باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما". ولأنه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر ففيه أقل فلأن يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر من الأولى وإذا أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دون المد وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ لأن ما زاد غير مستحق مع الإعسار وإن أعسر بالأدم لم يثبت لها الفسخ لأن البدن يقوم بالطعام من غير أدم وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة كما لا يقوم بغير القوت وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان: أحدهما: يثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم المسكن والثاني: لا يثبت لأنها لا تعدم موضع تسكن فيه.
فصل: وإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ لأنه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان: أحدهما: لها الفسخ لأن نفقة اليوم لا تتبعض والثاني: ليس لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وإن كان يجد يوماً قدر الكفاية ولا يجد يوماً ثبت لها الفسخ لأنه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة وإن كان نساجاً ينسج في كل أسبوع ثوباً تكفيه أجرته الأسبوع أو صانعاً يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لأنه يقدر أن يستقرض لهذه المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت فإن كان مرضه يرجى زواله في اليومين أو الثلاثة لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكنها أن تستقرض ما تنفقه ثم تقتضيه وإن كان مرضاً مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم النفقة وإن كان له مال غائب فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ وإن كان في مسافة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكراه في المرض وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ لأن يسار الغريم كيساره وإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها.
فصل: وإن كان الزوج موسراً وامتنع من الإنفاق لم يثبت لها الفسخ لأنه يمكن الاستيفاء بالحاكم وإن غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ لأن الفسخ يثبت بالعيب بالإعسار ولم يثبت الإعسار ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً آخر أنه يثبت لها الفسخ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار.
فصل: إذا ثبت لها الفسخ بالإعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب(3/154)
على المعسر من الطعام والأدم والكسوة ونفقة الخادم فإذا أيسر طولب بها لأنها حقوق واجبة عجز عن أدائها فإذا قدر طولب بها كسائر الديون ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لأنه غير مستحق.
فصل: وإن اختارت المقام بعد الإعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ولها أن تخرج من منزله لأن التمكين في مقابلة النفقة فلا يجب مع عدمها وإن اختارت المقام معه على الإعسار ثم عن لها أن تفسخ فلها أن تفسخ لأن النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فيتجدد حق الفسخ وإن تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تفسخ لأن حق الفسخ يتجدد بالإعسار بتجدد النفقة.
فصل: وإن اختارت الفسخ لم يجز الفسخ إلا بالحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالتعنين وفي وقت الفسخ قولان: أحدهما: أن لها الفسخ في الحال لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن والثاني: أن يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبداً لأنه يؤدي إلى الإضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الأيام من منزل الزوج لأنها لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
فصل: إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة ديناً في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان لأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد المعاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والأجرة والمهر ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان كما يصح ضمان سائر الديون وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان فيه قولان بناء على القول في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين فيه قولان: قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح لأنها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والأجرة وعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ضمان ما لم يجب وقال في القديم تجب بالعقد لأنها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة وعلى هذا يصح أن يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة.
فصل: وإذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمينها لقوله عليه السلام: "اليمين على المدعى عليه" 1. ولأن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 1، مسلم في كتاب الأقضية حديث 1، 2. أبو داود في كتاب الأقضية باب 23. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. أحمد في مسنده 1/253، 342.(3/155)
الأصل عدم القبض وإن مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسراً فيلزمه نفقة الموسر وادعى الزوج أنه كان معسراً فلا يلزمه إلا نفقة المعسر نظرت فإن عرف له مال فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن لم يعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم المال وإن اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة وإن طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة لك علي وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك علي الرجعة ولي عليك النفقة فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لي عليك لأنه حق له فقيل إقراره فيه والقول قول المرأة في وجوب العدة لأنه حق عليها فكان القول قولها والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة لأن الأصل بقاؤها. والله أعلم.(3/156)
باب نفقة المعتدة
إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقاً رجعياً وجب لها السكنى والنفقة في العدة لأن الزوجة باقية والتمكين من الاستمتاع موجود فإن طلقها طلاقاً بائناً وجب لها السكنى في العدة حائلاً كانت أو حاملا لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأوجب النفقة مع الحمل فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل وهل تجب النفقة للحمل أو الحامل بسبب الحمل فيه قولان: قال في القديم تجب للحمل لأنها تجب بوجوبه وتسقط بعدمه وقال في الأم تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح لأنها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته وذلك يحصل بما دون المد فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلا على من تجب عليه نفقة الولد فإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً وجبت نفقتها على مولاها لأن الولد مملوك له وإن قلنا تجب النفقة للحامل وجبت على الزوج لأن نفقتها تجب عليه وإن كان الزوج عبداً وقلنا إن النفقة للحامل وجبت عليه وإن قلنا تجب للحامل لم تجب لأن العبد يلزمه نفقة ولده.
فصل: وإذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان: أحدهما: لا يوجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحاً فانفش فلا يجب الدفع مع الشك والثاني: يجب الدفع يوماً بيوم لأن الظاهر وجود الحمل ولأنه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في(3/156)
الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقة فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل فإن قلنا تجب يوماً بيوم فله أن يرجع عليها لأنه دفعها على أنها واجبة وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع وإن قلنا إنها لا تجب إلا بالوضع فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع لأنه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع وإن دفع من غير أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملاً فله أن يرجع لأنه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب وإن لم يشرط لم يرجع لأن الظاهر أنه متبرع.
فصل: فإن تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب وجب لها السكنى في العدة وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب وإن كانت حاملاً وجبت لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة وإن لاعنها بعد الدخول فإن لم ينف الحمل وجبت النفقة وإن نفى الحمل لم تجب النفقة لأن النفقة تجب في أحد القولين للحمل والثاني: تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة وأما السكنى ففيها وجهان: أحدهما: تجب لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة فوجب لها السكنى كالمطلقة والثاني: لا تجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ألا تثبت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها ولأنها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها.
فصل: وإن نكح امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها وفرق بينهما فلم تجب لها السكنى لأنها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح فلأن لا تجب مع زوال الفراش والافتراق أولى وأما النفقة فإنها إن كانت حائلاً لم تجب لأنها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلأن لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى وإن كانت حاملاً فعلى القولين إن قلنا إن النفقة للحامل لم تجب لأن حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة وإن قلنا أنها تجب للحمل وجبت لأن الحمل في النكاح الفاسد كالحمل في النكاح الصحيح.
فصل: وإن كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة لأن النفقة إنما تجب للمتمكن من الاستمتاع وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل والميت مستحق عليه حق لأجل الولد وهل تجب لها السكنى فيه قولان: أحدهما: لا تجب وهو اختيار المزني لأنه حق يجب يوماً بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة والثاني: تجب لما روت فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا". ولأنها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.(3/157)
فصل: إذا حسبت زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لأنها محبوسة عليه في بيته فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها لأنها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة وفي السكنى قولان: فإن رجع الزوج فإن قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل وإن قلنا لا تسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة فإن قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأنها محبوسة عليه في بيته وإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها صارت كالناشزة وإن لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه فإن قلنا بقوله القديم لم تعد النفقة وإن قلنا بقوله الجديد فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت فيه وجهان: أحدهما: تعود لأنها سقطت بنشوزها فعادت بعودها والثاني: لا تعود لأن التسليم الأول قد بطل فلا تعود إلا بتسليم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الأمانة ومن أصحابنا من قال إن كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد واعتدت وفارقت البيت ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لأن التسليم الأول قد بطل لحكم الحاكم وإن كانت تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت إليه عادت النفقة لأن التسليم الأول لم يبطل من غير حكم الحاكم. والله أعلم.(3/158)
باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم
والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا وقرابة الأولاد وإن سفلوا فتجب على الولد نفقة الأب والأم والدليل عليه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ومن الإحسان أن ينفق عليهما وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"1. ويجب عليه نفقة الأجداد والجدات لأن اسم الوالدين يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسمى الله تعالى إبراهيم أباً وهو جد ولأن الجد كالأب والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وغيرها وكذلك في إيجاب النفقة ويجب على الأب نفقة الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال: "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على ولدك" قال: عندي آخر فقال: "أنفقه على أهلك" قال: عندي
__________
1 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31، 42.(3/158)
آخر قال: "أنفقه على خادمك" قال: عندي آخر قال: "أنت أعلم به". ويجب عليه نفقة ولد الوالد وإن سفل لأن اسم الولد يقع عليه والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ} وتجب على الأم نفقة الولد لقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ولأنه إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر فلأن تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الأب ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولدين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولدين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة فلم يلحق بهم في وجوب النفقة.
فصل: ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه وأما من لا يفضل عن نفقته شيء فلا تجب عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته" 1. فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب لحديث جابر رضي الله عنه ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض فقدمت على المواساة ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه.
فصل: ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة فإن كان موسراً لم يستحق لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة وإن كان معسراً عاجزاً عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة استحق النفقة على قريبه لأنه محتاج لعدم المال وعدم الكسب وإن كان قادراً على الكسب بالصحة والقوة فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: يستحق لأنه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن والثاني: لا يستحق لأن القوة كاليسار ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوي" 2. وإن كان من المولدين ففيه طريقان:
__________
1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 41. النسائي في كتاب الزكاة باب 60.
2 رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 22، 23. النسائي في كتاب الزكاة باب 80. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 26. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 29.(3/159)
من أصحابنا من قال فيه قولان كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولاً واحداً لأن حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة.
فصل: فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أوجد وأبو جد وهما موسران كانت النفقة على الأقرب منهما لأنه أحق بالمواساة من الأبعد وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان: أحدهما: أن النفقة على الأب لأن وجوب النفقة عليه منصوص عليه وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد والثاني: أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الأب لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6 [فجعل أجرة الرضاع على الأب وروت عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا وهولا يعلم فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ولأن الأب ساوى الأم في الولادة وانفرد بالتعصيب فقدم وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لأن له ولادة وتعصيباً فقدم على الأم كالأب وإن كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان: أحدهما: أن النفقة على البنت لأنها أقرب والثاني: أنها على ابن البنت لأنه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن الابن لأن له ولادة وتعصيباً فقدم كما قدم الجد على الأم وإن كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت لأن للبنت تعصيباً وليس للأم تعصيب وإن كان له أم أم وأبو أم فهما سواء لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في الدرجة والثاني: أن النفقة على أم الأب لأنها تدلي بالعصبة.
فصل: وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأم أحق لما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك". ولأنها تساوي الأب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية. والثاني: أن الأب أحق لأنه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب ولأنهما لوكانا موسرين والابن معسراً قدم الأب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له. والثالث: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة لا بالتعصيب وهما في القرابة سواء وإن كان له أب وابن ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق لأن نفقته ثبتت بنص الكتاب والثاني: أن الأب أحق لأن حرمته(3/160)
آكد ولهذا لا يقاد بالابن ويقاد به الابن وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد ففيه وجهان: أحدهما: أن الابن أحق من ابن الابن والأب أحق من الجد لأنهما أقرب ولأنهما لوكانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما فكذلك في نفقته عليهما والثاني: أنهما سواء لأن النفقة بالقرابة ولهذا لا يسقط أحدهما: بالآخر إذا قدر على نفقتهما.
فصل: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة وجبت نفقته على قدر الكفاية لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته لأن ذلك من تمام الكفاية وإن مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم يصر ديناً عليه لأنها وجبت عليه لتزجية الوقت ودفع الحاجة وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت.
فصل: وإن كان له أب فقير مجنون أو فقير زمن واحتاج إلى الإعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يجب لأنه قريب يستحق النفقة فلا يستحق الإعفاف كالابن والمذهب الأول لأنه معنى يحتاج الأب إليه ويلحقه الضرر بفقده فوجب كالنفقة وإن كان صحيحاً قوياً وقلنا إنه تجب نفقته وجب إعفافه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه لا تجب نفقته فلا يجب إعفافه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب إعفافه لأن نفقته إن لم تجب على القريب أنفق عليه من بيت المال والإعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب ومن وجب عليه الإعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية ولا يجوز أن يزوجه بأمة لأنه بالإعفاف يستغنى عن نكاح الأمة ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة لأن الأصل من العفة هو الاستمتاع ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبيحة فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة ولا رد الجارية لأن ما استحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر وإن أعفه بحرة فطلقها أو سرا بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها لأن ذلك مواساة لدفع الضرر فلو أوجبنا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر والضرر لا يزال بالضرر وإن ماتت عنده ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب البدل لأنه يخرج عن حد المواساة والثاني: يجب لأنه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه.
فصل: وإن احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب إرضاعه لأن الرضاع في(3/161)
حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولا يجب إلا في حولين كاملين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الإرضاع لم تجبر وقال أبو ثور تجبر لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وهذا خطأ لأنها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب لم تجبر على الرضاع وإن أرادت إرضاعه كره للزوج منعها لأن لبنها أوفق له وإن أراد منعها منه كان له ذلك لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت إلا في وقت العبادة فلا يجوز لها تفويته عليه بالرضاع وإن رضيا بإرضاعه فهل تلزمه زيادة على نفقتها فيه وجهان: أحدهما: تلزمه وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق لأنها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره والثاني: لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة لأن نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها كما لا تجب الزيادة في نفقة الأكولة لحاجتها وإن أرادت إرضاعه بأجرة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه لأن أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل وهو النفقة فلا يجوز أن تأخذ بدلاً آخر والثاني: أنه يجوز لأنه عمل يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة كالنسج وإن بانت لم يملك إجبارها على إرضاعه كما لا يملك قبل البينونة فإن طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للأب من يرضع بدون الأجرة كانت الأم أحق به لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وإن طلبت أكثر من أجرة المثل جاز انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأن ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالمعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا وإن طلبت أجرة المثل وللأب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل ففيه قولان: أحدهما: أن الأم أحق بأجرة المثل لأن الرضاع لحق الولد ولأن لبن الأم أصلح له وأنفع وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق والثاني: أن الأب أحق لأن الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بإرضاعه لم يستحق على الأب أجرة الرضاع وإن ادعت المرأة أن الأب لا يجد غيرها فالقول قول الأب لأنها تدعي استحقاق أجرة المثل والأصل عدمه.
فصل: ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". ويجب عليه نفقته من قوت البلد لأنه هو المتعارف فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لما(3/162)
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فليجلسه معه فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين فإنه تولى علاجه وحره " 1. فإن كانت له جارية للتسري استحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة لأن العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة.
فصل: ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق" 2. ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها لأن في ذلك إضراراً بولدها وإن كان لعبده زوجة أذن له في الاستمتاع بالليل لأن إذنه بالنكاح يتضمن الإذن في الاستمتاع بالليل وإن مرض العبد أو الأمة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما لأن نفقتهما بالملك ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة ولا يجوز أن يجبر عبده على المخارجة لأنه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة وإن طلب العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة فإن اتفقا عليها وله كسب جاز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة تحل فلم يجز.
فصل: ومن ملك بهيمة لزمه القيامة بعلفها لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار فقيل لها ـ والله أعلم ـ لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً" 3. ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 41. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 40. أحمد في مسنده 2/247.
2 رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 55. مسلم في كتاب الأيمان حديث 43. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 50. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 33.
3 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 16. مسلم في كتاب البر حديث 133، 135. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 152. أحمد في مسنده 2/159، 188.(3/163)
فصل: وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يجبر على نفقة زوجته وإن لم يكن له مال أكرى عليه إن أمكن إكراؤه فإن لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في امرأته إذا أعسر بنفقتهما. والله أعلم.(3/164)
باب الحضانة
إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لأنه مستغن عن الحضانة والكفالة والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية كره لها أن تنفرد لأنها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز وهو الذي له دون سبع سنين وجبت حضانته لأنه إن ترك حضانته ضاع وهلك.
فصل: ولا تثبت الحضانة لرقيق لأنه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى ولا تثبت لمعتوه لأنه لا يكمل للحضانة ولا تثبت لفاسق لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولأن الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق لأنه ينشأ على طريقه ولا تثبت لكافر على مسلم وقال أبو سعيد الإصطخري تثبت للكافر على المسلم لما روى عبد الحميد بن سلمة عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلمني وأنا غلام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا غلام اذهب إلى أيهما شئت إن شئت إلى أبيك وإن شئت إلى أمك" فتوجهت إلى أمي فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "اللهم اهده فملت إلى أبي فقعدت في حجره". والمذهب الأول لأن الحضانة جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر لأنه يفتنه من دينه وذلك من أعظم الضرر والحديث منسوخ لأن الأمة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي ". ولأنها إذا تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة لأنها زالت لعلة فعادت بزوال العلة وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني إن كان الطلاق رجعياً لم يعد لأن النكاح باق وهذا خطأ لأنه إنما(3/164)
سقط حقها بالنكاح لاشتغالها باستمتاع الزوج والطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن فعادت الحضانة.
فصل: ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم والخال والعم من الأم لأن الحضانة إنما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أولمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والإناث لأنه إذا لم يثبت لهم لضعف قرابتهم فلأن لا يثبت لمن يدلي بهم أولى.
فصل: وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالأم أحق من غيرها لما روى عب الله بن عمرو العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت أحق ما لم تنكحي". ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها لمشاركتهن الأم في الولادة والإرث ويقدم الأقرب فالأقرب ويقدمن على أمهات الأب وإن قربن لتحقق ولادتهن ولأنهن أقوى في الميراث من أمهات الأب لأنهن لا يسقطن بالأب وتسقط أمهات الأب بالأم فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم ففيه قولان: قال في القديم: تنقل إلى الأخت والخالة ويقدمان على أم الأب لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت حمزة لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولأن الخالة تدلي بالأم وأم الأب تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها عل من يدلي به ولأن الأخت ركضت مع الولد في الرحم ولم تركض أم الأب معه في الرحم فقدمت عليها فعلى هذا تكون الحضانة للأخت من الأب والأم ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم لأم الأب ثم للأخت من الأب ثم للعمة وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أم الأب وهو الصحيح لأنها جدة وارثة فقدمت على الأخت والخالة كأم الأم فعلى هذا تكون الحضانة لأم الأب ثم لأمهاتها وإن علون الأقرب فالأقرب ويقدمن على أم الجد كما يقدم الأب على الجد فإن عدمت أمهات الأب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وإن علون ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد فإذا عدم أمهات الأبوين انتقلت إلى الأخوات ويقدمن على الخالات والعمات لأنهن راكضن الولد في الرحم وشاركنا في النسب وتقدم الأخت من الأب والأم ثم الأخت للأب ثم الأخت للأم وقال أبو العباس بن سريج: تقدم الأخت للأم على الأخت للأب لأن إحداهما تدلي بالأم والأخرى تدلي بالأب فقدم المدلي بالأم على المدلي بالأب كما قدمت الأم على الأب وهذا خطأ لأن الأخت من الأب أقوى من الأخت من الأم في الميراث والتعصيب مع البنات ولأن(3/165)
الأخت من الأب تقوم مقام الأخت من الأب والأم في الميراث فقامت مقامها في الحضانة فإن عدمت الأخوات انتقلت إلى الخالات ويقدمن على العمات لأن الخالة تساوي العمة في الدرجة وعدم الإرث وتدلي بالأم والعمة تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فقدم من يدلي بها وتقدم الخالة من الأب والأم على الخالة من الأب ثم الخالة من الأب ثم الخالة من الأم ثم تنتقل إلى العمات لأنهن يدلين بالأب وتقدم العمة من الأب والأم ثم العمة من الأب ثم العمة من الأم وعلى قياس قول المزني وابن العباس تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب.
فصل: وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الأب لأن له ولادة وفضل شفقة ثم تنتقل إلى آبائها الأقرب فالأقرب لمشاركتهم الأب في الولادة والتعصيب فإن عدم الجداد انتقلت إلى من بعدهم من العصبات ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والأجداد من العصبات لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب والمنصوص هو الأول والدليل عليه ما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اختصم في بنت حمزة علي وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي بنت عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها عندي وقال زيد: بنت أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". ولولم يكن ابن العم من أهل الحضانة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر وعلى علي رضي الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة ولأن له تعصيباً بالقرابة فثبتت له الحضانة كالأب والجد فعلى هذا تنتقل إلى الأخ من الأب والأم ثم إلى الأخ من الأب ثم إلى ابن الأخ من الأب والأم ثم إلى ابن الأخ من الأب ثم إلى العم من الأب والأم ثم إلى العم من الأب ثم إلى ابن العم من الأب والأم ثم إلى ابن العم من الأب لأن الحضانة تثبت لهم بقوة قرابتهم بالإرث فقدم من تقدم في الإرث.
فصل: وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت فإن اجتمع الأب مع الأم كانت الحضانة للأم لأن ولادتها متحققة وولادة الأب مظنونة ولأن لها فضلاً بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على الأب فإن اجتمع مع أم الأم وإن علت كانت الحضانة لأم الأم لأنها كالأم في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة وإن اجتمع مع أم نفسه أو مع الأخت من الأب أو مع العمة قدم عليهن لأنهن يدلين به فقدم عليهن وإن اجتمع الأب مع الأخت من الأم أو الخالة ففيه وجهان: أحدهما: أن الأب أحق وهو ظاهر النص لأن الأب له ولادة وإرث فقدم على الأخت(3/166)
والخالة كالأم والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يقدم الأخت والخالة على الأب لأنهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالأم فقدمتا على الأب كأمهات الأم إن اجتمع الأب وأم الأب والأخت من الأم أو الخالة بنينا على القولين في الأخت من الأم والخالة إذا اجتمعا مع أم الأب فإن قلنا بقوله القديم إن الأخت والخالة يقدمان على أم الأب قدمت الأخت والخالة على الأب وأم الأب وإن قلنا بقوله الجديد إن أم الأب تقدم على الأخت والخالة بنينا على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت من الأم أو الخالة فإن قلنا بظاهر النص إن الأب يقدم عليهما كانت الحضانة للأب لأنه يسقط الأخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة وإن قلنا بالوجه الآخر إن الحضانة للأخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أن الحضانة للأخت والخالة لأن أم الأب تسقط بالأب والأب يسقط بالأخت والخالة والثاني: أن الحضانة للأب وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله عليه لأن الأخت والخالة يسقطان بأم الأب ثم تسقط أم الأب بالأب فتصير الحضانة للأب ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالأخوين مع الأبوين فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعناه بل يصير الجميع للأب وإن اجتمع الجد أب الأب مع الأم أو مع أم الأم وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الأب وإن اجتمع مع أم الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب وإن اجتمع مع الخالة أو مع الأخت من الأم ففيه وجهان كما لو اجتمعتا مع الأب وإن اجتمع مع الأخت من الأب ففيه وجهان: أحدهما: أن الجد أحق لأنه كالأب في الولادة والتعصيب فكذلك في التقدم على الأخت والثاني: أن الأخت أحق لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة.
فصل: وإن عدم الأمهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن النساء أحق بالحضانة من العصبات فتكون الأخوات والخالات ومن أدلى بهن من البنات أحق من الأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية والثاني: أن العصبات أحق من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلي بهن لاختصاصهم بالنسب والقيام بتأديب الولد والثالث: أنه إن كان العصبات أقرب قدموا وإن كان النساء أقرب قدمن وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية وإن استوى اثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة، وإن عدم أهل الحضانة من العصبات(3/167)
والنساء وله أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحق من السلطان لأن لهم رحماً فكانوا أحق من السلطان كالعصبات والثاني: أن السلطان أحق بالحضانة لأنه لا حق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث وإن كان للطفل أبوان فثبتت الحضانة للأم فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الأصطخري فيه وجهين: أحدهما: أن الحضانة تنتقل إلى أم الأم كما تنتقل إليها بموت الأم أو جنونها أو فسقها أو كفرها والثاني: أنها تكون للأب لأن الأم لم يبطل حقها من الحضانة لأنها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلي بها.
فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه فانطلقت به فإن اختارهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجب التقديم بالقرعة وإن لم يختر واحداً منهما أقرع بينهما لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لأنه يضيع ولا مزية لأحدهما: على الآخر فوجبت القرعة وإن اختار أحدهما: نظرت فإن كان ابناً فاختار الأم كان عندها بالليل ويأخذه الأب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لأن القصد حظ الولد وحظ الولد فيما ذكرناه وإن اختار الأب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لأن المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم فإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به وإن كانت جارية فاختارت أحدهما: كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الآخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط لأن الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما: في دار الآخر وإن مرضت كانت الأم أحق بتمريضها في بيتها وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه وإن اختار أحدهما: فسلم إليه ثم اختار الآخر حول إليه وإن عاد فاختار الأول أعيد إليه(3/168)
لأن الاختيار إلى شهوته وقد يشتهي المقام عند أحدهما: في وقت وعند الآخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما لأن الجد كالأب في الحضانة في حق الصغير فكان كالأب في التخيير في الكفالة فإن لم يكن له أب ولا جد فإن قلنا إنه لا حق لغير الآب والجد في الحضانة ترك مع الأم إلى أن يبلغ وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة فإن كانت العصبة محرماً كالعم والأخ وابن الأخ خير بينهم وبين الأم لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي فدفعني إليها فإن كان العصبة ابن عم فإن كان الولد ابناً خير بينه وبين الأم وإن كانت بنتاً كانت عند الأم إلى أن تبلغ ولا تخير بينهما لأن ابن العم ليس بمحرم لها ولا يجوز أن تسلم إليه.
فصل: وإن افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما: أن يسافر بالولد فإن كان السفر مخوفاً أبو البلد الذي يسافر إليه مخوفاً فالمقيم أحق به فإن كان مميزاً لم يخبر بينهما لأن في السفر تغريراً بالولد وإن كان السفر لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد لأنه لا حظ للولد في حمله ورده وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المسافر لأن في الكون مع الأم حضانة وفي الكون مع الأب حفظ النسب والتأديب وفي الحضانة يقوم غير الأم مقامها وفي حفظ النسب لا يقوم غير الأب مقامه فكان الأب أحق وإن كان المسافر هو الأب فقالت الأم يسافر لحاجة فأنا أحق وقال الأب أسافر للنقلة فأنا أحق فالقول قول الأب لأنه أعرف بنيته. وبالله التوفيق.(3/169)
كتاب الجنايات
باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه
القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"1. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك" 2.
فصل: ويجب القصاص بجناية العبد وهو أن يقصد الإصابة بما يقتل غالباً فيقتله والدليل عليه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 179 [الآية وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وروى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الزاني المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس" 3. ولأنه لولم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس ولا يجب بجناية الخطأ وهو أن يقصد غيره فيصيبه فيقتله لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ ولا يجب في عمد الخطأ وهو أن يقصد الإصابة بما لا يقتل غالباً فيموت منه لأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل كما لا يجب حد الزنا في الوطء الشبهة حيث لم يقصد الزنا.
فصل: ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة
__________
1 رواه النسائي في كتاب التحريم باب 2.
2 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 8.
3 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. البخاري في كتاب الديات باب 66. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. أحمد في مسنده 1/382.(3/170)
عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر وفي السكران طريقان من أصحابنا من قال يجب عليه القصاص قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في كتاب الطلاق.
فصل: ويقتل المسلم بالمسلم والذمي بالذمي والحر بالحر والعبد بالعبد والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر لأنه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى ويقتل الذكر بالأنثى لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة ولأن المرأة كالرجل في حد القذف فكانت كالرجل في القصاص.
فصل: ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر ولا على الحر بقتل العبد لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد فإن جرح ذمي ذمياً ثم أسلم الجاني أو جرح عبد عبداً ثم أعتق الجاني اقتص منه لأنهما متكافئان منه حال الوجوب والاعتبار بحال الوجوب لأن القصاص كالحد والحد يعتبر بحال الوجوب بدليل أنه إذا زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر ولو زنى وهو عبد ثم أعتق عليه حد العبد فوجب أن يعتبر القصاص أيضاً بحال الوجوب وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم مات لم يجب القصاص لأن التكافؤ معدوم عند وجود الجناية فإن جرح مسلم مسلماً ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات فإن أقام في الردة زمانا يسري(3/171)
الجرح في مثله لم يجب القصاص لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص والسراية في الردة تسقط القصاص فغلب الإسقاط كما لو جرح جرحاً عمداً وجرحاً خطأ فإن لم يقم قي الردة زماناً يسري في الجرح ففيه قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب القصاص فسقط والثاني: يجب القصاص وهو الصحيح لأن الجناية والموت وجدا في حال الإسلام وزمان الردة لم يسر فيه الجرح فكان وجوده كعدمه وإن قطع يده ثم ارتد ثم مات ففيه قولان: أحدهما: يسقط القصاص في الطرف لأنه تابع للنفس فإذا لم يجب القصاص في النفس لم يجب في الطرف والثاني: وهو الصحيح أنه يجب لأن القصاص في الطرف يجب مستقراً فلا يسقط بسقوطه في النفس والدليل عليه أنه لو قطع طرف إنسان ثم قتله من لا قصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وإن سقط في النفس.
فصل: وإن قتل مرتد ذمياً ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القصاص وهو اختيار المزني لأنهما كافران فجرى القصاص بينهما كالذميين والثاني: لا يجب لأن حرمة الإسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب عليه قضاء العبادات ويحرم استرقاقه وإن كانت امرأة لم يجز للذمي نكاحها فلا يجوز قتله بالذمي وإن جرح مسلم ذمياً ثم ارتد الجاني ثم مات المجني عليه لم يجب القصاص قولاً واحداً لأنه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص وإن وجد التكافؤ بعد ذلك كما لو جرح حر عبداً ثم أعتق العبد وإن قتل ذمي مرتداً فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يجب عليه القصاص إن كان القتل عمداً والدية إن كان خطأ لأن الذمي لا يقتل المرتد تديناً وإنما يقتله عناداً فأشبه إذا قتل مسلماً وقال أبو إسحاق: لا يلزمه قصاص ولا دية وهو الصحيح لأنه مباح الدم فلم يضمن بالقتل كما لو قتله مسلم وقال أبو سعيد الاصطخري إن قتله عمداً وجب القصاص لأنه قتله عناداً وإن قتله خطأ لم تلزمه الدية لأنه لا حرمة له.
فصل: وإن حبس السلطان مرتداً فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه ففيه قولان: أحدهما: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد قتل من يكافئه والثاني: يجب عليه القصاص لأن المرتد لا يخلى إلا بعد الإسلام فالظاهر أنه مسلم فوجب القصاص بقتله وإن قتل المسلم الزاني المحصن ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القصاص لأن قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله كما لو قتل رجل رجلاً فقتله غير ولي الدم والثاني: لا يجب وهو المنصوص لأنه مباح الدم فلا يجب القصاص بقتله كالمرتد.
فصل: ولا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ولا على الأم بقتل ولدها لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقاد الأب من ابنه" 1. فإذا ثبت هذا في الأب ثبت في الأم لأنها كالأب في الولادة ولا يجب على الجد وإن علا ولا
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الديات باب 9. الدارمي في كتاب الديات باب 6. أحمد في مسنده 1/16.(3/172)
على الجدة وإن علت بقتل ولد الولد وإن سفل لمشاركتهم الأب والأم في الولادة وأحكامها وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبه بأحدهما: لم يجب القصاص لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الأب وإن رجعا في الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق وجب عليهما فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الإقرار وإن رجع أحدهما: وجب عليه القصاص لأنه ثبتت الأبوة للآخر ولقطع نسبه من الراجع وإن اشترك رجلان في وطء امرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما: لم يجب القصاص وإن أنكر أحدهما: النسب لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص لأن بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لحق النسب الآخر وانقطع عن الراجع وإن قتل زوجته وله منها ابن لم يجب عليه القصاص لأنه إذا لم يجب له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه وإن كان لهما ابنان أحدهما: منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص لأن القصاص لا تبعض فإذا سقط نصيب ابنه سقط نصيب الآخر كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص فعفا أحدهما: عن حقه وإن اشترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم يجز للمكاتب أن يقتص منه لأنه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته على عبده.
فصل: ويقتل الابن بالأب لأنه إذا قتل بمن يساويه فلأن يقتل بمن هو أفضل منه أولى وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان: أحدهما: لا يقتص منه لأن المولى لا يقتص منه لعبده والثاني: يقتص منه وإليه أومأ الشافعي رحمه الله في بعض كتبه لأن المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن ولهذا لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر.
فصل: وإن قتل مسلم ذمياً أو قتل حر عبداً أو قتل الأب ابنه في المحاربة ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الأخبار ولأن من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطئ والثاني: أنه يجب لأن القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى حتى لا يجوز فيه عفو الولي فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا.
فصل: وتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله وهو أن يجني كل واحد منهم جناية لو انفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه والدليل عليه ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلاً وقال: لو تمالأ فيه أهل صنعاء لقتلتهم ولأنا لولم نوجب القصاص عليهم جعل(3/173)
الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء فإن اشترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمداً وجناية البعض خطأ لم يجب القصاص على واحد منهم لأنه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القصاص على الأجنبي لأن مشاركة الأب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه كمشاركة غير الأب وإن اشترك صبي وبالغ في القتل فإن قلنا عمد الصبي خطأ لم يجب القصاص على البالغ لأن شريكه مخطئ وإن قلنا إن عمده عمد وجب لأن شريكه عامد فهو كشريك الأب وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب القصاص على الجارح لأنه شاركه في القتل عامداً فوجب عليه القصاص كشريك الأب والثاني: لا يجب لأنه إذا لم يجب على شريك المخطئ وجنايته مضمونة فلأن لا يجب على شريك الجارح نفسه والسبع وجنايتهما غير مضمونة أولى وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص عليهما لأن الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من جراحات فلم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب على الجميع وإن قطع أحدهما: يده وجز الآخر رقبته أو قطع حلقومه ومريئه أو شق بطنه فأخرج حشوته فالأول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثاني: قاتل لأن الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل الجرح ثم قتله الآخر وإن قطع أحدهما: حلقومه ومريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الآخر رقبته فالقاتل هو الأول لأنه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وإنما يتحرك حركة مذبوح ولهذا يسقط حكم كلامه في الإقرار والوصية والإسلام والتوبة وإن أجافه جائفة يتحقق الموت منها إلا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الآخر كان القاتل هو الثاني لأن حكم الحياة باق ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعد ما سقى اللبن وخرج من الجرح ووقع الأياس منه فعمل بوصيته فجرى مجرى المريض الميؤوس منه إذا قتل وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح إلا أنه يقتل في الغالب أو خاط جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات ففي وجوب القتل على الجاني طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القتل والثاني: لا يجب لأنه شاركه في(3/174)
القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان كالجارح إذا شاركه المجروح أو السبع في الجرح ومنهم من قال: لا يجب عليه القتل قولاً واحداً لأن المجروح هاهنا لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة فكان فعله عمد خطأ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح هناك والسبع قصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما وإن كان على رأس مولى عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولي بسم غير موح أو خاط جرحه في لحم حي ومات ففيه قولان: أحدهما: يجب على الولي القصاص لأنه جرح جرحاً مخوفاً فوجب عليه القصاص كما لو فعله غير الولي والثاني: لا قصاص عليه لأنه لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة وله نظر في مداواته فلم يجب عليه القصاص فإن قلنا يجب عليه القصاص وجب على الجارح لأنهما شريكان في القتل وإن قلنا لا قصاص عليه لم يجب على الجارح لأنه شارك من فعله عمد خطأ.(3/175)
باب ما يجب به القصاص من الجنايات
إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد غور كالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً وإن غرز فيه إبرة فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الأذن فمات منه وجب عليه القود لأن الإصابة بها في المقتل كالإصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه وإن كان في غير مقتل كالإلية والفخذ نظرت فإن بقي منه ضمناً إلى أن مات وجب عليه القود لأن الظاهر أنه مات منه وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب(3/175)
عليه القود لأنه له غور وسراية في البدن وفي البدن مقاتل خفية والثاني: وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الأصطخري أنه يجب لأنه لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود كما لو ضربه بمثقل صغير ولأن في المثقل فرقاً بين الصغير والكبير فكذلك في المحدد.
فصل: وإن ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيراً من حديد أو خشب أو حجر فمات منه وجب عليه القود لما روى أنس رضي الله عنه أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ولأنه يقتل غالبا فلولم يجب فيه القود جعل طريقاً إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء وإن قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك وإن كان بمثقل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا فإن كان في مقتل وفي مريض أوفي صغير أوفي حر شديد أوفي برد شديد أو والى عليه الضرب فمات وجب القود لأن ذلك يقتل غالباً فوجب القود فيه وإن رماه من شاهق أو رمى عليه حائطاً فمات وجب القود فيه لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه خنقاً شديداً أو عصر خصيتيه عصراً شديداً أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لأن ذلك يقتل في الغالب وإن خنقه ثم خلاه وبقي منه متألماً إلى أن مات وجب القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات إن تنفس وصح ثم مات لم يجب القود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود كما لو جرحه واندمل الجرح ثم مات.
فصل: وإن طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أو لعجزه عن التخلص بالضعف أوبأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب القود لأنه يقتل غالباً وإن ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم يجب القود لأن الذي فعله لا يقتل غالباً وإن كان في لجة لا يتخلص منها فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأنه ألقاه في مهلكة فهلك والثاني: لا يجب لأن هلاكه لم يكن بفعله.
فصل: وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً وإن أمسكه على رجل ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك لما روى أبو شريح الخز اعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعتي(3/176)
الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله أوطلب بدم الجاهلية في الإسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليقتل القاتل ويصبر الصابر". ولأنه سبب غير ملجئ ضمانه مباشرة فتعلق الضمان دون السبب كما لو حفر بئراً فدفع فيها آخر رجلا فمات.
فصل: وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع فقتله لم يجب القود لأنه سبب غير ملجئ فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله وإن جمع بينه وبين السبع في زريبة أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيات فنهسته فمات لم يجب القود ضيقاً كان المكان أو واسعاً لأن الحية تهرب من الآدمي فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً فمات وجب عليه القود لأنه ألجأه إلى قتله وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالباً ففيه قولان: أحدهما: يجب القود لأن خنس الحيات يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأن الذي ألسعه لا يقتل غالباً.
فصل: وإن سقاه سماً مكرهاً فمات وجب عليه القود لأنه يقتل غالباً فهو كما لو جرحه جرحا يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وتركه في بيته فدخل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئراً في داره فدخل رجل بغير إذنه فوقع فيها ومات وإن قدمه إليه أو خلطه بطعام فأكله فمات ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه بسكين والثاني: يجب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة فأهدت إليه يهودية بخيبر شاة(3/177)
مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال: "ارفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة". فأرسل إلى اليهودية فقال: "ما حملك على ما صنعت". قالت: قلت إن تكن نبياً لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك فأكل منها بشر بن البراءة بن معرور فمات فأرسل عليها فقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أو أن انقطاع أبهري". ولأنه سبب يفضي إلى القتل غالباً فصار كالقتل بالسلاح وإن سقاه سماً وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأن السم يقتل غالباً والثاني: لا يجب لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وذلك شبهة فسقط بها القود.
فصل: وإن قتله بسحر يقتل غالباً وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه إذا قتله بسكين وإن كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لأنه عمد خطأ فهو كما لو ضربه بعصاً فمات.
فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله وجب القود على المكره لأنه تسبب إلى قتله بمعنى يفضي إلى القتل غالباً فأشبه إذا رماه بسهم فقتله وأما المكره ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود لأنه قتله للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه والثاني: أنه يجب عليه القود وهو الصحيح لأنه قتله ظلماً لاستبقاء نفسه فأشبه إذا اضطر إلى الأكل فقتله ليأكله وإن أمر الإمام بقتل رجل بغير حق فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الإمام لأن المأمور معذور في قتله لأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق وإن كان يعلم أنه يقتله بغير حق وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور لأنه لا يجوز طاعته فيما لا يحل والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. وقد روى الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه" 2. فصار كما لو قتله بغير أمره وإن أمره بعض الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود علم أنه يقتله بغير حق أولم
__________
1 رواه أحمد في مسنده 5/66.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 40. أحمد في مسنده 3/67.(3/178)
يعلم لأنه لا تلزمه طاعته فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله فوجب عليه القود وإن أمر بالقتل صبياً لا يميز أو أعجمياً لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر لأن المأمور هاهنا كالآلة للآمر ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن شهادتهما وجب القود على الشهود لما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيدكما وأغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً فوجب عليهما القود كما لو جرحاه فمات.(3/179)
باب القصاص في الجروح والأعضاء
يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والأعضاء والدليل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وروى أنس رضي الله عنه أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله أتكسر ثنية الربيعة والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص". قال: فعفا القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه". ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص.
فصل: ومن لا يقاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس ومن اقتيد بغيره في النفس اقتيد به فيما دون النفس لأنه لما كان ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه.
فصل: وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم القصاص لأنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على واحد كالقصاص في النفس وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع واحد بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب القصاص على واحد منهما لأن جناية كل واحد منهما في بعض العضو فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو.(3/179)
فصل: والقصاص فيما دون النفس شيئين في الجروح وفي الأطراف فأما الجروح فينظر فيها فإن كانت لا تنتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والمأمومة والمنقلة لم يجب فيها القصاص لأنه لا تمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط فإن كانت الجناية تنتهي إلى عظم فإن كانت موضحة في الرأس أو للوجه وجب فيها القصاص لأنه تمكن المماثلة فيه ويؤمن أن يستوفى أكثر من حقه وإن كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ وجب فيها القصاص ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأنه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش فخالفهما في وجوب القصاص والمنصوص هو الأول لأنه يمكن استيفاء القصاص فيها من غير حيف لانتهائها إلى العظم فوجب فيها القصاص كالموضحة في الرأس والوجه.
فصل: وإن كانت الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولاً وعرضاً لقوله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص هو المماثلة ولا تمكن المماثلة في الموضحة إلا بالمساحة في الطول والعرض فإن كانت في الرأس حلق موضعها من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره ويقتص منه فإن كانت الموضحة في مقدم الرأس أوفي مؤخره أوفي قزعته وأمكن أن يستوفي قدرها في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها وإن كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الجاني استوفى بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله لأن الجميع رأس وإن كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لأنه قصاص في غير العضو الذي جنى عليه ويجب فيما بقي الأرش لأنه تعذر فيه القصاص فوجب البدل فإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني لأن الجميع محل للجناية وإن أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره فقد قال بعض أصحابنا: أنه لا يجوز لأنه يأخذ موضحتين بموضحة قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه يجوز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك وإن كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالمنصوص أنه يجب فيها القصاص اقتص فيها على ما ذكرناه في الرأس فإن كانت في الساعد فزاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق فزادت على(3/180)
قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا.
فصل: وإن كانت الجناية هاشمة أو منقلة أو مأمومة فله أن يقتص في الموضحة لأنها داخلة في الجناية ويمكن القصاص فيها ويأخذ الأرش في الباقي لأنه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل.
فصل: وأما الأطراف فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن المماثلة فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص ولا يجوز أن يأخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لأنه يأخذ دون حقه وإن أوضح رأسه فذهب ضوء عينه فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص وقال فيمن قطع إصبع رجل فتأكل كفه أنه لا قصاص في الكف فنقل أبو إسحاق قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين قولان: أحدهما: لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كما لو قطع إصبعه فتأكل الكف والثاني: يجب لأنه لا يمكن إتلافه إلا بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال يجب القصاص في الضوء قولاً واحداً ولا يجب في الكف لأن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء.
فصل: ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويؤخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير بجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره.
فصل: ويؤخذ الأنف بالأنف لقوله تعالى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ولا يجب القصاص إلا في المارن لأنه ينتهي إلى مفصل ويؤخذ الشام بالأخشم والأخشم بالشام لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم الشم نقص في غيره ويؤخذ البعض بالبعض(3/181)
وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتص بالنصف والثلث من مارن الجاني ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأنه ربما يكون أنف الجاني صغيراً وأنف المجني عليه كبيراً فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة قطعنا جميع المارن بالبعض وهذا لا يجوز ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو انخرام لأنه يأخذ أكثر من حقه فإن قطع من سقط بعض مارنه صحيحاً فللمجني عليه أن يأخذ الموجود فينتقل بالباقي إلى البدل لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض فأخذ الموجود وانتقل في الباقي إلى البدل وإن قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه وينتقل في الباقي إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فيه فانتقل فيه إلى البدل.
فصل: وتؤخذ الأذن بالأذن لقوله عز وجل: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} ولا يمكن استيفاء القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل تأخذ أذن السميع بأذن الأصم وأذن الأصم بأذن السميع لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم السمع نقص في غيره ويؤخذ الصحيح بالمثقوب والمثقوب بالصحيح لأن الثقب ليس بنقص وإنما تثقب للزينة ويؤخذ البعض بالبعض على ما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ صحيح بمخروم لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المخروم بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما ذكرناه في الأنف ولا يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يؤخذ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء والثاني: يؤخذ لأنهما متساويان في المنفعة بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق لم يجب القصاص لأنه لم يمكن المماثلة فيما قطع منه وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة على خده وجب القصاص لأن المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حتى تصير معلقة على خده وإن أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص لأن القصاص يجب بالإبانة وما حصل من الالصاق لا حكم له لأنه يجب إزالته ولا تجوز الصلاة معه وإن قطع أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني أذنه فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه لأنه اقتص منه بالإبانة وما فعله من الإلصاق لا حكم له لأنه يستحق إزالته للصلاة وذلك إلى السلطان وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه ببعض أذن الجاني(3/182)
فألصقه الجاني فالتصق فللمجني عليه أن يعود فيقطعه لأنه يستحق الإبانة ولم يوجد ذلك وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع لأن هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن القصاص فيها.
فصل: وتؤخذ الشفة بالشفة وهو ما بين جلد الذقن والخدين علواً وسفلاً ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لأنه قطع لحم لا ينتهي إلى عظم فلم يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والصحيح هو الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه ينتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص.
فصل: ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} ولما رويناه في أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ المكسور بالصحيح ويؤخذ معه من الدية بقدر ما انكسر منه لما ذكرناه في الأنف والأذن ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما لأنهما متساويان وإن قلع سناً زائدة وليس للجاني مثلها وجبت على الحكومة لأنه تعذر المثل فوجب البدل وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ كما لا يؤخذ سن أصلي بسن أخرى وإن كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه نصف سنه اقتص منه فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن وإن وجب له القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان: أحدهما: أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لأنه مثله في محله فصار كما لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لأنه قلع سنه بغير سن والقول الثاني أن النابت هبة مجددة لأن الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شيء للجاني وإن قلع سن رجل فاقتص منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي اقتص منه فإن قلنا إن النابت هبة مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لأنه استوفى ما كان له وإن قلنا إن النابت هو المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه فيه وجهان: أحدهما: أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة لأنه أعدمه السن فاستحق أن يعدم سنه والثاني: ليس له قلعه لأنه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك.(3/183)
فصل: ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن له حداً ينتهي إليه فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ أكثر من حقه ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه وإن قطع نصف لسانه أو ثلثه اقتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه لأنه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق والمذهب أنه يقتص منه للآية ولأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه.
فصل: وتأخذ اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل بالأنامل لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب فيها القصاص وإن قطع يده من الكوع اقتص منه لأنه مفصل وإن قطع من نصف الساعد فله أن يقتص من الكوع لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه فانتقل فيه إلى البدل وإن قطع من المرفق فله أن يقتص مثله لأنه مفصل وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص في غيره وإن قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لأن الجميع مفصل داخل في الجناية ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع لأن هناك يمكنه أن يقتص في الجميع في محل الجناية وهاهنا لا يمكنه أن يقتص في موضع الجناية وإن قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة إنه يمكنه أن يقتص منه من غير جائفة اقتص منه لأنه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف وإن أراد أن يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لأنه يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا يجوز أن يقتص في غيره وإن قال أهل الخبرة إنه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه لأنه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك وما يجب فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه.
فصل: ولا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء ولا رجل صحيحة برجل شلاء لأنه يأخذ(3/184)
فوق حقه وإن أراد المجني عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة نظرت فإن قال أهل الخبرة إنه إن قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف عليه لم يجز أن يقتص منه لأنه يأخذ نفساً بطرف وإن قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه فإن طلب مع القصاص الأرش لنقص الشلل لم يكن له لأن الأشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما تنقص عنها في الصفة فلم يؤخذ الأرش للنقص مع القصاص كما لا يأخذ ولي المسلم من الذي مع القصاص أرشاً لنقص الكفر وفي أخذ الأشل بالأشل وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهما متساويان والثاني: لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما.
فصل: ولا تؤخذ يد كاملة بيد ناقصة الأصابع فإن قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: أن يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ من القصاص الحكومة ما تحتها ولهذا لو قطع أصابعه والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمسة أصابع أو قطع من له خمسة أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص فيه وجهان: أحدهما: يدخل كما يدخل في ديتها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدخل بل يأخذ مع القصاص الحكومة ما تحتها والفرق بين القصاص والدية أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص ولهذا لو قطع أصابعه وتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع ولو طلب القصاص قطع الأصابع ويأخذ الحكومة في الكف وتؤخذ يد ناقصة الأصابع بيد كاملة الأصابع فإن قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع فللمجني عليه أن يقتص من الكف ويأخذ دية الأصابع الخامسة أو الحكومة في الأصبع السادسة لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض،(3/185)
فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل كما لو قطع عضوين ووجد أحدهما:.
فصل: ولا يؤخذ أصلي بزائد فإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائد لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه ويجوز أن يقتص من الأصابع الأصلية لأنها داخلة في الجناية ويأخذ الحكومة في الأصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل في حكومتها وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي فإن قطع من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فللمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه دون حقه ولا شيء له لنقصان الإصبع الزائدة لأن الزائدة كالأصلية في الخلقة وإن كان لكل واحد منهما إصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما أخذ أحدهما: بالأخرى لأنهما متساويان وإن اختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما مختلفان في أصل الخلقة.
فصل: وإن قطع من له يد صحيحة كف رجل له إصبعان شلا وإن لم يقتص منه في الكف لأنه يأخذ كاملاً بناقص ويجوز أن يقتص في الأصابع الثلاث الصحيحة لأنها مساوية لأصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لأنه لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف وهل يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين.
فصل: ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظفار لها لأن اليد بلا أظفار ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لأنه يأخذ بعض حقه.
فصل: فإن قطع أصبع رجل فتأكل منه الكف وجب القصاص في الإصبع لأنه أتلفه بجناية عمد ولا يجب في الكف لأنه لم يتلفه بجناية عمد لأن العمد فيه أن يباشره بالإتلاف ولم يوجد ذلك ويجب عليه دية كل إصبع من الأصابع لأنها تلفت بسبب جنايته ويدخل في دية كل إصبع أرش ما تحته من الكف لأن الكف تابع للأصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الأصبع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين.
فصل: وتؤخذ الأليتان وهما الناتئتان بين الظهر والفخذ وقال بعض أصحابنا: لا تؤخذ وهو قول المزني رحمة الله عليه لأنه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كالدين.
فصل: ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد(3/186)
فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص ويؤخذ بعضه ببعضه وقال أبو إسحاق لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان والمذهب الأول لأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه ويؤخذ ذكر الفحل بذكر الخصي لأنه كذكر الفحل في الجماع وعدم الإنزال لمعنى في غيره ويقطع الأغلف بالمختون لأنه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزالتها بالختان ولا يؤخذ صحيح بأشل لأن الأشل ناقص الشلل فلا يؤخذ بكامله.
فصل: ويقطع الأنثيان بالأنثيين لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأنه ينتهي إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص فإن قطع إحدى الأنثيين وقال أهل الخبرة إنه أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه وإن قالوا إنه يؤدي قطعها إلى إتلاف الأخرى لم يقتص منه لأنه يقتص من أنثيين بواحدة.
فصل: واختلف أصحابنا في الشفريين فمنهم من قال لا قصاص فيهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه لحم وليس له مفصل ينتهي إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ ومنهم من قال: يجب فيه القصاص وهو المنصوص في الأم لأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما القصاص.
فصل: وإن قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه قبل أن يتبين حاله أنه ذكر أو أنثى نظرت فإن طلب القصاص لم يكن له لجواز أن يكون امرأة فلا يجب لها عليه في شيء من ذلك القصاص وإن طلب المال نظرت فإن عفا عن القصاص أعطى أقل حقيه وهو حق امرأة فيعطي دية عن الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين فإن بان أنه امرأة فقد استوفت حقها وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من دية الذكر والأنثيين وحكومة عن الشفرين فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه القصاص أما المال ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعطى لأن دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يعطي أقل ما يستحق مع القود لأنه يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفواً عن القود فيعطي حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والأنثيين وقال القاضي أبو حامد المروروذي في جامعه يعطي دية الشفرين وهذا خطأ لأنه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والأنثيين والحكومة في الشفرين.(3/187)
فصل: وما وجب فيه القصاص من الأعضاء وجب فيه القصاص وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض لأنا لو اعتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الأعضاء لأنه لا يكاد أن يتفق العضوان في هذه الصفات فسقط اعتبارها.
فصل: وما انقسم من الأعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة والجفن لم يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى ولا تؤخذ سن بسن غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض كالعين بالأنف واليد بالرجل وما لا يؤخذ بعضه ببعض مما ذكرناه لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه وكذلك ما لا يؤخذ من الأعضاء الكاملة بالأعضاء الناقصة كالعين الصحيحة بالقائمة واليد الصحيحة بالشلاء لا يؤخذ وإن رضي الجاني والمجني عليه بأخذها لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.
فصل: وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل.
فصل: وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضواً من جماعة لم تتداخل حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون فإن قتل أو قطع واحداً بعد واحد اقتص منه الأول لأن له مزية بالسبق وإن سقط حق الأول بالعفو اقتص للثاني وإن سقط حق الثاني اقتص للثالث وعلى هذا وإذا اقتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية لأنه فاتهم القود بغير رضاهم فانتقل حقهم إلى الدية كما لو مات القاتل أو زال طرفه وإن قتلهم أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو القرعة فبدر غيره واقتص صار مستوفياً لحقه وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه كما قلنا قيمن قتل مرتداً بغير إذن الإمام أنه يصير مستوفياً لقتل الردة وإن أساء في الافتيات على الإمام وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قتله في غير المحاربة والثاني: أنه يقتل بالجميع لأن قتل المحاربة لحق الله تعالى ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى.
فصل: وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم القطع أو(3/188)
تأخر لأنا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع وإن قدمنا القطع لم يسقط حق المقتول وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما: ويخالف إذا قتل اثنين لأنه لا يمكن إبقاء الحقين فقدم السبق وإن قطع إصبعاً من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الإصبع للأول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الأصبع ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع للأول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شيء لأن النفس لا تنقص لنقصان اليد ولهذا يقتل صحيح بمقطوع اليد واليد تنقص بنقصان الأصبع ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الأصابع وإن قطع يمين رجل ثم قطع إصبعاً من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول لأن حقه سابق ويخالف إذا قتل رجلاً ثم قطع يد آخر حيث أخرنا القتل وإذا كان سابقاً لأن هناك يمكن إبقاء الحقين من غير نقص يدخل على ولي المقتول بقطع اليد وهاهنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الإصبع.
فصل: وإن قتل رجلاً وارتد أو قطع يمين رجل وسرق قدم حق الآدمي من القتل والقطع وسقط حق الله تعالى لأن حق الآدمي مبني على التشديد فقدم على حق الله تعالى.(3/189)
باب استيفاء القصاص
من ورث المال ورث الدية لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر رضي الله عنه يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع عمر رضي الله عنه عن ذلك ويقضي من الدية دينه وينفذ منها وصيته وقال أبو ثور: لا يقضي منها الدين ولا ينفذ منها الوصية لأنها تجب بعد الموت والمذهب الأول لأنه مال يملكه الوارث من جهة فقضى منه دينه ونفذت منه وصيته كسائر أمواله ومن ورث المال ورث القصاص والدليل عليه ما روى أبو شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقل فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة وقلنا بأصح القولين أنه يجب القصاص في طرفه فقد نقل المزني أنه قال: يقتص وليه المسلم وقال المزني رحمه الله لا يقتص غير الإمام لأن المسلم لا يرثه فمن أصحابنا من قال: لا(3/189)
يقتص غير الإمام كما قال المزني وحمل قول الشافعي رحمة الله عليه على الإمام وقال عامة أصحابنا: يقتص المناسب لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ والذي يتشفى هو المناسب ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئاً كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة فإن القصاص للوارث وإن لم يرث شيئاً وإن كان الوارث صغيراً أو مجنوناً لم يستوف له الولي لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون لأن فيه حظاً للقاتل بأن لا يقتل وفيه حظاً للمولى عليه ليحصل له التشفي فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلي لم يجز تخليته لأن فيه تغريراً بحق المولى عليه بأن يهرب فيضيع الحق وإن ركب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان: أحدهما: أن يصير مستوفياً لحقه كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها والثاني: لا يصير مستوفياً لحقه وهو الصحيح لأنه ليس من أهل استيفاء الحقوق ويخالف الوديعة فإنها لو تلفت من غير فعل برئ منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية وإن كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفي وإن كان بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لأنه مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين واستيفاؤه إلى السلطان وإن كان له من يرث منه بعض القصاص كان استيفاؤه إلى الوارث والسلطان ولا يجوز لأحدهما: أن ينفرد به لما ذكرناه.
فصل: وإن قتل رجل وله اثنان من أهل الاستيفاء فبدر أحدهما: وقتل القاتل من غير إذن أخيه ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص وهو الصحيح لأن له في قتله حقاً فلا يجب عليه القصاص بقتله كما لا يجب الحد على أحد الشريكين في وطء الجارية المشتركة والثاني: يجب عليه القصاص لأنه اقتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله ولأن القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل وإن كان قاتلاً لبعض النفس والنفس والنصف الذي لأخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله وإن عفا أحدهما: عن حقه من القصاص ثم قتله الآخر بعد العلم بالعفو نظرت فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص لأنه لم يبق له شبهة وإن كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا قتله قبل العفو فلأن يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى وإن قلنا لا يجب عليه قبل العفو ففيما بعد العفو قولان:(3/190)
أحدهما: يجب عليه لأنه لا حق له في قتله فصار كما لو عفوا ثم قتله أحدهما: والثاني: لا يجب لأن على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود بعد عفو الشريك فيصير ذلك شبهة في سقوط القود فإذا قلنا إنه يجب القصاص على الابن القاتل وجب دية الأب في تركة قاتله نصفها للأخ الذي لم يقتل ونصفها للأخ القاتل ولورثته بعده وإذا قلنا لا يجب القصاص على الابن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول لأنه قتله وهو يستحق نصف النفس وللأخ الذي لم يقتل نصف الدية وفيمن يجب عليه قولان: أحدهما: يجب على الابن القاتل لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما: لزمه ضمان حق الآخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها أحدهما: فعلى هذا إن أبرأ لابن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح إبراؤه لأنه أبرأ من لا حق له عليه وإن أبرأ أخاه صح إبراؤه لأنه أبرأ من عليه الحق والقول الآخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي وجب حقه عليه والقاتل لو قتله أجنبي لم يجب حقه عليه فعلى هذا لو أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه وإن أبرأ ورثة قاتل أبيه صح إبراؤه ولورثة قاتل الأب مطالبة الابن القاتل بنصف الدية لأن ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببراءتهم عن الابن الآخر.
فصل: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عزره على ذلك ومن أصحابنا من قال: لا يعزر لأنه استوفى حقه والمنصوص أنه يعزر لأنه افتيات على السلطان والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني عليه الاستيفاء وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص فإن كانت كالة منع من الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" 1. وإن كانت مسمومة منع من الاستيفاء بها لأنه يفسد البدن ويمنع من
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصيد 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11. الترمذي في كتاب الديات باب 14. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.(3/191)
غسله فإن عجل واستوفى بآلة كالة أو بآلة مسمومة عزر فإن طلب من له القصاص أن يستوفي بنفسه فإن كان في الطرف لم يمكن منه لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وإن كان في النفس فإن كان يكمل للاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية" 1. لأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه وإن لم يكمل للاستيفاء أمر بالتوكيل فإن يكن من يستوفي بغير عوض استؤجر من خمس المصالح من يستوفي لأن ذلك من المصالح وإن لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه وجبت الأجرة على الجاني لأن الحق عليه فكانت أجرة الاستيفاء عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن قال الجاني أقتص لك بنفسي ولا أؤدي الأجرة لم يجب تمكينه لأن القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ ولأن من لزمه إيفاء حق لغيره لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن كان القصاص لجماعة وهم من أهل الاستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم لأنه لا يجوز اجتماعهم على القصاص لأن في ذلك تعذيباً للجاني ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة.
فصل: وإن كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] وفي قتل الحامل إسراف في القتل لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت إنها زنت وهي حبلى فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: "أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها". فلما أن وضعت جاء بها فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأنه لا يعيش إلا به وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية: "اذهبي حتى ترضعيه". ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه وهو مولود أولى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز أن يقتص لأنه يستغني بها عن الأم وإن وجد مرضعات غير رواتب أو وجدت بهيمة يسقي من لبنها فالمستحب
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 4. أحمد في مسنده 6/385.(3/192)
لولي الدم أن لا يقتصر حتى ترضعه لأن اختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه فإن لم يصبر اقتص منها لأن الولد يعيش بالألبان المختلفة وبلبن البهيمة وإن ادعت الحمل قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه لا تحبس حتى يشهد أربع نسوة بالحمل لأن القصاص وجب فلا يؤخر بقولها وقال أكثر أصحابنا تحبس بقولها لأن الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه.
فصل: وإن كان القصاص في الطرف فالمستحب أن لا يستوفي إلا بعد استقرار الجناية بالاندمال أو بالسراية إلى النفس لما روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة قال: طعن رجل رجلاً بقرن في رجله فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني فقال: "دعه حتى يبرأ" فأعادها عليه مرتين أو ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حتى يبرأ". فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: برئ صاحبي وعرت رجلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حق لك". فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه فإن استوفى قبل الاندمال جاز للخبر وهل يجوز أخذ الأرش قبل الاندمال فيه قولان: أحدهما: يجوز كما يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال والثاني: لا يجوز لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال لأنه قد يسري إلى النفس ويدخل في دية النفس وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف القصاص فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة فإذا قلنا يجوز ففي القدر الذي يجوز أخذه وجهان: أحدهما: يجوز أخذه بالغاً ما بلغ لأنه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ أقل الأمرين من أرش الجناية أودية النفس لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره لأنه ربما سقط فعلى هذا إن قطع يديه ورجليه وجب في الظاهر ديتان وربما سرت الجناية إلى النفس فرجع إلى دية فيأخذ دية فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه وإن اندملت أخذ دية أخرى.
فصل: وإن قلع سن صغير لم يثغر أوسن كبير قد أثغر وقال أهل الخبرة أنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الإياس من نباته لأنه لا يتحقق الإتلاف فيه قبل الإياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الإياس من نباته فإن مات قبل الإياس لم يجب القصاص لأنه لم يتحقق الإتلاف فلم يقتص مع الشك.(3/193)
فصل: إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن السيف أرجى الآلات فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه لأن حقه في القتل وقد قتل وعذب فإن أحرقه أو أغرقه أورماه بحجر أورماه من شاهق أو ضربه بخشب أو حبسه ومنعه من الطعام والشراب فمات فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ولما روى البراءة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه". ولأن القصاص موضوع على الماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب فجاز أن يستوفي بها القصاص وله أن يقتص منه بالسيف لأنه قد وجب له القتل والتعذيب فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز فإن قتله بالسحر قتل بالسيف لأن عمل السحر محرم فسقط وبقي القتل فقتل بالسيف وإن قتله باللواط أو بسقي الخمر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه إن قتله بسقي الخمر قتله بقيء الماء وإن قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبه لأنه تعذر مثله حقيقة ففعل به ما هو أشبه بفعله والثاني: أنه يقتله بالسيف لأنه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن ضرب رجلاً بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف لأن قتله مستحق وليس هاهنا ما هو أرجى من السيف فقتل به وإن قتله بمثقل أورماه من شاهق أو منعه من الطعام والشراب مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان: أحدهما: يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف والثاني: أنه يقتل بالسيف لأنه فعل به مثل ما فعل وبقي إزهاق الروح فوجب بالسيف وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفي القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة45] فإن مات به فقد استوفى حقه وإن لم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضواً آخر ولا أن يوضع في موضع آخر لأنه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه(3/194)
قولان: أحدهما: يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من الساعد لأنه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفي بها القصاص كاللواط والثاني: يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد لأنه جهة يجوز القتل بها في غير القصاص فجاز القتل بها في القصاص كالقطع من المفصل وحز الرقبة إن اقتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف لأنه لا يمكن أن يجاف جائفة أخرى ولا أن يقطع منه عضو آخر فتصير جائفتان وقطع عضوين بعضو.
فصل: وإن أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى ونحوه ولا يقتص منه بالسيف لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم.
فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة عولج بما يزيل ضوء العين من كافور يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها لأنه تعذر استيفاء القصاص فيه بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لأنه قصاص في غير محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كما قلنا في القتل باللواط وإن كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة اقتص منه فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة وإن لطمه فذهب الضوء فقد قال بعض أصحابنا إنه يلطم كما لطم فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه وإن لم يذهب عولج على ما ذكرناه وقال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه لا يقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة والدليل عليه ما روى يحيى بن جعده أن أعرابياً قدم بجلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه فأبى فرفعهما إلى علي فدعا علي رضي الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه ولأن اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه ولهذا فهو انفراد من إذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص فلا يستوفي به القصاص في الضوء كالهاشمة وإن قلع عين رجل بالأصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالإصبع ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه يأتي على ما تأتي عليه الحديدة مع المماثلة والثاني: لا يجوز لأن الحديد أرجى فلا يجوز بغيره.(3/195)
فصل: وإن وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع وادعى أنه أخطأ فإن كان يجوز في مثله الخطأ فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع فيه يمينه لأنه يتحمل ما يدعيه وإن أراد أن يعود ويقتص فقد قال في موضع: لا يمكن وقال في موضع يمكن ومن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: لا يمكن لأنه لا يؤمن في الثاني والثاني: أنه يمكن لأن الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله ومن أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن لم يحسن لم يمكن لأنه لا يؤمن أن يعود إلى مثله وحمل القولين على هذين الحالين وإن وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أنملة فقطع أنملتين فإن كان عامداً وجب عليه القود في الزيادة وإن كان خطأ وجب عليه الأرش كما لو فعل ذلك في غير القصاص وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزمه شيء لأنه حصل بفعله فهدر.
فصل: وإن اقتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص لأنه تلف من جائز وغير جائز ويجب نصف الدية لأنه هلك من مضمون وغير مضمون فسقط النصف ووجب النصف.
فصل: وإن وجب له القصاص في يمينه فقال أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فإن قال: تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان لأنه قطعهما ببذله ورضاه وإن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفى فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لأنه موضع شبهة وهل يجب عليه الدية فيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها والثاني: يجب وهو المذهب لأنه بذل على أن يكون عوضاً عن اليمين فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد وتلفت عنده فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه وفيما يضمن وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لأنه تعمد قطع يد محرمة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجب القود لأنه قطعها ببذل الجاني ورضاه وتلزمه الدية لأنه قطع يداً لا يستحقها مع العلم به فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح لأن الدماء لا تستباح بالعوض وهل يسقط القصاص في اليمين فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأن عدوله إلى اليسار رضاً بترك القصاص في اليمين والثاني: أنه لا يسقط لأنه أخذ اليسار على أن يكون بدلاً عن اليمين ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فإذا قلنا لا(3/196)
يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار وللمقتص عليه القصاص في اليمين وإن قلنا إنه يسقط القصاص فله دية اليمين وعليه دية اليسار وإن كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها وجب عليه القصاص إن كان عالماً أو الدية إن كان جاهلاً لأن بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه.
فصل: إذا اقتص في الطرف فسرى إلى نفس الجاني فمات لم يجب ضمان السراية لما روي أن عمراً وعلياً رضي الله عنهما قالا في الذي يموت من القصاص: لا دية له وإن جنى على طرف رجل فاقتص منه ثم سرت الجناية إلى نفس الجاني قصاصاً عن سراية الجناية إلى نفس المجني عليه لأنه لما كانت السراية كالمباشرة في إيجاب القصاص كانت كالمباشرة في استيفاء القصاص وإن سرى القصاص إلى نفس الجاني ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه ففيه وجهان: أحدهما: أن السراية قصاص لأنها سراية قصاص فوقعت عن القصاص كما لو سرت الجناية ثم سرى القصاص والثاني: وهو الصحيح أن السراية هدر ولا تكون قصاصاً لأنها سبقت القصاص فلا يجوز أن تكون قصاصاً عما وجب بعدها فعلى هذا يجب تركة الجاني نصف الدية لأنه قد أخذ منه بقدر نصف الدية وبقية النصف.
فصل: من وجب عليه قتل بكفر أوردة أوزنا أو قصاص فالتجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم من قتله والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية والعقرب.
فصل: ومن وجب عليه القصاص في النفس فمات عن مال أو وجب عليه قصاص في الطرف فزال الطرف وله مال ثبت حق المجني عليه في الدية لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل إذا تعذر أحدهما: ثبت الآخر كذوات الأمثال.(3/197)
باب العفوعن القصاص
ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو على المال لما روى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". فإن عفا مطلقاً بنينا على ما يجب بقتل العمد وفيه قولان: أحدهما: أن موجب قتل العبد القصاص وحده ولا تجب الدية إلا بالاختيار والدليل عليه قوله عز وجل:(3/197)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال والقول الثاني: أن موجبه أحد الأمرين من القصاص أو الدية والدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما فكان الواجب أحدهما: كالهدي والطعام في جزاء الصيد فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقاً سقط القصاص ولم تجب الدية لأنه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو وإن قلنا إنه يجب أحد الأمرين فعفا عن القصاص وجبت الدية لأن الواجب أحدهما: فإذا ترك أحدهما: وجب الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص وإن قال اخترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية فيه وجهان: أحدهما: له أن يرجع لأن القصاص أعلى فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية لأنه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص فإن جنى عمد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال وهل يصح الشراء ينظر فيه فإن كانا لا يعرفان عدد الإبل وأسنانها لم يصح الشراء لأنه بيع مجهول فإن كانا يعرفان العدد والأسنان ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الشراء لأن الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن كما قلنا في السلم والثاني: أنه يصح لأنه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به فجاز البيع به كالعوض في القرض.
فصل: فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على غير مال لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه فلا يملكه الولي كهبة ماله وإن أراد أن يعفو على مال فإن كان له مال أوله من ينفق عليه لم يجز العفو لأنه يفوت عليه القصاص من غير حاجة وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته والثاني: لا يجوز وهو المنصوص لأنه يستحق النفقة في بيت المال ولا حاجة به إلى العفو عن القصاص وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الأمر إلى السلطان فإن رأى القصاص اقتص وإن رأى العفو على مال عفا لأن الحق للمسلمين فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لأنه تصرف لا حظ فيه للمسلمين فلم يملكه.
فصل: وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتي برجل قتل رجلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل وروى قتادة رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قتل(3/198)
رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما وهو إلى جنبه ما تقول فقال: إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملئ علماً ولأن القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب قال: دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها قد تصدقت بحقي فقضى لسائرهم بالدية ولأنه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة.
فصل: وإن وكل من له القصاص من يستوفي له ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو ففيه قولان: أحدهما: لا يصح العفو لأنه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلافي ما وكل فيه فلم يصح العفو كما لو عفا بعد ما رمى الحربة إلى الجاني والثاني: يصح لأنه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالإبراء من الدين ولا يجب القصاص على الوكيل لأن قتله وهو جاهل بتحريم القتل وأما الدية فعلى القولين: إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية كما لا تجب إذا عفا عنه بعد القتل وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل لأنه قتل محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه يرجع عليه لأنه غره حين لم يعلمه بالعفو كما قلنا فيمن وطئ أمة غر بحريتها في النكاح وقلنا إن النكاح باطل أنه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره في أحد القولين وهذا خطأ لأن الذي غره في النكاح مسيء مفرط فرجع عليه والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط.
فصل: فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس لأن القصاص لا يتبعض فإذا سقط في بالبعض سقط في الجميع وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو.
فصل: وإن قطع أصبع رجل عمداً فعفا المجني عليه عن القصاص والدية ثم(3/199)
اندملت سقط القصاص والدية وقال المزني رحمه الله يسقط القصاص ولا تسقط الدية لأنه عفا عن القصاص بعد وجوبه فسقط وعفا عن الدية قبل وجوبها لأن الدية لا تجب إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط وهذا خطأ لأن الدية تجب بالجناية والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم اندمل كان أرش الطرف له دون المشتري فدل على أنه وجب بالجناية وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد الإندمال فصار كما لو عفا عن دين مؤجل فإن سرت الجناية إلى الكف واندملت سقط القصاص في الأصبع بالعفو ولم يجب في الكف لأنه تلف بالسراية والقصاص فيما دون النفس لا يجب بالسراية وسقطت دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يسقط أرش ما تسري إليه لأنه عفا عنه قبل الوجوب وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها سقط القود في الأصبع والنفس لأنه سقط في الأصبع بالعفو بعد الوجوب وسقط في النفس لأنها لا تتبعض وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل وفيها قولان: فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس وإن قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وإن كان بغير لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا فيه قولان: أحدهما: أنه وصية لأنه يعتبر من الثلث والثاني: أنه ليس بوصية لأن الوصية ما تكون بعد الموت وهذا إسقاط في حال الحياة فإذا قلنا إنه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل وإن قلنا إنه ليس بوصية صح العفوعن دية الأصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب ولا يصح عما زاد لأنه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس إلا أرش أصبع وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولا تسقط دية النفس لأنه أبرأ منها قبل الوجوب وأما دية الأصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا إنه وصية للقاتل وفيها قولان وإن كان بلفظ العفو وقلنا إنه ليس بوصية فإن خرج من الثلث سقط وإن خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب الباقي لأنه إبراء عما وجب.
فصل: فإن جنى جناية يجب فيها القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة إن عفى عن القصاص لأن القتل منفرد عن الجناية فلم يدخل حكمه في وجوب لأجله القصاص أو الدية، ومن(3/200)
أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية لأنه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقي له النصف ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح لأن القتل انفرد عن الجناية فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف الدية لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس ولو سرت وجب فيها الدية وقد أخذ النصف وبقي النصف.
فصل: إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فاقتص في اليد ثم عفى عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لأنه قطعها في حال لا يضمنها فأشبه إذا قطع يد مرتد فأسلم ولأن العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفى كما لو قبض من ديته بعضه ثم أبرأه وإن عفى على مال وجب له نصف الدية لأنه بالعفو صار حقه في الدية وقد أخذ ما يساوي نصف الدية فوجب له النصف فإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له مال لأنه لم يجب له أكثر من دية وقد أخذ ما يساوي دية فلم يجب له شيء وإن قطع نصراني يد مسلم فاقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً وإن اختار أن يعفو على الدية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عشرة آلاف درهم لأن دية المسلم اثنا عشر ألفاً وقد أخذ ما يساوي ألفي درهم فوجب الباقي والثاني: أنه يجب له نصف ديته وهو ستة آلاف درهم لأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف درهم فوجب الباقي وإن قطع يديه فاقتص منه ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللوالي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفساً فإن عفى على الدية أخذ على الوجه الأول ثمانية آلاف درهم لأنه أخذ ما يساوي أربعة آلاف درهم وبقي له ثمانية آلاف درهم وعلى الوجه الثاني لا شيء له لأنه رضي أن يأخذ نفسه بنفسه فيصير كما لو استوفى ديته وإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم سرى القطع إلى نفس الرجل فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه فإن عفا على مال وجب على الوجه الأول تسعة آلاف درهم لأن الذي أخذ يساوي ثلاثة آلاف درهم وبقي تسعة آلاف درهم وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لأنه رضي أن يأخذ يدها بيده وذلك بقدر نصف ديته وبقي الصف.(3/201)
كتاب الديات
باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات
تجب الدية بقتل المسلم لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وتجب بقتل الذمي والمستأمن ومن بيننا وبينهم هدنة لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لأنه محقون الدم مع كونه من أهل القتال فكان مضموناً بالقتل كالذمي.
فصل: وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا إنه لا يجب القصاص في طرفه أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال ففيه قولان: أحدهما: لا تجب دية الطرف لأنه تابع للنفس في الدية فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف والثاني: أنه تجب وهو الصحيح لأنه الجناية أوجبت دية الطرف والردة قطعت سراية الجريح فلا تسقط ما تقدم وجوبه كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه فإن جرح مسلماً ثم ارتد ثم أسلم ومات فإن أقام في الردة زماناً تسري فيه الجناية ففيه قولان: أحدهما: تجب دية كاملة لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان ولو سرت إلى النفس وجبت دية وهذا مسلم في حال استقرار الجناية فوجب فيه دية مسلم والثاني: يجب نصف الدية لأن الجناية في حال الإسلام توجب والسراية في حال الردة تسقط فوجب النصف كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات وإن لم يقم في الردة زماناً تسري فيه الجناية وجبت دية مسلم لأنه مسلم في حال الجناية وفي حال استقرار الجناية ولا تأثير لما مضى في حال الردة فلم يكن له حكم.
فصل: وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم لأنه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الأول لأنها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة.
فصل: وإن أرسل سهماً على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم وقال أبو جعفر الترمذي لا يلزمه شيء لأنه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافي فعله عند الإسلام فلا يجب ضمانه كما لو جرحه ثم أسلم ومات والمذهب الأول لأن الاعتبار بحال الإصابة دون الارسال لأن الارسال سبب والإصابة جناية والاعتبار بحال الجناية لا بحال السبب والدليل عليه أنه لو حفر بئراً في(3/202)
الطريق وهناك حربي فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه وإن كان عند السبب حربياً ويخالف إذا جرحه ثم أسلم ومات لأن الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون وإن أرسل سهماً على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه كما لو أرسله على حي فوقع به وهو ميت.
فصل: وإن قتل مسلماً تترس به الكفار لم يجب القصاص لأنه لا يجوز أن يجب القصاص مع جواز الرمي وأما الدية فقد قال في موضع تجب وقال في موضع إن علمه مسلماً وجبت فمن أصحابنا من قال هو على قولين: أحدهما: أنها تجب لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه والثاني: أنه لا تجب لأن القاتل مضطر إلى رميه ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه لأن مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه ومع الجهل بإسلامه لا يلزمه أن يتوقاه وحمل القولين على هذين الحالين وقال أبو إسحاق إن عنيه بالرمي ضمنه وإن لم يعنه لم يضمنه وحمل القولين على هذين الحالين.
فصل: وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 492] وتجب بقتل العمد في أحد القولين وبالعفو على الدية في القول الآخر وقد بيناه في الجنايات وتجب بشبه العمد لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خافة في بطونها أولادها" 1. فإن غرز إبرة في غير مقتل فمات وقلنا إنه لا يجب عليه القصاص ففي الدية وجهان: أحدهما: أنها تجب لأنه قد يفضي إلى القتل والثاني: لا تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمي بالحصاة لم تجب بأقل المحدد.
فصل: وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال فإن اشترك في القتل اثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما: ويأخذ من الآخر نصف الدية وإن كان أحدهما: من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية.
__________
1 رواه النسائي في كتاب القسامة باب 33، 34. ابن ماجه في كتاب الديات باب 5، 22. أحمد في مسنده 2/11،36.(3/203)
فصل: وتجب الدية بالإشهاد فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين لما روي أن شاهدين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وأغرمهما دية يده.
فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الآخر لأنهما كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره فللولي أن يقتل المكره ويأخذ من الآخر نصف الدية لأنهما كالشريكين غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها.
فصل: وإن طرح رجلاً في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تجب الدية لأن ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات والقول الثاني: أنها لا تجب وهو الصحيح لأن طرحه في النار لا يحصل به التلف وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره فسقط ضمانه كما لو جرحه جرحاً يسيراً لا يخاف منه فوسعه حتى مات وإن طرحه في ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار ومنهم من قال لا تجب قولاً واحداً لأن الطرح في الماء ليس بسبب الهلاك لأن الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها وإنما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار.
فصل: وإن شد يده ورجليه وطرحه في الساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود كالمد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص لأنه قصد تغريقه وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة وإن شد يديه ورجليه وطرحه في أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية(3/204)
مغلظة وإن كان في أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة.
فصل: وإن سلم صبياً إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح لأنه سلمه إليه ليحتاط في حفظه فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبي فمات وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه لأنه في يد نفس فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه.
فصل: وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لأن الصياح سبب لوقوعه وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالصبي لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي والثاني: لا يضمن لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة.
فصل: وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنيناً ميتاً وجب ضمانه لما روي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها مالها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي رضي الله عنه فأقبل عليه فقال ما تقول يا أبا الحسن فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها فألقت وإن فزعت المرأة فماتت لم تضمن لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة.
فصل: وإن طلب رجل بصيراً بالسيف فوقع في بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن لأن الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة ولأن الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لأنه لو أدركه جاز أن لا يجني عليه فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه وإن طلب ضريراً فوقع في بئر أومن شاهق ومات فإن كان عالماً بالشاهق أو بالبئر لم يضمن لأنه كالبصير وإن لم يعلم وجب ضمانه لأنه ألجأه إليه فتعلق به الضمان كالشهود إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا وإن كان المطلوب صبياً أو مجنوناً ففيه وجهان بناء على القولين في عمدهما هل هو عمد أو خطأ فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إنه خطأ ضمن وإن طلب رجل رجلاً فافترسه سبع في طريقه نظرت فإن ألجأه الطالب إلى موضع السبع ضمنه كما لو ألقاه(3/205)
عليه وإن لم يلجئه إليه لم يضمنه لأنه لم يلجئه إليه وإن انخسف من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن كما لا يضمن إذا افترسه سبع والثاني: يضمن لأنه ألجأه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه.
فصل: وإن رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت فإن كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه وجب الضمان على القاطع لأن الرامي كالجارح والقاطع كالذابح وإن كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب الضمان عليهما لأن كل واحد منهما سبب للاتلاف فصار كما لو جرحاه والثاني: أن الضمان على القاطع لأن الرامي إنما يكون سبباً للتلف إذا وقع المرمي على الأرض وههنا لم يقع على الأرض وصار الرامي صاحب سبب والقاطع مباشراً فوجب الضمان على القاطع.
فصل: إذا زنى بامرأة وهي مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه ديتها لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها والثاني: لا يجب لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه.
فصل: وإن حفر بئراً في طريق الناس أو وضع فيه حجراً أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لأنه تعدى به فضمن من هلك به كما لو جنى عليه وإن حفر بئراً في الطريق ووضع آخر حجراً فعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر لأنه هو الذي ألقاه في البئر فصار كما لو ألقاه فيها بيده وإن وضع رجل حجراً في الطريق فدفعه رجل على هذا الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لأن الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب فوجب الضمان على المباشر وإن وضع رجل حجراً في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات وجب الضمان على واضع الحجر وقال أبو الفياض البصري إن كانت الحديدة سكيناً قاطعة وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر والأول هو الصحيح لأن الواضع هو المباشر وإن حفر بئراً في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذي يستضر الناس بحفر البئر فيه لأنه لا يجوز أن يختص بشيء من طريق المسلمين وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الإمام فهلك به إنسان لم يضمن لأن ما فعله بإذن الإمام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يضمن لأنه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الإمام والثاني: أنه يضمن لأن ما تعلق(3/206)
بمصلحة المسلمين يختص به الإمام فمن افتات عليه فيه كان متعدياً فضمن من هلك به وإن بنى مسجدا في موضع لا ضرر فيه أو علق قنديلاً في مسجد أو فرش فيه حصراً من غير إذن الإمام فهلك به إنسان فهو كالبئر التي حفرها للمسلمين وإن حفر بئراً في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لأنه غير متعد في حفرها وإن كان في داره بئر قد غطى رأسها وكلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات ففي ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاماً مسموماً إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبياً إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه لأن الرامي كالحافر للبئر والذي قدمه كالملقي فيها فكان الضمان عليه وإن ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على إنسان فمات لم يضمنه لأنه وضعها في ملكه ووقعت من غير فعله وإن بنى حائطاً في ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على إنسان فقتله ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول إسحاق أنه يضمن لأنه لما مال إلى الطريق لزمه أزالته فإذا لم يزله صار متعدياً بتركه فضمن من هلك به كما لو أوقع حائطاً مائلاً إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به إنسان والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يضمن وهو المذهب لأنه بناه في ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل.
فصل: وإن أخرج جناحاً إلى الطريق فوقع على إنسان ومات ضمن نصف ديته لأن بعضه في ملكه وبعضه خارج ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه وإن انكسرت خشبة من الخارج فوقعت على إنسان فمات ضمن جميع الدية لأنه هلك بالخارج من ملكه وإن نصب ميزاناً فوقع على إنسان فمات به ففيه قولان: قال في القديم لا يضمن لأنه غير مضطر إليه ولا يجد بداً منه بخلاف الجناح وقال في الجديد يضمن لأنه غير مضطر إليه لأنه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئراً يجري الماء إليها فكان كالجناح.
فصل: وإن كان معه دابة فأتلفت إنساناً أو مالاً بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته.
فصل: وإن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر وقال المزني إن استلقى أحدهما: فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب(3/207)
دية المستلقي وهدر دمه لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول وهذا خطأ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه ووجه قول المزني لا يصح لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقياً من شدة صدمته وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما واصطدما وماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين فأما الحمل فأنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما.
فصل: وإن وقف رجل في ملكه أوفي طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم لأنه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم لأنه قتله بصدمة هو متعد فيها وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم والمصدوم وقد بيناه.
فصل: فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصر في آلتهما أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا أو سيراً في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف وإن كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها لما بيناه في الفارسين فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان أحدهما: يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين والثاني: لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما(3/208)
فأشبه إذا تلفت بصاعقة واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها فإما إذا سارت ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولاً واحداً لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان في الحالين وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام والقيم لا يمكنه ضبط السفينة فإذا قلنا إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا في القصاص فإنه لا يجب مع عدم التفريط وإن قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان السفن لأنها أمانة وأما المال فهو مال في اليد أجير مشترك فإن كان معه صاحبه لم يضمن ولم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير المشترك وأن كان أحدهما: مفرطاً والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين.
فصل: إذا كان في السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة فقال رجل لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه فألقاه وجب عليه الضمان وقال أبو ثور لا يجب لأنه ضمان ما لم يجب وهذا خطأ لأن ذلك ليس بضمان لأن الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف بعوض صحيح فإن قال ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه لزمه بحصته فإن كانوا عشرة لزمه مائة وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لأنه جعل الألف على الجميع فلم يلزمه أكثر من الحصة فإن قال أنا أقيه على أني وهم ضمناء فألقاه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه والثاني: يجب عليه ضمان الجميع لأنه باشر الإتلاف.
فصل: فإن رمي عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لأنه مات من فعله وفعلهم فهدر بفعله العشر ووجب الباقي على التسعة.
فصل: وإذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فإن مات الأول وجبت ديته على الثاني لما روى علي بن رباح اللخمي أن بصيراً كان يقود أعمى(3/209)
فوقعا في بشر فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم:
يا أيها الناس لقيت منكرا ... يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ... خرا معاً كلاهما تكسراً
ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه وإن مات الثاني هدرت ديته لأنه لا صنع لغيره في هلاكه وإن ماتا جميعاً وجبت دية الأول على الثاني وهدرت دية الثاني لما ذكرناه فإن جذب الأول الثاني ومات الأول هدرت ديته لأنه مات بفعل نفسه وإن مات الثاني وجبت ديته على الأول لأنه بجذبه وإن وقع الأول ثم وقع الثاني ثم وقع الثالث فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع وجبت دية الأول على الثاني والثالث لأنه مات بوقوعهما عليه وتجب دية الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته وتهدر دية الثالث لأنه مات من وقوعه فإن جذب بعضهم بعضاً بأن وقع الأول وجذب الثاني وجذب الثاني الثالث وماتوا وجب للأول نصف دية على الثاني لأنه مات من فعله بجذب الثاني ومن فعل الثاني بجذب الثالث فهدر النصف بفعله ووجب النصف ويجب للثاني نصف الدية على الأول لأنه جذبه ويسقط نصفها لأنه جذب الثالث ويجب للثالث الدية لأنه لا فعل له في هلاك نفسه وعلى من تجب فيه وجهان: أحدهما: أنها تجب على الثاني لأنه هو الذي جذبه والوجه الثاني أنها تجب على الأول والثاني: نصفين لأن الثاني جذبه والأول جذب الثاني فاضطره إلى جذب الثالث وكان كل واحد منهما سبباً في هلاكه فوجبت الدية عليهما.
فصل: وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه أنه ما قصد قتل صاحبه فإذا حلفا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه لأن الجرح قد وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان.(3/210)
باب الديات
دية الحر المسلم مائة من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وقريء على أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل فإن كانت الدية في عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة أثلاثاً ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وقال أبو(3/210)
ثور: دية شبه العمد أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لأنه لما كانت كدية الخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطأ في التخميس وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". وروى مجاهد عن عمر رضي الله عنه أن دية شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية فخفف من كل وجه وفي شبه العمد لم يقصد القتل فجعل كالخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة وقصد الجناية فجعل كالعمد في التغليظ بالأسنان وهل يعتبر في الخلفات السن مع الحمل فيه قولان: أحدهما: لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" ولم يفرق والثاني: يعتبر أن تكون ثنيات فما فوقها لأنه أحد أقسام أعداد إبل الدية فاختص بسن كالثلاثين وإن كانت في قتل الخطأ والقتل في غير الحرم وفي غير الأشهر الحرم والمقتول غير ذي رحم محرم للقاتل وجبت دية مخففة أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة لما روى أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في الخطأ عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون دية الخطأ مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وإن كان القتل في الحرم أوفي أشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضي الله عنه قضى فيمن قتل في الحرم أوفي الأشهر الحرم أو محرماً بالدية وثلث الدية وروى أبو النجيح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في امرأة قتلت في الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف ستة آلاف الدية وألفين للحرم وروى نافع بن جبير أن رجلاً قتل في البلد الحرام في شهر حرام فقال ابن عباس رضي الله عنه اثنا عشر ألفاً وللشهر الحرام أربعة ألاف وللبلد الحرام أربعة آلاف فكملها عشرين ألفاً فإن كان القتل في المدينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يغلظ لأنها كالحرام في تحرم الصيد فكذلك في تغليظ الدية والثاني: لا تغلظ لأنها لا مزية لها على غيرها في تحريم القتل بخلاف الحرم واختلف قوله في عمد الصبي والمجنون فقال في أحد القولين عمدهما خطأ لأنه لو كان عمداً لأوجب القصاص فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة والثاني: أن عمدهما عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة وما يجب فيه(3/211)
كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة لأنه كالنفس في وجوب القصاص والدية فكان كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة.
فصل: وتجب الدية من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الدية من القاتل أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الزكاة وإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم من الصنف الذي عنده وإن اجتمع في ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ من الصنف الأكثر فإن استويا دفع مما شاء منهما والثاني: يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه الزكاة وما له أصناف وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب أقرب البلاد إليه كما قلنا في زكاة الفطر وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضاً أو عجافاً كلف أن يشتري إبلاً صحاحاً من النصف الذي عنده لأنه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب كقيمة الثوب المتلف وإن أراد الجاني دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الولي على قبوله وإن أراد الولي أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الجاني على دفعه لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل لم يجز الإجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال وإن تراضيا على العوض جاز لأنه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضي كالبدل في سائر المتلفات.
فصل: وإن أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان: قال في القديم يجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً فعلى هذا إن كان في قتل يوجب التغليظ غلظ بثلث الدية لما رويناه عن عمر وعثمان وابن عباس في تغليظ الدية للحرم وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة ديناراً وثمانية آلاف درهم وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام عمر خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة ولأن ما ضمن بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الأمثال.(3/212)
فصل: ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم وأما الوثني إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل ديته وإن لم يعرف وجبت فيه دية المجوسي لأنه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب وقال أبو إسحاق إن كان متمسكاً بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين وإن كان متمسكاً بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم لأنه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم والمذهب الأول لأنه كافر فلم تكمل ديته كالذمي وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية وهو في حال الاستقرار مسلم وإن جرح مسلم مرتداً فأسلم ومات من الجرح لم يضمن وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن لأن الجرح استقر وهو مسلم قال أصحابنا هذا من كيس الربيع والمذهب الأول لأن الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته كما لو قطع الإمام يد السارق فمات منه.
فصل: ودية المرأة نصف دية الرجل لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
فصل: ودية الجنين الحر غرة عبد أو أمة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنيتها غرة عبد أو أمة فقال حمل بن النابغة الهذلي كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه" 1. وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ أو
__________
1 رواه البخاري في كتاب الطب باب 46. مسلم في كتاب القسامة حديث 36. أبو داود في كتاب الديات باب 19. النسائي في كتاب القسامة باب 39. أحمد في مسنده 2/274.(3/213)
بطن امراة تجد حركة في بطنها فسكنت الحركة لم يجب عليه شيء لأنه يمكن أن يكون ريحاً فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر فيها صورة الآدمي فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمي وجبت فيها الغرة لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد أربع نسوة أنه خلق آدمي ولو بقي لتصور فعلى ما بيناه في كتاب عتق أم الولد وإن ضرب بطن امرأة فألقت يداً أو رجلاً أو غيرهما من أجزاء الآدمي وجبت عليه الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأنه يجوز أن يكون جنيناً برأسين أو أربعة أيد فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك وإن ضرب بطنها فألقت جنيناً فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة وقال المزني إن ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه كاملة لأنه لم يتم له حياة وهذا خطأ لأننا تيقنا حياته والظاهر أنه تلف من جنايته فوجب عليه الدية كاملة وإن ألقته حياً وجاء آخر وقتله فإن كان فيه حياة مستقرة كان الثاني هو القاتل في وجوب القصاص والدية الكاملة والأول ضارب في وجوب التعزير وإن قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الأول وتلزمه الدية والثاني: ضارب وليس بقاتل لأن جنايته لم تصادف حياة مستقرة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً وبقي زماناً سالماً غير متألم ثم مات لم يضمنه لأن الظاهر أنه لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه وإن ضربها فألقت جنيناً فاختلج ثم سكن وجبت فيه الغرة دون الدية لأنه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة ويجوز أن يكون بخروجه من مضيق لأن اللحم الطري إذا حصل في مضيق القبض فإذا خرج منه اختلج فلا تجب الدية الكاملة بالشك.
فصل: ولا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين لأن الغرة هي الخيار ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا الجارية بعد عشرين سنة لأنها تتغير وتنقص قيمتها فلم تكن من الخيار ومن أصحابنا من قال: يقتل ما لم يطعن في السن عبداً كان أو أمة ولا يقبل إذا طعن في(3/214)
السن لأنه يستغني بنفسه قبل أن يطعن في السن ولا يستغني إذا طعن في السن ولا يقبل فيه خصي وإن كثرت قيمته ولا معيب وإن قل عيبه لأنه ليس من الخيار ولا يقبل إلا ما يساوي نصف عشر الدية لأنه روي ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لأنه لم يكمل بالحياة ولا يمكن إسقاط ضمانه لأنه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به الأرش وهو نصف عشر الدية لأنه قدر به أرش الموضحة ودية السن ولا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها كما لا يقبل في دية النفس غير الإبل مع وجودها فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الإبل لأن الإبل هي أصل في الدية فإن أعوزت وجبت قيمتها في أحد القولين أو خمسون ديناراً أو ستمائة درهم في القول الآخر فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة وإن كانت عمداً أو عمد خطأ وجبت دية مغلظة كما قلنا في الدية الكاملة وإن كان أحد أبويه نصرانياً والآخر مجوسياً وجب فيه نصف عشر دية نصراني لأن في الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب في الآخر ما يسقط غلب الإيجاب ولهذا لو قتل المحرم صيداً متولداً بين مأكول وغير مأكول وجب عليه الجزاء وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني ثم أسلمت ثم ألقت جنيناً ميتاً وجب فيه نصف عشر دية مسلم لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين مسلم عند استقرار الجناية فوجب فيه عشر دية مسلم وما يجب في الجنين يرثه ورثته لأنه بدل حر فورث عنه كدية غيره.(3/215)
باب أروش الجنايات
والجنايات التي توجب الأورش ضربان: جروح وأعضاء فأما الجروح فضربان شجاج في الرأس والوجه وجروح فيما سواهما من البدن فأما الشجاج فهي عشر: الخارصة وهي التي تكشط الجلد والدامية وهي التي يخرج منها الدم والباضعة وهي التي تشق اللحم والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم والسمحاق وهي التي تسميها أهل البلد الملطاط وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم والموضحة وهي التي تكشف عن العظم والهاشمية وهي التي تهشم العظم والمنقلة وتسمى أيضاً المنقولة وهي التي تنقل العظم من مكان إلى مكان والمأمومة وتسمى أيضاً الآمة وهي التي تصل إلى أم الرأس وهي جلدة رقيقة تحيط بالدماغ والدامغة وهي التي تصل إلى الدماغ.
فصل: والذي يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع وهي: الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة فأما الموضحة فالواجب فيها خمس من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن(3/215)
بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وفي الموضحة خمس من الإبل ويجب ذلك في الصغيرة والكبيرة وفي البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة لأنه صار الجميع بفعله موضحة واحدة فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز وإن تأكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأن سراية فعلهه كفعله وإن أزال المجني عليه الحاجز وجب على الجاني أرش الموضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الأول أرش الموضحتين وعلى الآخر أرش موضحة لأن فعل أحدهما: لا يبنى على الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر والثاني: يلزمه أرش موضحة لاتصالهما في الباطن وإن شج رأسه شجة واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة فلأن لا يلزمه والإيضاح في البعض أولى وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون إصبعاً ورأس الجاني خمس عشرة أصبعاً اقتص في جميع رأسه وأخذ عن الربع الباقي ربع أرش موضحة وخرج أبوعلي بن أبي هريرة وجهاً آخر أنه يأخذ عن الباقي أرش موضحة لأن هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة وهذا خطأ لأنه إذا انفرد كان موضحة فوجب أرشها وههنا هو بعض موضحة فلم يجب فيه إلا فيه إلا ما يخصه.
فصل: ويجب في الهاشمة عشر من الإبل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت أنه قال في الهاشمة عشر من الإبل وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه تجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح فأوجب الحكومة ككسر عظم الساق والثاني: وهو قول أبي إسحاق إنه يجب فيه خمس من الإبل وهو الصحيح لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الإبل فدل على أن الخمس الزائدة لأجل الهاشمة وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس وإن هشم هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا في الموضحتين.
فصل: ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في المنقلة خمس عشرة من الإبل وإن أوضح رأسه موضحة(3/216)
ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه أرش موضحتين لأنه أوضح في عضوين فوجب أرش موضحتين كما لو فصل بينهما والثاني: يجب أرش موضحة لأنها موضحة واحدة فأشبه إذا أوضح في الهامة موضحة ونزل فيها إلى الناصية وإن أوضح في الرأس موضحة ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة في الرأس ويجب عليه حكومة في الجراحة في القفا لأنه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان.
فصل: ويجب في المأمومة ثلث الدية لما روى عكرمة بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المأمومة بثلث الدية وأما الدامغة فقد قال بعض أصحابنا يجب فيها ما يجب في المأمومة وقال قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي البصري يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لأن خرق الجلد جناية بعد المأمومة فوجب لأجلها حكومة.
فصل: وإن شج رأس رجل موضحة فجاء آخر فجعلها هاشمة وجاء آخر فجعلها منقلة وجاء آخر فجعلها مأمومة وجب على الأول خمس من الإبل وعلى الثاني خمس وعلى الثالث خمس وعلى الرابع ثمان عشر بعيراً وثلث لأن ذلك جناية كل واحد منهم.
فصل: وأما الشجاج التي قبل الموضحة وهي خمسة الخارصة والدامية والباضعة والمتلاحقة والسمحاق فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كانت في الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلث أو ربع وجب عليه قدر ذلك من أرش الموضحة لأنه يمكنه تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها وإن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة لأن تقدير الأرش بالشرع ولم يرد الشرع بتقدير الأرش فيما دون الموضحة وتعذر معرفة قدرها من الموضحة فوجبت فيها الحكومة.
فصل: وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان: جائفة وغير جائفة فأما غير الجائفة فهي الجراحات التي لا تصل إلى جوف الواجب فيها الحكومة فإن أوضح عظماً في غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التي في الرأس والوجه في الاسم ولا تساويها في الشين والخوف عليه منها فلم تساوها في تقدير الأرش وأما الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف من البطن أو الظهار أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر فالواجب فيها ثلث الدية لما روي في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في الجائفة ثلث الدية فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز وجب في كل واحدة منهما ثلث الدية وإن أجاف جائفة فجاء آخر ووسعها في الظاهر والباطن وجب على الثاني ثلث الدية لأن هذا القدر لو انفرد لكان(3/217)
جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها في الظاهر دون الباطن أوفي الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة وإن جرح فخذه وجر السكين حتى بلغ الورك وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه وجب عليه أرش الجائفة وحكومة في الجراحة لأن الجراحة في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن نزل في موضحة الرأس إلى القفا وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه وجب عليه في الداخل إلى جوف أرش الجائفة لأنها جائفة وفي الخارج منه إلى الظاهر وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه جائفة ويجب فيها أرش جائفة أخرى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان ولأنها جراحة نافذة إلى الجوف فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف والثاني: ليس بجائفة ويجب فيها حكومة لأن الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف وهذه خرجت من الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومة.
فصل: وإن طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان: أحدهما: أنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية لأنها جراحة من ظاهر إلى جوف فأشبهت الجراحة الواصلة إلى الباطن والثاني: أنه ليس بجائفة لأنه لا تشارك الجائفة في إطلاق الاسم ولا تساويها في الخوف عليه فلم تساوها في أرشها فعلى هذا يجب عليه دية هاشمة لأنه هشم العظم ويجب عليه حكومة لما زاد على الهاشمة.
فصل: وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل الإلتحام لم يلزمه أرش لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في أرش الجائفة وإن كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومة لجنايته على ما التحم وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في الحكومة.
فصل: وإن أدخل خشبة أو حديدة في دبر إنسان فخرق حاجزاً في الباطن ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن: أحدهما: يلزمه أرش جائفة لأنه خرق إلى الجوف والثاني: تلزمه حكومة لبقاء الحاجز الظاهر.
فصل: وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها لزمته حكومة لأنه إتلاف حاجز وليس فيه أرش مقدر فوجبت فيه الحكومة وإن أذهبها بالوطء لم يلزمه أرش لأنها إن طاوعته فقد أذنت فيه وإن أكرهها دخل أرشها في المهر لأنا نوجب عليه مهر بكر.(3/218)
فصل: وأما الأعضاء فيجب الرش في إتلاف كل عضو فيه منفعة أو جمال فيجب في إتلاف العينين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "هذا كتاب الجروح في النفس مائة من الإبل وفي العين خمسون من الإبل". فأوجب في كل عين خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في العينين مائة ولأنها من أعظم الجوارح جمالاً ومنفعة ويجب في عين الأعور نصف الدية للخبر ولأن ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كاليد وإن جنى على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية لأنه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته كما لو جنى على يده فشلت وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية لأن ما أوجب الدية في إتلافهما أوجب نصف الدية في إتلاف إحداهما كاليدين وإن أزال الضوء فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لما عاد علمنا أنه لم يذهب لأن الضوء إذا ذهب لم يعد وإن زال الضوء فشهد عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده فإن لم يقدرا لعوده مدة معلومة لم ينتظر لأن الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدي إلى إسقاط موجب الجناية وإن قدرا مدة معلومة انتظر وإن عاد الضوء لم يجب شيء وإن لم يعد أحذ الجاني بموجب الجناية من القصاص أو الدية وإن مات قبل انقضاء المدة لم يجب القصاص لأنه موضع شبهة لأنه يجوز أن لا يكون بطل الضوء ولعله لو عاش لعاد والقصاص يسقط بالشبهة وأما الدية فقد قال فيمن قلع سناً وقال أهل الخبرة يرجى عده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن في الدية قولين: أحدهما: تجب لأنه أتلف ولم يعد والثاني: لا تجب لأنه لم يتحقق الإتلاف ولعله لو بقي لعاد فمن أصحابنا من جعل في دية الضوء قولين ومنهم من قال تجب دية الضوء قولاً واحداً لأن عود الضوء غير معهود بخلاف السن فإن عودها معهود.
فصل: فإن جنى على عينيه فنقض الضوء منهما فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه وإن لم يعرف قدر النقصان بأن ساء إدراكه وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موضع يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول لا أراه ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها.(3/219)
فصل: وإن جنى على عين صبي أو مجنون فذهب ضوء عينه وقال أهل الخبرة قد زال الضوء ولا يعود ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه في الحال شيء حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويدعي زوال الضوء لجواز أن لا يكون الضوء زائلاً والقول الثاني أنه يجب القصاص أو الدية لأن الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها.
فصل: وإن جنى على عين فشخصت أو أحولت وجبت عليه حكومة لأنه نقصان جمال من غير منفعة فضمن بالحكومة وإن أتلف عيناً قائمة وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة.
فصل: ويجب في الجفون الدية لأن فيها جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة لأنها تقي العين من كل ما يؤذيها ويجب في كل واحد منها ربع الدية لأنه محدود لأنه ذو عدد تجب الدية في جميعها فوجب في كل واحد منها ما يخصها من الدية كالأصابع وإن قلع الأجفان والعينين وجب عله ديتان لأنهما جنسان جب بإتلاف كل واحد منهما الدية فوجب بإتلافهما ديتان كاليدين والرجلين فإن أتلف الأهداب وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فضمن بحكومة وإن قلع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب للأهداب حكومة لأنه شعر نابت في العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر الذراع والثاني: يجب للأهداب حكومة لأن فيها جمالاً ظاهراً فأفردت عن العضو بالضمان.
فصل: ويجب في الأذنين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الأذن خمسون من الإبل فأوجب في الأذن خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في الأذنين مائة ولأن فيها جمالاً ظاهراً ومنفعة مقصودة وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى الدماغ فوجب فيها الدية كالعين وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه لأن ما وجبت الدية فيه وجبت في بعضه بقسطه كالأصابع وإن ضرب أذنه فاستحشفت ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت والثاني: تجب عليه الحكومة لأن منفعة الأذن جمع الصوت وذلك لا يزول بالاستحشاف بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل وإن قطع إذناً مستحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية وجب في المستحشفة الحكومة كما لو قطع يداً شلاء وإن قلنا إنه تجب عليه الحكومة وجب في المستحشفة(3/220)
الدية كما لو قطع يداً مجروحة فإن قطع أذن الأصم وجبت عليه الدية لأن عدم السمع نقص في غير الأذن فلا يؤثر في دية الأذن.
فصل: ويجب في السمع الدية لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت حاسة البصر وإن أذهب السمع في أحد الأذنين وجب نصف الدية لأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما: كالأذنين وإن قطع الأذنين وذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع في غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما: في الآخر وإن جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لم يذهب السمع لأنه لو ذهب لما عاد وإن ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة فالحكم فيه كالحكم في العين إذا ذهب ضوءها فشهد شاهدان أنه يرجى عوده قد بيناه وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص فإن عرف القدر الذي نقص بأن كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية بقسطه وإن لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومة وإن نقص السمع في أحد الأذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة ويؤمر رجل حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع ثم تمسح المسافة ثم تطلق العليلة وتسد الصحيحة ثم يصيح الرجل ثم لا يزال يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين ويجب من الدية بقسطه.
فصل: ويجب في مارن الأنف الدية لما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أو عب مارنه جدعاً الدية ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة ولأنه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب إلى الدماغ والأخشم كالأشم في وجوب الدية لأن عدم الشم نقص في غير الأنف فلا يؤثر في دية الأنف ويخالف العين القائمة فإن عدم البصر نقص في العين فمنع من وجوب الدية في العين وإن قطع جزءاً من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره لأن ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالأصابع وإن قطع أحد المنخرين ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أن عليه نصف الدية لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة والثاني: يجب عليه ثلث الدية لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز فوجب في كل واحد من المنخرين ثلث الدية وإن قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية للحاجز وعلى الوجه الثاني يجب عليه ثلثا الدية ثلث للحاجز وثلث(3/221)
للمنخر وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن قطع المارن وقصبة الأنف وجب عليه الدية في المارن والحكومة في القصبة لأن القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع مع الكف وإن جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على الأذن حتى استحشف: أحدهما: تجب عليه الدية والثاني: تجب عليه الحكومة وقد مضى وجههما في الأذن.
فصل: وتجب بإتلاف الشم الدية لأنها حاسة تختص بمنفعة مقصودة فوجب بإتلافها الدية كالسمع والبصر وإن ذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب في إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنين وإن جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص وإن أمكن أن يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره وإن لم يمكن معرفة قدره وجبت فيه الحكومة لما بيناه في نقصان السمع وإن ذهب الشم وأخذت فيه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنا تبينا أنه لم يذهب وإنما حال دونه حائل لأنه لو ذهب لم يعد.
فصل: وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي العقل الدية ولأن العقل أشرف من الحواس لأن به يتميز الإنسان من البهيمة وبه يعرف حقائق المعلومات ويدخل في التكليف فكان بإيجاب الدية أحق وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوماً ويفيق يوماً وجب عليه من الدية بقدره لأن ما وجبت فيه الدية وجب بعضها في بعضه كالأصابع وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر إيجاب جزء مقدر من الدية فعدل إلى الحكومة فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت فإن بلغ الأرش قدر الدية أو أكثر لم يدخل في دية العقل ولم تدخل فيه دية العقل لما روى أبو المهلب عم أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات وهو حي وإن كان الأرش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان: قال في القديم يدخل في دية العقل لأنه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش الطرف في ديته كالنفس وقال في الجديد: لا يدخل وهو الصحيح لأنه لو دخل في ديته ما دون الدية لدخلت فيها الدية كالنفس ولأن العقل في محل والجناية في محل آخر فلا يدخل أرشها في ديتها كما لو أوضح رأسه فذهب بصره وإن شهر سيفاً على صبي أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه الدية لأن ذلك سبب لزوال عقله وإن شهر سيفاً على بالغ متيقظ أو صاح عليه فزال عقله لم تجب(3/222)
عليه الدية لأن ذلك ليس بسبب لزوال عقله.
فصل: ويجب في الشفتين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الشفتين الدية ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ومنافع كثيرة لأنهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه ويردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام ويجب في إحداهما نصف الدية لأن كل شيئين وجب فيهما الدية وجب في أحدهما: نصف الدية كالعينين والأذنين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره كما قلنا في الأذن والمارن وإن جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية لأنه أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية كما لو جنى على يدين فشلتا فإن تقلصنا وجبت عليه الحكومة لأن منافعهما لم تبطل وإنما حدث بهما نقص.
فصل: ويجب في اللسان الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي اللسان الدية ولأن فيه جمالاً ظاهراً ومنافع فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الإنسان والدليل عليه ما روى محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "أعجبني جمالك يا عم النبي" فقال يا رسول الله وما الجمال في الرجل قال: "اللسان". ويقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما المنافع فإنه يبلغ به الأغراض ويقضى به الحاجات وبه تتم العبادات في القراءة والأذكار وبه يعرف ذوق الطعام والشراب ويستعين به في مضغ الطعام وإن جنى عليه فخرس وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه إذا جنى على اليد فشلت أو على العين فعميت وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدره لأن ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه ببعضها كالأصابع وبقسم على حروف كلامه لأن حروف اللغات مختلفة الإعداد فإن في بعض اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفاً ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفاً فإن كان المجني عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفاً وقال أبو سعيد الأصطخري: يقسم على حروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفاً ويسقط حروف الحلق وهي ستة الهمزة والهاء والحاء والعين والغين ويسقط حروف الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو والمذهب الأول لأن هذه الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذي ينطق بها هو اللسان ولهذا لا ينطق بها الأخرس وإن ذهب حرف من(3/223)
كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لأن الضمان يجب لما تلف وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف الذي ذهب لأن ما بدل به لا يقوم مقام الذاهب وإن جنى عليه فحصل في لسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية لأن المنفعة باقية وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين.
فصل: وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه وجب عليه ربع الدية وإن قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه وجب عليه نصف الدية لأن الذي فات من العضو والكلام سواء في القدر فوجب من الدية بقدر ذلك فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الدية وإن قطع نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال العلة فيه أن ما يتلف من اللسان مضمون وما يذهب من الكلام مضمون وقد اجتمعا فوجب أكثرهما وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان إلا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من اللسان فوجب عليه نصف الدية ربعها بالقطع وربعها بالشلل فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف الكلام وقطع آخر ما بقي من اللسان وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما بقي من اللسان ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية وحكومة لأنه قطع من اللسان نصفاً صحيحاً وربعاً أشل وإن قطع واحد نصف لسانه وذهب ربع الكلام وجاء الثاني وقطع الباقي وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما ذهب من الكلام ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية اعتباراً بما قطع من اللسان وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه فقد استوفى المجني عليه حقه وإن ذهب ربع كلامه أخذ المجني عليه مع القصاص ربع الدية حقه فإن ذهب بالقصاص ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة لأنه ذهب بقود مستحق.
فصل: وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب كلامه وجبت عليه الدية وإن ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية وإن لم يذهب من الكلام شيء نظرت فإن كانا متساويين في الخلقة فهما كاللسان المشقوق ويجب بقطعهما الدية وبقطع أحدهما: نصف الدية وإن كان أحدهما: تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الأصلي والآخر خلقة زائدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة وإن قطع التام وجبت عليه دية وإن قطع الناقص وجبت عليه حكومة.(3/224)
فصل: وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشيء من المذاق وهي خمسة الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية كما لو أتلف عليه السمع أو البصر وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر بأن كان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كما لها وجبت عليه الحكومة لأنه نقص لا يمكن تقدير الأرش فيه فوجبت فيه حكومة وإن كان نقصاً يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقي وجب عليه خمس الدية وإن لم يدرك اثنين وجب عليه خمسان لأنه يتقدر المتلف فيقدر الأرش.
فصل: وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقي بعد القطع ذوقه وجبت عليه الحكومة لأنه عضو بطلت منفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد الشلاء وإن ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله بابا وماما وجبت عليه الدية لأنه لسان ناطق وإن لم يكن تحرك بالبكاء ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حداً يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام وجبت الحكومة لأن الظاهر أنه لم يكن ناطقاً لأنه لو كان ناطقاً لتحرك بما يدل عليه وإن قطعه قبل أن يمضي عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه الدية لأن الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه وإن لم يظهر فيها بطش.
فصل: وإن قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه فقد قال فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه أنه على قولين: أحدهما: يرد الدية والثاني: لا يرد فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضاً على قولين وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا كان في السن التي لا تنبت في العادة إذا نبتت قولان وجب أن يكون في اللسان أيضاً قولان ومنهم من قال لا يرد الدية في اللسان قولاً واحداً وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة والفرق بينه وبين السن أن في جنس السن ما يعود وليس في جنس اللسان ما يعود فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف عليه وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب رد الدية قولاً واحداً لأن الكلام إذا ذهب لم يعد فلما عاد علمنا أنه لم يذهب وإنما امتنع لعارض.
فصل: ويجب في كل سن خمس من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفي السن خمس من الإبل والأنياب والأضراس والثنايا والرباعيات في ذلك سواء للخبر ولأنه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالأصابع وإن قلع ما ظهر وخرج من لحم اللثة وبقي السنخ لزمه دية السن لأن المنفعة(3/225)
والجمال فيما ظهر فكملت ديته كما لو قطع الأصابع دون الكف فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب وجبت عليه حكومة لأنه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة كما لو قطع الكف بعدما قطع الأصابع وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من السنخ حكومة لأن السنخ تابع لما ظهر فدخل في ديته كالكف إذا قطع مع الأصابع وإن كسر بعض السن طولاً أو عرضاً وجب عليه من دية السن بقدر ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع لأن ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه من الدية بقدره كالأصابع ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب لأن الدية تكمل بقطع الظاهر فاعتبر المكسور منه فإن ظهر السنخ المغيب بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهراً قبل العلة لا بما ظهر بالعلة لأن الدية تجب فيما كان ظاهراً فاعتبر القدر المكسور منه.
فصل: وإن قلع سناً فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجبت فيها دية السن كاليد المريضة وإن ذهب من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين أقصر من الأخرى فقلع القصير نقص من ديتها بقدر ما نقص منها لأنهما لا يختلفان في العادة فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها وإن قلع سناً مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتها من المضغ وحفظ الطعام والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال وإن ذهبت منافعها وجبت فيها الحكومة لأنه لم يبق غير الجمال فلم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء وإن نقصت منافعها فذهب بعضها وبقي البعض ففيه قولان: أحدهما: يجب فيها الدية لأن الجمال تام والمنفعة باقية وإن كانت ضعيفة فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة والثاني: يجب فيها الحكومة لأن المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص فوجب فيها الحكومة وإن ضرب سنه فاصفرت أو احمرت وجبت فيها الحكومة لأن منافعها باقية وإنما نقص بعض جمالها فوجب فيها الحكومة فإن ضربها فاسودت فقد قال في موضع تجب فيها الحكومة وقال في موضع: تجب الدية وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة والذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة وذكر المزني أنها على قولين واختار أنه يجب فيها الحكومة والصحيح هو الطريق الأول.
فصل: وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة لكل سن خمس من الإبل فيجب في أسنانه وهي اثنان وثلاثون سناً مائة وستون بعيراً وإن قلعها في دفعة واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه أكثر من دية لأنه جنس ذو(3/226)
عدد فلم يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين والثاني: أنه يجب في كل سن خمس من الإبل وهو المذهب لحديث عمرو بن حزم ولأن ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره إليه كالموضحة.
فصل: إذا لمع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شيء في الحال لأن العادة في سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شيء في الحال كما لو نتف شعره فإن نبت له مثلها في مكانها لم يلزمه ديتها وهل تلزمه حكومة فيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله والثاني: تلزمه حكومة الجرح الذي حصل بالقلع وإن لم تنبت له ووقع الإياس من نباتها وجبت ديتها لأنا تحققنا إتلاف السن وإن مات قبل الإياس من نباتها ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه دية السن لأنه قلع سناً لم تعد والثاني: لا يجب لأن الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته وإن نبتت له سن خارجة عن صف الأسنان فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها وإن كانت بحيث لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الأسنان فإن نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لأنه نقص بجنايته فصار كما لو كسر بعض سن وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شيء وإن حصل بها شين لأن الزيادة لا تكون من الجناية قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه تلزمه الحكومة للشين الحاصل بطولها كما تلزمه في الشين الحاصل بقصرها لأن الظاهر أن الجميع حصل بسبب قلع السن وإن نبتت له سن صفراء أوسن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال فإن قلع سناً من أثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنه لا ينبت له مثلها فإن أخذ الدية ثم نبت له مثلها في مكانها ففيه قولان: أحدهما: يجب رد الدية لأنه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذي لم يثغر والثاني: أنه لا يجب رد الدية لأن العادة جرت في سن من ثغر أنه لا يعود فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه.
فصل: ويجب في اللحيين الدية لأن فيهما جمالاً وكمالاً ومنفعة كاملة فوجبت فيهما الدية كالشفتين وإن قلع أحدهما: وتماسك الآخر وجب عليه نصف الدية لأنهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية في أحدهما: كالشفتين واليدين وإن قلع اللحيين مع الأسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الأسنان ولا تدخل دية أحدهما: في الآخر لأنهما جنسان مختلفان فيجب في كل واحد منهما دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما في دية الأخرى كالشفتين مع الأسنان وتخالف الكف مع الأصابع فإن الكف(3/227)
تابع للأصابع في المنفعة واللحيان أصلان في الجمال والمنفعة فهما كالشفتين مع الأسنان.
فصل: ويجب في اليدين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في اليدين دية". ويجب في إحداهما نصف الدية لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب عمرو بن حزم حين أمره على نجران في اليد خمسون من الإبل واليد التي تجب فيها الدية هي الكف فإن قطع الكف وجبت الدية وإن قطع من نصف الذراع أومن المرفق أومن العضد أومن المنكب وجبت الدية في الكف ووجب فيما زاد الحكومة وقال أبو عبيد بن حرب: الذي تجب فيه الدية هو اليد من المنكب لأن اليد اسم للجميع والمذهب الأول لأن اسم اليد يطلق على الكف والدليل عليه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والمراد به الكف ولأن المنفعة المقصودة من اليد هو البطش والأخذ والدفع وهو بالكف وما زاد تابع للكف فوجبت الدية في الكف والحكومة فيما زاد ويجب في كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل ولا يفضل إصبع على إصبع لما ذكرناه من الخبر ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسنداً: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل". ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كاليدين ويجب في كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع وجب أن يقسم دية الأصبع على عدد الأنامل.
فصل: وإن جنى على يد فشلت أو على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ما يجب في قطعها لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها ما وجب في إتلافها وإن قطع يد شلاء أو إصبعاً شلاء أو أنملة شلاء وجب عليها الحكومة لأن إتلاف جمال من غير منفعة.
فصل: ويجب في الرجلين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجلين: "ويجب في إحداهما نصف الدية". لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الرجل نصف دية". والرجل التي يجب في قطعها نصف الدية فإن قطع من الساق أومن الركبة أومن بعض الفخذ أومن أصل الفخذ وجبت الدية في القدم ووجبت الحكومة فيما زاد لما ذكرناه في اليد ويجب في كل أصبع من أصابع الرجل عشر الدية لما ذكرناه في اليد من حديث عمرو بن حزم ويجب في كل أنملة من غير(3/228)
الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لما ذكرناه في اليد
فصل: ويجب في قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سليمتين الدية لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص في القدم والعسم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس بنقص في الكف فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف كذكر الخصي وأذن الأصم وأنف الأخشم.
فصل: إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو خلع كفه فاعوجت ثم جبرها فجبرت وعادت مستقيمة وجبت الحكومة لأنه حصل به نقص وإن لم تعد إلى ما كانت الحكومة أكثر لأن النقص أكثر فإن قال الجاني أنا أعيد خلعها وأعيدها مستقيمة منع من ذلك لأنه استئناف جناية أخرى فإن كابر وخلعه فعاد مستقيماً وجب عليه بهذا الخلع حكومة ولا يسقط ما وجب من الحكومة الأولى لأنها حكومة استقرت بالجناية وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر فلم يسقط ما وجب ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد لأنا نتيقن أن الضوء لم يذهب.
فصل: وإن كان لرجل كفان من ذراع فإن كان ليبطش بواحد منهما لم يجب فيهما قود ولا دية لأن منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء ويجب فيهما حكومة لأن فيهما جمالاً وإن كان أحدهما: يبطش دون الآخر فالذي يبطش به هو الأصل فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن كان أحدهما: أكثر بطشاً كان الأصلي هو أكثرهما بطشاً سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفاً عنه لأن الله تعالى جعل البطش في الأصلي فوجب أن يرجع في الاستدلال عليه إليه كما يرجع في الخنثى إلى قوله وإن استويا في البطش فإن كان أحدهما: على مستوى الذراع والآخر منحرفاً عن مستوى الذراع فالأصلي هو الذي على مستوى الذراع فيجب فيه القود أو الدية ويجب في الآخر الحكومة فإن استويا في ذلك فإن كان أحدهما: تام الأصابع والآخر ناقص الأصابع فالأصلي هو التام الأصابع فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن استويا في تمام الأصابع إلا أن في أحدهما: زيادة أصبع لم ترجح الزيادة ولأنه قد يكون الأصبع الزائدة في غير اليد الأصلية فإذا استويا في الدلائل فهما يد واحدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الدية ووجب عليه للزيادة(3/229)
حكومة فإن قطع إحداهما لم يجب القود لعدم المماثلة وعليه نصف دية يد وزيادة حكومة لأنها نصف يد زائدة وإن قطع أصبعاً من إحداهما فعليه نصف دية أصبع وزيادة حكومة لأنها نصف أصبع زائدة وإن قطع أنملة أصبع من إحداهما وجب عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومة لأنها نصف أنملة زائدة.
فصل: ويجب في الأليتين الدية لأن فيهم جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة فوجب فيهما الدية كاليدين ويجب في إحدهما: نصف الدية لأن ما وجبت الدية في اثنين منه وجب نصفها في أحدهما: كاليدين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره وإن جهل قدره وجبت فيه الحكومة.
فصل: وإن كسر صلبه انتظر فإن جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة الكسر وإن احدودب لزمه حكومة للشين الذي حصل به وإن ضعف مشيه أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه وإن عجز عن المشي وجبت عليه الدية لما روى الزهري عن سعيد ابن المسيب أنه قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وفي الأثنيين الدية ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة فوجبت عليه الدية وإن كسر صلبه وعجز عن الوطء وجبت عليه الدية لأنه أبطل عليه منفعة مقصودة وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه إلا دية واحدة لأنهما منفعتا عضو واحد والثاني: يلزمه ديتان وهو ظاهر النص لأنه يجب في كل واحد منهما الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه أو قطع أنفه فذهب شمه.
فصل: ويجب في الذكر الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفي الذكر الدية ويجب ذلك في ذكر الشيخ والطفل والخصي والعنين لأن العضو في نفسه سليم ولا تجب في ذكر أشل لأنه بطلب منفعته فلم تكمل ديته ويجب فيه الحكومة لأنه أتلف عليه جماله وإن جنى على ذكره فشل وجبت ديته لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعته ما وجب في إتلافه وإن قطع الحشفة وجبت الدية لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع فكملت الدية بقطعها وإن قطع الحشفة وجاء آخر فقطع الباقي وجبت فيه حكومة كما لو قطع الأصابع وجاء آخر وقطع الكف وإن قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها وهل(3/230)
تتقسط على الحشفة وحدها أو على جميع الذكر فيه قولان: أحدهما: تقسط على الحشفة لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت عليها كدية الأصابع والثاني: يقسط على الجميع لأن الذكر هو الجميع فقسطت الدية على الجميع.
فصل: ويجب في الأثنيين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفي الأنثيين الدية ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن ما وجب في اثنين منه الدية وجبت في أحدهما: نصفها كاليد.
فصل: وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والأعضاء ففيه قولان: قال في القديم تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت على ذلك كانت المرأة على النصف من الرجل لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال: تستوي دية الرجل والمرأة إلى ثلث الدية ويختلفان فيما سوى ذلك وقال في الجديد هي على النصف من الرجل في جميع الأروش وهو الصحيح لأنهما شخصان مختلفان في الدية النفس فاختلفا في أروش الجنايات كالمسام والكافر ولأنه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل في أرشها كقطع اليد والرجل وقول ابن عمر يعارضه قول علي كرم الله وجهه في جراحات الرجال والنساء سواء على النصف فيما قل أو كثر.
فصل: ويجب في ثديي المرأة الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة فوجب فيهما الدية كاليدين والرجلين ويجب في إحداهما نصف الدية لما ذكرناه في الأثنيين وإن جنى عليهما فشلتا وجبت عليه الدية لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فكان إتلاف منفعته كإتلافه وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة لأنه نقص جمالهما وإن كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لأنه قطع اللبن بجنايته وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة وإن قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة لجواز أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب الحكومة بالشك وتجب الدية في حلمتيهما وهو رأس الثدي لأن منفعة الثديين بالحلمتين لأن الصبي بها يمص اللبن وبذهابهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما ما يجب في الثديين كما يجب في الأصابع ما يجب في الكف وأما حلمتا الرجل فقد قال في موضع يجب فيه حكومة وقال في موضع قد قيل إن فيهما الدية فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: تجب فيهما الدية لأن ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه الدية من الرجل كاليدين والثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة ومنهم من قال(3/231)
يجب فيه الحكومة قولاً واحداً وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره.
فصل: ويجب في اسكتي المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن كل ما وجب في اثنين منه الدية وجب في أحدهما: نصفها كاليدين.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: إذا وطئ امرأة فأفضاها وجبت عليه الدية واختلف أصحابنا في الإفضاء فقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج وثقبة البول وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه وقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج والدبر وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وشيخنا أبي الطيب الطبري لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المنفعة وإنما تنقص بها المنفعة فلا يجوز أن يجب بها دية كاملة وإن أفضاها واسترسل البول وجب مع دية الإفضاء حكومة للنقص الحاصل باسترسال البول وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت الحكومة دون الدية وإن أجاف جائفة والتأمت لم يسقط أرشها والفرق بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالإلتئام ودية الإفضاء وجبت بإزالة الحاجز وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية.
فصل: ولا يجب في إتلاف الشعور غير الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير المنفعة فلم تجب فيه غير الحكومة كإتلاف العين القائمة واليد الشلاء.
فصل: ويجب في تعويج الرقبة وتصغير الوجه الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعاً فقد قال في موضع آخر يجب فيه جمل وقال في موضع تجب فيه الحكومة واختلف فيه أصحابنا فقال أبو إسحاق وأبو علي ابن أبي هريرة تجب فيه الحكومة قولاً واحداً والذي قال فيه جمل أراد على سبيل الحكومة لأن تقدير الأرش لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل وليس في هذا نص ولا له أصل يقاس عليه وقال المزني وغيره هو على قولين وهو الصحيح أحدهما: أنه يجب(3/232)
فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر رضي الله عنه أنه قضى في الترقوة بجمل وفي الضلع بجمل وقول الصحابي في قوله القديم حجة تقدم على القياس والقول الثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم في غير الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق وما روي عن عمر يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومة ولأن قول الصحابي ليس بحجة في قوله الجديد.
فصل: وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنه لم يحصل به نقص في جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش وإن حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين فإن قضى في بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض وإن فزع إنسان فأحدث في الثياب لم يلزمه ضمان مال لأن المال إنما يجب في الجناية إذا أحدثت نقصاً في جمال أو منفعة ولم يوجد شيء من ذلك.
فصل: إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت فإن كان حصل بها نقص في منفعة أو جمال وجبت فيها حكومة وهو أن يقوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم بعد اندمال الجناية فإن نقص العشر من قيمته وجب العشر من ديته وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته لأنه ليس في أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم وهذا كما قلنا في المحرم إذا قتل صيداً وليس في جزائه نص أنه يرجع إلى ذوي عدل في معرفة مثله إن كان له مثل من النعم أو إلى قيمته إذا لم يكن له مثل ويجب القدر الذي نقص من قيمته من الدية لأن النفس مضمونة بالدية فوجب القدر الناقص منها كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب ثم يؤخذ القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضموناً بالثمن وقال أصحابنا يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجني عليه لا من دية النفس فإن كان الذي نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الأصبع وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة وجب عشر أرش الموضحة وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب عشر أرش الجائفة لأنا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمن أن تزيد الحكومة في عضو على دية العضو والمذهب(3/233)
الأول وعليه التفريغ لأنه لما وجب تقويم النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس ولأن اعتبار النقص من دية العضو يؤدي إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الأرشان بأن تكون الحكومة في السمحاق فتوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة مع قربها منها فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومة فيها أرش الأصبع أو على الرأس فبلغت الحكومة فيها أرش الموضحة نقص الحاكم من أرش الأصبع ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدي إليه الاجتهاد لأنه لا يجوز أن يكون فيما دون الأصبع الموضحة ما يجب فيها وإن كانت الجناية في الكف فبلغت الحكومة أرش الأصابع نقص شيئا من أرش الأصابع لأن الكف تابع للأصابع في الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب في الأصابع.
فصل: وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعاً زائدة أو قلع سناً زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا شيء عليه لأنه جناية لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش كما لو لطم وجهه فلم يؤثر والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب فيه الحكومة لأنه إتلاف جزء من مضمون فلا يجوز أن يعري من أرش فعلى هذا إن كان قد قطع أصبعاً زائدة قوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الدية لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد الاندمال قوم في أقرب الأحوال إليه وهذا كما قلنا في ولد المغرور بها لما تعذر تقويمه حال العلوق قوم في أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق وهو عند الوضع فإن قوم ولم ينقص قوم قبيل الجناية ثم يقوم والدم جار لأنه لا بد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه فيجب بقدر ما بينهما من الدية وإن قلع سناً زائدة ولم تنقص قيمته قوم وليس له خلف الزائدة سن أصلية ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة ويجب بقدر ما بينهما من الدية وإن أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلاً وله لحية ثم يقوم ولا لحية له ويجب بقدر ما بينهما من الدية.
فصل: وإن جنى على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال دخل أرش الجناية في دية النفس وقال أبو سعيد الإصطخري لا يدخل لأن الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله والمذهب الأول لأنه مات بفعله قبل استقرار الأرش فدخل في ديته كما لو مات من سراية الجناية ويخالف إذا اندملت فإن هناك استقر الأرش فلم تسقط.
فصل: ويجب في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق(3/234)
الآدمي بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالأنف واللسان والذكر والأنثيين والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته وما ضمن من الحر بجزء من الدية كاليد والأصبع والأنملة والموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمة لأنهما متساويان في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة فتساويا في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس كالرجل والمرأة والمسلم والكافر.
فصل: وإن قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه دية حر لأن الجناية استقرت في حال الحرية ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من أرش الجناية وهو نصف القيمة أو كمال الدية فإن كان نصف القيمة أقل لم يستحق أكثر منه لأنه هو الذي وجب في ملكه والزيادة حصلت في حال لا حق له فيها وإن كانت الدية أقل لم يستحق أكبر منها لأن ما نقص من نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق.
فصل: وإن فقأ عيني عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات بعد اندمال الجناية وجب على الجاني أرش الجناية وهو قيمة العبد سواء كان الاندمال قبل العتق أو بعده لأن الجرح إذا اندمل استقر حكمه ويكون ذلك لمولاه لأنه أرش جناية كانت في ملكه وإن لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب على الجانب دية حر وقال المزني يجب الأرش وهو ألفا دينار لأن السيد ملك هذا القدر بالجناية فلا ينقص وهذا خطأ لأن الاعتبار في الأرش بحال الاستقرار ولهذا لو قطع يدي رجل ورجليه وجب عليه ديتان فإذا سرت الجناية إلى النفس وجب دية اعتباراً بحال الاستقرار وفي حال الاستقرار هو حر فوجبت فيه الدية ودليل قول المزني يبطل بمن قطع يدي رجل ورجلين ثم مات فإنه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت.
فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر آخر يده الأخرى ومات لم يجب على الأول قصاص لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف الدية لأن المجني عليه حر في وقت استقرار الجناية وأما الثاني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص في الطرف ولا يجب في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين: وأحدهما: يوجب القود والآخر لا يوجب فسقط كحرين قتلاً من نصفه حر ونصفه عبد والثاني: وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص في الطرف والنفس لأنهما متكافئان في حال الجناية وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون وإنما سقط القود عن أحدهما: لمعنى في نفسه فلم يسقط عن الآخر كما لو اشترك حر وعبد في قتل عبد ويخالف الحرين اذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد لأن كل واحد منهما غير مكافئ له حال(3/235)
الجناية فان عفى على مال كان عليه نصف الديه لأنهما شريكان في القتل وللمولى الأقل من نصف قيمته يوم الجناية الأولى أو نصف الدية فإن كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك وإن كان أكثر فله نصف الدية لأن الحرية نقصت ما زاد عليه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه فقوبل بين أرش الجناية وبين الدية والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما والثاني: جنى عليه في حال الحرية فقوبل بين أرش الجناية وبين النصف المأخوذ من الجاني على ملكه وكان الفاضل لورثته.
فصل: وإن قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الأخرى نظرت فإن اندمل الجرحان لم يجب في اليد الأولى قصاص لأنه جنى عليه وهو غير مكافئ له ويجب فيها نصف ديته ويكون للمولى ويجب في اليد الأخرى القصاص لأنه قطعها وهو مكافئ له وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية وإن مات من الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص في اليد الأخرى التي قطعت بعد عتقه ولم يجب القصاص في النفس لأنه مات من جنايتين إحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب فإن اقتص منه في اليد وجب عليه نصف الدية لأنه مات بجنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية ولورثته الباقي لأن الجناية الثانية في حال الحرية.
فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع ثالث رجله ومات لم يجب على الأول القصاص في النفس ولا في الطرف لعدم التكافؤ ويجب عليه ثلث الدية ويجب على الآخرين القصاص في الطرف وفي النفس على المذهب فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية وفيما يستحق المولى قولان: أحدهما: أقل الأمرين من أرش الجناية أو ما يجب على هذا الجاني في ملكه وهو ثلث الدية لأن الواجب بالجناية هو الأرش فإذا أعتق انقلب وصار ثلث الدية فيجب أن يكون له أقل الأمرين فإن كان الأرش أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي وجب بالجناية في ملكه وما زاد بالسراية في حال الحرية لا حق له فيه وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي يجب على الجاني في ملكه ونقص الأرش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه والقول الثاني يجب له أقل الأمرين من ثلث الدية أو ثلث القيمة لأن الجاني على ملكه هو الأول والآخر لا حق له في جنايتهما فيجب أن يكون له أقل الأمرين من ثلث(3/236)
الدية أو ثلث القيمة فإن كان ثلث القيمة أقل لم يكن له أكثر منه لأنه لما كان عبداً كان له هذا القدر وما زاد وجب في حال الحرية فلم يكن له فيها حق وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأن ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم يستحق أكثر منه.
فصل: إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنيناً ميتاً وجب فيه عشر قيمة الأم لأن جنين آدمية سقط ميتاً بجنايته فضمن بعشر بدل الأم كجنين الحرة واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم فقال المزني وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط لأنه حال استقرار الجناية والاعتبار في قدر الضمان بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يد نصراني ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم وقال أبو إسحاق تعتبر قيمتها يوم الجناية وهو المنصوص لأن المجني عليه لم يتغير حاله فكان أولى الأحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية لأنه حال الوجوب ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية لأنه حال الوجوب وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنيناً ميتاً وجب فيه دية جنين حر لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين حر عند استقرار الجناية فضمن بالدية.(3/237)
باب العاقلة وما تحمله من الديات
إذا قتل الحر حراً عمد خطأ وله عاقلة وجب جميع الدية على عاقتله لما روى المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة القاتلة وإن قتله خطأ وجبت الدية على عاقلته لأنه إذا تحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه مع قصده إلى الجناية فلأن يحمل عن قاتل الخطأ ولم يقصد الجناية أولى ولأن الخطأ وعمد الخطأ يكثر فلو أوجبنا ديتهما في مال الجاني أجحفنا به وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد خطأ ففيه قولان قال في القديم: لا تحمل العاقلة ديتهما لأنه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه القسامة فلم تحمل العاقلة بدله كالمال وقال في الجديد: تحمل العاقلة ديتها لأن ما ضمن بالقصاص والدية وخففت الدية فيه بالخطأ حملت العاقلة بدله كالنفس فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر كما تحمل ما قل وكثر من(3/237)
دية النفس وإن قتل عمداً أو جنى على طرفه عمداً لم تحمل العاقلة ديته لأن الخبر ورد في الحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه لأنه لم يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف وإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدية مسمومة فمات فعليه نصف الدية وهل تحمل العاقلة ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: تحمله لأنها حكمنا بأنه ليس بعمد محض والثاني: لا تحمله لأنه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه وإن وكل من يقتص له في النفس ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا إن العفو يصح ووجبت الدية على الوكيل فهل تحملها العاقلة فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تحملها العاقلة وهو صحيح لأنه تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه كما لو قتله بعد العلم بالعفو والثاني: وهو قول أبي علي بن أي هريرة أنه تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية.
فصل: وإن قتل عبداً خطأ أو عمد خطأ ففيه قيمته قولان: أحدهما: أنها تحملها العاقلة لأنه يجب القصاص والكفارة بقتله فحملت العاقلة بدله كالحر والثاني: أنه لا تحمله العاقلة لأنه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال.
فصل: ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روي أن عوف بن مالك الأشجعي ضرب مشركاً بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فأمتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل مات مجاهداً". ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
فصل: وما يجب بخطأ الإمام من الدية بالقتل ففيه قولان: أحدهما: يجب على عاقلته لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه في جنين المرأة التي بعث إليها عزمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك والثاني: يجب في بيت المال لأن الخطأ يكثر منه في أحكامه واجتهاده فلو أوجبنا ما يجب بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم فإذا قلنا أنه يجب على عاقلته وجبت الكفارة في ماله كغير الإمام وإذا قلنا إنها تجب في بيت المال ففي الكفارة وجهان: أحدهما: أنها تجب في ماله لأنها لا تتحمل والثاني: أنها تجب في بيت المال لأنه يكثر خطؤه فلو أوجبنا في ماله أجحفنا به.
فصل: وما يجب بجناية العمد يجب حالاً لأنه بدل متلف لا تتحمله العاقلة بحال فوجب حالاً كغرامة المتلفات وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلاً فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين لأنه روي ذلك عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ويجب في كل سنة ثلثها فإن كان دية نفس كان ابتداء الأجل من وقت(3/238)
القتل لأنه حق المؤجل فاعتبر الأجل من حين وجود السبب كالدين المؤجل وإن كان دية الطرف فإن لم تسر واعتبرت المدة من وقت الجناية لأنه وقت الوجوب وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت الاندمال لأن الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار وإن كان الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الدية أو دونه لم تجب إلا في سنة لأنه لا يجب على العاقلة شيء في أقل من سنة فإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في السنة الأولى الثلث ووجب الباقي في السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين ولم يزد على الدية وجب في السنة الأولى الثلث وفي الثانية الثلث والثالثة الباقي وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا لاثنتين بأن قتل اثنين وجب في كل سنة لكل واحد منهما ثلث الدية لأنهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد منهما في كل سنة من الثلث فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل وجب الكل في ست سنين في كل سنة ثلث دية لأنها جناية على واحد فلا يجب له على العاقلة في كل سنة أكثر من ثلث دية وإن وجب بجناية الخطأ أو عمد الخطأ دية ناقصة كدية الجنين والمرأة ودية أهل الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها لأنها دية نفس فوجب في كل سنة ثلثها كالدية الكاملة والثاني: أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الدية لأنه دون الدية الكاملة فعلى هذا إن كان ثلث دية وهو كدية اليهودي والنصراني أو أقل من الثلث وهو دية المجوسي ودية الجنين وجب الكل في سنة واحدة وإن كان أكثر من الثلث وهو دية المرأة وجب في السنة الأولى ثلث دية كاملة ويجب ما زاد في السنة الثانية كما قولنا في الطرف وإن كان قيمة عبد وقولنا أنها على العاقلة ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين وأن زاد حصة كل سنة على ثلث الدية لأنها دية نفس والثانية: تؤدى في كل سنة ثلث دية الحر.
فصل: والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الأب والجد والابن وابن الابن والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة العاقلة وأما الأب والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها وإذا ثبت هذا في الولد ثبت في الأب لتساويهما في العصبة ولأن الدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به فلو جعلناه على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله ولهذا لا نقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه ويستغنى عن المسألة بمالهما(3/239)
كما يستغنى بمال نفسه وإن كان في بني عمها ابن لها لم يحمل معهم لما ذكرناه وإن لم يكن له عصبة نظرت فإن كان مسلماً حملت عنه من بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم يرثونه كما ترث العصبات وإن كان ذمياً لم يحمل عنه في بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيئاً واختلف قوله في المولى من أسفل فقال في أحد القولين: لا يعقل عنه وهو الصحيح لأنه لا يرثه فلم يعقله وقال في الآخر: يعقله لأنه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالأخوين فعلى هذا يقدم على بيت المال لأنه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى وإن لم يكن له عاقلة ولا بيت مال فهل يجب على القاتل فيه وجهان بناء على أن الدية هل تجب على القاتل تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وفيه قولان: أحدهما: تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لأنه هو الجاني فوجبت الدية عليه فعلى هذا تجب الدية في ماله والقول الثاني تجب على العاقلة ابتداء لأنه لا يطالب غيرهم فعلى هذا لا تجب عليه وقال أبوعلي الطبري: إذا قلنا إنها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل الأب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل لأنا لم نحمل عليهما إبقاء على القاتل وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى قال الشيخ الإمام حرس الله مدته: ويحتمل عندي أنه لا يجب عليهما لأنا إنما أوجبنا على القاتل على هذا القول لأنه وجب عليه في الأصل فإذا لم يجد من يتحمل بقي الوجوب في محله والأب والابن لم يجب عليهما في الأصل ولا حملا مع العاقل فلم يجب الحمل عليهما.
فصل: ولا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم ولا ذمي عن حربي ولا حربي عن ذمي لأنه لا يرث بعضهم من بعض فإن رمى نصراني سهماً إلى الصيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنساناً وقتله وجبت الدية في ماله لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى لأنه وجد القتل وهو مسلم ولا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه رمى وهو نصراني فإن قطع نصراني يد رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين لأن الجناية وجدت منه وهو نصراني ولهذا يجب بها القصاص ولا يسقط عنه بالإسلام وإن رمى مسلم سهماً إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنساناً فقتله وجبت الدية في ذمته لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه وجد القتل وهو مرتد ولا يمكن إيجابها على الكفار لأنه ليس له منهم عاقلة يرثونه فوجبت في ذمته وإن جرح مسلم إنساناً ثم ارتد الجارح وبقي في الردة زمناً يسري في مثله الجرح ثم أسلم ومات المجروح وجبت الدية وعلى من تجب فيه قولان: أحدهما:(3/240)
تجب على عاقلته لأن الجناية في حال الإسلام وخروح الروح في حال الإسلام والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين في حال الإسلام فوجبت ديته عليها والقول الثاني: أنه يجب على العاقلة نصف الدية ويجب في مال الجاني النصف لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة فحملت ما سرى في حال الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.
فصل: ولا يعقل صبي ولا معتوه ولا امرأة لأن حمل الدية على سبيل النصرة بدلاً عما كان في الجاهلية من النصرة بالسيف ولا نصرة في الصبي والمعتوه والمرأة ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة والشيخ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة بالتدبير وقد قاتل عمار في محفة وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين في قتلهما في الأسر فإن قلنا إنهما يقتلان في الأسر عقلا وإن قلنا لا يقتلان في الأسر لم يعقلا.
فصل: ولا يعقل فقير لأن حمل الدية على العاقل مواساة الفقير ليس من أهل المواساة ولهذا لا تجب عليه الزكاة ولا نفقة الأقارب ولأن العاقلة تتحمل لدفع الضرر عن القاتل والضرر لا يزال بالضرر ويجب على المتوسط ربع دينار لأن المواساة لا تحصل بأقل قليل ولا يمكن إيجاد الكثير لأن فيه إضراراً بالعاقلة فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار لأنه ليس في حد التافه والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه ويجب على الغني نصف دينار لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحداً فقدر بنصف دينار لأنه أقل قدر يؤخذ من الغني في الزكاة التي قصد فيها المواساة فيقدر ما يؤخذ من الغني في الدية بذلك لأن في معناه ويجب هذا القدر في كل سنة لأنه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول كالزكاة ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر في الثلاث سنين لأنا لو أوجدنا هذا القدر في كل سنة أجحف به ويعتبر حاله في الفقر والغنى والتوسط عند حلول النجم لأنه حق مال يتعلق بالحلول على سبيل المواساة فاعتبر فيه حاله عند حلول الحول كالزكاة إذا مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة إذا مات قبل الحول وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط ما وجب من الزكاة قبل الموت.
فصل: وإذا أراد الحاكم قسمة على العاقلة قدم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيبهم في الميراث لأنه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث،(3/241)
وإن كان فيهم من يدلي بالأبوين وفيهم من يدلي بالأب ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في قرابة الأب لأن الأم لا مدخل لها في النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها والثاني: يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب كالميراث فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الأقربين منهم لم يحمل على من بعدهم وإن لم يمكن أن يقسم على الأقربين لقلة عددهم قسم ما فضل على من بعدهم على الترتيب فإن كان القاتل من بني هاشم قسم عليهم فإن عجزوا دخل معهم بنو عبد مناف فإن عجزوا دخل معهم بنو قصي ثم كذلك حتى تستوعب قريش ولا يدخل معهم غير قريش لأن غيرهم لا ينسب إليهم وإن غاب الأقربون في النسب وحضر الأبعدون ففيه قولان: أحدهما: يقدم الأقربون في النسب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقربون في النسب كالميراث والثاني: يقدم الأقربون في الحضور على الأقربين في النسب لأن تحمل العاقلة على سبيل النصرة والحاضرون أحق بالنصرة من الغيب فعلى هذا إن كان القاتل بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لأنهم أقرب إلى القاتل وإن استوت جماعة في النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان: أحدهما: يقدم الحضور لأنهم أقرب إلى النصرة والثاني: يسوي بين الجميع كما يسوي في الميراث وإن كثرت العاقلة وقل المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دون ربع دينار والغني دون نصف دينار ففيه قولان: أحدهما: أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم لأن في تقسيط القليل على الجميع مشقة والثاني: هو الصحيح أنه يقس على الجميع لأنه حق يستحق بالتعصيب فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث.
فصل: وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته لأنه لا يجوز إيجابه على المولى لأنه لم يوجد منه جناية ولا يجوز تأخيره إلى أن يعتق لأنه يؤدي إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته والمولى بالخيار بين أن يبيعه ويقضي حق الجناية من ثمنه وبين أن يفديه ولا يجب عليه تسليم العبد إلى المجني عليه لأنه ليس من جنس حقه وإن اختار بيعه فباعه فإن كان الثمن بقدر مال الجناية صرفه فيه وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقي للمولى وإن كان أقل لم يلزم المولى ما بقي لأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة فإن اختار أن يفديه ففيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة العبد لأنه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما والقول الثاني: يلزمه أرش الجناية بالغاً أو يسلمه للبيع لأنه قد يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من(3/242)
قيمته فإذا امتنع من البيع لزمه الأرش بالغاً ما بلغ وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبد الآخر عمداً فاقتص مولى المقتول من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة في رقبة كل واحد منهم عشرها لأنه قتل خمسة بنصف عبده وعفا عن خمسة على المال وبقي له النصف.(3/243)
باب اختلاف الجاني وولي الدم
إذا قتل رجلاً ثم ادعى أن المقتول كان عبداً وقال الولي بل حراً فالمنصوص أن القول قول الولي مع يمينه وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها أمة أن القول قول القاذف فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أن القول قول الجاني والقاذف لأن ما يدعيان محتمل لأن الدار تجمع الأحرار والعبيد والأصل فيه حمى للظهر وحقن الدم والثاني: أن القول قول ولي المجني عليه والمقذوف لأن الظاهر من الدار الحرية ولهذا لو وجد في الدار لقيط حكم بحريته ومن أصحابنا من قال القول في الجناية قول الولي والقول في القذف قول القاذف والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع وإذا جعلنا القول قول الجاني سقط القصاص ولم يبق ما يقع به الردع.
فصل: إذا وجب له القصاص في موضحة فاقتص في أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أصبع فاقتص في أصبعين وادعى أن أخطأ في ذلك وادعى المستقاد منه أنه تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه لأنه أعرف بفعله وقصده وما يدعيه يجوز الخطأ في مثله فقبل قوله فيه وإن قال المقتص منه أن هذه زيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستقاد منه ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول المقتص لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة والثاني: أن القول قول المستقاد منه لأنه الأصل عدم الاضطراب.
فصل: إذا اشترك ثلاثة في جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الوالي المدعي نظرت فإن أراد القصاص قبل تصديقه ولم يجب على المدعي إلا ضمان الجراحة لأنه لا ضرر على الآخرين لأن القصاص يجب عليهما في الحالين وإن أراد أن يأخذ الدية لم يقبل تصديقه لأنه يدخل الضرر على الآخرين لأنه إذا حصل القتل من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية وإذا حصل من جراحهما وجب على كل واحد منهما نصف الدية والأصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث.
فصل: إذا قد رجلاً ملفوفاً في كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت وقال الوالي بل كان(3/243)
حياً ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول الوالي لأن الأصل حياته وكونه مضموناً فصار كما لو قتل مسلماً وادعى أنه كان مرتداً.
فصل: وإن جنى على عضو ثم اختلفا في سلامته فادعى الجاني أنه جنى عليه وهو أشل وادعى المجني عليه أنه جنى عليه وهو سليم فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة العضو ومنهم من قال القول في الأعضاء الظاهرة قول الجاني وفي الأعضاء الباطنة القول قول المجني عليه لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على السلامة في الأعضاء الظاهرة فكان القول قول الجاني ويتعذر عليه إقامة البينة على الأعضاء الباطنة والأصل السلامة فكان القول قول المجني عليه ولهذا لم علق طلاق امرأته على ولادتها فقالت ولدت لم يقبل قولها لأنه يمكن إقامة البينة على الولادة ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لأنه يتعذر إقامة البينة على حيضها فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجاني أنه طرأ عليه الشلل وأنكر المجني عليه ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأنه يتعذر إقامة البينة على سلامته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأنه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه حتى يثبت الشلل.
فصل: إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز فقال الجاني تأكل ما بينهما بسراية فعلي فلا يلزمني مني إلا أرش موضحة وقال المجني عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين فالقول قول المجني عليه لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل بقاء الموضحتين ووجوب الأرشين وإن أوضح رأسه فقال الجاني أوضحته موضحة واحدة وقال المجني عليه أو ضحتني موضحتين وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة.
فصل: وإن قطع رجل يدي رجل ورجليه ومات واختلف الجاني والولي فقال الجاني مات من سراية الجنايتين فعلي دية واحدة وقال الولي بل اندملت الجنايتين ثم مات فعليك ديتان فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال الجراحتين فالقول قول الولي لأن الأصل وجوب الديتين وإن لم يمض زمن يمكن فيه الاندمال فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه الولي غير محتمل وإن اختلفا في المدة فقال الولي مضت مدة يمكن فيها الاندمال وقال الجاني لم يمض فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم المدة.(3/244)
فصل: وإن قطع يد رجل ومات فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك الدية وقال الجاني اندملت جنايتي ومات بسبب آخر فعلي نصف الدية نظرت فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال فالقول قول الولي لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر أو شرب سماً فمات منه وإن مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات فإن كان مع الولي بينة أنه لم يزل متألماً ضمناً إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه مات من الجناية وإن لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن والأصل براءة ذمة الجاني مما زاد على نصف الدية.
فصل: وإن قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولي والجاني فقال الجاني شرب سماً أو جنى عليه آخر بعد جنايتي فلا يجب علي إلا نصف الدية وقال الولي مات من سراية جنايتك فعليك الدية فليس فيها نص ويحتمل أن يكون القول قول الولي لأن الأصل حصول جنايته وعدم غيرها ويحتمل أن يكون القول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة ذمته.
فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين وقال أهل الخبرة يرجى عود البصر فمات واختلف الولي والجاني فقال الجاني عاد الضوء ثم مات وقال الولي لم يعد فالقول قول الولي مع يمينه لأن الأصل ذهاب الضوء وعدم العود وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف الجانيان فقال الأول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية وقال الثاني قلعت ولم يعد الضوء فعلي حكومة وعليك الدية فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم العود فإن صدق المجني عليه الأول قبل قوله في براءة الأول لأنه يسقط عنه حقاً له ولا يقبل قوله على الثاني لأنه يوجب عليه حقاً له والأصل عدمه.
فصل: إذا جنى على رجل جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة فإن ظهر منه إمارات السماع فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لأنه يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقاً وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر معه ولا يقبل قوله في ذلك من غير يمين لجواز ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه وإن ادعى نقصان السمع فالقول قوله مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته وما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة في الحيض وإن ادعى ذهاب السمع من إحدى الأذنين سد التي لم يذهب السمع منها ثم(3/245)
يمتحن بالصياح في أوقات غفلاته فإن ظهر منه أمارة السمع فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه.
فصل: وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح النتنة فالقول قوله لأن الظاهر معه ويحلف عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وإن ارتاح إلى الروائح الطيبة ظهرت منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ويحلف على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجني عليه من الارتياح والتكره اتفاقا وإن حلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أنه غطاه ببقاء شمه وادعى المجني عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة فالقول قول المجني عليه لأنه يحتمل ما يدعيه.
فصل: وإن كسر صلب رجل فادعى المجني عليه أنه ذهب جماعة فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله مع يمينه كالمرأة في دعوى الحيض.
فصل: وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا وادعى صاحب السفينة على القيم أنه فرط في ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وبراءة الذمة.
فصل: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً ثم اختلفا فقال الضارب ما أسقطت من ضربي وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان الإسقاط عقيب الضربة فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن كان الإسقاط بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن لم تكن متألمة فالقول قوله لأنه يحتمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم التألم وإن ضربها فأسقطت جنيناً حياً ومات واختلفا فقالت المرأة مات من ضربك وقال الضارب مات بسبب آخر فإن مات عقب الإسقاط فالقول قولها لأن الظاهر معها وأنه مات من الجناية وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة الذمة وإن أقامت بينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قولها مع اليمين لأن الظاهر أنه مات من جنايته.
فصل: وإن اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول قوله لأن الأصل عدم الاستهلال وإن ألقت جنيناً حياً ومات ثم اختلفا فقال الضارب كان أنثى(3/246)
وقالت المرأة أنه كان ذكراً فالقول قول الضارب لأن الأصل براءة الذمة مما زاد على دية الأنثى.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل قتلاً تجب فيها الدية على العاقل صدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجاني بإقراره ولا تجب على العاقلة من غير بينة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن إن لم يواطىء في كل وقت من يقوله بقتل الخطأ فيودي إلى الإضرار بالعاقلة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً فقال الجاني كان ميتاً وقالت المرأة كان حياً فالقول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه لك واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر الغرة لأنها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة في ذمة الجاني لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة.
فصل: إذا سلم من عليه الدية الإبل في قتل العمد ثم اختلفا فقال الولي لم يكن فيها خلفات وقال من عليه الدية كانت فيها خلفات فإن لم يرجع في حال الدفع إلى أهل الخبرة فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل فإن رجع في الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الولي لما ذكرناه والثاني: أن القول قول من عليه الدية لأن حكمنا بأنها خلفات بقول أهل الخبرة فلم يقبل فيه قول الولي.(3/247)
باب كفارة القتل
من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان وجبت عليه الكفارة لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فإن قتله عمداً أو شبه عمد وجبت عليه الكفارة لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن تجب في العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس كحفر بئر وشهادة الزور والإكراه وجبت عليه الكفارة لأن السبب كالمباشرة في إيجاب الضمان فكان كالمباشرة في إيجاب الكفارة فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً وجبت عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره وإن قتل نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة لأن الكفارة تجب لحق الله تعالى،(3/248)
كتاب قتال أهل البغي
مدخل
...
كتاب قتال أهل البغي
لا يجوز الخروج عن الإمام لمل روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نزع يده من طاعة إمامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية"1. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا" 2.
فصل: إذا خرجت على الإمام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل أو منعت حقاً توجب عليها بتأويل وخرجت عن قبضة الإمام وامتنعت بمنعة قاتلها الإمام لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقاتل علي كرم الله وجهه أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين وقاتل الخوارج بالنهروان ولا يبدأ القتال حتى يسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها أزاحها وإن ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفيما ذكرناه إصلاح وروى عبد الله بن شداد أن علي كرم الله وجهه لما كتب معاوية وحكم وعتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لهل حروراء فقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله فقال علي: بيني وبينكم كتاب الله يقول الله تعالى في رجل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 2. مسلم في كتاب الإمارة حديث 35، 56. النسائي في كتاب تحريم الدم باب 28. الدارمي في كتاب السير باب 75.
2 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 161، 163. الترمذي في كتاب الحدود باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 11.(3/249)
وامرأة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ونقموا أني كاتبت معاوية من علي بن أبي طالب وجاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتب من محمد رسول الله". فقالوا لو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نخالفك فقال أكتب فكتب: "هذا ما قاضى محمد عليه قريشاً". يقوا الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وبعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام ورجع منهم أربعة آلاف فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال فإن أبوا قاتلهم فإن طلبوا الأنظار نظرت فإن كان يومين أو ثلاثة أنظرهم لأن ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة فإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الإمام فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة أمهلهم وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما في الأنظار من الأضرار وإن أعطوا على الأنظار رهائن لم يقبل منهم لأنه لا يؤمن أن يكون هذا مكراً وطريقة إلى قهر أهل العدل وإن بذلوا عليه مالاً لم يقبل لما ذكرناه ولأن فيه إجزاء صغاراً على طائفة من المسلمين فلم يجز كأخذ الجزية منهم.
فصل: ولا يتبع في القتال مدبرهم ولا يذفف على جريحهم لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي" فقلت الله ورسوله أعلم فقال: "لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيؤهم": عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا ولأن قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان: أحدهما: لا يقصد بالقتل لأن القصد من قتالهم كفهم وهذا قد كف نفسه فلم يقصدوا الثاني والثاني: يقتل لأن علياً كرم(3/250)
الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال إياكم وقتل صاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الذي فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه
... فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم
ولم ينكر علي كرم الله وجهه قتله ولأنه صار ردءا لهم ولا تقتل النساء والصبيان كما لا يقتلون في حرب الكفار فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم إذا قصدوا قتله في غير القتال ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم كما يكره في قتال الكفار فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال.(3/251)
فصل: ولا يقتل أسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: "ولا يقتل أسيرهم". فإن قتله ضمنه بالدية لأنه بالأسر صار محقون الدم فصار كما لو رجع إلى الطاعة وهل يضمنه بالقصاص فيه وجهان: أحدهما: يضمنه لما ذكرناه والثاني: لا يضمنه لأن أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة في إسقاط القود فإن كان الأسير حراً بالغاً فدخل في الطاعة أطلقه وإن لم يدخل في الطاعة حبسه إلى أن تنقضي الحرب ليكف شره ثم يطلقه ويشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن كان عبداً أو صبياً لم يحبسه لأنه ليس من أهل البيعة ومن أصحابنا من قال يحبسه لأن في حبسه كسرا لقلوبهم.
فصل: ولا يجوز قتالهم بالنار والرمي عن المنجنيق من غير ضرورة لأنه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل ومن لا يقاتل وإن دعت إليه الضرورة جاز كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل إذا قصد قتله للدفع ولا يستعين في قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لأن القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من إتباع المدبرين جاز وإن لم يقدر لم يجز.
فصل: وإن اقتتل فريقان من أهل البغي فإن قدر الإمام على قهرهما لم يعاون واحداً منهما لأن الفريقين على خطأ وإن لم يقدر على قهرهما ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق فإن استويا في ذلك اجتهد في رأيه في ضم أحدهما: إلى نفسه ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر بل يقصد الاستعانة به على الآخر فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذي ضمه إلى نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لأنه حصل بالاستعانة به في أمانة.
فصل: ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبي أمامة في صفين ولأن الإسلام عصم دمهم ومالهم وإنما أبيح قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة وبقي حكم المال على ما كان فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير إذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" 1.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 11، مسلم في كتاب الزكاة حديث 96. الترمذي في كتاب الزكاة باب 34. أحمد في مسنده 4/10.(3/252)
لا يجوز أخذ ماله محمد لم يجز الانتفاع بماله من غير إذنه ومن غير ضرورة كغيرهم وإن اضطر إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة.
فصل: وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفساً أو مالاً في غير القتال وجب عليه الضمان لأن تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغي فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغي إن أتلف أهل العدل على أهل البغي نفساً أو مالاً في حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان لأنه مأمور بإتلافه فلا يلزمه ضمانه كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق وإذا أتلف أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الضمان لأنه أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان كما لو أتلف عليه في غير القتال والزنى لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح لما روي عن الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولا يقتل رجل سفك دماً حراً بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل ومن أصحابنا من قال القولان في غير القصاص فأما القصاص فلا يجب قولاً واحداً لأنه يسقط الشبهة ولهم في القتل شبهة.
فصل: وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب في القتال وعقدوا لهم أماناً أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد لأن من شرط الذمة والأمان أن لا يقتلوا المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال فإن عاونوهم جاز لأهل العدل قتلهم مدبرين وجاز أن يذفف على جريحهم إن أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة لهم لأنه لا عهد لهم ولا ذمة فصاروا كما جاؤوا منفردين عن أهل البغي ولا يجوز شيء من ذلك لمن عاونهم من أهل البغي لأنهم بذلوا لهم الذمة والأمان فلزمهم الوفاء به وإن استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا كنا مكرهين أو ظننا أنه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم تنتقض الذمة لأن ما ادعوه محتمل فلا يجوز نقض العقد مع الشبهة وإن قاتلوا معهم عالمين من غير إكراه فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة في عقد الذمة انتقض العهد لأنه زال شرط الذمة إن لم يشترط ذلك ففيه قولان: أحدهما: ينتقض كما لو انفردوا بالقتال لأهل العدل والثاني: لا ينتقض لأنهم قاتلوا تابعين لأهل البغي فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا في القتال كأهل البغي لا يتبع مدبرهم ولا يدفف على جريحهم وإن أتلفوا نفساً أو مالاً في الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا والفرق بينهم وبين أهل البغي أن في تضمين أهل البغي تنفيراً عن الرجوع إلى الطاعة فسقط عنهم الضمان في أحد(3/253)
القولين ولا يخاف تنفير أهل الذمة لأنا قد أمناهم على هذا القول وإن استعانوا بمن له أمان إلى مدة فعاونوهم انتقض أمانهم فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن لهم بينة على الإكراه انتقض الأمان والفرق بينهم وبين أهل الذمة في أحد القولين أن الأمان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة وعقد الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة.
فصل: وإن ولوا فيما استولوا عليه قاضياً نظرت فإن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لهم ينفذ حكمه لأنه من شرط القضاء العدالة والاجتهاد وهذا ليس بعدل ولا مجتهد وإن كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي أهل العدل ورد من حكمه ما يرد من حكم قاضي أهل العدل لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد فلم ينقض من حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل استحب أن لا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم فإن قبله جاز لأنه ينفذ حكمه فجاز الحكم بكتابه كقاضي أهل العدل.
فصل: وإن استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية اعتد به لأن علياً كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه وأخذوه ولأن ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب إمضاؤه كالحاكم إذا حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه دفعها إلى أهل البغي قبل قوله وهل يحلف عليه مستحباً أو واجباً فيه وجهان: ذكرناهما في الزكاة وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله لأنها عوض فلم يقبل قوله في الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الأجرة وإن ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله لأنه مسلم فقبل قوله في الدفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة والثاني: لا يقبل لأن الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل قوله في الدفع كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة.
فصل: وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم لأن علياً كرم الله وجهه سمع رجلاً من الخوارج يقول لا حكم إلا لله تعريضاً له في التحكيم في صفين فقال كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة فلأن لا نتعرض لأهل البغي وهم من المسلمين أولى وحكمها في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل لأن ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه(3/254)
فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به فإن قتل فهل يتحتم قتله فيه وجهان: أحدهما: يتحتم لأنه قتل بشهر السلاح فانحتم قتله كقاطع الطريق والثاني: لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي كرم الله وجهه أعفوا إن شئت وإن شئت استقدت وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فوجب فيه التعزيز وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان: أحدهما: يعزرون لأنهم إذا لم يعزروا على التعريض وصرحوا وخرقوا الهيبة والثاني: لا يعزرون لما روى أبو يحيى قال: صلى بنا علي رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فأجابه علي رضوان الله عليه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الزمر: 65] ولم يعزره.
فصل: وإن خرجت على الإمام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأي الخوارج كان حكمهم في ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل لأنه لا يخاف نفورهم لقلتهم وقدرة الإمام عليهم فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم الجماعة كما لو كانوا في قبضته.
فصل: وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الإمام بغير تأويل واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الإمام وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا وغرمهم ما أتلفوه بغير حق وأقام عليهم حدود ما ارتكبوا لأنه لا تأويل لهم فكلن حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق.(3/255)
باب قتل المرتد
تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا تصح ردتهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون(3/255)
حتى يفيق". وأما السكران ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: تصح ردته قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بينا ذلك في الطلاق فأما المكره فلا تصح ردته لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 16] وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو أسير لم يحكم بردته لأنه مكره وإن تلفظ بها في دار الحرب في غير الأسر حكم بردته لأن كونه في دار الحرب لا يدل على الإكراه وإن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لم يحكم بردته لأنه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن لا يأتي بها لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها" 1. وروى حباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فتوضع على رأسه ويشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه" 2. ومن أصحابنا من قال: إن كان ممن يرجو النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بكلمة الكفر لما في لقائه من صلاح المسلمين وإن كان لا يرجوا ذلك اختار القتل.
فصل: إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير نفس" 3. فإن ارتدت امرأة وجب قتلها،
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 9. مسلم في كتاب الإيمان حديث 66. الترمذي في كتاب الإيمان باب 10. النسائي في كتاب الإيمان باب 3.
2 رواه البخاري في كتاب المناقب باب 25. مسلم في كتاب البر حديث 53. أبو داود في كتاب الجهاد باب 97. أحمد في مسنده 5/109.
3 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15.(3/256)
لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لهل أم رومان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وهل يجب أن يستتاب أو يستحب فبه قولان أحدهما: لا يجب لأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل ولو وجبت الاستتابة لضمنه والثاني: أنها تجب لما روي أنه لمل ورد على عمر رضي الله عنه فتح تستر فسألهم هل كان من مغربة خبر؟ قالوا: نعم رجل ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فأخذناه وقتلناه قال: فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم فإن قلنا أنه تجب الاستتابة أو تستحب ففي مدتها وجهان: أحدهما: أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضي الله عنه ولأن الردة لا تكون إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة في الحال فإن تاب وإلا قتل لحديث أم رومان ولأنه استتابة من الكفر فلم تتقدر بثلاث كاستتابة الحربي وإن كان سكراناً فقد قال الشافعي رحمه الله تؤخر الاستتابة ومن أصحابنا من قال تصح الاستتابة والتأخير مستحب لأنه تصح ردته فصحت استتابته ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير لأن ردته لا تكون إلا عن شبهة ولا يمكن بيان الشبهة ولا إزالتها مع السكر إن ارتد ثم جن لم يقتل حتى يفيق ويعرض عليه الإسلام لأن القتل يجب بالردة والإصرار عليها والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة.
فصل: وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" 1. فإذا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 27، 28. مسلم في كتاب الإيمان حديث 32، 36. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88.(3/257)
شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الإسلام مع ما كانوا يبطنون من خلافه فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لمل يظهرونه من الإسلام فإن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه لحديث أنس رضي الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه وإن صلى في دار الإسلام لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أن تكون صلاته في دار الإسلام للمراآة والتقية وفي دار الحرب لا يحتمل ذلك فدل على إسلامه وإن كان ممن يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا نبي يبعث وهو غير الذي بعث لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خلاف الإسلام لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده في خبره فلا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين وإن ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم وتكرر منه ذلك قبل إسلامه ويعزر على تهاونه بالدين وقال أبو إسحاق: لا يقبل إسلامه إذا تكررت ردته وهذا خطأ لقوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأنه أتى بالشهادتين بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مرة ثم أسلم.
فصل: وإن ارتد ثم أقام على الردة فإن كان حراً كان قتله إلى الإمام لأنه قتل يجب لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كقتل الزاني فإن قتله غيره بغير إذنه عزر لأنه أفتات على الإمام فإن كان عبداً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للمولى قتله لأنه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى إقامتها كحد الزنى والثاني: لا يجوز للمولى قتله لأنه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه في إصلاح ملكه.(3/258)
فصل: إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يزول ملكه عن ماله وهو اختيار المزني رحمه الله لأنه لم يوجد أكثر من سبب يبيح الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماله كما لو قتل أو زنى والقول الثاني: أنه يزول ملكه عن ماله وهو الصحيح لما روى طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا ولأنه عصم بالإسلام دمه وماله ثم ملك المسلمين دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله بالردة والقول الثالث: أنه مراعي فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه وإن قتل أو مات على الردة حكمنا بأنه زال ملكه لأن ماله معتبر بدمه ثم استباحة دمه موقوفة على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا وعلى هذا في ابتداء ملكه بالاصطياد والابتياع وغيرهما الأقوال الثلاثة: أحدهما: يملك والثاني: لا يملك والثالث: أنه مراعى فإن قلنا أن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال وإن قلنا أنه لا يزول أو مرعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه لأنه تعلق به حق المسلمين وهو متهم في إضاعته فحفظ كما يحفظ مال السفيه وأما تصرفه في المال فإنه إن كان بعد الحجر لم يصح لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف فيه كالحجر على السفيه وإن كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال في بقاء ملكه أحدها أنه يصح والثاني: أنه لا يصح والثالث: أنه موقوف.
فصل: وإن ارتد وعليه دين قضى من ماله لأنه ليس بأكثر من موته ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد.
فصل: ولا يجوز استرقاقه لأنه لا يجوز إقراره على الكفر فإن ارتد وله ولد أو حمل كان محكوماً بإسلامه فإذا بلغ ووصف الكفر قتل وقال أبو العباس: فيه قول آخر أنه لا يقتل لأن الشافعي رحمه الله قال: ولو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود والمذهب الأول لأنه محكوم بإسلامه إنما أسقط الشافعي رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة وهو أنه بلغ ولم يصف الإسلام ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود وإن ولد له ولد بعد الردة من ذمية فهو كافر لأنه ولد بين كافرين وهل يجوز استقراره؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأنه لا يسترق أبواه فلم يسترق والثاني: لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين فإن قلنا لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل وإن قلنا يجوز استرقاقه فوقع في الأسر فللإمام أن يمن عليه وله أن يفادي به وله أن يسترقه كولد الحربيين غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.(3/259)
فصل: وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الإمام قتالها لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدة ويتبع في الحرب مدبرهم ويذفف على جريحهم لأنه إذل وجب ذلك في قتال أهل الحرب فلأن يجب ذلك في قتال المرتدة وكفرهم أغلظ أولى وإن أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل لأنه لا يجوز إقراره على الكفر.
فصل: ومن أتلف منهم نفساً أو مالاً على مسلم فإن كان ذلك في غير القتال وجب عليه ضمانه لأنه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام فلم يسقط عنه بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالإقرار عند الحاكم بالحجود فإن أتلف ذلك في حال القتال ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني وغيره من البغداديين أنه على قولين كما قلنا في أهل البغي والثاني: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي وغيره من البصريين أنه يجب عليه الضمان قولاً واحداً لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم فكان حكمهم في الضمان حكم قاطع الطريق ولأول وهو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فقال: تدون قتلانا وقتلاكم في النار فقال عمر: إن قتلانا قتلوا على أملا الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على رأي عمر رضي الله عنه.
فصل: وللسحر حقيقة وله تأثير في إيلام الجسم وإتلافه وقال أبو جعفر الإستراباذي من أصحابنا من قال لا حقيقة ولا تأثير له والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] والنفاثات السواحر ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة من شره وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله ويحرم فعله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من سحر أو سحر له وليس منا من تكهن أو تكهن له وليس منل من تطير أو تطير له". ويحرم تعلمه لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ(3/260)
النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فذمهم على تعليمه ولأن تعلمه يدعوا إلى فعله وفعله محرم فحرم ما يدعوا إليه فإن علم أم تعلم واعتقد تحريمه لم يكفر لأنه إذا لم يكفر بتعلم الكفر فلأن لا يكفر بتعلم السحر أولى وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر لأنه كذب الله تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتد.(3/261)
باب صول الفحل
من قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق فله أن يدفعه لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل دون أهله أو ماله فقتل فهو شهيد" 1. وهل يجب عليه الدفع ينظر فيه فإن كان في المال لم يجب لأن المال يجوز إباحته وإن كان في أهله وجب عليه الدفع لأنه لا يجوز إباحته وإن كان في النفس ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الدفع لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه لا يجب لأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه ولأنه ينال به الشهادة إذا قتل فجاز له ترك الدفع لذلك.
فصل: وإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد فإذا لم يندفع دفعه بالعصا فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف العضو فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل وإن عض يده ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحييه وإن لم يندفع إلا بأن
__________
1 رواه أبو داود في كتاب السنة باب 29. الترمذي في كتاب الديات باب 21. النسائي في كتاب التحريم باب 23، 24.(3/261)
يبعج جوفه بعج جوفه ولا يجب عليه في شيء من ذلك ضمان لما روى عمران بن الحصين قال: قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما: يد صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثتيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له". ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رمى حجراً فرجع الحجر عليه فأتلفه وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضواً أو قدر على دفعه بالقطع فقتله وجب عليه الضمان لأنه جناية لغير حق فأشبه إذا جنى عليه من غير دفع وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه مرة أخرى لأن القصد كف أذاه فإن قصده فقطع يده فولى عنه فقطع يده الأخرى وهو مول لم يضمن الأولى لأنه قطع بحق ويضمن الثانية لأنه قطع بغير حق وإن مات منهما لم يجب عليه القصاص في النفس لأنه مات من مباح ومحظور ولولي المقتول الخيار في أن يقتص من اليد الثانية وبين أن يأخذ نصف دية النفس.
فصل: وإن وجد رجلا يزني بامرأته ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم يجب عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه قتله بحق فإن ادعى أنه قتله لذلك وأنكر الولي ولم يكن بينة لم يقبل قوله فإذا حلف الولي حكم عليه بالقود لما روى أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" فدل على أنه لا يقبل قوله من غير بينة وروى سعيد بن المسيب قال: أرسل معاوية أبا موسى إلى علي كرم الله وجهه يسأله عن رجل وجد على امرأته رجلاً فقتله فقال علي كرم الله وجهه لتخبرني لم تسأل عن هذا فقال إن معاوية كتب إلي فقال علي أنا أبو الحسن إن جاء بأربعة شهداء يشهدون على الزنا وإلا أعطى برمته يقول يقتل.
فصل: وإن صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلا بالقتل فقتلها لم يضمن لأنه إتلاف بدفع جائز فلم يضمن كما لو قصده آدم فقتله للدفع.
فصل: فإن أطلع رجل أجنبي في بيته على أهله فله أن يفقأ عينه لما روى سهل بن سعد قال: أطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به(3/262)
رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وهل له أن يصيبه قبل أن ينهاه بالكلام فيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي والشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز للخبر والثاني: أنه لا يجوز كما لا تجوز إصابة من يقصد نفسه بالقتل إذا اندفع بالقول ولا يجوز أن يصيبه إلا بشيء خفيف لأن المستحق بهذه الجناية فقء العين وذلك يحصل بسبب خفيف فلم تجز الزيادة عليه وإن فقأ عينه فمات منه لم يضمن لأنه سراية من مباح فلم يضمن كسرية القصاص فإن رماه بشيء يقتل فمات منه ضمنه لأنه قتله بغير حق وإن رماه فلم يرجع استغاث عليه فإن لم يكن من يغيثه فمن المستحب أن يخوفه بالله تعالى فإن لم يقبل فله أن يصيبه بما يدفعه فإن أتى على نفسه لم يضمن لأنه تلف بدفع جائز فإن اطلع أعمى لم يجز له رميه لأته لا ينظر إلى محرم وإن اطلع ذو رحم محرم لأهله لم يجز رميه لأنه غير ممنوع النظر وإن كانت زوجته متجردة فقصد النظر إليها جاز له رميه لأنه محرم عليه النظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة منها كما يحرم على الأجنبي وإن اطلع عليه من باب مفتوح أو كوة واسعة فإن نظر وهو على اجتيازه لم يجز رميه لأنه المفرط صاحب الدار بفتح الباب وتوسعة الكوة وإن وقف وأطال النظر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له رميه لأنه مفرط في الإطلاع فأشبه إذا اطلع من ثقب والثاني: أنه لا يجوز له رميه وهو قول القاضي أبي القاسم العمري لأن صاحب الدار مفرط في فتح الباب وتوسعة الكوة.
فصل: وإذا دخل رجل داره بغير إذنه أمره بالخروج فإن لم يقبل فله أن يدفعه بما يدفع به من قصد ماله أو نفسه فإن قتله فادعى أنه قتله للدفع عن داره وأنكر الولي لم يقبل قول القاتل من غير بينة لأن القتل متحقق وما يدعيه خلاف الظاهر فإن أقام بينة أنه دخل داره مقبلاً عليه بسلاح شاهر لم يضمن لأن الظاهر أنه قصد قتله وإن أقام الولي بينة أنه دخل داره بسلاح غير شاهر ضمنه بالقود أو بالدية لأن القتل متحقق وليس ههنا ما يدفعه.
فصل: إذا أفسدت ماشيته زرعا لغيره ولم بكن معها فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن وإن كان بالليل ضمن لما روى حزام ابن سعد بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت زرعاً فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم(3/263)
بالنهار وعلى أهل المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل وإن كانت له هرة تأكل الطيور فأكلت طيراً لغيره أوله كلب عقور فأتلف إنساناً وجب عليه الضمان لأنه مفرط في ترك حفظه.
فصل: وإن مرت بهيمة له بجوهرة لآخر فابتلعتها نظرت فإن كان معها ضمن الجوهرة لأن فعلها منسوب إليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة إن كانت شاة لم يضمن وإن كان بعيراً ضمن لأن العادة في البعير أنه يضبط وفي الشاة أن ترسل وهذا فاسد لأنه يبطل بإفساد الزرع لأنه لا فرق فيه بين الجميع فإن لم يكن معها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه إن كان ذلك نهارا لم يضمن وإن كان ليلا ضمن كالزرع والثاني: وهو قول القاضي أبي الحسن الماوردي البصري أنه يضمنها ليلا ونهارا والفرق بينه وبين الزرع أن رعي الزرع مألوف صاحبه فلزم صاحبه حفظه منها وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم صاحبها حفظه منها فغلى هذا إن طلب صاحب الجوهرة ذبح البهيمة لأجل الجوهرة لم تذبح يغرم قيمة الجوهرة فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة ثم أخرجت الجوهرة من جوفها وجب ردها إلى صاحبها لأنها عين ماله واسترجعت القيمة فإن نقصت قيمة الجوهرة بالابتلاع ضمن صاحب البهيمة ما نقص وإن كانت البهيمة مأكولة ففي ذبحها وجهان بناء على القولين فيمن غصب خيطاً وخاط به جرح حيوان مأكول.(3/264)
كتاب السير
مدخل
...
كتاب السير
من أسلم في دار الحرب ولم يقدر على إظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت عليه الهجرة لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك". فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98- 99] وإن قدر على إظهار الدين ولم يخف الفتنة في الدين لم تجب عليه الهجرة لأنه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب على غيرهم ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ولأنه إذا أقام في دار الشرك كثر سوادهم ولأنه لا يؤمن أن يميل إليهم ولأنه ربما ملك الدار فاسترق ولده.
فصل: والجهاد فرض والدليل عليه قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقوله تعالى: {جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] وهو فرض إلى الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ الله الْحُسْنَى} [النساء: 95] ولو كان فرضاً على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك ولأنه وعد الجميع بالحسنى يدل على أنه ليس بفرض على الجميع وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: "ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال(3/265)
للقاعدين: " أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل أجر نصف الخارج". ولأنه لو جعل فرضاً على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق.
فصل: ويستحب الإكثار منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال: "الإيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيل الله". وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة" فقال: أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال: "وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده وددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل" 1 كان أبو هريرة يقول ثلاثاً أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة وبعث خمسا وثلاثين سرية.
فصل: وأقل مل يجزئ في كل سنة مرة لأن الجزية تجب في كل سنة مرة وهي بدل عن القتل فكذلك القتل ولأن في تعطيله في أكثر من سنة ما يطمع العدو في المسلمين فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب لأنه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه فإن دعت الحاجة الى تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من المدة وللطمع في إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار جاز تأخيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة ولأن ما يجري من النفع بتأخيره أكثر مما يجرى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره.
فصل: ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وبغير عوض لأنه إذا حضر تعين عليه الفرض في حق نفسه فلا يؤديه عن غيره كما لا يحج عن غيره وعليه فرضه.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 26. مسلم في كتاب الإمارة حديث 107. النسائي في كتاب الجهاد باب 18. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 27.(3/266)
فصل: ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنه قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: "جهادكن الحج أو حسبكن الحج". ولأن الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ولهذا رأى عمر بن أبي ربيعة امرأة مقتولة فقال:
إن من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
ولا يجب على الخنثى المشكل لأنه يجوز أن بكون امرأة فلا يجب عليه بالشك ولا يجب على العبد لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] والعبد لا يجد ما ينفق وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال: "أحر هو أم مملوك" فإن قال: أنا حر بايعه على الإسلام والجهاد وإن قال: أنا مملوك بايعه على الإسلام ولم يبايعه على الجهاد ولأنه عبادة متعلقة بقطع مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج.
فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى عروة بن الزبير قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر نفراً من أصحابه استصغرهم منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس ورجل من بني حارثة فجعلهم حرسا للذراري والنساء ولأنه عبادة على البدن فلا يجب على الصبي والمجنون كالصوم والصلاة والحج.
فصل: ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى(3/267)
الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [النور: 61] ولا يختلف أهل التفسير أنها في سورة الفتح أنزلت في الجهاد ولأنه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه وإن كان في بصره شيء فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه لأنه يقدر على القتال وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال ويجب على الأعور والأعشى وهو الذي يبصر بالنهار دون الليل لأنه كالبصير في القتال ولا يجب على الأعرج الذي يعجز عن الركوب والمشي للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشي لأنه يقدر على القتال ولا يجب على الأقطع والأشل لأنه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها ويد يتقي بها وإن قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال وإن قطع الأقل وجب عليه لأنه يقدر على القتال ولا يجب على المريض الثقيل للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى خفيفة أو صداع قليل لأنه يقدر على الفتال.
فصل: ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلاً عن نفقة عياله لقوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] فإن كان القتل على باب البلد أو حواليه وجب عليه لأنه لا يحتاج إلى نفقة الطريق وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه قوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج وإن بذل له الإمام ما يحتاج اليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد لأن ما يعطيه الإمام حق له وإن بذل له غيره لم يلزمه قبوله لأنه اكتساب مال لتجب به العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة.
فصل: ولا يجب على من عليه دين حال من أن يجاهد من غير إذن غريمه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر خطاياك إلا الدين كذلك قال لي جبريل" 1 ولأن فرض الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه فإن استناب من يقضيه من مال
__________
1 رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 32. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 31. الدارمي في كتاب الجهاد باب 20. أحمد في مسنده 2/308.(3/268)
حاضر جاز لأن الغريم يصل إلى حقه وإن كان من مال غائب لم يجز لأنه قد يتلف فيضيع حق الغريم وإن كان الدين مؤجلاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد والثاني: أنه لا يجوز لأنه يتعرض للقتل طلباً للشهادة فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه.
فصل: وإن كان أحد أبويه مسلماً لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك" قال: نعم فقال: "ففيهما فجاهد"1. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لميقاتها" قلت ثم ماذا؟ فقال: "بر الوالدين" قلت: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" 2. فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد ولأن الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره وبر الوالدين فرض يتعين عليه لأنه لا ينوب عنه فيه غيره ولهذا قال رجل لابن عباس رضي الله عنه إني نذرت أن أغزو الروم وإن أبوي منعاني فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك وإن لم يكن له أبوان وله جد أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما كالأبوين في البر وإن كان له أب وجد أو أم وجدة فهل يلزمه استئذان الأب مع الحد أو استئذان الجدة مع الأم فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة والثاني: يلزمه وهو الصحيح عندي لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجدين ولا ينقص شفقتهما عليه وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما متهمان في الدين وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا أنه يجاهد من غير إذنهما لأنه لا إذن لهما في أنفسهما فلم يعتبر إذنهما لغيرهما قال الشيخ الإمام: وعندي أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بإذنهما لأن المملوك كالحر في البر والشفقة فكان كالحر في اعتبار الإذن وان أراد الولد أن يسافر في تجارة أوفي طلب علم جاز من غير إذن الأبوين لأن الغالب في سفره السلامة.
فصل: وإن أذن الغريم لغريمه أو الوالد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بالإذن وان كان بعد التقاء الزحفين ففيه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 138. مسلم في كتاب البر حديث 5. أبو داود في كتاب الجهاد باب 31. النسائي في كتاب الجهاد باب 5.
2 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 1. أحمد في مسنده 2/32.(3/269)
قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بالإذن لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد فإذا طرأ منع من الوجوب كالعمى والمرض والثاني: أنه يجاهد من غير إذن لأنه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد سابق فقدم وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير إذن الغريم ومن غير إذن الأبوين لأن ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدي إلى الهلاك فقدم على حق الغريم والأبوين.
فصل: ويكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير من قبله لأن الغز وعلى حسب حال الحاجة والإمام والأمير أعرف بذلك ولا يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد.
فصل: ويجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار من بلاد المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم أمراء ثقات من أهل الإسلام مدبرين لأنه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن أنه إذا توجه في جهة الغز وأن يدخل العدو من جهة أخرى فيملك بلاد الإسلام وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق وقال البراء بن عازب: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا(3/270)
وإذا أراد الغز وبدأ بالأهم فالأهم لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فاذا استوت الجهاد في الخوف اجتهد وبدأ بأهمها عنده.
فصل: وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل في التفسير لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل وشرعوا في تفريق جمعكم ولأن في حضورهم إضرارا بالمسلمين ولا نستعين بالكفار من غير حاجة الله لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له: "تؤمن بالله ورسوله قال: لا قال: فارجع فلن أستعين بمشرك" 1. فان احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به لأن ما يخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن نستعين بهم لأن صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركه حرب هوازن وسمع رجلا يقول غلبت هوازن وقتل محمد فقال بفيك الحجر لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز لأنه لا يقع الجهاد له وفي القدر الذي يستأجر به وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن تبلغ الأجرة سهم راجل لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبي والمرأة والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأنه عوض في الإجارة فجاز أن يبلغ قدر سهم الراجل كالأجرة في سائر الإجارات ويجوز أن يأذن للنساء لما روت الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخدم القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة ويجوز أن يأذن لمن اشتد
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 142. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 27. الدارمي في كتاب السير باب 53. أحمد في مسنده 6/68.(3/271)
من الصبيان لأن فيهم معاونة ولا يأذن المجنون لأنه يعرضه للهلاك من غير منفعة وينبغي أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا فحماً وهو الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لأنه ربما كان سببا للهزيمة ولأنه يزاحم به الغانمين في سهمهم ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا لما روى جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت يعني النبي صلى الله عليه وسلم ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا فقال: "إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير" 1. والمستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس ويستحب أن يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس أحبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها" قال العباس: فحبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها حتى مر به
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 40، 41. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 48. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده 1/89.(3/272)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال: "من هؤلاء يا عباس" قال: قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال: "ما لأحد بهؤلاء من قبل والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما" والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعية الحرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو.
فصل: وإن كان العدو ممن لم تبلغهم لدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم الى الإسلام لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولا يجوز قتالهم على ما يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام لما روى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: "إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي لله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 1. وإن قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام جاز لما روى نافع قال: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وقيل وهم غافلون.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 29. مسلم في كتاب فضائل القرآن حديث 32، 34. أبو داود في كتاب الوتر باب 1. الترمذي في كتاب الوتر باب 1. الموطأ في كتاب السفر حديث 43.(3/273)
فصل: فان كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 1 وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية والدليل عليه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وروى بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أو سرية قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم الى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم الى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم الى دار الهجرة فان فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن دخلوا في الإسلام وأبوا أن يتحولوا الى دار الهجرة فأخبرهم أنهم كأعراب المؤمنين الذين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم ثم قاتلهم ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ائتوني بضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" 2. ويستحب أن يدعوا عند التقاء الصفين لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي وأنت ناصري وبك أقاتل". وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف أمراً قال: "اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 17. مسلم في كتاب الإيمان حديث 34. الترمذي في كتاب الإيمان باب 1. الترمذي في كتا ب الوتر باب 1. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1. أحمد في مسنده 1/11، 19.
2 رواه الترمذي في كتاب الجهاد باب 24. أحمد في مسنده 5/198.(3/274)
شرورهم". ويستحب أن يحرض الجيش على القتال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غداً فاحصدوهم حصدا". وروى سعد رضي الله عنه قال: نقل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: "ارم فداك أبي وأمي". ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما رأى القرية قال: "الله أكبر خربت خيبر فإذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". قالها ثلاثا ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون الله أكبر الله أكبر يرفعون أصواتهم فقال: "يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون قريباً سميعاً إنه معكم".
فصل: وإذا التقى الزحفان ولم يزدد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] وهذا أمر بلفظ الخبر لأنه لوكان خبراً لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين وأمر الألف بمصابرة الألفين ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولي إلا متحرفا لقتال وهو أن ينتقل من مكان الى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة وهو أن ينضم الى قوم ليعود معهم الى قتال والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا(3/275)
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ َمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله} [الأنفال: 15 - 16] وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون فقال: "لا بل أنتم العكارون" فدنونا فقبلنا يده فقال إنا فئة المسلمين وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنا فئة كل مسلم وهو بالمدينة وجيوشه في الآفاق إن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر سبع أولهن الشرك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا وفرار يوم الزحف ورمي المحصنات وانقلاب الى الأعراب" 1. فإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان: أحدهما: أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل: {إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ولأن المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل وإن زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا لأنه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان أحدهما: أنه يلزمهم أن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 144. البخاري في كتاب الوصايا باب 23.(3/276)
ينصرفوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والثاني: أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولي عنهما لأنه غير نتأهب للقتال وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان أحدهما: أن له أن يولي عنهما لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد والثاني: أنه يحرم عليه أن يولي عنهما لأنه مجاهد لهما فلم يول عنهما كمل لو كان مع جماعة.
فصل: ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر رضي الله عنه من قتل ابنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله لأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يسبك ولم ينكر عليه.
فصل: ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان ولا يجوز قتل الخنثى المشكل لأنه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم يقتل مع الشك وان قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت الى سيفي أو إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال النساء". ما شأن قتل النساء ولو حرم ذلك لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلأن يجوز قتلهن وهن كافرات أولى.
فصل: وأما الشيخ الذي لا قتال فيه فإن كان له رأي في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأي فإنه أشار على هوازن يوم حنين ألا يخرجوا معهم بالذراري فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وقتل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه هو الأصل وعنه يصدر القتال ولهذا قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان(3/277)
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وإن لم يكن له رأي ففيه وفي الراهب قولان: أحدهما: أنه يقتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه ذكر مكلف حربي فجاز قتله بالكفر كالشاب والثاني: أنه لا يقتل لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم الى الشام لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ولأنه لا نكاية له في المسلمين فلم يقتل بالكفر الأصلي كالمرأة.
فصل: ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال: لما قتل عبد الله بن مسعود بن النواحة قال: إن هذا وابن أثال قد كانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدان أني رسول الله" قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكم". فجرت سنة أن لا تقتل الرسل.
فصل: فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى الأطفال والنساء لأنا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقاً إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين وإن كان في غير حال الحرب ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز رميهم لأن ترك قتالهم يؤدي إلى تعطيل الجهاد والثاني: أنه لا يجوز رميهم لأنه يؤدي إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة وإن تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين فإن كان ذلك في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه وإن كان في غير التحام الحرب لم يجوز رميهم قولا واحدا والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم أن المسلم محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة والأطفال والنساء حقن دمهم لأنهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة وإن تترسوا بأهل الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين لأنه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين.
فصل: وإن نصب عليهم منجنيقا أو بيتهم ليلا وفيهم النساء والأطفال جاز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وإن كانت لا تخلو من النساء والأطفال وروى الصعب بن جثامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من(3/278)
المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" ولأن الكفار لا يخلون من النساء والأطفال فلو تركنا رميهم لأجل النساء والأطفال بطل الجهاد وإن كان فيهم أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أنهم إذا تركوا قاتلوا وظفروا بالمسلمين جاز رميهم لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم وإن لم يخف منهم نظرت فإن كان الأسرى قليلاً جاز رميهم لأن الظاهر أنه لا يصيبهم والأولى أن لا نرميهم لأنه ربما أصاب المسلمين وإن كانوا كثيراً لم يجز رميهم لأن الظاهر أنه يصيب المسلمين وذلك لا يجوز من غير ضرورة.
فصل: ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب لما روي أن حنظلة بن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه فسقط عنه فجلس على صدره فجاء ابن شعوب فقال:
لأحمين صاحبي ونفسي ... بطعنة مثل شعاع الشمس
فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة ولأن بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس.
فصل: وان احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز ذلك وإن لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وإن غلب على الظن أنها تملك عليهم ففيه وجهان أحدهما: لا يجوز لأنها تصير غنيمة فلا يجوز إتلافها والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق على بني النضير وقطع البويرة فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .
فصل: ويجوز للمسلم أن يأمن من الكفار آحاداً لا يتعطل بأمانهم الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذمة المسلمين واحدة فمن(3/279)
أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرت من أجرت يا أم هانئ". ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجير على المسلمين أدناهم" 1. وروى فضل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا في صحيفة وشدها مع سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانة فكتب بذلك الى عمر رضي الله عنه فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته منهم ولا يصح ذلك من صبي ولا مجنون ولا مكره لأنه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود فإن دخل مشرك على أمان واحد منهم فإن عرف أن أمانه لا يصح حل قتله لأنه حربي ولا أمان له وإن لم يعرف أن أمانه لا يصح فلا يحل قتله إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أمان ويصح الأمان بالقول وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك أو أنت آمن أو مجار أولا بأس عليك أولا خوف عليك أولا تخف أو مترس بالفارسية وما أشبه ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقال لأم هانئ: "قد أجرت من أجرت" وقال أنس لعمر رضي الله عنه في قصة هرمز أن ليس لك إلا قتله من سبيل قلت له تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر وروى زر عن عبد الله أنه قال: إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا وقال مترس فقد أمنه ويصح الأمان بالإشارة لما روى أبو سلمة قال: قال عمر رضي الله عنه: والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته فإن أشار إليه الأمان ثم قال لم أرد الأمان قبل قوله لأنه أعرف بمل أراده وبعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أنه آمن وإن أمن مشركاً فرد الأمان لم يصح الأمان لأنه إيجاب حق لغيره بعقد فلم يصح مع الرد كالإيجاب في البيع والهبة وإن أمن أسيراً لم يصح الأمان لأنه يبطل ما ثبت الإمام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قال كنت أمنته قبل الأسر لم يقبل قوله لأنه لا يملك عقد الأمان في هذه الحال فلم يقبل إقراره به.
فصل: وإن أسر امرأة حرة أو صبياً حراً رق بالأسر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سبي بني
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أبو داود في كتاب الديات باب 11. الدارمي في كتاب السير باب 58. أحمد في مسنده 2/365.(3/280)
المصطلق واصطفى صفية من سبي خيبر وقسم سبي هوازن ثم استنزلته هوازن فنزل واستنزا الناس فنزلوا وإن أسر حر بالغ من أهل القتال فللإمام أن يختار ما يرى من القتل أو الاسترقاق والمن والفداء فإن رأى القتل قتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشركين من قريش مطعم بن عدي والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي وقتل يوم الفتح ابن خطل وإن رأى المن عليه جاز لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الجمحي ومن على ثمامة الحنفي ومن على أبي العاص ابن الربيع وإن رأى أن يفادي بمال أو بمن أسرى من المسلمين فادى به لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسيراً من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وإن رأى أن يسترقه فإن كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أوشبه كتاب استرقه لما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وذلك يوم بدر والمسلمين يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أمر الله عز وجل في الأسارى فإما منا بعد وإما فداء فجعل الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم فإن كان من عبدة الأوثان ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجوز استرقاقهم لأنه لا يجوز إقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد والثاني: أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس ولأن من جاز المن عليه في الأسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب وإن كان من العرب ففيه قولان قال في الجديد يجوز استرقاقه والمفاداة به وهو الصحيح لأن من جاز المن عليه والمفاداة به من الأسارى جاز استرقاقه كغير الغرب وقال في القديم لا يجوز استرقاقه لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان استرقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو أسر وفداء فإن تزوج عربي بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك وعلى القديم الولد حر ولا ولاء عليه لأنه حر من الأصل.
فصل: ولا يختار الإمام في الأسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء إلا ما فيه(3/281)
الحظ للإسلام والمسلمين لأنه ينظر لهما فلا يفعل إلا ما فيه الحظ لهما فان بذل الأسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل وهو في غير الأسر وهو ممن يجوز أن تعقد لمثله الذمة والثاني: أنه لا يجب لأنه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قتله مسلم قبل أن يختار الإمام ما يراه عزر القاتل لا فتياته على الإمام ولا ضمان عليه لأنه حربي لا أمان له وإن أسلم حقن دمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالكم إلا بحقها". وهل يرق الإسلام أو يبقى الخيار فيه بين الاسترقاق والمن والفداء فيه قولان: أحدهما: أنه يرق بنفس الإسلام ويسقط الخيار في الباقي لأنه أسير لا يقتل فرق الصبي والمرأة والثاني: أنه لا يرق بل يبق الخيار في الباقي لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن الأسير العقيلي قال: يا محمد إني مسلم ثم فاداه برجلين ولأن ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما: لم يسقط الخيار في الباقي ككفارة اليمين إذا عجز فيها عن العتق فعلى هذا اذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن معهم على دينه ونفسه وإن أسر شيخ لا قتال فيه ولا رأي له في الحرب فإن قلنا أنه يجوز قتله فهو كغيره في الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قلنا لا يجوز قتله فهو كغيره إذا أسلم في الأسر وقد بيناه.
فصل: وإن رأى الإمام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجل: {فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولا يمثل به لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية قال: "اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا". ويكره حمل رأس من قتل من الكفار الى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص بعثا بريداً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بناق البطريق فقال أتحملون الجيف الى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا قال لا تحملوا منهم إلينا شيئا وإن اختار استرقاقه كان للغانمين وإن فاداه بمال كان للغانمين وإن أراد أن يسقط منهم شيئاً من المال لم يجز الا برضا الغانمين لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن(3/282)
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وفد هوازن مسلمين فقال: "إن أخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل" فقال: الناس قد طيبنا لك يا رسول الله قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ستة آلاف سبي من سبي هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين أسلموا وإن أسر عبد فرأى الإمام أن يمن عليه لم يجز إلا برضا الغانمين وإن رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لأنه مال لهم.
فصل: وإن دعا مشرك الى المبارزة فالمستحب أن يبرز إليه مسلم لما روي أن عتبة وشيبة ابني ريبعة والوليد بن عتبة دعوا الى المبارزة فبرز إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث ولأنه إذا لم يبرز إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين فإن بدأ المسلم ودعا إلى المبارزة لم يكره وقال أبوعلي بن أبي هريرة يكره لأنه ربما قتل وانكسرت قلوب المسلمين والصحيح أنه لا يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال: "لا بأس". ويستحب أن لا يبارز الأقوى في الحرب لأنه إذا بارز ضعيف لم يأمن أن يقتل فيضعف قلوب المسلمين وإن بارز ضعيف جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن القصد من المبارزة إظهار القوة وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف والصحيح هو الأول لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد ولهذا يجوز للضعيف أن يجاهد كما يجوز للقوي والمستحب أن لا يبارز إلا بإذن الأمير ليكون ردءاً له إذا احتاج فإن بارز بغير إذنه جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش والصحيح أنه يجوز لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز وإن بارز مشرك مسلماً نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن يرميه لأنه حربي لا أمان له وإن شرط أن لا يقابله غير من برز إليه لم يجز رميهم وفاء بشرطه فإن ولى عنه مختاراً أو مثخناً أو ولى عنه المسلم مختاراً أو مثخناً جاز لكل أحد رميه لأنه شرط الأمان في حال القتال وقد انقضى(3/283)
القتال فزال الأمان وإن استنجد المشرك أصحابه في حال القتال فانجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لأنه نقض الأمان وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لأنه لم ينقض الأمان ولا انقضى القتال وإن لم يشترط ولكن العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من يبرز إليه فقد قال بعض أصحابنا أنه يستحب أن لا يرميه غيره وعندي أنه لا يجوز لغيره رميه وهو ظاهر النص لأن العادة كالشرط فإن شرط أن لا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انقضى القتال حتى يرجع الى موضعه وفى له بالشرط فان ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه لأنه نقض الشرط فسقط أمانه.
فصل: وإن غرر بنفسه من له سهم في قتل كافر مقبل على الحرب فقتله استحق سلبه لما روى أبو قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فأرضه فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه". فأعطاني إياه فبعث الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام فإن كان ممن لا حق له في الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير إذن لم يستحق لأنه لا حق له في السهم الراتب فلأن لا يستحق السلب وهو غير راتب أولى فإن(3/284)
كان ممن يرضخ له كالصبي والمرأة والكافر إذا حضر بالإذن ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يستحق لما ذكرناه والثاني: أنه يستحق لأن له حقاً في الغنيمة فأشبه من له سهم وإن لم يغرر بنفسه في قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه وإن قتله وهو غير مقبل على الحرب كالأسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه وقال أبو ثور: كل مسلم قتل مشركاً استحق سلبه لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل كافرا فله سلبه" 1. ولم يفصل وهذا لا يصح لأن ابن مسعود رضي الله عنه قتل أبا جهل وكان قد أثخنه غلامان من الأنصار فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود وإن قتله وهو مول ليكر استحق السلب لأن الحرب كر وفر وإن اشترك اثنان في القتل اشتركا في السلب لاشتراكهما في القتل وإن قطع أحدهما: يديه أو رجليه وقتله الآخر ففيه قولان: أحدهما: أن السلب للأول لأنه عطله والثاني: أن السلب للثاني لأنه هو الذي كف شره دون الأول لأن بعد قطع اليدين يمكنه أن يعدو أو يجلب وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا ركب وإن غرر من له سهم فأسر رجلاً مقبلاً على الحرب وسلمه الى الإمام حياً ففيه قولان: أحدهما: لا يستحق سلبه لأنه لم يكف شره بالقتل والثاني: أنه يستحق لأن تغريره بنفسه في أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل وإن من عليه الإمام أو قتله استحق الذي أسره سلبه وإن استرقه أو فاداه بمال بمال ففي رقبته وفي المال المفادي به قولان: أحدهما: أنه للذي أسره والثاني: أنه لا يكون له لأنه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب.
فصل: والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب كالثياب التي يقاتل فيها والسلاح الذي يقاتل فيه والمركوب الذي يقاتل عليه فأما ما لا بد له عليه كخيمته وما في رجله من السلاح والكراع فلا يستحب سلبه لأنه ليس من السلب وأما ما في يده مما لا يقاتل به كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة ففيه قولان: أحدهما: أنه ليس من السلب لأنه ليس من جنة الحرب والثاني: أنه من السلب لأن يده عليه فهو كجنة الحرب ولا يخمس السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 136. الدارمي في كتاب السير باب 43. أحمد في مسنده 3/114.(3/285)
فصل: وإن حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لأن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة" 1. ويجب أن يكون الحاكم حراً مسلماً ذكراً بالغاً عاقلاً عدلاً عالماً لأنه ولاية حكم فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء ويجوز أن يكون أعمى لأن الذي يقتضي الحكم هو الذي يشتهر من حالهم والذي يدرك بالسماع فصح من الأعمى كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم لميله إليهم ويجوز حكمه لأنه عدل في الدين وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار الإمام إلا من يجوز حكمه وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم على الصفات التي ذكرناها وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الإمام وإن نزلوا على حكم مثلاً يجوز أن يكون حاكماً أو على حكم من يجوز أن يكون حاكماً فمات أو على حكم اثنين فماتا أو مات أحدهما: وجب ردهم إلى القلعة لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم إلا برضاهم ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة المسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز إلا برضاهم لأنه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم والثاني: يجوز لأنهم نزلوا على حكمه وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لأنه لم ينزل على هذا الشرط وإن حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الإمام أن يمن عليهم جاز لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بقتل رجال بني قريظة فسأل ثابت الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل فإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين لأنهم صاروا مالاً لهم.
فصل: ومن أسلم من الكفار قبل الأسر عصم دمه وماله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فإن كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها كالمال وإن كانت له زوجة جاز استرقاقها على المنصوص ومن أصحابنا من قال: لا يجوز كما
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 168. مسلم في كتاب الجهاد حديث 65. أحمد في مسنده 3/22، 6/142.(3/286)
لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته وهذا خطأ لأن منفعة البضع ليست بمال ولا تجري مجرى المال ولهذا لا يضمن بالغصب بخلاف المال والمنفعة وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا شعية فأحرزا بإسلامهما أموالهما وأولادهما ولأنه مسلم فلم يجز استرقاقه كالأب وإن كان حمل من حربية لم يجز استرقاقه لأنه محكوم بإسلامه فلم يسترق كالولد وهل يجوز استرقاق الحامل فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه إذا لم يسترق الحمل لم يسترق الحامل ألا ترى أنه لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به والثاني: أنه يجوز لأنها حربية لا أمان لها.
فصل: وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد في الإسلام لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها في الإسلام لأنها أحد لأبوين فتبعها الولد في الإسلام كالأب وإن أسلم أحدهما: والولد حمل تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد وإن أسلم أحد الأبوين دون الآخر تبع الولد المسلم منهما لأن الإسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه" 1. فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع الأبوين في الإسلام كالطفل وإن بلغ عاقلاً ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الإتباع ببلوغه عاقلاً فلا يعود إليه والثاني: أنه يتبعه وهو المذهب لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع أبويه في الإسلام كالطفل.
فصل: وإن سبى المسلم صبياً فإن كان معه أحد أبويه كان كافراً لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن سبى وحده ففيه وجهان: أحدهما: إنه باق على حكم كفره ولا يتبع السابي في الإسلام وهو ظاهر المذهب لأن يد السابي يد ملك فلا توجب إسلامه كيد المشتري والثاني: أنه يتبعه لأنه لا يصح إسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه في كفره فجعل تابعاً للسابي لأنه كالأب في حضانته وكفالته فتبعه في الإسلام.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 25. الترمذي في كتاب القدر باب 5. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 53.(3/287)
فصل: وإن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون - المغلوب على عقله - حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم". ولأنه غير مكلف فلم يصح إسلامه بنفسه كالمجنون فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لأنه إذا ترك معهم خدعوه وزهدوه في الإسلام فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار ومن أصحابنا من قال يصح إسلامه لأنه يصح صومه وصلاته فصح إسلامه كالبالغ.
فصل: وإن سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما وقد بيناه في البيع وإن سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز التفريق بينهما لأنه أحد الأبوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالأم والثاني: أنه يجوز أن يفرق بينهما لأن الأب لا بد أن يفارقه في الحضانة لأنه لا يتولى حضانته بنفسه وإنما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق بينهما بخلاق الأم فإنها لا تفارقه في الحضانة فإنه إذا فرق بينهما ولهت بمفارقته فحرم التفريق بينهما.
فصل: وإن سبى الزوجان أو أحدهما: انفسخ النكاح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا نساء يوم أو طاس فكرهوا أن يقعوا عليهن فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فاستحللناهن قال الشافعي رحمه الله: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو طاس وبني المصطلق وقسم الفيء وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وإن كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه والذي يقتضيه قياس المذهب أن لا ينفسخ النكاح لأنه لم يحدث بالسبي رق وإنما حدث انتقال الملك فلم ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه حدث سبي يوجب الاسترقاق وإن صادف رقاً كما أن الزنى يوجب الحد وإن صادق حداً.
فصل: إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو فاكهة أو حلاوة واحتاجوا إليه جاز لهم أكله من غير ضمان لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نصيب من المغازي العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه وسئل ابن أبي أوفى عن طعام خيبر فقال كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته ولأن الحاجة تدعوا إلى ما يؤكل ولا يوجد من يشتري منه مع قيام الحرب فجاز لهم الأكل وهل يجوز لهم الأكل من غير حاجة فيه(3/288)
وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه لا يجوز كما لا يجوز في غير دار الحرب أكل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة والثاني: أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وهو قول أكثر أصحابنا لما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: دلي جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته ثم قلت لا أعطي من هذا أحداً اليوم شيئاً فالتقت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا يجوز أكله من غير ضرورة قطعاً وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير عوض فجاز أكله من غير حاجة ولا يجوز لأحد منهم أن يبيع شيئاً منه لأن حاجته إلى الأكل دون البيع وإن باع شيئاً منه نظرت فإن باعه من بعض الغانمين وسمله إليه صار المشتري أحق به لأنه من الغانمين وقد حصل في يده ما يجوز له أخذه للأكل فكان أحق به فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به لما ذكرناه في المشتري وإن باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على المشتري رده إلى الغنيمة لأنه ابتاعه لمن لا يملك بيعه وليس هو من الغانمين فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة.
فصل: ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رحله من البهائم لأن حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لأنه لا حاجة به إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد لأنه لا حاجة به إليه وإن خرج إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه ردها في المغنم لأنه مال اختص به من الغنيمة فلا يجب رده فيها كالسلب والثاني: أنه يجب ردها لأنه إنما أجيز أخذه في دار الحرب للحاجة ولا حاجة إليه في دار الإسلام ومن قال إن كان كثيراً وجب رده قولاً واحداً وإن كان قليلاً فعلى القولين والصحيح هو الأول ولا يجوز تناول ما يصاب من الأدوية من غير حاجة وإن دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه لأنه ليس من الأطعمة التي يحتاج إليها في العادة ولا يجوز له لبس ما يصاب من الثياب لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" 1. ولأنه لا يحتاج إليه في العادة فإن لبسها لزمته أجرته لأنه كالغاصب.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 44. الدارمي في كتاب السير باب 46. أحمد في مسنده 4/108، 109.(3/289)
فصل: ويجوز ذبح ما يؤكل للأكل ومن أصحابنا من قال لا يجوز والمذهب الأول لأنه مما يؤكل في العادة فهو كسائر الطعام ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء فإن اتخذ منه شيئاً من ذلك وجب رده في المغنم وإن زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وإن نقص لزمه أرش ما نقص لأنه كالغاصب.
فصل ك وإن أصابوا كتباً فيها كفر لم يجز تركها على حالها لأن قراءتها والنظر فيها معصية وإن أصابوا كتباً والإنجيل لم يجز تركها على حالها أنه لا حرمة لها لأنها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود غسل وقسم مع الغنيمة وإن لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق لأنه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين.
فصل: وإذا أصابوا خمراً وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت في يد مسلم فإن أصابوا خنزيراً فقد نقل في سير الواقدي أنه يقتل إن كان به عدو فمن أصحابنا من قال إن كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر وإن لم يكن فيه عدو لم يقتل لأنه لا ضرر فيه ومنهم من قال: يجب قتله بكل حال لأنه يحرم الانتفاع به فوجب إتلافه كالخمر وإن أصابوا كلباً فإن كان عقوراً قتل لما فيه من الضرر وإن كان فيه منعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أومن أهل الخمس وإن لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلي لأن اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه في البيوع.
فصل: وإن أصابوا مباحاً لم يمكله الكفار كالصيد والحجر والحشيش والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده في دار الإسلام وإن وجد ما يمكن أن يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة فإن لم يوجد صاحبه فهو غنيمة.
فصل: وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات فإن لم يمنع الكفار عنها فهو لمن أحياه كموات دار الإسلام وإن منعوا عنها كان للغانمين لأنه يثبت لهم بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتاً للإحياء ثم صارت الدار للمسلمين وإن فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتاً بالإحياء لأن الدار لهم فلم يملك المسلم فيها بالإحياء.
فصل: وما أصاب المسلمين من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين وإن كان حيواناً لم يجز إتلافه من غير ضرورة لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول(3/290)
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها" 1 وإن دعت إلى قتله ضرورة بأن كان الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا علي جاز قتله لأنه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين.
فصل: إذا سرق بعض الغانمين نصاباً من الغنيمة فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لمعنيين أحدهما: أن له حقاً في خمسها والثاني: أن له حقاً في أربعة أخماسها وإن سرق بعد إخراج الخمس نظرت فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن له حقاً فيه وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه أو دونه لم يقطع لأن له في ذلك القدر شبهة وإن كان أكثر من حقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه لا شبهة له في سرقة النصاب والثاني: أنه لا يقطع لأن حقه شائع في الجميع فلم يقطع فيه وإن كان السارق من غير الغانمين نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له حقاً في خمسها وإن كان بعد أخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن فيه حقاً وإن سرق ذلك من أربعة أخماسها فإن كان في الغانمين من للسارق شبهة في ماله كالأب والابن لم يقطع لأن له شبهة فيما سرق وإن لم يكن له فيهم من له شبهة في ماله قطع لأنه لا شبهة له فيما سرق.
فصل: وإن وطئ بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب وهذا خطأ لأن له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه المهر لأنه وطء يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطئ كالوطء في النكاح الفاسد وإن أحبلها ثبت النسب للولد وينقد الولد حراً للشبهة وهل تقسم الجارية في الغنيمة أو تقوم على الواطئ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن قلنا إنه إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه وإن قلنا إنها لا تصير أم ولد له لم تقوم عليه وقال أبو إسحاق تقوم على القولين لأنه لا يجوز قمستها كما لا يجوز بيعها ولا يجوز تأخير القسمة لأن فيه إضراراً بالغانمين فوجب أن تقوم وإن وضعت فهل تلزمه قيمة الولد ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لأنها تضع في ملكه وإن لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لأنها وضعته في غير ملكه.
__________
1 رواه النسائي في كتاب الضحايا باب 42. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 16. أحمد في مسنده 3/166، 197.(3/291)
فصل: ومن قتل في دار الحرب قتلاً يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب الحد وجب عليه ما يجب في دار الإسلام لأنه لا تختلف الدارن في تحريم الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة.
فصل: وإن تجسس رجل من المسلمين للكفار لم يقتل لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعش أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب ما هذا" قال: يا رسول الله لا تعجل علي إنما كنت امرأ ملصقاً فأحببت أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك ارتداداً عن ديني ولا أرضى الكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدق" فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه قد شهد بدراً" فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وقرأ سفيان إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .(3/292)
فصل: إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه وإذا استرجع منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه". وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: أغار المشركون على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء واسروا امرأة من المسلمين فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله عز وجل ولا فيما لا يملكه ابن آدم" 1. فإن لم يعمل به حتى قسم دفع إلى من وقع في مهمه العوض من خمس الخمس ورد إلى صاحبه لأنه يضق نقض القمسة.
فصل: وإن أسر مسلماً وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس والمال لأنهم كفار لا أمان لهم وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم يستأمنوه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا أمان لهم لأنهم لم يستأمنوه والثاني: وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه لأنهم جعلوه في أمان فوجب أن يكونوا منه في أمان وإن كان محبوساً فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار الإسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لأن ظاهره الإكراه فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الإسلام ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين إكراه فإن خرج لم تلزمه كفارة لأنه لم يقدر
__________
1 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 8. أبو داود في كتاب الأيمان باب 21. النسائي في كتاب الأيمان باب 31. الدارمي في كتاب السير باب 62.(3/293)
على الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك والثاني: أنه يمين اختيار فإن خرج لزمته الكفارة لأنه بدأ بها من غير إكراه وإن أطلق ليخرج إلى دار الإسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل مالاً لم يلزمه العود لأن مقامه في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال لأنه ضمان من مال بغير حق والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقاً إلى إطلاق الأسرى.(3/294)
باب الأنفال
يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلاً يفضي الى الظفر بالعدو كالتجسيس والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول الى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها لما روى عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وتقدير النفل الى رأي أمير الجيش لأنه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره الى رأي الأمير ويكون ذلك على قدر العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث لان التغرير في القفول أعظم لأنه يدخل إلى دار الحرب والعدو منه على حذر وفي البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر ويجوز شرط النفل من بيت مال المسلمين ويجوز شرطه من المال الذي يؤخذ من المشركين فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب قال: كان(3/294)
الناس يعطون النفل من الخمس ولأنه مال يصرف في مصلحة فكان من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً كالجهل في رد الآبق وإن كان النفل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة.
فصل: وإن قال الأمير من دلني على القلعة الفلانية فله منها جارية فدله عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب الدليل شيء ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته والمذهب الأول لأنه لما جعل له الجارية من القلعة صار تقديره من دلني على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لانه لا يقدر على تسليم الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا وإن فتحت عنوة ولم تكن فيها جارية لم يستحق شيئاً لأنه شرط معدوم وإن كانت فيها جارية سلمت إليه ولا حق فيها للغانمين ولا لأهل الخمس لأنه استحقها بسبب سابق للفتح وإن أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لأن إسلامها يمنع من استرقاقها ويجب له قيمتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن وإن أسلمت بعد القدرة عليها فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه وإن كان كافراً فإن قلنا إن الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على إزالة الملك عنها وإن قلنا إنه لا يملك دفع إليه قيمتها وإن أسلم الدليل بعد ذلك لم يستحقها لأنه أسلم بعدما انتقل حقه إلى قيمتها وإن فتحت والجارية قد ماتت ففيه قولان: أحدهما: أن له قيمتها لأنه تعذر تسليمها فوجب قيمته كما لو أسلمت والثاني: أنه لا يجب له قيمتها لأنه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها كما لولم تكن فيها جارية وفتحت صلحاً نظرت فإن لم تدخل الجارية في الصلح كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة فإن دخلت في الصلح ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي إسحاق إن الجارية للدليل وشرطها في الصلح لا يصح كما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر والثاني: أن شرطها في الصلح صحيح لأن الدليل لو عفا عنها أمضينا الصلح فيها ولو كان فاسداً لم يمض إلا بعقد مجدد فعلى هذا إن رضي الدليل بغيرها من جواري القلعة أو رضي بقيمتها أمضينا الصلح، وإن لم(3/295)
يرض ورضي أهل القلعة بتسليمها فكذلك وإن امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال الى البدل ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لأنه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من غير زيادة وإن فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وإن لم تفتح لم يكن له شيء.
فصل: إذا قال الأمير قبل الحرب من أخذ شيئا فهوله فقد أومأ فيه الى قولين: أحدهما: أن الشرط صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: من أخذ شيئا فهوله والثاني: وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لأنه جزء من الغنيمة شرطه لمن لا يستحقها من غير شرط فلا يستحقه بالشرط كما لو شرطه لغير الغانمين والخبر ورد في غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء.(3/296)
باب قسم الغنيمة
والغنيمة ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب فإن كان فيها سلب للقاتل أو مال لمسلم سلم إليه لأنه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال والحافظ لأنه لمصلحة الغنيمة فقدم ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس خمس لأهل الخمس ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لأهل الخمس فدل على أن الباقي للغانمين والمستحب أن يقسم ذلك في دار الحرب ويكره تأخيرها الى دار الإسلام من غير عذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بني المصطلق على مياههم وقسم غنائم حنين بأو طاس وهو واد من أودية حنين فإن كان الجيش رجالة سوى بينهم وإن كانوا فرساناً سوى بينهم وإن كان بعضهم فرساناً وبعضهم رجالة جعل للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لأن من لم يقاتل كالمقاتل في إرهاب العدو ولأنه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لأنه لا يلحق بالخيل في التأثير في الحرب من الكر والفر،(3/296)
فلم يلحق بها في السهم ويسهم للفرس العتيق وهو الذي أبواه عربيان وللبرذون وهو الذي أبواه عجميان وللمقرف وهو الذي أمه عربية وأبوه عجمي وللهجين وهو الذي أبوه عربي وأمه عجمية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1 ولأنه حيوان يسهم له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل وإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف فقد قال في الأم: قيل لا يسهم له وقيل يسهم له فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل والثاني: يسهم له لأن ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل وقال أبو إسحاق إن أمكن القتال عليه أسهم له وإن لم يمكن القتال عليه لم يسهم له لأن الفرس يراد للقتال عليه وهذا أقيس والأول أشبه بالنص ولا يسهم للرجل لأكثر من فرس لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد ولأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لأكثر منه وإن حضر بفرس والقتال في الماء أو على حصن استحق سهمه لأنه أرهب بفرسه فاستحق سهمه كما لو حضر به القتال ولم يقاتل ولأنه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن.
فصل: فإن غصب فرسا وحضر به الحرب استحق للفرس سهمين لأنه حصل به الإرهاب وفي مستحقه وجهان: أحدهما: أنه له والثاني: أنه لصاحب الفرس بناء على القولين في ربح الدراهم المغصوبة: أحدهما: أنه للغاصب والثاني: أنه للمغصوب منه وإن استعار فرساً أو استأجره للقتال فحضر به الحرب استحق به السهم لأنه ملك القتال عليه وإن حضر دار الحرب بفرس وانقضت الحرب ولا فرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له وإن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرساً أو استعاره وحضر به الحرب استحق السهم لأن استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 43. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. الترمذي في كتاب الجهاد باب 19.(3/297)
الاستحقاق بالفرس وإن حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له ومن أصحابنا من قال: يسهم له لأنه خرج من يده بغير اختياره والمذهب الأول لأن خروجه من يده يسقط السهم وإن كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن الوقعة وإن كان بغير اختياره.
فصل: ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مريضاً يقدر معه على القتال كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له لأنه من أهل القتال ولأن الإنسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لأجله وإن كان لا يقدر على القتال لم يسهم له لأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل.
فصل: ولا حق في الغنيمة لمخذل ولا لمن يرجف بالمسلمين ولا لكافر حضر بغير إذن لأنه لا مصلحة للمسلمين في حضورهم ويرضخ للصبي والمرأة والعبد والمشرك إذا حضر بالإذن ولم يقسم لهم لما روى عمير قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عبد مملوك فلما فتح الله على نبيه خيبر قلت يا رسول الله سهمي فلم يضرب لي بسهم وأعطاني سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله في الأرض وأمر لي من خرثي المتاع وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب الى ابن عباس يسأله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن سهم؟ فكتب إليه ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم.
فصل: وتقدير الرضخ إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو ومن أين يرضخ لهم فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة لأنهم أعوان المجاهدين فجعل حقهم من(3/298)
أصل الغنيمة كالنقال والحافظ والثاني: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة أخماس الغنيمة والثالث أنه من خمس الخمس لأنهم من أهل المصالح فكان حقهم من سهم الصالح.
فصل: وإن حضر أجير في أجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يرضخ له مع الأجرة لأن منفعته مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد والثاني: أنه يسهم له مع الأجرة لأن الأجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور وقد وجد الجميع والثالث أنه يخير بين السهم والأجرة فإن اختار الأجرة رضخ له مع الأجرة وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الأجرة لأن المنفعة واحدة لا يستحق بها حقان واختلف قوله في تجار الجيش فقال في أحد القولين: يسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة والثاني: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يحضروا للقتال واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا ومنهم من قال القولان إذا قاتلوا فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولاً واحدا.
فصل: وإذا لحق بالجيش مدد أو افلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لأنهم حضروا بعدما صارت الغنيمة للغانمين وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يشهدوا الوقعة والثاني: أنه يسهم لهم لأنهم حضروا قبل أن يملك الغانمون.
فصل: وإن خرج أمير في جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش وإن غنم الجيش شاركتهم السرية لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجميع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وترد سراياهم على قاعدهم" 1. ولأن الجميع جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة وإن أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 147. النسائي في كتاب القسامة باب 9. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أحمد في مسنده 1/122.(3/299)
طريق أو طريقين اشترك الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لأن الجميع جيش واحد وإن أنفذ سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه وشارك الجيش السريتين فيما يغنمان وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الأخرى فيما تغنمه فيه وجهان: أحدهما: أنها لا تشارك لأن الجيش أصل السريتين وليست إحدى السريتين أصلا للأخرى والثاني: وهو الصحيح أنها تشارك لأنهما من جيش واحد وإن أنفذ الأمير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الأمير لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا ولأن الغنيمة للمجاهدين والجيش مقيم مع الأمير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت. والله أعلم.(3/300)
باب قسم الخمس
ويقسم الخمس على خمس أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصرف في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الأرض أو وبرة من بعيره وقال: "والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس والخمس مردود عليكم". فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف في مصالحهم وأهم المصالح سد الثغور لأنه يحفظ به الإسلام والمسلمين ثم الأهم فالأهم.(3/300)
فصل: وأما سهم ذوي القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب جئت أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة قال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" ثم شبك بين أصابعه ويسوي فيه بين الأغنياء والفقراء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى منه العباس وكان موسراً يقول عامة بني عبد المطلب ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لأم الزبير في ذوي القربي ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والأنثى كالميراث ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وقال المزني وأبو ثور يسوي بين الذكر والأنثى لأنه مال يستحق باسم القرابة فلا يفضل الذكر فيه على الأنثى كالمال المستحق بالوصية للقرابة وهذا خطأ لأنه مال خطأ لأنه مال يستحق بقرابة الأب بالشرع ففضل الذكر فيه على الأنثى كميراث ولد الأب ويدفع ذلك إلى القاصي منهم والداني وقال أبو إسحاق يدفع ما في كل إقليم إلى من فيه منهم لأنه يشق نقله من إقليم إلى إقليم والمذهب الأول لقوله عز وجل: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ولم يخص ولأنه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصي والداني كالميراث.
فصل: وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب فلا حق له فيه لأن اليتيم هو الذي لا أب له وليس لبالغ فيه حق لأنه لا يسمى بعد البلوغ يتيماً والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد الحلم" 1 وليس للغني فيه حق ومن أصحابنا من قال للغني فيه حق لأن اليتيم هو الذي لا أب له غنياً كان أو فقيراً والمذهب الأول لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب فإذا لم يكن لمن له أب فيه حق فلأن لا يكون لمن له مال أولى.
فصل: وأما سهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لأنه إذا أفرد المساكين تناول الفريقين.
فصل: وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريد السفر في غير معصية وهو محتاج على ما ذكرناه في الزكاة.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.(3/301)
فصل: ولا يدفع شيء من الخمس إلى كافر لأنه عطية من الله تعالى فلم يكن للكافر فيها حق كالزكاة ولأنه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن يستحقه الكافر. وبالله التوفيق.(3/302)
باب قسم الفيء
الفيء هو المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال وهو ضربان: أحدهما: ما انجلوا عنه خوفاً من المسلمين أو بذلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] والثاني: ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ففي تخميسه قولان: قال في القديم: لا يخمس لأنه مال أخذ من غير خوف فلم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء وقال في الجديد: يخمس وهو الصحيح للآية ولأنه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر لا يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذي انجلوا عنه وأما أربعة أخماسه فقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 47] ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فإنه صدقه" 1 وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة إن الأنبياء لا تورث" 2 فقال القوم بلى قد سمعناه ثم أقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله هل سمعتما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركناه صدقة إن الأنبياء لا تورث" فقالا: نعم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما يحصل من مال
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكلام حديث 28. أحمد في مسنده 2/642.
2 رواه البخاري في كتاب الخمس باب 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49، 52. الترمذي في كتاب السير باب 44. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27.(3/302)
الفيء بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في أحد القولين: يصرف في المصالح لأنه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس فعلى هذا يبدأ بالأهم وهو سد الثغور وأرزاق المقاتلة ثم الأهم فالأهم وقال في القول الثاني هو للمقاتلة لأن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان فيه من حفظ الإسلام والمسلمين ولما كان له في قلوب الكفار من الرعب وقد صار ذلك بعد موته في المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم.
فصل: وينبغي للإمام أن يضع ديواناً يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ منهم فقالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال: لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ولأن في ذلك مصلحة وهو أن يقوم التعريف بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء وفي وقت الغزو ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع لأن ذلك يشغلهم عن الجهاد.
فصل: ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فإنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة واختلف الناس في قريش فمنهم من قال: كل من ينتسب إلى فهر بن مالك فهو من قريش ومنهم من قال: كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش ويقدم من قريش بني هاشم لأنهم أقرب قبائل قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضم إليهم بنو المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". وشبك بين أصابعه وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإذا كان السن في الهاشمي قدمه على المطلبي وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي ثم يعطي بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد مناف ويقدم بني عبد شمس على بني نوفل لأن عبد شمس أقرب إليه لأنه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوف من أبيه وأنشد آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:(3/303)
يا أمين الله إني قائل ... قول ذي بر ودين وحسب
عبد شمس لا تهنها إنما ... عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعد الأم والأب
ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار ويقدم عبد العزى على عبد الدار لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة بنت خويلد منهم ولأن فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول وهما حلفان كانا من قوم من قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شهدت حلف الفضول ولو دعيت إليه لأجبت". وعلى هذا يعطي الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش فإن استوى اثنان في القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث عمر في بني هاشم وبني المطلب فإن استويا في السن قدم أقدمهما هجرة وسابقة فإذا انقضت قريش قدم الأنصاري على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار الحميدة في الإسلام ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطي العجم ولا يقدم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب.
فصل: ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فوجب أن يكفوا أمر النفقة ويتعاهد الإمام في وقت العطاء عدد عيالهم لأنه قد يزيد وينقص ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه قد يغلو ويرخص ليكون عطيتهم على قدر حاجتهم ولا يفضل من سبق إلى الإسلام أو إلى الهجرة على غيره لأن الاستحقاق بالجهاد قد تساووا في الجهاد فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة.
فصل: ولا يعطي من الفيء صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لأن الفيء للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد وإن مرض مجاهد فإن كان مرضاً يرجى زواله أعطي لأن الناس لا يخلون من عارض مرض وإن كان مرضاً لا يرجى زواله سقط حقه من الفيء لأنه خرج عن أن يكون من المجاهدين وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعطي ولده ولا زوجته من الفيء شيئاً لأن ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن يعولهما وقد زال الأصل وانقطع التبع والثاني: أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج ولأن في ذلك مصلحة فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد وإذا علم أنه لا(3/304)
يعطى اشتغل بالكسب لعياله وتعطل الجهاد فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن أعطي الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفيء حق لأنه صار من أهل الكسب وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفيء لأنها استغنت بالزوج وإن دخل وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث.
فصل: وإن كان في الفيء أراض كان خمسها لأهل الخمس فأما أربعة أخماسها فقد قال الشافعي رحمه الله تكون وقفاً فمن أصحابنا من قال هذا على القول الذي يقول إنه للمصالح فإن المصلحة في الأراضي أن تكون وقفاً لأنها تبقى فتصرف غلتها في المصالح وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفيء لأنها صارت لهم فوجبت قمستها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة ومن أصحابنا من قال تكون وقفاً على القولين فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها في المصالح وإن قلنا إنها للمقاتلة صرفت غلتها في مصالحهم لأن الاجتهاد في مال الفيء إلى الإمام ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض ويخالف الغنيمة فإنه ليس للإمام فيها الاجتهاد ولهذا لا يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض. وبالله التوفيق.(3/305)
باب الجزية
لا يجوز أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان لقوله عز(3/305)
وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] تخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنهم لا تؤخذ من غيرهم ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية ويجوز أخذها ممن بدل منهم دينه لأنه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة بآبائهم ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن ابن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وروى أيضاً عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر واختلف قول الشافعي رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا؟ فقال فيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب والدليل عليه قوله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنفال: 155 - 156] والثاني: أنه كان لهم كتاب والدليل عليه ما روي عن علي كرم الله وجه أنه قال كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فجاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين أظهرهم وذهب العلم من صدورهم.
فصل: وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لأنه دخل في دين حق وإن دخل بعد التبديل نظرت فإن دخل في دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل وإن دخل في دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لأنه دخل في حق وإن كان بعد النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية وقال المزني رحمه الله تؤخذ منه ووجهه أنه دخل في دين يقر عليه أهله وهذا خطأ لأنه دخل في دين باطل فلم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد وإن دخل في دينهم ولم يعلم أنه دخل في دين من بدل أوفي دين من لم يبدل كنصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب أخذت منهم الجزية لأن عمر رضي الله عنه أخذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنه أشكل أمره(3/306)
فحقن دمه بالجزية احتياطاً للدم وأما من تمسك بالكتب التي أنزلت على شيث وإبراهيم وداود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنهم يقرون ببذل الجزية لأنهم أهل كتاب فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى والثاني: لا يقرون لأن هذه الصحف كالأحكام التي تنزل بها الوحي وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان: أحدهما: أنه تؤخذ منهم الجزية والثاني: لا تؤخذ وقد بيناهما في كتاب النكاح وأما من كان أحد أبويه وثنياً والآخر كتابياً فعلى ما ذكرناه في النكاح وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب وله ابن صغير فجاء الإسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذي انتقل إليه أبوه أخذت منه الجزية لأنه تبعه في الدين فأخذت منه الجزية وإن غزا المسلمون قوماً من الكفار لا يعرفون دينهم فادعوا أنهم من أهل الكتاب أخذت منهم الجزية لأنه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقبل قولهم وإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلان دعواهم.
فصل: وأقل الجزية دينار لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة أخذ بأدائه لأنه عوض في عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقي الأمر فيما زاد على ما يقع عليه التراضي كما لو وكل وكيلاً في بيع سلعة وقال لا تبع بما دون ينار فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدي باسم الصدقة ورأى الإمام أن يأخذ باسم الصدقة جاز لأن نصارى العرب قالوا لعمر رضي الله عنه لا نؤدي ما تؤدي العجم ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب فأبى عمر رضي الله عنه وقال: لا أقركم إلا بالجزية فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ من المسلمين فأبى عليهم فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر إن بنى تغلب عرب وفيهم قوة فخذ منهم ما قد بذلوا ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة وإن كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلغ الدينار وجب إتمام الدينار لأن الجزية لا تكون أقل من دينار وإن أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين فقالوا أسقط عنا ديناراً وخذ منا ديناراً باسم الجزية وجب أخذ الدينار لأن الزيادة وجبت لتغيير الاسم فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة.
فصل: والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير المعتمل ديناراً وعلى المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير لأن عمر رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر ولأن بذلك يخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة لا يجيز إلا كذلك.(3/307)
فصل: ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من الأرض ديناراً لم يجز لأن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار وإن شرط أنه إن نقص عن دينار تمم الدينار جاز لأنه يتحقق حصول الدينار وإن غلب على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لو نقص الدينار تمم الدينار ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه قد ينقص عن الدينار والثاني: أنه يجوز لأن الغالب في الثمار أنها لا تختلف وإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض فبلغ الأرض من مسلم صح البيع لأنه مال له وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لأنه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج". ولأنه جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية فانتقل إلى الرقبة.
فصل: وتجب الجزية في آخر الحول لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم في كل سنة دينار وروى أبو مجلز أن عثمان بن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين في كل سنة فإن مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب لأنه عوض عن الحقن والمساكنة وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالأجرة بعد استيفاء المنفعة فإن مات أو أسلم في أثناء الحول ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه شيء لأنه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته في أثناء الحول كالزكاة والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لأنها تجب عوضاً عن الحقن والمساكنة وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته كما لو استأجر عيناً مدة واستوفى المنفعة في بعضها ثم هلكت العين.
فصل: ويجوز أن يشترط عليها في الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة من نصارى أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين وروى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ومن نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وشرطنا لكم أن ننزل من يمر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا يشترط ذلك عليهم إلا برضاهم لأنه ليس من الجزية ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيدر دومة لأنه إذا جعل الضيافة من الدينار لم(3/308)
يؤمن أن لا يحصل من بعد الضيافة مقدرا الدينار ولا تشترط الضيافة إلا على غني أو متوسط وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجبت عليه الجزية لأن الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة وعدد من يضاف من الفرسان والرجالة وقدر الطعام والأدم العلوفة معلوماً ولأنه من الجزية فلم يجز مع الجهل بها ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال: أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام لما روي أن الني صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام". وعليهم أن يسكنوهم في فضول مساكنهم وكنائسهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتب على نصارى الشام وشرطنا أن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل فإن كثروا وضاق المكان قدم من سبق فإذا جاءوا في وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم وإن لم تسعهم هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة.
فصل: ولا تؤخذ الجزية من صبي لحديث معاذ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً ولأن الجزية تجب لحقن الدم والصبي محقون الدم وإن بلغ صبي من أولاد أهل الذمة فهو في أمان لأنه كان في الأمان فلا يخرج منه من غير عناد فإن اختار أن يكون في الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة لأن العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضي والثاني: لا يحتاج إلى استئناف عقد لأنه تبع الأب في الأمان فتبعه في الذمة فعلى هذا يلزمه جزية أبيه وجده من الأب ولا يلزمه جزية جده من الأم لأنه لا جزية على الأم فلا يلزمه جزية أبيها.
فصل: ولا تؤخذ الجزية من مجنون لأنه محقون الدم فلا تؤخذ منه الجزية كالصبي وإن كان يجن يوماً ويفيق يوماً لفق أيام الإفاقة فإذا بلغ قدر سنة أخذت منه الجزية لأنه ليس تغليب أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التلفيق وإن كان عاقلاً في أول الحول ثم جن في أثنائه وأطبق الجنون ففي جزية ما مضى من أول الحول قولان كما قلنا فيمن مات أو أسلم في أثناء الحول.(3/309)
فصل: ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الجزية أن لا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلى على من جرت عليه الموسى ولأنها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبي ولا تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة وإن طلبت امرأة من دار الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم في دار الإسلام من غير جزية جاز لأنه لا جزية عليها ولكن يشترط عليها أن تجري عليها أحكام الإسلام وإن نزل المسلمون على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعقد لهن لأن دماءهن محقونة فعلى هذا يقيمون حتى يفتحوا الحصن ويستبقوهن والثاني: أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجري عليهن أحكام المسلمين كما قلنا في الحربية إذا طلبت عقد الذمة فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية كالهدية وإن دفعن أخذ منهن وإن امتنعن لم يخرجن من الذمة.
فصل: ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا جزية على مملوك لأنه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه الجزية كالصبي والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لأنه محقون الدم فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الجزية لأنه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية وإن أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق مسلماً عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية وإن كان ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية لأن عقد المولى كان له دون العبد والثاني: يلزمه جزية المولى لأنه تبعه في الأمان فلزمه جزيته.
فصل: وفي الراهب والشيخ الفاني قولان بناء على القولين في قتلهما فإن قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما وإن قلنا إنه لا يجوز قتلهما لم تؤخذ منهما لأن دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبي والمرأة وفي الفقير الذي لا كسب له قولان: أحدهما: أنه لا تجب عليه الجزية لأن عمر رضي الله عنه جعل أهل الجزية طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل ولأنه إذا لم يجب خراج الأرض في أرض لا نبات لها لم يجب خراج الرقاب في رقبة لا(3/310)
كسب لها فعلى هذا يكون مع الأغنياء في عقد الذمة فإذا أيسر استؤنف الحول والثاني: أنها تجب عليه لأنها تجب على سبيل العوض فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل كالثمن والأجرة ولأن المعتمل وغير المعتمل يستويان في القتل بالكفر فاستويا في الجزية فعلى هذا ينظر إلى الميسرة فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى ومن أصحابنا من قال لا ينظر لأنه يقدر على حقن الدم بالإسلام فلم ينظر كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم فعلى هذا يقول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وإن لم تفعل نبذنا إليك العهد.
فصل: ويثبت الإمام عدد أهل الذمة أسماءهم ويحليهم بالصفات التي لا تتغير بالأيام فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الأنف ويكتب ما يؤخذ من كل واحد منهم ويجعل على كل طائفة عريفاً ليجمعهم عند أخذ الجزية ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والإسلام وتؤخذ منهم الجارية برفق كما تؤخذ سائر الديون ولا يؤذيهم في أخذها بقول ولا فعل لأنه عوض في عقد فلم يؤذهم في أخذه بقول ولا فعل كأجرة الدار ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها.
فصل: وإن مات الإمام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم من الجزية رجع إليهم في ذلك لأنه لا تمكن معرفته مع تعذر البنية إلا من جهتهم ويحلفهم استظهاراً ولا يجب لأن ما يدعونه لا يخالف الظاهر فإن قال بعضهم هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخذ من كل واحد منهم ما أقر به لأن إقرارهم مقبول ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض لأن شهادتهم لا تقبل وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم فإن قالوا كنا ندفع دينارين ديناراً عن الجزية وديناراً هدية فالقول قولهم مع يمينهم واليمين واجبة لأن دعواهم تخالف الظاهر وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم وهو مسلم وادعى أنه أسلم في أول ما غاب ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله(3/311)
ويطالب بجزية ما مضى من غيبته في حال الكفر لأن الأصل بقاؤه على الكفر والثاني: أنه يقبل لأن الأصل براءة الذمة من الجزية.(3/312)
باب عقد الذمة
لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فكان إلى الإمام ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ} [التوبة: 29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية وجب الكف عنهم وروى بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميراً على جيش قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد والدليل عليه قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] والصغار هو أن تجري عليهم أحكام المسلمين ولا فرق بين الخيابرة وغيرهم في الجزية والذي يدعيه الخيابرة أن معهم كتاباً من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من علماء الإسلام وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع.
فصل: وإن كان أهل الذمة في دار الإسلام أخذوا بلبس الغيار وشد الزنار والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم كالأزرق والأصفر ونحوهما والزنار أن يشدوا في أوساطهم خيطاً غليظاً فوق الثياب وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقاً ليتميزوا عن قلانس المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرط أن لا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وأن نشد الزنانير في أوساطنا ولأن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله وندب إلى أعزاز أهله وأذل الشرك وأهله ونذب إلى إذلال أهله،(3/312)
والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شيء وجعل الصغار والذل على من خالف أمري". فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما وإن شرط أحدهما: أخذوا به لأن التمييز يحصل بأحدهما: ويجعل في أعناقهما خاتم ليتميزوا به عن المسلمين في الحمام وفي الأحوال التي يتجردون فيها عن الثياب ويكون ذلك من حديد أو رصاص أو نحوهما ولا يكون من ذهب أو فضة لأن في ذلك إعظاماً لهم وإن كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من إرساله كما تصنع الأشراف والأخيار من المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان لأن التمييز يحصل بالغيار والزنار وهل يمنعون من لبس الديباج؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم يمنعون لما فيه من التجبر والتفخيم والتعظيم والثاني: أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن وتكون زنانيرهن تحت الإزار لأنه إذا كان فوق الإزار انكشفت رؤوسهن واتصفت أبدانهن ويجعلن في أعناقهن خاتم حديد ليتميزن به عن المسلمات في الحمام كما قلنا في الرجال وإن لبسن الخفاف جعلن الخفين من لونين ليتميزن عن النساء المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل لما روي في حديث عبد الرحمن بن غنم شرطنا أن لا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم وإن ركبوا الحمير والبغال ركبوها على الأكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر ولا نركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضاً من جانب واحد لما روى ابن عمر أن عمر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضاً على شق.
فصل: ولا يبدؤون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها" 1. ولا يصدرون في المجالس لما روى عبد الرحمن بن غنم في
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/263، 346.(3/313)
كتاب عمر وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولأن في تصديرهم في المجالس إعزازاً لهم وتسوية بينهم وبين المسلمين في الإكرام فلم يجز ذلك.
فصل: ويمنعون من إحداث بناء بعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" 1. وهل يمنعون مساراتهم في البناء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم والثاني: أنهم يمنعون لأن القصد أن يعلو الإسلام ولا يحصل ذلك مع المساواة وإن ملكوا داراً عالية أقروا عليها وإن كانت أعلى من دور جيرانهم لأنه ملكها على هذه الصفة وهل يمنعون من الاستعلاء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن مع العبد أن يعلوا على المسلمين والثاني: أنهم يمنعون في جميع البلاد لأنهم يتطاولون على المسلمين.
فصل: ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار الصليب وإظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر رضي الله عنه على نصارى الشام شرطنا أن لا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفياً ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا على موتانا.
فصل: ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام إنكم لما قدمتم علينا شرطنا لم على أنفسنا أن لا يحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79.(3/314)
كنيسة ولا صومعة راهب وهل يجوز إقرارهم على ما كان منها قبل الفتح ينظر فيه فإن كان في بلد فتح صلحاً واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز إقرارهما لأنه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا على أن لنا البلد إلا الكنائس والبيع وإن كان في بلد فتح عنوة أو فتح صلحاً ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إقرار ما أحدثوا بعد الفتح والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز إقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز إقرارهم على ما يبنى للكفر وما جاز تركه من ذلك في دار الإسلام إذا انهدم فهل يجوز إعادته؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبنى الكنيسة في دار الإسلام ولا يجدد ما خرب منها". وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام ولا يجدد ما خرب منها ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كما لو بناها في موضع آخر والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم وإن عقدت الذمة في بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار ما لهم من الأعياد ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لأنهم في دار لهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم فيه.
فصل: ويجب على الإمام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء كانوا مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم في بلد لهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم فإن لم يدفع حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لأن الجزية للحفظ وذلك لم يوجد فيه يجب ما في مقابلته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكين من المنفعة وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه يحرم فلا يجوز اقتناؤه في الشرع فلم تجب المطالبة به.
فصل: وإن عقدت الذمة بشرط أن يمنع عنهم أهل الحرب نظرت فإن كانوا مع المسلمين أوفي موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على المسلمين لم يصح العقد لأنه عقد على تمكين الكفار من المسلمين فلم يصح وإن كانوا منفردين عن(3/315)
المسلمين في موضع ليس لأهل الحرب طريق على المسلمين صح العقد لأنه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين وهل يكره هذا الشرط؟ قال الشافعي رضي الله عنه في موضع يكره وقال في موضع لا يكره وليست المسألة على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال يكره إذا طلب الإمام الشرط لأن فيه إظهار ضعف المسلمين والموضع الذي قال لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لأنه ليس فيه إظهار ضعف المسلمين وإن أغار أهل الحرب على أهل الذمة وأخذوا أموالهم ثم ظفر الإمام بهم واسترجع ما أخذوه من أهل الذمة وجب على الإمام رجه عليهم وإن أتلفوا أموالهم أو قتلوا منهم لم يضمنوا لأنهم لم يلتزموا أحكام المسلمين وإن أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظهر بها الإمام واسترجع ما أخذوه وجب رده على أهل الذمة وإن أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم الضمان لأنهم التزموا بالهدنة حقوق الآدميين وإن نقضوا العهد وامتنعوا في ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهم الضمان والثاني: لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل الرد إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم.
فصل: وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو اعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا الحاكم أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور وإن كانا ذميين نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان: أحدهما: أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لأنهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزني لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين وإن حكم بينهما لزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لزمه الحضور وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالقسم قبله لأنهما كافران قصارا كما لوكانا على دين واحد والثاني: قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى(3/316)
رئيسهما فيحكم بينهما وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفي حقوق الله تعالى ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأن الحقوق الآدميين من يطالب بها ويتوصل إلى استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها فإذا لم يحكم بينهما ضاعت ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى فأما في حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى فإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد ففيه قولان كالذميين وإن تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] وإن تحاكم إليه رجل وامرأة في نكاح فإن كانا على نكاح لو أسلما عليه لم يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله وإن كانا على نكاح لو أسلما عليه جاز إقرارهما عليه حكم بصحته لأن أنكحة الكفار محكوم بصحتها والدليل عليه قوله تعالى {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} فأضاف إلى فرعون زوجته وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 5] فأضاف إلى أبي لهب زوجته ولأنه أسلم خلق كثير على أنكحة في الكفر فأقروا على أنكحتهم فإن طلقها أو آلى منها وظاهر منها حكم في الجميع بحكم الإسلام.
فصل: وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا إلينا ففيه قولان: أحدهما: يقرون عليه لأنه مهر مقبوض فأقرا عليه كما لو أقبضهما من غير حكم والثاني: أنه يجب لها مهر المثل لأنها قبضت على إكراه بغير حق فصار كما لولم تقبض.
فصل: ومن أتى من أهل الذمة محرماً يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك محرماً في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن يهوياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام بعقد الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يجب عليه الحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يحب عليه عقوبة كالكفر فإن تظاهر به عزر لأنه إظهار منكر في دار الإسلام فعزر عليه.(3/317)
فصل: إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين اتنقض عهده لأن عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما وإن قاتل المسلمين انتقض عهده سواء شرط عليه تركه في العقد أولم يشرط لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين والقتال ينافي الأمان فانتقض به العهد وإن فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه إضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعال ستة أشياء وهو أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح أو يفتن مسلماً عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوي عيناً لهم أو يدل على عوراتهم وأضاف إليهم أصحابنا أن يقتل مسلماً فإن لم يشرط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يقتضي العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين والكف عن قتالهم وإن شرط عليهم الكف عن ذلك في العقد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ينتقض به العقد لأنه لا ينتقض به العهد ومن غير شرط فلا ينتقض به مع الشرط كإظهار الخمر والخنزير وترك الغيار والثاني: أنه ينتقض به العهد لما روي أن نصرانياً استكره امرأة مسلمة على الزنا فرفع إلى أبي عبيدة ابن الجراح فقال ما على هذا صالحناكم وضرب عنقه ولأن عقوبة هذه الأفعال تستوفي عليه من غير شرط فوجب أن يكون لشرطها تأثير ولا تأثير إلا ما ذكرنا من نقض العهد فإن ذكر الله عز وجل أو كناية أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا ينبغي فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق في حكمه حكم الثلاثة الأولى وهي الامتناع من التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والاجتماع على قتالهم وقال عامة أصحابنا حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين وهي الأشياء السبعة إن لم يشترط في العقد الكف عنه لم ينقض العهد وإن شرط الكف عنه فعلى الوجهين لأن في ذلك إضراراً بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه إضرار بالمسلمين ومن أصحابنا من قال من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله لما روي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سمعت راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطه الأمان على هذا وإن أظهر من منكر دينهم ما لا ضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد شرط أولم يشرط واختلف أصحابنا في تعليله فمنهم من قال: لا ينتقض العهد لأنه إظهار ما لا ضرر فيه على المسلمين ومنهم من قال ينتقض لأنه إظهار ما يتدينون به وإذا فعل ما ينتقض به العهد ففيه قولان: أحدهما: أنه يرد إلى مأمنه لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الإسلام بأمان صبي والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه كالأسير ويخالف من دخل(3/318)
بأمان الصبي لأن ذلك غير مفرط لأنه اعتقد صحة عقد الأمان فرد إلى مأمنه وهذا مفرط لأنه نقض العهد فلم يرد إلى مأمنه فعلى هذا يختار الإمام ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء كما قلنا في الأسر.
فصل: ولا يمكن مشرك من الإقامة في الحجاز قال الشافعي رحمه الله هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها قال الأصمعي سمي حجازاً لأنه حاجز بين تهامة ونجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وأراد الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز ويم ينقل أن أحداً من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب فإن جزيرة العرب في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام في العرض وفي قول أبي عبيدة ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول وما بين النهرين إلى المساواة في العرض قال يعقوب: حفر أبي موسى على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل وأما نجران فليست من الحجاز ولكن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجراً في مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام فإن استأذن في الدخول فإن كان للمسلمين فيه منفعة بدخوله لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة أو عقد هدنة أذن فيه لأن فيه مصلحة للمسلمين فإن كان في تجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئاً لأن عمر رضي الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل وتقدير ذلك إلى رأي الإمام لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه فإن دخل للتجارة فله أن يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضي الله عنه، ولأنه(3/319)
لا يصير مقيماً بالثلاثة ويصير مقيماً بما زاد وإن أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم في كل موضع ثلاثة أيام جاز لأنه لم يصر مقيماً في موضع ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس بموضع للإقامة ويمنع من المقام في سواحله والجزائر المكونة فيه لأنه من بلاد الحجاز وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لأن الدفن إقامة على التأبيد وإن خيف عليه التغير في النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لأنه موضع ضرورة.
فصل: ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمسجد الحرام عبارة عن الحرم والدليل عليه قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] وأراد به مكة لأنه أسرى به من منزل خديجة وروى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل مشرك المسجد الحرام" فإن جاء رسولاً خرج إليه من يسمع رسالته وإن جاء لحمل مبرة خرج إليه من يشتري منه وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه وإن دخل ومرض فيه لم يترك فيه وإن مات لم يدفن فيه وإن دفن فيه نبش وأخرج منه للآية ولأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى وإن تقطع ترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن قبل الفتح وإن دخل بغير إذن فإن كان عالماً بتحريمه عزر وإن كان جاهلاً أعلم فإن عاد عزر وإن أذن له في الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى لأنه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل وإن كان فاسداً لأنه لا أجرة لمثله والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على تسعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على سبعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال.
فصل: وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من غير إذن لما روى عياض الأشعري أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصراني فأعجب عمر خطه فقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتاباً فقال أنه لا يدخل المسجد فقال لم؟ أجنب هو؟ قال لا هو نصراني قال: فانتهره عمر فإن دخل من غير إذن عزر لما روت أم غراب قالت:(3/320)
رأيت علياً كرم الله وجهه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة فإن استأذن في الدخول فإن كان لنوم أو أكل لم يأذن له لأنه يرى ابتذاله تديناً فلا يحميه من أقذاره وإن كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله} [التوبة: 6] لأنه ربما كان سبباً لإسلامه وقد روي أن عمر رضي الله عنه سمع أخته تقرأ طه فأسلم وإن كان جنباً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمنع من المقام فيه لأنه إذا منع المسلم إذا كان جنباً فلأن يمنع المشرك أولى والثاني: أنه لا يمنع لأن المسلم يعتقد تعظيمه فمنع والمشرك لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع وإن وفد قوم من الكفار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة والنضير في مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال في المسجد.
فصل: ولا يمكن حربي من دخول دار الإسلام من غير حاجة لأنه لا يؤمن كيده ولعله يدخل للتجسيس أو شارء سلاح فإن استأذن في الدخول لأداء رسالة أو عقد ذمة أو خدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الإذن له من غير عوض لأن في ذلك مصلحة للمسلمين وإذا انقضت حاجته لم يمكن من المقام فإن دخل من غير ذمة ولا أما فللإمام أن يختار ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء والدليل عليه ما روى ابن عباس في فتح مكة ومجيء أبي سفيان مع العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته ولأنه حربي لا أمان له فكان حكمه ما ذكرناه كالأسير وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله لأنه لا يتعذر إقامة البينة على الأمان والثاني: أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا بمال يؤخذ من تجارته لأن عمر رضي الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب ويستحب أن لا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضي الله عنه فإن نقص باجتهاده جاز لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمي في دخول الحجاز في السنة إلا مرة كما لا(3/321)
تؤخذ الجزية منا في السنة إلا مرة وما يؤخذ من الحربي في دخول دار الإسلام فيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ منه في كل سنة مرة كأهل الذمة في الحجاز والثاني: أنه يؤخذ منه في كل مرة يدخل لأن الذمي تحت يد الإمام ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير والحربي يرجع إلى دار الحرب فإذا لم يؤخذ منه فات ما شرط عليه وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه باع أولم يبع وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ منه لأنه لم يحصل الثمن وإن دخل الذمي الحجاز أو الحربي دار الإسلام ولم يشرط عليه في دخوله مال لم يؤخذ منه شيء ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من تجارة الذمي نصف العشر ومن تجارة الحربي العشر لأنه قد تقرر هذا في الشرع بفعل عمر رضي الله عنه فحمل مطلق العقد عليه والمذهب الأول لأنه أمان من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة.(3/322)
باب الهدنة
لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم إلا للإمام أولمن فوض إليه الإمام لأنه لو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للإمام أو للنائب عنه فإن كان الإمام مستظهراً نظرت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ} [محمد: 35] وإن كان فيها مصلحة بأن يرجوا إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1 - 2] ولا يجوز أن يهادنهم سنة فما زاد لأنها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزية وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه(3/322)
قولان: أحدهما: أنه لا يجوز لأن الله تعالى بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] وأمر بقتال عبدة الأوثان إلى أن يؤمنوا لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثم أذن في الهدنة في أربعة أشهر وبقي ما زاد على ظاهر الآيتين والقول الثاني أنه يجوز لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية فجاز فيها عقد الهدنة كأربعة أشهر وإن كان الإمام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعف وقلة وفي المشركين قوة وكثرة أو كان الإمام مستظهراً لكن العدو على بعد ويحتاج في قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعوا إليها الحاجة وأكثرها عشر سنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية عشر سنين ولا يجوز فيما زاد على ذلك لأن الأصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت فيه الرخصة وهو عشر سنين وبقي ما زاد على الأصل وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على العشر وفي العشر قولان بناء على تفريق الصفقة في البيع وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين لم تجز الزيادة عليها فإن عقد على ما زاد على الخمس سنين بطل العقد فيما زاد وفي الخمس قولان: فإن عقد الهدنة مطلقاً من غير مدة لم يصح لأن إطلاقه يقتضي التأبيد وذلك لا يجوز وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال: "أقركم ما أقركم الله". وإن قال غير النبي صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لأنه لا طرق له إلى معرفة ما عند الله تعالى ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم ما عند الله تعالى بالوحي وإن هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأي جاز فإن شاء فلان أن ينقض نقض وإن قال هادنتكم ما شيئم لم يصح لأنه جعل الكفار محكمين على المسلمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى". ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم لأن في ذلك مصلحة للمسلمين ولا يجوز بمال يؤدي إليهم من غير ضرورة لأن في ذلك إلحاق صغار بالإسلام فلم يجز من غير ضرورة فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام أو أسروا رجلاً من المسلمين وخيف تعذيبه جاز بذل المال لاستنقاذه منهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الحرث بن عمر والغطفاني رئيس غطفان قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلاً ورجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أشاور السعديين". يعني سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة فقالوا: إن كان هذا(3/323)
بأمر من السماء فتسليم لأمر الله عز وجل وإن كان برأيك فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية تمرة إلا شراء أو قراء وكيف وقد أعزنا الله بك فلم يعطهم شيئا فلولم يجز عند الضرورة لما رجع إلى الأنصار ليدفعوه إن رأوا ذلك ولأن ما يخاف من الاصطلام وتعذيب الأسير أعظم في الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما وهل يجب بذل المال؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه وقد بيناه في الصول فإذا بذل لهم على ذلك مال لم يملكوه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر.
فصل: ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح الحديبية فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة فجاء أخوها فطالباها فأنزل الله عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى منع من الصلح في النساء" ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك فيصيبها ولا يؤمن أن تفتن في دينها لنقصان عقلها ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة له من الرجال تمنع عنه لأنه لا يأمن على نفسه في إظهار دينه فيما بينهم ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع عنه لأنه يأمن على نفسه في إظهار دينه ولا يجوز عقدها مطلقاً على رد من جاء من الرجال مسلما لأنه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز.
فصل: وإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة على ما لا يجوز من النقصان عن دينار في الجزية أو المقام في الحجاز أو الدخول إلى الحرم أو بناء كنيسة في دار الإسلام أوترك الغيار أو إظهار الخمر والخنزير في دار الإسلام وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال: ردوا الجهالات إلى السنة ولأنه عقد على محرم فلم يجز الإقرار عليه كالبيع بشرط باطل أو عوض محرم.
فصل: وإن عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن تنقضي المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ
__________
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 20. مسلم في كتاب الأقضية حديث 17. أبو داود في كتاب السنة باب 5. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 2. أحمد في مسنده 2/146.(3/324)
كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 3 - 4] ولقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] وروى سليمان ابن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية في أرضهم كأنهم يريد أن يغير عليهم فقال له عمرو ابن عبسة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقده ولا يشدها حتى يمضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء". قال: فانصرف معاوية ذلك العام ولأن الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا عند قدرتهم علينا فيؤدي ذلك إلى الإضرار بالمسلمين وإن مات الإمام الذي عقد الهدنة ولي غيره لزمه إمضاؤه لما روي أن نصارى نجران أتوا علياً كرم الله وجهه وقالوا: إن الكتاب كان بيديك والشفاعة إليك وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها فقال علي: إن عمر كان رشيداً في أمره وإني لا أغير أمراً فعله عمر رضي الله عنه.
فصل: ويجب على الإمام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من أهل الذمة لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم ولا يجب عليه منع من قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم وإنما عقدت على تركهم بخلاف أهل الذمة فإن أهل الذمة عقدت على حفظهم فوجب منع كل من يقصدهم ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم لأن الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب في ذلك.
فصل: إذا جاءت منعم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهراً حلالاً فجاء زوجها في طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر؟ فيه قولان: أحدهما: يجب لقوله تعالى عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ولأن البضع مقوم حيل بينه وبين مالكه فوجب رد بدله كما لو أخذ منهم مالاً وتعذر رده والقول الثاني وهو الصحيح وهو اختيار المزني أنه لا يجب لأن البضع ليس بمال والأمان لا يدخل فيه إلا المال ولهذا لو أمن مشركاً لم تدخل امرأته في الأمان ولأنه لو ضمن البضع الحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند تعذر الرد(3/325)
بالمثل بقيمته ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن بالمسمى وأما الآية فإنها نزلت في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية قبل تحريم رد النساء وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فسقط ضمان المهر فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع وإن قلنا إنه يجب وعليه التفريع وجب ذلك في خمس الخمس لأنه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس الخمس وإن لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر لقوله تعالى: {وآتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق وإن دفع إليها مهراً حراماً كالخمر والخنزير لم يجب له شيء لأنه لا قيمة لما دفع إليها فصار كما لولم يدفع إليها شيئاً فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر منه لأن الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع وإن جاءت إلى بلد ليس فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر لأنه يجب في سهم المصالح وذلك إلى الإمام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره.
فصل: وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن جاءت مجنونة ووصفت الإسلام ولم يعلم هل وصفته في حال عقلها أوفي حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون وصفته في حال عقلها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فلم يجز ردها احتياطاً للإسلام وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت: إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها وإن وصفت الإسلام لم ترد فإذا جاء الزوج في طلبها دفع إليها مهرها لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن طلب مهرها قبل الإفاقة لم يدفع إليه لأن المهر يجب بالحيلولة وذلك لا يتحقق قبل الإفاقة لجواز أن تفيق وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب مع الشك.
فصل: فإن جاءت صبية ووصفت الإسلام لم ترد إليهم وإن لم يحكم بإسلامها لأنا نرجوا إسلامها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن وصفت الإسلام دفع إلى زوجها المهر لأنه تحقق المنع بالإسلام فإن جاء يطالب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يدفع إليه مهرها لأنها منعت منه بوصف الإسلام فهي كالبالغة والثاني: أنه لا يدفع لأن الحيلولة لا تتحقق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب المهر كما قلنا في المجنونة.(3/326)
فصل: وإن جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لأنه يجب قتلها وإن جاء زوجها يطلب مهرها فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لأن الحيلولة حصلت بالقتل وإن كان قبل القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب لأن المنع وجب بحكم الإسلام والثاني: لا يجب لأن المنع وجب لإقامة الحد لا بالإسلام.
فصل: وإن جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما: فإن كان الموت بعد المطالبة بها وجب المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن كان قبل المطالبة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالموت.
فصل: فإن أسلمت ثم طلقها زوجها فإن كان الطلاق بائناً فهو كالموت وقد بيناه وإن كان رجعياً لم يجب دفع المهر لأنه تركها برضاه وإن راجعها ثم طالب بها وجب دفع المهر لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن جاءت مسلمة ثم أسلم الزوج فإن أسلم قبل انقضاء العدة لم يجب المهر لاجتماعهما على النكاح وإن أسلم بعد انقضاء العدة فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة وجب المهر لأنه وجب قبل البينونة وإن طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين.
فصل: وإن هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الإمام نظرت فإن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت صارت حرة لأنا يبنا أن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد عليه لأنها أجنبية منه لا حق له في رقبتها ولأنها مسلمة فلا يجوز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله فيها قولين كالحرة إذا هاجرت وجاء زوج يطلب مهرها والصحيح أنه لا تجب قيمتها قولاً واحداً وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله لأن الحيلولة حصلت بالقهر قبل الإسلام وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لأنهم في أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد لأنها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو غصب منها مال وتلف وإن كانت الأمة مزوجة من حر فجاء زوجها في طلبها لم ترد إليه وإن طلب مهرها فعلى القولين في الحرة وإن كانت مزوجة من عبد فعلى القولين أيضاً إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لأن البضع له فلا يملك المولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر لأن المهر له فلا يملك الزوج المطالبة به.(3/327)
فصل: وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له العود إليهم والأفضل أن لا يعود وقد بينا ذلك في أول السير فإن عقد الهدنة على رده واختار العود لم يمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأبي جندل وأبي بصير في العود وإن اختار المقام في دار الإسلام لم يمنع لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الانتقال إلى دار الشرك وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم نمنعك منه وإن لم تقدر لم نعنك عليه ونقول للمطلوب في السر إن رجعت إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الإسلام كان أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا بصير فهرب منهم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد وفيت لهم ونجاني الله منهم.
فصل: ومن أتلف منهم على مسلم مالاً وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب عليه القصاص وإن فدفه وجب عليه الحد لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم الخمر أوزنى لم يجب عليه الحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى فإن سرق مالاً لمسلم ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه القطع لأنه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا والثاني: أنه يجب عليه لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي فوجب عليه كحد القذف.
فصل: إذا نقض أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقضت الهدنة لقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] فدل على أنهم إن ظاهروا عليكم أحداً لم تتم إليهم عهدهم ولأن الهدنة تقتضي الكف عنا فانتقضت بتركة ولا يفتقر نقضها إلى حكم الإمام بنقضها لأن الحكم إنما يحتاج إليه في أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة في حق الجميع والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به فقال الله عز وجل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وقيل: إن الذي أعان منهم حيي بن أخطب وأخوه(3/328)
وآخر معهم فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاربت بنو بكر خزاعة وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة وأمسك سائر قريش فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً لعهدهم وسار إليهم حتى فتح مكة ولأنه لما كان عقد بعضهم الهدنة أماناً لمن عق ولمن أمسك وجب أن يكون نقض بعضهم نقضاً لمن نقض ولمن أمسك وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الإمام بذلك انتقض عهد من نقض وصار حرباً لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض لأنه لم ينقض العهد ولا رضي مع من نقض فإن كان من لم ينقض مختلطاً بمن نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم فإن لم يفعلوا أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين وقد بيناه في أول السير وإن أسر الإمام قوماً منهم وادعوا أنهم ممن لم ينقض العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.
فصل: وإن ظهر منهم من يخاف معه الخيانة جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ولا تنتقض الهدنة إلا أن يحكم الإمام بنقضها لقولها عز وجل: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} ولأن نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم وإن خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ عليهم والفرق بينهم وبين عقد أهل الهدنة أن النظر في عقد الذمة وجب لهم ولهذا إذا طلبوا عقد الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر في عقد الهدنة لنا ولهذا لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها إلى الإمام وإن رأى عقدها عقد وإن لم ير عقدها لم يعقد فكان النظر إليه في نقضها عند الخوف ولأن أهل الذمة في قبضته فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف وإن لم يظهر منهم ما يخاف معهم الخيانة لم يجز نقضها لأن الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف ولأن نقض الهدنة من غير سبب يبطل مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون إليها وإذا نقض الهدنة عند خوف الخيانة(3/329)
ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا على أمان فوجب ردهم إلى المأمن وإن كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم.
فصل: إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس والمال وما يجب عليه من الضمان والحدود حكم المهادن لأنه مثله في الأمان فكان مثله فيما ذكرناه وإن عقد الأمان ثم عاد إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة فهو على الأمان في النفس والمال كالذمي إذا خرج إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة وإن رجع إلى دار الحرب بنية المقام وترك ماله في دار الإسلام انتقض الأمان في نفسه ولم ينتقض في ماله فإن قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا؟ فيه قولان: قال في سير الواقدي ونقله المزني أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئاً وقال في المكاتب يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين: أحدهما: أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزني والدليل عليه أن المال لوارثه ومن ورث مالاً ورثه بحقوقه وهذا الأمان من حقوق المال فوجب أن يورث والقول الثاني أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئاً ووجهه أنه لما مات انتقل ماله إلى وارثه وهو كافر لا أمان له في نفسه ولا في ماله فكان غنيمة وقال أبوعلي بن خيران: المسألة على اختلاف حالين فالذي قال يغنم إذا عقد الأمان مطلقاً ولم يشرط لوارثه والذي قال لا يغنم إذا عقد الأمان لنفسه ولوارثه وليس للشافعي رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة وأما إذا مات في دار الإسلام فقد قال في سير الواقدي أنه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا فيه فيمنهم من قال هو أيضا على قولين كالتي قبلها والشافعي نص على أحد القولين ومنهم من قال يرد إلى وارثه قولاً واحداً والفرق بين المسألتين أنه إذا مات في دار الإسلام مات على أمانه فكان ماله على الأمان وإذا مات في دار الحرب فقد مات بعد زواله أمانه فبطل في أحد القولين أمان ماله فإن استرق زال ملكه عن المال بالاسترقاق وهل يغنم؟ فيه قولان: أحدهما: يغنم فيئاً لبيت المال والقول الثاني أنه موقوف لأنه لا يمكن نقله إلى الوارث لأنه حي ولا إلى مسترقه لأنه مال له أمان فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم وإن مات عبداً ففي ماله قولان حكاهما أبوعلي بن أبي هريرة: أحدهما: أنه يغنم فيئاً ولا يكون موروثاً لأن العبد لا يورث والثاني: أنه لوارثه لأنه ملكه في حريته.
فصل: فإن اقترض حربي من حربي مالاً ثم دخل إلينا بأمان أو أسلم فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل كما لو(3/330)
تزوج حربية ثم أسلم قال: ويحتمل أنه لا يلزمه البدل فإن الشافعي رحمه الله قال في النكاح: إذا تزوج حربي حربية ودخل بها وماتت ثم أسلم الزوج أو دخل إلينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شيء له لأنه مال فائت في حال الكفر قال: والأول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربي تزوجها على غير مهر فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالاً أو اقترض منهم مالاً وعاد إلى دار الإسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض لأن الأمان يوجب ضمان المال في الجانبين فوجب رده.(3/331)
باب خراج السواد
سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولاً ومن القادسية إلى حلوان عرضاً قال الساجي: هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب وقال أبو عبيد: هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب وفتحها عمر رضي الله عنه وقسمها بين الغانمين ثم سألهم أن يردوا ففعلوا والدليل عليه ما روى قيس بن أبي حازم البجلي قال: كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر رضي الله عنه ربع السواد وأخذناها ثلاث سنين ثم وفد جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر رضي الله عنه بعد ذلك فقال أما والله لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما قسم لكم وأرى أن تردوا على المسلمين ففعلوا ولا تدخل في ذلك البصرة وإن كانت داخلة في حد السواد لأنها كانت أرضاً سبخة فأحياها عمرو بن العاص الثقفي وعتبة بن غزوان بعد الفتح إلا مواضع من شرقي دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات ومن غربي دخلتها نهر يعرف بنهر المرة واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضي الله عنه فيما قتح من أرض السواد فقال أبو العباس وأبو إسحاق: باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن والدليل عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير إنكار وقال أبو سعيد الإصطخري وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا(3/331)
هبتها ولا رهنها وإنما تنقل من يد إلى يد وما يؤخذ من الخراج فهو أجرة وعليه نص في سير الواقدي والدليل عليه ما روى بكير بن عام عن عامر قال: اشترى عقبة بن فرقد أرضاً من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال: ممن اشتريتها قال: من أهلها قال: فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئاً قالوا: لا قال: فاذهب فاطلب مالك فإذا قلنا إنه وقف فهل تدخل المنازل في الوقف فيه وجهان: أحدهما: أن الجميع وقف والثاني: أنه لا يدخل في الوقف غير المزارع لأنا لو قلنا إن المنازل دخلت في الوقف أدى إلى خرابها وأما الثمار فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى الساجي في كتابه عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش ولا يطير ولا يشتري منه إلا أعرابي أومن يشتريه فينبذه وما كان الناس يقدمون على شرائه والوجه الثاني أنه يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها لأن الحاجة تدعوا إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول.
فصل: ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم واختلف أصحابنا في خراج النخل والكرم فمنهم من قال: يؤخذ من كل جريب نخل عشرة دراهم ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم لما روى مجاهد عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقضب ستة دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثني عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب الزيتون اثنا عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية لما روى أبوقتادة عن لاحق بن حميد يعني أيا مجلز قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب(3/332)
الشعير درهمين وعلى جريب القضب ستة وكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه ورضي به وروى عباد بن كثير عن قحزم قال جبى عمر رضي الله عنه العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الأهم فالأهم لأنه للمسلمين فصرف في مصالحهم. والله أعلم.(3/333)
كتاب الحدود
باب حد الزنا
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] وروى عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله عز وجل قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت إن ذلك لعظيم قال: قلت: ثم أي قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك" قال: قلت: ثم أي قال: "أن تزاني حليلة جارك" 1.
فصل: إذا وطئ رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم وجب عليه الحد فإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله ألا إن الرجم إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الإعتراف وقد قرأتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ولا يجلد المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 20. مسلم في كتاب الإيمان حديث 141. أبو داود في كتاب الطلاق باب 50. النسائي في كتاب الإيمان باب 6.(3/334)
الله عنهما قالا: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجل فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فقال صلى الله عليه وسلم: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت فرجمها ولو وجب الجلد مع الرجم لأمر به
فصل: والمحصن الذي يرجم هو أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وطئ في نكاح صحيح فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يرجم لأنهما ليسا من أهل الحد وإن كان مملوكاً لم يرجم وقال أبو ثور: إذا أحصن بالزوجية رجم لأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والعبد كالقطع في السرقة وهذا خطأ لقوله عز وجل: {فَإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فأوجب مع الإحصان خمسين جلدة وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد" 1. ولأن الرجم أعلى من جلد مائة فإذا لم يجب على المملوك جلد مائة فلأن لا يجب الرجم أولى ويخالف القطع في السرقة فإنه ليس في السرقة حد غير القطع فلو أسقطناه القطع سقط الحد وفي ذلك فساد وليس كذلك في الزنا فإن فيه حداً غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد وأما من لم يطأ في النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم لما روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" 2. ولا خلاف أن المراد بالثيب الذي وطئ في نكاح صحيح واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطء بعد كماله بالبلوغ والعقل والحرية أم لا؟ فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فلو وطئ وهو صغير
__________
1 رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود حديث 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14.
2 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب1. الترمذي في كتاب الديات باب 10. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده 1/382.(3/335)
أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم لأنه وطء أبيح للزوج الأول فثبت به الإحصان كما لو وطئ بعد الكمال ولأن النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء ومنهم من قال: من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فإن وطئ في حال الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم وهو ظاهر النص والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 1. فلو جاز أن يحصن الوطء في حال النقصان لما علق الرجم بالزنا ولأن الإحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه في حال الكمال فعلى هذا إذا وطئ في نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين صارا محصنين وإذا كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين وإن كان أحدهما: حراً بالغاً عاقلاً والآخر مملوكاً أو صغيراً أو مجنوناً ففيه قولان: أحدهما: أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير محصن وهو الصحيح لأنه لما جاز أن يجب بالوطء الواحد الرجم على أحدهما: دون الآخر جاز أن يصير أحدهما: بالوطء الواحد محصناً دون الآخر والقول الثاني: أنه لا يصير واحد منهما محصناً لأنه وطء لا يصير به أحدهما: محصناً فلم يصر الآخر به محصناً كوطء الشبهة ولا يشترط في إحصان الرجم أن يكون مسلماً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين زنيا فأمر برجمهما.
فصل: وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حراً جلد مائة جلدة وغرب سنة لقوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وإن كان مملوكاً جلد خمسين عبداً كان أو أمة لقوله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل ما على الأمة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق والدليل عليه أنها لو أعتقت كمل حدها والعبد كالأمة في الرق فوجب عليه نصف ما على الحر وهل يغرب العبد بعد الجلد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يغرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحدود حديث 12، 13. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 7.(3/336)
الحد". ولم يذكر النفي ولأن القصد بالتغريب تعذيبه بالإخراج عن الأهل والمملوك لا أهل له والقول الثاني: أنه يغرب وهو الصحيح لقوله عز وجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولأنه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد فإن قلنا إنه يغرب ففي قدره قولان: أحدهما: أنه يغرب سنة لأنها مدة مقدرة بالشرع فاستوى فيها الحر والعبد كمدة العنين والثاني: أنه يغرب نصف سنة للآية ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد.
فصل: وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان: أحدهما: أنه يرجم ويدخل فيها الجلد والتغريب لأنهما حدان يجبان بالزنا فتداخلا كما لو وجب حدان وهو بكر والثاني: أنه لا يدخل فيه لأنهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما: في الآخر كحد السرقة والشرب فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب لأن التغريب يحصل بالرجم.
فصل: والوطء الذي يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطء في الفرج من الحد يجب بالوطء في الدبر لأنه فرج مقصود فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل ولأنه إذا وجب بالوطء في القبل وهو مما يستباح فلأن يجب بالوطء في الدبر وهو مما لا يستباح أولى.
فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون حد الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا سقط عنه التكليف في العبادات والمآثم في المعاصي فلأن يسقط الحد ومبناه على الدرء والإسقاط أولى وفي السكران قولان وقد بيناهما في الطلاق.
فصل: ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأنها مسلوبة الإختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة وهل يجب على الرجل إذا أكره على الزنا فيه وجهان ك أحدهما: وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرناه في المرأة والثاني: أنه يجب لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحاث عن الشهوة والاختيار.
فصل: ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام فقال رجل: زنيت البارحة فقالوا ما تقول قال: ما علمت أن الله عز وجل حرمه فكتب يعني عمر إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات وقال: أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش بدرهمين تخبر(3/337)
بصاحبها الذي زنى بها ومهرها الذي أعطاها فقال عمر رضي الله عنه ما ترون وعنده علي وعثمان عبد الرحمن بن عوف فقال علي رضي الله عنه أرى أن ترجمها وقال عبد الرحمن أرى مثل ما رأى أخوك فقال لعثمان ما تقول: قال أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى به بأساً وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل فقال صدقت فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه فإن كان نشأ فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لأنا نعلم كذبه وإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن والثاني: أنه يقبل قوله لأن معرفة ذلك تحتاج إلى فقه.
فصل: وإن وجد امرأة في فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه الحد لأنه يحتمل ما يدعيه من الشبهة.
فصل: وإن كان أحد الشريكين في الوطء صغيراً والآخر بالغاً أو أحدهما: مستيقظاً والآخر نائماً أو أحدهما: مختاراً والآخر مستكرهاً أو أحدهما: مسلماً والآخر مستأمناً وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على الآخر لأن أحدهما: انفرد بما يوجب الحد وانفرد الآخر بما يسقط الحد فوجب الحد على أحدهما: وسقط عن الآخر وإن كان أحدهما: محصناً والآخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى غير المحصن الجلد والتغريب لأن أحدهما: انفرد بسبب الرجم والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب وإن أقر أحدهما: بالزنا وأنكر الآخر وجب على المقر الحد لما روى سهل بن الساعدي أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل وروى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة.(3/338)
فصل: وإن استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها فكان وجوده كعدمه وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأن ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد والثاني: أنه لا يجب عليه الحد وهو الصحيح لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد كوطء أمته الحائض ولأنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: إن علم بتحريمها وجب عليه الحد لأن ملك البعض لا يبيح الوطء فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم وهذا خطأ لأنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الإسقاط لأن مبنى الحد على الدرء والإسقاط وإن وطئ جارية ابنه لم يجب عليه الحد لأن له فيها شبهة ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها.
فصل: واللواط محرم لقوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] فسماه فاحشة وقد قال عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] ولأن الله عز وجل عذب بها قوم لوط بما لم يعذب به أحداً فدل على تحريمه ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد الزنا وجب عليه الحد وفي حده قولان: أحدهما: وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب في الزنا فإن كان غير محصن وجب الجلد والتغريب وإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ولأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثاني أنه يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 1. ولأن تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ وكيف يقتل فيه وجهان: أحدهما: أنه يقتل بالسيف لأنه أطلق القتل في الخبر في الخبر فينصرف إطلاقه إلى القتل بالسيف والثاني: أنه يرجم لأنه قتل يجب بالوطء فكان بالرجم كقتل الزنا.
فصل: ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته فيما
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 12.(3/339)
دون الفرج بشهوة والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان". فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى لانها أدعى إلى الحرام فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخذت امرأة في البستان وأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها فاعمل بي ما شئت فقرأ عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ويعزر عليه لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير.
فصل: ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ويجب فيه التعزير دون الحد لأنها مباشرة من غير إيلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج.
فصل: ويحرم إتيان البهيمة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإن أتى البهيمة وهو ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجب عليه القتل لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" 1. وكيف يقتل على الوجهين في اللواط والقول الثاني: أنه كالزنا فإن غير محصن جلد وغرب وإن كان محصناً رجم لأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير لأن الحد يجب للردع عما يشتهي وتميل إليه النفس ولهذا وجب في شرب الخمر ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن عباس وأبي هريرة ولأنها ربما أتت بولد مشوه الخلق ولأنها إذا بقيت كثر تعيير الفاعل بها ومنهم من قال: لا يجب قتلها لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن عمرو وهو ضعيف وحديث أبي هريرة يرويه علي بن مسهر وقال أحمد رحمه الله إن كان روى هذا الحديث غير علي وإلا فليس بشيء ومنهم من قال: إن كانت البهيمة
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 23، 24. أبو داود في كتاب الحدود باب 108. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 13. أحمد في مسنده 1/217.(3/340)
مما تؤكل ذبحت وإن كانت مما لا تؤكل لم تذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة فإن قلنا إنه يجب قتلها وهي ما يؤكل ففي أكلها وجهان: أحدهما: أنه يحرم لأن ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع والثاني: أنه يحل أكلها لأنه حيوان مأكول ذبحه وهو من أهل الذكاة وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص بالذبح إذا قلنا أنها تؤكل لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها.
فصل: وإن وطئ امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأنه إيلاج في فرج محرم ولا شبهة له فيه فأشبه إذا كانت حية والثني أنه لا يجب لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد.
فصل: ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل فحرم كاللواط فإن فعل عزر ولم يحد لأنها مباشرة محرمة من غير إيلاج فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج. وبالله التوفيق.(3/341)
باب إقامة الحدود
لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أومن فوض لأنه لم يقم حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الإجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام ولا يلزم الإمام أن يحضر إقامة الحد ولا أن يبتدئ بالرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه ولا أنه رماهم بنفسه فإن ثبت الحد على عبد بإقراره ومولاه حر مكلف عدل فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" 1. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت وهل له أن يغربه فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرب إلا الإمام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 33. أحمد في مسنده 1/145.(3/341)
فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" 1. فأمر بالجلد دون النفي والثاني: وهو المذهب أن له من يغرب لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك ولأن من ملك الجلد ملك النفي كالإمام وإن ثبت عليه الحد بالبينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يقيم عليه الحد وهو المذهب لأنا قد جعلناه في حقه كالإمام وكذلك في إقامة الحد عليه بالبينة والثاني: أنه لا يجوز لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود وذلك إلى الحاكم فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير إذنه وهل له أن يقطعه في السرقة؟ فيه وجهان: أحدهما: أحدهما: أنه لا يملك لأنه لا يملك من جنس القطع ويملك من الجلد وهو التعزير والثاني: أنه يملك وهو المنصوص في البويطي لحديث علي كرم الله وجهه لأن ابن عمر قطع عبداً له سرق وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت ولأنه حد فملك السيد إقامته على مملوكه كالجلد وله أن يقتله بالردة على قول من ملك إقامة الحد على العبد وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل والصحيح أن له أن يقتله لأن حفصة رضي الله عنها قتلت أمة لها سحرتها والقتل بالسحر لا يكون إلا في كفر ولأنه حد فملك المولى إقامته على المملوك كسائر الحدود وإن كان المولى فاسقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يملك إقامة الحد لأنه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها كتزويج الأمة والثاني: أنه لا يملكه لأنه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية الحاكم وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد لأن الشافعي بأن فاطمة رضي الله عنها جلدت أمة لها زنت وقال أبوعلي بن أبي هريرة لا يجوز لها لأنها ولاية على الغير فلا تملكها المرأة كولاية التزويج فعلى هذا فيمن يقيم وجهان: أحدهما: أنه يقيمه وليها في النكاح قياساً على تزويج أمتها والثاني: أنه يقيمه عليها الإمام لأن الأصل في إقامة الحد هو الإمام فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الأصل وإن كان للمولى مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة.
فصل: المستحب أن يحضر إقامة الحد جماعة لقوله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] والمستحب أن يكونوا أربعة لأن الحد يثبت بشهادتهم فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحاً قوياً والزمان معتدل أقام الحد ولا يجوز تأخيره فإن القرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد لما روي عن عبد الله بن
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 66. في كتاب الحدود حديث 30. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 13.(3/342)
مسعود أنه قال: ليس في الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الأعضاء ويتوقى الوجه المواضع المخوفة لما روى هنيدة بن خالد الكندي أنه شهد علياً كرم الله وجهه أقام على رجل حداً وقال للجلاد: اضربه وأعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره وعن عمر أنه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبا بها واضرباها ولا تخرقا لها جلداً ولأن القصد الردع دون القتل وإن كان الحر شديداً أو البرد شديداً أو كان مريضاً مرضاً يرجى برؤه أو كان مقطوعاً أو أقيم عليه حد آخر ترك إلى أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد لأنه إذا أقيم عليه الحد في هذه الأحوال أعان على قتله وإن كان نضو الخلق لا يطيق الضرب أو مريضاً لا يرجى برؤه جمع مائة شمراخ فضرب به دفعة واحدة لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه ذكر لهم ذلك وقال استفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك يا رسول الله لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط لأنه يتلف به ولا يمكن تركه لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد قال الشافعي رحمه الله: ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع وقد بيناه في القصاص.
فصل: وإن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز فيها اقامته فهلك منه لم يضمن لان الحق قتله وإن أقيم في الحال التي لا تجوز إقامته فان كانت حاملاً فتلف منه الجنين وجب الضمان لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره وإن تلف المحدود فقد قال: إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه وقال في الأم: إذا ختن في شدة حر أو برد فتلف وجبت على عاقلته الدية فمن أصحابنا: من نقل جواب كل واحدة من(3/343)
المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجب لأنه مفرط ومنهم من قال لا يجب الضمان في الحد لأنه منصوص عليه ويجب في الختان لأنه ثبت بالاجتهاد وإن قلنا إنه يضمن ففي القدر الذي يضمن وجهان: أحدهما: أنه يضمن جميع الدية لانه مفرط والثاني: انه يضمن نصف الدية لأنه مات من واجب ومحظور فسقط النصف ووجب النصف.
فصل: وإن وجب التغريب نفي إلى مسافة يقصر فيها الصلاة لأن ما دون ذلك في حكم الموضع الذي كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على الخف ثلاثة أيام فإن رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذي نفي إليه فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة وبين العودة إلى موضعه وإن رأى الإمام أن ينفيه الى أبعد من المسافة التي يقصر فيها الصلاة كان له ذلك لأن عمر رضي الله عنه غرب إلى الشام وغرب عثمان رضي الله عنه الى مصر وإن رأى أن يزيد على سنة لم يجز لأن السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: يغرب الى حيث ينطلق عليه اسم الغربة وإن كان دون ما تقصر إليه الصلاة لأن القصد تعذيبه بالغربة وذلك يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة إلا في صحبة ذي رحم محرم أو امرأة ثقة في صحبة مأمونة وإن لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع بالخروج معها استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان من أصحابنا من قال: يستأجر من مالها لأنه حق عليها فكانت مؤنته عليها وإن لم يكن لها مال استؤجرت من بيت المال ومن أصحابنا من قال: يستأجر من بيت المال لأنه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بيت المال فإن لم يكن في بيت المال ما يستأجر به استؤجر من مالها.
فصل: وإن كان الحد رجماً وكان صحيحاً والزمان معتدل رجم لأن الحد لا يجوز تأخيره من غير عذر وإن كان مريضاً مرضاً يرجى زواله أو الزمان مسرف الحر أو البرد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يؤجل رجمه لان القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض منه والثاني: أنه يؤخر لأنه ربما رجع في خلال الرجم وقد أثر في جسمه الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله وإن كان امرأة حاملاً لم ترجم حتى تضع لأنه يتلف الجنين.
فصل: فان كان المرجوم رجلاً لم يحفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ولأنه ليس بعورة وإن كان امرأة حفر لها لما روى بريدة قال: جاءت امرأة من غامد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا فأمر فحفر لها حفرة الى صدرها ثم أمر برجمها لأن ذلك أستر لها.(3/344)
فصل: وإن هرب المرجوم من الرجم فإن كان الحد ثبت بالبينة اتبع ورجم لأنه لا سبيل الى تركه وإن ثبت بالإقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد الخدري قال: جاء ماعز الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الأخر زنى وذكر إلى أن قال اذهبوا بهذا فارجموه فأتينا به مكاناً قليل الحجارة فلما رمينا اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتى بناحرة كثيرة الحجارة فقام ونصب نفسه فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله فهلا خليتم عنه حين سعى من بين أيديكم". وإن وقف وأقام الإقرار رجم وإن رجع عن الإقرار لم يرجم لأن رجوعه مقبول. وبالله التوفيق.(3/345)
باب حد القذف
القذف محرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات".
فصل: إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد محصناً ليس بولد له بوطء يوجب الحد وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان مملوكاً جلد أربعين لما روى يحيى بن سعيد الانصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين جلدة فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال: ادركت الناس من زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين(3/345)
قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وروى خلاس أن علياً كرم الله وجهه قال في عبد قذف حراً نصف الحد ولأنه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا.
فصل: وإن قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يجلد والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة عن الزنا فإن قذف صغيراً أو مجنوناً لم يجب به عليه الحد لأن ما يرمي به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف كما لو قذف بالغاً عاقلاً بما دون الوطء وإن قذف كافراً لم يجب عليه الحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". وإن قذف مملوكاً لم يجب عليه الحد لأن نقص الرق يمنع كمال الحد فيمنع وجوب الحد على قاذفه وإن قذف زانياً لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فأسقط الحد عنه إذا ثبت أنه زنى فدل أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد وإن قذف من وطئ في غير ملك وطئاً محرماً لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ في نكاح مختلف في صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأنه وطء محرم لم يصادف ملكاً فسقط به الإحصان كالزنا والثاني: أنه وطء لا يجب به الحد فلم يسقط به الإحصان كما لو وطئ زوجته وهي حائض.
فصل: وان قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب عليه الحد لعموم الآية والمذهب الأول لأنه عقوبة تجب لحق الآدمي فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالإرث عن أمه وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لأن حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد.
فصل: وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان المقذوف لأنه شرط في الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأن البلوغ والعقل معلوم بالنظر غليه والظاهر الحرية والإسلام والعفة وإن قال القاذف: أمهلني لأقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام لأنه قريب لقوله تعالى: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] .(3/346)
فصل: وإن قذف محصنا ثم زنى المقذوف أو وطئ وطئاً زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف وقال المزني وأبو ثور: لا يسقط لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزاني وحريته وهذا خطأ لان ما ظهر من الزنا يوقع شبهة في حال القذف ولهذا روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: والله ما زنيت إلا هذه المرة فقال له عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة والحد يسقط بالشبهة وأما ردة المقذوف ففيها وجهان: أحدهما: أنها تسقط الحد والثاني: أنها لا تسقط لأن الردة تدين والعادة فيها الإظهار وليس كذلك الزنا فإنه يكتم فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله وأما ثيوبة الزاني وحريته فإنها لا تورث شبهة في بكارته ورقه في حال الزنا.
فصل: ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية فالصريح مثل ان يقول زنيت أويا زاني والكناية كقوله يا فاجر أويا خبيث أويا حلال بن الحلال فإن نوى به القذف وجب به الحد لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق وإن لم ينوبه القذف لم يجب به الحد سواء كان ذلك في حال الخصومة او غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفاً من غير نية كالكناية في الطلاق والعتاق.
فصل: وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لأنه قذفه بوطء يوجب الحد فأشبه بالزنا وإن قال يا لوطي وأراد به أنه على دين قوم لوط لم يجب الحد لأنه يحتمل ذلك وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد وإن قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن تكون زانية ولا يكون هو زانياً بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهي تعلم أنه أجنبي ولأنه يجوز أن تكون قد قصدت نفي الزنا كما يقول الرجل لغيره سرقت فيقول معك سرقت ويريد أني لم أسرق كما لم تسرق ويجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فقد زنيت وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى مني لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى مني لأن المغلب في الجماع فعل الرجل وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس لم يكن قذفاً من غير نية لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا في امر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما: فيه بمزية وما ثبت أن فلاناً زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم وإن قال فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه.(3/347)
فصل: وإن قال لامرأته يا زاني فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليها وأسقط الهاء للترخيم كقولهم في مالك يا مال وفي حارث يا حار وإن قال لرجل يا زانية فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة كقولهم علامة ونسابة وشتامة ونوامة فإن قال: زنأت في الجبل فليس بقذف من غير نية لأن الزنء هو الصعود في الجبل والدليل عليه قول الشاعر:
وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل
وإن قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان: احدهما: أنه قذف لأنه لم يقرن به ما يدل على الصعود والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة رحمه الله أنه إن كان من أهل اللغة فليس بقذف وإن كان من العامة فهو قذف لأن العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت.
فصل: وإن قال زنى فرجك او دبرك أو ذكرك فهو قذف لأن الزنا يقع بذلك وإن قال زنت عينك او يدك أو رجلك فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو قذف وهو ظاهر ما نقله المزني رحمه الله لأنه أضاف الزنا الى عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج ومنهم من قال: ليس بقذف من غير نية وخطأ المزني في النقل لأن الزنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه" 1. فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف من غير نية لان الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن صريحاً في القذف والثاني: أنه قذف لأنه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه وإن قال لا ترد يد لامس لم يكن قاذفاً لما روى أن رجلاً من بني فزارة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن امرأتي لا ترد يد لامس ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم قاذفاً. وإن قال زنى بك فلان وهو صبي لا يجامع مثله لم يكن قاذفاً لأنه لا يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليه وإن كان صبياً يجامع مثله فهو قذف لانه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها وإن قال لامرأته زنيت بفلانة أوزنت بك فلانة لم يجب به الحد لان ما رماها به لا يوجب الحد.
فصل: وإن اتت امرأته بولد فقال ليس مني لم يكن قاذفاً من غير نية لجواز أن يكون معناه ليس مني خلقاً أو خلقا أومن زوج غيري أومن وطء شبهة او مستعار وإن نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن فلان لم يكن قذفاً لأنه صادق في الظاهر أنه ليس منه لأنه منفي عنه قال الشافعي رحمه الله: إذا اقر بنسب ولد فقال له
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/343، 344.(3/348)
رجل لست بابن فلان فهو قذف وقال في الزوج إذا قال للولد الذي أقر به لست بابني أنه ليس بقذف واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن أراد القذف فهو قذف في المسألتين وإن لم يرد القذف فليس بقذف في المسألتين وحمل جوابه في المسألتين على هذين الحالين ومن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما: أنه ليس بقذف فيها لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان او لست بابني خلقاً او خلقاً والثاني: أنه قذف لأن الظاهر منه النفي والقذف ومن أصحابنا من قال: ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبي لأن الأب يحتاج إلى تأديب ولده فيقول: لست بابني مبالغة في تأديبه والاجنبي غير محتاج إلى تأديبه فجعل قذفا منه.
فصل: وإن قال لعربي يا نبطي فإن أراد نبطي اللسان أو نبطي الدار لم يكن قذفاً وإن أراد نفي نسبه من العرب ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف لأن الله تعالى علق الحد على الزنا فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وشهادة الأربعة يحتاج إليها في إثبات الزنا والثاني: أنه يجب به الحد لما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا حد إلا في اثنين قذف محصنة ونفي رجل من أبيه.
فصل: ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف من غير نية عزر لأنه آذى من لا يجوز أذاه وإن قال لامرأته استكرهت على الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه يعزر لأنه يلحقها بذلك عار عند الناس والثاني: أنه لا يعزر لأنه لا عار عليها في الشريعة بما فعل بها مستكرهة.
فصل: وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالأذى فهو حق للمقذوف يستوفي إذا طالب به ويسقط إذا عفى عنه والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول تصدقت بعرضي". والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفي إلا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص وإن قال لغيره اقذفني فقذفه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه حق له فسقط بإذنه(3/349)
كالقصاص والثاني: أنه يجب عليه الحد لأن العار يلحق بالعشيرة فلا يملك إلا بإذن فيه وإذا أسقط الإذن وجب الحد ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن يستوفي إلا بحضرة السلطان لأنه يحتاج الى الاجتهاد ويدخله التخفيف فلو فرض الى المقذوف لم يؤمن أن يحيف للتشفي.
فصل: وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث وفيمن يرثه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرثه جميع الورثة لأنه موروث فكان لجميع الورثة كالمال والثاني: أنه لجميع الورثة إلا لمن يرث بالزوجية لأن الحد يجب لدفع العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لأنه لا تبقى زوجية والثالث أنه يرثه العصبات دون غيرهم لأنه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح وإن كان له وارثان فعفى احدهما: ثبت للآخر جميع الحد لأنه جعل للردع ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله عز وجل للردع وإن لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه السلطان.
فصل: وإن جن من له الحد او التعزير لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه لأنه حق يجب للتشفي ودرك الغيظ فأخر الى الإفاقة كالقصاص وإن قذف مملوكاً كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال فلم يكن للسيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتت الأمة تحت عبد وغن مات المملوك ففي التعزير ثلاثة أوجه: أحدها أنه يسقط لأنه لا يستحق عنه بالإرث فلا يستحق المولى لانه لو ملك بحق الملك لملك في حياة والثاني: أنه للمولى لأنه حق ثبت للمملوك فكان المولى احق به بعد الموت كمال المكاتب والثالث أنه ينتقل الى عصباته لانه حق ثبت لنفي العار فكان عصباته احق به.
فصل: وإن قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة فلا يجوز أن يكونوا كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد لأن الحد يجب لنفي العار ولا عار على المقذوف لأنا نقطع(3/350)
بكذبه ويعزر للكذب وإن كانت جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة نظرت فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل واحد منهم حد وإن قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان: قال في القديم: يجب حد واحد لأن كلمة نقذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة وقال: في الجديد: يجب لكل واحد منهم حد وهو الصحيح لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان من أصحابنا من قال: هي على قولين كما لو قذف رجلين أو امرأتين ومنهم من قال: يجب حد واحد قولاً واحداً لأن القذف ههنا بزنا واحد والقذف هناك بزناءين فإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما: قبل الآخر وتشاحا قدم السابق منهما لأن حقه أسبق وإن وجب عليه لهما في حالة واحدة بأن قذفهما معاً وتشاحا أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما: على الآخر فقدم بالقرعة وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان ومن حضر منهما وطلبت بحدها حد لها وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبدأ بحد البنت لأنه بدأ بقذفها والثاني: هو المذهب أنه يبدأ بحد الأم لأن حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه لأن عند أبي حنيفة لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد ولأن حد الأم آكد لأنه لا يسقط إلا بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم آكدهما.
فصل: وإن وجل حدان على حر لاثنين فحد لأحدهما: لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الأول لأن الموالاة بينهما تؤدي إلى التلف وإن كان الحدان على عبد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز الموالاة بينهما كما لوكانا على حر والثاني: أنه يجوز لأن الحدين على العبد كالحد الواحد.
فصل: وإن قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانياً بذلك الزنا عزر للأذى ولم يحد لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضي الله عنه ثم أعاد القذف وأراد أن يجلده فقال له علي كرم الله وجهه: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك فترك عمر رضي الله عنه جلده ولأنه قد حصل التكذيب بالحد وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه حدان لأنه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون والثاني: يلزمه حد واحد وهو الصحيح لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فتداخلا كما لو زنى ثم زنى وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافة إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأن اللعان في حق الزوج كالبينة ولو أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها والثاني: أنه(3/351)
يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في الحالة التي يوجد فيها وما بعدها وما يسقط فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به وإن قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبي وجب الحد لأن اللعان يسقط الإحصان في حق الزوج لأنه بينة يختص بها فأما في حق الأجنبي فهي باقية على إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها وإن قذفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدت ثم قذفها الاجنبي بذلك الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه قذفها بزنا حدت فيه فلم يجب كما لو أقيم عليها الحد بالبينة والثاني: أنه يجب لأن اللعان يختص به الزوج فزال به الإحصان في حقه وبقي في حق الأجنبي.
فصل: إذا سمع السلطان رجلاً يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لأن المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ولأن الحد يدرأ بالشبهة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا سترته بثوبك يا هزال" وإن قال سمعت رجلاً يقول إن فلاناً زنى لم يحد لأنه ليس بقاذف وإنما هو حاك ولا يسأله عن القاذف لأن الحد يدرأ بالشبهة وإن قال زنى فلان فهل يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به فلزم الإمام إعلامه كما لوثبت له عنده مال لا يعلم به فعلى هذا إن سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد وإن صدقه حد المقذوف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". والوجه الثاني أنه لا يلزم الإمام إعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحد بالشبهات".
فصل: إذا قذف محصناً وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المقذوف مع يمينه أنه لا يعلم أنه مجنون لأن الأصل عدم الجنون وإن علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين في المقذوف إذا قده ثم اختلفا في حياته: أحدهما: أن القول قول المقذوف لأن الأصل الصحة والثاني: أن القول قول القاذف لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل حمى الظهر ولأن الحد يسقط بالشبهة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعت ولأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" 1.
فصل: وإن عرض بالقذف أنه أراد قذفه وأنكر القاذف فالقول قوله لأن ما يدعيه محتمل والاصل براءة ذمته.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 2.(3/352)
فصل: وإن قال لمحصنة زنيت في الوقت الذي كنت نصرانية أو أمة فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لأنه أضاف القذف إلى حال هي فيها غير محصنة وإن قال لها زنيت ثم قال أردت في الوقت الذي كنت فيه نصرانية أو أمة وقالت المقذوفة بل أردت قذفي في هذا الحال وجب الحد لأن الظاهر أنه أراد قذفها في الحال فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو أمة وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف لأن الأصل بقاء الشرك والرق وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت المرأة ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤها على الإسلام وإن قذف مجهولة وادعى أنها أمة أو نصرانية وأنكرت المرأة ففيه طريقتان ذكرناهما في الجنايات.
فصل: وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر فشهد شاهدان أنه قذفها جاز أن يلاعن لأن إنكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا لأنه يقول إنما أنكرت القذف وهو الرمي بالكذب وما كذبت عليها لأني صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالاً فقال المدعى عليه مالك عندي شيء فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف لأن إنكاره لا يمنع الإيداع لأنه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شيء.(3/353)
باب حد السرقة
ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الإسلام نصاباً من المال الذي يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع والدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ولأن السارق يأخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه ولولم يجب القطع عليه لأدى ذلك إلى هلاك الناس بسرقة أموالهم ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس قطع ومن انتهب نهنة مشهورة فليس منا" 1. ولأن المنتهب والمختلس يأخذان المال على وجه يمكن انتزاعه منه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 14. الترمذي في كتاب النكاح باب 29. النسائي في كتاب النكاح باب 60. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 3.(3/353)
بالاستعانة بالناس وبالسلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع ولا يجب على من جحد امانة أو عارية لأنه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم يحتج إلى القطع.
فصل: ولا يجب على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها وهل يجب على السكران فيه قولان ذكرناهما في الطلاق ولا يجب على مكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن ما أوجب عقوبة الله عز وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر ولا تجب على الحربي لأنه لم يلتزم حكم الإسلام وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما في السير.
فصل: ولا يجب فيما دون النصاب والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب قوم بالذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم غيره به وإن سرق ربع مثقال من الجلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه قولان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ربع دينار وهذا قيمته دون ربع دينار والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لأن الخلاص يقع عليه اسم الدينار وإن لم يصرف لأنه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة وإن نقب اثنان حرزاً وسرقا نصابين قطعا لأن كل واحد منهما سرق نصاباً وإن أخرج أحدهما: نصابين ولم يخرج الآخر شيئاً قطع الذي أخرج دون الآخر لأنه هو الذي انفرد بالسرقة فإن اشتركا في سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما وقال أبو ثور يجب القطع عليهما كما لو اشترك رجلان في القتل وجب القصاص عليهما وهذا خطأ لأن كل واحد منهما لم يسرق نصاباً ويخالف القصاص فإنا لولم نوجب على الشريكين جعل الاشتراك جعل الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وليس كذلك السرقة فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين في سرقة النصاب لم يصر الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القطع لأنهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد لقلة ما يصيب كل واحد منهما فإذا اشتركا في نصابين أوجبنا القطع وإذا نقب حرزاً وسرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمناً آخر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس أنه يجب القطع لأنه سرق نصاباً من حرز مثله فوجب(3/354)
عليه القطع كما لو سرقه في دفعة واحدة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجب القطع لأنه سرق تمام النصاب من حرز مهتوك والثالث وهو قول أبي علي بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثاني بعد ما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لأنه سرق من حرز اشتهر خرابه وإن سرق قبل أن يشتهر خرابه قطع لأنه سرق من قبل ظهور خرابه.
فصل: ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلاً من مزينة قال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح وليس في الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما اخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع فأسقط القطع في الماشية غلا ما أواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين فدل على أن الحرز شرط في إيجاب القطع ويرجع في الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزاً فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه حرزاً لم يقطع بالسرقة منه لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق في البيع وإحياء الموات فإن سرق مالاً مثمناً كالذهب والفضة والخز من البيوت أو الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها اغلاق وجب القطع لأن ذلك حرز مثله وإن لم يكن دونها أغلاق فإن كان في الموضع حافظ مستيقظ وجب القطع لأنه محرز به وإن(3/355)
لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع لأنه غير محرز فإن سرق من بيوت في غير العمران كالرباطات التي في البرية والجواسق التي في البساتين فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأن المال لا يحرز فيه من غير حافظ وإن كان فيها حافظ فإن كان مستيقظاً قطع السارق مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأنه محرز به وإن كان نائماً فإن كان مغلقاً قطع لأنه محرز وإن كان مفتوحاً لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق متاع الصيادلة والبقالين من الدكاكين في الأسواق ودونها أغلاق أو درابات وعليها قفل أو سرق أواني الخزف ودونها شرايح القصب فإن كان الأمن ظاهراً قطع السارق لأن ذلك حرز مثله وإن قل الأمن فإن كان في السوق حارس قطع لأنه محرز به وإن لم يكن حارس لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق باب دار أو دكان قطع لأن حرزه بالنصب وإن سرق حلقة الباب وهي مسمرة فيه قطع لأنها حرزة بالتسمير في الباب وإن سرق آجر الحائط قطع لأنه محرز بالتشريج في البناء وإن سرق الطعام أو الدقيق في غرائر شد بعضها إلى بعض في موضع البيع قطع على المنصوص فمن أصحابنا من قال: إن كان في موضع مأمون في وقت الأمن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شيء منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لأن العادة تركها في موضع البيع ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق والذي نص عليه الشافعي رحمه الله في غير المغلق وإن سرق حطباً شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه قطع لأنه محرز بالشد وإن كان متفرقاً لم يقطع لأنه غير محرز ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دنه باب مغلق مجتمعاً كان أو متفرقاً وإن سرق أجزاعاً ثقالاً مطروحة على أبواب المساكن قطع لأن العادة فيها تركها على الأبواب.
فصل: وإن نبش قبراً وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة وإن كان في مقبرة تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه". ولأن القبر حرز للكفن وإن كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على(3/356)
الخمسة لم يقطع لأن ما زاد على الخمسة ليس بمشروع في الكفن فلم يجعل القبر حرزاً له كالكيس المدفون معه وإن أكل السبع الميت وبقي الكفن ففيه وجهان: أحدهما: أنه ملك للورثة يقسم عليهم وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي علي الطبري لأن ذلك المال ينتقل اليهم بالإرث وإنما اختص الميت بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم والثاني: أنه لبيت المال لأنهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده.
فصل: وإن نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى صفوان بن أمية أنه قدم المدينة فنام في المسجد متوسداً رداءه فجاءه سارق فأخذ الرداء من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فقال صفوان إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأنه محرز به وإن زحف عنه في النوم فسرق لم يقطع لأنه زال الحرز فيه وإن ضرب فسطاطاً وترك فيه مالاً فسرق وهو فيه أو على بابه نائم أو مستيقظ قطع لأن عادة الناس إحراز المتاع في الخيم على هذه الصفة وإن لم يكن صاحبه معه لم يقطع السارق لأنه لا يترك الفسطاط بلا حافظ.
فصل: وإن كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ماله قطع لأنه سرق من حرزه وإن نام أو اشتغل عنه أو جعله خلغه بحيث يناله اليد فسرق لم يقطع لأنه سرقه من غير حرز وإن علق الثياب في الحمام ولم يأمر الحمامي بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامي لأنه لا يلزمه حفظها ولا يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز لأن الحمام مستطرق وإن أمر الحمامي بحفظها فسرقت فإن كان الحمامي مراعياً له لم يضمن لأنه لم يفرط ويقطع السارق لأنه سرق من حرز وإن نام الحمامي أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامي لأنه فرط في الحفظ ولم يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز.
فصل: فإن سرق ماشية من الرعي نظرت فإن كان الراعي ينظر إليها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لأنها في حرز وإن سرق والراعي نائم أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لأن الحرز بالحفظ وما لا يراه غير محفوظ وإن سرق مالاً يبلغها صوته لم يقطع لأنها تجتمع وتفترق بصوته وإذا لم يبلغها صوته لم تكن في حفظه فلم يجب القطع بسرقته وإن سرق ماشية سائرة أو جمالاً مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر(3/357)
إليها جميعها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع لأنها محرزة به وإن سرق ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه في الراعية وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا زجرها وأكثر الإلتفات إليها قطع لأنها محرزة بالقائد وإن سرق مالاً ينظر إليه إذا التفت أولا يبلغه صوته أولم يكثر الإلتفات إليها لم يقطع لأنه سرق من غير حرز وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لأنها محرزة بحفظه وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لأنها غير محرزة وإن كانت معقلة قطع لأن عادة الجمال إذا نام أن يعقلها وإن كان على الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال لأن العادة ترك الأحمال على الجمال.
فصل: ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله فإن دخل الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه فأخرج المال قطع وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز قطع لأنه هو الذي أخرجه فإن أخرجه ولم يأخذه منه الآخر فرده إلى الحرز لم يسقط القطع لأنه وجب القطع بالإخراج فلم يسقط بالرد وإن بط جيبه أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزاً فيه طعام فانثال قطع لأنه خرج بفعله وإن كان في الحرز ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن تركه في ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه وإن حركه غيره لم يقطع لأنه لم يخرج بفعله وإن تفجر الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه سبب لخروجه والثاني: أنه لا يقطع لأن خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله وإن وضع المال في النقب في وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج الحرز قطع كما لو تركه في ماء جار وإن وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه في ماء راكد فتفجر الماء فخرج به فإن وضع المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن خرج الجمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير والثاني: أنه لا يقطع لأنه سار باختياره وإن ثقب الحرز وأمر صغيراً لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع لأن الصغير كالآلة وإن دخل الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه استهلكها في الحرز ولهذا يجب عليه قيمتها فلم يقطع كما لو اخذ طعاماً فأكله والثاني: أنه يقطع لأنه أخرجه من الحرز في وعاء فأشبه إذا جعلها في جيبه ثم خرج وإن أخذ طيباً فتطيب به ثم خرج فإن لم يمكن أن يجتمع منه قدر النصاب لم يقطع لأنه استهلكه في الحرز(3/358)
فصار كما لو كان طعاماً فأكله وإن أمكن أن يجتمع منه النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن استعمال الطيب إتلاف له فصار كالطعام إذا أكله في الحرز والثاني: أنه يقطع لأن عينه باقية ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده.
فصل: ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز فإن سرق جذعاً أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض ولهذا لو كان في طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه فإذا لم يجب القطع فيما بقي من الحرز لم يجب فيما خرج منه وإن ثقب رجلان حرزاً فأخذ أحدهما: المال ووضعه على باب الثقب وأخذه الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهما القطع لأنا لولم نوجب القطع عليهما صار هذا طريقاً إلى إسقاط القطع والثاني: أنه لا يقطع واحد منهما وهو الصحيح لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز وإن نقب أحدهما: الحرز ودخل الآخر وأخرج المال ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالمسألة قبلها ومنهم من قال لا يجب القطع قولاً واحداً لأن أحدهما: نقب ولم يخرج المال والآخر أخرج المال من غير حرزه.
فصل: وإن فتح مراحاً فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه قطع لأن الغنم مع اللبن في حرز واحد فصار كما لو سرق نصاباً من حرزين في بيت واحد.
فصل: فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت مقفل فيه مال ففتح بيتاً وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لأنه أخرج المال من حرزه وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت إلى الصحن فإن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاً لم يقطع لأن ما في البيت محرز بباب الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مغلقاً قطع لأن المال محرز بالبيت دون الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مفتوحاً لم يقطع لأن المال غير محرز وإن كان باب البيت مغلقاً وباب الدار مغلقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن البيت حرز لما فيه فقط كما لوكان باب الدار مفتوحاً والثاني: أنه لا يقطع لأن البيت المغلق في دار مغلقة حرز في حرز فلم يقطع بالإخراج من أحدهما: كما لو كان في بيت مقفل في صندوق مقفل فأخرج المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت.
فصل: وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلاً فأنزله في مشربة له(3/359)
فوجد متاعاً له قد اختانه فيه فأتى به أبا بكر رضي الله عنه فقال: خل عنه فليس بسارق وإنما هي أمانة اختانها ولأنه غير محرز عنه فلم يقطع فيه وإن سرقه من بيت مقفل قطع لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلاً قدم المدينة فكان يكثر الصلاة في المسجد وهو أقطع اليد والرجل فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما ليلك بليل سارق فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم فجعل الرجل يدعوا على من سرق أهل هذا البيت الصالح فمر رجل بصائغ فرأى عنده حلياً فقال: ما أشبه هذه الحلي بحلي آل أبي بكر فقال للصائغ: ممن اشتريته فقال: من ضيف أبي بكر فأخذ فأقر فجعل أبو بكر رضي الله عنه يبكي فقالوا: ما يبكيك من رجل سرق فقال أبكي لغرته بالله تعالى فأمر به فقطعت يده ولأن البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه.
فصل: ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر والسرجين سواء سرقه من مسلم أومن ذمي لأن القطع جعل لصيانة الأموال وهذه ليست الأشياء ليست بمال فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن ما فيه تجب إراقته ولا يجوز إقراره فيه والثاني: أنه يقطع لأن سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه كما لو سرق إناء فيه بول.
فصل: وإن سرق صنماً أو بربطاً أو مزماراً فإن كان إذا فصل لم يصلح لغير معصية لم يقع لأنه لا قيمة لما فيه من التأليف وإن كان إذا فصل يصلح لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقطع لأنه مال يقوم على متلفه والثاني: أنه لا يقطع لأنه آلة معصية فلم يقطع بسرقته كالخمر والثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة رحمه الله أنه إن أخرجه مفصلاً قطع لزوال المعصية وإن أخرجه غير مفصل لم يقطع لبقاء المعصية وإن سرق أواني الذهب والفضة قطع لأنها تتخذ للزينة لا للمعصية.
فصل: وإن سرق حراً صغيراً لم يقطع لأنه ليس بمال وإن سرقه وعليه حلي بقدر النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه قصد سرقة ما عليه من المال والثاني: أنه لا يقطع لأن يده ثابتة على ما عليه ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع كما لو سرق جملاً وعليه صاحبه وإن سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الأموال والثاني: أنه لا يقطع لأن معنى المال فيها(3/360)
ناقص لأنه لا يمكن نقل الملك فيها وإن سرق عيناً موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين في أم الولد وإن سرق من غلة وقف على غيره قطع لأنه مال يباع ويبتاع وإن سرق الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه يباع ويبتاع والثاني: أنه لا يقطع لأنه لا يقصد إلى سرقته لكثرته.
فصل: ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روي أن عاملاً لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال قال: لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال إن له فيه سهماً ولم يقطعه وإن سرق ذمي من بيت المال قطع لأنه لا حق له فيه وإن كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع لأن بالتكفين به انقطع عنه حق سائر المسلمين وإن سرق من غلة وقف على المسلمين لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق منها غني قطع لأنه لا حق له فيها.
فصل: وإن سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قطع سارقاً سرق قبطية من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه وإن سرق مسلم من قناديل المسجد أومن حصره لم يقطع لأنه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق وإن سرقه ذمي قطع لأنه لا حق له فيها.
فصل: ومن سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أومن أبيه أوجده وإن علا لم يقطع وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فعم ولم يخص وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه والآية تخصها بما ذكرناه ومن سرق ممن سواهما من الأقارب قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا يقطع العبد بسرقة مال مولاه وقال أبو ثور: يقطع لعموم الآية وهذا خطأ لما روى السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق فقال مرآة امرأتي فقال له أرسله خادمكم أخذ متاعكم ولكن لو سرق من غيركم قطع ولأن يده كيد المولى بدليل أنه لوكان بيده مال فادعاه رجل كان القول فيه قول المولى فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى ولأن له في ماله(3/361)
شبهة في استحقاق النفقة فلم يقطع كالأب والابن وإن سرق من غيره قطع لقول عمر رضي الله عنه ولأنه لا شبهة له في مال غيره وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقطع لأن النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع بالسرقة كالإجارة والثاني: أنه لا يقطع لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة والثالث أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج لأن للزوجة حقاً في مال الزوج بالنفقة وليس للزوج حق في مالها ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الآخر لا يقطع عبده بسرقة ماله لقول عمر رضي الله عنه في سرقة غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخد متاعكم ولأن يد عبده كيده فكانت سرقته من ماله كسرقته.
فصل: وإن كان له على رجل دين فسرق من ماله فإن كان جاحداً له أو مماطلاً له لم يقطع لأن له أن يتوصل إلى أخذه بدينه وإن كان مقراً ملياً قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن غصب مالاً فأحرزه في بيت فنقب المغصوب منه البيت وسرق مع ماله نصاباً من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يقطع لأنه هتك حرزاً كان له هتكه لأخذ ماله والثاني: أنه يقطع لأنه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال الغاصب والثالث أنه إن كان ما سرقه متميزاً عن ماله قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن كان مختلطاً بماله لم يقطع لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع مما لا يجب فيه فلم يقطع وإن سرق الطعام عام المجاعة نظرت إن كان الطعام موجوداً قطع لأنه غير محتاج إلى سرقته وإن كان معدوماً لم يقطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قطع في عام المجاعة أو السنة ولأن له أن يأخذه فلم يقطع فيه.
فصل: وإن نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالاً للمستأجر قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا في هتك حرزه وإن نقب المعير الدار المستعارة وسرق منها مالاً للمستعير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن له أن يرجع في العارية فجعل النقب رجوعاً والثاني: وهو المنصوص أنه يقطع لأنه أحرز ماله بحرز بحق فأشبه إذا نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق مال المستأجر وإن غصب رجل مالاً أو سرقه وأحرزه(3/362)
فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه حرز لم يرضه مالكه والثاني: أنه يقطع لأنه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله.
فصل: وإن وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعد ما رفع إلى السلطان لم يسقط القطع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده فقال صفوان: إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأن ما حدث بعد وجوب الحد ولم يوجب شبهة في الوجوب فلم يؤثر في الحد كما لو زنى وهو عبد فصار حراً قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيباً قبل أن يحد وإن سرق عيناً قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط القطع لما ذكرناه وإن ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك للسارق أو قال كنت أبحته له سقط القطع لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إقراره وذلك شبهة فلم يجب معها الحد وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله وهبه منه أو أباحه له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه في حق المسروق منه لأنه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب لأنه يجوز أن يكون صادقاً وذلك شبهة فمنعت وجوب الحد وذكر أبو إسحاق وجهاً آخر أنه يقطع لأنا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى إلى أن لا يقطع سارق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا ثبت عليه الزنى بامرأة وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وإن أفضى ذلك إلى إسقاط حد الزنا وإن ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص في السرقة أنه لا يقطع حتى يحضر فيدعي وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو قول أبي العباس بن سريج رحمه الله أنه لا يقام عليه الحد في المسألتين حتى يحضر وما روي في حد الزنى سهو من الناقل ووجهه أنه يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته له ويقول مولى الأمة كنت وقفتها عليه والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه قبل الحضور والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيكون في المسألتين قولان: أحدهما: أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب شبهة والثاني: أن يحد لأنه وجب الحد في الظاهر فلا يؤخر والثالث وهو قول أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل أنه يحد الزاني ولا يقطع السارق على ما نص عليه لأن حد الزنا لا تمنع الإباحة من وجوبه والقطع في السرقة تمنع الإباحة من وجوبه وإن ثبتت السرقة والزنا بالإقرار فهو كما لو ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب ومن أصحابنا(3/363)
من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزاني في الإقرار وجهاً واحداً والصحيح أنه كالبينة وإذا قلنا أنه ينتظر قدوم الغائب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحبس لأنه قد وجب الحد وبقي الاستيفاء فحبس كما يحبس من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبي ويقدم الغائب والثاني: أنه إن كان السفر قريباً حبس إلى أن يقدم الغائب وإن كان السفر بعيداً لم يحبس لأن في حبسه إضراراً به والحق لله عز وجل فلم يحبس لأجله.
فصل: وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة فيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق قد سرق فأمر به فقطع فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا قال: لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد وروى عروة قال: شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتي السلطان قال: إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الحد لله فلا يجوز فيه العفو والشفاعة.
فصل: وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" 1. وإن سرق خامساً لم يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث أبي هريرة ما يجب عليه في أربع مرات فلو وجب في الخامسة قتل لبين ويعزر لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فعزر فيها.
فصل: وتقطع اليد من مفصل الكف لما روي عن أبي بكر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق فاقطعوا يمينه من الكوع ولأن البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه ويجب فيما زاد الحكومة وتقطع الرجل من مفصل القدم وقال أبو ثور: تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبي قال: كان علي كرم الله وجهه يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقباً ويقول أدع له ما يعتمد عليه والمذهب ما ذكرناه والدليل عليه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقطع القدم من مفصلها ولأن البطش بالقدم ويجب فيها الدية فوجب قطعه.
فصل: وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى فإن كانت له يمين عند السرقة فذهبت بآكلة أو جناية سقط الحد ولم ينتقل الحد إلى الرجل والفرق بين
__________
1 رواه النسائي في كتاب السارق باب 14.(3/364)
المسألتين أنه سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذي يقطع بعدها وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت لأن اسم اليد يقع عليها وإن لم يبق غير الرحة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل لأنه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لولم يبق منها شيء والثاني: أنه يقطع ما بقي لأنه بقي جزء من العضو الذي تعلق به القطع فوجب قطعه كما لو بقيت أنملة إن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها إذا قطعت انسدت عروقها قطعت وإن قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لأن قطعها يؤدي إلى أن يهلك.
فصل: وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة لما روى فضالة بن عبيد قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر فعلقت في رقبته ولأن في ذلك ردعاً للناس ويحسم موضع القطع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني" فقطع فأتى به فقال: "تب إلى الله تعالى" فقال تبت إلى الله تعالى فقال: "تاب الله عليك" والحسم هو أن يغلي الزيت غلياً جيداً ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم فإن ترك الحسم جاز لأنها مداواة فجاز تركها وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو في بيت المال لأنه من المصالح فإن قال أنا أقطع بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يمكن كما في القصاص والثاني: أنه يمكن لأن الحق لله تعالى والقصد به التنكيل وذلك قد يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمي للتشفي فكان الاستيفاء إليه.
فصل: وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو اعتقد أن قطعها يجزئ عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لأن الحق لله تعالى ومبناه على المساهلة فقامت اليسار فيه مقام اليمين والثاني: أنه لا يجزئه لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فعلى هذا إن كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص في يساره وإن قطعها وهو يعتقد أنها يمينه أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين وجب عليه نصف الدية.
فصل: إذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما: الآخر لأن الضمان يجب لحف الآدمي والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما: الآخر كالدية والكفارة.(3/365)
باب حد قاطع الطريق
من شهر السلاح وأخاف السبيل في مصر أوبرية وجب على الإمام طلبه لأنه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه السلطان لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب والمتعرض للزنا بالقبلة وإن أخذ نصاباً محرزاً بحرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعي عن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم الحدود لأنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل فإن لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى لأن ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده وإن أخذ دون النصاب لم يقطع وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين وهذا خطأ لأنه قطع يجب بأخذ المال فشرط فيه النصاب كالقطع في السرقة فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لأنه قطع يتعلق بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة.
فصل: وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولي الدم العفو عنه لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل ولم يأخذ المال قتل والحد لا يكون إلا حتماً ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل وإن جرح جراحة توجب القود فهل يتحتم القوم فيه قولان: أحدهما: أنه يتحتم لأن ما أوجب القود في غير المحاربة انحتم القود فيه في المحاربة كالقتل والثاني: أنه لا يتحتم لأنه تغليظ لا يتبعض في النفس فلم يجب فيما دون النفس كالكفارة.(3/366)
فصل: وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أصحابنا من قال: يصلب حياً ويمنع الطعام والشراب حتى يموت وحكى أبو العباس ابن القاص في التخليص عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال يصلب ثلاثاً قبل القتل ولا يعرف هذا للشافعي والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" 1. وإن كان الزمان بارداً أو معتدلاً صلب بعد القتل ثلاثاً وإن كان الحر شديداً وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلي عليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة رحمه الله: يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لأن في ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن وإن مات فهل يصلب فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يصلب لأن الصلب تابع للقتل وصفة له وقد سقط القتل فسقط الصلب والثاني: وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله أنه يصلب لأنهما حقان فإذا تعذر أحدهما: لم يسقط الآخر.
فصل: وإن وجب عليه الحد ولم يقع في يد الإمام طلب إلى أن يقع فيقام عليه الحد لقوله عز وجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى وجدوا فتقام عليهم الحدود.
فصل: ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال فأما من حضر ردءاً لهم أوعينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2. ويعزر لأنه أعان على معصية فعزر وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده.
فصل: إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم قطع القصاص سواء تقدم على أخذ المال أو تأخر لأن حق الآدمي آكد فإذا اندمل موضع القصاص قطع
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11.الترمذي في كتاب الديات باب 14. النسائي في كتاب الضحايا باب 22. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.
2 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11.(3/367)
اليد اليمنى والرجل اليسرى لأخذ المال ولا يوالي بينهما لأنهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال وقلنا إن القصاص يتحتم نظرت فإن تقدم أخذ المال سقط القطع الواج بسببه لأنه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد حق الآدمي وإذا قطع للآدمي زال ما تعلق الوجوب به لأخذ المال فسقط وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لأخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى لأنه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى.
فصل: وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فشرط في العفو عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة وهو انحتام القتل والصلب وقطع الرجل للآية وهل يسقط قطع اليد فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يسقط لأنه قطع عضو وجب بأخذ المال في المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع الرجل والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يسقط لأنه قطع يد لأخذ المال فلم يسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع السرقة.
فصل: فأما الحد الذي لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمي وهو حد القذف لم يسقط بالتوبة لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالقصاص وإن كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط بالتوبة لأنه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة كحد القذف والثاني: أنه يسقط وهو الصحيح والدليل علي قوله عز وجل في الزنا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 16] وقوله تعالى في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقوله صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب(3/368)
ما قبلها" 1. ولأنه حد خالص لله تعالى فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق فإن قلنا إنها تسقط نظرت فإن كانت وجبت في غير المحاربة لم تسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} ولقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} فعلق العفو بالتوبة والإصلاح ولأنه قد يظهر التوبة للتقية فلا يعلم صحتها حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق فيه بتوبته وإن وجبت عليه الحدود في المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول في الطاعة لأنه خارج من يد الإمام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية.
__________
1 رواه أحمد في مسنده 4/199، 204. بلفظ "الإسلام" بدل "التوبة".(3/369)
باب حد الخمر
كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:(3/369)
90] واسم الخمر يقع على كل مسكر والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" 1. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من التمر لخمراً وإن من البر لخمراً وإن من الشعير لخمراً وإن من العسل خمراً" 2. وروى سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" 3. وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" 4.
فصل: ومن شرب مسكراً وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد لما روى أبو ساسان قال: لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلي عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده قال: قم يا حسن فاجلده قال: فيم أنت وذاك ول هذا غيري قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت فقال: قم يا عبد الله بن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 73. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 9.
2 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 4.
3 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الدارمي في كتاب الأشربة باب 8. أحمد في مسنده 2/91، 167.
4 رواه أحمد في مسنده 6/71، 72.(3/370)
جعفر فاجلده فجلده وعلي كرم الله وجهه يعد ذلك فعد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وإن كان عبداً جلد عشرين لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم فقال علي كرم الله وجهه: تراه إذا سكر هذى وإذا هذ افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر بلغ صاحبك ما قال فجلد خالد ثمانين وإذا أتى بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين فإن جلده أربعين ومات لم يضمن لأن الحق قتله وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية لأن نصفه حد ونصفه تعزير وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية لأن الأسواط متماثلة فقسطت الدية على عددها وتخالف الجراحات فإنها لا تتماثل وقد يموت من جراحة ولا يموت من جراحات ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش من أسواط وإن أمر الإمام الجلاد أن يضرب في الخمر ثمانين فجلده إحدى وثمانين ومات المضروب فإن قلنا إن الدية تقسط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءاً لأجل الحد ووجب على الإمام أربعون جزءاً لأجل العزير ووجب على الجلاد جزء وإن قلنا أنه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نصفها لأجل الحد ويبقى النصف على الإمام نصفه وعلى الجلاد نصفه لأن الضرب نوعان مضمون وغير مضمون فسقط النصف بما ليس بمضمون ووجب النصف بما هو مضمون والثاني: أنه تقسط الدية أثلاثاً فسقط ثلثها بالحد وثلثها على الإمام وثلثها على الجلاد لأن الحد ثلاثة أنواع فجعل لكل نوع الثلث.(3/371)
فصل: ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب على ظاهر النص لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضربوه" قال فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض الناس أخزال الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا ولا يعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله" 1. ولأنه لما كان أخف من غيره في العدد وجب أن يكون أخف من غيره في الصفة وقال أبو العباس وأبو إسحاق يضرب بالسوط ووجهه ما روي أن علياً رضي الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد قال: فأخذ السوط فجعله حتى انتهى إلى أربعين سوطاً فقال له: أمسك وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطاً فمات ضمن لأنه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال والثاني: أنه يضمن جميع الدية لأنه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا ضربه بما يجرح فمات منه.
فصل: والسوط الذي يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد ولا يشد يده لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد.
فصل: ولا يقام الحد في المسجد لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد في المسجد ولأنه لا يؤمن أن يشق الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فيتنجس المسجد وإن أقيم الحد في المسجد سقط التمرض لأن النهي لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى الحد فلم يمنع صحته كالصلاة في الأرض المغصوبة.
فصل: إذا زنى دفعات حد للجميع حداً واحداً وكذلك إن سرق دفعات أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حداً واحداً لأن سببها واحد فتداخلت وإن اجتمعت عليه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 4، 5. أبو داود في كتاب الحدود باب 35. أحمد في مسنده 2/300.(3/372)
حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل لأنها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل وإن اجتمع عليه الجلد في حد الزنا والقطع في السرقة أوفي قطع الطريق قدم حد الزنا أو تأخر لأنه أخف من القطع فإذا تقدم أمكن استيفاء القطع بعده وإذا قدم القطع لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا وإن اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب أوحد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على تحد الزنا لأنهما أخف منه وأمكن للاستيفاء وإن اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقدم حد القذف لأنه للآدمي والثاني: أنه يقدم حد الشرب وهو الصحيح لأنه أخف من حد القذف فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول لأنه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف وإن اجتمع عليه حد السرقة والقطع في قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع الطريق ثم تقطع رجله لقطع الطريق وهل تجوز الموالاة بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه تجوز لأن قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما والثاني: أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد لأن قطع الرجل لقطع الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان فلا يوالي بين حديهما والأول أصح لأن اليد تقطع لقطع الطريق أيضاً فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان في غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه من الترتيب والتفريق بينهما فإذا فرغ من الحدود قتل وإن كان القتل في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يوالي بين الجميع والفرق بينه وبين القتل في غير المحاربة أن القتل في غير المحاربة غير متحتم وربما عفى عنه فتسلم نفسه والقتل في المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة والوجه الثاني أنه لا يوالي بينهما لأنه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن يموت في الثاني فيسقط ما بقي من الحدود.(3/373)
باب التعزير
من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة كمباشرة الأجنبية فما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية التي لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي عزر على حسب ما يراه السلطان لما روى عبد الملك بن عمير قال: سأل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث قال: هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد وروي عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة(3/373)
استخلف أبا الأسود الديلي فأتى بلص نقب حرزاً على قوم فوجدوه في النقب فقال: مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه فضربه خمسة وعشرين سوطاً وخلى عنه ولا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين وإن كان على عبد لم يبلغ به عشرين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ بما ليس بحد حداً فهو من المعتدين". وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً وروي عنه ثلاثين سوطاً وروي عنه ما بين الثلاثين إلى الأربعين سوطاً ولأن هذه العاصي دون ما يجب فيه الحد فلا تحلق بما يجب فيه الحد من العقوبة وإن رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود" 1. وروى عبد الله بن الزبير أن رجلاً خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة الذي يسقون به النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر". فقال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الأية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولولم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال.
فصل: وإن عزر الإمام رجلاً فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما من رجل أقمت عليه حداً فمات فأجد في نفسي أنه لا دية له
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 5. أحمد في مسنده 6/181.(3/374)
إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الأربعين ولأنه ضرب جعل إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته.
فصل: وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه فإن قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لأنه قطع إذنه وإن قطعها بغير إذنه فمات وجب عليه القصاص لأنه تعدى بالقطع وإن كان على رأس صبي أو مجنون لم يجز قطعها لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك فإن قطعت فمات منه نظرت فإن كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لأنها جناية يعدي بها وإن كان أباً أوجدا وجبت عليه الدية وإن كان ولياً غيرهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه والثاني: أنه لا يجب القود لأنه لم يقصد القتل وإنما قصد المصلحة فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة لأنها عمد خطأ. وبالله التوفيق.(3/375)
كتاب الأقضية
باب ولاية القضاء وأدب القاضي
القضاء فرض على الكفاية والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] وقوله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 49] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس وبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً ولأن الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت فإن كان خاملاً وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم وإن كان مشهوراً فإن كانت له كفاية كره له الدخول فيه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين" 1. ولأنه يلزمه بالقضاء حفظ
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الأحكام باب 1. أبو داود في كتاب الأقضية باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 1. أحمد في مسنده 2/230.(3/376)
الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه وإن كان فقيرا يرجوا بالقضاء كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لأنه يكتسب كفاية بسبب مباح وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الإمام أفضلهم وأورعهم وقلده فإن اختار غيره جاز لأنه تحصل به الكفاية وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لأنه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل يجوز للإمام أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ليس له إجباره لأنه فرض على الكفاية فلو أجبرناه عليه تعين عليه والثاني: أن له إجباره لأنه إذا لم يجبر بقي الناس بلا قاض وضاعت الحقوق وذلك لا يجوز.
فصل: ومن تعين عليه القضاء وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقاً لأنه فرض تغين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالاً من غير ضرورة فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه لأن القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها فجاز أن يأخذ عليه الرزق فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق لأنه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة فإن أخذ جاز لأنه لم يتعين عليه وإن لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي خرج برزمة إلى السوق فقيل ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي فأجروا له كل يوم درهمين وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم ومن كان غيناً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وبعث عمر رضي الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً وعبد الله بن مسعود قاضياً وعثمان بن حنيف ماسحاً وفرض لهم كل يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان ولأنه لما جاز للعامل على الصدقات أن يأخذ مالاً على العمامة جاز للقاضي أن يأخذ على القضاء ويدفع إليه مع رزقه شيء للقرطاس لأنه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الأجر لأنه يحتاج إليهم لإحضار الخصوم كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء ويكون ذلك من سهم المصالح لأنه من المصالح.
فصل: ولا يجوز أن يكون القاضي كافراً ولا فاسقاً ولا عبداً ولا صغيراً ولا معتوهاً لأنه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهداً فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً(3/377)
أولى ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة" 1. ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال لما يخاف عليهم من الإفتتان بها ولا يجوز أن يكون أعمى لأنه لا يعرف الخصوم والشهود وفي الأخرس الذي يفهم الإشارة وجهان كالوجهين في شهادته ولا يجوز أن يكون جاهلاً بطرق الأحكام لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو في الجنة وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في حكه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" 2. ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهولا يلزمهم الحكم فلأن لا يجوز أن لا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى ويكره أن يكون القاضي جباراً عسوفاً وأن يكون ضعيفاً مهيناً لأن الجبار يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته والضعيف يطمع فيه الخصم وينشط عليه ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة من غير عنف ولين من غير ضعف.
فصل: ولا يجوز ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فلا يجوز إلا من جهة الإمام فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكماً ليحكم بينهما جاز لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم واختلف قوله في الذي يلزم به حكمه فقال في أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم وهو قول المزني رحمه الله تعالى لأنا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلاً للقضاة وافتياتاً على الإمام ولأنه لما اعتبر تراضيهما في الحكم اعتبر رضاهما في لزوم الحكم والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي الذي ولاه الإمام واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه
__________
1 رواه أحمد في مسنده 5/50.
2 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3.(3/378)
التحكيم فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام ومنهم من قال: يجوز في الأموال فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز فيها التحكيم لأنها حقوق بنيت على الاحتياط فلم يجز فيها التحكيم.
فصل: ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد منهم في موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما: القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر وإلى أحدهما: في زمان وإلى الآخر في زمان آخر لأنه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد في حق واحد وزمان واحد فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين كالوكالة والثاني: أنه لا يجوز لأنهما قد يختلفان في الحكم فتقف الحكومة ولا تنقطع الخصومة.
فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} والحق ما دل عليه الدليل وذلك لا يتعين في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لأنه علقها على شرط وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
فصل: وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس حين بعثه إلى البحرين كتاباً وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عماراً أميراً وعبد الله قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً أشهد له على التولية(3/379)
شاهدين ليثبت بهما التولية وإن كان قريباً بحيث يتصل به الخبر في التولية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب الإشهاد لأنه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب الإشهاد لأنه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الإشهاد والمستحب للقاضي أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء لأنه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم والمستحب أن يدخل البلد يوم الإثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الإثنين والمستحب أن ينزل وسط البلد ليتساوى الناس كلهم في القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا التولية وما فوض إليه.
فصل: فإذا أذن له من ولاء أن يستخلف فله أن يستخلف وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه وإن لم يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضي فيه بنفسه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يجوز أن يستخلف لأنه ينظر في المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن الذي ولاه لم يرض بنظر غيره وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضي فيه بنفسه لكثرته جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه لأن تقليده لا يقدر عليه بنفسه أذن في الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه أذن له في استنابة غيره وهل له أن يستخلف فيما يقدر عليه أن يقضي فيه بنفسه فيه وجهان: أحدهما: أن له ذلك لأن ما جاز له أن يستخلف في البعض جاز أن يستخلف في الجميع كالإمام والثاني: أنه لا يجوز لأنه إنما أجيز له أن يستخلف فيما لا يقدر علي للعجز فوجب أن يكون مقصوراً على ما عجز عنه.
فصل: ولا يجوز أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله فإن فعل شيئاً من ذلك في غير عمله لم يعتد به لأنه لا ولاية له في غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية.
فصل: ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى خليفة له لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان رضي الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم وتحاكم علي كرم الله وجهه مع يهودي في درع إلى شريح ولأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لنفسه فلا يجوز أن يكون حاكماً لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل وقال أبو ثور: يجوز وهذا خطأ لأنه متهم في الحكم لهما كما يتهم في الحكم لنفسه وإن تحاكم إليه والده(3/380)
مع ولده فحكم لأحدهما: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبي والثاني: أنه يجوز لأنهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل وإن أراد أن يستخلف في أعماله والده وولده جاز لأنهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم في أعماله فجاز أن يستخلفهما للحكم في أعماله وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضياً لم يجز أن يختار والده أو ولده لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده.
فصل: ولا يجوز أن يرتشي على الحكم لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم". ولأنه أخذ مال على حرام فكان حراماً كمهر البغي ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدي إليه قبل الولاية لما روى أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منهما شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته" 1. فدل على أن ما أهدي إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية برحم أو مودة فإنه إن كانت له في الحال حكومة لم يجز قبولها منه لأنه لا يأخذ في حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه لم يجز له قبولها لأن الزيادة حدث بالولاية وإن لم يكن أكثر ولا أرفع مما كان يهد إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والأولى أن لا يقبل لجواز أن يكون قد أهدي إليه لحكومة منتظرة.
فصل: ويجوز أن يحضر الولائم لأن الإجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة وفي وليمة العرس وجهان: أحدهما: أنها فرض على الأعيان والثاني: أنها فرض على الكفاية ولا يخص في الإجابة قوماً دون قوم لأن في تخصيص بعضهم ميلاً وتركاً للعدل فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور في حق الجميع لأن الإجابة إلى الوليمة إما أن تكون سنة أو فرضاً على الكفاية أو فرضاً على الأعيان إلا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع المسلمين فوجب تقديم القضاء
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 24. مسلم في كتاب الإمارة حديث 26. أبو داود في كتاب الإمارة باب 11. أحمد في مسنده 5/423.(3/381)
فصل: ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب لقوله صلى الله عليه وسلم: "عائد المريض في مخوف من مخارف الجنة حتى يرجع" 1. وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سعداً وجابراً وعاد غلاماً يهودياً في جواره وعرض عليه السلام فأجاب وكان يصلي على الجنائر فإن كثرت عليه أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا إنها إذا كثرت عليه ترك الجميع أن الحضور في الولائم لحق أصحابنا فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل إلى من يحضره والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه.
فصل: ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا". وقال شريح: شرط علي غضبان ولأنه إذا باشر ذلك بنفسه لم يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من ينوب عنه ولا يكون معروفاً به فإن عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه فإن لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه لأنه لا بد له منه فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه لأنه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه.
فصل: ولا يقضي في حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا في حال الحزن والفرح ولا يقضي والنعاس يغلبه ولا يقضي والمرض يقلقه ولا يقضي وهو يدافع الأخبثين ولا يقضي وهو في حر مزعج ولا في برد مؤلم لما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي للقاضي أن يقضي بين اثنين وهو غضبان" 2. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان
__________
1 رواه مسلم في كتاب البر الحديث 39. أحمد في مسنده 5/276.
2 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 13. مسلم في كتاب الأقضية حديث 16. أبو داود في كتاب الأقضية باب 9. الترمذي في كتاب الأحكام باب 7.(3/382)
ريان". ولأن في هذه الأحوال يشتغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وإن حكم في هذه الأحوال صح حكمه لأن الزبير ورجلاً من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: وأن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال للزبير: "اسق زرعك واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك". فحكم في حال الغضب.
فصل: والمستحب أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب من غير عذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره". والمستحب أن يكون المجلس فيسحاً حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز وأن يكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة منتنة لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وإياك والقلق والضجر وهذه الأشياء تفضي إلى الشجر وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الأحوال صح الحكم كما يصح في حال الغضب ويكره أن يجلس للقضاء في المسجد لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم وبيعكم" 1. ولأن الخصومة يحضرها اللغط والسفه فينزه المسجد عن ذلك ولأنه قد يكون الخصم جنباً أو حائضاً فلا يمكنه المقام في المسجد للخصومة فإن جلس في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما لما روى الحسن البصري قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان رضي الله عنه قد ألقى رداءه ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما وإن جلس في البيت لغير الكم فحضره خصمان لم يكره أن يحم بينهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: اختصم إلى
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب المساجد باب 5.(3/383)
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتي.
فصل: وإن احتاج إلى أجرياء لإحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء ويوصيهم بالرفق بالخصوم ويكره أن يتخذ حاجباً لأنه لا يؤمن أن يمنع من له ظلامة أو يقدم خصماً على خصم فإن دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أميناً بعيداً من الطم ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً لأن يرفأ كان حاجب عمر والحسن البصري كان حاجب عثمان وقنبر كان حاجب علي كرم الله وجهه ولأن الإمام ينظر في جميع المصالح فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل فيه كل أحد.
فصل: ويستحب أن يكون له حبس لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً واتخذ علي كرم الله وجهه سجناً وحبس عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر فقال:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
فخلاه وحبس عمر آخر فقال:
يا عمر الفاروق طال حبسي ... ومل مني إخواتي وعرسي
في حدث لم تقترنه نفسي ... والأمر أضوأ من شعاع الشمس
ولأنه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين ويستحب أن يكون له درة للتأديب لأن عمر رضي الله عنه كانت له درة يؤدب بها الناس.
فصل: وإن احتاج إلى كاتب اتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب منهم علي بن(3/384)
أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ومن شرطه أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لأنه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله وهل من شرطه أن يكون مسلماً عدلاً؟ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافراً لأن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر رضي الله عنه وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما بطل به حقوقهم ولا يجوز أن يكون فاسقاً لأنه لا يؤمن أن يخون والوجه الثاني أن ذلك يستحب لأن ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضي ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة.
فصل: ولا يتخذ شهوداً معينين لا تقبل شهادة غيرهم لأن في ذلك تضييقاً على الناس وإضراراً بهم في حفظ حقوقهم ولأن شروط الشهادة لا تختص بالعينين فلم يجز تخصيصهم بالقبول.
فصل: ويتخذ قوماً من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت عدالته من الشهود وينبغي أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء بينهم وبين الناس بعداء من العصبية في نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدواً أو صديقاً لأن العدو يظهر القبيح ويخفي الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفي القبيح وإن شهد عنده شاهد نظرت فإن علم عدالته قبل شهادته وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل في العدالة والفسق بعلمه وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسألة عن إسلامه ولا يعمل(3/385)
في إسلامه بظاهر الدار كما يعمل في إسلام اللقيط بظاهر الدار لأن أعرابياً شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه ولأنه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع في إسلامه إلى قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الأعرابي وإذا جهل حريته ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله لأن الظاهر من الدار حرية أهلها كما أن الظاهر من الدار إسلام أهلها ثم يثبت الإسلام بقوله فكذلك الحرية والثاني: وهو الأظهر أنها لا تثبت بقوله والفرق بينها وبين الإسلام أنه يملك الإسلام إذا كان كافراً فقبل إقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبداً فلم يقبل إقراراه بها وإن جهل عدالته لم يحكم حتى ثبتت عدالته لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ولا يعلم أنه مرضي قبل السؤال وروى سليمان عن حريث قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر رضي الله عنه: إني لست أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأي شيء تعرفه قال: بالعدالة قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال: لا قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع قال: لا قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل له على مكارم الأخلاق قال: لا قال: لست تعرفه ثم قال للرجل ائتني بمن يعرفك ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً فلا يحكم بشهادته وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه حتى لا يشتبه بغيره ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته ولومن والد أو ولد ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدواً لا يقبل شهادته عليه ويذكر قدر ما يشهد به لأنه قد يكون ممن يقبل قوله في قليل ولا يقبل قوله في كثير ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد أن لا يكون أصحاب المسائل معروفين عند الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم ولا عند المسؤولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء في الجرح ولا الأصدقاء في التعديل ويجتهد أن لا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى على التواطؤ على الجرح والتعديل قال الشافعي رحمه الله: ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين ووجهه أنه شهادة فاعتبر فيها العدد واختلف أصحابنا هل(3/386)
يحكم القاضي في الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو بمن عدل أو جرح من الجيران فقال أبو إسحاق: يحكم بشهادة الجيران لأنهم يشهدون بالجرح والتعديل فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من أصحاب المسائل ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح ثم يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله في العدد على الجيران وقال أبو سعيد الإصطخري يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل فعلى هذا لا يجوز أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران واحداً إذا وقع في نفوسهم صدقه ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى في العدد على أصحاب المسائل وإن بعث اثنين فعادا بالجرح حكم بالجرح وإن عادا بالتعديل حكم بالتعديل وإن عاد أحدهما: بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح ولا تعديل ويبعث ثالثاً فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وإن شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لأن شاهدي الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدي العدالة يخبران عن أمر ظاهر فقدم من يخبر بالباطن كما لو شهد اثنان بالإسلام وشهد آخران بالردة وإن شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح لأن بينة الجرح كملت فقدمت على بينة التعديل ولا يقبل الجرح إلا مفسراً وهو أن يذكر السبب الذي به جرح ولأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح والتعديل إلى رأي الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يشهد بالجرح من يشهد من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة في الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الأقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع أو استفاض عنه ذلك بالخبر لأنه شهادة على علم فأما إذا قال بلغني أو قيل لي أنه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد به لقوله تعال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قال الشافعي رحمه الله: ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على ولي فمن أصحابنا من قال يكفي أن يقول هو عدل وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأن قوله عدل يقتضي أنه عدل عليه وله وما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الاستحباب ومنهم من قال لا يقبل حتى يقول عدل لي وعلي وهو قول(3/387)
أبي إسحاق لأن قوله عدل لا يقتضي العدالة على الإطلاق لأنه قد يكون عدلاً في شيء دون شيء وإذا قال عدل على ولي دل على العدالة على الإطلاق.
فصل: ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد لأن المقصود معرفة العدالة في الباطن ولا يعمل ذلك ممن لم يتقدم به معرفته ويقبل الجرح ممن تقدمت معرفته به وممن لم يتقدم معرفته لأنه لا يشهد في الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه.
فصل: وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لأن البحث عن العدالة لحق المشهود عليه وهو قد شهد له بالعدالة والثاني: أنه لا يحكم لأن حكمه شهادته حكم بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته.
فصل: وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب يحكم بشهادته ولم يسألة عن عدالته وإن كان بعد زمان طويل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بشهادته لأن الأصل بقاء العدالة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن عدالته لأنه مع طول الزمان يتغير الحال.
فصل: وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه وزمانه لما روي أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال: كنت جالساً عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاءه رجل فادعى على رجل حقاً فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السموات والأرض لقد كذا علي في الشهادة وكان محارب ابن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الطير لتخفق بأجنحتها وتمي بما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور(3/388)
لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار". فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا على رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا.
فصل: والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنياً ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشر عمر رضي الله عنه بالقتل وروى عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالاً من المهاجرين ورجالاً من الأنصار ودعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولي عمر رضي الله عنه وكان يدعوا هؤلاء النفر فإن اتفق ولا يقلد غيره لأنه مجتهد فلا يقلد وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة وقد بينا ذلك في كتاب الصلاة وإن اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به ثم بان له أنه أخطأ فإن كان ذلك بدليل مقطوع به كالنص والإجماع والقياس الجلي نقض الحكم لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبي موسى لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل ولأنه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه.
فصل: وإن ولي قضاء بلد وكان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ لأنه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم من بعض الرعية وإن كان يصلح للقضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لأن الظاهر أنها صحيحة فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز لأن فيه احتياطاً والثاني: أنه لا يجوز لأنه(3/389)
يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل يلزمه وإن تظلم منه متظلم فإن سأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لأنه ربما قصد أن يبتذ له ليحلف من غير حق وإن قال لي عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه على حكم أحضره وإن قال حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالاً والثاني: أنه لا يحضره حتى يقيم بينة بما يدعيه لأنه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم فإن حضر وقال ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لأنه أمين وهل يحلف فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يخلف لأنه عدل والظاهر أنه صادق والثاني: أنه يحلف لأنه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها وإن قال جار علي في الحكم نظرت فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم بما لا يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان ما أتلف على الذمي من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد لأنها لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لأحد حق ولا ملك لأنه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لأحد حق ولا ملك.
فصل: وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعوا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللهم أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي" 1 والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير المجالس ما استقبل به
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 103. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 18. أحمد في مسنده 6/322.(3/390)
القبلة" ولأنه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالأذان والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وهو متكئ على يساره فقال: هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوماً ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط في شيء رده عليه.
فصل: والمستحب أن يبدأ في نظرت بالمحبسين لأن الحبس عقوبة وعذاب وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين وينادي في البلدان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس فإن قال المحبوس حبست على دين وأنا معسر فإن ثبت إعساره أطلق وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى صاحب الدين أن له داراً وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هي لزيد سئل زيد فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين لأن إقراره يسقط بإكذابه وإن صدقه زيد نظرت فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع في الدين لأن له بينة ويداً بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد فقدمت بينة زيد وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لأن بينة صاحب الدين بطلت بإكذاب المحبوس وبقي إقرار المحبوس بالدار لزيد والثاني: أنه لا يحكم بها لزيد وتباع في الدين لأن بينة صاحب الدين شهدت للمحبوس بالملك وله بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت البينة في حقه ولم تسقط في حق صاحب الدين.
فصل: ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله وهم الأطفال فإذا ادعى رجل أنه وصي للميت لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم الوصية فإن أقام على ذلك بينة فإن كان عدلاً قوياً أقر على الوصية وإن كان فاسقاً لم يقر على الوصية لأن الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية وإن كان عدلاً ضعيفاً ضم إليه غيره ليتقوى به وإن أقام يبنة أن الحاكم الذي كان قبله أنقذ الوصية إليه أقره ولم يسأله عن عدالته لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل فإن كان(3/391)
وصياً في تفرقة ثلثه فإن لم يفرقه فالحكم في إقراره على الوصية على ما ذكرناه وإن كان قد فرقه فإن كان عدلاً لم يلزمه شيء وإن كان فاسقاً فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه شيء لأنه دفع الموصي به إلى مستحقه وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرم لأنه دفع الماس إلى مستحقه فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين والثاني: أنه يغرم ما فرق لأنه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق ما جعل تفرقته إلى غيره.
فصل: ثم ينظر في اللقطة والضوال وأمر الأوقاف العامة وغيرها من المصالح ويقدم الأهم فالأهم لأنه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم النظر فيها.(3/392)
باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود
إذا حضر الخصوم واحداً بعد واحد قدم الأول فالأول لأن الأول سبق إلى حق له فقدم على من بعده كما لو سبق إلى موضع مباح وإن حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم واشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب القديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن ثبت السبق لأحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لأن الحق له فجاز أن يؤثر به غيره كما لو سبق إلى منزل مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة لأنا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلاً وهم على الخروج قدموا لأن عليهم ضرراً في المقام ولا ضرر على المقيمين وحكى بعض أصحابنا فيه وجهاً آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم في الحضور وظاهر النص هو الأول وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثرلم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لأن في تقديمهم إضراراً بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر وإن تقدم إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما: على الآخر حقاً فقال المدعي قدم السابق بالدعوى لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم.
فصل: وعلى الحاكم أن يسوي بين الخصمين في الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء(3/392)
بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده" وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ولأنه إذا قدم أحدهما: على الآخر في شيء من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين القاضي ولأن ذلك أمكن لخطابهما وإن كان أحدهما: مسلماً والآخر ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في الدخول والإقبال عليهما والإسماع منهما والثاني: أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس وأجلس علياً كرم الله وجهه فيه فقال علي كرم الله وجهه لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسووا بينهم في المجالس" لجلست معه بين يديك ولا يضيف أحدهما: دون الآخر لما روي أن رجلاً نزل بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال له: ألك خصم قال: نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه" ولأن في إضافة أحدهم إظهار الميل وترك العدل ولا يسار أحدهما: ولا يلقنه حجة لما ذكرناه ولا يأمر أحدهما: بإقرار لأن فيه إضراراً به ولا بإنكار لأن فيه إضراراً بخصمه وإن ادعى أحدهما: دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه والثاني: أنه لا يجوز لأنه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته وله أن يزن عن أحدهما: ما عليه لأن في ذلك نفعاً لهما وله أن يشفع لأحدهما: لأن الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء(3/393)
شفعه وإن شاء لم يشفعه وإن مال قلبه إلى أحدهما: أو أحب أن يفلح أحدهما: على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لأنه لا يمكن التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية بينهن في المحبة والميل بالقلب.
فصل: ولا ينتهر خصماً لأن ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة وإن ظهر من أحدهما: لدد أو سوء أدب نهاه فإن عاد زبره وإن عاد عزره ولا يزجر شاهداً ولا يتعنته لأن ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفي ذلك تضييع للحقوق.
فصل: فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما: صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه إجابته لقوله تعال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه لأنه إذا لم يعده أدى ذلك إلى إبطال الحقوق فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره وإن كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن حاكم وهناك من يتوس بينهم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضي به ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعي دعواه لأنه لا مشقة عليه في الحضور فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلي بقيس بن(3/394)
مكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يوماً على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قتل دادويه ولأنا لولم نلزمه الحضور جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق فإن استعداه على امرأة فإن كانت برزة فهي كالجل لأنها كالرجل في الخروج للحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها وإن توجهت عليها يمين بعض إليها من يحلفها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع إقرارها ولم يكلفها الحضور.(3/395)
باب صفة القضاء
إذا حضر عند القاضي خصمان وادعى أحدهما: على الآخر حقاً يصح فيه دعواه وسأل القاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله مطالبة الخصم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للقاضي مطالبته لأن ذلك حق للمدعي فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لأن شاهد الحال يدل على الإذن في المطالبة فإن طولب لم يخل إما أن يقرأ أو ينكر أولا يقر ولا ينكر فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي لأن الحكم حق فلا يستوفيه من غير إذنه فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعي لا يعلم أن له إقامة البينة قال له القاضي ألك بينة وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى في غير دم فله أن يحلف المدعى عليه ولا يجوز للقاضي إحلافه إلا بمطالبة المدعي لأنه حق له فلا يستوفيه من غير إذنه وإن أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لأنها يمين قبل وقتها وللمدعي أن يطالب بإعادتها لأن اليمين الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه من اليمين وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أيتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي وقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو(3/395)
يمينه" قال إنه لا يتورع عن شيء فقال: "ليس له إلا ذلك" فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن ابتدأ وقال امتنعت لأنظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة ولا يمهل أكثر منها لأنها مدة كثيرة فإن لم يذكر عذراً لامتناعه جعله ناكلاً ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لأن الحق إنما يثبت بالإقرار أو البينة والنكول ليس بإقرار ولا بينة فإن بذلك اليمين بعد النكول لم يسمع لأن بنكوله ثبت للمدعي حق وهو اليمين فلم يجز إبطاله عليه فإن لم يعلم المدعي أن اليمين صارت إليه قال له القاضي أتحلف وتستحق وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق وروي أن المقداد استقرض من عثمان مالاً فتحاكما إلى عمر فقال المقداد هو أربعة آلاف وقال عثمان سبعة آلاف فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر: إنه أنصفك فلم يحلف عثمان فلما ولى المقداد قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف فقال عمر: لم لم تحلف فقال: خشيت أن يرافق ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى في نكول المدعي عليه مع يمين المدعي فقال في أحد القولين هما بمنزلة البينة لأنه حجة من جهة المدعي وقال في القول الآخر هما بمنزلة الإقرار وهو الصحيح لأن النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين ترتب عليه وله فصار كإقراره فإن نكل المدعي عن اليمين سئل عن سبب نكوله والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث لم يسأل عن سبب نكوله أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعي حق في رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال المدعى عليه وبنكول المدعي لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله فإن سئل فذكر أنه امتنع من اليمين لأن له بينة يقيمها وحساباً ينظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في المدة ويترك ما ترك المدعى عليه يتأخر حق المدعي في الحكم له وبترك المدعي لا يتأخر إلا حقه وإن قال امتنعت لأني لا أختار أن أحلف كم بنكوله فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل في هذه الدعوى لأنه أسقط حقه منها فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه وطلب يمينه حلف فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له لأنها يمين في غير(3/396)
الدعوى التي حكم فيها بنكوله فإن كان له شاهد واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه فإن أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له في هذا المجلس لأن اليمين انتقلت عنه إلى جنبة غيره فلم تعد إليه فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم الشاهد ويحلف معه لأن حكم الدعوى الأولى قد سقط وإن حلف المدعى عليه في الدعوى الأولى سقطت عنه المطالبة وإن نكل عن اليمين لم يقض عليه بنكوله وشاهد المدعي لأن للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي فلم يقض به مع النكول من غير يمين كاللوث في القسامة وهل ترد اليمين على المدعي ليحلف مع الشاهد فيه قولان: أحدهما: أنه لا ترد لأنها كانت في جنبته وقد أسقطت وصارت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعي فنكل فإنها لا ترد على المدعى عليه والقول الثاني: وهو الصحيح أنها ترد لأن هذه اليمين غير الأول لأن سبب الأولى قوت جنبة المدعي بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه واليمين الأولى لا يحكم بها إلا في المال وما يقصد به المال والثانية: يقضي بها في جميع الحقوق التي تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجباً لسقوط الأخرى فإن قلنا إنها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأنه تعين عليه ذلك وإن قلنا إنها ترد حلف مع الشاهد واستحق.
فصل: وإن كانت الدعوى في موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن ادعى على رجل ديناً ومات المدعي ولا وارث له غير المسلمين وأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الإصطخري: أحدهما: أنه يقضي بنكوله لأنه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لأنه لا يجوز أن يحلف عن المسلمين لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها على المسلمين لأنهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة والثاني: وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأن الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لأنه إما أن يكون صادقاً في إنكاره فلا ضرر عليه في اليمين أو كاذباً فيلزمه الإقرار وإن ادعى وصي ديناً لطفل في حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف لأنه لا يمكن(3/397)
رد اليمين على الوصي لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل في الحال لأنه لا يصح يمينه فوجب التوقف إلى أن يبلغ.
فصل: وإن كان للمدعي بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لأنها حجة لا تهمة فيها لأنها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لأنها من جهته ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعي لأنه حق له فلا يستوفي إلى بإذنه فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعناً في البينة العادلة وإن قال أبراني منه فحلفوه أنه لم يبرئني منه أو قضيته فحلفوه إني لم أقضه حلف لأنه ليس في ذلك قدح في البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه وإن كانت البينة غير عادلة قال له القاضي زدني في شهودك وإن قال المدعي لي بينة غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لأن الغائبة كالمعدومة لتعذر إقامتها فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها والحكم بها لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولأن البينة كالإقرار ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة وإن قال لي بينة حاضرة ولكني أريد أن أحلفه حلف لأنه قد يكون له غرض في إحلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر وإثبات الحق بالإقرار أقوى وأسهل من إثباته بالبينة وإن قال ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة أو قال كل بينة تشهد لي فهي كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنها لا تسمع لأنه كذبه بقوله والثاني: أنه إن كان هو الذي استوثق بالبينة لم تسمع لأنه كذبها وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لأنه لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لي إلى ما عنده والثالث أنها تسمع بكل حال وهو الصحيح لأنه يجوز أن يكون ما علم وإن علم فلعله نسي فرجع قوله لا بينة لي إلى ما يعتقده.
فصل: وإن قال المدعي لي بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وإن شهد له شاهدان عدلان عند الحاكم وهولا يعلم أن له دفع البينة بالجرح قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي وقد أطردتك جرحهما وإن كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت فإن(3/398)
قال المشهود عليه لي بينة بجرحهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام لأنه كثير وفيه إضرار بالمدعي وإن قال لي بينة بالقضاء أو الإبراء أمهل ثلاثة أيام فإن لم يأت بها حلف المدعي أنه لم يقضه ولم يبرئه ثم يقضي له لما ذكرناه وله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لأن الحق قد ثبت له في الظاهر وإن شهد له شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعي أن يحبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وهو ظاهر المذهب أنه يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم الفسق والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يحبس لأن الأصل براءة ذمته وإن شهد له شاهد واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يحبس كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود والثاني: أنه لا يحبس وهو الصحيح لأنه لم يأت بتمام البينة ويخالف إذا جهل عدالتهم لأن البينة تم عددها والظاهر عدالتها وقال أبو إسحاق: إن كان الحق مما يقضي فيه بالشاهد واليمين حبس قولاً واحداً لأن الشاهد الواحد حجة فيه لأنه يحلف معه.
فصل: وإذا علم القاضي عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعمله في قبوله ورده وإن علم حال المحكوم فيه نظرت فإن كان ذلك في حق الآدمي ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام للحضرمي: "شاهداك أو يمينه ليس له إلا ذلك" ولأنه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد النكاح به وحده والثاني: وهو الصحيح وهو اختيار المزني رحمه الله أنه يجوز أن يحكم بعلمه لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو(3/399)
سمعه" 1 ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى وإن كان ذلك في حق الله تعالى ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة أنها على قولين كحقوق الآدميين والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولاً واحداً لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره ودرئه والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "هلا سترته بثوبك يا هزال". فلم يجز الحكم فيه بعلمه.
فصل: وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثاً فإن لم يجب جعله ناكلاً وحلف المدعي وقضى له لأنه لا يخلوا إذا أجاب أن يقر أو ينكر فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول عن اليمين فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين.
فصل: وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمي لا يعرف لسانة لم يقبل في الترجمة إلا عدلين لأنه إثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل إلا من عدلين كالإقرار وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك في الترجمة وإن كان مما لا يقبل فيه إلا ذكرين لم يقبل في الترجمة إلا ذكرين فإن كان إقراراً بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنه يثبت بشاهدين والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة.
فصل: وإن حضر رجل عند القاضي وادعى على غائب عن البلد أو على حاضر فهرب أو على حاضر في البلد استتر وتعذر إحضاره فإن لم يكن بينة لم يسمع دعواه لأن استماعها لا يفيه وإن كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت بينته لأنا لولم نسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقاً إلى إسقاط الحقوق التي نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه إلا أن يحلف المدعي أنه لم يبرئ من الحق لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إقراء أو قضاء أو حوالة ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراء بشيء من ذلك
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 20. أحمد في مسنده 3/5، 19.(3/400)
سمعت دعواه وحلف عليه المدعي فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف عليه المدعي وإن ادعى على حاضر في البلد يمكن إحضاره ففيه وجهان: أحدهما: أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعي لأنه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد المستتر في البلد والثاني: أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب لأنه يمكن سؤاله فيه يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر في مجلس الحكم وإن ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه فإن كان له واره كان إحلاف المدعي إليه وإن لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضي له وإن كان على صبي سمعت البينة وقضى عليه بعدما يحلف المدعي لأنه تعذر الرجوع إلى جوابه فقضى عليه مع يمين المدعي كالغائب والمستتر وإن حكم على الغائب ثم قدم أو على الصبي ثم بلغ كان على حجته في المدح في البينة والمعارضة بينة يقيمها على لا قضاء أو الإبراء.
فصل: ويجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه لما روى الضحاك ابن قيس قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ولأن الحاجة تدعوا إلى كتاب القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما حكم به لينفذه فإن كان الكتاب فيما حكم به جاز قبول ذلك في المسافة القريبة والبعيدة لأن ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة ن لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود الكتاب كشاهد الأصل والشهود الذين يشهدون بما في الكتاب كشهود الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الأصل.
فصل: ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان وقال أبو ثور يقبل من غير شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله وهذا خطأ لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم وإذا أراد إنفاذ الكتاب أحضر شاهدين ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحذف منه شيء وإن لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعا وإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا تشهدان هذا الكتاب(3/401)
كتاب فلان إليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه وإن لم يقرآ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب إليك بهذا لم يجز لأنه ربما زور الكتاب عليهما وإن انكسر ختم الكتاب لم يضر لأن المعول على ما فيه وإن محى بعضه فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وإن لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لأنهما لا يعلمان ما امحى منه.
فصل: وإن مات القاضي الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به لأنه إن كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن ينفذه في كل حال وإن كان الكتاب بما ثبت عنده فالكاتب كشاهد الأصل وشهود الكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الأصل لا يمنع من قبول شهادة شهود الفرع إن فسق الكاتب ثم وصل كتابه فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر فسقه لأن الحكم لا يبطل بالفسق الحارث بعده وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز الحكم به لأنه كشاهد الأصل وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة شاهد الفرع وإن مات القاضي المكتوب إليه أو عزل أوولي غيره قبل الكتاب لأن المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه ومن تحمل شهادة وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته.
فصل: فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست فلان ابن فلان فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل أنه لا مطالبة عليه فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان فقال أنا فلان بن فلان إلا أني غير المحكوم عليه لم يقبل قوله إلا أن يقيم البينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به لأن الأصل عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة وإن أقام بينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم الكاتب إنك حكمت علي حتى لا يدعي علي ثانياً ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يلزمه لأنه لا يأمن أن يدعي ثانياً ويقيم عليه البينة فيقضي عليه ثانياً والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحاكم إنما يكتب ما حكم به أوثبت عنده والكاتب هو الذي حكم أوثبت عنده دون المكتوب إليه.(3/402)
فصل: إذا ثبت عند القاضي حق بالإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار لزمه ذلك لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه الإشهاد ليكون حجة له إذا أنكر وإن ثبت عنده الحق بيمين المدعي غير الإشهاد وإن ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعي الإشهاد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأن له بالحق بينة فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى والثاني: أنه يلزمه لأن في إشهاده على نفسه تعديلاً لبينته وإثباتاً لحقه وإلزاماً لخصمه فإن ادعى عليه حقاً فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى وإن سأله أن يكتب له محضراً في هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما ثبت به الحق فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب لأن عليه أن يكتب وليس عليه أن يغرم وإن كان عنده قرطاس من بيت المال أو أتاه صاحب الحق بقرطاس فهل يلزمه أن يكتب المحضر فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه وثيقة بالحق فلزمه كالإشهاد على نفسه والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون المحضر وإن سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على إنفاذه ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا على ما ذكرناه في كتب المحضر وما يكتب من المحاضر والسجلات يكتب في نسختين إحداهما تسلم إلى المحكوم له والأخرى تكون في ديوان الحكم فإن حضر عند القاضي رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما ثم سأل المحكوم له كتب محضر أو سجل كتب حضر إلي رجلان قال أحدهما: أنا فلان بن فلان وقال الآخر: أنا فلان بن فلان ويحليهما ويذكر ما جرى بينهما ويشهد على ذلك.
فصل: وإن اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على كل محضر اسم المتداعيين ويضم ما اجتمع منها في كل شهر أوفي كل سنة على قدر قلتها وكثرتها وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل عليه طلبته إذا احتاج إليه وإن حضر رجلان عند القاضي فادعى أحدهما: أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها فإن كان حكماً حكم به غيره لم يشمل به إلا أن يشهد به شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضي ولا يرجع في ذلك إلى الخط والختم فإنه يحتمل التزوير في الخط والختم وإن كان حكماً حكم هو به فإن كان ذاكراً للحكم به عالماً به عمل به وألزم الخصم حكمه وإن كان غير ذاكر لم يعمل به لأنه يجوز أن يكون قد زور على(3/403)
خطه وختمه وإن شهد اثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لأنه يشك في فعله فلا يرجع فيه إلى قول غيره ما لو شك في فرض من فروض صلاته فإن شهد الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به فإن شهد شاهدان أن الأول توقف في شهادتهما لم يجز للثاني أن ينفذ الحكم الذي شهدا به لأن الشهود فرع للحاكم الأول فإذا توقف الأصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع كما لو شهد شاهدان على شهادة شاهد الأصل ثم شهد شاهدان أن شاهد الأصل توقف في الشهادة.
فصل: إذا اتضح الحكم للقاضي بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح فإن لم يفعلا لم يجز تردادهما لأن الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم.
فصل: إذا قال القاضي حكمت لفلان بكذا قبل قوله لأنه يملك الحكم فقبل الإقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به وإن عزل ثم قال حكمت لفلان بكذا لم يقبل إقراره لأنه لا يملك الحكم فلم يملك الإقرار به وهل يكون شاهداً في ذلك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يكون شاهداً لأنه ليس فيه أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه وذلك لا يوجب رد شهادته كما لو قالت امرأة أرضعت هذا الصبي والثاني: وهو المذهب أنه لا يكون شاهداً لأن شهادته بالحكم تثبت لنفسه العدالة لأن الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة في هذه الهادة فلم تقبل وخالف المرضعة لأن شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة لنفسها لأن الرضاع يصح من غير عدل ولأن المغلب في الرضاع فعل المرتضع ولهذا يصح به دونها والمغلب في الحكم فعل الحاكم فيكون شهادته على فعله فلم يقبل. وبالله التوفيق.(3/404)
باب القسمة
تجوز قسمة الأموال المشتركة لقوله عز وجل: {وَإذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء: 8] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر بينهم وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة ولأن الشرطاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في ماله على الكمال ويتخلص من كثرة الأيدي وسوء المشاركة.
فصل: ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من أنفسهم بينهم ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة(3/404)
ليوصل كل واحد منهم إلى حقه كما يجب إن كان الحاكم عالماً ليحكم بينهم بالحق فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً لأنه نصيبه لألزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً كالحاكم فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين وإن كان فيها خرص ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون الخارص واحداً والثاني: أنه يجب أن يكون الخرص اثنين.
فصل: فإن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح لما روي أن علياً رضي الله عنه أعطى القاسم من بيت المال ولأنه من المصالح فكانت أجرته من سهم المصالح فإن لم يكن في بيت المال شيء وجبت على الشركاء على قدر أملاكهم لأنه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك كنفقة العبيد والبهائم المشتركة وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون فاسقاً وعبداً لأنه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لأنه أجير لهم.
فصل: وإن كان في القسمة رد فهو بيع لأن صاحب الرد بذل المال في مقابلة ما حصل له من حق شريكه عوضاً وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان: أحدهما: أنها بيع لأن كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه والقول الثاني أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين لأنها لو كانت بيعاً لم يجز تعليقه على ما تخرجه القرعة ولأنها لو كانت بيعاً لافتقرت إلى لفظ التمليك ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع فإن قلنا إنها بيع لم يجز فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار وإن قلنا إنها فرز النصيبين جاز وإن قسم الحبوب والأدهان فإن قلنا إنها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز في البيع وإن قلنا إنها فرز النصيبين لم يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالكيل والوزن وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة فإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز قسمتها خرصاً كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصاً وإن قلنا إنها تمييز الحقين فإن كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لأنها لا يصح فيها الخرص وإن كانت ثمرة النخل والكرم جاز لأنه يجوز خرصها للفقراء في الزكاة فجاز للشركاء.(3/405)
فصل: وإن وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا صاحب الطلق فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح وإن قلنا إنها تمييز الحقين نظرت فإن لم يكن فيها رد صحت وإن كان فيها رد فإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يتنازعون الطلق وإن كان من أصحاب الطلق لم يجز لأنهم يتنازعون الوقف.
فصل: وإن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن على واحد منهم ضرر في القسمة كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع لأن الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأخذ فوجبت إجابته إلى ما طلب وإن كان عليهما ضرر كالجواهر والثياب المرتفعة التي تنقص قيمتها بالقطع والرحى الواحدة والبشر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" 1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه وإن كان على أحدهما: ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها وقال أبو ثور رحمه الله: لا يجبر لأنها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر عليهما وهذا خطأ لأنه يطلب حقاً له فيه منفعة فوجبت الإجابة إليه وإن كان على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقضي به دينه وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجبر لأنه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما: فأجبر الممتنع كما لو كان الضرر على الممتنع دون الطالب والثاني: أنه لا يجبر وهو الصحيح لأنه يطلب مالا يستضر به فلم يجبر الممتنع ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لأنه يطلب ما ينتفع به وهذا يطلب ما يستضر به وذلك سفه فلم يجبر الممتنع.
فصل: وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة في بعضها نخل وفي بعضها شجر،
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 17. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 31. أحمد في مسنده 5/327.(3/406)
أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقي بالناضح وطلب أحدهما: أن يقسم بينهما أعياناً بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين قسم كل عين لأن كل واحد منهما له حق في الجميع فجاز له أن يطالب بحقه في الجميع وإن كان بينهما عضائد متلاصقة وأراد أحدهما: أن يقسم أعياناً وطلب الآخر أن يقسم كل واحد منهما على الإنفراد ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم أعياناً كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت والثاني: أنه يقسم كل واحدة منهما لأن كل واحدة على الإنفراد فقسم كل واحد منهما كالدور المتفرقة.
فصل: فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما: أن تقسم فيجعل العلو لأحدهما: والسفل للآخر وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع لأن العلو تابع للعرصة في القسمة ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما: القسمة وجبت القسمة ولو كان بينهما غرفة فطلب أحدهما: القسمة لم يجب ولا يجوز أن يجعل التابع في القسمة متبوعاً
فصل: وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولاً فيجعل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لأنه لا ضرر فيها وإن أرادا قسمتها عرضاً في كمال الطول واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة لأنه إذا أقرع بينهما ربما صار بهما مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الآخر ولا ينتفع به وكل قسمة لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التي فيها رد والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجبر عليها لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة كما لو أرادا أن يقسماها طولاً فإن كان بينهما حائط فأراد قسمته نظرت فإن أراد قسمته طولاً في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا بد من قطع الحائط وفي ذلك إتلاف والثاني: أنه يجبر وهو الصحيح لأنه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة فإن أرادا قسمته عرضاً في كمال الطول واتفقا عليها جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر لأن ذلك إتلاف وإفساد.
فصل: وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها قوي وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها يسقي بالسيح(3/407)
وبعضها بالناضح نظرت فإن أمكن التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما صار إلى الآخر من الجيد والرديء فطلب أحدهما: هذه القسمة أجبر الآخر عليها لأنها كالأرض المتساوية الأجزاء في إمكان التسوية بينهما فيها وإن لم تمكن التسوية بينهما في الجيد والرديء بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء في أحد النصفين دون الآخر نظرت فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الأرض ثلاثين جريباً وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوي في الزرع وتوقف القسمة إلى أن يتراضيا والقول الثاني: أنه يجبر لوجود التساوي بالتعديل فعلى هذا في أجرة القسام وجهان: أحدهما: أنه يجب على كل واحد منهما نصف الأجرة لأنهما يتسايان في أصل الملك والثاني: أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الأجرة وعلى صاحب العشرين ثلثاها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة وإن أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما: إلى قسمة التعديل ودعا الأخ إلى قسمة الرد فإن قلنا إن قسمة التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها لأن ذلك مستحق وإن قلنا لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على إحداهما.
فصل: وإن كانت بينهما أرض مزروعة وطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع وجبت القسمة لأن الزرع لا يمنع القسمة في الأرض فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار وإن طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع لم يجبر لأن الزرع لا يمكن تعديله فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذراً لم يجز قسمته لأنه مجهول وإن كان مما لا ربا فيه كالقصل والقطن جاز لأنه معلوم مشاهد وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لأنا إن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لأنه بيع أرض وطعام بأرض وطعام ولأنه قسمة مجهول ومعلوم وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين لم يجز لأنه قسمة مجهول ومعلوم.
فصل: وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما قسمتها أعياناً وامتنع الآخر فإن كانت متفاضلة لم يجبر الممتنع وإن كانت متماثلة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق وأبي سعيد الإصطخري أنه يجبر الممتنع وهو(3/408)
ظاهر المذهب لأنها متماثلة والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجبر الممتنع لأنها أعيان مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعياناً كالدور المتفرقة.
فصل: وإن كان بينهما منافع فأرادا قسمتها مهايأة وهو أن تكون العين في يد أحدهما: مدة ثم في يد الآخر مثل تلك المدة جاز لأن المنافع كالأعيان فجاز قسمتها كالأعيان وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع ومن أصحابنا من حكى فيه وجهاً آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان والصحيح أنه لا يجبر لأن حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة ويخالف الأعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد فإذا عقدا على مدة اختص كل واحد منهما بمنفعة تلك المدة وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت نفقته على من يستوفي منفعته وإن كسب العبد كسباً معتاداً في مدة أحدهما: كان لمن هو في مدته وهل تدخل فيها الأكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة والوصية فيه قولان: أحدهما: أنها تدخل فيها لأنه كسب فأشبه المعتاد والثاني: أنها لا تدخل فيها لأن المهايأة بيع لأنه يبيع حقه من الكسب في أحد اليومين بحقه في اليوم الآخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة والنادر لا يقدر على تسليمه في العادة فلم يدخل فيه فعلى هذا يكون بينهما.
فصل: وينبغي للقاسم أن يحصي عدد أهل السهام ويعدل السهام بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد فإن تساوى عددهم وسهامهم كثلاثة بينهم أرض أثلاثاً فله أن يكتب الأسماء ويخرج على السهام وله أن يكتب السهام ويخرج على الأسماء فإن كتب الأسماء كتبها في ثلاث رقاع في كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الأول فمن خرج اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث للشريك الثالث فإن كتب السهام كتب في ثلاث رقاع في رقعة السهم الأول وفي رقعة السهم الثاني وفي رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم أحد الشركاء أي سهم خرج أخذه ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر فأي سهم خرج أخذه الثاني ثم يتعين السهم الباقي للشريك الثالث وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها(3/409)
أسداساً وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداساً ويكتب الأسماء ويخرج على السهام فيأمر أن يخرج على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والذي يليه لأن له سهمين وتعين الباقي لصاحب النصف وإن خرجت الرقعة الأولى على اسم صاحب النصف أخذ السهم الأول واللذين يليانه وهو الثاني والثالث ثم يخرج على السهم الرابع فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والسهم الذي يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس لصاحب السدس وإنما قلنا إنه يأخذ مع الذي يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر به ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لأنا لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران بل نأخذه وسهمين بعده فيؤدي إلى الخلاف والخصومة.
فصل: وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما فقسم قسمة إجبار لم يعتبر تراضي الشركاء لأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتداء القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة فإن نصب الشريكان قاسماً فقسم بينهما فالمنصوص أنه يعتبر التراضي في ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة وقال في رجلين حكما رجلاً ليحكم بينهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما والثاني: أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لأنه نصبه الشريكان فيكون على قولين: أحدهما: وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى بعد خروج القرعة لأنه لما اعتبر الرضى في الإبتداء اعتبر بعد خروج القرعة والثاني: أنه لا يعتبر لأن القاسم مجتهد في تعديل السهام والإقراع فلم يعتبر الرضى بعد حكمه كالحاكم وإن كان في القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا بالتراضي وقال أبو سعيد الإصطخري: تلزم من غير تراض كقسمة الإجبار وهذا خطأ لأن في قسمته الإجبار لا يعتبر الرضى في الإبتداء وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة.
فصل: إذا تقاسما أرضاً ثم ادعى أحدهما: غلطاً فإن كان في قسمة إجبار لم يقبل قوله من غير بينة لأن القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة وإن كان في قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضي دون حقه ناقصاً وإن قسم بينهما قاسم نصباه فإن قلنا إنه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لأنه رضي بأخذ الحق ناقصاً وإن قلنا إنه لا يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة فهو كقسمة الإجبار فلا يقبل قوله إلا(3/410)
ببينة فإن كان في القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب وعلى قول أبي سعيد الإصطخري هو كقسمة الإجبار فلم يقبل قوله إلا ببينة.
فصل: وإن تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في المتبايعين وإن وجد أحدهما: بما صار إليه عيناً فله الفسخ كما قلنا في البيع.
فصل: إذا اقتسما أرضاً ثم استحق مما صار لأحدهما: شيء بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الآخر أمضيت القسمة وإن لم يستحق من حصة الآخر مثله بطلت القسمة لأن لمن استحق جزء مشاع بطلت القسمة في المستحق وهل تبطل في الباقي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يبني على تفريق الصفقة فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع وإن قلنا إنها تفرق صحت في الباقي والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولاً واحداً لأن القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لأن المستحق صار شريكاً لكل واحد منهما فبطلت القسمة.
فصل: وإذا قسم الوارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبني على بيع التركة قبل قضاء الدين وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين لم تنقض القسمة وإن قلنا إنها بيع ففي نقضها وجهان. والله أعلم.(3/411)
باب الدعوى والبينات
لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية لأن القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول فإن كان المدعي ديناً ذكر الجنس والنوع والصفة وإن ذكر قيمتها كان أحوط وإن كانت العين تالفة فإن كان لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها وإن كان المدعى سيفاً محلى أو لجاماً محلى فإن كان بفضة قومه بالذهب وإن كان بالذهب قومه بالفضة وإن محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما وإن كان المدعى مالاً عن وصية جاز أن يدعي مجهولاً لأن بالوصية يملك المجهول ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذي(3/411)
ملك به لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه وإن كان المدعى قتلاً لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره ويذكر صفة العمد لأن القتل لا يمكن تلافيه فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص وإن كان المدعى نكاحاً فقد قال الشافعي رحمه الله لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي وشاهدين ورضاها فمن أصحابنا من قال: لا يشترط لأنه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل الاستحباب كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم ومنهم من قال: إن ذلك شرط لأنه مبني على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل ومنهم من قال إن كان يدعي ابتداء النكاح لزمه ذكره لأنه شرط في الابتداء وإن كان يدعي استدامة النكاح لم يشترط لأنه ليس بشرط في الاستدامة وإن ادعت امرأة على رجل نكاحاً فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها وإن لم تدع حقاً سواه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج على المرأة فإذا ادعت المرأة كان ذلك إقراراً والإقرار لا يقبل مع إنكار المقر له كما لو أقرت له بدار والثاني: أنه تسمع لأن النكاح يتضمن حقوقاً لها فصح دعواها فيه وإن كان المدعى بيعاً أو إجارة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه ن لأن المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال والثاني: أنه يفتقر لأنه لا يقصد به غير المال وإن كان في جارية افتقر لأنه يملك به الوطء فأشبه النكاح وما لزم ذكره في الدعوى ولم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها.
فصل: وإن ادعى عليه مالاً مضافاً إلى سببه فإن ادعى عليه ألفاً اقترضه أو أتلف عليه فقال: ما أقرضني أو ما أتلفت عليه صح الجواب لأنه أجاب عما ادعى عليه وإن لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق علي شيئاً صح الجواب ولا يكلف إنكار ما ادعى عليه من القرض أو الإتلاف لأنه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه فإن أنكره كان كاذباً في إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله أنه قضاه أو أبرأه منه فيستضر به وإن أنكر الاستحقاق كان صادقاً ولم يكن عليه ضرر.
فصل: وإن ادعى على رجل ديناً في ذمته فأنكره ولم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى(3/412)
ناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه" 1 ولأن الأصل براءة ذمته فجعل القول قوله وإن ادعى عيناً في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه". ولأن الظاهر من اليد الملك فقبل قوله وإن تداعيا عيناً في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما: بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ولأن يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله كما لو كانت العين في يد أحدهما.
فصل: وإن تداعيا عيناً ولأحدهما: بينة وهي في يدهما أوفي يد أحدهما: أوفي غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه". فبدأ بالحكم بالشهادة ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما: قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما: قياس وإن كانت العين في يد أحدهما: فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم قام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه لأنا حكمنا للآخر ظناً منا أنه لا بينة له فإذا أتى بالبينة بان أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر.
فصل: وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أوفي يد غيرهما أولا يد لأحدهما: عليها تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان وهو الصحيح لأنهما حجتان تعارضتا ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالنصين في الحادثة فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما والثاني: أنهما يستعملان
__________
1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 3. مسلم في كتاب الأقضية حديث 1. النسائي في كتاب القضاة باب 36. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. أحمد في مسنده 1/343.(3/413)
وفي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال أحدها: أنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف أو يصطلحا لأن إحداهما صادقة والأخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما: بعد الآخر ونسي السابق منهما والثاني: أنه يقسم بينهما لأن البينة حجة كاليد ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة والثالث: أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما.
فصل: وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لأن الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان ولأنهما متساويتان في إثبات الحق وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر شاهداً وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لأنهما يتساويان في إثبات المال والقول الثاني أنه يقضى لمن له الشاهدان لأن بينته مجمع عليها وبينة الآخر مختلف فيها.
فصل: وإن كانت العين في يد غيرهما فشهد بينة أحدهما: بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان: قال في البويطي: هما سواء لأن القصد إثبات الملك في الحال وعما متساويتان في إثبات الملك في الحال والقول الثاني أن التي شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني هو الصحيح لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الأخرى وأما إذا كان الشيء في يد أحدهما: فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له وإن كان في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس رحمه الله يبنى على القولين في المسألة قبلها إن قلنا إنهما يتساويان حكم لصاحب اليد وإن قلنا إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضاً لأن الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد ومن أصحابنا من قال: يحكم به لمن هو في يده قولاً واحداً لأن اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما: بينة أنها ملكه نتجت في ملكه وأقام الآخر أنها دابته ولم يذكر المتقدم وفيها قولان لأن الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم وقال أبو إسحاق يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولاً واحداً لأن بينة النتاج تنفي أن يكون الملك لغيره والبينة بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له.(3/414)
فصل: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت في يده أوفي ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة وحكى البويطي أنه يحكم بها فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما: أنه يحكم بذلك لأنه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك والقول الثاني أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لأنه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها كما لو ادعى داراً فشهدت له البينة بدار أخرى وقال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولاً واحداً وما ذكره البويطي من تخريجه.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل داراً في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له لأنه مصدق فيما في يده وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له فإن طلب المدعي يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشيء في يده لغيره ثم أقر به لآخر وفيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يغرم للثاني والثاني: لا يلزمه فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لأنه ربما خاف أن يحلف فيقر للثاني فيغرم له وإن قلنا لا يلزمه لم يحلف لأنه إن خاف من اليمين فأقر للثاني لم يلزمه شيء فلا فائدة في تحليفه وإن كذبه المقر له ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها لأن الذي في يده لا يدعيها والمقر له أسقط إقراره بالتكذيب وليس للمدعي بينة فلم يبق إلا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يسلم إلى الدعي لأنه ليس ههنا من يدعيه غيره وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى وإن أقر بها لغائب ولا بينة وقف الأمر إلى أن يقدم الغائب لأن الذي في يده لا يدعيها ولا بينة تقضي بها فوجب التوقف فإن طلب المدعي يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين وإن كان للمدعي بينة قضي له وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لأنا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتاج أن يحلف لأنه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه وإن كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعي وتسلم إليه ولا يحكم ببينة المدعى عليه وإن كان معها يد لأن بينة صاحب اليد إنما يقضي بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم بنينته وحكى أبو إسحاق رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان المقر للغائب يدعي أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع(3/415)
بينته وإن كان يدعي أنها في يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها لأنه يدعي لنفسه حقاً فسمعت بينته فيصح الملك للغائب ويستوفي بها حقه من المنفعة وهذا خطأ لأنه إذا لم تسمع البينة في إثبات الملك وهو الأصل فلأن لا تسمع لإثبات الإجارة وهي فرع على الملك أولى وإن أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان: وأحدهما: أنه يقال له إقرارك لمجهول لا يصح فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلاً ويحلف المدعي ويقضي له والثاني: أن يقال له إما أن تقربها لمعروف أو نجعلك ناكلاً ولا يقبل دعواه لنفسه لأنه بإقراره لغيره نفي أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد.
فصل: إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لأنها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الأمة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له وإن شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمت بذلك وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين وقال سائر أصحابنا: يحكم بها ههنا قولاً واحداً وهناك على قولين والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت في الحال والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم يفتقر إلى إثبات الملك في الحال وإن ادعى غزلاً أو طيراً أو آجراً وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآجر من طينه قضي له لأن الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته.
فصل: إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذلك بينة قضى ببينة الابتياع لأن بينة الملك شهدت بالملك على الأصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.
فصل: وإن كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لأنه ابتاعها من مالكها وإن شهدت له البينة أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الاشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هي في يده لأنه قد يبيع الإنسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد.
فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده وأقام الذي في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له لأن الدار المستأجرة في مالك المؤجر وبيده وليس للمستأجر إلا الانتفاع فتصير كما لو كانت في يده(3/416)
وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه.
فصل: وإن تداعى رجلان داراً في يد ثالث فشهد لأحدهما: شاهدان أن الذي في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لأنه ثبت بالبينة أنه غاصب وإقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه.
فصل: إذا ادعى رجل أنه ابتاع داراً من فلان ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما: في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان لأنه ابتاعها وهي في ملكه والذي ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها وإن كان تاريخهما واحداً أو كان تاريخهما مطلقاً أو تاريخ أحدهما: مطلقاً وتاريخ الآخر مؤرخاً فإن كانت الدار في يد أحدهما: قضى له لأن معه بينة ويداً وإن كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً عل الانفراد وقضى له وإن أقر لأحدهما: سلمت إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعلت لهما نصفين وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الآخر على القولين وإن قلنا أنهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما: ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لأن الدار في يده فإذا أقر لأحدهما: فقد نقل يده إلي فتصير له يد وبينة وقال أكثر أصحابنا: لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لأن البينتين اتفقتا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: وإن ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة فإن كانت في يد أجنبي أوفي يد أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى من هو في يده فإن ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما وإن أقر لأحدهما: سلم إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه وهل يحلف للآخر على النصف الآخر على(3/417)
القولين وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: إنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإذا قلنا أنهما يسقطان رجع إلى قول من هي في يده فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لأحدهما: لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولاً واحداً لأنه لو أقر له بعد إقراره للأول لزمه له الألف لأنه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولاً واحداً وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم في القول الثاني ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين بأن شهدت بينة أحدهما: بعقد في رمضان وبينة أحدهما: في شوال لزمه الثمنان لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من أحدهما: ثم باعه واشتراه من الآخر في شوال وإن كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه الثمنان لأنه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه في وقتين مختلفين والثاني: أنهما يتعارضان فيكون على القولين لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان ويحتمل أن يكونا في وقت واحد والأصل براءة الذمة.
فصل: وإن ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق لأن بينة الملك شهدت بالأصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين لأن السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه وإن لم يعرف السابق منهما تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد وإن كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يميناً على الانفراد وإن صدق أحدهما: قضى لمن صدقه والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الأقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني: فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: قال في الأم: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد(3/418)
لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت وبينة الموت تثبت الموت وتنفي القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق والثاني: أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لأن بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل لأن المقتول ميت ومعها زيادة صفة وهي القتل فقدمت وإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لغانم: إن مت في رمضان فأنت حر وإن قال لسالم: إن مت في شوال فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة أنه مات في رمضان وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان لأن الموت في رمضان ينفي الموت في شوال والموت في شوال ينفي الموت في رمضان فيسقطان وبقي العبدان على الرق والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لأنه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت في رمضان وخفي ذلك على البينة الأخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم وإن قال لغانم إن مت من مرضي فأنت حر وقال لسالم: إن برئت من مرضي فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه وأقام سالم بينة بأنه بريء من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان لأن بينة أحدهما: أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والأخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقي العبدان على الرق.
فصل: وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أوفي مدة الإجارة فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ على ما ذكرناه في الفسخ في البيع وإن كان لأحدهما: بينة قضي له وإن كان لكل واحد منهما يبنة نظرت فإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالأول منهما لأن العقد الأول يمنع صحة العقد الثاني وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخاً واحداً أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضي له ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف ولا يجيء القول بالقسمة لأنهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أوفي قدر الأجرة قضي بالبينة التي توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفاً وشهدت بينة أن له عليه ألفين وهذا خطأ لأن الشهادة بالألف لا تنفي الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الأخرى تعارض وههنا أحد البينتين ينفي ما شهدت به البينة الأخرى لأنه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا.(3/419)
فصل: إذا ادعى رجلان داراً في رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما كالإرث عن ميت والابتياع في صفقة فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما: شاركه الآخر لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منهما ولهذا لو كان طعاماً فهلك بعضه كان هالكاً منهما وكان الباقي بينهما فإذا جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما وإن ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لأحدهما: بنصفها لم يشاركه الآخر لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء منه.
فصل: وإن ادعى رجلان داراً في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذي هي في يده بجميعها لأحدهما: نظرت فإن كان قد سمع من المقر له الإقرار للمدعي الآخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لأنه أقر بذلك فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجل بعين ثم صارت العين في يده وإن لم يسمع منه إقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع لأنه يجوز أن يكون لجميع له ودعواه للنصف صحيح لأن من له الجميع فله النصف ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى لأن على النصف بينة أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنتقل الخصومة إليه مع المدعي الآخر في النصف وإن قال الذي في يده الدار نصفها لي والنصف الآخر لا أعلم لمن هو ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يترك النصف في يده لأنه أقر لمن لا يدعيه فبطل الإقرار وبقي على ملكه والثاني: أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لأن الذي في يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال والثالث أنه يدفع إلى المدعي الآخر لأنه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى.
فصل: إذا مات رجل وخلف ابناً مسلماً وابناً نصرانياً وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة فإن عرف أنه كان نصرانياً نظرت فإن كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الإسلام لأن من شهد بالنصرانية شهد بالأصل والذي شهد بالإسلام شهد بأمر حادث خفي على من شهد بالنصرانية فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل فإن شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الإسلام وشهدت الأخرى بأنه مات وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لأن الظاهر معه والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له(3/420)
القرعة ورث وإن قلنا بالوقف وقف وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ في توريثهما وفي غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركاً بينهما فقسم وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيها قولان: أحدهما: أنهما تسقطان فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في يده المال وإن كان في يديهما كان بينهما وإن قلنا أنهما يستعملان فإن قلنا يقرع أقرع بينهما وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف وإن قلنا يقسم قسم وقال أبو إسحاق لا يقسم لأنه يتيقن الخطأ في توريثهما والمنصوص أنه يقسم وما قاله أبو إسحاق خطأ لأنه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه وهما نصرانيان: ثم أسلم أحدهما: وادعى أن أباه مات مسلماً ليأخذ الجميع ويغسل الميت ويصلي عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوي بالصلاة عليه وإن كان مسلماً كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار.
فصل: وإن مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات مسلماً وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الأب واختلفا في الآخر فقال: أسلمت أنا أيضاً قبل موت أبي فالميراث بيننا وأنكر الآخر فالقول قول المتفق على إسلامه لأن الأصل بقاؤه على الكفر ولو اتفقا على إسلامهما واختلفا في وقت موت الأب فقال أحدهما: مات أبي قبل إسلامك فالميراث لي وقال الآخر: بل مات بعد إسلامي أيضاً فالقول قول الثاني لأن الأصل حياة الأب وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال الأبوان مات كافراً وقال الابنان: مات مسلماً فقد قال أبو العباس يحتمل قولين: أحدهما: أن القول قول الأبوين لأنه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوماً بكفره إلى أن يعلم الإسلام والثاني: أن الميراث بوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الأمر لأن الولد إنما يتبع الأبوين في الكفر قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه ويحتمل أنه كان مسلماً ويحتمل أنه كان كافراً فوقف الأمر إلى أن ينكشف.
فصل: وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب وإن كان له دين في الذمة قبض الحاضر نصفه وفي نصيب الغائب وجهان: أحدهما: أنه يأخذه الحاكم ويحفظ عليه كالعين والثاني: أنه لا يأخذه لأن كونه(3/421)
في الذمة أحفظ له لا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لأن في ذلك قدحاً في البينة وإن لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثاً سواه لم يدفع إليه شيء حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه قال الشافعي رحمه الله: يأخذ منه ضميناً وقال في الأم: وأحب أن يأخذ منه ضميناً فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه يجب أخذ الضمين لأنه ربما ظهر وارث آخر والثاني: أنه يستحب ولا يجب لأن الظاهر أنه لا وارث له غيره ومنهم من قال: إن كان الوارث ممن يحجب كالأخ والعم وجب وإن كان ممن لا يحجب كالابن استحب لأن من لا يحجب يتيقن أنه وارث ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك ومن يحجب يشك في إرثه وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان الوارث غير مأمون وجب لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر وإن كان مأموناً لم يجب لأنه لا يضيع حق من يظهر وحمل القولين على هذين الحالين وإن كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل الفرضين ولا يؤخذ منه ضمين وإن لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبر دفع إليه أنقص الفرضين فإن كان زوجاً دفع إليه ربع المال عائلاً وإن كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلاً ويوقف الباقي فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقي.
فصل وإن ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت فورثها الابن ثم مات الابن فورثته وقال أخوها: بل مات الابن أولاً فورثته الأم ثم ماتت فورثتها لم يورث ميت من ميت بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والأخ لأنه لا يرث إلا من تيقن حياته عند موت مورثه وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما: من الآخر كالغرقى.
فصل: وإن مات رجل وله دار وخلف ابناً وزوجة فادعى الابن أنه تركها ميراثاً وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الزوجة على بينة الإرث لأن بينة الإرث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث.
فصل: وإن تداعى رجلان حائطاً بين داريهما فإن كان مبنياً على تربيع إحداهما مساوياً لها في السم والحد ولم يكن بناؤه مخالفاً لبناء الدار الأخرى ولم تكن بينة لأحدهما: فالقول قول من بنى على تربيع داره لأن الظاهر أنه بني لداره وإن كان لأحدهما(3/422)
أزج فالقول قوله لأن الظاهر أنه بني للأزج وإن كان مطلقاً وهو الذي لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لأنه متصل بالملكين اتصالاً واحداً وإن كان لأحدهما: عليه جذوح ولم يقدم على الآخر بذلك لأنهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجدوع كان بينهما ووضع الجدوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجدوع على حائط الجار بغير رضاه يلزم ما تيقناه بأمر محتمل كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي.
فصل: وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما لأنه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الدارين فإن تنازعا في الدرجة فإن كان تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما متساويان في الانتفاع بها وإن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما لأنهما يرتفقان بها والثاني: أنه يحلف صاحب العلو ويقضي له لأن المقصود بها منفعة صاحب العلو وإن تداعيا سلماً منصوباً حلف صاحب العلو وقضي له لأنه يختص بالانتفاع به في الصعود وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في الدهليز ففيه وجهان: أحدهما: أنها بينهما لأن لكل واحد منهما يداً ولهذا لو تنازعا في أصل الدار كانت بينهما والثاني: أنه لصاحب السفل لأنها في يده ولهذا يجوز أن تمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها.
فصل: وإن تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما: وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لأن فيها منفعة لصاحب النهر لأنها تجمع الماء في النهر ولصاحب الأرض منها منفعة لأنها تمنع الماء من أرضه.
فصل: وإن تداعى رجلان دابة وأحدهما: راكبها والآخر آخذ بلجامها حلف الراكب(3/423)
وقضى له وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لأن كل واحد منهما لو انفرد لكانت له والصحيح هو الأول لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له وإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما: منها ذراع وفي يد الآخر الباقي حلفا وجعلت بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة وإن تداعيا عبداً ولأحدهما: عليه ثياب حلف وجعل بينهما ولا يقدم صاحب الثياب لأن منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب.
فصل: وإن كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده فإن صدقه حكم له بالملك وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر الحرية وإن كان طفلاً لا يميز فالقول قول المدعي لأنه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وإن بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله لأنا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره وإن جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسبه بمجرد دعواه لأن فيه إضراراً بصاحب الملك لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا ثبت نسب لمن يدعي النسب سقط حق ولائه وإن كان مراهقاً وادعى أنه مملوكه مع إنكاره كالبالغ والثاني: أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لأنه لا حكم لقوله.
فصل: وإن تداعى الزوجان متاع البيت الذي يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لأنه في يدهما فجعل بينهما كما لو تداعيا الدار التي يسكنان فيها وإن تداعى المكري والمكتري المتاع الذي في الدار المكراة فالقول قول المكتري لأن يده ثابتة على ما في الدار وإن تداعيا سلماً غير مسمر فهو للمكتري لأنها متصلة بالدار فصارت كأجزائها وإن كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه الله بأنهما يتحالفان وتجعل بينهما لأن الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكتري ويجوز أن تكون للمكري فجعل بينهما.
فصل: ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعه لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير إذنه لأن الخيار فيما يقضي به الدين إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ إلا ما يعطيه وإن أخذ بغير إذنه لزمه رده فإن تلف ضمنه لأنه أخذ مال غيره بغير حق وإن كان ممتنعاً من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم، فله(3/424)
أن يأخذ من ماله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" وفي منعه من أخذ ماله في هذا الحال إضرار به وإن كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يأخذه لأنه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما آخذه سراً فقال عليه السلام: "وخذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فأذن لها في الأخذ مع القدرة على الأخذ بالحاكم ولأن عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه فإن كان الذي قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لأنه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف ثمنه في حقه وفي كيفية البيع وجهان: أحدهما: أنه يواطئ رجلاً ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه والثاني: وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لأنه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان: أحدهما: أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لأنها محبوسة لاستيفاء حقه منها فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن والوجه الثاني أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لأنه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه.(3/425)
باب اليمين في الدعاوي
إذا ادعى رجل على رجل حقاً فأنكره ولم يكن للمدعي بينة فإن كان ذلك في غير الدم تحلف المدعى عليه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي وقد بينا ذلك في باب الدعاوي وإن كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعي بينة فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعي خمسين يميناً وقضى له بالدية والدليل عليه ما روى سهل بن أبي جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أوعين ماء فأتى يهوداً، فقال(3/425)
أنتم والله قتلتموه قالوا: والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبر الكبر" فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب من الله ورسوله". فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم" فقالوا: لا قال: "أيحلف لكم يهود" قالوا: لا ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء ولأن باللوث تقوى جنبة المدعي ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعي إذا شهد له عدل وحلف معه وإن كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب القود بأيمان المدعي لأنها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة وقال في الجديد: لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله" فذكر الدية ولم يذكر القصاص ولأنه حجة لا يثبت بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يقتل إلا واحد يختاره والقسامة على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة.
فصل: وإن كان المدعي جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً لأن ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي والقول الثاني أنه يقسط عليهم الخمسون يميناً على قدر مواريثهم لأنه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الأيمان أيضاً على قدر مواريثهم وإن دخلها كسر جبر الكسر لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت فإن نكل المدعي عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه فيحلف خمسين يميناً لقوله عليه الصلاة والسلام: "يبرئكم يهود متهم بخمسين يمينا". ولأن(3/426)
التغليظ بالعدد لحرمة النفس وذلك يوجد في يمين المدعي والمدعى عليه وإن كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أن الخمسين تقسط على عددهم والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون خمسين يميناً والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفي عن نفسه ما ينفيه لو انفرد وليس كذلك المدعون فإن كان واحد منهم لا يثبت لنفسه ما يثبته إذا انفرد.
فصل: فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه". ولأن اليمين إنما جعلت في جنبة المدعي عند اللوث لقوة جنبته باللوث فإذا عدم اللوث حصلت القوة في جنبة المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته وعدم القتد فعادت اليمين إليه وهل تغلظ بالعدد فيه قولان: أحدهما: أنها لا تغلظ بل يحلف يميناً واحدة وهو اختيار المزني لأنها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما في سائر الدعاوي والثاني: أنها تغلظ فيحلف خمسين يميناً وهو الصحيح لأن التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف يميناً واحدة وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط عليهم خمسون يميناً على قدر مواريثهم من الدية وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعي وقضي له فإن كان في قتل يوجب المال قضي له بالدية وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب القصاص قولاً واحداً لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين وكالإقرار في القول الآخر والقصاص يجب بكل واحد منهما.
فصل: وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما: لوث دون الآخر حلف المدعي على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذي لا لوث عليه لعدم اللوث وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لأنها دعوى محال، وإن(3/427)
ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعي خمسين يميناً فإن حضر الثاني وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً لأنهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره والوجه الثاني أنه يحلف خمساً وعشرين يميناً لأنهما لو حضرا حلف عليهما خمسين يميناً فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً والثاني: أنه يحلف عليه ثلث خمسين يميناً ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يميناً وإن قال قتله هذا عمداً ولا أعلم كيف قتله الآخران أقسم على الحاضر وقف الأمر إلى أن يحضر الآخران فإن حضرا وأقرا بالعمد ففي القود قولان وإن أقرا بالخطأ وجب على الأول ثلث الدية مغلظة وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة وإن أنكر القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحلف لأنه لا يعلم ما يحلف عليه ولا يعلم الحاكم ما يحكم به والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحلف لأن جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم فإن قلنا إنه لا يجب القود لم يقسم على الحاضر لأنه لا يعلم ما يخصه وإن قلنا إنه يجب القود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم لأن الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها
فصل: واللوث الذي يثبت لأجله اليمين في جنبة المدعي هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثاً فيحلف المدعي لأن قتيل الأنصار وجد في خيبر وأهلها أعداء للأنصار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين فصار هذا أصلاً لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعي فيجعل القول قول المدعي مع يمينه وإن كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثاً لجواز أن يكون قتله غيرهم وإن تفرقت جماعة عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولي أنهم قتلوه فهو لوث فيحلف المدعي أنهم قتلوه لأن الظاهر أنهم قتلوه وإن وجد قتيل في زحمة فهو لوث فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له وإن وجد قتيل في أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث فإن ادعى الولي عليه القتل حلف عليه لأن الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لأنه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولي وإن(3/428)
تقابلت طائفتان فوجد قتيل من إحدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الأخرى فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية لأن الظاهر أنه لم تقتله طائفة وإن شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت فإن جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا لأنه يجوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة وإن جاءوا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت اللوث ويحلف الولي معهم وإن شهد صبيان أو فساق أو كفار على ترجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثاً لأنه جوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك لوث لأن اتفاقهم على شيء واحد من غير تواطؤ يدل على صدقهم والثاني: أنه ليس بلوث لأنه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقلوهم لوثاً لجعلنا لخبرهم حكماً وإن قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثاً لأنه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثاً فإن شهد عدل على رجل بالقتل فإن كانت الدعوى في قبل يوجب المال حلف المدعي يميناً وقضى له بالدية لأن المال يثبت بالشاهد واليمين وإن كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يميناً ويجب القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد.
فصل: وإن شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما لأنه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد وهل يكون ذلك لوثاً يوجب القسامة في جانب المدعي؟ قال في موضع يوجب القسامة وقال في موضع لا يوجب القسامة واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق: هو لوث يوجب القسامة قولاً واحداً لأنهما اتفقا على إثبات القتل وإنما اختفا في صفته وجعل القول الآخر غلطاً من الناقل وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل: إن ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولاً واحداً لأن كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن صدق ما يدعيه والقول الآخر غلظ من الناقل ومنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما: أنه لوث يوجب القسامة والثاني: ليس بلوث ووجههما ما ذكرناه وإن شهد واحد أنه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما لأن أحدهما: شهد بالقتل والآخر شهد بالإقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فإن هناك كل واحد منهما يكذب الآخر وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوب الآخر فيحلف المدعي مع من شاء منهما فإن كان القتل خطأ حلف يميناً واحدة وثبتت الدية فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العاقلة لأنها تثبت بالبينة وإن حلف مع من شهد بالإقرار وجبت الدية في ماله لأنها تثبت بالإقرار وإن كان القتل(3/429)
موجباً للقصاص حلف المدعي خمسين يميناً ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الآخر وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمداً ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثاً لأنه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث.
فصل: وإن شهد شاهدان أن فلاناً قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولي على من يدعي القتل عليه لأنه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما: فصار كما لو وجد بينهما مقتول فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث وإن ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل في موضع اللوث وكذبه الآخر سقط حق المكذب من القسامة وهل يسقط اللوث في حق المدعي فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني لأن القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يقسم مع اللوث والقول الثاني: أنه يسقط لأن اللوث يدل على صدق المعي من جهة الظن وتكذيب المكر يدل على كذب المدعي من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقي القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه وإن قال أحد الابنين قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه ربع الدية لأن كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الآخر هو الذي ادعى عليه أخوه فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذي ادعى عليه أخي أقسم كل واحد منهما على الذي ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية وإن قال كل واحد منهما علمت أن الآخر غير الذي اادعى عليه أخي صار كل واحد منهما مكذباً للآخر فإن قلنا إن تكذيب أحدهما: لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذي عينه ثانياً واستحق عليه ربع الدية وإن قلنا إن التكذيب يسقط اللوث بثلث القسامة فإن أخذ شيئاً رده ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعي من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل لأن صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعي أن يرجع ويطالب المقر بالدية؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس له مطالبته لأن دعواه(3/430)
على الأول إبراء لكل من سواه والثاني: أن له أن يطالب لأن دعواه على الأول باللوث من جهة الظن والإقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين وإن ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم وروى الربيع أنه يقسم فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقسم لأن بقوله قتله عمداً أبرأ العاقلة وبتفسيره أبرأ القاتل والقول الثاني: أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة لأن المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد ومنهم من قال: يقسم قولاً واحداً لما بينا وقوله لا يقسم معناه لا يقسم على ما ادعاه.
فصل: وإن كانت الدعوى في الجناية على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضي به في الطرف كالكفارة وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان: أحدهما: لا تغلظ لأنه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد والثاني: أنه تغلظ بالعدد لأنه يجب فيه القصاص والدية المغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين فإن قلنا لا نغلظ حلف المدعى عليه يميناً واحدة وإن قلنا تغلظ فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يميناً وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففي قدر التغليظ قولان: أحدهما: أنه يغلظ بخمسين يميناً لأن التغليظ لحرمة الدم وذلك موجود في اليد الواحدة والثاني: أنه تغلظ بحصته من الدية لأن ديته دون النفس فلم تغلظ بما تغلظ به في النفس.
فصل: فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان: أحدهما: أنه يبني ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية؟ فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد وإن قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة والثاني: وهو قول أبي العباس أن للسيد القسامة قولاً واحداً لأن القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب في قتل عبده فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى وإن قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لأم ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد فيه قولان: أحدهما: تقسم والثاني: لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين وله شاهد ولم تحلف الورثة أن الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس.
فصل: وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعي لم يقسم لأنه إذا أقدم على الردة وهي من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة فإن أقسم صحت القسامة وقال المزني رحمه الله لا تصح لأنه كافر فلا يصح يمينه بالله وهذا خطأ لأن القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب فإذا أقسم وجب(3/431)
القصاص لوارثه أو الدية فإن رجع إلى الإسلام كان له وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيئا وقال أبوعلي بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبني وجوب الدية بقسامته على حكم ملكه فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فعاد إلى الإسلام ثبتت الدية وإن قلنا إن ملكه يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية وهذا غلط لأن اكتسابه للمال يصح على الأقوال كلها وهذا اكتساب.
فصل: ومن توجهت عليه يمين في م غلظ عليه في اليمين لما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام فقال أعلى دم؟ قيل لا قال: أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا قال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أوحد قذف أو غيرها مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال فإن كان يبلغ عشرين مثقالاً غلظ وإن لم يبلغ ذلك لم يغلظ لأن عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذي يحلف فإن كات قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالاً غلظ اليمين وإن لم تبلغ عشرين مثقالاً لم يغلظ لأن المولى يحلف لإثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش الجنايات فإن كان الذي يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لأنه يحلف إثبات العتق والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الأرش أوفي طرف كثير الأرش.
فصل: والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفي اللفظ فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان: أحدهما: أنه يستحب والثاني: أنه واجب وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله أنه يستحب وقد بينا ذلك في اللعان وقال أكثر أصحابنا إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان وفيه قولان وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب وهو أن يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف رجلاً فقال: "قل والله الذي لا إله إلا هو". لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر وأمنع من الإقدام على الكذب وإن اقتصر على قوله والله أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في إحلاف ركانة على قوله والله وإن اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله: وعزة الله أجرأه لأنها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وإيجاب الكفارة وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن(3/432)
فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يحلف على المصحف قال الشافعي وهو حسن ولأن القرآن من صفات الذات ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة وإن كان الحالف يهودياً أحلفه الله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق وإن كان نصرانياً أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه بالله الذي خلقه وصوره.
فصل: ولا يصح اليمين في الدعوى إلا أن يستحلفه القاضي لأن ركانة بن عبد يزيد قال لرسول الله: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيبة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة". قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة ولأن الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى ما لا يحنث به فيجعل ذلك طريقاً إلى إبطال الحقوق وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطاً أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف الأمر إلى أن يفهم إشارته فإن طلب المدعي أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لأن رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه ولا يوجد النكول فإن كان الذي عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة فإن كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يميناً مغلظة وإن امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلاً.
فصل: وإن حلف على فعل نفسه في نفي أو إثبات حلف على القطع لأن علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل وإن حلف على فعل غيره فإن كان في إثبات حلف على القطع لأن له طريقاً إلى العلم بما فعل غيره وإن كان على نفي حلف على نفي العلم فيقول والله لا أعلم أن أبي أخذ منك مالاً ولا أعلم أن أبي أبرأك من دينه لأنه لا طريق له إلى القطع بالنفي فلم يكف اليمين عليه.
فصل: وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شيء ولم يتعرض للبيع والقرض لم يحلف إلا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لأنه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه فإذا حلف على نفي البيع والقرض حلف كاذباً وإن أجاب بأنه ما باعني ولا أقرضني ففي الإحلاف وجهان: أحدهما: أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شيء ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل والثاني: أنه يحلف على نفي البيع(3/433)
والقرض لأنه نفى ذلك في الجواب فلزمه أن يحلف على النفي فإن ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئاً منه فإن حلف أنه لا يستحق عليه الألف لم يجزه لأن يمينه على نفي الألف لا يمنع وجوب بعضها.
فصل: وإن كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلاً في استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يميناً واحدة لأن لكل واحد منهم عليه يميناً فلم تتداخل فإن رضوا بأن يحلف لهم يميناً واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز وإن رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.(3/434)
كتاب الشهادات
مدخل
...
كتاب الشهادات
تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 28] قال ابن عباس رضي الله عنه: من الكبائر كتمان الشهادة، فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لأن المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه لأنه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه ويجب الإشهاد على عقد النكاح وقد بيناه في النكاح، وهل يجب على الرجعة فيه قولان، وقد بيناهما في الرجعة وأما ما سوى ذلك من العقود كالبيع والإجارة وغيرهما، فالمستحب أن يشهد عليه لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ولا يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسا فجحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يشهد لي" فقال خزيمة بن ثابت الأنصاري: أنا أشهد لك، قال: "لم تشهد ولم تحضر" فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك علا أخبار الأرض، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذات الشهادتين.
فصل: ومن كانت عنده شهادة في حد الله تعالى فالمستحب أن لا يشهد به لأنه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه، فإن شهد به جاز لأنه شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك، ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن يسأل لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين(3/435)
يلونهم، ثم يقشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 1. وإن كان صاحبها لا يعلم شهد قبل أن يسأل لما روى زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" 2.
فصل: ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة لأنه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض، ومن لم يتعين عليه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له أخذ الأجرة لأنه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة. والثاني: أنه لا يجوز لأنه تلحقه التهمة بأخذ العوض.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 7. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 27. أحمد في مسنده 1/18.
2 رواه مسلم في كتاب الأقضية حديث 19. أبو داود في كتاب الأقضية باب 13. الترمذي في كتاب الشهادات باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 28. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 3.(3/436)
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
لا تقبل شهادة الصبي لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلأن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى ولا تقبل شهادة المجنون للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا تقبل شهادة المغفل الذي يكثر منه الغلط لأنه لا يؤمن أن يغلط في شهادته وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لأن أحداً لا ينفك من الغلط واختلف أصحابنا في شهادة الأخرس فمنهم من قال: تقبل لأن إشارته كعبارة الناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في الشهادة ومنهم من قال: لا تقبل لأن إشارته أقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة وهو في النكاح والطلاق لأنها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لأنها تصح من غيره بالنطق فلا تجوز بإشارته.(3/436)
فصل: ولا تقبل شهادة العبد لأنها أمر لا يتبعض بني على التفاضل فلم يكن للعبد فيه مدخل كالميراث والرحم ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة أهل دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم". ولأنه إذا لم تقبل شهادة من يشهد بالزور على الآدمي فلأن لا تقبل شهادة من شهد بالزور على الله تعالى أولى ولا تقبل شهادة فاسق لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت شهادته سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه" 1. فورد النص في القذف والزنا وقسنا عليهم سائر الكبائر ولأن من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادراً من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته وإن كان ذلك غالباً في أفعاله فسق وردت شهادته لأنه لا يمكن رد شهادته بالقليل من الصغائر لأنه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو عم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا". ولهذا قال الشاعر:
من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض
ولا يمكن قبول الشهادة مع الكثير من الصغائر لأن من استجاز الإكثار من الصغائر
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 16. الترمذي في كتاب الشهادات باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 30. أحمد في مسنده 2/204.(3/437)
استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله لأن الحكم للغائب والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 103] .
فصل: ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل في الأسواق ويمشي مكشوف الرأس في موضع لا عادة له في كشف الرأس فيه لأن المروءة هي الإنسانية وهي مشتقة من المرء ومن ترك الإنسانية لم يؤمن أن يشهد بالزور ولأن من لا يستحيي من الناس في ترك المروءة لم يبال بما يصنع والدليل عليه ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" 1. واختلف أصحابنا في أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام والقيم الحمام فمنهم من قال لا تقبل شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم ومنهم من قال: تقبل شهادتهم لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأن هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة فلم ترد بها الشهادة.
فصل: ويكره اللعب بالشطرنج لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين ولا حاجة تدعوا إليه فكان تركه أولى ولا يحرم لأنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير وأبي هريرة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدباراً ومن لعب به من غير عوض ولم يترك فرضاً ولا مروءة لم ترد شهادته وإن لعب به عوض نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالاً على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 54. أبو داود في كتاب الأدب باب 6. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 17. الموطأ في كتاب السفر حديث 46.(3/438)
وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] والميسر القمار وإن أخرج أحدهما: مالاً على أنه إن غلب أخذ ماله وإن غلبه صاحبه أخذ المال لم يصح العقد لأنه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذل العوض فيه ولا ترد به الشهادة لأنه ليس بقمار لأن القمار أن لا يخلوا أحد من أن يغتم أو يغرم وههنا أحدهما: يغنم ولا يغرم وإن اشتغل به عن الصلاة في وقتها مع العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته وإن كثر منه ردت شهادته لأنه من الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام أو اشتغل بالليل والنهار ودت شهادته لترك المروءة.
فصل: ويحرم اللعب بالنرد وترد به الشهادة وقال أبو إسحاق رحمه الله: هو كالشطرنج وهذا خطأ لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" 1. وروى بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه" 2. ولأن المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه الأزلام ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه ويحرم اللعب بالأربعة عشر لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالنرد.
فصل: ويجوز اتخاذ الحمام لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال: اتخذ زوجاً من حمام ولأن فيه منفعة لأنه يأخذ بيضه وفرخه ويكره اللعب به لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسعى بحمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه.
فصل: ومن شرب قليلاً من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته ومن أصحابنا من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته والمذهب الأول لأن استحلال الشيء أعظم من فعله بدليل أن من استحل الزنا كفر ولو فعله لم يكفر فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلأن لا يرد شربه أولى ويجب عليه الحد وقال المزني رحمه الله: لا
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث 6.
2 رواه مسلم في كتاب الشعر حديث 10. أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. أحمد في مسنده 5/352.(3/439)
يجب كما لا ترد شهادته وهذا خطأ لأن الحد للردع والنبيذ كالخمر في الحاجة إلى الردع لأنه يشتهى كما يشتهى الخمر ورد الشهادة لارتكاب كبيرة لأنه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ ليس بكبيرة لأنه مختلف في تحريمه وليس من أقدم على مختلف فيه أقدم على شهادة الزور وهي من الكبائر.
فصل: ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل". ولا يحرم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهي تقول:
هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حرج إن شاء الله". وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد" 1. فإن غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته لأن عمر رضي الله عنه كان إذا دهل في داره يرنم بالبيت والبيتين واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يترنم فقال أسمعتني يا عبد الرحمن قال نعم قال: إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول
__________
1 رواه مسلم في كتاب العيدين حديث 16. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 21.(3/440)
الناس وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه وهو من زهاد الصحابة وفقهائها أنه قال: إني لأجم قلبي شيئاً من الباطل لأستعين به على الحق فأما إذا أكثر من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغني ردت شهادته لأنه سفه وترك للمروءة وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت شهادته لأنه سفه وترك مروءة ودناءة.
فصل: ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله} قال ابن عباس: إنها الملاهي وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين" 1. فالكوبة
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/165، 167.(3/441)
الطبل والقنين البربط وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر وضربهم بالكوبة والمعازف" 1. ولأنها تطرب وتدعوا إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإلى إتلاف المال فحرم كالخمر ويجوز ضرب الدف في العرس والختان دون غيرهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف" 2. ويكره القضيب الذي يزيد الغناء طرباً ولا يطرب إذا انفرد لأنه تابع للغناء فكان حكمه حمك الغناء وأما رد الشهادة فما حكمنا بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه كما قلنا في الصغائر وما حكمنا بكراهيته وإباحته فهو كالشطرنج في رد الشهادة وقد بيناه.
فصل: وأما الحداء فهو مباح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادي حاديان وروت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة "حرك بالقوم". فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير" 3. ويجوز
__________
1 رواه أبو ماجه في كتاب الأشربة باب 5، 7. أحمد في مسنده 1/274.
2 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 20. أحمد في مسنده 4/5.
3 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90، 95. مسلم في كتاب الفضائل حديث 70. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 65. أحمد في مسنده 3/107(3/442)
استماع نشيد الأعرابي لما روى عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال: "أمعك شيء من شعر أمية بن أبي الصلت" فقلت: نعم فأنشدته بيتاً فقال: "هيه". فأنشدته بيتاً آخر فقال هيه فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت.
فصل: ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن" 1. وروي حسن الصوت بالقرآن وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم" 2 وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" 3. وحمله
__________
1 رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 19. مسلم في كتاب المسافرين حديث 232، 234. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 17. النسائي في كتاب الافتتاح باب 83.
2 رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34.
3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 44. أبو داود في كتاب الوتر باب 20. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34.(3/443)
الشافعي على تحسين الصوت وقال: لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان بالقرآن وأما القراءة بالألحان فقد قال في موضع: أكرهه وقال في موضع آخر لا أكرهه وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال أكرهه أراد إذا جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض والذي قال لا أكرهه إذا لم يجاوز الحد.
فصل: ويجوز قول الشعر لأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان بن ثابت وكعب ابن مالك وعبد الله بن رواحة ولأنه وفد عليه الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متنبول ... متيم عندها لم يفد مكبول
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام في حظره وإباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام".
فصل: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر والدليل عليه ما روى خريم بن فاتك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ولما انصرف قام قائماً ثم قال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" 1. ثلاث مرات ثم تلا قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [النحل: 30] وروى محارب بن دثار عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار" 2. ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه: أحدها أن يقر أنه شاهد زور والثاني: أن تقوم البينة أنه شاهد زور والثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل أنه
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 3. أبو داود في كتاب الأقضية باب 15. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32. أحمد في مسنده 4/178.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32.(3/444)
قتل أو زنى في وقت معين في موضع معين والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر وأما إذا شهد بشيء أخطأ فيه فلم يكن شاهد زور لأنه لم يفسد الكذب وإن شهد لرجل بشيء وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور لأنه ليس تكذيب أحدهما: بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك في عدالته وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر فعل وإن رأى أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته وينادي عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس". ولأن في ذلك زجراً له ولغيره عن فعل مثله وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: إن كان من أهل الصيانة لم يناد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهن". وهذا غير صحيح لأن بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة.
فصل: ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعاً ولا دافع عن نسه ضرراً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة" 1. والظنين المتهم والجار إلى نفسه نفعاً والدافع عنها ضرراً متهمان فإن شهد المولى لمكاتبه بمال لم تقبل شهادته لأن يثبت لنفسه حقاً لأن مال المكاتب يتعلق به حق المولى وإن شهد الوصي لليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لأنهما يثبتان لأنفسها حق المطالبة والتصرف وإن وكله في شيء ثم عزله لم يشهد فيما كان النظر فيه إليه فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته وإن لم يكن قد خاصم فيه ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنه لا يحلقه تهمة والثاني: أنه لا تقبل لأنه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه وإن شهد الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 2.(3/445)
شهادته لأنه يتعلق حقه بما يثبت له بشهادته وإن شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لأنه لا يتعين حقه فيما شهد به وإن شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه يثبت له حق المطالبة والثاني: أنه يقبل لأنه لا يتعلق بما يشهد به له حق.
فصل: وإن شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل الاندمال لم تقبل لأنه يسري إلى نفسه فيجب الدم به لهما وإن شهدا له بمال وهو مريض ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تقبل لأنهما متهمان لأنه قد يموت فيكون المال لهما فلم تقبل كما لو شهدا بالجراحة والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة أنه تقبل لأن الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت إليهما وفي الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لأنهما تجب بموته فلم تقبل وإن شهدا له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لأنهما غير متهمين وإن مات الابن وصار الأخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما لم تسقط الشهادة لأنه حكم بها وإن مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة كما لو فسقا قبل الحكم وإن شهد المولى على غريم مكاتبه والوصي على غريم الصبي أو الوكيل على غريم الموكل بالإبراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لأنه دفع بالشهادة عن نفسه ضرراً وهو حق المطالبة وإن شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل فإن كانا موسرين لم تقبل شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضرراً وهو الدية وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ردت شهادتهما وقال في موضع آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل إليهما حتى يموت من قبلهما قبلت شهادتهما فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أنه تقبل لأنهما في الحال لا يحملان العقل والثاني: أنه لا تقبل لأنه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير فيصيران من العاقلة ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الأباعد ولا تقبل شهادة القريب الفقير لأن القريب معدود في العاقلة واليسار يعتبر عند الحول وربما يصير موسراً عند الحول والبعيد غير معدود في العاقلة وإنما يصير من العاقلة إذا مات الأقرب.
فصل: ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا وقال المزني رحمه الله وأبو ثور: تقبل ووجهه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فعم ولم يخص ولأنهم كغيرهم في العدالة فكانوا كغيرهم في الشهادة وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا(3/446)
تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". والظنين المتهم وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع ولأن الوالد بضعة من الوالد ولهذا قال عليه السلام: "يا عائشة إن فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" 1. ولأن نفسه كنفسه وماله كماله ولهذا قال عليه السلام لأبي معشر الدارمي: "أنت ومالك لأبيك" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" 3. ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة إذا احتاج والأية نخصها بما ذكرناه والاستدلال بأنهم كغيرهم في العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره في العدالة ثم لا تقبل شهادته لنفسه وتقبل شهادة أحدهما: على الآخر في جميع الحقوق ومن أصحابنا من قال لا تقبل شهادة الولد على الوالد في إيجاب القصاص وحد القذف لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة في شهادته عليه ومن عد الوالدين والأولاد من الأقارب كالأخ والعم وغيرهما تقبل شهادة بعضهم لبعض لأنه لم يجعل نفس أحدهما: كنفس الآخر في العتق ولا ماله كماله في النفقة وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان: قال في القديم: لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعاً لأنه يجب عليه بقذفها الحد فيحتاج أن يلاعن وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمها وقال في الجديد: تقبل وهو الصحيح لأن حق أمهما لا يزيد بمفارقة الضرة وإن شهد أنه طلق ضرة أمهما ففيه قولان: أحدهما: أنه تقبل والثاني: أنه لا تقبل وتعليلهما ما ذكرناه.
فصل: وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لأن النكاح سبب لا يعتق به أحدهما: على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما: للآخر كقرابة ابن العم ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة في الزنا لأن شهادته دعوى خيانة في حقه فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة في الوديعة ولأنه خصم لها فيما يشهد به فلم تقبل كما لو شهد عليها أنه جنت عليه.
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 109. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب المناقب باب 60. أحمد في مسنده 4/328.
2 رواه ابن ماجه في كتاب التجارات باب 64. أحمد في مسنده 2/179، 204.
3 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31.(3/447)
فصل: ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". وذو الإحنة هو العدو ولأنه متهم في شهادته بسبب منهي عنه فلم تقبل شهادته.
فصل: ومن جمع في الشهادة بين أمرين فردت شهادته في أحدهما: نظرت فإن ردت للعداوة بينه وبين المشهود عليه مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبياً ردت شهادته في حقه وفي حق الأجنبي لأن هذه الشهادة تضمنت الإجبار عن عداوة بينهما وشهادة العدو على عدوه لا تقبل فإن ردت شهادته في أحدهما: لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبي مالاً ردت شهادته في حق أبيه وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان: أحدهما: أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبياً والثاني: أنها لا ترد لأنها ردت في حق أبيه للتهمة ولا تهمة في حق الأجنبي فقبلت.
فصل: ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] التوبة توبتان توبة في الباطن وتوبة في الظاهر فأما التوبة في الباطن فهي ما بينه وبين الله عز وجل فينظر في المعصية فإن لم يتعلق بها مظلمة لآدمي ولا حد لله تعالى كالاستمتاع بالأجنبية فيما دون الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها والدليل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135] وإن تعلق بها حق آدمي فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمي إما أن يؤديه أو يسأله حتى يبرئه منه لما روى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل: والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني وإن كنت أسأت فما علمتني،(3/448)
فقال عمر اقتص قال لا أقتص قال فاعف قال لا أعفوا فافترقا على ذلك ثم لقيه عمر من الغد فتغير لون عمر فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك قال: أجل قال: فاشهد إني قد عفوت عنك وإن لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه إن قدر أوفاه حقه وإن تعلق بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب فإن لم يظهر ذلك فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه السلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله" 1. وإن أظهره لم يأثم لأن ماعزاً والغامدية اعترفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمهما ولم ينكر عليهما وأما التوبة في الظاهر وهي التي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشهادة فينظر في المعصية فإن كانت فعلاً كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح عمله مدة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وقدر أصحابنا المدة بسنة لأنه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير سنة لأنه تمر فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الأحوال وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين وإن كانت قذفا فقد قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: هو أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ووجهه ما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توبة القاذف إكذابه نفسه" وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة هو أن يقول: قذفي له كان باطلاً ولا يقول إني كنت كاذباً لجواز أن يكون صادقاً فيصير بتكذيبه نفسه عاصياً كما كان بقذفه عاصياً ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه في الزنا والسرقة فأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على عدالته ولا يحتاج إلى التوبة وإن قلنا إنه يجب عليه الحد وجبت التوبة وهو أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما أتهم به فإذا قال هذا عادت عدالته ولا يشترط فيه إصلاح العمل لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك وإن لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لأن أبا بكرة ردت شهادته وقبلت أخباره وإن
__________
1 رواه مالك في الموطأ في كتاب الحدود حديث 12.(3/449)
كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ويشترط في صحة توبته إصلاح العمل على ما ذكرناه.
فصل: وإن شهد صبي أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت وإن شهد فاسق فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل وقال المزني وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبي إذا بلغ والعبد إذا أعتق والكافر إذا أسلم وهذا خطأ لأن هؤلاء لا عار عليهم فيرد شهادتهم فلا يحلقهم تهمة في إعادة الشهادة بعد الكمال والفاسق عليه عار في رد شهادته فلا يؤمن أن يظهر التوبة لإزالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة وإن شهد المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأن شهادته لم ترد بمعرة وإنما ردت لأنه ينسب لنفسه حقاً بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق والثاني: أنها لا تقبل وهو الصحيح لأنه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنها ردت للتهمة وقد زالت التهمة والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد.(3/450)
باب عدد الشهود
لا يقبل في الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] الآية وروي أن سعد ابن عبادة قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد وقال زياد: رأيت استاً ونفساً يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر(3/450)
رضي الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة ولا يقبل في اللواط إلا أربعة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا في الشهادة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة وإن قلنا إنه يجب فيه التعزير ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن خيران واختيار المزني رحمه الله أنه يثبت بشاهدين لأنه لا يلحق بالزنا في الحد فلم يحلق به في الشهادة والثاني: وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه فرج حيوان يجب بالإيلاج فيه العقوبة فاعتبر في الشهادة عليه أربعة كالزنا ونقصانه عن الزنا في العقوبة لا يوجب نقصانه عنه في الشهادة كزنا الأمة ينقص عن زنا الحرة في الحد ولا ينقص عنه في الشهادة واختلف قوله في الإقرار بالزنا فقال في أحد القولين: يثبت بشاهدين لأنه إقرار فثبت بشاهدين كالإقرار في غيره والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل وإن كان المقر أعجمياً ففي الترجمة وجهان: أحدهما: أنه يثبت باثنين كالترجمة في غيره والثاني: أنه كالإقرار فيكون على قولين كالإقرار.
فصل: وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفوه ويحدون وهو أشهر القولين لأن عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد فإن كان هذا زنا فهو ذلك فجلد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثلاثة وعزر الرجل والمرأة ولأنا لولم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة طريقاً إلى القذف والقول الثاني أنهم لا يحدون لأن الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب الحد كسائر الجائزات ولأن إيجاب الحد عليهم يؤدي إلى أن لا يشهد أحد بالزنا خوفاً من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وظاهر النص أنه يحد الزوج قولاً واحداً لأنه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفاً وفي الثلاثة قولان والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الزوج كالثلاثة لأنه أتى بلفظ الشهادة فيكون على القولين.
فصل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم فإن كان بسبب ظاهر بأن كان عبداً أو كافراً أو متظاهرا بالفسق كان كما لولم يتم العدد لأن وجوده(3/451)
كعدمه وإن كان بسبب خفي كالفسق الباطن ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قص بالعدد لأن عدم العدالة كعدم العدد والثاني: أنهم لا يحدون قولاً واحداً لأنه إذا كان الرد بسبب في الباطن لم يكن من جهتهم تفريط في الشهادة لأنهم معذورون فلم يجدوا وإذا كان بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف لأنه اعترف بالقذف ومن أصحابنا من قال في حده قولان لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشيء وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد عليهم قولاً واحداً لأنه ليس من جهتهم تفريط لأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع من رجعوا كلهم قالوا تعدمنا الشهادة وجب عليهم الحد ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشيء وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربعة نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل ويحتمل أن تكون عائدة لأن البكارة تعود إذا لم يبالغ في الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال ولا يجب الحد على الشهود لأنا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون.
فصل: ويثبت المال وما يصد به كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فنص على ذلك في السلم وقسنا عليه المال وكل ما يقصد به المال.
فصل: وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وعن الزهري أنه قال: جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة للنساء في الحدود فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا في الصداق ثبت الصداق بالشاهد والمرأتين لأنه إثبات مال وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت إلا بشهادة رجلين وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن بينة المرأة لإثبات الطلاق وبينة الرجل لإثبات المال وإن شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع وإن شهد رجل وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية والفرق بين القتل والسرقة أن قتل العمل في أحد القولين(3/452)
يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب العفو عن القصاص لم يثبت بدله وفي القول الثاني يوجب أحد البدلين لا بعينه وإنما يتعين بالاختيار فلو أوجبنا الدية دون القصاص أوجبنا معيناً وهذا خلاف موجب القتل وليس كذلك السرقة فإنها توجب القطع والمال على سبيل الجمع وليس أحدهما: بدلاً عن الآخر فجاز أن يوجب أحدهما: دون الآخر.
فصل: ولا يقبل في موضحة العمد إلا شاهدان ذكران لأنا جناية توجب القصاص وفي الهاشمة والمنقلة قولان: أحدهما: أنه لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لأنها جناية تتضمن القصاص والثاني: أنها تثبت بالشاهد والمرأتين لأن الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما وإنما القصاص في ضمنهما فثبت بالشاهد والمرأتين فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة ولا يثبت القصاص في الموضحة وإن اختلف السيد والمكاتب في قدر المال أوصفته أو أدائه قضي فيه بالشاهد والمرأتين لأن الشهادة على المال وإن أفضى إلى العتق الذي لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء وإن أفضى إلى النسب الذي لا يثبت بشهادتهن.
فصل: وإن كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها منه وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين قضى له بالجارية لأنها مملوكة فقضي فيها بشاهد وامرأتين وإذا مات عتقت بإقراره وهل يثبت نسب الولد وحريته؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يثبت لأن النسب والحرية لا تثبت بشاهد وامرأتين فيكون الوالد باقياً على ملك المدعى عليه والقول الثاني أنه يثبت لأن الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له بالولد فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته لأنه أقر بذلك وإن ادعى رجل أن العبد الذي في يد فلان كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يحكم بهذه البينة لأنها تشهد له بملك متقدم فلم يحكم بها كما لو ادعى على رجل عبداً وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له والثاني: أنه يحكم بها لأنه ادعى ملكاً متقدماً وشهدت له البينة فيما ادعاه ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولاً واحداً والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك لا يدعي ملك الولد وهو يقر أنه حر الأصل فلم يحكم ببينته في أحد القولين وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببنته.
فصل: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب التي تحت(3/453)
الثياب شهادة النساء مفردات لأن الرجال لا يطلعون عليها في العادة فلولم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلب عند التجاحد ولا يثبت شيء من ذلك إلا بعدد لأنها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لأن أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فأقام المرأتين مقام الرجل وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على ذي لب منكن" قالت امرأة يا رسول الله ما ناقصات العقل والدين قال: "أما ناقصات العقل فشهادة امرأتين كشاهدة رجل فهذا نقصان العقل والدين قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل فهذا نقصان العقل وأما نقصان الدين فإن إحداكن تمكث الليالي لا تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين" 1. فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل والمرأتين لأنه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال فلأن تقبل شهادة الرجال والرجال والنساء أولى وتقبل في الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه عنها ولأنها لا تجر بهذه الشهادة نفعاً إلى نفسها ولا تدفع عنها ضرراً ولا تقبل شهادة المرأة على ولادتها لأنا تثبت لنفسها بذلك حقاً وهو النفقة وتقبل شهادة النساء منفردات على استهلال الولد وإنه بقي متألماً إلى أن مات وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين والصحيح هو الأول لأن الغالب أنه لا يحضرها الرجال.
فصل: وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين لما روى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد قال عمرو: ذلك في الأموال واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين فإن قلنا إن الملك للموقوف عليه قضي فيه بالشاهد واليمين لأنه نقل ملك فقضى فيه بالشاهد واليمين كالبيع إن قلنا إنه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه بالشاهد واليمين لأنه إزالة ملك إلى غير الآدمي فلم يقض فيه بالشاهد واليمين كالعتق وقال أبو العباس رحمه الله يقضي فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعاً لأن القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضي فيه بالشاهد واليمين كالإجارة.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 132. أبو داود في كتاب السنة باب 15. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 19. أحمد في مسنده 2/67.(3/454)
باب تحمل الشهادة وأدائها
لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها إلا عن علم والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فأمر الله تعالى أن يشهد عن علم وقوله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف: 19] وهذا الوعيد يوجب التحفظ في الشهادة وأن لا يشهد إلا عن علم وروى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "هل ترى الشمس"؟ قال: نعم قال: "فعلى مثلها فاشهد أودع". وإن كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة والرضاع والولادة وغيرها بما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به إلا عن مشاهدة لأنها لا تعلم إلا بها وإن كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير قصد جاز أن يشهد بما شاهد وإن أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه يجوز وهو قول أبي إسحاق المروزي لأن أبا بكر ونافعاً وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز أن يقصد النظر لأنه في الزنا مندوب إلى الستر وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر للشهادة ومن أصحابنا من قال يجوز في الزنا دون غيره لأن الزاني هتك حرمة الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حركته بالنظر إلى عورته وفي غير الزنا لم يوجد من المشهود عليه هتك حركته ومنهم من قال يجوز في غير الزنا ولا يجوز في الزنا لأن حد الزنا يبنى على الدرء والإسقاط فلا يجوز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر وغيره لم يبن على الدرء والإسقاط فجاز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر.
فصل: وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومشاهدة القائل لأنه لا يحصل العلم بذلك إلا بالسماع والمشاهدة وإن كانت الشهادة على ما لا يعلم إلا بالخبر وهو ثلاثة النسب والملك والموت جاز أن يشه فيه بالاستفاضة فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان وأن فلاناً هاشمي أو أموي جاز أن يشهد به لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة وإن استفاض في الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به لأن أسباب الملك لا(3/455)
تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة وإن استفاض أن فلاناً مات جاز أن يشهد به لأن أسباب الموت كثيرة منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها وفي عدد الاستفاضة وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لأن ذلك بينة والثاني: وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم فإن سمع إنساناً يقر بنسب أب أو ابن فإن صدقه المقر له جاز له أن يشهد به لأنه شهادة على إقرار وإن كذبه لم يجز أن يشهد به لأنه لم يثبت النسب وإن سكت فله أن يشهد به لأن السكوت في النسب رضى بدليل أنه إذا بشر بولد فسكت عن نفسه لحقه نسبه ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الإقرار به مع السكوت وإن رأى شيئاً في يد إنسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد ولا يشهد له بالملك وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد وهل يجوز أن يشهد له بالملك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يجوز لأن اليد والتصرف يدلان على الملك والثاني: وهو قول أبي إسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالملك لأنه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال واختلف أصحابنا في النكاح والعتق والوقف والولاء فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لأنه يعرف بالاستفاضة أن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نافعاً مولى ابن عمر رضي الله عنه كما يعرف أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يجوز لأنه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع.
فصل: ويجوز أن يكون الأعمى شاهداً فيما يثبت بالاستفاضة لأن طريق العلم به السماع والأعمى كالبصير في السماع ويجوز أن يكون شاهداً في الترجمة لأنه يفسر ما سمعه يحضره الحاكم وسماعه كسماع البصير ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والغصب والزنا لأن طريق العلم بها البصر ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجاً عن يده وحكي عن المزني رحمه الله أنه قال يجوز أن يكون شاهداً فيها إذا عرف الصوت ووجهه أنه إذا جاز أن يروي الحديث إذا عرف المحدث بالصوت ويستمتع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه بالصوت وهذا خطأ لأن من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم بالمتكلم لأن الصوت يشبه الصوت ويخالف رواية الحديث(3/456)
والاستمتاع بالزوجة لأن ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الأعمر على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد علي بما سمعه منه قبلت شهادته لأنه شهد عن علم وإن تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم عمر نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه إلا بالعين وهو خارج عن يده لم تقبل شهادته عليه لأنه لا علم له بمن يشهد عليه وإن تحمل الشهادة ويده في يده وهو بصير ثم عمي ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت شهادته لأنه يشهد عليه عن علم وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم والنسب وهو بصير ثم عمر قبلت شهادته لأنه يشهد على من يعلمه.
فصل: ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فوجب ذكرها في الشهادة وإن رهن رجل عبداً عند رجل بألف ثم زاده ألفاً آخر وجعل العين رهناً بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين وعلم الشهود حال الرهن في الباطن فإن كانوا يعقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الأمر عليه في الباطن وإن كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لأنهم يعتقدون أنهم صادقون في ذلك والثاني: أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الأمر عليه في الباطن لأن الاعتبار في الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود.
فصل: ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبي من ثديها أومن لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات في حولين لاختلاف الناس في شروط الرضاع فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لأن الناس يختلفون فيما يصير به ابناً من الرضاع وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها وأرضعته لم يجز أن يشهد بالرضاع لأنه يجوز أن يكون قد أعدت شيئاً فيه لبن من غيرها على هيئة الثدي فرأى الصبي يمص فظة ثدياً
فصل: ومن شهد بالجناية ذكر صفاتها فإن قال ضربه بالسيف فمات أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتاً لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه وإن قال ضربه بالسيف فمات منه أو ضربه لقتله ثبت القتل بشهادته وإن قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل لشهادته على المنصوص لأنه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه فإن قال ضربه فاتضح أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته(3/457)
لأنه أضاف الموضحة إليه وإن قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان الدم من غير الضرب وإن قال ضربه فتسال دمه ومات قبلت شهادته في الدامية لأنه أضافها إليه ولا تقبل في الموت لأنه يحتمل أن يكون الموت من غيره وإن قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتيه لم يجز القصاص لأنا لا نعلم على أي الموضحتين شهد ويجب أرش موضحة لأن الجهل بعينها ليس بجهل لأنه قد أوضحه.
فصل: وإن شهد بالنا ذكر الزاني ومن زنى به لأنه قد يراه على بهيمة فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا أو يراه على زوجته أو جارية ابنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره في فرجها لك يحكم له لأن زياداً لما شهد على المغيرة عند عمر رضي الله عنه ولم يذكر ذلك لم يقم الحد على المغيرة فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الإمام عنه فإن شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على المشهور عليه لأن البينة لم تكمل ولم يحد الرابع عليه لأنه لم يشهد بالزنا وهل يجب الحد على الثلاثة فيه قولان وإن شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم يحد المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة ويجب الحد على الرابع قولاً واحداً لأنه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا وهل يحد الثلاثة على القولين فإن شهد أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن يفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس بزنا ولا يجب على الشهود الباقين الحد لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا فلا يجب الحد مع الاحتيال.
فصل: ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب وصفة السرقة لأن الحم يختلف باختلافها فوجب ذكرها ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً فلم يجز الحكم قبل البيان كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في الشهادة في حدود الله تعالى فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه فيه قدحاً في الشهود والثاني: أنه يجوز لأن عمر رضي الله عنه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فروي أنه قال أرجوا أن لا يفضح الله تعالى علي يديك أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه يجوز أن يعرض للمقر بالتوقف فجاز أن يعرض للشاهد.(3/458)
باب الشهادة على الشهادة
وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة وفي حدود الله تعالى وهو حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر قولان: أحدهما: أنه يجوز لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين والثاني: أنه لا يجوز لأن الشهادة على الشهادة تراد لتأكيد الوثيقة ليتوصل بها إلى إثبات الحق وحدود الله تعالى مبنية على الدواء والإسقاط فلم يجز تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة وما يثبت الشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي الكتاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة.
فصل: ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود الأصل بالموت أو المرض أو الغيبة لأن شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت نفس الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود الأصل والغيبة التي يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الأصل من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه تلحقه المشقة في ذلك وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرع إلى بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لأنه يقدر على شهادة شهود الأصل من غير مشقة.
فصل: ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة النساء لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح.
فصل: ولا يقبل إلا من عدد لأنه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات وإن كان شهود الأصل اثنين فشهد على أحدهما: شاهدان وعلى الآخر شاهدان جاز لأنه يثبت قول كل واحد منهما بشاهدين وإن شهد واحد على شهادة أحدهما: وشهد الآخر على شهادة الثاني لم يجز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين والثاني: أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لأنهما قاما في التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد فإذا شهدا فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين وإذا كان شهود الأصل رجلاً وامرأتين قبل في أحد القولين شهادة اثنين على شهادة كل واحد منهم ولا يقبل في الآخر إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم،(3/459)
وإن كان شهود الأصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد القولين شهادة رجلين على كل واحدة منهن ولا يقبل في الآخر إلا شهادة ثمانية يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن وإن كان شهود الأصل أربعة من الرجال وهو في الزنا وقلنا إنه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود فإن قلنا يقبل شاهدان على شاهدي الأصل في غير الزنا ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يكفي شاهدان في إثبات شهادة الأربعة كما يكفي شاهدان في إثبات شهادة اثنين والثاني: أنه يحتاج إلى أربعة لأن فيما يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد منهما إلى العدد الذي يثبت به أصل الحق وهو اثنان وأصل الحق ههنا لا يثبت إلى بأربعة فلم تثبت شهادتهم إلا بأربعة إن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين إلى الأربعة ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهاد كل شاهدين شهادة واحد والثاني: أنه يحتاج إلى ستة عشر لأن ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد إلا بما يثبت به أصل الحق وأصل الحق لا يثبت إلا بأربعة فلا تثبت شهادة كل واحد منهم إلا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر.
فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل بما يعرف به لأن عدالته شرط فإذا لم تعرف لمتعلم عدالته فإن سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لأنهم غير متهمين في تعديلهم وإن قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لأنه يجوز أن يكونوا عدولاً عندهم غير عدول عند الحاكم.
فصل: ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة إلا من ثلاثة أوجه: أحدها أن يسمع رجلاً يقول أشهد أن لفلان على فلان كذل مضافاً إلى سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر لأنه لا يحتمل مع ذكر السبب إلا الوجوب والثاني: أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لأنه لا يشهد عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به والثالث أن يسترعيه رجل بأن يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا فاشهدوا على شهادتي بذلك لأنه لا يسترعيه إلا على واجب لأن الاسترعاء وثيقة والوثيقة لا تكون على واجب وأما إذا سمع رجلاً في دكانه أو طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فاشهد على شاهدتي لم يحكم به لأنه يحتمل أنه أراد أن له عليه ألفاً من وعد وعده بها فلم يجز تحمل الشهادة عليه مع الاحتمال وإن سمع رجلاً يقول لفلان على ألف درهم فهل يجوز أن يشهد عليه(3/460)
بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجوز أن يشهد عليه كما لا يجوز أن يتحمل الشهادة عليه والثاني: وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه والفرق بينه وبين التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب الحق على غيره فاعتبر فيه الاسترعاء ولأن الشهادة آكد لأنه يعتبر فيها العدالة ولا يعتبر ذلك ف الإقرار.
فصل: وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدي الشهادة أداها على الصفة التي تحملها فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره وإن أشهده شاهد الأصل على شهادته أو استرعاه قال أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته.
فصل: وإن رجع شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت شهادة الفلاع لأنه بطل الأصل فبطل الفرع وإن شهد شهود الفرع ثم حضر شهود الأصل قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم بالبدل. والله أعلم.(3/461)
باب اختلاف الشهود في الشهادة
إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين ثبت له ألف بشهادتهما لأنهما اتفقا على إثباتها وله أن يحلف مع شاهد الألفين ويثبت له الألف الأخرى لأنه شهد له بها شاهد وإن ادعى ألفاً فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففي وجهان: أحدهما: أنه يحلف مع الذي شهد له بالألف ويقضي له وتسقط شهادة من شهد له بالألفين لأنه صار مكذباً له فسقطت شهادته له في الجميع والثاني: أنه يثبت له الألف بشهادتهما ويحلف ويستحق الألف الأخرى ولا يصير مكذباً بالشهادة لأنه يجوز أن يكون له حق ويدعي بعضه ويجوز أنه لم يعلم أن له من يشهد له بالألفين.
فصل: وإن شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة وشهد آخر أنه زنى بها في زانية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة على فعل واحد وهل يجب حد القذف على الشهود على القولين وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة وشهد اثنان أنه زنى بها وهي مكرهة لم يجب الحد عليها لأنه لم تكمل بينة الحد في ناها وأما الرجل فالمذهب أنه لا يجب عليه الحد وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه(3/461)
يجب عليه الحد لأنهم اتفقوا على أنه زنى وهذا خطأ لأن زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة فصار كما لو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى.
فصل: وإن شهد شاهد أنه قذف رجلاً بالعربية وشهد آخر أنه قذفه بالعجمية أو شهد أحدهما: أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم يجب الحد لأنه لم تكمل البينة على قذف واحد وإن شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه قذفه وشهد آخر أنه أقر بالعجمية أنه قذفه أو شهد أحدهما: أنه أقر بالقذف يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر بالقذف يوم الجمعة وجب الحد لأن المقربة واحد وإن اختلفت العبارة فيه.
فصل: وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشاً أبيض غدوة وشهد آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد على سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضي له بالغرم لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً أبيض غدوة وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه عشية تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما وتخالف المسألة قبلها فإن كل واحد من الشاهدين ليس بينة والتعارض لا يكون في غير بينة وههنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطتا وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشاً غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشاً عشية ولم يعينا الكبش لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له فإن ادعى الكبشين حف مع كل واحد منهما يميناً وحكم له بهما لأنه لا تعارض بينها وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشاً عشية وجب القطع والغرم فيهما لأنه كملت بينة الحد والغرم وإن شهد شاهد أنه سرق ثوباً وقيمته ثمن دينار وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم يجب القطع لأنه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لأنه اتفق عليه الشاهدان وله أن يحلف على الثمن الآخر ويحكم له لأنه انفرد به شاهد فقضى به مع اليمين وإن أتلف عليه ثوباً فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران أن قيمته عشرون قضي بالعشرة لأن البينتين اتفقتا على العشرة وتعارضتا في الزيادة لأن إحداهما تثبتها والأخرى تنفيها فسقطت.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلاناً وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه فإن صدق الولي الأولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران لأن(3/462)
الأولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان لأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل وإن كذب الولي الأولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع لأن الأولين كذبهما الولي والآخران يدفعان عن أنفسهما القتل.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمداً فقال المدعى عليه قتلته خطأ فأقام المدعي ساهدين فشهد أحدهما: أنه أقر بقتله عمداً وشهد الآخر عن إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن صفة القتل لا تثبت بشاهد واحد فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعي أنه قتله عمدا ويجب القصاص أودية مغلظة.
فصل: وإن قتل رجل عمداً وله ابنان أو أخوان فشهد أحدهما: على أخيه أن عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل عدلاً كان أو فاسقاً لأن شهادته على أخيه تضمنت الإقرار بسقوط القود فأما الدية فإن نصيب الشاهد يثبت لأنه ما عفا عنه وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية وإن كان ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية لأن ما طريقه المال يثبت بالشاهد واليمين وفي كيفية اليمين وجهان أحدهما: أنه يحلف أنه قد عفا عن المال والثاني: أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها وهو إذا قلنا إن قتل العمد لا يوجب غير القود فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا عن القود والدية.
فصل: وإن شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك أو أنت جريي لم تثبت الوكالة لأن شهادتهما لم تتفق على قول واحد وإن شهد أحدهما: أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على التصرف ثبتت الوكالة لأن أحدهما: ذكر اللفظ والآخر ذكر المعنى ولم يخالفه الآخر إلى في اللفظ.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالماً وقيمته ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانماً وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق ورق الآخر ولإن لم يعلم ذلك ففيه قولان: أحدهما: أنه يقرع بينهما لأنه لا يمكن الجمع بينهما لأن الثلث لا يحتملهما وليس أحدهما: بأولى من الآخر فأقرع بينهما كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما والقول الثاني أنه يعتق من كل واحد منهما النصف لأن السابق حر والثاني: عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما النصف لتساويهما كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث(3/463)
فإن الثلث يقسم عليهما وإن شهد شاهداً على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الأولى وصحت الوصية للثاني وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما عنده بدين له عليهما فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تقبل شهادتهما لأن يدعي أن كل واحد منهما كاذب والثاني: تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهناً عنده لأنه يجوز أن يكون قد نسي فلا يكون كذبه معلوماً.(3/464)
باب الرجوع عن الشهادة
إذا شهد الشهود بحث ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم وحكي عن أبي ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك كما لو جهل عدالة الشهود فإن رجعوا بعد لا حكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذا الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفاء بالشبهة معها وإن كان مالاً أو عقداً فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء وهذا خطأ لأن الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لأنه يجوز أن يكونوا صادقين ويجوز أن يكونوا كاذبين وقد اقترن بأخذ الجائزين الحكم والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل.
فصل: وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا: تعمدنا ليقتل بشهادتنا وجب علهم القود لما روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم أتياه برجل آخر فقالا: إنا أخطأنا بالأول وهذا السارق فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولأنهما ألجآه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله وإن قالوا: تعمدنا الشهادة ولم تعمل أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجله لما فيه من الخطأ فإن قالوا: أخطأنا وجبت دية مخففة لأنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنها وجبت باعترافهم فإن اتفقوا أن بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة وعلى المتعمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب(3/464)
عليه القود لمشاركة المخطئ وإن اختلفوا فقال بعضهم: تعمدنا كلنا وقال بعضهم: أخطأنا كلنا وجب على المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة وإن كانوا أربعة شهدوا بالرجم فقال اثنان منهم: تعمدنا وأخطأ هذان وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القود على الجميع لأن كل واحد منهما أقر بالعمد وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يؤخذ كل واحد منهم إلا بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره بالعمد وإن قال اثنان تعمدنا كلنا وقال الآخران: تعمدنا وأخطأ الأولان فعلى الأولين القود وفي الآخرين القولان: أحدهما: يجب عليهما القود والثاني: وهو الصحيح أنه يجب عليهما قسطهما من الدية المغلظة وقد مضى توجيههما وإن قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين فإن قال الباقون: تعمدنا وجب القود على الجميع وإن قالوا: أخطأنا سقط القود عن الجميع.
فصل: فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع الدية وإن رجع اثنان ضمنا نصف الدية وإن زاد عددهم على عدد البينة بأن شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع لبقاء وجوب القتل على المشهور عليه وهل يجب عليه من الدية شيء؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل والثاني: أنه يجب عليه خمس الدية لأن الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم فإن رجع اثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود وإن قالا أخطأنا كلنا ففي الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتباراً بعددهم والثاني: يضمنان ربع الدية لأنه بقي ثلاثة أرباع البينة.
فصل: وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد اثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الإحصان ضمان فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجب لأنهم لم يشهدوا بما يوجب القتل والثاني: أنه يجب على الجميع لأن الرجم لم يستوف إلا بهم والثالث أنهما إن شهدا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنا لأنهما لم يثبتا إلا صفة وإن شهدا بعد ثبوت الزنا ضمنا لأن الرجم لم يستوف إلا بهما وفي قدر ما يضمنان من الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان نصف الدية لأنه رجم بنوعين من(3/465)
البينة الإحصان والزنا فقسمت الدية عليهما والثاني: أنه يجب عليهما ثلث الدية لأنه رجم بشهادة ستة فوجب على الاثنين ثلث الدية وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان قبلت شهادتهما لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنهما ضرراً فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة فإن قلنا لا يجب الضمان على شهود الإحصان وجبت الدية عليهم أرباعاً على كل واحد منهم ربعها وإن قلنا إنه يجب الضمان على شهود الإحصان ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأجل الشهادة بالإحصان شيء بل يجب على من شهد بالإحصان نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين وجنى اثنان أربعة جنايات والوجه الثاني أنه يجب الضمان لأجل الشهادة بالإحصان فإن قلنا يجب على شاهدي الإحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على الشاهدين بشهادتهما باللإحصان نصف الدية وقسم النصف بينهم نصفين على شاهدي الإحصان النصف وعلى الآخرين النصف فيصير على شاهدي الإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الآخرين ربعها وإذا قلنا إنه يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية وجب ههنا عليهما الثلث بشهادتهما بالإحصان ويبقى الثلثان بينهم النصف على من شهد بالإحصان والنصف على الآخرين فيصير على من شهد بالإحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها.
فصل: وإن شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أوكفارا وجب الضمان على المزكيين لأن المرجوم قتل بغير حق ولا شيء على شهود الزنا لأنهم يقولون إنا شهدنا بالحق ولولي الدم أن يطالب من شاء من الإمام أو المزكيين لأن الإمام رجم المزكيين ألجآ فإن طالب الإمام رجع على المزكيين لأنه رجمه بشهادتهما وإن طالب المزكيين لم يرجعا على الإمام لأنه كالآلة لهما.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة وجب عليهما قيمة العبد لأنهما ألفاه عليه فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فإن كان بعد الدخول وجب عليهما مهر المثل لأنهما أتلفا عليه مقوماً فلزمهما ضمانه كما لو أتلفا عليه ماله وإن كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع.(3/466)
فصل: وإن شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص أنه لا يرجع على المشهود وقال فيمن في يده دار فأقر أنه غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر أنها تسلم إلى الأموال بإقراره السابق وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثاني فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر فمن أصحابنا من قال: هو على قولين وهو قول أبي العباس: أحدهما: أنه يرجع على المشهود بالغرم لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان وهو الشهادة فلزمهم الضمان والثاني: أنه لا يرجع عليهم لأن العين لا تضمن إلا باليد أو بالإتلاف ولم يوجد من الشهود واحد منهما ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على الشهود قولاً واحداً والفرق بينهما وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال والصحيح أن المسألة على قولين والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان فإن شهد رجل وامرأتان بالمال ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع لأن كل امرأتين كالرجل وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث فإن رجع واحد وبقي اثنان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه ضمان الثلث لأن المال يثبت بشهادة الجميع والثاني: وهو المذهب أنه لا شيء عليه لأنه بقيت بينة يثبت بها المال فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الأول ضمان النصف لأنه انحل نصف البينة وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس وقال أبو العباس: يجب على الرجل ضمان النصف والصحيح هو الأول لأن الرجل في المال بمنزلة امرأتين وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس وإن رجع ثماني نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شيء لأنه بقيت بينة ثبت بها الحق فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثماني ضمان الربع وإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى التسع النصف.
فصل: وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمي عليه قبل الحكم لم تبطل شهادته لأن ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم لها وإن شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته لأن الفسق يوقع شكاً في عدالته عند الشهادة فمنع الحكم بها وإن شهد على رجل ثم صار عدواً له بأن قذفه المشهود عليه لم تبطل شهادته لأن هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من الحكم بها وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان في مال أو عقد لم يؤثر على الحكم لأنه يجوز أن يكون(3/467)
حادثاً ويجوز أن يكون موجوداً عند الشهادة فلا ينقض حكم نفذ بأمر محتمل وإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص مما يسقطان بالشبهة فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة.
فصل: وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لأنه تيقن الخطأ في حكمه فوجب نقضه كما لوحكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق فإن لم تسند الفسق إلى حال الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض الحكم مع الاحتمال وإن قامت البينة أنه كان فاسقاً عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق رحمه الله: ينقض الحكم قولاً واحداً لأنه إذا نقض بشهادة العبد ولا نص في رد شهادته ولا إجماع فلأن ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد شهادته بالنص والإجماع أولى وقال أبو العباس رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: أنه ينقض لما ذكرناه والثاني: أنه لا ينقض لأن فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ في الظاهر والصحيح هو الأول لأن هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد النص بخلافه فإن النص ثبت من جهة لا ظاهر وهو خبر الواحد ثم ينقض به الحكم.
فصل: وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم به قطعاً أو قتلاً وجب على الحاكم ضمانه لأنه لا يمكن إيجابه على الشهود وهم يقولون شهدنا بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له لأنه يقول استوفيت حقي فوجب على الحاكم الذي حكم بالإتلاف ولم يبحث عن الشهادة وفي الموضع الذي يضمن قولان: أحدهما: في بيت المال والثاني: على عاقلته وقد بيناه في الديات وإن كان المحكوم به مالاً فإن كان باقياً في يد المحكوم له وجب عليه رد وإن كان تالفاً وجب عليه ضمانه لأنه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له لأن الجناية لا تضمن إلا أن تكون محرمة ويحرم الحاكم خرج عن أن يكون محرماً فوجب على الحاكم دونه.
فصل: ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقاً فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار(3/468)
فليأخذها أو ليدعها" 1. ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به فلم يحل له بحكمه كما لوحكم له بما يخالف النص والإجماع.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 27. مسلم في كتاب الأقضية حديث 4. أبو داود في كتاب الأقضية باب 7. الترمذي في كتاب الأحكام باب 11. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 5. الموطأ في كتاب الأقضية باب 1.(3/469)
كتاب الإقرار
مدخل
...
كتاب الإقرار
الحكم بالإقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية بإقرارهما ولأنه إذا وجب الحكم بالشهادة فلأن يجب بالإقرار وهو من الريبة أبعد وأولى.
فصل: وإن كان المقر به حقاً لآدمي أو حقاً لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه الإقرار به لقوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ولقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] والإملال هو الإقرار فإن كان حقاً لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه في كتاب الشهادة.
فصل: ولا يصح الإقرار إلا من بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه التزام حق بالقول فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة على بلوغه ولا يحلف المقر لأنا حكمنا بأنه غير بالغ وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون وإن كان بمعصية الله فعلى ما ذكرنا في الطلاق وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لأنه غير متهم وأما إقراره بالمال فقد بيناه في الحجر والتفليس.
فصل: ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لأن الحق عليه دون مولاه ولا يقبل إقرار المولى عليه في ذلك لأن المولى لا يملك من العبد إلا المال وإن جنى رجل على(3/470)
عبد جناية توجب القصاص أو قذفه قذفاً يوجب التعزير ثبت القصاص والتعزير له وله المطالبة به والعفو عنه وليس للمولى المطالبة به ولا العفو عنه لأنه حق غير مال فكان له دون المولى ولا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ لأنه إيجاب مال في رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله ويقبل إقرار العبد المأذون في دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذي في يده لأن المولى سلطه عليه ولا يقبل إقرار غير المأذون في دين معاملة في الحال ويتبع به إذا عتق لأنه لا يمكن أخذه من رقبته لأنه لزمه برضى من له الحق وإن أقر بسرقة مال لا يجب فيه القطع كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز وصدقه المولى وجب التسليم إن كان باقياً وتعلق برقبته إن كان تالفاً لأنه لزمه بغير رضى صاحبه وإن كذبه المولى كان في ذمته يتبع به إذا عتق وإن وجب فيه القطع قطع لأنه غير متهم في إيجاب القطع وفي المال قولان واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاثة طرق: أحدها وهو قول أبي إسحاق أنه كان المال في يده ففيه قولان أحدهما: أنه يسلم إليه لأنه انتفت التهمة عنه في إيجاب القطع على نفسه والثاني: أنه لا يسلم لأن يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو كان المال في يد المولى وإن كان المال تالفاً لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولاً واحداً لأن للغرم محلاً يثبت برقبته وإن كان باقياً لم يقبل إقراره قولاً واحداً لأن يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه كما لو أقر بسرقة مال في يد المولى والطريق الثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن القولين في الحالين سواء كان المال باقياً أو تالفاً لأن العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى فإن قبل في أحدهما: قبل في الآخر وإن رد في أحدهما: رد في الآخر فلا معنى للفرق بينهما.
فصل: وإن باع السيد عبده من نفسه فقد نص في الأم أنه يجوز وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة يجوز قولاً واحداً وذهب القاضي أو حامد المروروذي والشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمهما الله إلى أنها على قولين: أحدهما: أنه يجوز لأنه إذا جازت كتابته فلأن يجوز بيعه وهو أثبت والعتق فيه أسرع أولى والثاني: أنه لا يجوز لأنه لا يجوز بيعه بما في يده لأنه للمولى ولا يجوز بمال في ذمته لأن المولى لا يثبت له مال في ذمة عبده فإذا قلنا إنه يجوز وهو الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن.(3/471)
فصل: ويقبل إقرار المريض بالحد والقصاص لأنه غير متهم ويقبل إقراره بالمال لغير وارث لأنه غير متهم في حقه وإن أقر لرجل بدين في الصحة وأقر لآخر بدين في المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما: على الآخر كما لو أقر لهما في حال الصحة واختلف أصحابنا في إقراره للوارث فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه إثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير رضى سائر الورثة كالوصية والثاني: أنه يقبل وهو الصحيح لأن من صح إقراره له في الصحة صح إقراره في المرض كالأجنبي ومن أصحابنا من قال يقبل إقراره قولاً واحداً والقول الآخر حكاه عن غيره وإن كان وارثه أخاً فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ابن صح إقراره للأخ قولاً واحداً لأنه خرج عن أن يكون وارثاً وإن أقر لأخيه وله ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الإقرار للوارث فيكون على ما ذكرناه من الطريقين في الإقرار للوارث وإن ملك رجل أخاه ثم أقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا؟ إن قلنا إن الإقرار للوارث لا يصح لم يرث لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فثبتت الحرية وسقط الإرث وإن قلنا إن الإقرار للوارث يصح نفذ العتق بإقراره وثبت الإرث بنسبه.
فصل: ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه السيد أو كذبه لأن الحق له دون المولى فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الإقرار وإن قلنا إنه لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده.
فصل: وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى إرث أو وصية صح الإقرار فإن أطلق ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يصح لأنه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من جهة الجناية والثاني: أنه يصح وهو الصحيح لأنه يجوز أن يملكه بوجه صحيح وهو الإرث والوصية فصح الإقرار له مطلقاً كالطفل ولا يصح الإقرار إلا لحمل يتيقن وجوده عند الإقرار كما بيناه في كتاب الوصية وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح الإقرار فإن أطلق ففيه وجهان بناء على القولين في الإقرار للحمل.(3/472)
فصل: وإن أقر بحق لآدمي أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاط بغير رضاه وإن أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أوحد الشرب قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله: لا يقبل لأنه حق ثبت بالإقرار فل يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف وهذا خطأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه قال: أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض عنه فقال: يا رسول الله إن الأخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى له الرابعة فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل بك جنون" فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه". وكان قد أحصن فلولم يسقط بالرجوع لما عرض له ويخالف القصاص وحد القذف فإن ذلك يجب لحق الآدمي وهذا يجب لحق الله تعالى وقد ندب فيه إلى الستر وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل فيه الرجوع لأنه حق يجب لصيانة حق الآدمي فلم يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد القذف والثاني: وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت". فقال له مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلولم يقبل فيه رجوعه لما عرض له ولأنه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الإقرار كحد الزنا والشرب.(3/473)
فصل: وما قبل فيه الرجوع عن الإقرار إذا أقر به فالمستحب للإمام أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبي هريرة وحديث أبي أمية المخزومي فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الإقرار قبل لأنه إذا سقط بالرجوع جميع الحد سقط بعضه وإن وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى لأنه ربما رجع عن الإقرار فيسقط عنه الحد وإن اتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى الزهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال كنت فيمن رجم ماعزاً فرجمناه في المصلى بالمدينة فلما أذلقته الحجارة تجمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات فلولم يجز ذلك لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمنهم ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد.
فصل: ومن أقر لرجل بمال في يده فكذبه المقر له بطل الإقرار لأنه رده وفي المال وجهان أحدهما: أنه يؤخذ منه ويحفظ لأنه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب على الإمام حفظه كالمال الضائع والثاني: أنه لا يؤخذ منه لأنه محكوم له بملكه فإذا رد المقر له بقي على ملكه.
فصل: فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله في فسخ النكاح لأنه إقرار في حق نفسه ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها لأن قوله لا يقبل في حق غيره وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح لأنه إقرار في حق غيرها وقبل قولها في إسقاط المهر لأنه إقرار ف حق نفسها.
فصل: وإن قال لرجل لي عندك ألف فقال لا أنكر لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أن يريد أني لا انكر أنه مبطل في دعواه وإن قال أقر لكم لم يكن إقرار لأنه وعد بالإقرار وإن قال لا أنكر أن تكون محقاً لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أنه يريد أني لا أنكر أن تكون محقاً في اعتقاده وإن قال لا أنكر أن تكون محقاً في دعواك كان إقراراً لأنه يحتمل غير الإقرار وإن قال أنا مقر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يكون إقراراً لأنه يحتمل غير الإقرار وإن قال أنا مقر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يكون إقراراً لأنه يحتمل أنه يريد أني مقر ببطلان دعواك والوجه الثاني: أن يكون إقراراً لأنه جواب عن الدعوى(3/474)
فانصرف الإقرار إلى ما ادعى عليه وإن قال لي عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمري كان مقراً لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق وإن قال لعل أو عسى لم يكن إقراراً لأنها ألفاظ تستعمل في الشك وإن قال له علي في علمي كان إقراراً لأنما عليه في علمه لا يحتمل إلا الوجوب وإن قال اقض الألف التي لي عليك فقال نعم كان إقراراً لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال اشتر عبدي هذا فقال: نعم أو أعطني عبدي هذا فقال: نعم كان إقراراً بالعبد لما ذكرناه وإن ادعى عليه ألفاً فقال: خذ أو اتزن لم يكن إقراراً لأنه يحتمل أنه أراد خذ الجواب مني أو اتزن إن كان ذلك على غيري وإن قال خذها أو اتزنها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي عبد الله الزبيري رحمه الله أنه يكون إقراراً لأن هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقراراً لأن هاء الصفات ترجع إلى المدعي به ولم يقر أنه واجب وإن قال وهي صحاح فقد قال أبو عبد الله الزبيري إنه إقرار لأنها صفة للمدعي والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف وقال عامة أصحابنا: لا يكون إقراراً لأن الصفة ترجع إلى المدعي ولا تقتضي الوجوب عليه وإن قال له علي ألف إن شاء الله لم يلزمه شيء لأن ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته وإن قال له علي ألف إن شاء زيد أوله علي ألف إن قدم فلان لم يلزمه شيء لأن ما لا يلزمه لا يصير واجباً عليه بوجود الشرط وإن قال إن شهد لك فلان وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بإقرار لأنه إقرار معلق على شرط فلم يصح كما لو قال إن شهد فلان على صدقته أووزنت ولأن الشافعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال لفلان علي ألف إن شهد بها على فلان وفلان لم يكن إقراراً فإن شهدا عليه وهما عدلان لزمه بالشهود دون الإقرار والثاني: وهو قول أبي العباس بن القاص أنه إقرار وإن لم يشهدا به وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله لأنه أخبر أنه إن شهدا به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين إلا والدينار واجب عليه لأنه لولم يكن واجباً عليه لكان الشاهد به كاذباً فإذا قال يكون صادقاً دل على أن المشهود به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد ويخالف قوله إن شهد فلان صدقته أووزنت لك لأنه قد يصدق الإنسان من ليس(3/475)
يصادق وقد يزن بقوله ما لا يلزمه ويخالف ما قال الشافعي رحمه الله لفلان علي ألف إن شهد به فلان وفلان لأن وجوب الألف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه فإذا علق بشهادته دل على أنه غير واجب وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة وإنما أخبر أن يكون صادقاً وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه في الحال وإن كان قال له علي ألف ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه أقر بالوجوب والأصل بقاؤه والثاني: أنه لا يلزمه لأنه أقر به في زمان مضى فلا يلزمه في الحال شيء وإن أقر أعجمي بالعربية أو عربي بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم بما قال فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر ما يدعيه.(3/476)
باب جامع الاقرار
إذا قال لفلان علي شيء طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلاً ورد اليمين على المدعي وقضى له لأنه كالساكت عن جواب المدعي ومن أصحابنا من حكى فيه قولين: أحدهما: ما ذكرناه والثاني: أنه يحبس حتى يفسر لأنه قد أقر بالحق وامتنع من أدائه فحبس وإن شهد شاهدان على رجل بمال مجهول ففيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت بالحق كما يثبت الإقرار ثم يطالب المشهود عليه كما يطالب المقر والثاني: أنه لا يثبت الحق لأن البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت عن الحق وإن أقر بشيء وفسره بما قل أو كثر من المال قبل لأن اسم الشيء يقع عليه وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقبل لأنه يقع عليه اسم الشيء والثاني: أنه لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذه الأشياء لا يجب ضمانها والثالث أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لأنه لا يجب تسليمه وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لأنه يجب تسليمه وإن قال غصبتك شيئاً ثم قال عصبته نفسه لم يقبل لأن الإقرار يقتضي غصب شيء منه ويطالب بتفسير الشيء.
فصل: وإن قال له علي مال ففسره بما قل أو كثر قبل لأن اسم المال يقع عليه وإن قال له علي مال عظيم أو كثير قبل في تفسيره القليل والكثير لأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه ولأنه يحتمل أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه فإن قال له علي أكثر من مال فلان قبل في بيانه القليل والكثير لأنه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه في ذمته.
فصل: وإن قال له علي درهم لزمه درهم من دراهم الإسلام وهو ستة دوانق وزن(3/476)
كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبر كطبرية الشام وهو الذي فيه أربعة دوانق فإن كان ذلك متصلاً بالإقرار قبل منه كما لو قال له علي درهم إلا دانقين وإن كان منفصلاً نظرت فإن كان الإقرار في غير الموضع الذي يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة وإن كان في الموضع الذي يتعامل فيه بالدراهم الطبرية ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه يقبل لأن إطلاق الدراهم يحمل على دراهم الإسلام لأنه إخبار عن وجوب سابق بخلاف البيع فإنه إيجاب في الحال فحمل على دراهم الموضع الذي يجب فيه وإن قال له علي درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه درهم كبير في العرف فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلي قبل منه لأنه يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه وإن قال له علي درهم صغير أوله علي درهم لزمه درهم وازن لأنه هو المعروف فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لأنه محتمل اللفظ وإن قال له عل مائة درهم عدداً لزمه مائة وازنة عددها مائة لأن الدراهم تقتضي الوازفة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما.
فصل: وإن قال له علي دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل لأن الدراهم لا تتناول ما لا فضة فيه وإن فسرها بدراهم مغشوشة فالحكم فيها كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية وقد بيناه وإن قال له علي دراهم وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذي اقر فيه ولا تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه وقال المزني: لا يقبل منه لأن إطلاق الدراهم يقتضي سكة البلد كما يقتضي ذلك في البيع وهذا خطأ لأن البيع إيجاب في الحال فاعتبر الموضع الذي يجب فيه والإقرار إخبار عن وجوب سابق وذلك يختلف فرجع إليه.
فصل: وإن أقر بدرهم في وقت ثم أقر بدرهم في وقت آخر لزمه درهم واحد لأنه(3/477)
إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبراً عما أخبر به في الأول ولهذا لو قال رأيت زيداً ثم قال رأيت زيداً لم يقتض أن يكون الثاني إخباراً عن رؤية ثانية وإن قال له علي درهم من ثمن ثوب ثم قال له علي درهم من ثمن عبد لزمه درهمان لأنه لا يحتمل أن يكون الثاني هو الأول وإن قال له علي درهم ودرهم لزمه درهمان لأن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه وإن قال له علي درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه وإن قال له علي درهم فدرهم لزمه درهم واحد وإن قال لامرأته أنت طالق فطالق وقعت طلقتان واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبوعلي بن خيران رحمه الله: لا فرق بين المسألتين فجعلهما على قولين ومنهم من قال يلزمه في الإقرار درهم وفي الطلاق طلقتان والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل فيجوز أن يريد له علي درهم فدرهم خير منه وإن قال له علي درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة دراهم وإن قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئاً فيه قولان: أحدهما: أنه يقع طلقتان والثاني: أنه يقع ثلاث طلقات فنقل أبوعلي بن خيران جوابه في الطلاق إلى الإقرار وجعلهما على قولين ومن أصحابنا من قال يقع طلقتان في أحد القولين وفي الإقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولاً واحداً لأن الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد والإقرار لا يدخله التأكيد فحمل التكرار على العدد وإن قال له علي درهم فوق درهم أودرهم تحت درهم لزمه درهم واحد لأنه يحمل أن يكون فوق درهم أو تحت درهم في الجودة ويحتمل فوق درهم أو تحت درهم لي فل يلزمه زيادة مع الاحتمال وإن قال له علي درهم مع درهم لزمه درهم لأنه يحتمل مع درهم لي فلم يلزمه ما زاد مع الاحتمال وإن قال له علي درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان لأن قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب وإن قال له علي درهم في عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة لأن ضرب الواحد في عشرة عشرة وإن لم يرد الحساب لزمه درهم لأنه يحتمل أن له علي درهماً مختلطاً بعشرة لي وإن قال له علي درهم بل درهم لزمه درهم لأنه لم يقر بأكثر من درهم وإن قال له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان وإن قال له علي درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار والفرق بينهما أن قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم لأن الدرهم داخل في الدرهمين وإنما قصد إلحاق الزيادة به وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم وإقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن الدرهم فلزمه وقبل إقراره بالدينار فلزمه وإن قال له علي درهم أو دينار لزمه أحدهما: وأخذ بتعيينه لأنه أقر بأحدهما: وإن قال له علي درهم في دينار لزمه الدرهم ولا يلزمه الدينار لأنه يجوز أن يكون أراد في دينار لي.(3/478)
فصل: وإن قال له علي دراهم لزمه ثلاثة دراهم لأنه جمع وأقل الجمع ثلاثة وإن قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لأنه يحتمل أنه أراد بها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة في نفسه وإن قال له علي ما بين درهم إلى عشرة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلم يدخلا في الإقرار فلزمه ما بينهما والثاني: أنه يلزمه تسعة لأن الواحد أول العدد وإذا قال من واحد كان ذلك إقراراً بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه.
فصل: وإن قال له علي كذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم فصار كما لو قال له علي شيء وإن قال له علي كذا درهم لزمه درهم لأنه فسر المبهم بالدرهم وإن قال له علي كذا وكذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم وأكده بالتكرار فربع إليه كما لو قال له علي كذا وإن قال له علي كذا كذا درهماً لزمه درهم لأنه فسر المبهم به وإن قال له علي كذا وكذا رجع في التفسير إليه لأنه اقر بمبهمين لأن العطف بالواو يقتضي أن يكون الثاني غير الأول فصار كما لو قال له علي شيء وشيء وإن قال له علي كذا وكذا درهم فقد روى المزني فيه قولين: أحدهما: أنه يلزمه درهم والثاني: يلزمه درهمان فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه درهمان لأنه ذكر مبهمين ثم فسر المبهمين بالدرهم فرجع إلى كل واحد منهما والثاني: أنه يلزمه درهم أنه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل واحد منهما نصفاً فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال وقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا إذا قال كذا وكذا درهماً بالنصب لزمه درهمان لأنه جعل الدرهم تفسيراً فرجع إلى كل واحد منهما وإن قال كذا وكذا هل هذين الحالين وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في الإقرار والمواهب.
فصل: وإن قال له علي ألف رجع في البيان إليه وبأي جنس من المال فسره قبل منه وإن فسره بأجناس قبل منه لأنه يحتمل الجميع وإن قال له علي ألف درهم لزمه درهم ورجع في تفسير الألف إليه وقال أبو ثور يكون الجمعي دراهم وهذا خطأ لأن العطف لا يقتضي أن يكون المعطوف من جنس المعطوف عليه لأنه قد يعطف الشيء على غير جنسه كما يعطف على جنسه ألا ترى أنه ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلاً وخمسون درهماً أوله علي ألف وعشرة دراهم ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه خمسون درهماً وعشرة دراهم ويرجع في(3/479)
تفسير المائة والألف إليه كما قلنا في قوله ألف ودرهم والثاني: أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهماً أو ألف درهم وعشرة دراهم والفرق بينها وبين قوله ألف ودرهم أن الدرهم المعطوف على الألف لم يذكره للتفسير وإنما ذكره لإيجاب ولهذا يجب به زيادة على الألف والدراهم المذكورة بعد الخمسين والألف ذكرها للتفسير ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين والألف فجعل تفسيرا لما تقدم.
فصل وإذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لأن الاستثناء لغة للعرب وعادة أهل اللسان وإن قال علي عشرة إلا تسعة لزمه ما بقي لأن استثناء الأكبر من الجملة لغة العرب والدليل عليه قوله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82] ثم قال عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] فاستثنى الغاوين من العباد وإن كانوا أكثر وإن قال له علي عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لأن ما يرفع الجملة لا يعرف في الاستثناء فسقط وبقي المستثنى منه وإن قال له علي مائة درهم إلا ثوباً وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقي لأن الاستثناء من غير جنس المستثني منه لغة العرب والدليل عليه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [ص: 73] فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس وإن لم يكن منهم وإن قال له علي ألف إلا درهماً ثم فسر الألف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه الباقي وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه الجنس الذي فسر به الألف ويسقط الاستثناء لأنه استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقي المقر به كما لو قال له علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم والثاني: أنه يطالب بتفسير الألف بجنس قيمته أكثر من درهم لأنه فسر إقرار المبهم بتفسير باطل فسقط التفسير لبطلانه وبقي الإقرار بالمبهم فلزمه تفسيره.
فصل: وإن قال هؤلاء العبيد لفلان إلا واحداً طولب بالتعيين لأنه ثبت بقوله فرجع(3/480)
في بيانه إليه فإنه ماتوا إلا واحداً منهم فقال الذي بقي هو المستثنى ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه يرفع به الإقرار فلم يقبل كما لو استثنى الجميع بقوله والثاني: وهو المذهب أنه يقبل لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه رفع المقر به بقوله وههنا لم يرفع بالاستثناء إلا واحداً وإنما سقط في الباقي بالموت فصار كما لو أعتق واحداً منهم ثم ماتوا إلا واحداً وإن قتل الجميع إلا واحداً فقال الذي بقي هو المستثنى قبل وجها واحداً لأنه لا يسقط حكم الإقرار لأن المقر له بهم يستحق قيمتهم بالموت.
فصل: وإن قال هذه الدار لفلان إلا هذا البيت لم يدخل البيت في الإقرار لأنه استثناه وإن قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لي قبل لأنه أخرج بعض ما دخل في الإقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء.
فصل: وإن قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن إقراراً بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله وبقي البعض فصار كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وله أن يمنعه من سكناها لأنها هبة منافع لم يتصل بها القبض فجاز له الرجوع فيها
فصل: وإن أقر لرجل بمال في ظرف بأن قال له عندي زيت في جرة أوتين في غرارة أو سيف في عمد أو فص في خاتم لزمه المال دون الظرف لأن الإقرار لم يتناول الظرف ويجوز أن يكون المال في ظرف للمقر وإن قال له عندي جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه فص لزمه الظرف دون ما فيه لأنه لم يقر إلا بالظرف ويجوز أن يكون ما فيه للمقر وإن قال له عندي خاتم لزمه الخاتم والفص لأن اسم الخاتم بجمعهما وإن قال له عندي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه ومن(3/481)
أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركباً على الثوب بعد النسج ففيه وجهان: أحدهما: ما ذكرناه والثاني: أنه لا يدخل فيه لأنه متميز عنه وإن قال له في يدي دار مفروشة لزمه الدار دون الفرش لأنه يجوز أن تكون مفروشة بفرش للمقر وإن قال له عندي فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج وإن قال له عندي عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب والفرق بينهما أن العبد له يد على الثوب وما في يد العبد لمولاه والفرس لا يد له على السرج.
فصل: وإن قال لفلان علي الف درهم ثم أحضر ألفاً وقال هي التي أقررت بها وهي وديعة فقال المقر له هذه وديعة لي عندي والألف التي أقر بها دين لي عليه غير الوديعة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله لأن قوله على إخبار عن حق واجب عليه فإذا فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل والثاني: أنه يقبل لأن الوديعة علي ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت وإن قال له علي ألف في ذمتي ثم فسر ذلك بالألف التي هي وديعة عنده وقال المقر له بل هي دين لي في ذمته غير الوديعة فإن قلنا في التي قبلها أنه لا يقبل قوله فيها فههنا أولى أن لا يقبل وإن قلنا يقبل هناك قوله ففي هذه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل وهو الصحيح لأن الألف التي أقر بها في الذمة والعين لا تثبت في الذمة والثاني: أنه يقبل لأنه يحتمل أنها في ذمتي لأني تعديت فيها فيجب ضمانها في ذمتي وإن قال له علي ألف ثم قال هي وديعة كانت عندي وظننت أنها باقية وقد هلكت لم يقبل قوله لأن الإقرار يقتضي وجوب ردها أو ضمانها والهالكة لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الإقرار بها.
فصل: وإن قال له علي ألف درهم وديعة ديناً لزمه الألف لأن الوديعة قد يتعدى فيها فتصير ديناً وإن قال له علي ألف درهم عارية لزمه ضمانها لأن إعارة الدراهم تصح في أحد الوجهين فيجب ضمانها وفي الوجه الثاني لا تصح إعارتها فيجب ضمانها لأن ما وجب ضمانه في العقد الصحيح وجب ضمانه في العقد الفاسد.
فصل: وإن قال له في هذا العبد ألف درهم أوله من هذا العبد ألف درهم ثم قال أردت أنه وزن في ثمنه ألف درهم ووزنت أنا ألف درهم في صفقة واحدة كان ذلك إقراراً بنصفه وإن قال اشتري ثلثه أو ربعه بألف في عقد واشتريت أنا الباقي بألف في عقد آخر قبل قوله لأن إقراراه مبهم وما فسر به محتمل والعبد في يده فقبل قوله فيه، وإن قال(3/482)
جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع العبد ويدفع إليه الأرش وله أن يفديه وإن قال وصى له من ثمنه بألف درهم بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم فإن أراد أن يدفع إليه ألفاً من ماله لم يجز لأن بالوصية يتعين حقه في ثمنه وإن قال العبد مرهون عنده بألف ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة لا في العين والثاني: وهو الصحيح أنه يقبل لأن المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين.
فصل: وإن قال له ميراث أبي ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه وإن قال له في ميراثي من أبي ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لأنه أضاف الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره لا من جهته وإن قال له في هذا المال ألف درهم لزمه وإن قال له في مالي هذا ألف درهم لم يلزمه لأن ماله لا يصير لغيره بإقراره.
فصل: وإذا أقر بحق وصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان عليه الف درهم قضاها ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لأنه يسقط ما أقر به فلم يقبل كما لو قال له علي عشرة إلا عشرة والثاني: أنه لا يلزمه الحق لأنه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له علي ألف إلا خمسمائة وإن قال له علي ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: هي على القولين لأن التأجيل كالقضاء ومنهم من قال يقبل قولاً واحداً لأن التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف القضاء فإنه يسقطه.
فصل: وإن قال هذه الدار لزيد بل لعمرو أو قال غصبتها من زيد لا بل من عمرو حكم بها لزيد لأنه أقر له بها ولا يقبل قوله لعمر ولأنه رجوع عن الإقرار لزيد وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمر وفيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه لأن العين قائمة فلا يستحق قيمتها والثاني: أنه يلزمه وهو الصحيح لأنه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين طولب بالتعيين فإن عين أحدهما: فإن قلنا إنه إذا أقر به لأحدهما: بعد الآخر غرم للثاني حلف لأنه إذا نكل غرم له وإن قلنا إنه لا يغرم للثاني لم يحلف لأنه لا فائدة في تحليفه لأنه إذا نكل لم(3/483)
ينقض عليه بشيء وإن كان في يده دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمرو حكم بها لزيد لأنها في يده فقبل إقراره بها ولا يقبل قوله إن ملكها لعمرو لأنه إقرار في حق غيره ولا يغرم لعمرو شيئاً لأنه لم يكن منه تفريط لأنه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهي في يد زيد بإجارة أورهن أو غصبها منه فأقر بها على ما هي عليه فأما إذا قال هذه الدار ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان: أحدهما: أنها كالمسألة قبلها إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين أن يقدم ذكر الغصب والثاني: أنها تسلم إلى زيد وهل يغرم لعمرو على قولين كما لو قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو.
فصل: وإن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه فإن كان المقر به صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه لأنه أقر له بحث فثبت كما لو أقر له بمال فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لأنه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده وإن كان المقر به بالغاً عاقلاً لم يثبت إلا بتصديقه لأن له قولاً صحيحاً فاعتبر تصديقه في الإقرار كما لو أقر له بمال وإن كان المقر به ميتاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه لأنه يقبل إقراره به إذا كان حياً فقبل إذا كان ميتاً وإن كان عاقلاً بالغاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يثبت لأن نسب البالغ لا يثبت إلا بتصديقه وذلك معدوم بعد الموت والثاني: أنه يثبت وهو الصحيح لأنه ليس له قول فثبت نسبه بالإقرار كالصبي والمجنون وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسقط النسب وهو قول أبي علي الطبري رحمه الله كما لو أقر له بمال ثم رجع في الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يسقط لأن النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش.
فصل: وإن مات رجل وخلف ابناً فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه بأن كان عبداً أو قاتلاً أو كافراً والأب مسلم لم يقبل إقراره لأنه لا يقبل إقراره عليه بالمال فر يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبي وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الأب لحقه فإن كان قد نفاه الأب لم يثبت لأنه يحمل عليه نسباً حكم ببطلانه وإن لم ينفه الأب ثبت النسب بإقراره لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعيد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة فقال سعد بن أبي وقاص: أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه وقال عبد بن زمعة أخي(3/484)
وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وإن مات وله ابنان فأقر أحدهما: بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت لأن النسب لا يتبعض فإذا لم يثبت في حق أحدهما: لم يثبت في حق الآخر ولا يشاركهما في الميراث لأن الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الإرث وإن أقر أحد الابنين بزوجة لأبيه وأنكر الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تشارك بحصتها من حق المقر كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان في نسبه والثاني: أنها تشارك بحصتها من حق المقر لأن المقر به حقها من الإرث لأن الزوجية زالت بالموت وإن مات وخلف بنتاً فأقرت بنسب أخ لم يثبت النسب لأنها لا ترث جميع المال فإن أقر معها الإمام ففيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت لأن الإمام نافذ الإقرار في مال بيت المال والثاني: أنه لا يثبت لأنه لا يملك المال بالإرث وإنما يملكه المسلمون وهم لا يتعينون فلم يثبت النسب إن مات رجل وخلف ابنين عاقلاً ومجنوناً فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب لأنه لم يوجد الإقرار من جميع الورثة فإن مات المجنون قبل الإفاقة فإن كان له وارث غير الأخ المقر قام وارثه مقامه في الإقرار وإن لم يكن له وارث غيره ثبت النسب لأنه صار جميع الورثة فإن خلف الميت ابنين فأقر أحدهما: بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهو يثبت النسب فيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت نسبه لأن المقر صار جميع الورثة والثاني: أنه لا يثبت نسبه لأن تكذيب شريطه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب كما لو أنكر الأب نسبه(3/485)
في حياته ثم أقر به الوارث وإن مات رجل وخلف ابناً وارثاً فأقر بابن آخر بالغ عاقل وصدقه المقر له ثم أقرا معاً بابن ثالث ثبت نسب الثالث فإن قال الثالث إن الثاني ليس بأخ لنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يسقط نسب الثاني لأن الثالث ثبت نسبه بإقرار الأول والثاني: فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع والثاني: أنه يسقط نسبه وهو الأظهر لأن الثالث صار ابناً فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني وإن أقر الابن الوارث بأخوين في وقت واحد فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما وإن كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما وإن صدق أحدهما: صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما وإن أقر بهما وكذب أحدهما: الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لأنهما لا يفترقان في النسب.
فصل: وإن كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حي لم يثبت النسب إلا بتصديقه وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب إلا بتصديق من بينهما لأن النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت إلا بتصديقهم.
فصل: وإن كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه كما إذا أقر به الموروث وإن كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخاً فيقر الأخ بابن للميت أو يخلف الميت أخاً من أب فيقر بأخ من الأب والأم ثبت له النسب ولم يرث لأنا لو أثبتنا له الإرث أدى ذلك إلى إسقاط إرثه لأن توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثاً وإذا خرج عن أن يكون وارثاً بطل إقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الإرث وقال أبو العباس: يث المقر به يحجب المقر لأنه لو كان حجبه يسقط إقراره لأنه إقرار عن غير وارث لوجب أن لا يقبل إقرار ابن بابن آخر لأنه إقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة وهذا خطأ لأنه إنما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الإقرار من جميع الورثة.
فصل: وإن وصى للمريض بأبيه فقبله ومات عتق ولم يرث لأن توريثه يؤدي إلى إسقاط ميراثه وعتقه لأن عتقه في المرض وصية وتوريثه يمنع من الوصية والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وإرثه فثبت العتق وسقط الإرث وإن أعتق موسر جارية في مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه لأن توريثها يبطل عتقها وميراثها لأن العتق في المرض وصية والوصية للوارث لا تصح وإذا بطل العتق بطل النكاح وإذا بطل النكاح سقط الإرث فثبت العتق وسقط الإرث وإن أعتق عبدين وصارا عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له وشهد العبدان بذلك فقبل شهادتهما لأن قبول شهادتهما يؤدي إلى(3/486)
إبطال الشهادة لأنه يبطل بها العتق فإذا بطل العتق بطلت الشهادة.
فصل: وإن مات رجل وخلف أخاف فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا ابن الميت فالقول قول الأخ مع يمينه لأن الأصل عدم النسب فإن نكل وحلف المدعي فإن قلنا أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار لم يرث كما لا يرث إن أقر به وإن قلنا إنه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة.
فصل: وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله ويشهدان أنه وارثه ولا نعلم له وارثاً سواه ويبينان سبب الإرث كما يبين المدعي فإذا شهدا على ما ذكرناه حكم به لأن الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم يكونا من أهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثاً سواه نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى ليقين فيعطي الزوج ربعاً عائلاً والزوجة ثمناً عائلاً ويعطى الأبوان كل واحد منهما سدساً عائلاً ن وإن كان ممن ليس له فرض وهو من عدا الزوجين والأبوين بعث الحاكم إلى البلاد التي دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضي مدة لوكان له وارث ظهر وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالأب والابن دفعت التركة كلها إليه لأن البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة ويستحب أنه يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه وإن كان المشهود له ممن يحجب كالجد والأخ والعم ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدفع إليه إلا نصيبه لأنه يجوز أن يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه أكثر منه والثاني: وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لأن البحث مع هذه البينة بمنزلة شهادة أهل الخبرة وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب فيه وجهان: أحدهما: أنه يستحب والثاني: أنه واجب.
فصل: وإن كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولا أقر المولى بوطء واحدة منهما فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتي طولب بالبيان فإن عين أحدهما: لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه لأنه لم يمسه رق وأمه أم ولد وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه مملوكة لأنها علقت منه بمملوك وترق الأمة الأخرى وولدها وإن ادعت أنها هي التي استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان،(3/487)
لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان: أحدهما: أن الأمة لا تصير أم ولد لأن الأصل الرق فلا يزال بالاحتمال والثاني: وهو المنصوص أنها تكون أم ولد لأن الظاهر من ولده منها أنه استولدها في ملكه وإن لم يكن له وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعين الولد عرض الولدان على القافة فإن ألحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه إذا عينه الوارث وإن لم تكن قافة أو كانت ولم تعرف أو ألحقت الولدين به سقط حكم النسب لتعذر معرفته وأقرع بينهما لتمييز العتق لأن القرعة لها مدخل في تمييز العتق فإن خرجت القرعة على أحدهما: عتق ولا يحكم لواحد منهما بالإرث لأنه لم يتعين وهل يوقف ميراث ابن فيه وجهان: أحدهما: أنه يوقف وهو قول المزني رحمه الله لأنا نتيقن أن أحدهما: ابن وارث والثاني: أنه لا يوقف لأن الشيء إنما يوقف إذا رجي انكشافه وههنا لا يرجى انكشافه.
فصل: وإن كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدي أخذ بالبيان فإن عين الأصغر ثبت نسبه وحريته ثم يسال عن جهة الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه والجارية أم ولد والولد الأكبر والأوسط مملوكان وإن قال استولدتها في نكاح ثم ملكها فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه أمة قن والأكبر والأوسط مملوكان وإن عين الأوسط تعين نسبه وحريته ويسأل عن استيلاده فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر الأصل وأمه أم ولد وأما الأصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة الاستيلاد وهل يعتق بموته كأمه فيه وجهان: أحدهما: أنه يعتق لأنه ولد أم ولده والثاني: أنه عبد قن لا يعتق بعتق أمه لجواز أن يكون عبداً قناً بأن أحبل أمه وهي مرهونة فثبت لها حرمة الاستيلاد فتباع على أحد القولين وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده الذي اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان وإن عين الأكبر تعين نسبه وحريته ويسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكي فهو حر الأصل وأمه أم ولد والأوسط والأصغر مملوكان وإن مات قبل البيان وخلف ابناً يجوز الميراث قام مقامه في التعيين فإن عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه في الموروث إذا عين وإن لم يكن له ابن أو كان له ولم يعين عرض على القافة فإن عينت القافة كان الحكم على ما ذكرناه وإن لم تكن قافة أو أنت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحرية لأنها تتميز بالقرعة، فإن(3/488)
خرجت على أحدهما: حكم بحريته ولا يثبت النسب لأن القرعة لا يتميز بها النسب وأما الأمة فإنه يبحث عن جهة استيلادها فإن كانت في ملكه فهي أم ولده وإن كان في نكاح فهي أمة قن وإن لم يعرق فعلى ما ذكرناه من الوجهين فلا يرث الابن الذي لم يتعين نسبه وهل يوقف له نصيب ابن أو يعطى الابن المعروف النسب حقه فيه وجهان: أحدهما: يوقف له ميراث ابن وهو قول المزني رحمه الله والثاني: وهو المذهب أنه لا يوقف له شيء بل تدفع التركة إلى المعروف النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم.
فصل: وإن مات رجل وخلف ابنين فأقر أحدهما: على أبيه بدين وأنكر الآخر نظرت فإن كان المقر عدلاً جاز أن يقضي بشهادته مع شاهد آخر أو مع امرأتين أو مع يمين المدعي وإن لم يكن عدلاً حلف المنكر ولم يلزمه شيء وأما المقر ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه جميع الدين في حصته لأن الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بجميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر والقول الثاني: وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين إلا بقدر حصته لأنه لو لزمه بالإقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضرراً. والله أعلم.
بحمد الله حسن توفيقه تم طبع المهذب
لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي(3/489)