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لاهلك فقلت أبقيت لهم مثله
وأتى أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لاهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شىء أبدا وإن كان ممن لا يصبر على الإضاقة كره له ذلك لما روى جابر قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها من بعض المغازي فأتاه من ركنه الأيسر فقال يا رسول الله خذها صدقة فوالله ما أصبحت أملك مالا غيرها فأعرض عنه ثم جاءه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم ( جاءه ) من بين يديه فقال له مثل ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتها مغضبا فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه أو عقره ثم قال يأتي أحدكم بماله كله فيتصدق به ثم يجلس بعد ذلك يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى
فصل في تخصيص الأقارب بالزكاة والأفضل أن يخص بالصدقة الأقارب لقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهما
وفعلها في السر أفضل لقوله عز وجل { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ولما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلة الرحم تزيد في العمر وصدقه السر تطفيء غضب الرب وصنائع المعروف تقي مصارع السوء
( فصل ) وتحل صدقة التطوع للأغنياء ولبني هاشم وبني المطلب لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنهما أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له أتشرب من الصدقة فقال إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة
كتاب الصيام صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان
فصل شروط وجوب الصوم ويتحتم وجوب ذلك على كل مسلم بالغ عاقل طاهر قادر مقيم فأما الكافر فإنه إن كان أصليا لم يخاطب به في حال كفره لانه لا يصح منه وإن أسلم لم يجب عليه القضاء لقوله تعالى ? < قل للذين وسلم قال بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف > ?
____________________
(1/176)
ولان في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيرا عن الإسلام وإن كان مرتدا لم يخاطب به في حال الردة لانه لا يصح منه وإن أسلم وجب عليه قضاء ما تركه في حال الكفر لانه التزم ذلك بالإسلام فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين
فصل لا يجب صوم على صبي وأما الصبي فلا تجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ويؤمر بفعله لسبع سنين إذا أطاق الصوم ويضرب على تركه لعشر قياسا على الصلاة فإن بلغ لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر لانه لو وجب عليه ذلك لوجب عليه أداؤه في الصغر لانه يقدر على فعله ولان أيام الصغر تطول فلو أوجبنا عليه قضاء ما يفوت لشق
فصل فيمن زال عقله بجنون ومن زال عقله بجنون لم يجب عليه الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم وعن المجنون حتى يفيق فإن أفاق لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون لانه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف لنقص فلم يجب قضاؤه كما لو فات في حال الصغر
وإن زال عقله بالإغماء لم يجب عليه في الحال لانه لا يصح منه فإن أفاق وجب عليه القضاء لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } والإغماء مرض
ويخالف الجنون فإنه نقص ولهذا لا يجوز الجنون على الأنبياء ويجوز عليهم الإغماء فإن أسلم الكافر أو أفاق المجنون في أثناء يوم من رمضان استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يلزمهم ذلك لان المجنون أفطر لعذر والكافر وإن أفطر بغير عذر إلا أنه لما أسلم جعل كالمعذور فيما فعل في حال الكفر ولهذا لا يؤاخذ بقضاء ما تركه ولا بضمان ما أتلفه ولهذا قال الله عز وجل { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولا يأكل عند من لا يعرف عذره لانه إذا تظاهر بالأكل عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان
وهل يجب عليه قضاء ذلك اليوم أم لا فيه وجهان أحدهما يجب لانه أدرك جزءا من وقت الفرض ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بيوم فوجب أن يقضيه بيوم كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد فإنه يجب بقسطه صوم نصف يوم ولكن لما لم يمكن فعل ذلك إلا بيوم وجب عليه صوم يوم
والثاني لا يجب وهو المنصوص في البويطي لانه لم يدرك من الوقت ما يمكن الصوم فيه لان الليل يدركه قبل التمام فلم يلزمه كمن أدرك من أول وقت الصلاة قدر ركعة ثم جن
فإن بلغ الصبي في أثناء يوم من رمضان نظرت فإن كان مفطرا فهو كالكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق في جميع ما ذكرناه
وإن كان صائما ففيه وجهان أحدهما يستحب له إتمامه لانه صوم نفل فاستحب إتمامه ويجب قضاؤه لانه لم ينو به الفرض من أوله فوجب قضاؤه
والثانى أنه يلزمه ويستحب قضاؤه لانه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة فلزمه إتمامها كما لو دخل في صوم التطوع ثم نذر إتمامه
فصل في صوم الحائض والنفساء وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم لانه لا يصح منهما فإذا طهرتا وجب عليهما القضاء لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت في الحيض كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة فوجب القضاء على الحائض بالخبر وقسنا النفساء عليها لانها في معناها
فإن طهرت في أثناء النهار ستحب لها أن تمسك بقية النهار ولا يجب
فصل من عجز عن الصوم ومن لا يقدر على الصوم بحال وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يرجى برؤه فإنه لا يجب عليهما الصوم لقوله عز وجل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } لما
____________________
(1/177)
ذكرناه في الصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق
وفي الفدية قولان أحدهما لا تجب لانه اسقط عنهما فرض الصوم فلم تجب عليهما الفدية كالصبي والمجنون
والثاني يجب عن كل يوم مد من طعام وهو الصحيح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكينا وعن أبي هريرة أنه قال من أدركه الكبر فلم يستطع صوم رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح
وقال ابن عمر رضي الله عنهما إذا ضعفت عن الصوم أطعم عن كل يوم مدا
وروي أن أنسا ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم
وإن لم يقدر على الصوم لمرض يخاف زيادته ويرجو البرء لم يجب عليه الصوم للآية فإذا برىء وجب عليه القضاء لقوله عز وجل { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }
وإن أصبح صائما وهو صحيح ثم مرض أفطر لانه أبيح له الفطر للضرورة والضرورة موجودة فجاز له الفطر
فصل في صيام المسافر فأما المسافر فإنه إن كان سفره دون أربعة برد لم يجز له أن يفطر لانه إسقاط فرض للسفر فلا يجوز فيما دون أربعة برد كالقصر وإن كان سفره في معصية لم يجز له أن يفطر لان ذلك إعانة على المعصية وإن كان سفره أربعة برد في غير معصية فله أن يصوم وله أن يفطر لما روت عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله أصوم في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت فصم وإن شئت فأفطر فإن كان ممن لا يجهده الصوم في السفر فالأفضل أن يصوم لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال للصائم في السفر إن أفطرت فرخصة وإن صمت فهو أفضل
وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال الصوم أحب إلي
ولانه إذا أفطر عرض الصوم للنسيان وحوادث الزمان فكان الصوم أفضل
وإن كان يجهده الصوم فالأفضل أن يفطر لما روى جابر رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل تحت شجرة يرش عليه الماء فقال ما بال هذا قالوا صائم يا رسول الله فقال ليس من البر الصيام في السفر فإن صام المسافر ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر لان العذر قائم فجاز له أن يفطر كما لو صام المريض ثم أراد أن يفطر
ويحتمل عندي أنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم لانه دخل في فرض المقيم فلا يجوز له أن يترخص برخصة المسافر كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام ثم أراد أن يقصر
ومن أصبح في الحضر صائما ثم سافر لم يجز له أن يفطر في ذلك اليوم وقال المزني له أن يفطر كما لو أصبح الصبح صائما ثم مرض فله أن يفطر
والمذهب الأول والدليل عليه أنه عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا بدأ بها في الحضر ثم سافر لم يثبت له رخصة السفر كما لو دخل في الصلاة في الحضر ثم سافر في أثنائها
ويخالف المريض فإن ذلك مضطر إلى الإفطار والمسافر مختار
وإن قدم المسافر وهو مفطر أو برىء المريض وهو مفطر ستحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ولا يجب ذلك لانهما أفطرا لعذر ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة والعقوبة
وإن قدم المسافر وهو صائم أو برىء المريض وهو صائم فهل لهما أن يفطرا فيه وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة يجوز لهما الإفطار لانه أبيح لهما الفطر من أول النهار ظاهرا وباطنا فجاز لهما الإفطار في بقية النهار كما لو دام السفر والمرض وقال أبو إسحاق لا يجوز لهما الإفطار لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص فلم يجز الترخص كما لو قدم المسافر وهو في الصلاة فإنه لا يجوز له القصر
فصل في صوم الحامل والمرضع وإن خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما من الصوم أفطرتا وعليهما القضاء دون الكفارة لانهما أفطرتا للخوف على أنفسهما فوجب عليهما القضاء دون الكفارة كالمريض
وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء بدلا عن الصوم
وفي الكفارة ثلاثة أقوال قال في الأم يجب عن كل يوم مد من طعام وهو الصحيح لقوله عز وجل { وعلى الذين يطيقونه فدية } قال ابن عباس
____________________
(1/178)
رضي الله عنه نسخت هذه الآية وبقيت الرخصة للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكينا
الثانى أن الكفارة مستحبة غير واجبة وهو قول المزني لانه إفطار لعذر فلم تجب به الكفارة كإفطار المريض
والثالث أنه يجب على المرضع دون الحامل لان الحامل أفطرت لمعنى فيها كالمريض والمرضع أفطرت لمنفصل عنها فوجبت عليها الكفارة
فصل في اشتراط الرؤية للصوم ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال فإن غم عليهم وجب عليهم ستكمال شعبان ثلاثين يوما ثم يصومون لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر ستقبالا فإن أصبحوا في يوم الثلاثين وهم يظنون أنه من شعبان فقامت البينة أنه من رمضان لزمهم قضاؤه لانه بان أنه من رمضان
وهل يلزمهم إمساك بقية النهار فيه قولان أحدهما لا يلزمهم لانهم أفطروا لعذر فلم يلزمهم إمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت والمسافر إذا قدم
والثانى يلزمهم لانه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان وقد بان أنه من رمضان فلزمهم الإمساك
فإن رأوا الهلال بالنهار فهو لليلة المستقبلة لما روى سفيان بن سلمة قال أتانا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بخانقين إن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس وإن رأوا الهلال في بلد ولم يروه في بلد آخر فإن كانا بلدين متقاربين وجب على أهل البلدين الصوم وإن كانا بلدين متباعدين وجب على من رأى ولا يجب على من ير لما روى كريب قال قدمت الشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس متى رأيتم الهلال فقلت ليلة الجمعة
فقال أنت رأيت فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى تكمل العدة أو نراه قلت أولا تكتفي برؤية معاوية قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل في الشهادة على الرؤية وفي الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان قال في البويطي لا تقبل إلا من عدلين لما روى الحسين بن حريث الجدلي جديلة قيس قال خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب فقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته فإن لم نره فهذا شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما
وقال في القديم و الجديد يقبل من عدل واحد وهو الصحيح لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام
ولانه إيجاب عبادة فقبل من واحد حتياطا للفرض فإن قلنا يقبل من واحد فهل يقبل من العبد والمرأة فيه وجهان أحدهما يقبل لان ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثانى لا يقبل وهو الصحيح لان طريقها طريق الشهادة بدليل أنه لا تقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات
ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان لأنه إسقاط فرض فاعتبر فيه العدد احتياطا للفرض
فإن شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوما وتغيمت السماء ففيه وجهان أحدهما أنهم لا يفطرون لانه إفطار بشاهد واحد
والثاني أنهم
____________________
(1/179)
يفطرون وهو المنصوص في الأم لانه بينه ثبت بها الصوم فجاز الإفطار باستكمال العدد منها كالشاهدين وقوله إن هذا إفطار بشاهد لا يصح لان الذي ثبت بالشاهد هو الصوم والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك يجوز كما نقول إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم لو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت النسب على سبيل التبع للولادة وإن شهد ثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوما والسماء مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان قال أبو بكر بن الحداد لا يفطرون لان عدم الهلال مع الصحو يقين والحكم بالشاهدين ظن واليقين يقدم على الظن
وقال أكثر أصحابنا يفطرون لان شهادة ثنين يثبت بها الصوم والفطر فوجب أن يثبت بها الفطر وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان قال أبو العباس يلزمه الصوم لانه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة
والثانى أنه لا يصوم لانا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن رأى هلال رمضان وحده صام وإن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده لقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ويفطر لرؤية هلال شوال سرا لانه إذا أظهر الفطر عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان
فصل في صوم الأسير وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه فإن وافق شهرا بالهلال ناقصا وشهر رمضان الذي صامه الناس كان تاما ففيه وجهان أحدهما يجزئه وهو ختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله لان الشهر يقع على ما بين الهلالين ولها لو نذر صوم شهر فصام شهرا ناقصا بالأهلة أجزأه
والثاني أنه يجب عليه صوم يوم وهو ختيار شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله وهو الصحيح عندي لانه فاته صوم ثلاثين يوما وقد صام تسعة وعشرين يوما فلزمه صوم يوم
وإن وافق صومه شهرا قبل رمضان قال الشافعي رحمه الله لا يجزئه ولو قال قائل يجزئه كان مذهبا
قال أبو إسحاق المروزي لا يجزئه قولا واحدا
وقال سائر أصحابنا فيه قولان أحدهما يجزئه لانه عبادة تفعل في السنة مرة فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطإ كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة
الثاني لا يجزئه وهو الصحيح لانه تعين له تيقن الخطإ فيما يؤمن مثله في القضاء فلم يعتد بما فعله كما لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت
فصل وجوب النية للصوم ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل مرىء ما نوى ولانه عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصلاة وتجب النية لكل يوم لان صوم كل يوم عبادة منفردة يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج وقتها بغروب الشمس ولا يفسد بفساد ما قبله ولا بفساد ما بعده فلم تكفه نية واحدة كالصلاة
ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنية من الليل لما روت حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له وهل تجوز نيته مع طلوع الفجر فيه وجهان من أصحابنا من قال يجوز لانه عبادة فجاز بنية تقارن بتداءها كسائر العبادات
وقال أكثر أصحابنا لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة رضي الله عنها ولان أول وقت الصوم يخفى فوجب تقديم النية عليه بخلاف سائر العبادات فإذا قلنا بهذا فهل تجوز النية في جميع الليل فيه وجهان من أصحابنا من قال لا يجوز إلا في النصف الثاني قياسا على أذان الصبح والدفع من المزدلفة
قال أكثر أصحابنا تجوز في جميع الليل لحديث حفصة
____________________
(1/180)
ولانا لو أوجبنا النية في النصف الثاني ضاق ذلك على الناس وشق
فإن نوى بالليل ثم أكل أو جامع لم تبطل نيته وحكي عن أبي إسحاق أنه قال تبطل لان الأكل ينافي الصوم فأبطل النية
والمذهب الأول
وقيل إن أبا إسحاق رجع عن ذلك والدليل عليه أن الله تعالى أحل الأكل إلى طلوع الفجر فلو كان الأكل يبطل النية لما جاز أن يأكل إلى الفجر لانه يبطل النية
فصل النية في صيام التطوع وأما صوم التطوع فإنه يجوز بنية قبل الزوال وقال المزني لا يجوز إلا بنية من الليل كالفرض والدليل على جوازه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أصبح عندكم اليوم شيء تطعموناه يا عائشة فقالت لا فقال إنى إذا صائم
ويخالف الفرض لان النفل أخف من الفرض والدليل عليه أنه يجوز ترك القيام وستبال القبلة في النفل مع القدرة ولا يجوز في الفرض
وهل تجوز نيته بعد الزوال فيه قولان روى حرملة أنه يجوز لانه جزء من النهار فجازت نية النفل فيه كالنصف الأول
وقال في القديم و الجديد لا تجوز لان النية لم تصحب معظم العبادة فأشبه إذا نوى مع غروب الشمس ويخالف النصف الأول لان النية هناك صحبت معظم العبادة ومعظم الشيء يجوز أن يقوم مقام الجميع ولهذا لو أدرك معظم الركعة مع الإمام جعل مدركا للركعة ولو أدرك دون المعظم لم يجعل مدركا لها
فإن صام التطوع بنية من النهار فهل يكون صائما من أول النهار أو من وقت النية فيه وجهان قال أبو إسحاق يكون صائما من وقت النية لان ما قبل النية لم توجد فيه قصد القربة فلم يجعل صائما فيه
وقال أكثر أصحابنا إنه صائم من أول النهار لانه لو كان صائما من وقت النية لم يضره الأكل قبله
فصل في تعيين النية ولا يصح صوم رمضان إلا بتعيين النية وهو أن ينوي أنه صائم من رمضان لانه فريضة وهو قربة مضافة إلى وقتها فوجب تعيين الوقت في نيتها كصلاة الظهر والعصر
وهل يفتقر إلى نية الفرض فيه وجهان قال أبو إسحاق يلزمه أن ينوي صوم فرض رمضان لان صوم رمضان قد يكون نفلا في حق الصبي فيفتقر إلى نية الفرض لتميزه من صوم الصبي
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يفتقر إلى ذلك لان رمضان في حق البالغ لا يكون إلا فرضا فلا يفتقر إلى تعيين الفرض فإن نوى في ليلة الثلاثين من شعبان
فقال إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو عن تطوع وكان من رمضان لم يصح لعلتين إحداهما أنه لم يخلص النية لرمضان
والثاني أن الأصل أنه من شعبان فلم تصح نية رمضان ولانه شاك في دخول وقت العبادة فلم تصح نيته كما لو شك في دخول وقت الصلاة وإن قال إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان وإن لم يكن من رمضان فأنا صائم عن تطوع لم يصح لعلة واحدة وهو أن الأصل أنه من شعبان فلا يصح بنية الفرض
فإن قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان أو مفطر وكان من رمضان لم يصح صومه لانه لم يخلص النية للصوم
فإن قال إن كان غد من رمضان فأنا صائم عن رمضان وإن لم يكن فأنا مفطر وكان من رمضان صح صومه لانه أخلص النية للفرض وبنى على الأصل لان الأصل أنه من رمضان
ومن دخل في الصوم ونوى الخروج منه بطل صومه لان النية شرط في جميعه فإذا قطعها في أثنائه بقي الباقي بغير نية فبطل وإذا بطل البعض بطل الجميع لانه لا ينفرد بعضه عن بعض
ومن أصحابنا من قال لا تبطل لانه عبادة تتعلق الكفارة بجنسها فلم تبطل بنية الخروج كالحج
والأول أظهر لان الحج لا يخرج منه بما يفسده والصوم يخرج منه بما يفسده فكان كالصلاة
فصل في الدخول في الصوم والخروج منه ويدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج منه بغروب الشمس لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس من ههنا فقد أفطر الصائم ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر لقوله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } فإن جامع قبل طلوع الفجر وأصبح وهو جنب جاز صومه لانه لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائما وهو جنب وروت عائشة رضي الله عنها
____________________
(1/181)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير حتلام ثم يصوم
فإن طلع الفجر وفي فيه طعام فأكله أو كان مجامعا فستدام بطل صومه وإن لفظ الطعام أو أخرج مع طلوع الفجر صح صومه
وقال المزني إذا أخرج مع طلوع الفجر لم يصح صومه لان الجماع إيلاج وإخراج وإذا بطل بالإيلاج بطل بالإخراج
والدليل على أنه يصح صومه هو أن الإخراج ترك الجماع وما علق على فعل شيء لا يتعلق بتركه كما لو حلف ألا يلبس هذا الثوب وهو عليه فبدأ بنزعه لم يحنث وإن أكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه لان الأصل بقاء الليل وإن أكل وهو يشك في غروب الشمس لم يصح صومه لان الأصل بقاء النهار
فصل فيما يحرم على الصائم ويحرم على الصائم الأكل والشرب لقوله عز وجل { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } وإن أكل أو شرب وهو ذاكر للصوم عالم بالتحريم مختار بطل صومه لانه فعل ما ينافي الصوم من غير عذر فبطل
فإن ستعط أو صب الماء في أذنه فوصل إلى دماغه بطل صومه لما روى لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ستنشقت فأبلغ في الوضوء إلا أن تكون صائما فدل على أنه إذا وصل إلى الدماغ شيء بطل صومه ولان الدماغ أحد الجوفين فبطل الصوم بالواصل إليه كالبطن
وإن حتقن بطل صومه لانه إذا بطل بما يصل إلى الدماغ بالسعوط فلان يبطل بما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى
وإن كانت به جائفة أو آمة فداواها فوصل الدواء إلى الجوف أو الدماغ أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه فوصلت الطعنة إلى جوفه بطل صومه لما ذكرناه في السعوط أو الحقنة
وإن زرق في إحليله شيئا أو أدخل فيه ميلا ففيه وجهان
أحدهما يبطل صومه لانه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتعلق بالواصل إليه كالفم
والثاني أنه لا يبطل لان ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئا
فصل في بيان المأكول ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل أو ما لا يؤكل
فإن ستف ترابا أو بتلع حصاة أو درهما أو دينارا بطل صومه لان الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك ولهذا يقال فلان يأكل الطين ويأكل الحجر ولانه إذا بطل الصوم بما يصل إلى الجوف مما ليس يؤكل كالسعوط والحقنة وجب أيضا أن يبطل بما يصل مما ليس بمأكول
وإن قلع ما بقي بين أسنانه بلسانه وبتلعه بطل صومه
وإن جمع في فيه ريقا كثيرا فبتلعه ففيه وجهان أحدهما أنه يبطل صومه لانه بتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه إذا قلع ما بين أسنانه وبتلعه
والثاني لا يبطل لانه وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته
فإن أخرج البلغم من صدره ثم بتلعه أو جذبه من رأسه ثم بتلعه بطل صومه
وإن ستقاء بطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ستقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه ولان القيء إذا صعد ثم تردد فرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام بتلعه
فصل حرمة المباشرة للصائم ويحرم عليه المباشرة في الفرج لقوله عز وجل فالآن باشروهن إلى قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فإن باشرها في الفرج بطل صومه لانه أحد ما ينافي الصوم فهو كالأكل
وإن باشرها فيما دون الفرج فأنزل أو قبل فأنزل بطل صومه وإن لم ينزل لم يبطل صومه لما روى جابر قال قبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت قبلت وأنا صائم فقال أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم فشبه القبلة بالمضمضة وقد ثبت أنه إذا تمضمض فوصل الماء إلى جوفه أفطر وإن لم يصل لم يفطر فدل على أن القبلة مثلها
____________________
(1/182)
وإن جامع قبل طلوع الفجر فأخرج مع الطلوع وأنزل لم يبطل صومه لان الإنزال تولد من مباشرة هو مضطر إليها فلم يبطل الصوم وإن نظر وتلذذ فأنزل لم يبطل صومه لانه إنزال من غير مباشرة فلم يبطل الصوم كما لو نام فحتلم وإن ستمنى فأنزل بطل صومه لانه إنزال عن مباشرة فهو كالإنزال عن القبلة ولان الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية في الإثم والتعزير فكذلك في الإفطار
فصل من أتى بمفطر ناسيا وإن فعل ذلك كله ناسيا لم يبطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أكل ناسيا أو شرب ناسيا فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى فنص على الأكل والشرب وقسنا عليهما كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره فإن فعل ذلك وهو جاهل بتحريمه لم يبطل صومه لانه يجهل تحريمه فهو كالناسي وإن فعل ذلك به بغير ختياره بأن أوجر الطعام في حلقه مكرها لم يبطل صومه
وإن شد امرأته ووطئها وهي مكرهة لم يبطل صومها وإن ستدخلت المرأة ذكر رجل وهو نائم لم يبطل صومه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه فدل على أن كل ما حصل بغير اختياره لم يجب به القضاء ولان النبي صلى الله عليه وسلم أضاف أكل الناسى إلى الله تعالى فأسقط به القضاء فدل على أن كل ما حصل بغير فعله لا يوجب القضاء
وإن أكره حتى أكل بنفسه أو أكره المرأة حتى مكنت ( من الوطء ) فوطئها ففيه قولان أحدهما يبطل الصوم لانه فعل ما ينافي الصوم لدفع الضرر وهو ذاكر للصوم فبطل صومه كما لو أكل لخوف المرض أو شرب لدفع العطش
والثاني لا يبطل لانه وصل إلى جوفه بغير ختياره فأشبه إذا أوجر في حلقه وإن تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو دماغه فقد نص فيه على قولين فمن أصحابنا من قال القولان إذا لم يبالغ فأما إذا بالغ بطل صومه قولا واحدا وهو الصحيح لان النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة إذا استنشقت فبالغ في الوضوء إلا أن تكون صائما فنهاه عن المبالغة فلو لم يكن وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهي عن المبالغة معنى لان المبالغة منهي عنها في الصوم وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة
والدليل عليه أنه إذا جرح إنسانا فمات جعل كأنه باشر قتله
ومن أصحابنا من قال هي على قولين بالغ أو لم يبالغ
أحدهما أنه يبطل صومه لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قبل وهو صائم أرأيت لو تمضمضت فشبه القبلة بالمضمضة
وإذا قبل وأنزل بطل صومه فكذلك إذا تمضمض فنزل الماء إلى جوفه وجب أن يبطل صومه
والثاني لا يبطل لانه وصل إلى جوفه بغير اختياره فلم يبطل صومه كغبار الطريق وغربلة الدقيق
وإن أكل أو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو يظن أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لزمه القضاء لما روى حنظلة قال كنا في المدينة في شهر رمضان وفي السماء شيء من السحاب فظننا أن الشمس قد غربت فأفطر بعض الناس فأمر عمر رضي الله عنه من كان أفطر أن يصوم يوما مكانه
ولانه مفرط لانه كان يمكنه أن يمسك إلى أن يعلم فلم يعذر
فصل في قضاء الصوم ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم من ستقاء فعليه القضاء ولأن الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر فلان يجب مع عدم العذر أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لانه أفطر بغير عذر فلزمه إمساك بقية النهار ولا تجب عليه الكفارة لان الأصل عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع وقد ورد الشرع بإيجاب الكفارة في الجماع وما سواه ليس في معناه لان الجماع أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير ولا يجب فيما سواه فبقي على الأصل وإن بلغ ذلك السلطان عزره لانه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فثبت فيه التعزير كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية
فصل في الإفطار بالجماع وإن أفطر بالجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي واقع أهله في رمضان بقضائه ولانه إذا وجب القضاء على المريض والمسافر وهما معذوران فعلى المجامع أولى ويجب عليه إمساك بقية النهار لانه أفطر بغير عذر
وفي الكفارة ثلاثة أقوال أحدها يجب على الرجل دون المرأة لانه حق مال يختص بالجماع فاختص به الرجل دون المرأة كالمهر
والثاني يجب على كل واحد منهما كفارة لانها عقوبة تتعلق بالجماع فاستوى فيها
____________________
(1/183)
الرجل والمرأة كحد الزنا
والثالث يجب عليه عنه وعنها كفارة لان الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل مشترك بينه وبينها فأوجب عتق رقبة فدل على أن ذلك عنه وعنها
فصل في صفة كفارة الإفطار بالجماع والكفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي وقع على امرأته في يوم من شهر رمضان أن يعتق رقبة
قال لا أجد
قال صم شهرين متتابعين قال لا أستطيع
قال أطعم ستين مسكينا
قال لا أجد
فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا قال خذه وتصدق به
قال على أفقر من أهلي والله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال خذه وستغفر الله تعالى وأطعم أهلك فإن قلنا يجب عليه دونها عتبر حاله فإن كان من أهل العتق أعتق وإن كان من أهل الصوم صام وإن كان من أهل الإطعام أطعم
وإن قلنا يجب على كل واحد منهما كفارة عتبر حال كل واحد منهما بنفسه فمن كان من أهل العتق أعتق ومن كان من أهل الصوم صام ومن كان من أهل الإطعام أطعم كرجلين أفطرا بالجماع
فإن قلنا يجب عليه كفارة عنه وعنها عتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أعتق وإن كانا من أهل الإطعام أطعم وإن كانا من أهل الصيام وجب على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين لان الصوم لا يتحمل
وإن ختلف حالهما نظرت
فإن كان الرجل من أهل العتق وهي من أهل الصوم أعتق رقبة ويجزىء عنهما لان من فرضه الصوم إذا أعتق أجزأه وكان ذلك أفضل من الصوم
وإن كان من أهل الصوم وهي من أهل الإطعام لزمه أن يصوم شهرين ويطعم عنها ستين مسكينا لان النيابة تصح في الإطعام وإنما أوجبنا كفارتين لان الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل نصف كل واحدة منهما
وإن كان الرجل من أهل الصوم وهي من أهل العتق صام عن نفسه شهرين وأعتق عنها رقبة
وإن كان من أهل الإطعام وهي من أهل الصوم أطعم عن نفسه ولم يصم عنها لان الصوم لا تدخله النيابة
وإن كانت المرأة أمة وقلنا إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزىء عنها عتق فإن قلنا إنها تملك المال أجزأ عنها العتق كالحرة المعسرة
وإن قدم الرجل من السفر وهو مفطر وهي صائمة فقالت أنا مفطرة فوطئها فإن قلنا إن الكفارة عليه لم يلزمه ولم يلزمها وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها وجب عليها الكفارة في مالها لانها غرته بقولها إني مفطرة وإن أخبرته بصومها فوطئها وهي مطاوعة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم يجب عليه شيء وإن قلنا إن الكفارة عنه وعنها لزمه أن يكفر عنها إن كانت من أهل العتق أو الإطعام وإن كانت من أهل الصيام لزمها أن تصوم
وإن وطىء المجنون زوجته وهي صائمة مختارة فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها لم تجب وإن قلنا تجب عنه وعنها فهل يتحمل الزوج فيه وجهان قال أبو العباس لا يتحمل لانه ( لا عقل ) له
وقال أبو إسحاق يتحمل لانها وجبت بوطئه والوطء كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله
وإن كان الزوج نائما فاستدخلت المرأة ذكره فإن قلنا الكفارة عنه دونها فلا شيء عليه وإن قلنا عنهما لم يلزمه كفارة لانه لم يفطر ويجب عليها أن تكفر ولا يتحمل الزوج لانه لم يكن من جهته فعل
وإن زنى بها في رمضان فإن قلنا إن الكفارة عنه دونها وجبت عليه كفارة وإن قلنا عنه وعنها وجب عليهما كفارتان ولا يتحمل الرجل كفارتها لان الكفارة إنما تتحمل بالملك ولا ملك ههنا
فصل في تكرار الجماع وإن جامع في يومين أو في أيام وجب لكل يوم كفارة لان صوم كل يوم عبادة منفردة فلم تتداخل كفاراتها كالعمرتين وإن جامع في يوم مرتين لم يلزمه للثاني كفارة لان الجماع الثاني لم يصادف صوما وإن رأى هلال رمضان ورد الحاكم شهادته فصام وجامع وجبت عليه الكفارة لانه أفطر في شهر رمضان بالجماع من غير عذر فأشبه إذا قبل الحاكم شهادته وإن طلع
____________________
(1/184)
الفجر وهو مجامع فستدام مع العلم بالفجر وجبت عليه الكفارة لانه منع صحة صوم يوم من رمضان بجماع من غير عذر فوجبت عليه الكفارة كما لو وطىء في أثناء النهار
وإن جامع وعنده أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لم تجب الكفارة لانه جامع وهو معتقد أنه يحل له ذلك وكفارة الصوم عقوبة تجب مع المأثم فلا تجب مع اعتقاد الإباحة كالحد
وإن أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك ثم جامع عامدا فالمنصوص في الصيام أنه لا تجب الكفارة لانه وطىء وهو معتقد أنه غير صائم فأشبه إذا وطىء وعنده أنه ليل ثم بان أنه كان نهارا
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري يحتمل عندي أن تجب الكفارة لان الذي ظنه لا يبيح له الوطء بخلاف ما لو جامع وهو يظن أن الشمس قد غربت لان الذي ظن هناك يبيح له الوطء
وإن أفطر بالجماع وهو مريض أو مسافر لم تجب الكفارة
لانه ( يحل ) له الفطر فلا تجب الكفارة مع إباحة الفطر
وإن أصبح المقيم صائما ثم سافر وجامع وجبت عليه الكفارة لان السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم فكان وجوده كعدمه
وإن أصبح الصحيح صائما ثم مرض وجامع لم تجب الكفارة لان المرض يبيح له الفطر في هذا اليوم وإن جامع ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة لان السفر لا يبيح له الفطر في يومه فلا يسقط ما وجب فيه من الكفارة
وإن جامع ثم مرض أو جن ففيه قولان أحدهما أنه لا تسقط عنه الكفارة لانه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلا يسقط الكفارة السفر
والثاني يسقط لان اليوم يرتبط بعضه ببعض فإذا خرج جزؤه عن أن يكون صائما فيه أو عن أن يكون الصوم فيه مستحقا خرج أوله عن أن يكون صوما أو مستحقا فيكون جماعه في يوم فطر أو في يوم صوم غير مستحق فلا تجب به الكفارة
فصل في الوطء كله سواء في الإفطار ووطء المرأة في الدبر واللواط كالوطء في الفرج في جميع ما ذكرناه من إفساد الصوم ووجوب الكفارة والقضاء لان الجميع وطء ولان الجميع في إيجاب الحد واحد فكذلك في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة وأما إتيان البهيمة ففيه وجهان من أصحابنا من قال يبنى ذلك على وجوب الحد فإن قلنا يجب فيه الحد أفسد الصوم وأوجب الكفارة كالجماع في الفرج
وإن قلنا يجب فيه التعزير لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة لانه كالوطء فيما دون الفرج في التعزير فكان مثله في إفساد الصوم وإيجاب الكفارة
ومن أصحابنا من قال يفسد الصوم ويوجب الكفارة قولا واحدا لانه وطء يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به إفساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطء المرأة
فصل فيمن عجز عن الكفارة ومن وطىء وطأ يوجب الكفارة ولم يقدر على الكفارة ففيه قولان أحدهما لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي خذه واستغفر الله وأطعم أهلك ولانه حق مالي يجب لله تعالى لا على وجه البدل فلم يجب مع العجز كزكاة الفطر
والثاني أنها تثبت في الذمة فإذا قدر لزمه أداؤها وهو الصحيح لانه حق لله تعالى يجب بسبب من جهته فلم يسقط بالعجز كجزاء الصيد
فصل فيمن أغمي عليه جميع النهار إذا نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار ولم يصح صومه وعليه القضاء
وقال المزني يصح صومه كما لو نوى الصوم ثم نام جميع النهار والدليل على أن الصوم لا يصح أن الصوم نية وترك لو نفرد الترك عن النية لم يصح فإذا انفردت النية عن الترك لم يصح
وأما النوم فإن أبا سعيد الإصطخري قال إذا نام جميع النهار لم يصح صومه كما لا يصح إذا أغمي عليه جميع النهار
والمذهب أنه يصح صومه إذا نام والفرق بينه وبين الإغماء أن النائم ثابت العقل لانه إذا نبه نتبه والمغمى عليه بخلافه ولان النائم كالمستيقظ ولهذا ولايته ثابتة على ماله بخلاف المغمى عليه
وإن نوى الصوم ثم أغمي عليه في بعض النهار فقد قال في كتاب الظهار و مختصر البويطي إذا كان في أوله مفيقا صح صومه وقال في كتاب الصوم إذا أفاق في بعضه أجزأه وقال في ختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى إذا كانت صائمة فأغمي عليها أو حاضت بطل صومها
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إن كان مفيقا في طرفي النهار صح صومه فمن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد أنه يعتبر أن يكون مفيقا في أول النهار وتأول ما سواه من الأقوال على هذا
ومن أصحابنا من قال فيه أربعة أقوال
أحدها أنه يعتبر الإفاقة في أوله كالنية تعتبر في أوله
والثانى تعتبر الإفاقة في طرفيه كما أن في الصلاة يعتبر القصد في الطرفين في الدخول والخروج ولا يعتبر فيما بينهما
والثالث أنه تعتبر الإفاقة في جميعه فإذا أغمي عليه في بعضه لم يصح صومه لانه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض
والرابع أنه تعتبر الإفاقة في جزء منه
ولا أعرف له وجها
وإن نوى الصوم ثم جن ففيه قولان قال في الجديد يبطل الصوم لانه عارض يسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض
وقال في القديم هو كالإغماء لانه يزيل العقل والولاية فهو كالإغماء
____________________
(1/185)
فصل ما يجوز للصائم ويجوز للصائم أن ينزل إلى الماء ويغطس فيه لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب الماء على رأسه من شدة الحر والعطش وهو صائم
ويجوز أن يكتحل لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يكتحل وهو صائم ولان العين ليس بمنفذ فلم يبطل الصوم بما وصل إليها
ويجوز أن يحتجم لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حتجم وهو صائم
قال في الأم ولو ترك كان أحب إلي لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والوصال في الصوم إبقاء على أصحابه
قال وأكره له العلك لانه يجفف الفم ويعطش ولا يفطر لانه يدور في الفم ولا ينزل إلى الجوف منه شيء
وإن تفرك وتفتت فوصل إلى الجوف منه شىء بطل الصوم
ويكره له أن يمضغ الخبز فإن كان له ولد صغير ولم يكن له من يمضغ له غيره لم يكره له ذلك
ومن حركت القبلة شهوته كره له أن يقبل وهو صائم والكراهة كراهية تحريم وإن لم تكن تحرك القبلة شهوته قال الشافعي رحمه الله فلا باس به وتركها أولى
والأصل في ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه أرخص فيها للشيخ وكرههها للشاب ولان في حق أحدهما لا يؤمن أن ينزل فيفسد الصوم وفي الآخر يؤمن ففرق بينهما
فصل فيما يتنزه عنه الصائم وينبغى للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم فإن شوتم فليقل إنى صائم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن مرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم
فصل في حكم الوصال ويكره الوصال في الصوم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والوصال إياكم والوصال قالوا إنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وهل هو كراهية تنزيه أو تحريم فيه وجهان أحدهما أنه كراهة تحريم لان النهي يقتضي التحريم
والثاني أنه كراهية تنزيه لانه إنما نهى عنه حتى لا يضعف عن الصوم وذلك أمر غير متحقق فلم يتعلق به إثم فإن واصل لم يبطل صومه لان النهي لا يرجع إلى الصوم فلا يوجب بطلانه
فصل في فضل السحور والمستحب أن يتسحر للصوم لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تسحروا فإن في السحور بركة ولان فيه معونة على الصوم
ويستحب تأخير السحور ولما روي أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن عبد الله يعجل الفطر ويؤخر السحور فقالت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل
ولان السحور يراد ليتقوى به على الصوم فكان التأخير
____________________
(1/186)
أبلغ في ذلك وكان أولى
ويستحب أن يعجل الفطر إذا تحقق غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لان اليهود والنصارى يؤخرون
والمستحب أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء لما روى سلمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور
والمستحب أن يقول عند إفطاره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صام ثم أفطر قال اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت
ويستحب أن يفطر الصائم لما روى زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من فطر صائما فله مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم شيء
فصل تنجيز قضاء رمضان إذا كان عليه قضاء أيام من رمضان ولم يكن له عذر لم يجز له أن يؤخر إلى أن يدخل رمضان آخر فإن أخره حتى أدركه رمضان آخر وجب عليه لكل يوم مد من طعام لما روي عن بن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتى أدركه رمضان يطعم عن الأول
فإن أخر سنين ففيه وجهان أحدهما يجب لكل سنة مد لانه تأخير سنة فأشبه السنة الأولى
الثاني لا يجب للثانية شيء لان القضاء مؤقت فيما بين رمضانين
فإذا أخر عن السنة الأولى فقد أخره عن وقته فوجبت الكفارة وهذا المعنى لا يوجد فيما بعد السنة الأولى فلم يجب للتأخير كفارة
والمستحب أن يقضي ما عليه متتابعا لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه ولان فيه مبادرة إلى أداء الفرض ولان هذا أشبه بالأداء
فإن قضاه متفرقا جاز لقوله تعالى { فعدة من أيام أخر } ولم يفرق ولانه تتابع وجب لاجل الوقت فسقط بفوات الوقت
فإن كان عليه قضاء اليوم الأول فصام ونوى به اليوم الثاني فإنه يحتمل أن يجزئه لان تعيين اليوم غير واجب ويحتمل ألا يجزئه لانه نوى غير ما عليه فلم يجزه كما لو كان عليه عتق عن اليمين فنوى العتق عن الظهار
فصل من مات وعليه صوم إذا كان عليه قضاء شيء من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فإن أخره لعذر اتصل حتى مات لم يجب عليه شيء لانه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج وإن زال العذر وتمكن فلم يصم حتى مات أطعم عنه لكل مسكين مد من طعام
ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يصام عنه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صوم رمضان صام عنه وليه ولانها عبادة تجب الكفارة بإفسادها فجاز أن يقضى عنه بعد الموت كالحج
والمنصوص في الأم هو الأول وهو الصحيح والدليل عليه ما روى بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين ولانه عبادة لا يدخلها النيابة في حال الحياة فلا يدخلها النيابة بعد الموت كالصلاة
فإن قلنا إنه يصام عنه فصام عنه وليه أجزأه
وإن أمر أجنبيا فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة أجزأه كالحج
وإن قلنا يطعم عنه نظرت فإن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه عن كل يوم مسكين وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر ففيه وجهان أحدهما يلزمه مدان مد للصوم ومد للتأخير
والثاني أنه يكفيه مد واحد للتأخير لانه إذا أخرج مدا للتأخير زال التفريط بالمد فيصير كما لو أخره من غير تفريط فلا تلزمه كفارة
باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة
____________________
(1/187)
لما روى أبو قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة ولا يستحب ذلك للحاج لما روت أم الفضل بنت الحارث أن ناسا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم
وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب منه ولان الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه فكان الإفطار أفضل
ويستحب صوم يوم عاشوراء لحديث أبي قتادة ويستحب أن يصوم تاسوعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيت إلى قابل يعني يوم عاشوراء لاصومن اليوم التاسع ويستحب صيام أيام البيض وهي ثلاثة أيام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر
ويستحب صوم يوم الاثنين ويوم الخميس لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس
فصل في صوم الدهر ولا يكره صوم الدهر إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقا ولم يخف ضررا لما روت أم كلثوم رضي الله عنها مولاة أسماء قالت قيل لعائشة رضي الله عنها تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر قالت نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام الدهر ولكن من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر وسئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن صيام الدهر فقال أولئك فينا من السابقين يعني من صام الدهر
وإن خاف ضررا أو تضييع حق كره لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال ما شأنك فقالت إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا فقال سلمان يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا إن لاهلك عليك حقا ولجسدك عليك حقا فصم وأفطر وقم ونم وائت أهلك وأعط كل ذي حق حقه
فذكر أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان
ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لا تصومن المرأة ( وزوجها ) شاهد إلا بإذنه ولان حق الزوج فرض فلا يجوز تركه لنفل
فصل إتمام صوم التطوع ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له إتمامها فإن خرج منها جاز لما روت عائشة رضي الله عنها
قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل عندك شيء فقلت لا
فقال إني إذا أصوم ثم دخل علي يوما آخر فقال هل عندك شيء فقلت نعم فقال إذا أفطر وإن كنت قد فرضت الصوم
فصل في صوم يوم الشك ولا يجوز صوم يوم الشك لما روي عن عمار رضي الله عنه أنه قال من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم
فإن صام يوم الشك عن رمضان لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم ولا تستقبلوا الشهر استقبالا ولانه يدخل في العبادة وهو يشك في وقتها فلم يصح كما لو دخل في الظهر وهو يشك في وقتها وإن صام فيه عن فرض عليه كره وأجزأه كما لو صلى في دار مغصوبة وإن صام عن تطوع نظرت فإن لم يصله بما قبله ولا وافق عادة له لم يصح لان التطوع مجرد قربة فلا يحصل بفعل معصية
وإن وافق عادة له جاز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن
____________________
(1/188)
يوافق صوما كان يصومه أحدكم فإن وصله بما قبل النصف جاز وإن وصله بما بعده لم يجز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان
فصل في صوم يوم الجمعة ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده فإن وصله بيوم قبله أو بيوم بعده لم يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده
فصل في صوم يوم الفطر ولا يجوز صوم يوم الفطر ويوم النحر فإن صام فيه لم يصح لما روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون فيه من لحم نسككم وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم
فصل في صوم أيام التشريق ولا يجوز أن يصوم في أيام التشريق صوما غير صوم التمتع فإن صام لم يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان وهل يجوز فيها صوم التمتع فيه قولان قال في القديم يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي
وقال في الجديد لا يجوز لان كل يوم لا يجوز فيه صوم غير التمتع لا يجوز فيه صوم التمتع كيوم العيد
فصل النية في رمضان ولا يجوز أن يصوم في رمضان عن غير رمضان حاضرا كان أو مسافرا فإن صام عن غيره لم يصح صومه عن رمضان لانه لم ينوه ولا يصح عما نواه لان الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يصح فيه غيره
فصل في فضل ليلة القدر ويستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ويطلب ذلك في ليالى الوتر من العشر ( الأواخر ) من شهر رمضان لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان في كل وتر
قال الشافعي رحمه الله والذي يشبه أن تكون ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين
والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد وانصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين في صبيحة يوم إحدى وعشرين
وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيتني أسجد في ماء وطين فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته
قال الشافعي رحمه الله ولا أحب ترك طلبها فيها كلها
قال أصحابنا إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر فإن كان ذلك في رمضان قبل مضي ليلة من ليالي العشر حكم بالطلاق في الليلة الأخيرة من الشهر وإن كان قد مضت ليلة وقع الطلاق في السنة الثانية في مثل تلك الليلة التي قال فيها ذلك
والمستحب أن يقول فيها اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني لما روت عائشة رضي الله عنها
قالت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول قال تقولين اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني
____________________
(1/189)
كتاب الاعتكاف الاعتكاف سنة حسنة لما روى أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان وفي حديث عائشة رضي الله عنها
فلم يزل يعتكف حتى مات
ويجب بالنذر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
فصل في شروط صحة الاعتكاف ولا يصح إلا من مسلم عاقل فأما الكافر فلا يصح منه لانه من فروع الإيمان ولا يصح من الكافر كالصوم
وأما من زال عقله كالمجنون والمبرسم فلا يصح منه لانه ليس من أهل العبادات فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر
فصل في اعتكاف المرأة ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج لان ستمتاعها ملك له فلا يجوز إبطاله عليه بغير إذنه ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه لان منفعته لمولاه فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذنه فإن نذرت المرأة الاعتكاف بإذن الزوج أو نذر العبد بإذن مولاه نظرت فإن كان غير متعلق بزمان يعينه لم يجز أن يدخل فيه بغير إذنه لان الاعتكاف ليس على الفور وحق الزوج والمولى على الفور فقدم على الاعتكاف
وإن كان النذر متعلقا بزمان يعينه جاز أن يدخل فيه بغير إذنه لانه تعين عليه فعله بإذنه
وإن عتكفت المرأة بإذن الزوج أو العبد بإذن مولاه نظرت فإن كان في تطوع جاز له أن يخرجه منه لانه لا يلزمه بالدخول فجاز إخراجه منه وإن كان في فرض متعلق بزمان يعينه لم يجز له إخراجه منه لانه تعين عليه فعله في وقته فلا يجوز إخراجه منه وإن كان في فرض غير متعلق بزمان يعينه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز إخراجه منه لانه وجب بإذنه ودخل فيه بإذنه فلم يجز إخراجه منه
والثاني أنه إن كان متتابعا لم يجز إخراجه منه لانه لا يجوز له الخروج منه فلا يجوز إخراجه منه كالمنذور في زمان بعينه وإن كان غير متتابع جاز إخراجه منه لانه يجوز له الخروج منه فجاز إخراجه منه كالتطوع
فصل في اعتكاف المكاتب وأما المكاتب فإنه يجوز له أن يعتكف بغير إذن مولاه لانه لا حق للمولى في منفعته فجاز أن يعتكف بغير إذنه كالحر ومن نصفه حر ونصفه عبد ينظر فيه فإن لم يكن بينه وبين المولى مهايأة فهو كالعبد وإن كان بينهما مهايأة ففي اليوم الذي هو للمولى كالعبد لا يعتكف لان حق السيد متعلق بمنفعته وفي اليوم الذي هو له كالمكاتب لان حق المولى لا يتعلق بمنفعته
فصل اشتراط المسجد ولا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في المسجد لقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فدل على أنه لا يكون إلا في المسجد
ولا يصح الاعتكاف من المرأة إلا في المسجد لان من صح اعتكافه في المسجد لم يصح اعتكافه في غير المسجد كالرجل
فصل في فضل المسجد الجامع والأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع لان رسول الله صلى الله عليه وسلم عتكف في المسجد الجامع ولان الجماعة في صلاته أكثر ولأنه يخرج من الخلاف فإن الزهري قال لا يجوز في غيره وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز أن يعتكف في غيره لانه لا مزية لبعضها على بعض فلم يتعين
وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه أن يعتكف فيه لما روي أن عمر رضي الله عنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك ولانه أفضل من سائر المساجد ولا يجوز أن يسقط فرضه بما دونه
وإن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان أحدهما أنه يلزمه أن يعتكف فيه لانه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فتعين بالنذر كالمسجد الحرام
والثانى لا يتعين لانه مسجد لا يجب قصده بالشرع فلم يتعين بالنذر كسائر المساجد
____________________
(1/190)
فصل في الاعتكاف بصوم والأفضل أن يعتكف بصوم لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في شهر رمضان فإن عتكف بغير صوم جاز لحديث عمر رضي الله عنه إني نذرت أني أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك ولو كان الصوم شرطا فيه لم يجزه بالليل وحده
فإن نذر أن يعتكف يوما بصوم فعتكف بغير صوم ففيه وجهان قال أبو علي الطبري يجزيه الاعتكاف عن النذر وعليه أن يصوم يوما لانهما عبادتان تنفرد كل واحدة منهما عن الأخرى فلم يلزمه الجمع بينهما بالنذر كالصوم والصلاة
وقال عامة أصحابنا لا يجزئه وهو المنصوص في الأم لان الصوم صفة مقصودة في الاعتكاف فلزمه بالنذر كالتتابع
ويخالف الصوم والصلاة لان إحداهما ليست بصفة مقصودة في الأخرى
فصل في زمن الاعتكاف ويجوز الاعتكاف في جميع الأزمان والأفضل أن يعتكف في العشر ( الأواخر ) من شهر رمضان لحديث أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما
ويجوز أن يعتكف ما شاء من ساعة ويوم وشهر كما يجوز أن يتصدق بما شاء من قليل وكثير
وإن نذر اعتكافا مطلقا أجزأه ما يقع عليه الاسم كما يجزئه في نذر الصوم والصدقة ما يقع عليه الاسم
قال الشافعي رحمه الله وأحب أن يعتكف يوما وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يجيز أقل من يوم
وإن نذر اعتكاف العشر الآخر دخل فيه ليلة الحادي والعشرين قبل غروب الشمس ليستوفي الفرض بيقين كما يغسل جزءا من رأسه ليستوفي غسل الوجه بيقين ويخرج منه بهلال شوال تاما كان الشهر أو ناقصا لان العشر عبارة عما بين العشرين إلى آخر الشهر
وإن نذر عتكاف عشرة أيام من آخره وكان الشهر ناقصا عتكف بعد الشهر يوما آخر لتمام العشرة لان العشرة عبارة عن عشرة آحاد بخلاف العشر
فصل في نذر الاعتكاف وإن نذر أن يعتكف شهرا نظرت فإن كان شهرا بعينه لزمه اعتكافه ليلا ونهارا سواء كان الشهر تاما أو ناقصا لان الشهر عبارة عما بين الهلالين تم أو نقص
وإن نذر عتكاف نهار الشهر لزمه بالنهار دون الليل لانه خص النهار فلم يلزمه بالليل فإن فاته الشهر ولم يعتكف فيه لزمه قضاؤه ويجوز أن يقضيه متتابعا ومتفرقا لان التتابع في أدائه بحكم الوقت فإذا فات سقط كالتتابع في صوم رمضان
وإن نذر أن يعتكف متتابعا لزمه قضاؤه متتابعا لان التتابع ههنا بحكم النذر فلم يسقط بفوات الوقت
قال في الأم إذا نذر اعتكاف شهر وكان قد مضى الشهر لم يلزمه لان الاعتكاف في شهر ماض محال
وإن نذر اعتكاف شهر غير معين واعتكف شهرا بالأهلة أجزأه تم الشهر أو نقص لان اسم الشهر يقع عليه
وإن اعتكف شهرا بالعدد لزمه ثلاثون يوما لان الشهر بالعدد ثلاثون يوما ثم ينظر فيه فإن شرط التتابع لزمه متتابعا لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا سماه لزمه الوفاء به وإن شرط أن يكون متفرقا جاز أن يكون متفرقا ومتتابعا لان المتتابع أفضل من المتفرق فجاز أن يسقط أدنى الفرضين بأفضلهما كما لو نذر أن يعتكف في غير المسجد الحرام فإن له أن يعتكف في المسجد الحرام وإن أطلق النذر جاز متفرقا ومتتابعا كما لو نذر صوم شهر
وإن نذر اعتكاف يوم لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس ليستوفي الفرض بيقين
وهل يجوز له أن يفرقه في ساعات أيام فيه وجهان أحدهما يجوز كما يجوز أن يعتكف شهرا من شهور
والثانى لا يجوز لان اليوم عبارة عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس
فصل وإن نذر اعتكاف يومين لزمه اعتكافهما وفي الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه أحدهما أنه يلزمه اعتكافها لانه ليل يتخلل نهاري الاعتكاف فلزمه اعتكافه كليالي العشر
والثاني أنه إن شرط التتابع لزمه اعتكافه لانه لا ينفك منه اليومان فلزمه اعتكافه وإن لم يشرط التتابع لم يلزمه اعتكافه لانه قد ينفك منه اليومان ولا يلزمه اعتكافه
والثالث أنه لا يلزمه شرط التتابع فيه أو أطلق وهو الأظهر لانه زمان لم يتناوله نذره فلم يلزمه اعتكافه دليله ما قبله وما بعده
وإن نذر اعتكاف ليلتين لزمه اعتكافهما وفي اليوم الذي بينهما الأوجه الثلاثة
وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما لزمه اعتكاف ثلاثين يوما وفي لياليها الأوجه الثلاثة
____________________
(1/191)
فصل اشتراط النية في الاعتكاف ولا يصح الاعتكاف إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى ولانها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة فإن كان الاعتكاف فرضا لزمه تعيين النية للفرض لتميزه عن التطوع
وإن دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه ففيه وجهان أحدهما يبطل لانه قطع شرط صحته فأشبه إذا قطع نية الصلاة
والثاني لا يبطل لانه قربة تتعلق بمكان فلم يخرج منه بنية الخروج كالحج
فصل في خروج المعتكف ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدني إلي رأسه لارجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه لان الاعتكاف هو اللبث في المسجد فإذا خرج منه فقد فعل ما ينافيه من غير عذر فبطل كما لو أكل في الصوم
ويجوز أن يخرج رأسه ورجله ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها ولان بإخراج الرأس والرجل لا يصير خارجا ولهذا لو حلف لا خرجت من الدار فأخرج رأسه أو رجله لم يحنث
فصل ما يجوز له الخروج ويجوز أن يخرج لحاجة الإنسان ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها ولان ذلك خروج لما لا بد له منه فلم يمنع منه
وإن كان للمسجد سقاية لم يلزمه قضاء الحاجة فيها لان ذلك نقصان مروءة وعليه في ذلك مشقة فلم يلزمه وإن كان بقربه بيت صديق له لم يلزمه قضاء الحاجة فيه لانه ربما احتشم وشق عليه فلم يكلف ذلك
وإن كان له بيتان قريب وبعيد ففيه وجهان أظهرهما أنه لا يجوز أن يمضي إلى البعيد فإن خرج إليه بطل اعتكافه لانه لا حاجة له إليه فأشبه إذا خرج لغير حاجة
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز أن يمضي إلى الأبعد ولا يبطل اعتكافه لانه خروج لحاجة الإنسان فأشبه إذا لم يكن له غيره
فصل ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل ولا يبطل اعتكافه
وقال أبو العباس لا يجوز فإن خرج بطل اعتكافه لانه يمكنه أن يأكل في المسجد فلا حاجة به إلى الخروج
والمنصوص هو الأول لان الأكل في المسجد ينقص من المروءة فلم يلزمه
فصل الخروج للأذان وفي الخروج إلى المنارة الخارجة عن رحبة المسجد ليؤذن ثلاثة أوجه أحدها يجوز فإن خرج لم يبطل اعتكافه لانها بنيت للمسجد فصارت كالمنارة التي في رحبة المسجد
والثاني لا يجوز لانها خارجة من المسجد فأشبه غير المنارة
وقال أبو إسحاق المروزي إن كان المؤذن ممن قد ألف الناس صوته جاز أن يخرج ولا يبطل اعتكافه لان الحاجة تدعو إليه لإعلام الناس بالوقت وإن لم يألفوا صوته لم يجز أن يخرج فإن خرج بطل اعتكافه لانه لا حاجة به إليه
فصل الخروج للجنازة وإن عرضت صلاة الجنازة نظرت فإن كان في اعتكاف تطوع فالأفضل أن يخرج لان صلاة الجنازة فرض على الكفاية فقدمت على الاعتكاف
وإن كان في اعتكاف فرض لم يخرج لانه تعين عليه فرضه فلا يجوز تركه لصلاة الجنازة التي لم يتعين عليه فرضها فإن خرج بطل اعتكافه لانه غير مضطر إلى الخروج فإن غيره يقوم مقامه فيه
فصل في الخروج لعيادة المريض ويجوز أن يخرج في اعتكاف التطوع لعيادة المريض لانها تطوع والاعتكاف تطوع فخير بينهما فإن اختار الخروج بطل اعتكافه لانه خروج غير مضطر إليه وإن خرج لما يجوز الخروج له من حاجة الإنسان والأكل فسأل عن المريض في الطريق ولم يعرج عليه جاز ولم يبطل اعتكافه وإن وقف بطل اعتكافه لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي ولا تقف ولانه لم يترك الاعتكاف بالمسألة فلم يبطل اعتكافه وبالوقوف يترك الاعتكاف فبطل
____________________
(1/192)
فصل في الخروج لاداء الجمعة وإن حضرت الجمعة وهو من أهل الفرض والاعتكا في غير الجامع لزمه أن يخرج إليها لان الجمعة فرض بالشرع فلا يجوز تركها بالاعتكاف
وهل يبطل اعتكافه بذلك أم لا فيه قولان قال في البويطي لا يبطل لانه خروج لا بد له منه فلم يبطل الاعتكاف كالخروج لقضاء حاجة الإنسان
وقال في عامة كتبه يبطل اعتكافه لانه كان يمكنه الاحتراز من الخروج بأن يعتكف في الجامع فإن لم يفعل بطل اعتكافه كما لو دخل في صوم الشهرين المتتابعين في شعبان فخرج منه بصوم رمضان
فإن تعين عليه أداء شهادة لزمه الخروج لادائها لانه تعين لحق آدمي فقدم على الاعتكاف
وهل يبطل اعتكافه بذلك ينظر فيه فإن كان قد تعين عليه تحملها لم يبطل لانه مضطر إلى الخروج وإلى تسببه وإن لم يتعين عليه تحملها فقد روى المزني رضي الله عنه أنه قال يبطل الاعتكاف وقال في المعتكفة إذا طلقت تخرج وتعتد ولا يبطل اعتكافها فنقل أبو العباس جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما يبطل فيهما لان التسبب حصل باختياره
والثاني لا يبطل لانه مضطر إلى الخروج
وحمل أبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقال في الشهادة يبطل وفي العدة لا يبطل لان المرأة لا تتزوج لتطلق فتعتد والشاهد إنما يتحمل ( الشهادة ) ليؤدي ولان المرأة محتاجة إلى التسبب وهو النكاح للنفقة والعفة والشاهد غير محتاج إلى التحمل
فصل في الخروج لعذر المرض الشديد ومن مرض مرضا لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول خرج كما يخرج لحاجة الإنسان
وإن كان مرضا يسيرا يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة لم يخرج فإن خرج بطل اعتكافه وإن كان مرضا حتى يحتاج فيه إلى الفراش ويشق معه المقام في المسجد ففيه قولان بناء على القولين في المريض إذا أفطر في صوم الشهرين المتتابعين
وإن أغمي عليه فأخرج من المسجد لم يبطل اعتكافه قولا واحدا لانه لم يخرج باختياره
فصل بطلان الاعتكاف بسكر أو ردة قال في الأم وإن سكر فسد اعتكافه ثم قال وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه
واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق فمنهم من قال لا يبطل فيهما قولا واحدا لانهما لم يخرجا من المسجد وتأول قوله في السكران إذا سكر فأخرج لانه لا يجوز إقراره في المسجد أو أخرج ليقام عليه الحد
ومنهم من قال يبطل فيهما لان السكران خرج عن أن يكون من أهل المقام في المسجد والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات وتأول قوله في المرتد إذا ارتد في اعتكاف غير متتابع أنه يرجع ويتم ما بقي
ومنهم من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في السكران يبطل لانه ليس من أهل المقام في المسجد لانه لا يجوز إقراره فيه فصار كما لو خرج من المسجد والمرتد من أهل المقام لانه يجوز إقراره فيه
فصل في حيض المعتكفة وإن حاضت المعتكفة خرجت من المسجد لانه لا يمكنها المقام في المسجد وهل يبطل اعتكافها ينظر فيه فإن كان الاعتكاف في مدة لا يمكن حفظها من الحيض لم يبطل وإذا طهرت بنت عليه كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين
وإن كان في مدة حفظها من الحيض بطل كما لو حاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة
فصل في إحرام المعتكف وإن أحرم المعتكف بالحج فإن أمكنه أن يتم الاعتكاف ثم يخرج لم يجز أن يخرج فإن خرج بطل اعتكافه لانه غير محتاج إلى الخروج وإن خاف فوت الحج خرج ( إلى الحج ) لان الحج يجب بالشرع فلا يتركه بالاعتكاف فإذا خرج بطل اعتكافه لان الخروج حصل باختياره لانه كان يسعه أن يؤخره
فصل فيمن خرج ناسيا وإن خرج من المسجد ناسيا لم يبطل اعتكافه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولانه لو أكل فى الصوم ناسيا لم يبطل فكذلك إذا خرج من الاعتكاف ناسيا لم يبطل وإن أخرج مكرها محمولا لم يبطل اعتكافه للخبر ولانه لو أوجر الصائم في فيه طعاما لم يبطل صومه فكذلك هذا وإن أكره حتى خرج بنفسه ففيه قولان كالصائم إذا أكره حتى أكل بنفسه
وإن أخرجه السلطان لإقامة الحد عليه فإن كان قد ثبت الحد بإقراره بطل اعتكافه لانه خرج باختياره وإن ثبت بالبينة ففيه وجهان أحدهما يبطل لانه اختار سببه وهو الشرب والسرقة
والثاني لا يبطل
____________________
(1/193)
لانه لم يشرب ولم يسرق ليخرج ويقام عليه الحد
فصل فيمن خرج لخوف وإن خاف من ظالم فخرج واستتر لم يبطل اعتكافه لانه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه فلم يبطل اعتكافه
فصل إذا زال عذر الخروج وإن خرج لعذر ثم زال العذر وتمكن من العود فلم يعد بطل اعتكافه لانه ترك الاعتكاف من عذر فأشبه إذا خرج من غير عذر
فصل في حرمة المباشرة للمعتكف ولا يجوز للمعتكف المباشرة بشهوة لقوله عز وجل { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فإن جامع في الفرج ذاكرا للاعتكاف عالما بالتحريم فسد اعتكافه لانه أحد ما ينافي الاعتكاف فأشبه الخروج من المسجد
وإن ( باشر ) فيما دون الفرج بشهوة أو قبل بشهوة ففيه قولان قال في الإملاء يبطل وهو الصحيح لانها مباشرة محرمة في الاعتكاف فبطل بها كالجماع
وقال في الأم لا يبطل لانها مباشرة لا تبطل الحج فلم تبطل الاعتكاف كالقبلة بغير شهوة
وقال أبو إسحاق لو قال قائل إنه لو أنزل بطل وإن لم ينزل لم تبطل كالقبلة في الصوم كان مذهبا وهذا قول لم يذهب إليه أحد من أصحابنا
ويخالف الصوم فإن القبلة فيه لا تحرم على الإطلاق فلم تبطل على الإطلاق والقبلة في الاعتكاف محرمة على الإطلاق فأبطلته على الإطلاق
فصل ما يجوز من المباشرة ويجوز أن يباشر من غير شهوة ولا يبطل اعتكافه ( لحديث ) عائشة رضي الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدني إلي رأسه لارجله فإن باشر ناسيا لم يبطل اعتكافه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولان كل عبادة أبطلتها مباشرة العامد لم تبطلها مباشرة الناسي كالصوم وإن باشر وهو جاهل بالتحريم لم يبطل لان الجاهل كالناسي وقد بينا ذلك في الصلاة والصوم
فصل ما يجوز للمعتكف ويجوز للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف لان النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف ولم ينقل أنه غير شيئا من ملابسه ولو فعل ذلك لنقل
ويجوز أن يتطيب لانه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالإحرام وقد روت عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فدل على أنه لا يحرم عليه التطيب
ويجوز أن يتزوج ويزوج لانها عبادة لا تحرم الطيب فلا تحرم النكاح كالصوم
ويجوز أن يقرأ القرآن ويقرىء غيره ويدرس العلم ويدرس غيره لان ذلك كله زيادة خير لا يترك به شرط من شروط الاعتكاف
ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته ويبيع ويبتاع لكنه لا يكثر منه لان المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعا للبيع والشراء فإن أكثر من ذلك كره لاجل المسجد ولم يبطل به الاعتكاف
وقال فى القديم إن فعل ذلك والاعتكاف منذور رأيت أن يستقبله ووجهه أن الاعتكاف هو حبس النفس على الله عز وجل فإذا أكثر من البيع والشراء صار قعوده في المسجد للبيع والشراء لا للاعتكاف
والصحيح أنه لا يبطل والأول مرجوع عنه لان ما لا يبطل قليله الاعتكاف لم يبطل كثيره كالقراءة والذكر
فصل ويجوز أن يأكل في المسجد لانه عمل قليل لا بد منه
ويجوز أن يضع فيه المائدة لان ذلك أنظف للمسجد ويغسل فيه اليد وإن غسل في الطست فهو أحسن
فصل إذا فعل ما يبطل اعتكافه إذا فعل في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة أو مقام في البيت بعد زوال العذر نظرت فإن كان ذلك في تطوع لم يبطل ما مضى من الاعتكاف لان ذلك القدر لو أفرده واقتصر عليه أجزأه ولا يجب عليه إتمامه لانه لا يجب عليه المضي في فاسده فلا يلزمه بالشروع كالصوم
وإن كان اعتكافه منذورا نظرت فإن لم يشرط فيه التتابع لم يبطل ما مضى من اعتكافه لما ذكرناه في التطوع ويلزمه أن يتمم لان الجميع قد وجب عليه وقد فعل البعض فوجب الباقي
وإن كان قد شرط التتابع بطل التتابع ويجب عليه أن يستأنف ليأتي به على الصفة التي وجبت عليه
والله أعلم
كتاب الحج الحج ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
____________________
(1/194)
بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان
وفي العمرة قولان قال في الجديد هي فرض لما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أعلى النساء جهاد قال جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة
وقال في القديم ليست بفرض لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أهي واجبة قال لا وأن تعتمر خير لك والصحيح هو الأول لان هذا الحديث يرفعه ابن لهيعة وهو ضعيف فيما ينفرد به
ولا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة بالشرع لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحج كل عام قال لا بل حجة واحدة وروى سراقة بن مالك قال قلت يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد قال بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ومن حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت فإن كان لقتال أو دخلها خائفا من ظالم يطلبه ولا يمكنه أن يظهر لاداء النسك جاز أن يدخل بغير إحرام لان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام لانه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان أشهرهما أنه لا يجوز أن يدخل إلا بحج أو عمرة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل أحدكم مكة إلا محرما ورخص للحطابين
والثاني أنه يجوز لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك
وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين جاز بغير نسك لحديث ابن عباس ولان في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة
فإن دخل بتجارة وقلنا إنه يجب عليه الإحرام فدخل بغير إحرام لم يلزمه القضاء لانا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء ولا يتناهى
قال أبو العباس بن القاص فإن دخل بغير إحرام ثم صار حطابا أو صيادا لزمه القضاء لانه لا يلزمه للقضاء قضاء
فصل في شروط وجوب الحج والعمرة ولا يجب الحج والعمرة إلا على مسلم عاقل بالغ حر مستطيع
فأما الكافر فإن كان أصليا لم يصح منه لان ذلك من فروع الإيمان فلم يصح من الكافر ولا يخاطب به في حال الكفر لانه لا يصح منه وإن أسلم لم يخاطب بما فاته في حال الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله ولانه لم يلتزم وجوبه فلم يلزمه ضمانه كحقوق الآدميين
وإن كان مرتدا لم يصح منه لما ذكرناه ويجب عليه لانه التزم وجوبه فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين
وأما المجنون فلا يصح منه لانه ليس من أهل العبادات فلم يصح حجه ولا يجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق
وأما الصبي فلا يجب عليه للخبر ويصح منه لما روى ابن عباس أن امرأة رفعت صبيا لها من محفتها فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر فإن كان مميزا فأحرم بإذن الولي صح إحرامه وإن أحرم بغير إذنه ففيه وجهان قال أبو إسحاق يصح كما يصح إحرامه في الصلاة
وقال أكثر أصحابنا لا يصح لانه يفتقر في أدائه إلى المال فلا يصح من غير إذن الولي بخلاف الصلاة
وإن كان غير مميز جاز لامه أن تحرم عنه لحديث ابن عباس ويجوز لابيه قياسا على الأم ولا يجوز للأخ والعم أن يحرم عنه لانه لا ولاية لهما على الصغير
فإن عقد له الإحرام فعل بنفسه ما يقدر عليه ويفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه لما روى جابر قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان رمينا عنهم
وعن ابن عمر رضي الله عنهما
قال كنا نحج بصبياننا فمن استطاع منهم رمى ومن لم يستطع رمي عنه
وفي نفقة الحج وما يلزمه من الكفارة قولان أحدهما يجب في مال الولي لانه هو الذي أدخله فيه
والثاني يجب في مال الصبي لانه وجب لمصلحته فكان في ماله كأجرة المعلم
وأما العبد فلا يجب عليه الحج لان منافعه مستحقة لمولاه وفي إيجاب
____________________
(1/195)
الحج عليه إضرار بالمولى ويصح منه لانه من أهل العبادة فصح منه الحج كالحر فإن أحرم بإذن السيد وفعل ما يوجب الكفارة فإن ملكه السيد مالا وقلنا إنه يملك لزمه الهدي وإن قلنا لا يملك أو لم يملكه السيد وجب عليه الصوم ويجوز للسيد أن يمنعه من الصوم لانه لم يأذن في سببه وإن أذن له في التمتع أو القران وقلنا إنه لا يملك المال صام وليس للمولى منعه من الصوم لانه وجب بإذنه فإن قلنا إنه يملك ففي الهدي قولان أحدهما يجب في مال السيد لانه أذن في سببه
والثاني لا يجب لان إذنه رضا بوجوبه على عبده لا في ماله ولان موجب التمتع في حق العبد هو الصوم لانه لا يقدر على الهدى فلا يجب عليه الهدي فإن حج الصبي ثم بلغ أو حج العبد ثم أعتق لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام لما روي ابن عباس رضي الله عنهما
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى وإن بلغ الصبي أو أعتق العبد في الإحرام نظرت فإن كان قبل الوقوف بعرفة أو فى حال الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام لانه أتى بأفعال النسك في حال الكمال فأجزأه
وإن كان ذلك بعد فوات الوقوف لم يجزه وإن كان بعد الوقوف وقبل فوات وقته ولم يرجع إلى الموقف فقد قال أبو العباس يجزئه لان إدراك وقت العبادة في حال الكمال كفعلها في حال الكمال والدليل عليه أنه لو أحرم ثم كمل جعل كأنه بدأ بالإحرام في حال الكمال ولو صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخر الوقت جعل كأنه صلى في حال بلوغه
والمذهب أنه لا يجزئه لانه لم يدرك الوقوف في حال الكمال فأشبه إذا كمل في يوم النحر
ويخالف الإحرام لان هناك أدرك الكمال والإحرام قائم فوزانه من مسألتنا أن يدرك الكمال وهو واقف بعرفة فيجزئه وههنا أدرك الكمال وقد انقضى الوقوف فلم يجزه كما لو أدرك الكمال بعد التحلل عن الإحرام
ويخالف الصلاة فإن الصلاة تجزئه بإدراك الكمال بعد الفراغ منها ولو فرغ من الحج ثم أدرك الكمال لم يجزه
فصل في شرط الاستطاعة فأما غير المستطيع فلا يجب عليه لقوله عز وجل { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فدل على أنه لا يجب على غير المستطيع
والمستطيع اثنان مستطيع بنفسه ومستطيع بغيره والمستطيع بنفسه ينظر فيه فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة فهو أن يكون صحيحا واجدا للزاد والماء بثمن المثل في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها في ذهابه ورجوعه واجدا لراحلة تصلح لمثله بثمن المثل أو بأجرة المثل وأن يكون الطريق أمنا من غير خفارة وأن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء فأما إذا كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة لم يلزمه لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يمنعه من الحج مرض حابس أو سلطان جائر فمات فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا
فصل من عدم الزاد فإن لم يجد الزاد لم يلزمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة فإن لم يجد الماء لم يلزمه لان الحاجة إلى الماء أشد من الحاجة إلى الزاد فإذا لم
____________________
(1/196)
يجب على من لم يجد الزاد فلأن لا يجب على من لم يجد الماء أولى وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه لانه لو لزم ذلك لم يأمن ألا يباع منه ذلك إلا بما يذهب به جميع ماله وفي إيجاب ذلك إضرار فلم يلزمه وإن لم يجد راحلة لم يلزمه لحديث ابن عمر وإن وجد راحلة لا تصلح لمثله بأن يكون ممن لا يمكنه الثبوت على القتب والزاملة لم يلزمه حتى يجد عمارية أو هودجا وإن بذل له رجل راحلة من غير عوض لم يلزمه قبولها لان عليه في قبول ذلك منة وفي تحمل المنة مشقة فلا يلزمه وإن وجد بأكثر من ثمن المثل أو بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه لما ذكرناه في الزاد
وإن وجد الزاد والراحلة لذهابه ولم يجد لرجوعه نظرت فإن كان له أهل فى بلده لم يلزمه وإن لم يكن له أهل ففيه وجهان أحدهما يلزمه لان البلاد كلها في حقه واحدة
والثاني لا يلزمه لانه يستوحش بالانقطاع عن الوطن والمقام في الغربة فلم يلزمه وإن وجد ما يشترى به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه لم يلزمه حالا كان الدين أو مؤجلا لان الدين الحال على الفور والحج على التراخي فقدم عليه والمؤجل يحل عليه فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدين وإن كان محتاجا إليه لنفقة من تلزمه نفقته لم يلزمه الحج لان النفقة على الفور والحج على التراخي وإن احتاج إليه لمسكن لا بد له من مثله أو خادم يحتاج إلى خدمته لم يلزمه
وإن احتاج إلى النكاح وهو يخاف العنت قدم النكاح لان الحاجة إلى ذلك على الفور والحج ليس على الفور وإن احتاج إليه في بضاعة يتجر فيها ليحصل منها ما يحتاج إليه للنفقة ففيه وجهان قال أبو العباس بن سريج لا يلزمه الحج لانه محتاج إليه فهو كالمسكن والخادم
ومن أصحابنا من قال يلزمه لانه واجد للزاد والراحلة
وإن لم يجد الزاد والراحلة وهو قادر على المشي وله صنعة يكتسب بها ما يكفيه لنفقته استحب له أن يحج لانه يقدر على إسقاط الفرض بمشقة لا يكره تحملها فاستحب له إسقاط الفرض كالمسافر إذا قدر على الصوم في السفر وإن لم يكن له صنعة ويحتاج إلى مسألة الناس كره له أن يحج لان المسألة مكروهة ولان في المسألة تحمل مشقة شديدة فكره
وإن كان الطريق غير آمن لم يلزمه لحديث أبي أمامة ولان في إيجاب الحج مع الخوف تغريرا بالنفس والمال
وإن كان الطريق منا إلا أنه يحتاج فيه إلى خفارة لم يلزمه لان ما يوخذ في الخفارة بمنزلة ما زاد على ثمن المثل وأجرة المثل في الزاد والراحلة فلا يلزمه ولانه رشوة على واجب فلا يلزمه
وإن لم يكن له طريق إلا في البحر فقد قال في الأم لا يجب عليه وقال في الإملاء إن كان أكثر معاشه في البحر لزمه فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يجب لانه طريق مسلوك فأشبه البر
والثاني لا يجب لان فيه تغريرا بالنفس والمال فلا يجب كالطريق المخوف
ومنهم من قال إن كان الغالب منه السلامة لزمه وإن كان الغالب منه الهلاك لم يلزمه كطريق البر
ومنهم من قال إن كان له عادة بركوبه لزمه وإن لم يكن له عادة بركوبه لم يلزمه لان من له عادة لا يشق عليه ومن لا عادة له يشق عليه
وإن كان أعمى لم يجب عليه إلا أن يكون معه قائد فإن الأعمى من غير قائد كالزمن ومع القائد كالبصير
وإن كانت امرأة لم يلزمها إلا أن تأمن على نفسها بزوج أو محرم أو نساء ثقات قال فى الإملاء أو امرأة واحدة وروى الكرابيسي عنه إذا كان الطريق آمنا جاز من غير نساء وهو الصحيح لما روى عدى بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حتى لتوشك الظعينة أن تخرج منها
____________________
(1/197)
بغير جوار حتى تطوف بالكعبة
قال عدي فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير جوار ولانها تصير مستطيعة بما ذكرنا ولا تصير مستطيعة بغيره فإن لم يبق من الوقت ما يتمكن فيه من السير لاداء الحج لم يلزمه لانه إذا ضاق الوقت لم يقدر على الحج فلا يلزمه فرضه
فصل في الراحلة للمكي وإن كان من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ولم يجد راحلة نظرت فإن كان قادرا على المشى وجب عليه لانه يمكنه الحج من غير مشقة شديدة
وإن كان زمنا لا يقدر على المشي ويقدر على الحبو لم يلزمه لان المشقة في الحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة في المسافة البعيدة في السير
فصل وإن كان من أهل مكة وقدر على المشي إلى مواضع النسك من غير خوف وجب عليه لانه يصير مستطيعا بذلك
فصل في فضل الركوب ومن قدر على الحج راكبا أو ماشيا فالأفضل أن يحج راكبا لان النبي صلى الله عليه وسلم حج راكبا ولان الركوب أعون على المناسك
فصل في المستطع بغيره والمستطيع بغيره اثنان أحدهما من لا يقدر على الحج بنفسه لزمانة أو كبر وله مال يدفع إلى من يحج عنه فيجب عليه فرض الحج لانه يقدر على أداء الحج بغيره كما يقدر على أدائه بنفسه فيلزمه فرض الحج
والثاني من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له مال ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج فينظر فيه فإن كان الولد مستطيعا بالزاد والراحلة وجب على الأب الحج ويلزمه أن يأمر الولد بأدائه عنه لانه قادر على أداء الحج بولده كما يقدر على أدائه بنفسه وإن لم يكن للولد مال ففيه وجهان أحدهما يلزمه لانه قادر على تحصيل الحج بطاعته
والثاني لا يلزمه لان الصحيح لا يلزمه فرض الحج من غير زاد ولا راحلة فالمغصوب أولى ألا يلزمه
وإن كان الذي يطيعه غير الولد ففيه وجهان أحدهما لا يلزمه الحج بطاعته لان في الولد إنما وجب عليه لانه بضعة منه فنفسه كنفسه وماله كماله في النفقة وغيرها وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلم يجب الحج بطاعته
والثاني يلزمه وهو ظاهر النص لانه واجد لمن يطيعه فأشبه الولد وإن كان له من يجب الحج عليه بطاعته فلم يأذن له ففيه وجهان أحدهما أن الحاكم ينوب عنه في الإذن كما ينوب عنه إذا امتنع عن إخراج الزكاة
والثاني لا ينوب عنه كما إذا كان له مال ولم يجهز من يحج عنه لم ينب الحاكم عنه في تجهيز من يحج عنه وإن بذل له الطاعة ثم رجع الباذل ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز لانه لما لم يجز للمبذول له أن يرد لم يجز للباذل أن يرجع
والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لانه متبرع بالبذل فلا يلزمه الوفاء بما بذل وأما إذا بذل له مالا يدفعه إلى من يحج عنه ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه قبوله كما يلزمه قبول الطاعة
والثاني لا يلزمه وهو الصحيح لانه إيجاب كسب لإيجاب الحج فلم يلزمه كالكسب بالتجارة
____________________
(1/198)
فصل في تنجيز الحج والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى { فاستبقوا الخيرات } ولانه إذا أخره عرضه للفوات ولحوادث الزمان ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة لان فريضة الحج نزلت سنة ست فأخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر من غير عذر فلو لم يجز التأخير لما أخره
فصل فيمن مات وعليه حج ومن وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات نظرت فإن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه ولم يجب القضاء
وقال أبو يحيى البلخي يجب القضاء وأخرج إليه أبو إسحاق نص الشافعي رحمه الله فرجع عنه والدليل على أنه يسقط أنه هلك ما تعلق به الفرض قبل التمكن من الأداء فسقط الفرض كما لو هلك النصاب قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة وإن مات بعد التمكن من الأداء لم يسقط الفرض ويجب قضاؤه من تركته لما روى بريدة قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت يا رسول الله أمي ماتت ولم تحج قال حجي عن أمك ولانه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي ويجب قضاؤه عنه من الميقات لان الحج يجب من الميقات ويجب من رأس المال لانه دين واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي وإن اجتمع الحج ودين الآدمي والتركة لا تتسع لهما ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في آخر الزكاة
فصل في النيابة في الحج وتجوز النيابة في حج الفرض في موضعين أحدهما في حق الميت إذا مات وعليه حج والدليل عليه حديث بريدة
والثاني في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير معتادة كالزمن والشيخ الكبير والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم قالت أينفعه ذلك قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه ولانه أيس من الحج بنفسه فناب عنه غيره كالميت
وفي حج التطوع قولان أحدهما لا يجوز لانه غير مضطر إلى الاستنابة فيه فلم تجز الاستنابة فيه كالصحيح
والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لان كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة
فإن استأجر من يتطوع عنه وقلنا لا يجوز فإن الحج للحاج وهل يستحق الأجرة فيه قولان أحدهما أنه لا يستحق لان الحج قد انعقد له فلا يستحق الأجرة كالصرورة
والثاني أنه يستحق لانه لم يحصل له بهذا الحج منفعة لانه لم يسقط به عنه فرض ولا حصل له به ثواب بخلاف الصرورة فإن هناك قد سقط عنه الفرض
فأما الصحيح الذي يقدر على الثبوت على الراحلة فلا يجوز النيابة عنه في الحج لان الفرض عليه في بدنه فلا ينتقل الفرض إلى غيره إلا في الموضع الذي وردت فيه الرخصة وهو إذا أيس وبقي فيما سواه على الأصل فلا تجوز النيابة عنه فيه
وأما المريض فينظر فيه فإن كان غير مأيوس منه لم يجز أن يحج عنه غيره لانه لم ييأس من فعله بنفسه فلا تجوز النيابة عنه فيه كالصحيح فإن خالف وأحج عن نفسه ثم مات فهل يجزئه عن حجة الإسلام فيه قولان أحدهما يجزئه لانه لما مات تبينا أنه كان مأيوسا منه
والثاني لا يجزئه لانه أحج وهو غير مأيوس منه في الحال فلم يجزه كما لو برأ منه
وإن كان مريضا مأيوسا منه جازت النيابة عنه في الحج لانه مأيوس منه فأشبه الزمن والشيخ الكبير فإن أحج عن نفسه ثم برأ من المرض ففيه طريقان أحدهما أنه كالمسألة التي قبلها وفيها قولان
والثاني أنه يلزمه الإعادة قولا واحدا لانا تبينا الخطأ في الإياس
ويخالف إذا كان غير مأيوس منه فمات لانا لم نتبين الخطأ لانه يجوز أنه لم يكن مأيوسا منه ثم زاد المرض فصار مأيوسا منه ولا يجوز أن يكون مأيوسا منه ثم يصير غير مأيوس منه
فصل يبدأ في الحج عن نفسه ولا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما
قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال أحججت عن نفسك قال لا قال فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة
ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياسا على الحج
قال الشافعي رحمه الله وأكره أن يسمى من لم يحج صرورة لما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في الإسلام
ولا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة وعليه فرضهما ولا يحج ويعتمر عن النذر وعليه فرض حجة الإسلام لان النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام فلا يجوز تقديمهما عليها كحج غيره على حجه فإن أحرم عن غيره وعليه
____________________
(1/199)
فرضه انعقد إحرامه لنفسه لما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أحججت عن نفسك قال لا
قال فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة فإن أحرم بالنفل وعليه فرضه انعقد إحرامه عن الفرض وإن أحرم عن النذر وعليه فرض الإسلام انعقد إحرامه عن فرض الإسلام قياسا على من أحرم عن غيره وعليه فرضه فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن النذر وعليه حجة الإسلام فأحرم عنه انصرف إلى حجة الاسلام لانه نائب عنه ولو أحرم هو عن النذر انصرف إلى حجة الإسلام فكذلك النائب عنه
فصل اجتماع حجة إسلام ونذر فإن كان عليه حجة الإسلام وحجة نذر فاستأجر رجلين يحجان عنه في سنة واحدة فقد نص في الأم أنه يجوز وكان أولى لانه لم يقدم النذر على حجة الإسلام
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لانه لا يحج بنفسه حجتين في سنة وليس بشيء
فصل متى يجوز الإحرام ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج والدليل عليه قوله عز وجل { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } والمراد به وقت إحرام الحج لان الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أنه أراد به وقت الإحرام ولان الإحرام نسك من مناسك الحج فكان مؤقتا كالوقوف والطواف
وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر لما روي عن ابن مسعود وجابر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قالوا أشهر الحج معلومات شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة فإن أحرم بالحج في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة لانها عبادة مؤقتة
فإذا عقدها فى غير وقتها انعقد غيرها من جنسها كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد إحرامه بالنفل
ولا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لان الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة فلا يمكن أداء الحجة الأخرى
فصل التوسع في وقت العمرة وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عمرة في رمضان تعدل حجة
لا يكره فعل عمرتين وأكثر في سنة لما ذكرناه من حديث عائشة رضي الله عنها
فصل صور الحج والعمرة ويجوز إفراد الحج عن العمرة والتمتع بالعمرة إلى الحج والقران بينهما لما روت عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا أهل بالحج والعمرة
فصل الأفضل منها والإفراد والتمتع أفضل من القران وقال المزني القران أفضل والدليل على ما قلناه أن المفرد والمتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله والقارن يقتصر على عمل الحج وحده فكان الإفراد والتمتع أفضل
فصل وفي التمتع والإفراد قولان أحدهما أن التمتع أفضل لما روى ابن
____________________
(1/200)
عمر رضي الله عنهما قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج
والثاني أن الإفراد أفضل لما روى جابر قال أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ليس معه عمرة ولان التمتع يتعلق به وجوب دم فكان الإفراد أفضل منه كالقران وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه يحتمل أنه أراد أمر بالتمتع كما روي أنه رجم ماعزا وأراد أنه أمر برجمه والدليل عليه أن ابن عمر هو الراوي وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج
فصل في صفة الإفراد والتمتع والقران والإفراد أن يحج ثم يعتمر والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه والقران أن يحرم بهما معا فإن أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف جاز ويصير قارنا لما روي أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بالعمرة فحاضت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلي بالحج وصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا تصلي وإن أدخل عليها الحج بعد الطواف لم يجز
واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال لا يجوز لانه قد أخذ في التحلل
ومنهم من قال لا يجوز لانه قد أتى بمقصود العمرة
وإن أحرم بالحج وأدخل عليه بالعمرة ففيه قولان أحدهما يجوز لانه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالحج
والثانى لا يجوز لان أفعال العمرة استحقت بإحرام الحج فلا يعد إحرام العمرة شيئا فإن قلنا إنه يجوز فهل يجوز بعد الوقوف يبنى على العلتين في إدخال الحج على العمرة بعد الطواف فإن قلنا لا يجوز إدخال الحج على العمرة بعد الطواف لانه أخذ في التحلل جاز ههنا بعد الوقوف لانه لم يأخذ في التحلل
وإن قلنا لا يجوز لانه أتى بالمقصود لم يجز ههنا لانه قد أتى بمعظم المقصود وهو الوقوف
فإن أحرم بالعمرة فأفسدها ثم أدخل عليها الحج ففيه وجهان أحدهما ينعقد الحج ويكون فاسدا لانه إدخال حج على عمرة فأشبه إذا كان صحيحا
والثانى لا ينعقد لانه لا يجوز أن يصح لأنه إدخال حج على إحرام فاسد ولا يجوز أن يفسد لان إحرامه لم يصادفه الوطء فلا يجوز إفساده
فصل فيمن يجب عليه الدم ويجب على المتمتع الدم لقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ولا يجب عليه إلا بخمسة شروط
أحدها أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج لم يلزمه دم لانه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج فلم يلزمه دم كالمفرد وإن أحرم بالعمرة فى غير أشهر الحج وأتى بأفعالها في أشهر الحج ففيه قولان قال في القديم و الإملاء يجب عليه دم لان استدامة الإحرام بمنزلة الابتداء ولو ابتدأ الإحرام بالعمرة فى أشهر الحج لزمه الدم فكذلك إذا استدام
وقال في الأم لا يجب عليه الدم لان الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به أتى به في غير أشهر الحج فلم يلزمه دم التمتع كالطواف
والثانى أن يحج من سنته فأما إذا حج في سنة أخرى لم يلزمه الدم لما روى سعيد بن المسيب قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتمرون فى أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا ولان الدم إنما يجب بترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته وإن رجع إلى بلده وعاد فقد أحرم من الميقات
والثالث ألا يعود لإحرام الحج إلى الميقات فأما إذا رجع لاحرام الحج إلى الميقات فأحرم لم يلزمه الدم لان الدم وجب بترك الإحرام من الميقات وهذا لم يترك الميقات فإن أحرم بالحج من جوف مكة ثم رجع إلى الميقات قبل أن يقف ففيه وجهان أحدهما لا دم عليه لانه حصل محرما من الميقات قبل التلبس بنسك فأشبه من جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم وعاد إلى الميقات
والثانى يلزمه لانه وجب عليه الدم بالإحرام من مكة فلا يسقط بالعود إلى الميقات كما لو ترك الميقات وأحرم دونه ثم عاد بعد التلبس بالنسك
والرابع أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وحاضر المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة لان الحاضر في اللغة هو القريب ولا يكون قريبا إلا في مسافة لا تقتصر فيها الصلاة
وفي الخامس وجهان وهو نية التمتع أحدهما أنه لا يحتاج إليها لان الدم يتعلق بترك الإحرام بالحج من الميقات وذلك يوجد من غير نية
والثاني أنه يحتاج إلى نية التمتع لانه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين
فإذا قلنا بهذا ففي وقت النية وجهان أحدهما أنه يحتاج
____________________
(1/201)
أن ينوي عند الإحرام بالعمرة
والثاني يجوز أن ينوي ما لم يفرغ من العمرة بناء على القولين في وقت نية الجمع بين الصلاتين فإن في ذلك قولين أحدهما ينوي في ابتداء الأولى منهما
والثاني ينوي ما لم يفرغ من الأولى
فصل في دم التمتع ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج لقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ولان شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به وفي وقت جوازه قولان أحدهما لا يجوز قبل أن يحرم بالحج لان الذبح قربة تتعلق بالبدن فلا يجوز قبل وجوبها كالصوم والصلاة
والثاني يجوز بعد الفراغ من العمرة لانه حق مال يجب بشيئين فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب
فصل فيمن عجز عن الهدي فإن لم يكن واجدا للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } فأما صوم ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز قبل الإحرام بالحج لانه صوم واجب فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان ويجوز بعد الإحرام بالحج إلى يوم النحر والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم يوم عرفة وهل يجوز صيامها في أيام التشريق على قولين وقد ذكرناهما في كتاب الصيام وأما صوم السبعة ففيه قولان قال في حرملة لا يجوز حتى يرجع إلى أهله لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله
وقال في الإملاء يصوم إذا أخذ في السير خارجا من مكة لقوله تعالى { وسبعة إذا رجعتم } وابتداء الرجوع وإذا ابتدأ بالسير من مكة فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان أحدهما الأفضل
والثاني الأفضل أن يصوم بعد الابتداء بالسير لان تقديم العبادة في أول وقتها أفضل أن يؤخر إلى أن يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف
فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام
وهل يشترط التفريق بينهما فيه وجهان أحدهما أنه ليس بشرط لان التفريق وجب بحكم الوقت وقد فات ( الوقت ) فسقط كالتفريق بين الصلوات
والثاني أنه يشترط وهو المذهب لان ترتيب أحدهما على الآخر لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة فإن قلنا بالوجه الأول صام عشرة أيام كيف شاء وإن قلنا بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء
فصل فيمن دخل في الصوم ثم وجد الهدي فإن دخل في الصوم ثم وجد الهدي فالأفضل أن يهدي ولا يلزمه وقال المزني يلزمه كالمتيمم إذا رأي الماء فإن وجد الهدي بعد الإحرام بالحج وقبل الدخول في الصوم فهو مبني على الأقوال الثلاثة في الكفارات
أحدهما أن الاعتبار بحال الوجوب ففرضه الصوم
والثاني أن الاعتبار بحال الأداء ففرضه الهدي
والثالث الاعتبار بأغلظ الحالين ففرضه الهدي
فصل الدم على القارن ويجب على القارن دم لانه روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما
ولانه إذا وجب على المتمتع لانه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلان يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى
فإن لم يجد الهدي فعليه صوم التمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع على ما بيناه وبالله التوفيق
باب المواقيت ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وميقات أهل الشام الجحفة وميقات أهل نجد قرن وميقات أهل اليمن
____________________
(1/202)
يلملم لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن قال ابن عمر رضي الله عنهما وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يهل أهل اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة وأما أهل العراق فميقاتهم ذات عرق وهل هو منصوص عليه أو مجتهد فيه قال الشافعي رحمه الله في الأم هو غير منصوص عليه ووجهه ما روي عن ابن عمر قال لما فتح المصران أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لاهل نجد قرنا وإنا إذا أردنا أن نأتي قرنا شق علينا قال فانظر واحذوها من طريقكم
قال فحد لهم ذات عرق
ومن أصحابنا من قال هو منصوص عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يهل أهل المشرق من ذات عرق وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لاهل العراق ذات عرق
قال الشافعي رحمه الله ولو أهل أهل المشرق من العقيق كان أحب إلي لانه روي عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل المشرق العقيق ولانه أبعد من ذات عرق فكان أفضل وهذه المواقيت لاهلها ولكل من مر بها من غير أهلها لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المدينة ذا الحليفة لاهل الشام الجحفة ولاهل نجد قرنا ولاهل اليمن يلملم وقال هذه المواقيت لاهلها ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد الحج والعمرة
ومن كان داره دون ذلك فمن حيث ينشىء ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة ومن سلك طريقا لا ميقات فيه من بر أو بحر فميقاته إذا حاذى أقرب المواقيت إليه لان عمر رضي عنه لما اجتهد في ميقات أهل العراق اعتبر ما ذكرناه
فصل فيمن كانت داره فوق الميقات ومن كانت داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات وله أن يحرم من فوق الميقات لما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وفي الأفضل قولان أحدهما أن الأفضل أن يحرم من الميقات لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة ولانه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الإحرام فإذا أحرم من الميقات أمن من ذلك فكان الإحرام من الميقات أفضل
والثانى أن الأفضل أن يحرم من داره لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة ومن كانت داره دون الميقات فميقاته موضعه
ومن جاوز الميقات قاصدا إلى موضع قبل مكة ثم أراد النسك أحرم من موضعه كما إذا دخل مكة لحاجة ثم أراد الإحرام كان ميقاته من مكة ومن كان من أهل مكة أراد أن يحج فميقاته من مكة
وإن أراد العمرة فميقاته من أدنى الحل والأفضل أن يحرم من الجعرانة لان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فإن أخطأها فمن التنعيم لان النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم ومن بلغ الميقات مريدا للنسك لم يجز أن يجاوزه حتى يحرم لما ذكرناه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن جاوزه وأحرم دونه نظرت فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج أو الطريق مخوف لم يعد عليه دم وإن لم يخش شيئا لزمه أن يعود لانه نسك واجب مقدور عليه فلزمه الإتيان به فإن لم يرجع لزمه الدم وإن رجع نظرت فإن كان قبل أن يتلبس بنسك سقط عنه الدم لانه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه فلم يلزمه دم وإن عاد بعدما وقف أو بعد ما طاف لم يسقط عنه الدم لانه عاد بعد فوات الوقت فلم يسقط عنه الدم كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته
وإن نذر الإحرام من موضع فوق الميقات لزمه الإحرام منه فإن جاوزه وأحرم دونه كان كمن جاوز الميقات وأحرم
____________________
(1/203)
دونه في وجوب العود والدم لانه وجب الإحرام منه كما وجب الإحرام من الميقات فكان حكمه حكم الميقات وإن مر كافر بالميقات مريدا للحج فأسلم دونه وأحرم ولم يعد إلى الميقات لزمه الدم وقال المزني رحمه الله لا يلزمه لانه مر بالميقات وليس هو من أهل النسك فأشبه إذا مر به غير مريد للنسك ثم أسلم دونه وأحرم
وهذا لا يصح لانه ترك الإحرام من الميقات وهو مريد للنسك فلزمه الدم كالمسلم وإن مر بالميقات صبي وهو محرم أو عبد وهو محرم فبلغ الصبي أو عتق العبد ففيه قولان أحدهما أنه يجب عليه دم لانه ترك الإحرام بحجة الإسلام من الميقات
والثاني لا يلزمه لانه جاوز الميقات وهو محرم فلم يلزمه دم كالحر البالغ
فإن كان من أهل مكة فخرج لإحرام الحج إلى أدنى الحل وأحرم فإن رجع إلى مكة قبل أن يقف بعرفة لم يلزمه دم وإن لم يرجع حتى وقف وجب عليه دم لانه ترك الإحرام من الميقات فأشبه غير المكي إذا أحرم من دون الميقات وإن خرج من مكة إلى خارج البلد وأحرم من موضع من الحرم ففيه وجهان أحدهما لا يلزمه الدم لان مكة والحرم في الحرمة سواء
والثاني يلزمه وهو الصحيح لان الميقات هو البلد وقد تركه فلزمه الدم
وإن أراد العمرة وأحرم من جوف مكة نظرت فإن خرج إلى أدنى الحل قبل أن يطوف لم يلزمه دم لانه دخل الحرم محرما فأشبه إذا أحرم من الحل وإن طاف وسعى ولم يخرج إلى الحل ففيه قولان أحدهما لا يعتد بالطواف والسعي عن العمرة لانه لم يقصد الحرم بإحرام فلا يعتد بالطواف والسعي
والثاني أنه يعتد بالطواف وعليه دم لترك الميقات كغير المكي إذا جاوز ميقات بلده غير محرم ثم أحرم ودخل مكة وطاف وسعى والله أعلم
باب الإحرام وما يحرم فيه إذا أراد أن يحرم فالمستحب أن يغتسل لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لاحرامه وإن كانت امرأة حائضا أو نفساء اغتسلت للإحرام لما روى القاسم بن محمد أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروها فلتغتسل ثم لتهل ولانه غسل يراد للنسك فاستوى فيه الحائض والطاهر
ومن لم يجد الماء تيمم لانه غسل مشروع فانتقل ( منه ) إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة قال في الأم ويغتسل لسبعة مواطن للإحرام ولدخول مكة والوقوف بعرفة والوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار الثلاث لان هذه المواضع تجتمع لها الناس فاستحب لها الاغتسال ولا يغتسل لرمي جمرة العقبة لان وقته من نصف الليل إلى آخر النهار فلا يجتمع لها الناس في وقت واحد وأضاف إليها في القديم الغسل لطواف الزيارة وطواف الوداع لان الناس يجتمعون لهما ولم يستحبه في الجديد لان وقتهما متسع فلا يتفق اجتماع الناس فيهما
فصل فيما يفعله المحرم ثم يتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين ونعلين لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين والمستحب أن يكون ذلك بياضا لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم
والمستحب أن يتطيب في بدنه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولا يطيب ثوبه لانه ربما نزعه للغسل فيطرحه على بدنه فتجب به الفدية
والمستحب أن يصلي ركعتين لما روى ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ذي الحليفة ركعتين ثم أحرم
وفي الأفضل قولان قال في القديم الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة
وقال في الأم الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا وإذا ابتدأ بالسير ( إن ) كان راجلا لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج ولانه
____________________
(1/204)
إذا لبى مع السير وافق قوله فعله وإذا لبى في مصلاه لم يوافق قوله فعله فكان ما قلناه أولى
وينوي الإحرام ولا يصح الإحرام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى ولانه عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم
ويلبي لنقل الخلف عن السلف فإن قتصر على النية ولم يلب أجزأه
وقال أبو إسحاق وأبو عبد الله الزبيري لا ينعقد إلا بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة إلا بالنية والتكبيرة
والمذهب الأول لانها عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب النطق في أولها كالصوم وله أن يعين ما يحرم به من الحج والعمرة لان النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فإن لبي بنسك ونوى غيره انعقد ما نواه لان النية في القلب وله أن يحرم إحراما مبهما لما روى أبو موسى قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف أهللت قال قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت وفي الأفضل قولان قال في الأم التعيين أفضل لانه إذا عين عرف ما دخل فيه والثاني أن الإبهام أفضل لانه أحوط فإنه ربما عرض مرض أو إحصار فيصرفه إلى ما هو أسهل عليه فإن عين انعقد بما عينه والأفضل ألا يذكر ما أحرم به في تلبيته على المنصوص لما روى نافع قال سئل ابن عمر أيسمي أحدنا حجا أو عمرة فقال أتنبئون الله بما في قلوبكم إنما هي نية أحدكم
ومن أصحابنا من قال الأفضل أن ينطق به لما روى أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحجة وعمرة ولانه إذا نطق به كان أبعد من السهو فإن أبهم الإحرام جاز أن يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لانه يصلح لهما فصرف إلى ما شاء منهما
فإن قال إهلالا كإهلال فلان انعقد إحرامه بما عقد به فلان إحرامه فإن مات الرجل الذي علق إهلاله بإهلاله أو جن ولم يعلم ما أهل به لزمه أن يقرن ليسقط ما لزمه بيقين فإن بان أن فلانا لم يحرم انعقد إحراما مطلقا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لانه عقد الإحرام وإنما علق عين النسك على إحرام فلان فإذا سقط إحرام فلان بقي إحرامه مطلقا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة
وإن أحرم بحجتين أو بعمرتين لم ينعقد الإحرام بهما لانه لا يمكن المضي فيهما وينعقد بإحداهما لانه يمكن المضي في إحداهما
قال في الأم إذا استأجره رجلان للحج فأحرم بهما انعقد إحرامه عن نفسه لانه لا يمكن الجمع بينهما ولا تقديم أحدهما على الآخر فتعارضا وسقطا وبقي إحرام مطلق فانعقد له
قال ولو استأجره رجل ليحج عنه فأحرم عنه وعن نفسه انعقد الإحرام عن نفسه لانه تعارض التعيينان فسقطا وبقي مطلق الإحرام فانعقد له
وإن أحرم بنسك معين ثم نسيه قبل أن يأتي بنسك ففيه قولان قال في الأم يلزمه أن يقرن لانه شك لحقه بعد الدخول في العبادة فيبني فيه على اليقين كما لو شك في عدد ركعات الصلاة
وقال في القديم يتحرى لانه يمكنه أن يدرك بالتحري فيتحرى فيه كالقبلة
فإذا قلنا يقرن لزمه أن ينوي القران فإذا قرن أجزأه ذلك عن الحج وهل يجزئه عن العمرة إن قلنا يجوز إدخال العمرة على الحج أجزأه عن العمرة أيضا وإن قلنا لا يجوز ففيه وجهان أحدهما لا يجزئه لانه يجوز أن يكون أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة فلم يصح وإذا شك لم يسقط الفرض
والثاني أنه يجزئه لان العمرة إنما لا يجوز إدخالها على الحج من غير حاجة وههنا به حاجة إلى إدخال العمرة على الحج
والمذهب الأول وإن قلنا إنه يجزئه عن العمرة لزمه الدم لانه قارن وإن قلنا لا يجزئه عن العمرة فهل يلزمه دم فيه وجهان أحدهما لا دم عليه وهو المذهب لانا لم نحكم له بالقران فلا يلزمه دم
والثاني يلزمه دم لجواز أن يكون قارنا فوجب عليه الدم احتياطا
وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم فإن نوى القران وعاد قبل طواف القدوم أجزأه الحج لانه إن كان حاجا أو قارنا فقد انعقد إحرامه بالحج وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة قبل طواف العمرة فصح حجه ولا يجزئه ( عن ) العمرة لان إدخال العمرة على الحج لا يصح في أحد
____________________
(1/205)
القولين ويصح في الآخر ما لم يقف بعرفة فإذا وقف بعرفة لم يصح فلم يجزه وإن نسي بعد طواف القدوم وقبل الوقوف فإن قلنا إن إدخال العمرة على الحج لا يجوز لم يصح له الحج ولا العمرة لانه يحتمل أنه كان معتمرا فلا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف فلم يسقط فرض الحج مع الشك ولا تصح العمرة لانه يحتمل ألا يكون أحرم بها أو أحرم بها على حج فلا يصح
وإن قلنا إنه يجوز إدخال العمرة على الحج لم يصح له الحج لجواز أن يكون أحرم بالعمرة وطاف لها فلا يجوز أن يدخل الحج عليها وتصح له العمرة لانه أدخلها على الحج قبل الوقوف فإن أراد أن يجزئه الحج طاف وسعى لعمرته ويحلق ثم يحرم بالحج ويجزئه لانه إن كان معتمرا فقد حل من العمرة وأحرم بالحج
وإن كان حاجا أو قارنا فلا يضره تجديد الإحرام بالحج ويجب عليه دم واحد لانه إن كان معتمرا فقد حلق في وقته وصار متمتعا فعليه دم التمتع دون دم الحلاق وإن كان حاجا فقد حلق في غير وقته فعليه دم الحلاق دون دم التمتع
وإن كان قارنا فعليه دم الحلاق ودم القران فلا يجب عليه ( دمان ) بالشك ومن أصحابنا من قال يجب عليه دمان احتياطا وليس بشيء
فصل في الإكثار من التلبية ويستحب أن يكثر من التلبية ويلبى عند اجتماع الرفاق وفي كل صعود وهبوط وفي إدبار الصلوات وإقبال الليل والنهار لما روى جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا ( رأى ) ركبا أو صعد أكمة أو هبط واديا وفي إدبار المكتوبة وآخر الليل ولان في هذه المواضع ترفع الأصوات ويكثر الضجيج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الحج العج والثج
ويستحب في مسجد مكة ومنى وعرفات
وفيما عداها من المساجد قولان قال في القديم لا يلبى
وقال في الجديد يلبي لانه مسجد بني للصلاة فاستحب فيه التليبة كالمساجد الثلاثة
وفي حال الطواف قولان قال في القديم يلبى ويخفض صوته
وقال في الأم لا يلبي لان للطواف ذكرا يختص به فكان الاشتغال به أولى
ويستحب أن يرفع صوته بالتلبية لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل عليه السلام
فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحاج وإن كانت امرأة لم ترفع الصوت بالتلبية لانه يخاف عليها الافتتان
فصل في صفة التلبية والتلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لما روى ابن عمر
____________________
(1/206)
رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك قال الشافعي رحمه الله فإن زاد على هذا فلا بأس لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغبة إليك والعمل
وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هم فيه فقال لبيك إن العيش عيش الآخرة
والمستحب إذا فرغ من التلبية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لانه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم كالأذان ثم يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار ثم يدعو بما أحب
فصل فيما يحرم على المحرم وإذا أحرم الرجل حرم عليه حلق الرأس لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ويحرم عليه حلق شعر سائر البدن لانه حلق يتنظف به ويترفه به فلم يجز كحلق الرأس ويجب به الفدية لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولما روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلك أذاك هوام رأسك فقلت نعم يا رسول الله فقال احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة ويجوز له أن يحلق شعر الحلال لان نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه كما لو أراد أن يعممه أو يطيبه
فصل ويحرم عليه أن يقلم أظفاره لانه جزء ينمى وفي قطعه ترفيه وتنظيف فمنع الإحرام منه كحلق الشعر ويجب به الفدية قياسا على الحلق
فصل ويحرم عليه أن يستر رأسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره لا تخمر رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وتجب به الفدية لانه فعل محرم في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق
ويجوز أن يحمل على رأسه مكتلا لانه لا يقصد به الستر فلم يمنع منه كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في عيبة المتاع حين لم يقصد حمل المصحف
ويجوز أن يترك يده على رأسه لانه يحتاج إلى وضع اليد على الرأس في المسح فعفي عنه ويحرم عليه لبس القميص لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف
____________________
(1/207)
إلا ألا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران وتجب به الفدية لانه فعل محظور في الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ولا فرق بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق
ولا فرق بين أن يكون مخيطا بالإبرة أو ملصقا بعضه إلى بعض لانه في معنى المخيط والعباءة والدراعة كالقميص فيما ذكرناه لانه في معنى القميص
ويحرم عليه لبس السراويل لحديث ابن عمر رضي الله عنه وتجب به الفدية لما ذكرناه من المعنى والتبان والران كالسراويل فيما ذكرناه لانه في معنى السراويل وإن شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز لانهما كالسراويل وما على الساقين كالبابكين ويجوز أن يعقد عليه إزاره لان فيه مصلحة له وهو أن يثبت عليه ولا يعقد الرداء عليه لانه لا حاجة به إليه وله أن يغرز طرفيه في إزاره وإن جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر به جاز وإن اتزر وشد فوقه تكة جاز
قال في الإملاء وإن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز لانه يصير كالمخيط
وإن لم يجد إزارا جاز أن يلبس السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يجد إزارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين فإن لم يجد رداء لم يلبس القميص لانه يمكنه أن يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل فإن لبس السراويل ثم وجد الإزار لزمه خلعه
ويحرم عليه لبس الخفين للخبر وتجب به الفدية لما ذكرناه من القياس على الحلق فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فإن لبس الخف مقطوعا من أسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص وتجب عليه الفدية
ومن أصحابنا من قال يجوز ولا فدية عليه لانه قد صار كالنعل بدليل أنه لا يجوز المسح عليه وهذا خلاف المنصوص وخلاف السنة وما ذكره من المسح لا يصح لانه وإن لم يجز المسح إلا أنه يترفه في دفع الحر والبرد والأذى ولانه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين وتجب به الفدية لانه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف
ولا يحرم عليه ستر الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي خر من بعيره ولا تخمروا رأسه فخص الراس بالنهي ويحرم على المرأة ستر الوجه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف ويجب به الفدية وقياسا على الحلق ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس إلا بستره فعفى عن ستره فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت على وجهها شيئا لا يباشر الوجه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا ولان الوجه من المرأة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس بما لا يقع عليه فكذلك المرأة في الوجه ( والكف ) ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولان جميع يدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه
وهل يجوز لها لبس القفازين فيه قولان أحدهما أنه يجوز لانه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط فجاز لها ستره بالمخيط كالرجل
والثاني لا يجوز للخبر ولانه عضو ليس بعورة منها فتعلق به حرمة الإحرام في اللبس كالوجه
فصل ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال ولا
____________________
(1/208)
تلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران وتجب به الفدية قياسا على الحلق ولا يلبس ثوبا مبخرا بالطيب ولا ثوبا مصبوغا بالطيب ويجب به الفدية قياسا على ما مسه الورس والزعفران
وإن علق بخفه طيب وجبت به الفدية لانه ملبوس فهو كالثوب ويحرم عليه استعمال الطيب في بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به فإن استعمله في شىء من ذلك لزمته الفدية لانه إذا وجب ذلك فيما يستعمله بالثياب فلان يجب فيما يستعمله ببدنه أولى وإن كان الطيب في طعام نظرت فإن ظهر ذلك في طعمه أو رائحته لم يجز أكله وتجب به الفدية وإن ظهر ذلك في لونه وصبغ به اللسان من غير طعم ولا رائحة فقد قال في المختصر الأوسط من الحج لا يجوز وقال في الأم و الإملاء يجوز
قال أبو إسحاق يجوز قولا واحدا وتأول قوله في الأوسط على ما إذا كانت له رائحة ومنهم من قال فيه قولان أحدهما لا يجوز لان اللون إحدى صفات الطيب فمنع من استعماله كالطعم والرائحة
والثاني يجوز وهو الصحيح لان الطيب بالطعم والرائحة
فصل في تعيين الطيب والطيب كل ما يتطيب به ويتخذ منه الطيب كالمسك والكفور والعنبر والصندل والورد والياسمين والورس والزعفران
وفي الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس قولان أحدهما أنه يجوز شمها لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن المحرم أيدخل البستان قال نعم ويشم الريحان
ولان هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبة فإذا جفت لم يكن لها رائحة
والثاني لا يجوز لانه يراد للرائحة فهو كالورد والزعفران وأما البنفسج فقد قال الشافعي رحمه الله ليس بطيب فمن أصحابنا من قال هو طيب قولا واحدا لانه يشم رائحته ويتخذ منه الدهن فهو كالورد وتأول قول الشافعي على المربب بالسكر
ومنهم من قال ليس بطيب قولا واحدا لانه يراد للتداوي ولا يتخذ من يابسه طيب
ومنهم من قال هو كالنرجس والريحان وفيه قولان لانه يشم رطبه ولا يتخذ من يابسه طيب وأما الأترج فإنه ليس بطيب لانه يراد للأكل فهو كالتفاح والسفرجل وأما العصفر فليس بطيب لقوله صلى الله عليه وسلم وليلبسن ما أحببن من المعصفر ولانه يراد للون فهو كالنيل
والحناء ليس بطيب لما روي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يختضبن بالحناء وهن محرمات ولانه يراد للون فهو كالعصفر ولا يجوز أن يستعمل إلا دهان المطيبة
____________________
(1/209)
كدهن الورد والزنبق ودهن البان المنشوش وتجب به الفدية لانه يراد للرائحة وأما غير المطيب كالزيت والشيرج والبان غير المنشوش فإنه يجوز استعماله في غير الرأس واللحية لانه ليس فيه طيب ولا تزيين ويحرم استعماله في شعر الرأس واللحية لانه يرجل الشعر ويربيه وتجب به الفدية
فإن استعمله في رأسه وهو أصلع جاز له لانه ليس فيه تزيين وإن استعمله في رأسه وهو محلوق لم يجز لانه يحسن الشعر إذا نبت
ويجوز أن يجلس عند العطار وفي موضع يبخر لان في المنع من ذلك مشقة ولان ذلك ليس بطيب مقصود والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون في موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهي تجمر فلا يكره ذلك لان الجلوس عندها قربة فلا يستحب تركها لامر مباح
وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة والمسك في نافجة ولا فدية عليه لان دونه حائلا
وإن مس طيبا فعبقت به رائحته ففيه قولان أحدهما لا فدية عليه لانه رائحة عن مجاورة فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت رائحته بجيفة بقربه
والثاني يجب لان المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك وإن كان عليه طيب فأراد غسله فالمستحب أن يولي غيره غسله حتى لا يباشره بيده فإن غسله بنفسه جاز لان غسله ترك له فلا يتعلق به تحريم كما لو دخل دار غيره بغير إذنه فأراد أن يخرج فإن حصل عليه طيب ولا يقدر على إزالته بغير الماء وهو محدث ومعه من الماء ما لا يكفي الطيب والوضوء غسل به الطيب لان الوضوء له بدل وغسل الطيب لا بدل له
وإن كان عليه نجاسة استعمل الماء في إزالة النجاسة لان النجاسة تمنع صحة الصلاة والطيب لا يمنع صحة الحج
فصل في الزواج للمحرم ويحرم عليه أن يتزوج وأن يزوج غيره بالوكالة والولاية الخاصة فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل لما روى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينكح المحرم ولا يخطب ولا ينكح ولانه عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة
وهل يجوز للإمام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم فيه وجهان أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة
والثاني يجوز لان الولاية العامة آكد والدليل عليه أنه يملك بالولاية العامة أن يزوج المسلمة والكافرة ولا يملك ذلك بالولاية الخاصة
ويجوز أن يشهد في النكاح وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز لانه ركن في العقد فلم يجز أن يكون محرما كالولي
والمذهب أنه يجوز لان العقد هو الإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك
ويكره له الخطبة لان النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له
ويجوز أن يراجع الزوجة في الإحرام لان الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنه يصح من غير ولي ولا شهود ويصح من العبد بغير إذن المولى فلم يمنع الإحرام منه كالبقاء على العقد
فصل ويحرم عليه الوطء في الفرج لقوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } قال ابن عباس الرفث الجماع وتجب به الكفارة لما روي عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنهم أوجبوا فيه الكفارة ولانه إذا وجبت الكفارة في الحلق فلأن تجب في الجماع أولى
فصل ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج لانه إذا حرم عليه النكاح فلأن تحرم المباشرة وهي أدعى إلى الوطء أولى وتجب به الكفارة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال من قبل امرأة وهو محرم فليهرق دما ولانه فعل محرم في الإحرام فوجبت به الكفارة كالجماع
فصل في حرمة الصيد على المحرم ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير ولا يجوز له أخذه لقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }
____________________
(1/210)
فإن أخذه لم يملكه بالأخذ لان ما منع أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير إذنه كما لو غصب مال غيره وإن كان الصيد لآدمي وجب رده إلى مالكه وإن كان من المباح وجب إرساله في موضع يمتنع على من يأخذه لان ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده إلى مالكه كالمغصوب فإن هلك عنده وجب عليه الجزاء لانه مال أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي فإن خلص صيدا من سبع فداواه فمات في يده لم يضمنه لانه قصد الصلاح
قال الشافعي رحمه الله ولو قيل يضمن لانه تلف في يده كان محتملا ويحرم عليه قتله فإن قتله عمدا وجب عليه الجزاء لقوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فإن قتله خطأ وجب عليه الجزاء لان ما ضمن عمده بالمال ضمن خطؤه كمال الآدمي ولانه كفارة تجب بالقتل فستوى فيها الخطأ والعمد ككفارة القتل فإن كان الصيد مملوكا لآدمي وجب عليه الجزاء والقيمة
وقال المزني لا يجب الجزاء في الصيد المملوك لانه يؤدي إلى إيجاب بدلين عن متلف واحد والدليل على أنه يجب أنه كفارة تجب بالقتل فوجبت بقتل المملوك
ككفارة القتل
ويحرم عليه جرحه لان ما منع من إتلافه لحق الغير منع من إتلاف أجزائه كالآدمي
وإن أتلف جزءا منه ضمنه بالجزاء لان ما ضمن جميعه بالبدل ضمن أجزاؤه كالآدمي
ويحرم عليه تنفير الصيد لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة لا ينفر صيدها وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام فإن نفره فوقع في بئر فهلك أو نهشته حية أو أكله سبع وجب عليه الضمان لما روي أن عمر رضي الله عنه دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه طير فخاف أن ينجسه فطيره فنهسته حية فقال طير طردته حتى نهشته الحية فسأل من كان معه أن يحكموا عليه فحكموا عليه بشاة ولانه هلك بسبب من جهته فأشبه إذا حفر له بئرا أو نصب له أحبولة فهلك بها
ويحرم عليه أن يعين على قتله بدلالة أو إعارة آلة لان ما حرم قتله حرمت الإعانة على قتله كالآدمي
وإن أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة فقتل لم يلزمه الجزاء لان ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير
ويحرم عليه أكل ما صيد له لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيد حلال لكم ما لم تصيدوا أو يصد لكم ويحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة لما روى عبد الله بن أبي قتادة قال كان أبو قتادة في قوم محرمين وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطا فضربه حتى صرعه ثم ذبحه وأكل هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل أشار إليه أحد منكم قالوا لا قال فلم ير بأكله بأسا فإن أكل ما صيد له أو أعان على قتله فهل يجب عليه الجزاء فيه قولان أحدهما يجب لانه فعل محرم بحكم الإحرام فوجبت فيه الكفارة كقتل الصيد
والثاني لا يجب لانه ليس بنام ولا بآيل إلى النماء فلا يضمن بالجزاء كالشجر اليابس والبيض المذر فان ذبح صيدا حرم عليه أكله لانه إذا حرم عليه ما صيد له أو دل عليه فلأن يحرم ما ذبحه أولى
وهل يحرم على غيره فيه قولان قال في الجديد يحرم لان ما حرم على الذابح أكله حرم على غيره كذبيحة المجوسي
وقال في القديم لا يحرم لان من حل بذكاته غير الصيد حل بذكاته الصيد كالحلال فإن أكل ما ذبحه لم يضمن بالأكل لان ما ضمنه بالقتل لم يضمنه بالأكل كشاة الغير
ويحرم عليه أن يشتري الصيد أو يتهبه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال
إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ولانه سبب يتملك به الصيد فلم يملك به مع الإحرام كالاصطياد فإن مات من يرثه وله صيد ففيه وجهان أحدهما لا يرثه لانه سبب للملك فلا يملك به الصيد كالبيع والهبة
والثاني أنه يرثه لانه يدخل في ملكه بغير قصده ويملك به الصبي والمجنون فجاز أن يملك به المحرم الصيد
وإن كان في ملكه صيد فأحرم ففيه قولان أحدهما لا يزول ملكه عنه لانه ملك فلا يزول بالإحرام كملك البضع
والثاني يزول عنه لانه معنى لا يراد للبقاء يحرم على المحرم ابتداؤه فحرمت استدامته كلبس المخيط فإن قلنا إنه لا يزول ملكه جاز له بيعه وهبته ولا يجوز له
____________________
(1/211)
قتله فإن قتله وجب عليه الجزاء لان الجزاء كفارة تجب لله تعالى فجاز أن تجب على مالكه ككفارة القتل
وإن قلنا يزول ملكه وجب عليه إرساله فإن لم يرسله حتى مات ضمنه بالجزاء وإن لم يرسله حتى تحلل ففيه وجهان أحدهما يعود إلى ملكه ويسقط عنه فرض الإرسال لان علة زوال الملك هو الإحرام وقد زال فعاد الملك كالعصير إذا صار خمرا ثم صار خلا
والثاني أنه لا يعود إلى ملكه ويلزمه إرساله لان يده متعدية فوجب أن يزيلها
فصل في الصيد غير المأكول وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولدا مما يؤكل ومما لا يؤكل كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل فحكمه حكم ما يؤكل في تحريم صيده ووجوب الجزاء لانه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلب جهة التحريم في أكله
وإن كان حيوانا لا يؤكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام وهذا لا يكون إلا فيما يؤكل
وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والجرجس والزنبور فالمستحب أن يقتله لانه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره
وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازي فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لما فيه من المضرة
وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان فإنه يكره قتله ولا يحرم
فصل في بيض الصيد وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه وإذا كسره وجب عليه الجزاء وقال المزني لا جزاء عليه لانه لا روح فيه والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه ولانه خارج من الصيد يخلق منه مثله فضمن بالجزاء كالفرخ وإن كسر بيضا لم يحل له أكله وهل يحل لغيره فيه قولان كالصيد وقال شيخنا القاضي أبو الطيب في تحريمه على غيره نظر لانه لا روح فيه فلا يحتاج إلى ذكاة وإن كسر بيضا مذرا لم يضمنه من غير النعامة لانه لا قيمة له ويضمنه من النعامة لان لقشر بيض النعامة قيمة
فصل في أمور معفو عنها وإن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شد رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للمجاعة لم يحرم عليه وتجب عليه الكفارة لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولحديث كعب بن عجرة فثبت الحلق بالنص وقسنا ما سواه عليه لانه في معناه
وإن نبت في عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس إلى عينه فغطاها فقطع ما غطى العين أو انكسر شيء من ظفره فقطع ما انكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعا عن نفسه جاز ولا كفارة عليه لان الذي تعلق به المنع ألجأه إلى إتلافه ويخالف إذا آذاه القمل في رأسه فحلق الشعر لان الأذى لم يكن من جهة الشعر الذي تعلق به المنع وإنما كان من غيره
وإن افترش الجراد في طريقه فقتله ففيه قولان أحدهما يجب عليه الجزاء لانه قتله لمنفعة نفسه فأشبه إذا قتله للمجاعة
والثاني لا يجب لان الجراد ألجأه إلى قتله فأشبه إذا صال عليه الصيد فقتله للدفع وإن باض صيد على فراشه فنقله فلم يحضنه الصيد فقد حكى
____________________
(1/212)
الشافعي رحمه الله عن عطاء أنه لا يلزمه ضمانه لانه مضطر إلى ذلك قال ويحتمل عندى أن يضمن لانه أتلفه باختياره فحصل فيه قولان كالجراد وإن كشط من بدنه جلدا وعليه شعر أو قطع كفه وفيه أظفار لم تلزمه فدية لانه تابع لمحله فسقط حكمه تبعا لمحله كالأطراف مع النفس في قتل الآدمي
فصل إذا فعل ما يحرم عليه ناسيا وإن لبس أو تطيب أو دهن رأسه أو لحيته جاهلا بالتحريم أو ناسيا للإحرام لم تلزمه الفدية لما روى أبو يعلى بن أمية قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجرانة وعليه جبة وهو مصفر لحيته ورأسه فقال يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك ولم يأمر بالفدية فدل على أن الجاهل لا فدية عليه
فإذا ثبت هذا في الجاهل ثبت في الناسي لان الناسي يفعل وهو يجهل تحريمه عليه فإن ذكر ما فعله ناسيا أو علم ما فعله جاهلا نزع اللباس وأزال الطيب لحديث يعلى بن أمية فإن لم يقدر على إزالة الطيب لم تلزمه الفدية لانه مضطر إلى تركه فلم تلزمه فدية كما لو أكره على التطيب
وإن قدر على إزالته واستدام لزمته الفدية لانه تطيب من غير عذر فأشبه إذا ابتدأ به وهو عالم بالتحريم وإن مس طيبا وهو يظن أنه يابس وكان رطبا ففيه قولان أحدهما تلزمه الفدية لانه قصد مس الطيب
والثاني لا تلزمه لانه جهل تحريمه فأشبه إذا جهل تحريم الطيب في الإحرام فإن حلق الشعر أو قلم الظفر ناسيا أو جاهلا بالتحريم فالمنصوص أنه تجب عليه الفدية لانه إتلاف فاستوى في ضمانه العمد والسهو كإتلاف مال الآدمي وفيه قول آخر مخرج أنه لا تجب لانه ترفه وزينة فاختلف في فديته السهو والعمد كالطيب
وإن قتل صيدا ناسيا أو جاهلا بالتحريم وجب عليه الجزاء لان ضمانه ضمان المال فاستوى فيه السهو والعمد والعلم والجهل كضمان مال الآدميين
وإن أحرم ثم جن وقتل صيدا ففيه قولان أحدهما يجب عليه الجزاء لما ذكرناه
والثاني لا يجب لان المنع من قتل الصيد تعبد والمجنون ليس من أهل التعبد فلا يلزمه ضمانه
ومن أصحابنا من نقل هذين القولين إلى الناسي وليس بشيء
وإن جامع ناسيا أو جاهلا بالتحريم ففيه قولان قال في الجديد لا يفسد حجه ولا يلزمه شيء لانها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فاختلف في الوطء فيها العمد والسهو كالصوم
وقال في القديم يفسد حجه وتلزمه الكفارة لانه معنى يتعلق به قضاء الحج فاستوى فيه العمد والسهو كالفوات
وإن حلق رجل رأسه فإن كان بإذنه وجبت عليه الفدية لانه أزال شعره بسبب لا عذر له فيه فأشبه إذا حلقه بنفسه وإن حلقه وهو نائم أو مكره وجبت الفدية وعلى من تجب فيه قولان أحدهما تجب على الحالق لانه أمانة عنده فإذا أتلفه غيره وجب الضمان على من أتلفه كالوديعة إذا أتلفها غاصب
والثاني تجب على المحلوق لانه هو الذى ترفه بالحلق فكانت الفدية عليه
فإذا قلنا تجب الفدية على الحالق فللمحلوق مطالبته بإخراجها لانها تجب بسببه فإن مات الحالق أو أعسر بالفدية لم تجب ( على المحلوق ) الفدية
وإن قلنا تجب على المحلوق أخذها من الحالق وأخرج وإن افتدى المحلوق نظرت فإن افتدى بالمال رجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع فإن أداها بالصوم لم يرجع عليه لانه لا يمكن الرجوع به
ومن أصحابنا من قال يرجع بثلاثة أمداد لان صوم كل يوم مقدر بمد
وإن حلق رأسه وهو ساكت ففيه طريقان أحدهما أنه كالنائم والمكره لان السكوت لا يجري مجرى الإذن والدليل عليه هو أنه لو أتلف رجل ماله وسكت لم يكن سكوته إذنا في إتلافه
والثاني أنه بمنزلة ما لو أذن فيه لانه يلزمه حفظه والمنع من حلقه فإذا لم يفعل جعل سكوته كالإذن فيه كالمودع إذا سكت عن إتلاف الوديعة
فصل فيما يكره للمحرم ويكره للمحرم أن يحك شعره بأظفاره حتى لا ينتثر شعره فإن انتثر منه شعره لزمته الفدية ويكره أن يفلي رأسه ولحيته فإن فلى وقتل قملة استحب له أن يفديها
قال الشافعي رحمه الله وأي شيء فداها به فهو خير منها فإن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه لم يكره أن ينحيه لانه ألجأه إليه ويكره أن يكتحل بما لا طيب فيه لانه زينة والحاج أشعث أغبر فإن احتاج إليه لم يكره لانه إذا لم يكره ما يحرم من الحلق والطيب للحاجة فلان لا يكره ما لا يحرم أولى
ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى أبو أيوب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر لما روى
____________________
(1/213)
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره اغسلوه بماء وسدر ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم
ويجوز أن يفتصد أيضا كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائرا ونازلا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فإذا ثبت جواز ذلك ( بالحرم ) نازلا وجب أن يجوز سائرا قياسا عليه ويكره أن يلبس الثياب المصبغة لما روي أن عمر رضي الله عنه رأي على طلحة رضي الله عنه ثوبين مصبوغين وهو حرام فقال أيها الرهط أنتم أئمة يقتدى بكم ولو أن جاهلا رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئا
ويكره أن يحمل بازا أو كلبا معلما لانه ينفر به الصيد وربما انفلت فقتل صيدا وينبغي أن ينزه إحرامه عن الخصومة والشتم والكلام القبيح لقوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } قال ابن عباس الفسوق المنابزة بالألقاب وتقول لاخيك يا ظالم يا فاسق والجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه وبالله التوفيق
باب ما يجب بمحظورات الإحرام من الكفارة وغيرها إذا حلق المحرم رأسه فكفارته أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولحديث كعب بن عجرة
وإن حلق ثلاث شعرات كانت كفارته ما ذكرناه في حلق الرأس لانه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو حلق جميع رأسه
وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه وقال أبو القاسم الأنماطي يجب عليه فديتان لان شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى أنه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق بشعر البدن
والمذهب الأول لانهما وإن اختلفا في النسك إلا أن الجميع جنس واحد فأجزأه لهما فدية واحدة كما لو غطى رأسه ولبس القميص والسراويل
وإن حلق شعرة أو شعرتين ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجب لكل شعرة ثلث دم لانه إذا وجب فى ثلاث شعرات دم وجب في كل شعرة ثلثه
والثاني يجب لكل شعرة درهم لان إخراج ثلث الدم يشق فعدل إلى قيمته وكانت قيمة الشاة ثلاثة دراهم فوجب ثلثها
والثالث مد لان الله تعالى عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام فيجب أن يكون ههنا مثله وأقل ما يجب من الطعام مد فوجب ذلك فإن قلم أظفاره أو ثلاثة أظفار وجب عليه ما وجب في الحلق وإن قلم ظفرا أو ظفرين وجب فيهما ما يجب في الشعرة أو الشعرتين لانه في معناهما
فصل في أمور يجب بها الكفارة وإن تطيب أو لبس المخيط في شيء من بدنه أو غطى رأسه أو شيئا منه أو دهن رأسه أو لحيته وجب عليه ما يجب في حلق الشعر لانه ترفه وزينة فهو كالحلق وإن تطيب ولبس وجب لكل واحد منهما كفارة لانهما جنسان مختلفان وإن لبس ثوبا مطيبا وجبت كفارة واحدة لان الطيب تابع للثوب فدخل في ضمانه وإن لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب في أوقات متفرقة ففيه قولان أحدهما تتداخل لانها جنس واحد فأشبه إذا كانت في وقت واحد
والثاني لا تتداخل لانها في أوقات مختلفة فكان لكل وقت من ذلك حكم نفسه
وإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات فهي على القولين إن قلنا يتداخل لزمه دم وإن قلنا لا يتداخل وجب لكل شعرة مد وإن حلق تسع شعرات في ثلاثة أوقات فعلى القولين
إن قلنا لا تتداخل وجب ثلاثة دماء وإن قلنا تتداخل لزمه دم واحد
____________________
(1/214)
فصل فيمن وطىء قبل التحلل الأول وإن وطىء في العمرة أو في الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه ويجب عليه أن يمضي في فاسده ثم يقضي لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا ذلك وهل يجب القضاء على الفور أم لا فيه وجهان أحدهما أنه على الفور وهو ظاهر النص لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا يقضي من قابل
والثاني أنه على التراخي لان الأداء على التراخي فكذلك القضاء وهذا لا يصح لان القضاء بدل عما أفسده من الأداء وذلك واجب على الفور فوجب أن يكون القضاء مثله ويجب الإحرام في القضاء من حيث أحرم في الأداء لانه قد تعين ذلك بالدخول فيه فإذا أفسده وجب قضاؤه كحج التطوع فإن سلك طريقا آخر لزمه أن يحرم من مقدار مسافة الإحرام في الأداء وإن كان قارنا فقضاه بالإفراد جاز لان الإفراد أفضل من القران ولا يسقط عنه دم القران لان ذلك دم وجب عليه فلا يسقط عنه بالإفساد كدم الطيب
وفي نفقة المرأة في القضاء وجهان أحدهما في مالها كنفقة الأداء
والثاني تجب على الزوج لانها غرامة تتعلق بالوطء فكانت على الزوج كالكفارة وفي ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان أحدهما يجب على الزوج لما ذكرناه
والثاني يجب عليها لان الغسل يجب للصلاة فكان ثمن الماء عليها
وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطء فيه وجهان أحدهما يجب لما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا يفترقان ولان اجتماعهما في ذلك الوقت يدعو إلى الوطء فمنع منه
والثاني أنه لا يجب وهو ظاهر النص كما لا يجب في سائر الطريق ويجب عليه بدنة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال على كل واحد منهما بدنة فإن لم يجد فبقرة لان البقرة كالبدنة لانها تجزىء في الأضحية عن سبعة فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم فإن لم يجد قوم البدنة دراهم والدراهم طعاما فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما وقال أبو إسحاق فيه قول آخر أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة قياسا على فدية الأذى
فصل في وطء الصبى والعبد وإن كان المحرم صبيا فوطىء عامدا بنيت على القولين فإن قلنا إن عمده خطأ فهو كالناسي وقد بيناه
فإن قلنا إن عمده عمد فسد نسكه ووجبت الكفارة وعلى من تجب فيه قولان أحدهما في ماله
والثاني على الولي وقد بيناه في أول الحج
وهل يجب عليه القضاء فيه قولان أحدهما لا يجب لانها عبادة تتعلق بالبدن فلا تجب على الصبي كالصوم والصلاة
والثاني يجب لان من فسد الحج بوطئه وجب عليه القضاء كالبالغ
فإن قلنا يجب فهل يصح منه في حال الصغر فيه قولان أحدهما لا يصح لانه حج واجب فلا يصح من الصبي كحجة الإسلام
والثاني يصح منه أداؤه فصح منه قضاؤه كالبالغ
وإن وطىء العبد في إحرامه عامدا فسد حجه ويجب عليه القضاء
ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لانه ليس من أهل فرض الحج وهذا خطأ لانه يلزمه الحج بالنذر فلزمه القضاء بالإفساد كالحر
وهل يصح منه القضاء في حال الرق على القولين على ما ذكرناه في الصبي فإن قلنا إنه يصح منه القضاء فهل للسيد منعه منه يبنى على الوجهين في أن القضاء على الفور أم لا فإن قلنا إن القضاء على التراخى فله منعه لان حق السيد على الفور فقدم على الحج
وإن قلنا إنه على الفور ففيه وجهان أحدهما أنه لا يملك منعه لانه موجب ما أذن فيه وهو الحج فصار كما لو أذن فيه
والثاني أنه يملك منعه لان المأذون فيه حجة صحيحة فإن أعتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء لم يجز أن يقضي حتى يحج حجة الإسلام ثم يقضي وإن أعتق قبل التحلل من الفاسد نظرت فإن كان بعد الوقوف مضى في فاسده ثم يحج حجة الإسلام في السنة الثانية ثم يحج عن القضاء في السنة الثالثة وإن أعتق قبل الوقوف مضى في فاسده ثم يقضى ويجزئه ذلك عن القضاء وعن حجة الإسلام لانه لو لم يفسد لكان أداؤه يجزئه عن حجة الإسلام فإذا فسد وجب أن يجزئه قضاؤه عن حجة الإسلام
فصل في وطء القارن وإن وطىء وهو قارن وجب مع البدنة دم القران لانه دم وجب بغير الوطء فلا يسقط بالوطء كدم الطيب
فصل في تكرار الوطء وإن وطىء ثم وطىء ولم يكفر عن الأول ففيه قولان قال في القديم يجب عليه بدنة واحدة كما لو زنى ثم زنى كفاه لهما حد واحد
وقال فى الجديد يجب عليه للثاني كفارة أخرى
وفي الكفارة الثانية قولان أحدهما شاة لانها مباشرة لا توجب الفساد فوجبت فيها شاة كالقبلة بشهوة
والثاني يلزمه بدنة لانه وطء في إحرام منعقد فأشبه الوطء في إحرام صحيح وإن وطىء بعد التحلل الأول لم يفسد حجه لانه قد زال الإحرام فلا يلحقه فساد وعليه كفارة وفي كفارته قولان أحدهما ( أنها ) بدنة
____________________
(1/215)
لانه وطىء في حال يحرم فيه الوطء فأشبه ما قبل التحلل
والثاني أنها شاة لانها مباشرة لا توجب الفساد فكانت كفارته شاة كالمباشرة فيما دون الفرج وإن جامع في قضاء الحج لزمته بدنة ولا يلزمه إلا قضاء حجة واحدة لان المقضي واحد فلا يلزمه أكثر منه
فصل في الوطء كله سواء والوطء في الدبر واللواط وإتيان البهيمة كالوطء في القبل في جميع ما ذكرناه لان الجميع وطء
فصل في المباشرة دون الفرج وإن قبلها بشهوة أو باشرها فيما دون الفرج بشهوة لم يفسد حجه لانها مباشرة لا توجب الحد ( بجنسها ) فلم تفسد الحج كالمباشرة بغير شهوة ويجب عليه فدية الأذى لانه استمتاع لا يفسد الحج فكانت كفارته ككفارة فدية الأذى والطيب
والاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج لانه بمنزلتها في التحريم والتعزير فكان بمنزلتها في الكفارة
فصل فيمن قتل صيدا وإن قتل صيدا نظرت فإن كان له مثل من النعم وجب عليه مثله من النعم والنعم هي الإبل والبقر والغنم والدليل عليه قوله عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فيجب في النعامة بدنة وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة وفي الضبع كبش وفي الغزال عنز وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة لما روي عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير ومعاوية رضي الله عنهم أنهم قضوا في النعامة ببدنة وعن عمر رضي الله عنه أنه جعل في حمار الوحش بقرة وحكم في الضبع بكبش وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة وعن عثمان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بحلان وهو الحمل فما حكم فيه الصحابة فلا يحتاج إلى اجتهاد وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع في معرفة المماثلة بينه وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة لقوله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم هديا } وروى قبيصة بن جابر الأسدي قال أصبت ظبيا وأنا محرم فأتيت عمر رضي الله عنه ومعي صاحب لي فذكرت له فأقبل على رجل إلى جنبه فشاوره فقال لي اذبح شاة فلما انصرفنا قلت لصاحبي إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فسمعني عمر فأقبل علي ضربا بالدرة وقال أتقتل صيدا وأنت محرم وتغمض الفتيا أي تحتقرها وتطعن فيها قال الله عز وجل { يحكم به ذوا عدل منكم } هأنذا عمر وهذا ابن عوف
والمستحب أن يكونا فقيهين
وهل يجوز أن يكون القاتل أحدهما فيه وجهان أحدهما لا يجوز كما لا يجوز أن يكون المتلف للمال أحد المقومين
والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لانه يجب عليه لحق الله تعالى فجاز أن يجعل من يجب عليه أمينا فيه كرب المال في الزكاة ويجوز أن يفدي الصغير بالصغير والكبير بالكبير فإن فدى الذكر بالأنثى جاز لانها أفضل وإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار جاز لان المقصود فيهما واحد
فصل كيف يصنع بالمثل وإذا وجب عليه المثل فهو بالخيار بين أن يذبح المثل ويفرقه وبين أن يقومه بالدراهم والدراهم طعاما ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوما لقوله تعالى { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما }
فصل في جرحه الصيد وإن جرح صيدا له مثل فنقص عشر قيمته فالمنصوص أنه يجب عليه عشر ثمن المثل
وقال بعض أصحابنا يجب عليه عشر المثل وتأول النص عليه إذا لم يجد عشر المثل لان ما ضمن كله بالمثل ضمن بعضه بالمثل كالطعام والدليل على المنصوص أن إيجاب بعض المثل يشق فوجب العدول إلى القيمة كما عدل في خمس من الإبل إلى الشاة حين شق إيجاب جزء من البعير
____________________
(1/216)
وإن ضرب صيدا حاملا فأسقطت ولدا حيا ثم ماتا ضمن الأم بمثلها وضمن الولد بمثله وإن ضربها فأسقطت جنينا ميتا والأم حية ضمن ما بين قيمتها حاملا وحائلا ولا يضمن الجنين
فصل في الصيد ليس له مثل وإن كان الصيد لا مثل له من النعم وجب عليه قيمته في الموضع الذى أتلفه فيه لما روي أن مروان سأل ابن عباس رضي الله عنه عن الصيد يصيده المحرم ولا مثل له من النعم قال ابن عباس ثمنه يهدى إلى مكة ولانه تعذر إيجاب المثل فيه فضمن بالقيمة كمال الآدمي فإذا أراد أن يؤدي فهو بالخيار بين أن يشتري بثمنه طعاما ويفرقه وبين أن يقوم ثمنه طعاما ويصوم عن كل مد يوما وإن كان الصيد طائرا نظرت فإن كان حماما وهو الذى يعب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمري والفاختة فإنه يجب فيه شاة لانه روي ذلك عن عمر وعثمان ونافع بن عبد الحارث وابن عباس رضي الله عنهم ولان الحمام يشبه الغنم لانه يعب ويهدر كالغنم فضمن به وإن كان أصغر من الحمام كالعصفور والبلبل والجراد ضمنه بالقيمة لانه لا مثل له فضمن بالقيمة وإن كان أكبر من الحمام كالقطا واليعقوب والبط والإوز ففيه قولان أحدهما يجب فيه شاة لانها إذا وجبت في الحمام فلان تجب في هذا وهو أكبر أولى
والثاني أنه يجب فيها قيمتها لانه لا مثل لها من النعم فضمن بالقيمة وإن كسر بيض صيد ضمنه بالقيمة وإن نتف ريش طائر ثم نبت ففيه وجهان أحدهما لا يضمن
والثاني يضمن بناء على القولين فيمن قلع شيئا ثم نبت
فصل في تكرار قتل الصيد وإن قتل صيدا بعد صيد وجب لكل واحد منهما جزاء لانه ضمان متلف فيتكرر بتكرر الإتلاف وإن اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد وجب عليهم جزاء واحد لانه بدم متلف يتجزأ فإذا اشترك الجماعة في إتلافه قسم البدل بينهم كقيم المتلفات وإذا اشترك حلال وحرام في قتل صيد وجب على المحرم نصف الجزاء ولم يجب على الحلال شيء كما لو اشترك رجل وسبع في قتل آدمي وإن أمسك محرم صيدا فقتله حلال ضمنه المحرم بالجزاء ثم يرجع به على القاتل لان القاتل أدخله في الضمان فرجع عليه كما لو غصب مالا من رجل فأتلفه آخر في يده
فصل فيمن أثبت صيدا وإن جنى على صيد فأزال امتناعه نظرت فإن قتله غيره ففيه طريقان قال أبو العباس عليه ضمان ما نقص وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما ولا شيء عليه إن كان حلالا
وقال غيره فيه قولان أحدهما عليه ضمان ما نقص لانه جرح ولم يقتل فلا يلزمه جزاء كامل كما لو بقي ممتنعا ولانا لو أوجبنا عليه جزاء كاملا وعلى القاتل وإن كان محرما جزاء كاملا سوينا بين القاتل والجارح ولانه يؤدي إلى أن نوجب على الجارح أكثر مما يجب على القاتل لانه يجب على الجارح جزاؤه صحيحا وعلى القاتل جزاؤه مجروحا وهذا خلاف الأصول
والقول الثاني أنه يجب عليه جزاؤه كاملا لانه جعله غير ممتنع ( فأشبه الهالك ) فأما إذا كسره ثم أخذه وأطعمه وسقاه حتى برىء نظرت فإن عاد ممتنعا ففيه وجهان كما قلنا فيمن نتف ريش طائر فعاد ونبت فإن لم يعد ممتنعا فهو على القولين
أحدهما يلزمه ضمان ما نقص
والثاني يلزمه جزاء كامل
فصل في كفارة المفرد والقارن والمفرد والقارن في كفارات الإحرام واحد لان القارن كالمفرد في الأفعال فكان كالمفرد في الكفارات
____________________
(1/217)
فصل في تحريم صيد الحرام ويحرم صيد الحرم على الحلال ( والمحرم ) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم مكة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها فقال العباس رضي الله عنه إلا الإذخر لصاغتنا فقال إلا الإذخر وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لانه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء فإن قتل محرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد لان المقتول واحد فكان الجزاء واحدا كما لو قتله في الحل
وإن اصطاد الحلال صيدا في الحل وأدخله إلى الحرم جاز له التصرف فيه بالإمساك والذبح وغير ذلك مما كان يملكه قبل أن يدخله إلى الحرم لانه من صيد الحل فلم يمنع من التصرف فيه وإن ذبح الحلال صيدا من صيود الحرم لم يحل له أكله وهل يحرم على غيره فيه طريقان من أصحابنا من قال هو على قولين كالمحرم إذا ذبح صيدا ومنهم من قال يحرم ههنا قولا واحدا لان الصيد في الحرم محرم على كل أحد فهو كالحيوان الذي لا يؤكل فإن رمى من الحل إلى صيد في الحرم فأصابه لزمه الضمان لان الصيد في موضع أمنه وإن رمى من الحرم إلى صيد في الحل فأصابه لزمه ضمانه لان كونه في الحرم يوجب عليه تحريم الصيد فإن رمى من الحل إلى صيد في الحل ومر السهم في موضع من الحرم فأصابه ففيه وجهان أحدهما يضمنه لان السهم مر من الحرم إلى الصيد
والثاني لا يضمنه لان الصيد في الحل والرامي في الحل
وإن كان في الحرم شجرة وأغصانها في الحل فوقعت حمامة على غصن في الحل فرماه من الحل فأصابه لم يضمنه لان الحمام غير تابع للشجر فهو كطير في هواء الحل
وإن رمى صيدا في الحل فعدل السهم فأصاب صيدا في الحرم فقتله لزمه الجزاء لان العمد والخطأ في ضمان الصيد سواء
وإن أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فدخل الصيد الحرم وتبعه الكلب فقتله لم يلزمه الجزاء لان للكلب اختيارا وقد دخل إلى الحرم باختياره بخلاف السهم
قال في الإملاء إذا أمسك الحلال صيدا في الحل وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ ضمن الفرخ لانه مات في الحرم بسبب من جهته ولا يضمن الأم لانه صيد في الحل مات في يد الحلال
فصل إذا صاد كافر بالحرم وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل فيه صيدا فقد قال بعض أصحابنا يجب عليه الضمان لانه ضمان يتعلق بالإتلاف فاستوى فيه المسلم والكافر كضمان الأموال ويحتمل عندي أنه لا ضمان عليه لانه غير ملتزم لحرمة الحرم فلم يضمن صيده
فصل في حرمة شجر الحرم ويحرم عليه قطع شجر الحرم ومن أصحابنا من قال ما أنبته الآدميون يجوز قلعه والمذهب الأول لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ولان ما حرم لحرمة الحرام استوى فيه المباح والمملوك كالصيد ويجب فيه الجزاء فإن كانت شجرة كبيرة
____________________
(1/218)
ضمنها ببقرة وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الدوحة بقرة وفي الشجرة الجزلة شاة
فإن قطع غصنا منها ضمن ما نقص فإن نبت مكانه فهل يسقط عنه الضمان على قولين بناء على القولين في السن إذا قلع ثم نبت ويجوز أخذ الورق ولا يضمنه لانه لا يضر بها
وإن قلع شجرة من الحرم لزمه ردها إلى موضعها كما إذا أخذ صيدا منه لزمه تخليته فإن أعادها إلى موضعها فنبتت لم يلزمه شيء وإن لم تنبت وجب عليه ضمانها
فصل في حشيش الحرم ويحرم قطع حشيش الحرم لقوله صلى الله عليه وسلم ولا يختلى خلاها ويضمنه لانه ممنوع من قطعه لحرمة الحرم فضمنه كالشجر وإن قطع الحشيش فنبت مكانه لم يلزمه الضمان قولا واحدا لان ذلك يستخلف في العادة فهو كسن الصبى إذا قلعه فنبت مكانه مثله بخلاف الأغصان ويجوز قطع الإذخر لحديث ابن عباس رضي الله عنه ولان الحاجة تدعو إليه ويجوز رعي الحشيش لان الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز كقطع الإذخر ويجوز قطع العوسج والشوك لانه مؤذ فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب
فصل في تراب الحرم وأحجاره ولا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم وروي عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر قال قدمت مع أمي أو مع جدتي مكة فأتينا صفية بنت شيبة فأرسلت إلى الصفا فقطعت ( حجرا من جنابه ) فخرجنا به فنزلنا أول منزل فذكر من علتهم جميعا فقالت أمي أو جدتي ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم قال وكنت أنا أمثلهم فقالت لي انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها وقل لها إن الله عز وجل وضع في حرمه شيئا لا ينبغي أن يخرج منه
قال عبد الأعلى فما هو إلا أن نحينا ذلك فكأنما أنشطنا من عقال
ويجوز إخراج ماء زمزم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استهدى راوية من ماء زمزم فبعث إليه براوية من ماء ولان الماء يستخلف بخلاف التراب والأحجار
فصل في صيد المدينة النبوية ويحرم صيد المدينة وقطع شجرها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال وإني حرمت المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فإن قتل فيها صيدا ففيه قولان قال في القديم يسلب القاتل لما روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ سلب رجل قتل صيدا في المدينة وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من وجدتموه يقتل صيدا في حرم المدينة فاسلبوه
وقال في الجديد لا يسلب لانه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلا يضمن صيده ك وج فإن قلنا يسلب دفع سلبه إلى مساكين المدينة كما يدفع جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب يكون سلبه لمن أخذه لان سعد بن أبي وقاص أخذ سلب القاتل
____________________
(1/219)
وقال طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل في صيد وج ويحرم قتل صيد وج وهو واد بالطائف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل صيد وج فإن قتل فيه صيدا لم يضمنه بالجزاء ولم يسلب القاتل لان الجزاء وجب بالشرع والشرع لم يرد إلا في الإحرام والحرم ووج لا يبلغ الحرم في الحرمة فلم يلحق به في الجزاء
فصل في مصرف دم الإحرام وإذا وجب على المحرم دم لاجل الإحرام كدم التمتع والقرآن ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم لقوله تعالى { هديا بالغ الكعبة } فإن ذبحه في الحل وأدخله إلى الحرم نظرت فإن تغير وأنتن لم يجز لان المستحق لحم كامل غير متغير فلم يجزه المنتن المتغير وإن لم يتغير ففيه وجهان أحدهما لا يجزئه لان الذبح أحد مقصودي الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة
والثاني يجزئه لان المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم وإن وجب عليه طعام وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم قياسا على الهدي وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان لانه لا منفعة لاهل الحرم في صيامه فإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز أن يذبح ويفرق حيث أحصر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه وبين الحديبية الحرم ثلاثة أميال ولانه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لاجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع النحر والله أعلم
باب صفة الحج والعمرة إذا أراد دخول مكة وهو محرم بالحج اغتسل بذي طوى لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء وادي طوى بات حتى صلى الصبح فاغتسل ثم دخل من ثنية كداء ويدخل من ثنية كداء من أعلى مكة ويخرج من السفل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى وإذا رأى البيت دعا لما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة
ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفع الأيدي في الدعاء لاستقبال البيت ويستحب أن يقول اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا لما روى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
____________________
(1/220)
رأى البيت رفع يديه وقال ذلك ويضيف إليه اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام لما روي أن عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك
فصل فيما يبدؤ به ويبتدىء بطواف القدوم لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت فإن خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أتى بها قبل الطواف لانها تفوت والطواف لا يفوت وهذا الطواف سنة لانه تحية فلم يجب كتحية المسجد ومن شرط الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام ومن شرطه ستر العورة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر رضي الله عنه إلى مكة فنادى ألا لا يطوفن بالبيت مشرك ولا عريان
وهل يفتقر إلى النية فيه وجهان أحدهما يفتقر إلى النية لانها عبادة تفتقر إلى الستر فافتقرت إلى النية كركعتي المقام
والثاني لا يفتقر لان نية الحج تأتي عليه كما تأتي على الوقوف
والسنة أن يضطبع ( له ) فيجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر ويكشف الأيمن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فاضطبعوا فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم يرملون ويطوف سبعا لما روى جابر رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا ثم صلى
وإن ترك بعض السبعة لم يجزه لان النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعا وقال خذوا عني مناسككم ولا يجزئه حتى يطوف حول جميع البيت فإن طاف على جدار الحجر لم يجزه لان الحجر من البيت والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحجر من البيت فإن طاف على شاذروان الكعبة لم يجزه لان ذلك كله من البيت
والأفضل أن يطوف بالبيت راجلا لانه إذا طاف راكبا زاحم الناس وآذاهم فإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا لما روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قدمت مريضة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/221)
طوفي وراء الناس وأنت راكبة فإن طاف راكبا من غير عذر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه فإن حمل محرم محرما فطاف به ونويا جميعا لم يجز عنهما جميعا لانه طواف واحد فلا يسقط به طوافان ولمن يكون الطواف فيه قولان أحدهما للمحمول لان الحامل كالراحلة
والثاني أنه للحامل لان المحمول لم يوجد منه فعل وإنما الفعل للحامل فكان الطواف له
ويبتدىء الطواف من الحجر الأسود والمستحب أن يستقبل الحجر الأسود لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبله وضع شفتيه عليه فإن لم يستقبله جاز لانه جزء من البيت فلا يجب استقباله كسائر أجزاء البيت ويحاذيه ببدنه لا يجزئه غيره
وهل تجزئه المحاذاة ببعض البدن فيه قولان قال في القديم تجزئه محاذاته ببعضه لانه لما جاز محاذاة بعض الحجر جاز محاذاته ببعض البدن
وقال في الجديد يجب أن يحاذيه بجميع البدن لان ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة
ويستحب أن يستلم الحجر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود أول ما يطوف ويستحب أن يستفتح لاستلام بالتكبير لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على راحلته كلما أتى على الركن أشار بشيء في يده وكبر وقبله
ويستحب أن يقبله لما روى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قبل الحجر ثم قال ( والله لقد علمت أنك حجر لا تضر ولا تنفع ) ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك وإن لم يمكنه أن يستلم أو يقبل من الزحام أشار إليه بيده لما روى أبو مالك سعد بن طارق عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن بيده ولا يشير إلى القبلة بالفم لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك
ويستحب أن يقول عند الاستلام وابتداء الطواف باسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن الذي فيه الحجر وكبر وقال اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول إذا استلم اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما مثله
ثم يطوف فيجعل البيت على يساره ويطوف على يمينه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ في الطواف أخذ عن يمينه فإن طاف على يساره لم يجزه لان النبي صلى الله عليه وسلم طاف على يمينه وقال خذوا عني مناسككم ولانها عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب كالصلاة
والمستحب أن يدنو من البيت لانه هو المقصود فكان القرب منه أفضل فإذا بلغ الركن اليماني فالمستحب أن يستلمه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني والأسود ولا يستلم الآخرين ولانه ركن بني على قواعد إبراهيم عليه السلام فيسن فيه الاستلام كالركن الأسود ويستحب أن يستلم الركنين في كل طوفة لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركنين في كل طوفة
ويستحب كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر ويقبله لانه مشروع في محل فتكرر بتكرره كالاستلام
ويستحب إذا استلم أن يقبل يده لما روى نافع قال رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده وقبل يده وقال ما تركته مند رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله
ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عند الركن اليماني ملك قائم يقول آمين آمين فإذا مررتم به فقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
____________________
(1/222)
فصل في صفة الطواف والسنة أن يرمل فى الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة لما روى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا فإن كان راكبا حرك دابته في موضع الرمل وإن كان محمولا رمل به الحامل
ويستحب أن يقول في رمله اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا
قال في الأم يستحب أن يقرأ القرآن لانه موضع ذكر والقرآن من أعظم الذكر فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقض فى الأربعة لانه هيئة في محل فلا يقضى في غيره كالجهر بالقراءة في الأوليين ولان السنة في الأربع المشي فإذا قضى الرمل في الإربعة أخل بالسنة في جميع الطواف وإذا اضطبع ورمل في طواف القدوم نظرت فإن سعى بعده لم يعد الرمل والاضطباع في طواف الزيارة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا فدل على أنه لم يعد في غيره وإن لم يسع بعده وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة لانه يحتاج إلى الاضطباع للسعي فكره أن يفعل ذلك في السعي ولا يفعله في الطواف وإن طاف للقدوم وسعى بعده ونسي الرمل والاضطباع في الطواف فهل يقضي في طواف الزيارة فيه وجهان أحدهما أنه يقضي لانه إن لم يقض فإنه سنة الرمل والاضطباع
ومن أصحابنا من قال لا يقضي وهو المذهب لانه لو جاز أن يقضي الرمل لقضاه في الأشواط الأربعة فإن ترك الرمل والاضطباع والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف جاز ولم يلزمه شيء لان الرمل والاضطباع هيئة فلم يتعلق بتركها جبران كالجهر والإسرار في القراءة والتورك والافتراش في التشهد والاستلام والتقبيل والدعاء كمال فلا يتعلق به جبران كالتسبيح في الركوع والسجود
ولا ترمل المرأة ولا تضطبع لان في الرمل تلين أعضاؤها وفي الاضطباع ينكشف ما هو عورة منها
ويجوز الكلام في الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام والأفضل ألا يتكلم لما روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من طاف بالبيت سبعا لم يتكلم فيه إلا بسبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وإن أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو عرضت له حاجة لا بد منها قطع الطواف فإذا فرغ بنى لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بالبيت فلما أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بنى على طوافه وإن أحدث وهو في الطواف توضأ وبنى لانه يجوز إفراد بعضه عن بعض فإذا بطل ما صادفه الحدث منه لم يبطل الباقى فجاز له البناء عليه
فصل في ركعتي الطواف وإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف
وهل يجب ذلك أم لا فيه قولان أحدهما أنها واجبة لقوله عز وجل { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } والأمر يقتضي الوجوب
والثاني لا يجب لانها صلاة زائدة على الصلوات الخمس فلم تجب بالشرع على الأعيان كسائر النوافل والمستحب أن يصليهما عند المقام لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فإن صلاهما في مكان آخر جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه طاف بعد الصبح ولم ير أن الشمس قد طلعت فركب فلما أتى ذا طوى أناخ راحلته وصلى ركعتين وكان ابن عمر رضي الله عنهما يطوف بالبيت ويصلي ركعتين في البيت
____________________
(1/223)
والمستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قل يأيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف قل هو الله أحد و قل يأيها الكافرون ثم يعود إلى الركن فيستلمه ويخرج من باب الصفا لما روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعا وصلى ركعتين ثم رجع إلى الحجر فاستلمه ثم خرج من باب الصفا
فصل في السعي ثم يسعى وهو ركن من أركان الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم فلا يصح السعي إلا بعد طواف فإن سعى ثم طاف لم يعتد بالسعي لما روى ابن عمر قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا
قال الله تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فنحن نصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسعي أن يمر سبع مرات بين الصفا والمروة لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نبدأ بالذي بدأ الله به وبدأ بالصفا حتى فرغ من آخر سعيه على المروة فإن مر من الصفا إلى المروة حسب ذلك مرة وإذا رجع من المروة إلى الصفا حسب ذلك مرة أخرى وقال أبو بكر الصيرفي لا يحتسب رجوعه من المروة إلى الصفا مرة وهذا خطأ لانه استوفى ما بينهما بالسعي فحسب مرة كما لو بدأ من الصفا وجاء إلى المروة
فإن بدأ بالمروة وسعى إلى الصفا لم يجزه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بدءوا بما بدأ الله به ويرقى على الصفا حتى يرى البيت فيستقبله ويقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لما روى جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى إذا رأى البيت توجه إليه وكبر ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثم قال مثل هذا ثلاثا ثم نزل ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يدعو بعد التهليل
____________________
(1/224)
والتكبير لنفسه فإذا فرغ من الدعاء نزل من الصفا ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحو من ستة أذرع فيسعى سعيا شديدا حتى يحاذى الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد ( إلى ) المروة لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت ( قدماه ) في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه فإذا صعد مشى حتى يأتي المروة
والمستحب أن يقول بين الصفا والمروة رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم لما روت صفية بنت شيبة عن امرأة من بني نوفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
فإن ترك السعي ومشى في الجميع جاز لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يمشي بين الصفا والمروة وقال إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير
وإن سعى راكبا جاز لما روى جابر قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم في طواف حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس ويسألوه
والمستحب إذا صعد المروة أن يفعل مثل ما فعل على الصفا لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا
قال في الأم فإن سعى بين الصفا والمروة ولم يرق عليهما أجزأه
وقال أبو حفص بن الوكيل لا يجزئه حتى يرقى عليهما ليتيقن أنه استوفى السعي بينهما وهذا لا يصح لان المستحق هو السعي بينهما وقد فعل ذلك
وإن كانت امرأة ذات جمال فالمستحب أن تطوف وتسعى ليلا فإن فعلت ذلك نهارا مشت في موضع السعي وإن أقيمت الصلاة أو عرض عارض قطع السعي فإذا فرغ بنى لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ ثم قام فأتم على ما مضى
فصل في خطب الحج ويخطب الإمام اليوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة ويأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى وهي إحدى الخطب الأربع المسنونة في الحج والدليل عليه ما روى ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم ويخرج إلى منى في اليوم الثامن ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويثبت بها إلى أن يصلي الصبح لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم التروية بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة فإذا طلعت الشمس سار إلى الموقف لما روى جابر رضي الله عنه
قال ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ثم ركب فأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها
فإذا زالت الشمس خطب الإمام وهي الخطبة الثانية من الخطب الأربع فيخطب خطبة خفيفة ويجلس ثم يقوم إلى الثانية ويبتدىء المؤذن بالأذان حتى يكون فراغ الإمام مع فراغ المؤذن لما روي أن سالم بن عبد الله قال للحجاج إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر رضي الله عنهما صدق ثم يصلي الظهر والعصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
فصل في الوقوف بعرفة ثم يروح إلى عرفة ويقف والوقوف ركن من أركان الحج لما روى عبد الرحمن الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج
والمستحب أن يغتسل لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل إذا راح إلى عرفة ولانه قربة يجتمع بها الخلق في موضع واحد فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة والعيد ويصح الوقوف في جميع عرفة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفة كلها موقف والأفضل أن يقف عند الصخرات لان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات وجعل بطن ناقته إلى الصخرات
ويستحب أن يستقبل القبلة لان النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ولانه إذا لم يكن بد من جهة فجهة القبلة أولى لان النبي صلى الله عليه وسلم قال خير المجالس ما استقبل به القبلة
ويستحب
____________________
(1/225)
الإكثار من الدعاء وأفضله لا إله إلا الله وحده لا شريك له لما روى طلحة بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له
ويستحب أن يرفع يديه لما روى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترفع الأيدي عند الموقفين يعني عرفة والمشعر الحرام
وهل الأفضل أن يكون راكبا أم لا فيه قولان قال في الأم النازل والراكب سواء
وقال في القديم و الإملاء الوقوف راكبا أفضل وهو الصحيح لان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف راكبا ولان الراكب أقوى على الدعاء فكان الركوب أولى ولهذا كان الإفطار بعرفة أفضل لان المفطر أقوى على الوقوف والدعاء وأول وقته إذا زالت الشمس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم وآخر وقته إلى أن يطلع الفجر الثاني لحديث عبد الرحمن الديلي فإن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائما أو قاعدا أو مجتازا فقد أدرك الحج لقوله صلى الله عليه وسلم من صلى هذه الصلاة معنا وقد قام قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه وإن وقف وهو مغمى عليه لم يدرك الحج وإن وقف وهو نائم فقد أدرك الحج لان المغمى عليه ليس من أهل العبادات والنائم من أهل العبادات ولهذا لو اغمي عليه في جميع نهار الصوم لم يصح صومه وإن نام في جميع النهار صح صومه
وإن وقف وهو لا يعلم أنه عرفة فقد أدرك لانه وقف بها وهو مكلف فأشبه إذا علم أنها عرفة
والسنة أن يقف بعد الزوال إلى أن تغرب الشمس لما روى علي كرم الله وجهه
قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ثم أفاض حين غابت الشمس
فإن دفع منها قبل الغروب نظرت فإن رجع إليها قبل طلوع الفجر لم يلزمه شيء لانه جمع في الوقوف بين الليل والنهار فأشبه إذا أقام بها إلى أن غربت الشمس
فإن لم يرجع قبل طلوع الفجر أراق دما
وهل يجب ذلك أو يستحب فيه قولان أحدهما يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك نسكا فعليه دم ولانه نسك يختص بمكان فجاز أن يجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات
والثاني أنه يستحب لانه وقف في إحدى زماني الوقوف فلا يلزمه دم للزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار
فصل في الدفع إلى مزدلفة وإذا غربت الشمس دفع إلى المزدلفة لحديث علي كرم الله وجهه ويمشي وعليه السكينة لما روى الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين دفعوا عليكم بالسكينة
فإذا وجد فرجة أسرع لما روى أسامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ويجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة على ما بيناه في
____________________
(1/226)
كتاب الصلاة فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها جاز لان الجمع رخصة لاجل السفر فجاز له تركه ويثبت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء واضطجع حتى إذا طلع الفجر صلى الفجر وفي أي موضع من المزدلفة بات أجزأه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر وهل يجب المبيت بمزدلفة أم لا فيه قولان أحدهما يجب لانه نسك مقصود في موضع فكان واجبا كالرمي
والثانى أنه سنة لانه مبيت فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة
فإن قلنا إنه يجب وجب بتركه الدم وإن قلنا إنه سنة لم يجب بتركه الدم
ويستحب أن يؤخذ منها حصى جمرة العقبة لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غداة يوم النحر القط لي حصى فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف ولان السنة إذا أتى منى لا يعرج على غير الرمي فاستحب أن يأخذ الحصى حتى لا يشتغل عن الرمي وإن أخذ الحصى من غيرها جاز لان الاسم يقع عليه
ويصلي الصبح بالمزدلفة فى أول الوقت وتقديمها أفضل لما روى عبد الله قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها ولانه يستحب الدعاء بعدها فاستحب تقديمها ليكثر الدعاء فإذا صلى وقف على قزح وهو المشعر الحرام ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب القصواء حتى رقي على المشعر الحرام واستقبل القبلة فدعا الله عز وجل وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس والمستحب أن يدفع قبل طلوع الشمس لحديث جابر فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس كره لما روى المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس على رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك
فإن قدم الدفع بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل الإفاضة ليلا في ليلة المزدلفة فأذن لها
والمستحب إذا دفع من المزدلفة أن يمشي وعليه السكينة لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس وإذا وجد فرجة أسرع كما يفعل في الدفع من عرفة والمستحب إذا بلغ وادي محسر أن يسرع إذا كان ماشيا أو يحرك دابته إذا كان راكبا بقدر رمية حجر لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرك قليلا في وادي محسر
فصل في رمى جمرة العقبة وإذا أتى منى بدأ برمي جمرة العقبة وهو من واجبات الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى وقال خذوا عني مناسككم
والمستحب ألا يرمي إلا بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله فأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وإن رمى بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر أجزأه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل
____________________
(1/227)
أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها
والمستحب أن يرمي من بطن الوادي وأن يكون راكبا وأن يكبر مع كل حصاة لما روت أم سليم رضي الله عنها
قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب وهو يكبر مع كل حصاة
والمستحب أن يرفع يده حتى يرى بياض إبطه لان ذلك أعون على الرمي ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ولان التلبية للإحرام فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى للتلبية ولا يجوز الرمي إلا بالحجر فإن رمى بغيره من مدر أو خزف لم يجزه لانه لا يقع عليه اسم الحجر
والمستحب أن يرمي بمثل حصى الخذف وهو بقدر الباقلا لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا عليكم بمثل حصى الخذف فإن رمى بحجر كبير أجزأه لانه يقع عليه اسم الحجر ولا يرمي بحجر قد رمى به لان ما قبل منها يرفع وما لا يقبل منها يترك والدليل عليه ما روى أبو سعيد قال قلنا يا رسول الله إن هذه الجمار ترمى كل عام فنحسب أنها تنقص قال أما إنه ما يقبل منها يرفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال فإن رمى بما رمى به أجزأه لانه يقع عليه الاسم
ويجب أن يرمي فإن أخذ الحصاة وتركها في المرمى لم يجزه لانه لم يرم ويجب أن يرميها واحدة واحدة لان النبي صلى الله عليه وسلم رمى واحدة واحدة وقال خذوا عني مناسككم ويجب أن يقصد بالرمي إلى المرمى فإن رمى حصاة في الهواء فوقع في المرمى لم يجزه لانه لم يقصد الرمي إلى المرمى وإن رمى حصاة فوقعت على أخرى ووقعت الثانية في المرمى لم يجزه لانه لم يقصد رمي الثانية وإن رمى حصاة فوقعت على محمل أو أرض فازدلفت ووقعت على المرمى أجزأه لانه حصل في المرمى بفعله وإن رمى فوق المرمى فتدحرج لتصويب المكان الذي أصابه فوقع في المرمى ففيه وجهان أحدهما أنه يجزئه لانه لم يوجد في حصوله في المرمى فعل غيره
والثانى لا يجزئه لانه لم يقع في المرمى بفعله وإنما أعان عليه تصويب المكان فصار كما لو وقع في ثوب رجل فنفضه حتى وقع في المرمى
فصل متى يذبح الهدي وإذا فرغ من الرمي ذبح هديا إن كان معه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ويجوز النحر في جميع منى لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال منى كلها منحر
فصل في الحلق والتقصير ثم يحلق لما روى أنس قال لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وفرغ من نسكه ناول الحالق شقة الأيمن فحلقه ثم أعطاه شقة الأيسر فحلقه
فإن لم يحلق وقصر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا والحلق أفضل لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال في الرابعة والمقصرين وأقل ما يحلق ثلاث شعرات لانه يقع عليه اسم الجمع المطلق فأشبه الجميع والأفضل أن يحلق الجميع لحديث أنس وإن كان أصلع فالمستحب أن يمر الموسى على رأسه لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه
أنه قال في الأصلع يمر الموسى على رأسه ولا يجب ذلك لانه قربة تتعلق بمحل فسقطت بفواته كغسل اليد إذا قطعت وإن كانت امرأة قصرت ولم تحلق لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير ولان الحلق في النساء مثلة فلم يفعل
وهل الحلاق نسك أو استباحة محظور فيه قولان أحدهما أنه ليس بنسك لانه محرم في الإحرام فلم يكن نسكا كالطيب
والثاني أنه نسك وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم رحم الله المحلقين فإن حلق قبل الذبح جاز لما روى عبد الله بن عمر قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى فجاءه رجل فقال يا رسول الله لم أشعر فحلقت رأسي قبل أن أذبح فقال اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي فقال ارم ولا حرج فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج فإن حلق قبل الرمي فإن قلنا إن الحلق نسك جاز لما روى ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حلق قبل أن يذبح أو قبل أن يرمي فكان يقول لا حرج لا حرج
____________________
(1/228)
وإن قلنا إنه استباحة محظور لم يجز لانه فعل محظور فلم يجز قبل الرمي من غير عذر كالطيب
فصل في خطبة يوم النحر والسنة أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى وهي أحد الخطب الأربع ويعلم الناس الإفاضة والرمى وغيرهما من المناسك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر بعد رميه الجمرة فكان في خطبته إن هذا يوم الحج الأكبر ولان في هذا اليوم وما بعده مناسك نحتاج إلى العلم بها فسن فيه الخطبة لذلك
____________________
(1/229)
فصل في طواف الإفاضة ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ثم ركب فأفاض إلى البيت وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به والأصل فيه قوله عز وجل { وليطوفوا بالبيت العتيق } وروت عائشة أن صفية رضي الله عنهما حاضت فقال صلى الله عليه وسلم أحابستنا هي فقلت يا رسول الله إنها قد أفاقت فقال فلا إذا فدل على أنه لا بد من فعله وأول وقته إذا انتصفت ليلة النحر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت
والمستحب أن يطوف يوم النحر لان النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر فإن أخره إلى ما بعده وطاف جاز لانه أتى به بعد دخول الوقت
فصل متى يتحلل المحرم وإذا رمى وحلق وطاف حصل له التحلل الأول والثاني
وبأي شيء حصل التحلل إن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل الأول باثنتين من ثلاثة وهي الرمي والحلق والطواف وحصل له التحلل الثاني بالثالث
وإن قلنا إن الحلق ليس بنسك حصل له التحلل الأول بواحد من اثنين الرمي والطواف وحصل له التحلل الثاني بالثاني
وقال أبو سعيد الإصطخري إذا دخل وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم كما إذا فات وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم والمذهب الأول لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء فعلق التحلل بفعل الرمي ولان ما تعلق به التحلل لم يتعلق بدخول وقته كالطواف ويخالف إذا فات الوقت فإن بفوات الوقت يسقط فرض الرمي كما يسقط بفعله وبدخول الوقت لا يسقط الفرض فلم يحصل به التحلل وفيما يحل بالتحلل الأول والثاني قولان أحدهما وهو الصحيح أنه يحل بالأول جميع المحظورات إلا الوطء
وبالثانى يحل الوطء لحديث عائشة رضي الله عنها
والقول الثانى أنه يحل بالأول كل شيء إلا الطيب والنكاح والاستمتاع بالنساء وقتل الصيد لما روى مكحول عن عمر رضي الله عنه أنه قال إذا رميتم الجمرة فقد أحل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء والصيد والصحيح هو الأول لان حديث عمر مرسل ولان السنة مقدمة عليه هذا إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم
فأما إذا لم يسع وقف التحلل على الطواف والسعي لان السعي ركن كالطواف
فصل في رمي الجمرات الثلاث وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى وأقام بها أيام التشريق يرمي في كل يوم الجمرات الثلاث كل جمرة بسبع حصيات فيرمي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ويقف قدر سورة البقرة يدعو الله عز وجل ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو كما ذكرناه ثم يرمي الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى الظهر ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فيرمي الجمرة الأولى إذا زالت الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يقف ويدعو ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة إلا مرتبا يبدأ بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة لان النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا وقال خذوا عني مناسككم فإن نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لان عائشة رضي الله عنها قالت أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس فإن ترك الرمي في اليوم الثالث سقط الرمي لانه فات أيام الرمي ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم من ترك نسكا فعليه دم فإن ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى اليوم الثالث فالمشهور من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني وما تركه في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا رمي يوم إلى يوم بعده فلو لم يكن اليوم الثاني وقتا لرمى اليوم الأول لما جاز الرمي فيه
وقال في الإملاء رمي كل يوم مؤقت بيومه والدليل عليه أنه رمي مشروع في يوم ففات بفواته كرمي اليوم الثالث فإن تدارك عليه رمي يومين أو ثلاثة أيام فإن قلنا بالمشهور بدأ ورمى عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن اليوم الثالث فإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجزئه لانه ترك الترتيب
والثاني أنه يجزئه عن الأول لان الرمي مستحق عن اليوم الأول فانصرف إليه كما لو طاف بنية الوداع وعليه طواف الفرض
وإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت بيومه وفات اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال أحدها أن الرمي يسقط وينتقل إلى الدم كاليوم الأخير
والثاني أنه يرمي ويريق دما للتأخير كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يصوم ويفدي
والثالث أنه يرمي ولا شيء عليه كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه فعلى هذا إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم
____________________
(1/230)
الأول جاز لانه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كصلوات الفائتة
وأما إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان من أصحابنا من قال كرمي أيام التشريق فيرمي رمي يوم النحر في أيام التشريق وتكون أيام التشريق وقتا له وعلى قوله في الإملاء يكون على الأقوال الألاثة
ومن أصحابنا من قال يسقط رمي يوم النحر قولا واحدا لانه لما خالف رمي أيام التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى الله عليه وسلم من ترك نسكا فعليه دم فإن ترك ثلاث حصيات فعليه دم لانه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو ترك الجميع وإن ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال أحدهما يجب عليه ثلث دم
والثانى مد
والثالث درهم
وإن ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثا دم وفي الثاني مدان وفي الثالث درهمان
وإن ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد لزمه دم كاليوم الواحد
فإن قلنا بقوله في الإملاء إن رمي كل يوم موقت بيومه لزمه ثلاثة دماء
وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق فإن قلنا إن رمي يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على القول المشهور دم واحد وإن قلنا إنه ينفرد عن رمي التشريق فإن قلنا إن رمي أيام التشريق كرمي اليوم الواحد لزمه دمان وإن قلنا إن رمي كل يوم موقت بيومه لزمه أربعة دماء
فصل في الاستنابة في الرمي ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض مأيوس منه أو غير مأيوس جاز أن يستنيب من يرمي عنه لان وقته مضيق وربما فات قبل أن يرمي بخلاف الحج فإنه على التراخي فلا يجوز لغير المأيوس أن يستنيب لانه قد يبرأ فيؤديه بنفسه والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر ويرمي النائب
فإن رمى عنه النائب ثم برىء من المرض فالمستحب أن يعيد بنفسه وإن أغمي عليه فرمى عنه غيره فإن كان بغير إذنه لم يجزه وإن كان قد أذن له فيه
قبل أن يغمى عليه جاز
فصل ويبيت بمنى ليالي الرمي لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك
وهل يجب ذلك أو يستحب فيه قولان أحدهما أنه مستحب لانه مبيت فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة
والثاني أنه يجب لان النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في ترك المبيت لاجل السقاية فدل على أنه لا يجوز لغيره تركه
فإن قلنا إنه يستحب لم يجب بتركه الدم وإن قلنا يجب وجب بتركه الدم فعلى هذا إذا ترك المبيت في الليالي الثلاث وجب عليه دم وإن ترك ليلة ففيه ثلاثة أقوال على ما ذكرناه في الحصاة
فصل فيمن يرخص له في ترك المبيت ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس رضي الله عنه أن يدعوا المبيت ليالي منى ويرموا يوما ويدعوا يوما ثم يرموا ما فاتهم والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته وروى عاصم بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل في ترك البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون يوم النفر فإن أقام الرعاة إلى أن تغرب الشمس لم يجز لهم ترك المبيت وإن أقام أهل السقاية إلى أن تغرب الشمس جاز لهم ترك المبيت لان حاجة أهل السقاية بالليل موجودة وحاجة الرعاة لا ( تكون ) بالليل لان الرعي لا يكون بالليل
ومن أبق له عبد ومضى في طلبه أو خاف أمرا يفوته ففيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز له ما يجوز للرعاة وأهل ( سقاية ) العباس لان النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعي وأهل السقاية
والثاني أنه يجوز لانه صاحب عذر فأشبه الرعاة وأهل السقاية
فصل والسنة أن يخطب الإمام يوم النفر الأول وهو اليوم الأوسط من أيام التشريق وهي إحدى الخطب الأربع ويودع الحاج ويعلمهم جواز النفر ( لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أوسط أيام التشريق ) ولانه يحتاج فيه إلى بيان من يجوز له النفر ومن لا يجوز
ومن أراد أن ينفر مع النفر الأول فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل غروب الشمس سقط عنه الرمي في اليوم الثالث
ومن لم ينفر حتى غربت الشمس لزمه أن يقيم حتى يرمي في اليوم الثالث لقوله عز وجل { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } وإن نفر قبل الغروب ثم عاد زائرا أو ليأخذ شيئا نسيه لم يلزمه المبيت لانه حصلت له الرخصة بالنفر فإن بات لم يلزمه أن يرمي لانه لم يلزمه المبيت فلا يلزمه للرمي
ويستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة في المحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به
فإن ترك النزول بالمحصب لم يؤثر ذلك في نسكه لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المحصب ليس بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالت عائشة رضي الله عنها نزول المحصب ليس من النسك إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/231)
فصل إذا فرغ من الحج فأراد المقام لم يكلف طواف الوداع فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف للوداع وهل يجب طواف الوداع أم لا فيه قولان أحدهما أنه يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت
والثاني لا يجب لانه لو وجب لم يجز للحائض تركه فإن قلنا إنه واجب وجب بتركه دم لقوله صلى الله عليه وسلم من ترك نسكا فعليه دم وإن قلنا لا يجب لم يجب بتركه دم لانه سنة فلا يجب بتركه دم كسائر سنن الحج وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد ( بعد طوافه ) عن الوداع لانه لا توديع مع المقام فإذا أراد ( أن يخرج ) أعاد طواف الوداع وإن طاف ثم مر في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف لانه لا يصير بذلك مقيما وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكر فإن قلنا إنه واجب نظرت فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم فإن عاد وطاف لم يسقط الدم لان الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزىء عن الخروج الأول فإن ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم لانه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض
فإن نفرت الحائض ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف فإذا فرغ من طواف الوداع فالمستحب أن يقف في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيدعو ويقول اللهم إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فإن كنت رضيت عنى فازدد عني رضي وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم أصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني فإنه قد روي ذلك عن بعض السلف ولانه دعاء يليق بالحال ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
فصل وإن كان محرما بالعمرة وحدها وأراد دخول مكة فعلى ما ذكرناه في الدخول للحج فإذا دخل مكة طاف وسعى وحلق وذلك جميع أفعال العمرة والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة وأما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلا يوم النحر فإن كان قارنا بين الحج والعمرة فعل ما يفعله المفرد بالحج فيقتصر على طواف واحد والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد ولانه يدخل فيهما بتلبية واحدة ويخرج منهما بحلاق واحد فوجب أن يطوف لهما طوافا واحدا ويسعى لهما سعيا واحدا كالمفرد بالحج
فصل وأركان الحج أربعة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة
وواجباته الإحرام من الميقات والرمي وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى في ليالي الرمي وفي طواف الوداع قولان أحدهما أنه واجب
والثاني أنه ليس بواجب
وسننه الغسل وطواف القدوم والرمل والاضطباع في الطواف والسعى واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية وأفعال العمرة كلها أركان إلا الحلق فمن ترك ركنا لم يتم نسكه ولم يتحلل حتى يأتي به ومن ترك واجبا لزمه الدم ومن ترك سنة لم يلزمه شيء
____________________
(1/232)
فصل ويستحب دخول البيت لما روى ابن عباس رضي الله عنهما
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له ويستحب أن يصلي فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه أفضل بمائة صلاة ويستحب أن يشرب من ماء زمرم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ماء زمزم لما شرب له
فصل ويستحب إذا خرج من مكة أن يخرج من أسفلها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها قال أبو عبد الله الزبيري ويخرج وبصره إلى البيت حتى يكون آخر عهده بالبيت
فصل ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من زار قبري وجبت له شفاعتي ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فى غيره من المساجد وبالله التوفيق
باب الفوات والإحصار من أحرم بالحج ولم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمل عمرة وهي الطواف والسعي والحلق ويسقط عنه المبيت والرمي
وقال المزني لا يسقط المبيت والرمي كما لا يسقط الطواف والسعي وهذا خطا لما روى الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن فاته الحج تحلل بعمل عمرة وعليك الحج من قابل وهدي ولان المبيت والرمي من توابع الوقوف ولهذا لا يجب على المعتمر حين لم يجب عليه الوقوف وقد سقط الوقوف ههنا فسقطت توابعه بخلاف الطواف والسعي فإنهما غير تابعين للوقوف فبقي فرضهما ويجب عليه القضاء لحديث عمر رضي الله عنه ولان الوقوف معظم الحج والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة وقد فاته ذلك فوجب قضاؤه
وهل يجب القضاء على الفور أم لا فيه وجهان كما ذكرناه فيمن أفسد الحج ويجب هدي لقول عمر رضي الله عنه ولانه تحلل من الإحرام قبل التمام فلزمه الهدى كالمحصر ومتى يجب الهدي فيه وجهان أحدهما يجب مع القضاء لقول عمر رضي الله عنه ولانه كالمتمتع ودم التمتع لا يجب إلا إذا أحرم بالحج
والثانى يجب في عامه كدم الإحصار
فإن أخطأ الناس الوقوف فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر لم يجب عليهم القضاء لان الخطأ في ذلك إنما يكون بأن يشهد اثنان برؤية الهلال قبل الشهر بيوم فوقفوا يوم الثامن بشهادتهما ثم بان كذبهما أو غم عليهم الهلال فوقفوا يوم العاشر ومثل هذا لا يؤمن في القضاء فسقط
فصل ومن أحرم فأحصره عدو نظرت فإن كان العدو من المسلمين فالأولى أن يتحلل ولا يقاتله لان التحلل أولى من قتال المسلمين وإن كان من المشركين لم يجب عليه القتال لان قتال الكفار لا يجب إلا إذا بدءوا بالحرب وإن كان بالمسلمين ضعف وفي العدو قوة فالأولى أن لا يقابلهم لأنه ربما انهزم المسلمون فلحقهم وهن وإن كان في المسلمين قوة وفي المشركين ضعف فالأفضل أن يقاتلهم ليجمع بين نصرة الإسلام وإتمام الحج فإن طلبوا مالا لم يجب إعطاء المال لان ذلك طلم ولا يجب الحج مع احتمال الظلم فإن كانوا مشركين كره أن مشركين كره أن يدفع إليهم لان فهى ذلك صغارا على الإسلام فلا يجب احتماله من غير ضرورة وإن كانوا مسلمين لم يكره
فصل وإن أحصره العدو عن الوقوف أو الطواف أو السعي فإن كان له طريق آخر يمكنه الوصول منه إلى مكة لم يجز له
____________________
(1/233)
التحلل قرب أو بعد لانه قادر على أداء النسك فلا يجوز له التحلل بل يمضي ويتم النسك وإن سلك الطريق الآخر ففاته الحج تحلل بعد عمرة وفي القضاء قولان أحدهما يجب عليه لانه فاته الحج فأشبه إذا أخطأ الطريق أو أخطأ العدد
والثاني لا يجب عليه لانه تحلل من غير تفريط فلم يلزمه القضاء كما لو تحلل بالإحصار
فإن أحصر ولم يكن له طريق آخر جاز له أن يتحلل لقوله عز وجل { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ولان النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في الحديبية فتحلل ولانا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر سنين فتلحقه المشقة العظيمة في البقاء على الإحرام وقد قال الله عز وجل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } فإن كان الوقت واسعا فالأفضل ألا يتحلل لانه ربما زال الحصر وأتم النسك وإن كان الوقت ضيقا فالأفضل أن يتحلل حتى لا يفوته الحج فإن اختار التحلل نظرت فإن كان واحدا للهدي لم يجز له أن يتحلل حتى يهدي لقوله تعالى { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فإن كان في الحرم ذبح الهدي فيه وإن كان في غير الحرم ولم يقدر على الوصول إلى الحرم ذبح الهدي حيث أحصر لان النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية وهي خارج الحرم وإن قدر على الوصول إلى الحرم ففيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يذبح في موضعه لانه موضع تحلله فجاز فيه الذبح كما لو أحصر في الحرم
والثاني لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم لانه قادر على الذبح في الحرم فلا يجوز أن يذبح في غيره كما لو أحصر فيه ويجب أن ينوي بالهدي التحلل لان الهدي قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميز بينهما ثم يحلق لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية
فإن قلنا إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق
وإن قلنا إنه ليس بنسك حصل له التحلل بالنية والهدي وإن كان عادما للهدي ففيه قولان أحدهما لا بد للهدي لقوله عز وجل { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فذكر الهدي ولم يذكر له بدلا ولو كان له بدل لذكره كما ذكره في جزاء الصيد
والقول الثاني له بدل لانه دم يتعلق وجوبه بالإحرام فكان له بدل كدم التمتع
فإن قلنا لا بدل للهدي فهل يتحلل فيه قولان أحدهما لا يتحلل حتى يجد الهدي لان الهدي شرط في التحلل فلا يجوز التحلل قبله
والثاني أنه يتحلل لانا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يجد الهدي أدى ذلك إلى المشقة
فإن قلنا له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال أحدها الإطعام
والثاني الصيام
والثالث أنه مخير بين الصيام والإطعام
وإن قلنا إن بدله الإطعام ففي الإطعام وجهان أحدهما إطعام التعديل كالإطعام في جزاء الصيد لانه أقرب إلى الهدي ولانه يستوفى فيه قيمة الهدي
والثاني إطعام فدية الأذى لانه وجب للترفه فهو كفدية الأذى
وإن قلنا إن بدله الصوم ففي صومه ثلاثة أوجه أحدها صوم التمتع لانه وجب للتحلل كما وجب صوم التمتع للتحلل بين الحج والعمرة في أشهر الحج
والثاني صوم التعديل لان ذلك أقرب إلى الهدي لانه يستوفي قيمة الهدي ثم يصوم عن كل مد يوما
والثالث صوم فدية الأذى لانه وجب للترفه فهو كصوم فدية الأذى
فإن قلنا إنه مخير فهو بالخيار بين صوم فدية الأذى وبين إطعامها لانا بينا أنه في معنى فدية الأذى فإن أوجبنا عليه الإطعام وهو واجد أطعم وتحلل
وإن كان عادما له فهل يتحلل أم لا يتحلل حتى يجد الطعام على القولين كما قلنا في الهدي وإن أوجبنا الصيام فهل يتحلل قبل أن يصوم فيه وجهان أحدهما لا يتحلل كما لا يتحلل بالهدي حتى يهدي
والثاني يتحلل لانا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يفرغ من الصيام أدى إلى المشقة لان الصوم يطول فإذا تحلل نظرت فإن كان في حج تقدم وجوبه بقي الوجوب في ذمته وإن كان في تطوع لم يجب القضاء لانه تطوع أبيح له الخروج منه فإذا خرج لم يلزمه القضاء كصوم التطوع وإن كان الحصر خاصا بأن منعه غريمه ففيه قولان أحدهما لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في الحصر العام
والثاني يلزمه لانه تحلل قبل الإتمام بسبب يختص به فلزمه القضاء كما لو ضل الطريق ففاته الحج
وإن أحصر فلم يتحلل حتى فاته الوقوف نظرت فإن زال العذر وقدر على الوصول تحلل بعد عمرة ولزمه القضاء وهدى للفوات وإن فاته والعذر لم يزل تحلل ولزمه القضاء وهدي ( للفوات ) وهدي للإحصار فإن أفسد الحج ثم أحصر تحلل لانه إذا تحلل من الحج الصحيح فلان يتحلل من الفاسد أولى فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف لزمه ثلاثة دماء دم الفساد ودم الفوات ودم الإحصار ويلزمه قضاء واحد لان الحج واحد
فصل ومن أحرم فأحصره غريمه وحبسه ولم يجد ما يقضي دينه فله أن يتحلل لانه يشق البقاء على الإحرام
____________________
(1/234)
كما يشق بحبس العدو وإن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلل لانه لا يتخلص بالتحلل من الأذى الذي هو فيه فلا يتحلل كمن ضل الطريق
فصل وإن أحرم العبد بغير إذن المولى جاز للمولى أن يحلله لان منفعته مستحقة له فلا يملك إبطالها عليه بغير رضاه فإن ملكه السيد مالا وقلنا إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه أو ملكه وقلنا إنه لا يملك فهو كالحر المعسر وهل يتحلل قبل الهدي أو الصوم على ما ذكرناه من القولين في الحر
ومن أصحابنا من قال يجوز للعبد أن يتحلل قبل الهدي والصوم قولا واحدا لان على المولى ضررا في بقائه على الإحرام لانه ربما يحتاج أن يستخدمه في قتل صيد أو إصلاح طيب وإن أحرم بإذن المولى لم يجز له أن يحلله لانه عقد لازم عقده بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه كالنكاح وإن أحرم المكاتب بغير إذن المولى ففيه طريقان أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في سفره للتجارة
ومن أصحابنا من قال له أن يمنعه قولا واحدا لان في سفر الحج ضررا على المولى من غير منفعة وسفر التجارة فيه منفعة للمولى
فصل وإن أحرمت المرأة بغير إذن الزوج فإن كان في تطوع جاز له أن يحللها لان حق الزوج واجب فلا يجوز إبطاله عليه بتطوع وإن كان في حجة الإسلام ففيه قولان أحدهما أن له أن يحللها لان حقه على الفور والحج على التراخي فقدم حقه
والثاني أنه لا يملك لانه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم والصلاة
وإن أحرم الولد بغير إذن الأبوين فإن كان في حج فرض لم يجز لهما تحليله لانه حج فرض فلم يجز إخراجه منه كالصوم والصلاة
وإن كان في حج تطوع ففيه قولان أحدهما يجوز لهما تحليله لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد أن يجاهد وله أبوان قال ففيهما فجاهد فمنع من الجهاد لحقهما وهو فرض فدل على أن المنع من التطوع لحقهما أولى
والثاني لا يجوز لانه قربة لا مخافة عليه فيها فلا يجوز لهما تحليله منها كالصوم
فصل إذا أحرم وشرط التحلل لغرض صحيح مثل أن شرط أنه إذا مرض تحلل أو إذا ضاعت نفقته تحلل ففيه طريقان أحدهما أنه على قولين
أحدهما أنه لا يثبت الشرط لانه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر فلم يجز التحلل منها بالشرط ( لانها عبادة لا يجوز الخروج منها ) كالصلاة المفروضة
والثاني أنه يثبت الشرط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب قالت يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أن أهل قال أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني فدل على جواز الشرط
ومنهم من قال يصح الشرط قولا واحدا لانه علق أحد القولين على صحة حديث ضباعة وقد صح حديث ضباعة فعلى هذا إذا شرط أنه إذا مرض تحلل لم يتحلل إلا بالهدي وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالا فمرض صار حلالا
ومن أصحابنا من قال لا يتحلل إلا بالهدي لان مطلق كلام الآدمي يحمل على ما تقرر في الشرع والذي تقرر بالشرع أنه لا يتحلل إلا بالهدي وأما إذا شرط أنه يخرج منه إذا شاء أو يجامع فيه إذا شاء لم يجز لانه خروج من غير عذر فلم يصح شرطه
فصل إذا أحرم ثم ارتد ففيه وجهان أحدهما أنه يبطل إحرامه لانه إذا بطل الإسلام الذي هو الأصل فلان يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى
والثاني أنه لا يبطل كما لا يبطل بالجنون والموت فعلى هذا إذا رجع إلى الإسلام بنى عليه
باب الهدي يستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وينحره ويفرقه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة
والمستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا لقوله عز وجل { ومن يعظم شعائر الله } قال ابن عباس في تفسيرها الاستسمان والاستحسان والاستعظام فإن نذر وجب عليه لانه قربة فلزمه بالنذر فإن كان من الإبل والبقر فالمستحب أن يشعرها في صفحة
____________________
(1/235)
سنامها الأيمن ويقلدها نعلين لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذي الحليفة ثم أتى ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها ثم قلدها نعلين ولانه ربما اختلط بغيره فإذا أشعر وقلد تميز وربما ند فيعرف بالإشعار والتقليد فيرد وإن كان غنما قلدها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مرة غنما مقلدة وتقلد الغنم خرب القرب لان الغنم يثقل عليها حمل النعال
ولا ( يشعرها ) لان الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها
فصل فإن كان تطوعا فهو باق على ملكه وتصرفه إلى أن ينحر وإن كان نذرا زال ملكه عنه وصار للمساكين فلا يجوز له بيعه ولا إبداله بغيره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أهديت نجيبة وأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدنا وأنحرها قال لا ولكن انحرها إياها فإن كان مما يركب جاز له أن يركبه بالمعروف إذا احتاج لقوله تعالى { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } وسئل جابر رضي الله عنه عن ركوب الهدي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها فإن نقصت بالركوب ضمن النقصان وإن نتجت تبعها الولد وينحره معها سواء حدث بعد النذر أو قبله لما روي أن عليا رضي الله عنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ولانه معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع والعتق فإن لم يمكنه أن يمشي حمله على ظهر الأم لما روي أن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة إلى أن يضحى عليها ولا يشرب من لبنها إلا ما لا يحتاج إليه الولد لقول علي كرم الله وجهه ولان اللبن غذاء الولد والولد كالأم فإذا لم يجز أن يمنع الأم علفها لم يجز أن يمنع الولد غذاءه وإن فضل عن الولد شيء فله أن يشربه لقوله عز وجل { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } ولقول علي رضي الله عنه والأولى أن يتصدق به وإن كان لها صوف نظرت فإن كان في تركه صلاح بأن يكون في الشتاء وتحتاج إليه للدفء لم يجزه لانه ينتفع به الحيوان في دفع البرد عنه وينتفع به المساكين عند الذبح وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في وقت الصيف وقد بقي إلى وقت النحر مدة طويلة جزه لانه يترفه به الهدي ويستمر فتنتفع به المساكين فإن أحصر نحره حيث أحصر كما قلنا في هدي المحصر وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه لانه أمانة عنده فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة
وإن أصابه عيب ذبحه وأجزأه لان ابن الزبير أتى في هداياه بناقة عوراء فقال إن كان أصابها بعد ما اشتريتموها فأمضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها ولانه لو هلك جميعه لم يضمنه فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة
فصل وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي ثم يقول إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك ولانه هدي معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر
وهل يجوز أن يفرقه على فقراء الرفقة فيه وجهان أحدهما لا يجوز لحديث أبي قبيصة ولان فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطبها فلم يطعموا منها
والثاني يجوز لانهم من أهل الصدقة فجاز أن يطعموا كسائر الفقراء فإن أخر ذبحه حتى مات ضمنه لانه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها
وإن أتلفها لزمه الضمان لانه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ويضمنه بأكثر الأمرين من قيمته أو هدي مثله لانه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين فإن كانت القيمة مثل ثمن
____________________
(1/236)
مثله اشترى مثله وأهداه وإن كانت أقل لزمه أن يشتري مثله ويهديه وإن كانت أكثر من ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين اشتراهما وإن لم يمكنه اشترى هديا
وفيما يفضل ثلاثة أوجه أحدهما يشتري به جزءا من حيوان ويذبح لان إراقة الدم مستحقة فإذا أمكن لم يترك
والثاني أنه يشتري به اللحم لان اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت والتفرقة لا تشق فلم تسقط
والثالث أن يتصدق بالفاضل لانه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحدا وإن أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها وإن كانت أكثر ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل وفي الفاضل الأوجه الثلاثة
وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه الثلاثة وإن كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيبا بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب لانه قد أيس من الرد لحق الله عز وجل ويرجع بالأرش ويكون الأرش للمساكين لانه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة
فصل وإن ذبحه أجنبي بغير إذنه أجزأه عن النذر لان ذبحه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله بغير إذنه وقع الموقع كرد الوديعة وإزالة النجاسة ويجب على الذابح ضمان ما بين قيمته حيا ومذبوحا لانه لو أتلفه ضمنه فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم وفيما يؤخذ منه الأوجه الثلاثة
فصل وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين لان ما وجب معينا جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر
فإن هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان عليه دين فباع به عينا ثم هلكت العين قبل التسليم فإن الدين يرجع إلى الذمة وإن حدث به عيب يمنع الإجزاء لم يجزه عما في الذمة لان الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب وإن عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة
وهل يعود ما نحره إلى ملكه فيه وجهان أحدهما يعود إلى ملكه لانه إنما نحره ليكون عما في ذمته فإذا لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه
والثاني أنه لا يعود لانه صار للمساكين فلا يعود إليه
فإن قلنا إنه يعود إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ثم ينظر فيه فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى ملكه نحر مثله في الحرم وإن كان أعلى مما في ذمته ففيه وجهان أحدهما يهدي مثل ما نحر لانه قد تعين عليه فصار ما في ذمته زائدا فلزمه نحر مثله
والثاني أنه يهدي مثل الذي كان في ذمته لان الزيادة فيما عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط وإن نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا فيه وجهان أحدهما أنه يتبعها وهو الصحيح لانه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر والثاني لا يتبعها لانه غير مستقر لانه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به بخلاف ما وجب بنذره لان ذلك لا يجوز أن يعود إلى ملكه بنذره
والله أعلم
باب الأضحية الأضحية سنة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين قال أنس وأنا أضحي بهما وليست بواجبة لما روي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك واجبا
فصل في وقتها ويدخل وقتها إذا مضى بعد دخول وقت صلاة الأضحى قدر ركعتين وخطبتين فإن ذبح قبل ذلك لم يجزه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا هذه ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا ومن نسك قبل صلاتنا فذلك شاة لحم فليذبح مكانها واختلف أصحابنا في مقدار الصلاة
فمنهم من اعتبر قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ركعتان يقرأ فيهما ق و اقتربت الساعة وقدر خطبته
ومنهم من اعتبر قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين
ويبقى وقتها إلى آخر أيام التشريق لما روى جبير بن مطعم قال قال
____________________
(1/237)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أيام التشريق أيام ذبح فإن لم يضح حتى مضت أيام التشريق نظرت فإن كان ما يضحي تطوعا لم يصح لانه ليس بوقت لسنة الأضحية وإن كان نذرا لزمه أن يضحي لانه وجب عليه ذبحه فلم يسقط بفوات الوقت
فصل ومن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فالمستحب ألا يحلق شعره ولا يقلم أظفاره حتى يضحي لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي ولا يجب عليه ذلك لانه ليس بمحرم فلا يحرم عليه حلق الشعر ولا تقليم الظفر
فصل ولا يجزىء في الأضحية إلا الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله عز وجل { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولا يجزىء فيها إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعا من الضأن وعن علي رضي الله عنه أنه قال لا يجوز في الضحايا إلا الثني من المعز والجذع من الضأن وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تضحوا بالجذع من المعز والإبل والبقر
ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روت أم كرز عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكرانا كن أو إناثا وإذا جاز ذلك في العقيقة بالخبر دل على جوازه في الأضحية ولان لحم الذكر أطيب ولحم الأنثى أرطب
فصل والبدنة أفضل من البقرة لانها أعظم والبقرة أفضل من الشاة لانها بسبع من الغنم والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة لانه ينفرد بإراقة دم والضأن أفضل من المعز لما روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خير الأضحية الكبش الأقرن وقالت أم سلمة رضي الله عنها لان أضحي بالجذع من الضأن أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز ولان لحم الضأن أطيب والسمينة أفضل من غير السمينة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله عز وجل { ومن يعظم شعائر الله } قال تعظيمها استسمانها واستحسانها وخطب علي رضي الله عنه قال ثنيا فصاعدا واستسمن فإن أكلت أكلت طيبا وإن أطعمت أطعمت طيبا
والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء لان النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين والأملح الأبيض وقال أبو هريرة دم البيضاء في الأضحية أفضل من دم سوداوين
وقال ابن عباس تعظيمها استحسانها والبيض أحسن
فصل ولا يجزىء ما فيه عيب ينقص اللحم كالعوراء والعمياء والجرباء والعرجاء التي تعجز عن المشي في المرعى لما روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجزىء في الأضاحى العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقى فنص على هذه الأربعة لانها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز ويكره أن
____________________
(1/238)
يضحى بالجلحاء وهي التي لم يخلق لها قرن وبالقصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها وبالشرقاء وهي التي انتقبت من الكي أذنها وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول لان ذلك كله يشينها وقد روينا عن ابن عباس رضي الله عنه أن تعظيمها استحسانها فإن ضحى بما ذكرناه أجزأه لان ما بها لا ينقص من لحمها فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الإجزاء كالجرب وجب عليه ذبحه ولا يجزئه عن الأضحية فإن زال العيب قبل أن يذبح لم يجزه عن الأضحية لانه أزال الملك فيها بالنذر وهي لا تجزىء فلم يتغير حكمها بما يحدث فيها كما لو أعتق في الكفارة عبدا أعمى ثم صار بعد العتق بصيرا
فصل والمستحب أن يضحي بنفسه لحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين ووضع رجله على صفاحهما وسمى وكبر
ويجوز أن يستنيب غيره لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا رضي الله عنه فنحر ما غبر منها
والمستحب ألا يستنيب إلا مسلما لانه قربة فكان الأفضل ألا يتولاها كافر ولانه يخرج بذلك من الخلاف لان عند مالك رحمه الله لا يجزئه ذبحه فإن استناب يهوديا أو نصرانيا جاز لانه من أهل الزكاة
ويستحب أن يكون عالما لانه أعرف بسنة الذبح والمستحب أنه إذا استناب غيره أن يشهد الذبح لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك
ويستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ( ما من ) مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة ولانها قربة لا بد فيها من جهة فكانت القبلة فيها أولى
ويستحب أن يسمي الله تعالى لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى وكبر والمستحب أن يقول اللهم تقبل مني لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة
ثم يقول من الله وإلى الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا ضحى قال من الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل مني
فصل وإذا نحر الهدي أو الأضحية نظرت فإن كان تطوعا فالمستحب أن يأكل منه لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا رضي الله عنه فنحر ما غبر وأشركه في هديه وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلها في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها ولا يجب ذلك لقوله عز وجل { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين أكله وبين تركه وفي القدر الذي يستحب أكله قولان قال في القديم يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله عز وجل { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } فجعلها بين اثنين فدل على أنها بينهما نصفين
وقال في الجديد يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لقوله عز وجل { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وقال الحسن القانع الذي يسألك والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقال مجاهد القانع الجالس في بيته والمعتر الذي يسألك فجعلها بين ثلاثة فدل على أنها بينهم أثلاثا
____________________
(1/239)
وأما القدر الذي يجوز أن يؤكل ففيه وجهان قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص يجوز أن يأكل الجميع لانها ذبيحة يجوز أن يأكل منها فجاز أن يأكل جميعها كسائر الذبائح
وقال عامة أصحابنا يجب أن يبقى منها قدر ما يقع عليه اسم الصدقة لان القصد منها القربة فإذا أكل الجميع لم تحصل القربة له فإن أكل الجميع لم يضمن على قول أبي العباس وابن القاص ويضمن على قول سائر أصحابنا
وفي القدر الذي يضمن وجهان أحدهما يضمن أقل ما يجزىء في الصدقة
والثاني يضمن القدر المستحب وهو الثلث في أحد القولين والنصف في الآخر بناء على القولين فيمن فرق سهم الفقراء على اثنين وإن كان نذرا نظرت فإن كان قد عينه عما في ذمته لم يجز أن يأكل منه لانه بدل عن واجب فلم يجز أن يأكل منه كالدم الذي يجب بترك الإحرام من الميقات
وإن كان نذر مجازاة كالنذر لشفاء المريض وقدوم الغائب لم يجز أن يأكل منه لانه جزاء فلم يجز أن يأكل منه كجزاء الصيد فإن أكل شيئا منه ضمنه
وفي ضمانه ثلاثة أوجه أحدها يلزمه قيمة ما أكل كما لو أكل منه أجنبي
والثاني يلزمه مثله من اللحم لانه لو أكل جميعه ضمنه بمثله فإذا أكل بعضه ضمنه بمثله
والثالث يلزمه أن يشتري جزءا من حيوان مثله ويشارك في ذبحه
وإن كان نذرا مطلقا ففيه ثلاثة أوجه
أحدها أنه لا يجوز أن يأكل منه لانه إراقة دم واجب فلا يجوز أن يأكل منه كدم الطيب واللباس
والثاني يجوز لان مطلق النذر يحمل على ما تقرر في الشرع والهدي والأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها فحمل النذر ( عليها )
والثالث أنه إن كان أضحية جاز أن يأكل منها لان الأضحية المعهودة في الشرع يجوز الأكل منها وإن كان هديا لم يجز أن يأكل منه لان أكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الأكل منها فحمل النذر عليها
فصل ولا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية نذرا كان أو تطوعا لما روي عن علي كرم الله وجهه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة فأقسم جلالها وجلودها وأمرني ألا أعطي الجازر منها شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا ولو جاز أخذ العوض منه لجاز أن يعطي الجازر ( منها في ) أجرته ولانه إنما أخرج ذلك قربة فلا يجوز أن يرجع إليه إلا ما رخص فيه وهو الأكل
فصل ويجوز أن ينتفع بجلدها فيصنع منه النعال والخفاف والفراء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت دفت دافة من أهل البادية حضرت الأضحى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قالوا يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وتصدقوا وادخروا فدل على أنه يجوز اتخاذ الأسقية منها
فصل ويجوز أن يشترك سبعة في بدنة وفي بقرة لما روى جابر رضي الله عنه قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
وإن اشترك جماعة في بدنة أو بقرة وبعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة جاز لان كل سبع منها قائم مقام شاة
فإن أرادوا القسمة وقلنا إن القسمة فرز النصيبين قسم بينهم وإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز القسمة فيملك من يريد القربة نصيبه لثلاثة من الفقراء فيصيرون شركاء لمن يريد اللحم فإن شاءوا باعوا نصيبهم ممن يريد اللحم وإن شاءوا باعوا من أجنبي وقسموا الثمن
وقال أبو العباس بن القاص تجوز القسمة قولا واحدا لانه موضع ضرورة لان بيعه
____________________
(1/240)
لا يمكن وهذا خطأ لانا بينا أنه يمكن البيع فلا ضرورة بهم إلى القسمة
فصل إذا نذر أضحية بعينها فالحكم فيها كالحكم في الهدي المنذور في ركوبها وولدها ولبنها وجز صوفها وتلفها وإتلافها وذبحها ونقصانها بالعيب وقد بينا ذلك في ( باب ) الهدي فأغنى عن الإعادة والله أعلم
باب العقيقة العقيقة سنة وهو ما يذبح عن المولود لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين عليهما السلام
ولا يجب ذلك لما روى عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه وأن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك له فليفعل فعلق على المحبة فدل على أنها لا تجب ولانه إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم يجب كالأضحية
والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة لما روت أم كرز قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال للغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ولانه إنما شرع للسرور بالمولود والسرور بالغلام أكثر فكان ( الذبح عنه ) أكثر
وإن ذبح عن كل واحد منهما شاة جاز لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشا كبشا
ولا يجزىء فيه ما دون الجذعة من الضأن ودون الثنية من المعز ولا يجزىء فيه إلا السليم من العيوب لانه إراقة دم بالشرع فاعتبر فيه ما ذكرناه كالأضحية
والمستحب أن يسمي الله تعالى ويقول اللهم لك وإليك عقيقة فلان لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين وقال قولوا باسم الله اللهم لك وإليك عقيقة فلان
والمستحب أن يفصل أعضاءها ولا يكسر عظمها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع ولانه أول ذبيحة فاستحب ألا يكسر عظم تفاؤلا بسلامة أعضائه ويستحب أن يطبخ من لحمها طبيخا حلوا تفاؤلا بحلاوة أخلاقه
فصل ويستحب أن يأكل منها ويهدي ويتصدق لحديث عائشة ولانه إراقة دم مستحب فكان حكمها ما ذكرناه كالأضحية
فصل والسنة أن يكون ذلك في اليوم السابع لما روت عائشة رضي الله عنها قالت عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى فإن قدمه على اليوم السابع أو أخره أجزأه لانه فعل ذلك بعد وجود السبب
والمستحب أن يحلق شعره بعد الذبح لحديث عائشة ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع في الرأس
والمستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران ويكره أن يلطخ بدم العقيقة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا
____________________
(1/241)
فصل ويستحب لمن ولد له ولد أن يسميه بعبد الله أو عبد الرحمن لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ويكره أن يسمي نافعا وبشارا ونجيحا ورباحا أو أفلح وبركة لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسمين غلامك أفلح ولا نجيحا ولا بشارا ولا رباحا فإنك إذا قلت أثم هؤلاء قالوا لا ويكره أن يسمى باسم قبيح فإن سمي باسم قبيح غيره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم عاصية وقال أنت جميلة
ويستحب لمن ولد له ولد أن يؤذن في أذنه لما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة عليهما السلام بالصلاة ويستحب أن يحنك المولود بالتمر لما روى أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد فقال هل معك تمر قلت نعم فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر وسماه عبد الله
باب النذر ويصح النذر من كل مسلم بالغ عاقل فأما الكافر فلا يصح نذره
ومن أصحابنا من قال يصح نذره لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك
والمذهب الأول لانه سبب وضع لايجاب القربة فلم يصح من الكافر كالإحرام وأما الصبي والمجنون فلا يصح نذرهما لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولانه إيجاب حق بالقول فلا يصح من الصبي والمجنون كضمان المال
فصل ولا يصح النذر إلا بالقول وهو أن يقول لله علي كذا فإن قال على كذا ولم يقل لله صح لان القربة لا تكون عليه إلا لله تعالى فحمل الإطلاق عليه وقال في القديم إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى أنها هدى أو أضحية صارت هديا أو أضحية لان النبي صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة وقلدها ولم ينقل أنه قال إنها هدي وصارت هديا
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يصير هديا أو أضحية بمجرد النية
ومن أصحابنا من قال إن ذبح ونوى صار هديا أو أضحية والصحيح هو الأول لانه إزالة ملك يصح بالقول فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولانه لو كتب على دار أنها وقف أو على فرس أنها في سبيل الله لم تصر وقفا فكذلك ههنا
فصل ويجب بالنذر جميع الطاعات المستحبة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وأما المعاصي كالقتل والزنا وصوم يوم العيد وأيام الحيض والتصدق بما لا يملكه فلا يصح نذرها لما روى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم ولا يلزمه بنذرها كفارة
وقال الربيع إذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض وجبت عليها كفارة يمين ولعله خرج ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم كفارة النذر كفارة يمين
والمذهب الأول والحديث متأول فأما المباحات كالأكل والشرب فلا تلزم بالنذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل قائم في الشمس لا يستظل فسأل عنه فقيل هذا ابن إسرائيل نذر أن يقف ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه
فصل فإن نذر طاعة نظرت فإن علق ذلك على إصابة خير أو دفع سوء فأصاب الخير أو دفع السوء عنه لزمه الوفاء بالنذر
____________________
(1/242)
لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة ركبت في البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرا فماتت قبل أن تصوم شهرا فأتت أختها أو أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنها فإن لم يعلقه على شيء بأن قال لله علي أن أصوم أو أصلي ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمه وهو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه
والثاني لا يلزمه وهو قول أبي إسحاق وأبي بكر الصيرفي لانه التزام من غير عوض فلم يلزمه بالقول كالوصية والهبة وإن نذر طاعة في لجاج وغضب بأن قال إن كلمت فلانا فعلي كذا فكلمه فهو بالخيار بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كفارة النذر كفارة يمين ولانه يشبه اليمين من حيث إنه قصد المنع والتصديق ويشبه النذر من حيث إنه التزم قربة في ذمته فخير بين موجبهما
ومن أصحابنا من قال إن كانت القربة حجا أو عمرة لزمه الوفاء به لان ذلك يلزم بالدخول فيه بخلاف غيره والمذهب الأول لان العتق أيضا يلزم إتمامه بالتقويم ثم لا يلزمه
فصل إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بالجميع لقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه فإن نذر أن يعتق رقبة ففيه وجهان أحدهما يجزئه ما يقع عليه الاسم اعتبارا بلفظه
والثاني لا يجزئه إلا ما يجزىء في الكفارة لان الرقبة التي يجب عتقها بالشرع ما تجب في الكفارة فحمل النذر عليه
فإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه أن يعتقها ولا يزول ملكه عنها حتى يعتقها فإن أراد بيعها أو إبدالها بغيرها لم يجز لانه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف وإن تلف أو أتلفه لم يلزمه بدله لان الحق للعبد فسقط بموته فإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة للمولى ولا يلزمه صرفها في عبد آخر لما ذكرناه
فصل وإن نذر هديا نظرت فإن سماه كالثوب والعبد والدار لزمه ما سماه وإن أطلق الهدي ففيه قولان قال في الإملاء و القديم يهدي ما شاء لان اسم الهدي يقع عليه ولهذا يقال أهديت له دارا وأهدى لي ثوبا وأن الجميع يسمى قربانا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الجمعة من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا سمي قربانا وجب أن يسمى هديا
وقال في الجديد لا يجزئه إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر لان الهدي المعهود في الشرع ما ذكرناه فحمل مطلق النذر عليه
وإن نذر بدنة أو بقرة أو شاة فإن قلنا بالقول الأول أجزأه من ذلك ما يقع عليه الاسم وإن قلنا بالقول الثاني لم يجزه إلا ما يجزىء في الأضحية
وإن نذر شاة فأهدى بدنة أجزأه لان البدنة بسبع من الغنم
وهل يجب الجميع فيه وجهان أحدهما أن الجميع واجب لانه مخير بين الشاة والبدنة فأيهما فعل كان واجبا كما تقول في العتق والإطعام في كفارة اليمين
والثاني أن الواجب هو السبع لان كل سبع منها بشاة فكان الواجب هو السبع
وإن نذر بدنة وهو واجد للبدنة ففيه وجهان أحدهما أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم لان كل واحد من الثلاثة قائم مقام الآخر
والثاني أنه لا يجزئه غير البدنة لانه عينها بالنذر وإن كان عادما للبدنة انتقل إلى البقرة فإن لم يجد بقرة انتقل إلى سبع من الغنم
ومن أصحابنا من قال لا يجزئه غير البدنة فإن لم يجد ثبتت في ذمته إلى أن يجد لانه التزم ذلك بالنذر والمذهب الأول لانه فرض له بدل فانتقل عند العجز إلى بدله كالوضوء
فصل فإن نذر الهدي للحرم لزمه في الحرم وإن نذر لبلد آخر لزمه في البلد الذي سماه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا لمكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك فإن نذر لافضل بلد لزمه بمكة لانها أفضل البلاد والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته أي بلد أعظم حرمة قالوا بلدنا هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ولان مسجدها أفضل المساجد فدل على أنها أفضل البلاد
وإن أطلق النذر ففيه وجهان أحدهما يجوز حيث شاء لان الاسم يقع عليه
والثاني لا يجوز إلا في الحرم لان الهدي المعهود في الشرع هو الهدي
____________________
(1/243)
في الحرم والدليل عليه قوله تعالى { هديا بالغ الكعبة } وقال تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } فحمل مطلق النذر عليه
فإن كان قد نذر الهدي لرتاج الكعبة أو عمارة مسجد لزمه صرفه فيما نذر فإن أطلق ففيه وجهان أحدهما أن له أن يصرفه فيما شاء من وجوه القرب في ذلك البلد الذي نذر الهدي فيه لان الاسم يقع عليه
والثاني أنه يفرقه على مساكين البلد الذي نذر أن يهدى إليه لان الهدي المعهود في الشرع ما يفرق على المساكين فحمل مطلق النذر عليه وإن كان ما نذره مما لا يمكن نقله كالدار باعه ونقل ثمنه إلى حيث نذر
فصل وإن نذر النحر في الحرم ففيه وجهان أحدهما يلزمه النحر دون التفرقة لانه نذر أحد مقصودي الهدي فلم يلزمه الآخر كما لو نذر التفرقة
والثاني يلزمه النحر والتفرقة وهو الصحيح لان نحر الهدي في الحرم في عرف الشرع ما يتبعه التفرقة فحمل مطلق النذر عليه
وإن نذر النحر في بلد غير الحرم ففيه وجهان أحدهما لا يصح ( النذر ) لان النحر في غير الحرم ليس بقربة فلم يلزمه بالنذر
والثاني يلزمه النحر والتفرقة لان النحر على وجه القربة لا يكون إلا للتفرقة فإذا نذر النحر تضمن التفرقة
فصل وإن نذر صلاة لزمه ركعتان في أظهر القولين لان أقل صلاة واجبة في الشرع ركعتان فحمل النذر عليه وتلزمه ركعة في القول الآخر لان الركعة صلاة في الشرع وهي الوتر فلزمه ذلك وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز له أن يصلي في غيره لان ما سوى المساجد الثلاثة في الحرمة والفضيلة واحدة فلم يتعين بالنذر وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لزمه فعلها فيه لانه يختص بالنسك والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره والدليل عليه ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدى هذا فلا يجوز أن يسقط ما نذره بالصلاة في غيره وإن نذر الصلاة في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان أحدهما يلزمه لانه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فأشبه المسجد الحرام
والثاني لا يلزمه لانه لا يجب قصده بالنسك فلا تتعين الصلاة فيه بالنذر كسائر المساجد فإن قلنا يلزمه فصلى في المسجد الحرام أجزأه عن النذر لان الصلاة في المسجد الحرام أفضل فسقط به فرض النذر
وإن نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فصلى في مسجد المدينة أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صل ههنا فأعاد عليه فقال صل ههنا ثم أعاد عليه فقال شأنك ولان الصلاة فيه أفضل من الصلاة في بيت المقدس فسقط به فرض النذر
فصل وإن نذر الصوم لزمه صوم يوم لان أقل الصوم يوم وإن نذر صوم سنة بعينها لزمه صومها متتابعا كما يلزمه صوم رمضان متتابعا فإذا جاء رمضان صام عن رمضان لانه مستحق بالشرع ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر ولا يلزمه قضاؤه عن النذر لانه لم يدخل في النذر ويفطر في العيدين وأيام التشريق لانه مستحق للفطر ولا يلزمه قضاؤها لانه لم يتناولها النذر وإن كانت امرأة فحاضت فهل يلزمها القضاء فيه قولان أحدهما لا يلزمها لانه مستحق للفطر فلا يلزمها قضاؤه كأيام العيد
والثاني يلزمها لان الزمان محل للصوم وإنما تفطر هي وحدها فإن أفطر فيه لغير عذر نظرت فإن لم يشترط فيه التتابع أثم ما بقي لان التتابع فيه يجب لاجل الوقت فهو كالصائم في رمضان إذا أفطر بغير عذر ويجب عليه قضاؤه كما يجب على الصائم في رمضان وإن شرط التتابع لزمه أن يستأنف لان التتابع لزمه بالشرط فبطل بالفطر كصوم الظهار
وإن أفطر لمرض وقد شرط التتابع ففيه
____________________
(1/244)
قولان أحدهما ينقطع التتابع لانه أفطر باختياره
والثاني لا ينقطع لانه أفطر بعذر فأشبه الفطر بالحيض فإن قلنا لا ينقطع التتابع فهل يجب القضاء ففيه وجهان بناء على القولين في الحائض وقد بيناه
وإن أفطر بالسفر فإن قلنا إنه ينقطع التتابع بالمرض فالسفر أولى وإن قلنا لا ينقطع بالمرض ففي السفر وجهان أحدهما لا ينقطع لانه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض
والثاني ينقطع لان سببه باختياره بخلاف المرض
وإن نذر سنة غير معينة فإن لم يشترط التتابع جاز متتابعا ومتفرقا لان الاسم يتناول الجميع فإن صام شهورا بالأهلة وهي ناقصة أجزأه لان الشهور في الشرع بالأهلة وإن صام سنة متتابعة لزمه قضاء رمضان وأيام العيد لان الفرض في الذمة فانتقل فيما لم يسلم منه إلى البدل كالمسلم فيه إذا رد بالعيب ويخالف السنة المعينة فإن الفرض فيها يتعلق بمعين فلم ينتقل فيما لم يسلم إلى البدل كالسلعة المعينة إذا ردها بالعيب
وأما إذا شرط فيها التتابع فإنه يلزمه صومها متتابعا على ما ذكرناه
فصل وإن نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثانين رمضان لانه يعلم أن رمضان لا بد فيه من الأثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وفيما يوافق منها أيام العيد قولان أحدهما لا يجب وهو قول المزني قياسا على ما يوافق رمضان
والثاني يجب لانه نذر ما يجوز ألا يوافق أيام العيد فإذا وافق لزمه القضاء وإن لزمه صوم الأثانين بالنذر ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين لانه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين أن يقضي صوم الأثانين وإذا بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى فإذا فرغ من صوم الشهرين لزمه قضاء صوم الأثانين لانه لم يمكنه صيامها وإنما تركه لعارض فلزمه القضاء كما لو تركه لمرض وإن وجب عليه صوم الشهرين ثم نذر صوم الأثانين بدأ بصوم الشهرين ثم يقضي صوم الأثانين كما قلنا فيما تقدم
ومن أصحابنا من قال لا يجب القضاء لانه استحق صيامه عن الكفارة فلا يدخل في النذر
والمذهب الأول أنه يلزمه لانه كان يمكنه صومه عن النذر فإذا صامه عن غيره لزمه القضاء
فصل وإن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ففيه قولان أحدهما يصح نذره لانه يمكنه أن ( يتحرى اليوم ) الذي يقدم فيه فينوي صيامه من الليل فإذا قدم صار ما صامه قبل القدوم تطوعا وما بعده فرضا وذلك يجوز كما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه
والثاني لا يصح نذره لانه لا يمكنه الوفاء بنذره لانه إن قدم بالنهار فقد مضى جزء منه وهو فيه غير صائم وإن تحرى اليوم الذي يقدم فيه فنوى من الليل فقدم في أثناء النهار كان ما قبل القدوم تطوعا وقد أوجب صوم جميعه بالنذر
فإن قلنا إنه يصح نذره فقدم ليلا لم يلزمه لان الشرط أن يقدم نهارا وذلك لم يوجد فإن قدم نهارا وهو مفطر لزمه قضاؤه وإن قدم نهارا وهو صائم عن تطوع لم يجزه عن النذر لانه لم ينو من أوله وعليه أن يقضيه وإن عرف أنه يقدم غدا فنوى الصوم من الليل عن النذر صح عن النذر ويكون أوله تطوعا والباقي فرضا
فإن اجتمع في يوم نذران بأن قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول خميس بعده فقدم زيد وعمرو يوم الأربعاء لزمه صوم يوم الخميس عن أول نذر نذره ثم يقضي عن الآخر
فصل وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح النذر فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء لان الشرط لم يوجد وإن قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية النهار
وفي قضاء ما فات وجهان أحدهما يلزمه وهو اختيار المزني
والثاني لا يلزمه وهو المذهب لان ما مضى قبل القدوم لم يدخل في النذر فلا يلزمه قضاؤه وإن قدم وهو محبوس أو مريض فالمنصوص أنه يلزمه القضاء لانه فرض وجد شرطه في حال المرض فثبت في الذمة كصوم رمضان وقال القاضى أبو حامد وأبو علي الطبري لا يلزمه لان ما لا يقدر عليه لا يدخل النذر كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه
فصل وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج أو عمرة لانه لا قربة في المشي إليه إلا بنسك فحمل مطلق النذر عليه
ومن أي موضع يلزمه المشي والإحرام فيه وجهان
قال أبو إسحاق يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله لان الأصل في الإحرام أن
____________________
(1/245)
يكون من دويرة أهله وإنما أجيز تأخيره إلى الميقات رخصة فإذا أطلق النذر حمل على الأصل
وقال عامة أصحابنا يلزمه الإحرام والمشي من الميقات لان مطلق كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع والمعهود هو من الميقات فحمل النذر عليه
فإن كان معتمرا لزمه المشي إلى أن يفرغ وإن كان حاجا لزمه المشي إلى أن يتحلل التحلل الثاني لان بالتحلل الثاني يخرج من الإحرام فإن فاته لزمه القضاء ماشيا لان فرض النذر يسقط بالقضاء فلزمه المشي فيه كالأداء
وهل يلزمه أن يمشي في فائتة فيه قولان أحدهما يلزمه لانه لزمه بحكم النذر فلزمه المشي فيه كما لو لم يفته
والثاني لا يلزمه لان فرض النذر لا يسقط به
وإن نذر المشي فركب وهو قادر على المشي لزمه دم لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال إن الله لغني عن نذر أختك لتركب ولتهد بدنة ولانه صار بالنذر نسكا واجبا فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات وإن لم يقدر على المشى فله أن يركب لانه إذا جاز أن يترك القيام الواجب في الصلاة للعجز جاز أن يترك المشي فإن ركب فهل يلزمه دم فيه قولان أحدهما لا يلزمه لان حال العجز لم يدخل في النذر
والثاني يلزمه لان ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالطيب واللباس
وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى لزمه دم لانه ترفه بترك مؤنة الركوب
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجا ولا معتمرا ففيه وجهان أحدهما لا ينعقد نذره لان المشي في غير نسك ليس بقربة فلم ينعقد كالمشي إلى غير البيت
والثاني ينعقد نذره ويلزمه المشي بحج أو عمرة لانه لما نذر المشي لزمه المشي بنسك ثم رام إسقاطه فلم يسقط وإن نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل الحرام ولا نواه فالمذهب أنه يلزمه لان البيت المطلق بيت الله الحرام فحمل مطلق النذر عليه
ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لان البيت يقع على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد فلا يجوز حمله على البيت الحرام فإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي بحج أو عمرة لان قصده لا يجوز من غير إحرام فكان إيجابه إيجابا للإحرام
وإن نذر المشي إلى عرفات لم يلزمه لانه يجوز قصده من غير إحرام فلم يكن في نذره المشي إليه أكثر من إيجاب مشي وذلك ليس بقربة فلم يلزمه
وإن نذر المشي إلى مسجد غير المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لم يلزمه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة ففيه قولان قال في البويطي يلزمه لانه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فلزمه المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام
وقال في الأم لا يلزمه لانه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد
فصل وإن نذر أن يحج في هذه السنة نظرت فإن تمكن من أدائه فلم يحج صار ذلك دينا في ذمته كما قلنا في حجة الإسلام
وإن لم يتمكن من أدائه في هذه السنة سقط عنه فإن قدر بعد ذلك لم يجب لان النذر اختص بتلك السنة فلم يجب في سنة أخرى إلا بنذر آخر
باب الأطعمة ما يؤكل شيئان حيوان وغير حيوان فأما الحيوان فضربان حيوان البر وحيوان البحر فأما حيوان البر فضربان طاهر ونجس فأما النجس فلا يحل أكله وهو الكلب والخنزير والدليل عليه قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وقوله عز وجل { ويحرم عليهم الخبائث } والكلب من الخبائث والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم الكلب خبيث خبيث ثمنه
وأما الطاهر فضربان طائر ودواب فأما الدواب فضربان دواب الإنس ودواب الوحش فأما دواب الإنس فإنه يحل منها الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام } وقوله عز وجل { ويحل لهم الطيبات } والأنعام من الطيبات لم يزل الناس يأكلونها ويبيعون لحومها في الجاهلية والإسلام
ويحل أكل الخيل لما روى جابر رضي الله عنه قال ذبحنا يوم حنين الخيل
____________________
(1/246)
والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل
ولا تحل البغال والحمير لحديث جابر رضي الله عنه
ولا يحل السنور لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الهرة سبع ولانه يصطاد بالناب ويأكل الجيف فهو كالأسد
فصل وأما الوحش فإنه يحل منه الظباء والبقر لقوله عز وجل { ويحل لهم الطيبات } والظباء والبقر من الطيبات يصطاد ويؤكل ويحل الحمار الوحشي للآية ولما روي أن أبا قتادة كان مع قوم محرمين وهو حلال فسنح لهم حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فأكلوا منها وقالوا أنأكل من لحم صيد ونحن محرمون فحملوا ما بقي من لحمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا ما بقي من لحمها ويحل أكل الضبع لقوله عز وجل { ويحل لهم الطيبات } قال الشافعي رحمه الله ما زال الناس يأكلون الضبع ويبيعونه بين الصفا والمروة وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الضبع صيد يؤكل وفيه كبش إذا أصابه المحرم
فصل ويحل أكل الأرنب لقوله تعالى { ويحل لهم الطيبات } والأرنب من الطيبات ولما روى جابر أن غلاما من قومه أصاب أرنبا فذبحها بمروة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلها فأمره أن يأكلها
ويحل اليربوع لقوله عز وجل { ويحل لهم الطيبات }
واليربوع من الطيبات تصطاده العرب وتأكله وأوجب فيه عمر رضي الله عنه على المحرم إذا أصابه جفرة فدل على أنه صيد مأكول ويحل أكل الثعلب لقوله تعالى { ويحل لهم الطيبات } والثعلب من الطيبات مستطاب يصطاد ولانه لا يتقوى بنابه فأشبه الأرنب ويحل أكل ابن عرس والوبر لما ذكرناه في الثعلب ويحل أكل القنفذ لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن القنفذ فتلا قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية
ولانه مستطاب لا يتقوى بنابه فحل أكله كالأرنب ويحل أكل الضب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة رضي الله عنها فوجد عندها ضبا محنوذا فقدمت الضب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال خالد أحرام الضب يا رسول الله قال لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته بنابه ويعدو على الناس وعلى البهائم كالأسد والفهد والذئب والنمر والدب لقوله عز وجل { ويحرم عليهم الخبائث } وهذه السباع من الخبائث ورسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/247)
ينظر فلم ينهه ولا يحل ما يتقوى لانها تأكل الجيف ولا تستطيبها العرب ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وأكل ذى مخلب من الطير وفي ابن آوى وجهان أحدهما يحل لانه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب
والثاني لا يحل لانه مستخبث كريه الرائحة ولانه من جنس الكلاب فلم يحل أكله وفي السنور الوحشي وجهان أحدهما لا يحل لانه يصطاد بنابه فلم يحل كالأسد والفهد
والثاني يحل لانه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي يحرم الأهلي منه ويحل الوحشي منه كالحمار الوحشي ولا يحل أكل حشرات الأرض كالحيات والعقارب والفأر والخنافس والعظاء والصراصر والعناكب والوزغ وسام أبرص والجعلان والديدان وبنات وردان وحمار قبان لقوله عز وجل { ويحرم عليهم الخبائث }
فصل وأما الطائر فإنه يحل منه النعامة لقوله تعالى { ويحل لهم الطيبات } وقضت الصحابة فيها ببدنة فدل على أنها صيد مأكول
ويحل الديك والدجاج والحمام والدراج والقبج والقطا والبط والكراكي والعصفور والقنابر لقوله تعالى { ويحل لهم الطيبات }
____________________
(1/248)
وهذه كلها مستطابة وروى أبو موسى الأشعري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج وروى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حبارى
ويحل أكل الجراد لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات يأكل الجراد ونأكله ويحرم أكل الهدهد والخطاف لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلهما وما يؤكل لا ينهى عن قتله ويحرم ما يصطاد ويتقوى بالمخلب كالصقر والبازي لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ويحرم أكل الحدأة والغراب الأبقع لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والحدأة والكلب العقور
وما أمر بقتله ( لا يحل أكله )
قالت عائشة رضي الله عنها إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله
ويحرم الغراب الأسود الكبير لانه مستخبث بأكل الجيف فهو كالأبقع وفي الغداف وغراب الزرع وجهان أحدهما لا يحل للخبر
والثاني يحل لانه مستطاب يلقط الحب فهو كالحمام والدجاج ويحرم حشرات الطير كالنحل والزنبور والذباب لقوله عز وجل { ويحرم عليهم الخبائث } وهذه من الخبائث
فصل وما سوى ذلك من الدواب والطير ينظر فيه فإن كان مما يستطيبه العرب حل أكله وإن كان مما لا يستطيبه العرب لم يحل أكله لقوله عز وجل { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } ويرجع في ذلك إلى العرب من أهل الريف والقرى وذوي اليسار والغنى دون الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة فإن استطاب قوم شيئا واستخبثه قوم رجع إلى ما عليه الأكثر
وإن اتفق في بلد العجم ما لا يعرفه العرب نظرت إلى ما يشبهها فإن كان حلالا حل وإن كان حراما حرم وإن لم يكن له شبيه فيما يحل ولا فيما يحرم ففيه وجهان قال أبو إسحاق وأبو علي الطبري يحل لقوله عز وجل { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وهذا ليس بواحد منها
وقال ابن عباس رضي الله عنه ما سكت عنه فهو عفو
ومن أصحابنا من قال لا يحل أكله لان الأصل في الحيوان التحريم فإذا أشكل بقي على الأصل
فصل ولا يحل ما تولد بين مأكول وغير مأكول كالسبع المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحوش وحمار الأهل لانه مخلوق مما يؤكل ومما لا يؤكل فغلب فيه الحظر كالبغل
____________________
(1/249)
فصل ويكره أكل الجلالة وهي التي أكثر أكلها العذرة
من ناقة أو شاة أو بقرة أو ديك أو دجاجة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبان الجلالة ولا يحرم أكلها لانه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها وهذا لا يوجب التحريم فإن أطعم الجلالة طعاما طاهرا فطاب لحمها لم يكره لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال تعلف الجلالة علفا طاهرا إن كانت ناقة أربعين يوما وإن كانت شاة سبعة أيام وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام
فصل وأما حيوان البحر فإنه يحل منه السمك لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال
ولا يحل أكل الضفدع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع ولو حل أكله لم ينه عن قتله
وفيما سوى ذلك وجهان أحدهما يحل لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر اغتسلوا منه وتوضؤوا به فإنه الطهور ماؤه الحل ميتته ولانه حيوان لا يعيش إلا في الماء فحل أكله كالسمك
والثاني أن ما أكل مثله في البر يحل أكله وما لا يؤكل مثله في البر لم يحل أكله اعتبارا بمثله
فصل وأما غير الحيوان فضربان طاهر ونجس فأما النجس فلا يؤكل لقوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } والنجس خبيث وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تقع في السمن إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه فلو حل أكله لم يأمر بإراقته
وأما الطاهر فضربان ضرب يضر وضرب لا يضر فما يضر لا يحل أكله كالسم والزجاج والتراب والحجر والدليل عليه قوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وأكل هذه الأشياء تهلكة فوجب ألا يحل
وما لا يضر يحل أكله كالفواكه والحبوب والدليل عليه قوله تعالى { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }
فصل ومن اضطر إلى أكل الميتة أو لحم الخنزير فله أن يأكل منه ما يسد به الرمق لقوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وهل يجب أكله فيه وجهان أحدهما يجب لقوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم }
والثاني لا يجب وهو قول أبي إسحاق لان له غرضا في تركه وهو أن يجتنب ما حرم عليه
وهل يجوز أن يشبع منه فيه قولان أحدهما لا يجوز وهو اختيار المزني لانه بعد سد الرمق غير مضطر فلا يجوز له أكل الميتة كما لو أراد أن يبتدىء بالأكل وهو غير مضطر
والثاني يحل لان كل طعام جاز أن يأكل منه قدر سد الرمق جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال
وإن اضطر إلى طعام غيره وصاحبه غير مضطر إليه وجب عليه بذله لان الامتناع من بذله إعانة على قتله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل امرىء مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله
وإن طلب منه ثمن المثل لزمه أن يشتريه منه ولا يجوز أن يأكل الميتة لانه غير مضطر فإن طلب أكثر من ثمن المثل وامتنع من بذله فله أن يقاتله عليه فإن لم يقدر على مقاتلته فاشترى منه بأكثر من ثمن المثل ففيه وجهان أحدهما يلزمه لانه ثمن في بيع صحيح
والثاني لا يلزمه إلا ثمن المثل كالمكره على شرائه فلم يلزمه أكثر من ثمن المثل
وإن وجد الميتة وطعام الغير وصاحبه غائب ففيه وجهان أحدهما أنه يأكل الطعام لانه طاهر فكان أولى
والثاني يأكل الميتة لان أكل الميتة ثبت بالنص وطعام الغير ثبت بالاجتهاد فقدم أكل الميتة عليه ولان المنع من أكل الميتة لحق الله سبحانه وتعالى والمنع من طعام الغير لحق الآدمي وحقوق الله تعالى مبنية على التسهيل وحقوق الآدمي مبنية على التشديد
وإن وجد ميتة وصيدا وهو محرم ففيه طريقان من أصحابنا من قال إذا قلنا إنه إذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة أكل الميتة
وترك الصيد لانه إذا زكاه صار ميتة ولزمه الجزاء
وإن قلنا إنه لا يصير ميتة أكل الصيد لانه طاهر ولان تحريمه أخف لانه يحرم عليه وحده والميتة
____________________
(1/250)
محرمة عليه وعلى غيره
ومن أصحابنا من قال إن قلنا إنه يصير ميتة أكل الميتة وإن قلنا إنه لا يكون ميتة ففيه قولان أحدهما يذبح الصيد ويأكله لانه طاهر ولان تحريمه أخف على ما ذكرناه
والثاني أنه يأكل الميتة لانه منصوص عليها والصيد مجتهد فيه
وإن اضطر ووجد آدميا ميتا جاز له أكله لان حرمة الحي آكد من حرمة الميت
وإن وجد مرتدا أو من وجب قتله في الزنا جاز له أن يأكله لان قتله مستحق
وإن اضطر ولم يجد شيئا فهل يجوز له أن يقطع شيئا من بدنه ويأكله فيه وجهان قال أبو إسحاق يجوز لانه إحياء نفس بعضو فجاز كما يجوز أن يقطع عضوا إذا وقعت فيه الأكلة لاحياء نفسه
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لانه إذا قطع عضوا منه كان المخافة عليه أكثر
وإن اضطر إلى شرب الخمر أو البول شرب البول لان تحريم الخمر أغلظ ولهذا يتعلق به الحد فكان البول أولى
وإن اضطر إلى شرب الخمر وحدها ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يجوز أن يشرب لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم
والثاني يجوز لانه يدفع به الضرر عن نفسه فصار كما لو أكره على شربها
والثالث أنه إن اضطر إلى شربها للعطش لم يجز لانها تزيد في الإلهاب والعطش وإن اضطر إليها للتداوي جاز
فصل وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر لم يجز أن يأخذ منه شيئا بغير إذن صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب ( نفسه )
فصل ولا يحرم كسب الحجام لما روى أبو العالية أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن كسب الحجام فقال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه أجره ولو كان حراما ما أعطاه
ويكره للحر أن يكتسب بالحجامة وغيرها من الصنع الدنيئة كالكنس والذبح والدبغ لانها مكاسب دنيئة فينزه الحر منها ولا يكره للعبد لان العبد أدنى فلا يكره له
وبالله التوفيق
باب الصيد والذبائح لا يحل شيء من الحيوان المأكول سوى السمك والجراد إلا بذكاة لقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب }
ويحل السمك والجراد من غير ذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان السمك والجراد لان ذكاتهما لا تمكن في العادة فسقط اعتبارها
فصل والأفضل أن يكون المذكي مسلما فإن ذبح مشرك نظرت فإن كان مرتدا أو وثنيا أو مجوسيا لم يحل لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب
وإن كان يهوديا أو نصرانيا من العجم حل للآية وإن كان من نصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب لم يحل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا تحل ذبائح نصارى بنى تغلب ولانهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل منهم فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تحل ذبائحهم
والمستحب أن يكون المزكى رجلا لانه أقوى على الذبح من المرأة فإن كان امرأة جاز لما روى كعب بن مالك أن جارية لهم كسرت حجرا فذبحت بها شاة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بأكلها ويستحب أن يكون بالغا
____________________
(1/251)
لانه أقدر على الذبح
فإن ذبح صبي حل لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال من ذبح من ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير وذكر اسم الله عليه حل
ويكره ذكاة الأعمى لانه ربما أخطأ المذبح فإن ذبح حل لانه لم يفقد فيه إلا النظر وذلك لا يوجب التحريم
ويكره ذكاة السكران والمجنون لانه لا يؤمن أن يخطىء المذبح فيقتل الحيوان فإن ذبح حل لانه لم يفقد في ذبحهما إلا القصد والعلم وذلك لا يوجب التحريم كما لو ذبح شاة وهو يظن أنه يقطع حشيشا
فصل والمستحب أن يذبح بسكين حادة لما روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته فإن ذبح بحجر محدد أو ليطة حل لما ذكرناه من حديث كعب بن مالك في المرأة التي كسرت حجرا فذبحت بها شاة ولما روي أن رافع بن خديج قال يا رسول الله إنا نرجو أن نلقى العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأخبركم ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة وإن ذبح بسن أو ظفر لم يحل لحديث رافع بن خديج
والمستحب أن تنحر الإبل معقولة من قيام لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه رأى رجلا أضجع بدنة فقال قياما سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
وتذبح البقر والغنم مضجعة لما روي أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ووضع رجليه على صفاحهما وسمى وكبر
والبقر كالغنم في الذبح فكان مثله في الإضجاع والمستحب أن توجه الذبيحة إلى القبلة لانه لا بد لها من جهة فكانت جهة القبلة أولى والمستحب أن يسمي الله تعالى على الذبح لما روى عدي بن حاتم قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه فإن ترك التسمية لم يحرم لما روت عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا يا رسول الله إن قوما من الأعراب يأتونا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله تعالى عليه أم لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذكر اسم الله تعالى عليه وكل
والمستحب أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين لانه أوحى وأروح للذبيحة فإن اقتصر على قطع الحلقوم والمريء أجزأه لان الحلقوم مجرى النفس والمريء مجرى الطعام والروح لا تبقى مع قطعهما
والمستحب أن ينحر الإبل ويذبح البقر والشاء فإن خالف ونحر البقر والشاء وذبح الإبل أجزأه لان الجميع موح من غير تعذيب
ويكره أن يبين الرأس وأن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ النخاع وهو عرق يمتد من الدماغ ويستبطن الفقار إلى عجب الذنب لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النخع ولان فيه زيادة تعذيب فإن فعل ذلك لم يحرم لان ذلك يوجد بعد حصول الذكاة
وإن ذبحه من قفاه فإن بلغ السكين الحلقوم والمريء وقد بقيت فيه حياة مستقرة حل لان الذكاة صادفته وهو حي وإن لم يبق فيه حياة مستقرة إلا حركة مذبوح لم يحل لانه صار ميتا قبل الذكاة
فإن جرح السبع شاة فذبحها صاحبها وفيها حياة مستقرة حل وإن لم يبق فيها حياة مستقرة لم تحل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابي ثعلبة الخشني فإن رد عليك كلبك غنمك وذكرت اسم الله عليه وأدركت
____________________
(1/252)
ذكاته فذكه وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكله
والمستحب إذا ذبح ألا يكسر عنقها ولا يسلخ جلدها قبل أن تبرد لما روي أن الفرافصة قال لعمر رضي الله عنه إنكم تأكلون طعاما لا نأكله قال وما ذاك يا أبا حسان فقال تعجلون الأنفس قبل أن تزهق فأمر عمر رضي الله عنه مناديا ينادي الزكاة في الحلق واللبة لمن قدر ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق
فصل ويجوز الصيد بالجوارح المعلمة كالكلب والفهد والبازي والصقر لقوله تعالى { أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } قال ابن عباس رضي الله عنه هي الكلاب المعلمة والبازي وكل طائر يعلم الصيد
فصل والمعلم هو الذي إذا أرسله على الصيد طلبه فإذا أشلاه استشلى فإذا أخذ الصيد أمسكه وخلى بينه وبينه فإذا تكرر منه ذلك كان معلما وحل له ( ما قتله )
فصل وإن أرسل من تحل ذكاته جارحة معلمة على الصيد فقتله بظفره أو نابه أو بمنقاره حل أكله لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كنت في أرض صيد فأرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله تعالى ( عليه ) وكل
وأما إذا أرسله من لا تحل ذكاته فقتله لم يحل لان الكلب آلة كالسكين والمذكي هو المرسل فإذا لم يكن من أهل الذكاة لم يحل صيده
فإن أرسل جارحة غير معلمة فقتل الصيد لم يحل لما روى أبو ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم فما أدركت ذكاته فكل وإن استرسل المعلم بنفسه فقتل الصيد لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أرسلت كلابك المعلمة فأمسكن عليك فكل قلت وإن قتلن قال وإن قتلن فشرط أن يرسل
وإن أرسله فقتل الصيد بثقله ففيه قولان أحدهما لا يحل لانه آلة للصيد
فإذا قتل بثقله لم يحل كالسلاح
والثاني يحل لحديث عدي ولانه لا يمكن تعليم الكلب الجرح وإنهار الدم فسقط اعتباره كالعقر في محل الزكاة
وإن شارك كلبه في قتل الصيد كلب مجوسي أو كلب استرسل بنفسه لم يحل لانه اجتمع في ذبحه ما يقتضي الحظر والإباحة فغلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل
وإن وجد مع كلبه كلبا آخر لا يعرف حاله ولا يعلم القاتل منهما لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسلت كلبي ووجدت مع كلبي كلبا آخر لا أدري أيهما أخذه فقال لا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ولان الأصل فيه الحظر فإذا أشكل بقي على أصله
وإن قتل الكلب الصيد وأكل منه ففيه قولان أحدهما يحل لما روى أبو ثعلبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك وإن أكل منه
والثاني لا يحل لما روى عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل ( مما ) أمسكن عليك وإن قتلن إلا أن يأكل الكلب منه فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه
وإن شرب من دمه لم يحرم قولا واحدا لان الدم لا منفعة له فيه ولا يمنع الكلب منه فلم يحرم
وإن كانت الجارحة من الطير فأكل من الصيد فهو كالكلب وفيه قولان وقال المزني أكل الطير لا يحرم وأكل الكلب يحرم لان الطير لا يضرب على الأكل والكلب يضرب وهذا لا يصح لانه يمكن أن يعلم الطير ترك الأكل كما يعلم الكلب وإن اختلفا في الضرب
فصل إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد نجس وهل يجب غسله فيه وجهان أحدهما يجب غسله سبعا إحداهن بالتراب قياسا على غير الصيد
والثاني لا يجب لانا لو أوجبنا ذلك ألزمناه أن يغسل جميعه لان الناب
____________________
(1/253)
إذا لاقى جزءا من الدم نجس ذلك الجزء ونجس كل ما لاقاه إلى أن ينجس جميع بدنه وغسل جميعه يشق فسقط كدم البراغيث
فصل ويجوز الصيد بالرمي لما روى أبو ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله إنا نكون في أرض صيد فيصيب أحدنا بقوسه الصيد ويبعث كلبه المعلم فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما لا ندرك ذكاته
فقال صلى الله عليه وسلم ما ردت عليك قوسك فكل وما أمسك كلبك المعلم فكل
وإن رماه بمحدد كالسيف والنشاب والمروة المحددة وأصابه بحده فقتله حل وإن رمى بما لا حد له كالبندق والدبوس أو بما له حد فأصابه بغير حده فقتله لم يحل لما روى عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ
وإن رماه بسهم لا يبلغ الصيد وأعانه الريح حتى بلغه فقتله حل أكله لانه لا يمكن حفظ الرمي من الريح فعفى عنه
وإن رمى بسهم فأصاب الأرض ثم ازدلف فأصاب الصيد فقتله ففيه وجهان بناء على القولين فيمن رمى إلى الغرض في المسابقة فوقع السهم دون الغرض ثم ازدلف وبلغ الغرض وإن رمى طائرا فوقع على الأرض فمات حل أكله لانه لا يمكن حفظه من الوقوع على الأرض
وإن وقع في ماء فمات أو على حائط أو جبل فتردى منه ومات لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله فإن وجدته ميتا فكل إلا أن تجده قد وقع في الماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك
فصل وإن رمى صيدا أو أرسل عليه كلبا فعقره ولم يقتله نظرت فإن أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة بأن شق جوفه وخرجت الحشوة أو أصاب العقر مقتلا فالمستحب أن يمر السكين على الحلق ( ليريحه ) وإن لم يفعل حتى مات حل لان العقر قد ذبحه وإنما بقيت فيه حركة المذبوح
وإن كانت فيه حياة مستقرة ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه حل وإن بقي من الزمان ما يتمكن فيه من ذبحه فلم يذبحه أو لم يكن معه ما يذبح به فمات لم يحل لما روى أبو ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما رد عليك كلبك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وإن رد عليك ( كلب ) غنمك فذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل وما ردت عليك يدك وذكرت اسم الله عليه وأدركت ذكاته فذكه وإن لم تدرك ذكاته فكله
وإن عقره الكلب أو السهم وغاب عنه ثم وجده ميتا والعقر مما يجوز أن يموت منه ويجوز ألا يموت منه فقد قال الشافعي رحمه الله لا يحل إلا أن يكون خبر فلا رأى فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يحل لما روى عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إني أرمي الصيد فأطلبه فلا أجده إلا بعد ليلة قال إذا رأيت سهمك فيه ولم يأكل منه سبع فكل ولان الظاهر أنه مات منه لانه لم يعرف سبب سواه
والثاني أنه لا يحل لما روى زياد بن أبي مريم قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رميت صيدا ثم تغيب فوجدته ميتا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هوام الأرض كثيرة ولم يأمره بأكله ومنهم من قال يؤكل قولا واحدا لانه قال لا يؤكل إذا لم يكن خبر وقد ثبت الخبر أنه أمر بأكله
فصل وإن نصب أحبولة وفيها حديدة فوقع فيها صيد فقتلته الحديدة لم يحل لانه مات بغير فعل من جهة أحد فلم يحل
فصل وإن أرسل سهما على صيد فأصاب غيره فقتله حل أكله لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة ما رد عليك قوسك فكل ولانه مات بفعله ولم يفقد إلا القصد وذلك لا يعتبر في الزكاة والدليل عليه أنه تصح ذكاة المجنون وإن لم يكن له قصد فإن أرسل كلبا على صيد فأصاب غيره فقتله نظرت فإن أصابه في الجهة التي أرسله فيها حل لقوله صلى الله عليه وسلم ما رد عليك كلبك ولم
____________________
(1/254)
تدرك ذكاته فكل
وإن عدل إلى جهة أخرى فأصاب صيدا غيره ففيه وجهان أحدهما لا يحل وهو قول أبي إسحق لان للكلب اختيارا فإذا عدل كان صيده باختياره فلم يحل كما لو استرسل بنفسه فأخذ الصيد
ومن أصحابنا من قال يحل لان الكلب لا يمكن منعه من العدول في طلب الصيد
فصل وإن أرسل كلبا وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا لم يحل لانه أرسله على غير صيد فلم يحل ما اصطاده كما لو حل رباطه فاسترسل بنفسه واصطاد
وإن أرسل سهما في الهواء وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا ففيه وجهان قال أبو إسحاق يحل لانه قتله بفعله ولم يفقد إلا القصد إلى الذبح وذلك لا يعتبر كما لو قطع شيئا وهو يظن أنه خشبة فكان حلق شاة
ومن أصحابنا من قال لا يحل وهو الصحيح لانه لم يقصد صيدا بعينه فأشبه إذا نصب أحبولة فيها حديدة فوقع فيها صيد فقتلته وإن كان في يده سكين فوقعت على حلق شاة فقتلتها حل في قول أبي أسحق لانه حصل الذبح بفعله وعلى قول الآخر لا تحل لانه لم يقصد
فصل وإن رأى صيدا فظنه حجرا أو حيوانا غير الصيد فرماه فقتله حل أكله لانه قتله بفعل قصده وإنما جهل حقيقته والجهل بذلك لا يؤثر كما لو قطع شيئا فظنه غير الحيوان فكان حلق شاة
وإن أرسل على ذلك كلبا فقتله ففيه وجهان أحدهما يحل كما يحل إذا رماه بسهم
والثاني لا يحل لانه أرسله على غير صيد فأشبه إذا أرسله على غير شيء
فصل وإن توحش أهلي أو ند بعير أو تردى في بئر فلم يقدر على ذكاته في حلقه فذكاته حيث يصاب من بدنه لما روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة وقد أصاب القوم غنما وإبلا فند منها بعير فرمى بسهم فحبسه الله به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش ( فما غلبكم ) منها فاصنعوا به هكذا وقال ابن عباس رضي الله عنه ما أعجزك من البهائم فهو بمنزلة الصيد ولانه تعذر ذكاته في الحلق فصار كالصيد وإن تأنس الصيد فذكاته ذكاة الأهلي كما أن الأهلي إذا توحش فذكاته ذكاة الوحشي وإن ذكى ما يؤكل لحمه ووجد في جوفه جنينا ميتا حل أكله لما روى أبو سعيد قال قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله فقال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ولان الجنين لا يمكن ذبحه فجعل ذكاة الأم ذكاة له وإن خرج الجنين حيا وتمكن من ذبحه لم يحل من غير ذبح وإن مات قبل أن يتمكن من ذكاته حل
فصل إذا أثبت صيدا بالرمي أو بالكلب فأزال امتناعه ملكه لانه حبسه بفعله فملكه كما لو أمسكه بيده فإن رماه اثنان واحد بعد واحد فهو لمن أثبته منهما فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو الذي سبقه وأزال امتناعه وأن الآخر رماه فقتله فعليه الضمان لم يحل أكله لانهما اتفقا على أنه قتل بعد إمكان ذبحه فلم يحل ويتحالفان فإذا ( حلفا ) برىء كل واحد منهما مما يدعي الآخر وإن اتفقا على أن أحدهما هو السابق غير أن السابق ادعى أنه هو الذي أثبته بسهمه وادعى الآخر أنه بقي على الامتناع إلى أن رماه هو فالقول قول الثاني لان الأصل بقاؤه على الامتناع وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح كالقبج والقطا فرماه أحدهما فأصاب الرجل ثم رماه الآخر فأصاب الجناح ففيه وجهان أحدهما أنه يكون بينهما لانه زال الامتناع بفعلهما فتساويا
والثاني أنه للثاني وهو الصحيح لان الامتناع لم يزل إلا بفعل الثاني فوجب أن يكون له
فصل وإن رمى الصيد اثنان أحدهما بعد الآخر ولم يعلم بإصابة من منهما صار غير ممتنع فقد قال في المختصر إنه يؤكل ويكون بينهما فحمل أبو إسحاق هذا على ظاهره فقال يحل أكله لان الأصل أنه بقي بعد عقر الأول على الامتناع إلى أن قتله الآخر فيحل
____________________
(1/255)
ويكون بينهما لان الظاهر أنهما مشتركان فيه بحكم اليد
ومن أصحابنا من قال إن بقي على الامتناع حتى رماه الآخر فقتله حل وكان للثاني وإن زال امتناعه بالأول فهو للأول ولا يحل بقتل الثاني لانه صار مقدورا عليه فيجب أن يتأول عليه إذا لم يمتنع الصيد حتى أدركه وذكاه فيحل واختلفا في السابق منهما فيكون بينهما
فصل فإن رمى رجل صيدا فأزال امتناعه ثم رماه الآخر نظرت فإن أصاب الحلقوم والمريء فقتله حل أكله لانه قد صار ذكاته في الحلق واللبة وقد ذكاه في الحلق واللبة ويلزمه للأول ما بين قيمته مجروحا ومذبوحا كما لو ذبح له شاة مجروحة
وإن أصاب غير الحلق واللبة نظرت فإن وحاه لم يحل أكله لانه قد صار ذكاته في الحلق واللبة فقتله بغير ذكاة فلم يحل ويجب عليه قيمته لصاحبه مجروحا كما لو قتل له شاة مجروحة فإن لم يوجه وبقي مجروحا ثم مات نظرت فإن مات قبل أن يدركه صاحبه أو بعد ما أدركه وقبل أن يتمكن من ذبحه وجب عليه قيمته مجروحا لانه مات من جنايته
وإن أدركه وتمكن من ذبحه فلم يذبحه حتى مات لم يحل أكله لانه ترك ذكاته في الحلق مع القدرة
واختلف أصحابنا في ضمانه فقال أبو سعيد الإصطخري تجب عليه قيمته مجروحا لانه لم يوجد من الأول أكثر من الرمي الذي ملك به وهو فعل مباح وترك ذبحه إلى أن مات وهذا لا يسقط الضمان كما لو جرح رجل شاة لرجل فترك صاحبها ذبحها حتى ماتت والمذهب أنه لا يجب عليه كمال القيمة لانه مات بسببين محظورين جناية الثاني وسراية جرح الأول
فالسراية كالجناية في إيجاب الضمان فيصير كأنه مات من جناية اثنين وما هلك بجناية اثنين لا يجب على أحدهما كمال القيمة وإذا قلنا بهذا قسم الضمان على الجانبين فما يخص الأول يسقط عن الثاني ويجب عليه الباقي
ونبين ذلك في جنايتين مضمونتين ليعرف ما يجب على كل واحد منهما فما وجب على الأول منهما من قيمته أسقطناه عن الثاني
فنقول إذا كان لرجل صيد قيمته عشرة فجرحه رجل جراحة نقص من قيمته درهم ثم جرحه آخر فنقص درهم ثم مات
ففيه لاصحابنا ستة طرق أحدها وهو قول المزني أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد الجنايتين بينهما نصفان فيجب على الأول درهم وعلى الثاني درهم ثم تجب قيمته بعد الجنايتين وهي ثمانية بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة فيحصل على كل واحد منهما خمسة لان كل واحد منهما انفرد بجنايته فوجب عليه أرشها ثم هلك الصيد بجنايتهما فوجب عليهما قيمته
والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم الجناية ونصف أرش جنايته فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وسقط عنه النصف لان أرش الجناية يدخل في النفس وقد ضمن نصف النفس والجناية كانت على النصف الذي ضمنه وعلى النصف الذي ضمنه الآخر
فما حصل على النصف الذي ضمنه يدخل في الضمان فيسقط وما حصل على النصف الذي ضمنه الآخر يلزم فيحصل عليه خمسة دراهم ونصف والآخر جنى وقيمته تسعة فيلزمه نصف قيمته أربعة ونصف وأرش جنايته درهم فيدخل نصفه في النصف الذي ضمنه ويبقى النصف لاجل النصف الذي ضمنه الأول فيجب عليه خمسة دراهم ثم يرجع الأول على الثاني بنصف الأرش الذي ضمنه وهو نصف درهم لان هذا الأرش وجب بالجناية على النصف الذي ضمنه الأول وقد ضمن الأول كمال قيمة النصف ( فرجع ) بأرش الجناية عليه كرجل غصب من رجل ثوبا فخرقه رجل ثم هلك الثوب وجاء صاحبه وضمن الغاصب كمال قيمة الثوب فإنه يرجع على الجاني بأرش الخرق فيحصل على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني خمسة دراهم فهذا يوافق قول المزني في الحكم وإن خالفه في ( الطريق )
والثالث وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته حال الجناية ونصف أرش جنايته ويدخل النصف فيما ضمنه صاحبه كما قال أبو إسحاق إلا أنه قال لا يعود من الثاني إلى الأول شيء ثم ينظر لما حصل على كل واحد منهما ويضم بعضه إلى بعض وتقسم عليه العشرة فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني خمسة دراهم فذلك عشرة ونصف فتقسم العشرة على عشرة ونصف فما يخص خمسة ونصفا يجب على الأول وما يخص خمسا يجب على الثاني
والرابع ما قال بعض أصحابنا أنه يجب على الأول أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد ذلك بينهما نصفين ولا يجب على الثاني أرش جنايته فيجب على الأول درهم ثم تجب التسعة بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة دراهم ونصف فيحصل على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني أربعة دراهم ونصف لان الأول انفرد بالجناية فلزمه أرشها ثم اجتمع جناية الثاني وسراية الأول فحصل الموت منهما فكانت القيمة بينهما
والخامس ما قال بعض أصحابنا إن
____________________
(1/256)
الأرش يدخل في قيمة الصيد فيجب على الأول نصف قيمته حال الجناية وهو خمسة وعلى الثاني نصف قيمته حال الجناية وهو أربعة ونصف ويسقط نصف درهم
قال لانى لم أجد محلا أوجبه فيه
والسادس وهو قول أبي علي بن خيران وهو أن أرش جناية كل واحد منهما يدخل في القيمة فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول إلى قيمة الصيد عند جناية الثاني فتكون تسعة عشر ثم تقسم العشرة على ذلك فما يخص عشرة فهو على الأول وما يخص تسعة فهو على الثاني وهذا أصح الطرق لان أصحاب الطرق الأربعة لا يدخلون الأرش في بدل النفس وهذا لا يجوز لان الأرش يدخل في بدل النفس وصاحب الطريق الخامس يوجب في صيد قيمته عشرة تسعة ونصفا ويسقط من قيمته نصف درهم وهذا لا يجوز
فصل ومن ملك صيدا ثم خلاه ففيه وجهان أحدهما يزول ملكه كما لو ملك عبدا ثم أعتقه
والثاني لا يزول ملكه كما لو ملك بهيمة ثم سيبها وبالله التوفيق
كتاب البيوع البيع جائز والأصل فيه قوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ويصح البيع من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ولانه تصرف في المال فلم يفوض إلى الصبي والمجنون كحفظ المال
فأما المكره فإنه إن كان بغير حق لم يصح بيعه لقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فدل على أنه إذا لم يكن عن تراض لم يحل الأكل
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما البيع عن تراض فدل على أنه لا بيع عن غير تراض ولانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر إذا أكره عليها المسلم وإن كان بحق صح لانه قول حمل عليه بحق فصح ككلمة الإسلام إذا أكره عليها الحربي
فصل ولا ينعقد البيع إلا بالإيجاب والقبول فأما المعاطاة فلا ينعقد بها البيع لان اسم البيع لا يقع عليه والإيجاب أن يقول بعتك أو ملكتك أو ما أشبههما
والقبول أن يقول قبلت أو ابتعت أو ما أشبههما فإن قال المشتري بعني فقال البائع بعتك انعقد البيع لان ذلك يتضمن الإيجاب والقبول
وإن كتب رجل ببيع سلعة ففيه وجهان أحدهما ينعقد البيع لانه موضع ضرورة
والثاني لا ينعقد وهو الصحيح لانه قادر على النطق فلا ينعقد البيع بغيره وقول القائل الأول إنه موضع ضرورة لا يصح لانه يمكنه أن يوكل من يبيعه بالقول
فصل وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر
والتفرق أن يتفرقا
____________________
(1/257)
بأبدانهما بحيث إذا كلمه على العادة لم يسمع كلامه لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا اشترى شيئا مشى أذرعا ليجب البيع ثم يرجع ولان التفرق في الشرع مطلق فوجب أن يحمل على التفرق المعهود وذلك يحصل بما ذكرناه وإن لم يتفرقا ولكن جعل بينهما حاجز من ستر أو غيره لم يسقط الخيار لان ذلك لا يسمى تفرقا
وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر اختر إمضاء البيع أو فسخه فيقول الآخر اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه السلام
أو يقول أحدهما للآخر اختر فإن خير أحدهما صاحبه فسكت لم ينقطع خيار المسؤول
وهل ينقطع خيار السائل فيه وجهان أحدهما لا ينقطع خياره كما لو قال لزوجته اختارى فسكتت فإن خيار الزوج في طلاقها لا يسقط
والثاني أنه ينقطع لقوله عليه السلام
أو يقول أحدهما للآخر اختر فدل على أنه إذا قال ( ذلك ) يسقط خياره ويخالف تخيير المرأة فإن المرأة لم تكن مالكة للخيار وإذا خيرها فقد ملكها ما لم تكن تملكه فإذا سكتت بقي على حقه
وههنا المشتري يملك الفسخ فلا يفيد تخييره إسقاط حقه من الخيار فإن أكرها على التفرق ففيه وجهان أحدهما يبطل الخيار لانه كان يمكنه أن يفسخ بالتخاير فإذا لم يفعل فقد رضي بإسقاط الخيار
والثاني أنه لا يبطل لانه لم يوجد منه أكثر من السكوت والسكوت لا يسقط الخيار
فصل فإن باعه على أن لا خيار له ففيه وجهان من أصحابنا من قال يصح لان الخيار جعل رفقا بهما فجاز لهما تركه ولان الخيار غرر فجاز إسقاطه
وقال أبو إسحاق لا يصح وهو الصحيح لانه خيار يثبت بعد تمام البيع فلم يجز إسقاطه قبل تمامه كخيار الشفيع فإن قلنا بهذا فهل يبطل العقد بهذا الشرط فيه وجهان أحدهما لا يبطل لان هذا الشرط لا يؤدي إلى الجهل بالعوض والمعوض
والثاني يبطل لانه يسقط موجب العقد فأبطله كما لو شرط ألا يسلم المبيع
فصل في بيان خيار الشرط ويجوز شرط خيار ثلاثة أيام في البيوع التي لا ربا فيها لما روى محمد بن يحيى بن حبان قال كان جدي قد بلغ ثلاثين ومائة سنة لا يترك البيع والشراء ولا يزال يخدع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من بايعته فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا فأما في البيوع التي فيها الربا وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام فلا يجوز فيها شرط الخيار لانه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمام البيع ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين
فلو جوزنا شرط الخيار لتفرقا ولم يتم البيع بينهما وجاز شرط الخيار في ثلاثة أيام وفيما دونها لانه إذا جاز شرط الثلاث فما دونها أولى بذلك ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لانه غرر
وإنما جوز في الثلاث لانه رخصة فلا يجوز فيما زاد ويجوز أن يشترط لهما ( أو ) لاحدهما دون الآخر ويجوز أن يشترط لاحدهما ثلاثة أيام وللآخر يوم أو يومان لان ذلك جعل إلى شرطهما فكان على حسب الشرط
فإن شرطا ثلاثة أيام ثم تخايرا سقط قياسا على خيار المجلس وإن شرط الخيار لاجنبي ففيه قولان أحدهما لا يصح لانه حكم من أحكام العقد فلا يثبت لغير المتعاقدين كسائر الأحكام
والثاني يصح لانه جعل إلى شرطهما للحاجة وربما دعت الحاجة إلى شرطه للأجنبي بأن يكون أعرف بالمتاع منهما
فإن شرطه للأجنبي وقلنا إنه يصح فهل يثبت له فيه وجهان أحدهما يثبت له لانه إذا ثبت للأجنبي من جهته فلان يثبت له أولى
والثاني لا يثبت لان ثبوته بالشرط فلا يثبت إلا لمن شرط له
قال ( الشافعي ) في الصرف إذا اشترى بشرط الخيار على ألا يفسخ حتى يستأمر فلانا لم يكن له أن يفسخ حتى يقول استأمرته فأمرني بالفسخ
فمن أصحابنا من قال له أن يفسخ من غير إذنه لان له أن يفسخ من غير شرط الاستئمار فلا يسقط حقه بذكر الاستئمار وتأول ما قاله على أنه أراد به أنه لا يقول استأمرته إلا بعد أن يستأمره لئلا يكون ( كاذبا )
ومنهم من حمله على ظاهره أنه لا يجوز أن يفسخ لانه ثبت بالشرط فكان على ما شرط وإذا شرط الخيار في البيع ففي ابتداء مدته وجهان أحدهما من حين العقد لانها مدة ملحقة بالعقد فاعتبر ابتداؤها من حين العقد كالأجل ولانه لو اعتبر من حين التفرق صار أول مدة الخيار مجهولا لانه لا يعلم متى يفترقان
والثاني أنه يعتبر من حين التفرق لان ما قبل التفرق الخيار ثابت فيه بالشرع فلا يثبت فيه بشرط الخيار
فإن قلنا إن ابتداءه من حين العقد
____________________
(1/258)
فشرط أن يكون من حين التفرق بطل لان وقت الخيار مجهول ولانه يزيد الخيار على ثلاثة أيام
وإن قلنا إن ابتداءه من حين التفرق فشرط أن يكون من حين العقد ففيه وجهان أحدهما يصح لان ابتداء الوقت معلوم
والثاني لا يصح لانه شرط ينافي موجب العقد فأبطله ومن ثبت له الخيار فله أن يفسخ في محضر من صاحبه وفي غيبته لانه رفع عقد جعل إلى اختياره فجاز في حضوره وغيبته كالطلاق
فإن تصرف في المبيع تصرفا يفتقر إلى الملك كالعتق والوطء والهبة والبيع وما أشبهها نظرت فإن كان ذلك من البائع كان اختيارا للفسخ لانه تصرف يفتقر إلى الملك فجعل اختيارا للفسخ والرد إلى الملك وإن كان ذلك من المشتري ففيه وجهان قال أبو إسحاق إن كان ذلك عتقا كان اختيارا للإمضاء وإن كان غيره لم يكن اختيارا لان العتق لو وجد قبل العلم بالعيب منع الرد فأسقط خيار المجلس وخيار الشرط وما سواه لو وجد قبل العلم بالعيب لم يمنع الرد فلم يسقط خيار المجلس وخيار الشرط
وقال أبو سعيد الإصطخري الجميع اختيار للإمضاء وهو الصحيح لان الجميع يفتقر إلى الملك فكان الجميع اختيارا للملك ولان في حق البائع الجميع واحد فكذلك في حق المشتري فإن وطئها المشتري بحضرة البائع وهو ساكت فهل ينقطع خيار البائع بذلك فيه وجهان أحدهما ينقطع لانه أمكنه أن يمنعه فإذا سكت كان ذلك رضا بالبيع
والثاني لا ينقطع لانه سكوت عن التصرف في ملكه فلا يسقط عليه حكم التصرف كما لو رأى رجلا يخرق ثوبه فسكت عنه فإن جن من له الخيار أو أغمي عليه انتقل الخيار إلى الناظر في ماله وإن مات فإن كان في خيار الشرط انتقل الخيار إلى من ينتقل إليه المال لانه حق ثابت لاصلاح المال فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن
فإن لم يعلم الوارث حتى ( انقضت ) المدة ففيه وجهان أحدهما يثبت له الخيار في القدر الذي بقي من المدة لانه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه
والثاني أنه تسقط المدة ويثبت الخيار للوارث على الفور لان المدة فاتت وبقي الخيار فكان على الفور كخيار الرد بالعيب
وإن كان في خيار المجلس فقد روى المزني أن الخيار للوارث وقال في المكاتب إذا مات وجب البيع فمن أصحابنا من قال لا يسقط الخيار بالموت في المكاتب وغيره
وقوله في المكاتب وجب البيع أراد به أنه لا ينفسخ بالموت كما تنفسخ الكتابة
ومنهم من قال يسقط الخيار في بيع المكاتب ولا يسقط في بيع غيره لان السيد يملك بحق الملك فإذا لم يملك في حياة المكاتب لم يملك بعد موته والوارث يملك بحق الإرث فانتقل إليه بموته
ومنهم من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وخرجهما على قولين
أحدهما أنه يسقط الخيار لانه إذا سقط الخيار بالتفرق فلان يسقط بالموت والتفرق فيه أعظم أولى
والثاني لا يسقط وهو الصحيح لانه خيار ثابت لفسخ البيع فلم يبطل بالموت كخيار الشرط
فعلى هذا إن كان الذي ينتقل إليه الخيار حاضرا ثبت له الخيار إلى أن يتفرقا أو يتخايرا وإن كان غائبا ثبت له الخيار إلى أن يفارق الموضع الذي بلغه فيه
فصل في بيان خيار المجلس وفي الوقت الذي ينتقل الملك في البيع الذي فيه خيار المجلس أو خيار الشرط ثلاثة أقوال أحدها ينتقل بنفس العقد لانه عقد معاوضة يوجب الملك فانتقل الملك فيه بنفس العقد كالنكاح
والثاني أنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار لانه لا يملك التصرف إلا بالعقد وانقضاء الخيار فدل على أنه لا يملك إلا بهما
والثالث أنه موقوف مراعى فإن لم يفسخ العقد تبينا أنه ملك بالعقد وإن فسخ تبينا أنه لم يملك لانه لا يجوز أن يملك بالعقد لانه لو ملك بالعقد لملك التصرف ولا يجوز أن يملك بانقضاء الخيار لان انقضاء الخيار لا يوجب الملك فثبت أنه موقوف مراعى
فإن كان المبيع عبدا فأعتقه البائع نفذ عتقه لانه إن كان باقيا على ملكه فقد صادف العتق ملكه وإن كان قد زال ملكه عنه إلا أنه يملك الفسخ فجعل العتق فسخا
وإن أعتقه المشتري لم يحل إما أن يفسخ البائع البيع أو لا يفسخ فإن لم يفسخ وقلنا إنه يملكه بنفس العقد وقلنا إنه موقوف ( مراعى ) نفذ عتقه لانه صادف ملكه وإن قلنا إنه لا يملك بالعقد لم يعتق لانه لم يصادف ملكه
وإن فسخ البائع وقلنا إنه لا يملك بالعقد أو ( قلنا إنه ) موقوف لم يعتق لانه لم يصادف ملكه
وإن قلنا إنه يملك بالعقد ففيه وجهان قال أبو العباس إن كان موسرا عتق وإن كان معسرا لم يعتق لان العتق صادف ملكه وقد تعلق به حق الغير فأشبه عتق المرهون
ومن أصحابنا من قال لا يعتق وهو المنصوص لان البائع اختار الفسخ والمشتري اختار الإجازة بالعتق والفسخ والإجازة إذا اجتمعا قدم الفسخ ولهذا لو قال المشتري أجزت وقال البائع بعده فسخت
____________________
(1/259)
قدم الفسخ وبطلت الإجازة وإن كانت سابقة للفسخ
فإن قلنا لا يعتق عاد العبد إلى ملك البائع
وإن قلنا يعتق فهل يرجع البائع بالثمن أو القيمة قال أبو العباس يحتمل وجهين أحدهما يرجع بالثمن ويكون العتق مقررا للعقد ومبطلا للفسخ
والثاني أنه يرجع بالقيمة لان البيع انفسخ وتعذر الرجوع إلى العين فرجع إلى قيمته كما لو اشترى عبدا بثوب وأعتق العبد ووجد البائع بالثوب عيبا فرده فإنه يرجع بقيمة العبد
فإن باع البائع المبيع أو وهبه صح لانه إما يكون على ملكه فيملك العقد عليه وإما أن يكون للمشتري إلا أنه يملك الفسخ فجعل البيع والهبة فسخا وإن باع المشتري المبيع أو وهبه نظرت فإن كان بغير رضى البائع فإن قلنا إنه في ملك البائع لم يصح تصرفه وإن قلنا إنه في ملكه ففيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري يصح وللبائع أن يختار الفسخ فإذا فسخ بطل تصرف المشتري ووجهه أن التصرف صادف ملكه الذي ثبت للغير فيه حق الانتزاع فأشبه إذا اشترى شقصا فيه شفعة فباعه
ومن أصحابنا من قال لا يصح لانه باع عينا تعلق بها حق الغير من غير رضاه فلم يصح كما لو باع الراهن المرهون فأما إذا تصرف فيه برضى البائع نظرت فإن كان عتقا نفذ لانهما رضيا بإمضاء البيع وإن كان بيعا أو هبة ففيه وجهان أحدهما لا يصح لانه ابتدأ بالتصرف قبل أن يتم ملكه
والثاني يصح لان المنع من التصرف لحق البائع وقد رضي البائع
فصل في بيان وطء الجارية المبيعة وإن كان المبيع جارية لم يمنع البائع من وطئها لانها باقية على ملكه في بعض الأقوال ويملك ردها إلى ملكه في بعض الأقوال فإذا وطئها انفسخ البيع ولا يجوز للمشتري وطؤها لان في أحد الأقوال لا يملكها وفي الثاني مراعى فلا يعلم هل يملكها أم لا وفي الثالث يملكها ملكا غير مستقر
فإن وطئها لم يجب الحد وإن أحبلها ثبت نسب الولد وانعقد الولد حرا لانه إما أن يكون في ملك أو شبهة ملك وأما المهر وقيمة الولد وكون الجارية أم ولد فإنه يبنى على الأقوال
فإن أجاز البائع البيع بعد وطء المشتري وقلنا إن الملك للمشتري أو موقوف لم يلزمه المهر ولا قيمة الولد وتصير الجارية أم ولد لانها مملوكته
وإن قلنا إن الملك للبائع فعليه المهر وقال أبو إسحاق لا يلزمه كما لا تلزمه أجرة الخدمة والمذهب الأول لانه وطء في ملك البائع ويخالف الخدمة فإن الخدمة تستباح بالإباحة والوطء لا يستباح
وفي قيمة الولد وجهان أحدهما لا تلزمه لانها وضعته في ملكه والاعتبار بحال الوضع ألا ترى أن قيمة الولد تعتبر حال الوضع
والثاني تلزمه لان العلوق حصل في غير ملكه والاعتبار بحال العلوق لانها حالة الإتلاف وإنما تأخر التقويم إلى حال الوضع لانه لا يمكن تقويمه في حال العلوق وهل تصير الجارية أم ولد فيه قولان كما قلنا فيمن أحبل جارية غيره بشبهة
فأما إذا فسخ البيع وعادت إلى ملكه فإن قلنا إن الملك للبائع أو موقوف وجب عليه المهر وقيمة الولد ولا تصير الجارية في الحال أم ولد وهل تصير أم ولد إذا ملكها فيه قولان وإن قلنا إن الملك للمشتري لم يجب عليه المهر لان الوطء صادف ملكه
ومن أصحابنا من قال يجب لانه لم يتم ملكه عليها وهذا يبطل به إذا أجاز البائع البيع
وعلى قول أبي العباس تصير أم ولد كما تعتق إذا أعتقها عنده وهل يرجع البائع بقيمتها أو بالثمن فيه وجهان وقد بينا ذلك في العتق وعلى المنصوص أنها لا تصير أم ولد له لان حق البائع سابق فلا يسقط بإحبال المشتري فإن ملكها المشتري بعد ذلك صارت أم ولد لانها إنما لم تصر أم ولد له في الحال لحق البائع فإذا ملكها صارت أم ولد
فصل في حكم الولد الحادث في مدة الخيار وإن اشترى جارية فولدت في مدة الخيار بنينا على أن الحمل هل له حكم في البيع وفيه قولان أحدهما له حكم ويقابله قسط من الثمن وهو الصحيح لان ما أخذ قسطا من الثمن بعد الانفصال أخذ قسطا من الثمن قبل الانفصال كاللبن
والثاني لا حكم له ولا قسط له من الثمن لانه يتبعها في العتق فلم يأخذ قسطا من الثمن كالأعضاء
فإن قلنا إن له حكما فهو مع الأم بمنزلة العينين المبيعتين فإن أمضى العقد كانا للمشتري وإن فسخ العقد كانا للبائع كالعينين المبيعتين
وإن قلنا لا حكم له نظرت فإن أمضى العقد وقلنا إن الملك ينتقل بالعقد أو موقوف فهما للمشتري
وإن قلنا إنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار فالولد للبائع فإن فسخ العقد وقلنا إنه يملك بالعقد وانقضاء الخيار أو قلنا إنه موقوف فالولد للبائع
وإن قلنا يملك بالعقد فهو للمشتري
وقال أبو إسحاق الولد للبائع لان على هذا القول لا ينفذ عتق المشتري وهذا خطأ لان العتق يفتقر إلى ملك تام والنماء لا يفتقر إلى ملك تام
فصل في حكم تلف المبيع في يد المشتري في مدة الخيار وإن تلف المبيع في يد المشتري في مدة الخيار فلمن له الخيار الفسخ والإمضاء لان الحاجة التي دعت إلى الخيار باقية بعد تلف المبيع فإن فسخ وجبت القيمة على المشتري لانه تعذر رد العين فوجب رد القيمة وإن أمضى العقد فإن قلنا إنه يملك بنفس العقد أو موقوف فقد هلك من ملكه
وإن قلنا يملك بالعقد وانقضاء الخيار وجب على المشتري قيمته والله أعلم
____________________
(1/260)
باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز الأعيان ضربان نجس وطاهر
فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه ونجس بملاقاة نجاسة
فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات
والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام وروى أبو مسعود وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب فنص على الكلب والخنزير والخمر والميتة وقسنا عليها سائر الأعيان النجسة
فأما اقتناؤها فينظر فيه فإن لم يكن فيها منفعة مباحة كالخمر والخنزير والميتة والعذرة لم يجز اقتناؤها لما روى أنس قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر تصنع خلا فكرهه وقال اهرقها ولان اقتناء ما لا منفعة فيه سفه فلم يجز فإن كان فيه منفعة مباحة كالكلب جاز اقتناؤه للصيد والماشية والزرع لما روى سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيرطان وفي حديث أبي هريرة إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع ولان الحاجة تدعو إلى الكلب في هذه المواضع فجاز اقتناؤه وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدروب فيه وجهان أحدهما لا يجوز للخبر
والثاني يجوز لانه حفظ مال فأشبه الزرع والماشية وهل يجوز لمن لا يصطاد أن يقتنيه فيصطاد به إذا أراد
فيه وجهان أحدهما يجوز للخبر
والثاني لا يجوز لانه لا حاجة به إليه
وهل يجوز اقتناء الجرو للصيد والزرع والماشية فيه وجهان أحدهما لا يجوز لانه ليس فيه منفعة يحتاج إليها
والثاني يجوز لانه إذا جاز اقتناؤه للصيد جاز اقتناؤه لتعليم ذلك
وأما السرجين فإنه يكره اقتناؤه وتربية الزرع به لما فيه من مباشرة النجاسة
وأما النجس بملاقاة النجاسة فهو الأعيان الطاهرة إذا أصابتها نجاسة فينظر فيها
فإن كان جامدا كالثوب وغيره جاز بيعه لان البيع يتناول الثوب وهو طاهر وإنما جاورته النجاسة
وإن كان مائعا نظرت فإن كان مما لا يطهر كالخل والدبس لم يجز بيعه لانه نجس لا يمكن تطهيره من النجاسة فلم يجز بيعه كالأعيان النجسة
وإن كان ماء ففيه وجهان أحدهما لا يجوز بيعه لانه نجس لا يطهر بالغسل فلم يجز بيعه كالخمر
والثاني يجوز بيعه لانه يطهر بالماء فأشبه الثوب فإن كان دهنا فهل يطهر بالغسل فيه وجهان أحدهما لا يطهر لانه لا يمكن عصره من النجاسة فلم يطهر كالخل
والثاني يطهر لانه يمكن غسله بالماء فهو كالثوب فإن قلنا لا يطهر لم يجز بيعه كالخل وإن قلنا يطهر ففي بيعه وجهان كالماء النجس ويجوز استعماله في السراج والأولى ألا يفعل لما فيه من مباشرة النجاسة
فصل في بيع الأعيان الطاهرة وأما الأعيان الطاهرة فضربان ضرب لا منفعة فيه وضرب فيه منفعة
فأما ما لا منفعة فيه فهو كالحشرات والسباع التي لا تصلح للاصطياد والطيور التي لا تؤكل ولا تصطاد كالرخمة والحدأة وما لا يؤكل مثل الغراب فلا يجوز بيعه لان ما لا منفعة فيه لا قيمة له فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل وبذل العوض فيه من السفه
واختلف أصحابنا في بيع دار لا طريق لها أو بيع بيت من دار لا طريق إليه
فمنهم من قال لا يصح لأنه لا يمكن الانتفاع به فلم يصح بيعه
ومنهم من قال يصح لانه يمكن أن يحصل له طريق فينتفع به فيصح بيعه
وأما ما فيه منفعة فلا يجوز بيع الحر منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال ربكم ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره
ولا يجوز بيع أم الولد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع أمهات الأولاد لانه استقر لها حق الحرية وفي بيعها إبطال ذلك فلم يجز
ويجوز بيع المدبر لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا دبر غلاما له ليس له مال غيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتريه مني فاشتراه نعيم
ويجوز بيع المعتق بصفة لانه ثبت له العتق بقول السيد وحده فجاز بيعه كالمدبر
وفي المكاتب قولان
قال في القديم يجوز بيعه لان عتقه غير مستقر فلا يمنع من البيع
وقال في الجديد لا يجوز لانه كالخارج من ملكه ولهذا لا يرجع أرش الجناية عليه إليه فلم يملك بيعه كما لو باعه
____________________
(1/261)
ولا يجوز بيع الوقف لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال أصاب عمر رضي الله عنه أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر صدقة لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث
فصل في اشتراط كون المبيع منتفعا به ويجوز بيع ما سوى ذلك من الأعيان المنتفع بها من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم
وما ينتفع به من الحيوان بالركوب والأكل والدر والنسل والصيد والصوف
وما يقتنيه الناس من العبيد والجواري والاراضي والعقار لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعها من غير إنكار
ولا فرق فيها بين ما كان في الحرم من الدور وغيره لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر نافع بن عبد الحارث أن يشتري دارا بمكة للسجن من صفوان بن أمية فاشتراها بأربعة آلاف درهم ولانه أرض حية لم يرد عليها صدقة مؤبدة فجاز بيعها كغير الحرم
ويجوز بيع المصاحف وكتب الأدب لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن بيع المصاحف فقال لا بأس يأخذون أجوز أيديهم ولانه طاهر منتفع به فهو كسائر الأموال
واختلف أصحابنا في بيع بيض دود القز وبيض ما لا يؤكل لحمه من الطيور التي يجوز بيعها كالصقر والبازي
فمنهم من قال هو طاهر ومنهم من قال هو نجس بناء على الوجهين في طهارة مني ما لا يؤكل لحمه ونجاسته
فإن قلنا إن ذلك طاهر جاز بيعه لانه طاهر منتفع به فهو كبيض الدجاج
وإن قلنا إنه نجس لم يجز بيعه لانه عين نجسة فلم يجز بيعه كالكلب والخنزير
باب ما نهي عنه من بيع الغرر وغيره ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تخلق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر والغرر ما انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في وصف أبي بكر رضي الله عنه فرد نشر الإسلام على غره أي على طيه والمعدوم قد انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته فلم يجز بيعه وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعاومة وفي بعضها عن بيع السنين
فصل في حكم بيع ما لا يملك ولا يجوز بيع ما لا يملكه من غير إذن مالكه لما روى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبع ما ليس عندك ولان ما لا يملكه لا يقدر على تسليمه فهو كالطير في الهواء أو السمك في الماء
فصل في بيع ما لم يستقر ملكه ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم قال لا تبع ما لم تقبضه ولان ملكه عليه غير مستقر لانه ربما هلك فانفسخ العقد وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
وهل يجوز عتقه فيه وجهان أحدهما أنه لا يجوز لما ذكرناه
والثاني يجوز لان العتق له سراية فصح لقوته
فأما ما ملكه بغير معاوضة منه كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض لان ملكه عليه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض
وأما الديون فينظر فيها فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لان ملكه مستقر عليه فجاز
____________________
(1/262)
بيعه كالمبيع بعد القبض
وهل يجوز بيعه من غيره فيه وجهان أحدهما يجوز لان ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة
والثاني لا يجوز لانه لا يقدر على تسليمه إليه لانه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز
والأول أظهر لان الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود
وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الخل فكرهه ابن عباس وقال خذ برأس المال علفا أو غنما ولان الملك في المسلم فيه غير مستقر لانه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان قال في الصرف يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر قال كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير فآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء ولانه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالمبيع بعد القبض
وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لان ملكه غير مستقر عليه لانه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض
وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته
والثاني أنه لا يصح ذلك قولا واحدا وهو المنصوص في المختصر لانه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه
والقبض فيما ينقل النقل لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجداد التخلية لان القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية
فصل في بيان اشتراط كون المعقود عليه مقدورا على تسليمه ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد والفرس العائر والعبد الآبق والمال المغصوب في يد الغاصب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا غرر ولهذا قال ابن مسعود لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولان القصد بالبيع تمليك التصرف وذلك لا يمكن فيما لا يقدر على تسليمه
فإن باع طيرا في برج مغلق الباب أو السمك في بركة لا تتصل بنهر نظرت فإن قدر على تناوله إذا أراد من غير تعب جاز بيعه
وإن كان في برج عظيم أو بركة عظيمة لا يقدر على أخذه إلا بتعب لم يجز بيعه لانه غير مقدور عليه في الحال
وإن باع العبد الآبق ممن يقدر عليه أو المغصوب من الغاصب أو ممن يقدر على أخذه منه جاز لانه لا غرر في بيعه منه
فصل في حكم العين المجهولة ولا يجوز بيع عين مجهولة كبيع عبد من عبيد وثوب من أثواب لان ذلك غرر من غير حاجة
ويجوز أن يبيع قفيزا من صبرة لانه إذا عرف الصبرة عرف القفيز منها فزال الغرر
فصل في حكم بيع العين الغائبة ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير
فإن علم الجنس والنوع بأن قال بعتك الثوب المروي الذي في كمي أو العبد الزنجي الذي في داري أو الفرس الأدهم الذي في إصطبلي ففيه قولان قال في القديم و الصرف يصح ويثبت له الخيار إذا رآه لما روى ابن أبي مليكة أن عثمان رضي الله عنه ابتاع من طلحة أرضا بالمدينة ناقله بأرض له بالكوفة فقال عثمان بعتك ما لم أره فقال طلحة إنما النظر لي لاني ابتعت مغيبا وأنت قد رأيت ما ابتعت فتحا كما إلى جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لانه ابتاع مغيبا ولانه عقد على عين فجاز مع الجهل بصفته كالنكاح
وقال في الجديد لا يصح لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي هذا البيع غرر ولانه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم
فإذا قلنا بقوله القديم فهل تفتقر صحة البيع إلى ذكر الصفات أم لا فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لا يصح حتى تذكر جميع الصفات كالمسلم فيه
والثاني لا يصح حتى تذكر الصفات المقصودة
والثالث أنه لا يفتقر إلى ذكر شيء من الصفات وهو المنصوص في الصرف لان الاعتماد على الرؤية ويثبت له الخيار إذا رآه فلا يحتاج إلى ذكر
____________________
(1/263)
الصفات
فإن وصفه ثم وجده على خلاف ما وصف ثبت له الخيار
وإن وجده على ما وصف أو أعلى ففيه وجهان أحدهما لا خيار له لانه وجده على ما وصف فلم يكن له خيار كالمسلم فيه
والثاني أن له الخيار لانه يعرف ببيع خيار الرؤية فلا يجوز أن يخلو من الخيار
وهل يكون له الخيار على الفور أم لا فيه وجهان قال ابن أبي هريرة هو على الفور لانه خيار تعلق بالرؤية فكان على الفور كخيار الرد بالعيب
وقال أبو إسحاق يتقدر الخيار بالمجلس لان العقد إنما يتم بالرؤية فيصير كأنه عقد عند الرؤية فيثبت له خيار كخيار المجلس
وأما إذا رأى المبيع قبل العقد ثم غاب عنه ثم اشتراه فإن كان مما لا يتغير كالعقار وغيره جاز بيعه
وقال أبو القاسم الأنماطي لا يجوز في قوله الجديد لان الرؤية شرط في العقد فاعتبر وجودها في حال العقد كالشهادة في النكاح
والمذهب الأول لان الرؤية تراد للعلم بالمبيع وقد حصل العلم بالرؤية المتقدمة فعلى هذا إذا اشتراه ثم وجده على الصفة الأولى
أخذه وإن وجده ناقصا فله الرد لانه ما التزم العقد فيه إلا على تلك الصفة
وإن اختلفا فقال البائع لم يتغير وقال المشتري بل قد تغير فالقول قول المشتري لانه يؤخذ منه الثمن فلا يجوز من غير رضاه
وإن كان مما يجوز أن يتغير ويجوز ألا يتغير أو يجوز أن يبقى ويجوز ألا يبقى ففيه وجهان أحدهما أنه لا يصح لانه مشكوك في بقائه على صفته
والثاني يصح وهو المذهب لان الأصل بقاؤه على صفته فصح بيعه قياسا على ما لا يتغير
فصل في حكم بيع الأعمى وإن باع الأعمى أو اشترى شيئا لم يره
فإن قلنا إن بيع ما لم يره البصير لا يصح لم يصح بيع الأعمى وشراؤه
وإن قلنا يصح ففي بيع الأعمى وشرائه وجهان أحدهما يصح كما يصح من البصير فيما لم يره ويستنيب في القبض والخيار كما يستنيب في شرط الخيار
والثاني لا يصح لان بيع ما لم يره يتم بالرؤية وذلك لا يوجد في حق الأعمى ولا يمكنه أن يوكل في الخيار لانه خيار ثبت بالشرع فلا يجوز الاستنابة فيه كخيار المجلس بخلاف خيار الشرط
فصل إذا رأى بعض المبيع دون بعض نظرت
فإن كان مما لا يختلف أجزاؤه كالصبرة من الطعام والجرة من الدبس جاز بيعه لان برؤية البعض يزول غرر الجهالة لان الظاهر أن الباطن كالظاهر
وإن كان مما يختلف نظرت فإن كان مما يشق رؤية باقيه كالجوز في القشر الأسفل جاز بيعه لان رؤية الباطن تشق فسقط اعتبارها كرؤية أساس الحيطان وإن لم تشق رؤية الباقي كالثوب المطوي ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كبيع ما لم ير شيئا منه
ومنهم من قال يبطل البيع قولا واحدا لان ما رآه لا خيار فيه وما لم يره فيه الخيار وذلك لا يجوز في عين واحدة
فصل في حكم بيع ما له قشر واختلف أصحابنا في بيع الباقلا في قشريه
فقال أبو سعيد الإصطخري يجوز لانه يباع في جميع البلدان من غير إنكار
ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص في الأم لان الحب قد يكون صغارا وقد يكون كبارا وقد يكون في بيوته ما لا شيء فيه وقد يكون فيه حب متغير وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
واختلفوا أيضا في بيع نافجة المسك فقال أبو العباس يجوز بيعها لان النافجة فيها صلاح للمسك لان بقاءه فيها أكثر فجاز بيعه فيها كالجوز في القشر الأسفل
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو ظاهر النص لانه مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
واختلفوا في بيع الطلع في قشره فقال أبو إسحاق لا يجوز بيعه لان المقصود مستور بما لا يدخر فيه فلم يصح بيعه كالتمر في الجراب
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز لانه مستور بما يؤكل معه من القشر فجاز بيعه فيه كالقثاء والخيار
واختلف قوله في بيع الحنطة في سنبلها فقال في القديم يجوز لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد وقال في الجديد لا يجوز لانه لا يعلم قدر ما فيها من الحب ولا صفة الحب وذلك غرر لا تدعو الحاجة إليه فلم يجز
فصل في حكم بيع مجهول القدر ولا يجوز بيع مجهول القدر فإن قال بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وفي بيع البعض غرر لانه يقع على القليل والكثير ولانه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم
____________________
(1/264)
وإن قال بعتك هذه الصبرة جاز وإن لم يعرف قفزانها
وإن قال بعتك هذه الدار أو هذا الثوب جاز وإن لم يعرف ذرعانهما لان غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة
قال الشافعي وأكره بيع الصبرة جزافا لانه يجهل قدرها على الحقيقة
وإن قال بعتك ثلثها أو ربعها أو بعتك إلا ثلثها أو ربعها جاز لان من عرف الشيء عرف ثلثه وربعه وما يبقى بعدهما
وإن قال بعتك هذه الصبرة إلا قفيزا منها أو هذه الدار أو هذا الثوب إلا ذراعا منه نظرت
فإن علما مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الدار والثوب جاز لان المبيع معلوم
وإن لم يعلما ذلك لم يجز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا ولان المبيع هو الباقي بعد القفيز والذراع وذلك مجهول
وإن قال بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة جاز لانها معلومة القدر والصفة
فإن اختلفا فقال البائع أعطيك من أسفلها وقال المشتري من أعلاها فالخيار إلى البائع فمن أي موضع أعطاه جاز لانه أعطاه من الصبرة
وإن قال بعتك عشرة أذرع من هذه الدار أو عشرة أذرع من هذا الثوب فإن كانا يعلمان مبلغ ذرعان الدار والثوب وأنها مائة ذراع صح البيع في عشرها لان العشرة من المائة عشرها فلا فرق بين أن يقول بعتك عشرها وبين أن يقول بعتك عشرة من مائة ذراع منها
وإن لم يعلما مبلغ ذرعان الدار والثوب لم يصح لانه إن جعل البيع في عشرة أذرع مشاعة لم يعرف قدر المبيع أنه عشرها أو ثلثها أو سدسها
وإن جعل البيع في عشرة أذرع من موضع بعينه لم يعرف صفة المبيع فإن أجزاء الثوب والدار تختلف وقد يكون بعضها أجود من بعض
وإن قال بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من هذا المكان ولم يبين المنتهى ففيه وجهان أحدهما لا يصح لان الأجزاء المبيع مختلفة وقد ينتهي إلى موضع يخالف موضع الابتداء
والثاني أنه يصح لانه يشاهد السمت وإن بين الابتداء والانتهاء صح في الدار وأما في الثوب فإنه إن كان مما لا ينقص قيمته بالقطع فهو كالدار وإن كان مما ينقص لم يصح لانه شرط إدخال نقص عليه فيما لم يبع من الثوب
ومن أصحابنا من قال يصح لانه رضي بما يدخل عليه من الضرر
وإن قال بعتك هذا السمن مع الظرف كل من بدرهم نظرت فإن لم يعلما مقدار السمن والظرف لم يجز لان ذلك غرر لان الظرف قد يكون خفيفا وقد يكون ثقيلا
وإن علما وزنهما جاز لانه لا غرر فيه
واختلف أصحابنا في بيع النحل في الكندوج فقال أبو العباس يجوز بيعه لانه يعرف مقداره حال دخوله وخروجه
ومن أصحابنا من قال لا يجوز وهو قول أبي حامد الإسفرايني لانه قد يكون في الكندوج ما لا يخرج
وإن اجتمع فرخه في موضع وشوهد جميعه جاز بيعه لانه معلوم مقدور على تسليمه فجاز بيعه
فصل في حكم بيع الحمل من البطن ولا يجوز بيع الحمل في البطن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المجر والمجر اشتراء ما في الأرحام ولانه قد يكون حملا وقد يكون ريحا وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولانه إن كان حملا فهو مجهول القدر مجهول الصفة وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
وإن باع حيوانا وشرط أنه حامل ففيه قولان أحدهما أن البيع باطل لانه مجهول الوجود مجهول الصفة
والثاني أنه يجوز لان الظاهر أنه موجود والجهل به لا يؤثر لانه لا تمكن رؤيته فعفي عن الجهل به كأساس الدار
____________________
(1/265)
فصل في بيع اللبن في الضرع ولا يجوز بيع اللبن في الضرع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لا تبيعوا الصوف على ظهر الغنم ولا تبيعوا اللبن في الضرع ولانه مجهول القدر لانه قد يرى امتلاء الضرع من السمن فيظن أنه من اللبن ولانه مجهول الصفة لأنه قد يكون اللبن صافيا وقد يكون كدرا وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
فصل في بيع الصوف على ظهر الغنم ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم لقول ابن عباس ولانه قد يموت الحيوان قبل الجز فيتنجس شعره وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ولانه لا يمكن تسليمه إلا باستئصاله من أصله ولا يمكن ذلك إلا بإيلام الحيوان وهذا لا يجوز
فصل في شرط الثمن ولا يجوز البيع إلا بثمن معلوم الصفة
فإن باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد متعارف لم يصح البيع لانه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بصفته كالمسلم فيه
فإن باع بثمن معين تعين لانه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع
فإن لم يره المتعاقدان أو أحدهما فعلى ما ذكرناه من القولين في بيع العين التي لم يرها المتبايعان أو أحدهما
فصل في فيما إذا باع بثمن مجهول القدر ولا يجوز إلا بثمن معلوم القدر فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها وبيع السلعة بما باع به فلان سلعته وهما لا يعلمان ذلك فالبيع باطل لانه عوض في البيع فلم يجز مع الجهل بقدره كالمسلم فيه فإن باعه بثمن معين جزافا جاز لانه معلوم بالمشاهدة ويكره ذلك كما قلنا في بيع الصبرة جزافا
وإن قال بعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم أو هذه الصبرة كل قفيز بدرهم وهما لا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وعدد القطيع صح البيع لان غرر الجهالة ينتفي بالعلم بالتفصيل كما ينتفي بالعلم بالجملة فإذا جاز بالعلم بالجملة جاز بالعلم بالتفصيل
وإن كان لرجل عبدان فباع أحدهما من رجل والآخر من رجل آخر في صفقة واحدة بثمن واحد فإن الشافعي رحمه الله قال فيمن كاتب عبدين بمال واحد إنه على قولين أحدهما يبطل العقد لان العقد الواحد مع اثنين عقدان فإن لم يعلم قدر العوض في كل واحد منهما بطل كما لو باع كل واحد منهما في صفقة بثمن مجهول
والثاني يصح ويقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما
فمن أصحابنا من قال في البيع أيضا قولان وهو قول أبي العباس
وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق يبطل البيع قولا واحدا لان البيع يفسد بفساد العوض
والصحيح قول أبي العباس لان الكتابة أيضا تفسد بفساد العوض وقد نص فيها على قولين فإن قال بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة فالبيع باطل لانه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا
وإن قال بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة فالبيع باطل لانه لم يعقد على ثمن بعينه فهو كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين
فصل في بيان اشتراط أن يكون الأجل معينا وإن باع بثمن مؤجل لم يجز إلى أجل مجهول كالبيع إلى العطاء لانه عوض في بيع فلم يجز إلى أجل مجهول كالمسلم فيه
فصل ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج لانه بيع غرر من غير حاجة فلم يجز
ولا يجوز بيع المنابذة وهو أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع
ولا بيع الملامسة وهو أن يمس الثوب بيده ولا ينشره وإذا مسه فقد وجب البيع لما روى أبو سعيد الخدري قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين المنابذة والملامسة والمنابذة أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره فإذا مسه فقد وجب البيع
ولانه إذا علق وجوب البيع
____________________
(1/266)
على نبذ الثوب فقد علق البيع على شرط وذلك لا يجوز وإذا لم ينشر الثوب فقد باع مجهولا وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز
ولا يجوز بيع الحصى وهو أن يقول بعتك ما وقع عليه الحصى من ثوب أو أرش لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصى ولانه بيع مجهول من غير حاجة فلم يجز
ولا يجوز بيع حبل الحبلة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة
واختلف في تأويله فقال الشافعي رحمه الله هو بيع السلعة بثمن إلى أن تلد الناقة ويلد حملها
وقال أبو عبيد هو بيع ما يلد حمل الناقة
فإن كان على ما قال الشافعي رحمه الله فهو بيع بثمن إلى أجل مجهول وقد بينا أن ذلك لا يجوز
وإن كان على ما قال أبو عبيد فهو بيع معدوم ومجهول وذلك لا يجوز
ولا يجوز بيعتان في بيعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول بعتك هذا بألف نقدا أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ولانه لم يعقد على ثمن معلوم
ويحتمل أن يكون المراد به أن يقول بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف فلا يصح للخبر ولانه ( شرط ) في عقد وذلك لا يصح فإذا سقط وجب أن يضاف إلى ثمن السلعة بإزاء ما سقط من الشرط وذلك مجهول فإذا أضيف إلى الثمن صار مجهولا فبطل
فصل مبايعة من ماله حرام ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام لما روى أبو مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي وعن الزهري في امرأة زنت بمال عظيم قال لا يصلح لمولاها أكله لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي فإن كان معه حلال وحرام كره مبايعته والأخذ منه لما روى النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهان وسأضرب لكم في ذلك مثلا إن الله تعالى حمى حمى وإن حمى الله حرام وإن من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى
وإن بايعه وأخذ منه جاز لان الظاهر مما في يده أنه له فلا يحرم الأخذ منه
ويكره بيع العنب ممن يعصر الخمر والتمر ممن يعمل النبيذ وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به لانه لا يأمن أن يكون ذلك معونة على المعصية
فإن باع منه صح البيع لانه قد لا يتخذ الخمر ولا يعصي الله تعالى بالسلاح
ولا يجوز بيع المصحف ولا العبد المسلم من الكافر لانه يعرض العبد للصغار والمصحف للابتذال فإن باعه منه ففيه قولان أحدهما أن البيع باطل لانه عقد منع منه لحرمة الإسلام فلم يصح كتزويج المسلمة من الكافر
والثاني يصح لانه سبب يملك به العبد الكافر فجاز أن يملك به العبد المسلم كالإرث
فإذا قلنا بهذا أمرناه بإزالة ملكه لان في تركه في ملكه صغارا على الإسلام
فإن باعه أو أعتقه جاز وإن كاتبه ففيه قولان أحدهما يقبل منه لان بالكتابة يصير كالخارج من ملكه في التصرفات
والثاني لا يقبل لانه عقدة لا يزيل الملك فلا ( يقبل منه ) كالتزويج والإجارة
فإن ابتاع الكافر أباه المسلم ففيه طريقان أحدهما أنه على القولين
والثاني أنه يصح قولا واحدا لانه يحصل له من الكمال بالحرية أكثر مما يلحقه من الصغار بالرق
____________________
(1/267)
فصل في حكم بيع الجارية بحملها ولا يجوز بيع الجارية ( إلا ) بحملها لانه يتبعها في البيع والعتق فلا يجوز بيعها دونه كاليد والرجل
ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وولدها في البيع قبل سبع سنين لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا توله والدة بولدها وقال عليه السلام من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة
وإن فرق بينهما بالبيع بطل البيع لانه تفريق محرم في البيع فأفسد البيع كالتفريق بين الجارية وحملها
وهل يجوز بعد سبع سنين إلى البلوغ فيه قولان أحدهما لا يجوز لعموم الأخبار ولانه غير بالغ فلا يجوز التفريق بينه وبين أمه في البيع كما لو كان له دون سبع سنين
والثاني يجوز لانه مستغن عن حضانتها فجاز التفريق بينهما كالبالغ
باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده إذا شرط في البيع شرطا نظرت فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما لم يبطل العقد لان شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله
فإن شرط ما لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن والضمين لم يبطل العقد لان الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة ولان الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد لان عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق
وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتاقه ففيه وجهان أحدهما يجبر عليه لانه عتق مستحق عليه فإذا امتنع أجبر عليه كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتاقه
والثاني لا يجبر بل يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع لانه ملكه بالعوض وإنما شرط للبائع حقا فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئا بشرط أن يرهن بالثمن رهنا فامتنع من الرهن فإن رضي البائع بإسقاط حقه من العتق ففيه وجهان أحدهما لا يسقط لانه عتق مستحق فلا يسقط بإسقاط الآدمي كالمنذور
والثاني أنه يسقط لانه حق شرطه البائع لنفسه فسقط بإسقاطه كالرهن والضمين
وإن تلف العبد قبل العتق ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه ليس للبائع إلا الثمن لانه لم يفقد أكثر من العتق
والثاني يأخذ الثمن وما نقص من الثمن بشرط العتق فيقوم من غير شرط العتق ثم يقوم مع شرط العتق ويجب ما بينهما من الثمن
والثالث أنه يفسخ العقد لان البائع لم يرض بهذا الثمن وحده والمشتري لم يلتزم أكثر من هذا الثمن فوجب أن يفسخ العقد
فصل في بيان الشروط الفاسدة في البيع فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التى تنافي مقتضى البيع بأن باع عبدا بشرط ألا يبيعه أو لا يعتقه أو باع دارا بشرط أن يسكنها مدة أو ثوبا بشرط أن يخيطه له أو فلعة بشرط أن يحذوها له بطل البيع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط وروي أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن فاستفتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال لا تقربها وفيها شرط لاحد
وروي أن عبد الله اشترى جارية واشترط خدمتها فقال له عمر رضي الله عنه لا تقربها وفيها مثنوية
ولانه شرط لم يبن على التغليب ولا هو من مقتضى العقد ولا من مصلحته فأفسد العقد كما لو شرط ألا يسلم إليه المبيع فإن قبض المبيع لم يملكه لانه قبض في عقد فاسد فلا يوجب الملك كالوطء في النكاح الفاسد فإن كان باقيا وجب رده وإن هلك ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف
ومن أصحابنا من قال يضمن قيمته يوم التلف لانه مأذون في إمساكه فضمن قيمته يوم التلف كالعارية وليس بشيء لانه قبض مضمون في عين يجب ردها فإذا هلكت ضمنها بأكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كقبض الغاصب ويخالف العارية فإن العارية مأذون في إتلاف منافعها ولان في العارية لو رد العين ناقصة بالاستعمال لم يضمن ولو رد المبيع ناقصا ضمن النقصان وإن حدثت في عينها زيادة بأن سمنت ثم هزلت ضمن ما نقص لان ما ضمن عينه ضمن نقصانه كالمغصوب
ومن أصحابنا من قال لا يضمن لان البائع دخل في العقد ليأخذ بدل العين دون الزيادة والمنصوص هو الأول وما قاله هذا القائل يبطل
____________________
(1/268)
بالمنافع فإنه لم يدخل في العقد ليأخذ بدلها ثم تستحق فإن كان لمثله أجرة لزمه الأجرة للمدة التي أقام في يده لانه مضمون عليه غير مأذون في الانتفاع به فضمن أجرته كالمغصوب
فإن كانت جارية فوطئها لم يلزمه الحد لانه وطء بشبهة لانه اعتقد أنها ملكه ويجب عليه المهر لانه وطء بشبهة فوجب به المهر كالوطء في النكاح الفاسد
وإن كانت بكرا وجب عليه أرش البكارة لان البكارة جزء من أجزائها وأجزاؤها مضمونة عليه فكذلك البكارة
وإن أتت منه بولد فهو حر لانه اعتقد أنها جاريته ويلزمه قيمة الولد لانه أتلف عليه رقه باعتقاده ويقوم بعد الانفصال لانه لا يمكن تقويمه قبل الانفصال ولانه يضمن قيمة الولد للحيلولة وذلك لا يحصل إلا بعد الانفصال
فإن ألقت الولد ميتا لم يضمنه لانه لا قيمة له قبل الانفصال ولا توجد الحيلولة إلا بعد الانفصال
فإن ماتت الجارية من الولادة لزمه قميتها لانها هلكت بسبب من جهته ولا تصير الجارية أم ولد في الحال لانها علقت منه في غير ملكه وهل تصير أم ولد إذا ملكها فيه قولان
باب تفريق الصفقة إذا جمع في البيع بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز بيعه كالحر والعبد وعبده وعبد غيره ففيه قولان أحدهما تفرق الصفقة فيبطل البيع فيما لا يجوز ويصح فيما يجوز لانه ليس إبطاله فيهما لبطلانه في أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما لصحته في أحدهما فبطل حمل أحدهما على الآخر وبقيا على حكمهما فصح فيما يجوز وبطل فيما لا يجوز
والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق فيبطل العقد فيهما
واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال يبطل لان العقد جمع حلالا وحراما فغلب التحريم كما لو جمع بين أختين في النكاح أو باع درهما بدرهمين
ومنهم من قال يبطل لجهالة الثمن وذلك أنه إذا باع حرا وعبدا بألف سقط ما يخص الحر من الثمن فيصير العبد مبيعا بما بقي وذلك مجهول في حال العقد فبطل كما لو قال بعتك هذا العبد بحصته من ألف درهم فإن قلنا بالتعليل الأول بطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على القيمة كالعبدين وفيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء كالعبد الواحد نصفه له ونصفه لغيره أو كرين من طعام أحدهما له والآخر لغيره
وكذلك لو جمع بين ما يجوز وبين ما لا يجوز في الرهن أو الهبة أو النكاح بطل في الجميع لانه جمع بين الحلال والحرام
وإن قلنا إن العلة جهالة العوض لم يبطل البيع فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء لان العوض غير مجهول ولا يبطل الرهن والهبة لانه لا عوض فيه ولا يبطل النكاح لان الجهل بالعوض لا يبطله فإن قلنا إن العقد يبطل فيهما رد المبيع واسترجع الثمن
وإن قلنا إنه يصح في أحدهما فله الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه لانه يلحقه ضرر بتفريق الصفقة فثبت له الخيار فإن اختار الإمساك فبكم يمسك فيه قولان أحدهما يمسك بجميع الثمن أو يرد لان ما لا يقابل العقد لا ثمن له فيصير الثمن كله في مقابلة الآخر
والثاني أنه يمسكه بقسطه لانه لم يبذل جميع العوض إلا في مقابلتهما فلا يؤخذ منه جميعه في مقابلة أحدهما
واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان فيما يتقسط العوض عليه بالقيمة فأما ما يتقسط العوض عليه بالأجزاء فإنه يمسك الباقي بقسطه من الثمن قولا واحدا لان فيما يتقسط الثمن عليه بالقيمة ما يخص الجائز مجهول فدعت الضرورة إلى أن يجعل جميع الثمن في مقابلته ليصير معلوما وفيما يتقسط الثمن عليه بالأجزاء ما يخص الجائز معلوم فلا حاجة بنا إلى أن نجعل جميع الثمن في مقابلته
ومنهم من قال القولان في الجميع وهو الصحيح لانه نص على القولين في بيع الثمرة قبل أن تخرج الزكاة والثمار مما يتقسط الثمن عليها بالأجزاء
فإن قلنا يمسك بجميع الثمن لم يكن للبائع الخيار لانه لا ضرر عليه
وإن قلنا يمسك بحصته فهل للبائع الخيار فيه وجهان أحدهما أن له الخيار لانه تبعضت عليه الصفقة فيثبت له الخيار كما يثبت للمشترى
والثاني لا خيار له لانه دخل على بصيرة لان الحر لا يؤخذ منه بثمن
وإن باع مجهولا ومعلوما فإن قلنا لا تفرق الصفقة بطل العقد فيهما
وإن قلنا تفرق وقلنا إنه يمسك الجائز بحصته بطل البيع فيه لان الذي يخصه مجهول
وإن قلنا يمسكه بجميع الثمن صح العقد فيه وإن جمع بين حلالين ثم تلف أحدهما قبل القبض بطل البيع فيه وهل يبطل في الباقي فيه طريقان أحدهما أنه على القولين في تفريق الصفقة لان ما يحدث من الهلاك قبل القبض كالموجود في حال العقد في إبطال
____________________
(1/269)
العقد فوجب أن يكون كالموجود في حال العقد فيما ذكرناه
والثاني لا يبطل إلا فيما تلف لان في الجمع بين الحلال والحرام إنما بطل للجهل بالعوض أو للجمع بين الحلال والحرام في العقد ولا يوجد ههنا واحد منهما فعلى هذا يصح العقد في الباقي وللمشتري الخيار في فسخ العقد لانه تفرقت عليه الصفقة فإن أمضاه أخذ الباقي بقسطه من الثمن قولا واحدا لان العوض ههنا قابل المبيعين فانقسم عليهما فلا يتغير بالهلاك
فصل في حكم من جمع بين بيع وإجارة بشرط الخيار في أحدهما وإن جمع بين بيع وإجارة أو بين بيع وصرف أو بين عبدين بشرط الخيار في أحدهما دون الآخر بعوض واحد ففيه قولان أحدهما أنه يبطل العقدان لان أحكام العقدين متضادة وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطل الجميع
والثاني أنه يصح العقدان وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتهما لانه ليس فيه أكثر من اختلاف حكم العقدين وهذا لا يمنع صحة العقد كما لو جمع في البيع بين ما فيه شفعة وبين ما لا شفعة فيه وإن جمع بين البيع والنكاح بعوض واحد فالنكاح لا يبطل لانه لا يبطل بفساد العوض وفي البيع قولان ووجههما ما ذكرناه
وإن جمع بين البيع والكتابة فإن قلنا في البيع والإجارة أنهما يبطلان بطل البيع والكتابة وإن قلنا إن البيع والإجارة يصحان بطل البيع ههنا لانه لا يجوز أن يبيع السيد من عبده
وهل تبطل الكتابة ( يبنى على القولين في ) تفريق الصفقة فإن قلنا لا تفرق بطل وإن قلنا تفرق بطل البيع وصحت الكتابة
باب الربا الربا محرم والأصل فيه قوله تعالى { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقوله تعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وروي في التفسير حين يقوم من قبره وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه
فصل في بيان أعيان الربا والأعيان التي نص على تحريم الربا فيها الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو استزاد فقد أربى
فأما الذهب والفضة فإنه يحرم فيهما الربا لعلة واحدة وهو أنهما من جنس الأثمان فيحرم الربا فيهما ولا يحرم فيما سواهما من الموزونات والدليل عليه أنه لا يجوز أن يكون تحريم الربا لمعنى يتعداهما إلى غيرهما من الأموال لانه لو كان لمعنى يتعداهما إلى غيرهما لم يجز اسلامهما فيما سواهما من الأموال لان كل شيئين جمعتهما علة واحدة في الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر كالذهب والفضة والحنطة والشعير فلما جاز إسلام الذهب والفضة في الموزونات والمكيلات وغيرهما من الأموال دل على أن العلة فيهما لمعنى لا يتعداهما وهو أنه من جنس الأثمان
فأما الأعيان الأربعة ففيها قولان قال في الجديد العلة فيها أنها مطعومة والدليل عليه ما روى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطعام بالطعام مثلا بمثل والطعام اسم لكل ما يتطعم والدليل عليه قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وأراد به الذبائح وقالت عائشة رضي الله عنها مكثنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر وقال لبيد ( من الكامل )
____________________
(1/270)
فلمعفر قهد ننازع شلوه غبش كواسب ما يمن طعامها وأراد به الفريسة والحكم إذا علق على اسم مشتق كان ذلك علة فيه كالقطع في السرقة والحد في الزنا ولان الحب ما دام مطعوما يحرم فيه الربا فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوما لم يحرم فيه الربا فإذا انعقد الحب وصار مطعوما حرم فيه الربا فدل على أن العلة فيه كونه مطعوما فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم من الأقوات والأدام والحلاوات والفواكه والأدوية
وفي الماء وجهان أحدهما يحرم فيه الربا لانه مطعوم فهو كغيره
والثاني لا يحرم فيه الربا لانه مباح في الأصل غير متمول في العادة فلا يحرم فيه الربا
وفي الأدهان المطيبة وجهان أحدهما لا ربا فيها لانها تعد للانتفاع برائحتها دون الأكل
والثاني أنه يحرم فيها الربا وهو الصحيح لانه مأكول وإنما لا يؤكل لانه ينتفع به فيما هو أكثر من الأكل
وفي البزر ودهن السمك وجهان أحدهما لا ربا فيه لانه يعد للاستصباح
والثاني أنه يحرم الربا فيه لانه مأكول فأشبه الشيرج
وقال في القديم العلة فيها أنها مطعومة مكيلة أو مطعومة موزونة والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطعام بالطعام مثلا بمثل والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن فعلى هذا لا يحرم الربا فيما لا يكال ولا يوزن من الأطعمة كالرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ وما أشبهها
فصل في أي شيء يجري الربا وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيها الربا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا ونسيئة ويجوز فيها التفرق قبل التقابض لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشا فنقدت الإبل فأمرني أن آخذ على قلاص الصدقة فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملا إلى أجل بعشرين بعيرا وباع ابن عباس رضي الله عنهما بعيرا بأربعة أبعرة واشترى ابن عمر رضي الله عنهما راحلة بأربع رواحل ورواحله بالربذة واشترى رافع بن خديج رضي الله عنه بعيرا ببعيرين فأعطاه أحدهما وقال آتيك بالآخر غدا ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالىء بالكالىء
قال أبو عبيدة هو النسيئة بالنسيئة
____________________
(1/271)
فصل في بيان ما يجري فيه الربا فأما ما يحرم فيه الربا فينظر فيه فإن باعه بجنسه حرم فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب والفضة بالفضة والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فإن باعه بغير جنسه نظرت فإن كان مما يحرم الربا فيهما لعلة واحدة كالذهب والفضة والشعير والحنطة جاز فيه التفاضل وحرم فيه النساء والتفرق قبل التقابض لقوله صلى الله عليه وسلم فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فإن تبايعا وتخايرا في المجلس قبل التقابض بطل البيع لان التخاير كالتفرق ولو تفرقا قبل التقابض بطل العقد فكذلك إذا تخايرا وإن تبايعا دراهم بدنانير في الذمة وتقابضا ثم وجد أحدهما بما قبض عيبا نظرت فإن لم يتفرقا جاز أن يرد ويطالب بالبدل لان المعقود عليه ما في الذمة وقد قبض قبل التفرق وإن تفرقا ففيه قولان أحدهما يجوز إبداله لان ما جاز إبداله قبل التفرق جاز ( إبداله بعد التفرق ) كالمسلم فيه
والثاني لا يجوز وهو قول المزني لانه إذا أبدله صار القبض بعد التفرق وذلك لا يجوز وإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلتين كبيع الحنطة بالذهب والشعير بالفضة حل فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض لاجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في المكيلات المطعومة
فصل في بيان إذا اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة كالتمر البرني والتمر المعقلي فهما جنس واحد وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب فهما جنسان والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ستة أشياء وحرم فيها التفاضل إذا باع كل شيء منها بما وافقه في الاسم وأباح فيه التفاضل إذا باعه بما خالفه في الاسم فدل على أن كل شيئين اتفقا في الاسم فهما جنس وإذا اختلفا في الاسم فهما جنسان وما اتخذ من أموال الربا كالدقيق والخبز والعصير والدهن تعتبر بأصولها فإن كانت الأصول أجناسا فهي أجناس وإن كانت الأصول جنسا واحدا فهي جنس واحد فعلى هذا دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان وخبز الحنطة وخبز الشعير جنسان ودهن الجوز ودهن اللوز جنسان
واختلف قوله في زيت الزيتون وزيت الفجل
فقال في أحد القولين هما جنس واحد لانه جمعهما اسم الزيت
والثاني أنهما جنسان وهو الصحيح لانهما يختلفان في الطعم واللون فكانا جنسين كالتمر الهندي والتمر البرني ولانهما فرعان لجنسين مختلفين فكانا جنسين كدهن الجوز ودهن اللوز واختلف قوله في اللحمان فقال في أحد القولين هي أجناس وهو قول المزني وهو الصحيح لانها فروع لاصول هي أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأدهان
والثاني أنها جنس واحد لانها تشترك في الاسم الخاص في أول دخولها في تحريم الربا فكانت جنسا واحدا كالتمور وتخالف الأدقة والأدهان لان أصولها أجناس يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا فاعتبر فروعها بها واللحمان لا يحرم الربا في أصولها فاعتبرت بنفسها فإن قلنا إن اللحم جنس واحد لم يجز بيع لحم شيء من الحيوان بلحم غيره متفاضلا
وهل يدخل لحم السمك في ذلك فيه وجهان قال أبو إسحاق يدخل فيها فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلا لان اسم اللحم يقع عليه والدليل عليه قوله تعالى { لتأكلوا منه لحما طريا }
ومن أصحابنا من قال لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب لانه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل لحم السمك
فإن قلنا إن اللحوم أجناس جاز بيع لحم كل جنس من الحيوان بلحم جنس آخر متفاضلا فيجوز بيع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلا ولحم بقر الوحش بلحم بقر الأهل لانهما جنسان ولا يجوز بيع لحم الضأن بلحم المعز ولا لحم البقر بلحم الجواميس متفاضلا لانهما نوعان من جنس واحد
____________________
(1/272)
فصل في اعتبار الأحمر والأبيض من اللحم جنس واللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس واحد لان الجميع لحم واللحم والشحم جنسان واللحم والألية جنسان والشحم والألية جنسان واللحم والكبد جنسان والكبد والطحال جنسان واللحم والكلية جنسان لانها مختلفة الاسم والخلقة فأما الألبان ففيها طريقان من أصحابنا من قال هي كاللحمان وفيها قولان ومنهم من قال الألبان أجناس قولا واحدا لانها تتولد من الحيوان والحيوان أجناس فكذلك الألبان واللحمان لا تتولد من الحيوان والصحيح أنها كاللحمان
فصل في حكم بيع التفاضل وما حرم فيه التفاضل لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب تبره وعينه وزنا بوزن والفضة بالفضة تبرها وعينها وزنا بوزن والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير كيلا بكيل فمن زاد أو أزاد فقد أربى فإن باع صبرة طعام بصبرة طعام وهما لا يعلمان كيلهما لم يصح البيع لما روى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام وإن باع صبرة طعام بصبرة طعام صاعا بصاع فخرجتا متساويتين صح البيع وإن خرجتا متفاضلتين ففيه قولان أحدهما أنه باطل لانه بيع طعام بطعام متفاضلا
والثاني أنه يصح فيما تساويا فيه لانه شرط التساوي في الكيل ومن نقصت صبرته فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه بمقدار صبرته لانه دخل على أن يسلم له جميع الصبرة ولم يسلم له فثبت له الخيار
وإن باع صبرة طعام بصبرة شعير كيلا بكيل فخرجتا متساويتين جاز وإن خرجتا متفاضلتين فإن رضي صاحب الصبرة الزائدة بتسليم الزيادة أقر العقد ووجب على الآخر قبوله لانه ملك الجميع بالعقد وإن رضي صاحب الصبرة الناقصة بقدر صبرته من الصبرة الزائدة أقر العقد وإن تشاحا فسخ البيع لان كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة صاحبه على التساوي في المقدار وقد تعذر ذلك ففسخ العقد
فصل في اعتبار التساوي في الكيل والوزن ويعتبر التساوي فيما يكال ويوزن بكيل الحجاز ووزنه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة وإن كان مما لا أصل له بالحجاز في الكيل والوزن نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله اعتبر التساوي فيه بالوزن لانه لا يمكن غيره وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان أحدهما أنه يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز فإن كان مكيلا لم يجز بيعه إلا كيلا وإن كان موزونا لم يجز بيعه إلا موزونا لان الأصل فيه الكيل والوزن بالحجاز فإذا لم يكن له في الحجاز أصل في الكيل والوزن اعتبر بأشبه الأشياء به
والثاني أنه يعتبر بالبلد الذي فيه البيع لانه أقرب إليه وإن كان مما لا يكال ولا يوزن وقلنا بقوله الجديد أنه يحرم فيه الربا وجوزنا بيع بعضه ببعض نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله كالبقل والقثاء والبطيخ وما أشبهها بيع وزنا وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان أحدهما لا يباع إلا كيلا لان الأصل هو الأعيان الأربعة المنصوص عليها وهي مكيلة فوجب رده إلى الأصل والثاني أنه لا يباع إلا وزنا لان الوزن أحصر
فصل في بيان حكم بيع الربا بعضه ببعض وبيان مسألة مد عجوة وما حرم فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض ومع أحد العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة كبيع ثوب ودرهم بدرهمين ومد عجوة ودرهم بدرهمين ولا يباع نوعان من جنس بنوع كدينار قاساني ودينار سابوري بقاسانيين أو سابوريين أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو دينارين قراضة والدليل عليه ما روى فضالة بن عبيد قال أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز مغلفة بذهب فابتاعها رجل بسبعة دنانير أو تسعة دنانير فقال عليه الصلاة السلام لا حتى تميز بينه وبينه قال إنما أردت الحجارة فقال لا حتى تميز بينهما ولان الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما والدليل عليه أنه إذا باع سيفا وشقصا بألف قوم السيف والشقص وقسم الألف عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشفيع الشقص
____________________
(1/273)
بحصته من الثمن على قدر قيمته وأمسك المشتري السيف بحصته من الثمن على قدر قيمته وإذا قسم الثمن على قدر القيمة أدى إلى الربا لانه إذا باع دينارا صحيحا قيمته عشرون درهما ودينارا قراضة قيمته عشرة ( دراهم ) بدينارين وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما صارت القراضة مبيعة بثلث الدينارين والصحيح بالثلثين وذلك ربا
فصل ولا يباع خالصه بمشوبه كحنطة خالصة بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة خالصة بفضة مغشوشة وعسل مصفى بعسل فيه شمع لان أحدهما يفضل على الآخر ولا يباع مشوبه بمشوبه كحنطة فيها شعير أو زؤان بحنطة فيها شعير أو زؤان وفضة مغشوشة بفضة مغشوشة أو عسل فيه شمع بعسل فيه شمع لانه لا يعلم التماثل بين الحنطتين وبين الفضتين وبين العسلين
ويجوز أن يباع طعام بطعام وفيه قليل تراب لان التراب يحصل في سقوف الطعام ولا يظهر في الكيل فإن باع موزونا بموزون من جنسه من أموال الربا وفيه قليل تراب لم يجز لان ذلك يظهر في الوزن ويمنع من التماثل
فصل في حكم بيع الرطب باليابس ولا يباع رطبه بيابسه على الأرض لما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس فقيل له نعم قال فلا إذا فنهى عن بيع الرطب بالتمر وجعل العلة فيه أنه ينقص عن يابسه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بيابسه وأما بيع رطبه برطبه فينظر فيه فإن كان ذلك مما يدخر يابسه كالرطب والعنب لم يجز بيع رطبه برطبه وقال المزني يجوز لان معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع بعضه ببعض كاللبن والدليل على أنه لا يجوز أنه لا يعلم التماثل بينهما في حال الكمال والادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالتمر بالتمر جزافا ويخالف اللبن فإن كماله في حال رطوبته لانه يصلح لكل ما يراد به والكمال في الرطب والعنب في حال يبوسته لانه يعمل منه كل ما يراد منه ويصلح للبقاء والادخار وإن كان مما يدخر يابسه كسائر الفواكه ففيه قولان أحدهما لا يجوز لانه جنس فيه ربا فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب
والثاني أنه يجوز لان معظم منافعه في حال رطوبته فجاز بيع رطبه برطبه كاللبن
وفي الرطب الذي لا يجيء منه التمر والعنب الذي لا يجىء منه الزبيب طريقان أحدهما أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض لان الغالب منه أنه يدخر يابسه وما لا يدخر منه نادر فألحق بالغالب
والثاني وهو قول أبي العباس أنه على قولين لان معظم منفعته في حال رطوبته فكان على قولين كسائر الفواكه
وفي بيع اللحم الطرى باللحم الطرى طريقان أحدهما وهو المنصوص أنه لا يجوز لانه يدخر يابسه فلم يجز بيع رطبه برطبه كالرطب والعنب
والثاني وهو قول أبي العباس أنه على قولين لان معظم منفعته في حال رطوبته فصار كالفواكه فإن باع منه ما فيه نداوة يسيرة بمثله كالتمر الحديث بعضه ببعض جاز بلا خلاف لان ذلك لا يظهر في الكيل وإن كان مما يوزن كاللحم لم يجز لانه يظهر في الوزن
فصل في حكم بيع العرايا وأما العرايا وهو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصا فإنه يجوز للفقراء فيخرص ما على النخل من الرطب وما يجيء منه من التمر إذا جف ثم يبيع ذلك بمثله تمرا ويسلمه إليه قبل التفرق والدليل عليه ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت ما عراياكم هذه فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا
____________________
(1/274)
نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبا
وهل يجوز للأغنياء فيه قولان أحدهما لا يجوز وهو اختيار المزني لان الرخصة وردت في حق الفقراء والأغنياء لا يشاركونهم في الحاجة فبقي في حقهم على الحظر
والثاني أنه يجوز لما روى سهل بن أبي حثمة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر إلا أنه رخص في العرايا أن تبتاع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا ولم يفرق ولان كل بيع جاز للفقراء جاز للأغنياء كسائر البيوع
وهل يجوز ذلك في الرطب بالرطب فيه ثلاثة أوجه أحدها يجوز وهو قول أبي علي بن خيران لما روى زيد بن ثابت قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في غير ذلك
والثاني لا يجوز وهو قول أبي سعيد الإصطخري لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبايعوا ثمر النخل بثمر النخل ولان الخرص غرر وقد وردت الرخصة في جوازه في أحد العوضين فلو جوزنا في الرطب بالرطب لجوزناه في العوضين وذلك غرر كثير زائد على ما وردت فيه الرخصة فلم يجز كشرط الخيار فيما زاد على ثلاثة أيام
والثالث وهو قول أبي إسحاق أنه إن كان نوعا واحدا لم يجز لانه لا حاجة به إليه لان مثل ما يبتاعه عنده وإن كان نوعين جاز لانه قد يشتهي كل واحد منهما النوع الذي عند صاحبه فيكون كمن عنده تمر ولا رطب عنده ولا يجوز في العرايا فيما زاد على خمسة أوسق في عقد واحد لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة فالمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة والمزابنة أن يبيع الثمر على رؤوس النخل بمائة فرق والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع ويجوز ذلك فيما دون خمسة أوسق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق وفي خمسة أوسق قولان أحدهما لا يجوز وهو قول المزني لان الأصل هو الحظر وقد ثبت جواز ذلك فيما دون خمسة أوسق لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
وفي خمسة أوسق شك لانه روي في حديث أبي هريرة فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك فيه داود بن الحصين فبقي على الأصل ولان خمسة أوسق في حكم ما زاد بدليل أنه تجب الزكاة في الجميع فإذا لم تجز فيما زاد على خمسة أوسق لم تجز في خمسة أوسق
والقول الثاني أنه يجوز لعموم حديث سهل بن أبي حثمة
فصل في إعطاء حكم الرطب والتمر حكم العنب والزبيب وما جاز في الرطب بالتمر جاز في العنب بالزبيب لانه يدخر يابسه ويمكن خرصه فأشبه الرطب وفيما سوى ذلك من الثمار قولان أحدهما يجوز لانه ثمرة فجاز بيع رطبها بيابسها خرصا كالرطب
والثاني لا يجوز لما روى زيد بن ثابت قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا بالتمر والرطب ولم يرخص في غير ذلك ولان سائر الثمار لا يدخر يابسها ولا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها في الأوراق فلم يجز بيعها خرصا
____________________
(1/275)
فصل ولا يباع ما نزع نواه بما لم ينزع ولا يباع منه ما نزع نواه بما لم ينزع نواه لان أحدهما على هيئة الادخار والآخر على غير هيئة الادخار ويتفاضلان حال الادخار فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالتمر
وهل يجوز بيع ما نزع نواه بعضه ببعض فيه وجهان أحدهما يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا التمر بالتمر إلا سواء بسواء
والثاني لا يجوز لانه يتجافى في المكيال فلا يتحقق فيه التساوي ولانه يجهل تساويهما في حال الكمال والادخار فأشبه بيع التمر بالتمر جزافا
فصل ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه لان النار تعقد أجزاءه وتسخنه فإن بيع كيلا لم يجز لانهما لا يتساويان في الكيل في حال الادخار وإن بيع وزنا لم يجز لان أصله الكيل فلا يجوز بيعه وزنا ولا يجوز بيع مطبوخه بمطبوخه لان النار قد تعقد من أجزاء أحدهما أكثر من الآخر فيجهل التساوي
واختلف أصحابنا في بيع العسل المصفى بالنار بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لان النار تعقد أجزاءه فلا يعلم تساويهما ومنهم من قال يجوز وهو المذهب لان نار التصفية نار لينة لا تعقد الأجزاء وإنما تميزه من الشمع فصار كالعسل المصفى بالشمس واختلفوا في بيع السكر بعضه ببعض فمنهم من قال لا يجوز لان النار قد عقدت أجزاءه
ومنهم من قال يجوز لان ناره لا تعقد الأجزاء وإنما تميزه من القصب
فصل بيع الحب بدقيقه ولا يجوز بيع الحب بدقيقه متفاضلا لان الدقيق هو الحب بعينه وإنما فرقت أجزاؤه فهو كالدنانير الصحاح بالقراضة فأما بيعه به متماثلا فالمنصوص أنه لا يجوز
وقال الكرابيسي قال أبو عبد الله يجوز فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولا آخر
وقال أكثر أصحابنا لا يجوز قولا واحدا ولعل الكرابيسي أراد أبا عبد الله مالكا أو أحمد فإن عندهما يجوز ذلك والدليل على أنه لا يجوز أنه جنس فيه ربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار بما ليس منه على هيئة الادخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار فلم يصح كبيع الرطب بالتمر ولا يجوز بيع دقيقه بدقيقه وروى المزني عنه في المنثور أنه يجوز وإليه أومأ في البويطي لانهما يتساويان في الحال ولا يتفاضلان في الثاني فجاز بيع أحدهما بالآخر كالحنطة بالحنطة
والصحيح هو الأول لانه جهل التساوي بينهما في حال الكمال والادخار فأشبه بيع الصبرة بالصبرة جزافا ولا يجوز بيع حبه بسويقه ولا سويقه بسويقه لما ذكرناه في الدقيق ولان النار قد دخلت فيه وعقدت أجزاءه فمنع التماثل ولا يجوز بيعه بخبزه لانه دخله النار وخالطه الملح والماء وذلك يمنع التماثل ولان الخبز موزون والحنطة مكيل فلا يمكن معرفة التساوي بينهما ولا يجوز بيع خبزه بخبزه لان ما فيه من الماء والملح يمنع من العلم بالتماثل فمنع جواز العقد
وإن جفف الخبز وجعل فتيتا وبيع بعضه ببعض كيلا ففيه قولان أحدهما لا يجوز لانه لا يعلم تساويهما في حال الكمال فلم يجز بيع أحدهما بالآخر كالرطب بالرطب
والثاني أنه يجوز لانه مكيل مدخر فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر
فصل بيع السمسم بالشيرج وما شاكله ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالسمسم بالشيرج والعنب بالعصير لانه إذا عصر الأصل نقص عن العصير الذي بيع به ويجوز بيع العصير بالعصير إذا لم تنعقد أجزاؤه لانه يدخر على صفته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ويجوز بيع الشيرج بالشيرج
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لانه يخالطه الماء والملح وذلك يمنع التماثل فمنع العقد والمذهب الأول لانه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالعصير
وأما الماء والملح فإنه يحصل في الكسب ولا ينعصر لانه لو انعصر في الشيرج لبان عليه ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر لانه يدخر على جهته فجاز بيع بعضه ببعض كالزبيب بالزبيب ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب لان في خل الزبيب ماء وذلك يمنع من تماثل الخلين ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب ولا بيع خل التمر بخل التمر لانا إن قلنا إن الماء فيه ربا لم يجز للجهل بتماثل الماءين والجهل بتماثل الخلين وإن قلنا لا ربا في الماء لم يجز للجهل بتماثل الخلين وإن باع خل الزبيب بخل التمر فإن قلنا إن في الماء ربا لم يجز للجهل بتماثل الماء فيهما وإن قلنا لا ربا في الماء جاز لانهما جنسان فجاز بيع أحدهما بالآخر مع الجهل بالمقدار كالتمر بالزبيب والله أعلم
____________________
(1/276)
فصل في بيع المصراة وغيره ولا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن شاة لان اللبن يدخل في البيع ويقابله قسط من الثمن والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في مقابلة لبن المصراة صاعا من تمر ولان اللبن في الضرع كاللبن في الإناء والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتثل ما فيها فجعل اللبن كالمال في الخزانة فصار كما لو باع لبنا وشاة بلبن فإن باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن ففيه وجهان قال أبو الطيب بن سلمة يجوز كما يجوز بيع السمسم بالسمسم وإن كان في كل واحد منهما شيرج وكما يجوز بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء
وقال أكثر أصحابنا لا يجوز لانه جنس فيه ربا بيع بعضه ببعض ومع كل واحد منهما شيء مقصود فلم يجز كما لو باع نخلة مثمرة بنخلة مثمرة ويخالف السمسم لان الشيرج في السمسم كالمعدوم لانه لا يحصل إلا بطحن وعصر واللبن موجود في الضرع من غير فعل ويمكن أخذه من غير مشقة وأما الدار فإن قلنا إن الماء يملك ويحرم فيه الربا فلا يجوز بيع إحدى الدارين بالأخرى ويجوز بيع اللبن الحليب بعضه ببعض لان عامة منافعه في هذه الحال فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر بالتمر ويجوز بيع اللبن الحليب بالرائب وهو الذى فيه حموضة لانه لبن خالص وإنما تغير فهو كتمر طيب بتمر غير طيب ويجوز بيع الرائب بالرائب كما يجوز بيع تمر متغير بتمر متغير ولا يجوز بيع اللبن بما يتخذ منه من الزبد والسمن لان ذلك مستخرج منه فلا يجوز بيعه به كالشيرج بالسمسم ولا يجوز بيعه بالمخيض لان المخيض لبن نزع منه الزبد والحليب لم ينزع منه الزبد فإذا بيع أحدهما بالآخر تفاضل اللبنان
ولا يجوز بيعه بالشيراز واللبإ والجبن لان أجزاءها قد انعقدت فلا يجوز بيعها باللبن كيلا لانهما يتفاضلان ولا يجوز بيعها وزنا لان اللبن مكيل فلا يباع بجنسه وزنا وأما بيع ما يتخذ منه بعضه ببعض فإنه إن باع السمن بالسمن جاز لانه لا يخالطه غيره
قال الشافعي رحمه الله والوزن فيه أحوط وقال أبو إسحاق يباع كيلا لان أصله الكيل فإن باع الزبد بالزبد ففيه وجهان
أحدهما يجوز كما يجوز بيع السمن بالسمن واللبن باللبن
والثاني لا يجوز لان الزبد فيه لبن فيكون بيع لبن وزبد بلبن وزبد وإن باع المخيض بالمخيض نظرت فإن لم يطرح فيه الماء جاز لانه بيع لبن بلبن وإن طرح فيه ماء للضرب لم يجز لتفاضل الماءين وتفاضل اللبنين وإن باع الجبن أو الأقط أو المصل أو اللبأ بعضه ببعض لم يجز لان أجزاءها منعقدة ويختلف انعقادها ولان فيها ما يخالطه الملح والإنفحة وذلك يمنع التماثل وأما بيع نوع منه بنوع آخر فإنه ينظر فيه فإن باع الزبد بالسمن لم يجز لان السمن مستخرج من الزبد فلا يجوز بيعه بما استخرج منه كالشيرج بالسمسم وإن باع المخيض بالسمن فالمنصوص أنه يجوز لانه ليس في أحدهما شيء من الآخر
قال شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله هما كالجنسين فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا بلا خلاف وإن باع الزبد بالمخيض فالمنصوص أنه يجوز
وقال أبو إسحاق لا يجوز لان في الزبد شيئا من المخيض فيكون بيع زبد ومخيض بمخيض وهذا لا يصح لان الذي فيه من المخيض لا يظهر إلا بالتصفية والنار فلم يكن له حكم وما سوى ذلك لا يجوز بيع نوع منه بنوع آخر لانه يؤدى إلى التفاضل
فصل في بيع اللحم بالحيوان ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه ( بلحم ) لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يباع حى بميت وروى ابن عباس رضي الله عنه أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال أعطوني بها لحما فقال أبو بكر لا يصلح هذا ولانه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم وفي بيع اللحم بحيوان لا يؤكل ( لحمه ) قولان أحدهما لا يجوز للخبر
والثاني يجوز لانه ليس فيه مثله فجاز بيعه به كاللحم بالثوب ويجوز بيع اللحم بجنسه إذا تناهى جفافه ونزع منه العظم لانه يدخر على هذه الصفة فجاز بيع بعضه ببعض كالتمر
وهل يجوز بيع بعضه ببعض
____________________
(1/277)
قبل نزع العظم فيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري يجوز كما يجوز بيع التمر بالتمر وفيه النوى
ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز بيع العسل الذي فيه شمع بعضه ببعض ويخالف النوى في التمر فإن فيه مصلحة له وليس في ترك العظم في اللحم مصلحة له
فصل في حكم بيع بيض الدجاج بدجاجة في جوفها بيض ولا يجوز بيع بيض الدجاج بدجاجة في جوفها بيض لانه جنس فيه ربا بيع بما فيه مثله فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان
باب بيع الأصول والثمار إذا باع أرضا وفيها بناء أو غراس نظرت فإن قال بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها البناء والغراس لانه من حقوقها وإن لم يقل بحقوقها فقد قال في البيع يدخل وقال في الرهن لا يدخل واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق فمنهم من قال لا يدخل في الجميع لان الأرض ليست بعبارة عن الغراس والبناء وتأول قوله في البيع عليه إذا قال بحقوقها
ومنهم من نقل جوابه في الرهن إلى البيع وجوابه في البيع إلى الرهن وجعلهما على قولين أحدهما لا يدخل في الجميع لان الأرض اسم للعرصة دون ما فيها من الغراس والبناء
والثاني يدخل لانه متصل بها فدخل في العقد عليها كسائر أجزاء الأرض
ومنهم من قال في البيع يدخل وفي الرهن لا يدخل لان البيع عقد قوي يزيل الملك فدخل فيه الغراس والبناء والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك فلم يدخل فيه الغراس والبناء
فإن قال بعتك هذه القرية بحقوقها لم تدخل فيها المزارع لان القرية اسم للأبنية دون المزارع وإن قال بعتك هذا الدار دخل فيها ما اتصل بها من الرفوف المسمرة والجوابي والأجاجين المدفونة فيها للانتفاع بها وإن كان فيها رحا مبنية دخل الحجر السفلاني في بيعها لانه متصل بها وفي الفوقاني وجهان أحدهما أنه يدخل فيه وهو الصحيح لانه ينصب هكذا فدخل ( فيه ) كالباب
والثاني لا يدخل لانه منفصل عن المبيع ويدخل الغلق المسمر في الباب
وفي المفتاح وجهان أحدهما يدخل فيه لانه من مصلحته فلا ينفرد عنه
والثاني لا يدخل لانه منفصل فلم يدخل فيه كالدلو والبكرة
وإن كان في الدار شجرة فعلى الطرق الثلاثة التي ذكرناها في الأرض وأما الماء الذي في البئر فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق الماء غير مملوك لانه لو كان مملوكا لصاحب الدار لما جاز للمستأجر شربه لانه إتلاف عين فلا يستحق بالإجارة كثمرة النخل ولوجب ألا يجوز للمشتري رد الدار بالعيب بعد شربه كما لا يجوز رد النخل بعد أكل ثمرته فعلى هذا لا يدخل في بيع الدار غير أن المشتري أحق به لثبوت يده على الدار
وقال أبو علي بن أبي هريرة هو مملوك لمالك الدار وهو المنصوص في القديم وفي كتاب حرملة لانه من نماء الأرض فكان لمالك الأرض كالحشيش فإذا باع الدار فإن الماء الظاهر للبائع لا يدخل في بيع الدار من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري فعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط بأن الظاهر من الماء للمشتري لانه إذا لم يشترط اختلط ماء البائع بماء المشتري فينفسخ البيع
وإن كان في الأرض معدن باطن كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع لانه من أجزاء الأرض وإن كان معدنا ظاهرا كالنفط والقار فهو كالماء مملوك في قول أبي علي بن أبي هريرة وغير مملوك في قول أبي إسحاق
والحكم في دخوله في البيع على ما بيناه في الماء وإن باع أرضا وفيها ركاز أو حجارة مدفونة لم تدخل في البيع لانها ليست من أجزاء الأرض ولا هي متصلة بها فلم تدخل في بيعها
فصل في حكم بيع النخل قبل التأبير وإن باع نخلا وعليها طلع غير مؤبر دخل في بيع النخل وإن كان مؤبرا لم يدخل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع فجعلها للبائع بشرط أن تكون مؤبرة فدل على أنها
____________________
(1/278)
إذا لم تكن مؤبرة فهي للمبتاع ولان ثمرة النخل كالحمل لانه نماء كامن لظهوره غاية كالحمل ثم الحمل الكامن يتبع الأصل في البيع والحمل الظاهر لا يتبع فكذلك الثمرة
قال الشافعي رحمه الله وما شقق في معنى ما أبر لانه نماء ظاهر فهو كالمؤبر وإن باع فحالا وعليه طلع لم يتشقق ففيه وجهان أحدهما أنه لا يدخل في بيع الأصل لان جميع الطلع مقصود مأكول وهو ظاهر فلم يتبع الأصل كالتين
والثاني أنه يدخل في بيع الأصل وهو الصحيح لانه طلع لم يتشقق فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث وما قاله الأول لا يصح لان المقصود ما فيه وهو الكش الذي تلقح به الإناث وهو غير ظاهر فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث
فصل في حكم بيع بعض المؤبر دون بعض وإن باع حائطا أبر بعضه دون بعض جعل الجميع كالمؤبر فيكون الجميع للبائع لانا لو قلنا إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فجعل ما لم يؤبر تبعا للمؤبر لان الباطن يتبع الظاهر ولم يجعل ما أبر تابعا لما لم يؤبر لان الظاهر لا يتبع الباطن ولهذا جعلنا أساس الدار تابعا لظاهرها في تصحيح البيع ولم نجعل ظاهرها تابعا للباطن في إفساد البيع
وقال أبو علي بن خيران إن كان نوعا واحدا جعل غير المؤبر تابعا للمؤبر وإن كان نوعين لم يجعل ما لم يؤبر من أحد النوعين تابعا للمؤبر من نوع آخر لان النوع الواحد يتقارب ظهوره والنوعان يختلف ظهورهما
والمذهب الأول لما ذكرناه من سوء المشاركة واختلاف الأيدي وذلك يوجد في النوعين كما يوجد في النوع الواحد وأما إذا كان له حائطان فأبر أحدهما دون الآخر وباعهما فإن المؤبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري ولا يتبع أحدهما الآخر لان انفراد كل واحد منهما بثمرة حائط لا يؤدي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي فاعتبر كل واحد منهما بنفسه وإن كان له حائط أطلع بعضه دون بعض فأبر المطلع ثم باع الحائط ثم أطلع الباقي ففيه وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة ما أطلع في ملك المشتري لا يتبع المؤبر بل يكون للمشتري لانه حادث في ملكه فلا يصير للبائع
والثاني أنه يتبع المؤبر فيكون للبائع لانه من ثمرة عامه فجعل تابعا له كالطلع الظاهر في حال العقد فإن أبر بعض الحائط دون بعض ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع ففي طلعه وجهان أحدهما أنه للبائع لانا جعلناه في الحكم كالمؤبر بدليل أنه لو باع الجميع كان للبائع فصار كما لو أفرد بعض المؤبر بالبيع
والثاني أنه للمشتري لانه إنما جعل كالمؤبر إذا بيع معه فيصير تابعا له فأما إذا أفرده فليس بتابع للمؤبر فتبع أصله
فصل قال الشافعي رحمه الله والكرسف إذا بيع أصله كالنخل وأراد به كرسف الحجاز فإنه شجر يحمل في كل سنة وتخرج ثمرته في كمام وتتشقق عنه كالنخل فإن باع وقد تشقق جوزه فهو للبائع وإن لم يتشقق فهو للمشتري وإن تشقق بعضه دون بعض جعل الجميع للبائع كالنخل
وأما ما لا يحمل إلا سنة وهو قطن العراق وخراسان فهو كالزرع ويجيء حكمه إن شاء الله تعالى
فصل في حكم بيع الشجر غير النخل والكرسف وإن باع شجرا غير النخل والكرسف لم يخل إما أن يقصد منه الورد أو الورق أو الثمرة
فإن كان يقصد منه الورد فإن كان ورده يخرج في كمام ثم ينفتح منه كالورد فهو كالنخيل فإن كان في الكمام تبع الأصل في البيع كالطلع الذي لم يؤبر وإن كان خارجا من الكمام لم يتبع الأصل كالطلع المؤبر وإن كان لا كمام له كالياسمين كان ما ظهر منه للبائع وما لم يظهر للمشتري وإن كان مما يقصد منه الورق كالتوت ففيه وجهان أحدهما أنه إن لم يتفتح فهو للمشتري وإن تفتح فهو للبائع لان الورق من هذا كالثمر من سائر الأشجار
والثاني أنه للمشتري تفتح أو لم يتفتح لانه بمنزلة الأغصان من سائر الأشجار وليس كالثمر لان ثمرة التوت ما يؤكل منه وإن كان مما يقصد منه الثمرة فهو على أربعة أضرب أحدها ما تخرج ثمرته ظاهرة من غير
____________________
(1/279)
كمام كالتين والعنب فما ظهر منه فهو للبائع لا يدخل في البيع من غير شرط وما يظهر بعد العقد فهو للمشتري لان الظاهر منه كالطلع المؤبر والباطن منه كالطلع الذي لم يؤبر
والثاني ما يخرج في كمام لا يزال عنه إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع لان كمامه من مصلحته فهو كأجزاء الثمرة
والثالث ما يخرج وعليه قشرتان كالجوز واللوز والرانج فالمنصوص أنه كالرمان لا يدخل في بيع الأصل لان قشره لا يتشقق عنه كما لا يتشقق قشر الرمان
ومن أصحابنا من قال هو كثمرة النخل الذي لم يؤبر لانه لا يترك في القشر الأعلى كما لا تترك الثمرة في الطلع
والرابع ما يكون في نور يتناثر عنه النور كالتفاح والكمثرى فاختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد هو كثمرة النخل إن تناثر عنه النور فهو للبائع وإن لم يتناثر عنه فهو للمشتري وهو ظاهر قوله في البويطي واختيار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لان استتارها بالنور كاستتار الثمر في الطلع وتناثر النور عنها كتشقق الطلع عن الثمرة فكان في الحكم مثلها
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني وهو للبائع وإن لم يتناثر النور عنها لان الثمرة قد ظهرت بالخروج من الشجر واستتارها بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بما عليها من القشر الأبيض ثم ثمرة النخل بعد خروجها من الطلع للبائع مع استتارها بالقشر الأبيض فكذلك هذه الثمرة للبائع مع استتارها بالنور
فصل إن باع أرضا فيها نبات غير الشجر وإن باع أرضا وفيها نبات غير الشجر فإن كان مما له أصل يحمل مرة بعد أخرى كالرطبة والبنفسج والنرجس والنعنع والهندبا والبطيخ والقثاء دخل الأصل في البيع وما ظهر منه فهو للبائع وما لم يظهر فهو للمشتري كالأشجار وإن كان مما لا يحمل إلا مرة كالحنطة والشعير لم يدخل في بيع الأصل لانه نماء ظاهر لا يراد للبقاء فلم يدخل في بيع الأصل كالطلع المؤبر
وفي بيع الأرض طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان لانها في يد البائع إلى أن يحصد الزرع فكان في بيعها قولان كالأرض المستأجرة ومنهم من قال يصح بيع الأرض قولا واحدا لان المبيع في يد المشتري وإنما يدخل البائع للسقي أو الحصاد فجاز بيعه قولا واحدا كالأمة المزوجة
وإن باع أرضا فيها بذر لم يدخل البذر في البيع لانه مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها كالركاز فإن باع الأرض مع البذر ففيه وجهان أحدهما أنه يصح تبعا للأرض
والثاني لا يصح وهو المذهب لانه لا يجوز بيعه منفردا فلم يجز بيعه مع الأرض
فصل فيما لو باع أصلا وعليه ثمرة للبائع إذا باع أصلا وعليه ثمرة للبائع لم يكلف قطع الثمرة إلى أوان الجداد فإن كان مما يقطع بسرا كالبسر الحيسواني والقرشي لم يكلف قطعه إلى أن يصير بسرا وإن كان مما لا يقطع إلا رطبا لم يكلف قطعه إلى أن يصير رطبا لان نقل المبيع على حسب العادة ولهذا إذا اشترى بالليل متاعا لم يكلف نقله حتى يصبح وإن اشتراه في المطر لم يكلف نقله حتى يسكن المطر والعادة في قطع الثمار ما ذكرناه فلا يكلف القطع قبله
فصل حكم إذا أصاب النخل عطش فهلكت فإن أصاب النخل عطش وخاف أن تشرب الثمرة الماء من أصل النخل فيهلك ففيه قولان أحدهما لا يكلف البائع قطع الثمرة لان المشتري دخل في العقد على أن يترك الثمار إلى الجداد فلزمه تركه
والثاني أنه يكلف قطعه لان المشتري إنما رضي بذلك إذا لم يضر به فإذا أضر به لم يلزمه تركه فإن احتاج أحدهما إلى سقي ماله ولم يكن على الآخر ضرر جاز له أن يسقيه لانه إصلاح لما له من غير إضرار بأحد فجاز وإن كان على الآخر ضرر في السقي وتشاحا ففيه وجهان قال أبو إسحاق يفسخ
____________________
(1/280)
العقد لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر في الإضرار فوجب أن يفسخ
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجبر الممتنع منهما لانه حين دخل في العقد رضي بدخول الضرر عليه لانه يعلم أنه لا بد من السقي ويجب أجرة السقي على من يسقى لان منفعته تحصل له
فصل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ولا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وروى ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ثمرة النخل حتى تزهى والسنبل والزرع حتى يبيض ويأمن العاهة
ولان المبيع إنما ينقل على حسب العادة ولهذا لو اشترى بالليل متاعا لم يكلف نقله حتى يصبح والعادة في الثمار تركها إلى أوان الجداد فإذا باعها قبل بدو الصلاح لم يأمن من أن يصيبها عاهة فتتلف وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز وإن باعها بشرط القطع جاز لانه يأخذه قبل أن يتلف فيأمن الغرر وإن باع الثمرة مع الأصل والزرع مع الأرض قبل بدو الصلاح جاز لان حكم الغرر يسقط مع الأصل كالغرر في الحمل يسقط حكمه إذا بيع مع الأصل وإن باع الثمرة ممن يملك الأصل أو الزرع ممن يملك الأرض ففيه وجهان أحدهما يصح لانه يحصل لمالك الأصل فجاز كما لو باعها مع الشجر والأرض
والثاني لا يصح لانه أفرده بالبيع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع فأشبه إذا باعها من غير مالك الأصل وإن بدا صلاحها جاز بيعها بشرط القطع لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ولانه إذا جاز بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح فلأن يجوز بعد بدو الصلاح أولى
ويجوز بيعها مطلقا للخبر ولانه أمن من العاهة فجاز بيعها مطلقا كسائر الأموال ويجوز بيعها بشرط التبقية إلى الجداد للخبر ولان إطلاق البيع يقتضي التبقية إلى أوان الجداد فإذا شرط التبقية فقد شرط ما يقتضيه الإطلاق فجاز
فصل في معنى بدو الصلاح وبدو الصلاح في الثمار أن يطيب أكلها فإن كان رطبا بأن يحمر أو يصفر وإن كان عنبا أسود بأن يتموه وإن كان أبيض بأن يرق ويحلو وإن كان زرعا بأن يشتد وإن كان بطيخا بأن يبدو فيه النضج وإن كان قثاء بأن يكبر بحيث يؤخذ ويؤكل والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الثمرة حتى تزهى
وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم فإن وجد بدو الصلاح في بعض الجنس من حائط جاز بيع ذلك الجنس كله في ذلك الحائط لانا لو قلنا لا يجوز إلا فيما بدا صلاحه فيه أدى إلى المشقة والضرر بسوء المشاركة
ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر ولا ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس من حائط آخر لان المنع من ذلك لا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة
فإن بدا الصلاح في بعض الجنس في حائط فباع منه ما لم يبد فيه الصلاح مفردا من غير شرط القطع ففيه وجهان أحدهما يجوز لانا جعلناه في حكم ما بدا فيه الصلاح فجاز إفراده بالبيع
والثاني لا يجوز لانه إنما جعل في حكم ما بدا فيه الصلاح بيعا لما بدا فيه الصلاح وما أجيز بيعه تبعا لغيره لم يجز إفراده بالبيع كالحمل
فصل في هل يكلف قطع الثمار بعد بدو الصلاح وقبل أوان الجداد إذا ابتاع زرعا أو ثمرة بعد بدو الصلاح لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجداد لان العادة فيها تركها إلى الحصاد والجداد فلم يكلف نقله قبله كما نقول فيمن اشترى متاعا بالليل إنه لا يكلف نقله إلا بالنهار فإن احتاجت الثمرة أو الزرع إلى السقي لزم البائع ذلك لانه يجب عليه تسليمها في حال الجداد والحصاد وذلك لا يحصل إلا بالسقي فلزمه
فصل في حكم إذا اشترى ثمرة على الشجر واختلط بأخرى ولم تتميز وإذا اشترى ثمرة على الشجر ( فلم يأخذها ) حتى حدث ثمرة أخرى واختلطت ولم تتميز أو اشترى حنطة فلم يقبض حتى
____________________
(1/281)
انثالت عليها حنطة أخرى ففيه قولان أحدهما ينفسخ البيع وهو الصحيح لانه تعذر التسليم المستحق بالعقد فإن البائع لا يلزمه تسليم ما اختلط به من ماله
فإن رضي البائع بتسليم ماله لم يلزم المشتري قبوله وإذا تعذر تسليم المعقود عليه بطل العقد كما لو تلف المبيع
والثاني لا ينفسخ لان المبيع باق وإنما انضاف إليه زيادة فصار كما لو باع عبدا فسمن أو شجرة فكبرت فإن قلنا لا ينفسخ قلنا للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد وإن اشترى شجرة عليها حمل للبائع فلم يأخذه حتى حدث حمل للمشتري واختلطت ولم تتميز ففيه طريقان قال أبو علي بن خيران وأبو علي الطبري لا ينفسخ العقد قولا واحدا بل يقال إن سمح أحدكما بترك حقه من الثمرة أقر العقد لان المبيع هو الشجر ولم يختلط الشجر بغيره وإنما اختلط ما عليها من الثمرة والثمرة غير مبيعة فلم ينفسخ البيع كما لو اشترى دارا وفيها طعام للبائع وطعام للمشتري فاختلط أحد الطعامين بالآخر فإن البيع لا ينفسخ في الدار
وقال المزني وأكثر أصحابنا إنها على قولين كالمسألة قبلها لان المقصود بالشجر هو الثمرة فكان اختلاطها كاختلاط المبيع وإن اشترى رطبة بشرط القطع فلم يقطع حتى زادت وطالت ففيه طريقان أحدهما أنه لا يبطل البيع قولا واحدا بل يقال للبائع إن سمحت بحقك أقر العقد وإن لم تسمح فسخ العقد لانه لم يختلط المبيع بغيره وإنما زاد المبيع في نفسه فصار كما لو اشترى عبدا صغيرا فكبر أو هزيلا فسمن
والثاني وهو الصحيح أنه على قولين أحدهما لا ينفسخ البيع
والثاني ينفسخ ويخالف السمن والكبر في العبد فإن تلك الزيادة لا حكم لها ولهذا يجبر البائع على تسليم العبد مع السمن والكبر ولهذه الزيادة حكم ولهذا لا يجبر البائع على تسليمها فدل على الفرق بينهما
فصل في حكم بيع الشجر المختلط وإن كان له شجرة تحمل حملين فباع أحد الحملين بعد بدو الصلاح وهو يعلم أنه يحدث الحمل الآخر ويختلط به ولا يتميز فالبيع باطل
وقال الربيع فيه قول آخر أن البيع يصح ولعله أخذه من أحد القولين فيمن باع جزة من الرطبة فلم يأخذ حتى حدث شيء آخر أن البيع يصح في أحد القولين والصحيح هو الأول لانه باع مالا يقدر على تسليمه لان العادة فيها الترك فإذا ترك اختلط به غيره فتعذر التسليم بخلاف الرطبة فإنه باعها بشرط القطع فلا يتعذر التسليم
باب بيع المصراة والرد بالعيب إذا اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ولم يعلم بأنها مصراة ثم علم أنها مصراة فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصروا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثا إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا واختلف أصحابنا في وقت الرد فمنهم من قال يتقدر الخيار بثلاثة أيام فإن علم بالتصرية فيما دون الثلاث كان له الخيار في بقية الثلاث للسنة
ومنهم من قال إذا علم بالتصرية ثبت له الخيار على الفور فإن لم يرد سقط خياره لانه خيار ثبت لنقص فكان على الفور كخيار الرد بالعيب
____________________
(1/282)
فصل إن اختار رد المصراة رد بدل اللبن فإن اختار رد المصراة رد بدل اللبن الذي أخذه واختلفت الرواية فيه فروى أبو هريرة صاعا من تمر وروى ابن عمر مثل أو مثلي لبنها قمحا واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس بن سريج يرد في كل بلد من غالب قوته وحمل حديث أبي هريرة على من قوت بلده التمر وحديث ابن عمر على من قوت بلده القمح كما قال في زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير وأراد التمر لمن قوته التمر والشعير لمن قوته الشعير
وقال أبو إسحاق الواجب صاع من التمر لحديث أبي هريرة وتأول حديث ابن عمر عليه إذا كان مثل لبنها من القمح أكثر قيمة من صاع من التمر فتطوع به وإن كان قيمة الصاع بقيمة الشاة أو أكثر ففيه وجهان قال أبو إسحاق يجب عليه قيمة صاع بالحجاز لانا لو أوجبنا صاعا بقيمة الشاة حصل للبائع الشاة وبدلها فوجب قيمة الصاع بالحجاز لانه هو الأصل
ومن أصحابنا من قال يلزمه الصاع وإن كان بقيمة الشاة أو أكثر ولا يؤدي إلى الجمع بين الشاة وبدلها لان الصاع ليس ببدل عن الشاة وإنما هو بدل عن اللبن فجاز كما لو غصب عبدا فخصاه فإنه يرد العبد مع قيمته ولا يكون ذلك جمعا بين العبد وقيمته لان القيمة بدل عن العضو المتلف وإن كان ما حلب من اللبن باقيا فأراد رده ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يجبر البائع على أخذه لانه صار بالحلب ناقصا لانه يشرع إليه التغير فلا يجبر على أخذه
ومن أصحابنا من قال يجبر لان نقصانه حصل لمعنى يستعلم به العيب فلم يمنع الرد ولانه لو لم يجز رده لنقصانه بالحلب لم يجز إفراد الشاة بالرد لانه إفراد بعض المعقود عليه بالرد فلما جاز ذلك ههنا وإن لم يجز في سائر المواضع جاز رد اللبن ههنا مع نقصانه بالحلب وإن لم يجز في سائر المواضع
فصل في حكم الجارية المصراة وإن اشترى جارية مصراة ففيه أربعة أوجه أحدها أنه يردها ويرد معها صاعا لانه يقصد لبنها فثبت بالتدليس له فيه الخيار والصاع كالشاة
والثاني أنه يردها لان لبنها يقصد لتربية الولد ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد ولا يرد بدله لانه لا يباع ولا يقصد بالعوض
والثالث لا يردها لان الجارية لا يقصد في العادة إلا عينها دون لبنها
والرابع لا يردها ويرجع بالأرش لانه لا يمكن ردها مع عوض اللبن لانه ليس للبنها عوض مقصود ولا يمكن ردها من غير عوض لانه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها من غير بدل ولا يمكن إجبار المبتاع على إمساكها بالثمن المسمى لانه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له ما دلس به من اللبن فوجب أن يرجع على البائع بالأرش كما لو وجد بالمبيع عيبا وحدث عنده عيب
فصل في حكم الأتان المصراة وإن اشترى أتانا مصراة فإن قلنا بقول الإصطخري أن لبنها طاهر ردها ورد معها بدل اللبن كالشاة وإن قلنا بالمنصوص أنه نجس ففيه وجهان أحدهما أنه يردها ولا يرد بدل اللبن لانه لا قيمة له فلا يقابل ببدل
والثاني يمسكها ويأخذ الأرش لانه لا يمكن ردها مع البدل لانه لا بدل له ولا ردها من غير بدل لما فيه من إسقاط حق البائع من لبنها ولا إمساكها بالثمن لانه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان مع اللبن ولم تسلم فوجب أن تمسك ويأخذ الأرش
فصل إذا ابتاع شاة بشرط أن تحلب كل يوم خمسة أرطال ففيه وجهان بناء على القولين فيمن باع شاة وشرط حملها
أحدهما لا يصح لانه شرط مجهول فلم يصح
والثاني أنه يصح لانه يعلم بالعادة فصح شرطه فعلى هذا إذا لم تحلب المشروط فهو بالخيار بين الإمساك والرد
فصل في حكم بيع الجارية المعيبية إذا ابتاع جارية قد جعد شعرها ثم بان أنها سبطة الشعر أو سود شعرها ثم بان بياض شعرها أو حمر وجهها ثم بان صفرة وجهها ثبت له الرد لانه تدليس بما يختلف به الثمن فثبت به الخيار كالتصرية وإن سبط شعرها ثم بان أنها جعدة ففيه وجهان أحدهما لا خيار له لان الجعدة أكمل وأكثر ثمنا
والثاني أنه يثبت له الخيار لانه قد تكون السبطة أحب إليه وأحسن عنده وهذا لا يصح لانه لا اعتبار به وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والجعدة أكثر ثمنا من السبطة وإن ابتاع صبرة ثم بان أنها كانت على صخرة أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة ثبت له الرد لما ذكرناه من العلة في المسألة قبلها
فصل في حكم التدليس بالعيب ومن ملك عينا وعلم بها عيبا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول المسلم أخو المسلم فلا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا يعلم فيه عيبا إلا بينه له فإن علم غير المالك بالعيب لزمه أن يبين ذلك لمن يشتريه لما روى أبو سباع قال اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركنا عقبة بن عامر
____________________
(1/283)
فقال هل بين لك ما فيها قلت وما فيها إنها لسمينة ظاهرة الصحة فقال أردت بها سفرا أم أردت بها لحما قلت أردت عليها الحج قال إن بخفها نقبا
قال صاحبها أصلحك الله ما تريد إلى هذا تفسد علي قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل لاحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه فإن باع ولم يبين العيب صح البيع لان النبي صلى الله عليه وسلم صحح البيع في المصراة مع التدليس بالتصرية
فصل في ثبوت خيار العيب فإن لم يعلم بالعيب واشتراه ثم علم بالعيب فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد لانه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ذلك فثبت له الرجوع بالثمن كما قلنا في المصراة
فإن ابتاع شيئا ولا عيب به ثم حدث به عيب في ملكه نظرت فإن كان حدث قبل القبض ثبت له الرد لان المبيع مضمون على البائع فثبت له الرد بما يحدث فيه من العيب كما قبل العقد وإن حدث العيب بعد القبض نظرت فإن لم يستند إلى سبب قبل القبض لم يثبت له الرد لانه دخل المبيع في ضمانه فلم يرد بالعيب الحادث وإن استند إلى ما قبل القبض بأن كان عبدا فسرق أو قطع يدا قبل القبض فقطعت يده بعد القبض ففيه وجهان أحدهما أنه يرد وهو قول أبى إسحاق لانه قطع بسبب كان قبل القبض فصار كما لو قطع قبل القبض
والثاني أنه لا يرد وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لان القطع وجد في يد المشتري فلم يرد كما لو لم يستند إلى سبب قبله
فصل ثبوت الخيار على الفور إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا لم يخل إما أن يكون المبيع باقيا على جهته أو زاد أو نقص فإن كان باقيا على جهته وأراد الرد لم يؤخره فإن أخره من غير عذر سقط الخيار لانه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الشفعة فإن كان المبيع دابة فساقها ليردها فركبها في الطريق أو علفها أو سقاها لم يسقط حقه من الرد لانه لم يرض بالعيب ولم يوجد منه أكثر من الركوب والعلف والسقي وذلك حق له إلى أن يرد فلم يمنع الرد وله أن يرد بغير رضى البائع ومن غير حضوره لانه رفع عقد جعل إليه فلا يعتبر فيه رضى صاحبه ولا حضوره كالطلاق
فإن اشترى ثوبا بجارية فوجد بالثوب عيبا فوطىء الجارية ففيه وجهان أحدهما أنه ينفسخ البيع كما ينفسخ البيع في مدة خيار الشرط بالوطء
والثاني لا ينفسخ لان الملك قد استقر للمشتري فلا يجوز فسخه إلا بالقول فإن زال العيب قبل الرد ففيه وجهان بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد ثم أعتق العبد قبل أن تختار الأمة الفسخ
أحدهما يسقط الخيار لان الخيار ثبت لدفع الضرر وقد زال الضرر
والثاني لا يسقط لان الخيار ثبت بوجود العيب فلا يسقط من غير رضاه
وإن قال البائع أنا أزيل العيب مثل أن يبيع أرضا فيها حجارة مدفونة يضر تركها بالأرض فقال البائع أنا أقلع ذلك في مدة لا أجرة لمثلها سقط حق المشتري من الرد لان ضرر العيب يزول من غير إضرار
وإن قال البائع أمسك المبيع وأنا أعطيك أرش العيب لم يجبر المشتري على قبوله لانه لم يرض إلا بمبيع سليم بجميع الثمن فلم يجبر على إمساك معيب ببعض الثمن
وإن قال المشتري أعطني الأرش لامسك المبيع لم يجبر البائع على دفع الأرش لانه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه ببعض الثمن
فإن تراضيا على دفع الأرش لاسقاط الخيار ففيه وجهان أحدهما يجوز وهو قول أبي العباس لان خيار الرد يجوز أن يسقط إلى المال وهو إذا حدث عند المشتري عيب فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي كالخيار في القصاص
والثاني لا يجوز وهو المذهب لانه خيار فسخ فلم يجز إسقاطه بمال كخيار الشرط وخيار الشفعة
فإن تراضيا على ذلك وقلنا إنه لا يجوز فهل يسقط خياره فيه وجهان أحدهما أنه يسقط لانه رضي بإمساك العين مع العيب
والثاني لا يسقط وهو المذهب لانه رضي بإسقاط الخيار بعوض ولم يسلم له العوض فبقي الخيار وإن أراد أن يرد بعضه لم يجز لان على البائع ضررا في تبعيض الصفقة عليه فلم يجز من غير رضاه
وإن اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيبا فهل له أن يفرده بالرد فيه قولان أحدهما لا يجوز لانه تبعيض صفقة على البائع فلم يجز من غير رضاه
والثاني يجوز لان العيب اختص بأحدهما فجاز أن يفرده بالرد
وإن ابتاع اثنان عبدا فأراد أحدهما أن يمسك حصته وأراد الآخر أن يرد حصته جاز لان البائع فرق الملك في الإيجاب لهما فجاز أن يرد عليه أحدهما دون الآخر كما لو باع منهما في صفقتين فإن مات من له الخيار انتقل إلى وارثه
____________________
(1/284)
لانه حق لازم يختص بالمبيع فانتقل بالموت إلى الوارث كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن فإن كان له وارثان فاختار أحدهما أن يرد نصيبه دون الآخر لم يجز لانه تبعيض صفقة في الرد فلم يجز من غير رضا البائع كما لو أراد المشتري أن يرد بعض المبيع
فصل في زيادة العيب علا ما فيه وإن وجد العيب وقد زاد المبيع نظرت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالسمن واختار الرد رد مع الزيادة لانها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلا يجوز أن ترد دونها
وإن كانت زيادة منفصلة كأكساب العبد فله أن يرد ويمسك الكسب لما روت عائشة رضي الله عنها أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم به ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه فقال الرجل يا رسول الله قد استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان
وإن كان المبيع بهيمة فحملت عنده وولدت أو شجرة فأثمرت عنده رد الأصل وأمسك الولد والثمرة لانه نماء منفصل حدث في ملكه فجاز أن يمسكه ويرد الأصل كغلة العبد
وإن كان المبيع جارية فحملت عنده وولدت ثم علم بالعيب ردها وأمسك الولد لما ذكرناه
ومن أصحابنا من قال لا يرد الأم بل يرجع بالأرش لان التفريق بين الأم والولد فيما دون سبع سنين لا يجوز وهذا لا يصح لان التفريق بينهما يجوز عند الضرورة ولهذا قال الشافعي رحمه الله في الجارية المرهونة إنها تباع دون الولد فإن اشتراها وهي حامل فولدت عنده فإن قلنا إن الحمل له حكم رد الجميع وإن قلنا لا حكم للحمل رد الأم دون الولد
وإن كان المبيع جارية ثيبا فوطئها ثم علم بالعيب فله أن يردها لانه انتفاع لا يتضمن نقصا فلم يمنع الرد كالاستخدام
وإن وجد العيب وقد نقص المبيع نظرت فإن كان النقص بمعنى لا يقف استعلام العيب على جنسه كوطء البكر وقطع الثوب وتزويج الأمة لم يجز له الرد بالعيب لانه أخذه من البائع وبه عيب فلا يجوز رده وبه عيبان من غير رضاه وينتقل حقه إلى الأرش لانه فات جزء من المبيع وتعذر الفسخ بالرد فوجب أن يرجع إلى بدل الجزء الفائت وهو الأرش
فإن قال البائع أنا آخذ المبيع مع العيب الحادث لم يلزمه دفع الأرش لانه لم يكن له غير الرد وإنما امتنع من الرد للعيب الحادث في يده فإذا رضي به صار كأنه لم يحدث عنده عيب فلم يكن له غير الرد
وإن قال المشتري أرده وأعطي معه أرش العيب الحادث عندي لم يلزم البائع قبوله كما إذا حدث العيب به عند البائع فقال خذه وأنا أعطيك معه أرش العيب لم يلزم المشتري قبوله
فصل تقويم المبيع في الرد وإذا أراد الرجوع بالأرش قوم المبيع بلا عيب فيقال قيمته مائة ثم يقوم مع العيب فيقال قيمته تسعون فيعلم أنه قد نقص العشر من بدله فيرجع على البائع بعشر الثمن ولا يرجع بما نقص من قيمته لان الأرش بدل عن الجزء الفائت ولو فات المبيع كله رجع على البائع بجميع الثمن فإذا فات قدر العشر منه رجع بعشر الثمن كالجزء لما ضمن جميعه بالدية ضمن الجزء منه بجزء من الدية ولانا لو قلنا إنه يرجع بما نقص من قيمته أدى إلى أن يجتمع الثمن والمثمن للمشتري فإنه قد يشتري ما يساوي مائة بعشرة فإذا رجع بالعشرة رجع جميع الثمن إليه فيجتمع له الثمن والمثمن وهذا لا يجوز
وإن اختلفت قيمة المبيع من حال العقد إلى حال القبض قوم بأقل القيمتين لانه إن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضمونا عليه وما كان نقصانه من ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع
وإن كانت قيمته وقت العقد أقل ثم زادت في يده فإنها زيادة حدثت في ملك المشتري لا حق للبائع فيها فلا يجوز إدخالها في التقويم فإن كان المبيع إناء من فضة وزنه ألف وقيمته ألفان فكسره ثم علم به عيبا لم يجز له الرجوع بأرش العيب لان ذلك رجوع بجزء من الثمن فيصير الألف بدون الألف وذلك لا يجوز فيفسخ البيع ويسترجع الثمن ثم يغرم أرش الكسر
وحكى أبو القاسم الداركي وجها آخر أنه يرجع بالأرش لان ما ظهر من الفضل في الرجوع بالأرش لا اعتبار به والدليل عليه أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا ولا يقال إن هذا لا يجوز لانه يصير الثمن مجهولا
فصل وجد العيب ونقص المبيع وإن وجد العيب وقد نقص المبيع بمعنى يقف استعلام العيب على جنسه بأن كان جوزا أو بيضا أو غير ذلك مما
____________________
(1/285)
لا يوقف على عيبه إلا بكسره فينظر فيه فإن كسره فوجده لا قيمة للباقى كالبيض المذر والرمان العفن فالبيع باطل لان ما لا قيمة له لا يصح بيعه فيجب رد الثمن
فإن كان له قيمة كبيض النعامة والبطيخ الحامض وما دود بعضه من المأكول نظرت فإن كسر منه قدرا لا يوقف على العيب بما دونه ففيه قولان أحدهما أنه لا يرد وهو قول المزني لانه نقص حدث في يد المشتري فمنع الرد كقطع الثوب
والثاني لا يمنع الرد لانه معنى لا يوقف على العيب إلا به فلم يمنع الرد كنشر الثوب
فإن قلنا لا يرد رجع بأرش العيب على ما ذكرناه وإن قلنا يرد فهل يلزمه أن يدفع معه أرش الكسر فيه قولان أحدهما يلزمه كما يلزمه بدل لبن الشاة المصراة
والثاني لا يلزمه لان الكسر الذى يتوصل به إلى معرفة العيب مستحق له فلا يلزمه لاجله أرش فإن قلنا يلزمه الأرش قوم معيبا صحيحا ومعيبا مكسورا ثم يرجع عليه بما بين القيمتين لانه لما رد انفسخ العقد فيه فصار كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالسوم مضمون بالقيمة فضمن نقصانه بما نقص من القيمة ويخالف الأرش مع بقاء العقد لان المبيع مع بقاء العقد مضمون بالثمن فضمن نقصانه بجزء من الثمن
وإن كسر منه قدرا يمكنه الوقوف على العيب بأقل منه ففيه طريقان أحدهما لا يجوز الرد قولا واحدا لانه نقص حدث بمعنى لا يحتاج إليه لمعرفة العيب فمنع الرد كقطع الثوب
والثاني أنه على القولين لانه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه في معرفة العيب وبين ما زاد عليه فسوي بين القليل والكثير
فصل حكم جهله بعيب المبيع حتى الهلاك وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع أو أعتقه أو وقفه ثبت له أرش العيب لانه أيس من الرد فثبت له الرجوع بأرش العيب
وإن لم يعلم بالعيب حتى أبق العبد لم يطالب بالأرش لانه لم ييأس من الرد فإن رجع رده بالعيب وإن هلك أخذ عنه الأرش فإن لم يعلم بالعيب حتى باعه لم يجز له المطالبة بالأرش
قال أبو إسحاق العلة فيه أنه استدرك الظلامة فغبن كما غبن فزال عنه ضرر العيب
وقال أكثر أصحابنا العلة فيه أنه لم ييأس من الرد لانه قد يرجع إليه فيرد عليه
فإن رد المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول رده على البائع لانه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة وإن حدث عند الثاني عيب فرجع على الأول بالأرش رجع هو على بائعه لانه أيس من الرد ولم يستدرك الظلامة
وإن تلف في يد الثاني وقلنا بتعليل أبي إسحاق لم يرجع لانه استدرك الظلامة
وإن قلنا بتعليل غيره رجع بالأرش لانه قد أيس من الرد
وإن رجع المبيع إليه ببيع أو هبة أو إرث لم يرد على تعليل أبي إسحاق لانه استدرك الظلامة وعلى تعليل غيره يرد لانه أمكنه الرد
فإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره فإن كان بعوض فهو كالبيع وقد بيناه وإن وهبه بغير عوض لم يرجع بالأرش لانه لم ييأس من الرد فإن رجع إليه ببيع أو هبة أو إرث فله الرد بلا خلاف لانه أمكنه الرد ولم يستدرك الظلامة
فصل في تفسير العيب والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيبا فإن خفي منه شيء رجع فيه إلى أهل الخبرة بذلك الجنس
فإن اشترى عبدا فوجده أعمى أو أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذوما أو أبرص أو مريضا أو أبخر أو مقطوعا أو أقرع أو زانيا أو سارقا أو آبقا ثبت له الرد لان هذه عاهات يقتضي مطلق العقد السلامة منها فلا يلزمه العقد مع وجودها وإن وجده يبول في الفراش فإن كان صغيرا لم يرد لان بول الصغير معتاد فلا يعد عيبا وإن كان كبيرا رد لان ذلك عاهة ونقص
وإن وجده خصيا ثبت له الرد لان العقد يقتضي سلامة الأعضاء وهذا ناقص
وإن وجده غير مختون فإن كان صغيرا لم يثبت له الرد لانه لا يعد ذلك نقصا في الصغير لانه لا يخاف عليه منه وإن كان كبيرا ثبت له الرد لانه يعد نقصا ( في الكبير ) لانه يخاف عليه منه
وإن كانت جارية لم ترد صغيرة كانت أو كبيرة لان ختانها سليم لا يخاف عليها منه
وإن اشترى جارية فوجدها مغنية لم ترد لانه لا تنقص به العين ولا القيمة فلم يعد ذلك عيبا
____________________
(1/286)
وإن وجدها ثيبا أو مسنة لم يثبت له الرد لان الثيوبة والكبر ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة فإن وجد المملوك مرتدا أو وثنيا ثبت له الرد لانه لا يقر على دينه وإن وجده كتابيا لم يثبت له الرد لان كفره لا ينقص من عينه ولا من ثمنه
وإن اشترى أمة فوجدها مزوجة أو عبدا فوجده مستأجرا ثبت له الرد لان إطلاق البيع يقتضي سلامة المنافع للمشتري ولم يسلم له ذلك فثبت له الرد
وإن اشترى شيئا فتبين أنه غبن في ثمنه لم يثبت له الرد لما روي أن حبان بن منقذ كان يخدع في البيع فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا بعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا ولم يثبت له خيار الغبن ولان المبيع سليم ولم يوجد من جهة البائع تدليس وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار فلم يجز له الرد
فصل في شراء العبد بشرط وإن اشترى عبدا بشرط أنه كاتب فوجده غير كاتب أو على أنه يحسن صنعة فوجده لا يحسن ثبت له الرد لانه أنقص مما شرط فجاز له الرد وإن اشتراه على أنه فحل فوجده خصيا ثبت له الرد لان الخصي أنقص من الفحل في الخلقة والبطش والقوة
وإن شرط أنه خصي فوجده فحلا ثبت له الرد لان الفحل دون الخصي في الثمن والدخول إلى الحرم
وإن اشتراه على أنه مسلم فوجده كافرا ثبت له الرد لان الكافر دون المسلم في الدين
وإن اشتراه على أنه كافر فوجده مسلما ثبت له الرد وقال المزني لا يثبت له الرد لان المسلم أفضل من الكافر وهذا لا يصح لان المسلم أفضل في الدين إلا أن الكافر أكثر ثمنا لانه يرغب فيه المسلم والكافر والمسلم لا يشتريه الكافر
وإن اشترى جارية على أنها بكر فوجدها ثيبا ثبت له الرد لان الثيب دون البكر
وإن اشتراها على أنها ثيب فوجدها بكرا لم يثبت له الرد لان البكر أفضل من الثيب
ومن أصحابنا من قال يثبت له الرد لانه قد يكون ضعيفا لا يطيق وطء البكر فكانت الثيب أحب إليه
والمذهب الأول لانه لا اعتبار بما عنده وإنما الاعتبار بما يزيد في الثمن والبكر أفضل من الثيب في الثمن وإن باعه حيوانا على أنه بغل فوجده حمارا أو على أنه حمار فوجده بغلا ففيه وجهان أحدهما أن البيع صحيح لان العقد وقع على العين والعين موجودة فصح البيع وثبت له الرد لانه لم يجده على ما شرط
والثاني أن البيع باطل لان العقد وقع على جنس فلا ينعقد في جنس آخر
وإن اشترى ثوبا أو أرضا على أنه عشرة أذرع فوجده تسعة فهو بالخيار بين أن يأخذه بجميع الثمن بين أن يرده لانه دخل في العقد على أن تسلم له العشرة ولم تسلم له فثبت له الخيار كما لو وجد بالمبيع عيبا
وإن وجده أحد عشر ذراعا ففيه وجهان أحدهما أن البائع بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يسلمه بالثمن ويجبر المشتري على قبوله كما أجبرنا البائع إذا كان دون العشرة
والثاني أن البيع باطل لانه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على عشرة ولا إجبار المشتري على الرضا بما دون الثوب والساحة من الأرض لانه لم يرض بالشركة والتبعيض فوجب أن يبطل العقد
فإن اشترى صبرة على أنها مائة قفيز فوجدها دون المائة فهو بالخيار بين أن يفسخ لانه لم يسلم له ما شرط وبين أن يأخذ الموجود بحصته من الثمن لانه يمكن قسمة الثمن على الأجزاء لتساويها في القيمة ويخالف الثوب والأرض لان أجزاءها مختلفة فلا يمكن قسمة الثمن على أجزائها لانا لا نعلم كم قيمة الذراع الناقصة لو كانت موجودة لنسقطها من الثمن وإن وجد الصبرة أكثر من مائة قفيز أخذ المائة بالثمن وترك الزيادة لانه يمكن أخذ ما عقد عليه من غير إضرار
فصل بيع العبد الجاني وإن باع عبدا جانيا ففيه قولان أحدهما أن البيع صحيح وهو اختيار المزني لانه إن كانت الجناية عمدا فهو عبد تعلق برقبته قتل فصح بيعه كالعبد المرتد أو يخشى هلاكه وترجى سلامته فجاز بيعه كالمريض وإن كان خطأ فلانه عبد تعلق برقبته حق بغير اختياره فلا يمنع من بيعه
والقول الثاني أن البيع باطل لانه عبد تعلق برقبته دين آدمي فلا يصح بيعه كالمرهون
وفي موضع القولين ثلاث طرق أحدها أن القولين في العمد والخطأ لان القصاص حق آدمي فهو كالمال ولانه يسقط إلى مال بالعفو فكان كالمال
والثاني أن القولين في جناية لا توجب القصاص فأما فيما توجب القصاص فلا تمنع البيع قولا واحدا لانه كالمرتد
والثالث أن القولين فيما يوجب القصاص فأما فيما يوجب المال فلا يجوز قولا واحدا لانه كالمرهون
فإذا قلنا إن البيع صحيح في قتل العمد فقتل العبد في يد المشتري ففيه وجهان قال أبو العباس وأبو علي بن أبي هريرة إن علم المشتري بالجناية في حال
____________________
(1/287)
العقد لم يرجع عليه بالأرش وإن لم يعلم رجع بأرش العيب لان تعلق القتل برقبته كالعيب لانه ترجى سلامته ويخشى هلاكه فهو كالمريض
وإذا اشترى المريض ومات وكان قد علم بمرضه لم يرجع بالإرش وإن لم يعلم رجع فكذلك ههنا فعلى هذا إذا لم يعلم بحاله وقتل قوم وهو جان وقوم غير جان فيرجع بما بينهما من الثمن
وقال أبو إسحاق وجود القتل بمنزلة الاستحقاق وهو المنصوص فإذا قتل انفسخ البيع ورجع بالثمن على البائع علم بالجناية حال العقد أو لم يعلم لانه أزيلت يده عن الرقبة بسبب كان في يد البائع فأشبه إذا استحق ويخالف المريض فإنه لم يمت بالمرض الذي كان في يد البائع وإنما مات بزيادة مرض حدث في يد المشتري فلم يرجع بجميع الثمن وإن اشترى عبدا مرتدا فقتل في يده ففيه وجهان في قول أبي إسحاق ينفسخ البيع ويرجع بالثمن
وعلى قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة إن كان قد علم بالردة لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع بالأرش ووجههما ما ذكرناه في الجاني عمدا
وإن قتل العبد في المحاربة وانحتم قتله فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله في التعليق أن البيع باطل لانه لا منفعة فيه لانه مستحق القتل فلا يصح بيعه كالحشرات
وقال شيخنا القاضي أبو الطيب يصح بيعه لان فيه منفعة وهو أن يعتقه فصح بيعه كالزمن فعلى هذا إذا قتل في يد المشتري فحكمه حكم القاتل عمدا في غير المحاربة وقد بيناه
فصل البيع بشرط البراءة من العيوب إذا باع عينا بشرط البراءة من العيب ففيه طريقان أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن المسألة على ثلاثة أقوال أحدها أنه يبرأ من كل عيب لانه عيب رضي به المشتري فبرىء منه البائع كما لو أوقفه عليه
والثاني لا يبرأ من شيء من العيوب لانه شرط يرتفق به أحد المتبايعين فلم يصح مع الجهالة كالأجل المجهول والرهن المجهول
والثالث أنه لا يبرأ إلا من عيب واحد وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لا يعلم به البائع لما روى سالم أن أباه باع غلاما بثمانمائة بالبراءة من كل آفة فوجد الرجل به عيبا فخاصمه إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان لابن عمر احلف لقد بعته وما به داء تعلمه فأبى ابن عمر أن يحلف وقبل الغلام فباعه بعد ذلك بألف وخمسمائة فدل على أنه يبرأ مما لم يعلم ولا يبرأ مما علمه
قال الشافعي رحمه الله ولان الحيوان يفارق ما سواه لانه يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه وقلما يبرأ من عيب يظهر أو يخفى فدعت الحاجة إلى التبري من العيب الباطن فيه لانه لا سبيل إلى معرفته وتوقيف المشتري عليه وهذا المعنى لا يوجد في العيب الظاهر ولا في العيب الباطن في غير الحيوان فلم يجز التبري منه مع الجهالة
والطريق الثاني أن المسألة على قول واحد وهو أنه يبرأ من عيب باطن في الحيوان لم يعلم به ولا يبرأ من غيره وتأول هذا القائل ما أشار إليه الشافعي من القولين الآخرين على أنه حكى ذلك عن غيره ولم يختره لنفسه
فإن قلنا إن الشرط باطل فهل يبطل البيع فيه وجهان أحدهما لا يبطل البيع ويرد المبيع لحديث عثمان رضي الله عنه فإنه أمضى البيع
والثاني أنه يبطل البيع لان هذا الشرط يقتضي جزءا من الثمن تركه البائع لاجل الشرط فإذا سقط وجب أن يرد الجزء الذي تركه بسبب الشرط وذلك مجهول والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولا فيصير الثمن مجهولا ففسد العقد والله أعلم
باب بيع المرابحة من اشترى سلعة جاز له بيعها برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه لقوله صلى الله عليه وسلم إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ويجوز أن يبيعها مرابحة وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول ثمنها مائة وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسا ب ده يازده وده دواز ده ولانه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة وعشرة
ويجوز أن يبيعها مواضعة بأن يقول رأس مالها مائة وقد بعتك برأس مالها ووضع درهم من كل عشرة لانه ثمن معلوم فجاز البيع به كما لو قال بعتك بمائة إلا عشرة
ويجوز أن يبيع بعضه مرابحة فإن كان مما لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد الواحد قسم الثمن على أجزائه وباع ما يريد بيعه منه بحصته وإن كان مما يختلف ( أجزاؤه ) كالثوبين والعبدين قومهما وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم باع ما شاء منهما بحصته من الثمن لان الثمن ينقسم على المبيعين على قدر
____________________
(1/288)
قيمتهما ولهذا لو اشترى سيفا وشقصا بألف قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم أخذ الشفيع الشقص بما يخصه من الثمن على قدر قيمته
فصل لا يخبر إلا بالثمن الذي لزم به البيع ولا يخبر إلا بالثمن الذي لزم به البيع فإن اشترى بثمن ثم حط البائع عنه ( بعض الثمن ) أو ألحق به زيادة نظرت فإن كان بعد لزوم العقد لم يلحق ذلك بالعقد ولم يحط في بيع المرابحة ما حط عنه ولا يخبر بالزيادة فيما زاد لان البيع استقر بالثمن الأول فالحط والزيادة تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير به الثمن
وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وجعل الثمن ما تقرر بعد الحط والزيادة
وقال أبو علي الطبري إن قلنا إن المبيع ينتقل بنفس العقد لم يلحق به لان المبيع قد ملكه بالثمن الأول فلم يتغير بما بعده
والمذهب الأول لانه وإن كان قد انتقل المبيع إلا أن البيع لم يستقر فجاز أن يتغير الثمن بما يلحق به وإن اشترى ثوبا بعشرة وقصره بدرهم ورفاه بدرهم وطرزه بدرهم قال هو علي بثلاثة عشر أو قام علي بثلاثة عشر وما أشبه ذلك ولا يقول ( اشتريته ) بثلاثة عشر ولا يقول ثمنه ثلاثة عشر لان ذلك كذب
وإن قال رأس مالي ثلاثة عشر ففيه وجهان أحدهما لا يجوز أن يقول لان رأس المال هو الثمن والثمن عشرة
والثاني يجوز لان رأس المال ما وزن فيه وقد وزن فيه ثلاثة عشر
وإن عمل فيه ذلك بيده قال اشتريته بعشرة وعملت فيه ما يساوي ثلاثة ولا يقول هو علي بثلاثة عشر لان عمله لنفسه لا أجرة له ولا يتقوم عليه
وإن اشترى عينا بمائة ووجد بها عيبا وحدث عنده عيب آخر فرجع بالأرش وهو عشرة دراهم قال هي علي بتسعين أو تقوم علي بتسعين ولا يجوز أن يقول الثمن مائة لان الرجوع بالأرش استرجاع جزء من الثمن فخرج عن أن يكون الثمن مائة ولا يقول اشتريتها بتسعين لانه كذب
وإن كان المبيع عبدا فجنى ففداه بأرش الجناية لم يضف ما فداه به إلى الثمن لان الفداء جعل لاستبقاء الملك فلم يضف إلى الثمن كعلف البهيمة
وإن جنى عليه فأخذ الأرش ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحط من الثمن قدر الأرش لانه كما لا يضيف ما فدى به الجناية إلى الثمن لا يحط ما أخذ عن أرش الجناية عن الثمن
والثاني أنه يحط لانه عوض عن جزء تناوله البيع فحط من الثمن كأرش العيب
وإن حدثت من العين فوائد في ملكه كالولد واللبن والثمرة لم يحط ذلك من الثمن لان العقد لم يتناوله
وإن أخذ ثمرة كانت موجودة عند العقد أو لبنا كان موجودا حال العقد حط من الثمن لان العقد تناوله وقابله قسط من الثمن فأسقط ما قابله
وإن أخذ ولدا كان موجودا حال العقد فإن قلنا إن الحمل له حكم فهو كاللبن والثمرة وإن قلنا لا حكم له لم يحط من الثمن شيئا
وإن ابتاع بثمن مؤجل لم يخبر بثمن مطلق لان الأجل يأخذ جزءا من الثمن فإن باعه مرابحة ولم يخبره بالأجل ثم علم المشتري بذلك ثبت له الخيار لانه دلس عليه بما يأخذ جزءا من الثمن فثبت له الخيار كما لو باعه شيئا وبه عيب ولم يعلمه بعيبه
وإن اشترى شيئا بعشرة وباعه بخمسة ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن فإن اشترى بعشرة وباع بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يحط ما ربح من الثمن لان الثمن ما ابتاع به في العقد الذي هو مالك به وذلك عشرة وإن اشترى بعشرة ثم واطأ غلامه فباع منه ثم اشتراه منه بعشرين ليخبر بما اشتراه من الغلام كره ما فعله لانه لو صرح بذلك في العقد فسد العقد فإذا قصده كره فإن أخبر بالعشرين في بيع المرابحة جاز لان بيعه من الغلام كبيعه من الأجنبي في الصحة فجاز أن يخبر بما اشترى به منه فإن علم بذلك المشتري لم يثبت له الخيار لان شراءه بعشرين صحيح
فصل في بيان إذا قال رأس المال مائة إذا قال رأس المال مائة وقد بعتكه برأس المال وربح درهم في كل عشرة أو بربح ده ياز ده فالثمن مائة وعشرة
وإن قال بعتك برأس المال ووضع ده ياز ده فالثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم لان معناه بعتك بمائة على أن أضع درهما من كل أحد عشر درهما فسقط من تسعة وتسعين درهما تسعة دراهم لانها تسع مرات أحد عشر ويبقى من رأس المال درهم فيسقط منه جزء من أحد عشر جزءا فيكون الباقي أحدا وتسعين درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم
وإن قال بعتك على وضع درهم من كل عشرة ففي الثمن وجهان أحدهما أن الثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من
____________________
(1/289)
أحد عشر جزءا من درهم وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله
والثاني أن الثمن تسعون درهما وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله وهو الصحيح لان المائة عشر مرات عشرة فإذا وضع من كل عشرة درهما بقي تسعون
فصل إذا علم أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم إذا أخبر أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم في كل عشرة ثم قال أخطأت أو قامت البينة أن الثمن كان تسعين فالبيع صحيح وحكى القاضي أبو حامد وجها آخر أن البيع باطل لانه بان أن الثمن كان تسعين وأن ربحها تسعة وهذا كان مجهولا حال العقد فكان العقد باطلا
والمذهب الأول لان البيع عقد على ثمن معلوم وإنما سقط بعضه بالتدليس وسقوط بعض الثمن لا يفسد البيع كسقوط بعض الثمن بالرجوع بأرش العيب
وأما الثمن الذي يأخذه به ففيه قولان أحدهما أنه مائة وعشرة لان المسمى في العقد مائة وعشرة فإذا بان تدليس من جهة البائع لم يسقط من الثمن شيء كما لو باعه شيئا بثمن فوجد به عيبا
والثاني أن الثمن تسعة وتسعون وهو الصحيح لانه نقل ملك يعتبر فيه الثمن الأول فإذا أخبر بزيادة وجب حط الزيادة كالشفعة والتولية
ويخالف العيب فإن هناك الثمن هو المسمى في العقد وههنا الثمن هو رأس المال وقدر الربح وقد بان أن رأس المال تسعون والربح تسعة
فإن قلنا إن الثمن مائة وعشرة فهو بالخيار بين أن يمسك المبيع بالثمن وبين أن يفسخ لانه دخل على أن يأخذ المبيع برأس المال وهذا أكثر من رأس المال فثبت له الخيار
وإن قلنا إن الثمن تسعة وتسعون فهل يثبت له الخيار اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان أحدهما أن له الخيار لانه إن كان قد أخطأ في الخبر الأول لم يأمن أن يكون قد أخطأ في الثاني وأن الثمن غيره وإن كان قد خان في الأول فلا يأمن أن يكون قد خان في الثاني فثبت له الخيار
والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا خيار له لان الخيار إنما يثبت لنقص وضرر وهذا زيادة ونفع لانه دخل على أن الثمن مائة وعشرة وقد رجع إلى تسعة وتسعين فلا وجه للخيار
ومنهم من قال إن ثبتت الخيانة بإقرار البائع لزم المشتري تسعة وتسعون ولا خيار له وإن ثبتت بالبينة فهل له الخيار أم لا فيه قولان لانه إذا ثبتت بالإقرار دل على أمانته فلم يتهم في خيانة أخرى وإذا ثبتت بالبينة كان متهما في خيانة أخرى فثبت له الخيار
قال أصحابنا القولان إذا كانت العين باقية فأما إذا تلفت العين فإنه يلزم البيع بتسعة وتسعين قولا واحدا لانا لو جوزنا ( له ) فسخ البيع مع تلف العين رفعنا الضرر عنه وألحقناه بالبائع والضرر لا يزال بالضرر ولهذا لو هلك المبيع عنده ثم علم به عيبا لم يملك الفسخ
فإن قلنا لا خيار له أو قلنا له الخيار فاختار البيع فهل يثبت للبائع الخيار فيه وجهان أحدهما يثبت له الخيار لانه لم يرض إلا بالثمن المسمى وهو مائة وعشرة ولم يسلم له ذلك
والثاني لا خيار له لانه رضي برأس المال وربحه وقد حصل له ذلك
فصل إذا أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة وإن أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة ثم قال أخطأت والثمن مائة وعشرة لم يقبل قوله لانه رجوع عن إقرار متعلق به حق آدمي فلم يقبل كما لو أقر له بدين
وإن قال لي بينة على ذلك لم تسمع لانه كذب بالإقرار السابق بينته فلم تقبل
فإن قال أحلفوا لي المشتري أنه لا يعلم أن الثمن مائة وعشرة ففيه طريقان أحدهما أنه إن قال ابتعته بنفسي لم يحلف المشتري لان إقراره يكذبه
وإن قال ابتاعه وكيل لي فظنتت أنه ابتاع بمائة وقد بان لي أنه ابتاع بمائة وعشرة حلف لانه الآن لا يكذبه إقراره
والثاني أنه يبنى على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
فإن قلنا إنه كالبينة لم يعرض اليمين لانه إذا نكل حصلنا على بينة والبينة لا تسمع
وإن قلنا إنه كالإقرار عرضنا اليمين لانه إذا نكل حصلنا على الإقرار وإقراره مقبول
باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار
____________________
(1/290)
ويحرم النجس وهو أن يزيد في الثمن ليغر غيره والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش ولانه خديعة ومكر فإن اغتر الرجل بمن ينجش فابتاع فالبيع صحيح لان النهي لا يعود إلى البيع فلم يمنع صحته كالبيع في حال النداء
فإن علم المبتاع بذلك نظرت فإن لم يكن للبائع فيه صنع لم يكن للمبتاع الخيار لانه ليس من جهة البائع تدليس وإن كان النجش بمواطأة من البائع ففيه قولان أحدهما أن له الخيار بين الإمساك والرد لانه دلس عليه فثبت له الرد كما لو دلس عليه بعيب
والثاني لا خيار له لان المشتري فرط في ترك التأمل وترك التفويض إلى من يعرف ثمن المتاع
فصل في بيع الرجل على بيع أخيه ويحرم أن يبيع على بيع أخيه وهو أن يجىء إلى من اشترى شيئا في مدة الخيار فيقول افسخ فإنى أبيعك أجود منه بهذا الثمن أو أبيعك مثله بدون هذا الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا يبع الرجل على بيع أخيه ولان في هذا إفسادا وإنجاشا فلم يحل فإن قبل منه وفسخ البيع واشترى منه صح البيع لما ذكرناه في النجش
فصل في حرمة السوم على أخيه ويحرم أن يدخل على سوم أخيه وهو أن يجىء إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه أو يجىء إلى المشتري فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسم على سوم أخيه ولان في ذلك إفسادا أيضا وإنجاشا فلم يحل
فأما إذا جاء إليه فطلب منه متاعا فلم ينعم له جاز لغيره أن يطلبه لانه لم يدخل على سومه وإن طلبه منه فسكت ولم يظهر منه رد ولا إجابة ففيه قولان أحدهما يحرم
والثاني لا يحرم كالقولين في الخطبة على خطبة أخيه وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها ويزيد في ثمنها لما روى أنس رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أنه أصابه جهد شديد هو وأهل بيته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فقال ما عندى شيء اذهب فأتني بما كان عندك فذهب فجاء بحلس وقدح فقال يا رسول الله هذا الحلس والقدح فقال من يشتري هذا الحلس والقدح فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال من يزيد على درهم فسكت القوم قال من يزيد على درهم فقال رجل أنا آخذهما بدرهمين قال هما لك ثم قال إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة لذى دم موجع أو فقر مدقع أو غرم مفظع ولان في النداء لا يقصد رجلا بعينيه فلا يؤدى إلى النجش والإفساد
فصل في بيع حاضر لباد ويحرم أن يبيع حاضر لباد وهو أن يقدم رجل ومعه متاع يريد بيعه ويحتاج الناس إليه في البلد فإذا باع اتسع وإذا لم يبع ضاق فيجىء إليه سمسار فيقول لا تبع حتى أبيع لك قليلا وأزيد في ثمنها لما روى ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه
____________________
(1/291)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيع حاضر لباد قلت ما لا يبع حاضر لباد قال لا يكون له سمسارا
وروى جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإن خالف وباع له صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن كان البلد كبيرا لا يضيق على أهله بترك البيع ففيه وجهان
أحدهما لا يجوز للخبر
والثاني يجوز لان المنع لخوف الإضرار بالناس ولا ضرر ههنا
فصل في تلقى الركبان ويحرم تلقى الركبان وهو أن يتلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع ليغبنهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق ولان هذا تدليس وغرر فلم يحل فلم يحل فإن خالف واشترى صح البيع لما ذكرناه في النجش فإن دخلوا البلد فبان لهم الغبن كان لهم الخيار لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تلقوا الجلب فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق ولانه غرهم ودلس عليهم فثبت لهم الخيار كما لو دلس عليهم بعيب وإن بان لهم أنه لم يغبنهم ففيه وجهان أحدهما أن لهم الخيار للخبر
والثاني لا خيار لهم لانه ما غر ولا دلس عليهم
وإن خرج إلى خارج البلد لحاجة غير التلقي فرأى القافلة فهل يجوز أن يبتاع منهم فيه وجهان أحدهما يجوز لانه لم يقصد التلقي
والثاني لا يجوز لان المنع من التلقى للبيع وهذا المعنى موجود وإن لم يقصد التلقى فلم يجز
فصل في التسعير ولا يحل للسلطان التسعير لما روى أنس رضي الله عنه قال غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس يا رسول الله سعر لنا فقال عليه السلام إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر وإني لارجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال
فصل في الاحتكار ويحرم الاحتكار في الأقوات وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه
ومن أصحابنا من قال يكره ولا يحرم وليس بشيء لما روى عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجالب مرزوق والمحتكر ملعون وروى معمر العدوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتكر إلا خاطىء فدل على أنه حرام
فأما إذا ابتاع في وقت الرخص أو جاءه من ضيعته طعام فأمسكه ليبيعه إذا غلا فلا يحرم ذلك لانه في معنى الجالب وقد روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الجالب مرزوق والمحتكر ملعون وروى أبو الزناد قال قلت لسعيد بن المسيب بلغني عنك أنك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحتكر بالمدينة إلا خاطىء وأنت تحتكر قال ليس هذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالي بها فأما أن يأتي الشيء وقد اتضع فيشتريه ثم يضعه فإن احتاج الناس إليه أخرجه فذلك خير
وأما غير الأقوات فيجوز احتكاره لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام فدل على أن غيره يجوز ولانه لا ضرر في احتكار غير الأقوات فلم يمنع منه
____________________
(1/292)
باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن ولم تكن بينة تحالفا لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه فجعل اليمين على المدعى عليه والبائع مدعى عليه بيع بألف والمشتري مدعى عليه بيع بألفين فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين لان كل واحد منهما مدعى عليه ولا بينة فتحالفا كما لو ادعى رجل على رجل دينارا وادعى الآخر على المدعي درهما
فصل اختلاف المتبايعين قال الشافعي رحمه الله في البيوع يبدأ بيمين البائع وقال في الصداق ( إذا اختلف الزوجان ) يبدأ بيمين الزوج والزوج كالمشتري وقال في الدعوى والبينات إن بدأ بالبائع خير المشتري وإن بدأ بالمشتري خير البائع وهذا يدل على أنه مخير بين أن يبدأ بالبائع وبين أن يبدأ بالمشتري
فمن أصحابنا من قال فيها ثلاثة أقوال أحدها يبدأ بالمشتري لان جنبته أقوى لان المبيع على ملكه فكان بالبداية أولى
والثاني يبدأ بمن شاء منهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر في الدعوى فتساويا كما لو تداعيا شيئا في يديهما
والثالث أنه يبدأ بالبائع وهو الصحيح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع والمبتاع بالخيار فبدأ بالبائع ثم خير المبتاع ولان جنبته أقوى لانه إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى
ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنه يبدأ بالبائع ويخالف الزوج في الصداق لان جنبته أقوى من جنبة الزوجة لان البضع بعد التحالف على ملك الزوج فكان بالتقديم أولى وها هنا جنبة البائع أقوى لان المبيع بعد التحالف على ملك البائع فكان البائع بالتقديم أولى
والذي قال في الدعوى والبينات ليس بمذهب له وإنما حكى ما يفعله الحاكم باجتهاده لانه موضع اجتهاد فقال إن حلف الحاكم البائع باجتهاده خير المشتري وإن حلف المشتري خير البائع
فصل الجمع في اليمين بين النفي والإثبات ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفي والإثبات لانه يدعي عقدا وينكر عقدا فوجب أن يحلف عليهما ويجب أن يقدم النفي على الإثبات وقال أبو سعيد الإصطخري يقدم الإثبات على النفي كما قدمنا الإثبات على النفي في اللعان
والمذهب الأول لان الأصل في اليمين أن يبدأ بالنفي وهي يمين المدعى عليه فوجب أن يبدأ ههنا أيضا بالنفي ويخالف اللعان فإنه لا أصل له في البداية بالنفي
وهل يجمع بين النفي والإثبات بيمين واحدة أم لا فيه وجهان أحدهما يجمع بينهما بيمين واحدة وهو المنصوص في الأم لانه أقرب إلى فصل القضاء فعلى هذا يحلف البائع أنه لم يبع بألف ولقد باع بألفين ويحلف المشتري أنه ما اشترى بألفين ولقد اشترى بألف فإن نكل المشتري قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا
والثاني أنه يفرد النفي بيمين والإثبات بيمين لانه دعوى عقد وإنكار عقد فافتقر إلى يمينين ولانا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الإثبات قبل نكول المشتري عن يمين النفي وذلك لا يجوز فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألف ثم يحلف المشتري أنه ما ابتاع بألفين فإن نكل المشتري حلف البائع أنه باع بألفين وقضى له فإن حلف المشتري حلف البائع أنه باع بألفين ثم يحلف المشترى أنه ابتاع بألف فإن نكل قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا
فصل فسخ البيع إذا تحالفا وإذا تحالفا وجب فسخ البيع لانه لا يمكن إمضاء العقد مع التحالف
وهل ينفسخ بنفس التحالف أم لا فيه وجهان أحدهما أنه ينفسخ بنفس التحالف كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف ولان بالتحالف صار الثمن مجهولا والبيع لا يثبت مع جهالة العوض فوجب أن ينفسخ
والثاني أنه لا ينفسخ إلا بالفسخ بعد التحالف وهو المنصوص لان العقد في الباطن صحيح لانه وقع على ثمن معلوم فلا ينفسخ بتحالفهما ولان البينة أقوى من اليمين ثم لو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ البيع فلان لا ينفسخ باليمين أولى وفي الذي يفسخه وجهان أحدهما أنه يفسخه الحاكم لانه مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب
والثاني أنه ينفسخ بالمتعاقدين
لانه فسخ لاستدراك الظلامة فصح من المتبايعين كالرد بالعيب
فصل الفسخ هل ينفسخ ظاهرا وباطنا وإذا فسخ أو انفسخ فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا أم لا فيه ثلاثة أوجه أحدها ينفسخ ظاهرا وباطنا لانه فسخ
____________________
(1/293)
بالتحالف فوقع ظاهرا وباطنا كفسخ النكاح باللعان ولانه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فصح ظاهرا وباطنا كالرد بالعيب
والثاني أنه ينفسخ في الظاهر دون الباطن لان سبب الفسخ هو الجهل بالثمن والثمن معلوم في الباطن مجهول في الظاهر فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن اختص البطلان بالظاهر دون الباطن
والثالث أنه إن كان البائع هو الظالم وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن لانه يمكنه أن يصدق المشتري ويأخذ منه الثمن ويسلم إليه المبيع فإذا لم يفعل كان ممتنعا من تسليم المبيع بظلم فلم ينفسخ البيع
وإن كان البائع مظلوما انفسخ ظاهرا وباطنا لانه تعذر عليه أخذ الثمن ووجد عين ماله فجاز له أن يفسخ ويأخذ عين ماله كما لو أفلس المشتري ووجد البائع عين ماله
فإن قلنا إن الفسخ يقع في الظاهر والباطن عاد المبيع إلى ملك البائع وإلى تصرفه
وإن قلنا إن الفسخ في الظاهر دون الباطن نظرت فإن كان البائع هو الظالم لم يجز له قبض المبيع والتصرف فيه بل يلزمه أن يأخذ ما أقر به المشتري من الثمن ويسلم المبيع إليه وإن كان مظلوما لم يجز له التصرف في المبيع بالوطء والهبة لانه على ملك المشتري ولكن يستحق البائع الثمن في ذمة المشتري ولا يقدر على أخذه منه فيبيع من المبيع بقدر حقه كما تقول فيمن له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه ووجد شيئا من ماله
فصل اختلف المتبايعين في الثمن وإن اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة في يد المشتري تحالفا وفسخ البيع بينهما لان التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة فوجب أن يثبت التحالف فإذا تحالفا رجع بقيمته
ومتى تعتبر قيمته فيه وجهان أحدهما تجب قيمته يوم التلف
والثاني تجب قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف وقد ذكرنا دليل الوجهين في هلاك السلعة في البيع الفاسد
فإن زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك وحكي عن أبي علي بن خيران أنه قال ما زاد على الثمن لا يجب لان البائع لا يدعيه فلم يجب كما لو أقر لرجل بما لا يدعيه
والمذهب الأول لانه بالفسخ سقط اعتبار السلعة فالقول قول المشتري لانه غارم فكان القول قوله كالغاصب
فإن تقايلا أو وجد بالمبيع عيبا فرده واختلفا في الثمن فقال البائع الثمن ألف وقال المشتري الثمن ألفان فالقول قول البائع لان البيع قد انفسخ والمشتري مدع والبائع منكر فكان القول قوله
فصل اختلف الورثة في المبيع وإن مات المتبايعان فاختلف ورثتهما تحالفوا لانه يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في دعوى المال وإن كان البيع بين وكيلين واختلفا في الثمن ففيه وجهان أحدهما يتحالفان لانهما عاقدان فتحالفا كالمالكين
والثاني لا يتحالفان لان اليمين تعرض حتى يخاف الظالم منهما فيرجع والوكيل إذا أقر ثم رجع لم يقبل رجوعه فلا تثبت اليمين في حقه
فصل في اختلافهم في قدر البيع وإن اختلف المتبايعان في قدر المبيع تحالفا لما ذكرنا في الثمن
وإن اختلفا في عين المبيع بأن قال البائع بعتك هذا العبد بألف وقال المشتري بل اشتريت هذه الجارية بألف ففيه وجهان أحدهما يتحالفان لان كل واحد منهما يدعي عقدا ينكره الآخر فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع
والثاني أنهما لا يتحالفان بل يحلف البائع أنه ما باعه الجارية ويحلف المشتري أنه ما اشترى العبد وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله لانهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية فكان القول فيه قول من ينكر كما لو ادعى أحدهما على الآخر عبدا والآخر جارية من غير عقد فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشتري الثمن فإن كان العبد في يده أقر في يده وإن كان في يد البائع ففيه وجهان أحدهما يجبر المشتري على قبضه لان البينة قد شهدت له بالملك
والثاني لا يجبر لان البينة شهدت له بما لا يدعيه فلم يسلم إليه فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه
فصل اختلافهم في الخيار والأجل وإن اختلفا في شرط الخيار أو الأجل أو الرهن أو في قدرها تحالفا لما ذكرناه في الثمن
فإن اختلفا في شرط يفسد البيع ففيه وجهان بناء على القولين في شرط الخيار في الكفالة أحدهما أن القول قول من يدعي الصحة لان الأصل عدم ما يفسد
والثاني أن القول قول من يدعي الفساد لان الأصل عدم العقد فكان القول قول من يدعي ذلك
فإن اختلفا في الصرف بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا قبل القبض وقال الآخر تفرقنا بعد القبض ففيه وجهان أحدهما أن القول قول من يدعي التفرق قبل القبض لان الأصل عدم القبض
والثاني أن القول قول من يدعي التفرق بعد القبض لان الأصل صحة العقد
____________________
(1/294)
وإن اختلفا بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا عن تراض وقال الآخر تفرقنا عن فسخ البيع ففيه وجهان أحدهما أن القول قول من يدعي التراضي لان الأصل عدم الفسخ وبقاء العقد
والثاني أن القول قول من يدعى الفسخ لان الأصل عدم اللزوم ومنع المشتري من التصرف فأما إذا اختلفا في عيب المبيع ومثله يجوز أن يحدث فقال البائع عندك حدث العيب وقال المشتري بل حدث عندك فالقول قول البائع لان الأصل عدم العيب
فإن اختلفا في المردود بالعيب فقال المشتري هو المبيع وقال البائع الذي بعتك غير هذا فالقول قول البائع لان الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد فكان القول قوله
فإن اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيبا فرده وقلنا إنه يجوز ( له ) أن يرد أحدهما واختلفا في قيمة التالف ففيه قولان أحدهما وهو الصحيح أن القول قول البائع لانه ملك جميع الثمن فلا يزال ملكه إلا عن القدر الذى يقر به كالمشترى والشفيع إذا اختلفا في الثمن فإن القول قول المشتري لانه ملك الشقص فلا يزال إلا بما يقر به
والثاني أن القول قول المشترى لانه كالغارم فكان القول قوله فإن باعه عشرة أقفزة من صبرة وسلمها بالكيل فادعى المشتري أنها دون حقه ففيه قولان أحدهما أن القول قول المشتري لان الأصل أنه لم يقبض جميعه
والثاني أن القول قول البائع لان العادة فيمن يقبض حقه بالكيل أن يستوفي جميعه فجعل القول قول البائع
فصل إذا باعه سلعة بثمن فى الذمة ثم اختلفا إذا باعه سلعة بثمن في الذمة ثم اختلفا فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع فقد اختلف أصحابنا فيه
فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوال أحدها يجبر البائع على إحضار المبيع والمشتري على إحضار الثمن ثم يسلم إلى كل واحد منهما ماله دفعة واحدة لان التسليم واجب على كل واحد منهما فإذا امتنعا أجبرا كما لو كان لاحدهما على الآخر دراهم وللآخر عليه دنانير
والثاني لا يجبر واحد منهما بل يقال من يسلم منكما ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه لان على كل واحد منهما حقا في مقابلة حق له فإذا تمانعا لم يجبر واحد منهما كما لو نكل المدعى عليه فردت اليمين على المدعي فنكل
والثالث أنه يجبر البائع على تسليم المبيع ثم يجبر المشتري وهو الصحيح لان حق المشتري متعلق بعين وحق البائع في الذمة فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون ولان البائع يتصرف في الثمن في الذمة فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصرف المشتري في المبيع
ومن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد وهو أنه يجبر البائع على تسليم المبيع كما ذكرناه وما سواه من الأقوال ذكره الشافعي عن غيره ولم يختره فعلى هذا ينظر فيه فإن كان المشتري موسرا نظرت فإن كان ماله حاضرا أجبر على تسليمه في الحال وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يدفع الثمن لانه إذا لم يحجر عليه لم نأمن أن يتصرف فيه فيضر بالبائع وإن كان غائبا منه على مسافة يقصر فيها الصلاة فللبائع أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لان عليه ضررا في تأخير الثمن فجاز له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس المشتري
وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان أحدهما ليس له أن يختار عين ماله لانه في حكم الحاضر
والثانى ( له أن ) يختار عين ماله لانه يخاف عليه الهلاك فيما قرب كما يخاف عليه فيما بعد
وإن كان المشتري معسرا ففيه وجهان أحدهما تباع السلعة ويقضى دينه من ثمنها
والمنصوص أنه يرجع إلى عين ماله لانه تعذر الثمن بالإعسار فثبت له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس ( المشتري ) بالثمن
وإن كان الثمن معينا ففيه قولان أحدهما يجبران
والثاني لا يجبر واحد منهما ويسقط القول الثالث أنه يجبر البائع لان الثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين والمنع من التصرف فيه قبل القبض
فصل إن باع من رجل عينا وإن باع من رجل عينا فأحضر المشتري نصف الثمن ففيه وجهان أحدهما لا يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع لانه محبوس بدين فلا ( يسلم ) شيء منه بحضور بعض الدين كالرهن
والثاني أنه يجبر على تسليم نصف المبيع لان كل واحد منهما عوض عن الآخر وكل جزء من المبيع في مقابلة جزء من الثمن فإذا سلم بعض الثمن وجب تسليم ما في مقابلته
ويخالف
____________________
(1/295)
الرهن في الدين فإن الرهن ليس بعوض من الدين وإنما هو وثيقة به فجاز له حبسه إلى أن يستوفي جميع الدين وإن باع من اثنين عبدا بثمن فأحضر أحدهما نصف الثمن وجب تسليم حصته إليه لانه أحضر جميع ما عليه من الثمن فوجب تسليم ما في مقابلته من المبيع كما لو اشترى عينا وأحضر ثمنها
والله أعلم
فصل إذا تلف المبيع قبل التسليم إذا تلف المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يخل إما أن يكون ثمرة أو غيرها فإن كان غير الثمرة نظرت فإن كان تلفه بآفة سماوية انفسخ البيع لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو اصطرفا وتفرقا قبل القبض فإن كان المبيع عبدا فذهبت يده بآكلة فالمبتاع بالخيار بين أن يرد وبين أن يمسك فإن اختار الرد رجع بجميع الثمن وإن اختار الإمساك أمسك بجميع الثمن لان الثمن لا ينقسم على الأعضاء فلم يسقط بتلفها شيء من الثمن
وإن أتلفه أجنبي ففيه قولان أحدهما أنه ينفسخ البيع لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع كما لو تلف بآفة سماوية
والثاني أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن وبين أن يقر البيع ويرجع على الأجنبي بالقيمة لان القيمة عوض عن المبيع فقامت مقامه في القبض فإن كان عبدا فقطع الأجنبي يده فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن وبين أن يجيزه ويرجع على الجاني بنصف قيمته فإن أتلفه البائع ففيه طريقان قال أبو العباس فيه قولان كالأجنبي وقال أكثر أصحابنا ينفسخ البيع قولا واحدا لانه لا يمكن الرجوع على البائع بالقيمة لان المبيع مضمون عليه بالثمن فلا يجوز أن يكون مضمونا عليه بالقيمة بخلاف الأجنبي فإن المبيع غير مضمون عليه بالثمن فجاز أن يضمنه بالقيمة
فإن كان عبدا فقطع البائع يده ففيه وجهان قال أبو العباس المبتاع بالخيار إن شاء فسخ البيع ورجع بالثمن وإن شاء أجازه ورجع على البائع بنصف القيمة
وقال أكثر أصحابنا هو بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أجازه ولا شيء له لانه جزء من المبيع فلا يضمنه البائع بالقيمة قبل القبض كما لو ذهب بآكلة فإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن لان الإتلاف كالقبض ولهذا لو أعتقه جعل إعتاقه كالقبض فكذلك إذا أتلفه
فإن كان عبدا فقطع يده لم يجز له أن يفسخ لانه نقص بفعله فإن اندمل ثم تلف في يد البائع رجع البائع على المشتري بأرش النقص فيقوم مع اليد ويقوم بلا يد ثم يرجع بما نقص من الثمن ولا يرجع بما نقص من القيمة لان المبيع مضمون على المشتري بالثمن فلا يجوز أن يرجع عليه بما نقص من القيمة
وإن كان المبيع ثمرة فإن كان على الأرض فهو كغير الثمرة وقد بيناه وإن كانت على الشجر نظرت فإن تلفت قبل التخلية فهي كغير الثمرة إذا هلك قبل أن يقبض وقد بيناه
فإن تلفت بعد التخلية ففيه قولان أحدهما أنها تتلف من ضمان المشتري لان التخلية قبض يتعلق به جواز التصرف فدخل في ضمانه كالنقل فيما ينقل
والثاني أنها تتلف من ضمان البائع لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق وروى جابر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح فإن قلنا بهذا فاختلفا في الهالك فقال البائع الثلث وقال المشتري النصف فالقول قول البائع لان الأصل عدم الهلاك وإن بلغت الثمار وقت الجداد فلم ينقل حتى هلكت كان هلاكها من ضمان المشتري لانه وجب عليه النقل فلم يلزم البائع ضمانها والله أعلم
باب السلم السلم جائز لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه فقال { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }
فصل السلم لا يصح إلا من مطلق التصرف ولا يصح السلم إلا من مطلق التصرف في المال لانه عقد على مال فلا يصح إلا من جائز التصرف ( في المال ) كالبيع قال الشافعي رحمه الله ويصح السلم من الأعمى
قال المزني رحمه الله أعلم من نطقه أنه أراد الأعمى الذي عرف الصفات قبل أن يعمى قال أبو
____________________
(1/296)
العباس هذا الذى قاله المزني حسن
فأما الأكمه الذي لا يعرف الصفات فلا يصح سلمه لانه يعقد على مجهول وبيع المجهول لا يصح
وقال أبو إسحاق يصح السلم من الأعمى وإن كان أكمه لانه يعرف الصفات بالسماع
فصل ألفاظ السلم وينعقد بلفظ السلف والسلم وفي لفظ البيع وجهان من أصحابنا من قال لا ينعقد السلم بلفظ البيع فإذا عقد بلفظ البيع كان بيعا ولا يشترط فيه قبض العوض في المجلس لان السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه
ومنهم من قال ينعقد لانه نوع بيع يقتضي القبض في المجلس فانعقد بلفظ البيع كالصرف
فصل ويثبت فيه خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا ولا يثبت فيه خيار الشرط لانه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه
فصل التأجيل في السلم ويجوز مؤجلا للآية ويجوز حالا لانه إذا جاز مؤجلا فلان يجوز حالا وهو من الغرر أبعد أولى ويجوز في المعدوم إذا كان موجودا عند المحل لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمرة السنتين والثلاث فقال أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فلو لم يجز السلم في المعدوم لنهاهم عن السلم في الثمار السنتين والثلاث ويجوز السلم في الموجود لانه إذا جاز السلم في المعدوم فلان يجوز في الموجود أولى لانه أبعد من الغرر
فصل فيما يجوز فيه السلم ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالأثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجواري والأصواف والأشعار والأخشاب والأحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج وغير ذلك من الأموال التي تباع وتضبط بالصفات والدليل عليه حديث ابن عباس في الثمار وروى عبد الله بن أبي أوفى قال كنا نسلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا في الزيت والحنطة
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السلم في الكرابيس إذا كان ذرعا معلوما إلى أجل معلوم فلا بأس
وعن أبى النضر قال سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في السرق قال لا بأس والسرق الحرير فثبت جواز السلم فيما رويناه بالأخبار وثبت فيما سواه مما يباع ويضبط بالصفات بالقياس على ما ثبت بالأخبار لانه في معناه
فصل فيما لا يجوز فيه السلم وأما ما لا يضبط بالصفة فلا يجوز السلم فيه لانه يقع البيع فيه على مجهول وبيع المجهول لا يجوز قال الشافعي رحمه الله ولا يجوز السلم في النبل لان دقته وغلظه مقصود وذلك لا يضبط
ولا يجوز في الجواهر كاللؤلؤ والعقيق والياقوت والفيروزج والمرجان لان صفاءها مقصود وعلى قدر صفائها يكون ثمنها وذلك لا يضبط بالوصف
ولا يجوز السلم في الجلود لان جلد الأوراك غليظ وجلد البطن رقيق ولا يضبط قدر رقته وغلظه ولانه مجهول المقدار لانه لا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه ولا يجوز في الرق لانه لا يضبط رقته وغلظه ويجوز في الورق لانه معلوم القدر معلوم الصفة
فصل ما عملت فيه النار لا يجوز فيه السلم ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء لان عمل النار فيه يختلف فلا يضبط
واختلف أصحابنا في اللبإ المطبوخ فقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله لا يجوز لان النار تعقد أجزاءه فلا يضبط
وقال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لان ناره لينة
____________________
(1/297)
فصل صفات السلم ولا يجوز فيما يجمع أجناسا مقصودة لا تتميز كالغالية والند والمعجون والقوس والخف والحنطة التي فيها الشعير لانه لا يعرف قدر كل جنس منه ولا يجوز فيما خالطه ما ليس بمقصود من غير حاجة كاللبن المشوب بالماء والحنطة التى فيها الزوان لان ذلك يمنع من العلم بمقدار المقصود وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد ويجوز فيما خالطه غيره للحاجة كخل التمر وفيه الماء والجبن وفيه الإنفحة والسمك المملوح وفيه الملح لان ذلك من مصلحته فلم يمنع جواز العقد ويجوز في الأدهان المطيبة لان الطيب لا يخالطه وإنما تعبق به رائحته ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ لانه سلم في ثوب وصبغ مجهول ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لانه بمنزلة صبغ الأصل ولا يجوز في ثوب عمل فيه من غير غزله كالقرقوبى لان ذلك لا يضبط
واختلف أصحابنا في الثوب المعمول من غزلين فمنهم من قال لا يجوز لانهما جنسان مقصودان لا تتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية
ومنهم من قال يجوز لانهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما وفي السلم في الرؤوس قولان أحدهما يجوز لانه لحم وعظم فهو كسائر اللحوم
والثاني لا يجوز لانه يجمع أجناسا مقصودة لا تضبط بالوصف ولان معظمه العظم وهو غير مقصود
فصل السلم في الطير وغيره ولا يجوز السلم في الطير لانه لا يضبط بالسن ولا يعرف قدره بالذرع
ولا يجوز السلم في جارية وولدها ولا في جارية وأختها لانه يتعذر وجود جارية وولدها أو جارية وأختها على ما وصف
وفي الجارية الحامل طريقان أحدهما لا يجوز السلم فيها لان الحمل مجهول
والثاني يجوز لان الجهل بالحمل لا حكم له مع الأم كما نقول في بيع الجارية الحامل
وفي السلم في شاة لبون قولان أحدهما لا يجوز لانه سلم في شاة ولبن مجهول
والثاني يجوز لان الجهل باللبن لا حكم له مع الشاة كما نقول في بيع شاة لبون
فصل وفي السلم في الأوانى المختلفة الأعلى والأسفل كالإبريق والمنارة والكراز وجهان أحدهما لا يجوز لانها مختلفة الأجزاء فلم يجز السلم فيها كالجلود
والثاني يجوز لانها يمكن وصفها فجاز السلم فيها كالأسطال المربعة والصحاف الواسعة
واختلف أصحابنا في السلم في الدقيق فمنهم من قال لا يجوز وهو قول أبي القاسم الداركي رحمه الله لانه لا يضبط
والثاني يجوز لانه يذكر النوع والنعومة والجودة فيصير معلوما
ولا يجوز السلم في العقار لان المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه فلا بد من تعيينه والعين لا تثبت في الذمة
فصل السلم لا يكون إلا في عام الوجود ولا يجوز السلم إلا في شيء عام الوجود مأمون الانقطاع في المحل فإن أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة ضيعة بعينها أو جعل المحل وقتا لا يأمن انقطاعه فيه لم يصح لما روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن زيد بن سعنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان فقال لا يا يهودي ولكن أبيعك تمرا معلوما إلى كذا وكذا من الأجل ولانه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد
فصل السلم لا بد أن يكون في قدر معلوم ولا يجوز السلم إلا في قدر معلوم لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فإن كان في مكيل ذكر كيلا معروفا وإن كان في موزون ذكر وزنا معروفا وإن كان في
____________________
(1/298)
مذروع ذكر ذرعا معروفا فإن علق العقد على كيل غير معروف كملء زبيل لا يعرف ما يسع أو ملء جرة لا يعرف ما تسع أو زنة صخرة لا يعرف وزنها أو ذراع رجل بعينه لم يجز لان المعقود عليه غير معلوم في الحال لانه لا يؤمن أن يهلك ما علق عليه العقد فلا يعرف قدر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد كما لو علقه على ثمرة حائط بعينه
وإن أسلم فيما يكال بالوزن وفيما يوزن بالكيل جاز لان القصد أن يكون معلوما والعلم يحصل بذلك
وإن أسلم فيما لا يكال ولا يوزن كالجوز والبيض والقثاء والبطيخ والبقل والرؤوس إذا جوزنا السلم فيها أسلم فيها بالوزن
وقال أبو إسحاق يجوز أن يسلم في الجوز كيلا لانه لا يتجافى في المكيال والمنصوص هو الأول
فصل وجوب وصف المسلم فيه ولا يجوز حتى يصف المسلم فيه بالصفات التي تختلف بها الأثمان كالصغر والكبر والطول والعرض والدور والسمك والنعومة والخشونة واللين والصلابة والرقة والصفاقة والدكورية والأنوثية والثيوبة والبكارة والبياض والحمرة والسواد والسمرة والرطوبة واليبوسة والجودة والرداءة وغير ذلك من الصفات التي تختلف بها الأثمان ويرجع فيما لا يعلم من ذلك إلى نفسين من أهل الخبرة
وإن شرط الأجود لم يصح العقد لانه ما من جيد إلا ويجوز أن يكون فوقه ما هو أجود منه فيطالب به فلا يقدر عليه
وإن شرط الأردأ ففيه قولان أحدهما لا يصح لانه ما من رديء إلا ويجوز أن يكون دونه ما هو أردأ منه فيصير كالأجود
والثاني أنه يصح لانه إن كان ما يحضره هو الأردأ فهو الذي أسلم فيه وإن كان دونه أردأ منه فقد تبرع بما أحضره فوجب قبوله فلا يتعذر التسليم وإن أسلم في ثوب بالصفات التي يختلف بها الثمن وشرط أن يكون وزنه قدرا معلوما ففيه وجهان أحدهما لا يصح وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني لانه لا يتفق ثوب على هذه الصفات مع الوزن المشروط إلا نادرا فيصير كالسلم في جارية وولدها وكالسلم فيما لا يعم وجوده
والثاني أنه يجوز لان الشافعي رحمه الله نص على أنه إذا أسلم في آنية وشرط وزنا معلوما جاز فكذلك ههنا
فصل في بيان الأجل ومقداره فإن أسلم في مؤجل وجب بيان أجل معلوم لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ولان الثمن يختلف باختلافه فوجب بيانه كالكيل والوزن وسائر الصفات والأجل المعلوم ما يعرفه الناس كشهور العرب وشهور الفرس وشهور الروم وأعياد المسلمين والنيروز
والمهرجان
فإن أسلم إلى الحصاد أو إلى العطاء أو إلى عيد اليهود والنصارى لم يصح لان ذلك غير معلوم لانه يتقدم ويتأخر
وإن جعله إلى شهر ربيع أو جمادى صح وحمل على الأول منهما
ومن أصحابنا من قال لا يصح حتى يبين والمذهب الأول لانه نص على أنه إذا جعل إلى النفر حمل على النفر الأول فإن قال إلى يوم كذا كان المحل إذا طلع الفجر فإن قال إلى شهر كذا كان المحل إذا غربت الشمس من الليلة التي يرى فيها الهلال
فإن قال محله في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا ففيه وجهان قال أبو علي بن أبى هريرة يجوز ويحمل على أوله كما لو قال لامرأته أنت طالق في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا فإن الطلاق يقع في أولها
____________________
(1/299)
والثاني لا يجوز وهو الصحيح لان ذلك يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر والسنة فإذا لم يبين كان مجهولا ويخالف الطلاق فإنه يجوز إلى أجل مجهول وإذا صح تعلق بأوله بخلاف السلم
فإن ذكر شهورا مطلقة حمل على شهور الأهلة لان الشهور في عرف الشرع شهور الأهلة فحمل العقد عليها
فإن كان العقد في الليلة التي رئي فيها الهلال اعتبر الجميع بالأهلة وإن كان العقد في أثناء الشهر اعتبر شهرا بالعدد وجعل الباقي بالأهلة
فإن أسلم في حال وشرط أنه حال صح العقد وإن أطلق ففيه وجهان أحدهما لا يصح لانه أحد محلي السلم فوجب بيانه كالمؤجل
والثاني أنه يصح ويكون حالا لان ما جاز حالا ومؤجلا حمل إطلاقه على الحال كالثمن في المبيع
وإن عقد السلم حالا ثم جعله مؤجلا أو مؤجلا فجعله حالا أو زاد في أجله أو نقص نظرت فإن كان ذلك بعد التفرق لم يلحق بالعقد لان العقد استقر فلا يتغير وإن كان قبل التفرق لحق بالعقد
وقال أبو علي الطبري إن قلنا إن المبيع انتقل بنفس العقد لم يلحق به والصحيح هو الأول وقد ذكرناه في الزيادة في الثمن
فصل حكم إذا أسلم فى جنسين إلى أجل وإن أسلم في جنسين إلى أجل أو في جنس إلى أجلين ففيه قولان أحدهما أنه لا يصح لان ما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر وما يقابل أحدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهول فلم يجز
والثاني أنه يصح وهو الصحيح لان كل بيع جاز في جنس واحد وأجل واحد جاز في جنسين وفي أجلين كبيع الأعيان ودليل القول الأول يبطل ببيع الأعيان فإنه يجوز إلى أجلين وفي جنسين مع الجهل بما يقابل كل واحد منهما
فصل في موضع التسليم وأما بيان موضع التسليم فإنه إن كان العقد في موضع لا يصلح للتسليم كالصحراء وجب بيانه وإن كان في موضع يصلح للتسليم ففيه ثلاثة أوجه أحدها يجب بيانه لانه يختلف الغرض باختلافه فوجب بيانه كالصفات
والثاني لا يجب بل يحمل على موضع العقد كما نقول في بيع الأعيان
والثالث أنه إن كان لحمله مؤنة وجب بيانه لانه يختلف الثمن باختلافه فوجب بيانه كالصفات التي يختلف الثمن باختلافها
فإن لم يكن لحمله مؤنة لم يجب بيانه لانه لا يختلف الثمن باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التي لا يختلف الثمن باختلافها
فصل تأخير قبض رأس المال عن المجلس ولا يجوز تأخير قبض رأس المال عن المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم أسلفوا في كيل معلوم والإسلاف هو التقديم ولانه إنما سمي سلما لما فيه من تسليم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح
ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه ويجوز أن يكون معينا فإن كان في الذمة نظرت فإن كان من الأثمان حمل على نقد البلد وإن كان في البلد نقود حمل على الغالب منها وإن لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم
وإن كان رأس المال عرضا وجب بيان الصفات التي تختلف بها الأثمان لانه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف فوجب بيان صفاته كالمسلم فيه
وإن كان رأس المال معينا ففيه قولان أحدهما يجب ذكر صفاته ومقداره لانه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده
والثاني لا يجب ذكر صفاته ومقداره لانه عوض فى عقد لا يقتضي رد المثل فوجب أن تغني المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره كالمهر والثمن في البيع
وإن كان رأس المال مما لا يضبط بالصفة كالجواهر وغيرها فعلى القولين إن قلنا يجب ذكر صفاته لم يجز أن يجعل ذلك رأس المال لانه لا يمكن ذكر صفاته وإن قلنا لا يجب جاز أن يجعل ذلك رأس المال لانه معلوم بالمشاهدة
والله أعلم
باب تسليم المسلم فيه إذا حل دين السلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمرا لزمه ما يقع عليه اسم التمر على الإطلاق فإن أحضر حشفا أو رطبا لم يقبل منه فإن كان رطبا لزمه ما يقع عليه اسم الرطب على الإطلاق ولا يقبل منه بسر ولا منصف ولا مذنب ولا مشدخ
وإن كان طعاما لزمه ما نقي من التبن فإن كان فيه قليل تراب نظرت فإن كان أسلم فيه كيلا قبل منه لان القليل من التراب لا يظهر في الكيل وإن كان أسلم فيه وزنا لم يقبل منه لانه يظهر في الوزن فيكون المأخوذ من
____________________
(1/300)
الطعام دون حقه وإن كان عسلا لزمه ما صفى من الشمع فإن أسلم إليه في ثوب فأحضر ثوبا أجود منه لزمه قبوله لانه أحضر المسلم فيه وفيه زيادة صفة لا تتميز فلزمه قبوله فإن جاءه بالأجود وطلب عن الزيادة عوضا لم يجز لانه بيع صفة والصفة لا تفرد بالبيع فإن أتاه بثوب ردىء لم يجبر على قبوله لانه دون حقه فإن قال خذه وأعطيك للجودة درهما لم يجز لانه بيع صفة ولانه بيع جزء من المسلم فيه قبل قبضه
فإن أسلم في نوع من جنس فجاءه بنوع آخر من ذلك الجنس كالمعقلي عن البرني والهروي عن المروي ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يجوز لانه غير الصنف الذي أسلم فيه فلم يجز أخذه عنه كالزبيب عن التمر
وقال أبو على بن أبى هريرة يجوز لان النوعين من جنس واحد بمنزلة النوع الواحد ولهذا يحرم التفاضل في بيع أحدهما بالآخر وبضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة
فإن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان أحدهما لا يجوز قبوله لانه يصير الثمن هو المثمن والعقد يقتضي أن يكون الثمن غير المثمن
والثاني أنه يجوز لان الثمن هو الذي سلم إليه والمثمن هو الموصوف
وإن أسلم إلى محل فأحضر المسلم فيه قبله أو شرط أن يسلم إليه في مكان فأحضر المسلم فيه في غير ذلك المكان فامتنع المسلم من أخذه نظرت فإن كان له غرض صحيح في الامتناع من أخذه بأن يلزمه في حفظه مؤن أو عليه في حمله مشقة أو يخاف عليه أن يهلك أو يؤخذ لم يلزمه أخذه
وإن لم يكن له غرض صحيح في الامتناع ( من أخذه ) لزمه أخذه فإن لم يأخذه رفع إلى الحاكم ليأخذه عنه والدليل عليه ما روي أن أنسا رضي الله عنه كاتب عبدا له على مال إلى أجل فجاءه بمال قبل الأجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر رضي الله عنه فأخذه منه وقال له اذهب فقد عتقت ولانه زاده بالتقديم خيرا فلزمه قبوله وإن سأله المسلم أن يقدمه قبل المحل فقال أنقصني من الدين حتى أقدمه ففعل لم يجز لانه بيع أجل والأجل لا يفرد بالبيع ولان هذا في معنى ربا الجاهلية فإنه كان في الجاهلية يقول من عليه الدين زدني في الأجل أزدك في الدين
فصل وإن أسلم إليه في طعام بالكيل أو اشترى منه طعاما بالكيل فدفع إليه الطعام من غير كيل لم يصح القبض لان المستحق قبض بالكيل فلا يصح قبض بغير الكيل فإن كان المقبوض باقيا رده على البائع ليكيله له
وإن تلف في يده قبل الكيل تلف من ضمانه لانه قبض عن حقه وإن ادعى أنه كان دون حقه فالقول قوله لان الأصل أنه لم يقبض إلا ما ثبت بإقراره فإن باع الجميع قبل الكيل لم يصح لانه لا يتحقق أن الجميع له وإن باع منه القدر الذى يتحقق أنه له ففيه وجهان أحدهما يصح وهو قول أبي إسحاق لانه دخل في ضمانه فنفذ بيعه فيه كما لو قبضه بالكيل
والثاني لا يصح وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وهو المنصوص في الصرف لانه باعه قبل وجود القبض المستحق بالعقد فلم يصح بيعه كما لو باعه قبل أن يقبضه فإن دفع إليه بالكيل ثم ادعى أنه دون حقه فإن كان ما يدعيه قليلا قبل منه وإن كان كثيرا لم يقبل لأن القليل يبخس به والأصل عدم القبض والكثير لا يبخس به فكان دعواه مخالفا للظاهر فلم يقبل
فصل في بيع السلم فإن أحاله على رجل له عليه طعام لم يصح لان الحوالة بيع وقد بيناه في كتاب البيوع أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض
وإن قال لي عند رجل طعام فاحضر معى حتى أكتاله لك فحضر واكتاله له لم يجز لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري وهذا لم يجر فيه الصاعان
وهل يصح قبض المسلم إليه لنفسه فيه وجهان بناء على القولين فيمن باع دين المكاتب فقبض منه المشترى فإن قبض المشتري لنفسه لا يصح
وهل يصح القبض للسيد فيه قولان أحدهما يصح لانه قبضه بإذنه فصار كما لو قبضه وكيله
والثاني لا يصح لانه لم يأذن له في قبضه له وإنما أذن له في قبضه لنفسه فلا يصير القبض له ويخالف الوكيل فإنه قبضه لموكله
فإن قلنا إن قبضه لا يصح اكتال لنفسه
____________________
(1/301)
مرة أخرى ثم يكيله للمسلم وإن قلنا إن قبضه يصح كاله للمسلم فإن قال احضر معى حتى أكتاله لنفسى وتأخذه ففعل ذلك صح القبض للمسلم إليه لانه قبضه لنفسه قبضا صحيحا ولا يصح للمسلم لانه دفعه إليه من غير كيل
وإن اكتاله لنفسه وسلم إلى المسلم وهو في المكيال ففيه وجهان أحدهما لا يصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان وهذا يقتضي كيلا بعد كيل وذلك لم يوجد
والثاني أنه يصح لان استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ولو ابتدأ بكيله جاز فكذلك إذا استدامه
فصل إن دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وإن دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وقال اشتر لي بها مثل ما لك علي واقبضه لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه
وهل يصح للمسلم إليه على الوجهين المبنيين على القولين في دين المكاتب
فإن قال اشتر لي واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء والقبض للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره في قبض حق نفسه
فصل ظهور عيب فى المسلم فيه إذا قبض المسلم فيه ووجد به عيبا فله أن يرده لان إطلاق العقد يقتضي مبيعا سليما فلا يلزمه قبول المعيب فإن رد ثبت له المطالبة بالسليم لانه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ما له في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالأرش لانه لا يمكنه رده ناقصا عما أخذ ولا يمكن إجباره على أخذه مع العيب فوجب الأرش
فصل فإن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان أحدهما أن العقد ينفسخ لان المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزا من صبرة فهلكت الصبرة
والثاني أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذ لان المعقود عليه ما في الذمة لا ثمرة هذا العام والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الأول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبدا فأبق
فصل فسخ عقد السلم بالإقالة يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لان الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقيا وجب رده وإن كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لانه بيع دين بدين وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان أحدهما يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض
والثاني لا يجوز لان المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه
والله أعلم
باب القرض القرض قربة مندوب إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لان أقرض دينارين ثم يردا ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا قرض مرتين خير من صدقة مرة
فصل القرض لا يصح إلا من مطلق التصرف ولا يصح إلا من جائز التصرف لانه عقد على المال فلا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول لانه تمليك آدمى فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة ويصح بلفظ القرض والسلف لان الشرع ورد بهما ويصح بما يؤدي معناه وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد علي بدله فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل كان هبة فإن
____________________
(1/302)
اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لان الظاهر معه فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر
وإن قال أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفا فإن لم يطل الفصل جاز لان الظاهر أنه قصد الإيجاب وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض لانه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل
فصل إذا كتب إليه وهو غائب وإن كتب إليه وهو غائب أقرضتك هذا أو كتب إليه بالبيع ففيه وجهان أحدهما ينعقد لان الحاجة مع الغيبة داعية إلى الكتابة
والثاني لا ينعقد لانه قادر على النطق فلا ينعقد عقده بالكتابة كما لو كتب وهو حاضر وقول القائل الأول إن الحاجة داعية إلى الكتابة لا يصح لانه يمكنه أن يوكل من يعقد العقد بالقول
فصل عدم ثبوت خياري المجلس والشرط فيه ولا يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط لان الخيار يراد للفسخ وفي القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء فلا معنى لخيار المجلس وخيار الشرط ولا يجوز شرط الأجل فيه لان الأجل يقتضى جزءا من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلا يجوز شرط الأجل فيه ويجوز شرط الرهن فيه لان النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لاهله ويجوز أخذ الضمين فيه لانه وثيقة فجاز في القرض كالرهن
فصل الوقت الذي يملك فيه وفي الوقت الذى يملك فيه وجهان أحدهما أنه يملكه بالقبض لانه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك فيه على القبض كالهبة فعلى هذا إذا كان القرض حيوانا فنفقته بعد القبض على المستقرض فإن اقترض أباه وقبضه عتق عليه
والثاني أنه لا يملكه إلا بالتصرف بالبيع والهبة والإتلاف لانه لو ملك قبل التصرف لما جاز للمقرض أن يرجع فيه بغير رضاه فعلى هذا تكون نفقته على المقرض
فإن اقترض أباه لم يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه
واختلف أصحابنا فيمن قدم طعاما إلى رجل ليأكله على أربعة أوجه أحدها أنه يملكه بالأخذ
والثاني أنه يملكه بعركه في الفم
والثالث أنه يملكه بالبلع
والرابع أنه لا يملكه بل يأكله على ملك صاحب الطعام
فصل في قرض كل مالك يملك بالبيع ويضبط بالوصف ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف لانه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم
فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لان القرض يقتضي رد المثل وما لا يضبط بالوصف لا مثل له
والثاني يجوز لان ما لا مثل له يضمنه المشتقرض بالقيمة والجواهر كغيرها في القيمة
ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فإن أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعاما لا يعرف كيله لم يجز لان القرض يقتضي رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء
فصل قرض الجارية ويجوز استقراض الجارية لمن لا يحل له وطؤها ولا يجوز لمن يملك وطأها
وقال المزني رحمه الله يجوز لانه عقد يملك به المال فجاز أن يملك به من يحل له وطؤها كالبيع والهبة
والمنصوص هو الأول لانه عقد إرفاق جائز من الطرفين فلا يستباح به الوطء كالعارية ويخالف البيع والهبة فإن الملك فيهما تام لانه لو أراد كل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ لم يملك والملك في القرض غير تام لانه يجوز لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ فلو جوزنا فيمن يحل له وطؤها أدى إلى الوطء في ملك غير تام وذلك لا يجوز
وإن أسلم جارية في جاريه ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا يجوز لانا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن التي تستحق عليه فيصير كمن اقترض جارية فوطئها ثم ردها
ومن أصحابنا من قال يجوز وهو المذهب لان كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع
____________________
(1/303)
فصل حكم القرض الذي يجر النفع ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفا على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها سفتجة يربح فيها خطر الطريق والدليل عليه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز وروي عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولانه عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه فإن شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لان مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة
والثاني يجوز لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز فإن بدأ المستقرض فزاده أو رد عليه ما هو أجود منه أو كتب له سفتجة أو باع منه داره جاز لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكرا فقلت لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه فإن خياركم أحسنكم قضاء
وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فقضاني وزادني
فإن عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض ففي إقراضه وجهان أحدهما لا يجوز إقراضه إلا أن يشترط رد المثل لان المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز فكذلك إذا عرف بالعادة
والثاني أنه يجوز وهو المذهب لان الزيادة مندوب إليها فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد فإن شرط في العقد شرطا فاسدا بطل الشرط
وفي القرض وجهان أحدهما أنه يبطل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل قرض جر منفعة فهو ربا ولانه إنما أقرضه بشرط ولم يسلم الشرط فوجب ألا يسلم القرض
والثاني أنه يصح لان القصد منه الإرفاق فإذا زال الشرط بقي الإرفاق
فصل رد المثل في القرض ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لان مقتضى القرض رد المثل ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل وفيما لا مثل له وجهان أحدهما يجب عليه القيمة لان ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات
والثاني يجب عليه مثله في الخلقة والصورة لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر ولان ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياسا على ما له مثل
ويخالف المتلفات فإن المتلف متعد فلم يقبل منه إلا القيمة لانها أحصر وهذا عقد أجيز للحاجة فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف
فإن اقترض الخبز وقلنا يجوز إقراض ما لا يضبط بالوصف ففي الذي يرد وجهان أحدهما مثل الخبز
والثاني ترد القيمة فعلى هذا إذا أقرضه الخبز وشرط أن يرد عليه الخبز ففيه وجهان أحدهما يجوز لان مبناه على الرفق فلو منعناه من رد الخبز شق وضاق
والثاني لا يجوز لانه إذا شرط صار بيع خبز بخبز وذلك لا يجوز
فصل في إذا أقرض دراهم بمصر ثم لقيه بمكة إذا أقرضه دراهم بمصر ثم لقيه بمكة فطالبه بها لزمه دفعها إليه فإن طالبه المستقرض بأن يأخذها وجب عليه أخذها لانه لا ضرر عليه في أخذها فوجب أخذها
فإن أقرضه طعاما بمصر فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه لان الطعام بمكة أغلى فإن طالبه المستقرض بالأخذ لم يجبر على أخذه لان عليه مؤنة في حمله فإن تراضيا جاز لان المنع لحقهما وقد رضيا
____________________
(1/304)
جميعا طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها لانه بمكة كالمعدوم وما له مثل إذا عدم وجبت قيمته ويجب قيمته بمصر لانه يستحقه بمصر فإن أراد أن يأخذ عن بدل القرض عوضا جاز لان ملكه عليه مستقر فجاز أخذ العوض عنه كالأعيان المستقرة وحكمه في اعتبار القبض في المجلس حكم ما يأخذه بدلا عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد بيناه
والله أعلم
كتاب الرهن ويجوز الرهن على الدين في السفر لقوله عز وجل { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } ويجوز في الحضر لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله
فصل الرهن لا يصح إلا من مطلق التصرف ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع
فصل في جواز أخذ الرهن على دين السلم ويجوز أخذ الرهن على دين السلم وعوض القرض للآية والخبر
ويجوز على الثمن والأجرة والصداق وعوض الخلع ومال الصلح وأرش الجناية وغرامة المتلف لانه دين لازم فجاز أخذ الرهن عليه كدين السلم وبدل القرض
ولا يجوز أخذه على دين الكتابة لان الرهن إنما جعل ليحفظ عوض ما زال عنه ملكه من مال ومنفعة وعضو
والمعوض في الكتابة هي الرقبة وهي باقية على ملكه لا يزول ملكه عنها إلا بالأداء فلا حاجة به إلى الرهن ولان الرهن إنما يعقد لتوثيق الدين حتى لا يبطل والمكاتب يملك أن يبطل الدين بالفسخ إذا شاء فلا يصح توثيقه
فأما مال الجعالة قبل العمل ففيه وجهان أحدهما لا يجوز أخذ الرهن به لانه مال شرط في عقد لا يلزم فلا يجوز أخذ الرهن به كمال الكتابة
والثاني يجوز لانه دين يؤول إلى اللزوم فجاز أخذ الرهن به كالثمن في مدة الخيار
وأما مال السبق والرمي ففيه قولان أحدهما أنه كالإجارة فيجوز أخذ الرهن به
والثاني أنه كالجعالة فيكون على الوجهين
وأما العمل في الإجارة فإنه إن كانت الإجارة على عمل الأجير فلا يجوز أخذ الرهن به لان القصد بالرهن استيفاء الحق منه عند التعذر وعمله لا يمكن استيفاؤه من غيره
وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة جاز أخذ الرهن به لانه يمكن استيفاؤه من الرهن بأن يباع ويستأجر بثمنه من يعمل
فصل عقد الرهن بعد ثبوت الدين ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين وهو أن يرهن بالثمن بعد البيع وبعوض القرض بعد القرض
ويجوز عقده مع العقد على الدين وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع وعقد القرض لان الحاجة تدعو إلى شرطه بعد ثبوته وحال ثبوته فأما شرطه قبل العقد فلا يصح لان الرهن تابع للدين فلا يجوز شرطه قبله
فصل أخذ الرهن على الأعيان ولا يجوز أخذ الرهن على الأعيان كالمغصوب والمسروق والعارية والمأخوذ على وجه السوم لانه إن رهن على قمتها إذا تلفت لم يصح لانه رهن على دين قبل ثبوته
وإن رهن على عينها لم يصح لانه لا يمكن استيفاء العين من الرهن
فصل عدم لزوم الرهن من المرتهن ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن لان العقد لحظه لا حظ فيه للراهن فجاز له فسخه إذا شاء
فأما من جهة الراهن فلا يلزم إلا بقبض والدليل عليه قوله عز وجل { فرهان مقبوضة } فوصف الرهن بالقبض فدل على أنه لا يلزم إلا به ولانه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول والقبض فلم يلزم من غير قبض كالهبة
فإن كان المرهون في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضه إلا بإذن الراهن لان للراهن أن يفسخه قبل القبض فلا يملك المرتهن إسقاط حقه من غير إذنه
فإن كان في يد المرتهن فقد قال في الرهن إنه لا يصير مقبوضا بحكم الرهن إلا بإذن الراهن وقال في الإقرار والمواهب إذا وهب له عينا في يده صارت مقبوضة من غير إذن فمن أصحابنا من نقل جوابه في الرهن إلى الهبة وجوابه في الهبة إلى الرهن فجعلهما على قولين
أحدهما لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن في القبض لانه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف لم يفتقر إلى إذن مستأنف
والثاني أنه يفتقر وهو الصحيح لانه عقد
____________________
(1/305)
يفتقر لزومه إلى القبض فافتقر القبض إلى الإذن كما لو لم تكن العين في يده
وقولهم إنه لا يحتاج إلى نقل مستأنف لا يصح لان النقل يراد ليصير في يده وذلك موجود والإذن يراد لتمييز قبض الهبة والرهن عن قبض الوديعة والغصب وذلك لا يحصل إلا بإذن
ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في الهبة لا تفتقر إلى الإذن وفي الرهن يفتقر لان الهبة عقد يزيل الملك فلم يفتقر إلى الإذن لقوته والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الإذن لضعفه
والصحيح هو الطريق الأول لان هذا الفرق يبطل به إذا لم تكن العين في يده فإنه يفتقر إلى الإذن في الرهن والهبة مع ضعف أحدهما وقوة الآخر
فإن عقد على عين رهنا وإجارة وأذن له في القبض عن الرهن والإجارة صار مقبوضا عنهما
فإن أذن له في القبض عن الإجارة دون الرهن لم يصر مقبوضا عن الرهن لانه لم يأذن له في قبض الرهن
فإن أذن له في القبض عن الرهن دون الإجارة صار مقبوضا عنهما لانه أذن له في قبض الرهن وقبض الإجارة لا يفتقر إلى الإذن لانه مستحق عليه
فصل لا بد من زمان يتأتى فيه القبض وإن أذن له في قبض ما عنده لم يصر مقبوضا حتى يمضي زمان يتأتى فيه القبض وقال في حرملة لا يحتاج إلى ذلك كما لا يحتاج إلى نقل والمذهب الأول لان القبض إنما يحصل بالإستيفاء أو التمكين من الاستيفاء ولهذا لو استأجر دارا لم يحصل له القبض في منافعها إلا بالاستيفاء أو بمضي زمان يتأتى فيه الاستيفاء فكذلك ههنا فعلى هذا إن كان المرهون حاضرا فبأن يمضي زمان لو أراد أن ينقله أمكنه ذلك وإن كان غائبا فبأن يمضي هو أو وكيله ويشاهده ثم يمضي من الزمان ما يتمكن فيه من القبض
وقال أبو إسحاق إن كان مما ينتقل كالحيوان لم يصر مقبوضا إلا بأن يمضي إليه لانه يجوز أن يكون قد انتقل من المكان الذي كان فيه فلا يمكنه أن يقدر الزمان الذى يمكن المضى فيه إليه من موضع الإذن إلى موضع القبض فأما ما لا ينتقل فإنه لا يحتاج إلى المضى إليه بل يكفي أن يمضي زمان لو أراد أن يمضي ويقبض أمكنه
ومن أصحابنا من قال إن أخبره ثقة أنه باق على صفته ومضى زمان يتأتى فيه القبض صار مقبوضا كما لو رآه وكيله ومضى زمان يتأتى فيه القبض والمنصوص هو الأول
وما قال أبو إسحاق لا يصح لانه كما يجوز أن ينتقل الحيوان من مكان إلى مكان فلا يتحقق زمان الإمكان ففي غير الحيوان يجوز أن يكون قد أخذ أو هلك
وما قال القائل الآخر من خبر الثقة لا يصح ( أيضا ) لانه يجوز أن يكون بعد رؤية الثقة حدث عليه حادث فلا يتحقق إمكان القبض ويخالف الوكيل فإنه قائم مقامه فقام حضوره مقام حضوره والثقة بخلافه
فصل الرجوع في القبض وإن أذن له في القبض ثم رجع لم يجز أن يقبض لان الإذن قد زال فعاد كما لو لم يأذن له
وإن أذن له ثم جن أو أغمي عليه لم يجز أن يقبضه لانه خرج عن أن يكون من أهل الإذن ويكون الإذن في القبض إلى من ينظر في ماله فإن رهن شيئا ثم تصرف فيه قبل أن يقبضه نظرت فإن باعه أو جعله مهرا في نكاح أو أجرة في إجارة أو هبة وأقبضه أو رهنه وأقبضه أو كان عبدا فكاتبه أو أعتقه انفسخ الرهن لان هذه التصرفات تمنع الرهن فانفسخ بها الرهن فإن دبره فالمنصوص في الأم أنه رجوع وقال الربيع فيه قول آخر أنه لا يكون رجوعا وهذا من تخريجه
ووجهه أنه يمكن الرجوع في التدبير فإذا دبره أمكنه أن يرجع فيه فيقبضه في الرهن ويبيعه في الدين والصحيح هو الأول لان المقصود بالتدبير هو العتق وذلك ينافي الرهن فجعل رجوعا كالبيع والكتابة فإن رهن ولم يقبض أو وهب ولم يقبض كان ذلك رجوعا على المنصوص لان المقصود منه ينافي الرهن
وعلى تخريج الربيع لا يكون الرجوع فيه
وإن كان المرهون جارية فزوجها لم يكن ذلك رجوعا لان التزويج لا يمنع الرهن فلا يكون رجوعا في الرهن وإن كان دارا فأجرها نظرت فإن كانت الإجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين لم يكن رجوعا لانها لا تمنع البيع عند المحل فلم ينفسخ بها كالتزويج
وإن كانت إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها فإن قلنا إن المستأجر يجوز بيعه لم يكن رجوعا لانه لا يمنع البيع عند المحل وإن قلنا لا يجوز بيعه كان رجوعا لانه تصرف ينافي مقتضى الرهن فجعل رجوعا كالبيع
____________________
(1/306)
فصل وفاة أحد المتراهنين قبل القبض وإن مات أحد المتراهنين ( قبل القبض ) فقد قال في الرهن إذا مات المرتهن لم ينفسخ
وقال في التفليس إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن
فمن أصحابنا من جعل ما قال في التفليس قولا آخر أن الرهن ينفسخ بموت الراهن ونقل جوابه فيه إلى المرتهن وجوابه في المرتهن إليه وجعلهما على قولين أحدهما ينفسخ بموتهما لانه عقد لا يلزم بحال فانفسخ بموت العاقد كالوكالة والشركة
والثاني لا ينفسخ لانه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار
ومنهم من قال يبطل بموت الراهن ولا يبطل بموت المرتهن لان بموت الراهن يحل الدين ويتعلق بالتركة فلا حاجة إلى بقاء الرهن وبموت المرتهن لا يحل الدين فالحاجة باقية إلى بقاء الرهن
ومنهم من قال لا يبطل بموت واحد منهما قولا واحدا لانه إذا لم يبطل بموت المرتهن على ما نص عليه والعقد غير لازم في حقه بحال فلأن لا يبطل بموت الراهن والعقد لازم له بعد القبض أولى وما قال في التفليس لا حجة فيه لانه لم يرد أن الرهن ينفسخ وإنما أراد أنه إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن من غير إذن الورثة
فصل امتناع الراهن من التسليم إذا امتنع الراهن من تسليم الرهن أو انفسخ العقد قبل القبض نظرت فإن كان الرهن غير مشروط في العقد على البيع بقي الدين بغير رهن وإن كان الرهن مشروطا في البيع ثبت للبائع الخيار بين أن يمضي البيع من غير رهن أو يفسخه لانه دخل في البيع بشرط أن يكون له بالثمن وثيقة ولم تسلم له فثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء
فصل بعد قبض الرهن يلزم العقد إذا أقبض الراهن الرهن لزم العقد من جهته ولا يملك فسخه لانه عقد وثيقة فإذا تم لم يجز فسخه من غير رضا من له الحق كالضمان ولانا لو جوزنا له الفسخ من غير رضا المرتهن بطلت الوثيقة وسقط فائدة الرهن
فصل ولا ينفك من الرهن شيء حتى يبرأ الراهن من جميع الدين لانه وثيقة محضة فكان وثيقة بالدين وبكل جزء منه كالشهادة والضمان
فإن رهن اثنان عند رجل عينا بينهما بدين له عليهما فبرىء أحدهما أو رهن رجل عند اثنين عينا بدين عليه لهما فبرىء من دين أحدهما انفك نصف العين من الرهن لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر كما لو فرق بين العقدين
وإن أراد الراهنان في المسألة الأولى أن يقتسما أو الراهن في المسألة الثانية أن يقاسم المرتهن الذي لم يبرأ من دينه نظرت فإن كان مما لا ينقص قيمته بالقسمة كالحبوب جاز ذلك من غير رضا المرتهن
وإن كان مما ينقص قيمته ففيه وجهان أحدهما لا يجوز من غير رضا المرتهن لانه يدخل عليه بالقسمة ضرر فلم يجز من غير رضاه
والثاني يجوز لان المرهون عنده نصف العين فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه
فصل ظهور العيب في المرتهن وإذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيبا كان قبل القبض نظرت فإن كان في رهن عقد بعد عقد البيع لم يثبت له الخيار في فسخ البيع
وإن كان في رهن شرط في البيع فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه لانه دخل في البيع بشرط أن يسلم له الرهن فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار
فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عيب عنده لم يملك الفسخ لانه لا يمكنه رد العين على الصفة التي أخذ فسقط حقه من الفسخ كما قلنا في المبيع إذا هلك عند المشتري أو حدث به عيب عنده ولا يثبت له الأرش لان الأرش بدل عن الجزء الفائت
ولو فات الرهن بالهلاك لم يجب بدله فإذا فات بعضه لم يجب بدله
والله أعلم
____________________
(1/307)
باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز ما لا يجوز بيعه كالوقف وأم الولد والكلب والخنزير لا يجوز رهنه لان المقصود من الرهن أن يباع ويستوفى الحق منه وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه فلم يصح رهنه
فصل رهن ما يسرع إليه الفساد وما يسرع إليه الفساد من الأطعمة والفواكه الرطبة التي لا يمكن استصلاحها يجوز رهنه بالدين الحال والمؤجل الذي يحل قبل فساده لانه يمكن بيعه واستيفاء الحق من ثمنه
فأما ما رهنه بدين مؤجل إلى وقت يفسد قبل محله فإنه ينظر فيه فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد جاز رهنه وإن أطلق ففيه قولان أحدهما لا يصح وهو الصحيح لانه لا يمكن بيعه بالدين في محله فلم يجز رهنه كأم الولد
والثاني يصح وإذا خيف عليه أجبر على بيعه ويجعل ثمنه رهنا لان مطلق العقد يحمل على المتعارف ويصير كالمشروط
والمتعارف فيما يفسد أن يباع قبل فساده فيصير كما لو شرط ذلك ولو شرط ذلك جاز رهنه فكذلك إذا أطلق
فإن رهن ثمرة يسرع إليها الفساد مع الشجر ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أفرده بالعقد
ومنهم من قال يصح قولا واحدا لانه تابع للشجر فإذا هلكت الثمرة بقيت الشجرة
فصل المعلق عتقه على صفة لا يجوز رهنه وإن علق عتق ( عبده ) على صفة توجد قبل محل الدين لم يجز رهنه لانه لا يمكن بيعه في الدين وقال أبو علي الطبري رحمه الله إذا قلنا يجوز رهن ما يسرع إليه الفساد جاز رهنه وإن علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل محل الدين ويجوز ألا توجد ففيه قولان أحدهما يصح لان الأصل بقاء العقد وإمكان البيع ووقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه فلا يمنع صحة الرهن كجواز الموت في الحيوان المرهون
والثاني لا يصح لانه قد توجد الصفة قبل محل الدين فلا يمكن بيعه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة الرهن
فصل رهن المدبر واختلف أصحابنا في المدبر فمنهم من قال لا يجوز رهنه قولا واحدا لانه قد يموت المولى فجأة فيعتق فلا يمكن بيعه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة الرهن
ومنهم من قال يجوز رهنه قولا واحدا لانه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعبد القن
ومنهم من قال فيه قولان بناء على القولين في أن التدبير وصية أو عتق بصفة
فإن قلنا إنه وصية جاز رهنه لانه يجوز الرجوع فيه بالقول فجعل الرهن رجوعا
وإن قلنا إنه عتق بصفة لم يجز رهنه لانه لا يجوز الرجوع فيه بالقول وإنما يجوز الرجوع فيه بتصرف يزيل الملك والرهن لا يزيل الملك
قال أبو إسحق إذا قلنا إنه يصح رهنه فحل الحق وقضى سقط حكم الرهن وبقي العبد على تدبيره
وإن لم يقض قيل له أترجع في التدبير فإن اختار الرجوع بيع العبد في الرهن وإن لم يختر فإن كان له مال غيره قضى منه الدين ويبقى العبد على التدبير وإن لم يكن له مال غيره ففيه وجهان أحدهما أنه يحكم بفساد الرهن لانا إنما صححنا الرهن لانا قلنا لعله يقضي الدين من غيره أو يرجع في التدبير فإذا لم يفعل حكمنا بفساد الرهن
والثاني أنه يباع في الدين وهو الصحيح لانا حكمنا بصحة الرهن ومن حكم الرهن أن يباع في الدين وما سوى ذلك من الأموال كالعقار والحيوان وسائر ما يباع يجوز رهنه لانه يحصل به مقصود الرهن
وما جاز رهنه جاز رهن البعض منه مشاعا لان المشاع كالمقسوم في جواز البيع فكان كالمقسوم في جواز الرهن
فإن كان بين رجلين دار فرهن أحدهما نصيبه من بيت بغير إذن شريكه ففيه وجهان أحدهما يصح كما يصح بيعه
والثاني لا يصح لان فيه إضرارا بالشريك بأن يقتسما فيقع هذا البيت في حصته فيكون بعضه رهنا
فصل رهن مال الغير بغير إذنه ولا يجوز رهن مال الغير بغير إذنه لانه لا يقدر على تسليمه ولا على بيعه في الدين فلم يجز رهنه كالطير الطائر والعبد الآبق فإن كان في يده مال لمن يرثه وهو يظن أنه حي فباعه أو رهنه ثم بان أنه ( كان ) قد مات قبل العقد فالمنصوص أن العقد باطل لانه عقد وهو لاعب فلم يصح ومن أصحابنا من قال يصح لانه صادف ملكه فأشبه إذا عقد وهو يعلم أنه ميت
فصل رهن المبيع قبل القبض وإن رهن مبيعا لم يقبضه نظرت فإن رهنه قبل أن ينقد ثمنه لم يصح الرهن لانه محبوس بالثمن فلا يملك رهنه كالمرهون
فإن رهنه بعد نقد الثمن ففيه وجهان أحدهما لا يصح لانه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في المبيع قبل القبض كالبيع
والثاني
____________________
(1/308)
يصح وهو المذهب لان الرهن لا يقتضي الضمان فجاز فيما لم يدخل في ضمانه بخلاف البيع
فصل رهن الدين وفي رهن الدين وجهان أحدهما يجوز لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعين
والثاني لا يجوز لأنه لا يدري هل يعطيه أم لا وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد
فصل رهن المرهون ولا يجوز رهن المرهون من غير إذن المرتهن لان ما استحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق كبيع ما باعه وإجارة ما أجره
وهل يجوز رهنه بدين آخر عند المرتهن ففيه قولان قال في القديم يجوز وهو اختيار المزني لانه إذا جاز أن يكون مرهونا بألف ثم يصير مرهونا بخمسمائة جاز أن يكون مرهونا بخمسمائة ثم يصير مرهونا بألف
وقال في الجديد لا يجوز لانه رهن مستحق بدين فلا يجوز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير المرتهن
فإن جنى العبد المرهون ففداه المرتهن وشرط على الراهن أن يكون رهنا بالدين والأرش ففيه طريقان من أصحابنا من قال هو على القولين
ومنهم من قال يصح ذلك قولا واحدا والفرق بين الأرش وبين سائر الديون أن الأرش متعلق بالرقبة فإذا رهنه به فقد علق بالرقبة ما كان متعلقا بها وغيره لم يكن متعلقا بالرقبة فلم يجز رهنه به ولان في الرهن بالأرش مصلحة للراهن في حفظ ماله وللمرتهن في حفظ وثيقته وليس في رهنه بدين آخر مصلحة ويجوز للمصلحة ما لا يجوز لغيرها والدليل عليه أنه يجوز أن يفتدي العبد بقيمته في الجناية ليبقي عليه وإن كان لا يجوز أن يشتري ماله بماله
فصل رهن العبد الجاني وفي رهن العبد الجاني قولان واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق
فمنهم من قال القولان في العمد فأما في جناية الخطإ فلا يجوز ( الرهن ) قولا واحدا
ومنهم من قال القولان في جناية الخطإ فأما في جناية العمد فيجوز قولا واحدا
ومنهم من قال القولان في الجميع وقد بينا وجوههما في البيع
فصل رهن ما لا يقدر على تسليمه ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والطير الطائر لانه لا يمكن تسليمه ولا بيعه في الدين فلم يصح رهنه
فصل رهن المجهول من البيوع وما لا يجوز بيعه من المجهول لا يجوز رهنه لان الصفات مقصودة في الرهن للوفاء بالدين كما أنها مقصودة في البيع للوفاء بالثمن فإذا لم يجز بيع المجهول وجب ألا يجوز رهن المجهول
فصل رهن الثمر قبل بدو الصلاح وفي رهن الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع قولان أحدهما لا يصح لانه عقد لا يصح فيما لا يقدر على تسليمه فلم يجز في الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع كالبيع
والثاني أنه يصح لانه إن كان بدين حال فمقتضاه أن تؤخذ فتباع فيأمن أن تهلك بالعاهة وإن كان بدين مؤجل فتلفت الثمرة لم يسقط دينه وإنما تبطل وثيقته والغرر في بطلان الوثيقة مع بقاء الدين قليل فجاز بخلاف البيع فإن العادة فيه أن يترك إلى أوان الجذاذ فلا يأمن أن يهلك بعاهة فيذهب الثمن ولا يحصل المبيع فيعظم الضرر فلم يجز من غير شرط القطع
فصل رهن الحمل الظاهر وإن كان له أصول تحمل في السنة مرة بعد أخرى كالتين والقثاء فرهن الحمل الظاهر فإن كان بدين يستحق فيه بيع الرهن قبل أن يحدث الحمل الثاني ويختلط به جاز لانه يأمن الغرر بالاختلاط
وإن كان بدين لا يستحق البيع فيه إلا بعد حدوث الحمل الثاني واختلاطه به نظرت فإن شرط أنه إذا خيف الاختلاط قطعه جاز لانه منع الغرر بشرط القطع
وإن لم يشترط القطع ففيه قولان أحدهما أن العقد باطل لانه يختلط بالمرهون غيره فلا يمكن إمضاء العقد على مقتضاه
والثاني أنه صحيح لانه يمكن الفصل عند الاختلاط بأن يسمح الراهن بترك ثمرته للمرتهن أو ينظر كم كان المرهون فيحلف عليه ويأخذ ما زاد فإذا أمكن إمضاء العقد لم يحكم ببطلانه
فصل رهن الجارية دون الولد ويجوز أن يرهن الجارية دون ولدها لان الرهن لا يزيل الملك فلا يؤدي إلى التفريق بينهما فإن حل الدين ولم يقضه بيعت الأم والولد ويقسم الثمن عليهما فما قابل الأم تعلق به حق المرتهن في قضاء دينه وما قابل الولد يكون للراهن لا يتعلق به حق المرتهن
فصل رهن المصحف وفي جواز رهن المصحف وكتب الأحاديث والعبد المسلم عند الكافر طريقان قال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد فيه قولان كالبيع أحدهما يبطل
والثاني يصح ويجبر على تركه في يد مسلم
قال أبو علي الطبري في الإفصاح
____________________
(1/309)
يصح الرهن قولا واحدا ويجبر على تركه في يد مسلم ويفارق البيع بأن البيع ينتقل الملك فيه إلى الكافر وفي الرهن المرهون باق على ملك المسلم
فصل الشروط المنافية للرهن فإن شرط في الرهن شرطا ينافي مقتضاه مثل أن يقول رهنتك على أن لا أسلمه أو على أن لا يباع في الدين أو على أن منفعته لك أو على أن ولده لك فالشرط باطل لقوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ولو كان مائة شرط
وهل يبطل الرهن ينظر فيه فإن كان الشرط نقصانا في حق المرتهن كالشرطين الأولين فالعقد باطل لانه يمنع المقصود فأبطله وإن كان زيادة في حق المرتهن كالشرطين الآخرين ففيه قولان أحدهما يبطل الرهن وهو الصحيح لانه شرط فاسد قارن العقد فأبطله كما لو شرط نقصانا في حق المرتهن
والثاني أنه لا يبطل لانه شرط جميع أحكامه وزاد فبطلت الزيادة وبقي العقد بأحكامه
فإذا قلنا إن الرهن يبطل فإن كان الرهن مشروطا في بيع فهل يبطل البيع فيه قولان أحدهما أنه لا يبطل لانه يجوز شرطه بعد البيع وما جاز شرطه بعد تمام العقد لم يبطل العقد بفساده كالصداق في النكاح
والثاني أنه يبطل وهو الصحيح لان الرهن يترك لاجله جزء من الثمن فإذا بطل الرهن وجب أن يضم إلى الثمن الجزء الذي ترك لاجله وذلك مجهول والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولا فيصير الثمن مجهولا والجهل بالثمن يفسد البيع
فصل في قبض العدل ويجوز أن يجعل الرهن في يد المرتهن ويجوز أن يجعل في يد عدل لان الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه من ذلك
فإن كان المرهون أمة لم توضع إلا عند امرأة أو عند محرم لها أو عند من له زوجة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان فإن جعل الرهن على يد عدل ثم أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره لم يكن له ذلك لانه حصل عند العدل برضاهما فلا يجوز لاحدهما أن ينفرد بنقله
فإن اتفقا على النقل إلى غيره جاز لان الحق لهما وقد رضيا
فإن مات العدل أو اختل فاختلف الراهن والمرتهن فيمن يكون عنده أو مات المرتهن أو اختل والرهن عنده فاختلف الراهن ومن ينظر في مال المرتهن فيمن يكون الرهن عنده رفع الأمر إلى الحاكم فيجعله عند عدل
فإن جعلا الرهن على يد عدلين فأراد أحد العدلين أن يجعل الجميع في يد الآخر ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لان ما جعل إلى اثنين لم يجز أن ينفرد به أحدهما كالوصية
والثاني يجوز لان في اجتماع الاثنين على حفظه مشقة فعلى هذا إن اتفقا على أن يكون في يد أحدهما جاز وإن تشاحا نظرت فإن كان مما لا ينقسم جعل في حرز لهما وإن كان مما ينقسم جاز أن يقتسما فيكون عند كل واحد منهما نصفه فإن اقتسما ثم سلم أحدهما حصته إلى الآخر ففيه وجهان أحدهما يجوز لانه لو سلم إليه قبل القسمة جاز
فكذلك بعد القسمة
والثاني لا يجوز لانهما لما اقتسما صار كل واحد منهما منفردا بحصته فلا يجوز أن يسلم ذلك إلى غيره كما لو جعل في يد كل واحد منهما نصفه والله أعلم
باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه ما يحدث من عين الرهن من النماء المتميز كالشجر والثمر واللبن والولد والصوف والشعر لا يدخل في الرهن لما روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن الرهن من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه
والنماء
____________________
(1/310)
من الغنم فوجب أن يكون له
وعن ابن عمر وأبى هريرة مرفوعا الرهن مجلوب ومركوب ومعلوم أنه لم يرد أنه مجلوب ومركوب للمرتهن فدل على أنه أراد به مجلوب ومركوب للراهن ولانه عقد لا يزيل الملك فلم يسر إلى النماء المتميز كالإجارة
فإن رهن نخلا على أن ما يتميز داخل في الرهن أو ماشية على أن ما تنتج داخل في الرهن فالمنصوص في الأم أن الشرط باطل وقال في الأمالي القديمة لو قال قائل إن الثمرة والنتاج يكون رهنا كان مذهبا ووجهه أنه تابع للأصل فجاز أن يتبعه كأساس الدار والمذهب الأول وهذا مرجوع عنه لانه رهن مجهول ومعدوم فلم يصح بخلاف ( أساس الدار ) فإنه موجود ولكنه ( يشق ) رؤيته فعفي عن الجهل به
وأما النماء الموجود في حال العقد ينظر فيه فإن كان شجرا فقد قال في الرهن لا يدخل فيه وقال في البيع يدخل واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق وقد بيناها في البيوع
وإن كان ثمرا نظرت فإن كان ظاهرا كالطلع المؤبر وما أشبه ( ه ) من الثمار لم يدخل في الرهن لانه إذا لم يدخل ذلك في البيع وهو يزيل الملك فلان لا يدخل في الرهن وهو لا يزيل الملك أولى وإن كان ثمرا غير ظاهر كالطلع الذي لم يؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يدخل فيه قياسا على البيع
والثاني لا يدخل فيه وهو الصحيح لانه لما لم يدخل فيه ما يحدث بعد العقد لم يدخل الموجود حال العقد
ومنهم من قال لا يدخل فيه قولا واحدا ويخالف البيع فإن ( في ) البيع ما يحدث بعد العقد ملك للمشتري والحادث بعد العقد لا حق للمرتهن فيه ولان البيع يزيل الملك فيدخل فيه النماء والرهن لا يزيل الملك فلم يدخل فيه ( النماء )
واختلف أصحابنا في ورق التوت والآس وأغصان الخلاف فمنهم من قال هو كالورق والأغصان من سائر الأشجار فيدخل في الرهن
ومنهم من قال إنها كالثمار من سائر الأشجار فيكون حكمها حكم الثمار
وإن كان النماء صوفا أو لبنا فالمنصوص أنه لا يدخل في العقد وقال الربيع في الصوف قول آخر أنه يدخل فمن أصحابنا من قال فيه قولان ومنهم من قال لا يدخل قولا واحدا وما قاله الربيع من تخريجه
فصل انتفاع المرتهن بالرهن ويملك الراهن التصرف في منافع الرهن على وجه لا ضرر فيه على المرتهن كخدمة العبد وسكنى الدار وركوب الدابة وزراعة الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم الرهن مجلوب ومركوب ولانه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المزوجة ووطء الأمة المستأجرة وله أن يستوفي ذلك بالإجارة والإعارة
وهل له أن يستوفي ذلك بنفسه قال في الأم له ذلك وقال في الرهن الصغير لا يجوز فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما لا يجوز لانه لا يأمن أن يجحد فيبطل حق المرتهن
والثاني يجوز وهو الصحيح لان كل منفعة جاز أن يستوفيها بغيره جاز أن يستوفيها بنفسه كمنفعة غير المرهون ودليل القول الأول يبطل به إذا أكراه من غيره فإنه لا يؤمن أن يجحد ثم يجوز
ومنهم من قال إن كان الراهن ثقة جاز لانه يؤمن أن يجحد وإن كان غير ثقة لم يجز لانه لا يؤمن أن يجحد وحمل القولين على هذين الحالين
فصل شرط الانتفاع بالرهن وأما ما فيه ضرر بالمرتهن فإنه لا يملك لقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار
فإن كان ( المنقول ) المرهون مما ينقل فأراد أن ينتفع به في السفر أو يكريه ممن يسافر به لم يجز لان أمن السفر لا يوثق به فلا يؤمن أن يؤخذ فيه فيدخل على المرتهن الضرر
وإن كان ثوبا لم يملك لبسه لانه ينقص قيمته
وإن ( كان أمة ) لم يملك تزويجها لانه ينقص قيمتها
وهل يجوز وطؤها ينظر فإن كانت ممن تحبل لم يجز وطؤها لانه لا يؤمن أن تحبل فتنقص قيمتها وتبطل الوثيقة باستيلادها وإن كانت ممن لا تحبل لصغر أو كبر ففيه وجهان قال أبو إسحق يجوز وطؤها لانا قد أمنا الضرر بالإحبال
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يجوز لان السن ( الذي لا تحبل فيه لا يتميز عن السن الذى تحبل فيه مع اختلاف الطباع فمنع من الجميع كما قلنا ) في شرب الخمر لما لم يتميز ما يسكر مما لا يسكر مع اختلاف الطباع في السكر حرم الجميع فإذا منعنا من الوطء منعنا من الاستخدام لانه لا يؤمن أن يطأها وإذا لم يمنع من الوطء جاز الاستخدام
فإن كان أرضا فأراد أن يغرس فيها أو يبني لم يجز لانه يراد للبقاء وينقص به قيمة الأرض عند القضاء فإذا خالف وغرس أو بنى والدين مؤجل لم يقلع في الحال لانه يجوز أن يقضي الدين من غير الأرض وربما لم تنقص قيمة الأرض مع الغراس والبناء عن الدين فلا يجوز الإضرار بالراهن في الحال لضرر متوهم بالمرتهن في ثاني الحال
فإن حل الدين ولم يقض وعجزت قيمة الارض مع الغراس والبناء عن قدر الدين قلع فإن أراد أن يزرع ما يضر بالأرض لم يجز
وإن لم يضر بالارض
____________________
(1/311)
نظرت فإن كان يحصد قبل محل الدين جاز وإن كان لا يحصد إلا بعد محل الدين ففيه قولان أحدهما لا يجوز لانه ينقص قيمة الارض فيستضر به المرتهن
والثاني يجوز لانه ربما قضاه الدين من غير الأرض وربما وقت قيمة الارض مع الزرع بالدين فلا يمنع منه في الحال
وإن أراد أن يؤجر إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها لم يجز له لانه ينقص قيمة الارض وقال أبو علي الطبري رحمه الله فيها قولان كزراعة ما لا يحصد قبل محل الدين
وإن كان فحلا وأراد أن ينزيه على الاناث جاز لانه انتفاع لا ضرر فيه على المرتهن فلم يمنع منه كالركوب فإن كان أنثى أراد أن ينزي عليها الفحل نظرت فإن كانت تلد قبل محل الدين جاز لانه لا ضرر ( فيه ) على المرتهن وإن كان الدين يحل قبل ولادتها وقبل ظهور الحمل بها جاز لانه يمكن بيعها وإن كان يحل بعد ظهور الحمل فإن قلنا إن الحمل لا حكم له جاز لانه يباع معها وإن قلنا له حكم لم يجز لانه خارج من الرهن فلا يمكن بيعه مع الأم ولا يمكن بيع الأم دونه فلم يجز
فصل التصرف في المرهون ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن كودج الدابة وتبزيغها وفصد العبد وحجامته لانه إصلاح ( مال ) من غير إضرار بالمرتهن
وإن أراد أن يختن العبد فإن كان كبيرا لم يجز لانه يخاف منه عليه وإن كان صغيرا نظرت فإن كان في وقت يندمل الجرح فيه قبل حلول الدين جاز وإن كان في وقت يحل الدين قبل اندمال جرحه لم يجز لانه ينقص ثمنه
وإن كانت به أكلة يخاف من تركها ولا يخاف من قطعها جاز أن يقطع وإن كان يخاف من تركها ويخاف من قطعها لم يجز قطعها لانه جرح يخاف عليه منه فلم يجز كما لو أراد أن يجرحه من غير أكلة
وإن كانت ماشية فأراد أن يخرج بها في طلب الكلا ( فإن كان الموضع مخصبا لم يجز له ذلك لانه يغرر به من غير حاجة ) وإن كان الموضع مجدبا جاز له لانه موضع ( حاجة )
وإن اختلفا في موضع النجعة فاختار الراهن جهة واختار المرتهن أخرى قدم اختيار الراهن لانه يملك العين والمنفعة وليس للمرتهن إلا حق الوثيقة فكان تقديم اختياره أولى
وإن كان الرهن عبدا فأراد تدبيره جاز لانه يمكن بيعه في الدين فإن دبره وحل الدين فإن كان له مال غيره لم يكلف بيع المدبر وإن لم يكن له مال غيره بيع منه بقدر الدين وبقي الباقي على التدبير وإن استغرق الدين جميعه بيع الجميع
فصل في شرط التصرف في الرهن ولا يملك التصرف في العين بما فيه ضرر على المرتهن لقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار فإن باعه أو وهبه أو جعله مهرا في نكاح أو أجره في إجارة أو كان عبدا فكاتبه لم يصح لانه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة فلم يصح من الراهن بنفسه كالفسخ وإن أعتقه ففيه ثلاثة أقوال أحدها يصح لانه عقد لا يزيل الملك فلم يمنع صحة العتق كالإجارة
والثاني أنه لا يصح لانه قول يبطل الوثيقة من عين الرهن فلم يصح من الراهن بنفسه كالبيع
والثالث وهو الصحيح أنه إن كان موسرا صح وإن كان معسرا لم يصح لانه عتق في ملكه يبطل به حق غيره فاختلف فيه الموسر والمعسر كالعتق في العبد المشترك بينه وبين غيره فإن قلنا إن العتق ( يصح ) فإن كان موسرا أخذت منه القيمة وجعلت رهنا مكانه لانه أتلف رقه
____________________
(1/312)
فلزمه ضمانه كما لو قتله وتعتبر قيمته وقت الإعتاق لانه حاله الإتلاف ويعتق بنفس اللفظ
ومن أصحابنا من قال في وقت العتق ثلاثة أقوال أحدها بنفس اللفظ
والثاني بدفع القيمة
والثالث موقوف
فإن دفع القيمة حكمنا أنه عتق من حين الإعتاق وإن لم يدفع حكمنا أنه لم يعتق في حال الإعتاق كما قلنا فيمن أعتق شركا له في عبد أنه يسري وفي وقت السراية ثلاثة أقوال وهذا خطأ لانه لو كان كالعتق في العبد المشترك لوجب ألا يصح العتق من المعسر كما لا يسري العتق بإعتاق المعسر في العبد المشترك وإن كان معسرا وجبت عليه القيمة في ذمته فإن أيسر قبل محل الدين طولب بها لتكون رهنا مكانه وإن أيسر ( في ) محل الدين طولب بقضاء الدين
وإن قلنا إن العتق لا يصح ففكه أو بيع في الدين ثم ملكه لم يعتق عليه
ومن أصحابنا من قال يعتق عليه لانه إنما لم يعتق في الحال لحق المرتهن وقد زال حق المرتهن فنفذ العتق كما لو أحبلها ثم فكها أو بيعت ثم ملكها والمذهب الأول لانه عتق لم ينفذ في الحال ( فلم ) ينفذ بعد ذلك كما لو أعتق المحجور عليه عبده ثم فك عنه الحجر ويخالف الإحبال فإنه فعل وحكم الفعل أقوى من حكم القول ولهذا لو أحبل المجنون جاريته نفذ إحباله وثبت لها حق الحرية ولو أعتقها ( لم يصح ) وإن قلنا إنه يصح العتق إن كان موسرا ولا يصح إذا كان معسرا فقد بينا حكم الموسر والمعسر
وإن كان المرهون جارية فأحبلها فهل ينفذ إحباله أم لا على الأقوال الثلاثة وقد بينا وجوهها في العتق فإن قلنا إنه ينفذ فالحكم فيه كالحكم في العتق وإن قلنا إنه لا ينفذ إحباله صارت أم ولد في حق الراهن لانها علقت بحر في ملكه وإنما لم ينفذ لحق المرتهن فإن حل الدين وهي حامل لم يجز بيعها لانها حامل بحر وإن ماتت من الولادة لزمه قيمتها لانها هلكت بسبب من جهته وفي القيمة التي تجب ثلاثة أوجه أحدها تجب قيمتها وقت الوطء لانه وقت سبب التلف فاعتبرت القيمة فيه كما لو جرحها وبقيت ( ضنيئة ) إلى أن ماتت
والثاني تجب قيمتها أكثر ما كانت من حين الوطء إلى حين التلف كما قلنا فيمن غصب جارية وأقامت في يده ثم ماتت
والثالث أنه تجب قيمتها وقت الموت لان التلف حصل بالموت والمذهب الأول وما قال الثاني لا يصح لان الغصب موجود من حين الأخذ إلى حين التلف والوطء غير موجود من حين الوطء إلى حين التلف وما قال الثالث يبطل به إذا جرحها ثم ماتت فإن التلف حصل بالموت ثم تجب القيمة وقت الجراحة وإن ولدت نظرت فإن نقصت بالولادة وجب عليه أرش ما نقص وإن حل الدين ولم يقضه فإن أمكن أن يقضي الدين بثمن بعضها بيع منها بقدر ما يقضي به الدين
وإن فكها من الرهن أو بيعت وعادت إليه ببيع أو غيره صارت أم ولد له
وقال المزني لا تصير كما لا تعتق إذا أعتقها ثم فكها أو ملكها وقد بينا الفرق بين الإعتاق والإحبال فأغنى عن الإعادة
فصل وقف المرهون وإن وقف المرهون ففيه وجهان أحدهما أنه كالعتق لانه حق لله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته فصار كالعتق
والثاني أنه لا يصح لانه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلا يصح كالبيع والهبة
فصل وما منع منه الراهن لحق المرتهن كالوطء والتزويج وغيرهما إذا أذن فيه جاز له فعله لان المنع لحقه فزال بإذنه
وما يبطل لحقه كالبيع والعتق وغيرهما إذا فعله بإذنه صح لان بطلانه لحقه فصح بإذنه فإن أذن في البيع أو العتق ثم رجع قبل أن يبيع أو قبل أن يعتق لم يجز البيع والعتق لانه بالرجوع سقط الإذن فصار كما لو لم يأذن فإن لم يعلم بالرجوع فباع أو أعتق ففيه وجهان أحدهما أنه يسقط الإذن ويصير كما إذا باع أو أعتق بغير الإذن
والثاني أنه لا يسقط الإذن بناء على القولين في الوكيل إذا عزله الموكل ولم يعلم حتى تصرف
فصل إذا أذن له في عتق المرهون وإن أذن له في العتق فأعتق أو في الهبة فوهب وأقبض بطل الرهن لانه تصرف ينافي مقتضى الوثيقة فعله بإذنه فبطلت به الوثيقة
فإن أذن له في البيع لم يخل إما أن يكون في دين حال أو في دين مؤجل فإن كان في دين حال تعلق حق المرتهن بالثمن ووجب قضاء الدين منه لان مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الحق منه
وإن كان في دين مؤجل نظرت فإن كان الإذن مطلقا فباع بطل الرهن وسقط حقه من الوثيقة لانه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن فعله بإذنه فبطل به الرهن كما لو أعتقه بإذنه
وإن أذن له في البيع بشرط أن يكون الثمن رهنا ففيه قولان قال في الإملاء يصح ووجهه أنه لو أذن له في بيعه بعد المحل بشرط أن يكون ثمنه رهنا إلى أن يوفيه جاز
وقال في الأم لا يصح لان ما يباع به من الثمن مجهول ورهن المجهول لا يصح فإذا بطل الشرط بطل البيع لانه إنما أذن ( له ) في البيع بهذا الشرط
____________________
(1/313)
ولم يثبت الشرط فلم يصح البيع
وإن أذن له في البيع بشرط أن يعجل الدين فباع لم يصح البيع
وقال المزني يبطل الشرط ويصح العقد لانه شرط فاسد سبق البيع فلم يمنع صحته كما لو قال لرجل بع هذه السلعة ولك عشر ثمنها وهذا خطأ لانه إنما أذن له بشرط أن يعجل الدين وتعجيل الدين لم يسلم له فإذا لم يسلم له الشرط بطل الإذن فيصير البيع بغير إذن ويخالف مسألة الوكيل فإن هناك لم يجعل العوض في مقابلة الإذن وإنما جعله في مقابلة البيع وههنا جعل تعجيل الدين في مقابلة الإذن فإذا بطل التعجيل بطل الإذن والبيع بغير إذن المرتهن باطل وحكي عن أبي إسحاق أنه قال في هذه المسألة قول آخر أنه يصح البيع ويكون ثمنه رهنا كما لو أذن له في البيع بشرط أن يكون ثمنه رهنا
فصل النفقة في الرهن وما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف وغيرها فهو على الراهن لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب نفقته والذي يركب ويشرب هو الراهن فوجب أن تكون النفقة عليه ولان الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه وإن احتاج إلى شرب دواء أو فتح عرق فامتنع لم يجبر عليه لان الشفاء بيد الله تعالى وقد تجيء من غير قصد ولا دواء ويخالف النفقة فإنه لا يبقى دونها فلزمه القيام بها
فصل جناية العبد المرهون وإن جنى العبد المرهون لم يخل إما أن يجني على الأجنبي أو على المولى أو على مملوك للمولى
فإن كانت الجناية على أجنبي تعلق حق المجني عليه برقبته ويقدم على حق المرتهن لان حق المجني عليه يقدم على حق المالك فلان يقدم على حق المرتهن أولى ولان حق المجني عليه يختص بالعين فلو قدمنا حق المرتهن عليه أسقطنا حقه
وحق المرتهن يتعلق بالعين والذمة فإذا قدمنا حق المجني عليه لم يسقط حقه فوجب تقديم حق المجني عليه
فإن سقط حق المجني عليه بالعفو أو الفداء بقي حق المرتهن لان حق المجنى عليه لم يبطل الرهن وإنما قدم عليه حق المجني عليه لقوته فإذا سقط حق المجني عليه بقي حق المرتهن وإن لم يسقط حق المجنى عليه نظرت فإن كان قصاصا في النفس اقتص له وبطل الرهن وإن كان في الطرف اقتص له وبقي الرهن في الباقي وإن كان مالا وأمكن أن يوفى حقه ببيع بعضه بيع منه ما يقضي به حقه وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه بيع فإن فضل عن حق المجني عليه شيء من ثمنه تعلق به حق المرتهن
وإن كانت الجناية على المولى نظرت فإن كان فيما دون النفس اقتص منه إن كان عمدا وإن كان خطأ أو عمدا فعفي عنه على مال لم يثبت له المال
وقال أبو العباس فيه قول آخر أنه يثبت له المال ويستفيد به بيعه وإبطال حق المرتهن من الرهن ووجهه أن من ثبت له القصاص في العمد ثبت له المال في الخطإ كالأجنبي والصحيح هو الأول لان المولى لا يثبت له المال على عبده ولهذا لو أتلف له مالا لم يستحق عليه بدله ووجه الأول يبطل بغير المرهون فإنه يجب له القصاص في العمد ولا يجب له المال في الخطإ
وإن كانت الجناية على النفس فإن كانت عمدا ثبت للوارث القصاص فإن اقتص بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفي على مال ففيه قولان أحدهما لا يثبت له المال لان الوارث قائم مقام المولى والمولى لا يثبت له في رقبة العبد مال فلا يثبت لمن يقوم مقامه
والثاني أنه يثبت له لانه يأخذ المال عن جناية حصلت وهو في غير ملكه فصار كما لو جنى على من يملكه المولى
وإن كانت الجناية على مملوك للمولى فإن كانت على مملوك غير مرهون فإن كانت الجناية عمدا فللمولى أن يقتص منه وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا على مال لم يجز لان المولى لا يستحق على عبده مالا وإن كانت الجناية على مملوك مرهون عند مرتهن آخر فإن كانت الجناية عمدا فللمولى أن يقتص منه فإن اقتص بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفي على مال ثبت المال لحق المرتهن الذي عنده المجني عليه لانه لو قتله المولى لزمه ضمانه فإذا قتله عبده تعلق الضمان برقبته
فإن كانت قيمته أكثر من قيمة المقتول وأمكن أن يقضي أرش الجناية ببيع بعضه بيع منه ما يقضي به أرش الجناية ويكون الباقي رهنا فإن لم يمكن إلا ببيع جميعه بيع وما فضل من ثمنه يكون رهنا فإن كانت قيمته مثل قيمة المقتول أو أقل منه ففيه وجهان أحدهما أنه ينقل القاتل إلى مرتهن المقتول ليكون رهنا مكانه لانه لا فائدة في بيعه
والثاني أنه يباع لانه ربما رغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته فيحصل عند كل واحد من المرتهنين وثيقة بدينه
وإن كانت الجناية على مرهون عند المرتهن الذي عنده القاتل فإن كانت عمدا فاقتص منه بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفي عنه على مال نظرت فإن اتفق الدينان في المقدار والحلول والتأجيل واتفقت قيمة العبدين ترك على حاله لانه لا فائدة في بيعه
وإن كان الدين الذي رهن به المقتول حالا والدين الذي رهن به القاتل مؤجلا بيع لان في بيعه فائدة وهو أن يقضى الدين الحال فإن اختلف الدينان واتفقت القيمتان نظرت فإن كان الدين الذي
____________________
(1/314)
ارتهن به القاتل أكثر لم يبع لانه مرهون بقدر فإذا بيع صار مرهونا ببعضه وإن كان الدين الذى ارتهن به القاتل أقل نقل فإن في نقله فائدة وهو أن يصير مرهونا بأكثر من الدين الذي هو مرهون به
وهل يباع وينقل ثمنه أو ينقل بنفسه فيه وجهان وقد مضى توجيههما
وإن اتفق الدينان بأن كان كل واحد منهما مائة واختلف القيمتان نظر فيه فإن كانت قيمة المقتول أكثر لم يبع لانه إذا ترك كان رهنا بمائة وإذا بيع كان ثمنه رهنا بمائة فلا يكون في بيعه فائدة
وإن كانت قيمة القاتل أكثر بيع منه بقدر قيمة المقتول ويكون رهنا بالحق الذي كان المقتول رهنا به وباقيه على ما كان
فصل جناية العبد المرهون بإذن المولى فإن جنى العبد المرهون بإذن المولى نظرت فإن كان بالغا عاقلا فحكمه حكم ما لو جنى بغير إذنه في القصاص والأرش على ما بيناه ولا يلحق السيد بالإذن إلا الإثم فإنه يأثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فإن كان غير بالغ نظرت فإن كان مميزا يعرف أن طاعة المولى لا تجوز في القتل كان كالبالغ في جميع ما ذكرناه إلا في القصاص فإن القصاص لا يجب على الصبى وإن كان صغيرا لا يميز أو أعجميا لا يعرف أن طاعة المولى لا تجوز في القتل لم تتعلق الجناية برقبته بل يتعلق حكم الجناية بالمولى
فإن كان موسرا أخذ منه الأرش وإن كان معسرا فقد قالالشافعي رحمه الله يباع العبد في أرش الجناية
فمن أصحابنا من حمله على ظاهره وقال يباع لانه قد باشر الجناية فبيع فيها
ومنهم من قال لا يباع لان القاتل في الحقيقة هو المولى وإنما هو آلة كالسيف وغيره وحمل قول الشافعى رحمه الله على أنه أراد إذا ثبت بالبينة أنه قتله فقال المولى أنا أمرته فقال يؤخذ منه الأرش إن كان موسرا بحكم إقراره وإن كان معسرا بيع العبد بظاهر البينة
والله أعلم
فصل الخصم في جناية العبد الراهن وإن جنى على العبد المرهون فالخصم في الجناية هو الراهن لانه هو المالك للعبد ولما يجب من بدله
فإن ادعى على رجل أنه جنى عليه فأنكره ولم تكن بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الراهن فإن نكل فهل ترد اليمين على المرتهن فيه قولان بناء على القولين في المفلس إذا ردت عليه اليمين فنكل فهل ترد على الغريم فيه قولان أحدهما لا ترد لانه غير مدع
والثاني ترد لانه ثبت له حق فيما يثبت باليمين فهو كالمالك
فإن أقر المدعى عليه أو قامت البينة عليه أو نكل وحلف الراهن أو المرتهن على أحد القولين
فإن كانت الجناية موجبة للقود فالراهن بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو فإن اقتص بطل الرهن وإن قال لا أقتص ولا أعفو ففيه وجهان قال أبو علي ابن أبي هريرة للمرتهن إجباره على اختيار القصاص أو أخذ المال لان له حقا في بدله فجاز له إجباره على تعيينه
وقال أبو القاسم الداركي إن قلنا إن الواجب بقتل العمد هو القود لم يملك إجباره لانه إذا ملك إسقاط القصاص فلأن يملك تأخيره أولى
وإن قلنا إن الواجب أحد الأمرين أجبر على التعيين لان له حقا هو القصاص وللمرتهن حقا هو المال فلزمه التعيين وإن عفى على مال أو كانت الجناية خطأ وجب الأرش وتعلق حق المرتهن به لان الأرش بدل عن المرهون فتعلق حق المرتهن به وإن أسقط المرتهن حقه من الوثيقة سقط لانه لو كان الرهن باقيا فأسقط حقه منه سقط فكذلك إذا أسقط من بدله
فإن أبرأ المرتهن الجاني من الأرش لم يصح إبراؤه لانه لا يملكه فلا ينفذ إبراؤه فيه كما لو كان الراهن باقيا فوهبه وهل يبطل بهذا الإبراء حقه من الوثيقة فيه وجهان أحدهما يبطل لان إبراءه تضمن إبطال حقه من الوثيقة فإذا سقط الإبراء بقي ما تضمنه من إبطال الوثيقة
والثاني لا يبطل لان الذى أبطله هو الإبراء والإبراء لم يصح فلم يبطل ما تضمنه فإن أبرأه الراهن من الأرش لم يصح إبراؤه لانه يبطل حق المرتهن من الوثيقة من غير رضاه فلم يصح كما لو كان الرهن باقيا فأراد أن يهبه فإن أبرأه ثم قضى دين المرتهن أو أبرأه المرتهن منه فهل ينفذ إبراء الراهن للجاني من الأرش فيه وجهان أحدهما ينفذ لان المنع منه لحق المرتهن وقد زال حق المرتهن فينفذ إبراء الراهن
والثاني أنه لا ينفذ لانا حكمنا ببطلانه فلا يجوز أن يحكم بصحته بعد الحكم ببطلانه كما لو وهب مال غيره ثم ملكه وإن أراد أن يصالحه عن الأرش على حيوان أو غيره من غير رضا المرتهن لم يجز لان حق المرتهن يتعلق بالقيمة فلا يجوز إسقاطه إلى بدل من غير رضاه كما لو كان الرهن باقيا فأراد أن يبيعه من غير رضاه
فإن رضي المرتهن بالصلح فصالح على حيوان تعلق به حق المرتهن وسلم
____________________
(1/315)
إلى من كان عنده الرهن ليكون رهنا مكانه فإن كان مما له منفعة انفرد الراهن بمنفعته وإن كان له نماء انفرد بنمائه كما كان ينفرد بمنفعة أصل الرهن ونمائه
فإن كان المرهون جارية فجنى عليها فأسقطت جنينا ميتا وجب عليه عشر قيمة الأم ويكون خارجا من الرهن لانه بدل عن الولد والولد خارج من الرهن فكان بدله خارجا منه
وإن كانت بهيمة فألقت جنينا ميتا وجب عليه ما نقص من قيمة الأم ويكون رهنا لانه بدل عن جزء من المرهون فإن ألقته حيا ثم مات ففيه قولان أحدهما يجب عليه قيمة الولد حيا لانه يمكن تقويمه فيكون للراهن فإن عفي عنه صح عفوه
والثاني يجب عليه أكثر الأمرين من قيمته حيا أو ما نقص من قيمة الأم فإن كان قيمته حيا أكثر وجب ذلك للراهن وصح عفوه عنه وإن كان ما نقص من قيمة الأم أكثر كان رهنا
فصل إن جنى على العبد المرهون ولم يعرف الجاني وإن جنى على العبد المرهون ولم يعرف الجاني فأقر رجل أنه هو الجاني فإن صدقه الراهن دون المرتهن كان الأرش له ولا حق للمرتهن فيه وإن صدقه المرتهن دون الراهن كان الأرش رهنا عنده فإن لم يقضه الراهن الدين استوفى المرتهن حقه من الأرش فإن قضاه الدين أو أبرأه منه المرتهن رد الأرش إلى المقر
فصل انقلاب العصير خمرا في الرهن فإن كان المرهون عصيرا فصار في يد المرتهن خمرا زال ملك الراهن عنه وبطل الرهن لانه صار محرما لا يجوز التصرف فيه فزال الملك فيه وبطل الرهن كالحيوان إذا مات فإن تخللت عاد الملك فيه لانه عاد مباحا يجوز التصرف فيه فعاد الملك فيه كجلد الميتة إذا دبغ ويعود رهنا لانه عاد إلى الملك السابق وقد كان في الملك السابق رهنا فعاد رهنا فإن كان المرهون حيوانا فمات وأخذ الراهن جلده ودبغه فهل يعود الرهن فيه وجهان قال أبو علي بن خيران يعود رهنا كما لو رهنه عصيرا فصار خمرا ثم صار خلا
وقال أبو إسحاق لا يعود الرهن لانه عاد الملك فيه بمعالجة وأمر أحدثه فلم يعد رهنا بخلاف الخمر فإنها صارت خلا بغير معنى من جهته
فصل في ضمان المرهون وإن تلف الرهن في يد المرتهن من غير تفريط تلف من ضمان الراهن ولا يسقط من دينه شيء لما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ( لا يغلق الرهن ممن رهنه ) ولانه وثيقة بدين ليس بعوض منه فلم يسقط الدين بهلاكه كالضامن
فإن غصب عينا ورهنها بدين ولم يعلم المرتهن وهلكت عنده من غير تفريط فهل يجوز للمالك أن يغرمه فيه وجهان أحدهما لا يغرمه لانه دخل على الأمانة
والثاني له أن يغرمه لانه أخذه من يد ضامنة
فإن قلنا إنه يغرمه فغرمه فهل يرجع بما غرم على الراهن فيه وجهان أحدهما يرجع لانه غره
والثاني لا يرجع لانه حصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن بدأ وغرم الراهن فإن قلنا إن المرتهن إذا غرم رجع على الراهن لم يرجع الراهن على المرتهن بما غرمه
وإن قلنا إن المرتهن إذا غرم لا يرجع على الراهن رجع عليه الراهن بما غرمه
فإن رهن عند رجل عينا وقال رهنتك هذا إلى شهر فإن لم أعطك مالك فهو لك بالدين فالرهن باطل لانه وقته والبيع باطل لانه علقه على شرط فإن هلك العين قبل الشهر لم يضمن لانه مقبوض بحكم الرهن فلم يضمنه كالمقبوض عن رهن صحيح وإن هلك بعد الشهر ضمنه لانه مقبوض بحكم البيع فضمنه كالمقبوض عن بيع صحيح
باب اختلاف المتراهنين إذا اختلف المتراهنان فقال الراهن ما رهنتك وقال المرتهن رهنتني فالقول قول الراهن مع يمينه لان الأصل عدم العقد
فصل وإذا اختلفا في عين الرهن فقال الراهن رهنتك العبد وقال المرتهن بل رهنتني الثوب فالقول قول الراهن إنه لم يرهن الثوب فإذا حلف خرج الثوب عن أن يكون رهنا بيمينه وخرج العبد عن أن يكون رهنا برد المرتهن
فصل في اختلافهم في قدر الرهن وإذا اختلفا في قدر الرهن فقال الراهن رهنتك هذا العبد وقال المرتهن بل رهنتني هذين العبدين فالقول قول الراهن لان الأصل عدم الرهن إلا فيما أقر به ولان كل من كان القول قوله إذا اختلفا في أصله كان القول قوله إذا اختلفا في قدره كالزوج في الطلاق
فإن رهنه أرضا وأقبضه ووجد فيها نخيل يجوز أن يكون حدث بعد الرهن ويجوز أن يكون قبله فقال الراهن حدث بعد الرهن فهو خارج من الرهن وقال المرتهن بل كان قبل الرهن ورهنتنيه مع الأرض فالقول قول الراهن وقال المزني
____________________
(1/316)
القول قول المرتهن لانه في يده وهذا خطأ لما ذكرناه في العبدين وقوله إنه في يده لا يصح لان اليد إنما يقدم بها في الملك دون العقد ولهذا لو اختلفا في أصل العقد كان القول قول الراهن
وإن كانت العين في يد المرتهن فإن رهن حمل شجرة تحمل حملين وحدث حمل آخر وقلنا إنه يصح العقد فاختلفا في مقدار الحمل الأول فالقول قول الراهن
وقال المزني القول قول المرتهن لانه في يده وهذا لا يصح لان الأصل أنه لم يدخل في العقد إلا ما أقر به وأما اليد فقد بينا أنه لا يرجح بها في العقد
فصل في اختلافهم في قدر الدين وإن اختلفا في قدر الدين فقال الراهن رهنتك هذا العبد بألف وقال المرتهن بل رهنتنيه بألفين فالقول قول الراهن لان الأصل عدم الألف فإن قال رهنته بألف وزادني ألفا آخر على أن يكون رهنا بالألفين وقال المرتهن بل رهنتني بالألفين وقلنا لا تجوز الزيادة في الدين في رهن واحد ففيه وجهان أحدهما أن القول قول الراهن لانهما لو اختلفا في أصل العقد كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في صفته
والثاني أن القول قول المرتهن لانهما اتفقا على صحة الرهن والدين والراهن يدعي أن ذلك كان في عقد آخر والأصل عدمه فكان القول قول المرتهن فإن بعث عبده مع رجل ليرهنه عند رجل بمال ففعل ثم اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن أذنت له في الرهن بعشرة وقال المرتهن بل بعشرين نظرت فإن صدق الرسول الراهن حلف الرسول أنه ما رهن إلا بعشرة ولا يمين على الراهن لانه لم يعقد العقد وإن صدق الرسول المرتهن فالقول قول الراهن مع يمينه فإذا حلف بقي الرهن على عشرة وعلى الرسول عشرة لانه أقر بقبضها
فصل اختلافهم في أصل الرهن قال في الأم إذا كان في يد رجل عبد لآخر فقال رهنتنيه بألف وقال السيد بل بعتكه بألف حلف السيد أنه ما رهنه بألف لان الأصل عدم الرهن ويحلف الذي في يده العبد أنه ما اشتراه لان الأصل عدم الشراء ويأخذ السيد عبده فإن قال السيد رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا وقال الذي في يده العبد بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمنا حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعي عليه لان الأصل عدم العقد وعلى السيد الألف لانه مقر بوجوبها فإن قال الذي في يده العبد بعتنيه بألف وقال السيد بل رهنتكه بألف حلف السيد أنه ما باعه فإذا حلف خرج العبد من يد من هو في يده لان البيع قد زال والسيد معترف بأنه رهن والمرتهن ينكر ومتى أنكر المرتهن الرهن زال الرهن
فصل اختلافهم في القبض وإن اتفقا على رهن عين ثم وجدت العين في يد المرتهن فقال الراهن قبضته بغير إذني وقال المرتهن بل قبضته بإذنك فالقول قول الراهن لان الأصل عدم الإذن ولانهما لو اختلفا في أصل العقد والعين في يد المرتهن كان القول قول الراهن فكذلك إذا اختلفا في الإذن
فإن اتفقا على الإذن فقال الراهن رجعت في الإذن قبل القبض وقال المرتهن لم ترجع حتى قبضت فالقول قول المرتهن لان الأصل بقاء الإذن
وإن اتفقا على الإذن واختلفا في القبض فقال الراهن لم تقبضه وقال المرتهن بل قبضت فإن كانت العين في يد الراهن فالقول قوله لان الأصل عدم القبض وإن كان في يد المرتهن فالقول قوله لانه أذن في قبضه والعين في يده فالظاهر أنه قبضه بحق فكان القول قوله
وإن قال رهنته وأقبضته ثم رجع وقال ما كنت أقبضته حلفوه أنه قبعض فالمنصوص أنه يحلف
وقال أبو إسحاق إن قال وكيلي أقبضه وبان لي أنه لم يكن أقبضه حلف وعليه تأول النص
وإن قال أنا أقبضته ثم رجع لم يحلف لان إقراره المتقدم يكذبه
وقال أبو علي بن خيران وعامة أصحابنا إنه يحلف لانه يمكن صدقه بأن يكون قد وعده بالقبض فأقر به ولم يكن قبض
فصل اختلافهم في انقلاب العصير خمرا وإن رهن عصيرا وأقبضه ثم وجده خمرا في يد المرتهن فقال أقبضتنيه وهو خمرا فلي الخيار في فسخ البيع وقال الراهن بل أقبضتكه وهو عصير فصار في يدك خمرا فلا خيار لك ففيه قولان أحدهما أن القول قول المرتهن وهو اختيار المزني لان الراهن يدعي قبضا صحيحا والأصل عدمه
والثاني أن القول قول الراهن وهو الصحيح لانهما اتفقا على العبد والقبض واختلفا في صفة يجوز حدوثها فكان القول قول من ينفي الصفة كما لو اختلف البائع والمشتري في عيب بعد القبض
وإن اختلفا في العقد فقال المرتهن رهنتنيه وهو خمر وقال الراهن بل رهنتكه وهو عصير فصار عندك خمرا فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أكثرهم هي على قولين
وقال أبو علي بن أبي هريرة القول قول المرتهن قولا واحدا لانه ينكر العقد والأصل عدمه فإن رهن عبدا فأقبضه في محمل أو ملفوفا في ثوب ووجد ميتا فقال المرتهن أقبضتنيه وهو ميت فلي الخيار في فسخ البيع وقال الراهن أقبضتكه حيا ثم مات عندك فلا خيار لك ففيه طريقان أحدهما وهو الصحيح أنه على القولين كالعصير
والثاني
____________________
(1/317)
وهو قول أبي علي الطبري أن القول قول المرتهن لان هذا اختلاف في أصل القبض لان الميت لا يصح قبضه لانه لا يقبض إلا ظاهرا بخلاف العصير فإنه يقبض في الظرف والظاهر منه الصحة
فصل في إن كان لرجل عبد وعليه ألفان لرجلين وإن كان لرجل عبد وعليه ألفان لرجلين لكل واحد منهما ألف فادعى كل واحد منهما أنه رهن العبد عنده بدينه والعبد في يد الراهن أو في يد العدل نظرت فإن كذبهما فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم الرهن وإن صدقهما وادعى الجهل بالسابق منهما فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف فسخ الرهن على المنصوص لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فبطل كما لو زوج امرأة وليان من رجلين وجهل السابق منهما
ومن أصحابنا من قال يجعل بينهما نصفين لانه يجوز أن يكون مرهونا عندهما بخلاف الزوجة وإن صدق أحدهما وكذب الآخر أو صدقهما وعين السابق منهما فالرهن للمصدق السابق وهل يحلف للآخر فيه قولان أحدهما يحلف
والثاني لا يحلف بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو فهل يغرم لعمرو شيئا أم لا فيه قولان فإن قلنا لا يغرم لم يحلف لانه إن نكل لم يغرم فلا فائدة في عرض اليمين
وإن قلنا يغرم حلف لانه ربما نكل فيغرم للثاني قيمته فإن قلنا لا يحلف فلا كلام وإن قلنا يحلف نظرت فإن حلف انصرف الآخر وإن نكل عرضت اليمين على الثاني فإن نكل انصرف وإن حلف بنينا على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
فإن قلنا إنها كالبينة نزع العبد وسلم إلى الثاني وإن قلنا إنه كالإقرار ففيه ثلاثة أوجه أحدهما أنه ينفسخ لانه أقر لهما وجهل السابق منهما
والثاني يجعل بينهما لانهما استويا ويجوز أن يكون مرهونا عندهما فجعل بينهما
والثالث يقر الرهن في يد المصدق ويغرم للآخر قيمته ليكون رهنا عنده لانه جعل كأنه أقر بأنه حال بينه وبين الرهن فلزمه ضمانه
وإن كان العبد في يد أحد المرتهنين نظرت فإن كان في يد المقر له أقر في يده لانه اجتمع له اليد والإقرار وهل يحلف للثاني على القولين فإن كان في يد الذى لم يقر له فقد حصل لاحدهما اليد وللآخر الإقرار وفيه قولان أحدهما يقدم الإقرار لانه يخبر عن أمر باطن
والثاني يقدم اليد وهو قول المزني لان الظاهر معه والأول أظهر لان اليد إنما تدل على الملك لا على العقد وإن كان في يدهما فللمقر له الإقرار واليد على النصف وفى النصف الآخر له الإقرار وللآخر يد وفيه قولان أحدهما يقدم الإقرار فيصير الجميع رهنا عند المقر له
والثاني يقدم اليد فيكون الرهن بينهما نصفين
فصل إذا رهن عبدا وأقبضه ثم أقر أنه جنى وإن رهن عبدا وأقبضه ثم أقر أنه جنى قبل الرهن على رجل وصدقه المقر له وأنكر المرتهن ففيه قولان أحدهما أن القول قول المرتهن وهو اختيار المزني لانه عقد إذا تم منع البيع فمنع الإقرار كالبيع
والثاني أن القول قول الراهن لانه أقر في ملكه بما لا يجر نفعا إلى نفسه فقبل إقراره كما لو لم يكن مرهونا ويخالف هذا إذا باعه لان هناك زال ملكه عن العبد فلم يقبل إقراره عليه وهذا باق على ملكه فقبل إقراره عليه
فإن قلنا إن القول قول الراهن فهل يحلف فيه قولان أحدهما لا يحلف لان اليمين إنما يعرض ( عليه ) ليخاف فيرجع إن كان كاذبا والراهن لو رجع لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين ولانه أقر في ملكه لغيره فلم يحلف عليه كالمريض إذا أقر بدين
والثاني يحلف لانه يحتمل أن يكون كاذبا بأن واطأ المقر له ليسقط بإقرار حق المرتهن فحلف فإذا ثبت أنه رهنه وهو جان ففي رهن الجاني قولان أحدهما أنه باطل
والثاني أنه ( صحيح ) وقد بينا ذلك في أول الرهن
فإن قلنا إنه باطل وجب بيعه في أرش الجناية فإن استغرق الأرش قيمته بيع الجميع وإن لم يستغرق بيع منه بقدر الأرش وفي الباقي وجهان أحدهما أنه مرهون لانه إنما حكم ببطلانه بحق المجني عليه وقد زال
والثاني أنه لا يكون مرهونا لانا حكمنا ببطلان الرهن من أصله فلا يصير مرهونا من غير عقد
وإن قلنا إنه صحيح فإن استغرق الأرش قيمته بيع الجميع وإن لم يستغرق بيع منه بقدر الأرش ويكون الباقي مرهونا
فإن اختار السيد أن يفديه على هذا القول فبكم يفديه فيه قولان أحدهما يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية
والثاني يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلم المبيع
فإن قلنا إن القول قول المرتهن لم يقبل قوله من غير يمين لانه لو رجع قبل رجوعه فحلف فإذا ثبت أنه غير جان فهل يغرم الراهن أرش الجناية ففيه قولان بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو
أحدهما يغرم لانه منع بالرهن حق المجنى عليه
والثاني لا يغرم لانه إن كان كاذبا فلا حق عليه وإن كان صادقا وجب تسليم العبد
فإن قلنا إنه لا يغرم فرجع إليه تعلق الأرش برقبته كما لو أقر على رجل أنه أعتق
____________________
(1/318)
عبده ثم ملك العبد فإنه يعتق عليه وإن قلنا يغرم فكم يغرم فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالقسم قبله
ومنهم من قال يغرم أقل الأمرين قولا واحدا لان القول الثاني إنما يجيء في الموضع الذي يمكن بيعه فيمتنع وههنا لا يمكن بيعه فصار كجناية أم الولد
وإن نكل المرتهن عن اليمين فعلى من ترد اليمين فيه طريقان أحدهما ترد على الراهن وإن نكل فهل ترد على المجني عليه فيه قولان كما قلنا في غرماء الميت
ومن أصحابنا من قال ترد اليمين على المجني عليه أولا فإن نكل فهل ترد على الراهن على قولين لان المجني عليه يثبت الحق لنفسه وغرماء الميت يثبتون الحق للميت
فصل اختلافهم في عتق المرهون وإن أعتق الراهن العبد المرهون ثم اختلفا فقال الراهن أعتقته بإذنك وأنكر المرتهن الإذن فالقول قوله لان الأصل عدم الإذن فإن نكل عن اليمين حلف الراهن وإن نكل الراهن فهل ترد على العبد فيه طريقان أحدهما أنه على قولين بناء على رد اليمين على غرماء الميت
قال في الجديد لا ترد لانه غير المتراهنين فلا ترد عليه اليمين
وقال في القديم ترد لانه يثبت لنفسه حقا باليمين
ومن أصحابنا من قال ترد اليمين على العبد قولا واحدا لان العبد يثبت باليمين حقا لنفسه وهو العتق خلاف غرماء الميت
فصل اختلافهم في وطء الجارية وإن كان المرهون جارية فادعى الراهن أنه وطئها بإذن المرتهن فأتت بولد لمدة الحمل وصدقه المرتهن ثبت نسب الولد وصارت الجارية أم ولد
وإن اختلفا في الإذن أو في الولد أو في مدة الحمل فأنكر المرتهن شيئا من ذلك فالقول قوله لان الأصل في هذه الأشياء العدم
فصل فإن كان عليه ألف درهم برهن وألف بغير رهن فدفع إليه ألفا ثم اختلفا نظرت فإن اختلفا في اللفظ فادعى المرتهن أنه قال هي عن الألف التي لا رهن بها وقال الراهن بل قلت هي عن الألف التي بها الرهن فالقول قول الراهن لانه منه ينتقل إلى المرتهن فكان القول قوله في صفة النقل وإن اختلفا في النية فقال الراهن نويت أنها عن الألف التي بها الرهن وقال المرتهن بل نويت أنها عن الألف التي لا رهن بها فالقول قول الراهن لما ذكرناه في اللفظ ولانه أعرف بنيته
وإن دفع إليه الألف من غير لفظ ولا نية ففيه وجهان قال أبو إسحاق يصرفه إلى ما شاء منهما كما لو طلق إحدى المرأتين
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجعل بينهما نصفين لانهما استويا في الوجوب فصرف القضاء إليهما
فصل إبراء المرتهن الراهن وإن أبرأ المرتهن الراهن عن الألف ثم اختلفا نظرت فإن اختلفا في اللفظ فادعى الراهن أنه قال أبرأتك عن الألف التي بها الرهن وقال المرتهن بل قلت أبرأتك من الألف التي لا رهن بها فالقول قول المرتهن لانه هو الذي يبرىء فكان القول في صفة الإبراء قوله
فإن اختلفا في النية فقال الراهن نويت الإبراء عن الالف التي بها الرهن وقال المرتهن نويت الإبراء عن الألف التي لا رهن بها فالقول قول المرتهن لما ذكرناه في اللفظ ولانه أعرف بنيته فإن أطلق صرفه إلى ما شاء منهما في قول أبي إسحاق وجعل بينهما في قول أبي علي بن أبي هريرة
فصل ادعى المرتهن هلاك الرهن وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن فالقول قوله مع يمينه لانه أمين فكان القول قوله في الهلاك كالمودع
وإن ادعى الرد لم يقبل قوله لانه قبض العين لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر
فصل وإن كان الرهن على يد عدل قد وكل في بيعه فاختلفا في النقد الذي يبيع به باعه بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان متساويان باع بما هو أنفع للراهن لانه ينفع الراهن ولا يضر المرتهن فوجب به البيع فإن كانا في النفع واحدا فإن كان أحدهما من جنس الدين باع به لانه أقرب إلى المقصود وهو قضاء الدين فإن لم يكن واحد منهما من جنس الدين باع بأيهما شاء لانه لا مزية لاحدهما على الآخر ثم يصرف الثمن في جنس الدين
باب التفليس إذا كان على رجل دين فإن كان مؤجلا لم يجز مطالبته لانا لو جوزنا مطالبته سقطت فائدة التأجيل فإن أراد سفرا قبل محل الدين لم يكن للغريم منعه
ومن أصحابنا من قال إن كان السفر مخوفا كان له منعه لانه لا يأمن أن يموت فيضيع دينه والصحيح
____________________
(1/319)
هو الأول لانه لا حق له عليه قبل محل الدين وجواز أن يموت لا يمنع من التصرف في نفسه قبل المحل كما يجوز في الحضر أن يهرب ثم لا يملك حبسه لجواز الهرب
وإن قال أقم لي كفيلا بالمال لم يلزمه لانه لم يحل عليه الدين فلم يملك المطالبة بالكفيل كما لو لم يرد السفر
وإن كان الدين حالا نظرت فإن كان معسرا لم يجز مطالبته لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولا يملك ملازمته لان كل دين لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدين المؤجل
فإن كان يحسن صنعة فطلب الغريم أن يؤجر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك لانه إجبار على التكسب فلم يجز كالإجبار على التجارة
وإن كان موسرا جازت مطالبته لقوله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة لم يجب إنظاره فإن لم يقضه ألزمه الحاكم فإن امتنع فإن كان له مال ظاهر باعه عليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه أن يقال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد رين به فمن له دين فليحضر فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه
وإن كان له مال كتمه حبسه وعزره حتى يظهره فإن ادعى الإعسار نظرت فإن لم يعرف له قبل ذلك مال فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم المال
فإن عرف له مال لم يقبل قوله لانه معسر إلا ببينة لان الأصل بقاء المال
فإن قال غريمي يعلم أني معسر أو أن مالي هلك فحلفوه حلف لان ما يدعيه محتمل
فإن أراد أن يقيم البينة على هلاك المال قبل فيه شهادة عدلين فإن أراد أن يقيم البينة على الإعسار لم يقبل إلا بشهادة عدلين من أهل الخبرة والمعرفة بحاله لان الهلاك يدركه كل أحد والإعسار لا يعلمه إلا من يخبر باطنه
فإن أقام البينة على الإعسار وادعى الغريم أن له مالا باطنا فطلب اليمين عليه ففيه قولان أحدهما لا يحلف لانه أقام البينة على ما ادعاه فلا يحلف كما لو ادعى ملكا وأقام عليه البينة
والثاني يحلف لان المال الباطن يجوز خفاؤه على الشاهدين فجاز عرض اليمين فيه عند الطلب كما لو أقام عليه البينة بالدين وادعى أنه أبرأه منه
وإن وجد في يده مال فادعى أنه لغيره نظرت فإن كذبه المقر له بيع في الدين لان الظاهر أنه له وإن صدقه سلم إليه
فإن قال الغريم أحلفوه لى أنه صادق في إقراره ففيه وجهان أحدهما يحلف لانه يحتمل أن يكون كاذبا في إقراره
والثاني لا يحلف وهو الصحيح لان اليمين تعرض ليخاف فيرجع عن الإقرار ولو رجع عن الإقرار لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين
فصل الحجر بالدين وإن ركبته الديون ورفعه الغرماء إلى الحاكم وسألوه أن يحجر عليه نظر الحاكم في ماله فإن كان له مال يفي بالديون لم يحجر عليه لانه لا حاجة به إلى الحجر بل يأمره بقضاء الدين على ما بيناه
فإن كان ماله لا يفي بالديون حجر عليه وباع ماله عليه لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله
____________________
(1/320)
في الدين فكلم النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء
وروى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ماله
وإن كان ماله يفي بالديون إلا أنه ظهرت عليه أمارة التفليس بأن زاد خرجه على دخله ففيه وجهان أحدهما لا يحجر عليه لانه ملىء بالدين فلا يحجر عليه كما لو لم يظهر فيه أمارة الفلس
والثاني يحجر عليه لانه إذا لم يحجر عليه أتى الخرج على ماله فذهب ودخل الضرر على الغرماء
فصل الشهادة على الحجر والمستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس حاله فلا يعاملوه إلا على بصيرة فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف فيه فإن اقترض أو اشترى في ذمته شيئا صح لانه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت في ذمته ومن باعه أو أقرضه بعد الحجر لم يشارك الغرماء في ماله لانه إن علم بالحجر فقد دخل على بصيرة وأن ديون الغرماء متعلقة بماله وإن لم يعلم فقد فرط حين دخل في معاملته على غير بصيرة فلزمه الصبر إلى أن يفك عنه الحجر
فإن تصرف في المال بالبيع والهبة والعتق ففيه قولان أحدهما أنه صحيح موقوف لانه حجر ثبت لحق الغرماء فلم يمنع صحة التصرف في المال كالحجر على المريض
والثاني لا يصح وهو الصحيح لانه حجر ثبت بالحاكم فمنع ( من ) التصرف في المال كالحجر على السفيه ويخالف حجر المريض لان ( الورثة ) لا تتعلق حقوقهم بماله إلا بعد الموت وههنا حقوق الغرماء تعلقت بماله في الحال فلم يصح تصرفه فيه كالمرهون فإن قلنا يصح تصرفه وقف فإن وفى ماله بالدين نفذ تصرفه وإن لم يف فسخ لانا جوزنا تصرفه رجاء أن تزيد قيمة المال أو يفتح عليه بما يقضي به الدين فإذا عجز فسخ كما نقول في هبة المريض
قال أصحابنا وعلى هذا ينقض من تصرفه الأضعف فالأضعف ( فأضعفها ) الهبة لانه لا عوض فيه ثم البيع لانه يلحقه الفسخ ثم العتق لانه أقوى التصرفات ( قال الشيخ أيده الله ) ويحتمل عندي أنه يفسخ الآخر فالآخر كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث
فصل قال الشافعي رحمه الله ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فله إجازة البيع ورده
فمن أصحابنا من حمل هذا على ظاهره وقال له أن يفعل ما يشاء لان الحجر إنما يؤثر في عقد مستأنف وهذا عقد سبق الحجر فلم يؤثر الحجر فيه
وقال أبو إسحاق إن كان الحظ في الرد لم يجز وإن كان في الإجازة لم يرد لان الحجر يقتضي طلب الحظ فإذا طرأ في بيع الخيار أوجب طلب الحظ كما لو باع بشرط الخيار ثم جن فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ من الرد والإجازة
ومن أصحابنا من قال إن قلنا إن المبيع انتقل بنفس العقد لم يجب الرد وإن كان الحظ في الرد لان الملك قد انتقل فلا يكلف رده وحمل قول الشافعي رحمه الله على هذا القول
وإن قلنا إن المبيع لم ينتقل أو موقوف لزمه الرد إن كان الحظ في الرد لان المبيع على ملكه فلا يفعل إلا ما فيه الحظ
فصل هبة الثواب في حالة الإفلاس وإن وهب هبة تقتضي الثواب وقلنا إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب ثم أفلس فله أن يرضى بما شاء لانا لو ألزمناه أن يطلب الفضل لالزمناه أن يكتسب والمفلس لا يكلف الاكتساب
فصل يؤخذ بإقراره قبل الحجر وإن أقر بدين لزمه قبل الحجر لزم الإقرار في حقه وهل يلزم في حق الغرماء فيه قولان أحدهما لا يلزم لانه متهم لانه ربما واطأ المقر له ليأخذ ما أقر به ويرد عليه
والثاني أنه يلزمه وهو الصحيح لانه حق يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر فلزم في حق الغرماء كما لو ثبت بالبينة وإن ادعى عليه رجل مالا وأنكر ولم يحلف وحلف المدعي فإن قلنا إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة شارك الغرماء في المال
وإن قلنا كالإقرار فعلى القولين في الإقرار
وإن أقر لرجل بعين لزمه الإقرار في حقه وهل يلزم في حق الغرماء فيه قولان أحدهما لا يلزم
والثاني يلزم وتسلم العين إلى المقر له ووجه القولين ما ذكرناه في الإقرار بالدين
فصل جناية المفلس وإن جنى على رجل جناية توجب المال وجب قضاء الأرش من المال لانه حق لزمه بغير رضي من له الحق فوجب قضاؤه من المال وإن جنى عليه جناية توجب المال تعلق حق الغرماء بالأرش كما يتعلق بسائر أمواله
فصل إذا ادعى على رجل مالا وإن ادعى على رجل مالا وله شاهد فإن حلف استحق وتعلق به حق الغرماء
وإن لم يحلف فهل تحلف الغرماء أم لا قال في التفليس لا يحلفون وقال في غرماء الميت إذا لم يحلف الوارث مع الشاهد ففيه قولان أحدهما يحلفون
والثاني لا يحلفون فمن
____________________
(1/321)
أصحابنا من نقل أحد القولين من غرماء الميت إلى غرماء المفلس فجعل فيهما قولين أحدهما يحلفون لان المال إذا ثبت استحقوه
والثاني لا يحلفون لانهم يحلفون لاثبات المال لغيرهم وذلك لا يجوز
ومن أصحابنا من قال لا تحلف غرماء المفلس وفي غرماء الميت قولان لان الميت لم يمتنع من اليمين فحلف غرماؤه والمفلس امتنع من اليمين فلم تحلف غرماؤه ولان غرماء الميت أيسوا من يمين الميت فحلفوا وغرماء المفلس لم ييأسوا من يمين المفلس فلم يحلفوا
وإن حجر عليه وعليه دين مؤجل فهل يحل فيه قولان أحدهما يحل لان الدين تعلق بالمال فحل الدين المؤجل كما لو مات
والثاني لا يحل وهو الصحيح لانه يملك التصرف في الذمة فلم يحل عليه الدين كما لو لم يحجر عليه
فصل فيما يترك للمفلس وإن لم يكن له كسب ترك له ما يحتاج إليه للنفقة إلى أن يفك الحجر عنه ويرجع إلى الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك ثم بمن تعول فقدم حق نفسه على حق العيال وهو دين فدل على أنه يقدم على كل دين ويكون الطعام على ما جرت به عادته ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة من غير إسراف ولا إجحاف لان الحاجة إلى الكسوة كالحاجة إلى القوت
فإن كان له من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب ترك لهم ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة بالمعروف لانهم يجرون مجراه في النفقة والكسوة ولا تترك له دار ولا خادم لانه يمكنه أن يكتري دارا يسكنها وخادما يخدمه
وإن كان له كسب جعلت نفقته في كسبه لانه لا فائدة في إخراج ماله في نفقته وهو يكتسب ما ينفق
فصل المستحب أن يحضر المفلس وإذا أراد الحاكم بيع ماله فالمستحب أن يحضره لانه أعرف بثمن ماله فإن لم يكن من يتطوع بالنداء استؤجر من ينادي عليه من سهم المصالح لان ذلك من المصالح فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق فإن لم يكن سهم المصالح اكترى من مال المفلس لانه يحتاج إليه لإيفاء ما عليه فكان عليه ويقدم على سائر الديون لان في ذلك مصلحة له
ويباع كل شيء في سوقه لان أهل السوق أعرف بقيمة المتاع ومن يطلب السلعة في السوق أكثر ويبدأ بما يسرع إليه الفساد لانه إذا أخر ذلك هلك وفي ذلك إضرار وقد قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار ثم بالحيوان لانه يحتاج إلى علف ويخاف عليه التلف
ويتأنى عقار لانه إذا تأنى به كثر من يطلبه ولا يتأنى به أكثر من ثلاثة أيام لان فيما زادا إضرار بالغرماء في تأخير حقهم
فإن كان في المال رهن أو عبد تعلق الأرش برقبته بيع في حق المرتهن والمجني عليه لان حقهما يختص بالعين فقدم
وإن بيع له متاع وقبض ثمنه فهلك الثمن واستحق المبيع رجع المشترى بالعهدة في مال المفلس
وهل يقدم على سائر الغرماء روى المزني أنه يقدم وروى الربيع أنه أسوة بالغرماء فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يقدم لان في تقديمه مصلحة فإنه متى لم يقدم تجنب الناس شراء ماله خوفا من الاستحقاق فإذا قدم رغبوا في شراء ماله
والثاني أنه أسوة بالغرماء لان هذا دين تعلق بذمته بغير رضى من له الحق فضرب به مع الغرماء كأرش الجناية
ومنهم من قال إن لم يفك الحجر عنه قدم لان فيه مصلحة له وإن فك الحجر عنه كان كسائر الغرماء وحمل رواية الربيع على هذا
فصل إذا كان في الغرماء من باع منه شيئا قبل الإفلاس وإن كان في الغرماء من باع منه شيئا قبل الإفلاس ولم يأخذ من ثمنه شيئا ووجد عين ماله على صفته ولم يتعلق به حق غيره فهو بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع ويرجع في عين ماله لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من باع سلعة ثم أفلس صاحبها فوجدها بعينها فهو أحق بها من الغرماء وهل يفتقر الفسخ إلى إذن الحاكم فيه وجهان
قال أبو إسحاق لا يفسخ إلا بإذن الحاكم لانه مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كفسخ النكاح بالإعسار بالنفقة
وقال أبو القاسم الداركي لا يفتقر إلى الحاكم لانه فسخ ثبت بنص السنة فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد فإن حكم حاكم بالمنع من الفسخ فقد قال أبو سعيد الإصطخري ينقض حكمه لانه حكم مخالف لنص السنة ويحتمل ألا ينقض لانه مختلف فيه فلم ينقض
وهل يكون الفسخ على الفور أو على التراخى فيه وجهان أحدهما أنه على التراخي لانه خيار لا يسقط إلى بدل فكان على التراخي كخيار الرجوع في الهبة
والثاني أنه على الفور لانه خيار ثبت لنقص في العوض فكان على الفور كخيار الرد بالعيب
وهل يصح الفسخ بالوطء في الجارية فيه وجهان أحدهما يصح كما يصح الفسخ بالوطء في خيار الشرط
____________________
(1/322)
والثاني أنه لا يصح لانه ملك مستقر فلا يجوز رفعه بالوطء
وإن قال الغرماء نحن نعطيك الثمن ولا نفسخ لم يسقط حقه من الفسخ لانه ثبت له حق الفسخ فلم يسقط ببدل العوض كالمشتري إذا وجد بالسلعة عيبا وبذل له البائع الأرش
فصل فيما إذا باعه بعد الإفلاس وإن كان قد باعه بعد الإفلاس ففيه وجهان أحدهما أن له أن يفسخ لانه باعه قبل وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة بفقير ثم أعسر بالنفقة
والثاني أنه ليس له أن يفسخ لانه باعه مع العلم بخراب ذمته فسقط خياره كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها
فصل إذا قبض من الثمن بعضه وإن وجد المبيع وقد قبض من الثمن بعضه رجع بحصة ما بقي من الثمن لانه إذا رجع بالجميع إذا لم يقبض جميع الثمن رجع في بعضه إذا لم يقبض بعض الثمن
وإن كان المبيع عبدين متساويي القيمة وباعهما بمائة وقبض من الثمن خمسين ثم مات أحد العبدين وأفلس المشتري فالمنصوص في التفليس أنه يأخذ ( الباقي ) بما بقي من الثمن ونص في الصداق إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما ثم طلقها قبل الدخول على قولين أحدهما أنه يأخذ الموجود بنصف الصداق مثل قوله في التفليس
والثاني أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف
فمن أصحابنا من نقل هذا القول إلى البيع وقال فيه قولان أحدهما أنه يأخذ نصف الموجود ويضرب مع الغرماء بنصف ثمن التالف وهو اختيار المزني رحمه الله لان البائع قبض الخمسين من ثمنهما وما قبض من ثمنه لا يرجع به
والثاني أنه يأخذ الموجود بما بقي لان ما أخذ جميعه لدفع الضرر إذا كان باقيا أخذ الباقي إذا هلك بعضه كالشقص في الشفعة
ومن أصحابنا من قال يأخذ البائع الموجود بما بقي من الثمن قولا واحدا و في الصداق قولان
والفرق بينهما أن البائع إذا رجع بنصف الموجود ونصف بدل التالف لم يصل إلى كمال حقه لان غريمه مفلس
والزوج إذا رجع بنصف الموجود ونصف قيمة التالف وصل إلى جميع حقه لان الزوجة موسرة فلم يجز له الرجوع بجميع الموجود بنصف المهر
فصل إذا وجد البائع عين ماله وإن وجد البائع عين ماله وهو رهن لم يرجع به لان حق المرتهن سابق لحقه فلم يملك إسقاطه بحقه
فإن أمكن أن يقضي حق المرتهن ببيع بعضه بيع منه بقدر حقه ويرجع البائع بالباقي لان المنع كان لحق المرتهن وقد زال
فصل فيما إذا كان المبيع شقصا وإن كان المبيع شقصا تثبت فيه الشفعة ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الشفيع أحق لان حقه سابق فإنه يثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالحجر فقدم حق الشفيع
والثاني أن البائع أحق لانه إذا أخذ الشفيع الشقص زال الضرر عنه وحده وإذا أخذه البائع زال الضرر عنهما لان البائع يرجع إلى عين ماله والشفيع يتخلص من ضرر المشتري فيزول الضرر عنهما
والثالث أنه يدفع الشقص إلى الشفيع ويؤخذ منه ثمنه ويدفع إلى البائع لان في ذلك جمعا بين الحقين وإذا أمكن الجمع بين الحقين لم يجز إسقاط أحدهما
فصل فيما إذا كان المبيع صيدا وصاحبه محرم وإن كان المبيع صيدا والبائع محرم لم يرجع فيه لانه تمليك صيد فلم يجز مع الإحرام كشراء الصيد
فصل وإن وجد عين ماله ودينه مؤجل وقلنا إن الدين المؤجل لا يحل وديون الغرماء حالة فالمنصوص أنه يباع المبيع في الديون الحالة لانها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل
ومن أصحابنا من قال لا يباع بل يوقف إلى أن يحل فيختار البائع الفسخ أو الترك وإليه أشار في الإملاء لان بالحجر تتعلق الديون بماله فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل فلا يباع في الديون الحالة
فصل فيما إذا وجد المبيع وقد باعه المشتري ورجع إليه وإن وجد المبيع وقد باعه المشتري ورجع إليه ففيه وجهان أحدهما أن له أن يرجع فيه لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره فأشبه إذا لم يبعه
والثاني لا يرجع لان هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه
فصل إذا وجد المبيع ناقصا وإن وجد المبيع ناقصا نظرت فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن كعبدين تلف أحدهما أو نخلة مثمرة تلفت ثمرتها فالبائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع فيما بقي بحصته من الثمن ويضرب مع الغرماء بثمن ما تلف لان البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشتري المبيع في يد البائع بالثمن ثم المشتري
____________________
(1/323)
إذا وجد أحد ( العينين ) في يد البائع والآخر هالكا كان بالخيار بين أن يترك الباقي ويطالب بجميع الثمن وبين أن يأخذ الموجود بثمنه ويطالب بثمن التالف فكذلك البائع
وإن كان المبيع نخلا مع ثمرة مؤبرة فهلكت التمرة قوم النخل مع الثمرة ثم يقوم بلا ثمرة ويرجع بما بينهما من الثمن وتعتبر القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض فإن كانت قيمته وقت العقد أقل قوم وقت العقد لان الزيادة حدثت في ملك المشتري فلا تقوم عليه
وإن كانت في وقت القبض أقل قوم في وقت القبض لان ما نقص لم يقبضه المشتري فلم يضمنه فإن كان نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن كذهاب يد وتأليف دار نظرت فإن لم يجب لها أرش بأن أتلفها المشتري أو ذهبت بآفة سماوية فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويضرب بالثمن مع الغرماء كما تقول فيمن اشترى عبدا فذهبت يده أو دارا فذهب تأليفها في يد البائع فإن المشتري بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويرجع بالثمن
فإن وجب لها أرش بأن أتلفها أجنبي فالبائع بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذ ويضرب بما نقص من الثمن لان الأرش في مقابلة جزء كان البائع يستحقه فاستحق ما يقابله كما نقول فيمن اشترى عبدا فقطع الأجنبي يده أنه بالخيار بين أن يتركه ويرجع بالثمن وبين أن يأخذه ويطالب الجاني بالأرش غير أن المشتري يرجع على الجاني بقيمة اليد لانها تلفت في ملكه فوجب له البدل والبائع يرجع بحصة اليد من الثمن لانها تلفت في ملك المفلس فوجب الأرش له فيرجع البائع عليه بالحصة من الثمن لان المبيع مضمون على المفلس بالثمن
فإن كان المبيع نخلا عليه طلع غير مؤبر فهلكت الثمرة أفلس بالثمن فرجع البائع في النخل ففيه وجهان أحدهما يأخذها بجميع الثمن لان الثمرة تابعة للأصل في البيع فلم يقابلها قسط من الثمن
والثاني يأخذها بقسطها من الثمن ويضرب بحصة الثمرة مع الغرماء لان الثمرة يجوز إفرادها بالبيع فصارت مع النخل بمنزلة العينين
فصل إذا وجد زيادة في المبيع وإن وجد المبيع زائدا نظرت فإن كانت زيادة غير متميزة كالسمن والكبر واختار البائع الفسخ رجع في المبيع مع الزيادة لانها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب
وإن كان المبيع حبا فصار زرعا أو زرعا فصار حبا أو بيضا فصار فرخا ففيه وجهان أحدهما لا يرجع به لان الفرخ غير البيض والزرع غير الحب
والثاني يرجع وهو المنصوص لان الفرخ والزرع عين المبيع وإنما تغيرت صفته فهو كالودي إذا صار نخلا والجدي إذا صار شاة
وإن كانت الزيادة متميزة نظرت فإن كانت ظاهرة كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار رجع فيه دون الزيادة لانه نماء ظاهر متميز حدث في ملك المشتري فلم يتبع الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب
فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعها قطع وإن اتفقوا على تركها إلى الجداد ترك لانه ملك أحدهما وحق الآخر وإن دعا أحدهما إلى قطعها والآخر إلى تركها وجب القطع لأن من دعا إلى القطع تعجل حقه فلا يؤخر بغير رضاه
وإن كانت الزيادة غير ظاهرة كطلع غير مؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه قولان روى الربيع أنه يرجع في النخل دون الطلع لان الثمرة ليست عين ماله فلم يرجع بها
وروى المزني أنه يرجع لانه يتبع الأصل في البيع فتبعه في الفسخ كالسمن والكبر فإذا قلنا بهذا فأفلس وهو غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يرجع في الثمرة لانها أبرت وهي في ملك المفلس
فإن اختلف البائع والمفلس فقال البائع رجعت فيه قبل التأبير فالثمرة لي وقال المفلس رجعت بعد التأبير فالثمرة لي فالقول قول المفلس لان الأصل بقاء الثمرة على ملكه فإن لم يحلف المفلس فهل يحلف الغرماء فيه قولان وقد مضى دليلهما فإن كذبوه فحلف واستحق وأراد أن يفرقه على الغرماء ففيه وجهان أحدهما أنه لا يلزمهم قبوله لانهم أقروا أنه أخذ بغير حق
والثاني يلزمهم قبوله أو الإبراء من الدين وعليه نص في المكاتب إذا حمل إلى المولى نجما فقال المولى هو حرام أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه منه
فإن صدقه بعضهم وكذبه البعض فقد قال الشافعي رحمه الله يفرق ذلك فيمن صدقه دون من كذبه
فمن أصحابنا من قال لا يجوز أن يفرقه إلا على من صدقه لانه لا حاجة به إلى دفع ذلك إلى من يكذبه
وقال أبو إسحاق إذا اختار المفلس أن يفرق على الجميع جاز كما يجوز إذا كذبوه وحمل قول الشافعي رحمه الله إذا اختار أن يفرق فيمن صدقه وإن قال البائع رجعت قبل التأبير فالثمرة لي فصدقه المفلس وكذبه الغرماء ففيه قولان أحدهما يقبل قول المفلس لانه غير متهم
والثاني لا يقبل لانه تعلق به حق الغرماء فلم يقبل إقراره فيه فإذا قلنا بهذا فهل
____________________
(1/324)
يحلف الغرماء فيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين كما قلنا في القسم قبله
ومنهم من قال يحلفون قولا واحدا لان اليمين ههنا توجهت عليهم ابتداء وفي القسم قبله توجهت اليمين على المفلس فلما نكل نقلت إليهم
فصل فيما إذا كان المبيع جارية وإن كان المبيع جارية فحبلت في ملك المشتري نظرت فإن أفلس بعد الوضع رجع في الجارية دون الولد كما قلنا في الرد بالعيب ولا يجوز التفريق بين الأم والولد فأما أن يزن البائع قيمة الولد فيأخذه مع الأم أو تباع الأم والولد فيأخذ البائع ثمن الأم ويأخذ المفلس ثمن الولد
ومن أصحابنا من قال إما أن يزن قيمة الولد فيأخذه مع الأم وإما أن يسقط حقه من الرجوع والمذهب الأول لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره فثبت له الرجوع
وإن أفلس قبل الوضع فإن قلنا لا حكم للحمل رجع فيهما لانه كالسمن وإن قلنا إن الحمل له حكم رجع في الأم دون الحمل لانه كالحمل المنفصل فإن باعها وهي حبلى ثم أفلس المشتري نظرت فإن أفلس قبل الوضع رجع فيهما وإن أفلس بعد الوضع فإن قلنا للحمل حكم رجع فيهما لانهما كعينين باعهما وإن قلنا لا حكم للحمل رجع في الأم دون ( الحمل ) لانه نماء تميز من ملك المشتري فلم يرجع فيه البائع ولا يفرق بين الأم والولد على ما ذكرناه
فصل فيما إذا كان طعاما وإن كان المبيع طعاما فطحنه المشتري أو ثوبا فقصره ثم أفلس نظرت فإن لم تزد قيمته بذلك واختار البائع الرجوع رجع فيه ولا يكون المشتري شريكا له بقدر عمله لان عمله قد استهلك ولم يظهر له أثر وإن زادت قيمته بأن كانت قيمته عشرة فصارت قيمته خمسة عشر ففيه قولان أحدهما أن البائع يرجع فيه ولا يكون المشتري شريكا له بقدر ما عمل فيه وهو قول المزني لانه لم يضف إلى المبيع عينا وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة وفي القصارة أظهر بياضا كان كامنا في الثوب فلم يصر شريكا للبائع في العين كما لو كان المبيع جوزا فكسره ولانه زيادة لا تتميز فلم يتعلق بها حق المفلس كما لو كان المبيع غلاما فعلمه أو حيوانا فسمنه
والثاني أن المشتري يكون شريكا للبائع بقدر ما زاد بالعمل ويكون حكم العمل حكم العين وهو الصحيح لانها زيادة حصلت بفعله فصار بها شريكا كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه ولان القصار يملك حبس العين لقبض الأجرة كما يملك البائع حبس المبيع لقبض الثمن فدل على أن العمل كالعين بخلاف كسر الجوز وتعليم الغلام وتسمين الحيوان فإن الأجير في هذه الأشياء لا يملك حبس العين لقبض الأجرة فعلى هذا يباع الثوب فيصرف ثلث الثمن إلى الغرماء والثلثان إلى البائع
وإن كان قد استأجر المشتري من قصر الثوب وطحن الطعام ولم يدفع إليه الأجرة دفع الأجرة إلى الأجير من ثمن الثوب لان الزيادة حصلت بفعله فقضى حقه من بدله
فصل إذا اشترى ثوبا بعشرة من رجل ومن آخر صبغا بخمسة وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة ومن آخر صبغا بخمسة فصبغ به الثوب ثم أفلس نظرت فإن لم تزد ولم تنقص بأن صار قيمة الثوب خمسة عشر فقد وجد كل واحد من البائعين عين ماله فإن اختار الرجوع صار الثوب بينهما لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث
وإن نقص فصار قيمة الثوب اثني عشر فقد وجد بائع الثوب عين ماله ووجد بائع الصبغ بعض ماله لان النقص دخل عليه بهلاك بعضه فإن اختار الرجوع كان لبائع الثوب عشرة ولبائع الصبغ درهمان ويضرب بما هلك من ماله وهو ثلاثة مع الغرماء
وإن زاد فصار يساوي الثوب عشرين درهما بنينا على القولين في أن زيادة القيمة بالعمل كالعين أم لا فإن قلنا إنها ليست كالعين حصلت الزيادة في مالهما فيقسط بينهما على الثلث والثلثين لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث وإن قلنا إنها كالعين كانت الزيادة للمفلس فيكون شريكا للبائعين بالربع
فصل فيما إذا كان المبيع أرضا فبناها وإن كان المبيع أرضا فبناها أو غرسها فإن أنفق المفلس والغرماء على قلع البناء والغراس ثبت للبائع الرجوع في الأرض لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره فجاز له الرجوع فإن رجع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزم المفلس تسوية الأرض وأرش نقص إن حدث بها من القلع لانه نقص حصل لتخليص ماله ويقدم ذلك على سائر الديون لانه يجب لاصلاح ماله فقدم كعلف البهائم وأجرة النقال وإن امتنعوا من القلع لم يجبروا لقوله صلى الله عليه وسلم ليس لعرق ظالم حق وهذا غرس وبناء بحق
فإن قال البائع أنا أعطي قيمة الغراس والبناء وآخذه مع الأرض أو أقلع وأضمن أرش النقص ثبت له الرجوع لانه يرجع في عين ماله من غير إضرار وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش
____________________
(1/325)
النقص فقد روى المزنى فيه قولين أحدهما أنه يرجع
والثاني أنه لا يرجع فمن أصحابنا من قال إن كانت قيمة الغراس والبناء أقل من قيمة الأرض فله أن يرجع لان الغراس والبناء تابع فلم يمنع الرجوع
وإن كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض لم يرجع لان الأرض صارت كالتبع للغراس والبناء وحمل القولين على هذين الحالين وذهب المزني وأبو العباس وأبو إسحاق إلى أنها على قولين أحدهما يرجع لانه وجد عين ماله مشغولا بملك المفلس فثبت له الرجوع كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المفلس بصبغ من عنده
والثاني لا يرجع لانه إذا رجع في الأرض بقى الغراس والبناء من غير طريق ومن غير شرب فيدخل الضرر على المفلس والضرر لا يزال بالضرر
فإن قلنا إنه يرجع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص وامتنع المفلس والغرماء من القلع فهل يجبر البائع على البيع فيه قولان أحدهما يجبر لان الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين فوجب أن يباع كما يباع الصبغ مع الثوب وإن لم يكن الصبغ له ويباع ولد المرهونة مع الرهن وإن لم يدخل في الرهن
والثاني لا يجبر لانه يمكن إفراد كل واحد منهما بالبيع ولا يجبر على بيعها مع الغراس والبناء
فصل فيما إذا كانت أرضا وزرعها المشتري وإن كان المبيع أرضا فزرعها المشتري ثم أفلس واختار البائع الرجوع في الأرض جاز له لانه وجد عين ماله مشغولا بما ينقل فجاز له الرجوع فيه كما لو كان المبيع دارا وفيها متاع للمشتري فإن رجع في الأرض نظرت في الزرع فإن استحصد وجب نقله وإن لم يستحصد جاز تركه إلى أوان الحصاد من غير أجرة لانه زرعه في ملكه فإذا زال الملك جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد من غير أجرة كما لو زرع أرضه ثم باع الأرض
فصل فيما إذا كان المبيع من ذوات الأمثال وإن كان المبيع من ذوات الأمثال كالحبوب والأدهان فخلطه بجنسه نظرت فإن خلطه بمثله كان للبائع أن يرجع لان عين ماله موجود من جهة الحكم ويملك أخذه بالقسمة فإن رجع واتفقا على القسمة قسم ودفع إليه مثل مكيلته فإن طلب البائع البيع فهل يجبر المفلس فيه وجهان أحدهما لا يجبر لانه تمكن القسمة فلا يجبر على البيع كالمال بين الشريكين
والثاني يجبر لانه إذا بيع وصل البائع إلى بدل ماله بعينه وإذا قسم لم يصل إلى جميع ماله ولا إلى بدله وإن خلطه بأردأ منه فله أن يرجع لان عين ماله موجودة من طريق الحكم فملك أخذه بالقسمة وكيف يرجع فيه وجهان قال أبو إسحاق يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لانه إن أخذ مثل زيته بالكيل كان ذلك أنقص من حقه وإن أخذ أكثر من زيته كان ربا فوجب البيع
والثاني وهو المنصوص أنه يأخذ مثل زيته بالكيل لانه وجد عين ماله ناقصا فرجع فيه مع النقص كما لو كان عين ماله ثوبا فحدث به عيب عند المشترى فإن خلطه بأجود منه ففيه قولان أحدهما يرجع وهو قول المزني لانه وجد عين ماله مختلطا بما لا يتميز عنه فأشبه إذا خلطه بمثله أو كان ثوبا فصبغه
والثاني أنه لا يرجع لان عين ماله غير موجود حقيقة لانه اختلط بما لا يمكن تمييزه منه حقيقة ولا حكما لانه لا يمكن المطالبة بمثل مكيلته منه ويخالف إذا خلطه بمثله لانه تمكن المطالبة بمثل مكيلته ويخالف الثوب إذا صبغه لان الثوب موجود وإنما تغير لونه
فإن قلنا إنه يرجع فكيف يرجع فيه قولان أحدهما يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لانه لا يمكن أن يأخذ مثل زيته بالكيل لانه يأخذ أكثر من حقه ولا يمكن أن يأخذ أقل من زيته بالكيل لانه ربا فوجب البيع
والثاني يرجع من الزيت بقيمة مكيلته فيكون قد أخذ بعض حقه وترك بعضه باختياره
فصل إذا أفلس المسلم إليه وحجر عليه وإن أسلم إلى رجل في شيء وأفلس المسلم إليه وحجر عليه فإن كان رأس المال باقيا فله أن يفسخ العقد ويرجع إلى عين ماله لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره فرجع إليه كالبيع وإن كان رأس المال تالفا ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه فإن لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه لان أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز
وقال أبو إسحاق إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع الغرماء برأس المال لانه يتعذر تسليم المسلم فيه فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع والمذهب أنه لا يثبت الفسخ لانه غير
____________________
(1/326)
واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالإفلاس كما لو باعه عينا فأفلس المشتري بالثمن والعين تالفة ويخالف إذا أسلم ( إليه في رطب ) وانقطع الرطب لان الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وههنا الفسخ بالإفلاس والفسخ بالإفلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ
فصل إذا أكرى أرضا فأفلس المكترى وإن ( أكرى ) أرضا فأفلس المكتري بالأجرة فإن كان قبل استيفاء شيء من المنافع فله أن يفسخ لان المنافع في الاجارة كالأعيان المبيعة في البيع ثم إذا أفلس المشتري والعين باقية ثبت له الفسخ فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقية وجب أن يثبت له الفسخ
وإن أفلس وقد استوفى بعض المنافع وبقي البعض ضرب مع الغرماء بحصة ما مضى وفسخ فيما بقي كما لو ابتاع عبدين وتلف عنده أحدهما ثم أفلس فإنه يضرب بثمن ما تلف مع الغرماء ويفسخ البيع فيما بقي فإن فسخ وفي الأرض زرع لم يستحصد نظرت فإن اتفق الغرماء والمفلس على تبقيته بأجرة إلى وقت الحصاد لزم المكري قبوله لانه زرع بحق وقد بذل له الأجرة لما بقي فلزمه قبولها وإن لم يبذل له الأجرة جاز له المطالبة بقطعه لان التبقية إلى الحصاد لدفع الضرر عن المفلس والغرماء والضرر لا يزال بالضرر وفي تبقيته من غير عوض إضرار بالمكري
وإن دعا بعضهم إلى القطع وبعضهم إلى التبقية نظرت فإن كان الزرع لا قيمة له في الحال كالطعام في أول ما يخرج من الأرض لم يقطع لانه إذا قطع لم يكن له قيمة وإذا ترك صار له قيمة فقدم قول من دعا إلى الترك وإن كان له قيمة كالقصيل الذي يقطع ففيه وجهان أحدهما يقدم قول من دعا إلى القطع لان من دعا إلى القطع تعجل حقه فلم يؤخر
والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يفعل ما هو أحظ والاول أظهر
فصل متى يزول الحجر إذا قسم مال المفلس بين الغرماء ففي حجره وجهان أحدهما يزول ( عنه ) الحجر لان المعنى الذي لاجله حجر عليه حفظ المال على الغرماء وقد زال ذلك فزال الحجر كالمجنون إذا أفاق
والثاني لا يزول إلا بالحاكم لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل إلا بالحاكم كالحجر على المبذر
فصل من مات وعليه ديون ومن مات وعليه ديون تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته فإن كان عليه دين مؤجل حل الدين بالموت لما روى ( ابن ) عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مات الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال والذى له إلى أجله ولان الأجل جعل رفقا بمن عليه الدين والرفق بعد الموت أن يقضي دينه وتبرأ ذمته والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نفس المؤمن مرتهنة في قبره بدينه إلى أن يقضى عنه
فصل تصرف الوارث في التركة قبل مضي الدين فإن تصرف الوارث في التركة قبل مضي الدين ففيه وجهان أحدهما لا يصح لانه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضى من له الحق كالمرهون
والثاني يصح لانه حق تعلق بالمال من غير رضى المالك فلم يمنع التصرف كمال المريض
وإن قلنا إنه يصح فإن قضى الوارث الدين نفذ تصرفه وإن لم يقض فسخنا
وإن باع عبدا ومات وتصرف الوارث في التركة ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فرده أو وقع في بئر كان حفرها بهيمة ففي تصرف الورثة وجهان أحدهما أنه يصح لانهم تصرفوا في ( ملك ) لهم لا يتعلق به حق أحد
والثاني يبطل لانا تبينا أنهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة فإن كان في غرماء الميت من باع شيئا ووجد عين ماله فإن لم تف التركة بالدين فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في رجل أفلس هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه فإن كانت التركة تفي بالدين ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أن له أن يرجع في عين ماله لحديث أبي هريرة
والثاني لا يجوز أن يرجع في عين ماله وهو المذهب لان المال يفي بالدين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحي المليء وحديث أبي هريرة قد روى فيه أبو بكر النيسابوري وإن خلف وفاء فهو أسوة الغرماء
فصل حكم إذا ظهر غريم آخر بعد القسمة إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين الغرماء ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه لانا إنما قسمنا بينهم بحكم الظاهر أنه لا غريم له غيرهم فإذا بان بخلاف ذلك وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم
____________________
(1/327)
ثم وجد النص بخلافه
وإن أكرى رجل داره سنة وقبض الأجرة وتصرف فيها ثم أفلس وقسم ماله بين الغرماء ثم انهدمت الدار في أثناء المدة فإن المكتري يرجع على المفلس بأجرة ما بقي وهل يشارك الغرماء فيما اقتسموا به أم لا فيه وجهان أحدهما لا يشاركهم لانه دين وجب بعد القسمة فلم يشارك به الغرماء فيما اقتسموا كما لو استقرض مالا بعد القسمة
والثاني يشاركهم لانه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء كما لو انهدمت الدار قبل القسمة ويخالف القرض لان دينه لا يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر وهذا استند إلى ما قبل الحجر ولان المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة والمكتري يشاركهم في المال قبل القسمة فشاركهم بعد القسمة
باب الحجر إذا ملك الصبي أو المجنون مالا حجر عليه في ماله والدليل عليه قوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فدل على أنه لا يسلم إليه المال قبل البلوغ والرشد
فصل في ولاية المحجور عليه وينظر في ماله الأب ثم الجد لانها ولاية في حق الصغير فقدم الأب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لانه نائب عن الأب والجد فقدم على غيره
وإن لم يكن وصي نظر السلطان لان الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبتت للسلطان كولاية النكاح
وقال أبو سعيد الإصطخري فإن لم يكن أب ولا جد نظرت الأم لانها أحد الأبوين فثبت لها الولاية في المال كالأب والمذهب أنه لا ولاية لها لانها ولاية ثبتت بالشرع فلم تثبت للأم كولاية النكاح
فصل تصرف الناظر في مال المحجور ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط فأما ما لا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه لقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ولقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار وفي هذه التصرفات إضرار بالصبي فوجب ألا يملكه ويجوز أن يتجر في ماله لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من ولي يتيما وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة
فصل في الشراء للمحجور ويبتاع له العقار لانه يبقى وينتفع بغلته ولا يبتاعه إلا من مأمون لانه إذا لم يكن مأمونا لم يأمن أن يبيع مالا يملكه ولا يبتاعه في موضع قد أشرف على الخراب أو يخاف عليه الهلاك لان في ذلك تغريرا بالمال ويبني له العقار ويبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن والجص لان الآجر يبقى واللبن يهلك والجص يجحف به والطين لا ثمن له والجص يتناثر ويذهب ثمنه والطين لا يتناثر وإن تناثر فلا ثمن له ولان الآجر لا يتخلص من الجص إذا أراد نقضه ويتلف عليه ويتخلص من الطين فلا يتلف
____________________
(1/328)
عليه ولا يبيع له العقار إلا في موضعين أحدهما أن تدعو إليه ضرورة بأن يفتقر إلى ( بيعه ب ) النفقة وليس له مال غيره ولم يجد من يقرضه
والثاني أن يكون له في بيعه غبطة وهو أن يطلب منه بأكثر من ثمنه فيباع له ويشتري ببعض الثمن مثله لان البيع في هذين الحالين فيه حظ وفيما سواهما لا حظ فيه فلم يجز
وإن باع العقار وسأل الحاكم أن يسجل له نظر فإن باعه الأب أو الجد سجل له لانهما لا يتهمان في حق الولد وإن كان غيرهما لم يسجل حتى يقيم بينة على الضرورة أو الغبطة لانه تلحقه التهمة فلم يسجل له من غير بينة
فإن بلغ الصبي وادعى أنه باع من غير ضرورة ولا غبطة فإن كان الولي أبا أو جدا فالقول قوله وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة لما ذكرناه من الفرق فإن بيع في شركته شقص فإن كان الحظ في أخذه بالشفعة لم يترك وإن كان الحظ في الترك لم يأخذ لانا بينا أن تصرفه على النظر والاحتياط فلا يفعل إلا ما يقتضي النظر والاحتياط
فإن ترك الشفعة والحظ في تركها ثم بلغ الصبي وأراد أن يأخذ فالمنصوص أنه لا يملك ذلك لان ما فعل الولى مما فيه نظر لا يملك الصبى نقضه كما لو أخذ والحظ في الأخذ فبلغ وأراد أن يرد
ومن أصحابنا من قال له أن يأخذ لانه يملك بعد البلوغ التصرف فيما فيه حظ وفيما لا حظ فيه وقد بلغ فجاز أن يأخذ وإن لم يكن فيه حظ وهذا خطأ لان له أن يتصرف فيما لا حظ فيه إذا كان باقيا وهذا قد سقط بعفو الولي فسقط فيه اختياره فإن بلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة فالحكم فيه كالحكم في بيع العقار وقد بيناه
فصل بيع مال المحجور عليه نسيئة ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة فإن كانت السلعة تساوي مائة نقدا ومائة وعشرين نسيئة فباعها بمائة نسيئة فالبيع باطل لانه باع بدون الثمن وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة من غير رهن لم يصح البيع لانه غرر بالمال فإن باع بمائة نقدا وعشرين مؤجلا وأخذ بالعشرين رهنا جاز لانه لو باعها بمائة نقدا جاز فلأن يجوز وقد زاده عشرين أولى وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بها رهنا ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لانه أخرج ماله من غير عوض
والثاني يجوز وهو ظاهر النص وقول أبى إسحاق لانه باع بربح واستوثق بالرهن فجاز
فصل المحجور لا يكاتب عبده ولا يكاتب عبده و ( لو ) كان بأضعاف القيمة لانه يأخذ العوض من كسبه وهو مال له فيصير كالعتق من غير عوض
فصل المسافرة بمال المحجور ولا يسافر بماله من غير ضرورة لان فيه تغريرا بالمال ويروى أن المسافر و ( ماله ) على قلت أي على هلاك وفيه قول الشاعر ( الوافر ) بغاث الطير أكثرها فراخا وأم ( الباز ) مقلاة نزور فصل شرط المسافرة بماله فإن دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لان السفر ههنا أحوط
فصل في إيداع وقرض مال المحجور ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة لانه يخرجه من يده ( من غير حاجة ) فلم يجز
فإن خاف من نهب أو حريق أو غرق أو أراد سفرا وخاف عليه جاز له الإيداع والإقراض
فإن قدر على الإيداع دون الإقراض أودع ولا يودع إلا ثقة وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه ولا يقرضه إلا ثقة مليا لان غير الثقة يجحد وغير الملى لا يمكن أخذ البدل منه فإن أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ وإن رأى ترك الرهن لم يأخذ وإن قدر على الإيداع والإقراض فالإقراض أولى لان القرض مضمون بالبدل والوديعة غير مضمونة فكان القرض أحوط فإن ترك الإقراض وأودع ففيه وجهان أحدهما يجوز لانه يجوز كل واحد منهما فإذا قدر عليهما تخير بينهما
والثاني لا يجوز لقوله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن }
____________________
(1/329)
والإقراض ههنا أحسن فلم يجز تركه ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لان في ذلك مصلحة له فجاز
فصل وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح } فإن بلغ الصبي واختلفا في النفقة فإن كان الولي هو الأب أو الجد فالقول قوله وإن كان غيرهما ففيه وجهان أحدهما يقبل لان في إقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله
والثاني لا يقبل قوله كما لا يقبل في دعوى الضرر والغبطة في بيع العقار
فصل بيع مال اليتيم وإن أراد أن يبيع ماله بماله فإن كان أبا أو جدا جاز ذلك لانهما لا يتهمان في ذلك لكمال شفقتهما وإن كان غيرهما لم يجز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشتري الوصي من مال اليتيم ولانه متهم في طلب الحظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه
فصل الأكل من مال اليتيم وإن أراد أن يأكل من ماله نظرت فإن كان غنيا لم يجز لقوله تعالى { ومن كان غنيا فليستعفف } وإن كان فقيرا جاز أن يأكل لقوله تعالى { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وهل يضمن البدل فيه قولان أحدهما لا يضمن لانه أجير له الأكل بحق الولاية فلم يضمنه كالرزق الذي يأكله الإمام من أموال المسلمين
والثاني أنه يضمن لانه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره
فصل في فك الحجر عن الصبي ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الإنزال والسن والإنبات
واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل
فأما الإنزال فهو إنزال المني
فمتى أنزل صار بالغا والدليل عليه قوله تعالى { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام فدل على أنه بلوغ وروى عطية القرظي قال عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن قريظة فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل فلو لم يكن بالغا لما قتل
وأما السن فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه ( يوم الخندق ) وأنا ابن خمس عشرة سنة فرآنى بلغت فأجازني
وأما الإنبات فهو الشعر الخشن الذى ينبت على العانة وهو بلوغ في حق الكافر والدليل عليه ما روى عطية القرظي قال كنت فيمن حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه فشكوا فى أمن الذرية أنا أم من المقاتلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه فنظروا فإذا عانتي لم تنبت فجعلوني في الذرية ولم أقتل
وهل هو بلوغ في نفسه أو دلالة على البلوغ فيه قولان أحدهما أنه بلوغ فعلى هذا هو بلوغ في حق المسلم لان ما كان بلوغا في حق الكافر كان بلوغا في حق
____________________
(1/330)