فكذلك البائع وإن كان المبيع نخلاً مع ثمرة مؤبرة فهلكت الثمرة قوم النخل مع الثمرة ثم يقوم بلا ثمرة ويرجع بما بينهما من الثمن وتعتبر القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض فإن كانت قيمته وقت العقد أقل قوم وقت العقد لأن الزيادة حدثت في ملك المشتري فلا تقوم عليه وإن كان في وقت القبض أقل قوم في وقت القبض لأن ما نقص لم يقبضه المشتري فلم يضمنه فإن كان نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن كذهاب يد وتأليف دار نظرت فإن لم يجب لها أرش بأن أتلفها المشتري أو ذهبت بآفة سماوية فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويضرب بالثمن مع الغرماء كما تقول فيمن اشترى عبداً فذهبت يده أو داراً فذهب تأليفها في يد البائع فإن المشتري بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه ويرجع بالثمن فإن وجب لها أرض بأن أتلفها أجنبي فالبائع بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذ ويضرب بما نقص من الثمن لأن الأرش في مقابلة جزء كان البائع يستحقه فاستحق ما يقابله كما نقول فيمن اشترى عبداً فقطع الأجنبي يده أنه بالخيار بين أن يتركه ويرجع بالثمن وبين أن يأخذه ويطالب الجاني بالأرش غير أن المشتري يرجع على الجاني بقيمة اليد لأنها تلفت في ملكه فوجب له البدل والبائع يرجع بحصة اليد من الثمن لأنها تلفت في ملك المفلس فوجب الأرش له فيرجع البائع عليه بالحصة من الثمن لأن المبيع مضمون إلى المفلس بالثمن فإن كان المبيع نخلاً عليه طلع غير مؤبر فهلكت الثمرة ثم أفلس بالثمن فرجع البائع في النخل ففيه وجهان: أحدهما يأخذها بجميع الثمن لأن الثمرة تابعة للأصل في البيع فلم يقابلها قسط من الثمن والثاني يأخذها بقسطها من الثمن ويضرب بحصة الثمرة مع الغرماء لأن الثمرة يجوز إفرادها بالبيع فصارت مع النخل بمنزلة العينين.
فصل: وإن وجد المبيع زائداً نظرت فإن كانت زيادة غير متميزة كالسمن والكبر واختار البائع الفسخ رجع في المبيع مع الزيادة لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب وإن كان المبيع حباً فصار زرعاً أو زرعاً فصار حباً أو بيضاً فصار فرخاً ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع به لأن الفرخ غير البيض والزرع غير الحب والثاني يرجع - وهو المنصوص - لأن الفرخ والزرع عين المبيع وإنما تغيرت صفته فهو كالودي إذا صار نخلاً والجدي إذا صار شاة وإن كانت الزيادة متميزة نظرت فإن كانت ظاهرة كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار رجع فيه دون الزيادة لأنه نماء طاهر متميز حدث في ملك المشتري فلم يتبع الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب، فإن اتفق المفلس(2/119)
والغرماء على قطعها قطع وإن اتفقوا على تركها إلى الجداد ترك لأنه ملك أحدهما وحق الآخر وإن دعا أحدهما إلى قطعها والآخر إلى تركها وجب القطع لأن من دعا إلى القطع تعجل حقه فلا يؤخر بغير رضاه وإن كانت الزيادة غير ظاهرة كطلع غير مؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه قولان: روى الربيع أنه يرجع في النخل دون الطلع لأن الثمرة ليست عين ماله فلم يرجع بها وروى المزني أنه يرجع لأنه يتبع الأصل في البيع فتبعه في الفسخ كالثمن والكبر فإذا قلنا بهذا فأفلس وهو غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يرجع في الثمرة لأنها أبرت وهي في ملك المفلس فإن اختلف البائع والمفلس فقال البائع رجعت فيه قبل التأبير فالثمرة لي وقال المفلس رجعت بعد التأبير فالثمرة لي فالقول قول المفلس لأن الأصل بقاء الثمرة على ملكه فإن لم يحلف المفلس فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان وقد مضى دليلهما فإن كذبوه فحلف واستحق وأراد أن يفرقه على الغرماء ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يلزمهم قبوله لأنهم أقروا أنه أخذ بغير حق والثاني يلزمهم قبوله أو الإبراء من الدين وعليه نص في المكاتب إذا حمل إلى المولى نجماً فقال المولى هو حرام أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه منه فإن صدقه بعضهم وكذبه البعض فقد قال الشافعي رحمه الله: يفرق ذلك فيمن صدقه دون من كذبه فمن أصحابنا من قال لا يجوز أن يفرقه إلا على من صدقه لأنه لا حاجة به إلى دفع ذلك إلى من يكذبه وقال أبو إسحاق إذا اختار المفلس أن يفرق على الجميع جاز كما يجوز إذا كذبوه وحمل قول الشافعي رحمه الله إذا اختار أن يفرق فيمن صدقه وإن قال البائع رجعت قبل التأبير فالثمرة لي فصدقه المفلس وكذبه الغرماء ففيه قولان: أحدهما يقبل قول المفلس لأنه غير متهم والثاني لا يقبل لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يقبل إقراره فيه فإذا قلنا بهذا فهل يحلف الغرماء؟ فيه طريقان: فمن أصحابنا من قال هي على القولين كما قلنا في القسم قبله ومنهم من قال يحلفون قولاً واحداً لأن اليمين ههنا توجهت عليهم ابتداء وفي القسم قبله توجهت اليمين على المفلس فلما نكل نقلت إليهم.
فصل: وإن كان المبيع جارية فحبلت في ملك المشتري نظرت فإذا أفلس بعد الوضع رجع في الجارية دون الولد كما قلنا في الرد بالعيب ولا يجوز التفرق بين الأم والولد فإما أن يرد البائع قيمة الولد فيأخذه مع الأم أو تباع الأم والولد فيأخذ البائع ثمن الأم ويأخذ المفلس ثمن الولد ومن أصحابنا من قال إما أن يزن قيمة الولد فيأخذه مع الأم وإما أن يسقط حقه من الرجوع والمذهب الأول لأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره فثبت له الرجوع وإن أفلس قبل الوضع فإن قلنا لا حكم للحمل رجع فيهما لأنه(2/120)
كالسمن وإن قلنا إن الحمل له حكم رجع في الأم دون الحمل لأنه كالحمل المنفصل فإن باعها وهي حبلى ثم أفلس المشتري نظرت فإن أفلس قبل الوضع رجع فيهما وإن أفلس بعد الوضع فإن قلنا للحمل حكم رجع فيهما لأنهما كعينين باعهما وإن قلنا لا حكم للحمل رجع في الأم دون الحمل لأنه نماء تميز في ملك المشتري فلم يرجع فيه البائع ولا يفرق بين الأم والولد على ما ذكرناه.
فصل: وإن كان المبيع طعاماً فطحنه المشتري أو ثوباً فقصره ثم أفلس نظرت فإن لم تزد قيمته بذلك واختار البائع الرجوع رجع فيه ولا يكون المشتري شؤيكاً له بقدر عمله لأن عمله قد استهلك ولم يظهر له أثر وإن زادت قيمته بأن كانت عشر قيمته فصارت قيمته خمسة عشر ففيه قولان: أحدهما أن البائع يرجع فيه ولا يكون المشتري شريكاً له بقدر ما عمل فيه وهو قول المزني لأنه لم يضف إلى المبيع عيناً وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة وفي القصارة أظهر بياضاً كان كامناً في الثوب فلم يصر شريكاً للبائع في العين كما لو كان المبيع جوزاً فكسره ولأنه زيادة لا تتميز فلم يتعلق بها حق المفلس كما لو كان المبيع غلاماً فعلمه أو حيواناً فسمنه والثاني أن المشتري يكون شريكاً للبائع بقدر ما زاد بالعمل ويكون حكم العمل حكم العين وهو الصحيح لأنها زيادة حصلت بفعله فصار شريكاً كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه ولأن القصار يملك حبس العين لقبض الأجرة كما يملك البائع حبس المبيع لقبض الثمن فدل على أن العمل كالعين بخلاف كسر الجوز وتعلين الغلام وتسمين الحيوان فإن الأجير على هذه الأشياء لا يملك حبس العين لقبض الأجرة فعلى هذا يباع الثوب فيصرف ثلث الثمن إلى الغرماء والثلثان إلى البائع وإن كان قد استأجر المشتري من قصر الثوب وطحن الطعام ولم يدفع إليه الأجرة دفع الأجرة إلى الأجير من ثمن الثوب لأن الزيادة حصلت بفعله فقضى حقه من بدله.
فصل: وإن اشترى من رجل ثوباً بعشرة ومن آخر صبغاً بخمسة فصبغ به الثوب ثم أفلس نظرت فإن لم تزد ولم تنقص بأن صار قيمة الثوب خمسة عشر فقد وجد كل واحد من البائعين عين ماله فإن اختار الرجوع صار الثوب بينهما لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث وإن نقص فصار قيمة الثوب اثني عشر فقد وجد بائع الثوب عين ماله ووجد بائع الصبغ بعض ماله لأن النقص دخل عليه بهلاك بعضه فإن اختار الرجوع كان لبائع الثوب عشرة ولبائع الصبغ درهمان ويضرب بما هلك من ماله وهو ثلاثة مع الغرماء وإن زاد فصار يساوي الثوب عشرين درهماً بنينا على القولين في أن(2/121)
زيادة القيمة بالعمل كالعين أم لا فإن قلنا أنها ليست كالعين حصلت الزيادة في مالهما فيسقط بينهما على الثلث والثلثين لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث وإن قلنا إنها كالعين كانت الزيادة للمفلس فيكون شريكاً للبائعين بالربع.
فصل: وإن كان المبيع أرضاً فبناها أو غرسها فإذا أنفق المفلس والغرماء على قلع البناء والغراس ثبت للبائع الرجوع في الأرض لأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره فجاز له الرجوع فإن رجع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزم المفلس تسوية الأرض وأرش نقص إن حدث بها من القلع لأنه نقص حصل لتخليص ماله ويقدم ذلك على سائر الديون لأنه يجب لإصلاح ماله فقدم ذلك كعلف البهائم وأجرة النقال وإن امتنعوا من القلع لم يجبروا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق1" وهذا غرس وبناء بحق فقال البائع أنا أعطي قيمة الغراس والبناء وآخذه مع الأرض أو قلع وأضمن أرش النقص ثبت له الرجوع لأنه يرجع في عين ماله من غير إضرار وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص فقد روى المزني فيه قولين: أحدهما أنه يرجع والثاني أنه لا يرجع فمن أصحابنا من قال إن كانت قيمة الغراس والبناء أقل من قيمة الأرض فله أن يرجع لأن الغراس والبناء تابع فلم يمنع الرجوع وإن كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض لم يرجع لأن الأرض صارت كالتبع للغراس والبناء وحمل القولين على هذين الحالين وذهب المزني وأبو العباس وأبو إسحاق إلى أنها على قولين: أحدهما يرجع لأنه وجد عين ماله مشغولاً بملك المفلس فثبت له الرجوع كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المفلس بصبغ من عنده والثاني لا يرجع لأنه إذا رجع في الأرض بقي الغراس والبناء من غير طريق ومن غير شرب فيدخل الضرر على المفلس والضرر لا يزال بالضرر فإن قلنا إنه يرجع وامتنع البائع عن بذل العوض وأرش النقص وامتنع المفلس والغرماء من القلع فهل يجبر البائع على البيع؟ فيه قولان: أحدهما يجبر لأن الحاجة تدعوا إلى البيع لقضاء الدين فوجب أن يباع كما يباع الصبغ مع الثوب وإن لم يكن الصبغ له ويباع ولد المرهونة مع الرهن وإن لم يدخل في الرهن والثاني لا يجبر لأنه لايمكن إفراد كل واحد منهما بالبيع ولا يجبر على بيعها مع الغراس والبناء.
فصل: وإن كان المبيع أرضاً فزرعها المشتري ثم أفلس واختار البائع الرجوع في
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحرث باب 15. أبو داود في كتاب الإمارة باب 37. الترمذي في كتاب الأحكام باب 38. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 26. أحمد في مسنده "5/327".(2/122)
الأرض جاز له لأنه وجد عين ماله مشغولاً بما ينقل فجاز له الرجوع فيه كما لو كان المبيع داراً وفيها متاع للمشتري فإن رجع في الأرض نظرت في الزرع فإن استحصد وجب نقله وإن لم يستحصد جاز تركه إلى أوان الحصاد من غير أجرة لأن زرعه في ملكه فإذا زال الملك جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد من غير أجرة كما لو زرع أرضه ثم باع الأرض.
فصل: وإن كان المبيع من ذوات الأمثال كالحبوب والأدهان فخلطه بجنسه نظرت فإن خلطه بمثله كان للبائع أن يرجع لأن عين ماله موجود من جهة الحكم ويملك أخذه بالقسمة فإن رجع واتفقا على القسمة قسم ودفع إليه مثل مكيلته فإن طلب البائع البيع فهل يجبر المفلس فيه وجهان: أحدهما لا يجبر لأنه تمكن القسمة فلا يجبر على البيع كالمال بين الشريكين والثاني يجبر لأنه إذا بيع وصل البائع إلى بدل ماله بعينه وإذا قسم لم يصل إلى جميع ماله ولا إلى بدله وإن خلطه بأردأ منه فله أن يرجع لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فملك أخذه بالقسمة وكيف يرجع فيه وجهان: قال أبو إسحاق يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لأنه إن أخذ مثل زيته بالكيل كان ذلك أنقص من حقه وإن أخذ أكثر من زيته كان ربا فوجب البيع والثاني وهو المنصوص أنه يأخذ مثل زيته بالكيل لأنه وجد عين ماله ناقصاً فرجع فيه مع النقص كما لو كان عين ماله ثوباً فحدث به عيب عند المشتري فإن خلطه بأجود منه ففيه قولان: أحدهما يرجع وهو قول المزني لأنه وجد عين ماله مختلطاً بما لايتميز عنه فأشبه إذا خلطه بمثله أو كان ثوباً فصبغه والثاني أنه لا يرجع لأن عين ماله غير موجود حقيقة لأنه اختلط بما لا يمكن تمييزه منه حقيقة ولاحكماً لأنه لا يمكن المطالبة بمثل مكيلته منه ويخالف إذا خلطه بمثله لأنه تمكن المطالبة بمثل مكيلته ويخالف الثوب إذا صبغه لأن الثوب موجود وإنما تغير لونه فإن قلنا إنه يرجع فكيف يرجع فيه قولان: أحدهما يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لأنه لا يمكن أن يأخذ مثل زيته بالكيل لأنه يأخذ أكثر من حقه ولا يمكن أن يأخذ أقل من زيته بالكيل لأنه ربا فوجب البيع والثاني يرجع من الزيت بقيمة مكيلته فيكون قد أخذ بعض حقه وترك بعضه باختياره.
فصل: وإن أسلم إلى رجل في شيء وأفلس المسلم إليه وحجر عليه فإن كان رأس المال باقياً فله أن يفسخ العقد ويرجع إلى عين ماله لأنه وجد عين ماله خالياً من حق غيره فرجع إليه كالمبيع وإن كان رأس المال تالفاً ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه فإن لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه لأن أخذ العوض عن المسلم فيه(2/123)
لا يجوز وقال أبو إسحاق: إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع الغرماء برأس المال لأنه يتعذر تسليم المسلم فيه فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع والمذهب أنه لا يثبت الفسخ لأنه غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالإفلاس كما لو باعه عيناً فأفلس المشتري بالثمن والعين تالفة ويخالف إذا أسلم وانقطع الرطب لأن الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وههنا الفسخ بالإفلاس والفسخ بالإفلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ.
فصل: وإن أكرى أرضاً فأفلس المكتري بالأجرة فإن كان قبل استيفاء شيء من المنافع فله أن يفسخ لأن المنافع في الإجارة كالأعيان المبيعة في البيع ثم إذا أفلس المشتري والعين باقية ثبت له الفسخ فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقية وجب أن يثبت له الفسخ وإن أفلس وقد استوفى بعض المنافع وبقي البعض ضرب مع الغرماء بحصة ما مضى وفسخ فيما بقي كما لو ابتاع عبدين وتلف عنده أحدهما ثم أفلس فإنه يضرب بثمن ما تلف مع الغرماء ويفسخ البيع فيما بقي فإن فسخ وفي الأرض زرع لم يستحصد نظرت فإن اتفق الغرماء والمفلس على تبقيته بأجرة إلى وقت الحصاد لزم المكري قبوله لأن زرع بحق وقد بذل له الأجرة لما بقي فلزمه قبوله وإن لم يبذل له الأجرة جاز له المطالبة بقطعه لأن التبقية إلى الحصاد لدفع الضرر عن المفلس والغرماء والضرر لا يزال بالضرر وفي تبقيته من غير عوض إضرار بالمكري وإن دعا بعضهم إلى القطع وبعضهم إلى التبقية نظرت فإن كان الزرع لا قيمة له في الحال كالطعام في أول ما يخرج من الأرض لم يقطع لأنه إذا قطع لم يكن له قيمة وإذا ترك صار له قيمة فقدم قول من دعا إلى الترك وإن كان له قيمة كالقصيل الذي يقطع ففيه وجهان: أحدهما يقدم قول من دعا إلى القطع لأن من دعا إلى القطع تعجل حقه فلم يؤخر والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يفعل ما هو أحظ والأول أظهر.
فصل: إذا قسم مال المفلس بين الغرماء ففي حجره وجهان: أحدهما يزول الحجر لأن المعنى الذي لأجله حجر عليه حفظ المال على الغرماء وقد زال ذلك فزال الحجر كالمجنون إذا أفاق والثاني لا يزول إلا بالحاكم لأنه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل إلا بالحاكم كالحجر على المبذر.
فصل: ومن مات وعليه ديون تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته فإن كان عليه دين مؤجل حل الدين بالموت لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال(2/124)
والذي له إلى أجله" ولأن الأجل جعل رفقاً بمن عليه الدين والرفق بعد الموت أن يقضي دينه وتبرأ ذمته والدليل عليه ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن مرتهنة في قبره بدينه إلى أن يقضى عنه".
فصل: فإن تصرف الوارث في التركة قبل مضي الدين ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضى من له الحق كالمرهون والثاني يصح لأنه حق تعلق بالمال من غير رضى المالك فلم يمنع التصرف كمال المريض وإن قلنا إنه يصح فإن قضى الوارث الدين نفذ تصرفه وإن لم يقضي فسخنا وإن باع عبداً ومات وتصرف الوارث في التركة ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فرده أو وقع في بئر كان حفرها بهيمة في تصرف الورثة وجهان: أحدهما أنه يصح لأنهم تصرفوا في ملك لهم لا يتعلق به حق أحد والثاني يبطل لأنا تبينا أنهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة فإن كان في غرماء الميت من باع شيئاً ووجد عين ماله فإن لم تف التركة بالدين فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في رجل أفلس هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه1" فإن كانت التركة تفي بالدين ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أن له أن يرجع في عين ماله لحديث أبي هريرة والثاني لا يجوز أن يرجع في عين ماله وهو المذهب لأن المال يفي بالدين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحي المليء وحديث أبي هريرة قد روى فيه أبو بكر النيسابوري وإن خالف وفاء فهو أسوة الغرماء.
فصل: إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين الغرماء ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه لأنا إنما قسمنا بينهم بحكم الظاهر إنه لا غريم له غيرهم فإذا بان بخلاف ذلك وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه وإن أكرى رجل داره سنة وقبض الأجرة وتصرف فيها ثم أفلس وقسم ماله بين الغرماء ثم انهدمت الدار في أثناء المدة فإن المكتري يرجع على المفلس بأجرة ما بقي وهل يشارك الغرماء فيما اقتسموا به أم لا؟ ففيه وجهان: أحدهما لا يشاركهم لأنه دين وجب بعد القسمة فلم يشارك به الغرماء فيما اقتسموا كما لو استقرض مالا ًبعد القسمة والثاني يشاركهم لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 26.(2/125)
كما لو انهدمت الدار قبل القسمة ويخالف القرض لأنه دينه لا يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر وهذا استند إلى ما قبل الحجر ولأن المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة والمكتري يشاركهم في المال قبل القسمة فشاركهم بعد القسمة.(2/126)
باب الحجر
إذا ملك الصبي أو المجنون مالاً حجر عليه في ماله والدليل عليه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فدل على أنه لا يسلم إليه مال قبل البلوغ والرشد.
فصل: وينظر في ماله الأب ثم الجد لأنها ولاية على حق الصغير فقدم الأب والجد فيهما على غيرهما كولاية النكاح فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لأنه نائب عن الأب والجد فقدم على غيره وإن لم يكن وصي نظر السلطان لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبتت للسلطان كولاية النكاح وقال أبو سعيد الإصطخري: فإن لم يكن أب ولا جد نظرت الأم لأنها أحد الأبوين فثبت لها الولاية في المال كالأب والمذهب إنه لا ولاية لها لأنها ثبتت بالشرع فلم تثبت للأم كولاية النكاح.
فصل: ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط فأما ما لا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 165] ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار"(2/126)
وفي هذه التصرفات إضرار بالصبي فوجب أن لا يملكه ويجوز أن يتجر في ماله لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولى يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة1".
فصل: ويبتاع له العقار لأنه يبقى وينتفع بغلته ولا يبتاع إلا من مأمون لأنه إذا لم يكن مأموناً لم يأمن أن يبيع مالاً يملكه ولا يبتاعه في موضع أشرف على الخراب أو يخاف عليه الهلاك لأن في ذلك تغريراً بالمال ويبنى له العقار ويبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن والجص لأن الآجر يبقى واللبن يهلك والجص يجحف به والطين لا ثمن له والجص يتناثر ويذهب ثمنه والطين لا يتناثر وإن تناثر فلا ثمن له ولأن الآجر لا يتخلص من الجص إذا أراد نقضه ويتلف عليه ويتخلص من الطين فلا يتلف عليه ولا يبيع له العقار إلا في موضعين: أحدهما أن تدعو إليه الضرورة بأن يفتقر إلى النفقة وليس له مال غيره ولم يجد من يقرضه والثاني أن يكون له في بيعه غبطة وهو أن يطلب منه بأكثر من ثمنه فيباع له ويشتري ببعض الثمن مثله لأن البيع في هذين الحالين فيه حظ وفيما سواهما لا حظ فيه فلم يجز وإن باع العقار وسأل الحاكم أن يسجل له نظر فإن باعه الأب أو الجد سجل له لأنهما لا يتهمان في حق الولد وإن كان غيرهما لم يسجل حتى يقيم بينة على الضرورة أو الغبطة لأنه تلحقه للتهمة فلم يسجل له من غير بينة فإن بلغ الصبي وادعى أنه باع من غير ضرورة ولا غبطة فإن كان الولي أباً أو جداً فالقول قوله وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة لما ذكرناه من الفرق فإن بيع في شركته شقص فإن كان الحظ في أخذه بالشفعة لمن يترك وإن كان الحظ في الترك لم يأخذ لأن بينا أن تصرفه على النظر والاحتياط فلا يفعل إلا ما يقتضي النظر والاحتياط. فإن ترك الشفعة
__________
1 رواه الموطأ في كتاب الزكاة حديث 12.(2/127)
والحظ في تركها ثم بلغ الصبي وأراد أن يأخذ فالمنصوص أنه لا يملك ذلك لأن ما فعل الولي مما فيه نظر لا يملك الصبي نقضه كما لو أخذوا الحظ في الأخذ فبلغ وأراد أن يرد من أصحابنا من قال: له أن يأخذ لأنه يملك بعد البلوغ التصرف فيما فيه حظ وفيما لا حظ فيه وقد بلغ فجاز أن يأخذ وإن لم يكن فيه حظ وهذا خطأ لأن له أن يتصرف فيما لا حظ فيه إذا كان باقياً وهذا قد سقط بعفو الولي فسقط فيه اختياره فإن بلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة فالحكم فيه كالحكم في بيع العقار وقد بيناه.
فصل: ولا يبيع ما له بنسيئة من غير غبطة فإن كانت السلعة تساوي مائة نقداً ومائة وعشرين نسيئة فباعها بمائة نسيئة فالبيع باطل لأنه باع بدون الثمن وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة من غير رهن لم يصح البيع لأنه غرر بالمال فإن باع بمائة نقداً وعشرين مؤجلاً وأخذ بالعشرين رهناً جاز لأنه لو باعها بمائة نقداً جاز فلأن يجوز وقد زاده عشرين أولى وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ به رهناً ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه أخرج ماله من غير عوض والثاني يجوز وهو ظاهر النص وقول أبي إسحاق لأنه باع بربح واستوثق بالرهن فجاز.
فصل: ولا يكاتب عبده ولو كان بأضعاف القيمة لأنه يأخذ العوض من كسبه وهو مال له فيصير كالعتق من غير عوض.
فصل: ولا يسافر بماله من غير ضرورة لأن فيه تغريراً بالمال ويروى "إن المسافر وماله على قلت" أي على هلاك وفيه قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الباز مقلاة نزور
فصل: فإن دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لأن السفر ههنا أحوط.
فصل: ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة لأنه يخرجه من يده فلم يجز فإن خاف من نهب أو حريق أو غرق أو أراد سفراً وخاف عليه جاز له الإيداع والإقراض فإن قدر على الإيداع دون الإقراض أودع ولا يودع إلا ثقة وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه ولا يقرضه إلا ثقة ملياً لأن غير الثقة يجحد وغير الملى لا يمكن أخذ البدل منه فإن أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ وإن رأى ترك الرهن لم يأخذ وإن قدر على الإيداع والإقراض فالإقراض أولى لأن القرض مضمون بالبدل والوديعة غير(2/128)
مضمونة فكان القرض أحوط فإن ترك الإقراض وأودع ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يجوز كل واحد منهما فإذا قدر عليهما تخير بينهما والثاني لا يجوز لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] والاقراض ههنا أحسن فلم يجز تركه ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لأن في ذلك مصلحة له فجاز.
فصل: وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فإن بلغ الصبي واختلفا في النفقة فإن كان الولي الأب أو الجد فالقول قوله وإن كان غيرهما ففيه وجهان: أحدهما يقبل لأن في إقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله والثاني لا يقبل قوله كما لا يقبل في دعوى الضرر والغبطة في بيع العقار.
فصل: وإن أراد أن يبيع ماله بماله فإن كان أباً أو جداً جاز ذلك لأنهما لا يتهمان في ذلك لكمال شفقتهما وإن كان غيرهما لم يجز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يشتري الوصي من مال اليتيم" ولأنه متهم في طلب الحظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه.
فصل: وإن أراد أن يأكل من ماله نظرت فإن كان غنياً لم يجز لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وإن كان فقيراً جاز أن يأكل لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وهل يضمن البدل فيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه أجير له الأكل بحق الولاية فلم يضمنه كالرزق الذي يأكله الإمام من أموال المسلمين(2/129)
والثاني أنه يضمن لأنه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره.
فصل: ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة وهي الإنزال والسن والإنبات واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل فأما الإنزال فهو إنزال المني فمتى أنزل صار بالغاً والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام فدل على أنه بلوغ وروى عطية القرظي قال: عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن قريظة فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل فلو لم يكن بالغاً لما قتل وأما السن فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ولم يرني بلغت وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فرآني بلغت فأجازني وأما الإنبات فهو الشعر الخشن الذي ينبت على العانة وهو بلوغ في حق الكافر والدليل عليه ما روى عطية القرظي قال: كنت فيمن حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه فشكوا في أمن الذرية أنا أم من المقاتلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه" فنظروا فإذا عانتي لم تنبت فجعلوني في الذرية ولم أقتل وهل هو بلوغ في نفسه أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان: أحدهما أنه بلوغ فعلى هذا هو بلوغ في حق المسلم لأن ما كان بلوغاً في حق الكافر كان بلوغاً في حق المسلم كالاحتلام والسن والثاني أنه دلالة على البلوغ فعلى هذا هل يكون دلالة في حق المسلم وفيه وجهان: أحدهما أنه دلالة لما روى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاماً من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر رضي الله عنه فلم يجده أنبت فقال: لو أنبت الشعر لحددتك والثاني أنه ليس بدلالة في حق المسلم وهو ظاهر النص لأن المسلمين يمكن الرجوع إلى أخبارهم فلم يجعل ذلك دلالة في حقهم والكفار لا يمكن(2/130)
الرجوع إلى أخبارهم فجعل ذلك دلالة في حقهم ولأن الكافر لا يستفيد بالبلوغ إلا وجوب الحرية ووجوب القتل فلا يتهم في مداواة العانة بما ينبت الشعر والمسلم يستفتد بالبلوغ التصرف والكمال بالأحكام فلا يؤمن أن يداوي العانة بما ينبت الشعر فلم يجعل ذلك دلالة في حقه فأما الحيض فهو بلوغ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما "إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى الوجه والكف فعلق وجوب الستر بالمحيض وذلك تكليف فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف وأما الحبل فهو دليل على البلوغ فإذا حبلت حكمنا بأنها بالغ لأن الحبل لا يكون إلا بإنزال الماء فدل على البلوغ فإذا كانت المرأة لها زوج فولدت حكمنا بأنها بالغ من قبل الوضع بستة أشهر لأن ذلك أقل مدة الوضع وإن كانت مطلقة وأتت بولد يلحق الزوج حكمنا بأنها بالغ من قبل الطلاق وإن كانت خنثى فخرج المني من ذكره أو الدم من فرجه لم يحكم بالبلوغ لجواز أن يكون ذلك من العضو الزائد فإن خرج المني من الذكر والدم من الفرج فقد بلغ لأنه إذا كان رجلاً فقد أمنى وإن كان امرأة فقد حاضت.
فصل: فأما إيناس الرشد فهو إصلاح الدين والمال فإصلاح الدين أن لا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة وإصلاح المال أن يكون حافظاً لماله غير مبذر ويختبره الولي اختبار مثله من تجارة إن كان تاجراً أو تناء إن كان تانئاً أو إصلاح أمر البيت إن كان امرأة واختلف أصحابنا في وقت الاختبار فمنهم من قال لا يختبر في التجارة إلا بعد البلوغ لأن قبل البلوغ لا يصح تصرفه فلا يصح اختباره ومنهم من قال يختبر قبل البلوغ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فأمر باختبار اليتامى وهم الصغار فعلى هذا كيف يختبر؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يسلم إليه المال فإذا ساوم وقرر الثمن عقد الولي لأن عقد الصبي لا يصح والثاني أنه يتركه حتى يعقد لأن هذا موضع ضرورة.(2/131)
فصل: وإن بلغ مبذراً استديم الحجر عليه لأن الحجر عليه إنما يثبت للحاجة إليه لحفظ المال والحاجة قائمة مع التبذير فوجب أن يكون الحجر باقياً وإن بلغ مصلحاً للمال فاسقاً في الدين استديم الحجر عليه لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] والفاسق لم يؤنس منه الرشد ولأن حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق لأنه لا يؤمن أن يدعوه الفسق إلى التبذير فلم يفك الحجر عنه ولهذا لم تقبل شهادته وإن كان معروفاً بالصدق لأنا لا نأمن أن يدعوه الفسق إلى الكذب وينظر في ماله من كان ينظر في حال الصغر وهو الأب والجد والوصي والحاكم لأنه حجر ثبت من غير قضاء فكان النظر إلى من ذكرنا كالحجر على الصبي والمجنون.
فصل: وإن بلغ مصلحاً للدين والمال فك عنه الحجر لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وهل يفتقر فك الحجر إلى الحاكم فيه وجهان: أحدهما لا يفتقر إلى الحاكم لأنه حجر ثبت من غير حكم فزال من غير حكم كالحجر على المجنون والثاني أنه يفتقر إلى الحاكم لأنه يحتاج إلى نظر واختبار فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه.
فصل: وإن فك عنه الحجر ثم صار مبذراً حجر عليه لما روي أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ابتاع أرضاً سبخة بستين ألفاً فقال عثمان: ما يسرني أن تكون لي بنعلي معاً فبلغ ذلك علياً كرم الله وجهه وعزم أن يسأل عثمان أن يحجر عليه فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير وذكر أن علياً يريد أن يسأل عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه فقال الزبير أنا شريكك فجاء علي إلى عثمان رضي الله عنهما وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على من شريكه الزبير فدل على جواز الحجر لأن كل معنى اقتضى الحجر إذا قارن البلوغ اقتضى الحجر إذا طرأ بعد البلوغ كالجنون فإن فك عنه الحجر ثم صار فاسقاً ففيه وجهان: قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر لأنه معنى يقتضي الحجر عند البلوغ فاقتضى الحجر بعده كالتبذير وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر لأن الحجر للفسق لخوف التبذير وتبذير الفاسق ليس بيقين فلا يزال به ما تيقنا من حفظه للمال ولا يعاد عليه الحجر بالتبذير إلا بالحاكم لأن علياً كرم الله وجهه أتى عثمان رضي الله عنه وسأله أن يحجر على عبد الله بن جعفر ولأن العلم بالتبذير يحتاج إلى(2/132)
نظر، فإن الغبن قد يكون تبذيراً وقد يكون غير تبذير ولأن الحجر للتبذير مختلف فيه فلا يجوز إلا بالحاكم فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأنه حجر ثبت بالحاكم فصار هو الناظر كالحجر في المفلس ويستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس بحاله وأن من عامله ضيع ماله فإن أقرضه رجل مالاً أو باع منه متاعاً لم يملكه لأنه محجور عليه لعدم الرشد فلم يملك بالبيع والقرض كالصبي والمجنون فإن كانت العين باقية ردت وإن كانت تالفة لم يجب ضمانها لأن المالك إن علم بحاله فقد دخل على بصيرة وأن ماله ضائع وإن لم يعلم فقد فرط حين ترك الاستظهار ودخل في معاملته على غير معرفة وإن غصب مالاً وأتلفه وجب عليه ضمانه لأن حجر العبد والصبي آكد من حجره ثم حجر العبد والصبي لا يمنع من وجوب ضمان المتلف فلأن لا يمنع حجر المبذر أولى فإن أودعه مالاً فأتلفه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يجب ضمانه لأنه فرط في التسليم إليه والثاني يجب ضمانه لأنه لم يرض بالإتلاف فإن أقر بمال لم يقبل إقراره لأنه حجر عليه لحظه فلا يصح إقراره بالمال كالصبي ولأنا لو قلنا يصح إقراره وصل بالإقرار إلى إبطال معنى الحجر وما لا يلزمه بالإقرار والابتياع لا يلزمه إذا فك عنه الحجر لأنا أسقطنا حكم الإقرار والابتياع لحفظ المال فلو قلنا إنه يلزمه إذا فك عنه الحجر لم يؤثر الحجر في حفظ المال وإن طلق امرأته صح الطلاق لأن الحجر لحفظ المال والطلاق لا يضيع المال بل يتوفر المال عليه وإن خالع جاز لأنه إذا صح الطلاق بغير مال فلأن يصح بالمال أولى ولا يجوز للمرأة أن تدفع إليه المال فإن دفعته لم يصح القبض ولم تبرأ المرأة منه فإن تلف كان ذلك من ضمانها وإن تزوج من غير إذن الولي فالنكاح باطل لأنه يجب به المال فإذا صححنا من غير إذن الولي تزوج من غير حاجة فيؤدي إلى إتلاف المال فإن تزوج بإذنه صح لأن الولي لا يأذن إلا في موضع الحاجة فلا يؤدي إلى إتلاف ماله فإن باع ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن كالنكاح والثاني لا يصح لأن القصد منه المال وهو محجور عليه في المال فإن حلف انعقدت يمينه فإذا حنث كفر بالصوم لأنه مكلف ممنوع من التصرف بالمال فصحت يمينه وكفر بالصوم كالعبد وإن أحرم بالحج صح إحرامه لأنه من أهل العبادات فإن كان فرضاً لم يمنع من إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب وإن كان تطوعاً فإن كان ما يحتاج إليه في الحج لا يزيد على نفقته لزمه إتمامه وإن كان يزيد على نفقته فإن كان له كسب إذا أضيف إلى النفقة أمكنه الحج لزمه إتمامه وإن لم يكن حلله الولي من الإحرام ويصير كالمحصر(2/133)
ويتحلل بالصوم دون الهدي لأنه محجور عليه في المال فتحلل بالصوم دون الهدي كالعبد وإن أقر بنسب ثبت النسب لأنه حق ليس بمال فقبل إقراره به كالحد وينفق على الولد من بيت المال لأن المقر محجور عليه في المال فلا ينفق عليه من المال كالعبد وإن وجب له القصاص فله أن يقتص ويعفو لأن القصد منه التشفي ودرك الغيظ فإن عفا على مال وجب المال وإن عفا مطلقاً أو عفا على غير مال فإن قلنا إن القتل يوجب أحد الأمرين من القصاص أو الدية وجبت الدية ولم يصح عفوه عنها وإن قلنا إنه لا يوجب غير القصاص سقط ولم يجب المال.(2/134)
كتاب الصلح
مدخل
...
كتاب الصلح
إذا كان لرجل عند رجل عين في يده أو دين في ذمته جاز له أن يصالح منه والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون على شروطهم1" والصلح جائز بين المسلمين فإن صالح عن المال على مال فهو بيع يثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر والجهالة والربا ويفسد بما يفسد به البيع من الشروط الفاسدة لأنه باع ماله بمال فكان حكمه حكم البيع فيما ذكرناه وإن صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض لم يصح لأنه بيع دين بدين تفرقا فيه قبل القبض فإن صالحه فيه من دين على عين وتفرقا قبل القبض ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنهما تفرقا والعوض والمعوض في ضمان واحد فأشبه إذا تفرقا عن دين بدين والثاني يصح لأنه بيع عين بدين فصار كبيع العين بالثمن في الذمة وإن صالح عن المال على منفعة فهو إجارة يثبت فيه ما يثبت في الإجارة من الخيار ويبطل بما تبطل به الإجارة من الجهالة لأنه استأجر منفعة بالمال فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الإجارة.
فصل: وإن صالح من دار على نصفها ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتاع ماله بماله والثاني يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه وهب النصف وأخذ النصف وإن صالحه من الدار على سكناها سنة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه ابتاع داره بمنفعتها والثاني يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو أخذ الدار وأعاره سكناها سنة وإن صالحه من ألف درهم على خمسمائة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه بيع ألف بخمسمائة والثاني أنه يصح لأنه لما عقد بلفظ الصلح جعل كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة.
فصل: وإن ادعى عليه عيناً في يده أو ديناً في ذمته فأنكر المدعي عليه فصالحه منه على عوض لم يصح الصلح لأن المدعي اعتاض عما لا يملكه فصار كمن باع مال غيره والمدعي عليه عاوض على ملكه فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله فإن جاء أجنبي إلى المدعي وصدقه على ما ادعاه وقال صالحني منه على مال لم يخل إما أن
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإجازة باب 14. أبو داود في كتاب القضية باب 12.(2/135)
يكون المدعي عيناً أو ديناً فإن كان ديناً نظرت فإن صالحه عن المدعي عليه صح الصلح لأنه إن كان قد وكله المدعى عليه فقد قضى دينه بإذنه وإن لم يوكله فقد قضى دينه بغير إذنه وذلك يجوز فإن صالحه عن نفسه وقال صالحني عن هذا الدين ليكون لي في ذمة المدعي عليه ففيه وجهان بناء على الوجهين في بيع الدين من غير من عليه: أحدهما لا يصح لأنه لا يقدر على تسليم ما في ذمة المدعي عليه والثاني يصح كما لو اشترى وديعة في يد غيره وإن كان المدعي عيناً فإن صالحه عن المدعي عليه وقال قد أقر لك في الباطن ووكلني في مصالحتك فصدقه المدعي صح الصلح لأن الاعتبار بالمتعاقدين وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز ثم ينظر فيه فإن كان قد أذن له في الصلح ملك المدعي عليه العين لأنه ابتاعه له وكيله وإن لم يكن أذن له في الصلح لم يملك المدعي عليه العين لأنه ابتاع له عيناً بغير إذنه فلم يملكه ومن أصحابنا من قال يملكه ويصير هذا الصلح استنقاذاً لماله كما قال الشافعي رحمه الله في رجل في يده دار فجعلها مسجداً ثم ادعاها رجل فأنكر فاستنقذه الجيران من المدعي بغير إذن المدعي عليه أنه يجوز ذلك وإن صالحه لنفسه فقال: أنا أعلم أنه لك فصالحني فأنا أقدر على أخذه صح الصلح لأنه بمنزلة بيع المغصوب ممن يقدر على أخذه فإن أخذه استقر الصلح وإن لم يقدر على أخذه فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع إلى ما دفع وبين أن يصبر إلى أن يقدر كمن ابتاع عبداً فأبق قبل القبض.
فصل: إذا أقر المدعي عليه بالحق ثم أنكر جاز الصلح فإن أنكر فصولح ثم أقر كان الصلح باطلاً لأن الإقرار المتقدم لا يبطل بالإنكار الحادث فيصح الصلح إذا أنكر بعد إقراره لوجوده بعد لزوم الحق ولم يصح الصلح إذا كان عقيب إنكاره وقبل إقراره لوجوده قبل لزوم الحق.
فصل: فلو أنكر الحق فقامت عليه البينة جاز الصلح عليه للزوم الحق بالبينة كلزومه بالإقرار لفظاً ويقاس عليه لو نكل المدعي عليه فحلف المدعي من طريق الأولى إذ اليمين المردودة كالإقرار على أحد القولين.
فصل: وإن ادعى عليه مالاً فأنكره ثم قال صالحني عنه لم يكن ذلك إقراراً له بالمال لأنه يحتمل أنه إذا أراد قطع الخصومة فلم يجعل ذلك إقراراً فإن قال بعني ذلك ففيه وجهان: أحدهما لا يجعل ذلك إقراراً وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني لأن البيع والصلح واحد فإذا لم يكن الصلح إقراراً لم يكن البيع إقراراً والثاني وهو قول شيخنا(2/136)
القاضي أبي الطيب أنه يجعل ذلك إقراراً لأن البيع تمليك والتمليك لا يصح إلا ممن يملك.
فصل: وإن أخرج جناحاً إلى طريق لم يخل إما أن يكون نافذاً أو غير نافذ فإن كان الطريق نافذاً نظرت فإن كان الجناح لا يضر بالمارة جاز ولم يعترض عليه واختلفوا في علته فمن أصحابنا من قال يجوز لأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار فجاز كالمشي في الطريق ومنهم من قال يجوز لأن الهواء تابع للقرار فلما ملك الارتفاق بالطريق من غير إضرار ملك الارتفاق بالهواء من غير إضرار فإن وقع الجناح أو نقضه وبادر من يحاذيه فأخرج جناحاً يمنع من إعادة الجناح الأول جاز لأن الأول ثبت له الارتفاق بالسبق إلى إخراج الجناح فإذا زال الجناح جاز لغيره أن يرتفق كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه.
فصل: فإن صالحه الإمام عن الجناح على شيء لم يصح الصلحين لمعنيين: أحدهما أن الهواء تابع للقرار في العقد فلا يفرد بالعقد كالحمل والثاني أن ذلك حق له فلا يجوز أن يؤخذ منه عوض على حقه كالاجتياز في الطريق وإن كان الجناح يضر بالمارة لم يجز وإذا أخرجه وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" ولأنه يضر بالمارة في طريقهم فلم يجز كالقعود في المضيق وإن صالحه الإمام من ذلك على شيء لم يجز لمعنيين: أحدهما أن الهواء تابع للقرار فلا يفرد بالعقد والثاني أن ما منع منه الإضرار بالناس لم يجز بعوض كالقعود في المضيق والبناء في الطريق.
فصل: ويرجع فيما يضر وفيما لا يضر إلى حال الطريق فإن كان الطريق لا تمر فيه القوافل ولا تجوز فيه الفوارس لم يجز إخراج الجناح إلا بحيث يمر الماشي تحته منتصباً لأن الضرر يزول بهذا القدر ولا يزول بما دونه وإن كان الطريق تمر فيه القوافل وتجوز فيه الفوارس لم يجز إلا عالياً بمقدار ما تمر العمارية تحته ويمر الراكب منتصباً وقال أبو عبيدة ابن حربويه: لا يجوز حتى يكون عالياً يمر الراكب ورمحه منصوب لأنه ربما ازدحم الفرسان فيحتاج إلى نصب الرماح ومتى لم ينصبوا تأذى الناس بالرماح والأول هو المذهب لأنه يمكنهم أن يضعوا أطرافها على الأكتاف غير منصوبة فلا يتأذوا.
فصل: وإن أخرج جناحاً إلى داره جاره من غير إذنه لم يجز واختلف أصحابنا في تعليله فمنهم من قال لا يجوز لأنه ارتفاق بما تعين مالكه فلم يجز بغير إذنه من غير ضرورة كأكل ماله ومنهم من قال: لا يجوز لأن الهواء تابع للقرار والجار لا يملك(2/137)
الارتفاق بقرار دار الجار فلا يملك الارتفاق بهواء داره فإن صالحه صاحب الدار على شيء لم يجز لأن الهواء تابع فلا يفرد بالعقد.
فصل: وإن أخرج جناحاً إلى درب غير نافذ نظرت فإن لك يكن له في الدرب طريق لم يجز لما ذكرناه في دار الجار وإن كان له فيه طريق ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني لأن الهواء تابع للقرار فإذا جاز أن يرتفق بالقرار بالاجتياز جاز أن يرتفق بالهواء بإخراج الجناح والثاني لا يجوز وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأنه موضع تعين ملاكه فلم يجز إخراج الجناح إليه كدار الجار فإن صالحه عنه أهل الدرب فإن قلنا يجوز إخراج الجناح لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج من الشارع وإن قلنا لا يجوز إخراجه لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى دار الجار.
فصل: وإن أراد أن يعمل ساباطاً ويضع أطراف جذعه على حائط الجدار المحاذي لم يجز ذلك من غير إذنه لأنه حمل على ملك الغير من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه كحمل المتاع على بهيمة غيره فإن صالحه منه على شيء جاز إذا عرف مقدار الأجذاع فإن كانت حاضرة نظر إليها وإن لم تحضر وصفها فإن أراد أن يني عليها ذكر سمك البناء وما يبنى به فإن أطلق كان بيعاً مؤبداً لمغارز الأجذاع ومواضع البناء وإن وقت كان ذلك إجارة تنقضي بانقضاء المدة.
فصل: ولا يجوز أن يفتح كوة ولا يسمر مسماراً في حائط جاره إلا بإذنه ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره إلا بإذنه لأن ذلك يوهي الحائط ويضربه فلا يجوز من غير إذن مالكه ولا يجوز أن يبني على حائط جاره ولا على الحائط المشترك شيئاً من غير إذن مالكه ولا على السطحين المتلاصقين حاجزاً من غير إذن صاحبه لأنه حمل على(2/138)
ملك الغير فلم يجز من غير إذن كالحمل على بهيمته ولا يجوز أن يجري على سطحه ماء من غير إذنه فإن صالحه منه على عوض جاز إذا عرف السطح الذي يجري ماؤه لأنه يختلف ويتفاوت.
فصل: وفي وضع الجذوع على حائط الجار والحائط الذي بينه وبين شريكه قولان: قال في القديم يجوز فإذا امتنع الجار أو الشريك أجبر إذا كان الجذع خفيفاً لا يضر بالحائط ولا يقدر على التسقيف إلا به لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره1" قال أبو هريرة رضي الله عنه: إني لأراكم عنها معرضين والله لأرمينها بين أظهركم ولأنه إذا وجب ذلك فضل الماء لكلأ لاستغنائه عنه وحاجة غيره وجب بذل فضل الحائط لاستغنائه عنه وحاجة جاره وقال في الجديد لا يجوز بغير إذن وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلا يجوز بغير إذنه كالحمل على بهيمته والبناء في أرضه وحديث أبي هريرة نحمله على الاستحباب وأما الماء فإنه غير مملوك في قول بعض أصحابنا والحائط مملوك ولأن الماء لا تنقطع مادته والحائط بخلافه فإن كان الجذع ثقيلاً يضر بالحائط لم يجز وضعه من غير إذنه قولاً واحداً لأن الارتفاق بحق الغير لا يجوز مع الإضرار ولهذا لا يجوز أن يخرج إلى الطريق جناحاً يضر بالمارة وإن كان لاحاجة إليه لم يجبر عليه لأن الفضل إنما يجب بذله عند الحاجة إليه ولهذا يجب بذلك فضل الماء عند الحاجة إليه للكلأ ولا يجب مع عدم الحاجة فإن قلنا يجبر عليه فصالح منه على مال لم يجز لأن من وجب له حق لا يؤخذ منه عوضه وإن قلنا لا يجبر عليه فصالح منه على مال جاز على ما بيناه في أجذاع الساباط.
فصل: إذا وضع الخشب على حائط الجار أو الحائط المشترك وقلنا إنه يجبر في قوله القديم أو صالح عنه على مال في قوله الجديد فرفعه جاز له أن يعيده فإن صالحه صاحب الحائط عن حقه بعوض ليسقط حقه من الوضع جاز لأن ما جاز بيعه جاز ابتياعه كسائر الأموال.
فصل: وإن كان في ملكه شجرة فاستعلت وانتشرت أغصانها وحصلت في دار جاره جاز للجار مطالبته بإزالة ما حصل في ملكه فإن لم يزله جاز للجار إزالته عن
__________
1 رواه البخاري في كتاب المظالم باب 20. مسلم في كتاب المساقاة حديث 136. أبو داود في كتاب الأقضية باب 31. ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 15. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 32.(2/139)
ملكه كما لو دخل رجل إلى داره بغير إذنه فإن له أن يطالبه بالخروج فإن لم يخرج أخرجه فإن صالحه منه على مال فإن كان يابساً لم يجز لأنه عقد على الهواء والهواء لا يفرد بالعقد وإن كان رطباً لم يجز لما ذكرناه ولأنه صلح على مجهول لأنه يزيد في كل وقت.
فصل: وإن كان لرجل في زقاق لا ينفذ دار وظهرها إلى الشارع ففتح باباً من الدار إلى الشارع جاز لأن له حق الاستطراق في الشارع فجاز أن يفتح إليه باباً من الدار وإن كان باب الدار إلى الشارع وظهرها إلى الزقاق ففتح باباً من الدار إلى الزقاق نظرت فإن فتحه ليستطرق الزقاق لم يجز لأنه يجعل لنفسه حق الاستطراق في درب مملوك لأهله لا حق له في طريقه فإن قال أفتحه ولا أجعله طريقاً بل أغلقه وأسمره ففيه وجهان: أحدهما إن له ذلك لأنه إذا جاز له أن يرفع جميع حائط الدار فلأن يجوز أن يفتح فيه باباً أولى والثاني لا يجوز لأن الباب دليل على الاستطراق فمنع منه وإن فتح في الحائط كوة إلى الزقاق جاز لأنه ليس بطريق ولا دليل عليه فإن كان له داران في زقاقين غير نافذين وظهر كل واحدة من الدارين إلى الأخرى فأنفذ إحدى الدارين إلى الأخرى ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يجعل الزقاقين نافذين ولأنه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التي ليست فيه ويثبت لأهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق والثاني يجوز وهو اختيار شيخنا القاضي رحمه الله لأن له أن يزيل الحاجز بين الدارين ويجعلهما داراً واحدة ويترك البابين على حالهما فجاز أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى.
فصل: إن كان لداره باب في وسط درب لا ينفذ فأراد أن ينقل الباب نظرت فإن أراد نقله إلى أول الدرب جاز له لأنه يترك بعض حقه من الاستطراق وإن أراد أن ينقله إلى آخر الدرب ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه يريد أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في موضع لم يكن له والثاني يجوز لأن حقه ثابت في جميع الدرب ولهذا لو أرادوا قسمته كان له حق في جميعه فإن كان باب في آخر الدرب وأراد أن ينقل الباب إلى(2/140)
وسطه ويجعل إلى عند الباب دهليزاً إن قلنا إن من بابه في وسط الدرب يجوز أن يؤخره إلى آخر الدرب لم يجز لهذا أن يقدمه لأنه مشترك بين الجميع فلا يجوز أن يختص به وإن قلنا لا يجوز جاز لهذا أن يقدمه لأنه يختص به.
فصل: إذا كان بين رجلين حائط مشترك فانهدم فدعا أحدهما صاحبه إلى العمارة وامتنع الآخر ففيه قولان: قال في القديم: يجبر لأنه إنفاق على مشترك يزول به الضرر عنه وعن شريكه فأجبر عليه كالإنفاق على العبد وقال في الجديد لا يجبر لأنه إنفاق على ملك أو انفرد به لم يجب فإذا اشتركا لم يجب كزراعة الأرض فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم الممتنع على الإنفاق فإن لم يفعل وله مال باعه وأنفق عليه فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق عليه فإذا بنى الحائط كان بينهما كما كان ومنه له رسم خشب أو غيره أعاده كما كان وإن أراد الشريك أن يبنيه لم يمنع منه لأنه يعيد رسماً في ملك مشترك فلم يمنع منه كما لو كان على الحائط رسم خشب فوقع فإن بنى الحائط من غير إذن الحاكم نظرت فإن بناه بآلته ونقضه معاً عاد الحائط بينهما كما كان برسومه وحقوقه لأن الحائط عاد بعينه وليس للباني فيه إلا أثر في تأليفه وإن بناه بغير آلته كان الحائط للباني لا يجوز لشريكه أن ينتفع من غير إذنه فإن أراد الباني نقضه كان له ذلك لأن ملكه لا حق لغيره فيه فجاز له نقضه فإن قال له الممتنع لا تنقض وأنا أعطيك نصف القيمة لم يجز له نقضه لأن على هذا القول يجبر على البناء فإذا بناه أحدهما وبذل له الآخر نصف القيمة وجب تبقيته وأجبر عليه كما أجبر على البناء وإن قلنا بقوله الجديد فأراد الشريك أن يبنيه لم يمنع لأن يعيد رسماً في ملك مشتري وهو عرصة الحائط فلم يمنع منه فإن بناه بآلته فهو بينهما ولكل واحد منهما أن ينتفع به ويعيد ماله من رسم خشب وإن بناه بآلة أخرى فالحائط له وله أن يمنع الشريك من الانتفاع به وإن أراد نقضه كان له لأنه لا حق لغيره فيه فإن قال له الشريك لا تنقضه وأنا أعطيك نصف القيمة لم يمنع من نقضه لأن على هذا القول لو امتنع من البناء في الابتداء لم يجبر فإذا لم يجبر على(2/141)
تبقيته وإن قال قد كان لي عليه رسم خشب وأعطيك نصف القيمة وأعيد رسم الخشب قلنا للباني إما أن تمكنه من إعادة رسمه وتأخذ نصف القيمة وإما أن تنقضه ليبني معك لأن القرار مشترك بينهما فلا يجوز أن يعيد رسمه ويسقط حق شريكه.
فصل: وإن كان لأحدهما علو وللآخر سفل والسقف بينهما فانهدم حيطان السفل لم يكن لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولاً واحداً لأن حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر صاحب العلو على بنائه وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على البناء؟ فيه قولان: فإن قلنا يجبر ألزمه الحاكم فإن لم يفعل وله مال باع الحاكم عليه ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال اقترض عليه فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكاً لصاحب السفل لأنه بنى له وتكون النفقة في ذمته ويعيد صاحب العلو غرفته عليه وتكون النفقة على الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السفل لأنها ملكه لا حق لصاحب السفل فيه وأما السقف فهم بينهما وما ينفق عليه فهو من مالهما فإن تبرع صاحب العلو وبنى من غير إذن الحاكم لم يرجع صاحب العلو على صاحب السفل بشيء ثم ينظر فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السفل لأن الآلة كلها له وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ولا يملك نقضها لأنها لصاحب السفل وله أن يعيد حقه من الغرفة وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو وليس لصاحب السفل أن ينتفع بها ولا أن يتد فيها وتداً ولا يفتح فيها كوة من غير إذن صاحب العلو ولكن له أن يسكن في قرار السفل لأن القرار له ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان لأنه لا حق لغيره فيها فإن بذل صاحب السفل القيمة ليترك نقضها لم يلزمه قبولها لأنه لا يلزمه بناؤها قولاً واحداً فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض والله أعلم.(2/142)
كتاب الحوالة
مدخل
...
كتاب الحوالة
تجوز الحوالة بالدين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم فإذا تبع أحدكم على مليء فليتبع1".
فصل: ولا تجوز إلا على دين يجوز بيعه كعوض القرض وبدل المتلف فأما ما لا يجوز بيعه كدين السلم ومال الكتابة فلا تجوز الحوالة به لأن الحوالة بيع في الحقيقة لأن المحتال يبيع ماله في ذمة المحيل بماله في ذمة المحال عليه والمحيل يبيع ماله في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين فلا يجوز إلا فيما يجوز بيعه.
فصل: واختلف أصحابنا في جنس المال الذي تجوز به الحوالة فمنهم من قال لا تجوز إلا بما له مثل كالأثمان والحبوب وما أشبهها لأن القصد بالحوالة اتصال الغريم إلى حقه على الوفاء من غير زيادة ولا نقصان ولا يمكنه ذلك إلا فيما له مثل فوجب أن لا يجوز فيما سواه ومنهم من قال تجوز في كل ما يثبت في الذمة بعقد السلم كالثياب والحيوان لأنه مال ثابت في الذمة يجوز بيعه قبل القبض فجازت الحوالة به كذوات الأمثال.
فصل: ولا تجوز إلا بمال معلوم لأنا بينا أنه بيع فلا تجوز في مجهول واختلف أصحابنا في إبل الدية فمنهم من قال لا تجوز وهو الصحيح لأنه مجهول الصفة فلم تجز الحوالة به كغيره ومنهم من قال تجوز لأنه معلوم العدد والسن فجازت الحوالة به.
فصل: ولا تجوز إلا أن يكون الحقان متساويين في الصفة والحلول والتأجيل فإن اختلفا في شيء من ذلك لم تصح الحوالة لأن الحوالة إرفاق كالقرض فلو جوزنا مع الاختلاف صار المطلوب منه طلب الفضل فتخرج عن موضوعها فإن كان لرجل على رجلين ألف على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه خمسمائة
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحوالات باب 1،2. مسلم في كتاب المساقاة حديث 33. أبو داود في كتاب البيوع باب 10. الترمذي في كتاب البيوع باب 100،101. الموطأ في كتاب البيوع حديث 84. أحمد في مسنده "2/71، 245".(2/143)
فأحال عليهما رجلاً عليه ألف على أن يطالب من شاء منهما بألف ففيه وجهان: أحدهما تصح وهو قول الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه لا يأحذ إلا قدر حقه والثاني لا تصح وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله لأنه يستفتد بالحوالة زيادة في المطالبة وذلك لا يجوز ولأن الحوالة بيع فإذا خبرناه بين الرجلين صار كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين.
فصل: ولا تجوز الحوالة إلا على من له عليه دين لأنا بينا أن الحوالة بيع ما في الذمة بما في الذمة فإذا أحال من لادين عليه كان بيع معدوم فلم تصح ومن أصحابنا من قال تصح إذا رضي المحال عليه لأنه تحمل دين يصح إذا كان عليه مثله فصح وإن لم يكن عليه مثله كالضمان فعلى هذا يطالب المحيل بتخليصه كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه فإن قضاه بإذنه رجع على المحيل وإن قضاه بغير إذنه لم يرجع.
فصل: ولا تصح الحوالة من غير رضا المحتال لأنه نقل حق من ذمة إلى غيرها فلم يجز من غير رضا صاحب الحق كما لو أراد أن يعطيه بالدين عيناً وهل تصح من غير رضا المحال عليه؟ ينظر فيه فإن كان على من لا حق له عليه وقلنا أنه تصح الحوالة على من لا حق له عليه لم تجز إلا برضاه وإن كان على من له عليه حق ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري واختيار المزني أنه لا تجوز إلا برضاه لأنه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه في الحوالة كالمحتال والثاني وهو المذهب أنه تجوز لأنه تفويض قبض فلا يعتبر فيه رضا من عليه كالتوكيل في قبضه ويخالف المحتال فإن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع وههنا الحق عليه فلا يعتبر رضاه كالعبد في البيع.
فصل: إذا أحال بالدين انتقل الحق إلى المحال عليه وبرئت ذمة المحيل لأن الحوالة إما أن تكون تحويل حق أو بيع حق وأيهما كان وجب أن بيرأ به ذمة المحيل
فصل: ولا يجوز شرط الخيار فيه لأنه لم يبن على المغابنة فلا يثبت فيه خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما يثبت لأنه بيع فيثبت خيار المجلس كالصلح والثاني لا يثبت لأنه يجري مجرى الإبراء ولهذا لا يجوز بلفظ البيع فلم يثبت فيه خيار المجلس.(2/144)
فصل: وإن أحاله على مليء فأفلس أو جحد الحق وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل لأنه انتقل حقه إلى مال يملك بيعه فسقط حقه من الرجوع كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض وإن أحاله على رجل بشرط أنه مليء فبان أنه معسر فقد ذكر المزني أنه لا خيار له وأنكر أبو العباس هذا وقال له الخيار لأنه غره بالشرط فثبت له الخيار كما لو باعه عبداً بشرط أنه كاتب ثم بان أنه ليس بكاتب وقال عامة أصحابنا لاخيار له لأن الإعسار نقص فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع ويخالف الكتابة فإن عدم الكتابة ليس بنقص وإنما هو عدم فضيلة فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين أن لا يشرط.
فصل: وإن اشترى رجل من رجل شيئاً بألف وأحال المشتري البائع على رجل بالألف ثم وجد بالمبيع عيباً فرده فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو علي الطبري لا تبطل الحوالة فيطلب البائع المحال عليه بالمال ويرجع المشتري على البائع بالثمن لأنه تصرف في أحد عوضي البيع فلا يبطل بالرد بالعيب كما لو اشترى عبداً بثوب وقبضه وباعه ثم وجد البائع بالثوب عيباً فرده وقال أبو إسحاق تبطل الحوالة وهو الذي ذكره المزني في المختصر فلا يجوز للبائع مطالبة المحال عليه لأن الحوالة وقعت بالثمن فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمناً فإذا خرج عن أن يكون ثمناً ولم يتعلق به حق غيرهما وجب أن تبطل الحوالة ويخالف هذا إذا اشترى عبداً وقبضه وباعه لأن العبد تعلق به حق غير المتبايعين وهو المشتري الثاني فلم يكن إبطاله والحوالة لم يتعلق بها حق غيرهما فوجب إبطالها وإن أحال الزوج زوجته بالمهر على رجل ثم ارتدت المرأة قبل الدخول ففي الحوالة وجهان بناء على المسألة قبلها وإن أحال البائع رجلاً على المشتري بالألف ثم المشتري المبيع بالعيب لم تبطل الحوالة وجهاً واحداً لأنه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين وهو الأجنبي المحتال لم يجز إبطالها.
فصل: وإن أحال البائع على المشتري رجلاً بألف ثم اتفقا على أن العبد كان حراً فإن كذبهما المحتال لم تبطل الحوالة كما لو اشترى عبداً وباعه ثم اتفق البائع والمشتري أنه كان حراً فإن أقاما على ذلك بينة لم تسمع لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع وإن صدقهما المحتال بطلت الحوالة لأنه ثبتت الحرية وسقط الثمن فبطلت الحوالة.
فصل: إذا أحال رجل رجلاً له عليه دين على رجل له عليه دين ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك وقال المحتال بل أحلتني نظرت فإن اختلفا في اللفظ فقال المحيل بل وكلتك بلفظ الوكالة وقال المحتال بل أحلتني بلفظ الحوالة فالقول قول المحيل لأنهما(2/145)
اختلفا في لفظه فكان القول فيه قوله وإن اتفقا على لفظ الحوالة ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك وقال المحتال بل أحلتني ففيه وجهان: قال أبو العباس القول قول المحتال لأن اللفظ يشهد له ومن أصحابنا من قال القول قول المحيل وهو قول المزني لأنه يدعي بقاء الحق في الذمة والمحتال يدعي انتقال الحق من الذمة والأصل بقاء الحق في الذمة فإن قلنا بقول أبي العباس وحلف المحتال ثبتت الحوالة وبرئ المحيل وثبتت له مطالبة المحال عليه وإن قلنا بقول المزني فحلف المحيل ثبتت الوكالة فإن لم يقبض المال انعزل عن الوكالة بإنكاره إن كان قد قبض المال أخذه المحيل وهل يرجع هو على المحيل بدينه فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه أقر ببراءة ذمته من دينه والثاني له أن يرجع لأنه يقول إن كنت محتالاً فقد استرجع مني ما أخذته بحكم الحوالة وإن كنت وكيلاً فحقي باق في ذمته فيجب أن يعطيني وإن هلك في يده لم يكن للمحيل الرجوع عليه لأنه يقر بأن ماله تلف في يد وكيله من غير عدوان وليس للمحتال أن يطالب المحيل بحقه لأنه يقر بأنه استوفى حقه وتلف عنده وإن قال المحيل أحلتك وقال المحتال بل وكلتني فقد قال أبو العباس القول قول المحيل لأن اللفظ يشهد له وقال المزني: القول قول المحتال لأنه يدعي بقاء دينه في ذمة المحيل والأصل بقاؤه في ذمته فإن قلنا بقول أبي العباس فحلف المحيل برئ من دين المحتال وللمحتال مطالبة المحال عليه بالدين لأنه إن كان محتالاً فله مطالبته بمال الحوالة وإن كان وكيلاً فله المطالبة بحكم الوكالة فإذا قبض المال صرف إليه لأن المحيل يقول هو له بحكم الحوالة والمحتال يقول هو لي فيما لي عليه من الدين الذي لم يوصلني إليه وإن قلنا بقول المزني وحلف المحتال ثبت أنه وكيل فإن لم يقبض المال كان له مطالبة المحيل بماله في ذمته وهل يرجع المحيل على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه مقر بأن المال صار للمحتال والثاني يرجع لأنه إن كان وكيلاً فدينه ثابت في ذمة المحتال عليه وإن كان محتالاً فقد قبض المحتال المال منه ظلماً وهو مقر بأن ما في ذمة المحتال عليه للمحتال فكان له قبضه عوضاً عما أخذه منه ظلماً فإن كان قد قبض المال فإن كان باقياً صرف إليه لأنه قبضه بحوالة فهو له وإن قبضه بوكالة فله أن يأخذه عما له في ذمة المحيل وإن كان تالفاً نظرت فإن تلف بتفريط لزمه ضمان وثبت للمحيل عليه مثل ما ثبت له في ذمته فتقاصا وإن تلف من غير تفريط لم يلزمه الضمان لأنه وكيل ويرجع على المحيل بدينه ويبرأ المحال عليه لأنه إن كان محتالاً فقد وفاه حقه وإن كان وكيلاً فقد دفع إليه.(2/146)
كتاب الضمان
يصح ضمان الدين عن الميت لما روى أبو قتادة قال: أقبل بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل على صاحبكم من دين" فقالوا عليه ديناران قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم ويصح عن الحي لأنه دين لازم فصح ضمانه كالدين على الميت.
فصل: ويصح ذلك من كل جائز التصرف في ماله فأما من يحجر عليه لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح من الصبي والمجنون والسفيه كالبيع ومن حجر عليه للفلس يصح ضمانه لأنه إيجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس كالشراء بثمن في الذمة وأما العبد فإنه إن ضمن بغير إذن المولى ففيه وجهان: قال أبو إسحاق يصح ضمانه ويتبع به إذاً عتق لأنه لا ضرر فيه على المولى لأنه يطالب به بعد العتق فصح منه كالإقرار بإتلاف ماله وقال أبو سعيد الاصطخري لا يصح لأنه عقد تضمن إيجاب مال منه فلم يصح منه بغير إذن المولى كالنكاح فإن ضمن بإذن مولاه صح ضمانه لأن الحجر لحقه فزال بإذنه ومن أين يقضي ينظر فيه فإن قال له المولى اقضه من كسبك قضاه منه وإن قال اقضه مما في يدك للتجارة قضاه منه لأن المال له وقد أذن له فيه وإن لم يذكر القضاء ففيه وجهان: أحدهما يتبع به إذا أعتق لأنه أذن في الضمان دون الأداء والثاني يقضي من كسبه إن كان له كسب أو مما في يده إن كان مأذوناً له في التجارة لأن الضمان يقتضي الغرم كما يقتضي النكاح المهر ثم إذا أذن له في النكاح وجب قضاء المهر مما في يده فكذلك إذا أذن له في الضمان وجب قضاء الغرم مما في يده فإن كان على المأذون له دين وقلنا إن دين الضمان يقضيه مما في يده فهل يشارك فيه الغرماء؟ فيه وجهان: أحدهما يشارك به لأن المال للمولى وقد أذن له في القضاء منه إما بصريح الإذن أو من جهة الحكم فوجب المشاركة به والثاني أنه لا يشارك به لأن المال تعلق به الغرماء فلا يشارك بمال الضمان كالرهن وأما المكتب فإنه ضمن بغير إذن المولى فهو كالعبد القن وإن ضمن بإذنه فهو تبرع وفي تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان نذكرهما في المكاتب إن شاء الله تعالى.
فصل: ويصح الضمان من غير رضا المضمون عنه لأنه لما جاز قضاء دينه من غير رضاه جاز ضمان ما عليه من غير رضاه واختلف أصحابنا في رضا المضمون له فقال أبو(2/147)
علي الطبري يعتبر رضاه لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم فشرط فيه رضاه كالثمن في البيع وقال أبو العباس لا يعتبر لأن أبا قتادة ضمن الدين عن الميت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم رضا المضمون له.
فصل: وهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يفتقر إلى معرفة المضمون عنه ليعلم أنه هل هو ممن يسدي إليه الجميل ويفتقر إلى معرفة المضمون له ليعلم هل يصلح لمعاملته أم لا يصلح كما يفتقر إلى معرفة ما تضمنه من المال هل يقدر عليه أم لا يقدر عليه والثاني أنه يفتقر إلى معرفة المضمون له لأن معاملته معه ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه والثالث أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما لأن أبا قتادة ضمن عن الميت ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له والمضمون عنه.
فصل: وإن باعه بشرط أن يضمن الثمن ضامن لم يجز حتى يعين الضامن لأن الغرض يختلف باختلاف من يضمن كما يختلف باختلاف ما يرهن من الرهون وإن شرط أن يضمنه ثقة لم يجز حتى يعين لأن الثقات يتفاوتون فإن لم يف به بما شرط من الضمين ثبت للبائع الخيار لأنه دخل في العقد بشرط الوثيقة ولم يسلم له الشرط فثبت له الخيار كما لو شرط له رهناً ولم يف له بالرهن وإن شرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود فإن عين له شاهدين فهل يجوز إبدالهما بغيرهما؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز كما لا يجوز في الضمان والثاني يجوز لأن الغرض لا يختلف.
فصل: ويصح ضمان كل دين لازم الثمن والأجرة وعوض القرض ودين السلم وأرش الجناية وغرامة المتلف لأنه وثيقة يستوفي منها الحق فصح في كل دين لازم كالرهن وأما ما لا يلزم بحال وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لأنه لا يلزم المكاتب أداؤه فلم يلزم ضمانه ولأن الضمان يراد لتوثيق الدين ودين الكتابة لا يمكن توثيقه لأنه يملك إسقاطه إذا شاء فلا معنى لضمانه وفي مال الجعالة والثمن في مدة الخيار ثلاثة أوجه: أحدها لا يصح ضمانه لأنه دين غير لازم فلم يصح ضمانه كدين الكتابة والثاني يصح لأنه يئول إلى اللزوم فصح ضمانه والثالث يصح ضمان الثمن في مدة(2/148)
الخيار ولا يصح ضمان مال الجعالة لأن عقد البيع يئول إلى اللزوم وعقد الجعالة لا يلزم بحال فأما مال المشروط في السبق والرمي ففيه قولان: أحدهما أنه كالإجارة فيصح ضمانه والثاني أنه كالجعالة فيكون في ضمانه وجهان.
فصل: ولا يجوز ضمان المجهول لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي مع الجهالة كالثمن في البيع وفي إبل الدية وجهان: أحدهما لا يجوز ضمانه لأنه مجهول اللون والصفة والثاني أنه يجوز لأنه معلوم السن والعدد ويرجع في اللون والصفة إلى عرف البلد.
فصل: ولا يصح ضمان ما لم يجب وهو أن يقول ما تداين فلام فأنا ضامن له لأنه وثيقة بحق فلا يسبق الحق كالشهادة.
فصل: ولا يجوز تعليقه على شرط لأنه إيجاب مال لآدمي بعقد فلم يجز تعليقه على شرط كالبيع وإن قال ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه صح فإذا ألقاه وجب ما ضمنه لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح فأشبه إذا قال طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف وإن قال بع عبدك من زيد بخمسمائة ولك علي خمسمائة أخرى فباعه ففيه وجهان: أحدهما يصح البيع ويستحق ما بذله لأنه مال بذله في مقابلة إزالة الملك فأشبه إذا قال طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف والثاني لا يصح لأنه بذل مال لغرض غير صحيح فلم يجز ويخالف ما بذله في الطلاق والعتق فإن في ذلك بذل مال لغرض صحيح وهو تخليص المرأة من الزوج وتخليص العبد من الرق.
فصل: ويجوز أن يضمن الدين الحال إلى أجل لأنه رفق ومعروف فكان على حسب ما يدخل فيه وهل يجوز أن يضمن المؤجل حالاً؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز أن يضمن الحال مؤجلاً والثاني لا يجوز لأن الضمان فرع لما على المضمون عنه فلا يجوز أن يكون الفرع معجلاً والأصل مؤجلاً.
فصل: ولا يثبت في الضمان خيار لأن لدفع الغبن وطلب الحظ والضامن يدخل في العقد على بصيرة أنه مغبون وأنه لا حظ له في العقد ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة وأوسطها ملامة وآخرها غرامة.
فصل: ويبطل بالشروط الفاسدة لأنه عقد يبطل بجهالة المال فبطل بالشرط الفاسد كالبيع وإن شرط ضماناً فاسداً في عقد بيع فإنه يبطل البيع فيه قولان كالقولين في الرهن الفاسد إذا شرطه في البيع وقد بينا وجه القولين في الرهن.
فصل: ويجب بالضمان الدين في ذمة الضامن ولا يسقط عن المضمون عنه(2/149)
والدليل عليه ما روى "جابر رضي الله عنه قال: توفي رجل منا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال أعليه دين قلنا ديناران فتحملهما أبو قتادة ثم قال بعد ذلك بيوم ما فعل الديناران قال: إنما مات بالأمس ثم أعاد عليه بالغد قال: قد قضيتهما قال الآن بردت عليه جلده" ولأنه وثيقة بدين في الذمة فلا يسقط الدين عن الذمة كالرهن ويجوز للمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه لأن الدين ثابت في ذمتهما فكان له مطالبتهما فإن ضمن عن الضامن ثالث جاز لأنه ضمان دين ثابت فجاز كالضمان الأول وإن ضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز لأنه المضمون عنه أصل والضامن فرع فلا يجوز أن يصير الأصل فرعاً والفرع أصلاً ولأنه يضمن ما في ذمته ولأنه لا فائدة في ضمانه وهو ثابت في ذمته.
فصل: وإن ضمن عن رجل ديناً بغير إذن لم يجز له مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لم يدخل فيه بإذنه فلم يلزمه تخليصه وإن ضمن بإذنه نظرت فإن طالبه صاحب الحق جاز له مطالبته بتخليصه لأنه إذا جاز أن يغرمه إذا غرم جاز له أن يطالبه إذا طولب وإن لم يطالب ففيه وجهان: أحدهما له أن يطالبه لأنه شغل ذمته بالدين بإذنه فجاز له المطالبة بتفريغ ذمته كما لو أعاره عيناً ليرهنها فرهنها والثاني ليس له وهو الصحيح لأنه لما لم يغرمه قبل أن يغرم لم يطالبه قبل أن يطالب ويخالف إذا أعاره عيناً ليرهنها فرهنها لأن عليه ضرراً في حبس العين والمنع من التصرف بها ولا ضرر عليه في دين في ذمته لا يطالب به فإن دفع المضمون عنه مالاً إلى الضامن وقال خذ هذا بدلاً عما يجب لك بالقضاء ففيه وجهان: أحدهما يملكه لأن الرجوع يتعلق بسبب الضمان والغرم وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر كإخراج الزكاة قبل الحول وإخراج الكفارة قبل الحنث فإن قضى عنه الدين استقر ملكه على ما قبض وإن أبرئ من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ كما يجب رد ما عجل من الزكاة إذا هلك النصاب قبل الحول والثاني لا يملك لأنه أخذه بدلاً عما يجب في الثاني فلا يملكه كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده فعلى هذا يجب رده فإن هلك ضمنه لأنه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوء البيع.
فصل: وإن قبض المضمون له الحق من المضمون منه برئ الضمان لأنه وثيقة بحق فانحلت بقبض الحق كالرهن وإن قبضه من الضامن برئ المضمون عنه لأنه استوفى الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الدين كما لو قضى الدين من ثمن الرهن وإن أبرئ المضمون عنه برئ الضامن لأن الضامن وثيقة بالدين فإذا أبرئ من عليه الدين انحلت الوثيقة كما ينحل الرهن إذ أبرئ الراهن من الدين وإن أبرئ الضامن لم يبرأ(2/150)
المضمون عنه لأن إبراءه إسقاط وثيقة من غير قبض فلم يبرأ به من عليه الدين كفسخ الرهن.
فصل: وإن قضى الضامن الدين نظرت فإن ضمن بإذن المضمون عنه وقضى بإذنه رجع عليه لأنه أذن له في الضمان والقضاء وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه لم يرجع لأنه تبرع بالقضاء فلم يرجع وإن ضمن بغير إذنه وقضى بإذنه ففيه وجهان: من أصحابنا من قال يرجع لأنه قضى بإذنه والثاني لا يرجع وهو المذهب لأنه لزمه بغير إذنه فلم يؤثر إذنه في قضائه وإن ضمن بإذنه وقضى بغير إذنه فالمنصوص أنه يرجع عليه وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنه اشتغلت ذمته بالدين بإذنه فإذا استوفى منه رجع كما لو أعاره مالاً فرهنه في دينه وبيع في الدين وقال أبو إسحاق: إن أمكنه أن يستأذنه لم يرجع لأنه قضاه باختياره وإن لم يمكنه رجع لأنه قضاه بغير اختياره وإن أحاله الضامن على رجل له عليه دين برئت ذمة المضمون عنه لأن الحوالة بيع فصار كما لو أعطاه عن الدين عوضاً وإن أحاله على من لا دين له عليه وقيل المحال عليه وقلنا يصح بريء الضامن لأن بالحوالة تحول ما ضمن ولا يرجع عن المضمون عنه لأنه لم يغرم فإن قبضه منه ثم وهبه له فهل يرجع على الضامن؟ فيه وجهان بناءً على القولين في المرأة إذا وهب الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول.
فصل: وإن دفع الضامن إلى المضمون له ثوباً عن الدين في موضع يثبت له الرجوع رجع بأقل الأمرين من قيمة الثوب أو قدر الدين فإن كان قيمة الثوب عشرة والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة لأنه لم يغرم وإن كان قيمة الثوب عشرين والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة لأنه تبرع بما زاد فلا يرجع به وإن كان الدين الذي ضمنه مؤجلاً فعجل قضاؤه لم يرجع به قبل المحل لأنه تبرع بالتعجيل.
فصل: ويصح ضمان الدرك على المنصوص وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه لايصح لأنه ضمان ما يستحق من المبيع وذلك مجهول والصحيح أنه يصح قولاً واحداً لأن الحاجة داعية إليه لأنه يسلم الثمن ولا يأمن أن يستحق عليه المبيع ولا يمكنه أن يأخذ على الثمن رهناً لأن البائع لا يعطيه من المبيع رهناً ولا يمكنه أن يستوثق بالشهادة لأنه قد يفلس البائع فلا تنفعه الشهادة فلم يبق ما يستوثق به غير الضمان ولا يمكن أن يجعل القدر الذي يستحق معلوماً فعفى عن الجهالة فيه كما عفى عن الجهل بأساس الحيطان ويخالف ضمان المجهول لأنه يمكنه أن يعلم قدر الدين ثم يضمنه وفي وقت ضمانه وجهان: أحدهما لا يصح حتى يقبض البائع الثمن لأنه قبل أن يقبض ما وجب له شيء(2/151)
وضمان ما لم يجب لا يصح والثاني يصح قبل قبض الثمن لأن الجارية داعية إلى هذا الضمان في عقد البيع فجاز قبل قبض الثمن وإن اشترى جارية وضمن دركها فخرج بعضها مستحقاً فإن قلنا إن البيع يصح في الباقي رجع بثمن ما استحق وإن قلنا يبطل البيع في الجميع رجع على الضامن بثمن ما استحق وهل يرجع عليه بثمن الباقي فيه وجهان: أحدهما يرجع عليه لأنه بطل البيع فيه لأجل الاستحقاق فضمن كالمستحق والثاني لا يرجع لأنه لم يضمن إلا ما يستحق فلم يضمن ما سواه وإن ضمن الدرك فوجد بالمبيع عيباً فرده فهل يرجع على الضامن بالثمن فيه وجهان: أحدهما لا يرجع وهو قول المزني وأبي العباس لأنه زال ملكه عنه بأمر حادث فلم يرجع عليه بالثمن كما لو كان شقصاً فأخذه الشفيع والثاني يرجع لأنه رجع إليه الثمن بمعنى قارن العقد فثبت له الرجوع على الضامن كما لو خرج مستحقاً وإن وجد به العيب وقد حدث عنده عيب فهل يرجع بأرش العيب على ما ذكرناه من الوجهين.
فصل: وتجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب وقال في الدعاوى والبينات إن كفالة البدن ضعيفة فمن أصحابنا من قال تصح قولاً واحداً وقوله ضعيف أراد من جهة القياس ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما أنها لا تصح لأنه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسلم في ثمرة نخلة بعينها والثاني يصح وهو الأظهر لما روى أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب قال: صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فوالله لقد بت البارحة وما في نفسي على أحد إحنة وإني كنت استطرقت رجلاً من بني حنيفة وكان أمرني أن آتيه بغلس فانتهيت إلى مسجد بني حنيفة - مسجد عبد الله بن النواحة - فسمعت مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن(2/152)
مسيلمة رسول الله فكذبت سمعي وكففت فرسي حتى سمعت أهل المسجد قد تواطؤوا على ذلك فقال عبد الله بن مسعود علي بعبد الله بن النواحة فحضر واعترف فقال له عبد الله أين ما كنت تقرأ من القرآن؟ قال كنت أتقيكم به فقال له تب فأبى فأمر به فأخرج إلى السوق فجز رأسه ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم فقال عدي بن حاتم ثؤلول كفر قد أطلع رأسه فاحسمه وقال جرير بن عبد الله والأشعث بن قيس استتبهم فإن تابوا كفلهم عشائرهم فاستتابوا فتابوا وكفلهم عشائرهم ولأن البدن يستحق تسليمه بالعقد فجاز الكفالة به كالدين فإن قلنا تصح جازت الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم يدين لأنه حق لازم لآدمي فصحت الكفالة به كالدين وإن كان عليه حد فإن كان لله تعالى لم تصح الكفالة به لأن الكفالة للاستيثاق وحق الله تعالى مبني على الدرء والإسقاط فلم يجز الاستيثاق بمن عليه وإن كان قصاصاً أو حد قذف ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح الكفالة به كمن عليه حد لله تعالى والثاني تصح لأنه حق لآدمي فجازت الكفالة ببدن من عليه كالدين ومن عليه دين لازم كالمكاتب لا تجوز الكفالة ببدنه لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة.
فصل: وإن كان عليه دين مجهول ففيه وجهان: قال أبو العباس لا تصح الكفالة ببدنه لأنه قد يموت المكفول به فيلزمه الدين فإذا كان مجهولاً لم تمكن المطالبة والثاني أنه تصح وهو المذهب لأن الكفالة بالبدن لا تعلق لها بالدين.
فصل: وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان الدين عن الضمين.
فصل: وتجوز الكفالة حالاً ومؤجلاً كما يجوز ضمان الدين حالاً ومؤجلاً وهل يجوز إلى أجل مجهول فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه تبرع من غير عوض فجاز في المجهول كإباحة الطعام والثاني لا يجوز لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي فلا يجوز إلى أجل مجهول كالبيع ويخالف الإباحة فإنه لو أباحه أحد الطعامين جاز ولو تكفل ببدن أحد الرجلين لم يجز.
فصل: وتجوز الكفالة به ليسلم في مكان معين وتجوز مطلقاً فإن أطلق وجب(2/153)
التسليم في موضع العقد كما تجوز حالاً ومؤجلاً وإذا أطلق وجب التسليم في حال العقد.
فصل: ولا تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به لأنه إذا تكفل به من غير إذنه لم يقدر على تسليمه ومن أصحابنا من قال: تصح كما تصح الكفالة بالدين من غير إذن من عليه بالدين.
فصل: وإن تكفل بعضو منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يصح لأنه في تسليمه تسليم جميعه والثاني لا يجوز لأن إفراد العضو بالعقد لا يصح وتسريته إلى الباقي لا تمكن لأنه لا سراية له فبطلت والثالث إن كان العضو لا يبقى البدن دونه كالرأس والقلب جاز لأنه لا يمكن تسليمه إلا بتسليم البدن وإن كان عضواً يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح لأنه يقطع فيبرأ مع بقائه.
فصل: وإن أحضر المكفول به قبل المحل أو في غير الموضع الذي شرط فيه التسليم فإن كان عليه في قبوله ضرر أو في رده غرض لم يلزمه قبوله وإن لم يكن عليه ضرر ولا في رده غرض وجب قبوله فإن لم يتسلمه أحضره عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ كما قلنا في دين السلم وإن أحضره وهناك يد حائلة لم يبرأ لأن التسليم المستحق هو التسليم من غير حائل ولهذا لو سلم المبيع مع الحائل لم يصح تسليمه وإن سلمه وهو في حبس الحاكم صح التسليم لأن حبس الحاكم ليس بحائل ويمكن إحضاره ومطالبته بما عليه من الحق وإن حضر المكفول به بنفسه وسلم نفسه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا أدى المضمون عنه الدين وإن غاب المكفول به إلى موضع لا يعرف خبره لم يطالب وإن غاب إلى موضع يعرف خبره لم يطالب به حتى يمضي زمان يمكن فيه الذهاب والمجيء لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بإمكان التسليم فإن مضى زمان الإمكان ولم يفعل حبس الكفيل إلى أن يحضره فإن أبرأه المكفول له من الكفالة برئ كما يبرأ الضامن إذا أبرأه المضمون له فإن جاء رجل وقال أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به ففيه وجهان: قال أبو العباس يصح لأنه نقل الضمان إلى نفسه فصار كما لو ضمن رجل مالاً فأحال الضامن المضمون له على آخر وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب الطبري رحمهما الله لا يصح لأنه تكفل بشرط أن يبرأ الكفيل وذلك شرط فاسد فمنع صحة العقد وإن تكفل ببدن رجل لنفسين فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ من حق الآخر لأنه ضمن تسليمين فلم يبرأ بأحدهما كما لوضمن لهما دينين فأدى دين أحدهما وإن تكفل اثنان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما فقد قال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله أنه لا يبرأ الآخر لأنه لو أبرئ أحدهما لم يبرأ الآخر فإذا سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر(2/154)
وعندي أنه يبرأ لأن المستحق إحضاره قد حصل فبرئا كما لو ضمن رجلان ديناً فأداه أحدهما ويخالف الإبراء فإن الإبراء مخالف للأداء والدليل عليه أن في ضمان المال لو أبرئ أحد الضامنين لم يبرأ الآخر ولو أدى أحد الضامنين برئ.
فصل: وإن تكفل ببدن رجل فمات المكفول به برئ الكفيل وقال أبو العباس يلزمه ما على المكفول به من الدين لأنه وثيقة فإذا مات من عليه الدين وجب أن يستوفي الدين منها كالرهن والمذهب الأول لأنه لم يضمن الدين فلا يلزمه.
فصل: وإن تكفل بعين نظرت فإن كان أمانة كالوديعة لم يصح لأنه إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده فلأن لا يجب على من يضمن عنه أولى وإن كان عيناً مضمونة كالمغصوب والعارية والمبيع قبل القبض ففيه وجهان بناء على القولين في كفالة البدن فإن قلنا إنها تصح فهلكت العين فقد قال أبو العباس فيه وجهان: أحدهما يجب عليه ضمانها والثاني لا يجب وقال الشيخ أبو حامد لا يجوز بناء ذلك على كفالة البدن لو تلف لم يضمن بدله ولو هلكت العين ضمنها.
فصل: وإن ضمن عنه ديناً ثم اختلفا فقال الضامن ضمنت وأنا صبي وقال المضمون له ضمنت وأنت بالغ فالقول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وإن قال ضمنت وأنا مجنون وقال بل ضمنت وأنت عاقل فإن لم يعرف له حالة جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل العقل وصحة الضمان وإن عرف له حالة جنون فالقول قول الضامن لأنه يحتمل أن يكون الضمان في حالة الإفاقة ويحتمل أن يكون في حالة الجنون والأصل عدم الضمان وبراءة الذمة وإن ضمن عن رجل شيئاً وأدى المال ثم ادعى أنه ضمن بإذنه وأدى بإذنه ليرجع وأنكر المضمون عنه الإذن لم يرجع عليه لأن الأصل عدم الإذن وإن تكفل ببدن رجل ثم ادعى أنه تكفل به ولا حق عليه فالقول قول المكفول له لأن الكفيل قد أقر بالكفالة والكفالة لا تكون إلا بمن عليه حق فكان القول قول المكفول له فإن طلب الكفيل يمين المكفول له على ذلك ففيه وجهان: أحدهما يحلف لأن ما يدعيه الكفيل ممكن فحلف عليه الخصم والثاني لا يحلف لأن إقراره بالكفالة يقتضي وجوب الحق وما يدعيه يكذب إقراره فلم يحلف الخصم وإن ادعى الضامن أنه قضى الحق عن المضمون عنه وأقر المضمون له وأنكر المضمون عنه ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول المضمون عنه لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع فلم يقبل قوله والمضمون له يشهد على فعل نفسه أنه قبض فلم تقبل شهادته فسقط قولهما وحلف المضمون عنه والثاني أن القول قول الضامن لأن قبض المضمون له يثبت بالإقرار مرة وبالبينة أخرى ولو ثبت قبضه بالبينة رجع الضامن فكذلك إذا ثبت بالإقرار.(2/155)
كتاب الشركة
يصح عقد الشركة على التجارة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانا خرجت من بينهما1" ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد على التصرف في المال فلم تصح إلا من جائز التصرف في المال.
فصل: ويكره أن يشارك المسلم الكافر لما روى أبو جمرة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً قلت لم؟ قال لأنهم يربون والربا لا يحل.
فصل: وتصح الشركة على الدراهم والدنانير لأنهما أصل لكل ما يباع ويبتاع وبهما تعرف قيمة الأموال وما يزيد فيها من الأرباح فأما ما سواهما من العروض فضربان: ضرب لا مثل له وضرب له مثل فأما ما لا ضرب له كالحيوان والثياب فلا يجوز عقد الشركة عليها لأنه قد تزيد قيمة أحدهما دون الآخر فإن جعلنا ربح ما زاد قيمته لمالكه أفردنا أحدهما بالربح والشركة معقود على الاشتراك في الربح وإن جعلنا الربح بينهما أعطينا من لم تزد قيمة ماله ربح مال الآخر وهذا لا يجوز وأما ماله مثل كالحبوب والأدهان ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز عقد الشركة عليه وعليه نص في البويطي لأنه من غير الأثمان فلم يجز عقد الشركة عليه كالثياب والحيوان والثاني يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه من ذوات الأمثال فأشبه الأثمان وإن لم يكن لهما غير العروض وأراد الشركة باع كل واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الآخر فيصير الجميع مشتركاً بينهما ويشتركان في ربحه.
فصل: ولا يصح من الشركة إلا شركة العنان ولا يصح ذلك إلا أن يكون مال
__________
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 26.(2/156)
أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته فإن كان مال أحدهما دنانير والآخر دراهم أو مال أحدهما صحاحاً والآخر قراضة أو مال أحدهما من سكة ومال الآخر من سكة أخرى لم تصح الشركة لأنهما مالان لا يختلطان فلم تصح الشركة عليهما كالعروض فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الآخر مائة درهم وابتاعا بها شيئاً وربحا قسم الربح بينهما على قدر المالين فإن كان نقد البلد أحدهما قوم به الآخر فإن استوت قيمتاهما استويا في الربح وإن اختلفت قيمتاهما تفاضلا في الربح على قدر مالهما.
فصل: ولا تصح حتى يختلط المالان لأنه قبل الاختلاط لا شركة بينهما في مال ولأنه لو صححنا الشركة قبل الاختلاط وقلنا إن من ربح شيئاً من ماله انفرد بالربح أفردنا أحدهما بالربح وذلك لا يجوز وإن قلنا يشاركه الآخر أخذ أحدهما ربح الآخر وهذا لا يجوز وهل تصح الشركة مع تفاضل المالين في القدر؟ فيه وجهان: أحدهما لا تصح وهو قول أبي القاسم الإنماطي لأن الشركة تشتمل على مال وعمل ثم لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح فذلك لا يجوز أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا في العمل وتفاضلا في الربح فوجب أن لا يجوز والثاني تصح وهو قول عامة أصحابنا وهو الصحيح لأن المقصود بالشركة أن يشتركا في ربح مالهما وذلك يحصل مع تفاضل المالين كما يحصل مع تساويهما وما قاله الإنماطي من قياس العمل على المال لا يصح لأن الاعتبار في الربح بالمال لا بالعمل والدليل عليه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال ويشتركا في الربح فلم يجز أن يستويا في المال ويختلفا في الربح وليس كذلك العمل فإنه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل ويشتركا في الربح فجاز أن يستويا في العمل ويختلفا في الربح.
فصل: ولا يجوز لأحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف تصرف وإن أذن أحدهما ولم يأذن الآخر تصرف المأذون في الجميع ولا يتصرف الآخر إلا في نصيبه ولا يجوز لأحدهما أن يتجر في(2/157)
نصيب شريكه إلا في الصنف الذي يأذن فيه الشريك ولا أن يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل ولا بغير نقد البلد إلا أن يأذن له شريكه لأن كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه فلا يملك إلا ما يملك كالوكيل.
فصل: ويقسم الربح والخسران على قدر المالين لأن الربح نماء مالهما والخسران نقصان مالهما فكانا على قدر المالين فإن شرطا التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين أو التساوي في الربح والخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة فلم يصح كما لو شرط أن يكون الربح لأحدهما فإن تصرفا مع هذا الشرط صح التصرف لأن الشرط لا يسقط الإذن فنفذ التصرف فإن ربحا أو خسرا جعل بينهما على قدر المالين ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه لأنه إنما عمل ليسلم له ما شرط وإذا لم يسلم رجع بأجرة عمله.
فصل: وأما شركة الأبدان وهي الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهي باطلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى فوجب أن يكون باطلاً ولأن عمل كل واحد منهما يختص به فلم يجز أن يشاركه الآخر في بدله فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله لأنها بدل عمله فاختص بها.
فصل: وأما شركة المفاوضة وهو أن يعقد الشركة على أن يشتركا فيما يكتسبان بالمال والبدن وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بغصب أو بيع أو ضمان فهي شركة باطلةلحديث عائشة رضي الله عنها ولأنها شركة معقودة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح كما لو عقد الشركة على ما يملكان بالإرث والهبة ولأنها شركة معقودة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بعدوانه فلم تصح كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بالجناية فإن عقدا الشركة على ذلك واكتسبا وضمنا أخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله وضمن كل واحد منهما ما لزمه بغصبه وبيعه وضمانه لأن الشرط قد سقط(2/158)
وبقي الربح والضمان على ما كانا قبل الشرط ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه لأنه عمل في ماله ليسلم له ما شرط له ولم يسلم فوجب أجرة عمله.
فصل: وأما شركة الوجوه وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه فهي شركة باطلة لأن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له ينفرد به فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شيء بينهما واشترى كل واحد منهما ماأذن فيه شريكه ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه فإذا بيع قسم الثمن بينهما لأنه بدل مالهما.
فصل: وإن أخذ رجل من رجل جملاً ومن آخر راوية على أن يستقي الماء ويكون الكسب بينهم فقد قال في موضع يجوز وقال في موضع لا يجوز فمن أصحابنا من قال إن كان الماء مملوكاً للسقاء فالكسب له ويرجع عليه صاحب الجمل والراوية أجرة المثل للجمل والراوية لأنه استوفى منفعتهما بإجارة فاسدة فوجب عليه أجرة المثل وإن كان الماء مباحاً فالكسب بينهم أثلاثاً لأنه استقى الماء على أن يكون الكسب بينهم فكان الكسب بينهم كما لو وكلاه في شراء ثوب بينهم فاشتراه على أن يكون بينهم وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان الماء مملوكاً للسقاء كان الكسب له ويرجعان عليه بالأجرة لما ذكرناه وإن كان الماء مباحاً ففيه قولان: أحدهما أنه بينهم أثلاثاً لأنه أخذه على أن يكون بينهم فدخل في ملكهم كما لو اشترى شيئاً بينهم بإذنهم والثاني أن الكسب للسقاء لأنه مباح اختص بحيازته فاختص بملكه كالغنيمة ويرجعان عليه بأجرة المثل لأنهما بذلا منفعة الجمل والراوية ليسلم لهما الكسب ولم يسلم فثبت لهما أجرة المثل.
فصل: والشريك أمين فيما في يده من مال شريكه فإن هلك المال في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عنه في الحفظ والتصرف فكان المالك في يده كالهالك في يده فإن ادعى الهلاك فإن كان بسبب ظاهر لم يقبل حتى يقيم البينة عليه فإذا أقام البينة على السبب فالقول قوله في الهلاك مع يمينه وإن كان بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه من غير بينة لأنه يتعذر إقامة البينة على الهلاك فكان القول قوله مع يمينه وإن ادعى عليه الشريك خيانة وأنكر فالقول قوله لأن الأصل عدم الخيانة وإن كان في يده عين وادعى شريكه أن ذلك من مال الشركة وادعى هو أنه له فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه فإن اشترى شيئاً فيه ربح فادعى الشريك أنه للشركة وادعى هو(2/159)
أنه اشتراه لنفسه واشترى شيئاً فيه خسارة وادعى الشريك أنه اشتراه لنفسه وادعى هو أنه اشتراه للشركة فالقول قوله لأنه أعرف بعقده ونيته.
فصل: وإن كان بينهما عبد فأذن أحدهما لصاحبه في بيعه فباعه بألف ثم أقر الشريك الذي لم يبع أن البائع قبض الألف من المشتري وادعى المشتري ذلك وأنكر البائع فإن المشتري يبرأ من حصة الشريك الذي لم يبع لأنه أقر أنه سلم حصته من الثمن إلى شريكه بإذنه وتبقى الخصومة بين البائع وبين المشتري وبين الشريكين فإن تحاكم البائع والمشتري فإن كان للمشتري بينة بتسليم الثمن قضى له وإن لم يكن له من يشهد غير الشريك الذي لم يبع فإن شهادته مردودة في قبض حصته لأنه يجر بها إلى نفسه نفعاً وهو حق الرجوع عليه بما قبض من حصته وهل ترد في حصة البائع؟ فيه قولان: فإن قلنا تقبل حلف معه المشتري ويبرأ وإن قلنا لا تقبل أو لم يكن عدلاً فالقول قول البائع مع يمينه أنه لم يقبض فإن حلف أخذ منه نصف الثمن وليس للشريك الذي لم يبع أن يأخذ مما أخذ البائع شيئاً لأنه أقر أنه قد أخذ الحق مرة وإن ما أخذه الآن أخذه ظلماً فلا يجوز أن يأخذ منه وإن نكل البائع حلف المشتري ويبرأ وإن تحاكم الشريكان فإن كان للذي لم يبع بينة بأن البائع قبض الثمن رجع عليه بحصته وإن لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ويبرأ وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الذي لم يبع فيحلف ويأخذ منه حصته وإن ادعى البائع أن الذي لم يبع قبض الألف من المشتري وادعاه المشتري وأنكر الذي لم يبع نظرت فإن كان الذي لم يبع مأذوناً له في القبض برئت ذمة المشتري من نصيب البائع لأنه أقر أنه سلمه إلى شريكه بإذنه وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع وبين المشتري وبين الشريكين فيكون البائع ههنا كالذي لم يبع والذي لم يبع كالبائع في المسألة قبلها وقد بيناه وإن لم يكن واحد منهما مأذون له في القبض لم تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن لأن الذي باعه أقر بالتسليم إلى من لم يأذن له والذي لم يبع أنكر القبض فإن تحاكم البائع والمشتري أخذ البائع منه حقه من غير يمين لأنه سلمه إلى شريكه بغير إذنه وإن تحاكم المشتري والذي لم يبع فإن كان للمشتري بينة برئ من حقه وإن لم يكن له من يشهد غير البائع فإن كان عدلاً قبلت شهادته لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعاً ولا يدفع بها ضرراً فإذا شهد حلف معه المشتري وبرئ وإن لم يكن عدلاً فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه فإذا حلف أخذ منه حقه وإن كان البائع مأذوناً له في القبض والذي لم يبع غير مأذون له وتحاكم البائع والمشتري قبض منه حقه(2/160)
من غير يمين لأنه سلمه إلى شريكه من غير إذنه وهل للشريك الذي لم يبع مشاركته فيما أخذ قال المزني: له مشاركته وهو بالخيار بين أن يأخذ من المشتري خمسمائة وبين أن يأخذ من المشتري مائتين وخمسين ومن الشريك مائتين وخمسين وقال أبو العباس: لا يأخذ منه شيئاً لأنه لما أقر أن الذي لم يبع قبض جميع الثمن عزل نفسه من الوكالة في القبض لأنه لم يبق له ما يتوكل في قبضه فلا يأخذ بعد العزل إلا حق نفسه فلا يجوز للذي لم يبع إلا أن يشاركه فيه فإن تحاكم المشتري والذي لم يبع فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض لأن الأصل عدم القبض فإن كان للمشتري بينة قضى له وبرئ وإن لم يكن له من يشهد إلا البائع لم تقبل شهادته على قول المزني لأنه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة ضرراً وهو رجوع الشريك الذي لم يبع عليه بنصف ما في يده وعلى قول أبي العباس تقبل شهادته قولاً واحداً لأنه لا يدفع بشهادته ضرراً لأنه لا رجوع له عليه.
فصل: ولكل واحد من الشريكين أن يعزل نفسه عن التصرف إذا شاء لأنه وكيل وله أن يعزل شريكه عن التصرف في نصيبه لأنه وكيله فيملك عزله فإذا انعزل أحدهما لم ينعزل الآخر عن التصرف لأنهما وكيلان فلا يعزل أحدهما بعزل الآخر فإن قال أحدهما فسخت الشركة انعزلا جميعاً لأن الفسخ يقتضي رفع العقد من الجانبين فانعزلا وإن ماتا أو أحدهما انفسخت الشركة لأنه عقد جائز فبطل بالموت كالوديعة وإن جنى أو أحدهما أو أغمي عليهما أو على أحدهما بطل لأنه بالجنون والإغماء يخرج عن أن يكون من أهل التصرف ولهذا تثبت الولاية عليه في المال فبطل العقد كما لومات والله أعلم.(2/161)
كتاب الوكالة
تجوز الوكالة فيعقد البيع لما روي عن عروة بن الجعد قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً أشتري شاة أو أضحية فاشتريت شاتين فبعت إحداهما بدينار فدعا لي بالبركة فكان لو اشترى تراباً لربح فيه ولأن الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع لأنه قد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يوكل فيه غيره وتجوز في سائر عقود المعاملات كالرهن والحوالة والضمان والكفالة والشركة والوكاة والوديعة والإعارة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والهبة والوقف والصدقة لأن الحاجة إلى التوكيل فيها كالحاجة إلى التوكيل في البيع وفي تملك المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد والاحتشاش قولان: أحدهما لا يصح التوكيل فيها لأنه تملك مباح فلم يصح التوكيل فيه كالاغتنام والثاني يصح لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز أن يوكل فيه كالابتياع والاتهاب ويخالف الاغتنام لأنه يستحق بالجهاد وقد تعين عليه بالحضور فتعين له ما استحق به.
فصل: ويجوز التوكيل في عقد النكاح لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية الضمري في نكاح أم حبيبة ويجوز في الطلاق والخلع والعتاق لأن الحاجة تدعوا إلى التوكيل فيه كما تدعوا إلى التوكيل في البيع والنكاح ولا يجوز التوكيل في الإيلاء والظهار واللعان لأنها أيمان فلا تحتمل التوكيل وفي الرجعة وجهان: أحدهما لا يجوز التوكيل فيه كما لا يجوز في الإيلاء والظهار والثاني أنه يجوز وهو الصحيح فإنه إصلاح للنكاح فإذا جاز في النكاح جاز في الرجعة.
فصل: ويجوز التوكيل في إثبات الأموال والخصومة فيها لما روي أن علياً كرم الله وجهه وكل عقيلاً رضي الله عنه عند أبي بكر وعمرو رضي الله عنهما وقال ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان رضي الله عنه وقال علي أن للخصومات قحماً قال أبو زباد الكلابي: القحم المهالك ولأن الحاجة تدعوا إلى التوكيل في الخصومات لأنه قد يكون له حق أو يدعي عليه حق ولا يحسن الخصومة فيه(2/162)
أو يكره أن يتولاها بنفسه فجاز أن يوكل فيه ويجوز ذلك من غير رضى الخصم لأنه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه كالتوكيل في قبض الديون ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف لأنه حق آدمي فجاز التوكيل في إثباته كالمال ولا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى لأن الحق له وقد أمرنا فيه بالدرء والتوصل إلى إسقاطه وبالتوكيل يتوصل إلى إيجابه فلم يجز ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العمال لقبض الصدقات وأخذ الجزي ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أنيساً لإقامة الحد وقال: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ووكل عثمان رضي الله عنه علياً كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبة وأما القصاص وحد القذف فإنه يجوز التوكيل في استيفائهما بحضرة الموكل لأن الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون له حد أو قصاص ولا يحسن أن يستوفيه فجاز لأن يوكل فيه غيره وهل يجوز أن يستوفيه في غيبة الموكل؟ قال في الوكالة لا يستوفي وقال في الجنايات ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو وقبل العلم بالعفو ففي الضمان قولان: وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل فمن أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً وهو قول أبي إسحاق لأنه حق يجوز أن يستوفيه بحضرة الموكل فجاز في غيبته كأخذ المال وحمل قوله لا يستوفي على الاستحباب ومنهم من قال لا يجوز قولاً واحداً لأن القصاص والحد يحتاط في إسقاطهما والعفو مندوب إليه فيهما فإذا حضر رجونا أن يرحمه فيعفو عنه وحمل قوله في الجنايات على أنه أراد إذا انتفع به ولم يغب عن عينه فعفا ولم يسمع الوكيل فقتل ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز والثاني لا يجوز ووجههما ما ذكرناه.
فصل: ويجوز التوكيل في فسخ العقود لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها ففي فسخها أولى ويجوز أن يوكل في الإبراء من الديون لأنه إذا جاز التوكيل في إثباته واستيفائها جاز التوكيل في الإبراء عنها وفي التوكيل في الإقرار وجهان: أحدهما يجوز وهو ظاهر النص لأنه إثبات مال في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع والثاني لا يجوز وهو قول أبي العباس لأنه توكيل في إخبار عن حق فلم يجز كالتوكيل في الشهادة بالحق فإذا قلنا لا يجوز فهل يكون توكيله إقراراً فيه وجهان: أحدهما أنه إقرار لأنه لم يوكل في الإقرار بالحق إلا والحق واجب عليه والثاني أنه لا يكون إقراراً كما لا يكون التوكيل في الإبراء إبراء.(2/163)
فصل: ولا يصح التوكيل إلا ممن يملك التصرف في الذي يوكل فيه بملك أو ولاية فأما من لا يملك التصرف في الذي يوكل فيه كالصبي والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في النكاح والفاسق في تزويج ابنته فلا يملك التوكيل فيه لأنه لا يملكه فلا يملك أن يملك ذلك غيره وأما من لا يملك التصرف إلا بالإذن كالوكيل والعبد المأذون فإنه لا يملك التوكيل إلا بالإذن لأنه يملك التصرف بالإذن فكان توكيله بالإذن واختلف أصحابنا في غير الأب والجد من العصبات هل تملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة فمنهم من قال يملك لأنه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع فملك التوكيل من غير إذن كالأب والجد ومنهم من قال لا يملك لأنه لا يملك التزويج إلا بإذن فلا يملك التوكيل إلا بإذن كالوكيل والعبد المأذون.
فصل: ومن لا يملك التصرف في حق نفسه لنقص فيه كالمرأة في النكاح والصبي والمجنون في جميع العقود لم يملك أن يتوكل لغيره لأنه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه بحق الملك لم يملكه في حق غيره بالتوكيل ومن ملك التصرف فيما تدخله النيابة في حق نفسه جاز أن يتوكل فيه لغيره لأنه يملك في حق نفسه بحق الملك فملك في حق غيره بالإذن واختلف أصحابنا في العبد هل يجوز أن يتوكل في قبول النكاح فمنهم من قال يجوز لأنه يملك قبول العقد لنفسه بإذن المولى فملك أن يقبل لغيره بالتوكيل ومنهم من قال لا يجوز لأنه لا يملك النكاح وإنما أجيز له القبول لنفسه للحاجة إليه ولا حاجة إلى القبول لغيره فلم يجز واختلفوا في توكيل المرأة في طلاق غيرها فمنهم من قال يجوز كما يجوز توكيلها في طلاقها ومنهم من قال لا يجوز لأنها لا تملك الطلاق وإنما أجيز توكيلها في طلاق نفسها للحاجة ولا حاجة إلى توكيلها في طلاق غيرها فلم يجز ويجوز للفاسق أن يتوكل في قبول النكاح للزوج لأنه يجوز أن يقبل لنفسه مع الفسق فجاز أن يقبل لغيره وهل يجوز أن يتوكل في الإيجاب فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه موجب للنكاح فلم يجز أن يكون فاسقاً كالولي والثاني يجوز لأنه ليس بولي وإنما هو مأمور من جهة الولي والولي عدل.
فصل: ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والإجارة ويجوز القبول على الفور وعلى التراخي وقال القاضي أبو حامد المروروذي: لا يجوز إلا على الفور لأنه عقد في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع والمذهب الأول لأنه إذن في التصرف والإذن قائم ما لم يرجع فيه فجاز القبول ويجوز القبول بالفعل لأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كالإذن في أكل الطعام.(2/164)
فصل: ولا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم فإن قال وكلتك في كل قليل وكثير لم يصح لأنه يدخل فيه ما يطيق وما لا يطيق فيعظم الضرر ويكثر الغرر وإن قال وكلتك في بيع جميع مالي أو قبض جميع ديوني صح لأنه عرف ماله ودينه وإن قال بع ما شئت من مالي أو اقبض ما شئت من ديوني جاز لأنه إذا عرف ماله ودينه عرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقل الغرر وإن قال اشتر لي عبداً لم يصح لأن فيه ما يكون بمائة وفيه ما يكون بألف فيكثر الغرر وإن قال اشتر لي عبداً بمائة لم يصح لأنه ذكر الثمن لا يدل على النوع فيكثر الغرر وإن قال اشتر لي عبداً تركياً بمائة جاز لأن مع ذكر النوع وقدر الثمن يقل الغرر فإن قال اشتر لي عبداً تركياً ولم يقدر الثمن ففيه وجهان: قال أبو العباس يصح لأنه يحمل الأمر على أعلى هذا النوع ثمناً فيقل الغرر ومن أصحابنا من قال لا يصح لأن أثمان الترك تختلف وتتفاوت فيكثر الغرر وإن وكله في الإبراء لم يجز حتى يبين الجنس الذي يبرئ منه والقدر الذي يبرئ منه وإن وكله في الإقرار وقلنا إنه يصح التوكيل فيه لم يجز حتى يبين جنس ما يقر به وقدر ما يقر به لأنه إذا أطلق عظم الضرر وكثر الغرر فلم يجز وإن وكله في خصومة كل من يخاصمه ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الخصومة معلومة والثاني لا يصح لأنها قد تقل الخصومات وقد تكثر فيكثر الغرر.
فصل: ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل ومن أصحابنا من قال يجوز لأنه أذن في التصرف فجاز تعليقه على مستقبل كالوصية والمذهب الأول لأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والإجارة ويخالف الوصية فإنها لا يؤثر فيها غرر الجهالة فلا يؤثر فيها غرر الشرط والوكالة تؤثر الجهالة في إبطالها فأثر غرر الشرط فإن علقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صح التصرف لأن مع فساد العقد الإذن قائم فيكون تصرفه بإذن فصح فإن كان قد سمى له جعلاً سقط المسمى ووجب له أجرة المثل لأنه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل فوجب أجرة المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة وإن عقد الوكالة في الحال وعلق التصرف على شرط بأن قال: وكلتك بأن تطلق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهر صح لأنه لم يعلق العقد على شرط وإنما علق التصرف على شرط فلم يمنع صحة العقد.
فصل: ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل من جهة النطق أو(2/165)
من جهة العرف لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما يقتضيه الإذن والإذن يعرف بالنطق وبالعرف فإن تناول الإذن تصرفين وفي أحدهما إضرار بالموكل لم يجز ما فيه إضرار لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" فإن تناول تصرفين وفي أحدهما نظر للموكل لزمه مافيه نظر للموكل لما روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الدين النصيحة قلنا يارسول الله لمن؟ قال: لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وللمسلمين عامة1" وليس من النصح أن يترك ما فيه الحظ والنظر للموكل.
فصل: وإن وكل في تصرف وأذن له أن يوكل إذا شاء نظرت فإن عين له أن يوكله وكله أميناً كان أو غير أمين لأنه قطع اجتهاده بالتعيين وإن لم يعين من يوكل لم يوكل إلا أميناً لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين فإن وكل أميناً فإن صار خائناً فهل يملك عزله؟ فيه وجهان: أحدهما يملك عزله لأن الوكالة تقتضي استعمال أمين فإذا خرج عن أن يكون أميناً لم يجز استعماله فوجب عزله والثاني لا يملك عزله لأنه أذن له في التوكيل دون العزل وإن وكله ولم يأذن له في التوكيل نظرت فإن كان موكله فيه مما يتولاه الوكيل ويقدر عليه لم يجز أن يوكل فيه غيره لأن الإذن لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضي غيره وإن وكله في تصرف وقال اصنع فيه ما شئت ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز أن يوكل فيه غيره لعموم قوله اصنع فيه ما شئت والثاني لا يجوز لأن التوكيل يقتضي تصرفاً يتولاه بنفسه وقوله اصنع فيه ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل في تصرفه بنفسه وإن كان ما وكله فيه مما لا يتولاه بنفسه كعمل لا يحسنه أو عمل يترفع عنه جاز أن يوكل فيه غيره لأن توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف وإن كان مما
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 42.مسلم في كتاب الإيمان حديث 95.(2/166)
يتولاه إلا أنه لا يقدر على جميعه لكثرته جاز له أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه لأن توكيله فيما لا يقدر عليه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف وهل يجوز أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يوكل في جميعه لأنه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل والثاني ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه منه لأن التوكيل يقتضي أن يتولى الوكيل بنفسه وإنما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز وبقي فيما يقدر عليه على مقتضى التوكيل وإن وكل نفسين في بيع أو طلاق فإن جعله إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به لأنه أذن لكل واحد منهما في التصرف وإن لم يجعل لكل واحد منهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد به لأنه لم يرض بتصرف أحدهما فلا يجوز أن ينفرد به وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه في حرز لهما وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه إن كان مما ينقسم جاز أن يقتسما ويكون عند كل واحد منهما نصفه وإن لم ينقسم جعلاه في حرز لهما كما يفعل المالكان والصحيح هو الأول لأنه تصرف أشرك فيه بينهما فلم يجز لأحدهما أن ينفرد ببعضه فيه كالبيع ويخالف المالكين لأن تصرف المالكين بحق الملك ففعلا ما يقتضي الملك وتصرف الوكيلين بالإذن والإذن يقتضي اشتراكهما ولهذا يجوز لأحد المالكين أن ينفرد ببيع بعضه ولا يجوز لأحد الوكيلين أن ينفرد ببيع بعضه.
فصل: وإن وكل رجلاً في الخصومة لم يملك الإقرار على الموكل ولا الإبراء من دينه ولا الصلح عنه لأن الإذن في الخصومة لا يقتضي شيئاً من ذلك وإن وكله في تثبيت حق فثبته لم يملك قبضه لأن الإذن في التثبيت ليس بإذن في القبض من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للتثبيت يرضاه للقبض وإن وكله في قبض حق من رجل فجحد الرجل الحق فهل يملك أن يثبته عليه؟ فيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن الإذن في القبض ليس بإذن في التثبيت من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للتثبيت والثاني أنه يملك لأنه يتوصل بالتثبيت إلى القبض فكان الإذن في القبض إذناً بالتثبيت وإن وكله في بيع سلعة فباعها لم يملك الإبراء من الثمن لأن الإذن في البيع ليس بإذن في الإبراء من الثمن وهل يملك قبضه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما أنه لا يملك لأن الإذن في البيع ليس بإذن في قبض الثمن من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه قد يرضى الإنسان للبيع من لا يرضاه للقبض والثاني أنه يملك لأن العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض الثمن فحملت الوكالة عليه وإن وكله في شراء عبد فاشترى وسلم الثمن ثم استحق العبد فهل يملك(2/167)
أن يخاصم البائع في درك الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما يملك لأنه من أحكام العقد والثاني لا يملك لأن الذي وكل فيه هو العقد وقد فرغ منه فزالت الوكالة.
فصل: وإن وكل في البيع في زمان لم يملك البيع قبله ولا بعده لأن الإذن لا يتناول ما قبله ولا ما بعده من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه قد يؤثر البيع في زمان الحاجة ولا يؤثر في زمان قبله ولا زمان بعده وإن وكله في البيع في مكان فإن كان الثمن فيه أكثر أو النقد فيه أجود لم يجز البيع في غيره لأنه قد يؤثر البيع في ذلك المكان لزيادة الثمن أو جودة النقد فلا يجوز تفويت ذلك عليه وإن كان الثمن فيه وفي غيره واحداً ففيه وجهان: أحدهما أنه يملك البيع في غيره لأن المقصود فيهما واحد فكان الإذن في أحدهما إذناً في الآخر والثاني لا يجوز لأنه لما نص عليه دل على أنه قصد عينه لمعنى هو أعلم به من يمين وغيرها فلم تجز مخالفته.
فصل: وإن وكله في البيع من رجل لم يجزأن يبيع من غيره لأنه قد يؤثر تمليكه دون غيره فلا يكون الإذن في البيع منه إذناً في البيع من غيره وإن قال خذ مالي من فلان فمات لم يجز أن يأخذ من ورثته لأنه قد لايرضى أن يكون ماله عنده ويرضى أن يكون عند ورثته فلا يكون الإذن في الأخذ منه إذناً في الأخذ من ورثته وإن قال خذ مالي على فلان فمات جاز أن يأخذ من ورثته لأنه قصد أخذ ماله وذلك يتناول الأخذ منه ومن ورثته وإن وكل العدل في بيع الرهن فأتلفه رجل فأخذت منه القيمة لم يجز له بيع القيمة لأن الإذن لم يتناول بيع القيمة.
فصل: وإن وكل في بيع فاسد لم يملك الفاسد لأن الشرع لم يأذن فيه ولا يملك الصحيح لأن الموكل لم يأذن فيه.
فصل: وإن وكل في بيع سلعة لم يملك بيعها من نفسه من غير إذن لأن العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه ولأن إذن الموكل يقتضي البيع ممن يستقصي في الثمن عليه وفي البيع من نفسه لا يستقصي في الثمن فلم يدخل في الإذن وهل يملك البيع من ابنه أو مكاتبه؟ فيه وجهان: أحدهما يملك وهو قول أبو سعيد الاصطخري لأنه يجوز أن يبيع منه ماله فجاز له أن يبيع منه مال موكله كالأجنبي والثاني لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه متهم في الميل إليهما كما يتهم في الميل إلى نفسه ولهذا لا تقبل شهادته لهما كما لا تقبل شهادته لنفسه فإن أذن له في البيع من نفسه ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز أن يوكل المرأة في طلاقها والثاني لا يجوز وهو(2/168)
المنصوص لأنه يجتمع في عقده غرضان متضادان الاستقصاء للموكل والاسترخاص لنفسه فتمانعا ويخالف الطلاق فإنه يصح بالزوج وحده فصح بمن يوكل والبيع لا يصح بالبائع وحده فلم يصح بمن يوكله وإن كان رجلاً في بيع عبده ووكله آخر في شرائه لم يصح لأنه عقد واحد يجتمعان فيه غرضان متضادان فلم يصح التوكيل فيه كالبيع من نفسه وإن وكله في خصومة رجل ووكله الرجل في خصومته ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه توكيل في أمر يجتمع فيه عرضان متضادان فلم يصح كما لو وكله أحدهما في بيع عبده ووكله آخر في شرائه والثاني يصح لأنه لا يتهم في إقامة الحجة لكل واحد منهما مع حضور الحاكم فإن وكل عبد الرجل ليشتري له نفساً أو عبداً غيره من مولاه ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لما جاز توكيله في الشراء من غير مولاه جاز توكيله في الشراء من مولاه والثاني لا يجوز لأن يد العبد كيد المولى ولهذا يحكم له بما في يد العبد كما يحكم له بما في يده ثم لو وكل المولى في الشراء من نفسه لم يجز فكذلك إذا وكل العبد.
فصل: وإن وكل في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشتري معيباً لأن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيب ولهذا لو اشترى عيناً فوجد فيها عيباً ثبت له الرد فإن اشترى معيباً نظرت فإن اشتراه وهو يعلم أنه معيب لم يصح الشراء للموكل لأنه اشترى له ما لم يأذن فيه فلم يصح له وإن اشتراه وهو لا يعلم أنه معيب ثم علم لم يخل إما أن يرضى به أو لا يرضى فإن لم يرض به نظرت فإن علم الموكل ورضي به لم يجز للوكيل رده لأن الرد لحقه وقد رضي به فسقط وإن لم يعلم الموكل ثبت للوكيل الرد لأنه ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها كما لو اشترى نفسه فإن قال البائع أخر الرد حتى تشاور الموكل فإن لم يرض قبلته لم يلزمه التأخير لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره وإن قبل منه وأخره بهذا الشرط فهل يسقط حقه من الرد فيه وجهان: أحدهما يسقط لأنه ترك الرد مع القدرة والثاني لا يسقط لأنه لم يرض بالعيب فإن ادعى البائع أن الموكل علم بالعيب ورضي به فالقول قول الوكيل مع يمينه لأن الأصل عدم الرضا فإن رضي الوكيل بالعيب سقط خياره فإن حضر الموكل ورضي بالعيب استقر العقد وإن اختار الرد نظرت فإن كان قد سماه الوكيل في الابتياع أو نواه وصدقه البائع جاز أن يرده لأن الشراء له وهو لم يرض بالعيب وإنما رضي وكيله فلا يسقط حقه من الرد وإن لم يسمه الوكيل في الابتياع ولا صدقة البائع أنه نواه فالمنصوص أن السلعة تلزم الوكيل لأنه ابتاع في الذمة للموكل ما(2/169)
لم يأذن فيه ومن أصحابنا من قال: يلزم الموكل لأن العقد وقع له وقد تعذر الرد بتفريط الوكيل في ترك الرد ويرجع الموكل على الوكيل بنقصان العيب لأن الوكيل صار كالمستهلك له بتفريطه وفي الذي يرجع به وجهان: أحدهما وهو قول أبي يحيى البلخي أنه يرجع بما نقص من قيمته معيباً على الثمن فإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة مائة لم يرجع بشيء وإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة تسعين رجع بعشرة كما نقول في شاهدين شهدا على رجل أنه باع سلعة بمائة فأخذت منه ووزن له المشتري الثمن ثم رجع الشهود عن الشهادة فإن الحكم لا ينقض ويرجع البائع على الشهود بما نقص من القيمة عن الثمن فإن كان الثمن والقيمة سواء لم يرجع عليهم بشيء وإن كانت القيمة مائة والثمن تسعون رجع بعشرة والثاني أنه يرجع بأرش العيب وهو الصحيح لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه فوجب الرجوع بالأرض وإن وكل في شراء سلعة بعينها فاشتراها ووجد بها عيباً فهل له أن يرد من غير إذن الموكل؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يرد لأن البيع يقتضي السلامة من العيب ولم يسلم من العيب فثبت له الرد كما لو وكل في شراء سلعة موصوفة فوجد بها عيباً فعلى هذا يكون حكمه في الرد على ما ذكرناه في السلعة الموصوفة والثاني لا يرد من غير إذن الموكل لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين.
فصل: وإن وكل في بيع عبد أو شراء عبد لم يجز أن يعقد على بعضه لأن العرف في بيع العبد وشرائه أن يعقد على جميعه فحمل الوكالة عليه ولأن في تبعيضه إضراراً بالموكل فلم يملك من غير إذن وإن وكل في شراء أعبد أو بيع أعبد جاز أن يعقد على واحد لأن العرف في العبيد أن تباع وتشترى واحداً واحداً ولأنه لا ضرر في إفراد بعضهم عن بعض فإن وكله أن يشتري له عشرة أعبد صفقة واحدة فابتاع عشرة أعبد من اثنين صفقة واحدة ففيه وجهان: قال أبو العباس يلزم الموكل لأنه اشتراهم صفقة واحدة ومن أصحابنا من قال لا يلزم الموكل لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان.
فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد من غير إذن ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بغير نقد البلد من غير إذن لأن إطلاق البيع يقتضي نقد البلد ولهذا لو قال بعتك بعشرة دراهم حمل على نقد البلد وإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما لأن نقد البلد هو الغالب فإن استويا في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل لأنه مأمور بالنصح له ومن النصح أن يبيع بالأنفع فإن استويا باع بما شاء منهما لأنه لا(2/170)
مزية لأحدهما على الآخر فخير بينهما وإن أذن له في العقد بنقد لم يجز أن يعقد بنقد آخر لأن الإذن في جنس ليس بإذن في جنس آخر ولهذا لو أذن له في شراء عبد لم يجز أن يشتري جارية ولو أذن له في شراء حمار لم يجز أن يشتري فرسا.
فصل: وإن دفع إليه ألفا وقال اشتريها بعينها في ذمته لم يصح الشراء للموكل، لأنه لم يرض بالتزام غير الألف، فإذا ابتاع بألف في الذمة فقد ألزمه في ذمته ألفا لم يرض بالتزامها فلم يلتزم وإن قال اشتر لي في الذمة وانقد الألف فيه فابتاع فابتاع بعينها ففيه وجهان: أحدهما أن البيع باطل لأنه أمره بعقد لا ينفسخ بتلف الألف فعقد عقدا ينفسخ بتلف الألف وذالك لم يأذن فيه ولم يرض به. والثاني أن يصح لأنه أمره بعقد يلزمه الثمن مع بقا الألف، ومع تلفها قد عقد عقدا يلزمه الثمن مع بقائها ولايلزمه مع تلفها فزاد بذالك خيرا، وإن دفع إليه ألفا وقال اشتر عبدا ولم يقل بعينها ففيه وجهان: أحدهما مقتضاه الشراء بعينها لأنه لما دفع إليه الألف دل علي أنه قصد الشراء بعينها لأن الأمر مطلق فهلي هذا يجوز أن يشتري بعينها ويجوز أن يشتري في الذمة وينقد الألف فيه.
فصل: فإن وكله في الشراء ولم يدفع إليه الثمن فاشتراه ففي الثمن ثلاثة أوجه: أحدهما أنه علي الموكل والوكيل ضامن لأنه المبيع للموكل فكان الثمن عليه والوكيل تولي العقد والتزم الثمن فضمنه، فعلي هذا يجوز للبائع أن يطالب الوكيل والموكل لأن أحدهما ضامن والآخر مضمون عنه فإن وزن الوكيل الثمن رجع علي الموكل وإن وزن الموكل لم يرجع علي الوكيل. والثاني أن الثمن علي الوكيل دون الموكل لأن الذي التزم هو الوكيل فكان الثمن عليه فعلي هذا يجوز للبائع مطالبة الوكيل لأن الثمن عليه ولا يجوز له مطالبة الموكل لأنه لا شيء عليه، فإن وزن الوكيل رجع علي الموكل لأنه التزم بإذنه وإن لم يزن لم يرجع كما نقول فيمن أحال بدين عليه علي رجل لا دين له عليه، أنه إذا وزن رجع وإذا لم يزن لم يرجع وإن أبر البائع الوكيل سقط الثمن وحصلت السلعة للموكل من غير ثمن. والثالث أن الثمن علي الوكيل وللوكيل في ذمة الموكل مثل الثمن فيجوز للبائع مطالبة الوكيل دون الموكل، وللوكيل مطالبة الموكل بالثمن وإن لم يطالبه البائع.
فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بثمن مؤجل من غير إذن لأن الأفضل في البيع النقد، وإنما يدخل التأجيل لكساد أو فساد فإن أطلق حمل علي الأصل، فإن أذن له في بيع مؤجل وقدر الأجل أكثر منه لأنه لم يرض بما زاد علي المقدر(2/171)
ففي علي الصل في المنع، وإن أطلق الأجل ففيه وجهان: أحدهما لايصح التوكيل لأن الأجال تختلف فيكثر الغرر فيه فلم يصح. والثاني يصح ويحمل علي العرف في مثله لأن مطلق الوكالة يحمل علي المتعارف، وإن لم يكن فيه عرف باع بأنفع ما يقدر عليه لأنه مأمور بالنصح لموكله. ومن أصحابنا من قال يجوز القليل والكثير لأن اللفظ مطلق ومنهم من قال: يجوز إلي سنة لأن الديون المؤجلة في الشرع مقدرة بالسنة وهي الدية والجزية والصحيح هو الأول، وقول القائل الثاني إن اللفظ مطلق لا يصح لأن العرف يخصه، ونصح الموكل يخصه، وقول القائل الثالث لا يصح لأن الدية والجزية وجبت بالشرع فحمل علي تأجيل الشرع، وهذا وجب بإذن الموكل فحمل علي المتعارف، وإن أذن له في البيع إلي أجل فباع بالنقد نظرت فإن باع بدون ما يساوي نسيئة لم يصح لأن الإذن في البيع نسيئة يقتضي افلبيع بما يساوي نسيئة، فإذا باع بما دونه لم يصح. وإن باع نقدا بما يساوي نسيئة؛ فإن كان في وقت لا يأمن أن ينهب أو يسرق لم يصح لأن ضرر لم يرض به فلم يلزمه، وإن كان في وقت مأمون ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة ملئ، ففوت عليه ذالك فلم يصح، والثاني يصح لأنه زاده بالتعجيل خيرا. وإن وكله أن يشتري عبدا بألف فاشتراه بألف مؤجل ففيه وجهان: أحدهما لا يصح الشراء للموكل لأنه قصد أن لا يكون عليه دين وأن لا يشتري إلا بما معه، والثاني أنه يصح لأنه حصل له العبد وزاده التأجيل خيرا.
فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يشترط الخيار للمشتري ولا للوكيل في الشراء أن يشترط الخيار للبائع من غير إذن لأنه شرط لاحظ فيه للموكل فلا يجوز من غير إذن كالأجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل؟ فيه وجهان أحدهما لا يجوز لأن إطلاق البيع يقتضي البيع من غير شرط، والثاني يجوز لأنه احتاط للموكل بشرط الخيار.
فصل: ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن لأنه منهي عن الإضرار بالموكل مأمور بالنصح له، وفي النقصان عن ثمن المثل في البيع والزيادة علي ثمن المثل في الشراء ضرار وترك النصح، ولأن العرف في البيع ثمن المثل فحمل إطلاق الإذن عليه فإن حضر من يطلب الزيادة علي ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأنه مأمور بالنصح والنظر للموكل، ولا نصح ولا نظر للموكل في ترك الزيادة، وإن باع بثمن المثل ثم حضر من يزيد في حال الخيار ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه فسخ البيع لأن المزايد قد لا يثبت علي الزيادة فلا يلزمه الفسخ(2/172)
بالشك، والثاني يلزمه الفسخ وهو الصحيح لأن حال الخيار كحال العقد. ولو حضر في حال العقد من يزيد وجب البيع منه فكذلك إذا حضر في حال الخيار، وقول القائل الأول إنه قد لا يثبت علي الزيادة فيكون الفسخ بالشك، وإن باع بنقصان يتغابن الناس بمثله بأن باع ما يساوي عشرة بتسعة صح البيع، وإن اشتري بزيادة يتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوي عشرة بأحد عشرة صح الشراء ولزم الموكل لأن ما يتغابن الناس بمثله يعد من المثل، ولأنه يمكن الإحتراز منه فعفي عنه، وإن اشتري بزيادة لا تتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع مايساوي عشرة بإثني عشر فإن كان بعين مال الموكل بطل الشراء لأنه عقد على ماله عقدا لم يأذن فيه وإن كان في الذمة لزم الوكيل لأنه اشترى في الذمة بغير إذن فوقع الملك وإن باع بنقصان لا يتغابن الناس بمثله بأن باع مايساوي عشرة بثمانية لم يصح البيع لأنه بيع غير مأذون فيه فإن كان المبيع باقيا رد وإن كان تالفا وجب ضمانه وللموكل أن يضمن الوكيل لأنه سلم مالم يكن له تسليمه وله أن يضمن المشتري لأنه ضمن قبض مالم يكن له قبضه فإن اختار تضمن المشتري ضمن جميع القيمة وهو عشرة لأنه ضمن المبيع بالقبض فضمنه بكمال البلد وإن اختار تضمين الوكيل ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمنه جميع القيمة لأنه لزمه رد المبيع فضمن جميع بدله والثاني يضمنه تسعة لأنه لو باعه بتسعة جاز فلا يضمن مازاد ويضمن المشتري تمام القيمة وهو درهم والثالث يضمنه درهما لأنه لم يفرط إلا بدرهم فلا يضمن غيره ويضمن المشتري تمام القيمة وهو تسعة ومايضمنه الوكيل يرجع به على المشتري ومايضمنه المشتري لا يرجع به على الوكيل لأن المبيع تلف في يده فاستقر الضمان عليه وإن قدر الثمن فقال بع بألف درهم لم يجر أن يبيع بدونها لأن الأذن في الألف ليس بإذن فيما دونها وإن باع بألفين نظرت فإن كان قد عين من يبيع منه لم يجز لأنه قصد تمليكه بألف فلا يجوز أن يفوت عليه غرضه وإن لم يعين من يبيع منه جاز لأن الإذن في الألف إذن فيما زاد من جهة العرف لأن من رضي بألف رضي بألفين. وإن قال بع بألف ولاتبع بما زاد لم يجز أن يبيع بما زاد لأنه صرح بالنهي فدل على غرض قصده فلم يجز مخالفته وإن قال بع بألف فباع بألف وثوب ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح لأنه حصل له الألف وزيادة فصار كما لو باع بألفي درهم والثاني أنه لا يصح لأن الدراهم والثوب تتقسط على السلعة فيكون ما يقابل الثوب من السلعة مبيعا بالثوب وذلك خلاف ما يقتضيه الإذن فإن الإذن يقتضي البيع بالنقد فعلى هذا هل يبطل العقد في الدراهم؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة وإن وكله في(2/173)
بيع عبد بألف فباع نصفه بألف جاز لأنه مأذون له فيه من جهة العرف لأن من يرضى ببيع العبد بألف يرضى ببيع نصفه بالألف فإن باع نصفه بما دون الألف لم يصح لأنه ربما لم يمكنه بيع الباقي بتمام الألف وإن وكله ببيع ثلاثة أعبد بألف فباع عبدا بدون الألف لم يصح لأنه قد لا يشتري الباقي بما بقي من الألف وإن باع أحد الثلاثة بألف جاز لأن من رضي ببيع ثلاثة بألف رضي ببيع أحدهم بألف وهل له أن يبيع الآخرين؟ فيه وجهان: أحدهما لا يملك لأنه قد حصل المقصود وهو الألف والثاني أنه يجوز أذن له في بيع الجميع فلا يسقط الأمر ببيع واحد منهم كما لو لم يقدر الثمن وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة رضي أن يشتريه بخمسين وإن قال اشتر بمائة ولا تشتر بخمسين جاز أن يشتري بمائة لأنه مأذون فيه ولا يشتري بخمسين لأنه منهي عنه ويجوز أن يشتري بما بين الخمسين والمائة لأنه لما أذن في الشراء بالمائة دل علي أنه رضي بالشراء بما دونها ثم خرج الخمسون بالنهي وبقي فيما زاد على مادل عليه المأمور به وهل يجوز أن يشتري بأقل من الخمسين فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لما نص على المائة دل على ما دونها أولى إلا فيما أخرجه النهي والثاني لا يجوز لانه لما نهى عن الخمسين دل على أن ما دونها أولى بالمنع. وإن قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل وقال أبو العباس يلزمه الموكل بنائه ويضمن الوكيل ما زاد على المائة لأنه تبرع بالترام الزيادة والمذهب الأول لأنه زاد على الثمن المأذون فلم يلزم الموكل كما لو قال اشتر لي عبدا فاشتراه بأكثر من ثمن المثل ولأنه لو قال بع هذا العبد بمائة فباعه بمائة إلا عشرة لم يصح ثم يضمن الوكيل ما نقص من المائة فكذلك إذا قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل ثم يضمن الوكيل ما زاد على المائة. وإن وكله في شراء عبد بنائة فاشترى عبدا بمائتين وهو يساوي المائتين لم يلزم الموكل لأنه غير مأذون فيه من جهة النطق ولا من جهة العرف لأنه رضاه بعبد بمائة لا يدل على الرضا بعبد بمائتين وإن جفع له دينارا لم يلزم الموكل لأنه لا يطلب بدينار ما لا يساوي دينارا وإن كل واحدة منهما تساوي دينارا فإن اشترى في الذمة ففيه قولان: أحدهما أن الجميع للموكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقي دينارا ليشتري له شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار فدعا له بالبركة ولأن الإذن في شاة بدينار إذن في شاتين بدينار لأن من رضي شاة بدينار رضي شاتين بدينار، والثاني أن(2/174)
للموكل شاة لأنه فيه والأخري للوكيل لأنه لم يأذن فيه الموكل فوقع الشراء للوكيل. فإن قلنا إن الجميع للموكل فباع إحداهما فقد خرج أبو العباس فيه وجهين: أحدهما أنه لا يصح لأنه باع مال الموكل بغير إذنه فلم يصح، والثاني أنه يصح لحديث عروة البارقي والمذهب الأول والحديث يتأول، فإن قلنا إن للوكيل شاة استرجع الموكل منه نصف دينار، وغن اشتري الشاتين بعين الدينار فإن قلنا فيما اشتري في الذمة إن الجميع للموكل كان الجميع ههنا للموكل، وإن قلنا عن أحداهما للوكيل والأخري للموكل صح الابتياع للموكل في إحداهما ويبطل في الأخري، لأنه لا يجوز أن يصح الابتياع له بمال الموكل فبطل.
فصل: إذا اشتري الوكيل ما أذن فيه الموكل إنتقل الملك إلي الموكل لأن العقد له فوقع الملك له كما لو عقده بنفسه، وإن اشتري مالم يأذن فيه، فإن كان قد اشتراه بعين مال الموكل فالعقد باطل لأنه عقد علي مال لم يؤذن في العقد عليه فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه، وإن اشتراه بثمن في الذمة نظرت، فإن لم يذكر الموكل في العقد لزمه ما اشتري لأنه اشتري لغيره في الذمة ما لم يأذن فيه فانعقد الشراء له كما لو اشتراه من غير وكالة، وغن ذكر الموكل في العقد ففيه وجهان: أحدهما أن العقد باطل لأنه عقد علي أنه للموكل والموكل لم يأذن فيه فبطل، والثاني أنه يصح العقد ويلزم الوكيل ما اشتراه وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه اشتري في الذمة ولم يصح في حق الموكل فانعقد في حقه كما لو لم يذكر الموكل.
فصل: وإن وكله فلي قضاء دين لزمه أن يشهد علي القضاء لأنه مأمور بالنظر والاحتياط للموكل، ومن النظر أن يشهد عليه لئلا يرجع عليه فإن ادعي الوكيل أنه قضاه وأنكر الغريم لم يقبل قول الكيل علي الغريم، لأن الغريم لم يأتمنه علي المال فلا يقبل قوله عليه في الدفع كالوصي وإذا ادعي دفع المال إلي الصبي. وهل يضمن المال للموكل ينظر فيه، فإن كان فيه غيبة الموكل وأشهد شاهدين ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن لأنه لم يفرط، وإن لم يشهد ضمن لأنه فرط، وإن أشهد شاهدا واحدا ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن الشاهد مع اليمين بينه، والثاني يضمن لأنه فرط حيث أنه اقتصر علي بينه مختلف فيها وإن كان بمحضر الموكل وأشهد لم يضمن، وإن لم يشهد ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن المفرط هو الموكل فإنه حضر وترك الإشهاد، والثاني انه(2/175)
يضمن لأنه ترك الإشهاد يثبت الضمان فلا يسقط حكمه بحضور الموكل كما لو أتلف مله وهو حاضر. وإن وكله في إيداع ماله عند رجل فهل يلزمه الإشهاد فيه وجهان: أحدهما يلزمه لأنه لا يأمن أن يجحد فيشهد عليه الشهود، والثاني لا يلزمه لأن القول قول المودع في الرد والهلاك فلا فائدة في الإشهاد، وإن وكله في الإيداع فادعي أنه أودع وأنكر المودع لم يقبل قول الوكيل عليه، لأنه لم يأتمنه المودع فلا يقبل قوله عليه كالوصي إذا ادعي دفع المال إلي اليتيم، وهل يضمن الوكيل؟ ينظر فيه، فإن أشهد ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن لأنه لم يفرط، وإن لم يشهد، فإن قلنا إنه يجب الإشهاد ضمن لأنه فرط، وإن قلنا لا يجب لم يضمن لأنه لم يفرط.
فصل: وإن كان عليه حق لرجل ادعي أنه وكيل صاحب الحق في قبضه وصدقه جاز أن يدفع إليه ولا يجب الدفع إليه، وقال المزني يجب الدفع إليه لأنه أقر له بحق القبض، وهذا لا يصح لأنه دفع غير مبريء فلم يجبر عليه كما لو كان عليه دين بشهادة فطولب به من غير إشهاد، فإن دفع إليه ثم حضر الموكل وأنكر التوكيل فالقول قوله مع يمينه أنه ما وكل لأن الأصل عد التوكيل، فإذا حلف نظرت؛ فإن كان الحق عينا أخذها إن كانت باقية ورجع ببدلها إن كانت تالفة، وله أن يطالب الدافع والقابض لأن الدافع سلم إلي من لم يأذن له الموكل والقابض أخذ مالم يكن له أخذه فإن ضمن الدافع لم يرجع علي القابض وإن ضمن القابض لم يرجع إلي الدافع لأن كل واحد منهما يقول إن ما يأخذه المالك ظلم فلا يرجع به علي غير، وإن كان الحق دينا أن يطالب به الدافع لأن حقه في ذمته لم ينتقل. وهل له أن يطالب القابض؟ فيه وجهان: أحدهما له أن يطالب وهو قول أبي إسحاق لأنه يقر بأنه قبض حقه فرجع عليه كما لو كان الحق عينا، والثاني ليس له وهو قول أكثر أصحابنا لأن دينه في ذمة الدافع لم يتعين فيما صار في يد القابض فلم يجز أن يطالب به، وإن جاء رجل إلي من عليه الحق وادعي أنه وارث صاحب الحق فصدقه وجب الدفع إليه لأنه اعترف بأنه لا مالك له غيره، وإن دفعه إليه دفع مبرئ فلزمه. وإن جاء رجل فقال: أحالني عليك صاحب الحق فصدقه ففيه وجهان: أحدهما يلزمه الدفع إليه لأنه أقر أنه انتقل الحق إليه فصار كالوارث، والثاني أنه لا يلزمه لأن الدفع غير مبرئ لأنه ربما يجئ صاحب الحق فلينكر الحوالة فيضمنه، وإن كذبه لم يلزمه الدفع إليه في المسائل كلها، وهل يحلف إن قلنا إنه إن صدقه لزمه الدفع إليه حلف لأنه قد يخاف اليمين فيصدقه فيلزمه الدفع إليه، وإن قلنا لا يلزمه الدفع إليه إذا صدقه لم يحلف لأن اليمين يعرض ليخاف فيصدق ولو صدق لم يلزمه الدفع فلا معني لعرض اليمين.(2/176)
فصل: ويجوز للموكل أن يعزل الوكيل إذا شاء ويجوز للوكيل أن يعزل نفسه متي شاء، لأنه أذن في التصرف في ماله فجاز لكل واحد منهما إبطاله كالإذن في أكل طعامه، وإن رهن عند رجل شيئا وجعلاه علي يد عدل واتفقا علي أنه يبيعه إذا حل الدين ثم عزله الراهن عن البيع انعزل لأنه وكيله في البيع فأنعزل بعزله كالوكيل في بيع غير الرهن وإن عزله المرتهن ففيه وجهان: أحدهما أنه ينعزل وهو ظاهر النص لأنه يبيع الرهن لحقه فانعزل بعزله كالراهن، والثاني لا ينعزل وهو قول أبي إسحاق لأنه ليس بوكيل له في البيع فلم ينعزل بعزله، وإن وكل رجلا في تصرف وأذن له في توكيل غيره نظرت، فإن أذن له في التوكيل عن الموكل فهما وكيلان للموكل، فإن بطلت وكالة أحدهما لم تبطل وكالة الآخر، وإن أذن له في توكيله عن نفسه فإن الثاني وكيل الوكيل فإن عزله الموكل انعزل لأنه يتصرف فملك عزله كالوكيل وإن عزله الوكيل انعزل لأنه وكيله فانعزل بعزله وإن بطلت وكالة الوكيل بطلت وكالته، لأنه فرع له فإذا بطلت وكالة الأصل بطلت وكالة الفرع وإن وكل رجلا في أمر ثم خرج عن أن يكون من أهل التصرف في ذالك الأمر بالموت أو الجنون أو الإغماء أو الحجر أو الفسق بطلت الوكالة، لأنه لا يملك التصرف فلا يملك غيره من جهته. وإن أمر عبده بعقد ثم عتقه أو باعه ففيه وجهان: أحدهما لا ينعزل كما لو أمر زوجته بعقد ثم طلقها، والثاني أنه ينعزل لأن ذالك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر ولهذا يلزم إمتثاله وبالعتق والبيع سقط أمره عنه وإن وكل في بيع عين فتعدي فيها بأن كان ثوبا فلبسه أو دابة فركبها فهل تبطل الوكالة أم لا؟ في وجهان: أحدهما تبطل فلا يجوز له البيع لأنه عقد أمانه فتبطل بالخيانه كالوديعة، والثاني أنها لا تبطل لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفا، فإذا تعدي فيه بطلت الأمانة وبقي التصرف كالرهن يتضمن أمانة ووثيقة فإذا تعدي فيه بطلت الأمانة وبقيت الوثيقة. وإن وكل رجلا في تصرف ثم عزله ولم يعلم الوكيل بالعزل ففيه قولان: أحدهما لا ينعزل فإن تصرف صح تصرفه لأنه أمر فلا يسقط حكمه قبل العلم بالنهي كأمر صاحب الشرع، والثاني أنه ينعزل فإن تصرف لم ينفذ تصرفه لأنه قطع عقد لا يفتقر إلي رضاه فلم يفتقر إلي علمه كالطلاق.
فصل: والوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل، فإن تلف في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن، وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها وتلف الثمن(2/177)
واستحق المبيع رجع المشتري بالثمن علي المكل لأن البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه كما لو باع نفسه.
فصل: إذا ادعي رجل انه وكل في تصرف فأنكر المدعي عليه، فالقول قوله لأنه ينكر العقد والأصل عدمه فكان القول قوله، وغن اتفقا علي الوكالة واختلفا في صفتها بأن قال الوكيل وكلتني في بيع ثوب، وقال الموكل بل وكلتك في عبد، أو قال الوكيل وكلتني في البيع بألف، وقال بل وكلتك في البيع بألفين، أو قال الوكيل وكلتني في البيع بثمن مؤجل، وقال الموكل بل وكلتك في البيع بثمن حال، فالقول قول الموكل لأنه ينكر إذنا والأصل عدمه، ولأن من جعل القول قوله في أصل التصرف كان القول قوله في كيفية كالزوج في الطلاق.
فصل: وإن اختلفا في التصرف فادعي الوكيل أنه باع المال وأنكر الموكل أو اتفقا علي البيع واختلفا في قبض الثمن فادعي الوكيل أنه قبض الثمن وتلف وأنكر الموكل ففيه قولان: أحدهما أن القول قول الوكيل لأنه يملك العقد والقبض. ومن ملك تصرفا ملك الإقرار به كالأب في تزويج البكر، والثاني أنه لا يقبل قوله لأنه إقرار علي الموكل بالبيع وقبض الثمن فلم يقبل كما لو أقر عليه أنه باع ماله من رجل وقبض ثمنه، وغن وكله في ابتياع جارية فابتاعها ثم اختلفا فقال الوكيل: ابتعتها بإذنك بعشرين، وقال الموكل يل أذنت لك في ابتياعها بعشرة، فالقول قول الموكل لما بيناه، فإن حلف الموكل صارت الجارية للوكيل في الظاهر لأنه قد ثبت انه ابتاعها بغير الإذن، فإن كان الوكيل كاذبا كانت الجارية في الظاهر والباطن، وإن كان صادقا كانت الجارية للموكل في لباطن وللوكيل في الظاهر قال المزني: ويستحب الشافعي رحمه الله في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل فيقول إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فبعه إياها بعشرين، فإن قال له بعتك هذه الجارية بعشرين صارت الجارية للوكيل في الظاهر والباطن، وإن قال كما قال المزني إن كنت اذنت لك في ابتياعها بعشرين فقد بعتكها بعشرين فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال لا يصح لأنه بيع معلق علي شرط فلم يصح وجعل ما قاله المزني من كلام الحاكم لا من كلام الموكل، ومنهم من قال يصح لأن هذا الشرط يقتضيه العقد لأنه لا يصح أن يبيعها إلا أن يكون قد أذن له في الإبتياع بعشرين وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بشرطه، فإن امتنع الموكل من البيع قال المزني يبيعها الوكيل وبأخذ حقه من ثمنها، وقال(2/178)
أبو سعيد الأصطخري فيه وجهان: أحدهما ما قال المزني، والثاني يملكها ظاهرا وباطنا بناء علي القولين فيمن ادعي علي رجل أنه اشتري منه دارا وأنكر المشتري وحلف أن المستحب للمشتري أن يقول للبائع إن كنت اشتريتها منك فقد فسخت البيع، وإن لم يفعل االمشتري ذلك ففيه قولان: أحدهما أن البائع يبيع الدار وبأخذ ثمنها، والثاني أن البائع يملك الدار لأن المشتري صار كالمفلس بالثمن لتعذر من جهته فيكون البائع أحق بعين ماله وقال أبو إسحاق لا يملك الوكيل الجارية قولا واحدا وتخالف المتبايعان والجارية لم تكن للوكيل فتعود إليه عند التعذر، فإن قلنا يملكها ظاهرا وباطنا تصرف فيها بالوطيء وغيره، وإن قلنا إنها للمكل في الباطن كان كمن له علي رجل دين لا يصل إليه ووجد له مالا من غير جنس حقه.
فصل: وإن اختلفا في تلف المال فادعي الوكيل أنه تلف وأنكر الموكل، فالقول قول الوكيل لأن التلف يتعذر إقامة البينة عليه فجعل القول قوله.
فصل: وإن اختلف في رد المال فقال رددت عليك المال وأنكر الموكل نظرت، فإن كانت الوكالة بغير جعل فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه فيض العين لمنفعة الملك فكان القول في الرد قول كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل ففيه وجهان: أحمدهما لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر والمرتهن، والثاني أنه يقبل قوله لأن انتفاعه بالعمل في العين فأما العين فلا منفعة له فيها فقبل قوله في ردها كالمودع في الوديعة.
فصل: إذا كان لرجل علي رجل آخر حق فطالبه به فقال لا أعطيك حتي تشهد علي نفسك بالقبض نظرت، فإن كان مضمونا عليه كالغصب والعارية فإن كان عليه فليه بينة فله أن يمتنع حتي يشهد عليه بالقبض لأنه لا يأمن أن القبض ثم يجحد ويقيم عيه البينة فيغرمه، وإن كان أمانة كالوديعة أو ما في يد الوكيل والشريك أو مضمونا لا بينة عليه فيه ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يمتنع حتي يشهد بالقبض وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد فيحتاج أن يحلف أنه لا يستحق عليه وفي الناس من يكره أن يحلف، والثاني أنه ليس له أن يمتنع لأنه إذا جحد كان القول قوله أنه لا يستحق عليه شيئا، وليس علي في اليمين علي الحق ضرر فلم يجز له أن يمتنع والله أعلم.(2/179)
كتاب الوديعة
يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الأمانة فيها أن يقبلها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه1" فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره وخاف إن لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها لأن حرمة المال كحرمة النفس والدليل عليه ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه2" ولو خاف على دمه لوجه عليه حفظه فكذلك إذا خاف على ماله وإن كان عاجزاً عن حفظها أو لا يأمن أن يخون فيها فلم يجز له قبولها لأنه يغرر بها ويعرضها للهلاك فلم يجز له أخذها.
فصل: ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال فإن أودعه صبي أو سفيه لم يقبل لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والسفيه كالبيع فإن أخذها منه ضمنها ولأنه أخذ ماله من غير إذن فضمنه كما لو غصبه ولا يبرأ من الضمان إلا بالتسليم إلى الناظر في ماله كما تقول فيما غصبه من ماله وإن خاف المودع أنه إن لم يأخذ منه
__________
1 رواه البخاري في كتاب المظالم باب 3. مسلم في كتاب البر حديث 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 38. الترمذي في كتاب الحدود باب 3. أحمد في مسنده "2/91".
2 رواه أحمد في مسنده"1/446".(2/180)
استهلكه فأخذه ففيه وجهان: بناء على القولين في المحرم إذا خلص طائراً من جارحة وأمسكه ليحفظه: أحدهما لا يضمن لأنه قصد حفظه والثاني يضمن لأنه ثبتت يده عليه من غير ائتمان.
فصل: ولا يصح إلا عند جائز التصرف فإن أودع صبياً أو سفيهاً لم يصح الإيداع لأن القصد من الإيداع الحفظ والصبي والسفيه ليسا من أهل الحفظ فإن أودع واحداً منهما فتلف عنده لم يضمن لأنه لا يلزمه حفظه فلا يضمنه كما لو تركه عند بالغ من غير إيداع فتلف وإن أودعه فأتلفه ففيه وجهان: أحدهما يضمن لأنه لم يسلطه على إتلافه فضمنه بالإتلاف كما لو أدخله دراه فتلف ماله والثاني لا يضمن لأنه مكنه من إتلافه فلم يضمنه كما لو باع منه شيئاً وسلمه إليه فأتلفه.
فصل: وتنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة من الإيجاب بالقول والقبول بالفعل وتنفسخ كما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والإغماء والموت كما تنفسخ الوكالة لأنه وكالة في الحفظ فكان كالوكالة في العقد والفسخ.
فصل: والوديعة أمانة في يد المودع فإن تلفت من غير تفريط لم تضمن لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أودع وديعة فلا ضمان عليه1" وروى ذلك أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم وهو إجماع فقهاء الأمصار ولأنه يحفظها للمالك فكانت يده كيده ولأن حفظ الوديعة معروف وإحسان فلو ضمنت من غير عدوان زهد الناس في قبولها فيؤدي إلى قطع المعروف فإن أودعه وشرط عليه الضمان لم يصر مضموناً لأنه أمانه فلا يصير مضموناً بالشرط كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط وإن ولدت الوديعة ولداً كان الولد أمانة لأنه يوجد فيه سبب يوجب الضمان لا بنفسه ولا بأمه وهل يجوز إمساكه فيه وجهان: أحدهما لا يجوز بل يجب أن يعلم صاحبه كما لو ألقت الريح ثوباً في داره والثاني لا يجوز لأن إيداع الأم إيداع لما يحدث منها.
فصل: ومن قبل الوديعة نظرت فإن لم يعين المودع الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها فإن أخر إحرازها فتلفت لزمه الضمان لأنه ترك الحفظ من غير عذر فضمنها فإن
__________
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 88. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 6.(2/181)
وضعها في حرز دون حرز مثلها ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإذا أطلق حمل على التعارف وهو حرز المثل فإذا تركها فيما دون حرز مثلها فقط فرط فلزمه الضمان وإن وضعها في حرز فوق حرز مثلها لم يضمن لأن من رضي بحرز المثل رضي بما فوقه فإن قال لا تقفل عليه فأقفل عليه أو قال لا تقفل عليه قفلين فأقفل قفلين أو قال لا ترقد عليه فرقد عليه فالمذهب أنه لا يضمن لأنه زاده في الحرز ومن أصحابنا من قال يضمن لأنه نبه اللص عليه وأغراه به.
فصل: وإن عين له الحرز فقال احفظها في هذا البيت فنقلها إلى ما دونه ضمن لأن من رضي حرزاً لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثله أو إلى ما هو أحرز منه لم يضمن لأن من رضي حرزاً رضي مثله وما هو أحرز منه وإن قال له احفظها في هذا البيت ولا تنقلها فنقلها إلى ما دونه ضمن لأنه لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثلها أو إلى ما هو أحرز منه ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري لا يضمن لأنه جعله في مثله فأشبه إذا لم ينهه عن النقل وقال أبو إسحاق يضمن لأنه نهاه عن النقل فضمنه بالنقل فإن خاف عليه في الحرز المعين من نهب أو حريق نظرت فإن كان النهي مطلقاً لزمه النقل ولا يضمن لأن النهي عن النقل للاحتياط في حفظها والاحتياط في هذا الحال أن تنقل فلزمه النقل فإن لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لأنه فرط في الترك وإن قال له لا تنقل وإن خفت عليه الهلاك فنقلها لم يضمن لأنه زاده خيراً وإن تركها حتى تلفت ففيه وجهان: قال أبو العباس وأبو إسحاق لا يضمن لأن نهيه مع خوف الهلاك أبرأ من الضمان وقال أبو سعيد الاصطخري يضمن لأن نهيه عن النقل مع خوف الهلاك لا حكم له لأنه خلاف الشرع فيصير كما لو لم ينهه والأول أظهر لأن الضمان يجب لحقه فسقط بقوله وإن خالف الشرع كما لو قال لغيره اقطع يدي أو أتلف مالي.
فصل: فإن أودعه شيئاً فربطه في كمه لم يضمن فإن تركه في كمه ولم يربطه نظرت فإن كان خفيفاً إذا سقط لم يعلم به ضمنه لأنه مفرط في حفظه وإن كان ثقيلاً إذا سقط علم به لم يضمن لأنه غير مفرط وإن تركه في جيبه فإن كان مزرراً أو كان الفتح ضيقاً لم يضمن لأنه لا تناله اليد وإن كان واسعاً غير مزرر ضمن لأن اليد تناله وإن أودعه شيئاً فقال اربطه في كمك فأمسكه في يده فتلف فقد روى المزني أنه لا يضمن وروى الربيع في الأم أنه يضمن فمن أصحابنا من قال: هو على قولين: أحدهما لا يضمن لأن اليد أحرز من الكم لأنه قد يسرق من الكم ولا يسرق من اليد والثاني أنه(2/182)
يضمن لأن الكم أحرز من اليد لأن اليد حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع النسيان والذكر ومن أصحابنا من قال إن ربطها في كمه وأمسكها بيده لم يضمن لأن اليد مع الكم أحرز من الكم وإن تركها في يده ولم يربطها في كمه ضمن لأن الكم أحرز من اليد وحمل الروايتين على هذين الحالين وإن أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن لأن الجيب أحرز من الكم لأن الكم قد يرسله فيقع منه ولا يقع من الجيب وإن قال احفظها في البيت فشدها في ثوبه وخرج ضمنها لأن البيت أحرز فإن شدها في عضده فإن كان الشد مما يلي أضلاعه لم يضمن لأنه أحرز من البيت وإن كان من الجانب الآخر ضمن لأن البيت أحرز منه وإن دفعها إليه في السوق وقال احفظها في البيت فقام في الحال ومضى إلى البيت فأحرزها لم يضمن وإن قعد في السوق وتوانى ضمنها لأنه حفظها فيما دون البيت وإن أودعه خاتماً وقال احفظه في البنصر فجعله في الخنصر ضمن لأن الخنصر دون البنصر في الحرز لأن الخاتم في الخنصر أوسع فهي إلى الوقوع أسرع وإن قال اجعله في الخنصر فجعله في البنصر لم يضمن لأن البنصر أحرز لأنه أغلظ والخاتم فيه أحفظ وإن قال اجعله في الخنصر فلبسه في البنصر فانكسر ضمن لأنه تعدى فيه.
فصل: وإن أراد المودع السفر ووجد صاحبها أو كيله سلمها إليه فإن لم يجد سلمها إلى الحاكم لأنه لا يمكن منعه من السفر ولا قدرة على المالك ولا وكيله فوجب الدفع إلى الحاكم كما لو حضر من يخطب المرأة والولي غائب فإن الحاكم ينوب عنه في التزويج فإن سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن لأن الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك أو وكيله كما لا ولاية له في تزويج المرأة مع حضور الولي أو وكيله فإن لم يكن حاكم سلمها إلى أمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن واستخلف علياً كرم الله وجهه في ردها وإن سلم إلى أمين مع وجود الحاكم ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن وهو ظاهر النص وهو قول أبي إسحاق لأنه أمين فأشبه الحاكم والثاني يضمن وهو ظاهر قوله في الرهن وهو قول أبي سعيد الاصطخري(2/183)
لأن أمانة الحاكم مقطوع بها وأمانة الأمين غير مقطوع بها فلا يجوز ترك ما يقطع به بما لا يقطع به كما لا يترك النص للاجتهاد فإن لم يكن أمين لزمه أن يسافر بها لأن السفر في هذه الحال أحوط فإن وجد المالك أو الحاكم أو الأمين فسافر ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ في الحرز وليس السفر من مواضع الحفظ لأنه إما أن يكون مخوفاً أو آمناً لا يوثق بأمنه فلا يجوز مع عدم الضرورة وإن دفنها ثم سافر نظرت فإن كان في موضع لا يد فيه لأحد ضمن لأن ما تتناوله الأيدي معرض للأخذ فإن كان في موضع مسكون فإن لم يعلم بها أحداً ضمن لأنه ربما أدركته المنية في السفر فلا تصل إلى صاحبها فإن أعلم بها من لا يسكن في الموضع ضمن لأن ما في البيت إنما يكون محفوظاً بحافظ فإن أعلم بها من يسكن في الموضع فإن كان غير ثقة ضمن لأنه عرضه للأخذ وإن كان ثقة فهو كما لو استودع ثقة ثم سافر وقد بينا حكم من استودع ثم سافر.
فصل: وإن حضره الموت فهو بمنزلة من حضره السفر لأنه لا يمكنه الحفظ مع الموت بنفسه كما لا يمكنه الحفظ مع السفر وقد بينا حكمه وإن قال في مرضه عندي وديعة ووصفها ولم يوجد ذلك في تركته فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا يضرب المقر له مع الغرماء بقيمتها لأن الوديعة أمانة فلا يضمن بالشك ومن أصحابنا من قال يضرب المقر له بقيمتها مع الغرماء وهو ظاهر النص لأن الأصل وجوب ردها فلا يسقط ذلك بالشك.
فصل: وإن أودع الوديعة غيره من غير ضرورة ضمنها لأن المودع لم يرض بأمانة غيره فإن هلكت عند الثاني جاز لصاحبها أن يضمن الأول لأنه سلم ما لم يكن له تسليمه وله أن يضمن الثاني لأنه أخذ ما لم يكن له أخذه فإن ضمن الثاني نظرت فإن كان قد علم بالحال لم يرجع بما ضمنه على الأول لأنه دخل على أنه يضمن فلم يرجع فإن لم يعلم ففيه وجهان: أحدهما أنه يرجع لأنه دخل على أنه أمانة فإذا ضمن رجع على من غره والثاني أنه لا يرجع لأنه هلك في يده فاستقر الضمان عليه فإن ضمن الأول فإن قلنا إن الثاني إذا ضمن يرجع على الأول لم يرجع الأول عليه وإن قلنا إنه لا يرجع رجع الأول عليه فأما إذا استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز أو سقاها أو علفها(2/184)
فإنه لا يضمن لأن العادة قد جرت بالاستعانة ولأنه ما أخرجها عن يده ولا فوض حفظها إلى غيره.
فصل: وإن أودعه دراهم فخلطها بمثلها من ماله ضمن لأن صاحبها لم يرض أن يخلط ماله بمال غيره فإن خلطها بدراهم لصاحب الدراهم ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن الجميع له والثاني أنه يضمن وهو الأظهر لأنه لم يرض أن يكون أحدهما مختلطاً بالآخر وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه لأنه هتك الحرز من غير عذر وإن أودعه دراهم في غير وعاء فأخذ منها درهماً ضمن الدرهم لأنه تعدى فيه ولا يضمن الباقي لأنه لم يتعدى فيه فإن رد الدرهم فإن كان متميزاً بعلامة لم يضمن غيره وإن لم يتميز بعلامة فقد قال الربيع يضمن الجميع لأنه خلط المضمون بغيره فضمن الجميع والمنصوص أنه لا يضمن الجميع لأن المالك رضي أن يختلط هذا الدرهم بالدراهم فلم يضمن وإن أنفق الدرهم ورد بدله فإن كان متميزاً عن الدراهم لم يضمن الدراهم لأنها باقية كما كانت وإن كان غير متميز ضمن الجميع لأنه خلط الوديعة بما لا يتميز عنها فضمن الجميع.
فصل: فإن أودعه دابة فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ضمنها لأنها ماتت بسبب تعدى به فضمنها وإن قال لا تسقها ولا تعلفها فلم يسقها ولم يعافها حتى ماتت ففيه وجهان: قال أبو سعيد الاصطخري يضمن لأنه لاحكم لنهيه لأنه يجب عليه سقيها وعلفها فإذا ترك ضمن كما لو لم ينه عن السقي والعلف وقال أبو العباس وأبو إسحاق لا يضمن لأن الضمان يجب لحق المالك وقد رضي بإسقاطه.
فصل: إذا أخرج الوديعة من الحرز لمصلحة لها كإخراج الثياب للتشرير لم يضمن لأن ذلك من مصلحة الوديعة ومقتضى الإيداع فلم يضمن به وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأنه تصرف في الوديعة بما ينافي مقتضاها فضمن به كما لو أحرزها في غير حرزها فإن كان دابة فأخرجها للسقي والعلف إلى خارج الحرز فإن كان المنزل ضيقاً لم يضمن لأنه مضطر إلى الإخراج وإن كان المنزل واسعاً ففيه وجهان: أحدهما يضمن وهو المنصوص وهو قول أبي سعيد الاصطخري لأنه أخرج الوديعة من حرزها من غير حاجة فضمنها كما لو أخرجها ليركبها والثاني أنه لا يضمن وهو قول أبي إسحاق لأن العادة قد جرت بالسقي والعلف خارج المنزل وحمل النص عليه إذا كان الخارج غير آمن وإن نوى إخراجها للانتفاع بها كاللبس والركوب أو نوى ألا يردها على صاحبها ففيه(2/185)
ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس أنه يضمن كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها والثاني وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي أنه إن نوى إخراجها للانتفاع بها لم يضمن وإن نوى أن لا يردها ضمن لأن هذه النية صار ممسكاً لها على نفسه وبالنية الأولى لا يصير ممسكاً على نفسه والثالث وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يضمن لأن الضمان إنما يكون بفعل يوقع في العين وذلك لم يوجد.
فصل: وإن أخذت الوديعة منه قهراً لم يضمن لأنه غير مفرط في ذلك وإن أكره حتى سلمها ففيه وجهان بناء على القولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم: أحدهما أنه يضمن لأنه فوت الوديعة على صاحبها لدفع الضرر عن نفسه فأشبه إذا أنفقها على نفسه لخوف التلف من الجوع والثاني أنه لا يضمن لأنه مكره فأشبه إذا أخذت بغير فعل من جهته.
فصل: وإن طالبه المودع برد الوديعة فأخر من غير عرف ضمن لأنه مفرط فإن أخرها لعذر لم يضمن لأنه غير مفرط.
فصل: وإن تعدى في الوديعة فضمنها ثم ترك التعدي في الوديعة لم يبرأ من الضمان لأنه ضمن العين بالعدوان فلم يبرأ بالرد إلى المكان كما لو غصب من داره شيئاً ثم رده إلى الدار فإن قال المودع أبراتك من الضمان أو أذنت لك في حفظها ففيه وجهان: أحدهما يبرأ من الضمان وهو ظاهر النص لأن الضمان يجب لحقه فسقط بإسقاطه والثاني أنه لا يبرأ حتى يردها إليه لأن الإبراء إنما يكون عن حق في الذمة ولا حق له في الذمة فلم يصح الإبراء.
فصل: إذا اختلف المودع والمودع فقال أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لوأن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر" ولأن الأصل أنه لم يودعه فكان القول قوله.
فصل: وإن ادعى أنها تلفت نظرت فإن ادعى التلف بسبب ظاهر كالنهب والحريق فلم يقبل حتى يقيم البينة على وجود النهب والحريق لأن الأصل أن لا نهب ولا حريق ويمكن إقامة البينة عليها فلم يقبل قوله من غير بينة فإن أقام البينة على ذلك أو ادعى(2/186)
الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها هلكت لأن الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قوله مع يمينه.
فصل: وإن اختلفا في الرد فالقول قوله مع يمينه لأنه أخذ العين لمنفعة المالك فكان القول في الرد قوله وإن ادعى عليه أنه أودعه فأنكر الإيداع فأقام المودع بينة بالإيداع فقال المودع صدقت البينة أودعتني ولكنها تلفت أو رددتها لم يقبل قوله لأنه صار خائناً ضامناً فلا يقبل قوله في البراءة بالرد والهلاك فإن قال أنا أقيم البينة بالتلف أو الرد ففيه وجهان: أحدهما أنها تسمع لأنه لو صدقه المدعي ثبتت براءته فإذا قامت البينة سمعت والثاني لا تسمع لأنه كذب البينة بإنكاره الإيداع فأما إذا ادعى عليه أنه أودعه فقال: ماله عندي شيء فأقام البينة بالإيداع فقال صدقت البينة أودعتني ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين لأنه صادق في إنكاره أنه لا شيء عنده لأنها إذا تلفت أو ردها عليه لم يبق له عنده شيء والله أعلم.(2/187)
كتاب العارية
الإعارة قربة مندوب إليها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وروى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت بقاع قرقر تشتد عليه بقوائمها وأخفافها قال رجل يا رسول الله ماحق الإبل؟ قال: حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها1".
فصل: ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال فأما من لا يملك التصرف في المال كالصبي والسفيه فلا تصح منه لأنه تصرف في المال فلا يملكه الصبي والسفيه كالبيع.
فصل: وتصح الإعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها كالدور والعقار والعبيد والجواري والثياب والدواب والفحل للضراب لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر إعارة دلوها وإعارة فحلها ورى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرساً فركبه وروى صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً في غزاة حنين فثبت في هذه الأشياء بالخبر وقسنا عليها كل ما كان ينتفع به مع بقاء عينه.
__________
1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 16. النسائي في كتاب الزكاة باب 6. أحمد في مسنده "2/360، 482".(2/188)
فصل: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير ذي رحم محرم لأنه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها فإن كانت قبيحة أو كبيرة لا تشتهى لم يحرم لأنه يؤمن عليها الفساد ولا تجوز إعارة العبد المسلم من الكافر لأنه لا يجوز أن يخدمه ولا تجوز إعارة الصيد من المحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا التصرف فيه ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة لأنه يكره أن يستخدمهما فكره استعارتهما لذلك.
فصل: ولا تنعقد إلا بإيجاب وقبول لأنه إيجاب حق لآدمي فلا يصح إلا بالإيجاب والقبول كالبيع والإجارة وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر فإن قال المستعير أعرني فسلمها إليه انعقد وإن قال المعير أعرتك فقبضها المستعير انعقد لأنه إباحة للتصرف في مال فصلح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر كإباحة الطعام.
فصل: وإذا قبض العين ضمنها لما روى صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً يوم حنين فقال أغصباً يا محمد قال: "بل عارية مضمونة" ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة فضمنها كالمغصوب فإن هلكت نظرت فإن كان مما لا مثل له ففي ضمانها وجهان: أحدهما يضمنها بأكثر ما كانت قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالمغصوب وتصير الأجزاء تابعة للعين إن سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الأجزاء وإن وجب ضمانها بالتلف وجب ضمان الأجزاء والثاني أنها تضمن بقيمتها يوم التلف وهو الصحيح لأنا لو ألزمناه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف أوجبنا ضمان الأجزاء التالفة بالإذن وهذا لا يجوز ولهذا لو كانت العين باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وإن كان مما له مثل فإن قلنا فيما لا مثل له أنه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها وإن قلنا إنه يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها واختلف أصحابنا في ولد المستعارة فمنهم من قال إنه مضمون لأنها مضمونة فضمن ولدها كالمغصوبة ومنهم من قال لا يضمن لأن الولد لم يدخل في الإعارة فلم يدخل في الضمان ويخالف المغصوبة فإن الولد يدخل في الغصب فدخل في الضمان فإن غصب عيناً فأعارها من غيره ولم يعلم المستعير وتلفت عنده فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب لأنه دخل على أنه يضمن العين وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان: بناء على القولين فيمن غصب طعاماً وقدمه إلى غيره: أحدهما يرجع لأنه غره والثاني لا يرجع لأن المنافع تلفت تحت يده.
فصل: ويجوز للمعير أن يرجع في العارية بعد القبض ويجوز للمستعير أن يرد لأنه إباحة فجاز لكل واحد منهما رده كإباحة الطعام وإذا فسخ العقد وجب الرد على(2/189)
المستعير لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً فقال: أعارية مؤداة قال: "عارية مؤداة" ويجب ردها إلى المعير أو إلى وكيله فإن ردها إلى المكان الذي أخذها منه لم يبرأ من الضمان لأن ما وجب رده وجب رده إلى المالك أو إلى وكيله كالمغصوب والمسروق.
فصل: ومن استعار عيناً جاز له أن يستوفي منفعتها بنفسه أو بوكيله لأن الوكيل نائب عنه وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز للمستأجر أن يؤجر والثاني لا يجوز وهو الصحيح لأنه إباحة فلا يملك بها الإباحة لغيره وكإباحة الطعام ويخالف المستأجر فإنه يملك المنافع ولهذا يملك أن يأخذ عليه العوض فملك نقله إلى غيره كالمشتري للطعام والمستعير لا يملك ولهذا لا يملك أخذ العوض عليه فلا يملك نقله إلى غيره كمن قدم إليه الطعام.
فصل: وتجوز الإعارة مطلقاً ومعيناً لأنه إباحة فجاز مطلقاً ومعيناً كإباحة الطعام فإن قال أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها جاز له أن يزرع ويغرس ويبني لأن الإذن مطلق وإن استعار للبناء أو للغرس جاز له أن يزرع لأن الزرع أقل ضرراً من الغراس والبناء فإذا رضي بالبناء والغراس رضي بالزرع ومن أصحابنا من قال إن استعار للبناء لم يزرع لأن في الزرع ضرراً ليس في البناء وهو أنه يرخي الأرض وإن استعار للزرع لم يغرس ولم يبن لأن الغراس والبناء أكثر ضرراً من الزرع فلا يكون الإذن في الزرع إذناً في الغراس والبناء وإن استعار للحنطة زرع الحنطة وما ضرره ضرر الحنطة لأن الرضا بزراعة الحنطة رضا بزراعة مثله وإن استعار للغراس والبناء ملك ما أذن فيه منهما وهل يملك الآخر فيه وجهان: أحدهما أنه يملك الآخر لأن الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأييد فكان الإذن في أحدهما إذناً في الآخر والثاني أنه لا يجوز لأنه في كل واحد منهما ضرراً ليس في الآخر فإن ضرر الغراس في باطن الأرض أكثر وضرر البناء في ظاهر الأرض أكثر فلا يملك بالإذن في أحدهما الآخر.
فصل: وإن أعاره أرضاً للغراس أو البناء فغرس وبنى ثم رجع لم يجز أن يغرس ويبني شيئاً آخر لأنه يملك الغراس والبناء بالإذن وقد زال الإذن فأما ما غرس وبنى فينظر فإن كان قد شرط عليه القلع أجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم: "والمؤمنون عند شروطهم" ولأنه رضي بالتزام الضرر الذي يدخل عليه بالقلع فإذا قلع لم تلزمه تسوية الأرض لأنه لما(2/190)
شرط عليه القلع رضي بما يحصل بالقلع من الحفر ولأنه مأذون فيه فلا يلزمه ضمان ما حصل به من النقص كاستعمال الثوب لا يلزمه ضمان ما يبليه منهن وإن لم يشرط القلع نظرت فإن لم تنقص قيمة الغراس والبناء بالقلع قلع لأنه يمكن رد العارية فارغة من غير إضرار فوجب ردها فإن نقصت قيمة الغراس بالقلع نظرت فإن اختار المستعير القلع كان له ذلك لأنه ملكه فملك نقله فإذا قلعه فهل تلزمه تسوية الأرض فيه وجهان: أحدهما لا تلزمه لأنه لما أعاره من العلم بأن له أن يقلع كان ذلك رضا بما يحصل بالقلع من التخريب فلم تلزمه التسوية كما لو شرط القلع والثاني تلزمه لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع لم يجبر عليه فلزمه تسوية الأرض كما لو أخرب أرض غير هـ من غير غراس وإن لم يختر القلع نظرت فإن بذل المعير قيمة الغراس والبناء ليأخذه مع الأرض أجبر المستعير عليه لأنه رجوع في العاريو من غير إضرار وإن ضمن أرش النقص بالقلع أجبر المستعير على القلع لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن بذل المعير القيمة ليأخذه مع الأرض وبذل المستعير قيمة الأرض ليأخذها مع الغراس قدم المعير لأن الغراس يتبع الأرض في البيع فجاز أن يتبعها في التملك والأرض لا تتبع الغراس في البيع فلم تتبعه في التملك وإن امتنع المعير من بذل القيمة وأرش النقص وبذل المستعير أجرة الأرض لم يجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق" وهذا ليس بظالم فوجب أن يكون له حق ولأنه غراس مأذون فيه فلا يجوز الإضرار به في قلعه وإن لم يبذل المستعير الأجرة ففيه وجهان: أحدهما لا يقلع لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان والثاني يقلع لأن بعد الرجوع لا يجوز الانتفاع بماله من غير أجرة.
فصل: إذا أقررنا الغراس في ملكه فأراد المعير أن يدخل إلى الأرض للتفرج أو يستظل بالغراس لم يكن للمستعير منعه لأن الذي استحق المستعير من الأرض موضع الغراس فأما البياض فلا حق للمستعير فيه فجاز للمالك دخوله وإن أراد المستعير(2/191)
دخولها نظرت فإن كان للتفرج والاستراحة لم يجز لأنه قد رجع في الإعارة فلا يجوز دخولها من غير إذن وإن كان لإصلاح الغراس أو أخذ الثمار ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن حقه إقرار الغراس والبناء دون ما سواه والثاني أنه يملك وهو الصحيح لأن الإذن في الغراس إذن فيه فيما يعود بصلاحه وأخذ ثماره وإن أراد المعير بيع الأرض جاز لأنه لا حق فيها لغيره فجاز له بيعها وإن أراد المستعير بيع الغراس من غير المعير ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه ملك له لا حق فيه لغيره والثاني لا يجوز لأن ملكه غير مستقر لأن للمعير أن يبذل له قيمة الغراس والبناء فيأخذهما والصحيح هو الأول لأن عدم الاستقرار لا يمنع البيع كالشقص المشفوع يجوز للمشتري بيعه وإن جاز أن ينتزعه الشفيع بالشفعة.
فصل: وإن حمل السيل طعام رجل إلى أرض آخر فنبت فيه فهل يجبر صاحب الطعام على القلع مجاناً؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجبر لأنه غير مفرط في إنباته والثاني يجبر وهو الصحيح لأنه شغل ملك غيره بملكه من غير إذن فأجبر على إزالته كما لو كان في داره شجرة فانتشرت أغصانها في هواء دار غيره.
فصل: وإن أعاره أرضاً للزراعة فزرعها ثم رجع في العارية قبل أن يدرك الزرع وطالبه بالقلع ففيه وجهان: أحدهما أنه كالغراس في التبقية والقلع والأرش والثاني أنه يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل لأن للزرع وقتاً ينتهي إليه فلو أجبرنا على التبقية عطلنا عليه أرضه.
فصل: وإن أعاره حائطاً ليضع عليه أجذاعاً فوضعها لم يملك إجباره على قلعها لأنه تراد للبقاء فلا يجبر على قلعها كالغراس وإن ضمن المعير قيمة الأجذاع ليأخذها لم يجبر المستعير على قبولها لأن أحد طرفيها في ملكه فلم يجبر على أخذ قيمته وإن تلفت الأجذاع وأراد أن يعيد مثلها على الحائط فلم يجز أن يعيد إلا بالإذن لأن الأذن تناول الأول دون غيره فإن انهدم الحائط وبناه بتلك الآلة لم يجز أن يضع الأجذاع على الثاني لأن الإذن تناول الأول من أصحابنا من قال يجوز لأن الإعارة اقتضت التأييد والمذهب الأول.(2/192)
فصل: وإن وجدت أجذاع على الحائط ولم يعرف سببها ثم تلفت جاز إعادة مثلها لأن الظاهر أنها بحث ثابت.
فصل: إذا استعار من رجل عبداً ليرهنه فأعاره ففيه قولان: أحدهما أنه ضمان وإن المالك للرهن ضمن الدين عن الراهن في رقبة عبده لأن العارية ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك فدل على أنه ضمان والثاني أنه عارية لأنه استعاره ليقضي به حاجته فهو كسائر العواري فإن قلنا إنه ضمان لم يصح حتى يتعين جنس الدين وقدره ومحله لأنه ضمان فاعتبر فيه العلم بذلك وإن قلنا إنه عارية لم يفتقر إلى ذلك لأنه عارية فلا يعتبر فيه العلم فإن عين له جنساً وقدراً ومحلاً تعين على القولين لأن الضمان والعارية يتعينان بالتعيين فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد على ما لم يأذن له فيه وإن خالفه في المحل بأن أذن له في دين مؤجل فرهنه بدين حال لم يصح لأنه قد لا يجد ما يفك به الرهن في الحال وإن أذن له في دين حال فرهنه بدين مؤجل لم يصح لأنه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل فإن خالفه في القدر بأن أذن له في الرهن بعشرة فرهن بما دونها جاز لأن من رضي أن يقضي عن غيره عشرة رضي أن يقضي ما دونه وإن رهنه بخمسة عشر لم يصح لأن من رضي بقضاء عشرة لم يرض بما زاد.
فصل: وإن رهن العبد بإذنه بدين حال جاز للسيد مطالبته بالفكاك على القولين في الحال لأن للمعير أن يرجع في العارية وللضامن أن يطالب بتخليصه من الضمان فإن رهنه بدين مؤجل بإذنه فإن قلنا إنه عارية جاز له المطالبة بالفكاك لأن للمعير أن يرجع متى شاء وإن قلنا إنه ضمان لم يطالب قبل المحل لأن الضامن إلى أجل لا يملك المطالبة قبل المحل.
فصل: وإن بيع في الدين فإن قلنا إنه عارية رجع السيد على الراهن بقيمته لأن العرية تضمن بقيمتها وإن قلنا إنه ضمان رجع بما بيع سواء بقدر قيمته أو بأقل أو بأكثر لأن الضامن يرجع بما غرم ولم يغرم إلا ما بيع به.
فصل: وإن تلف العبد فإن قلنا إنه عارية ضمن قيمته لأن العارية مضمونة بالقيمة وإن قلنا إنه ضمان لم يضمن شيئاً لأنه لم يغرم شيئاً.
فصل: وإن استعار رجل من رجلين عبداً فرهنه عند رجل بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما من الرهن ففيه قولان: أحدهما لا تخرج لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض والثاني يخرج نصفه لأنه لم يأذن كل واحد منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين فلا يصير رهناً بأكثر منه.(2/193)
فصل: إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال المالك أكريتها فعليك الأجرة وقال الراكب بل أعرتنيها فلا أجرة لك فقد قال في العارية القول قول الراكب وقال في المزارعة إذا دفع أرضه إلى رجل فزرعها ثم اختلفا فقال المالك أكريتكها وقال الزارع بل أعرتنيها فالقول قول المالك فمن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما فقال في الدابة القول قول الراكب وقال في الأرض القول قول المالك لأن العادة أن الدواب تعار فالظاهر فيها مع الراكب والعادة في الأرض أنها تكرى ولا تعار فالظاهر فيها مع المالك ومنهم من نقل الجواب في كل واحدة منهما الأخرى وجعلهما على قولين وهو اختيار المزني: أحدهما أن القول قول المالك لأن المنافع كالأعيان في الملك والعقد عليها ثم لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها وقال الآخر بل وهبتنيها كان القول قول المالك فكذلك إذا اختلفا في المنافع والثاني أن القول قول المتصرف لأن المالك أقر بالمنافع له ومن أقر لغيره بملك ثم ادعى عليه عوضاً لم يقبل قوله فإن قلنا إن القول قول المالك حلف ووجبت له الأجرة وفي قدر الأجرة وجهان: أحدهما يجب المسمى لأنه قبل قوله فيها وحلف عليها والثاني أنها تجب أجرة المثل وهو المنصوص لأنهما لو اتفقا على الأجرة واختلفا في قدرها وجبت أجرة المثل فلأن تجب أجرة المثل وقد اختلفا في الأجرة أولى فإن نكل عن اليمين لم يرد على المتصرف لأن اليمين إنما ترد ليستحق بها حق والمتصرف لا يدعي حقاً فلم ترد عليه وإن قلنا إن القول قول المتصرف حلف وبريء من الأجرة فإن نكل رد اليمين على المالك فإن حلف استحق المسمى وجهاً واحداً لأن يمينه بعد النكول كالبينة في أحد القولين وكالإقرار في الآخر وأيهما كان وجب المسمى وإن تلفت الدابة بعد الركوب ثم اختلفا فإن قلنا إن القول قول المالك حكم له بالأجرة وإن قلنا القول قول الراكب فهل يلزمه أقل الأمرين من الأجرة أو القيمة؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه لاتفاقهما على استحقاقه والثاني لا يحكم له بشيء لأنه لا يدعي القيمة ويستحق الأجرة.
فصل: وإن قال المالك غصبتنيها فعليك الأجرة وقال المتصرف بل أعرتنيها فلا أجرة علي فإن المزني نقل أن القول قول المستعير واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المسألة على طريقين كما ذكرنا في المسألة قبلها أحدهما الفرق بين الأرض والدابة والثاني أنهما على قولين لأن الخلاف في المسألتين جميعاً في وجوب الأجرة والمالك يدعي وجوبها والمتصرف ينكر فيجب أن لا يختلفا في الطريقين ومنهم من قال إن القول قول المالك وما نقل المزني غلط لأن في تلك المسألة أقر المالك للمتصرف بملك(2/194)
المنافع فلا يقبل قوله في دعوى العوض وههنا اختلفا أن الملك للمالك أو للمتصرف والأصل أنها للمالك.
فصل: وإن اختلفا فقال المالك أعرتكها وقال الراكب أجرتنيها فالقول قول المالك لأنهما اتفقا أن الملك له واختلفا في صفة انتقال اليد فكان القول قول المالك فإن كانت العين باقية حلف وأخذ وإن كانت تالفة نظرت فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة حلف واستحق القيمة وإن مضت مدة لمثلها أجرة فالمالك يدعي القيمة والراكب بقوله بالأجرة فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة لم يستحق شيئاً ثم يحلف وإن كانت القيمة مثل الأجرة أو أقل منها ففيه وجهان: أحدهما يستحق من غير يمين لأنهما متفقان على استحقاقه والثاني لا يستحق من غير يمين لأنه أسقط حقه من الأجرة وهو يدعي القيمة بحكم العارية والراكب منكر فلم يستحق من غير يمين.
فصل: وإن اختلفا فقال المالك غصبتنيها فعليك ضمانها وأجرة مثلها وقال الراكب بل أجرتنيها فلا يلزمني ضمانها ولا أجرة مثلها فالقول قول المالك مع يمينه لأن الأصل أنه ما أجره فإن اختلفا وقد تلفت العين حلف واستحق القيمة وإن بقيت في يد الراكب مدة ثم اختلفا فإن المالك يدعي أجرة المثل والراكب يقر بالمسمى فإن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى لم يستحق الزيادة حتى يحلف وإن لم تكن أكثر استحق من غير يمين لأنهما متفقان على استحقاقه والله أعلم.(2/195)
كتاب الغصب
الغصب محرم لما روى أبو بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" وروى أبو حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير طيب نفس منه".
فصل: ومن غصب ماله غيره وهو من أهل الضمان في حقه ضمنه لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على اليد ما أخذت حتى ترده1".
فصل: فإن كان منفعة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة ضمن الأجرة لأنه يطلب بدلها بعقد المغابنة فضمن بالغصب كالأعيان.
فصل: فإن كان المغصوب باقياً لزمه رده لما روى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً أو جاداً إذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها2" فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين الرد لم يلزمه ضمان ما نقص من قيمته وقال أبو ثور من أصحابنا: يضمن كما يضمن زيادة العين وهذا خطأ لأن الغاصب يضمن ما غصب والقيمة لا تدخل في الغصب لأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين والعين باقية كما كانت فلم يلزمه شيء.
فصل: وإن تلف في يد الغاصب أو أتلفه لم يخل إما أن يكون له مثل أو لا مثل له فإن لم يكن له مثل نظرت فإن كان من غير جنس الأثمان كالثياب والحيوان ضمنه بالقيمة لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد فإن
__________
1 رواه الترمذي في كتاب البيوع باب 39. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 5. أحمد في مسنده "5/8، 12".
2 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 3. أبو داود في كتاب الأدب باب 85. أحمد في مسنده "4/221".(2/196)
كان معه ما يبلغ به ثمن العبد قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد1" وإلا فقد عتق عليه ما عتق فأوجب القيمة في العبد بالإتلاف بالعتق ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه وإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ضمنها بأكثر ما كانت لأنه غاصب في الحال التي زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها كالحالة التي غصبه فيها وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلفت العين فيه لأنه موضع الضمان فوجبت القيمة من نقده وإن كان من جنس الأثمان نظرت فإن لم يكن فيه صنعه كالسبيكة والنقرة فإن كان نقد البلد من غير جنسه أو من جنسه لكن لا تزيد قيمته على وزنه ضمن بالقيمة لأن تضمينه بالقيمة لا يؤدي إلى الربا فضمن بالقيمة كما قلنا في غير الأثمان وإن كان نقد البلد من جنسه وإذا قوم به زادت قيمته على وزنه قوم بجنس آخر حتى لا يؤدي إلى الربا وإن كانت فيه صنعته نظرت فإن كانت صنعة محرمة ضمن كما تضمن السبيكة والنقرة لأن الصنعة لا قيمة لها فكان وجودها كعدمها وإن كانت صنعة مباحة فإن كان النقد من غير جنسه أو من جنسه ولكنه لا تزيد قيمته على وزنه ضمنه بقيمته لأنه لا يؤدي إلى الربا وإن كان النقد من جنسه ونوعه وتزيد قيمته على وزنه ففيه وجهان: أحدهما يقوم بجنس آخر لا يؤدي إلى الربا والثاني أنه يضمنه بقيمته من جنسه بالغة ما بلغت وهو الصحيح لأن الزيادة على الوزن في مقابلة الصنعة فلا تؤدي إلى الربا وإن كان مخلوطاً من الذهب والفضة قومه بما شاء منهما.
فصل: وإن كان مما له مثل كالحبوب والأدهان ضمن بالمثل لأن إيجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع وإيجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن فإن أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد كما لا يجوز الرجوع إلى القياس مع النص وإن غصب ما له مثل واتخذ منه ما لا مثل له كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء أو الحنطة
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشركة با 5، 14. مسلم في كتاب العتق حديث 1. أبو داود في كتاب العتاق باب 6. الترمذي في كتاب الأحكام باب 14. النسائي في كتاب البيوع باب 105. أحمد في مسنده "1/56".(2/197)
إذا جعلها دقيقاً وقلنا إنه لا مثل له ثم تلف لزمه مثل الأصل لأن المثل أقرب إلى المغصوب من القيمة وإن غصب مالاً مثل له واتخذ منه ماله مثل كالرطب إذا جعله تمراً ثم تلف لزمه مثل التمر لأن المثل أقرب إليه من قيمة الأصل وإن غصب ماله مثل واتخذ منه ماله مثل كالسمسم إذا عصر منه الشيرج ثم تلف بالمغصوب منه فهو بالخيار إن شاء رجع عليه بمثل السمسم وإن شاء رجع عليه بمثل الدهن لأنه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين فرجع بما شاء منهما وإن وجب المثل فأعوز فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال تجب قيمته وقت المحاكمة لأن الواجب هو المثل وإنما القيمة تجب بالحكم فاعتبرت وقت الحكم ومنهم من قال تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حيث النصب إلى حين تعذر المثل كما تعتبر قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ومنهم من قال تضمن قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى وقت الكم لأن الواجب في الذمة هو المثل إلى وقت الحكم كما أن الواجب في المغصوب رد العين إلى وقت التلف ثم يغرم قيمة الغصوب أكثر ما كانت من حيث الغصب إلى حين التلف فيجب أن يعتبر في المثل أكثر ما كانت قيمته إلى وقت الحكم ومنهم من قال: إن كان ذلك مما يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير وجبت قيمته وقت الانقطاع لأنه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة وإن كان مما لا ينقطع عن أيدي الناس وإنما يتعذر في موضع وجبت قيمته وقت الحكم لأنه لا ينتقل إلى القيمة إلا بالحكم وإن وجد المثل بأكثر من ثمن المثل احتمل وجهين: أحدهما لا يلزمه المثل لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن المثل كعدمه كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة والثاني يلزمه لأن المثل كالعين ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف ثمنه لزمه فكذلك المثل.
فصل: وإن ذهب المغصوب من اليد وتعذر رده بأن كان عبداً فأبق أو بهيمة فضلت كان للمغصوب منه المطالبة بالقيمة لأنه حيل بينه وبين ماله فوجب له البدل كما لو تلف وإذا قبض البدل ملكه لأنه بدل ماله فملكه كبدل التالف ولا يملك الغاصب المغصوب لأنه لا يصح تملكه بالبيع فلا يملك بالتضمن كالتالف فإن رجع المغصوب وجب رده على المالك وهل يلزم الغاصب الأجرة من حين دفع القيمة إلى أن يرده فيه وجهان: أحدهما لا تلزمه لأن المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرته والثاني تلزمه لأنه تلفت عليه منافع ماله بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها كما لو لم يدفع القيمة وإذا رد المغصوب وجب على المغصوب منه رد البدل لأنه ملكه بالحيلولة وقد زالت الحيلولة فوجب الرد وإن زاد البدل في يده نظرت فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن(2/198)
وجب الرد مع الزيادة لأن الزيادة المتصلة تتبع الأصل في الفسخ بالعيب وهذا فسخ وإن كانت زيادة منفصلة كالولد واللبن لم ترد الزيادة كما لا ترد في الفسخ بالعيب.
فصل: فإن نقص المغصوب نقصاناً تنقص به القيمة نظرت فإن كان في غير الرقيق لم يخل إما أن يكون نقصاناً مستقراً أو غير مستقر فإن كان مستقراً بأن كان ثوباً فتخرق أو إناء فانكسر أو شاة فذبحت أو طعاماً فطحن ونقصت قيمته رده ورد معه أرش ما نقص لأن نقصان عين في يد الغاصب نقصت به القيمة فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب فإن ترك المغصوب منه المغصوب على الغاصب وطالبه ببدله لم يكن له ذلك ومن أصحابنا من قال في الطعام إذا طحنه أن له أن يتركه ويطالب بمثل طعامه لأن مثله أقرب إلى حقه من الدقيق والمذهب الأول لأن عين ماله باقية فلا يملك المطالبة ببدله كالثوب إذا تخرق والشاة إذا ذبحت وإن كان نقصاناً غير مستقر كطعام ابتل وخيف عليه الفساد فقد قال في الأم: للمغصوب منه مثل مكيلته وقال الربيع: فيه قول آخر أن يأخذه وأرش النقص فمن أصحابنا من قال هو على قولين: أحدهما يأخذه وأرش النقص كالثوب إذا تخرق والثاني أنه ياخذ مثل مكيلته لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف فصار كالمستهلك ومنهم من قال يأخذ مثل مكيلته قولاً واحداً ولا يثبت ما قاله الربيع وإن كان في الرقيق نظرت فإن لم يكن له أرش مقدر كإذهاب البكارة والجنايات التي ليس لها أرش مقدر رده وأرش ما نقص لأنه نقصان ليس فيه أرض مقدر فضمن بما نقص كالثوب إذا تخرق وإن كان له أرش مقدر كذهاب اليد نظرت فإن كان ذهب من غير جناية رده وما نقص من قيمته ومن أصحابنا من قال: يرده وما يجب بالجناية والمذهب الأول لأن ضمان اليد ضمان المال ولهذا لا يجب فيه القصاص ولا تتعلق به الكفارة في النفس فلم يجب فيه أرض مدر وإن ذهب بجناية بأن عصبه ثم قطع يده فإن قلنا إن ضمانه باليد كضمانه بالجناية وجب عليه نصف القيمة وقت الجناية لأن اليد في الجناية تضمن بنصف بدل النفس وإن قلنا إن ضمانه ضمان المال وجب عليه أكثر الأمرين من نصف القيمة أو ما نقص من قيمته لأنه وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضماناً وإن عصب عبداً يساوي مائة ثم زادت قيمته فأصبح يساوي ألفاً ثم قطع يده لزمه خمسمائة لأن زيادة السوق مع تلف العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع اليد فوت عليه نصفه فضمنه بزيادة السوق.
فصل: وإن نقصت العين ولم تنقص القيمة نظرت فإن كان ما نقص من العين له بدل مقدر فنقص ولم تنقص القيمة مثل أن غصب عبداً فقطع أنثييه ولم تنقص قيمته أو(2/199)
غصب صاعاً من زيت فأغلاه فنقص نصفه ولم تنقص قيمته لزمه في الأنثيين قيمة العبد وفي الزيت نصف صاع لأن الواجب في الأنثيين مقدر بالقيمة والواجب في الزيت مقدر بما نقص من الكيل فلزمه ما يقدر به وإن كان مانقص لا يضمن إلا بما نقص من القيمة فنقص ولم تنقص القيمة كالسمن المفرط إذا نقص ولم تنقص القيمة لم يلزمه شيء لأن السمن يضمن بما نقص من القيمة ولم ينقص من القيمة شيء فلم يلزمه شيء واختلف أصحابنا فيمن عصب صاعاً من عصير فأغلاه ونقص نصفه ولم تنقص قيمته فقال أبو علي الطبري: يلزمه نصف صاع كما قلنا في الزيت وقال أبو العباس لا يلزمه شيء لأن نقص العصير باستهلاك مائه ورطوبته لا قيمة لها وأما حلاوته فيه باقية لم تنقص ونقصان الزيت باستهلاك أجزائه ولأجزائه قيمة فضمنها بمثلها.
فصل: وإن تلف بعض العين ونقصت قيمة الباقي بأن غصب ثوباً تنقص قيمته بالقطع فشقه بنصفين ثم تلف أحد النصفين لزمه قيمة التالف وهو قيمة نصف الثوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ورد الباقي وأرش ما نقص لأنه نقص حدث بسبب تعدي به فضمنه فإن كان لرجل خفان قيمتهما عشرة فأتلف رجل أحدهما فصار قيمة الباقي درهمين ففيه وجهان: أحدهما يلزمه درهمان لأن الذي أتلفه قيمته درهمان والثاني تلزمه ثمانية وهو المذهب لأنه ضمن أحدهما بالإتلاف ونقص قيمة الآخر بسبب التعدي به فلزمه ضمانه.
فصل: فإن غصب ثوباً فلبسه وأبلاه ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أكثر الأمرين من الأجرة أو أرش ما نقص لأن ما نقص من الأجزاء في مقابلة الأجرة ولهذا لا يضمن المستأجر أرض الأجزاء والثاني تلزمه الأجرة وأرش ما نقص لأن الأجرة بدل للمنافع والأرش بدل الأجزاء فلم يدخل أحدهما في الآخر كالأجرة وأرش ما نقص من السمن.
فصل: وأن نقصت العين ثم زال النقص بأن كانت جارية سمينة فهزلت ونقصت قيمتها ثم سمنت وعادت قيمتها ففيه وجهان: أحدهما يسقط عنه الضمان وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه زال ما أوجب الضمان كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض والثاني أنه لا يسقط وهو قول أبي سعيد الاصطخري لأن السمن الثاني غير الأول فلا يسقط به ما وجب بالأول وإن سمنت ثم هزلت ثم سمنت ثم هزلت ضمن أكثر السمنين قيمة في قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه بعود السمن يسقط ما في مقابلته من الأرش ويضمن السمنين في قول أبي سعيد لأن السمن الثاني غير الأول فلزمه ضمانهما.(2/200)
فصل: وإن غصب عبداً فجنى على إنسان في يد الغاصب لزم الغاصب ما يستوفي في جنايته فإن كانت الجناية على النفس فأقيد به ضمن الغاصب قيمته لأنه تلف بسبب كان في يده فإن كان في الطرف فأقيد منه ضمن وفي الذي يضمن وجهان: أحدهما أرش العضو في الجناية والثاني ما نقص من قيمته لأنه ضمان وجب باليد لا الجناية لأن القطع في القصاص ليس بجناية وقد بينا الوجهين فيما تقدم فإن عفى عن القصاص على مال لزم الغاصب أي يفديه لأنه حق تعلق برقبته في يده فلزم تخليصه منه.
فصل: وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب بأن كانت شجرة فأثمرت أو جارية فسمنت أو ولدت ولداً مملوكاً ثم تلف ضمن ذلك كله لأنه مال للمغصوب منه حصل في يده بالغصب فضمنه بالتلف كالعين المغصوبة وإن ألقت الجارية الولد ميتاً ففيه وجهان: أحدهما أنه يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حياً وهو ظاهر النص لأنه غصبه بغصب الأم فضمنه بالتلف كالأم والثاني أنه لا يضمنه وهو قول أبي إسحاق لأنه إنما يقوم حال الحيلولة بينه وبين المالك وهو حال الوضع ولا قيمة له في تلك الحال فلم يضمن وحمل النص عليه إذا ألقته حياً ثم مات.
فصل: وإن غصب دراهم فاشترى سلعة في الذمة ونقد الدراهم في ثمنها وربح ففي الربح قولان: قال في القديم هو للمغصوب منه لأنه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد وقال في الجديد هو للغاصب لأنه بدل ماله فكان له.
فصل: وإن غصب عبداً فاصطاد صيداً فالصيد لمولاه لأن يد العبد كيد المولى فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التي اصطاد فيها؟ فيه وجهان: أحدهما تلزمه لأنه أتلف عليه منافعه والثاني لا تلزمه لأن منافعه صارت إلى المولى وإن غصب جارية كالفهد والبازي فاصطاد بها صيداً ففي صيده وجهان: أحدهما أنه للغاصب لأنه هو المرسل والجارحة آلة فكان الصيد كما لو غصب قوساً فاصطاد بها وعليه أجرة الجارحة لأنه أتلف على صاحبها منافعها والثاني أن الصيد للمغصوب منه لأنه كسب ماله فكان له كصيد العبد فعلى هذا في أجرته وجهان على ما ذكرناه في العبد.
فصل: وإن غصب عيناً فاستحالت عنده بأن كان بيضاً فصار فرخاً أو كان حباً(2/201)
فصار زرعاً أو كان زرعاً فصار حباً فللمغصوب منه أن يرجع به لأنه عين ماله فإن نقصت قيمته بالاستحالة رجع بأرش النقص لأنه حدث في يده وإن غصب عصيراً فصار خمراً ضمن العصير بمثله لأنه بانقلابه خمراً سقطت قيمته فصار كما لو غصب حيواناً فمات فإن صار الخمر خلاً رده وهل يلزمه ضمان العصير مع رد الخل؟ فيه وجهان: أحدهما يلزمه لأن الخل غير العصير فلا يسقط برد الخل ضمان ما وجب بهلاك العصير والثاني لا يلزمه لأن الخل عين العصير فلا يلزمه مع ردها ضمان العصير فعلى هذا إن كانت قيمة الخل دون قيمة العصير رد مع الخل أرش النقص.
فصل: وإن غصب شيئاً فعمل فيه عملاً زادت به قيمته بأن كان ثوباً فقصره أو قطناً فغزله أو غزلاً فنسجه أو ذهباً فصاغه حلياً أو خشباً فعمل منه باباً رده على المالك لأنه عين ماله ولا يشارك الغاصب فيه ببدل عمله لأنه عمل تبرع به في ملك غيره فلم يشاركه ببدله.
فصل: وإن غصب شيئاً فخلطه بما لا يتميز منه من جنسه بأن غصب صاعاً من زيت فخلطه بصاع من زيته أو صاعاً من الطعام فخلطه بصاع من طعامه نظرت فإن خلطه بمثله في القيمة فله أن يدفع إليه صاعاً منه لأنه تعذر بالاختلاط عين ماله فجاز أن يدفع إليه البعض من مثله وإن أراد أن يدفع إليه مثله من غيره وطلب المغصوب منه مثله منه ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص أن الخيار إلى الغصب لأنه لا يقدر على رد عين ماله فجاز أن يدفع إليه مثله كما لو هلك والثاني وهو قول أبي إسحاق وأبي علي ابن أبي هريرة أنه يلزمه أن يدفع صاعاً منه لأنه يقدر أن يدفع إليه بعض ماله فلا ينتقل إلى البدل في الجميع ما لو غصب صاعاً فتلف بعضه وإن خلطه بأجود منه فإن بذل الغاضب صاعاً منه لزم المغصوب منه قبوله لأنه دفع إليه بعض ماله وبعض مثله خيراً منه وإن بذل مثله من غيره وطلب المغصوب منه صاعاً منه ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص في الغصب أن الخيار إلى الغاصب لأنه تعذر رد المغصوب بالاختلاط فقبل منه المثل والثاني أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما وهو المنصوص في التفليس لأنا إذا فعلنا ذلك أوصلنا كل واحد منهما إلى عين ماله وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى البدل فإن كان ما يخص المغصوب منه من الثمن أقل من قيمة ماله استوفى قيمة صاعه ودخل النقص على الغاصب لأنه نقص بفعله فلزمه ضمانه وعلى هذا الوجه إن طلب المغصوب منه أن يدفع إليه من الزيت المختلط بقدر قيمة ماله ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو قول أبي إسحاق لأنه يأخذ بعض صاع عن(2/202)
صاع وذلك ربا والثاني أنه يجوز لأن الربا إنما يكون في البيع وليس ههنا بيع وإنما يأخذ هو بعض حقه ويترك بعضه كرجل له على رجل درهم فأخذ بعضه وترك البعض.
فصل: وإن خلطه بما دونه فإن طلب المغصوب منه صاعاً وامتنع الغاصب أجبر على الدفع لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن طلب مثله من غيره وامتنع الغاصب أجبر على دفع مثله لأن المخلوط دون حقه فلا يلزمه أخذه من أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله وإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته ضمن الغاصب تمام القيمة لأنه نقص بفعله.
فصل: وإن غصب شيئاً فخلطه بغير جنسه أو نوعه فإن أمكن تمييزه كالحنطة إذا اختلطت بالشعير أو الحنطة البيضاء إذا اختلطت بالحنطة السمراء لزمه تمييزه ورده لأنه يمكن رد العين فلزمه وإن لم يمكن تمييزه كالزيت إذا خلطه بالشيرج لزمه صاع من مثله لأنه تعذر رد العين بالاختلاط فعدل إلى مثله من أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله كما قلنا في القسم قبله.
فصل: وإن غصب دقيقاً فخلطه بدقيق له ففيه وجهان: أحدهما أن الدقيق له مثل وهو قول أبي العباس وظاهر النص لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب وكبره فعلى هذا يكون حكمه حكم الحنطة إذا خلطها بالحنطة وقد بيناه والثاني أنه لا مثل له وهو قول أبي إسحاق لأنه يتفاوت في الخشونة والنعومة ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض فعلى هذا اختلف أصحابنا فيما يلزمه قيمته لأنه تعذر رده بالاختلاط ولا مثل له فوجبت القيمة ومنهم من قال يصيران شريكين فيه فيباع ويقسم الثمن بينهما على ما ذكرناه في الزيت إذا خلطه بالشيرج.
فصل: وإن غصب أرضاً فغرس بها غراساً أو بنى فيها بناء فدعا صاحب الأرض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لعرق ظالم حق" فإن قلعه فقد قال في الغصب يلزمه أرش ما نقص من الأرض وقال في البيع إذا قلع الأحجار المستودعة عليه تسوية الأرض ومن أصحابنا من جعلهما على قولين: أحدهما يلزمه أرش النقص لأنه نقص بفعل مضمون فلزمه أرش، والثاني يلزمه(2/203)
تسوية الأرض لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة ومنهم من قال يلزمه في الغصب أرش من نقص وفي البيع يلزمه تسوية الأرض لأن الغاصب متعد فغلظ عليه بالأرش لأنه أوفي والبائع غير متعد فلم يلزمه أكثر من التسوية وإن كان الغراس لصاحب الأرض فطالبه بالقلع فإن كان له غرض في قلعه أخذ بقلعه لأنه قد فوت عليه بالغراس غرضاً مقصوداً في الأرض فأخذ بإعادتها إلى ما كانت وإن لم يكن له غرض ففيه وجهان: أحدهما لا يؤخذ بقلعه لأن قلعه من غير غرض سفه وعبث والثاني يؤخذ به لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير محكم فوجب أن يؤخذ به.
فصل: وإن غصب أرضاً حفر بها بئراً فطالبه صاحب الأرض بطمها لزمه طمها لأن التراب ملكه وقد نقله من موضعه فلزمه رده إلى موضعه فإن أراد الغاصب طمها فامتنع صاحب الأرض أجبر وقال المزني لا يجبر كما لو غضب غزلاً ونسجه لم يجبر المالك على نقضه وهذا غير صحيح لأن له غرضاً في طمها وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع فيها بخلاف نقض الغزل المنسوج فإن أبرأه صاحب الأرض من ضمان يقع فيها ففيه وجهان: أحدهما يصح الابراء لأنه لما سقط الضمان عنه إذا أذن في حفرها سقط عنه إذا أبرأه منها والثاني أنه لا يصح لأن الإبراء إنما يكون من واجب ولم يجب بعد شيء فلم يصح الإبراء.
فصل: إذا غصب ثوباً فصبغه بصبغ من عنده نظرت فإن لم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص بأن كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشر فصارت قيمة الثوب مصبوغاً عشرين صار شريكا ًلصاحب الثوب بالصبغ لأن الصبغ عين مال له قيمة فإن بيع الثوب كان الثمن بينهما نصفين فإن زادت قيمتهما بأن صارت قيمة الثوب ثلاثين حدث الزيادة في ملكهما لأنه بفعله زاد ماله ومال غيره وما زاد في ماله يملكه لأنه حصل بعمل عمله بنفسه في ماله فإن بيع الثوب قسم الثمن بينهما نصفين وإن نقص قيمتهما بأن صار الثوب يساوي خمسة عشر حسب النقصان على الغاصب في صبغه لأنه بفعله حصل النقص فإن بيع الثوب بخمسة عشر دفع إلى صاحب الثوب عشرة وإلى الغاصب خمسة فإن صارت قيمة الثوب عشرة حسب النقص على الغاصب فإن بيع الثوب بعشرة دفع العشرة كلها إلى صاحب الثوب لأنه إما أن يكون سقط بدل الصبغ بالاستهلاك أو نقص به قيمة الثوب فلزمه أن يجبر ما نقص من قيمة الثوب فإن صارت قيمة الثوب(2/204)
ثمانية لم يستحق بصبغه شيئاً لأنه استهلكه في الثوب ويلزمه درهمان لأنه نقص بصبغه من قيمة الثوب درهمان.
فصل: إذا استهلك ثمن الصبغ لم يبق للغاصب في الثوب حق لأن ماله هو الصبغ وقد استهلكه وإن بقي للصبغ ثمن فطلب الغاصب استخراجه أجيز إلى ذلك عين ماله فكان له أخذه كما لو غرس في أرض مغصوبة غراساً ثم أراد قلعه فإن نقصت قيمة الثوب باستخراج النقص ضمن ما نقص لأنه حصل بسبب من جهته وإن طلب صاحب الثوب استخراج الصبغ وامتنع الغاصب ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر وهو قول أبي العباس لأن الصبغ يهلك بالاستخراج ولاحاجة به إلى ذلك لأنه يمكنه أن يستوفي حقه في البيع ولا يجوز أن يتلف مال الغير والثاني يجبر وهو قول أبي إسحاق وأبي علي بن خيران لأنه عرق ظالم لا حق له فيه فأجبر على قلعه كالغراس في الأرض المغصوبة وإن بذل المغصوب منه قيمة الصبغ ليتملكه وامتنع الغاصب لم يجبر على القبول لأنه إجبار على بيع ماله وإن أراد صاحب الثوب بيع وامتنع الغاصب بيع لأنه ملك له فلا يملك الغاصب أن يمنعه من بيعه بتعديه وإن أراد الغاصب البيع وامتنع صاحب الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه والثاني لا يجبر لأنه متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه وإن وهب الغاصب الصبغ من صاحب الثوب ففيه وجهان: أحدهما يجبر على قبوله لأنه لا يتميز من العين فلزمه قبوله كقصارة الثوب والثاني لا يجبر لأنه هبة عين فلا يجبر على قبولها.
فصل: فإن غصب ساجاً فأدخله في البناء أو خيطاً أخاط به شيئاً نظرت فإن عفن التاج وبلي الخيط لم يؤخذ برده لأنه صار مستهلكاً فسقط رده ووجبت قيمته وإن كان باقياً على جهته نظرت فإن كان الساج في البناء والخيط في الثوب وجب نزعه ورده لأنه مغصوب يمكن رده فوجب رده كما لو لم يبن عليه ولم يخط به وإن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان فإن كان مباح الدم كالمرتد والخنزير والكلب العقور وجب نزعه ورده لأنه لا حرمة له فكان كالثوب وإن كان محرم الدم فإن كان مما لا يؤكل كالآدمي والبغل والحمار وخاف من نزعه الهلاك لم ينزع لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة المال ولهذا يجوز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان ولا يجوز أخذه لحفظ المال فلا يجوز هتك حرمة الحيوان لحفظ المال وإن كان مما يؤكل ففيه قولان: أحدهما يجب رده لأنه(2/205)
يمكن نزعه بسبب مباح فوجب رده كالساج والثاني لا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة.
فصل: وإن غصب لوحاً وأدخله في سفينة وخاف من نزعه الغرق فإن كان فيها حيوان لم ينزع لما ذكرناه في الخيط وإن كان المال لغاصب ففيه وجهان: أحدهما ينزع كما تنقض الدار لرد الساج والثاني لا ينزع لأنه يمكن رده من غير إتلاف المال بأن تجر إلى الشط بخلاف التاج في البناء وعلى هذا إن أراد المالك أن يطالب بالقيمة كان له ذلك لأنه حيل بينه وبين ماله فجاز له المطالبة بالبدل كما لوغصب منه عبداً فأبق وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب ففيه وجهان: أحدهما ينقض الجميع كما ينقض جميع السفينة والثاني لا ينقض ما لم تتعين لأنه إتلاف مال لم يتعين فيه التعدي
فصل: وإن غصب جوهرة فبلعتها بهيمة له فإن كانت البهيمة مما لا تؤكل ضمن قيمة الجوهرة لأنه تعذر ردها فضمن البدل وإن كانت مما تؤكل ففيه وجهان بناءً على القولين في الخيط الذي خيط به جرح ما يؤكل.
فصل: وإن غصب فصيلاً فأدخله إلى داره فكبر ولم يخرج من الباب نقض الباب لرد الفصيل كما ينقض البناء لرد الساج وإن دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه نقض الباب وعلى صاحب الفصيل ضمان ما يصلح به الباب لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب.
فصل: وإن غصب ديناراً وطرحه في محبرة كسرت المحبرة ورد الدينار كما ينقص البناء لرد الساج وإن وقع في المحبرة من غير تفريط من صاحبها كسرت وعلى صاحب الدينار قيمة المحبرة لأنها كسرت لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب المحبرة.
فصل: وإن غصب عيناً وباعها وقبضها المشتري وتصرف فيها وتلفت عنده فللمالك أن يضمن الغاصب لأنه غصبها وله أن يضمن المشتري لأنه قبض ما يمكن له قبضه فصار كالغاصب فإن ضمن الغاصب العين ضمنه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى أن تلف في يد المشتري لأنه من حين الغصب إلى حين التلف في ضمانه وإن ضمن المشتري ضمنه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تلف لأنه لم يدخل في ضمانه قبل القبض فلا يضمن ما قبله فإن بدأ فضمن المشتري نظرت فإن كان عالماً بالغصب لم يرجع بما ضمنه على الغاصب لأنه غاصب تلف المغصوب عنده فاستقر الضمان عليه(2/206)
كالغاصب من المالك إذا تلف عنده فإن لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب لأن الغاصب لم يغره بل دخل معه على أن يضمنه وإن لم يتلزم ضمانه بالعقد نظرت فغن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد نقصان الجارية بالولادة رجع على الغاصب لأنه غره ودخل معه على أن لا يضمنه وإن حصلت له في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة ففيه قولان: أحدهما يرجع به لأنه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه والثاني لا يرجع به لأنه حصل له في مقابلته منفعة وإن بدأ فضمن الغاصب فما لا يرجع به المشتري على الغاصب إذا غرم رجع به الغاصب على المشتري وما يرجع به المشتري على الغاصب لايرجع به لأنه لا فائدة في أن يرجع عليه ثم يرجع المشتري به عليه.
فصل: وإن غصب من رجل طعاماً فأطعمه رجلاً فللمالك أن يضمن الغاصب لأنه غصبه وله أن يضمن الآكل لأنه أكل ما لم يكن له أكله فإن صمن الآكل نظرت فإن علم أنه مغصوب فأكله لم يرجع على الغاصب بما ضمن لأنه غاصب استهلك المغصوب فلم يرجع بما ضمنه فإن أكل ولم يعلم أنه مغصوب ففيه قولان: أحدهما يرجع لأنه غره وأطعمه على أن لا يضمنه والثاني لا يرجع لأنه حصل له منفعة فإن أطعمه المالك فإن علم أنه له برئ الغاصب من الضمان لأنه استهلك ماله برضاه مع العلم به وإن لم يعلم ففيه قولان: أحدهما يبرأ الغاصب لأنه عاد إلى يده فبرئ الغاصب من الضمان كما أورده عليه والثاني أنه لا يبرأ لأنه إنما ضمن لأنه أزال يده وسلطانه عن المال وبالتقديم إليه ليأكله لم تعد يده وسلطانه لأنه لو أراد أن يأخذه لم يمكنه فلم يزل الضمان.
فصل: وإن غصب من رجل شيئاً ثم رهنه عنده أو أودعه أو آجره منه وتلف عنده فإن علم أنه له برئ الغاصب من ضمانه لأنه أعاده إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم ففيه وجهان: أحدهما أنه يبرأ الغاصب من الضمان لأنه عاد إلى يده والثاني لا يبرأ لأنه لم يعد إلى سلطانه وإنما عاد إليه على أنه أمانة عنده وإن باعه منه برئ من الضمان علم أو لم يعلم لأنه قبضه بابتياع وجب الضمان فبرئ به الغاصب من الضمان.
فصل: وإن غصب شيئاً فرهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ الغاصب وقال المزني يبرأ لأنه أذن له في إمساكه فبرئ من الضمان كما لو أودعه والمذهب الأول لأن الرهن يجتمع مع الضمان وهو إذا رهنه شيئاً فتعدى فيه فلا ينافي الضمان.
فصل: وإن غصب حراً وحبسه ومات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال فلم يضمنه(2/207)
باليد وإن حبسه مدة لمثلها أجرة فإن استوفى فيها منفعته لزمته الأجرة لأنه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه الضمان كما لو أتلف عليه ماله أو قطع أطرافه وإن لم يستوف منفعته ففيه وجهان: أحدهما تلزمه الأجرة لأن منفعته تضمن بالإجارة فضمنت بالغصب كمنفعة المال والثاني لا تلزمه لأنها تلفت تحت يده فلا يضمنه الغاصب بالغصب كأطرافه وثياب بدنه.
فصل: وإن غصب كلباً فيه منفعة رده على صاحبه لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع به فلزمه رده فإن حبسه مدة لمثلها أجرة فهل تلزمه الأجرة؟ فيه وجهان بناءً على الوجهين في جواز إجارته.
فصل: وإن غصب خمراً نظرت فإن غصبها في ذمي لزمه ردها عليه لأنه يقر على شربها فلزمه ردها عليه وإن غصبها من مسلم ففيه وجهان: أحدهما يلزمه ردها عليه لأنه يجوز أن يطفئ بها ناراً أو يبل بها طيناً فوجب ردها عليه والثاني لا يلزمه وهو الصحيح لما روي أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهرقها فإن أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه" ولأن ما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل كالميتة والدم فإن صار خلاً لزمه رده على صاحبه لأنه صار خلاً على حكم ملكه فلزمه رده إليه فإن تلف ضمنه لأنه مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب فضمنه.
فصل: وإن غصب جلد ميتة لزمه رده لأن له أن يتوصل إلى تطهيره بالدباغ فوجب رده عليه فإن دبغه الغاصب ففيه وجهان: أحدهما يلزمه رده كالخمر إذا صار خلاً والثاني لا يلزمه لأنه بفعله صار مالاً فلم يلزمه رده.
فصل: وإن فصل صليباً أو مزماراً لم يلزمه شيء لأن ما أزاله لا قيمة له والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر وبيع الخنازير وبيع الأصنام وبيع الميتة1" فدل على أنه لا قيمة له وما لا قيمة له لا يضمن فإن كسره نظرت فإن كان إذا فصله يصلح لمنفعة مباحة وإذا كسره لم
__________
1 رواه البخاري في كتتتاب البيوع باب 112. مسلم في كتاب المساقاة حديث 71. أبو داود في كتاب البيوع باب 64. الترمذي في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 11.(2/208)
يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلاً ومكسوراً لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة فلزمه ضمانه فإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه شيء لأنه لم يتلف ماله قيمة.
فصل: وإن فتح قفصاً عن طائر نظرت فإن نفره حتى طار ضمنه لأن تنفير الطائر بسبب ملجيء إلى ذهابه فصار كما لو باشر إتلافه وإن لم ينفره نظرت فإن وقف ثم طار لم يضمنه لأنه وجد منه سبب غير ملجئ ووجد من الطائر مباشرة والسبب إذا لم يكن ملجئاً واجتمع مع المباشرة سقط حكمه كما لو حفر بئراً فوقع فيها إنسان باختياره فإن طار عقيب الفتح ففيه قولان: أحدهما لا يضمن لأنه طار باختياره فأشبه إذا وقف بعد الفتح ثم طار والثاني يضمن لأن من طبع الطائر النفور ممن قرب منه فإذا طار عقيب الفتح كان طيرانه بنفوره فصار كما لو نفره.
فصل: وإن وقع طائر لغيره على جدار فرماه بحجر فطار لم يضمنه لأن رميه لم يكن سبباً لفواته لأنه قد كان ممتنعاً وفائتاً من قبل أن يرميه فإن طار في هواء داره فرماه فأتلفه ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره فصار كما لو رماه في غير داره.
فصل: وإن فتح زقاً فيه مائع فخرج ما فيه نظرت فإن خرج في الحال ضمنه لأنه كان محفوظاً بالوكاء فتلف بحله فضمنه وإن خرج منه شيء فابتل أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه ضمنه لأنه ذهب بعضه بفعله وبعضه بسبب فعله فضمنه كما لو قطع يد رجل فمات منه وإن فتحه ولم يخرج منه شيء ثم هبت ريح فسقط وذهب ما فيه لم يضمن لأن ذهابه لم يكن بفعله فلم يضمنه كما لو فتح قفصاً عن طائر فوقف ثم طار أو نقب حرزاً فسرق منه غيره وإن فتح زقاً فيه جامد فذاب وخرج فيه وجهان: أحدهما لا يضمنه لأنه لم يخرج عقيب الحل فصار كما لو كان مائعاً فهبت عليه ريح فسقط والثاني أنه يضمن وهو الصحيح لأن الشمس لا توجب للخروج وإنما تذيبه والخروج بسبب فعله فضمنه كالمائع إذا خرج عقيب الفتح وإن حل زقاً فيه جامد وقرب إليه آخر ناراً فذاب وخرج فقد قال بعض أصحابنا لا ضمان على واحد منهما لأن الذي حل الوكاء لم توجد منه عند فعله جناية يضمن بها وصاحب النار لم يباشر ما يضمن فصارا كسارقين(2/209)
نقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال فإنه لا قطع على واحد منهما وعندي أنه يجب الضمان على صاحب النار لأنه باشر الإتلاف بإدناء النار فصار كما لو حفر رجل بئراً ودفع فيها آخر إنساناً وأما السارق فهو حجة عليه لأنا أوجبنا الضمان على من أخرج المال فيجب أن يجب الضمان ههنا على صاحب النار وأما القطع فلا يجب عليهما لأنه لا يجب القطع إلا بهتك الحرز والذي أخذ المال لم يهتك الحرز والضمان يجب بمجرد الإتلاف وصاحب النار قد أتلف فلزمه الضمان.
فصل: وإن فتح زقاً مستعلي الرأس فاندفع ما فيه فخرج فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه ففيه وجهان: أحدهما يشتركان في ضمان ما خرج بعد التنكيس كالجارحين والثاني أن ما خرج بعد التنكيس يجب على الثاني كالجارح والذابح.
فصل: وإن حل رباط سفينة فغرقت نظرت فإن غرقت في الحال ضمن لأنها تلفت بفعلهن وإن وقفت ثم غرقت فإن كان بسبب حادث كريح هبت لم يضمن لأنها غرقت بغير فعله وإن غرقت بغير سبب حادث ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن كالزق إذا ثبت بعد فتحه ثم سقط والثاني أنه يضمن لأن الماء أحد المتلفات.
فصل: إذا أجج على سطحه ناراً فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها فإن كان الذي فعله ما جرت به العادة لم يضمن لأنه غير متعد وإن فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن لأنه متعد.
فصل: إذا ألقت الريح ثوباً لإنسان في داره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده فلزمه حفظها كاللقطة فإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير رضاه من غير تعريف فصار كالغاصب وإن وقع في داره طائر لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه فإن دخل إلى برج في داره طائر فأغلق عليه الباب نظرت فإن نوى إمساكه على نفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره فضمنه كالغاصب وإن لم ينو إمساكه على نفسه لم يضمنه لأنه يملك التصرف في برجه فلا يضمن ما فيه.(2/210)
فصل: إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب فقال المغصوب منه هو باق وقال الغاصب تلف فالقول قول مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف وهل يلزمه البدل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه لأن المغصوب منه لا يدعيه والثاني يلزمه لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين فاستحق البدل كما لو غضب عبداً فأبق.
فصل: وإن تلف المغصوب واختلفا في قيمته فقال الغاصب قيمته عشرة وقال المغصوب منه قيمته عشرون فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه إلا ما أقر به كما لو ادعى عليه ديناً من غير غصب فأقر ببعضه.
فصل: وإن اختلفا في صفته فقال الغاصب كان سارقاً فقيمته مائة وقال المغصوب منه لم يكن سارقاً فقيمته ألف فالقول قول المغصوب منه لأن الأصل عدم السرقة ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لأنه غارم والأصل براءة ذمته مما زاد على المائة فإن قال المغصوب منه كان كاتباً فقيمته ألف وقال الغاصب لم يكن كاتباً فقيمته مائة فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة فإن قال المغصوب منه غصبتني طعاماً حديثاً وقال الغاصب بل غصبتك طعاماً عتيقاً فالقول قول الغاصب لأن الأصل أنه لا يلزمه الحديث فإذا حلف للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لأنه أنقص من حقه.
فصل: وإن غصبه خمراً وتلف عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه صار خلاً ثم تلف فعليك الضمان وقال الغاصب بل تلف وهو خمر فلا ضمان علي فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته ولأن الأصل أنه باق على كونه خمراً.
فصل: وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب فادعى المغصوب منه أنها له وادعى الغاصب أنها له فالقول قول الغاصب لأن العبد وما عليه في يد الغاصب فكان القول قوله والله أعلم.(2/211)
كتاب الشفعة
وتجب الشفعة في العقار لما روى جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعه أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك فثبتت فيه الشفعة لإزالة الضرر.
فصل: وأما غير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شفعة إلا في ربعة أو حائط" وأما البناء والغراس فإنه إن بيع مع الأرض ثبت فيه الشفعة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في ربع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذه وإن كرهه تركه1" لأنه يراد لتأبيد فهو كالأرض فإن بيع منفرداً لم تثبت فيه الشفعة لأنه ينقل ويحول فلم تثبت فيه الشفعة واختلف أصحابنا في النخل إذا بيعت مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الأرض فمنهم من قال تثبت فيه الشفعة لأنه فرع تابع لأصل ثابت ومنهم من قال لا شفعة فيها لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة فيها إذا بيعت مفردة لم تجب فيها وفي تبعها وإن كانت دار أسفلها لواحد وعلوها مشترك بين جماعة فباع أحدهم نصيبه فإن كان السقف لصاحب السفل لم تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو لأنه بناء مفرد وإن كان السقف للشركاء في العلو ففيه وجهان: أحدهما لا تثبت فيه الشفعة لأنه لا يتبع أرضاً والثاني تثبت لأن السقف أرض لصاحب العلو يسكنه ويأوي إليه فهو كالأرض.
فصل: وإن بيع الزرع مع الأرض أو الثمرة الظاهرة مع الأصل لم تؤخذ مع الأصل
__________
1 رواه مسلم في كتاب المساقاة حديث 135.(2/212)
بالشفعة لأنه منقول فلم يؤخذ مع الأرض بالشفعة كنيران الضيعة فإن بيع وفيه ثمرة غير مؤبرة ففيه وجهان: أحدهما تؤخذ الثمرة مع الأصل بالشفعة لأنها تبعت الأصل في البيع فأخذت معه بالشفعة كالغراس والثاني لا تؤخذ لأنه منقول فلم تؤخذ مع الأصل كالزرع والثمرة الظاهرة.
فصل: ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع فأما الجار والقاسم فلا شفعة لهما لما روى جابر رضي الله عنه قال: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت لأنه يدخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوا الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقصان قيمة الملك وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم.
فصل: ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لأنه عقار فثبت فيه الشفعة قياساً على ما تجب قسمته والمذهب الأول لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر والأرف تقطع كل شفعة ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة وذلك لا يوجد فيما لا يقسم وأما الطريق المشترك في درب مملوك ينظر فيه فإن كان ضيقاً إذا قسم لم يصب كل واحد منهم طريقاً يدخل فيه إلى ملكه فلا شفعة فيه وإن كان واسعاً نظرت فإن كان للدار المبيعة طريق آخر وجبت الشفعة في الطريق لأنه أرض مشتركة تحتمل القسمة ولا ضرر على أحد في أخذه بالشفعة فأشبه غير الطريق وإن لم يكن للدار طريق غيره ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا شفعة فيه لأنه لو أثبتنا الشفعة فيه أضررنا بالمشتري لأنه يبقى ملكه بغير طريق والضرر لا يزال بالضرر والثاني تثبت فيه الشفعة لأنه أرض تحتمل القسمة فتثبت فيها الشفعة كغير الطريق والثالث أنه إن أمكن الشفيع المشتري من دخول الدار ثبت له(2/213)
الشفعة وإن لم يمكنه فلا شفعة فيه لأنه مع التمكين يمكن دفع الضرر من غير إضرار ولا يمكن مع عدم التمكين إلا بالإضرار.
فصل: وتثبت الشفعة في الشقص المملوك بالبيع لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به" وتثبت في كل عقد يملك الشقص فيه بعوض كالإجارة والنكاح والخلع لأنه عقد معاوضة فجاز أن تثبت الشفعة في الشقص المملوك به كالبيع.
فصل: فأما فيما ملك فيه الشقص بغير عوض كالوصية والهبة من غير عوض فلا تثبت فيه الشفعة لأنه ملكه بغير بدل فلم تثبت فيه الشفعة كما لو ملكه بالإرث وإن باع من رجل شقصاً فعفى الشفيع فيه عن الشفعة ثم رجع الشقص فيه بالإقالة لم تثبت فيه الشفعة لأنه لم يملكه بعوض وإنما انفسخ البيع ورجع المبيع إلى ملكه بغير بدل فإن باعه شقصاً فعفا الشفيع عن الشفعة ثم ولاه رجلاً ثبتت فيه الشفعة لأن التولية ببيع رأس المال وإن قال لأم ولده إن خدمت ورثتي شهراً فلك هذا الشقص فخدمتهم ملكت الشقص وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما أنه تثبت لأنها ملكته ببدل هو كالخدمة فصار كالمملوك بالإجارة والثاني لا تثبت فيه الشفعة لأنه وصية في الحقيقة لأنه يعتبر من الثلث فلا تثبت فيه الشفعة كسائر الوصايا وإن دفع المكاتب إلى مولاه شقصاً عن نجم عليه ثم عجز ورق فهل للشفيع في الشقص شفعة أم لا فيه وجهان: أحدهما لا شفعة له لأنه بالعجز صار ماله للمولي بحق الملك لا بالمعاوضة وما ملك بغير المعاوضة لا شفعة فيه والثاني تثبت فيه لأنه ملكه بعوض فثبت فيه الشفعة فلا تسقط بالفسخ بعده.
فصل: وإن بيع شقص في شركة الوقف فإن قلنا إن الموقوف عليه لا يملك الوقف لم تجب فيه الشفعة لأنه لا ملك له وإن قلنا أنه يملك ففيه وجهان: أحدهما أنه يأخذ بالشفعة لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك فأشبه مالك الطلق والثاني لا يأخذه لأن ملكه غير تام بدليل أنه لا يملك التصرف فيه فلا يملك به ملكاً تاماً.
فصل: وإن اشترى شقصاً وشرط الخيارة فيه للبائع لم يكن للشفيع أن يأخذ قبل انقضاء الخيار لأنه في أحد الأقوال لا يملك الشقص وفي القول الثاني ملكه موقوف فلا يعلم هل يملك أم لا وفي القول الثالث يملكه ملكاً غير تام لأن للبائع أن يفسخه ولأنه إذا أخذ بالشفعة أضر بالبائع لأنه يسقط حقه من الفسخ والضرر لا يزال بالضرر وإن(2/214)
شرط الخيار للمشتري وحده فإن قلنا إنه لا يملك أو قلنا إنه موقوف لم يأخذ لما ذكرناه خيار البائع وإن قلنا إنه يملكه ففيه قولان: أحدهما لا يأخذه لأنه بيع فيه خيار فلا يأخذ به كما لو كان الخيار للبائع والثاني يأخذه وهو الصحيح لأنه لا حق لغير المشتري والشفيع يملك إسقاط حقه ولهذا يملك إسقاط حقه بعد لزومه البيع واستقرار الملك فلأن يملك قبل لزومه أولى.
فصل: وتثبت الشفعة للكافر على المسلم لحديث جابر رضي الله عنه لا يحل حتى يؤذن شريكه فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولم يفرق ولأنه خيار جعل لدفع الضرر عن المال فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب.
فصل: ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على العوض لأنه إذا أخذه ولم يقدر على العوض أضر بالمشتري والضرر لا يزال بالضرر فإن أحضر رهناً أو ضميناً أو عوضاً عن الثمن لم يلزم قبوله لأنه ما استحق أخذه بالعوض لم يلزم قبول الرهن والضمين والعوض فيه كالمبيع في يد البائع.
فصل: ويأخذ الشفيع بالعوض الذي ملك به فإن اشتراه أخذه بالثمن لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن باعه فهو أحق به بالثمن" وإن اشترى شقصاً وسيفاً بثمن قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشقص بحصته وترك السيف على المشتري بحصته لأن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته ولا يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه لأنه دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه وإن اشترى الشقص بثمن ثم ألحق به زيادة أو حط عنه بعض أو وجد به عيباً فأخذ عنه الأرش فعلى ما ذكرناه في بيع المرابحة فإن نقص الشقص في يد المشتري فقد روى المزني أن الشفيع يأخذه بجميع الثمن وقال في القديم يأخذه بالحصة واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال: فيه قولان: وهو الصحيح: أحدهما يأخذ بجميع الثمن كالعبد المبيع إذا ذهبت عينه في يد البائع فإن المشتري يأخذه بجميع الثمن والقول الثاني أنه يأخذه بالحصة وهو الصحيح لأنه أخذ بعض ما دخل في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف ومنهم من قال إن ذهب التالف ولم يذهب من الأجزاء شيء أخذ بالجميع لأن الذي يقابله الثمن أجزاء العين وهي باقية فإن تلف بعض الأجزاء من الآجر والخشب أخذه بالحصة لأنه تلف بعض ما يقابله الثمن فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال: إن تلف بجائحة من السماء أخذ بالجميع لأنه لم يحصل للمشتري بدل التالف وإن تلف بفعل آدمي أخذ بالحصة لأنه حصل للمشتري بدل التالف وحمل القولين على هذين الحالين.(2/215)
فصل: وإن اشترى الشقص بمائة مؤجلة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يأخذ بمائة مؤجلة لأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته فكان تابعاً له في التأجيل والثاني أنه يأخذ بسلعة تساوي مائة إلى الأجل لأنه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري ولا يمكن أن يطالب بمائة مؤجلة لأن الذمم لا تتماثل فتجعل ذمة الشفيع مثل ذمة المشتري فوجب أن يعدل إلى جنس آخر بقيمته كما يعدل فيما لا مثل له إلى جنس آخر بقيمته والثالث وهو الصحيح أنه يخير بين أن يعجل الثمن ويأخذ وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ لأنه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة ولا بمائة مؤجلة لما ذكرناه ولا يمكن أن يأخذ بسلعة لأن الشفيع إنما يأخذ بالمثل أو القيمة والسلعة ليست بمثل الثمن ولا هي قيمته فلم يبق إلا التخيير.
فصل: وإن باع رجل من وارثه شقصاً يساوي ألفين بألف ولم تجز الوراثة بطل البيع في نصفه لأنه قدر المحاباة فإن اختار الشفيع أن يأخذ النصف بالألف لم يكن للمشتري الخيار في تفريق الصفقة لأن الشفيع أخذه بألف وإن لم يأخذ الشفيع فللمشتري أن يفسخ البيع لتفرق الصفقة عليه وإن باع من أجنبي وحاباه والشفيع وارث فاحتمل الثلث المحاباة ففيه خمسة أوجه: أحدها أن البيع يصح في نصف الشقص بالألف وللشفيع أن يأخذه ويبقى النصف للمشتري بلا ثمن لأن المحاباة وصية والوصية للمشتري تصح ولا تصح للشفيع فيصير كأنه وهب له النصف وباع منه النصف بثمن المثل ويأخذ الشفيع النصف بجميع الثمن ويبقى النصف للمشتري بغير ثمن والثاني أن البيع يصح في نصفه بالألف لأنا لو دفعنا الجميع إلى الشفيع بالألف حصلت الوصية للوارث وإن دفعنا إليه النصف بالألف وتركنا النصف على المشتري ألزمنا الشفيع في النصف أكثر مما لزم المشتري فلم يبق إلا الفسخ بالنصف ودفع النصف إلى الوارث من غير محاباة والثالث أن البيع باطل لأن المحاباة تعلقت بالكل فلا يجوز أن تجعل في نصفه والرابع أنه يصح البيع وتسقط الشفعة لأن إثبات الشفعة يؤدي إلى إبطال البيع وإذا بطل البيع سقطت الشفعة وما أدى ثبوته إلى سقوطه وسقوط غيره سقط فسقطت الشفعة وبقي البيع والخامس وهو الصحيح أنه يصح البيع في الجميع بالألف ويأخذ الشفيع بالألف لأن المحاباة وقعت للمشتري دون الشفيع والمشتري أجنبي فصحت المحاباة له.
فصل: وإن اشترى الشقص بعرض فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان أخذه بمثله(2/216)
لأنه من ذوات الأمثال فأخذ به كالدراهم والدنانير وإن لم يكن له مثل كالعبيد والثياب أخذه بقيمته لأن القيمة مثل لما لا مثل له ويأخذه بقيمته حال وجوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذي وجب عنده وجوب الشفعة وإن اشترى الشقص بعبد أخذ الشفيع بقيمته ووجد البائع بالعبد عيباً ورده أخذ قيمة الشقص وهل يثبت التراجع للشفيع والمشتري بما بين قيمة العبد وقيمة الشقص؟ فيه وجهان: أحدهما لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بما استقر عليه العقد وهو قيمة العبد فلا يتغير بما طرأ بعده والثاني يتراجعان فإن كانت قيمة الشقص أكثر رجع المشتري على الشفيع وإن كانت قيمة العبد أكثر رجع الشفيع على المشتري لأنه استقر الشقص على المشتري بقيمته فثبت التراجع بما بين القيمتين وإن وجد البائع بالعبد العيب وقد حدث عنده عيب آخر فرجع على المشتري بالأرش نظرت فإن أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد سليماً لم يرجع عليه بالأرش لأن الأرش دخل في القيمة وإن أخذ قيمته معيباً فهل يرجع بالأرش؟ فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه أخذ الشقص بقيمة العبد المعيب الذي استقر عليه العقد والثاني يرجع بالأرش لأنه استقر الشقص عليه بقيمة عبد سليم فرجع به على الشفيع.
فصل: وإن جعل الشقص أجرة في إجارة أخذ الشفيع بأجرة مثل المنفعة فإن جعل صداقاً في نكاح أو بدلاً في خلع أخذ الشفيع بمهر المرأة لأن المنفعة لا مثل لها فأخذ بقيمتها كالثوب والعبد وإن جعل متعة في طلاق امرأة أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر لأن الواجب بالطلاق متعة مثلها لا المهر.
فصل: والشفيع بالخيار بين الأخذ والترك لأنه حق ثبت له لدفع الضرر عنه فخير بين أخذه وتركه وفي خياره أربعة أقوال: قولان نص عليهما في القديم أحدهما أنه على التراخي لا يسقط إلا بالعفو أو بما يدل على العفو كقوله بعني أو قاسمني وما أشبههما لأنه حق له لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره فلم يسقط إلا بالعفو كالخيار في القصاص والثاني أنه بالخيار بين أن يرفعه المشتري إلى الحاكم ليجبره عن الأخذ أو العفو لأنا لو قلنا إنه على الفور أضررنا بالشفيع لأنه لا يأمن مع الاستعجال أن يترك والحظ في الأخذ أو يأخذه والحظ في الترك فيندم وإن قلنا على التراخي إلى أن يسقط أضررنا بالمشتري لأنه لا يقدر على التصرف والسعي في عمارته خوفاً من الشفيع فجعل له إلى أن يرفع إلى الحاكم ليدفع عنه الضرر والثالث نص عليه في سير حرملة أنه بالخيار إلى ثلاثة أيام لأنه لا يمكن أن يجعل على الفور لأنه يستضر به الشفيع ولا أن يجعل على التراخي لأنه يستضر به المشتري فقدر بثلاثة أيام لأنه لا ضرر فيه على(2/217)
الشفيع، لأنه يمكنه أن يعرف ما فيه من الحظ في ثلاثة أيام ولا على المشتري قريب والرابع نص عليه في الجديد أنه على الفور وهو الصحيح لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة لمن واثبها" وروي أنه قال: "الشفعة كنشطة العقال" إن قيدت ثبتت وإن تركت فاللوم على من تركها فعلى هذا إن أخر الطلب من غير عذر سقط لأنه على الفور فسقط بالتأخير من غير عذر كالرد بالعيب وإن أخره لطهارة أو صلاة أو طعام أو لبس ثوب أو إغلاق باب فهو على شفعته لأنه ترك الطلب لعذر وإن قال سلام عليكم أنا مطالب بالشفعة ثبتت الشفعة لأن السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعة وإن قال بارك الله في صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعة لم تسقط لأن الدعاء له بالبركة لا يدل على ترك الشفعة لأنه يجوز أن يكون دعاء للصفقة بالبركة لأنها أوصلته إلى الأخذ بالشفعة وإن قال صالحني عن الشفعة على مال لم يصح الصلح لأنه خيار فلا يجوز أخذ العرض عنه كخيار الشرط وفي شفعته وجهان: أحدهما تسقط لأنه أعرض عن طلبها من غير عذر والثاني لا يسقط لأنه تركها على عوض ولم يسلم له العوض فبقي على شفعته فإن أخذه بثمن مستحق ففيه وجهان: أحدهما تسقط لأنه ترك الأخذ الذي يملك به من غير عذر والثاني لا تسقط لأنه استحق الشقص بمثل الثمن في الذمة فإذا عينه فيما لا يملك سقط التعيين وبقي الاستحقاق كما لو اشترى شيئاً بثمن في الذمة ووزن فيه ما لا يملك.
فصل: وإن وجبت وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت فإن لم يقدر على الطلب ولا على التوكيل وعلى الإشهاد فهو على شفعته لأنه ترك بعذر وإن قدر على التوكيل فلم يوكل فيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول القاضي أبي حامد إنه تسقط شفعته لأنه ترك الطلب مع القدرة فأشبه إذا قدر على الطلب بنفسه فترك والثاني وهو قول أبي علي الطبري إنه لا تسقط لأن التوكيل إن كان بعوض لزمه غرم وفيه ضرر وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه وفي تحملها مشقة وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة ومن أصحابنا من قال إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته لأنه ترك الطلب(2/218)
من غير ضرر فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط لأنه ترك للضرر وإن عجز عن التوكيل وقدر على الإشهاد فلم يشهد ففيه قولان: أحدهما تسقط شفعته لأن الترك قد يكون للزهد وقد يكون للعجز وقد قدر على أن يبين ذلك بالشهادة فإذا لم يفعل سقطت شفعته والثاني لا تسقط لأن عذره في الترك ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة.
فصل: وإن قال أخرت الطلب لأني لم أصدق فإن كان قد أخبره عدلان سقطت شفعته لأنه أخبره من يثبت بقوله الحقوق وإن أخبره حر أو عبد أو امرأة ففيه وجهان: أحدهما لا تسقط لأنه ليس ببينة والثاني تسقط لأنه أخبره من يجب تصديقه في الخبر وهذا من باب الأخبار فوجب تصديقهم فيه.
فصل: فإن قال المشتري اشتريت بمائة فعفا الشفيع ثم بان أنه اشترى بخمسين فهو على شفعته لأنه عفا عن الشفعة لعذر وهو أنه لا يرضاه بمائة أو ليس معه مائة وإن قال اشتريت بخمسين فعفا ثم بان أنه قد اشتراه بمائة لم يكن له أن يطلب لأن من لا يرضى الشقص بخمسين لا يرضاه بمائة وإن قال اشتريت نصفه بمائة فعفا ثم بان أنه قد اشترى جميعه بمائة فهو على شفعته لأنه لم يرض بترك الجميع وإن قال اشتريت الشقص بمائة فعفا ثم بان أنه كان قد اشترى نصفه بمائة لم يكن له أن يطالب بالشفعة لأن من لم يرض الشقص بمائة لا يرضى نصفه بمائة وإن قال اشتريت بأحد النقدين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بالنقد الآخر فهو على شفعته لأنه يجوز أن يكون عفا لإعواز أحد النقدين عنده أو لحاجته إليه وإن قال اشتريت الشقص فعفا ثم بان أنه كان وكيلاً فيه وإنما المشتري غيره فهو على شفعته لأنه قد يرضى مشاركة الوكيل ولا يرضى مشاركة الموكل.
فصل: وإن وجبت له الشفعة فباع حصته فإن كان بعد العلم بالشفعة سقطت شفعته لأنه ليس له ملك يستحق به وإن باع قبل العلم بالشفعة ففيه وجهان: أحدهما تسقط لأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه والثاني لا تسقط لأنه وجبت له الشفعة والشركة موجودة فلا تسقط بالبيع بعده.
فصل: ومن وجبت له الشفعة في شقص لم يجز أن يأخذ البعض ويعفو عن البعض لأن في ذلك إضراراً بالمشتري في تفريق الصفقة عليه والضرر لا يزال بالضرر فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت سفعته لأنه لا يتبعض فإذا عفا عن البعض سقط الجميع كالقصاص وإن اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد فأراد الشفيع أن يأخذ أحدهما دون الآخر ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو الأظهر لما فيه من الإضرار(2/219)
بالمشتري في تفريق الصفقة عليه والثاني يجوز لأن الشفعة جعلت لدفع الضرر وربما كان الضرر في أحدهما دون الآخر فإن كان البائع أو المشتري اثنين جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر كما لو اشتراه في عقدين متفرقين.
فصل: وإن كان للشقص شفعاء نظرت فإن حضروا وطلبوا أخذوا فإن كانت حصة بعضهم أكثر ففيه قولان: أحدهما أنه يقسم الشقص بينهم على عدد الرؤوس وهو قول المزني لأن كل واحد منهم لو انفرد أخذ الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كما لو تساووا في الملك والثاني أنه يقسم بينهم على قدر الأنصباء لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط عند الاشتراك على قدر الأملاك كأجرة الدكان وثمرة البستان وإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الباقون جميعه لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري فإن جعل بعضهم حصته لبعض الشركاء لم يصح بل يكون لجميعهم لأن ذلك عفو ليس بهبة وإن حضر بعضهم أخذ جميعه فإن حضر آخر قاسمه وإن حضر الثالث قاسمهما لأنا بينا أنه لا يجوز التبعيض فإن أخذ الحاضر الشقص وزاده في يده بأن كان نخلاً فأثمرت ثم قدم الغائب قاسمه على الشقص دون الثمار لأن الثمار حديث في ملك الحاضر فاختص بها وإن قال الحاضر أنا آخذ بقدر مالي لم يجز وهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تسقط لأنه قدر على أخذ الجميع وقد تركه والثاني وهو قول أبي إسحاق أنها لا تسقط لأنه تركه بعذر وهو أنه يخشى أن يقدم الغائب فينتزعه منه والترك للعذر لا يسقط الشفعة كما قلنا فيمن أظهر له المشتري ثمناً كثيراً ثم ترك ثم بان بخلافه.
فصل: وإن كان للمشتري شريكاً بأن كان بين ثلاثة دار فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه لم يكن للشريك الثاني أن يأخذ الجميع لأن المشتري أحد الشريكين فلم يجز للآخر أن يأخذ الجميع كما لو كان المشتري أجنبياً وقال أبو العباس للشريك أن يأخذ الجميع لأنا لو قلنا إنه يأخذ النصف لتركنا النصف على المشتري بالشفعة والإنسان لا يأخذ بالشفعة من نفسه والمذهب الأول لأن المشتري لا يأخذ النصف من نفسه بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ الجميع ويبقى الباقي على ملكه.
فصل: وإن ورث رجلان من أبيهما داراً ثم مات أحدهما وخلف ابنين ثم باع أحد هذين الابنين حصته في الشفعة قولان: أحدهما أن الشفعة بين الأخ والعم وهو الصحيح لأنهما شريكان للمشتري فاشتركا في الشفعة كما لو ملكاه بسبب واحد والثاني أنها(2/220)
للأخ دون العم لأن الأخ أقرب إليه في الشركة لأنهما ملكاه بسبب واحد والعم ملك بسبب قبلهما فعلى هذا إن عفا الأخ عن حقه فهل يستحق العم؟ فيه وجهان: أحدهما يستحق به لأنه شريك وإنما قدم الأخ عليه لأنه أقرب في الشركة فإذا ترك الأخ ثبت للعم كما نقول فيمن قتل رجلين أنه يقتل الأول لأن حقه أسبق فإذا عفا ولي الأول قتل بالثاني والوجه الثاني أنه لا يستحق لأنه لم يستحق الشفعة وقت الوجوب فلم يستحق بعده وإن كان بين ثلاثة أنفس دار فباع أحدهم نصيبه من رجلين وعفا شريكاه عن الشفعة ثم باع أحد المشتريين نصيبه فعلى القولين: أحدهما أن الشفعة للمشتري الآخر لأنهما ملكاه بسبب واحد والشريكان الآخران ملكاه بسبب سابق لملك المشتريين والثاني أنها بين الجميع لأن الجميع شركاء في الملك في حال وجوب الشفعة وإن مات رجل عن دار وخلف ابنتين وأختين ثم باعت إحدى الأختين نصيبها ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هي على القولين: أحدهما أن الشفعة للأخت لأنها ملكت مع الأخت بسبب واحد وملك البنات بسبب آخر والثاني أن الشفعة بين البنات والأخت لأن الجميع شركاء في الملك ومنهم من قال إن الشفعة بين البنات والأخت قولاً واحداً لأن الجميع ملكن الشقص في وقت واحد لم يسبق بعضهن بعضاً.
فصل: وإن تصرف المشتري في الشقص ثم حضر الشفيع نظرت فإن تصرف بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة والرهن والإجارة فللشفيع أن يفسخ ويأخذ لأن حقه سابق للتصرف ومع بقاء التصرف لا يمكن الأخذ فملك الفسخ وإن تصرف بما تستحق به الشفعة كالبيع والصداق فهو بالخيار بين أن يفسخ ويأخذ بالعقد الأول وبين أن يأخذ بالعقد الثاني لأنه شفيع بالعقدين فجاز أن يأخذ بما شاء منهما وإن قابل البائع أو رده عليه بعيب فللشفيع أن يفسخ الإقالة والرد بالعيب فملك الفسخ وإن تحالفا على الثمن وفسخ العقد جاز للشفيع أن يأخذ بالثمن الذي حلف عليه البائع لأن البائع أقر للمشتري بالملك وللشفيع بالشفعة بالثمن الذي حلف عليه فإذا بطل حق المشتري بالتحالف بقي حق الشفيع وإن اشترى شقصاً بعبد ووجد البائع بالعبد عيباً ورده قبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان: أحدهما يقدم الشفيع لأن حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالرد والثاني أن البائع أولى لأن في تقديم الشفيع إضراراً بالبائع في إسقاط حقه من الرد والضرر لا يزال بالضرر وإن أصدق امرأته شقصاً وطلقها قبل الدخول وقبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان: أحدهما يقدم الزوج على الشفيع لأن حق الزوج على أقوى لأنه ثبت بنص الكتاب وحق الشفيع ثبت بخبر(2/221)
الواحد فقدم حق الزوج والثاني يقدم الشفيع لأن حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق.
فصل: وإن اشترى شقصاً وكان الشفيع غائباً فقاسم وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه وغرس وبنى ثم حضر الشفيع أو أظهر له ثمناً كثيراً فقاسمه ثم غرس وبنى ثم بان خلافه وأراد الأخذ فإن اختار المشتري قلع الغراس والبناء لم يمنع لأنه ملكه فملك نقله ولا تلزمه تسوية الأرض لأنه غير متعد وإن لم يختر القلع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بثمن والغراس والبناء بالقيمة وبين أن يقلع الغراس والبناء ويضمن ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا إضرار" ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك.
فصل: وإن اشترى شقصاً وحدث فيه زيادة قبل أن يأخذ الشفيع نظرت فإن كانت زيادته لا تتميز كالفسيل إذا طال وامتلأ فإن الشفيع ياخذه مع زيادته لأن ما لا يتميز يتبع الأصل في الملك كما يتبعه في الرد بالعيب وإن كانت متميزة كالثمرة فإن كانت ثمرة ظاهرة لم يكن للشفيع فيها حق لأن الثمرة الظاهرة لا تتبع الأصل كما قلنا في الرد بالعيب وإن كانت غير ظاهرة ففيه قولان: قال في القديم تتبع الأصل كما تتبع في البيع وقال في الجديد لا تتبعه لأنه استحقاق بغير تراض فلا يأخذ به إلا ما دخل بالعقد ويخالف البيع لأنه استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء فإذا لم يستثن تبع الأصل.
فصل: إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الأخذ من غير حكم الحاكم لأن الشفعة ثابتة بالنص والإجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كالرد بالعيب فإن كان الشقص في يد المشتري أخذه منه وإن كان في يد البائع ففيه وجهان: أحدهما يجوز أن يأخذ منه لأنه استحق فملك الأخذ كما لو كان في يد المشتري والثاني لا يجوز أن يأخذ منه بل يجبر المشتري على القبض ثم يأخذه منه لأن الأخذ من البائع يؤدي إلى إسقاط الشفعة لأنه يفوت به التسليم وفوات التسليم يوجب بطلان العقد فإذا بطل العقد سقطت الشفعة وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط.
فصل: ويملك الشفيع الشقص بالأخذ لأنه تملك مال بالقهر فوقع الملك فيه بالأخذ كتملك المباحات ولا يثبت فيه خيار الشرط لأن الشرط إنما يثبت مع تملك الاختيار والشقص يؤخذ بالإجبار فلم يصح فيه شرط الخيار وهل يثبت له خيار المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما يثبت لأنه تملك مال بالثمن فثبت فيه خيار المجلس كالبيع والثاني لا يثبت لأنه إزالة الملك لدفع الضرر فلم يثبت فيه خيار المجلس كالرد بالعيب.(2/222)
فصل: وإن وجد بالشقص عيباً فله أن يرده لأنه ملكه بالثمن فثبت له الرد بالعيب كالمشتري في البيع وإن خرج مستحقاً رجع بالعهدة على المشتري لأنه أخذ منه على أنه ملكه فرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه.
فصل: وإن مات الشفيع قبل العفو والأخذ انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وإن كان له وارثان فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه وهل يسقط حق الآخر؟ فيه وجهان: أحدهما يسقط لأنها شفعة واحدة فإذا عفا عن بعضها سقط الباقي كالشفيع إذا عفا عن بعض الشقص والثاني لا يسقط لأنه عفا عن حقه فلم يسقط حق غيره كما لو عفا أحد الشفيعين.
فصل: إذا اختلف الشريكان في الدار فادعى أحدهما على الآخر أنه ابتاع نصيبه فله أخذه بالشفعة وقال الآخر بل ورثته أو أوهبته فلا شفعة لك فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأنه يدعي عليه استحقاق ملكه بالشفعة فكان القول قوله كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن نكل عن اليمين حلف المدعي وأخذ بالشفعة وفي الثمن ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقال للمدعى عليه قد أقر لك بالثمن وهو مصدق في ذلك فإما أن تأخذه أو تبرئه من الثمن الذي لك عليه كما قلنا في المكاتب إذا حمل نجماً إلى المولى فادعى المولى أنه مغصوب والثاني أنه يترك الثمن في يد المدعي لأنه قد أقر لمن لا يدعيه فأقر في يده كما لو أقر بدار لرجل وكذبه المقر له والثالث يأخذه الحاكم ويحفظه إلى أن يدعيه صاحبه لأنهما اتفقا على أنهما لا يستحقان ذلك.
فصل: وإن ادعى كل منهما على شريكه أنه ابتاع حصته بعده وأنه يستحق عليه ذلك بالشفعة فالقول قول كل واحد منهما لما ذكرناه فإن سبق أحدهما فادعى وحلف المدعى عليه استقر ملكه ثم يدعى الحالف على الآخر فإن حلف استقر أيضاً ملكه وإن نكل الأول ردت اليمين على المدعي فإذا حلف استحق وإن أراد الناكل أن يدعي على الآخر بعد ذلك لم تسمع دعواه لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة.
فصل: وإن اختلفا في الثمن فقال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع هو خمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه هو العاقد فكان أعرف بالثمن ولأنه مالك الشقص فلا ينزع منه بالدعوى من غير بينة.
فصل: وإن ادعى الشفيع أن الثمن ألف وقال المشتري لا أعلم قدره فالقول قول المشتري لأن ما يدعيه ممكن فإنه يجوز أن يكون(2/223)
قد علم بالثمن ثم نسي فإذا حلف لم يستحق الشفعة لأنه لا يستحق من غير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه مالاً يدعيه وقال أبو العباس: يقال له إما أن تبين قدر الثمن أو نجعلك ناكلاً فيحلف الشفيع أن الثمن ألف ويستحق كما نقول فيمن ادعى على رجل ألفاً فقال للمدعى عليه لا أعلم القدر والمذهب الأول لأن ما يدعيه ممكن فإنه يجوز أن يكون قد اشتراه بثمن جزاف لا يعرف وزنه ويجوز أن يكون قد علم ثم نسي ويخالف إذا ادعى عليه ألفاً فقال لا أعرف القدر لأن هناك لم يجب عن الدعوى وههنا أجاب عن استحقاق الشفعة وإنما ادعى الجهل بالثمن.
فصل: وإن قال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع لا أعلم هل هو ألف أو أقل فهل له أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما ليس له أن يحلفه حتى يعلم لأن اليمين لا يجب بالشك والثاني له أن يحلفه لأن المال لا يملك بمجرد الدعوى وإن قال المشتري الثمن ألف وقال الشفيع لا أعلم كم هو ولكنه دون الألف فالقول قول المشتري فإن نكل لم يحلف الشفيع حتى يعلم قدر الثمن لأنه لا يجوز أن يحلف على ما لم يعلم.
فصل: وإن اشترى الشقص بعرض وتلف العرض واختلفا في قيمته فالقول قول المشتري لأن الشقص ملك له فلا ينتزع بقول المدعي.
فصل: وإن أقر المشتري أنه اشترى الشقص بألف وأخذ الشفيع بألف ثم ادعى البائع أن الثمن كان ألفين وصدقه المشتري لم يلزم الشفيع أكثر من الألف لأن المشتري أقر بأنه يستحق الشفعة بألف فلا يقبل رجوعه في حقه فإن كذبه المشتري فأقام عليه بينة أن الثمن ألفان لزم المشتري الألفان ولا يرجع على الشفيع بما زاد على الألف لأنه كذب البينة بإقراره السابق.
فصل: فإن كان بين رجلين دار وغاب احدهما وترك نصيبه في يد رجل فادعى الشريك على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه وأنه استحق أخذه بالشفعة فأقر به فهل يلزمه تسليمه إليه بالشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يسلمه لأنه أقر بالملك للغائب ثم ادعى انتقاله بالشراء فلم يقبل قوله والثاني يسلم إليه لأنه في يده فقبل قوله فيه.
فصل: وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض الثمن وصدقه الشريك وأنكر الرجل فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا نثبت الشفعة للشريك لأن الشفعة تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء فلم تثبت الشفعة للشريك وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة وهو جواب المزني فيما أجاب فيه على قول الشافعي(2/224)
رحمه الله لأنه أقر للشفيع بالشفعة وللمشتري بالملك فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الآخر وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما ليس له ذلك لأنه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى خصومة المشتري والثاني له أن يخاصمه لأنه قد يكون المشتري أجهل في المعاملة من الشفيع فإن قلنا لا يخاصم المشتري أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن وإن قلنا يخاصمه فإن حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة عليه وإن نكل فحلف البائع سلم الشقص إلى المشتري وأخذ الشفيع الشقص من المشتري ورجع بالعهدة عليه لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن وإن أقر البائع بالبيع وقبض الثمن وأنكر المشتري فمن قال لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن لم تثبت الشفعة إذا أقر بقبض ومن قال تثبت إذا لم يقر بقبض الثمن اختلفوا إذا أقر بقبضه فمنهم من قال لا تثبت لأنه يأخذ الشقص من غير عوض وهذا لا يجوز ومنهم من قال تثبت لأن البائع أقر له بحق الشفعة وفي الثمن الأوجه الثلاثة والتي ذكرناها فيمن ادعى الشفعة على شريكه وحلف بعد نكول الشريك والله أعلم.(2/225)
كتاب القراض
مدخل
...
كتاب القراض
القراض جائز لما روى زيد بن اسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ثم قال: بل ههنا مل من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه فقالا: وددنا ففعل فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما فقالا: لا فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه فقال أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فأخذ رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال ولأن الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة.
فصل: وينعقد بلفظ القراض لأنه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز وبلفظ المضاربة لأنه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدي معناه لأن المقصود هو المهنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك.
فصل: ولا يصح إلى على الأثمان وهي الدراهم والدنانير فأما ما سواهما من العروض والعقار والسبائك والفلوس فلا يصح القراض عليها لأن المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح ومتى عقد على غير الأثمان لم يحصل المقصود لأنه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله إن كان له مثل(2/226)
وفي رد قيمته إن لم يكن له مثل وفي هذا إضرار بالعامل وربما نقصت قيمته فيصرف جزءاً يسيراً من الكسب في رد مثله أو رد قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي وفي هذا إضرار برب المال لأن العامل يشاركه في أكثر رأس المال وهذا لا يوجد في الأثمان لأنها لا تقوم بغيرها ولا يجوز على المغشوش من الأثمان لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض.
فصل: ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر فإن قارضه على دراهم جزاف لم يصح لأن مقتضى القراض رد رأس المال وهذا لا يمكن فيما لا يعرف صفته وقدره فإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان: أحدهما يصح وأنهما متساويان والثاني لا يصح لأنه لم يبين مال القراض من مال الوديعة وإن قارضه على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لأنه معلوم وإن قارضه على درهم هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان: أحدهما يصح الوديعة والثاني لا يصح لأنه مقبوض عنده قبض ضمان فلا يصير مقبوضاً قبض أمانة.
فصل: ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم فإن قارضه على جزء مبهم لم يصح لأن الجزء يقع على الدرهم والألف فيعظم الضرر وإن قارضه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز لأن القراض كالمساقاة وقد ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع وإن قارضه على درهم معلوم لم يصح لأنه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه مجهول لأن هذا القول يقع على التساوي وعلى التفاضل والثاني يصح لأنه سوى بينهما في الإضافة فحمل على التساوي كما لو قال هذه الدار لزيد وعمرو وإن قال قارضتك على أن لي نصف الربح ففيه وجهان: أحدهما يصح ويكون الربح بينهما نصفين لأن الربح بينهما فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي للعامل والثاني لا يصح وهو الصحيح لأن الربح كله لرب المال بالملك وإنما يملك العامل جزءاً منه بالشرط ولم يشرط له شيئاً فبطل وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لم يبين ما لرب المال والثاني يصح وهو الصحيح لأن ما لرب المال لا يحتاج إلى شرط لأنه يملكه بملك المال وإنما يحتاج إلى شرط ما للعامل فإذا شرط للعامل النصف بقي الباقي على ملك رب(2/227)
المال فعلى هذا لو قال قارضتك على أن لك النصف ولي الثلث وسكت عن السدس صح ويكون النصف له لأن الجميع له إلا ما شرطه للعامل وقد شرط له النصف فكان الباقي له.
فصل: وإن قال قارضتك على أن الربح كله لي أو كله لك بطل القراض لأن موضوعه على الاشتراك في الربح فإذا شرط الربح لأحدهما فقد شرط ما ينافي مقتضاه فبطل وإن دفع إليه ألفاً وقال تصرف فيه والربح كله لك فهو قرض لا حق لرب المال في ربحه لأن اللفظ مشترك بين القراض والقرض وقد قرن به حكم القرض فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركاً بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعاً وإن قال تصرف فيه والربح كله لي فهو بضاعة لأن اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة وقد قرن به حكم البضاعة فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك.
فصل: ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لأنه ربما لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لأنه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه فإن شرط أنه إذا اشترى عبداً أخذه برأس المال أو أخذه العامل بحقه لم يصح العقد لأنه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الآخر.
فصل: ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والإجارة.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة فمن أصحابنا من قال لا يجوز شرط المدة فيه لأنه عقد معاوضة يجوز مطلقاً فبطل بالتوقيت كالبيع والنكاح ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح لأن العامل يستحق البيع لأجل الربح وإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يصح وإن عقده إلى مدة على أن لا يشتري بعدها صح لأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد فلم يمنع صحته.
فصل: ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام والفاكهة وقتها فإن عقده على ما لا يعم كالياقوت الأحمر والخيل البلق وما أشبهها أو على التجارة في(2/228)
سلعة بعينها لم يصح لأن المقصود بالقراض الربح فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لأنه ربما يتفق ذلك ولا يجوز عقده على أن لا يشري إلا من رجل بعينه لأنه قد لا يتفق عنده ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود.
فصل: وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر والطي والإيجاب والقبول وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف في هذه الأشياء أن يتولاه بنفسه فإن استأجر من يفعل ذلك لزمه الأجرة في ماله فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه لأن العرف في هذه الأشياء أن لا يتولاه بنفسه فإن تولى ذلك بنفسه لم يستحق الأجرة لأنه تبرع به وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ ففيه وجهان: أحدهما لا يخاصم لأن القراض معقود علىالتجارة فلا تدخل فيه الخصومة والثاني أنه يخاصم فيه لأن القراض يقضي حفظ المال والتجارة ولا يتم ذلك إلا بالخصومة والمطالبة.
فصل: ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لأن تصرفه بالإذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه فإن قارضه رب المال على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمة ونقض الثمن من مال القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال المغصوب وربحه فإن قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا إن لرب المال نصف الربح والآخر بين العاملين نصفين واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق هذا صحيح لأن رب المال رضي أن يأخذ نصف ربح فلم يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لأنهما رضيا أن ما رزق الله بينهما والذي رزق الله تعالى هو النصف فإن النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك ومن أصحابنا من قال يرجع العامل الثاني على العامل الأول بنصف أجرة مثله لأنه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك وإن قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الأول وللعامل الثاني أجرة المثل فمن أصحابنا من قال هذا غلط لأن على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لأنه هو المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض ومنهم من قال الربح للأول كما قال المزني لأن العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القراض فإن ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له.
فصل: ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فإن أذن له في صنف لم يتجر(2/229)
في غيره لأن تصرفه بالإذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه فإن قال له اتجر في البز جاز له أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان وما يلبس من الأصواف لأن اسم البز يقع على ذلك كله ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش لأنه لا يطلق عليه اسم البز وهل يجوز أن يتجر في الأكسية البركانية؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يلبس فأشبه الثياب والثاني لا يجوز لأنه لا يطلق عليه اسم البز ولهذا لا يقال لبائعه بزاز وإنما يقال له كسائي ولو أذن له في التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير لأن الطعام لا يطلق إلا على الحنطة.
فصل: ولا يشتري العامل بأكثر من رأس المال لأن الإذن لم يتناول غير رأس المال فإن كان رأس المال ألفاً فاشترى عبداً بألف ثم اشترى آخر بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول فالأول للقراض لأنه اشتراه بالإذن وأما الثاني فينظر فيه فإن اشتراه بعين الألف فالشراء باطل لأنه اشتراه بمال استحق تسليمه في البيع الأول فلم يصح وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد له ويلزمه الثمن في ماله لأنه اشترى في الذمة لغيره مالم يأذن فيه فوقع الشراء.
فصل: ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل لأنه وكيل فلا يتصرف إلا على النظر والاحتياط وإن اشترى معيباً رأى شرائه جاز لأن المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب وإن اشترى شيئاً على أنه سليم فوجده معيباً جاز له الرد لأنه فوض إليه النظر والاجتهاد فلك الرد.
فصل: وإن اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الإمساك فعل ما فيه النظر لأن المقصود طلب الحظ لهما فإذا اختلفا حمل الأمر على ما فيه الحظ.
فصل: وإن اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال لأن القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير إذنها ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمها لأن المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر به لأن النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها والثاني يلزمها لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه.(2/230)
فصل: ولايسافر بالمال من غبر إذن رب المال لأنه مأمور بالنظر والاحتياط وليس في السفر احتياط لأن فيه تغريراً بالمال ولهذا يروى أن المسافر ومتاعه لعلى قلت فإن أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق من مال القراض وقال في موضع آخر لا نفقة له فمن أصحابنا من قال: لا نفقة له قولاً واحداً لأن نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الإقامة وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا ينفق لما ذكرناه والثاني ينفق لأن سفره لأجل المال فكان نفقته منه كأجرة الحمال فإن قلنا ينفق من مال القراض ففي قدره وجهان: أحدهما جميع ما يحتاج إليه لأن من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته والثاني ما يزيد على نفقة الحضر لأن النفقة إنما لزمته لأجل السفر فلم يلزمه إلا ما زاد بالسفر.
فصل: وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان: أحدهما أن الجميع لرب المال فلا يملك العامل حصته بالربح إلا بالقسمة لأنه لو ملك حصته من الربح لصار شريكاً لرب المال حتى إذا هلك شيء كان هالكاً من المالين فلم يجعل التالف من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئاً والثاني أن العامل يملك حصته من الربح لأنه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.
فصل: وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر لم يجبر لأنه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لأنه يقول الربح وقاية لرأس المال فلا أعطيك حتى تسلم لي رأس المال وإن كان الذي امتنع هو العام لم يجز إجباره لأنه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه وإن تقاسما جاز لأن المنع لحقهما وقد رضيا فإن حصل بعد القسمة خسر إن لزم العامل أن يجبره بما أخذ لأنه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال.
فصل: وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم الشراء في مال القراض لأنه لا ضرر فيه على رب المال فإن ظهر بعدما اشتراه ربح فإن قلنا إنه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق وإن قلنا أنه يملك بالظهور فهل يعتق بقدر بحصته؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يعتق منه بقدر حصته لأنه ملكه فعتق والثاني لا يعتق لأن ملكه غير مستقر لأنه ربما تلف بعض المال فلزمه جبرانه بماله وإن اشترى وفي الحال ربح فإن قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء لأنه لا ضرر فيه على رب المال وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق به.
فصل: والعامل أمين فيما في يده فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن(2/231)
لأنه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع فإن دفع إليه ألفاً فاشترى عبداً في الذمة ثم تلف الألف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لأنه تلف رأس المال بعينه وفي الثمن وجهان: أحدهما أنه على رب المال لأنه اشتراه له فكان الثمن عليه كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقذه والثاني أن الثمن على العامل لأن رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد وإن دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان: أحدهما يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لأنه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه والثاني أنه يتلف من الربح لأنه تصرف في المال فكان في القراض وإن قارضه رجلان على مالين فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان: أحدهما تباعان فإن لم يكن فيهما ربح قسم بين ربي المال وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح وإن كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لأنه حصل بتفريطه والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما لأنه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما.
فصل: ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لأنه تصرف في مال الغير بإذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة فإن فسخ العقد والمال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز وإن باعاه جاز لأن الحق لهما وإن طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر لأن حق العامل في الربح وذلك لا يحصل إلا بالبيع فإن قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه الربح وامتنع العامل فإن قلنا إنه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه كما لو كان بينهما مال مشترك وبذل أحدهما للآخر عوض حقه وإن قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد بذل له حقه والثاني أنه يجبر لأنه ربما زاد مزايد ورغب راغب فزاد في قيمته وإن طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لأن حق رب المال في رأس المال ولا يحصل ذلك إلا بالبيع فإن قال العامل أنا أترك حقي ولا أبيع فإن قلنا إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه لأنه يريد أن يهب حقه وقول الهبات لا يجب وإن قلنا إنه لا يملك بالظهور ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد تركه فسقط والثاني يجبر لأن البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله وإن فسخ العقد وهناك دين وجب على العامل أن يتقاضاه لأنه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب أن يتقاضاه ليرده(2/232)
فصل: وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لأنه عقد جائز فبطل بالموت والجنون كالوديعة والوكالة وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو الولي أن يعقد القراض والمال عرض فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق يجوز لأنه ليس بابتداء قراض وإنما هو بناء على مال القراض فجاز ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لأن القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على غرض فلم يجز.
فصل: وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر الربح من رأس المال لأن الذي يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس من ماله وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث وإن مات وعليه دين قدم العامل على الغرماء لأن حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء.
فصل: وإن قارض قراضاً فاسداً وتصرف العامل نفذ تصرفه لأن العقد بطل وبقي الإذن فملك به التصرف فغن حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه شيئاً لأن الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض فاما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فإن لم يرض إلا بربح استحق لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل وإن رضي من غير ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففي الأجرة وجهان: أحدهما لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضي أن يعمل من غير عوض فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض والثاني أنه يستحق وهو قول أبي العباس لأن العمل في القراض يقتضي العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطء في النكاح وإن كان له على رجل دين فقال إقبض ملي عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه عليه لم يصح القراض لأنه قبضه له من نفسه لا يصح فإذا قارضه عليه فقد قارضه على مال لا يملكه فلم يصح فإن اشترى العامل شيئاً في الذمة ونقد في ثمنه ما عزله لرب المال وربح ففيه قولان: أحدهما أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لأنه اشتراه له بإذنه ونقد فيه الثمن بإذنه وبرئت ذمته من الدين لأنه سلمه إلى من اشترى منه بإذنه ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله والثاني أن الذي اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه لأن رب المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له.
فصل: وإن اختلف العامل ورب المال في تلف المال فادعاه العامل وأنكره رب المال أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول العامل لأنه أمين والأصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع.
فصل: فإن اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال ففيه وجهان:(2/233)
أحدهما لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والثاني يقبل قوله لأن معظم منفعته لرب المال لأن الجميع له إلا السهم الذي جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع.
فصل: فإن اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل أنه النصف وادعى رب المال أنه الثلث تحالفا لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقدة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن فإن حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل عمله.
فصل: وإن اختلفا في قدر رأس المال فقال رب المال ألفان وقال العامل ألف فإن لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لأن الأصل عدم القبض فلا يلزمه إلا ما أقر به وإن كان في المال ربح ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول العامل لما ذكرناه والثاني أنهما يتحالفان لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط والصحيح هو الأول لأن الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فإن القول قول البائع.
فصل: وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض وقال العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك وقال العامل اشتريته للقراض فالقول قول العامل لأنه قد يشتري لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه فإن أقام رب المال البينة أنه اشتراه بمال القراض ففيه وجهان: أحدهما أنه يحكم بالبينة لأنه لا يشتري بمال القراض إلا للقراض والثاني أنه لا يحكم بها لأنه يجوز أن يشتري لنفسه بمال القراض على ووجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع.
فصل: وإن كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه وأنكر العامل فالقول قول العامل لأن الأصل عدم النهي ولأن هذا دعوى خيانة والعامل أمين فكان القول فيهما قوله.
فصل: وإن قال ربحت في المال ألفاً ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك خوفاً من نزع المال من يده لم يقبل قوله لأن هذا رجوع عن الإقرار بالمال لغيره فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط فإن قال قد كان فيه ربح ولكنه هلك قبل قوله لأن دعوى التلف بعد الإقرار لا تكذب إقراره فقبل.(2/234)
باب العبد المأذون له في التجارة
لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لأن منافعه مستحقة له فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذوناً لأنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي فإن اشترى شيئاً في الذمة فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخري وأبو إسحاق لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح وقال أبو علي بن أبي هريرة يصح لأنه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فإنه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح من غير إذنه فإن قلنا إنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لأنه كسب للعبد فكان للمولى كما لو احتشم أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لأن إطلاق البيع يقتضي إيجاب الثمن في الذمة فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لأنه رضي بذمته فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن وإن قلنا إن الشراء باطل وجب رد المبيع لأنه مقبوض عن بيع فاسد فإن تلف في يد العبد أتبع بقيمته إذا أعتق لأنه رضي بذمته وإن تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لأنه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق.
فصل: وإن أذن له في التجارة صح تصرفه لأن الحجر عليه الحق المولى وقد زال وما يكتسبه للمولى لأنه إن دفع إليه مالاً فاشترى به كان المشتري عوض ماله فكان له وإن أذن له في الشراء في الذمة كان المشتري من أكسابه لأنه تناوله الإذن فإن لم يكن في يده شيء اتبع به إذا عتق لأنه دين لزمه برضى من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لأن المولى لم يأذن له في رقبته فلم يقض منها دينه.
فصل: ولا يتجر إلا فيما أذن به لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما دخل فيه فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة ومن أصحابنا من قال يملك إجارة ما يشتريه للتجارة لأنه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن والمذهب الأول لأن المأذون فيه هو التجارة والإجارة ليست من التجارة فلم يملك بالإذن من التجارة.
فصل: ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف فيه هو البيع بالنقد وثمن المثل ولأنه يتصرف في حق غيره فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا يسافر بالمال لأن فيه تغريرا(2/235)
بالمال، فلا يملك من غير إذن وإن اشترى من يعتق على مولاه بغير إذن ففيه قولان: أحدهما أنه لا يصح وهو الصحيح لأن الإذن في التجارة يقتضي ما ينتفع به ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه والثاني أنه يصح لأن العبد لا يصح منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك فإن قلنا يصح فإن لم يكن عليه دين عتق وإن كان عليه دين ففيه قولان: أحدهما يعتق لأنه ملكه والثاني لا يعتق لأن حقوق الغرماء تعلقت به فإن اشتراه بإذنه صح الشراء فإن لم يكن عليه دين عتق عليه وإن كان عليه دين فعلى القولين ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لأنه أسقط حقه منهم بالعتق.
فصل: وإذا اكتسب العبد مالاً بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن فأخذ منه مالاً أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى لأنها اكتساب ماله فكانت له فإن ملكه مالاً ففيه قولان: قال في القديم يملكه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع1" ولأنه يملك البضع فملك المال كالحر وقال في الجديد: لا يملك لأنه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالإرث فإن ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطئها في قوله القديم ولا يملك في الجديد وإن ملكه نصاباً لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد فإن وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله الجديد وأما العتق فلا يكفر به على القولين لأن العتق يتضمن الولاء والعبد ليس من أهل الولاء وإن باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال مجهولاً لأنه تابع ولا يجوز في الجديد لأنه غير تابع والله أعلم.
__________
1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 17. مسلم في كتاب البيوع حديث 78. أبو داود في كتاب البيوع 42. الموطأ في كتاب البيوع حديث 2.أحمد في مسنده "2/9،78".(2/236)
كتاب المساقاة
مدخل
...
كتاب المساقاة
تجوز المساقاة على النخل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع وتجوز على الكرم لأنه شجر تجب الزكاة في ثمرته فجازت المساقاة عليه كالنخيل وتجوز على الفسلان وصغار الكرم إلى وقت أن تحمل لأنه بالعمل عليها تحصل الثمرة كما تحصل بالعمل على النخل والكرم ولا تجوز على المباطخ والمقاثئ والعلف وقصب السكر لأنها بمنزلة الزرع فكان المساقاة عليها كالمخابرة على الزرع واختلف قوله في سائر الأشجار المثمرة كالتين والتفاح فقال في القديم تجوز المساقاة عليها لأنه شجر مثمر فأشبه النخل والكرم وقال في الجديد لا تجوز لأنه لا تجب الزكاة في ثماره فلم تجز المساقاة عليه كالغرب والخلاف واختلف قوله في المساقة على الثمرة الظاهرة فقال في الأم تجوز لأنه إذا جاز على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر فلأن تجوز على الثمرة الموجدة وهي من الغرر أبعد أولى وقال في البويطي لا تجوز لأن المساقاة عقد على غرر وإنما أجيز على الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل فإذا ظهرت الثمرة زالت الحاجة فلم تجز.
فصل: ولا تجوز إلا على شجر معلوم وإن قال ساقيتك على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يخلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على حائط غير معين كالبيع وهل يجوز على حائط معين لم يره؟ فيه طريقان: أحدهما أنه على قولين كالبيع والثاني أنه لا يصح قولاً واحداً لأن المساقاة معقودة على الغرر فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر لعدم الرؤية بخلاف البيع.
فصل: ولا تجوز إلا على مدة معلومة لأنه عقد لازم فلو جوزناه مصلقاً استبد العامل بالأصل فصار كالمالك ولا تجوز إلا على أقل من مدة توجد فيها الثمرة فإن ساقاه على(2/237)
النخل أو على الودي إلى مدة لا تحمل لم يصح لأن يشتركا في الثمرة وذلك لا يوجد فإن عمل العامل فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضي أن يعمل بغير عوض فلم يستحق لأجرة كالمتطوع في غير المساقاة والثاني أنه يستحق وهو قول أبي العباس لأن العمل في المساقاة يقتضي العوض فلا يسقط بالرضا بتركه كالوطء في النكاح وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل وقد لا تحمل ففيه وجهان: أحدهما أنها تصح لأنه عقد إلى مدة يرجى فيها وجود الثمرة فأشبه إذا ساقاه إلى مدة توجد الثمرة فيها في الغالب والثاني أنها لا تصح وهو قول أبي إسحاق لأنه عقد على عوض موجود ولا الظاهر وجوده فلم يصح كما لو أسلم في معدوم إلى محل لا يوجد في الغالب فعلى هذا إن عمل استحق أجرة المثل لأنه لم يرض أن يعمل من غير ربح ولم يسلم له الربح فرجع إلى بدل عمله واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة فقال في موضع سنة وقال في موضع يجوز ما شاء وقال في موضع يجوز ثلاثين سنة فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها لا تجوز بأكثر من سنة لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة لأن منافع الأعيان تتكامل في سنة والثاني تجوز ما بقيت العين لأن كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل والثالث أنها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة لأن الثلاثين شطر العمر ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك ومنهم من قال هي على القولين الأولين وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير لا على سبيل التجديد وهو الصحيح فإن ساقاه إلى سنة لم يجب ذكر قسط كل شهر لأن شهور السنة لا تختلف منافعها وإن ساقاه إلى سنتين ففيه قولان: أحدهما لا يجب ذكر كل سنة كما إذا اشترى أعياناً بثمن واحد لم يجب ذكر قسط كل عين منها والثاني يجب لأن المنافع تختلف باختلاف السنين فإذا لم يذكر قسط كل سنة لم نأمن أن ينفسخ العقد فلا يعرف ما يرجع فيه من العوض ومن أصحابنا من قال القولان في الإجارة فأما في المساقاة فإنه يجب ذكر قسط كل سنة من العوض لأن الثمار تختلف باختلاف السنين والمنافع لا تختلف في العادة باختلاف السنين.
فصل: وإذا ساقاه إلى عشر سنين فانقضت المدة ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد إن طلعت قبل انقضاء المدة وانقضت المدة هي طلع أو بلح تعلق به حق العامل لأنها حدثت قبل انقضاء المدة.
فصل: ولا تجوز إلا على جزء معلوم فإن ساقاه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز لحديث ابن عمر فإن عقد على جزء غير مقدر كالجزء والسهم والنصيب لم يصح(2/238)
لأن ذلك يقع على القليل والكثير فيعظم الغرر وإن ساقاه على صاع معلوم لم يصح لأنه ربما لم يحصل ذلك فيستضر العامل وربما لا يحصل إلا ذلك فيستضر رب النخل وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها لم يصح لأنه قد لا تحمل تلك النخلات فيستضر العامل أو لا يحمل إلا هي فيستضر رب النخل وإن ساقاه عشر سنين وشرط له ثمرة السنة غير السنة العاشرة لم يصح لأنه شرط عليه بعد حقه عملاً لا يستحق عليه عوضاً وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح كما يصح أن يعمل في جميع السنة وإن كانت الثمرة في بعضها والثاني لا يصح لأنه يعمل فيها مدة تثمر فيها ولا يستحق شيئاً من ثمرها.
فصل: ولا يصح إلا على عمل معلوم فإن قال إن سقيته بالسيح فلك الثلث وإن سقيته بالناضح فلك النصف لم يصح لأنه عقد على مجهول.
فصل: وتنعقد بلفظ المساقاة لأنه موضوع له وتنعقد بما يؤدي معناه لأن القصد منه المعنى فصح بما دل عليه فإن قال استأجرتك لتعمل فيه على نصف ثمرته لم تصح لأنه عقد الأجارة بعوض مجهول القدر فلم تصح.
فصل: ولا يثبت فيه خيار الشرط لأنه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وفي خيار المجلس وجهان: لأحدهما يثبت فيه لأنه عقد لازم يقصد به المال فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع والثاني لا يثبت لأنه عقد لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس فلو ثبت خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع.
فصل: وإذا تم العقد لم يجز لواحد منهما فسخه لأن النماء متأخر عن العمل فلو قلنا إنه يملك الفسخ لم يأمن أن يفسخ بعد العمل ولا تحصل له الثمرة.
فصل: وعلى العامل أن يعمل ما فيه مستزاد في الثمرة من التلقيح وصرف الجريد وإصلاح الأجاجين وتنقية السواقي والسقي وقع الحشيش المضر بالنخل وعلى رب النخل عمل ما فيه حفظ الأصل من سد الحيطان ونصب الدولاب وشراء الثيران لأن ذلك يراد لحفظ الأصل ولهذا من يريد إنشاء بستان فعل هذا كله واختلف أصحابنا في(2/239)
الجذاذ واللقاط فمنهم من قال لا يلزم العامل ذلك لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء ومنهم من قال يلزمه لأنه لا تستغني عنه الثمرة.
فصل: وإن شرط العامل في القراض والمساقاة أن يعمل معه رب المال لم يصح لأن موضوع العقد أن يكون المال من رب المال والعمل من العامل فإذا لم يجز شرط المال على العامل لم يجز شرط العمل على رب المال وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فقد نص في المساقاة أنه يجوز واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه فمنهم من قال لا يجوز فيهما لأن عمل الغلمان كعمل رب المال فإذا لم يجز شرط عمله لم يجز شرط عمل غلمانه وحمل قوله في المساقاة على أنه أراد ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره والثاني يجوز فيهما لأن غلمانه ماله فجاز أن يجعل تابعاً لماله كالثور والدولاب والحمار لحمل المتاع بخلاف رب المال فإنه مالك فلا يجوز أن يجعل تابعاً لماله والثالث أنه يجوز في المساقاة ولا يجوز في القراض لأن في المساقاة ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره فجاز أن يشترط فيها عمل غلمانه وليس في القراض ما يلزم رب المال فلم يجر شرط غلمانه فإذا قلنا إنه يجوز لم يصح حتى تعرف الغلمان بالؤية أو الوصف ويجب أن يكون الغلمان تحت أمر العامل وأما نفقتهم فإنه إن شرط على العامل جاز لأن بعملهم ينحفظ الأصل وتزكو الثمرة وإن لم يشرط ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنها على العامل لأن العمل مستحق عليه فكانت النفقة عليه والثاني أنها على رب المال لأنه شرط عملهم عليه فكانت النفقة عليه والثالث أنها من الثمرة لأن عملهم على الثمرة فكانت النفقة منها.
فصل: وإذا ظهرت الثمرة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هي على القولين في العامل في القراض أحدهما تملك في الظهور والثاني بالتسليم ومنهم من قال في المساقاة تملك في الظهور قولاً واحداً لأن الثمرة لم تجعل وقاية لرأس المال فملك بالظهور والربع جعل وقاية لرأس المال فلم يملك بالظهور في أحد القولين.
فصل: والعامل أمين فيما يدعي من هلاك وفيما يدعى عليه من خيانة لأنه ائتمنه رب المال فكان القول قوله فإن ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف عليه ولا تزال يده لأن العمل مستحق عليه ويمكن استيفاؤه منه فوجب أن يستوفي وإن لم ينحفظ استؤجر عليه من ماله من يعمل عنه لأنه لا يمكن استيفاء العمل بفعله فاستوفى بغيره.
فصل: وإنه هرب رفع الأمر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه فإن لم(2/240)
يكن مال اقترض عليه فإن لم يجد من يقرضه فلرب النخل أن يفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت له الفسخ كما لو اشترى عبداً فأبق من يد البائع فإن فسخ نظرت فإن لم تظهر الثمرة فهي لرب النخل لأن العقد زال قبل ظهورها وللعامل أجرة ما عمل وإن ظهرت الثمرة فهي بينهما فإن عمل فيه رب النخل أو استأجر من عمل فيه بغير إذن الحاكم لم يرجع لأنه متبرع وإن لم يقدر على إذن الحاكم فإن لم يشهد لم يرجع لأنه متبرع وإن أشهد ففيه وجهان: أحدهما يرجع لأنه موضع ضرورة والثاني لا يرجع لأنه يصير حاكماً لنفسه على غيره وهذا لا يجوز لا لضرورة ولا لغيرها.
فصل: وإن مات العامل قبل الفراغ فإن تمم الوارث العمل استحق نصيبه من الثمرة وإن لم يعمل فإن كان له تركة استؤجر منهما من يعمل لأنه حق عليه يمكن استيفاؤه من التركة فوجب أن يستوفي كما لو كان عليه دين وله تركة وإن لم تكن له تركة لم يلزم الوارث العمل لأن ما لزم الموروث لا يطالب به الوارث كالدين ولا يقترض عليه لأنه لا ذمة له ولرب النخل أن يفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فإن فسخ كان الحكم فيه على ما ذكرناه في العامل إذا هرب.
فصل: وإن ساقى رجلاً على نخل على النصف فعمل فيه العامل وتقاسما الثمرة ثم استحق النخل رجع العامل على من ساقاه بالأجرة لأنه عمل بعوض ولم يسلم له العوض فرجع ببدل عمله فإن كانت الثمرة باقية أخذها المالك فإن تلفت رجع بالبدل فإن أراد تضمين الغاصب ضمنه الجميع لأنه حال بينه وبين الجميع وإن أراد أن يضمن العامل ففيه وجهان: أحدهما يضمنه الجميع لأنه ثبتت يده على الجميع فضمنه كالعامل في القراض في المال المغصوب والثاني لا يضمن إلا النصف لأنه لم يحصل في يده إلا ما أخذه بالقسمة وهو النصف فأما النصف الآخر فإنه لم يكن في يده لأنه لو كان في يده لزمه حفظه كما يلزم العامل في القراض.
فصل: إذا اختلف العامل ورب العمل في العوض المشروط فقال العامل شرطت لي النصف وقال رب النخل شرطت لك الثلث تحالفا لأنهما متعاقدان اختلفا في العوض المشروط ولا بينة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وبالله التوفيق.(2/241)
باب المزارعة
لا تجوز المزارعة على بياض لا شجر فيه لما روى سلين بن بشار أن رافع بن(2/241)
خديج قال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً وطاعة الله ورسوله أنفع لنا وأنفع قلنا وما ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى1" فأما إذا كانت الأرض بين النخل ولا يمكن سقي الأرض إلا بقسيها نظرت فإن كان النخيل كثيراً والبياض قليلاً جاز أن تساقيه على النخل وتزارعه على الأرض لما روى ابن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من تمر وزرع فإن عقد المزارعة على الأرض ثم عقد المساقاة على النخل لم تصح المزارعة لأنها إنما أجيزت تبعاً للمساقاة للحاجة ولا حاجة قبل المساقاة وإن عقدت بعد المساقاة ففيه وجهان: أحدهما لا تصح لأنه أفرد المزارعة بالعقد فأشبه إذا قدمت والثاني تصح لأنهما يحصلان لمن له المساقاة وإن عقدها مع المساقاة وسوى بينهما في العوض جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع فإن فاضل بينهما في العوض ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو الصحيح لأنهما عقدان فجاز أن يفاضل بينهما في العوض والثاني لا يجوز لأنهما إذا تفاضلا تميزا فلم يكن أحدهما تبعاً للآخر فإن كان النخل قليلاً والبياض كثيرا ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه لا يمكن سقي النخل إلا بسقي الأرض فأشبه الكثير والثاني لا يجوز لأن البياض أكثر فلا يجوز أن يكون الأكثر تابعا للأقل.
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الرهون باب 7،8. البخاري في كتاب الحرث باب 18. مسلم في كتاب البيوع 78، 89. الترمذي في كتاب الأحطام باب 42. أحمد في مسنده "1/286".(2/242)
كتاب الإجارة
مدخل
...
كتاب الإجارة
يجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق وروى أبو أمامة التيمي قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا فقال ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عما تسألونني فلم يرد عليه حتى نزل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فتلاها عليه وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع.
فصل: ولا تجوز على المنافع المحرمة لأنه يحرم فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم.
فصل: واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم فمنهم من قال: يجوز لأن فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لأن اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان" وما أبيح للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة ولأنه لا يضمن منفعته بالغصب فدل على أنه لا قيمة لها.
فصل: واختلفوا في استئجار الفحل للضراب فمنهم من قال: يجوز لأنه يجوز أن يستباح بالإعارة فجاز أن يستباح بالإجارة كسائر المنافع ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل(2/243)
ولأن المقصود منه هو الماء الذي يخلق منه وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم.
فصل: واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان واستئجار الأشجار لتجفيف الثياب والاستظلال فمنهم من قال يجوز لأنه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع ومنهم من قال: لا يجوز وهو الصحيح لأن الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الأشجار لتجفيف الثياب والاستظلال فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل ولأنه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد.
فصل: واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلماً إجارة معينة فمنهم من قال فيه قولان لأنه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأن علياً كرم الله وجهه كان يستقي الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة.
فصل: ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد يقصد به المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع.
فصل: وينعقد بلفظ الإجارة لأنه لفظ موضوع له وهل ينعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما ينعقد لأنه صنف من البيع لأنه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه والثاني لا ينعقد لأنه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح.
فصل: ويجوز على منفعة عين حاضرة مثل أن يستأجر ظهراً بعينه للركوب ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر في الذمة للركوب ويجوز على عمل معين مثل أن يكتري رجلاً ليخيط له ثوباً أو يبني له حائطاً ويجوز على عمل في الذمة مثل أن يكتري رجلاً ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لأنا بينا أن الإجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة فكذلك الإجارة وفي استئجار عين لم يرها قولان: أحدهما لا يصح والثاني يصح ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع.
فصل: وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لأنا بينا أنه بيع والبيع يصح في المفرد والمشاع وكذلك الإجارة.
فصل: ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها فإن استأجر أرضاً(2/244)
للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه كماء العين والمد بالبصرة والثلج والمطر في الجبل لأن المنفعة في الإجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعة لا يقدر عليها فإن اكترى أرضاً على نهر إذا زاد سقي وإذا لم يزد لم يسقى كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فإن اكتراها بعد الزيادة صح العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه فهو كبيع الطير في القفص وإن كان قبل الزيادة لم يصح لأنه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء وإن اكترى أرضاً لا ماء لها ولم يذكر أن يكتريها للزراعة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الأرض لا تكتري في العادة إلا للزراعة فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة والثاني إن كانت الأرض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد أنه يعلم أنه لم يكترها للزراعة وإن كانت مستقلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لأنه اكتراها للزراعة مع تعذر الزراعة فإن اكترى أرضاً غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء كالحنطة والشعير نظرت فإن كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الأرض وقدر على الزراعة صح العقد لأنه يمكن زراعتها بفتح المغيض كما يمكن سكنى الدار بفتح الباب وإن لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح العقد لأنه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصبح العقد كبيع ما في يد الغاصب فإن كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال والثاني يصح وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع به فإن اكترى أرضاً على ماء إذا زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لأن الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد.
فصل: وإن استأجر رجلاً ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح أن يشتري سلعة بدراهم وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم والثاني لا يصح لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح كما لو أجر عبد غيره.
فصل: ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر لأنا بينا أن الإجارة بيع(2/245)
والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الإجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لأنها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها وإن قدر بالعمل والمدة بأن استأجره يوماً ليخيط له قميصاً فالإجارة باطلة لأنه يؤدي إلى التعارض وذلك أنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فإن طولب في بقية اليوم بالعمل أخل بشرط العمل وإن لم يطالب أخل بشرط المدة فإن كانت المنفعة مجهولة المقدار في نفسها كالسكنى والرضاع وسقي الأرض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لأن السكنى وما يشبع به الصبي من اللبن وما تروى به الرض من السقي يختلف ولا ينضبط ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة فقدر بالمدة واختلف أصحابنا في استئجار الظهر للحرث فمنهم من قال يجوز أن يقدر بالعمل بأن يستأجره ليحرث أرضاً بعينها ويجوز أن يقدر بالمدة بأن يستأجره ليحرث له شهراً ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والأول أظهر لأنه يمكن تقديره بكل واحد منهم فجاز التقدير بكل واحد منهما.
فصل: وما عقد على مدة لا يجوز إلا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء فإن قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالإجارة باطلة وقال في الإملاء تصح في الشهر الأول وتيطل فيما زاد لأن الشهر الأول معلوم وما زاد مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول كما لو قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه والصحيح هو الأول لأنه عقد على الشهر وما زاد من الشهور وذلك مجهول فبطل ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه لأن هناك أفرد الشهر الأول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد فبطل بالجميع فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالأهلة لأن السنة المعهودة بالشرع سنة الأهلة والدليل عليه قوله عز وجل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فوجب أن يحمل العقد عليه فإن كان العقد في أول الهلال عد اثني عشر شهراً بالأهلة تاماً كان الشهر أو ناقصاً وإن كان في أثناء الشهر عد ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهراً بالأهلة ثم كمل عدد الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوماً لأنه تعذر إتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد فإن أجره سنة شمسية ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه على حساب أنسيء فيه الأيام والنسيء حرام والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] والثاني أنه يصح لأنه وإن كان النسيء حراماً إلا أن المدة معلومة فجاز العقد كالنيروز والمهرجان وفي أكثر المدة التي يجوز عقد الإجارة عليه طريقان ذكرناهما في المساقاة.(2/246)
فصل: ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة لأن الإجارة بيع والمنفعة فيها كالعين في البيع والبيع لا يصح إلا في المعلوم فكذلك الإجارة فإن كان المكترى داراً لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لأن المنفعة تختلف باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنها لا تضبط بالصفة فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان بناء على القولين في البيع ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لأن الدار لا تكترى إلا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف وإن اكترى أرضاً لم يصح حتى تعرف الأرض لما ذكرناه في الدار ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة والغراس والبناء لأن الأرض تكترى لهذه المنافع وتأثيرها في الأرض يختلف فوجب بيانها وإن قال أجرتك هذه الأرض لتزرعها ما شئت جاز لأنه جعل له زراعة أضر الأشياء فأي صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه وإن قال أجرتك لتزرع وأطلق ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الزروع مختلفة في التأثير في الأرض فوجب بينها والثاني يصح لأن التفاوت بين الزرعين يقل وإن قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه جعل له أحدهما ولم يعين فلم يصح كما قال بعتك أحد هذين العبدين وإن قال أجرتك لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان: أحدهما لا يصح وهو قول المزني وأبي العباس وأبي إسحاق لأنه لم يبين المقدار من كل واحد منهما والثاني يصح وله أن يزرع النصف ويغرس النصف وهو ظاهر النص وهو قول أبي الطيب بن سلمة لأن الجمع يقتضي التسوية فوجب أن يكون نصفين.
فصل: وإن استأجر ظهراً للركوب لم يصح العقد حنى يعرف جنس المركوب لأن الغرض يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والوصف لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع فإن كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهملج والقطوف من الخيل ففيه وجهان: أحدهما يفتقر إلى ذكره لأن سيرهما يختلف والثاني لا يختلف لأن التفاوت في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه ولا يضبط ذلك بالوصف فوجب تعيينه ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره لأنه يختلف ذلك على المركوب والراكب فإن كان عمارية أو محملاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها(2/247)
أنه يجوز العقد عليه بالوصف لأنه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب والثاني إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لأنها لا تختلف وإن كانت من الخراسانية الثقال لم يجز إلا بالتعيين لأنها تختلف وتتفاوت والثالث وهو المذهب أنه لا يجوز إلا بالتعيين لأنها تختلف بالضيق والسعة والثقل والخفة وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحة فمنهم من قال: لا يجوز حتى يعرف قولاً واحداً لأنها تختلف فوجب العلم بها ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز حتى يعرف لما ذكرناه والثاني يجوز وتحمل على ما جرت به العادة لأنه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الإجارة والحمل في البيع وإن كان السير في طريق فيه منازل معروفة جاز العقد عليه مطلقاً لأنه معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقاً كالثمن في موضع فيه نقد متعارف فإن لم يكن فيه منازل معروفة لم يصح حتى يبين لأنه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه.
فصل: فإن استأجر ظهراً لحمل متاع صح العقد من غير جنس الظهر لأنه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع إنه حديد أو قطن لأن ذلك يختلف على البهيمة ولا يصح حتى يعرف قدره لأنه يختلف فإن كان موزوناً ذكر وزنه وإن كان مكيلاً ذكر كيله فإن ذكر الوزن فهو أولى لأنه أخصر وأبعد من الغرر فإن عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة وإن لم يعرف كيلها فإن شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لأنه دخل في الشرط ما يقتل البهيمة وذلك لا يجوز فبطل به العقد فأما الظروف التي فيها متاع فإنه إن دخلت في وزن المتاع صح العقد لأن الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فإن كان ظروفاً معروفة كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لأنها تتفاوت وإن كانت غير معروفة لم يجز حتى تعين لأنها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه.
فصل: فإن استأجر ظهراً للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر لأنه لا يجوز إلا على مدة وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الأظهر ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والصفة كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة ولا يصح حتى يعرف الدولاب لأنه يختلف ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.(2/248)
فصل: وإن استأجر ظهراً للحرث لم يصح حتى يعرف الأرض لأنه يختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها فإن كان على جريان لم يفتقر إلى العلم بالظهر لأنه لا يختلف وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر الذي يحرث به لأن العمل يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفة لما ذكرناه في السقي.
فصل: وإن استأجر ظهراً للدياس لم يصح حتى يعرف الجنس الذي يداس لأن العمل يختلف باختلافه فإن كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان الذي يداس به لأنه لا غرض في تعيينه فإن كان على مدة لم يصح حتى يعرف الحيوان الذي يداس به لأن العمل يختلف باختلافه.
فصل: وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحة لأن الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفة لأنه يضبط بالصفة ولا يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد لأن لكل صنف من الصيد تأثيراً في إتعاب الجارحة.
فصل: وإن استأجر رجلاً ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس الحيوان لأن لكل جنس من الماشية تأثيراً في إتعاب الراعي ويجوز أن يعقد على جنس معين وعلى جنس في الذمة فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر العدد لأن العمل يختلف باختلافه ومن أصحابنا من قال يجوز مطلقاً ويحمل على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائة أو أقل أو أكثر والأول أظهر لأن ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد.
فصل: وإن استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبي الذي عقد على إرضاعه لأنه يختلف الرضاع باختلافه ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لأنه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لأن الغرض يختلف باختلافه.
فصل: وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً أو نهراً لم يصح العقد حتى يعرف الأرض لأن الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض والعمق لأن الغرض يختلف باختلافها وإن استأجر لبناء حائط لم يصح العقد حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين لأن الأغراض تختلف باختلافها، وإن استأجره(2/249)
لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف موضع الماء والتراب ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها وإن كان فيما يختلف الغرض باختلافه ما لا يعرفه رجع فيه إلى أهل الخبرة ليعقد على شرطه كما إذا أراد أن يعقد النكاح ولم يعرف شروط العقد رجع إلى من يعرفه ليعقد بشروطه وإن عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه كما يوكل الأعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع.
فصل: وإن استأجر رجلاً ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لأن الغرض يختلف باختلافها وإن كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى يعينها لأن آيات القرآن تختلف فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الأعشار تختلف والثاني يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه فقال لها: "اجلسي بارك الله فيك أما نحن فلا حاجة لنا فيك ولكن تملكيننا أمرك" قالت نعم: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فدعا رجلاً منهم فقال: "إني أريد أن أزوجك هذا إن رضيت" فقالت ما رضيت لي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رضيت ثم قال للرجل: "هل عندك من شيء" قال لا والله يا رسول الله قال: "ما تحفظ من القرآن؟ " قال: سورة البقرة والتي تليها قال: "قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك" وهل يفتقر إلى تعيين الحرف؟ فيه وجهان: أحدهما لا يصح حتى يعين الحرف لأن الأغراض تختلف باختلاف الحرف والثاني لا يحتاج إلى تعيين الأحرف لأن ما بين الأحرف من الاختلاف قليل.
فصل: وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران أو تمتع لأن الأغراض تختلف باختلافها فأما موضع الإحرام فقال في الأم لا يجوز حتى يعين وقال في الإملاء إذا استأجر أجيراً أحرم من الميقات ولم يشترط التعيين واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المرزوي فيه قولان: أحدهما لا يجوز حتى يعين لأن الإحرام قد يكون من الميقات وقد يكون من دويرة أهله وقد يكون من غيرهما فإذا أطلق العقد على مجهول فلم يصح والثاني أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع لأن الميقات معلوم بالشرع فانصرف الإطلاق إليه كنقد البلد في البيع ومن أصحابنا من قال إن كان الحج عن حي لم يجز حتى يعين لأنه يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين لأنه لا يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه وحمل القولين(2/250)
على هذين الحالين ومنهم من قال: إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز من غير تعيين كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد وحمل القولين على هذين الحالين فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الأجير انعقد الحج للمستأجر لأنه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع.
فصل: ولا تصح الإجارة إلا على أجرة معلومة لأنه عقد يقصد به العوض فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع ويجوز إجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها لأن المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع ثم الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع.
فصل: ولا تجوز إلا بعوض معلوم لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استأجر أجيراً فليعلمه أجره1" ولأنه عقد معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع وإن عقد بمال جزاف نظرت فإن كان العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان لأن إجارة المنفعة في الذمة كالسلم وفي السلم على مال جزاف قولان فكذلك في الإجارة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز والثاني لا يجوز لأنه عقد على منتظر وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض فكان في عوضه جزافاً قولان كالسلم وإن كانت الإجارة على منفعة معينة جاز بأجرة حالة ومؤجلة لأن إجارة العين كبيع العين وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل فكذلك الإجارة فإن أطلق العقد وجبت الأجرة بالعقد ويجب تسليمها بتسليم العين لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف رشحه2" ولأن الإجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم العين فكذلك في الأجرة فإن استوفى المنفعة استقرت الأخيرة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم عز وجل: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره" ولأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع فإن سلم إليه العين التي وقع في العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل لأن المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشتري فإن عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الأجرة لأن المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه
__________
1 رواه النسائي في كتاب الأيمان باب 44. أحمد في مسنده "3/59،68".
2 رواه ابن ماجة في كتاب الرهون باب 4.(2/251)
ضمانها كالمشتري إذا أتلف المبيع في يد البائع فإن كان هذا في إجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل لأن الإجارة كالبيع والمنفعة كالعين ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل فكذلك في الإجارة فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجرة مؤجلة لأن إجارة ما في الذمة كالسلم ولا يجوز السلم بثمن مؤجل فكذلك الإجارة ولا يجوز حتى يقبض العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم ومن أصحابنا من قال إن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس لأنه سلم وإن كان بلفظ الإجارة لم يجب لأنه إجارة والأول أظهر لأن الحكم يتبع المعنى لا الإسم ومعناه معنى السلم فكان حكمه كحكمه ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا باستيفاء المنفعة لأن المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه.
فصل: وما عقد من الإجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالاً ومؤجلاً في الذمة كالسلم والسلم يجوز حالاً ومؤجلاً فكذلك الإجارة في الذمة وإن استأجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة كما إذا أسلم في شيء وأطلق وجب حالاً فإن استأجر رجلاً للحج في الذمة لزمه الحج من سنته فإن أخره عن السنة نظرت فإن كانت الإجارة عن حي كان له أن يفسخ لأن حقه تأخر وله في الفسخ فائدة وهو أن يتصرف في الأجرة فإن كانت عن ميت لم يفسخ لأنه لا يمكن التصرف في الأجرة إذا فسخ العقد ولا بد من استئجار غيره في السنة الثانية فلم يكن للفسخ وجه وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالاً فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد وإن كان على عمل معين لم يجز إلا في الوقت الذي يمكن الشروع في العمل لأن إجارة العين كبيع العين وبيع العين لا يجوز إلا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الإجارة فإن استأجر من يحج له لم يجز إلا في الوقت الذي يتمكن فيه من التوجه فإن كان في موضع قريب لم يجز قبل شهر الحج لأنه يتأخر استيفاء المعقود عليه عن حال العقد وإن كان في موضع بعيد لا يدرك الحج إلا أن يسير قبل أشهره لم يستأجر إلا في الوقت الذي يتوجه بعده لأنه وقت الشروع في الاستيفاء فإن قال أجرتك هذه الدار شهراً لم يصح لأنه ترك تعيين المعقود عليه في عقد شرط فيه التعيين فبطل كما لو قال بعتك عبداً فإن أجر داراً من رجل شهراً من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذي بعده قبل انقضاء الشهر الأول ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه إجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد فأشبه إذا أجرها من غيره والثاني أنه يصح وهو المنصوص لأنه ليس لغيره يد تحول بينه وبين ما استأجر ولأن أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر فأشبه إذا جمع بينهما في العقد(2/252)
فصل: فإن أكرى ظهراً من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز وقال المزني لا يجوز اكتراء العقبة إلا مضموناً لأنه يتأخر حق أحدهما عن العقد فلم يجز كما لو أكراه ظهراً في مدة تتأخر عن العقد والمذهب الأول لأنه استحقاق الاستيفاء مقارن للعقد وإنما يتأخر في القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد كما لو باع من رجلين صبرة فإنه يصح وإن تأخر حق أحدهما عند القسمة فإن كان ذلك في طريق فيه عادة في الركوب والنزول جاز العقد عليه مطلقاً وحملا في الركوب والنزول على العادة لأنه معلوم بالعادة فحمل الإطلاق عليه كالنقد المعروف في البيع وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لأنه غير معلوم بالعادة فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه فإن اختلفا في البادئ في الركوب أقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة قدم لأنهما تساويا في الملك فقدم القرعة.
فصل: وما عقد من الإجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار لأن الخيار يمنع من التصرف فإن حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة وإن حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط والثاني يثبت لأنه قدر يسير ولكل واحد منهما إسقاطه وإن كان الإجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يثبت فيه الخياران لأنه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار والثاني يثبت فيه الخياران لأن المنفعة المعينة كالعين المعينة في البيت ثم العين المعينة يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة والثالث يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط لأنه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم وإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة ففيه وجهان: أحدهما لا يثبت فيه الخياران لأنه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار والثاني يثبت فيه خيار المجلس دون الشرط لأن الإجارة في الذمة كالسلم وفي السلم يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط فكذلك في الإجارة.
فصل: وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما أن ينفرد بفسخه من غير عيب لأن الإجارة كالبيع ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الإجارة وبالله التوفيق.(2/253)
باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما
يجب على المكري ما يحتاج إليه المكتري للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام(2/253)
الجمل والبرة التي في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لأن التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك فإن تلف شيء منه في يد المكتري لم يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكري بدله لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل والمحمل والغطاء فهو على المكتري لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع واختلف أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر فمنهم من قال هو على المكري لأنه من آلة التمكين فكان على المكري ومنهم من قال هو على المكتري لأنه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض.
فصل: وعلى المكري إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده لأن العادة أنه يتولاه المكري فحمل العقد عليه وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لأنه لا يمكن ذلك على الظهر ولا يجب ذلك للأكل وصلاة النفل لأنه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ الضعيف لأن ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع فكان عليه فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب فهو على المكري لأن ذلك من مؤن التحصيل وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه فهو على المكتري لأن الذي يجب على المكري تسلم الظهر وقد فعل وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش لأنه من مقتضى التمكين فإن امتلأ في يد المكتري ففي كسحه وجهان: أحدهما أنه على المكري لأنه من مقتضى التمكين فكان عليه والثاني أنه على المكتري لأنه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف الدار من القماش وعلى المكري إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من الخشب لأن ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق فمنهم من قال يلزمها لأن الحضانة تابعة للرضاع فاستحقت بالعقد على الرضاع ومنهم من قال لا يلزمها لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى فلا تلزم بالعقد على إحداهما الأخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به وللمستأجر أن يطالبها بذلك لأن من مقتضى التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي.(2/254)
فصل: وعلى المكري علف الظهر وسقيه لأن ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه فإن هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف لأن ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لأنه متطوع وإن رفع الأمر إلى الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه ثم دفعه إليه لينفق جاز وإن لم يقبض منه ولكنه أذن له في الإنفاق عليها قرضاً على الجمال ففيه قولان: أحدهما لا يجوز لأنه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له على غيره والثاني يجوز لأنه موضع ضرورة لأنه لا بد للجمال من علف وليس ههنا من ينفق غيره فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فإن كان ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لأنه إن كان كاذباً فلا حق له وإن كان صادقاً فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى وإن كان ما يدعيه هو المعروف فالقول قوله لأنه مؤتمن في الإنفاق فقبل قوله فيه فإن لم يكن حاكم فأنفق ولم يشهدلم يرجع لأنه متطوع وإن أشهد فهل يرجع فيه وجهان: أحدهما لا يرجع لأنه يثبت حقاً لنفسه على غيره من غير إذن ولا حاكم والثاني يرجع لأنه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه بنفسه كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه فإن لم يجد من يشهد أنفق وفي الرجوع وجهان: أحدهما لا يرجع لما ذكرناه فيه إذا أشهد والثاني يرجع لأن ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف إذن في الإنفاق.
فصل: واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الإجارة فمنهم من قال لا يلزمه قبل المطالبة لأنه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة ومنهم من قال يلزمه لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكها فلزمها الرد كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها فإن قلنا لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد كالوديعة وإن قلنا يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية.
فصل: وللمستأجر أن يستوفي مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لأن إطلاق(2/255)
العقد يقتضي المتعارف والمتعارف كالمشروط فإن استأجر داراً للسكنى جاز أن يطرح فيها المتاع لأن ذلك متعارف في السكنى ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب لأن ذلك غير متعارف في السكنى وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك والثاني يجوز وهو الأظهر لأن طرح ما يسرع إليه قميصاً للبس لم يجز أن ينام فيه بالليل ويجوز بالنهار لأن العرف أن يخلع لنوم الليل دون نوم النهار وإن استأجر ظهر للركوب ركب عليه لا مستلقياً ولا منكباً لأن ذلك هو المتعارف وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار لم يسر في الزمان الآخر لأن ذلك هو المعارف وإن اكترى ظهراً في طريق العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان: أحدهما يلزمه النزول لأن ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط والثاني لا يلزمه لأنه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضه فإن اكترى ظهراً إلى مكة لم يجز أن يحج عليه لأن ذلك زيادة على المعقود عليه وإن اكتراه للحج عليه فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة وهل يجوز أن يركبه من مكة عائداً إلى منى للمبيت والرمي؟ فيه وجهان: أحدهما له ذلك لأنه من تمام الحج والثاني ليس له لأنه قد حل من الحج.
فصل: فإن اكترى ليحمل له أرطالاً من الزاد فهل له أن يبدل مال يأكله فيه قولان: أحدهما له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من الماء والثاني ليس له أن يبدله لأن العادة أن الزاد يشتري موضعاً واحداً بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل فأما إذا كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولاً واحداً لأنه له غرضاً أن لا يشتري موضعاً واحداً.(2/256)
فصل: وإن اكترى ظهراً فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني بعيراً وحملني عليه إلى المدينة وكان يسوقه وأنا راكبه وإنه ليضربه بالعصا ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا بذلك فجاز له فعله.
فصل: وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في الضرر ولا يملك أن يستوفي ما فوقها في الضرر فإن اكترى ظهراً ليركبه في طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونة ولا يركبه فيما هو أخشن منه فإن استأجر أرضاً ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا يزرع ما فوقها لأن في مثلها يستوفي قدر حقه وفيما دونها يستوفي بعض حقه وفيما فوقها يستوفي أكثر من حقه فإن اكترى ظهراً ليحمل عليه القطن لم يحمل عليه الحديد لأنه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله فإن اكتراه للحديد لم يحمل عليه القطن لأنه أضر من الحديد لأنه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب الظهر فإن اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عرياً لأن ركوبه عرياً أضر فإن اكتراه عرياً لم يركبه بسرج لأنه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه فإن اكترى ظهراً ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لأن الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع لا يعينه فإن اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لأن الراكب أشد على الظهر لأنه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه فإن اكترى قميصاً للبس لم يجز أن يتزر به لأن الإتزار أضر من اللبس لأنه يعتمد فيه على طاقين وفي اللبس يعتمد فيه على طاق واحد وهل له أن يرتدي به فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه أخف من اللبس والثاني لا يجوز لأنه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار.
فصل: وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبغيره فإن اكترى داراً ليسكنها فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر ولا يسكنها من هو أضر منه فإن اكترى ظهراً ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله.
فصل: فإن استأجر عيناً لمنفعة وشرط عليه أن لا يستوفي مثلها أو دونها أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الإجارة باطلة لأنه شرط فيها ما ينافي موجبها فبطلت والثاني أن الإجارة جائزة والشرط باطل لأنه شرط لا يؤثر في حق(2/257)
المؤجر فألغي وبقي العقد على مقتضاه الثالث أن الإجارة جائزة والشرط لازم لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
فصل: وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لأن الإجارة كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر ويجوز من المؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجوز كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض والثاني يجوز لأن المعقود عليه هو المنافع والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين فلم يؤثر فيها قبض العين والثالث أنه يجوز إجارتها من المؤجر لأنها في قبضته ولا يجوز من غيره لأنها ليست في قبضته ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر لأنا بينا أن الإجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه فكذلك الإجارة.
فصل: وإن استأجر عيناً لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة تتميز بأن اكترى ظهراً ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة فحمل عليه أحد عشر قفيزاً لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لأنه استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها كما لو اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزاً فإن كانت الزيادة لا تتميز بأن اكترى أرضاً ليزرعها حنطة فزرعها دخناً فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب المزني وأبو إسحاق إلى أن المسألة على قولين: أحدهما يلزمه أجرة المثل للجميع لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضاً للزراعة فزرع أرضاً أخرى والثاني يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة لأنه استوفى ما استحقه وزيادة فأشبه إذا استأجر ظهراً إلى موضع فجاوزه وذهب القاضي أبو حامد المروروذي إلى أن المسألة على قول واحد وأن صاحب الأرض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة وبين أن يأخذ أجره المثل للجميع لأنه أخذ شبهاً ممن استأجر ظهراً إلى مكان فجاوزه وشبهاً ممن اكترى أرضاً للزرع فزرع غيرها فخير بين الحكمين.
فصل: وإن أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لأن المستحق معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عيناً فأراد أن يبدها بغيرها.
فصل: فإن استأجر أرضاً مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في تلك المدة فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز وللمؤجر أن يمنعه من زراعته فإن بادر(2/258)
المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة ويحتمل عندي أنه لا يجوز منعه من الزراعة لأنه يستحق الزراعة إلى أن ينقضي المدة فلا يجوز منعه قبل القضاء المدة ولأنه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله فلا يجوز منعه من زراعته.
فصل: وإن اكترى أرضاً مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق أو لزرع معين فإن كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع نظرت فإن كان بتفريط منه بأن زرع صنفاً لا يستحصد في تلك المدة أو صنفاً يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته فللمكري أن يأخذه بنقله لأنه لم يعقد إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكتري فإن لم يستحصد لشدة البرد أو قلة المطر ففيه وجهان: أحدهما يجبر على نقله لأنه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة فإذا لم يفعل لم يلزم المكري أن يستدرك له ما تركه والثاني لا يجبر وهو الصحيح لأنه تأخر من غير تفريط منه فإن قلنا مجبر على نقله وتراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لأن النقل لحق المكري وقد رضي بتركه وإن قلنا لا يجبر فعليه المسمى إلى القضاء المدة بحكم العقد وأجرة المثل لما زاد لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمستأجر في نقل زرعه لا يجوز الإضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه فإن كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت فإن شرط عليه القلع فالإجارة صحيحة لأنه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه لأنه دخل على هذا الشرط فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن شرط التبقية بعد المدة فالإجارة باطلة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فأبطله فإن لم يزرع كان لصاحب الأرض أن يمنعه من الزراعة لأنها زراعة فالعقد باطل فإن بادر وزرع لم يجبر على القلع لأنه زرع مأذون فيه وعليه أجرة المثل لأنه استوفى منفعة الأرض بإجارة فاسدة فإن أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يجبر على قلعه لأن العقد إلى مدة وقد انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق والثاني لا يجبر لأنه دخل معه على العمل بحال الزرع وأن العادة فيه الترك إلى الحصاد فلزمه الصبر عليه كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الإدراك ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق لأن هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في المدة فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجبر على قلعه وههنا هو زرع معنى علم المكري أنه لا يستحصد في تلك المدة فإذا قلنا يجبر فتراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن قلنا لا يجبر لزمه المسمى للمدة وأجرة المثل للزيادة لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمكتري في نقل زرعه لا يجوز الإضرار بالمكري في إبطال منفعة أرضه.(2/259)
فصل: وإن اكترى أرضاً للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها لأن العقد يقتضي الغرس في المدة فلم يملك بعدها فإن غرس في المدة وانقضت المدة نظرت فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه ولا يبطل العقد بهذا الشرط لأن الذي يقتضيه العقد هو الغراس في المدة وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك وإنما يمنع من التبقية بعد المدة والتبقية بعد المدة من مقتضى الإذن لا من مقتضى العقد لم يبطل العقد بإسقاطها فإذا قلع لم يلزمها تسوية الأرض لأنه لما شرط القلع رضي بما يحصل به من الحفر فإن أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة ولهذا لو اكترى داراً وترك فيها متاعاً وانقضت المدة لم يلزمه المستأجر على حسب العادة ولهذا لو اكترى داراً وترك فيها متاعاً وانقضت المدة لم يلزمه تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله والعادة في الغراس التبقية إلى أن يجف ويستقلع فإن اختار المكتري القلع نظرت فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففيه وجهان: أحدهما يلزمه تسوية الأرض لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه فلزمه تسوية الأرض والثاني لا يلزمه لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه فلزمه تسوية الأرض والثاني لا يلزمه لأنه قلع الغراس من أرض له عليه يد فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الأرض وجهاً واحداً لأنه قلع الغراس من أرض غيره بلا إذن ولا يد فإن اختار التبقية نظرت فإن أراد صاحب الأرض أن يدفع قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكتري على ذلك لأنه يزول عنه الضرر بدفع القيمة فإن أراد أن يقلعه نظرت فإن كان قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكتري على القلع لأنه لا ضرر عليه في القلع فإن كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع أجبر المكتري على القلع لأنه لا ضرر عليه في القلع فإن كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع فإن ضمن له أرض نقص أجبر عليه لأنه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الأرش فإن أراد أن يقلع ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكتري قال المزني يجبر لأنه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه وهذا خطأ لأن في قلع ذلك من غير ضمان الأرض إضراراً بالمكتري والضرر لا يزال بالضرر فإن اختار أن يقر الغراس في الأرض ويطالب المكتري بأجرة المثل أجبر المكتري لأنه كما لا يجوز الإضرار بالمكتري بالقلع من غير ضمان لا يجوز الإضرار بالمكري بإبطال منفعة الأرض عليه من غير أجرة فإن أراد المكتري أن يبيع الغراس من المكري جاز وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان وقد بيناهما في كتاب العارية فإن اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز لأن إطلاق العقد يقتضي التبقية فلا يبطل بشرطها والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه فيه إذا أطلق العقد.
فصل: فإن اكترى أرضاً بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع والإقرار على ما بيناه في الإجارة الصحيحة لأن الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من القلع والإقرار فكان حكمهما واحداً وبالله التوفيق.(2/260)
باب ما يوجب فسخ الإجارة
إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيباً جاز له أن يرد لأن الإجارة كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر وله أن يرد بما يحدث في يده من العيب لأن المستاجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع فإذا جاز رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع جاز رد المستأجر بما يحدث من العيب في يد المستأجر.
فصل: والعيب الذي يرد به ما تنقص به المنفعة كتعثر الظهر في المشي والعرج الذي يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر للخدمة وانهدام الحائط في الدار وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذي يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التي تنقص بها المنفعة فأما إذا اكترى ظهراً فوجده خشين المشي لم يرد لأن ذلك لا تنقص به المنفعة وإن اكترى ظهراً للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال لم يجز له الرد وإن اكترى حماماً فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد لأن المعقود عليه باق وإنما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد كما لو اشترى ظهراً ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال وإن اكترى أرضاً للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل جراد لم يجز له الرد لأن الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الأرض فلم يجز له الرد وإن اكترى داراً فتشعثت فبادر المكري إلى إصلاحها لم يكن للمستأجر ردها لأنه لا يلحقه الضرر فإن لم يبادر ثبت له الفسخ لأنه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة فإن رضي سكناها ولم يطالب بالإصلاح فهل يلزمه جميع الأجرة أم لا فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه جميع الأجرة لأنه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة فلم يلزمه جميع الأجرة كما لو اكترى داراً سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت والثاني يلزمه جميع الأجرة لأنه استوفى جميع المعقود عليه ناقصاً بالعيب فلزمه جميع البدل كما لو اشترى عبداً فتلفت يده في يد البائع ورضي به.
فصل: ومتى رد المستأجر العين بالعيب فإن كان العقد على عينها انفسخ العقد لأنه عقد على معين فانفسخ برده كبيع العين وإن كان العقد على موصوف في الذمة لم(2/261)
ينفسخ العقد برد العين بل يطالب ببدله لأن العقد على ما في الذمة فإن رد العين رجع إلى ما في الذمة كما لو وجد بالمسلم فيه عيباً فرده.
فصل: وإن استأجر عبداً فمات في يده فإن كان العقد على موصوف في الذمة طالب ببدله كما ذكرناه في الرد بالعيب وإن كان العقد على عينه فإن لم يمض من المدة ماله أجرة انفسخ العقد وقال أبو ثور من أصحابنا لا ينفسخ بل يلزم المستأجر الأجرة لأنه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد كما لو هلك المبيع بعد التسليم فلم ينفسخ العقد والمذهب الأول لأن المعقود عليه هو المنافع وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض وإن مضى من المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقي بتلف المعقود عليه وفيما مضى طريقان: أحدهما لا ينفسخ فيه العقد قولاً واحداً والثاني أنه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض المبيع قبل القبض هل هو كالهلاك المقارن للعقد أم لا لأن المنافع في الإجارة كالمبيع قبل القبض وفي المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الإجارة.
فصل: وإن اكترى داراً فانهدمت فقد قال في الإجارة ينفسخ العقد وقال في المزارعة إذا اكترى أرضاً للزراعة فانقطع ماؤها إن المكتري بالخيار بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ واختلف أصحابنا فيهما على طريقين فمنهم من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى فخرجهما على قولين وهو الصحيح: أحدهما أن العقد ينفسخ فيهما لأن المنفعة المقصودة هي السكنى والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد كما لو اكترى عبداً للخدمة فمات والثاني لا ينفسخ لأن العين باقية يمكن الانتفاع بها وإنما نقصت منفعتها فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ العقد وإن انقطع الماء من الأرض لم ينفسخ لأن الأرض باقية مع انقطاع الماء والدار غير باقية مع الانهدام.
فصل: وإن أكرى نفسه فهرب أو أكرى عيناً فهرب بها نظرت فإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو أسلم إليه في شيء فهرب فإنه يبتاع عليه المسلم فيه وإن لم يكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر الخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر لأنه تأخر حقه فيثبت له الخيار كما لو أسلم في شيء فتعذر وإن كانت الإجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر لأنه تأخر حقه فثبت له الخيار كما لو ابتاع عبداً فأبق قبل القبض فإن لم يفسخ نظرت فإن كانت الإجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوماً بيوم لأن المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه وإن كانت على عمل معين لم ينفسخ لأنه يمكن استيفاؤه إذا وجده.(2/262)
فصل: وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر، فإن كان العقد على موصوف في الذمة طولب المؤجر بإقامة عين مقامها على ما ذكرناه في هرب المكري وإن كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد لأنه تأخر حقه فثبت له الفسخ كما لو ابتاع عبداً فغضب فإن لم يفسخ فإن كانت الإجارة على عمل لم تنفسخ لأنه يمكن استيفاؤها إذا وجده وإن كانت على مدة فانقضت ففيه قولان: أحدهما ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل والثاني لا ينفسخ بل يخير المستأجر بين أن يفسخ ويرجع على المؤجر بالمسمى ثم يرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل وبين أن يقر العقد ويرجع على الغاصب بأجرة المثل لأن المنافع تلفت في يد الغاصب فصار كالمبيع إذا أتلفه الأجنبي وفي المبيع قولان إذا أتلفه الأجنبي فكذلك ههنا.
فصل: وإن مات الصبي الذي عقد الإجارة على إرضاعه فالمنصوص أنه ينفسخ العقد لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه لا ينفسخ لأن المنفعة باقية وإنما هلك المستوفي فلم ينفسخ العقد كما لو استأجر داراً فمات فعلى هذا إن تراضيا على إرضاع الصبي آخر جاز وإن تشاحا فسخ العقد لأنه تعذر إمضاء العقد ففسخ.
فصل: وإن استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً فسكن الوجع أو ليكحل عينه فبرئت أو ليقتص له فعفا عن القصاص انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ كما لو تعذر بالموت ولا ينفسخ على قول من خرج القول الآخر.
فصل: وإن مات الأجير في الحج قبل الإحرام نظرت فإن كان العقد على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج فإن لم يمكن ثبت للمستأجر الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم وإن كان حجه بنفسه انفسخ العقد لأنه تلف المعقود عليه قبل القبض فإن مات بعدما أتى بجميع الأركان وقبل المبيت والرمي سقط الفرض لأنه أتى بالأركان ويجب في تركته الدم لما بقي كما يجب ذلك في حج نفسه وإن مات بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالأركان فهل يجوز أن يبني غيره على عمله؟ فيه قولان: أحدهما قال في القديم يجوز لأنه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه كسائر الأعمال وقال في الجديد لا يجوز وهو الصحيح لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة فإن قلنا لا يجوز البناء كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه بطلت لأنه فات المعقود عليه(2/263)
ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج وإن كانت الإجارة على حج في الذمة لم تبطل لأن المعقود عليه لم يفت بموته فإن كان وقت الموقوف باقياً استؤجر من تركته من يحج وإن فات الموقوف فللمستأجر أن يفسخ لأنه تأخر حقه فثبت له الفسخ وإن قلنا يجوز البناء على فعل الأجير فإن كانت الإجارة على فعل الأجير بنفسه بطلت لأن حجه فات بموته فإن كان وقت الوقوف باقياً أقام المستأجر من يحرم بالحج ويبني على عمل الأجير وإن كان بعد فوات وقت الوقوف أقام من يحرم بالحج ويتم وقال أبو إسحاق لا يجوز للباقي أن يحرم بالحج لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد بل يحرم بالعمرة ويتم والصحيح هو الأول لأنه لا يجوز أن يطوف في العمرة ويقع على الحج وقوله إن الإحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج لا يصح لأن هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج وإن كانت الإجارة على حج في الذمة استؤجر من تركته الأجير من يبني على إحرامه على ما ذكرناه.
فصل: ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقي فما قابل المستوفي استقر وما قابل الباقي سقط كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقي فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة وإن كان العقد على الحج فمات الأجير أو أحصر نظرت فإن كان بعد قطع المسافة وقبل الإحرام ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يستحق شيئاً من الأجرة بناء على قوله في الأم أن الأجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح لأن الأجرة في مقابلة الحج وابتداء الحج من الإحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلى الحج وليس بحج فلم يستحق في مقابلته أجرة كما لو استأجر رجلاً ليخبز له فأحضر الآلة وأوقد النار ومات قبل أن يخبز والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري وأبي بكر الصير في أنه يستحق من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة بناء على قوله في الإملاء إن الأجرة تقابل قطع المسافة والعمل لأن الحج لا يتأدى إلا بهما فسقطت الأجرة عليهما وإن كان بعد الفراغ من الأركان وقبل الرمي والمبيت ففيه طريقان: أحدهما يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك قولاً واحداً لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يلزمه لما ذكرناه والثاني لا يلزمه لأن ما دخل على الحج من النقص بترك الرمي والمبيت جبره بالدم فصار كما لو لم يتركه وإن كان بعد الإحرام وقبل أن يأتي بباقي الأركان ففيه وجهان: أحدهما لا يستحق شيئاً كما لو قال من رد عبدي(2/264)
الآبق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب والثاني أنه يستحق بقدر ما عمله وهو الصحيح لأنه عمل بعض ما استؤجر عليه فأشبه إذا استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى بعضها ثم مات فإن قلنا إنه يستحق بعض الأجرة فهل تسقط الأجرة على العمل والمسافة أو على العمل دون المسافة على ما ذكرناه في القولين.
فصل: وإن أجر عبداً ثم أعتقه صح العتق لأنه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو زوج أمته ثم أعتقها ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ النكاح وهل يرجع العبد على مولاه بالأجرة؟ فيه قولان: قال في الجديد لا يرجع وهو الصحيح لأنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق كما لو زوج أمته ثم أعتقها وقال في القديم يرجع لأنه فوت بالإجارة ما ملكه من منفعته بالعتق فوجب عليه البدل فإن قلنا يرجع بالأجرة كانت نفقته على نفسه لأنه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه كما لو أجر نفسه بعد العتق وإن قلنا لا يرجع بالأجرة ففي نفقته وجهان: أحدهما أنها على المولى لأنه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك فكانت نفقته عليه والثاني أنها في بيت المال لأنه لا يمكن إيجابها على المولى لأنه زاد ملكه عنه ولا على العبد لأنه لا يقدر عليها في مدة الإجارة فكانت في بيت المال.
فصل: وإن أجر عيناً ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان: أحدهما أن البيع باطل لأن يد المستأجر تحول دون فلم يصح البيع كبيع المغصوب من غير الغاصب والمرهون من غير المرتهن والثاني يصح لأنه عقد على المنفعة فلم يمنع صحة البيع كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ النكاح في بيع الأمة المزوجة وإن باعها من المستأجر صح البيع قولاً واحداً لأنه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه كما لو باع المغصوب من الغاصب والمرهون من المرتهن ولا تنفسخ الإجارة بل يستوفي المستأجر المنفعة بالإجارة لأن الملك لا ينافي الإجارة والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من المستأجر فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة انفسخت الإجارة ورجع المشتري بالأجرة لما بقي على البائع.
فصل: فإن أجر عيناً من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد لأنه عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة العقود عليه كالبيع فإن أجر وقفاً عليه ثم مات ففيه وجهان: أحدهما لا يبطل لأنه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجرة المدة الباقية لأن المنافع في المدة الباقية حق له فاستحق أجرتها والثاني تبطل لأن المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ(2/265)
عقده عليها من غير إذن ولا ولاية ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات فإن الوارث يملك من جهة الموروث فلا يملك ما خرج من ملكه بالإجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف من جهة الواقف فلم ينفذ عقد الأول عليه وإن أجر صبياً في حجره أو أجر ماله ثم بلغ ففيه وجهان: أحدهما لا يبطل العقد لأنه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ كما لو باع داره والثاني يبطل لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي إلى هذا الوقت والصحيح عندي في المسائل كلها أن الإجارة لا تبطل وبالله التوفيق.(2/266)
باب تضمين المستأجر والأجير
إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان لأنه عين قبضها ليستوفي منها ما ملكه فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج والنخلة التي اشترى ثمرتها وإن تلفت بفعله نظرت فإن كان بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لأنه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه كما هلك تحت الحمل وإن تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان لأنه جناية على مال الغير فلزمه ضمانه.
فصل: وإن اكترى ظهراً إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت فإن لم يكن معه صاحبه لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به المكان إلى أن تلف لأنه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب وإن كان صاحبه معه نظرت فإن هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن لأنه ضمنه باليد فبرئ بالرد كالمغصوب إذا رده إلى مالكه وإن تلف في حال السير والركوب ضمن لأنه هلك في حال العدوان وفي قدر الضمان قولان: أحدهما نصف قيمته لأنه تلف من مضمون وغير مضمون فكان الضمان بينهما نصفين كما لو مات في جراحته وجراحة مالكه والثاني أنه تقسط القيمة على المسافتين فما قابل مسافة الإجارة سقط وما قابل الزيادة يجب لأنه يمكن تقسيطه على قدرهما فقسط بناء على القولين في الجلاد إذا ضرب رجلاً في القذف إحدى وثمانين فمات وإن تعادل اثنان ظهراً استأجراه وارتدف معهما الثالث من غير إذن فتلف الظهر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب على المرتدف نصف القيمة لأنه هلك من مضمون وغير مضمون والثاني يجب عليه الثلث لأن الرجال لا يوزنون فقسط الضمان على عددهم والثالث أنه يقسط على أوزانهم فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن لأنه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه.
فصل: وإن استأجر عيناً واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت فإن كان حبسها العذر لم يلزمه الضمان لأنه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة وإن كان(2/266)
لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة قبل الطلب وإن قلنا يجب ردها ضمن الوديعة بعد الطلب.
فصل: وإن تلفت العين التي استؤجر على العمل فيها نظرت فإن كان التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف يجوز الوقود أو ألزقه بل وقته أو تركه في النار حتى احترق ضمنه لأنه هلك بعدوان فلزمه الضمان وإن استؤجر على تأديب غلام فضربه فمات فضمنه لأنه يمكن تأديبه بغير الضرب فإذا عدل إلى الضرب كان ذلك تفريطاً منه فلزمه الضمان وإن كان التلف بغير تفريط نظرت فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له أو كان العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر أو اكتراه ليحمل له شيئاً وهو معه لم يضمن لأن يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية وإن كان العمل في يد الأجير من غير حضور المستأجر نظرت فإن كان الأجير مشركاً وهو الذي يعمل له ولغيره كالقصار الذي يقصر لكل أحد والملاح الذي يحمل لكل أحد ففيه قولان: أحدهما يجب عليه الضمان لما روى الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعي فضمنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن خلاس بن عمرو أن علياً رضي الله عنه كان يضمن الأجير وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس إلا ذلك ولأنه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعين والثاني لا ضمان عليه وهو قول المزني وهو الصحيح قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الأجير ولكنه لا يفتى به لفساد الناس والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه كالمضارب وإن كان الأجير منفرداً وهو الذي يعمل له ولا يعمل لغيره فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو كالأجير المشترك وهو المنصوص فإن الشافعي رحمه الله قال: والأجراء كلهم سواء فيكون على قولين لأنه منفرد باليد فأشبه الأجير المشترك ومنهم من قال لا يجب عليه الضمان قولاً واحداً لأنه منفرد بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدي إلى أن تلف لأنه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب وإن قلنا إنه ضامن لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كالغاصب ومن أصحابنا من قال يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير وليس بشيء.
فصل: وإن عمل الأجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت؛ فإن كان العمل في(2/267)
ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الأجرة لأنه تحت يده فكل ما عمل شيئاً صار مسلماً له وإن كان في يد الأجير فإن قلنا إنه أمين لم يستحق الأجرة لأنه لم يسم العمل وإن قلنا إنه ضامن استحق الأجرة لأنه يقوم عليه معمولاً فيصير بالتضمين مسلماً للعمل فاستحق الأجرة.
فصل: وإن دفع ثوباً إلى خياط وقال إن كان يكفيني لقميص فاقطعه فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان لأنه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط فضمنه وإن قال أيكفيني للقميص فقال نعم فقال: إقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن لأنه قطعه بإذن مطلق.
فصل: واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامي هل هو ثمن الماء أو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا أتلفت وله عوض السطل إذا تلف ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب فعلى هذا لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لأنه مستأجر وهل يضمن الحمامي الثياب؟ فيه قولان لأنه أجير مشترك.
فصل: وإن استأجر رجلاً للحج فتطيب في إحرامه أو لبس وجبت الفدية على الأجير لأنه جناية لم يتناولها الإذن فوجب ضمانها كما لو استأجر ليشتري له ثوباً فاشتراه ثم خرقه وإن أفسد الحج صار الإحرام عن نفسه لأن الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما ولو وكله في شراء عبد فاشترى أمة فإن كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ لأنه فات المعقود عليه وإن كان على حج في الذمة ثبت له الخيار لأنه تأخر حقه فإن استأجر للحج من ميقات فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شيء لأن المواقيت المنصوص عليها متساوية في الحكم وإن كان بعضها أبعد من بعض فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل نقص يقتضي الجبران وإن أحرم دون الميقات لزمه دم لأنه ترك الإحرام من موضع يلزمه الإحرام منه فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه فإن استأجر ليحرم من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم لأنه وجب عليه ذلك بعقد الإجارة فصار كما لو لزمه لحجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه وهل يلزمه أن يرد الأجرة بقسطه قال في القديم يهرق دماً وحجة تام وقال في الأم يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك فمن أصحابنا من قال يلزمه قولاً واحداً والذي قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب ومنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح: أحدهما لا يلزمه لأن النص الذي لحق الإحرام جبره بالدم فصار كما لو لم يترك والثاني أنه يلزمه لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه(2/268)
رد بدله كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة فعلى هذا يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذي أحرم منه فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات وهل يرد من الأجرة بقدر ما ترك على ما ذكرناه من الطرفين فإن قلنا يلزمه ففيه قولان: قال في الأم يرد بقدر ما بين حجه من الميقات وحجه من مكة لأن الحج من الإحرام وما قبله ليس من الحج وقال في الإملاء يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة لأنه جعل الأجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه ويخالف المسألة قبلها لأن هناك سافر للمستاجر وإنما ترك الميقات وإن استأجره للحج فحج عنه وترك الرمي أو الميت لزمه الدم كما يلزمه لحجه وهل يرد من الأجرة بقسطه على ما ذكرناه فيمن ترك الإحرام من الميقات.(2/269)
باب اختلاف المتكاريين
إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الأجرة ولم تكن بينة فتحالفا لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الإجارة كالحكم في البيع لأن الإجارة كالبيع فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع فإن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان فإن اختلفا في الرد فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر إنه لم يرد عليه لأن المستأجر قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وإن اختلف الأجير المشترك والمستأجر في رد العين فادعى الأجير أنه ردها وأنكر المستأجر فإن قلنا إن الأجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد لأنه ضامن فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب وإن قلنا إنه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان كالوكيل بجعل وقد مضى توجيههما في الوكالة وإن هلكت العين فادعى الأجير أنها هلكت بعد العمل وأنه يستحق الأجرة وأنكر المستأجر فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم العمل وعدم البدل.
فصل: وإن دفع ثوباً إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفا فقال رب الثوب أمرتك أن تقطعه قميصاً فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص وقال الخياط بل أمرتني أن أقطعه قباء فعليك الأجرة فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف العراقيين قول ابن أبي ليلى إن القول قول الخياط وقول أبي حنيفة رحمة الله عليه إن القول قول رب الثوب ثم قال(2/269)
وهذا أشبه وكلاهما مدخول وقال في كتاب الأجير والمستأجر إذا دفع إليه ثوباً ليصبغه أحمر فصبغه أخضر فقال أمرتك أن تصبغه أحمر فقال الصباغ بل أمرتني أن أصبغه أخضر إنهما يتحالفان واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوال: أحدها إن القول قول الخياط لأنه مأذون له في القطع فكان القول قوله في صفته والثاني أن القول قول رب الثوب كما لو اختلفا في أصل الإذن والثالث أنهما يتحالفان وهو الصحيح لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لأن صاحب الثوب يدعي الأرض والخياط ينكره والخياط يدعي الأجرة وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن ومن أصحابنا من قال المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق وأبي علي بن أبي هريرة والقاضي أبي حامد ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنهما يتحالفان وهو قول أبي حامد الإسفرايني لأن الشافعي رحمه الله ذكر القولين الأولين ثم قال: وكلاهما مدخول فإن قلنا إن القول قول الخياط فحلف لم يلزمه أرش النقص لأنه ثبت بيمينه أنه مأذون فيه وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لايستحق الأجر لأن قوله قبل في سقوط الغرم لأنه منكر فأما في الأجرة فإنه مدع لم يقبل قوله والثاني وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن له الأجرة لأنا قبلنا قوله في الإذن فعلى هذا هل يجب المسمى أو أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما يجب المسمى لأنا قبلنا قوله أنه أذن له فوجب ما اقتضاه والثاني أنه يجب له أجرة المثل لأنا إذا قبلنا قوله لم نأمن أن يدعي ألفاً وأجرة مثله درهم وإن قلنا أن القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الأجرة لأنه فعل ما لم يؤذن فيه ويلزمه أرش القطع لأنه قطع ما لم يكن له قطعه وفي قدر الأرش قولان: أحدهما يلزمه ما بين قيمته مقطوعاً وصحيحاً لأنا حكمنا أنه لم يؤذن له في القطع فلزمه أرش القطع والثاني يلزمه ما بين قيمته مقطوعاً قميصاً وبين قيمته مقطوعاً قباء لأنه قد أذن له في القطع وإنما حصلت المخالفة في الزيادة فلزمه أرش الزيادة فإن لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شيء وإذا قلنا إنهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الأجرة لأن التحالف يوجب رفع العقد والخياطة من غير عقد لا توجب الأجرة وهل يجب أرش القطع؟ ففيه قولان: أحدهما يجب لأن كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه فبرئا كالمتبايعين والثاني أنه يجب أرش النقص لأنا حكمنا بارتفاع العقد بالتحالف(2/270)
فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه أرشه ومتى قلنا إنه يستحق الأجرة لم يرجع بالخيوط لأنه أخذ بدلها فإن قلنا لا يستحق الأجرة فله أن يأخذ خيوطه لأنه عين ماله فكان له أن يأخذه.
فصل: إذا استأجر صانعاً على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له أن يحبس العين على الأجرة فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه لم يرهن العين عنده فلم يجز له احتباسها كما لو استأجره ليحمل له متاعاً فحمله ثم أراد أن يحبس المتاع على الأجرة والثاني يجوز لأن عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض كالمبيع في يد البائع.
فصل: وإن دفع ثوباً إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف أصحابنا فيه على أربعة أوجه: أحدها أنه تلزمه الأجرة وهو قول المزني رحمه الله لأنه استهلك عمله فلزمه أجرته والثاني أنه إن قال له خطه لزمه وإن بدأ الرجل فقال أعطني لأخيطه لم تلزمه وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا أمره فقد ألزمه بالأمر والعمل لا يلزم من غير أجرة فلزمته وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الأجرة فلم تلزم والثالث أنه إذا كان الصانع معروفاً بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه وإذا لم يكن معروفاً بذلك لم يلزمه وهو قول أبي العباس لأنه إذا كان معروفاً بأخذ الأجرة صار العرف في حق الشرط وإن لم يكن معروفاً لم يوجد ما يقتضي الأجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف والرابع وهو المذهب أنه لا يلزمه بحال لأنه بذل مال من غير عوض فلم يجب له العوض كما لو بذل طعامه لمن أكله وإن نزل رجل في سفينة ملاح بغير إذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الأجرة لأنه استهلك منفعة موضعه من السفينة من غير إذن فلزمه أجرتها وإن نزل فيها عن إذنه ولم يذكر الأجرة فعلى ما ذكرناه من الوجوه الأربعة في الخياطة وبالله التوفيق.(2/271)
باب الجعالة
يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملاً من رد ضالة ورد آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الأعمال والدليل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وروى أبو سعيد الخدري أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل فيكم راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلاً؟(2/271)
فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فضحك وقال: "ما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي فيها بسهم1" ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز الإجارة والمضاربة.
فصل: ويجوز أن يعقد لعامل معين للآية ولأنه قد يكون له عمل ولا يعرف من يعمله فجاز من غير تعيين وروى المزني في المختصر عن الشافعي رحمه الله في المنثور أنه قال: إذا قال أول من يحج عني فله مائة فحج عنه رجل أنه يستحق المائة وقال المزني ينبغي أن يستحق أجرة المثل لأنه إجارة فلم تصح من غير تعيين وهذا خطأ لأن ذلك جعالة وقد بينا أن الجعالة لا تجوز من غير تعيين العامل.
فصل: وتجوز على عمل مجهول للآية ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز مع الجهالة كالمضاربة ولا تجوز إلا بعوض معلوم لأنه عقد معاوضة فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح فإن شرط له جعلاً مجهولاً استحق أجرة المثل لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده كالبيع والنكاح.
فصل: ولا يستحق العامل الجعل إلا بإذن صاحب المال فأما إذا عمل له عملاً من غير إذنه بأن وجد له آبقاً فجاء به أو ضالة فردها إليه لم يستحق الجعل لأنه بذل منفعته من غير عوض فلم يستحق العوض فإن عمل بإذنه ولم يشرط له الجعل فعلى الأوجه الأربعة التي ذكرناها في الإجارة فإن أذن له وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل لأنه استهلك منفعته بعوض فاستحق العوض كالأجير فإن نادى فقال: من رد عبدي فله دينار فرده من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل لأنه متطوع بالرد من غير بدل فإن أبق عبد لرجل فنادى غيره أن من رد عبد فلان فله دينار فرده رجل وجب الدينار على المنادي لأنه ضمن العوض فلزمه فإن قال في النداء قال فلان من رد عبدي فله دينار فرده رجل لم يلزم المنادي لأنه لم يضمن وإنما حكى قول غيره.
فصل: ولا يستحق العامل الجعل إلا بالفراغ من العمل فإن شرط له جعلاً على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل أن يسلمه لم يستحق شيئاً من الجعل لأن المقصود هو الرد والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شيء وإن قال من رد عبدي الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من واسط استحق نصف الدينار لأنه رده من
__________
1 رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 9.مسلم في كتاب السلام حديث 65،66. أبو داود في كتاب البيوع باب 37. الترمذي في كتاب الطب باب 20. أحمد في مسنده "3/2، 10".(2/272)
نصف الطريق وإن رده من أبعد من البصرة لم يستحق أكثر من الدينار لأنه لو لم يضمن له لما زاد شيئاً وإن أبق له عبدان فقال: من ردهما فله دينار فرد رجل أحدهما استحق نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل وإن قال من رد عبدي فله دينار فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار لأنهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل وإن قال لرجل إن رددت عبدي فلك دينار وقال الآخر إن رددته فلك ديناران فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له وإن جعل لأحدهما ديناراً وللآخر ثوباً مجهولاً فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار وصاحب الثوب نصف أجرة المثل لأن الدينار جعل صحيح فاستحق نصفه والثوب جعل باطل فاستحق نصف أجرة المثل وإن قال لرجل إن رددت عبدي فلك دينار فشاركه غيره في رده فإن قال شاركته معاونة له كان الدينار للعامل لأن العمل كله له فكان الجعل كله له وإن قال شاركته لأشاركه في الجعل كان للعامل نصف الجعل لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للشريك لأنه لم يشرط له شيئاً.
فصل: ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لأنه عقد على عمل مجهول بعوض فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة فإن فسخ العامل لم يستحق شيئاً لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل وقد تركه فسقط حقه وإن فسخ رب المال فإن كان قبل العمل لم يلزمه شيء لأنه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العمل فلم يلزمه شيء كما لو فسخ المضاربة قبل العمل وإن كان بعد ما شرع في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل لأنه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل.
فصل: وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل فإن قال من رد عبدي فله دينار ثم قال من رده فله عشرة فرده رجل استحق عشرة وإن قال من رد عبدي فله عشرة ثم قال من رده فله دينار استحق الدينار لأنه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجاز الزيادة والنقصان فيه قبل العمل كالربح في المضاربة.
فصل: وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل شرطت لي الجعل وأنكر رب المال فالقول قول رب المال لأن الأصل عدم الشرط وعدم الضمان وإن اختلفا في عين العبد فقال السيد شرطت الجعل في رد غيره وقال العامل بل شرطت الجعل في رده فالقول قول المالك لأن العامل يدعي عليه شرط الجعل في عقد الأصل عدمه فكان القول فيه قوله وإن اختلفا في قدر الجعل تحالفا كما قلنا في البيع فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين وإن اختلف العامل والعبد فقال العامل أنا رددته وقال العبد جئت بنفسي وصدقه المولى فالقول قول المولى مع يمينه لأن الأصل عدم الرد وعدم وجوب الجعل وبالله التوفيق.(2/273)
كتاب السبق والرمي
مدخل
...
كتاب السبق والرمي
تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل والمضمرة منها من الحفيا إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ناقة يقال لها العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القدرة شيء إلا وضعه1" وروى سلمة بن الأكوع قال: أتي علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نترامى فقال: "حسن هذا لعباً ارموا يا بني اسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا وأنا مع ابن الأدرع" فكف القوم أيديهم وقسيهم وقال غلب يا رسول الله من كنت معه قال: "ارموا وأنا معكم جميعاً" فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة هي الرمي قالها ثلاثاً2" وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 59. أبو داود في كتاب الأدب باب 8. النسائي في كتاب الخيل باب 14، 16.
2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 167. أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/157".(2/274)
من أن تركبوا1" و "ليس من اللهو إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله وتأديبه فرسه رميه بقوسه2" و "من علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها وإن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاث الجنة: صانعه المحتسب في الخير والرامي ومنبله3".
فصل: ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سأل عثمان رضي الله عنه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه والرهن لا يكون إلا على عوض ولأن في بذل العوض فيه تحريضاً على التعلم والاستعداد للجهاد.
فصل: ويجوز أن يكون العوض منهما ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لأنه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معيناً أو موصوفاً في الذمة لأنه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع ويجوز على عوض حال ومؤجل لأنه عوض يجوز أن يكون عيناً وديناً فجاز أن يكون حالاً ومؤجلاً كالثمن في البيع.
فصل: فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة وإن كان منهما ففيه قولان: أحدهما أنه يلزم كالإجارة وهو الصحيح لأنه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازماً كالإجارة والثاني أنه لا يلزم كالجعالة لأنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة فإن قلنا إنه كالإجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الإجارة وحكمهما في خيار
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. النسائي في كتاب الخيل باب 8. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14.
2 رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 11. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14. أحمد في مسنده "4/144، 148".
3 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. الترمذي في كتاب الجهاد باب 11 النسائي في كتاب الجهاد باب 26. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده "4/144، 146، 148".(2/275)
المجلس وخيار الشرط حكم الإجارة ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه كما لا يجوز ذلك في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكماً في الرهن والضمان حكم الجعالة وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص لأنه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه وإن كانا غير متكافئين نظرت فإن كان الذي له الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة جاز لأنه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه فملك الفسخ والزيادة فيه وإن كان الذي عليه الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان: أحدهما له ذلك لأنه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه والثاني ليس له لأنا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحداً لأنه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.
فصل: وتجوز المسابقة على الخيل والإبل بعوض لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر1" ولأن الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والإبل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبي هريرة ولأنه ذو حافر أهلي فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل والثاني لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض فمنهم من قال لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر ومنهم من قال تجوز لحديث أبي هريرة ولأنه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الإبل واختلفوا في المسابقة على الحمام فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض ومنهم من قال تجوز لأنه يستعان به على الحرب في حمل الأخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات فمنهم من قال تجوز وهو قول أبي العباس لأنها في قتال
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 60. النرمذي في كتاب الجهاد باب 22. النسائي في كتاب الخيل باب 14. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44.(2/276)
الماء كالخيل في قتال الأرض ومنهم من قال لا تجوز لأن سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الإقدام بعوض فمنهم من قال تجوز لأن الإقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان ومنهم من قال لا تجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأن المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد والمشي بالأقدام لا يحتاج إلى التعلم واختلفوا في السراع فمنهم من قال يجوز بعوض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة على شاء فصرعه ثم عاد فصرعه فأسلم ورد عليه الغنم ومنهم من قال لا يجوز وهو المنصوص لحديث أبي هريرة ولأنه ليس من آلات القتال وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم ولأنه لما أسلم رد عليه ما أخذه منه.
فصل: وتجوز المسابقة بعوض على الرمي بالنشاب والنبل وكل ما له نصل يرمي به كالحراب والرانات لحديث أبي هريرة ولأنه لا يحتاج إلى تعلمه في الحر فجاز أخذ العوض عليه ويجوز على رمي الأحجار عن المقلاع لأنه سلاح يرمي به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان: أحدهما تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب والثاني لا يجوز لأن القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب والمسابقة بهذه الآلات محاربة لا مسابقة فلم تجز كالسبق على أن يرمي بعضهم بعضاً بالسهم.
فصل: وأما كرة الصولجان ومداحاة الأحجار ورفعها من الأرض والمشابكة والسباحة واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذي لا يستعان به على الحرب فلا تجوز المسابقة عليها بعوض لأنه لا يعد للحرب فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.
فصل: وإن كانت المسابقة على مركوبين فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال لا تجوز إلا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لأن تفاضل الجنسين معلوم ولأنه لا يجري البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر:(2/277)
إن المذرع لا تغنى خؤلته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين لأن العتيق في أول شوطه أحد وفي آخره ألين والهجين في أول شوطه أليه وفي آخره أحد فربما صارا عند الغاية متكافئين ومنهم من قال وهو قول أبي إسحاق إنه يعتبر التكافؤ بالتقارب في السبق فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز لأنه يجوز أن يكون لكل واحد منهما سابقاً والآخر مسبوقاً وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز لأنه يعلم أن أحدهما لا يجري في شوط الآخر قال الشاعر:
إن البراذين إذا أجريتها ... مع العتاق ساعة أعنيتها
فلا معنى للعقد عليه.
فصل: ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لأن القصد معرفة جوهرهما ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين
فصل: ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الإبتداء والإنتهاء لحديث ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ولأنهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن يسبق أحدهما الآخر إلى أن يعطبا ولا يجوز أن يكون إجراؤه إلا بتدبير الراكب لأنهما إذا جريا لأنفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية وإن تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له فقد قال أبو علي الطبري في الإفصاح يجوز ذلك عندي لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه وينفرد أحدهما بالقدر الذي شرطه فجاز كما يجوز في الرمي أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه ويفضل لأحدهما عدد قال أبو علي الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجهاً.(2/278)
فصل: وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إلا أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم فإن جعله للسابق بأن قال من سبق منكم فله عشرة جاز لأن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لأنه سبق وإن سبق اثنان أو ثلاثة وجاؤوا مكاناً واحداً اشتركوا في العشرة لأنهم اشتركوا في السبق فإن جاؤوا كلهم مكاناً واحداً لم يستحق واحد منهم لأنه لم يسبق منهم أحد وإن جعله بعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل الباقي جاز لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلي ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت فإن سوى بينهم بأن قال من جاء منكم إلى الغاية فله عشرة لم يصح لأن القصد من بذل العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية فإذا سوى بين الجميع علم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني خمسون وللتالي وهو الثالث أربعون وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون وللحظى وهو السادس خمسة عشر وللعاطف وهو السابع عشرة وللمرمل وهو الثامن ثمانية وللطيم وهو التاسع خمسة وللسكيت وهو العاشر درهم وللفكسل وهو الذي يجيء بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الأكثر والثاني لا يجوز لأن كل واحد منهم يعلم أنه لا يخلوا من شيء تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فإن جعل للأول عشرة وللثالث خمسة وللرابع أربعة ولم يجعل للثاني شيئاً ففيه وجهان: أحدهما يصح ويقوم الثالث مقام الثاني والرابع مقام الثالث لأن الثاني بخروجه من السبق يجعل كأن لم يكن والثاني أنه يبطل لأنه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.
فصل: فإن كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت فإن كان معهما محلل وهو الثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد وإن لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لما(2/279)
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار1" ولأن مع المحلل لا يكون قماراً لأن فيهم من يأخذ إذا سبق ولا يعطي إذا سبق وهو المحلل ومع عدم المحلل ليس فيهم إلا من يأخذ إذا سبق ويعطي إذا سبق وذلك قمار وإذا كان المحلل اثنان أو أكثر جاز لأن ذلك أبعد من القمار وإن كان المسابقة بين حزبين كان حكمهما في المحلل حكم الرجلين لأن القصد من دخول المحلل الخروج من القمار وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته واختلف أصحابنا في دخول المحلل فذهب أكثرهم إلى أن دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم وذهب أبو علي بن خيران إلى أن دخوله لتحليل السبق لنفسه وإن يأخذ إذا سبق ولا يأخذان إذا سبقا لأنا لو قلنا إنهما إذا سبقا أخذاً حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطي مرة وهذا قمار والمذهب الأول لأنا بينا أن بدخول المحلل خرجا من القمار لأن في القمار ليس فيهم إلا من يعطي مرة ويأخذ مرة وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطي فلم يكن قماراً فإن تسابقوا نظرت فإن انتهوا إلى الغاية معاً أحرز كل واحد منهما سبقه لأنه لم يسبقه أحد ولم يكن للمحلل شيء لأنه لم يسبق واحداً منهما وإن سبق المخرجان أحرز كل واحد منهما سبقه لأنهما تساويا في السبق ولا شيء للمحلل لأنه مسبوق وإن سبقهما المحلل أخذ سبقهما لأنه سبقهما وإن سبق أحد المخرجين وتأخر المحلل والمخرج الآخر أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه للسابق المخرج لأنه انفرد بالسبق وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لأنه لا يستحقه السابق المخرج على قوله ولا يستحقه المحلل لأنه لم يسبق وإن سبق المحلل وأحد المخرجين أحرز السابق سبق نفسه وفي سبق المسبوق وجهان: المذهب أنه بين المخرج السابق والمحلل وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل. وإن سبق أحد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الآخر ففيه وجهان: المذهب إن سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه وعلى مذهب ابن خيران للمحلل دون السابق وإن سبق
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 44. أحمد في مسنده "2/505".(2/280)
أحد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني ثم جاء المحلل ففيه وجهان: المذهب أن سبق المسبوق للسابق وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لأن المخرج السابق لا يستحقه والمحلل له يسبق فبقي على ملك صاحبه.
فصل: وإن كان المخرج للسبق أحدهما جاز من غير محلل لأن فيهم من يأخذ ولا يعطي وهو الذي لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما المحلل فإن تسابقا فسبق المخرج أحرز السبق وإن سبق الآخر أخذ سبقه وإن جاءا معاً أحرز المخرج السبق لأنه لم يسبقه الآخر.
فصل: ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس" فخرج علي كرم الله وجهه فدعا بسراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثاً هل مصلح للجام أو حام لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثاً ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما لأنه أعدل وأقطع للتنافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لأنها مزية لأحدهما على الآخر ولا يجلب وراءه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا" قال مالك الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشن ليستحث به السبق.
فصل: وأما ما يسبق به فينظر فيه فإن شرط في السبق أقداماً معلومة لم يستحق(2/281)
السبق بما دونها لأنه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت إن تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكتد فإن سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق وإن اختلفا في العنق اعتبر السبق بالكتد لأنه لا يختلف وإن سبق أطولهما عنقاً بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لأنه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجري.
فصل: وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأر ض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الآخر لم يحكم للسابق بالسبق لأنه لم يسبق بجودة الجري ولا تأخر المسبوق لسوء جريه.
فصل: وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد لأنه العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا هلك قبل القبض وإن مات الراكب فإن قلنا إنه كالجعالة بطل العقد بموته وإن قلنا إنه كالإجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه.
فصل: وإن كان العقد على الرمي لم يجز بأقل من نفسين لأن المقصود معرفة الحذق ولم يبين ذلك بأقل من اثنين فإن قال رجل لآخر ارم عشراً وناضل فيها خطأك بصوابك فإن كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز لأنه بذل العوض على أن يناضل نفسه وقد بينا أن ذلك لا يجوز وإن قال ارم عشراً فإن كان صوابك أكثر فلك دينار ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز والثاني لا يجوز لأنه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب والخطأ لا يستحق به بدل
فصل: ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما وفي دخول المحلل بينهما.
فصل: ولا يصح حتى يتعين المتراميان لأن المقصود معرفة حذفهما ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين فإن كان أحدهما كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالآخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل والثاني لا يجوز لأن أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمي والحذق فيه.
فصل: ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فإن عقد على جنسين بأن يرمي أحدهما بالنشاب والآخر بالحراب لم يجز لأنه لا يعلم فضل أحدهما على الآخر في واحد من(2/282)
الجنسين وإن عقد على نوعين من جنس بأن يرمي أحدهما بالنبل والآخر بالنشاب أو يرمي أحدهما على قوس عربي والآخر على قوس فارسي جاز لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان فيعرف به حذقهما فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين لأن الأغراض تختلف باختلاف النوعين فوجب بيانه وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الإجابة إليه لأن الأغراض تختلف باختلاف الأنواع فإن من الناس من يرمي بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الآخر وإن عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الأوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهراً ليركبه على أنه لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الإجارة.
فصل: ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذي يرمي به لأنه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبن الفضل ولم يظهر السبق.
فصل: ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم لأنه لا يبين الفضل إلا بذلك فإن شرط إصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شارط إصابة ثمانية من عشرة والثاني لا يصح لأن إصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.
فصل: ولا يجوز إلا أن يكون مدى الغرض معلوماً لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد فوجب العلم به فإن كان في الموضع غرض معلوم المدى فأطلق العقد جاز وحمل عليه كما يجوز أن يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وإن لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين فإن أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه ويجوز أن يكون مدى الغرض قدراً يصيب مثلهما في مثله في العادة ولا يجوز أن يكون قدراً لا يصيب مثلهما في مثله وفيما يصيب مثلهما في مثله نادراً وجهان: أحدهما يجوز لأنه قد يصيب مثلهما في مثله فإذا عقدا عليه بعثهما العقد على الاجتهاد في الإصابة والثاني لا يجوز لأن إصابتهما في مثله تندر فلا يحصل(2/283)
المقصود وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعاً وما لا يصاب بما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعاً وفيما بينهما وجهان: فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لأبعدهما رمياً ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يمتحن به قوة الساعد ويستعان به على قتال من بعد من العدو والثاني لا يجوز لأن الذي يقصد بالرمي هو الإصابة فأما الأبعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ العوض عليه.
فصل: ويجب أن يكون الغرض معلوماً في نفسه فيعلم طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الأرض لأن الإصابة تختلف باختلافه فإن كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد وإن لم يكن فيه غرض وجب بيانه والمستحب أن يكون الرمي بين غرضين لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة وعن عقبة بن عامر أنه كان يرمي بين غرضين بينهما أربعمائة وعن ابن عمر أنه كان يختفي بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمي بين الهدفين ولأن ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب.
فصل: ويجب أن يكون موضع الإصابة معلوماً وأن الرمي إلى الهدف وهو التراب الذي يجمع أو الحائط الذي يبني أو إلى الغرض وهو الذي ينصب في الهدف أو الشن الذي في الغرض أو الدارة التي في الشن أو الخاتم الذي في الدارة لأن الغرض يختلف باختلافها فإن أطلق العقد حمل على الغرض لأن العرف في الرمي إصابة الغرض فحمل العقد عليه ويجب أن تكون صفة الرمي معلومة من القرع وهو إصابة الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذي يثقبه ويثبت فيه أو المرق وهو الذي ينفذ منه أو الخرم وهو أن يقع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجاً منه لأن الخزق لا يبين إلا بذلك فإن أطلق العقد حمل على القرع لأنه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لأنهما يتساويان فيه وإن أصاب أحدهما تسعة قرعاً وأصاب الآخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لأنه استكمل العشرة بالخواسق.
فصل: واختلف أصحابنا في بيان حكم الإصابة إنه مبادرة أو محاطة أو حوابي فمنهم من قال يجب بيانه فإن أطلق العقد لم يصح لأن حكمها يختلف وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه ومنهم من قال يصح ويحمل على المبادرة لأن المتعارف في الرمي وهو المبادرة واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي فمنهم من قال يجب فإن أطلق(2/284)
العقد بطل وهو المنصوص لأن ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الآخر وساء رميه فلا يحصل مقصود العقد ومنهم من قال يصح لأن ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة فإذا قلنا إنه يصح في البادئ وجهان: أحدهما إن كان السبق من أحدهما قدم لأن له مزية بالسبق وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لحدهما على الآخر والثاني لا يبدأ أحدهما بالقرعة لأن أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق فإن كان الرمي بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الآخر من الغرض الآخر لأنه أعدل وأسهل فإن كانت البداية لأحدهما فبدأ الآخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمي بغير عقد فلم يعتد به وإن اختلفا في موضع الوقوف كان الأمر إلى من له البداية لأنه لما ثبت له السبق ثبتت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا وإن طلب أحدهما استقبال الشمس والآخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لأنه أوفق بالرمي.
فصل: ويجوز أن يرميا سهماً وخمساً خمساً وأن يرمي كل واحد منهما جميع الرشق فإن شرطا شيئاً من ذلك حملا عليه وإن أطلق العقد تراسلا سهماً سهماً لأن العرف على ما ذكرناه وإن رمى أحدهما أكثر مما لم يحسب له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ لأنه رمى من غير عقد فلم يعتد به.
فصل: ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الإصابة ولا في صفة الإصابة ولا في محل الإصابة ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقاً ولا أن يكون في يد أحدهما السهام أكثر مما في يد الآخر في حال الرمي ولا أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه لأن القصد أن يعرف حذقهما وذلك لا يعرف مع الاختلاف لأنه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمي فإن شرط شيئاً من ذلك بطل العقد لأنه في أحد القولين كالإجارة وفي الثاني كالجعالة والجميع يبطل بالشرط الفاسد وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما لا تجب وهو قول أبي إسحاق لأنه لا يحصل للمسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته والثاني تجب وهو الصحيح لأن كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والإجارة.
فصل: وإن شرط على السابق أن يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لأنه شرط(2/285)
ينافي مقتضى العقد فبطل وهو يبطل العقد المنصوص أنه يبطل لأنه تمليك مال شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف فإذا بطل الشرط بطل العقد كما لو باعه سلعة بألف على أن يتصدق بها وقال أبو إسحاق: يحتمل قولاً آخر لا يبطل كما قال فيمن أصدق امرأته ألفين على أن تعطي أباها ألفاً أن الشرط باطل ويصح الصداق فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق وهل يرجع السابق بأجرة المثل على الوجهين.
فصل: وإذا تناضلا لم يخل إما أن يكون الرمي مبادرة أو محاطة أو حوابي فإن كان مبادرة وهو أن يعقد على إصابة عدد من الرشق وأن من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمي كان ناضلاً فإن كان العقد على إصابة عشرة من ثلاثين نظرت فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين وأصاب الآخر تسعة من عشرين فالأول ناضل لأنه بادر إلى عدد الإصابة وإن أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمي الباقي لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها وإن أصاب الأول تسعة من عشرين وأصاب الآخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله لأنه لم يستوف واحد منهما عدد الإصابة فيرميان فإن رمى الأول سهماً وأصاب فقد فلج وسقط رمي الباقي وإن رمى الأول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فأصاب في جميعها فإن الناضل هو الثاني ويسقط رمي ما بقي من الرشق لأن الأول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين وإن أصاب الأول تسعة من تسعة عشر وأصاب الآخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهماً فأصاب فقد نضل ولا يرمي الثاني ما بقي من رشقه لأنه لا يستفيد به نضلاً ولا مساواة لأن الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمي لأنه ربما يصيب فيساويه.
فصل: وإن كان الرمي محاطة وهو أن يعقدا على إصابة عدد من الرشق وأن يتحاطا ما استويا فيه من عدد الإصابة ويفضل لأحدهما عدد الإصابة فيكون ناضلاً نظرت فإن كان العقد على إصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الآخر لأنه لم يفضل له عدد من الإصابة فيرميان ما تبقى من الرشق لأنه يرجو كل واحد منهما أن ينضل فإن فضل لأحدهما بعد تساويهما في الرمي وإسقاط ما استويا فيه عدد الإصابة لم يخل إما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده فإن كان بعد(2/286)
إكمال الرشق بأن رمى أحدهما عشرين وأصابها ورمى الآخر فأصاب خمسة عشر فالأول هو الناضل لأنه يفضل له بعد المحاطة فيما استويا فيه عدد الإصابة وإن كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الأقل صاحب الأكثر برمي باقي الرشق نظرت فإن لم يكن له فائدة مثل أن يرمي الأول خمسة عشر وأصابها ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة لم يكن له مطالبته لأن أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقي له وهو خمسة ويبقى للأول خمسة فينضله بها وإن كان له فيه فائدة بأن يرجو أن ينضل بأن يرمي أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمي الآخر عشرة فيصيب واحداً ثم يرمي صاحب الستة فيخطئ فيما بقي له من الرشق ويرمي صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقي له فينضله بخمسة أو يساويه بأن يرمي أحدهما خمسة عشر فيصيب منها عشرة ويرمي الآخر خمسة عشر فيصيب منها خمسة ثم يرمي صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب الخمسة فيصيب فيساويه أو يقلل إصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمي صاحب الأحد عشر ما بقي له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمي صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له سبعة ويبقى لصاحبه أربعة فهو لأقلهما إصابة مطالبة الآخر بإكمال الرشق فيه وجهان: أحدهما ليس له مطالبته لأنه بدر إلى الإصابة مع تساويهما في الرمي بعد المحاطة فحكم له بالسبق والثاني له مطالبته لأن مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق وقد بقي من الرشق بعضه.
فصل: وإن كان على العقد على جرابي وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الآخر فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق فإن رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعاً بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له فإن رمى الآخر فأصاب موضعاً بينه وبين الغرض قدر إصبع حسب له وأسقط ما رماه الأول فإن عاد الأول رمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه وإن أصاب أحدهما الشن وأصاب الآخر العظم الذي في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله من الرماة من قال إنه تسقط الإصابة من العظم ما كان أبعد منه قال الشافعي رحمه الله: وعندي أهما سواء لأن الغرض كله موضع الإصابة فإن استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذي اشترطاه فقد تكافآ وإن فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ بالسبق وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا قال: والقياس أن يتقايسا لأن أحدهما أقرب إلى الغرض من الآخر فأسقط الأقرب الأبعد كما لو أصاب أسفل الغرض أو جنبه.(2/287)
فصل: وإن كان النضال بين حزبين جاز وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز لأنه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره والمذهب الأول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الأكوع وينصب كل واحد من الحزبين زعيماً يتوكل لهم في العقد ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحداً كما لا يجوز أن يكون وكيل المشتري والبائع واحداً ولا يجوز إلا على حزبين متساويي العدد لأن القصد معرفة الحذق فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الآخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمي ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز لأنه ربما أخرجت القرعة الحذاق لأحد الحزبين والضعفاء للحزب الآخر فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز لأنه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم فإن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالأربعين والثمانين لأنه إذا لم يفعل ذلك بقي سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه لأنه بطل العقد فيه لأنه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الآخر بإزائه واحد كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد لأن الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم فإن اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلة من الحزب الآخر فسخ العقد لأنه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولاً واحداً لأن من في مقابلته من الحزب الآخر لا يتعين ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة فبطل في الجميع فإن نضل أحد الحزبين الآخر ففي قسمة المال بين الناضلين وجهان: أحدهما يقسم بينهما بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق والثاني تقسم بينهم على قدر إصابتهم لأنهم استحقوا بالإصابة فاختلف باختلاف الإصابة ويخالف ما لزم المنضولين فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي فاعتبر بقدر الإصابة فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئاً وبالله التوفيق.(2/288)
باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي
إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذي يشد فيه الشن أو العري وهو السير الذي يشد به الشن على الجريد حسب له لأن ذلك كله من الغرض وإن أصاب العلاقة ففيه قولان: أحدهما يحسب له لأنه من جملة الغرض ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العري والثاني لا يحسب لأن العلاقة ما يعلق به الغرض فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به وإن شرط إصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له لأنه لم يصب الخاصرة وإن شرط إصابة الشن فأصاب العروة وهو السير أو العلاقة لم يحسب لأن ذلك كله غير الشن فإن أصاب سهماً في الغرض فإن كان السهم متعلقاً بنصله وباقيه خارج الغرض لم يحسب له ولا عليه لأن بينه وبين الغرض طول السهم ولا يدري لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لايصيب وإن كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له لأن العقد على إصابة الغرض ومعلوم أنه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض فإن خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وإن أصاب الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في الرمي وإنما أصاب بفعل الريح لا بفعله وإن رمى وفي الجو ريح ضعيفة فأرسل السهم مفارقاً للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض أو كانت ريح خلفه فنزع نزعاً قريباً ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له لأنه أصاب بفراهته وحذقه وإن أخطأ حسب عليه لأنه أخطأ بسوء رميه ولأنه لو أصاب مع الريح لحسب له فإذا أخطأ معها حسب عليه وإن كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب لأنه لم يصب بحسن رميه ولا يحسب عليه إذا أخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بالرمي في غير وقته وإن رمى في غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض الريح وإن أصاب فقد قال بعض أصحابنا فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف وعندي أنه لا يحسب له قولاً واحداً لأن المزدلف إنما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم أنه أصاب برميه وإن رمى سهماً فأصاب الغرض بفوقه لم يحسب له لأن ذلك من أسوأ الرمي وأردئه.(2/289)
فصل: وإن انكسر القوس أو انقطع الوتر أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له لأن إصابته مع اختلاف الآلة أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض وإن أغرق السهم فخرج من الجانب الآخر نظرت فإن أصاب حسب له لأن إصابته مع الإغراق أدل على حذقه فإن أخطأ لم يحسب عليه ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في مد القوس والمنصوص هو الأول لأن الإغراق ليس من سوء الرمي وإنما هو لمعنى قبل الرمي فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس وإن انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما لم يصب لفساد الآلة لا لسوء الرمي وإن أصاب بما فيه النصل حسب له لأن إصابته مع فساد الآلة دل على حذقه وإن أصابه بالموضع الآخر لم يحسب له لأنه لم يصب ولم يحسب عليه لأن خطأه لفساد الآلة لا لسوء الرمي.
فصل: وإن عرض دون الغرض عارض من إنسان أو بهيمة نظرت فإن رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لأنه لم يصل للعارض لا لسوء الرمي وإن نفذ السهم وأصاب حسب له لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه وحكي أن الكسعي كان رامياً فخرج ذات ليلة فرأى ظبياً فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجراً وقدح فيه ناراً فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه فلما أصبح رأى الظبي صريعاً قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلاً وقال الشاعر:
ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه
وإن رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبو إسحاق أنه يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ بسوء الرمي للعارض لأنه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على أنه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ والثاني أنه لا يحسب عليه لأن العارض قد يشوش الرمي فيقصر عن الغرش وقد يجاوزه وإن رمى السهم فأصاب الأرض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان: أحدهما يحسب لأنه أصاب الغرض بالنزعة التي أرسلها وما(2/290)
عرض دونها من الأرض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شيء فهتكه وأصاب الغرض والثاني لا يحسب له لأن السهم خرج من الرمي إلى غير الغرض وإنما أعانته الأرض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له وإن ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان: أحدهما يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما ازدلف بسوء رميه لأن الحاذق لا يزدلف سهمه والثاني لا يحسب عليه لأن الأرض تشوش السهم وتزيله عن سنته فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه.
فصل: وإن كان العقد على إصابة موصوفة نظرت فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لأن الشرط هو الإصابة وقد حصل ذلك في هذه الأنواع.
فصل: وإن كان الشرط هو الخسق نظرت فغن أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له لأن الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه إنسان فإن ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم يثبت ففيه قولان: أحدهما أنه يحسب لأن الخسق أن يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه والثاني وهو الصحيح أنه لا يحسب له لأن الأصل عدم الخسق وأنه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له وإن كان الغرض ملصقاً بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه فقال الرامي قد خسق إلا أنه لم يثبت فيه لغلظ لقيه من نواة أو حصاة وقال رسيله لم يخسق نظرت فإن لم يعلم موضع الإصابة من الغرض فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق وهل يحلف ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن فيه شيء يمنع من ثبوته لم يحلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن علم موضع الإصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الرامي لأن المانع شهد له والثاني أن القول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقاً ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت فإن كان الموضع الذي ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به لأنا نعلم أنه لو كان الشن صحيحاً لثبت فيه وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه لأنا لنعلم لأنه لو كان صحيحاً هل كان يثبت فيه أم لا فيرد إليه(2/291)
السهم حتى يرميه وإن خرمه وثبت ففيه قولان: أحدهما يعتد به لأن الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت والثاني لا يعتد به لأن الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك فإن مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولاً واحداً وما حكاه من غيره ليس بقول له لأن معنى الخسق قد وجد وزيادة ولأنه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما يحسب له لما ذكرناه والثاني لا يحسب له لأن الخسق أن يثبت وما ثبت ولأن في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق والتعليل الأول أصح لأن هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع وإن أصاب الشن ومرق وثبت في الهدف ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامي هذا الجلد قطعه سهمي بقوته وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لأن الأصل عدم الخسق.
فصل: إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد لأن المقصود معرفة حذقه وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع وإن رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر وإن أراد أن يفسخ فإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر وقد بيناه في أول الكتاب وإن قلنا أنه كالإجارة جاز له أن يفسخ لأنه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الإجارة وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمي للدعة فإن قلنا إنه كالإجارة أجبر عليه كما أجبر في الإجارة وإن قلنا إنه كالجعالة لم يجبر كما لم يجبر في الجعالة.(2/292)
كتاب إحياء الموات
مدخل
...
كتاب إحياء الموات
يستحب إحياء الموات لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر وما أكله العوافي منها فهو له صدقة1" وتملك به الأرض لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" ويجوز ذلك من غير إذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالاصطياد.
فصل: وأما الموات الذي جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يملك بالإحياء لما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم بعد" ولأنه إن كان في دار الإسلام فهو كاللقطة التي لا يعرف مالكها وإن كان في دار الحرب فهو كالركاز والثاني لا يملك لأنه إن كان في دار الإسلام فهو لمسلم ولذمي أو لبيت المال فلا يجوز إحياؤه وإن كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يحل ماله ولا يجوز تملكه والثالث أنه إن كان في دار الإسلام لم يملك وإن كان في دار الحرب ملك لأن ما كان في دار الإسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الإسلام يجب تعريفه وإن قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن تملك بالإحياء بل هي غنيمة بين الغانمين لأنهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين فلم تملك بالإحياء والثاني أنه يجوز أن تملك بالإحياء لأنهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالإحياء كسائر الموات.
فصل: وما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحرث باب 15. أبو داود في كتاب الإمارة باب 37. الترمذي في كتاب الأحكام باب 38. الموطأ في كتاب 26، 27. أحمد في مسنده "3/303،304".(2/293)
ومسيل الماء لا يجوز إحياؤه لأنه تابع للعامر فلا يملك بالإحياء ولأنا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأن الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر لنا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم وهذا لا يجوز.
فصل: ويجوز إحياء كل من يملك المال لأنه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالإحياء في دار الإسلام ولا للإمام أن يؤذن له في ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني" فجمع الموتان وجعلها للمسلمين فانتفى أن يكون لغيرهم ولأن موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه ولا يجوز للمسلم أن يحيي الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فإن لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.
فصل: والإحياء الذي يملك به أن يعمر الأرض لما يريده ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين فحمل على المتعارف فإن كان يريده للسكنى فأن يبني سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك ويسقف وينصب عليه الباب لأنه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك فإن أراد مراحاً للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب لأنه لا يصير مراحاً وحظيرة بما دون ذلك وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر فإن كانت الأرض من البطائح فأن يحبس(2/294)
عنها الماء لأن إحياء البطائح أن يحبس عناه الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه ويحرثها وهو أن يصلح ترابها وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الأم وهو قول أبي إسحاق لأن الإحياء قد تم وما بقي إلا الزراعة ذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار والثاني وهو ظاهر وما نقله المزني أنه لا يملك إلا بالزراعة لأنها من تمام العمارة ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة وإنما هو كالحصاد في الزرع والثالث وهو قول أبي العباس أنه لايتم إلا بالزراعة والسقي لأن العمارة لا تكمل إلا بذلك وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لأنه لا يحصل البئر إلا بذلك فإن كانت الأرض صلبة تم الإحياء وإن كانت رخوة لم يتم الإحياء حتى تطوق البئر لأنها لا تكمل إلا به.
فصل: وإذا أحيا الأرض ملك الأرض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لأنها من أجزاء الأرض فملك بملكها وبملك ما يتبع فيها من الماء والقار وغير ذلك وقال أبو إسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها وقد بينا ذلك في البيوع ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلأ وقال أبو القاسم الصيمري لا يملك الكلأ لما روي أن أبيض بن حمال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى في الأراك1" ولأنه لو فرخ في الأرض طائر لم يملك فكذلك إذا نبت فيه الكلأ وقال أكثر أصحابنا يملك لأنه نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.
فصل: ويملك بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر وهو بقدر ما يقف فيه المستقي إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع والدليل عليه ماروى عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً حولها عطن لماشيته" وروى ابن شهاب
__________
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 68.(2/295)
عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب العادية خمسون ذراعاً وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعاً وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع فإن أحيا أرضاً إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للآخر معه من ذلك لنه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه وإن ألصق حائطه بحائطه منع من ذلك وإن طرح في أصل حائط سرجيناً منع منه لنه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه فإن حفر حشاً في أصل حائطه لم يمنع منه لأنه تصرف في ملكه ومن أصحابنا من قال: يمنع لأنه يضر بالحاجز الذي بينهما في الأرض وإن ملك بئراً بالإحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئراً فنقص ماء الأول لم يمنع منه لأنه تصرف في موات لا حق لغيره فيه.
فصل: وإن تحجر رجل مواتاً وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار أحق به من غيره قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأنه آثره صاحب الحق به وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه لأنه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يصح لأنه صار به فملك بيعه والثاني أنه لا يصح وهو المذهب لأنه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ وإن بادر غيره إلى إحيائه نظرت فإن كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن يد المتحجر أسبق والثاني يملك لأن الإحياء يملك به والتحجر لا يملك به فقدم ما يملك به على ما لا يملك به وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة فإن انقضت المدة ولم يحي فبادر غيره فأحيا ملك لأنه لا حق له بعد انقضاء المدة.
فصل: ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به" فإن أطال المقام ففيه وجهان: أحدهما لا يمنع(2/296)
لأنه سبق إليه والثاني يمنع لأنه يصير كالمتحجر فإن سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا فإن كانا يأخذان للتجارة هايأ الإمام بينهما فإن تشاحا في السبق أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقسم بينهما لأنه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه والثالث يقدم الإمام أحدهما لأن للإمام نظراً في ذلك فقدم من رأى تقديمه وإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالإحياء لأنه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالإحياء كالموات.
فصل: وإن سبق إلى معدن باطن وهو الذي لا يوصل إليه إلا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به1" وهل يملك المعدن فيه قولان: أحدهما يملكه لأنه موات لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل والإنفاق فملكه بالإحياء كموات الأرض والثاني لا يملك وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموت على الإحياء وهو العمارة والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به ولأنه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ ويخالف موات الأرض لأنه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به فإن قلنا إنه يملك بالإحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه فإن تباعد إنسان عن حريمه وحفر معدناً فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه لأنه إحياء في موات لاحق فيه لغيره فإن حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الأرض فإن قلنا لا يملك كان كالمعدن الظاهر في إزالة يده إذا طال مقامه وفي القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الإمام تقديمه.
فصل: ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة بالقعود للبيع
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.(2/297)
والشراء لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع منه كالاجتياز فإن سبق إليه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "مني مناخ من سبق" وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وإن أراد أن يبني دكة منع لأنه يضيق به الطريق ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز وإن قام وترك المتاع لم يجز لغيره أن يقعد فيه لأن يد الأول لم تزل وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه لأنه زالت يده وإن قعد وأطال ففيه وجهان: أحدهما يمنع لأنه يصير كالمتملك وتملكه لا يجوز والثاني يجوز لأنه قد ثبت له اليد بالسبق إليه وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان: أحدهما يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر والثاني يقدم الإمام أحدهما لأن للأمام النظر والاجتهاد ولا تجيء القسمة لأنها لا تملك فلم تقسم.(2/298)
باب الإقطاع والحمى
يجوز للأمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء لما روى علقمة بن وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً فأرسل معه معاوياً أن أعطه إياها أو قال أعطها إياه وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه فقال: أعطوه من حيث وقع السوط وروي أن أبو بكر أقطع الزبير وأقطع عمر علياً وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وسعداً وابن مسعود وخباباً وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ومن أقطعه الإمام شيئاً من ذلك صار أحق به ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه لأن بإقطاع الإمام صار أحق به كالمتحجر فكان حكمه حكم المتحجر ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لأنه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.
فصل: وأما المعادن فإن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز إقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب(2/298)
فأقطعه إياه ثم إن الأقرع بن حابس قال يا رسول الله إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن ورده أخذه وهو مثل الماء العد بأرض فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو منك صدقة" وهو مثل الماء العد ومن ورده أخذه وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا إنها تملك بالإحياء جاز قطاعه لأنه موات يجوز أن يملك بالإحياء فجاز قطاعه كموات الأرض وإن قلنا لا تملك بالإحياء فهل يجوز إقطاعه فيه قولان: أحدهما يجوز إقطاعه لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز إقطاعه كموات الأرض والثاني لا يجوز لأنه معدن لا يملك بالإحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرنا في إقطاع الموات.
فصل: ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الأسواق للارتفاق فمن أقطع شيئاً من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أولم ينقل لأن للإمام النظر والاجتهاد فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
فصل: ولا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع الإحياء ورعى ما فيه من الكلأ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله" فأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه كان يجوز له أن يحمي لنفسه وللمسلمين فإما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى المسلمين والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين وأما غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمي لنفسه للخبر وهل يجوز أن يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان أحدهما: لا يجوز للخبر والثاني يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه وجعل ينفخ ويفتح شاربه وكان إذا كره أمراً فتل شاربه ونفخ فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر المال مال الله والعباد عباد الله فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في(2/299)
كل عام أربعين ألفاً من الظهر وقال مرة من الخيل وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى وقال له يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصريمة والغنيمة وإياك ونعم ابن عوف وإياك ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك إن الماء والكلأ أيسر عندي من الذهب والورق والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها وإن زالت الحاجة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه زال السبب والثاني لا يجوز لأن ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نص فلا يجوز نقضه بالاجتهاد وإن حماه إمام غيره وقلنا إنه يصح حماه فأحياه رجل ففيه قولان: أحدهما لا يملكه كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني يملك لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الأرض بالإحياء نص والنص لا ينقض بالاجتهاد.(2/300)
باب حكم المياه
الماء اثنان: مباح وغير مباح فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة فصاحب الأرض أحق به من غيره لأنه على المنصوص يملكه وعلى قول أبي إسحاق لا يملكه إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه فكان أحق به وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية لكلأ لزمه بدله من غير عوض وقال أبو عبيد بن حرب لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلأ للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقي به الماء للماشية والمذهب الأول لما روى إياس بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء(2/300)
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته1" ويخالف الكلأ فإنه لا يستخلف عقيب أخذه وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف فيستضر والضرر لا يزال بالضرر ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع لأن الزرع لا حرمة له في نفسه والماشية لها حرمة في نفسها ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه ولو كانت الماشية لزمه سقيها وإن لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على من منع الفضل ولأن ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله والضرر لا يزال بالضرر.
فصل: وأما المباح فهو الماء الذي ينبع في الموات فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة الماء والنار والكلأ2" فمن سبق منهم إلى شيء منه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق3" فإن أراد أن يسقي منه أرضاً فإن كان نهراً عظيماً كالنيل والفرات وما أشبههما من الأودية العظيمة جاز أن يسقي منه ما شاء ومتى شاء لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كان نهراً صغيراً لا يمكن سقي الأرض منه إلا أن يحبسه فإن كانت الأرض متساوية بدأ من في أول النهر فيحبس الماء حتى يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب ثم يرسله إلى من يليه وعلى هذا إلى أن تنتهي الأراضي لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب نهر من سيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل ويجعل الماء فيه إلى الكعب ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه كذلك حتى تنتهي الأرضون وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلاً من الأنصار تنازعا في شراج الحرة التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري
__________
1 رواه أحمد في مسنده "2/179،183،221".
2 رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 60. ابن ماجة في كتاب الرهون باب 16. أحمد في مسنده "5/364".
3 رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب 36.(2/301)
للزبير سرح الماء فأبى الزبير فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجدر" وإن كانت الأرض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الأرض العالية إلى الكعب حتى يقف في الأرض المستفلة إلى الوسط فيسقي المستفلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب ثم يسدها ويسقي العالية حتى يبلغ الكعب فإن أحيا جماعة أرضاً على هذا النهر وسقوا منه ثم جاء رجل فأحيا أرضاً في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر منع من ذلك لأن من ملك أرضاً ملكها بمرافقها والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه.
فصل: وإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها فإن دخلوا على أن يتساووا وتساووا في الإنفاق وإن دخلوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الإنفاق ويكون الماء بينهم على قدر النفقة لأنهم استفادوا ذلك بالإنفاق فكان حقهم على قدره فإن أرادوا سقي أراضيهم بالمهأياة يوماً يوماً جاز وإن أرادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الأراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم فتخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك لأن حريم النهر مشترك بينهم فلا يجوز لواحد منهم أن يحفر فيه فإن أراد أن ينصب رحاً قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك لأنه يتصرف في حريم مشترك فإن أراد أن يأخذ الماء ويسقي به أرضاً أخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه لأنه يجعل لنفسه شرباً لم يكن له كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما باباً إلى الأخرى فيجعل لنفسه طريقاً لم يكن له والله أعلم.(2/302)
كتاب اللقطة
إذا وجد الحر الرشيد لقطة يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب فإن كان ذلك في غير الحرم جاز التقاطه للتملك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال ما كان منها في طريق مئتاء فعرفها حولاً فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك وما كان منها في خراب ففيها وفي الركاز الخمس وله أن يلتقطها للحفظ على صاحبها لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وإن كانت في الحرم لم يجز أن يأخذها إلا للحفظ على صاحبها ومن أصحابنا من قال يجوز التقاطها للتملك لأنها أرض مباحة فجاز أخذ لقطتها للتملك كغير الحرم والمذهب الأول لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام إلى يوم القيامة لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف1" ويلزمه المقام للتعريف وإن لم يمكنه المقام دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح.
فصل: وهل يجب أخذها؟ روى المزني أنه قال لا أحب تركها وقال في الأم لا يجوز تركها فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجب لأنها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة والثاني يجب لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه" ولو خاف على نفسه لوجب حفظها فكذلك إذا خاف على ماله وقال أبو
__________
1 رواه البخاري في كتاب العلم باب 19. أبو داود في كتاب المناسك باب 120. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 103. الدارمي في كتاب البيوع باب 60. أحمد في مسنده "1/253".(2/303)
العباس وأبو إسحاق وغيرهما: إن كانت في موضع لا يخاف عليها لأمانة أهله لم يجب عليه لأن غيره يقوم مقامه في حفظها وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب لأن غيره لا يقوم مقامه فتعين عليه وحمل القولين على هذين الحالين فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن لأن المال إنما يضمن باليد أو بالإتلاف ولم يوجد شيء من ذلك ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة.
فصل: وإن أخذها اثنان كانت بينهما كما لو أخذا صيداً كان بينهما فإن أخذها واحداً وضاعت منه ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الأول لأنه سبق إليها فقدم كما لو سبق إلى موات فتحجره.
فصل: وإذا أخذها عرف عفاصها - وهو الوعاء الذي تكون فيه - ووكاءها - وهو الذي تشد به - وجنسها وقدرها لما روى زيد بن خلد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: "أعرف عفاصها ووكاؤها وعرفها سنة فإن جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك1" فنص على العفاص والوكاء وقسنا عليهما الجنس والقدر ولأنه إذا عرف هذه الأشياء لم تختلط بماله وتعرف به صدق من يدعيها وهل يلزمه أن يشهد عليها وعلى اللقيط؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجب لأنه دخول في أمانة فلم يجب الإشهاد عليه كقبول الوديعة والثاني يجب لما روى عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب2" ولأنه إذا لم يشهد لم يؤمن أن يموت فتضيع اللقطة أو يسترق اللقيط والثالث أنه لا يجب على اللقطة لأنه اكتساب مال فلم يجب الإشهاد عليه كالبيع ويجب على اللقيط لأنه يحفظ به النسب فوجب الإشهاد عليه كالنكاح وإن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف لأن التعريف للتملك فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف فإن أراد أن يتملكها نظرت فإن كان مالاً له قد يرجع من ضاع منه في طلبه لزمه أن يعرفه سنة لحديث عبد الله بن
__________
1 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 2 - 4. مسلم في كتاب اللقطة حديث 1،2،5 - 7. أبو داود في كتاب اللقطة باب 1. الترمذي في كتاب الأحكام باب 35. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 46.
2 رواه أبو داود في كتاب اللقطة باب 9. ابن ماجة في كتاب اللقطة باب 2. أحمد في مسنده "4/162،266".(2/304)
عمرو وحديث زيد بن خالد وهل يجوز تعريفها سنة متفرقة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز ومتى قطع استأنف لأنه إذا قطع لم يظهر أمرها ولم يظهر طالبها والثاني يجوز لأن اسم السنة يقع عليها ولهذا لو نذر صوم سنة جاز أن يصوم سنة متفرقة ويجب أن يكون التعريف في أوقات اجتماع الناس كأوقات الصلوات وغيرها وفي المواضع التي يجتمع الناس فيها كالأسواق وأبواب المساجد لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك ويكثر منه في الموضع الذي وجدها فيه لأن من ضاع منه شيء يطلبه في الموضع الذي ضاع فيه ولا يعرفها في المساجد لما روى جابر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالة في المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وجدت1" وذلك لأنه كان يكره أن ترفع فيه الأصوات ويقول من ضاع منه شيء أو ضاع منه دنانير ولا يزيد عليها حتى لا يضبطها رجل فيدعيها فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن لأن بمجرد الصفة لا يجب الدفع والثاني يضمن لأنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل ثم يرافعه إلى من يوجب الدفع بالصفة فإن لم يوجد من يتطوع بالنداء كانت الأجرة على الملتقط لأنه يتملك به وإن كانت اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمة لم تعرف لما روى أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمرة في الطريق مطروحة فقال: "لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها2" وإن كان مما يطلب إلا أنه قليل ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يعرف القليل والكثير سنة وهو ظاهر النص لعموم الأخبار والثاني لا يعرف الدينار لما روي أن علياً كرم الله وجهه وجد ديناراً فعرفه ثلاثاً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كله أو شأنك به" والثالث يعرف ما يقطع فيه السارق ولا يعرف ما دونه لأنه تافه ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه.
__________
1 رواه مسلم في كتابالمساجد حديث 79. أبو داود في كتاب الصلاة باب 21. النسائي في كتاب المساجد باب 25. أحمد في مسنده "2/349".
2 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 6.مسلم في كتاب الزكاة حديث 164، 165.(2/305)
فصل: فإن عرفها فلم يجد صاحبها ففيه وجهان: أحدهما تدخل في ملكه بالتعريف لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن جاء صاحبها وإلا فهي له" ولأنه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد والثاني أنه يملكه باختيار التملك لما روي في حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" فجعله إلى اختياره ولأنه تملك ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالملك بالبيع وحكى فيه وجهان آخران: أحدهما أنه يملك بمجرد النية والثاني يملكه بالتصرف ولا وجه لواحد منهما ولا فرق في ملكها بين الغني والفقير لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" ولم يفرق لأنه ملك بعوض فاستوى فيه الغني والفقير كالملك في القرض والبيع.
فصل: فغن حضر صاحبها قبل أن يملكها نظرت فإن كانت العين باقية وجب ردها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة لأنها باقية على ملكه وإن كانت تالفة لم يلزم الملتقط ضمانها لأنه يحفظ لصاحبها فلم يلزم ضمانها من غير تفريط كالوديعة وإن حضر بعد ما ملكها فإن كانت باقية وجب ردها وإن كانت تالفة وجب عليه بدلها وقال الكرابيسي لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها لأنه مال لا يعرف له مالك فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدلها لأنه مال لا يعرف له مالك فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز والمذهب الأول لما روى أبو سعيد الخدري أن علياً كرم الله وجهه وجد ديناراً فجاء صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أده" قال علي قد أكلته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء ناشئ أديناه" ويخلف الركاز فإنه مال لكافر لا حرمة له وهذا مال مسلم ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز ويلزمه تعريف اللقطة فإن كانت العين باقية فقال الملتقط أنا أعطيك البدل لم يجبر المالك على قبوله لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله فلا يجبر على قبول البدل وإن حضر وقد باعها الملتقط وبينهما خيار ففيه وجهان: أحدهما يفسخ البيع ويأخذ لأنه يستحق العين والعين باقية والثاني لا يجوز له أن يفسخ لأن الفسخ حق للعاقد فلا يجوز لغيره من غير إذنه وإن حضر وقد زادت العين فإن كانت زيادة متصلة رجع فيها مع الزيادة وإن كانت زيادة منفصلة رجع فيها دون الزيادة لأنه فسخ ملك فاختلفت فيه الزيادة المتصلة والمنفصلة كالرد بالعيب.
فصل: وإن جاء من يدعيها ووصفها فإن غلب على ظنه أنها له أن يدفع إليه ولا يلزمه الدفع لأنه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة فإن دفع إليه بالوصف ثم جاء غيره وأقام البينة أنها له قضى بالبينة لأنها حجة توجب الدفع فقدمت على(2/306)
الوصف فإن كانت باقية ردت على صاحب البينة وإن كانت تالفة فله أن يضمن الملتقط لأنه دفع ماله بغير حق وله أن يضمن الآخذ لأنه أخذ ماله بغير حق فإن ضمن الآخذ لم يرجع على الملتقط لأنه إن كان مستحقاً عليه فقد دفع ما وجب عليه فلم يرجع وإن كان مظلوماً لم يجز أن يرجع على غير من ظلمه فلا يرجع على من لم يظلمه وإن لم يقر له ولكنه قال يغلب على ظني أنها لك فله الرجوع لأنه بان بأنه لم يكن له وقد تلف في يده فاستقر الضمان عليه.
فصل: وإن وجد ضالة لم يخل إما أن تكون في برية أو بلد فإن كانت في برية نظرت فإن كانت مما يمتنع على صغار السباع بقوته كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير أو ببعد أثره لسرعته كالظباء والأرانب أو بجناحه كالحمام والدراج لم يجز التقاطه للتملك لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل فغضب واحمرت عيناه وقال: "ما لك ولها معها الحذاء والسقاء تأكل من الشجر وترد الماء حتى يأتي ربها" وسئل عن ضالة الغنم فقال: "خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب1" وهل يجوز أخذها للحفظ؟ ينظر فيه فإن كان الواجد هو السلطان جاز لأن للسلطان ولاية في حفظ أموال المسلمين ولهذا روي أنه كان لعمر حظيرة يضع فيها الضوال فإن كان له حمى تركها في الحمى وأشهد عليها ويسمها بسمة الضوال للتميز عن غيرها من الأموال وإن لم يكن له حمى فإن كان يطمع في مجيء صاحبها بأن يعرف أنها من نعم قوم يعرفهم حفظها اليومين والثلاثة وإن لم يعرف أو عرف ولم يجئ صاحبها باعها وحفظ ثمنها لأنه إذا تركها احتاجت إلى نفقة وفي ذلك إضرار وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يأخذها للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان والثاني لا يجوز لأنه لا ولاية له على صاحبها بخلاف السلطان فإن أخذها للتملك أو للحفظ وقلنا إنه لا يجوز ضمنها لأنه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب وإن دفعها إلى السلطان ففيه وجهان: أحدهما لا يبرأ من الضمان لأنه لا ولاية للسلطان على رشيد والثاني يبرأ وهو
__________
1 رواه البخاري في كتاب اللقطة باب 11. مسلم في كتاب اللقطة حديث 5، 6. ابن ماجة في كتاب اللقطة باب 1. الترمذي في كتاب الأحكام باب 35.(2/307)
المذهب لأن للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على مالكها فإذا أخذها غيره وسلمها إليه بريء من الضمان وإن كان مما لا يمتنع من صغار السباع كالغنم وصغار الإبل والبقر أخذها لحديث زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الغنم: "خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب1" ولأنه إذا تركها أخذها غيره أو أكلها الذئب فكان أخذها أحوط لصاحبها وإذا أخذها فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالإنفاق عليها ويعرفها حولاً ثم يملكها وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم بمالك الثمن وبين أن يأكلها ويغرم بدلها ويعرفها لأنه إذا لم يفعل ذلك احتاج إلى نفقة دائمة وفي ذلك إضرار بصاحبها والإمساك أولى من البيع والأكل لأنه يحفظ العين على صاحبها ويجري فيها على سنة الإلتقاط في التعريف والتملك والبيع أولى من الأكل لأنه إذا أكل استباحها قبل الحول وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول فكان البيع أشبه بأحكام اللقطة فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه لأنه موضع ضرورة وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان: أحدهما لا يبيع إلا بإذنه لأن الحاكم له ولاية ولا ولاية للملتقط والثاني يبيع من غير إذنه لأنه قد قام مقام المال فقام مقامه في البيع وإن أكل فهل له أن يعزل البدل مدة التعريف؟ فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه لأن كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة يلزمه عزل البدل كما بعد الحول ولأنه إذا لم يعزل كان البدل قرضاً في ذمته وإذا عزله كان أمانة والقرض أحوط من الأمانة والثاني يلزمه عزل البدل لأنه أشبه بأحكام اللقطة فإن من حكم اللقطة أن تكون أمانة قبل الحول وقرضاً بعد الحول فيصير البدل كاللقطة إن شاء حفظها له وإن شاء عرفها ثم تملك وإن أفلس الملتقط كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء وإن وجد ذلك في بلد فقد روى المزني أن الصغار والكبار في البلد لقطة فمن أصحابنا من قال المذهب ما رواه المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رفق بين الصغار والكبار في البرية لأن الكبار لا يخاف عليها لأنها ترد الماء وترعى الشجر وتتحفظ بنفسها والصغار يخاف عليها لأنها لا ترد الماء والشجر فتهلك وأما في البلد فالكبار كالصغار في الخوف عليها فكان الجميع لقطة ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر إن البلد كالبرية فالصغار فيه لقطة والكبار ليست بلقطة لعموم الخبر فإن قلنا إن البلد كالبرية فالحكم فيه على ما ذكرناه إلا في الأكل فله أن يأكل الصغار في البرية وليس له أكلها في البلد لأن في البرية إذا لم يأكل الصغار هلكت لأنه لا يمكن بيعها وفي البلد يمكن بيعها فلم يجز
__________
1 المصدر السابق.(2/308)
الأكل وإن قلنا إن الجميع في البلد لقطة فالحكم في الكبار كالحكم في الصغار في البرية إلا في الأكل فإنه لا يأكل في البلد ويأكل الصغار في البرية لما ذكرناه.
فصل: وإن وجد عبداً صغيراً لا تمييز له جاز أن يلتقطه لأنه كالغنم يعرفه حولاً ثم يملكه وإن وجد جارية صغيرة لا تمييز لها فإن كان لا يحل له وطؤها جاز له أن يلتقطها للتملك كما يجوز أن يقترضها وإن كانت تحل له لم يجز أن يلتقطها للتملك كما لا يجوز أن يقترضها.
فصل: وإن وجد كلب صيد لم يجز أن ينتفع به قبل الحول فإن عرفه حولاً ولم يجد صاحبه جاز له أن ينتفع به لأن الانتفاع بالكلب كالتصرف في المال والتصرف في المال يقف على التعريف في الحول فكذلك الإنتفاع بالكلب.
فصل: وإن وجد مالاً يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ فهو الخيار بين أن يأكله ويغرم البدل وبين أن يبيعه ويحفظ الثمن على ما ذكرناه في الغنم في بيعه وحفظ ثمنه وأكله وعزل بدله وخرج المزني فيه قولاً آخر أنه يلزمه البيع ولا يجوز الأكل والمذهب الأول لأنه معرض للهلاك فخير فيه بين البيع والأكل كالغنم وإن وجد ما لا يبقى ولكن يمكن التوصل إلى حفظه كالرطب والعنب فإن كان الأنفع لصاحبه أن يباع بيع وإن كان الأنفع أن يجفف جفف وإن احتاج إلى مؤنة في تخفيفه ولم يوجد من يتطوع بيع بعضه وأنفق عليه.
فصل: وإن وجد خمراً أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها لأن إراقتها مستحقة فلم يجز التعريف فإن صارت عنده خلاً ففيه وجهان: أحدهما أنها لمن أراقها لأنها عادت إلى الملك السابق والملك السابق للذي أراق فعاد إليه كما لو غصبه من رجل فصار في يده خلاً والثاني أنه للملتقط لأن الأول أسقط منها فصارت في يد الثاني ويخالف المغصوبة لأنها أخذت بغير رضاه فوجب ردها إليه.
فصل: فأما العبد إذا وجد لقطة ففيه قولان: أحدهما له أن يلتقط لأنه كسب بفعل فجاز للعبد كالإصطياد والثاني لا يجوز لأن الإلتقاط يقتضي ولاية قبل الحول وضماناً بعد الحول والعبد ليس من أهل الولاية ولا له ذمة يستوفى منها الحق إلى أن يعتق ويوسر فإن قلنا إنه يجوز أن يلتقط فهلك في يده من غير تفريط لم يضمن وإن هلك بتفريط ضمنها في رقبته فتباع فيها وإن عرفها صح تعريفه ولا يملك به لأنه في أحد القولين لا يملك المال وفي الثاني يملك إذا ملكه السيد وههنا لم يملكه السيد فإن قلنا إن الملتقط يملك بالتعريف من غير اختيار التملك دخل في ملك السيد كما يدخل في ملكه ما التقطه وعرفه وإن قلنا لا يملك إلا باختيار التملك وقف على اختياره فإن تملكها العبد وتصرف فيها(2/309)
ففيه وجهان: أحدهما يضمنها في ذمته ويتبع بها إذا عتق كما لو اقترض شيئاً والثاني يضمنها في رقبته لأنه مال لزمه بغير رضا من له الحق فتعلق برقبته كأرش الجناية وإن علم السيد نظرت فإن لم يكن عرفها العبد عرفها السيد حولاً ثم تملك وإن عرفها العبد تملكها السيد في الحال لأن تعريف العبد كتعريفه فإن عرفها العبد بعض الحول عرفها السيد ما بقي ثم تملك وإن أقرها في يد العبد نظرت فإن كان العبد أميناً لم يضمن كما لا يضمن ما التقطه بنفسه وسلمه إلى عبده وإن كان خائناً ضمنها كما لو التقطها بنفسه وسلمها إليه وهو خائن وإن قلنا إنه لا يجوز أن يلتقط فالتقط ضمنها في رقبته لأنه أخذ مال غيره بغير حق فأشبه إذا غصبه وإن عرفها لم يصح تعريفه لأنها ليست في يده بحكم اللقطة فإن علم السيد نظرت فإن أخذها صارت في يده أمانة لأنه ما يجوز له أخذه بحكم الإلتقاط فصار كما لو وجد لقطة فالتقطها ويبرأ العبد من الضمان لأنه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه فبرئ من الضمان كما لو دفعها إلى الحاكم وإن أراد أن يتملك ابتدأ التعريف ثم يتملك ابتدأ التعريف ثم تملك فإن أقرها في يد العبد ليعرفها فإن كان أميناً لم يضمن كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه وإن لم يأخذها ولا أقرها في يده ولكنه أهملها فقد روى المزني أنه يضمنها في رقبة العبد وروى الربيع أنه يضمنها في ذمته ورقبة العبد فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما رواه المزني أنه يختص برقبته لأن الذي أخذ هو العبد فاختص الضمان برقبته فعلى هذا إن تلف العبد سقط الضمان وقال أبو إسحاق: الصحيح ما رواه الربيع وأنه يتعلق بذمة السيد ورقبة العبد لأن العبد تعدى بالأخذ والسيد تعدى بالترك فاشتركا في الضمان فعلى هذا إن تلف العبد لم يسقط الضمان وإن التقط العبد لقطة ولم يعلم السيد بها حتى أعتقه فعلى القولين إن قلنا إنه يجوز للعبد أن يلتقط كان للسيد أن يأخذها منه لأنه كسب له حصل في حال الرق فكان للسيد كسائر أكسابه وإن قلنا لا يجوز للعبد أن يلتقط كان للسيد أن يأخذها منه لأنه كسب له حصل له في حال الرق فكان السيد كسائر أكسابه وإن قلنا لا يجوز أن يلتقط لم يكن للسيد أن يأخذها منه لأنه لم يثبت للعبد عليه الإلتقاط فعلى هذا يكون العبد لأنها في يده وهو من أهل الالتقاط ويحتمل أن لا يكون أحق بها لأن يده يد ضمان فلا تصير يد أمانة.
فصل: وإن وجد المكاتب لقطة فالمنصوص أنه كالحر واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إنه كالحر قولاً واحداً لأنه يملك التصرف في المال وله ذمة يستوفي منها الحق فهو كالحر ومنهم من قال: هو كالعبد لأنه ناقص بالرق كالعبد فيكون في التقاطه قولان: فإن قلنا إنه كالحر أو قلنا إنه كالعبد وجوزنا التقاطه صح تعريفه فإذا عرفها ملكها لأنه من أهل الملك وإذا قلنا إنه كالعبد ولم نجوز التقاطه صار ضامناً لأنه تعدى(2/310)
بالأخذ ويجب أن يسلمها إلى السلطان لأنه لا يمكن إقرارها في يده لأنها في يده بغير حق ولا يمكن تسليمها إلى السيد لأنه لا حق له في إكسابه فوجب تسليمها إلى السلطان فإن أخذها السلطان برئ المكاتب من الضمان فتكون في يده السلطان أبداً إلى أن يجد صاحبها.
فصل: وإن وجد اللقطة من نصفه حر ونصفه عبد فالمنصوص أنه كالحر فمن أصحابنا من قال: هو كالحر قولاً واحداً لأنه تملك ملكاً تاماً وله ذمة صحيحة فهو كالحر ومنهم من قال هو كالعبد القن لما فيه من نقص الرق فيكون على قولين فإذا قلنا إنه كالحر نظرت فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة كانا شريكين فيها كسائر أكسابه وإن كانت بينهما مهايأة فإن قلنا إن الكسب النادر لا يدخل في المهايأة كانت اللقطة بينهما لأنه بمنزلة ما لم يكن بينهما مهايأة وإن قلنا إن الكسب النادر يدخل في المهايأة كانت اللقطة لمن وجدها في يومه.
فصل: وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنون أو صغر لقطة صح التقاطه لأنه كسب بفعل فصح المحجور عليه كالإصطياد وعلى الناظر في أمره أن ينتزعها منه ويعرفها لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة فإن كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض عليه لم يتملك له لأن التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل.
فصل: وإن وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لأنه لا يؤمن أن لا يؤدي الأمانة فيها فإن التقطها ففيه قولان: أحدهما لا تقر في يده وهو الصحيح لأن الملتقط قبل الحول كالولي في حق الصغير والفاسق ليس من أهل الولاية في المال والثاني تقر في يده لأنه كسب بفعل فأقر في يده كالصيد فعلى هذا يضم إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان: أحدهما يجوز لأن التعريف لا يفتقر إلى الأمانة والثاني لا يجوز حتى يكون معه من يشرف عليه لأنه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لأنه من أهل التملك.
فصل: وإن التقط كافر لقطة في دار الإسلام ففيه وجهان: أحدهما يملك بالتعريف لأنه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد والثاني لا يملك لأن تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية والكافر لا ولاية له على المسلم.(2/311)
كتاب اللقيط
التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولأنه تخليص آدمي له حرمة من الهلاك فكان فرضاً كبذل الطعام للمضطر.
فصل: وإن وجد لقيط مجهول الحال حكم بحريته لما روى سنين أبو جميلة قال: أخذت منبوذاً على عهد عمر رضي الله عنه فذكره عريفي لعمر رضي الله عنه فأرسل إلي فدعاني والعريف عنده فلما رآني قال عسى الغوير أبؤساً فقال عريفي: إنه لا يتهم فقال عمر ما حملك على ما صنعت قلت وجدت نفساً بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله تعالى فيه فقال: هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه ولأن الأصل في الناس الحرية فإن كان عليه ثياب أو حلي أو تحته فراش أو في يده دراهم أو عنان فرس أو كان في دار ليس فيها غيره فهي له لأنه حر فكان ما في يده له كالبالغ وإن كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لأنه لا يد له عليه وإن كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان: أحدهما ليس له لأنه لا يد له عليه والثاني لأن الإنسان قد يترك ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر أنه له وإن كان تحته مال مدفون لم يكن له لأن البالغ لو(2/312)
جلس على الأرض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط.
فصل: وإن وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم لأنه اجتمع له حكم الدار وإسلام من فيها وإن كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه فهو كافر لأن الظاهر أنه ولد بين كافرين وإن كان فيه مسلم ففيه وجهان: أحدهما أنه كافر تغليباً لحكم الدار والثاني أنه مسلم تغليباً لإسلام المسلم الذي فيه وإن التقطه حر مسلم أمين مقيم موسر أقر في يده لما ذكرناه من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه لا بد من أن يكون في يد من يكفله فكان الملتقط أحق به لحق السبق.
فصل: فإن كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ ولا يجوز للملتقط أن ينفق من ماله بغير إذن الحاكم فإن أنفق عليه من غير إذنه ضمنه لأنه لا ولاية له عليه إلا في الكفاية فلم يملك الإنفاق بنفسه كالأم وإن فوض إليه الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز وقال في كتاب اللقطة إذا أنفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما لا يجوز لأنه لا يلي بنفسه فلم يجز أن يكون وكيلاً لغيره في القبض له من نفسه كما لو كان عليه دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه والثاني يجوز لأنه جعل أميناً على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي ومنهم من قال يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة لأن اللقيط لا ولي به في الظاهر فجاز أن يجعل الواحد ولياً له والضالة لها مالك هو ولي عليها فلا يجوز أن يجعل الواحد ولياً عليها وإن لم يكن حاكم فأنفق من غير إشهاد ضمن وإن أشهد ففيه قولان: أحدهما يضمن لأنه لا ولاية له فضمن كما لو كان الحاكم موجوداً والثاني لا يضمن لأنه موضع ضرورة وإن لم يكن له مال وجب على السلطان القيام بنفقته لأنه آدمي له حرمة يخشى هلاكه فوجب على السلطان القيام بحفظه كالفقير الذي لا كسب له ومن أين تجب النفقة فيه قولان: أحدهما من بيت المال لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال ولأن من لزم حفظه بالإنفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال كالفقير الذي لا كسب له فعلى هذا لا يرجع على أحد بما أنفق عليه والقول الثاني: لا يجب من بيت المال لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره واللقيط يجوز أن يكون عبداً فنفقته على مولاه أو حراً له مال أو فقيراً له من تلزمه نفقته فلم يلزم من بيت المال فعلى هذا يجب على الإمام أن يقترض له ما ينفق من بيت(2/313)
المال أو من رجل من المسلمين فإن لم يكن في بيت المال ولا وجد من يقرضه جمع الإمام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته فإن بان أنه عبد رجع على مولاه وإن بان أن له أباً موسراً رجع عليه بما اقترض له فإن لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه وإن لم يكن له كسب قضى سهم من ثري من المساكين أو الغارمين.
فصل: وأما إذا التقطه عبد فإن كان بإذن السيد وهو من أهل الإلتقاط جاز لأن الملتقط هو السيد والعبد نائب عنه وإن كان بغير إذنه لم يقر في يده لأنه لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد وإن علم به السيد وأقره في يده كان ذلك التقاطاً من السيد والعبد نائب عنه.
فصل: وإن التقطه كافر نظرت فإن كان اللقيط محكوماً بإسلامه لم يقر في يده لأن الكفالة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم ولأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه وإن كان محكوماً بكفره أقر في يده لأنه على دينه وإن التقطه فاسق لم يقر في يده لأنه لا يؤمن أن يسترقه وأن يسيء في تربيته ولأن الكفالة ولاية الفاسق ليس من أهل الولاية.
فصل: وإن التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت فإن لم تختبر أمانته في الباطن لم يقر في يده لأنه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب وإن اختبرت أمانته في الباطن فإن كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج به إلى البدو ومنع منه لأنه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء وفي الخبر: من بدا فقد جفا وإن أراد أن يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان: أحدهما يجوز وهو ظاهر النص لأن البلد كالبلد والثاني لا يجوز لأن البلد الذي وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه وإن كان الملتقط في بدو فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز لأن الحضر أرفق به وأنفع له وإن كان من البادية فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده لأن الحلة كالقرية وإن كان يظعن في طلب الماء والكلأ(2/314)
ففيه وجهان: أحدهما يقر في يده لأنه أرجى لظهور نسبه والثاني لا يقر في يده لأنه يشقى بالتنقل في البدو.
فصل: وإن التقطه فقير ففيه وجهان: أحدهما لا يقر في يده لأنه لا يقدر على القيام بحضانته وفي ذلك إضرار باللقيط والثاني يقر في يده لأن الله تعالى يقوم بكفاية الجميع.
فصل: وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفاية قبل أن يأخذاه أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما قبل الأخذ ولا مزية لهما عن غيرهما فكان الأمر فيه إلى السلطان وإن التقطاه وتشاحا أقرع بينهما فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده وقال أبو علي بن خيران: لا يقرع بينهما بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من هو أحظ له والمنصوص هو الأول لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما لأنه لا يمكن أحدهما لأنهما متساويان في سبب الاستحقاق ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز إخراجه عنهما فأقرع بينهما كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه وإن ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان: أحدهما يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى لأن الملتقط لا يملك غير الحفظ فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه ولهذا لو انفرد بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره والثاني وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير إذن السلطان لأن الحضانة بحكم الإلتقاط لا تفتقر إلى إذن السلطان ولهذا لو انفرد كل واحد منهما بالإلتقاط ثبت له الحضانة من غير إذن فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين.
فصل: فأما إذا اختلفا في الإلتقاط فادعى كل واحد منهما أنه الملتقط ولم تكن بينة فإن لم يكن لأحدهما عليه أقره السلطان في يد من يرى منهما أو من غيرهما لأنه لا حق لهما وإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه لأن اليد تشهد له وإن كان في يدهما تحالفا فإن حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب وعلى قول أبي علي ابن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له فإن كان لأحدهما بينة قضى له لأن البينة أقوى من اليد والدعوى وإن كان لكل واحد منهما بينة فإن كانت بينة أحدهما أقدم تاريخاً قضى له لأنه قد ثبت له السبق إلى الإلتقاط وإن لم تكن له بينة أحدهما أقدم تاريخاً فقد تعارضت البينتان ففي أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة وقد بيناه وفي القول الثاني تستعملان وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها(2/315)
القسمة والثاني القرعة والثالث الوقف ولا يجيء ههنا إلا القرعة لأنه لا يمكن اللقيط بينهما ولا يمكن الوقف لأن فيه إضرارا باللقيط فوجبت القرعة.
فصل: وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الإسلام لأنه يقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال وله أن يأخذه من الملتقط لأن الوالد أحق بكفالة الولد ومن الملتقط وإن كان الذي أقر بالنسب هو الملتقط فالمستحب أن يقال له من أين صار ابنك لأنه ربما اعتقد أنه بالإلتقاط صار أباً له وإن ادعى نسبه عبد لحق به لأن العبد كالحر في السبب الذي يلحق به النسب ولا يدفع إليه لأنه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه وإن ادعى نسبه كافر لحق به لأن الكافر كالمسلم في سبب النسب وهل يصير اللقيط كافراً؟ قال في اللقيط أحببت أن أجعله مسلماً وقال في الدعوى والبينات أجعله مسلماً فمن أصحابنا من قال إن أقام البينة حكم بكفره قولاً واحداً وإن لم تقم البينة ففيه قولان: أحدهما يحكم بكفره لأنا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكمنا بأنه ولد على فراشه والقول الثاني يحكم بإسلامه لأنه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره بقول كافرن وقال أبو إسحاق: الذي قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينة عليه لأنه قد ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر والذي قال في الدعوى والبينات أراد إذا ادعاه من غير بينة لأنه محكوم بإسلامه بظاهر الدار فلا يصير كافراً بدعوى الكافر وهذا الطريق هو الصحيح لأنه نص عليه في الإملاء وإذا قلنا إنه يتبع الأب في الكفر فالمستحب أن يسلم إلى مسلم أن يبلغ احتياطاً للإسلام فإن بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره وإن وصف الإسلام حكمنا بإسلامه من وقته.
فصل: وإن ادعت امرأة نسبة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقبل لأنها أحد الأبوين فقبل إقرارها بالنسب كالأب والثاني لايقبل وهو ظاهر النص لأنه يمكن إقامة البينة على ولادتها من طريق المشاهدة فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الأب فإنه لا يمكن إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة فقبلت فيه دعواه ولهذا قلنا إنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق لم يقبل قولها في دخول الدار إلا ببينة ولو قال لها إن حضت فأنت طالق قبل قولها في الحيض من غير بينة لما ذكرناه من الفرق فكذلك ههنا والثالث إن كانت فراشاً لرجل لم يقبل قولها لأن إقرارها يتضمن إلحاق النسب بالرجل وإن لم تكن فراشاً قبل لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها.
فصل: وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما لأن الولد لاينعقد من اثنين(2/316)
والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] فإن لم يكن لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة وهم قوم بني مدلج من كنانة فإن ألحقته بأحدهما لحق به لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤوسهما وقد بدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض فلو لم يكن ذلك حقاً لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يجوز أن يكون من غير بني مدلج؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن ذلك ثبت بالشرع ولم يرد الشرع إلا في بني مدلج والثاني أنه يجوز وهو الصحيح لأنه علم يتعلم ويتعاطى فلم تختص به قبيلة كالعلم بالأحكام وهل يجوز أن يكون واحداً فيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ولأنه بمنزلة الحاكم لأنه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم والثاني لا يجوز أقل من اثنين لأنه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل من جزاء الصيد ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبداً كما لا يجوز أن يكون الحاكم امرأة ولا عبداً ولا يقبل إلا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا إلا قول من عرف في العلم حذقه وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الأمر عليها أو لم تكن قافة ترك حتى يبلغ ويؤخذان بالنفقة عليه لأن كل واحد منهما يقول أنا الأب وعلى نفقته فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للغلام الذي أحلقته القافة بهما: وال أيهما شئت ولأن الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره فإذا تعذر العلم بقول القافة رجع إلى اختيار الولد وهل يصح أن ينتسب إذا صار متميزاً ولم يبلغ؟ فيه وجهان: أحدهما يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزاً والثاني لا يصح لأنه قول يتعين به النسب ويلزم الأحكام به فلا يقبل من الصبي ويخالف اختيار الكون مع أحد الأبوين لأن ذلك غير لازم ولهذا لو اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر جاز ولا يجوز ذلك في النسب وإن كان لأحدهما بينة قدمت على القافة لأن البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة تخبر عن اجتهاد فإن كان لكل واحد(2/317)
منهما متعارضتان لأنه لا يجوز أن يكون الولد من اثنين ففي أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة وقد بيناه وفي الثاني تستعملان فعلى هذا هل يقرع بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضى له لأنه لا يمكن قسمة الولد بينهما ولا يمكن الوقف لأن فيه إضرارا باللقيط فوجبت القرعة والثاني لا يقرع لأن معنا ما هو أقوى من القرعة وهي القافة فعلى هذا يصير كما لو لم يكن لهما بينة وليس موضع تسقط الأقوال الثلاثة في استعمال البينتين إلا في هذا الموضع على هذا المذهب وإن تداعت امرأتان نسبه وقلنا إنه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة فهل يعرض على القافة؟ فيه وجهان: أحدهما يعرض لأن الولد يأخذ الشبه من الأم كما يأخذ من الأب فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الأب من غيره بالشبه جاز في تمييز الأم من غيرها والثاني لا يعرض لأن الولد يمكن معرفة أمه يقيناً فلم يرجع إلى القافة بخلاف الأب فإنه لا يمكن معرفته إلا ظناً فجاز أن يرجع فيه إلى الشبه.
فصل: وإن ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل هو الحرية فإن شهدت له البينة نظرت فإن شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في اللقيط جعلته له وقال في الدعوى والبينات إن شهدت له بأنه ولدته أمته في ملكه جعلته له فمن أصحابنا من قال يجعل له قولاً واحداً وإن لم تقل ولدته في ملكه وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيد لا شرطاً لأن ما تأتي به أمته من غيره لا يكون إلا مملوكاً له ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجعل له بينة والثاني لا يجعل له لأنه يحتمل أن تكون الأمة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وإن شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك ففيه قولان: أحدهما يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال وإن لم تذكر سببه والثاني لا يحكم لأن البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه بالإلتقاط أو غيره وإن شهدت البينة له باليد فإن كان المدعي هو الملتقط لم يحكم له لأنه قد عرف سبب يده وهو الإلتقاط ويد الإلتقاط لا تدل على الملك فلم يكن للشهادة تأثير وإن كان المدعي غيره ففيه قولان: أحدهما يحكم له مع اليمين لأن اليد قد ثبتت فإذا حلف حكم له كما لو كان في يده مال فحلف عليه والثاني لا يحكم له لأن ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك لأن الظاهر الحرية.
فصل: ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية لأن السبب الذي أوجب(2/318)
الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقي على إسلامه فإن بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد فإن تاب وإلا قتل لأنه محكوم بإسلامه قطعاً فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما ما ذكرناه والثاني أنه يقر على الكفر لأنه لما بلغ زال حكم التتبع فاعتبر بنفسه فإن بلغ ولم يف الإسلام ولا الكفر فقتله قاتل فالمنصوص أنه لا قود على قاتله ومن أصحابنا من قال يجب القود لأنه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكون غير راض بالإسلام والقصاص يسقط بالشبهة فسقط ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعاً وبعد البلوغ لا نعلم بقاء الإسلام فأما من حكم بإسلامه بالدار فإنه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه أو بالسابي فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطاً فإن أقام على الكفر أقر عليه ومن أصحابنا من قال هو كالمحكوم بإسلامه بأبويه لأنه محكوم بإسلامه بغيره فصار كالمسلم بأبويه والمنصوص أنه يقر على الكفر لأنه محكوم بإسلامه من جهة الظاهر ولهذا لو ادعاه ذمي وأقام البينة حكم بكفره.
فصل: وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد وقال اللقيط بل أنا حر ففيه قولان: أحدهما أن القول قول اللقيط لأن الظاهر من حاله الحرية والثاني أن القول قول القاذف لأنه يحتمل أن يكون عبداً والأصل براءة ذمة القاذف من الحد وإن قطع حر طرفه وادعى أنه عبد وقال اللقيط بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: كالقذف ومنهم من قال إن القول قول اللقيط قولاً واحداً وفرق بينه وبين القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفي القذف قد وجب الحد في الظاهر ووجوب التعزير يقين لأنه بعض الحد فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من الظاهر إلى اليقين فجاز.
فصل: إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وابتاع ونكح وأصدق وجنى وجني عليه ثم قامت البينة على رقه كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد القن يمضي ما يمضي من تصرفه وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر غيره لأنه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك فإن أقر على نفسه بالرق لرجل فصدقه نظرت فإن كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره بالرق لأنه لزمه بإقراره بالحرية أحكام الأحرار في العبادات والمعاملات فلم يقبل إقراره في إسقاطها وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يقبل إقراره بالرق لأنه محكوم(2/319)
بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما لو أقر بالحرية ثم أقر بالرق والثاني يقبل لأنا حكمنا بحريته في الظاهر وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله بالإقرار ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه فكذلك ههنا ومنهم من قال إقراره بالرق قولاً واحداً لما ذكرناه ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق فإما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه فعلى قولين: أحدهما يقال إقراره في جميعه لأن الرق هو الأصل وقد ثبت فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة والثاني يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره لأن إقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره ولم يقبل فيما يضر غيره كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره وهذا الطريق هو الصحيح وعليه التفريع فإن باع واشترى فإن قلنا يقبل إقراره في الجميع وقلنا إن عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقوده فاسدة فإن كانت الأعيان باقية وجب ردها وإن كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق وإن قلنا يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره لم يقبل قوله في إفساد العقود ويلزمه أعواضها فإن كان في يده مال استوفى منه فإن فضل في يده شيء كان لمولاه وإن كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فإن قلنا يقبل إقرارها في الجميع فالنكاح باطل لأنه عقد بغير إذن المولى فإن كان قبل الدخول لم يجب على الزوج شيء وإن كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل لأنه وطء في نكاح فاسد وإن أتت بولد فهو حر لأنه دخل على أنه حر وعليه قيمته ويجب عليها عدة أمه وهي قرءان وإن قلنا لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح لأن فيه إضراراً بالزوج ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح وفي حقها في حكم الفاسد فإن كان قبل الدخول لم يجب لها مهر لأنها لا تدعيه وإن كان بعد الدخول وجب لها أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى لأنه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لأن فيه إضراراً بالزوج وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لأنا لا نقبل قوله فيما يضره ونقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة فإن اخترت إمساكها كان ما تلده مملوكاً للسيد لأنك تطؤها على علم أنها أمة وإن طلقها اعتدت عدة حرة وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لأنا لا نقبل قولها عليه فيما يضره وإن مات عنها لزمته عدة أمة وهي شهران وخمس ليال لأن عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى لا حق له فيها ولهذا تجب من غير وطء وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله تعالى من العبادات وإن كان اللقيط غلاماً فتزوج ثم أقر بالرق فإن قلنا يقبل إقراره في الجمع بطل النكاح من أصله لأنه بغير إذن المولى فإن لم يدخل بها لم يلزمه شيء وإن دخل بها لزمه أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لأنها لا(2/320)
تدعيه وإن كان مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لأن قوله مقبول وإن ضر غيره وإن قلنا لا يقبل قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله إن النكاح باطل لأنه يضرها ولكن يحكم بانفساخه في الحال لأن أقر بتحريمها فإن كان قبل الدخول لزمه نصف المسمى وإن دخل بها لزمه جميعه لأنه لا يقبل قوله في إسقاط المسمى.
فصل: وإن جنى عمداً على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على القولين وإن جنى خطأ وجب الأرش في رقبته على القولين لأن وجوب القصاص ووجوب الأرش في رقبته يضره ولا يضر غيره وقبل قوله فيه وإن جنى عليه حر عمداً لم يجب القول على الجاني لأن ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه وإن جنى عليه خطأ بأن قطع يده فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط يدعي نصف القيمة فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف القيمة لأن ما زاد عليه لا يدعيه وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين: إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة وإن قلنا لا يقبل فيما يضره غيره وجب نصف الدية لأن فيما زاد إضراراً بالجاني.
فصل: وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره كما لو أقر له بدار فكذبه وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل وقال أبو العباس: يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها الآخر والمذهب الأول لأن بإقراره الأول قد أخبر أنه لم يملكه غيره فإذا كذبه المقر له رجع إلى الأصل وهو أنه حر فلم يقبل إقراره بالرق بعده ويخالف الدار لأنه إذا كذبه الأول رجع إلى الأصل وهي مملوكة فقبل الإقرار بها لغيره
فصل: وإذا بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبد فأنكره فالقول قوله لأن الأصل الحرية وإن طلب المدعي يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في إقراره بالرق فإن قلنا يقبل حلف لأنه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق وإن قلنا لا يقبل لم يحلف لأن اليمين إنما تعرض ليخاف فيقر ولو أقر لم يقبل فلم يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.(2/321)
كتاب الوقف
الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر فقال: قد أصبت مالاً لم أصب مثله وقد أردت أن أتقرب به لله تعالى فقال: "حبس الأصل وسبل الثمرة1".
فصل: ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان والأساس والسلاح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب يعني الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقم بن جميل إلا أنه كان كان فقيراً فأغناه الله ورسوله" فأما خالد فإنكم تظلمون خالداً إن خالداً قد حبس أدرعه وأعتده معاً في سبيل الله ولأنه لما أمر عمر رضي الله عنه بتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة دل ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به وأما ما لا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر من الحيوان فلا يجوز وقفه لأنه لا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشروط باب 19. مسلم في كتاب الوصاية حديث 15. أبو داود في كتاب الصايا 13. الترمذي في كتاب الأحكام باب 36. النسائي في كتاب الأحباس باب 2.(2/322)
يمكن الانتفاع به على الدوام ويجوز وقف الصغير من الرقيق والحيوان لأنه يرجى الانتفاع به على الدوام ولا يجوز وقف الحمل لأنه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع.
فصل: واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها واختلفوا في الكلب فمنهم من قال: لا يجوز وقفه لأن الوقف تمليك والكلب لا يملك ومنهم من قال: يجوز الوقف لأن القصد من الوقف المنفعة وفي الكلب منفعة فجاز وقفه واختلفوا في أم الولد فمنهم من قال: يجوز وقفها ولأنه ينتفع بها على الدوام فهي كالأم القنة ومنهم من قال لا يجوز لأنها لا تملك.
فصل: ولا يصح الوقف إلا في عين معينة فإن وقف عبداً غير معين أو فرساً غير معين فالوقف باطل لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين في الذمة كالعتق والصدقة.
فصل: وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لأن عمر رضي الله عنه وقف مائة سهم من خيبر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن القصد بالوقف حبس الأصل وتسبيل المنفعة والمشاع كالمقسوم في ذلك ويجوز وقف علو الدار دون سفلها وسفلها دون علوها لأنهما عينان يجوز وقفهما فجاز وقف أحدهما دون الآخر كالعبدين.
فصل: ولا يصح الوقف إلا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد والفقراء والأقارب فإن وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح لأن القصد بالوقف القربة وفيما ذكرناه إعانة على المعصية وإن وقف على ذمي جاز لأنه في موضع القربة ولهذا يجوز التصدق عليه(2/323)
فجاز الوقف عليه وفي الوقف على المرتد والحربي وجهان: أحدهما يجوز لأنه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي والثاني لا يجوز لأن القصد بالوقف نفع الموقوف عليه والمرتد والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما وإن وقف على دابة رجل ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن مؤونتها على صاحبها والثاني يجوز لأنه كالوقف على مالكها.
فصل: ولا يجوز أن يقف على نفسه ولا أن يشرط لنفسه منه شيئاً وقال أبو عبد الله الزبيدي: يجوز لأن عثمان رضي الله عنه وقف بئر رومة وقال دلوي كدلاء المسلمين وهذا خطأ لأن الوقف يقتضي حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى ويخالف وقف عثمان رضي الله عنه لأن ذلك وقف عام ويجوز أن يدخل في العام ما لا يدخل في الخاص والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في المساجد وهي وقف على المسلمين وإن كان لا يجوز أن يخص بالصدقة ولأن في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بينهما.
فصل: ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لأنه تمليك منجز فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة.
فصل: ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف لعى رجل غير معين والوقف على من يختاره فلان لأنه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.
فصل: ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة.
فصل: ولا يجوز إلى مدة لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى مدة كالعتق والصدقة.
فصل: ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع وذلك من وجهين: أحدهما أنه يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها والثاني أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض مثل أن يقف على رجل بعينه ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء فأما إذا وقف وقفاً منقطع الإبتداء والإنتهاء كالوقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لأن العبد لا يملك والولد(2/324)
الذي لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليها شيئاً وإن وقف وقفاً متصل الإبتداء منقطع الإنتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان: أحدهما أن الوقف باطل لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام وهذا لا يوجد في هذا الوقف لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه والثاني أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه وفيما سكت عنه على مقتضاه ويصير كأنه وقف مؤبد ويقدم المسمى على غيره فإذا اقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف لأنه من أعظم جهات الثواب والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صدقة وذو رحم محتاج" وروى سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة1" وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان: أحدهما يختص به الفقراء لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء والثاني يشترك فيه الفقراء والأغنياء لأن في الوقف الغني والفقير سواء وإن وقف وقفاً منقطع الإبتداء متصل الإنتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: يبطل قولاً واحداً لأن الأول باطل والثاني فرع الأصل باطل فكان باطلاً ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما أنه باطل لما ذكرناه والثاني أنه يصح لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلاً فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الأول لا يملك اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها ينقل في الحال إلى من بعده لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه فصار كالمعدوم والثاني وهو المنصوص أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل لمن بعده لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقي على ملكه والثالث أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء لأنه لا يمكن تركه على الواقف لأنه أزال الملك فيه ولا يمكنأن يجعل للفقراء لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء على ما ذكرناه من القولين.
__________
1 رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 82. الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. الدارمي في كتاب الزكاة باب 38. أحمد في مسنده "3/402".(2/325)
فصل: وإن وقف وقفاً مطلقاً ولم يذكر سبيله ففيه قولان: أحدهما أن الوقف باطل لأنه تمليك فلا يصح مطلقاً كما لو قال بعت داري ووهبت مالي والثاني يصح وهو الصحيح لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقاً كالأضحية فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الإبتداء المنقطع الإنتهاء وقد بيناه.
فصل: ولا يصح الوقف إلا بالقول فإن بنى مسجداً وصلى فيه أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفاً لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير قول مع القدرة كالعتق وألفاظه ستة: وقفت وحبست وسبلت وتصدقت وأبدت وحرمت فأما الوقف والحبس والتسبيل فهي صريحة فيه لأن الوقف موضوع له ومعروف به والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "حبس الأصل وسبل الثمرة" وأما التصدق فهو كناية فيه لأنه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده وإن اقترنت به نية الواقف أو لفظ من الألفاظ الخمسة بأن يقول تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة أو حكم الوقف بأن يقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفاً لأنه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف وأما قوله حرمت وأبدت ففيه قولان: أحدهما أنه كناية فلا يصح به الوقف إلا بإحدى القرائن التي ذكرنا لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق والثاني أنه صريح لأن التأبيد والتحريم في غير الأبضاع لا يكون إلا بالوقف فحمل عليه.
فصل: وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها1" لا تباع ولا توهب ولا تورث ويزول ملكه عن العين ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه لا يزول ملكه عن العين لأن الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة وذلك لا يوجب زوال الملك والصحيح هو الأول لأنه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال الملك كالعتق واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه فمنهم من قال: ينتقل إلى الله تعالى قولاً واحداً لأنه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة أزال الملك إلى الله تعالى كالعتق ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح لما ذكرناه والثاني أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لأن ما أزال الملك عن العين لم يزل المالية ينقل إلى الآدمي كالصدقة.
__________
1 تقدم.(2/326)
فصل: ويملك الموقوف عليه غلة الوقف فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها لأنه يملكها ملكاً تاماً فوجب زكاتها عليه فإن كان حيواناً ملك صوفه ولبنه لأن ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة وهل يملك ماتلده فيه وجهان: أحدهما يملكه لأنه نماء الوقف فأشبه الثمرة وكسب العبد والثاني أنه موقوف كالأم لأن كل حكم ثبت فيه للأم يتبعه فيه الولد كحرمة الاستيلاد في أم الولد وإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا يملك وطأها لأنها في أحد القولين لا يملكها وفي الثاني يملكها ملكاً ضعيفاً فلم يملك به الوطأ فإن وطئها لم يلزمه الحد لأنه في أحد القولين يملكها وفي الثاني له شبهة ملك وفي تزويجها وجهان: أحدهما لا يجوز لأنه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولاد فيدخل الضرر على من بعده من أهل الوقف والثاني يجوز لأنه عقد على منفعتها فأشبه الإجارة فإن قلنا إنها للموقوف عليه كان تزويجها إليه وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم كالحرة التي لا ولي لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه لأن له حقاً في منفعتها فلم يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن أتت بولد مملوك كان الحكم فيه كالحكم فيما تلد البهيمة.
فصل: وإن أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال يبني على القولين فإن قلنا إنه للموقوف عليه وجبت القيمة له لأنه بدل ملكه وإن قلنا إنه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفاً لله تعالى وقال الشيخ أبو حامد الإسفرايني: يشتري بها مثله ليكون وقفاً مكانه قولاً واحداً لأنا وإن قلنا إنه ينتقل إلى الموقوف عليه إلا أنه لا يملك الإنتفاع برقبته وإنما يملك الإنتفاع بمنفعته ولأن في ذلك إبطال حق البطن الثاني من الوقف وإن أتلفه الموقوف عليه فإن قلنا إنه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له لم تجب عليه لأنها تجب له وإن قلنا يشتري بها ما يكون وقفاً مكانه أخذت القيمة منه واشترى بها ما يكون مكانه وإن كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فأتت منه بولد ففي قيمة الولد ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف وإن كان الوقف عبداً فجنى جناية توجب المال لم يتعلق برقبته لأنها ليست بمحل للبيع فإن قلنا إنه للموقوف عليه وجب الضمان عليه وإن قلنا إنه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزم الواقف وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح لأنه منع من بيعه ولم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته فلزمه أن يفيده كأم الولد والثاني أنه يجب في بيت المال لأنه لا يمكن إيجابه على الواقف لنه لا يملكه ولا على الموقوف عليه لأنه لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال.(2/327)
والثالث أنه يجب في كسبه لأنه كان محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لأنه مستفاد من الرقبة ويجب أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن بيعه كأم الولد.
فصل: وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتأخير والجمع الترتيب وإدخال من شاء وإخراجه بصفة لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقة للسائل والمحروم والضيف ولذي القربى وابن السبيل وفي سبيل الله وكتب علي كرم الله وجهه بصدقته ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة ويصرف النار عن وجهي ويصرفني عن النار في سبيل الله وذي الرحم والقريب والبعيد لا يباع ولا يورث وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بني هاشم وبني المطلب.
فصل: فإن قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والأنثى والخنثى لأن الجميع أولاده ولا يدخل فيه ولد الولد لأن ولده حقيقة ولده من صلبه فإن كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة بعد الانفصال دون ما كان(2/328)
حدث قبل الانفصال لأنه قبل الانفصال لا يسمى ولداً وإن وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه وقال أبو إسحاق: يدخل فيه لأن اللعان يسقط النسب في حق الزوج ولا يتعلق به حكم سواه ولهذا تنقضي به العدة والمذهب الأول لأن الوقف على ولده باللعان قد بان أنه ليس بولده فلم يدخل فيه وإن وقف على أولاد أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات لأن الجميع أولاد أولاده فإن قال على نسلي أو عقبي أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات قربوا أو بعدوا لأن الجميع من نسله وعقبه وذريته ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84] فجعل هؤلاء كلهم من ذريته وهو ينسب إليه بالأم فإن وقف على عترته فقد قال ابن الأعرابي وثعلب هم ذريته وقال القتيبي هم عشيرته وإن وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لأنهم لا ينسبون إليه ولهذا قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وإن وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل لأنا لا نعلم أنه من البنين فإن وقف على البنات لم يدخل فيه لأنا لا نعلم أنه من البنات فإن وقف على البنين والبنات ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يدخل فيه لأنه ليس من البنين ولا من البنات والثاني أنه يدخل لأنه لا يخلو من أن يكون ابناً أو بنتاً وإن شكل علينا فإن وقف على بني زيد لم يدخل فيه بناته فإن وقف على بني تميم وقلنا إن الوقف صحيح ففيه وجهان: أحدهما لا يدخل فيه البنات لأن البنين اسم للذكور حقيقة والثاني يدخلن فيه لأنه إذا أطلق اسم القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء.
فصل: وإن قال وقفت على أولادي فإن انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفاً منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الأولاد بعد انقراض ولد الصلب لأنه لما شرط انقراضهم دل على أنهم يستحقون كولد الصلب والصحيح هو الأول لأنه لم يشرط شيئاً وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
فصل: وإن وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته فإن كان للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الأب ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخي الأب أو أبيه فإن وقف الشافعي رحمه الله لأقاربه دخل فيه كل من(2/329)
ينسب إلى شافع بن السائب لأنهم يعرفون بقرابته ولا يدخل فيه من ينسب إلى علي وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب لأنهم لا يعرفون بقرابته ويستوي فيه من قرب وبعد من أقاربه ويستوي فيه الذكر والأنثى لتساوي الجميع في القرابة فإن حدث قريب بعد الوقف دخل فيه وذكر البويطي أنه لا يدخل فيه وهذا غلط من البويطي لأنه لا خلاف أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده.
فصل: وإن وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى الولد ذكراً كان أو أنثى لأنه أقرب من غيره لأنه جزء منه فإن لم يكن له ولد فإلى ولد الولد من البنين والبنات فإن لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الأبوين صرف إليه لأنهما أقرب من غيرهما فإن اجتمعا استويا فإن لم يكن صرف إلى أبيهما الأقرب فالأقرب فإن كان له أب وابن ففيه وجهان: أحدهما أنهما سواء لأنهما في درجة واحدة في القرب والثاني يقدم الابن لأنه أقوى تعصيباً من الأب فإن قلنا إنهما سواء قدم الأب على ابن الابن لأنه أقرب منه وإن قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على الأب لأنه أقوى تعصيباً منه فإن لم يكن أبوان ولا ولد وله إخوة صرف إليهم لأنهم أقرب من غيرهم فإن اجتمع أخ من أب وأخ من أم استويا وإن كان أحدهما من الأب والأم والآخر من أحدهما قدم الذي من الأب والأم لأنه أقرب فإن لم يكن له إخوة صرف إلى بني الإخوة على ترتيب آبائهم فإن كان له جد وأخ ففيه قولان: أحدهما أنهما سواء لتساويهما في القرب ولهذا سوينا بينها في الإرث والثاني يقدم الأخ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد فإذا قلنا إنهما سواء قدم الجد على ابن الأخ وإن قلنا يقدم الأخ فابن الأخ وإن سفل أولى من الجد فإن لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الإخوة وأولادهم فإن كان له عم وأبو جد فعلى القولين في الجد والأخ وإن كان له عم وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء فإن كان له جدتان إحداهما تدلي بقرابتين والأخرى بقرابة فالتي تدلي بقرابتين أولى لأنها أقرب ومن أصحابنا من قال إن قلنا إن السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف.
فصل: وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب فإن وجد بعض الثلاثة في درجة والباقي في درجة أبعد استوفى ما أمكن من العدد من الأقرب وتمم الباقي من الدرجة الأبعد لأنه شرط الأقرب والعدد فوجب اعتبارهما.
فصل: وإن وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه ثلاثة أوجه:(2/330)
أحدها يصرف إليهما لأن الاسم يتناولهما والثاني يصرف إلى المولى من أعلى لأن له مزية بالعتق والتعصيب والثالث أن الوقف باطل لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر ولا يجوز الحمل عليهما لأن المولى في أحدهما بمعنى وفي الآخر بمعنى آخر فلا تصح إرادتهما بلفظ واحد فبطل.
فصل: وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقي من أهل الوقف فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء وقال أبو علي الطبري: يرجع إلى الفقراء لأنه لما جعل لهم إذا انقرضوا وجب أن تكون حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض والمنصوص في حرملة هو الأول لأنه لا يمكن نقله إلى الفقراء لأنه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء ولا يمكن رده إلى الواقف لأنه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به.
فصل: وإن وقف مسجداً فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه لم يعد إلى الملك ولم يجز له التصرف فيه لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبداً ثم زمن وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعاً على مسجد فتكسرت ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد والثاني يجوز بيعه لأنه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه وقد يعمر الموضع فيصلى فيه فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التي توجد من متلف الوقف وقد بيناه وإن وقف شيئاً على ثغر فبطل الثغر كطرسوس أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان.
فصل: وإن احتاج الوقف إلى نفق أنفق عليه من حيث الواقف لأنه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله وإن لم يشترط أنفق عليه من غلته لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة فحمل الوقف عليه وإن لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت المال كالحر المعسر الذي لا كسب له وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه.
فصل: والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر فجعل عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها وإذا توفيت فإنه إلى ذوي الرأي من أهلها ولأن سبيله إلى شرطه فكان النظر إلى من شرطه وإن وقف(2/331)
ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه إلى الواقف لأنه كان النظر إليه فإذا لم يشرطه بقي على نظره والثاني أنه للموقوف عليه لأن الغلة له فكان النظر إليه والثالث إلى الحاكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لأن الواقف لم يرض فيه بنظر واحد.
فصل: إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة جعل بينهم بالسوية فإن كان الواقف حياً رجع إلى قوله لأنه ثبت بقوله فرجع إليه.(2/332)
كتاب الهبات
مدخل
...
كتاب الهبات
الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا" وللأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الله ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" "الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله" ومن قطعها قطعه الله وفي الهبة صلة الرحم والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطية فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك" قال: لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء" قال: بلى قال: "فلا إذا" قال الشافعي رحمه الله: ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره ولأن الأقارب ينفس بعضها بعضاً ما لا ينفس العدى فإن فضل بعضهم بعطية صحت العطية لما روي في حديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشهد على هذا غيري" فلو لم يصح لبين له ولم يأمره لأن يشهد عليه غيره ولا يستنكف أن يهب القليل ولا أن يتهب القليل لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع أو ذراع لقبلت".
فصل: وما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته لأنه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بن سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير فقيل يا رسول الله هذا(2/333)
حمار عقير فقال: "دعوه فإنه سيطلبه صاحبه" فجاء رجل من فهر فقال: يا رسول الله إني أصبت هذا فشأنكم به فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يقسم لحمه بين الرفاق ولأن القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك.
فصل: وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالبيع قبل القبض لا تجوز هبته لأنه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع.
فصل: ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.
فصل: ولا تصح إلا بالإيجاب والقبول لأنه تمليك آدمي فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول إلى على الفور وقال أبو العباس يصح على التراخي والصحيح هو الأول لأنه تمليك مال في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع.
فصل: ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض لما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إن أحب الناس غنى بعدي لأنت وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت وإن كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً من مالي ووددت أنك جذذته وحزته وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قالت: هذان أخواي فمن أختاي قال: ذو بطن بنت خارجة فإني أظنها جارية فإن مات قبل القبض قام وارثه إن شاء قبض وإن شاء لم يقبض ومن أصحابنا من قال: يبطل العقد بالموت لأنه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة والمنصوص أنه لا يبطل لأنه عقد يئول إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين أنه تلك بالعقد فإن حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له لأن الشافعي رضي الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل أن يهل عليه هلال شوال وقبض بعدما أهل إن فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الأول وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.(2/334)
فصل: فإن وهب لغير الولد وولد الولد شيئاً وأقبضه لم يملك الرجوع فيه لما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما أعطى ولده وإن وهب للولد أو ولد الولد وإن سفل جاز له أن يرجع للخبر ولأن الأب لا يتهم في رجوعه لأنه لا يرجع إلا لضرورة أو لإصلاح الولد وإن تصدق عليه فالمنصوص أن له أن يرجع كالهبة ومن أصحابنا من قال لا يرجع لأن القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عز وجل فلا يجوز أن يتغير رأيه في ذلك والقصد من الهبة إصلاح حال الولد وربما يكون الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع وإن تداعى رجلان نسب مولود ووهبا له مالاً لم يجز لواحد منهما أن يرجع لأنه لم يثبت بنوته فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه ثبت أنه ولده والثاني لا يجوز لأنه لم يثبت له الرجوع في حال العقد وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته والثاني لا يجوز لأنه رجوع على غير من وهب له فلم يجز وإن وهب لولده شيئاً فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان: أحدهما يرجع لأن حقه سابق لحقوق الغرماء والثاني لا يرجع لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه.
فصل: وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشتري أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع وقد بيناه في التفليس.
فصل: فإن وهب شيئاً من دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض لأن القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة وإن وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضاً أن يثيبه لأن القصد من هبته اكتساب المحبة وتأكيد الصداقة وإن وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان: قال في القديم: لم يلزمه أن يثيبه عليه بعوض لأن العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط وقال في الجديد: لا يجب لأنه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة النظير للنظير فإن قلنا لا يجب فشرط فيه ثواباً معلوماً ففيه قولان: أحدهما يصح لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه والثاني أنه باطل لأنه عقد لا يقتضي العوض فبطل شرط العوض كالرهن فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه وإن شرط فيه ثواباً مجهولاً بطل قولاً واحداً لأنه شرط العوض ولأنه شرط(2/335)
عوضاً مجهولاً وإن قلنا أنه يجب العوض ففي قدره ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه أن يعطيه إلى أن يرضى لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها وقال "أرضيت؟ " قال لا فزاده وقال: أرضيت فقال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي" والثاني يلزمه قدر قيمته لأنه عقد يوجب العوض فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح والثالث يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله لأن العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف فإن قلنا إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع فإن تلفت العين رجع بقيمتها لأن كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع ومن أصحابنا من قال: لايجب لأن حق الواهب في العين وإن نقصت العين رجع فيها وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمة إذا تلفت وإن شرط عوضاً مجهولاً لم تبطل لأنه شرط ما يقتضيه العقد لأن العقد على هذا القول يقتضي عوضاً مجهولاً وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف وإن شرط عوضاً معلوماً ففيه قولان: أحدهما أن العقد يبطل لأن العقد يقتضي عوضاً غير مقدر فبطل بالتقدير والثاني يصح لأنه إذا صح بعوض مجهول فلأن يصح بعوض معلوم أولى.
فصل: وإن اختلف الواهب والموهوب له فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له وهبتني على غير بدل ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الواهب لأنه لم يقر لخروج الشيء من ملكه إلا على بدل والثاني أن القول قول الموهوب له لأن الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلاً الأصل عدمه.(2/336)
باب العمرى والرقبى
العمرى هو أن يقول أعمرتك هذه الدار أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل: إحداها أن يقول أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك فهذه عطية صحيحة تصح بالإيجاب والقبول ويملك فيها بالقبض والدليل عليه ماروى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها1" لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث والثانية أن يقول أعمرتك هذه الدار
__________
1 رواه مسلم في كتاب الهبات حديث 25. أأأبو داود في كتاب البيوع باب 85. النسائي في كتاب العمري باب 4. أحمد في مسنده "3/304".(2/336)
حياتك ولم يشرط شيئاً ففيه قولان: قال في القديم: هو باطل لأنه تمليك عين قدرة بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد وقال في الجديد: هو عطية صحيحة ويكون للمعمر في حياته ولو ورثته بعده وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمرى حياته فهي له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده1" ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن ما جعله في حياته منافياً لحكم الأملاك والثالثة أن يقول أعمرتك حياتك فإن مت عادت إلي إن كنت حياً وإلى ورثتي إن كنت ميتاً فهي كالمسألة الثانية فتكون على قولين أحدهما تبطل والثاني تصح لأنه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.
فصل: وأما الرقبى فهو أن يقول أرقبتك هذه الدار أو داري لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحبه فإن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتاً وهذا خطأ لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعمر وأرقب رقبى فهي للمعتمر يرثها من يرثه2".
فصل: ومن وجب على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه من أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بقبول من عليه الدين لأنه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة ولأن فيه التزاماً منه فلم يملك من غير قبوله كالهبة والمذهب الأول لأنه إسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق والعفو عن الشفعة والقصاص ولا يصح الإبراء من دين مجهول لأنه إزالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الهبة باب 32. مسلم في كتاب الهبات حديث 30 - 32. الترمذي في كتاب الأحكام باب 15. النسائي في كتاب العمري باب 1،2. أحمد في مسنده "1/250".
2 المصدر السابق.(2/337)
كتاب الوصايا
مدخل
...
كتاب الوصايا
من ثبتت له الخلافة على الأمة جاز له أن يوصي بها إلى من يصلح لها لأن أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى رضي الله عنهم ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
فصل: ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولي بعده جاز له أن يوصي إلى من ينطر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضي الله عنه عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عثمان والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضي الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله وإن كان له جد لم يجز أن يوصي إلى غيره لأن ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية.
فصل: ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز أن يوصي إلى من يزوجها وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصي إلى من ينظر في مالها وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال: زوجني قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عمها ووصي أبيها وقد زوجتها من عبد الله بن عمر فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها" ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.
فصل: ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمي أو حج أو زكاة أو رد وديعة جاز أن يوصي إلى من يؤدي عنه لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره فلأن يجوز في خاصة نفسه أولى.
فصل: ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة ملك الوصية بثلثه في وجود البر لما روى عامر بن سعيد عن أبيه قال: مرضت مرضاً أشرفت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت: يا رسول الله لي مال كثير وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بمالي كله قال: "لا" قال: أتصدق بثلثي مالي قال: "لا" قلت أتصدق بالشطر قال: "لا" قلت: أتصدق بالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من(2/338)
أن تتركهم عالة يتكففون الناس1" ولا يجب ذلك لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] وفسر بالوصية فجعل ذلك إليهم فدل على أنها لا تجب ولأنه عطية لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياساً على ما زاد على الثلث.
فصل: وإن كانت ورثته فقراء فالمستحب أن لا يستوفي الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس" فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفي الثلث وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفي الثلث لأنه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه.
فصل: وينبغي لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه لقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا عن الزيادة على الثلث.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 16. مسلم في كتاب الوصية حديث 8،8. أبو داود في كتاب الصايا باب 2. الترمذي في كتاب الصايا باب 1. الموطأ في كتاب الوصايا حديث 4. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5. أحمد في مسنده "1/168".(2/339)
فصل: والأفضل أن يقدم ما يوصي به من البر في حياته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا1" ولأنه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإنه اختار أن يوصي فالمستحب أن لا يؤخر الوصية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ولأنه إذا أخر لم يؤمن أن يموت فجأة فتفوته.
فصل: وأما من لا يجوز تصرفه في المال فإن كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت لم تصح وصيته لأن الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز ولهذا لا يصح إسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته فإن كان صبياً مميزاً أو بالغاً مبذراً ففيه قولان: أحدهما لا تصح وصيته لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والمبذر كالهبة والثاني تصح لأنه منع من التصرف خوفاً من إضاعة المال وليس في الوصية إضاعة المال لأنه إن عاش فهو على ملكه وإن مات لم يحتج إلى غير الثواب وقد حصل له ذلك بالوصية.
فصل: وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث لأن ماله ميراث للمسلمين ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعداً عن الوصية بما زاد على الثلث والنهي يقتضي الفساد وليست الزيادة مالاً للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث والثاني أنها تصح وتقف على إجازة الوارث فإن أجاز نفذت وإن ردها بطلت لأن الوصية صادفت ملكه وإنما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الإجازة كما لو باع ما فيه شفعة فإن قلنا على أنها باطلة كانت الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها الإيجاب والقبول باللفظ الذي تنعقد به الهبة ويعتبر في لزومها القبض وإن كانت الوصية عتقاً لم يصح إلا بلفظ العتق ويكون
__________
1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 93. النسائي في كتاب الزكاة باب 60. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 4. أحمد في مسنده "2/231".(2/340)
الولاء فيه للوارث وإن قلنا إنها تصح كانت الإجازة إمضاء لما وصى به الموصي وتصح بلفظ الإجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو فإن كانت الوصية عتقاً كان الولاء للموصي ولا يصح الرد والإجازة إلا بعد الموت لأنه لا حق له قبل الموت فلم يصح إسقاطه كالعفو عن الشفعة قبل البيع.
فصل: فإن جاز الوارث ما زاد على الثلث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل وقد بان أنه كثير لزمت الإجازة فيما علم والقول قول فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه لأن الإجازة في أحد القولين هبة وفي الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وإن وصى بعبد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال كثير وقد بان قليل ففيه قولان: أحدهما أن القول قوله كالمسألة قبلها والثاني أنه يلزمه الوصية لأنه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فإن هناك لم يعلم ما أجازه.
فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قدر المال لإخراج الثلث فمنهم من قال الإعتبار بقدر المال في حال الوصية لأنه عقد يقتضي اعتبار قدر المال فكان الإعتبار فيه بحال العقد كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة فإن أوصى بألف ولا مال ثم استفاد مالاً لم تتعلق به الوصية وإن وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية ومنهم من قال: الإعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها ولأنه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن لأنه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الألفين فإن وصى بمال ولا مال ثم استفاد مالاً تعلقت به الوصية فإن وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله لم تبطل الوصبية.
فصل: وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصية للكنيسة والوصية بالسلاح لأهل الحرب فهي باطلة لأن الوصية إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا روي أن(2/341)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم1" وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية فإن وصى ببيع ما له من رجل من غير محاباة ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه قصد تخصيصه بالتمليك والثاني لا يصح لأن البيع من غير محاباة ليس بقربة فلم تصح الوصية به وإن وصى لذمي جاز لما روي أن صفية وصت لأخيها بثلثها ثلاثين ألفاً وكان يهودياً ولأن الذمي موضع للقربة ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية فإن وصى لحربي ففيه وجهان أحدهما: أنه لا تصح الوصية وهو قول أبي العباس بن القاص لأن القصد بالوصية نفع الموصى له وقد أمرنا بقتل الحربي وأخذ ماله فلا معنى للوصية له والثاني يصح وهو المذهب لأنه تمليك يصح للذمي فصح للحربي كالبيع.
فصل: واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين لا يجوز لأنه مال مستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث وقال في الثاني: يجوز لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لأن عتقها ليس بوصية بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا إن التدبير عتق بالصفة عتق لأنه ليس بوصية وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفة تعتق وإن قلنا إنه وصية وقلنا إن الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق وإن قلنا إنها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين لأن الأجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضي فيتخلص منه.
فصل: واختلف قوله في الوصية للوارث فقال في أحد القولين لا تصح لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث2" ولأنها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة والثاني تصح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز لوارث وصية إلا إن شاء الورثة" فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 5.
2 رواه البخالري في كتاب الوصايا ببباب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 6.(2/342)
وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية.
فصل: ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لأنه تمليك فلم يصح للميت كالهبة وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية أو لستة أشهر وليست بفراش صحت الوصية لأنه يملك بالإرث فملك بالوصية وإن وضعته لستة أشهر وهي فراش لم تصح الوصية لأنه يجوز أن يكون حدث بعد الوصية فلم تصح الوصية بالشك فإن ألقته ميتاً لم تصح الوصية لأنه لا يتقين حياته حال الوصية ولهذا لا يحكم له بالإرث فلم يحكم له بالملك بالوصية فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الأول لأنه تمليك لمن لا يملك فلم يصح.
فصل: فإن قال وصيت بهذا العبد لأحد هذين الرجلين لم يصح لأنه تمليك لغير معين فإن قال أعطوا هذه العبد أحد هذين الرجلين جاز لأنه ليس بتمليك وإنما هو وصية بالتمليك ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين الرجلين جاز.
فصل: فإن أوصى لعبده كانت الوصية لوارثه لأن العبد لا يملك فكانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لمكاتبه صحت الوصية لأن المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصية فإن وصى لأم ولده صحت لأنها حرة عند الاستحقاق فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصية لأنه حر عند الموت فهو كأم الولد فإن لم يعتق كانت الوصية للوارث وقد بيناه فإن وصى لعبد غيره كانت الوصية لمولاه وهل يصح قبوله من غير إذن المولى؟ فيه وجهان: أحدهما وهو الصحيح أنه يصح ويملك به المولى كما يملك ما يصطاده بغير إذنه والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري أنه لا يصح لأنه تمليك للسيد بعقد فلم يصح القبول فيه من غير إذنه وهل يصح قبول السيد فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الإيجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالإيجاب في البيع والثاني يصح لأن القبول في الوصية يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع.
فصل: وتجوز الوصية بالمشاع والمقسوم لأنه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه(2/343)
كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء جاز أن يخلفه الموصى له فإن وصى بمال الكتابة جاز لما ذكرناه فإن وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.
فصل: فإن وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصية لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الإعتبار بحال الوصية لم تصح لأنه لا يملك في الحال ما وصى به.
فصل: وتجوز الوصية بالمنافع لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث فكانت كالأعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعة لآخر لأن المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعة مؤبدة لأن المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصية بالجميع.
فصل: وتجوز الوصية بما يجوز الإنتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميتة لأنه يحل اقتناؤها للإنتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية ولا يجوز بما لا يحل الإنتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لأنه لا يحل الإنتفاع ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصية بها.
فصل: ويجوز تعليق الوصية على شرط في الحياة لأنها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة إذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت.
فصل: وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لأنه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لأنه تمليك لمعين فلم يلزم من غير قبول كالبيع ولا يصح القبول إلا بعد الموت لأن الإيجاب بعد الموت فكان القبول بعده فإن قبل حكم له بالملك وفي وقت الملك قولان منصوصان: أحدهما تملك بالموت والقبول لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة والثاني أنه موقوف فإن قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت لأنه لا يجوز أن يكون للموصي لأن الميت لا يملك ولا يجوز أن يكون للوارث لأن الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية ولا يجوز أن يكون للموصي له لأنه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث فثبت أنه موقوف وروى ابن عبد الحكم قولاً ثالثاً أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.(2/344)
فصل: وإن رد نظرت فإن كان في حياة الوصي لم يصح الرد لأنه لا حق له في حياته فلم يملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع وإن رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لأنه يثبت له الحق فملك إسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع وإن رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان: أحدهما لا يصح الرد لأنه ملكه ملكاً تاماً فلم يصح رده كما لو قبضه والثاني أنه يصح الرد وهو المنصوص لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل فصح رده قبل القبض كالوقف وإن لم يقبل ولم يرد كان للورثة المطالبة بالقبول أو الرد فإن امتنع القبول والرد حكم عليه بالرد لأن الملك متردد بينه وبين الورثة كما لو تحجز أرضاً فامتنع عن إحيائها أوقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف.
فصل: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلب الوصية ولا يقوم وارثه مقامه إن مات قبل إستحقاق الوصية وإن مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لأنه خيار ثابت في تملك المال فقام الوارث مقامه كخيار الشفعة.(2/345)
باب ما يعتبر من الثلث
ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض أو بعضها في الصحة وبعضها في المرض لأن لزوم الجميع عند الموت فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة ولا حق للورثة مع الديون فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدي ذلك من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنها قصد التوفير على الورثة فاعتبرت من الثلث وإن وصى بها ولم يقل أنها من الثلث ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص لأنها من رأس المال فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا والثاني هو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه إن لم يفرق بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث لأنها في الأصل من رأس المال فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها وإن قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحداً والثالث أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح لأنها في الأصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها والقرينة تقتضي التسوية بينهما في الفعل لا في السبيل فبقيت على أصلها.
فصل: وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من(2/345)
الثلث لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لأحد في ماله فاعتبر من رأس المال وإن كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث لأن الإنسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح وإن كان ذلك في مرض مخوف واتصل به الموت اعتبر من الثلث لما روى عمران بن الحصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل قولاً شديداً ثم دعاهم فجزأهم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ولأنه في هذه الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لأنه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد وإن وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لأنه لم يلزم إلا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض.
فصل: وإن باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لأنه ليس بوصية لأن الوصية أن يخرج مالاً من غير عوض ولم يخرج ههنا شيئاً من غير عوض وإن كاتب عبداً اعتبر من الثلث لأن ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض وإن وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه لأنه ليس بوصية لأنه لم يخرج من ملكه شيئاً بغير عوض والمذهب الأول لأنه ملكه بالقبول وعتق عليه والعتق في المرض وصية والميراث والوصية لا يجتمعان فلو ورثناه بطل عتقه وإذا بطل العتق بطل الإرث فأثبتنا وأبطلنا الإرث.
فصل: والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والإسهال المتواتر وقيام الدم والسل في انتهائه والفالج الحادث في ابتدائه والحمى المطبقة لأن هذه الأمراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين وإسهال يوم أو يومين من غير دم والسل قبل انتهائه والفالج إذا طال لأن هذه الأمراض يؤمن معها(2/346)
معاجلة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الأمراض وإن أشكل شيء من هذه الأمراض رجع إلى نفسين من أطباء المسلمين ولا يقبل فيه قول الكافر وإن ضرب الحامل الطلق فهو مخوف لأنه يخاف منه الموت وفيه قول آخر أنه غير مخوف لأن السلامة منه أكثر.
فصل: وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان أو كان في البحر وتموج أو في أسر كفار يرون قتل الأسارى أو قدم للقتل في المحاربة أو الرجم في الزنا ففيه قولان: أحدهما أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث لأنه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف والثاني أنه كالصحيح لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم القتل القصاص فالمنصوص أنه لا تعتبر من الثلث ما لم يجرح واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياساً على الأسير في يد كفار يرون قتل الأسارى ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لأنه غير مخوف لأن الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا فصار كالأسير في يد من لا يرى قتل الأسارى.
فصل: وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخلو إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض فإن كانت في وقت واحد نظرت فإن كانت في هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم فإن كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوي كما يفعل في الديون وإن كان عتقاً في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين ولأن القصد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه فإن وقعت متفرقة قدم الأول فالأول عتقاً كان أو غيره لأن الأول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده فإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم: إن أعتقت غانماً فأنت حر ثم أعتق غانماً قدم عتق غانم لأن عتقه سابق فإن قال إن أعتقت غانماً فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانماً فقد قال بعض أصحابنا يعتق غانم لأن عتقه غير متعلق بعتق غيره وعتق سالم متعلق بعتق غيره فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدي إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لأنه أصل ويحتمل عندي أنه لا يعتق واحد منهما لأنه جعل عتقهما في وقت واحد ولا يمكن أن نقرع بينهما لما ذكرناه ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر(2/347)
بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لأن ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت فإن كانت كلها هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوي إن تساوت وإن كان الجميع عتقاً أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله وإن كان بعضها عتقاً وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان: أحدهما أن الثلث يقسم بين الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث ويلزم في وقت واحد والثاني يقدم العتق بما له من القوة وإن كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان: أحدهما أنه لا تقدم الكتابة لأنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات والثاني أنها على قولين لأنها تتضمن العتق فكانت كالعتق.
فصل: وإن وصى أن يحج عنه حجة الإسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث وصى معها بتبرعات ففيه وجهان: أحدهما يسقط الثلث على الجميع لأن الجميع يعتبر من الثلث فإن كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفي تمم من رأس المال لأنه في الأصل من رأس المال وإنما اعتبر من الثلث بالوصية فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال والثاني يقدم الحج والدين لأنه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا.
فصل: وإن وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين وإلى الورثة الثلثان وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شيء قسم بين الورثة والموصى له لأن الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال وإن وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضر ويوقف الثلثان لأن الموصى له شريك الوارث في المال فصار كالشريك في المال وإن أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأن الوصية في ثلث الحاضرة ماضية فمكن من التصرف فيه والثاني لا يجوز لأنا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث وإن دبر عبداً قيمته مائة وله مائتان غائبة ففيه وجهان: أحدهما يعتق ثلث العبد لأنه عتق ثلثه مستحق بكل حال والثاني وهو ظاهر المذهب إلى أنه لا يعتق لأنا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز.
فصل: وإن وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص وقال أبو ثور وأبو العباس لا تنفذ الوصية إلا في(2/348)
ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الأول لأن ثلث العبد ملكه وثلث ماله يحتمله فنفذت الوصية فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه لأن الوصية هناك بثلث ماله وماله هو الباقي بعد الاستحقاق وليس كذلك ههنا لأنه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.
فصل: وإن وصى له بمنفعة عبد سنة ففي اعتبارها من الثلث وجهان: أحدهما يقوم العبد كامل المنفعة ويقوم مسلوب المنفعة في مدة سنة ويعتبر ما بينهما من الثلث والثاني تقوم المنفعة سنة فيعتبر قدرها من الثلث ولا تقوم الرقبة لأن الموصى به هو المنفعة فلا يقوم غيرها وإن وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففي اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه: أحدها تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الوارث لأن الموصى له ملك المنفعة والوارث ملك الرقبة وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبة مساوية المنفعة وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثاني تقوم المنفعة في حق الموصى له لأنه ملكها بالوصية ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له لأنه لم يملكها ولا في حق الوارث لأنها مسلوبة المنفعة في حقها لا فائدة له فيها فعلى هذا ينظر كم قدر التركة وقيمة المنفعة فتعتبر من الثلث والثالث وهو المنصوص تقوم الرقبة بمنافعها في حق الموصي له لأن المقصود من الرقبة منفعتها فصار كما لو كانت الرقبة له فقومت في حقه وينظر قدر التركة فتعتبر قيمة الرقبة من ثلثه وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعة لواحد قومت الرقبة في حق من وصى له بها والمنفعة في حق من وصى له بها لأن كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتهما من الثلث.
فصل: وإن وصى له بثمرة بستانه فإن كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث وإن لم تخلق فإن كانت على التأبيد ففي التقويم وجهان: أحدهما يقوم جميع البستان والثاني يقوم كامل المنفعة ثم يقوم مسلوب المنفعة ويعتبر ما بينهما من الثلث فإن احتمله الثلث نفذت الوصية فيما بقي من البستان وإن احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة فإن كان الذي يحتمله النصف كان للموصي له من ثمرة كل عام النصف وللورثة النصف والله أعلم.(2/349)
باب جامع الوصايا
إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين داراً من كل جانب لما روى أبو هريرة رضي الله(2/349)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا يميناً وشمالاً وقداماً وخلفاً".
فصل: وإن وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن وهل يدخل فيه من لا يحفظ جميعه؟ فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لعموم اللفظ والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظه وإن وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا عليهم ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه لأن سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.
فصل: فإن وصى للأيتام لم يدخل فيه من له أب لأن اليتيم في بني آدم من فقد الأب ولا يدخل فيه بالغ لقوله: "لا يتم بعد الحلم1" وهل يدخل فيه الغني فيه وجهان: أحدهما يدخل فيه لأنه يتيم بفقد الأب والثاني لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غني فإن وصى للأرامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال فيه وجهان: أحدهما لا يدخل فيه لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال والثاني يدخل فيه لأنه قد يسمى الرجل أرملاً كما قال الشاعر:
كل الأرامل قد قضيت حاجتهم ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وهل يدخل فيه من لها مال على وجهين كما قلنا في الأيتام.
فصل: وإن وصى للشيوخ أعطى من جاوز الأربعين وإن وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين وإن وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ لأن هذه الأسماء لا تطلق في العرف إلا على ما ذكرناه.
فصل: وإن وصى للفقراء جاز أن يدفع إلى الفقراء والمساكين وإن وصى للمساكين جاز أن يدفع إلى المساكين والفقراء لأن كل واحد من الإسمين يطلق على الفريقين وإن وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية لأان الجمع بينهما يقتضي الجمع في العطية كما قلنا في آية الصدقات وإن وصى لسبيل الله تعالى دفع إلى الغزاة من أهل الصدقات لأنه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع فإن وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين لأن الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين وإن وصى لأحد هذه الأصناف دفع إلى ثلاثة منهم لأنه قد ثبت لهذه الألفاظ عرف الشرع في ثلاثة وهو
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.(2/350)
في الزكاة فحملت الوصية عليها فإن وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كأحدهم فمن أصحابنا من قال: هو بظاهره أن يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يكون كأحدهم ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء لأنه أضاف إليه وإليهم فوجب أن يساويهم ومنهم من قال يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة أرباعه إلى الفقراء لأن أقل الفقراء ثلاثة فكأنه وصى لأربعة فكان حق كل واحد منهم الربع وإن وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء وزيد فقير لم يعط غير الدينار لأنه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار.
فصل: وإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين والهاشميين وطيء وتميم ففيه قولان: أحدهما أن الوصية تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم كما قلنا في الوصية للفقراء والثاني أن الوصية باطلة لأنه لا يمكن أن يعطي الجميع ولا عرف هذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء فإنه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة.
فصل: وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لأنه تمليك ملكه بالإذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصي من أقاربه فإن لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع فإن لم يكونوا صرف إلى جيرانه لأنه قائم مقام الموصي والمستحب للموصي أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.
فصل: وإن وصى بالثلث لزيد وجبريل كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي فإن وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد لأن ذكر الرياح لغو والثاني أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها فإن قال ثلثي لله ولزيد ففيه وجهان: أحدهما أن الجميع لزيد وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] والثاني أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقي للفقراء لأن عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.
فصل: وإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكراً وأنثى صرف إليهما وسوى بينهما لأن ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والأنثى وإن وصى إن ولدت ذكراً فله ألف وإن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكراً وأنثى استحق الذكر الألف والأنثى المائة فإن ولدت خنثى دفع إليه المائة لأنه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فإن ولدت ذكرين أو الأنثيين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن الوارث يدفع الألف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من يشاء(2/351)
من الأنثيين لأن الوصية لأحدهما فلا تدفع إليهما والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه والثاني أنه يشترط الذكران في الألف والأنثيان في المائة لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما ويخالف العبد فإن جعله إلى الوارث وههنا لم يجعله إلى الوارث والثالث أنه يوقف الألف بين الذكرين والمائة بين الأنثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا لأن الوصية لأحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث فوجب التوقف فإن قال إن كان ما في بطنك ذكراً فله ألف وإن كان أنثى فله مائة فولدت ذكراً وأنثى لم يستحق واحداً منهما شيئاً لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكراً أو جميعه أنثى ولم يوجد واحد منهما.
فصل: فإن أوصى لرجل بسهم أو بقسط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير لأن هذه الألفاظ تستعمل في القليل والكثير.
فصل: فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيباً لأنه نصيب أحدهم فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال لأنه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه إلا اليقين ولأنه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه فإن كان له ابنان فوصى لهما بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية لأن نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال ابنه من غير الميراث ومن أصحابنا من قال يصح ويجعل المال بينهما كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطلة لأنه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
فصل: فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلاً نصيب أحدهم لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله ولهذا يروى أن عمر رضي الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب أي أخذ مثلي ما يؤخذ من المسلمين فإن وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم وقال أبو ثور: يعطي أربعة أمثاله وهذا غلط لأن الضعف عبارة عن الشيء ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه.
فصل: فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على خمسة للموصى له بالثلث سهمان وللموصى له بالنصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على خمسة على ما ذكرناه لأن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث والمال بين الغرماء فإن أوصى لرجل(2/352)
بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة قسم المال بينهما على أربعة للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم وللموصى له بالثلث منهم لأن السهام في الوصايا كالسهام في المواريث ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد فكذلك في الوصية فإن لم يجيزوا قسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع.
فصل: فإن قال أعطوه رأساً من رقيقي ولا رقيق له أو قال أعطوه عبدي الحبشي وله عبد سندي أو عبدي الحبشي وسماه باسمه ووصفه بصفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لأنه وصى له بما لا يملكه فإن كان له رقيق أعطى منه واحداً سليماً كان أو معيباً لأنه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسم فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لأنه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصي بطلت الوصية لأنه جاء وقت الوجوب ولا رقيق له فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لأنه بدل ما وجب له.
فصل: فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ ومن أصحابنا من قال لا يجزي إلا ما يجزي في الكفارة لأن العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزي في الكفارة فحملت الوصية عليه فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم وتجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لأن الوصية تعلقت بجميعها فإذا تعذر الجميع بقي في قدر الثلث فإن وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لأن الرقاب جمع وأقله ثلاثة فإن عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن فإن اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شيء فإن لم يمكن أن يشتري بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين وإن أمكن أن يشتري به بعض الثالثة ففيه وجهان: أحدهما يزاد في ثمن الرقبتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الرقاب فقال: "أكثرها ثمناً وأنفسها عند أهلها" والثاني أن يشتري بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار1" ولأن ذلك أقرب إلى العدد الموصى به.
فصل: فإن قال أعتقوا عبداً من عبيدي وله خنثى حكم له بأنه رجل ففيه وجهان:
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكفارات با 6. مسلم في كتاب العتق حديث 22،23. أبو داود في كتاب العتق باب 13. أحمد في مسنده "2/420".(2/353)
أحدهما أنه يجوز لأنه محكوم بأنه عبد والثاني لا يجوز لأن اسم العبد لا ينصرف إليه فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل وروى المزني أنه يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز كما نقله المزني لأنه من الرقيق ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل.
فصل: فإن قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن والمعز لأن اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إلى تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال: يجوز الذكر والأنثى لأن الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والأنثى كالإنسان يقع على الرجل والمرأة فإن قال: أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر فإن كانت ذكوراً لم يدفع إليه أنثى لأنه أضاف إلى المال وليس في المال غيره فإن كانت غنمه ذكوراً وإناثاً فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال فإن قال أعطوه ثوراً لم يعط بقرة فإن قال أعطوه جملاً لم يعط ناقة فإن قال أعطوه بعيراً فالمنصوص أنه لا يعطي ناقة ومن أصحابنا من قال يعطى لأن البعير كالإنسان يقع على الذكر والأنثى فإن قال أعطوه رأساً من الإبل أو رأساً من البقر أو رأساً من الغنم جاز الذكر والأنثى لأنه ذلك اسم للجنس.
فصل: فإن قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطي فرساً أو بغلاً أو حماراً واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا ما قاله على عادة أهل مصر فإن الدواب في عرفهم الأجناس الثلاثة فإن كان الموصي بمصر أعطى واحداً من الثلاثة وإن كان في غيرها لم يعط إلا الفرس لأنه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يعطي واحداً من الثلاثة في جميع البلاد لأن اسم الدواب يطلق على الجميع فإن قال أعطوه دابة من دوابي وليس عنده إلا واحداً من الثلاثة أعطى منه لأنه أضاف إلى ماله وليس له غيره فإن قال: أعطوه دابة ليقاتل عليها العدو لم يعط إلا فرساً فإن قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلاً أو حماراً فإن قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرساً أو حماراً لأن القرينة دلت على ما ذكرناه.
فصل: فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة لأنه ليس عنده كلب ولا يمكن ان يشتري فبطلت الوصية فإن قال أعطوه كلباً من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية لأن ما لا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فإن كان ينتفع بها من أعطى واحداً منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه ما دلت عليه القرينة فإن كان(2/354)
له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الورثة ردت إلى الثلث وفي كيفية الرد وجهان: أحدهما يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الأعيان والثاني يدفع إليه أحدها وتخالف سائر الأعيان لأن الأعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميعها وفيما يأخذ وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ واحداً منها بالقرعة والثاني يعطيه الوارث ما شاء منها فإن كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه فإن كان له مال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يدفع الجميع إلى الموصى له لأن أقل المال خير من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه والثاني هو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يدفع إليه ثلث الكلب لأنه لا يجوز أن يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.
فصل: وإن وصى له بطبل من طبوله وليس له إلا طبول الحرب أعطى واحداً منها وإن لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت فإن لم يصلح وهو طبل لغير اللهو وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة مع بقاء الاسم جازت الوصية لأنه يمكن الانتفاع به في مباح وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو أعطي طبل الحرب لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به فيصير كالمعدوم وإن كان يصلح لمنفعة مباحة أعطاه الوارث ما شاء منهما.
فصل: فإن وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصية بعود اللهو لأن إطلاق الاسم ينصرف إليه فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لأن اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب وإن كان لا يصلح لغير اللهو فالوصية باطلة لأنه وصية بمحرم ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لأن المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله وعنده طبل حرب وطبل لهو أنه يجعل الوصية في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم والمذهب أنه لا يعطى شيئاً لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب فإن قال أعطوه(2/355)
عوداً من عيداني وليس عنده إلا عود قوس أو عود البناء أعطي منها لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه.
فصل: فإن وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذي يرمي عنه النبل والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق لأن إطلاق الاسم ينصرف إلى ما يرمي عنه ولا يعطي معه الوتر ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لأنه لا ينتفع به إلا مع الوتر والصحيح أنه لا يعطى لأن الاسم يقع عليه من غير وتر فإن قال: أعطوه قوساً من قسيي وليس عنده إلا قوس الندف أو قوس البندق أعطي مما عنده لأنه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه وإن كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطي قوس البندق لأن الاسم إليه أسبق.
فصل: فإن وصى بعتق مكاتبه أو بالإبراء مما عليه اعتبر من الثلث أقل الأمرين من قيمته أو مال الكتابة لأن الإبراء عتق والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغي الآخر فإن احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال وإن لم يحتمل شيئاً منه لديوان عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فإن أدى عتق أو عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة فإن احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الأمرين عتق نصفه وبقي نصفه على الكتابة فإن أدى عتق وإن عجز رق وإن احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الأقل فعتق به فإن لم يكن له مال غير العبد نظر فإن كان قد حل عليه مال الكتابة عتق ثلثه في الحال وبقي الباقي على الكتابة إن أدى عتق وإن عجز رق وإن لم يحل عليه مال الكتابة ففيه وجهان: أحدهما لا يتعجل عتق شيء منه لأنه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فإنه لا تمضي الوصية في شيء حتى يحصل للورثة مثلاه والثاني وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق بالأداء أو الرق بالعجز لأن الورثة على يقين من الثلثين إما بالأداء وإما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لأنه ليس على يقين من سلامة الغائب.
فصل: فإن قال ضعوا عن مكاتبي أكثر ام عليه وضع عنه النصف وشيء لأنه هو الأكثر فإن قال ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع إلا شيئاً وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع إلا شيئاً فمن أصحابنا من قال الصحيح مارواه الربيع لأن قوله من كتابته يقتضي(2/356)
التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقل والذي يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لأن قوله ما شاء عدم في الكل والبعض وقال أبو إسحاق: ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضاً صحيح فإنه يقتضي أن يبقى من الكل شيء لأنه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل فإن قال ضعوا عنه ما قل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لأنه ما من قدر إلا وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه فإن قال ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالاً لأن إطلاق الأكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع نجومه أوسط في القدر وأوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لأن الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الأوسط في العدد فإن كانت النجوم ثلاثة وضع عنه الثاني فإن كانت أربعة وضع عنه الثاني والثالث فإن كانت خمسة وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.
فصل: وإن كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصية لأنه لا شيء له في ذمته فصار كما لو وصى بمال في ذمة حر ولا شيء له في ذمته وإن وصى له بما يقبضه منه صحت الوصية لأنه أضاف إلى مال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفي هذا عندي نظر لأنه لا يملكه بالقبض وإنما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه وإن وصى برقبته والكتابة فاسد نظرت فإن لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان: أحدهما أن الوصية جائزة لأنها صادفت ملكه والثاني أنها باطلة لأنه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصية وإن وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولاً واحداً كما لو باع من رجل شيئاً بيعاً فاسداً ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الأول ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فإن فاسده لا يجري مجرى الصحيح في الملك وفي الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الأولى.
فصل: وإن وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لأن الحج من الميقات وما قبله سبب إليه فإن وصى به من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يحج عنه من بلده فإن عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لأنه يجب عليه الحج من بلده والثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لأن الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصية عليه وإن أوصى أن يجعل جميع الثلث في الحج الفرض(2/357)
حج عنه من بلده وإن عجز الثلث عن ذلك جح عنه من حيث أمكن من طريقه وإن عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج من الميقات لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال وإنما جعله من الثلث توفيراً على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقي فيما لم يف من رأس المال.
فصل: وإن أوصى بحج التطوع وقلنا إنه تدخله النيابة نظرت فإن قال أحجوا بمائة من ثلثي حج عنه من حيث أمكن وإن لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصية وعاد المال إلى الورثة لأنها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده وإن قال أحجوا عني بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فإن اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لايكفي لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات فإن عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة وإن أمكن أن يعتمر به لم يفعل لأن الموصى له هو الحج دون العمرة فإن قال أحجوا عني حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.
فصل: وإن وصى أن يحج عنه بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله فإن كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لأن وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شيء فإن أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائة وإلى الموصى له بالمائة مائة وإن لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لأنهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائة فإن كان الثلث أكثر من مائة وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائة إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقي إلى الموصى له بالباقي وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث وفي النصف الآخر وجهان: أحدهما يقدم فيه الموصى له بالمائة ولايدفع إلى الموصى له بالباقي شيء حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه وإن كان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئاً قبل أن يستوفي الموصى له بالباقي ما يبقى والوجه الثاني أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصيتهما من الثلث فإن كانا مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائة وخمسون اقتسما الخمسة والسبعين(2/358)
أثلاثاً للموصى له بالمائة خمسون وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون وعلى هذا القياس لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية.
فصل: وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق إن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لأن الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شيء من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نقدت الوصيتان وإن لم يجيزوا ردت الوصية إلى الثلث فإن كان الثلث مائة استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم فإن كان الثلث ألفاً قسم على أحد عشر سهماً للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم والوجه الثاني وهو قول أبي على بن أبي هريرة إن الحكم في هذه المسألة كالحكم في المسألة قبلها لأنه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لأن الوصية الأولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثاً ثانياً فإذا أوصى بعد المائة بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني فصار موصياً بثلثي ماله كالمسألة قبلها.
فصل: وإن وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقي من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى فإن خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فإن بقي من الثلث شيء دفع إلى الآخر وإن لم يبق شيء بطلت الوصية بالباقي لأن وصيته فيما بقي وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصي قوم سليماً ودفع إلى الموصى له بالباقي لأنه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم وإن مات العبد بعد موت الموصي بطلت الوصية فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما.
فصل: فإن وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه فإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا يجوز للمالك وطؤها لأنه تملك الرقبة من غير منفعة ولا للموصى له وطؤها لأنها تملك المنفعة من غير الرقبة والوطء لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه: أحدها يملكه الموصى له بالمنفعة لأن المهر له والثاني يملكه المالك لأنه يملك رقبتها والثالث لا يصح العقد إلا باتفاقهما لأن لكل واحد منهما حقاً فلا ينفرد به أحدهما دون الآخر فإن(2/359)
أتت بولد مملوك ففيه وجهان: أحدهما أنه للموصى له لأنه من جملة فوائدها فصار كالكسب والثاني أنه كالأم رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لأنه جزء من الأم فكان حكمه حكم الأم فإن قتل ففي قيمته وجهان: أحدهما أنها للمالك لأنها بدله فكانت له والثاني وهو الصحيح أنه يشتري به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لأنه قائم مقام الأصل فكان حكمه كحكم الأصل فإن جنى على طرفه ففي أرشه وجهان: أحدهما أنه للمالك لأنه بدل ملكه والثاني وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبة للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لأنه دخل النقص عليهما فقسط الأرش عليهما فإن احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبو سعيد الاصطخري أن النفقة على الموصى له بالمنفعة لأن الكسب له والثاني أنها على المالك وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن النفقة على الرقبة فكانت على مالكها والثالث أنها في كسبه فإن لم يف الكسب ففي بيت المال لأنه لا يمكن إيجابها على المالك لأنه لا يملك الإنتفاع ولا على الموصى له لأنه لا يملك الرقبة فلم يبق إلا ما قلناه فغن احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقي أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما لأنه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع يجبر على الإنفاق فإذا اشتركا لم يجب.
فصل: فإن أراد المالك بيع الرقبة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز لأنه يملكها ملكاً تاماً والثاني أنه لا يجوز لأنها عين مسلوبة المنفعة فلم يجز بيعها كالأعيان التي لامنفعة فيها والثالث يجوز بيعها من الموصى له لأنه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لأنه لا يمكنه الإنتفاع بها فإن أراد أن يعتقه جاز لأنه يملكه ملكاً تاماً وللموصى له أن يستوفي المنفعة بعد العتق لأنه تصرف في الرقبة فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لأن هناك ملك بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة.(2/360)
باب الرجوع في الوصية
يجوز الرجوع في الوصية لأنها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لأنه فسخ عقداً قبل إتمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار وفسخ الهبة قبل القبض وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لأنه لا يجوز أن يكون وصية وهو محرم عليه فإن قال لوارثي فهو رجوع(2/360)
لأنه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له وإن قال هو تركتي ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأن التركة للورثة والثاني أنه ليس برجوع لأن الوصية من جملة التركة.
فصل: وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لآخر لم يكن ذلك رجوعاً لإمكان أن يكون نسي الأول أو قصد الجمع بينهما فإن قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لآخر فهو رجوع ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الأول لأنه صرح بالرجوع.
فصل: وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب فهو رجوع لأنه صرفه عن الموصى له وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع لأن تعريضه لزوال الملك صرف عن الموصى له ومن أصحابنا من قال أنه ليس برجوع لأنه لم يزل الملك وليس بشيء وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية بثلث المال عند الموت إلا بثلث ما باعه فإن وصى بعبد ثم دبره فإن قلنا إن التدبير عتق بصفة كان ذلك رجوعاً لأنه عرضه لزوال الملك وإن قلنا إنه وصية وقلنا في أحد القولين إن العتق يقدم على سائر الوصايا كان ذلك رجوعاً لأنه أقوى من الوصية فأبطلها وإن قلنا إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان: أحدهما أن ليس برجوع فيكون نصفه مدبراً ونصفه موصى به كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر والثاني أنه رجوع لأن التدبير أقوى لأنه يتنجز من غير قبول والوصية لا تتم إلا بالقبول فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.
فصل: وإن وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعاً لأن هذه التصرفات لا تنافي الوصية فإن كانت جارية فوطئها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعاً كالاستخدام وقال أبو بكر بن الحداد المصري إن عزل عليها لم يكن رجوعاً وإن لم يعزل عنها كان رجوعاً لأنه قصد التسري بها.
فصل: وإن وصى بطعام معين فخلطه بغير كان ذلك رجوعاً لأنه جعله على صفة لا يمكن تسليمه فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعاً لأن الوصية مختلطة بمثلها والذي خلط به مثله فلم يكن ذلك رجوعاً فإن خلطه بأجود منه كان رجوعاً لأنه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها فإن خلطه بما دونه ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه ليس برجوع لأنه نقص حدثه فيه فلم يكن رجوعاً كما لو أخلف بعضه والثاني أنه رجوع لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود(2/361)
منه فإن نقله إلى بلد أبعد بلد الموصى له ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه والثاني أنه ليس برجوع لأنه باق على صفته.
فصل: فإن وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعاً لأنه جعله كالمستهلك وإن وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه أو بعجين فخبزه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الخبز فأشبه إذا ثرده والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه لأنه يقال خبز مدقوق وإن وصى برطب فجعله تمراً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه اسم الرطب والثاني ليس برجوع لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له.
فصل: وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم وإن أوصى له بقطن فحشى به فراشاً ففيه وجهان: أحدهما رجوع لأنه جعله للإستهلاك والثاني ليس برجوع لأن الاسم باق عليه.
فصل: وإن أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها كان رجوعاً لأنه أزال عنه الاسم ولأنه جعله للإستهلاك وإن وصى له بلحم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعاً لأنه جعله للأكل وإن قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمراً
فصل: وإن وصى له بثوب فقطعه قميصاً أو بساج فجعله باباً ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه أزال عنه إطلاق اسم الثوب والساج ولأنه جعله للإستعمال والثاني أنه ليس برجوع لأن اسم الثوب والساج باق عليه.
فصل: وإن وصى بدار فهدمها كان رجوعاً لأنه تصرف أزال به الاسم فكان رجوعاً كما لو وصى بحنطة فطحنها وإن تهدمت نظرت فإن لم يزل عنها اسم الدار فالوصية باقية فيما بقي وأما ما انفصل عنها فالمنصوص أنه خارج من الوصية لأنه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى وحكى القاضي أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهاً آخر أنه للموصى له لأنه تناولته الوصية فلم يخرج منها بالإنفصال وإن زال عنها اسم الدار ففي الباقي من العرصة وجهان: أحدهما أنه تبطل فيه الوصية لأنه أزال عنها اسم الدار والثاني لا تبطل لأنه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع.
فصل: وإن وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعاً لأنه لا يراد البقاء وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعاً وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان: أحدهما أنه رجوع لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة فدل على الرجوع والثاني ليس برجوع لأنه استيفاء منفعة فهو كالزراعة فعلى هذا في موضع الأساس وقرار الغراس وجهان: أحدهما أنه لا تبطل(2/362)
فيه الوصية كالبياض الذي بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له والثاني أنه تبطل الوصية فيه لأنه جعله تابعاً لما عليه.
فصل: وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعاً لأنه قد تنقضي الإجارة قبل الموت فإن مات قبل انقضاء الإجارة ففيه وجهان: أحدهما يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الإجارة والثاني أنها تبطل الوصية بقدر ما بقي من مدة انقضاء الإجارة في مدة الباقي.(2/363)
باب الأوصياء
لا تجوز الوصية إلا إلى بالغ عاقل حر عدل فأما الصبي والمجنون والعبد الفاسق فلا تجوز الوصية إليهم لأنه لا حظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية وأما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ولأنه غير مأمون على المسلم ولهذا قال الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8] وفي جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان: أحدهما أنه يجوز لأنه يجوز أن يكون ولياً له فجاز أن يكون وصياً له كالمسلم والثاني لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.
فصل: وتجوز الوصية إلى المرأة لما روي أن عمر رضي الله عنه وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت فإذا ماتت فهو إلى ذوي الرأي من أهلها ولأنها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل واختلف أصحابنا في الأعمى فمنهم من قال: لا تجوز الوصية لأنه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الأعمى وفضل نظر لا يدرك إلا بالعين.
فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه الشروط التي تصح بها الوصية إليه فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة فإن وصى إلى صبي فبلغ أو كافر فأسلم أو فاسق فصار عدلاً قبل الوفاة صحت الوصية لأن التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الأداء أو الحكم دون التحمل ومنهم من قال تعتبر عند العقد وعند الموت ولا تعتبر فيما بينهما لأن حال العقد حال الإيجاب وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها لأن كل(2/363)
وقت من ذلك يجوز أن يستحق فيه التصرف بأن يموت فاعتبرت الشروط في الجميع.
فصل: وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الوصي فإن كان لضعف ضم إليه معين أمين وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.
فصل: ويجوز أن يوصي إلى نفسين لما روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها ويجوز أن يجعل إليهما وإلى كل واحد منهما لأنه تصرف مستفاد بالإذن فكان على حسب الإذن فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف فإن ضعف أحدهما أو فسق أو مات جاز للآخر أن يتصرف ولا يقام مقام الآخر غيره لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما وحده فإن وصى إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف لأنه لم يرض بأحدهما فإن ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه فإن فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لأن الموصي لم يرض بنظره وحده فإن أراد الحاكم أن يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لأنه لم يرض الموصي باجتهاده وحده فإن ماتا أو فسقا فهل للحاكم أن يفوض إلى واحد؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الأمر فيه إلى الحاكم والثاني لا يجوز لأنه لم يرض بنظر واحد وإن اختلف الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين فإذا بلغا إلى التصرف فإن كان التصرف إلى كل واحد منهما تصرف كل واحد منهما في الجميع وإن كان إليهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف دون الآخر.
فصل: ومن وصى إليه في شيء لم يصر وصياً في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصياً بعد المدة لأنه تصرف بالإذن فكان على حسب الإذن.
فصل: وللوصي أن يوكل فيما لم تجر به العادة أن يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل ولا يجوز أن يوصي إلى غيره لأنه يتصرف بالإذن فلم يملك الوصية كالوكيل فإذا قال أوصيت إليك فإن مت فقد أوصيت إلى فلان صح لأن عمر رضي الله عنه وصى إلى حفصة فإذا ماتت فإلى ذوي الرأي من أهلها ووصت فاطمة رضي الله عنها إلى علي كرم الله وجهه فإذا مات فإلى ابنيها ولأنه علق وصية التالي على شرط فصار كما لو قال: وصيت إليك شهراً ثم قال إلى فلان فإن أوصى إليه وأذن له أن يوصي إلى من يرى فقد(2/364)
قال في الوصايا لا يجوز وقال في اختلاف العراقيين يجوز فمن أصحابنا من قال يجوز قولاً واحداً لأنه ملك الوصية والتصرف في المال فإذا جاز أن ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز أن ينقل الوصية إليه وما قال في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما يجوز لما ذكرناه والثاني لا يجوز لأنه يعقد الوصية عن الموصي في حال لا ولاية له فيه وإن وصى إليه وأذن له أن يوصي بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه قطع اجتهاده فيه بالتعيين والثاني أنه كالمسألة الأولى لأن علة المسألتين واحدة.
فصل: ولا تتم الوصية إليه إلا بالقبول لأنه وصية فلا تتم بالقبول كالوصية له وفي وقت القبول وجهان: أحدهما يصح القبول في الحال وفي الثاني لأنه أذن له في التصرف فصح القبول في الحال والثاني كالوكالة والثاني لا يصح إلا بعد الموت كالقبول في الوصية له.
فصل: وللموصي أن يعزل الوصي إذا شاء وللوصي أن يعزل نفسه متى شاء لأنه تصرف بالإذن لكل واحد منهما فسخه كالوكالة.
فصل: إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة فقال الوصي أنفقت عليك وقال الصبي لم تنفق علي فالقول قول الوصي لأنه أمين وتعذر عليه إقامة البينة على النفقة فإن اختلفا في قدر النفقة قال أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار وقال الصبي بل أنفقت علي خمسين ديناراً فإن كان ما يدعيه الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لأنه أمين وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لأنه فرط في الزيادة وإن اختلفا في المدة فقال الوصي أنفقت عشر سنين وقال الصبي خمس سنين ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري إن القول قول الوصي كما لو اختلفنا في قدر النفقة والثاني وهو قول أكثر أصحابنا إن القول قول الصبي لأنه اختلاف في مدة الأصل عدمها.
فصل: وإن اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي أنه دفعه إليه وأنكر الصبي ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص أن القول قول الصبي لأنه لم يأتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها والثاني أن القول قول الوصي كما قلنا في النفقة.
فصل: ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذنه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له فأما الدين فالدليل عليه ما روي أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أبيها فأذن لها فقالت أينفعه ذلك؟ قال: "نعم كما لو(2/365)
كان على أبيك دين فقضيته نفعه" وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمه توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر: 10] فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لإخوانهم من الموتى وأما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له1" واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه فمنهم من قال لا يقع العتق عن الميت بل يكون للمعتق لأن العتق غير متحتم على الميت لأنه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة ومنهم من قال: يقع عنه لأنه لو أعتق في حياته سقط به الفرض وبالله التوفيق.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الوصية حديث 14. أبو داود في كتاب الوصية باب 14. النسائي في كتاب الوصايا باب 8.(2/366)
كتاب العتق
مدخل
...
كتاب العتق
العتق قربة مندوب إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه1" ولا يصح إلا من مطلق التصرف في المال لأنه تصرف في المال كالبيع والهبة فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف لم يصح عتقه لأنه لا يملكه في أحد القولين ويملكه في الثاني إلا أنه يبطل به حق البطن الثاني فلم يصح وإن أعتق المريض عبداً وعليه دين يستغرقه لم يصح لأن العتق في المرض وصية فلم يصح مع الدين وإن أعتق العبد الجاني فعلى ما ذكرناه في العبد المرهون.
فصل: ويصح بالصريح والكناية وصريحه العتق والحرية لأنه ثبت لهما عرف الشرع وعرف اللغة والكناية كقوله: سيبتك وخليتك وحبلك على غاربك ولا سبيل عليك ولا سلطان لي عليك وأنت لله وأنت طالق وما أشبههما لأنه تحتمل العتق فوقع بها العتق مع النية وفي قوله: فككت رقبتك وجهان أحدهما أنه صريح لأنه ورد به
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكفارات باب 6. مسلم في كتاب العتق حديث 22، 23. الترمذي في كتاب النذور باب 14.(2/367)
القرآن قال الله سبحانه: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [سورة البلد: 13] والثاني أنه كناية لأنه يستعمل في العتق وغيره وإن قال لأمته أنت علي كظهر أمي ونوى العتق ففيه وجهان: أحدهما تعتق لأنه لفظ يوجب تحريم الزوجة فكان كناية في العتق كسائر الطلاق والثاني لا تعتق لأنه لا يزيل الملك فلم يكن كناية في العتق بخلاف الطلاق.
فصل: وإن كان بين نفسين عبد فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسراً قوم عليه نصيب شريكه وعتق لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاؤه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق ما رق" وإن كان بين مسلم وكافر عبد مسلم فأعتق الكافر حصته وهو موسر فالمنصوص أنه يقوم عليه فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الكافر لا يملك العبد المسلم لم يقوم عليه لأن التقويم يوجب التمليك ومنهم من قال: يقوم عليه قولاً واحداً لأنه تقويم متلف فاستوى فيه المسلم والكافر كتقويم المتلفات ويخالف البيع لأن القصد منه التمليك وفي ذلك صغار على الإسلام والقصد من التقويم العتق ولا صغار فيه فإن كان نصف العبد وقفاً ونصفه طلقاً فأعتق صاحب الأرض نصيبه لم يقوم عليه الوقف لأن التقويم يقتضي التمليك والوقف لا يملك ولأن الوقف لا يعتق بالمباشرة فلأن لا يعتق بالتقويم أولى.
فصل: وتجب قيمة النصيب عند العتق لأنه وقت الإتلاف ومتى يعتق فيه ثلاثة أقوال: أحدها يعتق في الحال فإن كانت جارية فولدت كان الولد حراً لما روى أبو المليح عن أبيه أن رجلاً أعتق شقصاً له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس لله شريك" وفي بعضها فأجاز عتقه والثاني أنه يقع بدفع القيمة فإن كان جارية فولدت كان نصف الولد حراً ونصفه مملوكاً لما روى سالم عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهم نصيبه فإن كان موسراً يقوم عليه ولا وكس ولا شطط ثم يعتق" ولأنه عتق بعوض فلا يتقدم على العوض كعتق المكاتب والثالث أنه مراعى فإن دفع العوض حكمنا بأنه عتق في الحال وإن لم يدفع حكمنا بأنه لم يعتق لأنا إذا أعتقناه في(2/368)
الحال أضررنا بالشريك في إتلاف ماله قبل أن يسلم له العوض وإن لم نعتقه أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه فإذا قلنا إنه مراعى لم يكن على كل واحد منهما ضرر فإن دفع القيمة كان حكمه حكم القول الأول وإن لم يدفع كان حكمه حكم القول الثاني فإن بذل المعتق القيمة أجبرنا الشريك على قبضها وإن طلب الشريك أجبرنا المعتق على دفعها فإن أمسك الشريك عن الطلب والمعتق عن الدفع وقلنا إن العتق يقف على الدفع فللعبد أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض ليصل إلى حقه فإن أمسك الجميع فللحاكم أن يطالب بالدفع والقبض لما في العتق من حق الله تعالى فإن أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن يعتق لأنه عتق صادف ملكه والثاني وهو المذهب أنه لا يعتق لأن العتق مستحق من جهة المعتق والولاء مستحق له فلا يجوز إبطاله عليه.
فصل: وإن كان بين اثنين جارية فأحبلها أحدهما ثبتت حرمة الاستيلاد في نصيبه وفي نصيب الشريك الأقوال التي ذكرناها في العتق لأن الاستيلاد كالعتق في إيجاب الحرية فكان كالإعتاق في التقويم والسراية.
فصل: وإن اختلف المعتق والشريك في قيمة العبد والبينة متعذرة فإن قلنا إنه يسري في الحال فالقول قول المعتق لأنه غارم لما استهلكه فكان القول قوله كما لو اختلفا في قيمة ما أتلفه بالجناية وإن قلنا لا يعتق إلا بدفع القيمة فالقول قول الشريك لأن نصيبه باق على ملكه فلا ينزع منه إلا بما يقربه كالمشتري في الشفعة وإن ادعى الشريك أنه كان يحسن صنعة تزيد بها القيمة فأنكر المعتق ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو كالإختلاف في القيمة وفيه قولان ومنهم من قال قول المعتق قولاً واحداً لأن الظاهر معه والشريك يدعي صنعة الأصل عدمها وإن ادعى المعتق عيباً في العبد ينقص به القيمة وأنكر الشريك ففيه طريقان أيضاً: من أصحابنا من قال هو كالإختلاف في القيمة فيكون على قولين ومنهم من قال: القول قول الشريك قولاً واحداً لأن الظاهر معه والمعتق يدعي عيباً الأصل عدمه.(2/369)
فصل: وإن كان المعتق معسراً عتق نصيبه وبقي نصيب الشريك على الرق والدليل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنه وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق منه ما رق ولأن تنفيذ العتق لدفع الضرر عن العبد فلو أعتقنا نصيب الشريك لأضررنا به لأنا نتلف ماله ولا يحصل له عوض والضرر لا يزال بالضرر وإن كان موسراً بقيمة البعض عتق منه بقدره لأن ما وجب بالإستهلاك إذا عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه كبدل المتلف وإن كان معه قيمة الحصة وعليه دين يستغرق ما معه ففيه قولان بناء على القولين في الدين هل يمنع وجوب الزكاة فإن قلنا لا يمنع وجب عليه العتق وإن قلنا يمنع لم يجب العتق.
فصل: وإن ملك عبداً فأعتق بعضه سرى إلى الباقي لأنه موسر بالقدر الذي يسري إليه كما لو أعتق شركاً له في عبد وهو موسر.
فصل: وإن أوصى بعتق شرك له في عبد فأعتق عنه لم يقوم عليه نصيب شريكه وإن احتمله الثلث لأنه بالموت زال ملكه فلا ينفذ إلا فيما استثناه بالوصية وإن وصى بعتق نصيبه بأن يعتق عنه نصيب شريكه والثلث يحتمله قوم عليه وأعتق عنه الجميع لأنه في الوصية بالثلث كالحي فإذا قوم على الحي قوم على الميت بالوصية.
فصل: وإن كان عبد بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس فأعتق صاحب الثلث والسدس نصيبهما في وقت واحد وكانا موسرين قوم النصيب الشريك عليهما بالسوية لأن التقويم استحق بالسراية فقسط على عدد الرؤوس كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل فجرحه أحدهما جراحة والآخر جراحات.
فصل: وإن كان له عبدان فأعتق أحدهما بعينه ثم أشكل أمر بأن يتذكر فإن قال أعتقت هذا قبل قوله لأنه أعرف بما قال فإن اتهمه الآخر حلف لجواز أن يكون كاذباً فإن نكل حلف الآخر وعتق العبدان أحدهما بإقراره والآخر بالنكول واليمين وإن قال هذا بل هذا عتقا جميعاً لأنه صار راجعاً عن الأول مقراً بالثاني فإن مات قبل أن يبين رجع إلى قول الوارث لأن له طريقاً إلى معرفته فإن قال الوارث: لا أعلم فالمنصوص أنه يقرع بينهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر فرجع إلى القرعة ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه يوقف إلى أن ينكشف لأن القرعة تفضي إلى أن يرق من أعتقه ويعتق من أرق فوجب أن يوقف إلى أن يبين والأول هو الصحيح لأن البيان قد فات والوقوف يضر بالوارث في رقيه وبالحر في حق نفسه.
فصل: وإن أعتق عبداً من أعبد أخذ بتعيينه وله أن يعين من شاء فإن قال هو سليم بل غانم عتق سالم ولم يعتق غانم لأنه تخير لتعيين عتق فإذا عينه في واحد سقط خياره(2/370)
في الثاني ويخالف القسم قبله لأن ذلك إخبار لا خيار له فيه فلم يسقط حكم خبره فإن مات قبل أن يعين ففيه وجهان: أحدهما لا يقوم الوارث مقامه في التعيين كما لا يقوم مقامه في تعيين الطلاق في إحدى المرأتين فعلى هذا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق والثاني يقوم مقامه وهو الصحيح لأنه خيار ثابت يتعلق بالمال فقام الوارث فيه مقامه كخيار الشفعة والرد بالعيب.
فصل: ومن ملك أحد الوالدين وإن علوا أو أحد المولودين وإن سفلوا عتقوا عليه لقوله تعالى: {تكاد تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 90 - 93] فنفى الولادة مع العبودية على أنه لا يجتمعان ولأن الولد بعض منه فيصير كما لو ملك بعضه وإن ملك بعضه فإن كان بسبب من جهته كالبيع والهبة وهو موسر قوم عليه الباقي لأنه عتق بسبب من جهته فصار كما لو أعتق بعض عبد وإن كان سبب من جهته كالإرث لم يقوم عليه لأنه عتق من غير سبب من جهته وإن ملك من سوى الوالدين والمولودين من الأقارب ولم يعتق عليه لأنه لا بعضية بينهما كالأجانب وإن وجد من يعتق عليه مملوكاً فالمستحب أن يشتريه ليعتق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه" ولا يجب عليه ذلك لأنه استجلاب مال لقربة لم يتقدم وجوبها فلم يجب كشراء المال للزكاة وإن وصى للمولى عليه بأبيه فإن كان لا يلزمه نفقته وجب على الولي قبوله لأنه يعتق عليه فيحصل على جمال عاجل وثواب آجل من غير إضرار وإن كانت تلزمه نفقته لم يجب قبوله لأنه يعتق عليه ويطالب بنفقته وفي ذلك إضرار فلم يجز وإن وصى له ببعضه فإن كان معسراً لزمه قبوله لأنه لا ضرر عليه من جهة التقويم ولا من جهة النفقة وإن كان موسراً والأب ممن تلزمه نفقته لم يجب قبوله لأنه تلزمه نفقته وفي ذلك إضرار وإن كانت لا تلزمه نفقته ففيه قولان: أحدهما لا يجوز قبوله لأنه ملكه يقتضي التقويم وفي ذلك إضرار والثاني يلزم قبوله ولا يقوم عليه لأنه يعت عليه بغير اختياره فلم يقوم عليه كما لو ملكه بالإرث.(2/371)
باب القرعة
والقرعة أن تقطع رقاع متساوية ويكتب في كل رقعة ما يراد إخراجه وتجعل في(2/371)
بنادق من طين متساوية الوزن والصفة وتجفف وتغطى بشيء ثم يقال لرجل لم يحضر الكتابة والبندقة أخرج بندقة ويعمل بما فيها فإن كان القصد عتق الثلث جزؤوا ثلاثة أجزاء وإن كان القصد عتق الرابع جزؤوا أربعة أجزاء وإن كان القصد عتق النصف جزؤوا نصفين وتعدل السهام فإن كان القصد عتق الثلث فإن كان عددهم وقيمته متساوية فإن كانوا ستة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة جعل كل اثنين جزءاً ثم الحاكم بالخيار بين أن يكتب في الرقاع الأسماء ويخرج الأسماء على الحرية والرق وبين أن يكتب الرق والحرية ويخرج على الأسماء فإن اختار كتب الأسماء كتب كل اسمين في رقعة فإن شاء أخرج القرعة على الحرية فإذا خرجت القرعة باسم اثنين عتقا ورق الباقون وإن شاء أخرج على الرق فإن خرجت رق من فيها ثم يخرج قرعة أخرى على الرق فإذا خرجت رق من فيها ويعتق الباقيان والإخراج على الحرية أولى لأنه أقرب إلى فصل الحكم فإن اتفق العدد واختلفت القيم وأمكن تعديل العدد بالقيمة بأن يكونوا ستة قيمة اثنين أربعمائة وقيمة اثنين ستمائة وقيمة اثنين مائتان جعل اللذان قيمتهما أربعمائة جزءاً وضم أحد العبدين المقومين بستمائة إلى أحد العبدين المقومين بمائتين ويجعل العبدان الآخران جزءاً ويخرج القرعة على ما ذكرناه من الوجهين وإن اختلفت قيمتهم ولم يتفق عددهم بأن كانوا ثمانية قيمة واحد مائة وقيمة ثلاثة مائة وقيمة أربعة مائة عدلوا بالقيمة فيجعل العبد جزءاً والثلاثة جزءاً والأربعة جزءاً فإن خرجت قرعة العتق على العبد عتق ورق السبعة وإن خرجت على الثلاثة عتقوا ورق الخمسة وإن خرجت على الأربعة عتقوا ورق الأربعة لأنه لا يمكن تعديلهم بغير القيمة فعدلوا بالقيمة وعلى هذا لو كانوا اثنين قيمة أحدهما مائة وقيمة الآخر مائتان جعلا جزأين وأقرع بينهما فإن خرجت قرعة العتق على المقوم بمائة عتق جميعه ورق الآخر وإن خرجت على المقوم بمائتين عتق نصفه ورق نصفه وجميع الآخر فإن اتفق العدد واختلفت القيم فإن عدل بالعدد اختلفت القيم وإن عدل بالقيمة اختلف العدد بأن كانوا ستة قيمة واحد مائة وقيمة اثنين مائة وقيمة ثلاثة مائة فالمنصوص أنهم يعدلون بالقيمة فيجعل العبد جزءاً والعبدان جزءاً والثلاثة جزءاً وتخرج القرعة على ما ذكرناه من الوجهين ومن أصحابنا من قال: يعدلون بالعدد فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءاً ويضم أحد الثلاثة إلى المقوم بمائة فيجعلان جزءاً وقيمتهما مائة وثلث ويجعل الآخران جزءاً وقيمتهما ثلثمائة وأقرع بينهم فإن خرجت القرعة على المقومين بالمائة وقد استكملا الثلث ورق الباقون وإن خرجت على العبدين(2/372)
المقوم أحدهما بمائة والآخر بثلث المائة عتقا ورق الأربعة الباقون ويقرع بين العبدين اللذين خرجت القرعة عليهما لأنهما أكثر من الثلث فلم ينفذ العتق فيهما فإن أقرع فخرجت القرعة على المقوم بمائة عتق ورق الآخر وإن خرجت على المقوم بثلث المائة عتق وعتق من الآخر الثلثان لاستكمال الثلث ورق الباقي والصحيح هو المنصوص عليه لأن فيما قال هذا القائل يحتاج إلى إعادة القرعة وتبعيض الرق والحرية في شخص واحد فإن اختلف العدد والقيم ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة بأن كانوا خمسة وقيمة أحدهم مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلثمائة وقيمة الرابع أربعمائة وقيمة الخامس خمسمائة ففيه قولان: أحدهما أنه يكتب أسماؤهم في رقاع بعددهم ثم يخرج على العتق فإن خرج المقوم بخمسمائة وهو الثلث عتق ورق الأربعة وإن خرج المقوم بأربعمائة عتق وقد بقي من الثلث مائة فيخرج اسم آخر فإن خرج اسم المقوم بثلثمائة عتق منه ثلثه ورق باقيه والثلاثة الباقون وعلى هذا القياس يعمل في كل ما يخرج والقول الثاني أنهم يجزؤون ثلاثة أجزاء على القيمة دون العدد فيجعل المقوم بخمسمائة جزءاً ويجعل المقوم بثلاثمائة والمقوم بمائتين جزءاً ويجعل المقوم بأربعمائة والمقوم بمائة جزءاً ثم يخرج القرعة ويعتق من فيها وهو الثلث ويرق الباقون لأن النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء.
فصل: قال الشافعي: وإن أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فمات واحد ثم مات السيد أقرع بين الحيين والميت فإن خرج سهم الحرية على الميت رق الاثنان وحكم من خرج عليه سهم الحرية حكم الأحرار منذ خوطب بالعتق إلى أن مات وكان له ما اكتسب واستفاد بإرث وغيره وإن خرج سهم الحرية على أحد الحيين لم يعتق منه إلا ثلثاه لأن الميت قبل موت سيد مات عبداً فلم يكن له حكم ما خلف السيد وإن مات المعتق ولم يقرع بينهم حتى مات اثنان أقرع بين الحي والميتين فإن خرج بينهم العتق على الحي عتق كله وأعطي كل ما استفاد من يوم خوطب بالعتق ورق الميتان.
فصل: إذا أعتق في مرضه ستة أعبد لا مال له غيرهم فاعتق اثنان بالقرعة ثم ظهر مال يحتمل أن يعتق آخر إن جعل الأربعة جزءين وأقرع بينهم وأعتق منهم اثنان.
فصل: وإن أعتق في مرضه أعبداً له ومات وعليه دين يستغرق التركة لم ينفذ العتق لأن العتق في المرض وصية فلا ينفذ إلا في ثلث ما يفضل به بعد قضاء الدين وإن استغرق نصفها جعل التركة جزءين ويكتب في رقعة دين وفي رقعة تركة وإن استغرق الثلث جعلوا ثلاثة أجزاء في رقعة دين وفي رقعتين تركة ويقرع بينهم فمن خرجت عليه قرعة(2/373)
الدين بيع في الدين وما سواه يجعل ثلاثة أجزاء ويعتق منه الثلث لأنه اجتمع حق الدين وحق التركة وحق العتق وليس بعضها بالبيع والإرث والعتق بأولى من البعض وللقرعة مدخل في تمييز العتق من غيره فأقرع بينهم.
فصل: وإن أعتقهم ومات وأقرع بينهم وأعتق الثلث ثم ظهر دين مستغرق لم ينفذ العتق لما ذكرناه فإن قال الورثة نحن نقضي الدين وننفذ العتق ففيه وجهان: أحدهما أن لهم ذلك لأن المنع من نفوذ العتق لأجل الدين فإذا قضي الدين زال المنع والثاني أن ليس لهم ذلك لأنهم تقاسموا العبيد بالقرعة لأنه تعلق بهم حق الغرماء فلم يصح كما لو تقاسم شريكان ثم ظهر شريك ثالث فعلى هذا يقضي الدين ثم يستأنف العتق وإن كان الدين يستغرق نصف التركة فهل يبطل العتق بالجميع فيه وجهان: أحدهما يبطل كما قلنا في قسمة الشريكين والثاني يبطل بقدر الدين لأن بطلانه بسببه فيقدر بقدره فإن كان الذي أعتق عبدين عتق من كل واحد منهما نصفه ورق النصف ثم يقرع بينهما لجمع الحرية فإن خرجت القرعة لأحدهما وكانت قيمتهما سواء عتق وبيع الآخر في الدين وإن كانت قيمة أحدهما أكثر فخرجت القرعة على أكثرهما قيمة عتق منه نصف قيمة العبدين ورق باقيه والعبد الآخر وإن خرجت على أقلهما قيمة عتق وعتق من الثاني تمام النصف وبيع الباقي في الدين.(2/374)
باب المدبر
التدبير قربة لأنه يقصد به العتق ويعتبر من الثلث في الصحة والمرض لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدبر من الثلث" ولأنه تبرع يتنجز بالموت فاعتبر من الثلث كالوصية فإن دبر عبداً وأوصى بعتق آخر وعجز الثلث عنهما أقرع بينهما ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يقدم المدبر لأنه يعتق بالموت والموصى بعتقه لا يعتق بالموت والصحيح هو الأول لأن لزومهما بالموت فاستويا.
فصل: ويصح من السفيه لأنه إنما منع من التصرف حتى لا يضيع ماله فيفتقر وبالتدبير لا يضيع ماله لأنه باق على ملكه وإن مات استغنى عن المال وحصل له(2/374)
الثواب وهل يصح من الصبي المميز؟ فيه قولان: أحدهما أنه يصح لما ذكرناه في السفيه والثاني لا يصح وهو الصحيح لأنه ليس من أهل العقود فلم يصح تدبيره كالمجنون.
فصل: والتدبير هو أن يقول إن مت فأنت حر فإن قال دبرتك أو أنت مدبر ونوى العتق صح وإن لم ينو فالمنصوص في المدبر أنه يصح وقال في المكاتب: إذا قال كاتبتك على كذا وكذا لم يصح حتى يقول إن أديت أنت حر فمن أصحابنا من نقل جوابه في المدبر إلى المكاتب وجوابه في المكاتب إلى المدبر وجعلهما على قولين أحدهما أنهما صريحان لأنهما موضوعان للعتق في عرف الشرع والثاني أنهما كنايتان فلا يقع العتق بهما إلا بقرينة أو نية لأنهما يستعملان في العتق وغيره ومنهم من قال في المدبر صريح وفي المكاتب كناية ولم يذكر فرقاً يعتمد عليه.
فصل: ويجوز مطلقاً وهو أن يقول إن مت فأنت حر ويجوز مقيداً وهو أن يقول إن مت من هذا المرض أو في هذا البلد فأنت حر لأنه عتق معلق على صفة فجاز مطلقاً ومقيداً كالعتق المعلق على دخول الدار ويجوز تعليقه على شرطك بأن يقول إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي كما يجوز أن يعلق العتق المعلق على دخول الدار بشرط قبله فإن وجد الشرط صار مدبراً وإن لم يوجد الشرط حتى مات السيد لم يصر مدبراً لأنه علق التدبير على صفة وقد بطلت الصفة بالموت فسقط ما عتق عليه.
فصل: ويجوز تدبير المعتق بصفة كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة أخرى فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بالصفة وبطل التدبير به وإن مات قبل وجود الصفة عتق بالتدبير وبطل العتق بالصفة ويجوز تدبير المكاتب كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة فإن دبره صار مكاتباً مدبراً ويستحق العتق بالكتابة والتدبير فإن أدى المال قبل الموت عتق بالكتابة وبطل التدبير وإن مات قبل الأداء فإن كان يخرج من الثلث عتق بالتدبير وبطلت الكتابة وإن لم يخرج جميعه عتق منه بقدر الثلث ويسقط من مال الكتابة بقدره وبقي الباقي على الكتابة ولا يجوز تدبير أم الولد لأن الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت وقد استحقت مال الكتابة بقدره وبقي الباقي على الكتابة ولا يجوز تدبير أم الولد لأن الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت وقد استحقت ذلك بالاستيلاد فلم يفد التدبير شيئاً فإذا دبرها ومات عتقت بالاستيلاد من رأس المال.
فصل: ويجوز تدبير الحمل كما يجوز في بعض عبد كما يجوز عتقه ويجوز في العتق فإن كان بين رجلين عبد فدبر أحدهما نصيبه وهو موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه ليصير الجميع مدبراً؟ فيه قولان: أحدهما يقوم عليه لأنه أثبت له شيئاً يفضي إلى(2/375)
العتق لا محالة فأوجب التقويم كما لو استولد جارية بينه وبين غيره والثاني وهو المنصوص أنه لا يقوم عليه لأن التقويم إنما يجب بالإتلاف كالعتق أو بسبب يوجب الإتلاف كالإستيراد والتدبير ليس بإتلاف ولا سبب يوجب الإتلاف لأنه يمكن نقضه بالتصرف فلم يوجب التقويم فإن كان له عبد فدبر بعضه فالمنصوص أنه لا يسري إلى الباقي ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يسري فيصير الجميع مدبراً ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها فإن كان عبد بين اثنين فدبراه بأن قال كل واحد منهما إذا مت فأنت حر جاز كما لو أعتقاه فإن أعتق أحدهما نصيبه بعد التدبير وهو موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه ليعتق؟ فيه قولان منصوصان أحدهما لا يقوم عليه لأن لنصيب شريكه جهة يعتق بها فاستغنى عن التقويم ولأنا إذا قومناه على المعتق أبطلنا على شريكه ما ثبت له من العتق والولاء بحكم التدبير والثاني يقوم عليه ليصير الكل حراً لأن المدبر كالقن في الملك والتصرف فكان كالقن في التقويم والسراية فإن كان بين نفسين عبد فقالا إذا متنا فأنت حر لم يعتق حصة واحد منهما إلا بموته وموت شريكه فإن ماتا معاً عتق عليهما بوجود الصفة فإن مات أحدهما قبل الآخر انتقل نصيب الميت إلى وارثه ووقف عتقه على موت الآخر فإذا مات الآخر عتق فإن قالا أنت حبيس على آخرنا موتاً فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها إلا في فصل واحد وهو أن في المسألة الأولى إذا مات أحدهما انتقل نصيب الميت إلى وارثه إلى أن يموت الآخر وفي هذه إذا مات أحدهما كان منفعة نصيبه موصى بها للآخر إلى أن يموت لقوله أنت حبيس على آخرنا موتاً فإذا مات الآخر عتق.
فصل: ويملك المولى بيع المدبر لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر منه ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة ويملك هبته ووقفه وكتابته قياساً على البيع ويملك أكسابه ومنافعه وأرش ما يجني عليه لأنه لما كان كالعبد القن في التصرف في الرقبة كان كالقن فيما ذكرناه وإن جنى خطأ تعلق الأرش برقبته وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع وبين أن يفديه كما يفدي العبد القن لأنه كالقن في جواز بيعه فكان كالقن في جواز التسليم للبيع والفداء وإن مات السيد قبل أن يفديه فإن قلنا لا يجوز عتق الجاني لم يعتق وللوارث الخيار بين التسليم للبيع وبين الفداء كالسيد في حياته وإن قلنا يجوز عتق الجاني عتق من الثلث ووجب أرش الجناية من التركة لأنه عتق بسبب من جهته فتعلق الأرش بتركته ولا يجب إلا أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن تسليمه للبيع بعد العتق.(2/376)
فصل: وإن كان المدبر جارية فأتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها في التدبير؟ فيه قولان: أحدهما يتبعها لأنها تستحق الحرية فتبعها الولد كأم الولد فعلى هذا إن ماتت الأم في حياة المولى لم يبطل التدبير في الولد والثاني لا يتبعها لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن والوصية وإن دبرها وهي حامل تبعها الولد قولاً واحداً كما يتبعها في العتق وإن دبر عبداً ثم ملكه جارية فأتت منه بولد لحقه نسبه لأنه يملكها في أحد القولين وله فيها شبهة في القول الثاني لاختلاف الناس في ملكه فإن قلنا لا يملك الجارية فالولد مملوك للمولى لأنه ولد أمته وإن قلنا يملكها فالولد ابن المدبر ومملوكه لأنه من أمته وهل يكون مدبراً فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بمدبر لأن الولد إنما يتبع الأم دون الأب والأم غير مدبرة والثاني أنه مدبر لأنها علقت به في ملكه فكان كالأب كولد الحر من أمته.
فصل: ويجوز الرجوع في التدبير بما يزيل الملك كالبيع والهبة المقبوضة لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه وهل يجوز بلفظ الفسخ كقوله فسخت ونقضت ورجعت؟ فيه قولان: أحدهما أنه يجري مجرى الوصية فيجوز له فسخه بلفظ الفسخ وهو اختيار المزني لأنه تصرف يتنجز بالموت يعتبر من الثلث فهو كالوصية والثاني أنه يجري مجرى العتق بالصفة فلا يجوز فسخه بلفظ الفسخ وهو الصحيح لأنه عتق علقه على صفة فهو كالعتق بالصفات وإن وهبه ولم يقبضه فقد اختلف أصحابنا فمنهم من قال إن قلنا إنه كالوصية فهو رجوع وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة فليس برجوع لأنه لم يزل الملك ومنهم من قال هو رجوع على القولين لأنه تصرف يفضي إلى زوال الملك وإن كاتبه فإن قلنا إن التدبير كالوصية كان رجوعاً كما لو أوصى بعبد ثم كاتبه وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة لم يكن رجوعاً بل يصير مدبراً مكاتباً وحكمه ما ذكرناه فيمن دبر مكاتباً وإن دبره ثم قال إن أديت إلى وارثي ألفاً فأنت حر فإن قلنا إنه كالوصية كان ذلك رجوعاً في التدبير لأنه عدل عن العتق بالموت إلى العتق بأداء المال فبطل التدبير ويتعلق العتق بالأداء وإن قلنا إنه كالعتق بالصفة وخرج من الثلث عتق بالتدبير وسقط حكم الأداء بعده لأنه علق عتقه بصفة متقدمة ثم علقه بصفة متأخرة فعتق بأسبقهما وأسبقهما الموت فعتق به وإن دبر جارية ثم أولدها بطل التدبير لأن العتق بالتدبير والاستيلاد في وقت واحد والاستيلاد أقوى فأسقط التدبير.(2/377)
فصل: ويجوز الرجوع في تدبير البعض كما يجوز التدبير في الابتداء في البعض وإن دبر جارية فأتت بولد من نكاح أو زنا وقلنا إنه يتبعها في التدبير ورجع في تدبير الأم لم يتبعها الولد في الرجوع وإن تبعها في التدبير كما أن ولد أم الولد يتبعها في حق الحرية ثم لا يتبعها في بطلان حقها من الحرية بموتها وإن دبرها الصبي وقلنا إنه يصح تدبيره فإن قلنا يجوز الرجوع بلفظ الفسخ جاز رجوعه لأنه لا حجر عليه في التدبير فجاز رجوعه فيه كالبالغ وإن قلنا لا يجوز الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك لم يصح الرجوع في تدبيره إلا بتصرف يزيل الملك من جهة الولي.
فصل: وإن دبر عبده ثم ارتد فقد قال أبو إسحاق: لا يبطل التدبير فإن مات عتق العبد لأنه تصرف نفذ قبل الرد فلم تؤثر الردة فيه كما لو باع ماله ثم ارتد ومن أصحابنا من قال: يبطل التدبير لأن المدبر إنما يعتق إذا حصل للورثة شيء مثلاه وهاهنا لم يحصل للورثة شيء فلم يعتق ومنهم من قال: يبنى على الأقوال في ملكه فإن قلنا يزول ملكه بالردة بطل لأنه زال ملكه فيه فأشبه إذا باعه وإن قلنا لا يزول لم يبطل كما لو لم يدبر وإن قلنا موقوف فالتدبير موقوف وما قال أبو إسحاق غير صحيح لأنه ارتد والمدبر على ملكه فزال بالردة بخلاف ما لو باعه قبل الردة وقال الآخر: لا يصح لأن ماله بالموت صار للمسلمين وقد حصل لهم مثلاه.
فصل: وإن دبر الكافر عبداً كافراً ثم أسلم العبد ولم يرجع السيد في التدبير ففيه قولان: أحدهما يباع عليه وهو اختيار المزني لأنه يجوز بيعه فبيع عليه كالعبد القن والثاني لا يباع عليه وهو الصحيح لأنه لا حظ للعبد في بيعه لأنه يبطل به حقه من الحرية فعلى هذا هو بالخيار بين أن يسلمه إلى مسلم وينفق عليه إلى أن يرجع في التدبير فيباع عليه أو يموت فيعتق عليه وبين أن يخارجه على شيء لأنه لا سبيل إلى قراره في يده فلم يجز إلا ما ذكرناه فإن مات السيد وخرج من الثلث عتق وإن لم يخرج عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة لأنه صار قناً.
فصل: وإن اختلف السيد والعبد فادعى العبد أنه دبره وأنكر السيد فإن قلنا إن التدبير كالعتق بالصفة صح الاختلاف لأنه لا يمكن الرجوع فيه والقول قول السيد لأن الأصل أنه لم يدبر وإن قلنا إنه كالوصية ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول السيد لأن جحوده رجوع وهو يملك الرجوع والثاني أنه ليس برجوع وهو المذهب لأنه قال في(2/378)
الدعوى والبينات إذا أنكر السيد قلنا له قل رجعت ولا يحتاج إلى اليمين فدل على أن جحوده ليس برجوع والدليل عليه أن جحود الشيء ليس برجوع كما أن جحود النكاح ليس بطلاق فعلى هذا يصح الاختلاف والحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا إنه عتق الصفة وإن مات السيد واختلف العبد والوارث صح الاختلاف على القولين والقول قول الوارث وإن كان في يده مال فقال كسبته بعد العتق وقال الوارث بل كسبته قبل العتق فالقول قول المدبر لأن الأصل عدم الكسب إلا في الوقت الذي وجد فيه وقد وجد وهو في يد المدبر فكان له وإن كان أمة ومعها ولد فادعت أنها ولدته بعد التدبير وقال الوارث بل ولدته قبل التدبير فالقول قول الوارث لأن الأصل في الولد الرق.
فصل: ويجوز تعليق العتق على صفة مثل أن يقول إن دخلت الدار فأنت حر وإن أعطيتني ألفاً فأنت حر لأنه عتق على صفة فجاز كالتدبير فإن قال ذلك في المرض اعتبر من الثلث لأنه لو أعتقه اعتبر من الثلث فإن عقده اعتبر من الثلث وإن قال ذلك وهو صحيح اعتبر من رأس المال سواء وجدت الصفة وهو صحيح أو وجدت وهو مريض لأن العتق إنما يعتبر من الثلث في حال المرض لأنه قصد إلى الإضرار بالورثة في حال يتعلق حقهم بالمال وههنا لم يقصد إلى ذلك فإن علق العتق على صفة مطلقة ثم مات بطل لأن تصرف الإنسان مقصور على حال الحياة فحمل على إطلاق الصفة عليه وإن علق عتقه على صفة بعد الموت لم يبطل بالموت لأنه يملك العتق بعد الموت في الثلث فملك عقده على صفة بعد الموت.
فصل: وإن علق عتق أمة على صفة ثم أتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها الولد؟ فيه قولان كما قلنا في المدبر فإن بطلت الصفة في الأم بموتها أو بموته بطلت في الولد لأن الولد يتبعها في العتق لا في الصفة بخلاف ولد المدبرة فإنه يتبعها في التدبير فإذا بطل فيها بقي فيه وإن قال لأمته أنت حرة بعد موتي بسنة فمات السيد وهي تخرج من الثلث فللوارث أن يتصرف في كسبها ومنفعتها ولا يتصرف في رقبتها لأنها موقوفة على العتق فإن أتت بولد بعد موت السيد فقد قال الشافعي رحمه الله: يتبعها الولد قولاً واحداً فمن أصحابنا من قال قولان كالولد الذي تأتي به قبل الموت والذي قاله الشافعي رحمه الله أحد القولين ومنهم من قال يتبعها الولد قولاً واحداً لأنها أتت به وقد استقر عتقها بالموت فيتبعها الولد كأم الولد بخلاف ما قبل الموت فإن عتقها غير مستقر لأنه يلحقه الفسخ.
فصل: وإن علق عتق عبده على صفة لم يملك الرجوع فيها بالقول لأنه كاليمين أو(2/379)
كالنذر والرجوع في الجميع لا يجوز ويجوز الرجوع فيه بما يزيل الملك كالبيع وغيره فإن علق عتقه على صفة ثم باعه ثم رجع إليه فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق امرأته على صفة وبانت منه ثم تزوجها وإن دبر عبده ثم باعه ثم رجع إليه فإن قلنا إن التدبير كالوصية لم يرجع لأن الوصية إذا بطلت لم تعد وإن قلنا إنه كالعتق بصفة فهل يعود أم لا على ما ذكرناه في القولين.(2/380)
كتاب المكاتب
مدخل
...
كتاب المكاتب
الكتابة جائزة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] ولا تجوز الكتابة إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد على المال فلم يجز إلا من جائز التصرف في المال كالبيع ولا يجوز أن يكاتب عبداً أجيراً لأن الكتابة تقتضي التمكين من التصرف والإجارة تمنع من ذلك ولا يجوز أن يكاتب عبداً مرهوناً لأن الرهن يقتضي البيع والكتابة تمنع البيع وتجوز كتابة المدبر وأم الولد لأنه عتق بصفة يجوز أن تتقدم على الموت فجاز في المدبر وأم الولد كالعتق المعلق على دخول الدار فإن كاتب مدبراً صار مكاتباً ومدبراً وقد بينا حكمه في المدبر وإن كاتب أم ولد صارت مكاتبة وأم ولد فإن أدت المال قبل موت السيد عتقت بالكتابة وإن مات السيد قبل الأداء عتقت بالاستيلاد وبطلت الكتابة.
فصل: وتجوز كتابة بعض العبد إذا كان باقيه حراً لأنه كتابة على جميع ما فيه من الرق فأشبه كناية العبد في جميعه وإن كان عبد بين اثنين فكاتبه أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه لم يصح لأنه لا يعطى من الصدقات ولا يمكنه الشريك من الاكتساب بالأسفار وإن كاتبه بإذن شريكه ففيه قولان: أحدهما لا يصح لما ذكرناه من نقصان كسبه والثاني يصح لأن المنع لحق الشريك فزال بالأذن وإن كان لرجل عبد فكاتبه في بعضه فالمنصوص أنه لا يصح واختلف أصحابنا فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصح قولاً واحداً كما لا يصح أن يبعض العتق فيه ومنهم من قال إذا قلنا إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك بإذن لشريك صح ههنا لأن اتفاقهما على كتابة البعض كاتفاق الشريكين فإن وصى رجل بكتابة عبد وعجز الثلث عن جميعه فالمنصوص أنه يكاتب القدر الذي يحتمله الثلث فمن أصحابنا من جعل في الجميع قولين ومنهم من قال يصح في الوصية وقد فرق بينه وبين العبد المشترك بأن الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة في جميعه والكتابة في الوصية استحقت في جميعه فإذا تعذرت في البعض لم تسقط في الباقي.
فصل: وإن طلب العبد الكتابة نظرت فإن كان له كسب وأمانة استحب أن يكاتب لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} وقد فسر الخير بالكسب والأمانة ولأن المقصود بالكتابة العتق على مال وبالكسب والأمانة يتوصل إليه ولا يجب ذلك لأنه عتق فلا يجب بطلب العبد كالعتق في غير(2/381)
الكتابة وإن لم يكن له كسب ولا أمانة أو له كسب بلا أمانة لم تستحب لأنه لا يحصل المقصود بكتابته ولا تكره لأنه سبب للعتق من غير إضرار فلم تكره وإن كان له أمانة بلا كسب ففيه وجهان: أحدهما أنه لا تستحب لأنه مع عدم الكسب يتعذر الأداء فلا يحصل المقصود والثاني تستحب لأن الأمين يعان ويعطى من الصدقات وإن طلب السيد الكتابة فكره العبد لم يجبر عليه لأنه عتق على مال فلا يجبر العبد عليه كالعتق على مال في غير الكتابة.
فصل: ولا يجوز إلا بعوض مؤجل لأنه إذا كاتبه على عوض حال لم يقدر على أدائه فينفسخ العقد ويبطل المقصود ولا يجوز على أقل من نجمين لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه غضب على عبد له وقال لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين فدل على أنه لا يجوز على أقل من ذلك وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني ولا يجوز إلا على نجمين معلومين وأن يكون ما يؤدى في كل نجم معلوماً لأنه عوض منجم في عقد فوجب العلم بمقدار النجم ومقدار ما يؤديه فيه كالسلم إلى أجلين.
فصل: ولا يجوز إلا على عوض وعلوم الصفة لأنه عوض في الذمة فوجب العلم بصفته كالمسلم فيه.
فصل: وتجوز الكتابة على المنافع لأنه يجوز أن تثبت في الذمة بالعقد فجاز الكتابة عليها كالمال فإن كاتبه على عملين في الذمة في نجمين جاز كما يجوز على مالين في نجمين وإن كاتبه على خدمة شهرين لم يجز لأن ذلك نجم واحد وإن كاتبه على خدمة شهر ثم خدمة شهر بعده لم يجز لأن العقد في الشهر الثاني على منفعة معينة في زمان مستقبل فلم يجز كما لو استأجره للخدمة في شهر مستقبل وإن كاتبه على دينار وخدمة شهر بعده لم يجز لأنه لا يقدر على تسليم الدينار في الحال وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار في نجم بعده جاز لأنه يقدر على تسليم الخدمة فهو مع الدينار كالمالين في نجمين وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا يجوز لأنه إذا لم يفصل بينهما صارا نجماً واحداً ومنهم من قال: يجوز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي يستحق فيه الخدمة وإنما يتصل استيفاؤهما فعلى هذا لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في نصف الشهر جاز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي يستحق فيه الخدمة.(2/382)
فصل: وإن كاتب رجلان عبداً بينهما على مال بينهما على قدر الملكين وعلى نجوم واحدة جاز وإن تفاضلا في المال مع تساوي الملكين أو تساويا في المال مع تفاضل الملكين أو على أن نجوم أحدهما أكثر من نجوم الآخر أو على أن نجم أحدهما أطول من نجم الآخر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يبنى على القولين فيمن كاتب نصيبه من العبد بإذن شريكه فإن قلنا يجوز جاز وإن قلنا لا يجوز لم يجز لأن اتفاقهما على الكتابة ككتابة أحدهما في نصيبه بإذن الآخر وعلى هذا يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال في الأم: ولو أجزت لأجزت أن ينفرد أحدهما بكتابة نصيبه فدل على أنه إذا جاز ذلك جاز هذا وإن لم يجز ذلك لم يجز هذا ومنهم من قال: لا يصح قولاً واحداً لأنه يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بحق شريكه من الكسب لأنه يأخذ أكثر مما يستحق وربما عجز المكاتب فيرجع على شريكه بالفاضل بعد ما انتفع به.
فصل: ولا يصح على شرط فاسد لأنه معاوضة يلحقها الفسخ فبطلت بالشرط الفاسد كالبيع ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.
فصل: وإذا انعقد العقد لم يملك المولى فسخه قبل العجز لأنه أسقط حقه منه بالعوض فلم يملك فسخه قبل العجز عن العوض كالبيع ويجوز للعبد أن يمتنع من أداء المال لأن ما لا يلزمه إذا لم يجعل شرطاً في عتقه لم يلزمه إذا جعل شرطاً في عتقه كالنوافل وهل يملك أن يفسخ؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال لا يملك لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد ولا فائدة له في الفسخ فلم يملكه ومنهم من قال أن يفسخ لأنه عقد لحظه فملك أن ينفرد بالفسخ كالمرتهن فإن مات المولى لم يبطل العقد لأنه لازم من جهته فلم يبطل بالموت كالبيع وينتقل المكاتب إلى الوارث لأنه مملوك لا يبطل رقه بموت المولى فانتقل إلى وارثه كالعبد القن وإن مات العبد بطل العقد لأنه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل العقد كالمبيع إذا تلف قبل القبض ولا يجوز شرط الخيار فيه لأن الخيار لدفع الغبن عن المال والسيد يعلم أنه مغبون من جهة المملوك لأنه يبيع ماله بماله والعبد مخير بين أن يدفع المال وبين أن لا يدفع فلا معنى لشرط الخيار فإن اتفقا على الفسخ جاز لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال فجاز فسخه بالتراضي كالبيع.(2/383)
باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه
ويملك المكاتب بالعقد اكتساب المال بالبيع والإجارة والصدقة والهبة والأخذ بالشفعة والاحتشاش والاصطياد وأخذ المباحات وهو مع المولى كالأجنبي مع الأجنبي في ضمان المال وبذل المنافع وأرش الأطراف لأنه صار بما بذله له من العوض عن رقبته كالخارج عن ملكه ويملك التصرف في المال بما يعود إلى مصلحته ومصلحة ماله فيجوز أن ينفق على نفسه لأن ذلك من أهم المصالح وله أن يفدي في حياته نفسه أو رقيقه لأن له فيه مصلحة وله أن يختن غلامه ويؤد به لأن إصلاح للمال وأما الحد فالمنصوص أنه لا يملك إقامته لأن طريقه الولاية والمكاتب ليس من أهل الولاية ومن أصحابنا من قال له أن يقيم الحد كما يملك الحر في عبده وله أن يقتص في الجناية عليه وعلى رقيقه وذكر الربيع قولاً آخر أنه لا يقتص من غير إذن المولى ووجهه أنه ربما عجز فيصير ذلك للسيد فيكون قد أتلف الأرش الذي كان للسيد أن يأخذه لو لم يقتص منه قال أصحابنا: هذا القول من تخريج الربيع والمذهب أنه يجوز أن يقتص لأن فيه مصلحة له.
فصل: وإن كان المكاتب جارية فوطئها المولى وجب عليها المهر ولها أن تطالب به لتستعين به على الكتابة لأنه يجري مجرى الكسب وإن أذهب بكارتها لزمه الأرش لأن ائتلاف جزء لايستحقه فضمن بدله كقطع الطرف وإن أتت منه بولد صارت مكاتبة وأم ولد وقد بينا حكمهما في أول الباب وإن كانت مكاتبة بين اثنين فأولدها أحدهما نظرت فإن كان معسراً صار نصيبه أم ولد وفي الولد وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الولد ينعقد جميعه حراً ويثبت للشريك في ذمة الواطئ نصف قيمته لأنه يستحيل أن ينعقد نصف الولد حراً ونصفه عبداً والثاني وهو قول أبي إسحاق أن نصفه حر ونصفه مملوك وهو الصحيح اعتباراً بقدر ما يملك منها ولا يمتنع أن ينعقد نصفه حراً ونصفه عبداً كالمرأة إذا كان نصفها حراً ونصفها مملوكاً فأتت بولد فإن نصفه حر ونصفه عبد وإن كان موسراً فالولد حر وصار نصيبه من الجارية أم ولد ويقوم على الواطئ نصيب شريكه وهل يقوم في الحال فيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يقوم في الحال فإذا قوم انفسخت الكتابة وصار جميعها أم ولد للواطئ ونصفها مكاتباً له فإن أدت المال عتق نفسها وسرى إلى باقيها والقول الثاني أنه يؤخر التقويم إلى العجز فإن أدت ما عليها عتقت عليها بالكتابة وإن عجزت قوم على الواطئ نصيب شريكه وصار الجميع أم(2/384)
ولد. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقوم في الاستيلاد نصيب الشريك في الحال قولاً واحداً بل يؤخر إلى أن تعجز لأن التقويم في العتق فيه حظ للعبد لأنه يتعجل له الحرية في الباقي ولا حظ لها في التقويم في الاستيلاد بل الحظ في التأخير لأنه إذا أخر ربما أدت المال فعتقت وإذا قوم في الحال صارت أم ولد ولا تعتق إلا بالموت والصحيح هو الأول وأنه على قولين كالعتق لأن الاستيلاد كالعتق بل هو أقوى لأنه يصح من المجنون والعتق لا يصح منه فإذا كان في التقويم في العتق قولان وجب أن يكون في الاستيلاد مثلاه.
فصل: وإن أتت المكاتبة بولد من نكاح أو زنا ففيه قولان: أحدهما أنه موقوف فإن وقف الأم رق وإن عتقت عتق لأن الكتابة سبب يستحق به العتق فيتبع الولد الأم فيه كالاستيلاد والثاني أنه مملوك يتصرف فيه لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن فإن قلنا إنه للمولى كان حكمه حكم العبد القن في الجناية والكسب والنفقة والوطء وإن قلنا إنه موقوف فقتل ففي قصته قولان: أحدهما انها لأمه تستعين بها في الكتابة لأن القصد بالكتابة طلب حظها والثاني أنها للمولى لأنه تابع للأم وقيمة الأم للمولى فكذلك قيمة ولدها فإن كسب الولد مالاً ففيه قولان: أحدهما أنه للأم لأنه تابع لها في حكمها فكسبها لها فكذلك كسب ولدها والثاني أنه موقوف لأن الكسب نماء الذات وذاته موقوف فكذلك كسبه فعلى هذا يجمع الكسب فإذا عتق ملك الكسب كما تملك الأم كسبها إذا عتقت وإن رق بعجز الأم صار الكسب للمولى فمن أصحابنا من خرج فيه قولاً ثالثاً أنه للمولى كما قلنا في قيمته في أحد القولين وإن أشرفت الأم على العجز وكان في كسب الولد وفاء بمال الكتابة ففيه قولان: أحدهما أنه ليس للأم أن تستعين به على الأداء لأنه موقوف على السيد أو الولد فلم يكن للأم حق فيه والثاني أن لها أن تأخذه وتؤديه لأنها إذا أدت عتقت وعتق الولد فكان ذلك أحظ للولد من أن ترق ويأخذه المولى فإن احتاج الولد إلى النفقة ولم يكن في كسبه ما يفي فإن قلنا إن الكسب للمولى فالنفقة عليه وإن قلنا إنه للأم فالنفقة عليها وإن قلنا إنه موقوف ففي النفقة وجهان: أحدهما أنها على المولى لأنه مرصد لملكه والثاني أنها في بيت المال لأن المولى لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال وإن كان الولد جارية فوطئها المولى فإن قلنا إن كسبه له لم يجب عليه المهر لأنه لو وجب لكان له وإن قلنا إنه للأم فالمهر لها وإن قلنا إنه موقوف وقف المهر وإن أحبلها صارت أم ولد بشبهة الملك ولاتلزمه قيمتها لأن(2/385)
القيمة تجب لمن يملكها والأم لا تملك رقبتها وإنما هي موقوفة عليها.
فصل: وإن حبس السيد المكاتب مدة ففيه قولان: أحدهما يلزمه تخليته في مثل تلك المدة لأنه دخل في العقد على التمكين من التصرف في المدة فلزمه الوفاء به والثاني تلزمه أجرة المثل للمدة التي حبسه فيها وهو الصحيح لأن المنافع لا تضمن بالمثل وإنما تضمن بالأجرة وإن قهر أهل الحرب المكاتب على نفسه مدة ثم أفلت من أيديهم ففيه قولان: أحدهما لا تجب تخليته في مكث المدة لأنه لم يكن الحبس من جهته والثاني تجب لأنه فات ما استحقه بالعقد ولا فرق بين أن يكون بتفريط أو غير تفريط كالمبيع إذا هلك في يد البائع ولا يجيء ههنا إيجاب الأجرة على المولى لنه لم يكن الحبس من جهته فلا تلزمه أجرته.
فصل: ولا يملك المكاتب التصرف إلا على وجه النظر والاحتياط لأن حق المولى يتعلق باكتسابه فإن أراد أن يسافر فقد قال في الأم يجوز وقال في الأمالي: لا يجوز بغير إذن المولى فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما لا يجوز لأن فيه تغريراً والثاني يجوز لأنه من أسباب الكسب ومنهم من قال: إن كان السفر طويلاً لم يجز وإن كان قصيراً جاز وحمل القولين على هذين الحالين والصحيح هو الطريق الأول.
فصل: ولا يجوز أن يبيع نسيئة وإن كان بأضعاف الثمن ولا على أن يأخذ بالثمن رهناً أو ضميناً لأنه يخرج المال من يده من غير عوض والرهن قد يتلف والضمين قد يفلس وإن باع ما يساوي مائة بمائة نقداً وعشرين نسيئة جاز لأنه لا ضرر فيه ولا يجوز أن يقرض ولا يضرب ولا يرهن لأنه إخراج مال بغير عوض.
فصل: ولا يجوز أن يشتري من يعتق عليه لأنه يخرج ما لا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه وفي ذلك إضرار وإن وصى له بمن يعتق عليه فإن لم يكن له كسب لم يجز قبوله لأنه يحتاج أن ينفق عليه وفي ذلك إضرار وإن كان له كسب جاز قبوله لأنه لا ضرر فيه فإن قبله ثم صار زمناً لا كسب له فله أن ينفق فله لأن فيه إصلاح لماله.
فصل: ولا يعتق ولا يكاتب ولا يهب ولا يحابي ولا يبرئ من الدين ولا يكفر بالمال ولا ينفق على أقاربه الأحرار ولا يسرف في نفقة نفسه وإن كان له أمة مزوحة لم تبذل العوض للخلع لأن ذلك كله استهلاك للمال وإن كان عليه دين مؤجل لم يملك تعجيله لأنه يقطع التصرف فيما يجعله من المال من غير حاجة وإن كان مكاتباً بين نفسين لم يجز أن يقدم حق أحدهما لأن ما يقدمه من ذلك يتعلق به حقهما فلا يجوز أن(2/386)
يخص به أحدهما وإن أقر بجناية خطأ ففيه قولان: أحدهما يقبل لأنه إقرار بالمال فقبل كما لو أقر بدين معاملة والثاني لا يقبل لأنه يخرج به الكسب من غير عوض فبطل كالهبة وإن جنى هو أو عبد له يملك بيعه على أجنبي لم يجز أن يفديه بأكثر من قيمته لأن الفداء كالابتياع فلا يجوز بأكثر من القيمة وإن كان عبداً لا يملك بيعه كالأب والابن لم يجز أن يفديه بشيء قل أو كثر لأنه يخرج ما يملك التصرف فيه لاستبقاء ما لا يملك التصرف فيه.
فصل: وإن فعل ذلك كله بإذن المولى ففيه قولان: أحدهما لا يصح لأن المولى لا يملك ما في يده والمكاتب لا يملك ذلك بنفسه فلا يصح باجتماعهما كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها والثاني أنه يصح وهو الصحيح لأن المال موقوف عليهما ولا يخرج منهما فصح باجتماعهما كالشريكين في المال المشترك والراهن والمرتهن في الرهن وإن وهب للمولى أو حاباه أو أقرضه أو ضاربه أو عجل له ما تأجل من ديونه أو فدى جنايته عليه بأكثر من قيمته فإن قلنا يصح للأجنبي بإذن المولى صح وإن قلنا لا يصح في حق الأجنبي بإذنه لم يصح لأن قبوله كالإذن فإن وهب أو أقرض وقلنا إنه لا يصح فله أن يسترجع فإن لم يسترجع حتى عتق لم يسترجع على ظاهر النص لأنه إنما لم يصح لنقصانه وقد زال ذلك من أصحابنا من قال: له أن يسترجع لأنه قد وقع فاسداً فثبت له الاسترجاع.
فصل: ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن المولى لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر1" ولأنه يلزمه المهر والنفقة في كسبه وفي ذلك إضرار بالمولى فلم يجز بغير إذنه فإن أذن له المولى جاز قولاً واحداً للخبر ولأن الحاجة تدعو إليه بخلاف الهبة.
فصل: ولا يتسرى بجارية من غير إذن المولى لأنه ربما أحبلها فتلفت بالولادة فإن أذن له المولى وقلنا إن العبد يملك ففيه طريقان: من أصحابنا من قال على قولين كالهبة ومنهم من قال: يجوز قولاً واحداً لنه ربما دعت الحاجة إليه فجاز كالنكاح فإن أولدها فالولد ابنه ومملوكه لأنه ولد جاريته وتلزمه نفقته لأنه مملوكه بخلاف ولد الحرة ولا يعتق عليه لنقصان ملكه فإن أدى المال عتق معه لأنه كمل ملكه وإن رق رق معه.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16. الترمذي في كتاب النكاح باب 21. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 43.(2/387)
فصل: ويجب على المولى الإيتاء وهو أن يضع عنه جزءاً من المال أو يدفع إليه جزءاً من المال لقوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وعن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "يحط عنه ربع الكتابة" والوضع أولى من الدفع لأنه يتحقق الانتفاع به في الكتابة ن واختلف أصحابنا في القدر الواجب فمنهم من قال: ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير وهو المذهب لأن اسم الإيتاء يقع عليه وقال أبو إسحاق: يختلف باختلاف قلة المال وكثرته فإن اختلفا قدره الحاكم باجتهاده كما قلنا في المتعة فإن اختار الدفع جاز بعد العقد للآية وفي وقت الوجوب وجهان: أحدهما يجب بعد العتق كما تجب المتعة بعد الطلاق والثاني أنه يجب قبل العتق لأنه إيتاء وجب للمكاتب فوجب قبل العتق كالإيتاء في الزكاة ولا يجوز الدفع من غير جنس مال الكتابة لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فإن دفع إليه من جنسه من غير ما أداه إليه ففيه وجهان: أحدهما يجوز كما يجوز في الزكاة أن يدفع من غير المال الذي وجب فيه الزكاة والثاني لا يجوز وهو الصحيح للآية وإن سبق المكاتب وأدى المال لزم المولى أن يدفع إليه لأنه مال وجب للآدمي فلم يسقط من غير أداء ولا إبراء كسائر الديون وإن مات المولى وعليه دين حاص المكاتب أصحاب الديون ومن أصحابنا من قال: يحاص الوصايا لأنه دين ضعيف غير مقدر فسوى بينه وبين الوصايا والصحيح هو الأول لأنه دين واجب فحاص به الغرماء كسائر الديون وبالله التوفيق.(2/388)
باب الأداء والعجز
ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه وقد بقي عليه شيء من المال لما روى عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم1" ولأنه علق عتقه على دفع مال فلا يعتق شيء منه مع بقاء جزء منه كما لو قال لعبده: إن دفعت لي ألفاً فأنت حر فإن كاتب رجلان عبدا بينهما ثم أعتق أحدهما
__________
1 رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 35. النوطأ في كتاب المكاتب حديث 1،2.(2/388)
نصيبه أو أبرأه مما عليه من مال الكتابة عتق نصيبه لأنه برئ من جميع ماله عليه فعتق كما لو كاتب عبداً فأبراه فإن كان المعتق موسراً فقد قال أصحابنا: يقوم عليه نصيب شريكه كما لو أعتق شركاً له في عبد وعندي أنه يجب أن يكون على قولين: أحدهما يقوم عليه والثاني لا يقوم كما قلنا في شريكين دبرا عبداً ثم أعتق أحدهما نصيبه أنه على قولين: أحدهما يقوم والثاني لا يقوم فإذا قلنا إنه يقوم عليه ففي وقت التقويم قولان: أحدهما يقوم في الحال كما نقول فيمن أعتق شركاً له في عبد والثاني يؤخر التقويم إلى أن يعجز لأنه قد ثبت للشريك حق العتق والولاء في نصيبه فلا يجوز إبطاله عليه وإن كاتب عبده ومات وخلف اثنين فأبرأه أحدهما عن حصته عتق نصيبه لأنه أبرأه من جميع ما له عليه فإن كان الذي أبرأه موسراً فهل يقوم عليه نصيب شريكه فيه قولان: أحدهما لا يقوم لأن سبب العتق وجد من الأب ولهذا يثبت الولاء له والثاني يقوم عليه وهو الصحيح لأن العتق تعجل بفعله فعلى هذا هل يتعجل التقويم والسراية فيه قولان: أحدهما يتعجل لأنه عتق يوجب السراية فتعجلت به كما لو أعتق شركاً له في عبد والثاني يؤخر إلى أن يعجز لأن حق الأب في عتقه وولائه أسبق فلم يجز إبطاله وإن كاتب رجلان عبداً بما يجوز وأذن أحدهما للآخر في تعجيل حق شريكه من المال وقلنا إنه يصح الإذن عتق نصيبه وهل يقوم عليه نصيب شريكه فيه قولان: أحدهما لايقوم لتقدم سببه الذي اشتركا فيه والثاني يقوم لأنه عتق نصيبه بسبب منه ومتى يقوم فيه قولان: أحدهما يقوم في الحال لأنه تعجل عتقه والثاني يؤخر إلى أن يعجز لأنه قد ثبت لشريكه عقد يستحق به العتق والولاء فلم يجز أن يقوم عليه ذلك فعلى هذا إن أدى عتق باقيه وإن عجز قوم على المعتق وإن مات قبل الأداء والعجز مات ونصفه حر ونصفه مكاتب.
فصل: وإن حل عليه نجم وعجز عن أداء المال جاز للمولى أن يفسخ العقد لأنه أسقط حقه بعوض فإذا تعذر العوض ووجد عين ماله جاز له أن يفسخ ويرجع إلى عين ماله كما لو باع سلعة فأفلس المشتري بالثمن ووجد البائع عين ماله وإن كان معه ما يؤذيه فامتنع من أدائه جاز له الفسخ لأنه تعذر العوض بالامتناع كتعذره بالعجز لأنه لا يمكن إجباره على أدائه وإن عجز عن بعضه أو امتنع عن أداء بعضه جاز له أن يفسخ لأنا بينا أن العتق في الكتابة لا يتبعض فكان تعذر البعض كتعذر الجميع ويجوز الفسخ من غير حاكم لأنه فسخ مجمع عليه فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع العيب.
فصل: وإن حل عليه نجم ومعه متاع فاستنظر لبيع المتاع وجب إنظاره لأنه قادر على أخذ المال من غير إضرار ولا يلزمه أن ينظر أكثر من ثلاثة أيام لأن الثلاثة قليل فلا ضرر عليه في الانتظار وما زاد كثير وفي الانتظار إضرار وإن طلب الإنظار لمال غائب فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وجب إنظاره لأنه قريب لا ضرر في إنظاره(2/389)
وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة لم يجب لأنه طويل وفي الانتظار إضرار وإن طلب الإنظار لاقتضاء دين فإن كان حالاً على ملئ وجب إنظاره لأنه كالعين في يد المودع ولهذا تجب فيه الزكاة وإن كان مؤجلاً أو على معسر لم يجب الإنظار لأن عليه إضراراً في الإنظار فإن حل عليه المال وهو غائب ففيه وجهان: أحدهما له أن يفسخ لأنه تعذر المال فجاز له الفسخ والثاني ليس له أن يفسخ بل يرجع إلى الحاكم ليكتب إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليطالبه فإن عجز أو امتنع فسخ لأنه لا يتعذر الأداء إلا بذلك فلا يفسخ قبله وإن حل عليه النجم وهو مجنون فإن كان معه ما يسلم إلى المولى عتق لأنه قبض ما يستحقه فبرئت به ذمته وإن لم يكن معه شيء فعجزه المولى وفسخ ثم ظهر له مال نقض الحكم بالفسخ لأنا حكمنا بالعجز في الظاهر وقد بان خلافه فنقض كما لو حكم الحاكم ثم وجد النص بخلافه وإن كان قد أنفق عليه الفسخ رجع بما أنفق لأنه لم يتبرع بل أنفق على أنه عبده فإن أفاق بعد الفسخ وأقام البينة أنه كان قد أدى المال نقض الحكم بالفسخ ولا يرجع المولى بما أنفق عليه بعد الفسخ لأنه تبرع لأنه أنفق وهو يعلم أنه حر وإن حل النجم فأحضر المال وادعى السيد أنه حرام ولم تكن له بينة فالقول قول المكاتب مع يمينه لأنه في يده والظاهر أنه له فإن حلف خير المولى بين أن يأخذه وبين أن يبرئه منه فإن لم يفعل قبض عنه السلطان لأنه حق يدخله النيابة فإذا امتنع منه قام السلطان مقامه.
فصل: وإن قبض المال وعتق ثم وجد به عيباً فله أن يرد ويطالب بالبدل فإن رضي به استقر العتق لأنه برئت ذمة العبد وإن رده ارتفع العتق لأنه يستقر باستقرار الأداء وقد ارتفع الأداء بالرد فارتفع العتق وإن وجد به العيب وقد حدث به عنده عيب ثبت له الأرش فإن دفع الأرش استقر العتق وإن لم يدفع ارتفع العتق لأنه لم يتم براءة الذمة من المال وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار ثم مرض بطلت الكتابة في قدر الخدمة وفي الباقي طريقان أحدهما أنه على قولين والثاني أنه لا يبطل قولاً واحداً بناء على الطريقين فيمن ابتاع عينين ثم تلفت إحداهما قبل القبض.
فصل: فإن أدى المال وعتق ثم خرج المال مستحقاً بطل الحكم بعتقه لأن العتق يقع بالأداء وقد بان أنه لم يؤد وإن كان الاستحقاق بعد موت المكاتب كان ما ترك للمولى دون الورثة لأنا قد حكمنا بأنه مات رقيقاً.
فصل: فإن باع المولى ما في ذمة المكاتب وقلنا إنه لا يصح فقبضه المشتري فقد قال في موضع يعتق وقال في موضع لا يعتق واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس فيه(2/390)
قولان: أحدهما يعتق لأنه قبضه بإذنه فأشبه إذا دفعه إلى وكيله والثاني وهو الصحيح أنه لا يعتق لأنه لم يقبضه للمولى وإنما قبضه لنفسه ولم يصح قبضه لنفسه لأنه لم يستحقه فصار كما لو لم يؤخذ وقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين فالذي قال يعتق إذا أمره المكاتب بالدفع إليه لأنه قبضه بإذنه والذي قال لا يعتق إذا لم يأمره بالدفع إليه لأنه لم يأخذه بإذنه وإنما أخذه بما تضمنه البيع من الإذن والبيع باطل فبطل ما تضمنه.
فصل: إذا اجتمع على المكاتب دين الكتابة ودين المعاملة وأرش الجناية وضاق ما في يده عن الجميع قدم دين المعاملة لأنه يختص بما في يده والسيد والمجني عليه يرجعان إلى الرقبة فإن فضل عن الدين شيء قدم حق المجني عليه لأن حقه يقدم على حق المالك في العبد القن فكذلك في المكاتب وإن لم يكن له شيء فأراد صاحب الدين تعجيزه لم يكن له ذلك لأن حقه في الذمة فلا فائدة في تعجيزه بل تركه على الكتابة أنفع له لأنه ربما كسب ما يعطيه وإذا عجزه بقي حقه في الذمة إلى أن يعتق فإن أراد المولى أو المجني عليه تعجيزه كان له ذلك لأن المولى يرجع بالتعجيز إلى رقبته والمجني عليه ببيعه في الجناية فإن عجزه المولى انفسخت الكتابة وسقط دينه وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع في الجناية وبين أن يفديه فإن عجزه المجني عليه نظرت فإن كان الأرش يحيط بالثمن بيع وقضى حقه وإن كان دون الثمن بيع منه ما يقضي منه الأرش وبقي الباقي على الكتابة وإن أدى كتابة باقيه عتق وهل يقوم الباقي عليه إن كان موسراً فيه وجهان: أحدهما لا يقوم لأنه وجد سبب العتق قبل التبعيض والثاني يقوم عليه لأن اختياره للإنظار كابتداء العتق.(2/391)
باب الكتابة الفاسدة
إذا كاتب على عوض محرم أو شرط باطل فللسيد أن يرجع فيها لأنه دخل على أن يسلم له ما شرط ولم يسلم فثبت له الرجوع وله أن يفسخ بنفسه لأنه مجمع عليه وإن مات المولى أو جن أو حجر عليه بطل العقد لأنه غير لازم من جهته فبطل بهذه الأشياء كالعقود الجائزة فإن مات العبد بطل لأنه لا يلحقه العتق بعد الموت وإن جن لا تبطل لأنه لازم من جهة العبد فلم تبطل بجنونه كالعتق المعلق على دخول الدار.
فصل: وإن أدى ما كاتبه عليه قبل الفسخ عتق لأن الكتابة تشتمل على معاوضة وهو قول كاتبتك على كذا وعلى صفة وهو قوله فإذا أديت فأنت حر فإذا بطلت المعاوضة بقيت الصفة فعتق بها وإن أداه إلى غير من كاتبه لم يعتق لأنه لم توجد الصفة فإذا عتق(2/391)
تبعه ما فضل في يده من الكسب وإن كانت جارية تبعها الولد لأنه جعل كالكتابة الصحيحة في العتق فكانت كالصحيحة في الكسب والولد.
فصل: ويرجع السيد عليه بقيمته لأنه أزال ملكه عنه بشرط ولم يسلم له الشرط وتعذر الرجوع إليه فرجع ببدله كما لو باع سلعة بشرط فاسد فتلفت في يد المشتري ويرجع العبد على المولى بما أداه إليه لأنه دفعه عما عليه فإذا لم يقع عما عليه ثبت له الرجوع فإن كان ما دفع من جنس القيمة وعلى صفتها كالأثمان وغيرها من ذوات الأمثال ففيه أربعة أقوال: أحدها أنهما يتقاصان فسقط أحدهما بالآخر لأنه لا فائدة في أخذه ورده والثاني أنه إذا رضي أحدهما تقاصا وإن لم يرض واحد منهما لم يتقاصا لأنه إذا رضي أحدهما فقد اختار الراضي منهما قضاء ما عليه بالذي له على الآخر ومن عليه حق يجوز أن يقضيه من أي جهة شاء والثالث أنهما إذا تراضيا تقاصا وإن لم يتراضيا لم يتقاصا لأنه إسقاط حق بحق فلم يجز إلا بالتراضي كالحوالة والرابع أنهما لا يتقاصان بحال لأنه بيع دين بدين وإن أخذ من سهم الرقاب في الزكاة فإن لم يكن فيه وفاء استرجع منه وإن كان فيه وفاء فقد قال في الأم: يسترجع ولا يعتق لأنه بالفساد خرج عن أن يكون من الرقاب ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب.
فصل: فإن كاتب عبداً صغيراً أو مجنوناً فأدى ما كاتبه عليه عتق بوجود الصفة وهل يكون حكمها حكم الكتابة الفاسدة مع البالغ في ملك ما فضل في يده من الكسب وفي التراجع؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يملك ما فضل في يده من الكسب ولا يثبت التراجع وهو رواية المزني في المجنون لأن العقد مع الصبي ليس بعقد ولهذا لو ابتاع شيئاً وقبضه وتلف في يده لم يلزمه الضمان بخلاف البالغ فإن عقده عقد يقتضي الضمان ولهذا لو اشترى شيئاً ببيع فاسد وتلف عنده لزمه الضمان والثاني وهو قول أبي العباس أنه يملك ما فضل من الكسب ويثبت بينهما التراجع وهو رواية الربيع في المجنون لأنه كتابة فاسدة فأشبهت كتابة البالغ بشرط فاسد.
فصل: وإن كاتب بعض عبده وقلنا إنه لا يصح فلم يفسخ حتى أدى المال عتق لوجود الصفة وتراجعا وسرى العتق إلى باقيه لأنه عتق بسبب منه فإن كاتب شريكاً في عبد من غير إذن شريكه نظرت فإن جمع كسبه ودفع نصفه إلى الشريك ونصفه للذي كاتب عتق لوجود الصفة فإن جمع الكسب كله وأداه ففيه وجهان: أحدهما لا يعتق لأن(2/392)
الأداء يقتضي أداء ما يملك التصرف فيه وما أداه من مال الشريك لا يملك التصرف فيه والثاني يعتق لأن الصفة قد وجدت فإن كاتبه بإذن شريكه فإن قلنا إنه باطل فالحكم فيه كالحكم فيه إذا كاتبه بغير إذنه وإن قلنا إنه صحيح ودفع نصف الكسب إلى الشريك ونصفه إلى الذي كاتبه عتق فإن جمع الكسب كله ودفعه إلى الذي كاتبه قد قال بعض أصحابنا فيه وجهان كالقسم قبله والمذهب أنه لا يعتق لأن الكتابة صحيحة والمغلب فيها حكم المعارضة فإذا دفع فيها مالاً يملكه صار كما لو لم يؤد بخلاف القسم قبله فإنها كتابة فاسدة والمغلب فيها الصفة وإذا حكمنا بالعتق في هذه المسائل في نصيبه فإن كان المعتق موسراً سرى إلى نصيب الشريك وقوم عليه لأنه عتق بسبب منه ولا يلزم العبد ضمان السراية لأنه لم يلتزم ضمان ما سرى إليه.
فصل: وإن كاتب عبيداً على مال واحد وقلنا إن الكتابة صحيحة فأدى بعضهم عتق لأنه بريء مما عليه وإن قلنا إن الكتابة فاسدة فأدى بعضهم فالمنصوص أنه يعتق لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الكتابة الصحيحة في الأحكام فكذلك في العتق بالأداء ومن أصحابنا من قال لا يعتق وهو الأظهر لأن العتق في الكتابة الفاسدة بالصفة وذلك لم يوجد بأداء بعضهم.(2/393)
باب اختلاف المولى والمكاتب
إذا اختلفا فقال السيد كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور علي فأنكر العبد فإن كان قد عرف له جنون أو حجر فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل بقاؤه على الجنون أو الحجر وإن لم يعرف له ذلك فالقول قول العبد لأن الظاهر عدم الجنون والحجر وإن اختلفا في قدر المال أو في نجومه تحالفا قياساً على المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو في الأجل فإن كان ذلك قبل العتق فهل تنفسخ بنفس التحالف أو يفتقر إلى الفسخ فيه وجهان كما ذكرناه في المتبايعين وإن كان التحالف بعد العتق لم يرتفع العتق ويرجع المولى بقيمته ويرجع المكاتب بالفضل كما نقول في البيع الفاسد.
فصل: وإن وضع شيئاً عنه من مال الكتابة ثم اختلفا فقال السيد وضعت النجم الأخير وقال المكاتب بل الأول فالقول قول السيد وإن كتبه على ألف درهم فوضع عنه خمسين درهماً لم يصح لأنه أبرأه مما لا يملكه فإن قال أردت ألف درهم بقيمة خمسين ديناراً صح وإن اختلفا فيما عني فادعى المكاتب أنه عني ألف درهم بقيمة خمسين ديناراً وأنكر السيد ذلك فالقول قول السيد لأن الظاهر معه ولأنه أعرف بما عني وإن أدى المكاتب ما عليه فقال له المولى: أنت حر وخرج المال مستحقاً فادعى العبدان عتقه بقوله(2/393)
أنت حر وقال المولى أردت أنك حر بما أديت وقد بان أنه مستحق فالقول قول السيد لأنه يحتمل الوجهين وهو أعرف بقصده وإن قال السيد استوفيت أو قال العبد أليس أوفيتك فقال بلى فادعى المكاتب أنه وفاه الجميع وقال المولى بلى وفاني البعض فالقول قول السيد لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع.
فصل: وإن كان المكاتب جارية وأتت بولدها فاختلفا في ولدها وقلنا إن الولد يتبعها فقالت الجارية ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي وقال المولى بل ولدته قبل الكتابة فهو لي فالقول قول السيد لأن هذا اختلاف في وقت العقد والسيد يقول العقد بعد الولادة والمكاتبة تقول قبل الولادة والأصل عند العقد وإن كاتب عبداً ثم زوجه أمة له ثم اشترى المكاتب زوجته وأتت بولد فقال السيد: أتت به قبل الشراء فهو لي وقال العبد: بل أتت به بعدما اشتريتها فهو لي فالقول قول العبد لأن هذا الاختلاف في الملك والظاهر مع العبد لأنه في يده بخلاف المسألة قبلها فإن هناك لم يختلفا في الملك وإنما اختلفا في وقت العقد.
فصل: وإن كاتب عبدين فأقر أنه استوفى ما على أحدهما أو أبرأ أحدهما واختلف العبدان فادعى كل واحد منهما أنه هو الذي استوفى منه وأبرأه رجع إلى المولى فإن أخبر أنه أحدهما قبل منه لأنه أعرف بمن استوفى منه أو أبرأه فإن طلب الآخر يمينه حلف له وإن ادعى المولى أنه أشكل عليه لم يقرع بينهما لأنه قد يتذكر فإن ادعيا أنه يعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة ومن أصحابنا من قال ترد الدعوى عليهما فإن حلفا أو نكلا بقيا على الكتابة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عتق الحالف وبقي الآخر على الكتابة وإن مات المولى قبل أن يعين ففيه قولان: أحدهما يقرع بينهما لأن الحرية تعينت لأحدهما ولا يمكن التعيين بغير القرعة فوجب تمييزها بالقرعة كما لو قال لعبدين أحدكما حر والثاني أنه لا يقرع لأن الحرية تعينت في أحدهما فإذا أقرع لم يؤمن أن تخرج القرعة على غيره فعلى هذا يرجع إلى الوارث فإن قال لا أعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة على ما ذكرناه في المولى.
فصل: وإن كاتب ثلاثة أعبد في قود أو في عقد على مائة وقلنا إنه يصح وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون فأدوا مالاً من أيديهم ثم اختلفوا فقال: من كثرت قيمته النصف لي ولكل واحد منهما الربع وقال الآخران بل المال بيننا أثلاثاً ويبقى عليك تمام النصف ويفضل لكل واحد منا ما زاد على الربع فقد قال في موضع: القول قول من كثرت قيمته وقال في موضع: القول قول من قلت قيمته فمن(2/394)
أصحابنا من قال هي على قولين: أحدهما أن القول قول من قلت قيمته وأن المؤدي بينهم أثلاثاً لأن يد كل واحد منهم على ثلث المال والثاني أن القول قول من كثرت قيمته لأن الظاهر معه فإن العادة أن الانسان لا يؤدي أكثر مما عليه ومنهم من قال هي على اختلاف حالين فالذي قال القول قول من كثرت قيمته إذا وقع العتق بالأداء لأن الظاهر أنه لا يؤدي أكثر مما عليه والذي قال إن القول قول من قلت قيمته إذا لم يقع العتق بالأداء فيؤدي من قلت قيمته أكثر مما عليه ليكون الفاضل له من النجم الثاني والدليل عليه أنه قال في الأم: إذا كاتبهم على مائة فأدوا ستين فإذا قلنا إنه بينهم على العدد أثلاثاً فأراد العبدان أن يرجعا بما فضل لهما لم يجز لأن الظاهر أنهما تطوعا بالتعجيل فلا يرجعان به ويحتسب لهما من النجم الثاني.
فصل: وإن كاتب رجلان عبداً بينهما فادعى المكاتب أنه أدى إليهما مال الكتابة فأقر أحدهما وأنكر الآخر عتق الحصة المقر والقول قول المنكر مع يمينه فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة فله أن يطالب المقر بنصف ما أقر بقبضه وهو الربع لحصول حقه في يده ويطالب المكاتب بالباقي وله أن يطالب المكاتب بالجميع وهو النصف فإن قبض حقه منهما أو من أحدهما عتق المكاتب وليس لأحد من المقر والمكاتب أن يرجع على صاحبه بما أخذه منه لأن كل واحد منهم يدعي أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره وإن وجد المكاتب عاجزاً فعجزه أحدهما رق نصفه قال الشافعي رحمه الله: ولا يقوم على المقر لأن التقويم لحق العبد وهو أن يقول أنا حر مسترق ظلماً فلا يقوم ولا تقبل شهادة المصدق على المكذب لأنه يدفع بها ضرراً من استرجاع نصف ما في يده فإن ادعى المكاتب أنه دفع جميع المال إلى أحدهما ليأخذ منه النصف ويدفع إلى شريكه النصف نظرت فإن قال المدعى عليه دفعت إلى كل واحد منا النصف وأنكره الآخر عتق حصة المدعى عليه بإقراره وبقيت حصة المنكر على الكتابة من غير يمين لأنه لا يدعي عليه واحد منهما تسليم المال إليه وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه وله أن يطالب المقر بنصفه والمكاتب بنصفه ولا يرجع واحد منهما بما يؤخذ منه على الآخر لأن كل واحد منهما يدعي أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره فإن استوفى المنكر حقه منهما أو من المكاتب عتقت حصته وصار المكاتب حراً وإن عجز المكاتب فاسترقه فقد قال الشافعي رحمه الله: إنه يقوم على المقر ووجهه أنه عتق نصيبه بسبب من جهته وقال في المسألة قلها لا يقوم فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين ومنهم من قال يقوم ههنا ولا يقوم في المسألة قبلها على ما(2/395)
نص عليه لأن في المسألة قبلها يقول المكاتب أنا حر فلا أستحق التقويم على أحد وههنا يقول نصفي مملوك فاستحق التقويم وإن قال المدعى عليه قبضت المال وسلمت نصفه إلى شريكي وأمسكت النصف لنفسي وأنكر الشريك القبض عتق حصة المدعى عليه والقول قول المنكر مع يمينه لأن المقر يدعي التسليم إليه فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه بالعقد وله أن يطالب المقر بإقراره بالقبض فإن رجع على المقر لم يرجع المقر على المكاتب لأنه يقول إن شريكي ظلمني وإن رجع على المكاتب رجع المكاتب على المقر صدقه على الدفع أو كذبه لأنه فرط في ترك الإشهاد فإن حصل للمنكر ما له من أحدهما عتق المكاتب وإن عجز المكاتب عن أداء حصة المنكر كان للمنكر أن يستحق نصيبه فإذا رق قوم على المقر لأنه عتق بسبب كان منه وهو الكتابة ويرجع المنكر على المقر بنصف ما أقر بقبضه لأنه بالتعجيز استحق نصف كسبه وإن حصل المال من جهة المكاتب عتق باقيه ورجع المكاتب على المقر بنصف ما أقر بقبضه لأنه كسبه.(2/396)
كتاب عتق أمهات الأولاد
مدخل
...
كتاب عتق أمهات الأولاد
إذا علقت الأمة بولد حر في ملك الواطئ صارت أم ولد له فلا يملك بيعها ولا هبتها ولا الوصية بها لما ذكرناه في البيوع فإن مات السيد عتقت لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولدت منه أمته فهي حرة بعد موته1" وتعتق من رأس المال لأنه ائتلاف حصل بالاستمتاع فاعتبر من رأس المال كالائتلاف بأكل الطيب ولبس الناعم وإن علقت بولد مملوك في غير ملك من زوج أو زنا لم تصر أم ولد له لأن حرمة الاستيلاد إنما تثبت للأم تجربة الولد والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له مارية القبطية فقاال: "أعتقها ولدها" والولد ههنا مملوك فلا يجوز أن تعتق الأم بسببه وإن علقت بولد حر بشبهة من غير ملك لم تصر أم ولد في الحال فإذا ملكها ففيه قولان: أحدهما لا تصير أم ولد لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبه إذا علقت منه في نكاح فاسد أو زنا والثاني أنها تصير أم ولد لأنه علقت منه بحر فأشبه إذا علقت منه في ملكه وإن علقت بولد مملوك في ملك ناقص وهي جارية المكاتب إذا علقت من مولاها ففيه قولان: أحدهما أنه لا تصير أم ولد لأنها علقت منه بمملوك ن والثاني أنها تصير أم ولد لأنه قد ثبت لهذا الولد حق الحرية ولهذا لا يجوز بيعه فثبت هذا الحق لأمه.
فصل: وإن وطئ أمته فاسقطت جنيناً ميتاً كان حكمه حكم الولد الحي في الاستيلاد لأنه ولد وإن أسقطت جزء من الآدمي كالعين والظفر أو مضغة ن فشهد أربع نسوة من أهل المعرفة والعدالة أنه تخطط وتصور ثبت له حكم الولد لأنه قد علم أنه ولد وإن ألقت مضغة لم تتصور ولم تتخطط وشهد أربع من أهل العدالة والمعرفة أنه مبتدأ خلق الآدمي ولو بقي لكان آدمياً فقد قال ههنا ما يدل على أنها لا تصير أم ولد وقال في العدة: تنقضي به العدة فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد ولا في انقضاء العدة لأنه ليس بولد والثاني يثبت له حكم الولد في الجمبع لأنه خلق بشر فأشبه إذا تخطط ومنهم من قال: لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد وتنقضي به العدة لأنه حرمة الاستيلاد تتعلق بوجود
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب العتق باب 2. أحمد في مسنده "1/303".(2/397)
الولد ولم يوجد الولد والعدة تراد لبراءة الرحم وبراءة الرحم تحصل بذلك.
فصل: ويملك استخدام أم الولد وإجارتها ويملك وطأها لأنها باقية على ملكه وإنما ثبت لها حق الحرية بعد الموت وهذه التصرفات لا تمنع العتق فبقيت على ملكه وهل يملك تزويجها فيه ثلاثة أقوال: أحدها يملك لأنه يملك رقبتها ومنفعته فملك تزويجها كالأمة القنة والثاني يملك تزويجها برضاها ولا يملك من غير رضاها لأنها تستحق الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله فملك تزويجها برضاها ويملك بغير رضاها كالمكاتبة والثالث لا يملك تزويجها بحال لأنها ناقصة في نفسها وولاية المولى عليها ناقصة فلم يملك تزويجها كالأخ في تزويج أخته الصغيرة فعلى هذا هل يجوز للحاكم تزويجها بإذنهما فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يملك لأنه قائم مقامهما ويعقد بإذنهما فإذا لم يملك العقد باجتماعهما لم يملك مع من يقوم مقامهما والثاني وهو قول أبو سعيد الاصطخري إنه يملك تزويجها لأنه يملك بالحكم ما لا يملك بالولاية وهو تزويج الكافرة.
فصل: وإن أتت أم الولد بولد من نكاح أو زنا تبعها في حقها من العتق بموت السيد لأن الاستيلاد كالعتق المنجز ثم الولد يتبع الأم في العتق فكذلك في الاستيلاد فإن ماتت الأم قبل موت السيد لم يبطل الحكم في ولدها لأنه حق استقر له في حياة الأم فلم يسقط بموتها.
فصل: وإن جنت أم الولد لزم المولى أن يفديها لأنه منع من بيعها بالإحبال ولم يبلغ بها إلى حال يتعلق الأرش بذمتها فلزمه ضمان جنايتها كالعبد القن إذا جنى وامتنع المولى من بيعه ويفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش الجناية قولاً واحداً لأن في العبد القن إنما فداه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ في أحد القولين لأنه يمكن بيعه فربما رغبت فيه من يشتريه بأكثر من قيمته وأم الولد لا يمكن بيعها فلا يلزمه أن يفديها بأكثر من قيمتها وإن جنت ففداها بجميع القيمة ثم جنت فيه قولان: أحدهما يلزمه أن يفديها لأنه إنما لزمه أن يفديها في الجناية الأولى لأنه منع من بيعها ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها وهذا موجود في الجناية الثانية فوجب أن تفدي كالعبد القن إذا جنى وامتنع من بيعه ثم جنى وامتنع من بيعه والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يلزمه أن يفديها بل يقسم القيمة التي فدى بها الجناية الأولى بين الجنايتين على قدر أرشهما لأنه بالإحبال صار كالمتلف لرقبتها فلم يضمن أكثر من قيمتها وتخالف العبد القن فإنه فداه لأنه امتنع من بيعه والإمتاع يتكرر فتكرر بها وههنا لزمه الفداء للإتلاف بالإحبال وذلك لا يتكرر فلم يتكرر الفداء وإن جنت ففداها ببعض قيمتها ثم جنت فإن بقي من قدر قيمتها ما يفدي الجناية الثانية لزمه أن يفديها وإن بقي به ما يفدي بعض الجناية الثانية فعلى القولين إن قلنا يلزمه أن يفدي الجناية الثانية لزمه أن يفديها وإن قلنا يشارك الثاني الأول في القيمة ضم ما بقي من قيمتها(2/398)
إلى ما فدى به الجناية الأولى ثم يقسم الجميع بين الجنايتين على قدر أرشهما.
فصل: وإن أسلمت أم ولد نصراني تركت على يد امرأة ثقة وأخذ المولى بنفقتها إلى أن تموت فتعتق لأنه لا يمكن بيعها لما فيه من إبطال حقها من العتق المستحق بالاستيلاد ولا يمكن إعتاقها لما فيه من إبطال حق المولى ولا يمكن لإقرارها في يده لما فيه من الصغار على الإسلام فلم يبق إلا ما ذكرناه وإن كاتب كافر عبداً كافراً ثم أسلم العبد بقي على الكتابة لأنه أسلم في حال لا يمكن مطالبة المالك ببيعه أو إعتاقه وهو خارج عن يده وتصرفه على حالته فإن عجز ورق أمر ببيعه.(2/399)
باب الولاء
إذا أعتق الحر مملوكاً ثبت عليه الولاء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: اشتريت بريرة واشترط أهلها ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقي فإن الولاء لمن أعتق1" وإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة أو عتق عنه غيره ثبت له عليه الولاء لأنه عتق عليه فثبت له الولاء كما لو باشر عتقهن وإن باع الرجل عبده من نفسه ففيه وجهان: أحدهما أنه يثبت له عليه الولاء لأنه لم يثبت عليه رق غيره والثاني لا ولاء عليه لأحد لأنه لم يعتق عليه في ملكه ولا يملك العبد الولاء على نفسه فلم يكن عليه ولاء.
فصل: وإن أعتق المكاتب عبداً بإذن المولى وصححنا عتقه ففي ولائه قولان: أحدهما أنه للسيد لأن العتق لا ينفك من الولاء والمكاتب ليس من أهله فوجب أن يكون للسيد والثاني أنه موقوف فإن عتق فهو له فإن عجز فهو للسيد لأن المعتق هو المكتب فوقف الولاء عليه فإن مات العبد المعتق قبل عجز المكاتب أو عتقه ففي ماله قولان: أحدهما أنه موقوف على ما يكون من أمر المكاتب كالولاء والثاني أنه للسيد لأن الولاء يجوز أن ينتقل فجاز أن يقف والإرث لا يجوز أن ينتقل فلم يجز أن يقف.
فصل: وإن أعتق مسلم نصرانياً أو أعتق نصراني مسلماً ثبت له الولاء لأن الولاء كالنسب والنسب يثبت مع اختلاف الدين فكذلك الولاء وإن أعتق المسلم نصرانياً فلحق بدار الحرب فسبى لم يجز استرقاقه لأن عليه ولاء المسلم فلا يجوز إبطاله وإن أعتق ذمي عبده فلحق بدار الحرب وسبى ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز أن يسترق لأنه لا يلزمنا حفظ ماله فلم يجز إبطاله ولأنه بالاسترقاق كالمسلم والثاني يجوز لأن معتقه أو لحق بدار الحرب جاز استرقاقه فكذلك عتيقه وإن أعتق حربي عبداً حربياً ثبت له عليه الولاء فإن سبى العبد أو سبى مولاه واسترق
__________
1 رواه البخاري في كتاب المكاتب باب 5. مسلم في كتاب العتق حديث 5، 6، 8. أبو داود في كتاب العتاق باب 2. النسائي في كتاب البيوع باب 78. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 25.أحمد في مسنده "1/181" "2/28".(2/399)
بطل ولاؤه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا ماله وإن أعتق عبد ذمي عبداً ثم لحق بدار الحرب فملكه عبده وأعتقه صار كل واحد منهم مولى للآخر لأن كل واحد منهما عتق الآخر.
فصل: وإن اشترك اثنان في عتق عبد اشتركا في الولاء لاشتراكهما في العتق وإن كاتب رجل عبداً ومات وخلف اثنين وأعتق أحدهما نصيبه أو أبرأه مما له عليه فإن قلنا لا يقوم عليه فأدى ما عليه للآخر كان ولاؤه للإثنين لأنه عتق بالكتابة على الأب وقد ثبت له الولاء فنقل إليهما وإن عجز عما عليه للآخر فرق نصيبه ففي ولاء النصف المعتق وجهان: أحدهما أنه بينهما لأنه عتق بحكم الكتابة فثبت الولاء للأب وانتقل إليهما والثاني أنه للمعتق خاصة لأنه هو الذي أعتقه ووقف الآخر عن العتق وإن قلنا إنه يقوم في الحال فقوم عليه ثبت الولاء للمقوم عليه في المقوم لأن بالتقويم انفسخت الكتابة فيه وعتق عليه وأما النصف الآخر فإنه عتق بالكتابة وفي ولائه وجهان: أحدهما أنه بينهما والثاني أنه للمعتق خاصة وإن قلنا يؤخر التقويم فإن أدى عتق بالكتابة وكان الولاء لهما وإن عجز ورق قوم على المعتق وثبت له الولاء على النصف المقوم لأنه عتق عليه والنصف الآخر عتق بالكتابة وفي ولائه وجهان.
فصل: ولا يثبت الولاء لغير المعتق فإن أسلم رجل على يد رجل أو التقط لقيطاً لم يثبت له عليه الولاء لحديث عائشة رضي الله عنها: "فإنما الولاء لمن أعتق1" وإنما في اللغة موضوع لإثبات المذكور ونفى ما عداه فدل على إثبات الولاء للمعتق ونفيه عمن عداه ولأن الولاء ثبت بالشرع ولم يرد الشرع في الولاء إلا لمن أعتق وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلا يلحق به.
فصل: ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته ولأن الولاء كالنسب والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب" والنسب لا يصح بيعه وهبته فكذلك الولاء وإن أعتق عبداً سائبة على أن لا ولاء عليه عتق وثبت له الولاء لقوله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] ولأن هذا في معنى الهبة وقد بينا أنه لا يصح هبته.
فصل: وإن مات العبد المعتق وله مال ولا وارث له ورثه المولى لما روى يونس عن الحسن أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقال اشتريته وأعتقته فقال هو مولاك إن شكرك فهو خير له وإن كفرك فهو شر له وخير لك فقال: فما أمر ميراثه؟ فقال: إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء وإن كان له عصبة لم يرث للخبر ولأن الولاء فرع
__________
1 المصدر السابق.(2/400)
للنسب فلا يورث به مع وجوده وإن كان له من يرث الفرض فإن كان ممن يستغرق المال بالفرض لم يرثه لأنه إذا لم ترث العصبات مع من يستغرق المال بالفرض فلأن لا يرث المولى أولى وإن كان ممن لا يستغرق المال ورث ما فضل عن أهل الفرض لما روى عبد الله بن شداد قال: أعتقت ابنة حمزة مولى لها فمات وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة النصف وابنته النصف.
فصل: وإن مات العبد والمولى ميت كان الولاء لعصبات المولى دون سائر الورثة لأن الولاء كالنسب لما ذكرناه من الخبر والنسب إلى العصبات دون غيرهم ويقدم الأقرب فالأقرب لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس بالمعتق" ولأن في عصبات الميت يقدم الأقرب فالأقرب وكذلك في عصبات المولى فإن كان للمولى ابن وابنة كان الميراث للابن دون البنت لأنا بينا أنه لايرث الولاء غير العصبات والبنت ليست من العصبات ولأن الولاء كالنسب ثم المرأة لا ترث بالقرابة من الميت إذا تباعد نسبها منه وهي بنت الأخ والعمة فلأن لا ترث بنت المولى وهو مؤخر عن النسب أولى وإن كان له أب وابن أو أب وابن ابن فالميراث للابن لأن تعصيب الابن أقوى لأنه يسقط تعصيب الأب فإن لم يكن بنون فالولاء للأب دون الجد والأخ لأنه أقرب منهما وإن ترك جداً وأخاً ففيه قولان: أحدهما أنهما يشتركان كما يشتركان في إرث النسب والثاني يقدم الأخ لأن تعصيبه كتعصيب الابن وتعصيب الجد كتعصيب الأب وإنما لم يقدم في إرث النسب للإجماع وليس في الولاء إجماع فوجب أن يقدم فإن ترك جداً وابن أخ فهو على القولين: إن قلنا إن الجد والأخ يشتركان قدم الجد وإن قلنا إن الأخ يقدم قدم ابنه وإن ترك أبا الجد والعم فعلى القولين إن قلنا أن الجد والأخ يشتركان قدم أبو الجد وإن قلنا إن الأخ يقدم قدم العم وإن اجتمع الأخ من الأب والأم والأخ من الأب قدم الأخ من الأب والأم كما يقدم في الإرث في النسب ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما يقدم لما قلناه والثاني أنهم سواء لأن الأم لا ترث بالولاء فلا يرجح بها من يدلي بها فإن لم يكن للمولى عصبة وله مولى فالولاء لمولاه لأن المولى كالعصبة فإن لم يكن له مولى فلعصبة مولاه فإن لم يكن له مولى ولا عصبة مولى وهناك مولى لعصبة المولى نظرت فإن كان مولى أخيه أو مولى ولده لم يرث لأن إنعامه على أخيه لا يتعدى إليه وإن كان مولى أبيه أو جده ورث لأن إنعامه عليه إنعامه على نسله.(2/401)
فصل: فإن أعتق عبداً ثم مات وخلف اثنين ثم مات أحدهما وترك ابناً ثم مات العبد وله مال ورثه الكبير من عصبة المولى وهو الابن دون ابن الابن لما روى الشعبي قال: قضى عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم أن الولاء للكبر ولأن الولاء يورث به ولا يورث والدليل عليه لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لايباع ولا يوهب ولا يورث" فإذا ثبت أنه لا يورث ثبت أنه إنما يورث بما ثبت للمولى من الولاء فوجب أن يكون للكبر لأنه أقرب إلى المولى وإن مات المولى وخلف ثلاثة بنين ثم مات أحدهم وخلف ابناً ومات الثاني وخلف أربعة ومات الثالث وخلف خمسة ثم مات العبد المعتق كان ماله بين العشرة بالسوية لتساويهم في القرب ولو ظهر للمولى مال كان بينهم أثلاثاً لابن الابن الثلث وللأربعة الثلث وللخمسة الثلث لأن المال انتقل إلى أولاده أثلاثاً ثم انتقل ما ورث كل واحد منهم إلى أولاده والولاء لم ينتقل إلى أولاده وإنما ورثوا مال العبد لقربهم من المولى الذي ثبت له الولاء وهم في القرب منه سواء فتساووا في الميراث.
فصل: إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل فأتت منه بولد ثبت لمولى الأم الولاء على الولد لأنه عتق بإعتاق الأم فكان ولاؤه لمولاها فإن أعتق بعد ذلك مولى العبد عبده انجر ولاء الولد من موالي الأم إلى موالي العبد والدليل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه قال: مر الزبير بموال لرافع بن خديج وأبوهم عبد لفلان فاشترى الزبير أباهم فأعتقهم ثم قال: أنتم موالي فاختصم الزبير ورافع إلى عثمان رضي الله عنه فقضى عثمان للزبير قال هشام: فلما كان معاوية خاصمونا أيضاً فقضى لنا معاوية ولأن الولاء فرع للنسب والنسب معتبر بالإرث وإنما ثبت لمولى الأم لعدم الولاء من جهة الأب كولد الملاعنة نسب إلى الأم لعدم النسب من جهة الأب فإذا ثبت الولاء على الأب عاد الولاء(2/402)
إلى موضعه كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج وإن أعتق جد الولد دون الأب ففي ولائه ثلاثة أوجه: أحدها ينجر الولاء إلى معتقه لأنه كالأب في الانتساب إليه والولاية فكان كالأب في جر الولاء إلى معتقه والثاني لا ينجر لأن بينه وبين الولد الأب فلا ينجر الولاء إلى معتقه كالأخ والثالث إن كان الأب حياً لم ينجر الولاء إلى معتقه وإن كان ميتاً انجر لأنه مع موته ليس غيره أحق ومع حياته من هو أحق فإن قلنا إنه ينجز الولاء إلى معتقه فانجر ثم أعتق الأب انجر من مولى الجد إلى مولى الأب لأنه أقوى من الجد في النسب وأحكامه.
فصل: وإن تزوج عبد رجل بأمة آخر فأتت منه بولد ثم أعتق السيد الأمة وولدها ثبت له عليها الولاء فإن أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر ولاء الولد إلى مولى العبد والفرضيون يعبرون عن علة ذلك أنه ولد مسه الرق ثم ناله العتق والعلة في ذلك أن المعتق أنعم على الولد بالعتق فكان أحق بولائه ممن أنعم على أبيه وتخالف ما قبلها فإن أحدهما أنعم على الأم والآخر أنعم على الأب فقدم المنعم على الأب لأن النسب إليه والولاء فرع للنسب وههنا أحدهما أنعم على الولد نفسه والآخر أنعم على أبيه فقدم المنعم عليه على المنعم على أبيه وإن تزوج عبد لرجل بجارية آخر فحبلت منه ثم أعتقت الجارية وهي حامل ثبت الولاء على الجارية وحملها فإن أعتق العبد بعد ذلك لم ينجز الولاء إلى مولاه لما ذكرناه من العلة وإن تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة رجل فأتت منه لم يثبت عليه الولاء لمولى الأم لأن الاستدامة في الأصول أقوى من الابتداء ثم ابتداء الحرية في الأب تسقط استدامة الولاء لمولى الأم فلأن تمنع استدامة الحرية في الأب ابتداء الولاء لمولى الأم أولى وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر وأولدها ولد أثبت الولاء على الولد لموالي الأم فإن اشترى الولد أباه عتق عليه وثبت له الولاء عليه وهل ينجر ولاء نفسه بعتق الأب فيه وجهان: أحدهما لا ينجز لأنه لا يملك ولاء نفسه فعلى هذا يكون ولاؤه باقياً لموالي الأم والثاني أنه ينجز ولاء نفسه بعتق أبيه ولا يملكه على نفسه ولكن يزيل به الولاء عن نفسه ويصير حراً لا ولاء عليه لأن عتق الأب يزيل الولاء من معتق الأم.
فصل: إذا مات رجل وخلف اثنين وعبداً فادعى العبد أن المولى كاتبه فصدقه أحدهما وكذبه الآخر فأدى إلى المصدق كتابته عتق نصفه وفي ولائه وجهان: أحدهما أن الولاء بينهما لأنه عتق بسبب كان من أبيهما فكان الولاء بينهما والثاني أن الولاء للمصدق لأن المكذب أسقط حقه بالتكذيب فصار كما لو حلف أحد الأخوين على دين(2/403)
لأبيهما فأخذ نصفه فإن الآخر لا يشارك في نصفه وإن تزوج المكاتب بحرة فأولدها فإن كان على الحرة ولاء لمعتق كان له ولاء الولد فإن عتق الأب بالأداء جر ولاء ولده من معتق الأم إلى معتقه فإن اختلف مولاه ومولى الأم فقال مولى المكاتب قد عتق المكاتب بالأداء وجر إلى ولاء الولد وقال مولى الأم لم يعتق وولاء الولد لي نظرت فإن كان المكاتب حياً عتق بإقرار سيده وانجر الولاء إلى معتقه ولا يمين عليه ولا على السيد وإن كان قد مات واختلف السيد ومولى الأم فإن كان للسيد المكاتب بينة شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين قضي له لأنها بينة على المال وإن لم تكن له بينة فالقول قول مولى الأم مع يمينه لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء لمعتق الأم فلا ينتقل عنه من غير بينة وبالله التوفيق.(2/404)
كتاب الفرائض
مدخل
...
كتاب الفرائض
الفرائض باب من أبواب العلم وتعلمها فرض من فروض الدين والدليل عليه ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدا من يفصل بينهما1".
فصل: وإذا مات الميت بدئ من ماله بكفنه ومؤنة تجهيزه لما روى خباب بن الأرت قال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد وليس له إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجله وإذا غطينا رجله خرج رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الإذخر" ولأن الميراث إنما انتقل من الورثة لأنه استغنى عنه الميت وفضل عن حاجته والكفن ومؤنة التجهيز لا يستغنى عنه فقدم على الإرث ويعتبر ذلك من رأس المال لأنه حق واجب فاعتبر من رأس المال كالدين.
فصل: ثم يقضي دينه لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ولأن الدين تستغرقه حاجته فقدم على الإرث وهل ينتقل ماله إلى الورثة قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو سعيد الاصطخري رحمه الله إلى أنه لا ينتقل بل هو باق على ملكه إلى أن يقضي دينه فإن حدثت منه فوائد ككسب العبد وولد الأمة ونتاج البهيمة تعلق بها حق الغرماء لأنه لو بيع كانت العهدة على الميت دون الورثة فدل على أنه باق على ملكه وذهب سائر أصحابنا إلى أنه ينتقل إلى الورثة فإن حدثت منها فوائد لم يتعلق بها حق الغرماء وهو المذهب لأنه لو كان باقياً على ملك الميت لوجب أن يرثه من أسلم أو أعتق من أقاربه قبل قضاء الدين ولوجب أن لا يرثه من مات من الورثة قبل قضاء الدين وإن كان الدين أكثر من قيمة التركة فقال الوارث أنا أفكها بقيمتها وطالب الغرماء ببيعها ففيه وجهان بناء على القولين فيما يفدي به المولى جناية العبد:
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الفرائض باب 2. ابن ماجة في كتاب الفرائض باب 1. الدارمي في كتاب الفرائض باب 1.(2/405)
أحدهما لا يجب بيعها لأن الظاهر أنها لا تشتري بأكثر من قيمتها وقد بذل الوارث قيمتها فوجب أن تقبل والثاني يجب بيعها لأنه قد يرغب فيها من يزيد على هذه القيمة فوجب بيعها.
فصل: ثم تنفذ وصاياه لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:] ولأن الثلث بقي على حكم ملكه ليصرفه في حاجاته فقدم على الميراث كالدين.
فصل: ثم تقسم التركة بين الورثة والأسباب التي يتوارث بها الورثة المعينون ثلاثة رحم وولاء ونكاح لأن الشرع ورد بالإرث بها وأما المؤاخاة في الدين والموالاة في النصرة والإرث فلا يورث بها لأن هذا كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ بقوله عز وجل {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] .
فصل: والوارثون من الرجال عشرة: الابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى النعمة لأن الشرع ورد بتوريثهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى فأما ذوو الأرحام وهم الذين لا فرض لهم ولا تعصيب فإنهم لايرثون وهم عشرة: ولد البنات وولد الأخوات وبنات الإخوة وبنات الأعمام وولد الإخوة من الأم والعم من الأم والعمة والخال والخالة والجد أبو الأم ومن يدلي بهم والدليل عليه ما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث1" فأخبر أنه أعطى كل ذي حق حقه فدل على ان كل من لم يعطه شيئاً فلا حق له ولأن بنت الأخ لا ترث مع أخيها فلم ترث كبنت المولى ولا يرث العبد المعتق من مولاه لما ذكرناه من حديث أبو أمامة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الولاء لمن أعتق".
فصل: ولا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم أصلياً كان أو مرتداً لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم2" ويرث الذمي من الذمي وإن اختلفت أديانهم كاليهودي من النصراني
__________
1 رواه البخاريفي كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 6.
2 رواه أحمد في مسنده "201، 202، 209".(2/406)
والنصراني من المجوسي لأنه حقن دمهم بسبب واحد فورث بعضهم من بعض كالمسلمين ولا يرث الحربي من الذمي ولا الذمي من الحربي لأن الموالاة انقطعت بينهما فلم يرث أحدهما من الآخر كالمسلم والكافر.
فصل: ولا يرث الحر من العبد لأن ما معه من المال لا يملكه في أحد القولين وفي الثاني يملكه ملكاً ضعيفاً ولهذا لو باعه إلى مالكه فكذلك إذا مات ولا يرث العبد من الحر لأنه لا يورث بحال فلا يرث كالمرتد ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث وقال المزني يرث بقدر ما فيه من الحرية ويحجب بقدر ما فيه من الرق والدليل على أنه لا يرث أنه ناقص بالرق في النكاح والطلاق والولاية فلم يرث كالعبد وهل يورث منه ما جمعه بالحرية فيه قولان: قال في الجديد يرثه ورثته لأنه مال ملكه بالحرية فورث عنه كمال الحر وقال في القديم لا يورث لأنه إذا لم يرث بحريته لم يورث بها وما الذي يصنع بماله؟ قال الشافعي رضي الله عنه يكون لسيده وقال أبو سعيد الإصطخري يكون لبيت المال لأنه لا يجوز أن يكون لسيده لأنه جمعه بالحرية فلا يجوز أن يورث لرقه فجعل لبيت المال ليصرف في المصالح كمال لا مالك له.
فصل: ومن أسلم ومن أعتق على ميراث لم يقسم لم يرث لأنه لم يكن وارثاً عند الموت فلم يرث كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة وإن دبر رجل أخاه فعتق بموته لم يرثه لأنه صار حراً بعد الموت وإن قال له أنت حر في آخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بالموت ثم مات عتق عن ثلثه وهل يرثه فيه وجهان: أحدهما لا يرثه لأن العتق في المرض وصية والإرث والوصية لا يجتمعان والثاني يرثه ولا يكون عتقه لأن الوصية ملك بموت الموصى وهذا لم يملك نفسه بموته وإن قال في مرضه إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر فمات بعد شهر عتق يوم تلفظ وهل يرثه على الوجهين.
فصل: واختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه فمنهم من قال: إن كان القتل مضموناً لم يرثه لأنه قتل بغير حق وإن لم يكن مضموناً ورثه لأنه قتل بحق فلا يحرم به الإرث ومنهم من قال: إن كان متهماً كالمخطئ أو كان حاكماً فقتله في الزنا بالبينة لم يرثه لأنه متهم في قتله لاستعجال الميراث ومنهم من قال لا يرث القاتل بحال وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئاً" ولأن القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال الميراث فوجب أن يحرم بكل حال لحسم الباب.(2/407)
فصل: واختلف قول الشافعي رحمه الله فيمن بت طلاق امرأته في المرض المخوف واتصل به الموت فقال في أحد القولين إنها ترثه لأنه متهم في قطع إرثها فورثت كالقاتل لما كان متهماً في استعجال الميراث لم يرث والثاني أنها لا ترث وهو الصحيح لأنها بينونة قبل الموت فقطعت الإرث كالطلاق في الصحة فإذا قلنا إنها ترث فإلى أي وقت ترث؟ ففيه ثلاثة أقوال: أحدها إن مات وهي في العدة ورث لأن حكم الزوجية باق وإن مات وقد انقضت العدة لم ترث لأنه لم يبق حكم الزوجية والثاني أنها ترث ما لم تتزوج لأنها إذا تزوجت علمنا أنها اختارت ذلك والثالث أنها ترث أبداً لأن توريثها للفرار وذلك لا يزول بالتزويج فلم يبطل حقها واما إذا طلقها في المرض ومات بسبب آخر لم ترث لأنه بطل حكم المرض وإن سألته الطلاق لم ترث لأنه غير متهم وقال أبو علي بن أبي هريرة لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الأصيع من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكانت سألته الطلاق وهذا غير صحيح فإن ابن الزبير خالف عثمان في ذلك وإن علق طلاقها في الصحة على صفة تجوز أن توجد قبل المرض فوجدت الصفة في حال المرض لم ترث لأنه غير متهم في عقد الصفة وإن علق طلاقها في المرض على فعل من جهتها فإن كان فعلاً يمكنها تركه ففعلت لم ترث لأنه غير متهم في ميراثها وإن كان فعلاً لا يمكنها تركه كالصلاة وغيرها فهو على القولين وإن قذفها في الصحة ثم لاعنها في المرض لم ترث لأنه مضطر إلى اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة وإن فسخ نكاحها في مرضه بأحد العيوب ففيه وجهان: أحدهما أنه كالطلاق في المرض والثاني أنها لا ترث لأنه يستند إلى معنى من جهتها ولأنه محتاج إلى الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب.
فصل: وإن طلقها في المرض ثم صح ثم مرض ومات أو طلقها في المرض ثم ارتدت ثم عادت إلى الإسلام ثم مات لم ترثه قولاً واحداً لأنه أتت عليه حالة لو مات سقط إرثها فلم يعد.
فصل: وإن مات متوارثان بالغرق أو الهدم فإن عرف موت أحدهما قبل الآخر ونسي وقف الميراث إلى أن يتذكر لأنه يرجى أن يتذكر وإن علم أنهما ماتا معاً ولم يعلم موت أحدهما قبل الآخر أو علم موت أحدهما قبل موت الآخر ولم يعرف بعينه جعل ميراث كل واحد منهما لمن بقي من ورثته ولم يورث أحدهما من الآخر لأنه لا تعلم(2/408)
حياته عند موت صاحبه فلم يرثه كالجنين إذا خرج ميتاً.
فصل: وإن أسر رجل أو فقد ولم يعلم موته لم يقسم ماله حتى يمضي زمان لا يجوز أن يعيش فيه مثله وإن مات له من يرثه دفع إلى كل وارث أقل ما يصيبه ووقف الباقي إلى أن يتبين أمره.(2/409)
باب ميراث أهل الفرائض
وأهل الفرائض هم الذين يرثون الفروض المذكورة في كتاب الله عز وجل وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس وهم عشرة: الزوج والزوجة والأم والجدة والبنت وبنت الابن والأخت وولد الأم والأب مع الابن وابن الابن والجد مع الابن وابن الابن فأما الزوج فله فرضان النصف وهو إذا لم يكن معه ولد أو ولد ابن والربع وهو إذا كان معه ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فأما الزوجة فلها أيضاً فرضان: الربع إذا لم يكن معها ولد ولا ولد ابن والثمن إذا كان معها ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فنص على فرضها مع وجود الولد وعدم الولد وقسنا ولد الابن في ذلك على ولد الصلب لإجماعهم على أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب فكذلك في حجب الزوجين وللزوجتين والثلاث والأربع ما للواحدة من الربع والثمن لعموم الآية.
فصل: وأما الأم فلها ثلاثة فروض: أحدها الثلث وهو إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان فصاعداً من الإخوة والأخوات لقوله عز وجل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} والفرض الثاني السدس وذلك في حالين: أحدهما أن يكون للميت ولد أو ولد ابن والدليل عليه قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ففرض لها السدس مع الولد وقسنا عليه ولد الابن والثاني أن يكون له اثنان فصاعداً من الإخوة والأخوات والدليل عليه قوله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ففرض لها السدس مع الأخوة وأقلهم ثلاثة وقسنا عليهم الأخوين لأن كل فرض تغير بعدد كان الإثنان فيه كالثلاثة كفرض البنات والفرض الثالث ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين وذلك في مسألتين: في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين والباقي للأب والدليل عليه أن الأب والأم إذا اجتمعا كان(2/409)
للأب الثلثان وللأم الثلث فإذا زاحمهما ذو فرض قسم الباقي بعد الفرض بينهما على الثلث والثلثين كما لو اجتمعا مع بنت.
فصل: وأما الجدة فإن كانت أم الأم أو أم الأب فلها السدس لما روى قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه فسألته عن ميراثها فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ليس لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل عنها فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس فقال أبو بكر رضي الله عنه: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه فقال مثلما قال فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر رضي الله عنه فسألته ميراثها فقال لها مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما فأيكما خلت به فهو لها وإن كانت أم أبي الأم لم ترث لأنها تدلي بغير وارث وإن كانت أم أبي الأب ففيه قولان: أحدهما أنها ترث وهو الصحيح لأنها جدة تدلي بوارث فورثت كأم الأم وأم الأب والثاني أنها لا ترث لأنها جدة تدلي بجد فترث كأم أبي الأم فإن اجتمعت جدتان متحاذيتان كأم الأم وأم الأب فالسدس بينهما لما ذكرناه فإن كانت إحداهما أقرب نظرت فإن كانتا من جهة واحدة ورثت القربى دون البعدى لأن البعدى تدلي بالقربى فلم ترث معها كالجد مع الأب وأم الأم مع الأم وإن كانت القربى من جهة الأب والبعدى من جهة الأم ففيه قولان: أحدهما أن القربى تحجب البعدى لأنهما جدتان ترث كل واحدة منهما إذا انفردت فجحبت القربى منهما البعدى كما لو كانت القربى من جهة الأم والثاني لا تحجبها وهو الصحيح لأن الأب لا تحجب الجدة من جهة الأم فلأن لا تحجبها الجدة التي تدلي به أولى وتخالف القربى من جهة الأم فإن الأم تحجب الجدة من قبل الأب فحجبتها أمها والأب لا يحجب الجدة من قبل الأم فلم تحجبها أمه فإن اجتمعت جدتان إحداهما تدلي بولادتين بأن كانت أم أم أب أو أم أم أم والأخرى تدلي بولادة واحدة كأم أبي أب(2/410)
ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي العباس أن السدس يقسم بين الجدتين على ثلاثة فتأخد التي تدلي بولادة سهماً وتأخذ التي تدلي بولادتين سهمين والثاني وهو الصحيح أنهما سواء لأنه شخص واحد فلا يأخذ فرضين.
فصل: وأما البنت فلها النصف إذا انفردت لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وللاثنتين فصاعداً الثلثان لما روى جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما معك يوم أحد ولم يدع عمهما لهما مالاً إلا أخذه فما ترى يارسول الله والله لا تنكحان إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقضي الله في ذلك" فنزلت عليه سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي المرأة وصاحبها" فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك فدلت الآية وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] على فرض ما زاد على الاثنتين ودلت السنة على فرض الثنتين.
فصل: وأما بنت الابن فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعداً الثلثان لإجماع الأمة على ذلك ولبنت الابن مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين لما روى الهزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى أبي موسى وسلمان بن ربيعة رضي الله عنهما فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت فقالا: للبنت النصف وللأخت النصف وأت عبد الله فإنه سيتابعنا فأتى عبد الله فقال: إني قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين لأقضين بينهما بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت ولأن بنت الابن ترث فرض البنات ولم يبق من فرض البنات إلا السدس وهكذا لو ترك بنتاً وعشر بنات ابن كان للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين لما ذكرناه من المعنى وإن ترك بنتاً وبنت ابن ابن أو بنات ابن ابن أسفل من البنت بدرج كان لهن السدس لأنه بقية فرض البنات ولبنت ابن الابن أو بنات ابن الابن مع بنت الابن من السدس تكملة الثلثين ما لبنت الابن وبنات الابن مع بنت الصلب وعلى هذا أبداً.
فصل: وأما الأخت للأب والأم فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعدا الثلثان(2/411)
لقوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] وللثلاث فصاعداً ما للاثنتين لأن كل فرض يغير بالعدد كان الثلاث فيه كالاثنتين كالبنات وللأخت من الأب عند عدم الأخت من الأب والأم النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعداً الثلثان لأن ولد الأب مع ولد الأب والأم كولد الابن مع ولد الصلب فكان ميراثهم كميراثهم.
فصل: والأخوات من الأب والأم مع البنات عصبة ومع بنات الابن والدليل عليه ما ذكرناه من حديث الهزيل بن شرحبيل وروى إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تركت بنتها وأختها للبنت النصف وللأخت النصف وعن الأسود قال: كان ابن الزبير لا يعطي الأخت مع البنت شيئاً فقلت: إن معاذاً قضى فينا باليمن فأعطى البنت النصف والأخت النصف قال: فأنت رسولي بذلك: فإن لم تكن أخوات من الأب والأم فالأخوات من الأب لأنهن يرثن ما يرث الأخوات من الأب والأم عند عدمهن.
فصل: وأما ولد الأم فللواحد السدس وللاثنين فصاعداً الثلث والدليل عليه قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] والمراد به ولد الأم والدليل عليه ما روي أن عبد الله وسعداً كانا يقرآن وله أخ أو أخت من أم وسوى بين الذكر والإناث للآية ولأنه إرث بالرحم المحض فاستوى فيه الذكر والأنثى كميراث الأبوين مع الابن.
فصل: وأما الأب فله السدس مع الابن وابن الابن لقوله عز وجل: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ففرض له السدس مع الابن وقيس عليه إذا كان مع ابن الابن لأن ابن الابن كالإبن في الحجب والتعصيب وأما الجد فله السدس مع الابن وابن الابن لإجماع الأمة.
فصل: ولا ترث بنت الابن مع الابن ولا الجدة أم الأب مع الأب لأنها تدلي به ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الابن مع الابن والجد مع الأب ولا ترث الجدة من الأم مع الأم لأنها تدلي بها ولا الجدة من الأب لأن الأم في درجة الأب والجدة في درجة الجد فلم ترث معه كما لا يرث الجد مع الأب.
فصل: ولا يرث ولد الأم مع أربعة مع الولد وولد الابن والأب والجد لقوله عز(2/412)
وجل: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:] فورثهم في الكلالة والكلالة من سوى الوالد والولد والدليل عليه لما روى جابر رضي الله عنه قال: جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب من وضوئه علي فعقلت فنزلت آية المواريث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} والكلالة هو من ليس له ولد ولا والد وله إخوة ولأن الكلالة مشتق من الإكليل وهو الذي يحتاط بالرأس من الجوانب والذين يحيطون بالميت من الجوانب الإخوة فأما الوالد والولد فليسا من الجوانب بل أحدهما من أعلاه والآخر من أسفله ولهذا قال الشاعر يمدح بني أمية:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
فصل: ولا يرث ولد الأب والأم مع ثلاثة مع الابن وابن الابن والأب والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فورثهم في الكلالة وقد بينا أن الكلالة ألا تكون والداً ولا ولداً.
فصل: وإذا استكمل البنات الثلثين ولم يكن مع من دونهن مع بنات الابن ذكر لم يرثن لما روى الأعمش بن إبراهيم قال: قال زيد رضي الله عنه إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شيء إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المالإذا كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كن أسفل منه فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنا لو ورثنا من دونهن من بنات الابن فرضاً مستأنفاً لم يجز لأنه ليس للبنات بالبنوة أكثر من الثلثين وإن شركنا بينهن وبين بنات الابن لم يجز لأنهن أنزل منهن بدرجة فلا يجوز أن يشاركنهن وإن استكمل الأخوات للأب والأم الثلثين ولم يكن مع الأخوات للأب ذكر يعصبهن لم يرثن لما ذكرناه في المعنى في البنات وبنات الابن.(2/413)
فصل: ومن لا يرث ممن ذكرناه من ذوي الأرحام أو كان عبداً أو قاتلاً أو كافراً لم يحجب غيره من الميراث لأنه ليس بوارث فلم يحجب كالأجنبي.
فصل: وإن اجتمع أصحاب فروض ولم يحجب بعضهم بعضاً فرض لكل واحد منهم فرضه فإن زادت سهامهم على سهام المال أعيلت بالسهم الزائد ودخل النقص على كل واحد منهم بقدر فرضه فإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأماً وأختين من الأم وأختين من الأب والأم فللزوج النصف وللأم السدس وللأختين من الأم الثلث وللأختين من الأب والأم الثلثان وأصل الفريضة من ستة وتعول إلى عشرة وهو أكثر ماتعول إليه الفرائض لأنها عالت بثلثيها وتسمى أم الفروخ لكثرة السهام العائلة وتسمى الشريحية لأنها حدثت في أيام شريح وقضى فيها وإن مات رجل وخلف ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات من الأم وثماني أخوات من الأب والأم فللزوجات الربع وللجدتين السدس وللأخوات من الأم الثلث وللأخوات من الأب والأم الثلثان وأصلها من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر وهو أكثر ما يعول إليه هذا الأصل وتسمى أم الأرامل وإن مات رجل وخلف زوجة وأبوين وابنتين فللزوجة الثمن وللأبوين السدسان وللابنتين الثلثان وأصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين وتسمى المنبرية لأنه روي أن علياً كرم الله وجهه سئل عن ذلك وهو على المنبر فقال صار ثمنها تسعاً وإن ماتت المرأة وخلفت زوجاً وأماً وأختاً من أب وأم فللزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث وأصلها من ستة وتعود إلى ثمانية وهي أول مسألة أعيلت في خلافة عمر رضي الله عنه وتعرف بالمباهلة فإن ابن عباس رضي الله عنه أنكر العول وقال: هذان النصفان ذهبا بالمال أين موضع الثلث؟ فقيل له والله لئن مت أو متنا فيقسم ميراثنا إلا على ما عليه القوم قال: فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين والدليل على إثبات العول أنها حقوق مقدرة متفقة في الوجوب ضاقت التركة على جمعيعها فقسمت التركة على قدرها كالديون.(2/414)
فصل: وإن اجتمع في شخص جهتا فرض كالمجوسي إذا تزوج ابنته فأتت منه ببنت فإن الزوجة صارت أم البنت وأختها من الأب والبنت بنت الزوجة وأختها فإن ماتت البنت ورثتها الزوجة بأقوى القرابتين وهي بكونها أماً ولا ترث بكونها أختاً لأنها شخص واحد اجتمع فيه شيئان يورث بكل واحد منهما الفرض فورث بأقواهما ولم ترث بهما كالأخت من الأب والأم وإن ماتت الزوجة ورثتها البنت النصف بكونها بنتاً وهل ترث الباقي بكونها أختاً فيه وجهان: أحدهما لا ترث لما ذكرناه من العلة والثاني ترث لأن إرثها بكونها بنتاً بالفرض وإرثها بكونها أختاً بالتعصيب لأن الأخت مع البنت عصبة فجاز أن ترث بهما كأخ من أم وهو ابن عم.(2/415)
باب ميراث العصبة
العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى وهم الأب والابن ومن يدلي بهما وأولى العصبات الابن والأب لنهما يدليان بأنفسهما وغيرهما يدلي بهما فغن اجتمعا قدم الابن لأن الله عز وجل بدأ به فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] والعرب تبدأ بالأهم فالأهم ولأن الأب إذا اجتمع مع الابن فرض له السدس وجعل الباقي للابن ولأن الابن يعصب أخته والأب لا يعصب أخته ثم ابن الابن وإن سفل لأنه يقوم مقام الابن في الإرث والتعصيب ثم الأب لأن سائر العصبات يدلون به ثم الجد إن لم يكن له أخ لأنه أب الأب ثم أبو الجد وإن علا وإن لم يكن جد فالأخ لأنه ابن الأب ثم ابن الأخ وإن سفل ثم العم لأنه ابن الجد ثم ابن العم وإن سفل ثم عم الأب لأنه ابن أبي الجد وإن سفل وعلى هذا أبداً.
فصل: وإن انفرد الواحد منهم أخذ جميع المال والدليل عليه قوله عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد وغن اجتمع مع ذي فرض أخذ ما بقي لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث أخا سعد بن الربيع ما بقي من فرض البنات والزوجة فدل على أن هذا حكم العصبة.
فصل: وإن اجتمع اثنان قدم أقربهما في الدرجة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى عصبة ذكر1" وإن اجتمع
__________
1 رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 5، 7، 9. مسلم في كتاب الفرائض حديث 2، 3. الترمذي في كتاب الفرائض باب 8. أحمد في مسنده "1/315".(2/415)
اثنان في الدرجة وأحدهما يدلي بالأب والأم والآخر يدلي بالأب قدم من يدلي بالأب والأم لأنه أقرب وإن استويا في الدرجة والإدلاء استويا في الميراث لتساويهما.
فصل: ولا يعصب أحد منهم أنثى إلا الابن وابن الابن والأخ فإنهم يعصبون أخواتهم فأما الابن فإنه يعصب أخواته للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وأما ابن الابن فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه سواء كان لهن شيء من فرائض البنات أو لم يكن وقال أبو ثور: إذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لابن الابن ولا شيء لبنات الابن لأن البنات لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين فلو عصبنا بنت الابن بابن الابن بعد استكمال البنات الثلثين صار ما تأخذه بالتعصيب زيادة على الثلثين وهذا خطأ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] والولد يطلق على الأولاد وأولاد الأولاد والدليل عليه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 19] وقوله صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه: "يابني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان رامياً1" ولأنه يقال لمن ينتسب إلى تميم وطيء بنو تميم وبنو طيء وقوله إنهن لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين فإنه يمتنع ذلك من جهة الفرض فأما في التعصيب فلا يمتنع كما لو ترك ابناً وعشر بنات فإن للابن السدس وللبنات خمسة أسداس وهو أكثر من الثلثين وأما ابن الابن وإن سفل فإنه يعصب من يحاذيه من أخوته وبنات عمه سواء بقي لهن من فرض البنات شيء أو لم يبق كما يعصب ابن الابن من يحاذيه وأما من فوقه من العمات فينظر فيه فإن كان لهن من فرض البنات من الثلثين أو السدس شيء أخذ الباقي ولم يعصبهن لأنهن يرثن بالفرض ومن يرث بالفرض بقرابة لم يرث بالتعصيب بتلك القرابة وإن لم يكن لهن من فرض البنات شيء عصبهن لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شيء إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المال إن كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كن أسفل منه فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنه لا يجوز أن يرث بالبنوة مع البعد ولا يرث عماته مع القرب ولا يعصي من هو أنزل منه من بنات أخيه بل يكون الباقي له لما ذكرناه من قول زيد بن ثابت فإن كن أسفل منه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 78. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده "1/364" "4/50".(2/416)
فليس لهن شيء وبقية المال له دونهن ولأنه عصبة فلا يرث معه هو دونه كالابن مع بنت الابن وأما الأخ فإنه يعصب أخواته لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .
فصل: ولا يشارك أحد من العصبات أهل الفروض في فروضهم إلا ولد الأب والأم فإنهم يشاركون ولد الأم في ثلثهم في المشتركة وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وولد الأب والأم واحداً كان أو أكثر فيفرض للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث يشاركهم ولد الأب والأم في الثلث لأنهم يشاركونهم في الرحم التي ورثوا بها الفرض فلا يجوز أن يرث ولد الأم ويسقط ولد الأب والأم كالأب لما شارك الأم في الرحم بالولادة لم يجز أن ترث الأم ويسقط الأب وتعرف هذه المسألة بالمشتركة لما فيها من التشريك بين ولد الأب والأم وولد الأم في الفرض وتعرف بالحمارية فإنه يحكى فيها عن ولد الأب والأم لأنهم قالوا احسب أن أبانا كان حماراً أليس أمنا وأمهم واحدة؟.
فصل: وإن اجتمع في شخص واحد جهة فرض وجهة تعصيب كابن عم وزوج أو ابن عم وأخ من أم ورث بالفرض والتعصيب لأنهم إرثان مختلفان بسببين مختلفين فإن اجتمع ابنا عم أحدهما أخ من أم وورث الأخ من الأم السدس والباقي بينه وبين الآخر وقال أبو ثور: المال كله للذي هو أخ من الأم لأنهما عصبتان يدلي أحدهما بالأبوين والآخر بأحدهما فقدم من يدلي بهما كالأخوين أحدهما من الأب والآخر من الأب والأم وهذا خطأ لأنه استحق الفرض بقرابة الأم فلا يقدم بها في التعصيب كابني عم أحدهما زوج.
فصل: وإن لاعن الزوج ونفى نسب الولد انقطع التوارث بينهما لانتفاء السبب بينهما ويبقى التوارث بين الأم والولد لبقاء السبب بينهما وإن مات الولد ولا وارث له غير الأم كان لها الثلث وإن أتت بولدين توأمين فنفاهما الزوج باللعان ثم مات أحدهما وخلف الآخر ففيه وجهان: أحدهما أنه يرث ميراث الأخ من الأم لأنه لا نسب بينهما من جهة الأب فلم يرث بقرابته كالتوأمين من الزنا إذا مات أحدهما وخلف أخاه والثاني أنه يرثه ميراث الأخ من الأب والأم لأن اللعان ثبت في حق الزوجين دون غيرهما ولهذا لو قذفها الزوج لم يحد ولو قذفها غيره حد والصحيح هو الأول لأن النسب قد انتفى بينهما(2/417)
في حق كل واحد منهما كما انقطع الفراش بينهما في حق كل أحد يجوز لكل أحد أن يتزوجها.
فصل: وإن كان الوارث خنثى وهو الذي له فرج الرجال وفرج النساء فإن عرف أنه ذكر ورث ميراث الذكر وإن عرف أنه أنثى ورث ميراث الأنثى وإن لم يعرف فهو الخنثى المشكل وورث ميراث أنثى فإن كان أنثى وحده ورث النصف فإن كان معه ابن ورث الثلث وورث الابن النصف لأنه يقين ووقف السدس لأنه مشكوك فيه وإن كانا خنثيين ورثا الثلثين لأنه يقين ووقف الباقي لأنه مشكوك فيه ويعرف أنه ذكر أو أنثى بالبول فإن كان يبول من الذكر فهو ذكر وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: يورث الخنثى من حيث يبول وروي عنه أنه قال: إن خرج بوله من مبال الذكر فهو ذكر وإن خرج من مبال الأنثى فهو أنثى ولأن الله تعالى جعل بول الذكر من الذكر وبول الأنثى من الفرج فرجع في التمييز إليه وإن كان يبول منهما نظرت فإن كان يبول من أحدهما أكثر فقد روى المزني في الجامع أن الحكم للأكثر وهو قول بعض أصحابنا لأن الأكثر هو الأقوى في الدلالة والثاني أنه لا تعتبر الكثرة لأن اعتبار الكثرة يشق فسقط وإن لم يعرف بالبول سئل عما يميل إليه طبعه فإن قال أميل إلى النساء فهو ذكر وإن قال أميل إلى الرجال فهو أنثى وإن قال أميل إليهما فهو المشكل وقد بيناه ومن أصحابنا من قال إن لم يكن في البول دلالة اعتبر عدد الأضلاع فإن نقص من الجانب الأيسر ضلع فهو ذكر فإن أضلاع الرجل من الجانب الأيسر أنقص فإن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر فمن ذلك نقص من الجانب الأيسر ضلع ولهذا قال الشاعر:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى ... أليس عجيباً ضعفها واقتدارها
فصل: وإن مات الرجل وترك حملاً وله وارث غير الحمل نظرت فإن كان له سهم مقدر لا ينقص كالزوجة دفع إليها الفرض ووقف الباقي إلى أن ينكشف وإن لم يكن له سهم مقدر كالابن وقف الجميع لأنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة والدليل عليه أن الشافعي رحمه الله قال: دخلت إلى شيخ باليمن لأسمع منه الحديث فجاءه خمسة كهول فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة شباب فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة فتيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه ثم جاءه خمسة صبيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه فقلت من هؤلاء؟ فقال: أولادي كل خمسة منهم في بطن وفي المهد خمسة أطفال. وقال(2/418)
ابن المرزبان: أسقطت المرأة بالأنبار كيساً فيه اثنا عشر ولداً كل اثنين متقابلان فإذا انفصل الحمل واستهل ورث لما روى سعيد بن المسيب رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن من السنة أن لا يرث المنفوس ولا يورث حتى يستهل صارخاً فإن تحرك حركة حي أو عطس ورث لأنه لم يعرف حياته وإن خرج بعضه وفيه حياة ومات قبل خروج الباقي لأنه لا يثبت له حكم الدنيا قبل انفصال جميعه ولهذا لا ينقضي به العدة ولا يسقط حق الزوج عن الرجعة قبل انفصال جميعه.
فصل: وإن مات رجل ولم تكن له عصبة ورثه المولى المعتق كما ترثه العصبة على ما ذكرناه في باب الولاء فإن لم يكن له وارث نظرت فإن كان كافراً صار ماله لمصالح المسلمين وإن كان مسلماً صار ماله ميراثاً للمسلمين لأنهم يعقلونه إذا قتل فانتقل ماله إليهم بالموت ميراثاً كالعصبة فإن كان للمسلمين إمام عادل سلم إليه ليضعه في بيت المال لمصالح المسلمين وإن لم يكن إمام عادل ففيه وجهان: أحدهما أنه يرد على أهل الفرض على قدر فروضهم إلا على الزوجين فإن لم يكن أهل الفرض قسم على ذوي الأرحام على مذهب أهل التنزيل فيقام كل واحد منهم مقام من يدلي به فيجعل ولد البنات والأخوات بمنزلة أمهاتهم وبنات الأخوة والأعمام بمنزلة آبائهم وأبو الأم والخال بمنزلة الأم والعمة والعم من الأم لأن الأمة أجمعت على الإرث بإحدى الجهتين فإذا عدمت إحداهما تعينت الأخرى والثاني وهو المذهب أنه لا يرد على أهل السهام ولا يقسم المال على ذوي الأرحام لأنا دللنا أنه للمسلمين والمسلمون لم يعدموا وإنما عدم من يقبض لهم فلم يسقط حقهم كما لو كان الميراث لصبي وليس له ولي فعلى هذا يصرفه من في يده المال إلى المصالح.(2/419)
باب الجد والأخوة
إذا اجتمع الجد وأبو الجد وإن علا مع ولد الأب والأم أو ولد الأب ولم تنقصه المقاسمة من الثلث قاسمهم وعصب إناثهم وقال المزني: يسقطهم ووجهه أن له ولادة وتعصيباً بالرحم فأسقط ولد الأب والأم كالأب وهذا خطأ لأن ولد الأب يدلي بالأب فلم يسقطه الجد كأم الأب ويخالف الأب فإن الأخ يدلي به ومن أدلى بعصبة لم يرث معه(2/419)
كابن الأخ مع الأخ وأم الأب مع الأب والجد والأخ يدليان بالأب فلم يسقط أحدهما كالأخوين من الأب وأم الأب مع الجد ولأن الأب يحجب الأم من الثلث إلى ثلث الباقي مع الزوجين والجد لا يحجبها.
فصل: وإن اجتمع مع الجد ولد الأب والأم وولد الأب عاد ولد الأب والأم الجد بولد الأب لأن من حجب بولد الأب والأم وولد الأب إذا انفرد حجب بهما إذا اجتمعا كالأم فإن كان له جد وأخ من أب وأم وأخ من أب قسم المال على ثلاثة أسهم للجد سهم ولكل واحد من الأخوين سهم ثم يرد الأخ من الأب سهمه على الأخ من الأب والأم لأنه لا يرث معه فلم يشاركه فيما حجبا عنه كما لا يشارك الأخ من الأب الأخ من الأب والأم فيما حجبا عنه الأم وتعرف هذه المسألة بالمعادة لأن الأخ من الأب والأم عاد الجد بالأخ من الأب ثم أخذ منه ما حصل له وإن اجتمع مع الجد أخ من الأب وأخت من الأب والأم قسم المال على خمسة أسهم للجد سهمان وللأخ سهمان وللأخت سهم ثم يرد الأخ على الأخت تمام النصف وهو سهم ونصف ويأخذ ما بقي وهو نصف سهم لأن الأخ من الأب إنما يرث مع الأخت من الأب والأم ما يبقى بعد استكمال الأخت النصف وتصح من عشرة وتسمى عشرية زيد رضي الله عنه وإن اجتمع مع أختين من الأب وأختين من الأب والأم قسم المال بينهم على ستة أسهم للجد سهمان ولكل أخت سهم ثم ترد الأختان من الأب جميع ما حصل لهما على الأختين من الأب والأم لأنهما لا يرثان قبل أن تستكمل من الأب والأم الثلثين.
فصل: وإن كانت المقاسمة تنقص الجد من الثلث بأن زاد الإخوة على اثنتين والأخوات على أربع فرض للجد الثلث وقسم الباقي بين الإخوة والأخوات لأنا قد دللنا على أنه يقاسم الواحد ولا خلاف أنهم لا يقاسمونه أبداً فكان التقدير بالاثنين أشبه بالأصول فإن الحجب إذا اختلف فيه الواحد والجماعة وجب التقدير فيه بالاثنين كحجب الأم من الثلث وحجب البنات لبنات الابن وحجب الأخوات للأب والأم للأخوات للأب ولا يعاد ولد الأب والأم الجد بولد الأب في هذا الفصل لأن المعادة تحجب الجد ولا سبيل لحجبه عن الثلث.
فصل: وإن اجتمع مع الجد والإخوة من له فرض أخذ صاحب الفرض فرضه وجعل للجد أوفر الأمرين من المقاسمة أو ثلث الباقي ما لم ينقص عن سدس جميع المال لأن الفرض كالمستحق من المال فيصير الباقي كأنه جميع المال وقد بينا أن حكمه في(2/420)
جميع المال أن يجعل له أوفر الأمرين من المقاسمة أو ثلث المال فكذلك فيما بقي بعد الفرض فإن نقصته المقاسمة أو ثلث الباقي عن السدس فرض له السدس لأن ولد الأب والأم ليس بأكثر من ولد الصلب ولو اجتمع الجد مع ولد الصلب لم ينقص حقه من السدس فلأن لا ينقص مع ولد الأب والأم أولى وإن مات رجل وخلف بنتاً وجداً واختاً فللبنت النصف والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وهي من مربعات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه قال: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت نصفان وتصح من أربعة وإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأماً وجداً فللزوج النصف وللأم الثلث والباقي للجد وهو السدس وهي من مربعات عبد الله رضي الله عنه لأنه يروى عنه أنه قال: للزوج النصف والباقي بين الجد والأم نصفان وتصح من أربعة وهذا خطأ لأن الجد أبعد من الأم فلم يجز أن يحجبها كجد الأب مع أم الأب وإن مات رجل وخلف زوجة وأماً وأخاً وجداً فللزوجة الربع وللأم الثلث والباقي بين الجد والأخ نصفان وتصح من أربعة وعشرين للزوجة ستة أسهم وللأم ثمانية والباقي بين الجد والأخ لكل واحد منهما خمسة وهي من مربعات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه روي عنه أنه جعل للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي والباقي بين الجد والأخ نصفان وتصح من أربعة للزوجة سهم وللأم سهم وللأخ سهم وللجد سهم وإن مات رجل وخلف امرأة وجداً واختاً فللمرأة الربع والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وتعرف بالمربعة لأن مذهب زيد ما ذكرناه ومذهب أبي بكر وابن عباس رضي الله عنهما للمرأة الربع والباقي للجد ومذهب علي وعبد الله رضي الله عنهما للمرأة الربع وللأخت النصف والباقي للجد واختلفوا فيها على ثلاثة مذاهب واتفقوا على القسمة من أربعة وإن مات رجل وخلف أماً وأختاً فللأم الثلث والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة فيها فإن زيداً ذهب إلى ما قلناه وذهب أبو بكر وابن عباس رضي الله عنهما إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وذهب عمر إلى أن للأخت النصف وللأم ثلث الباقي وهو السدس والباقي للجد وذهب عثمان رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت نصفان وتصح من ثلاثة وذهب علي عليه السلام إلى أن للأخت النصف وللأم الثلث والباقي للجد وعن ابن مسعود روايتان إحداهما مثل قول عمر رضي الله عنه والثانية للأخت النصف والباقي بين الأم والجد نصفان وتصح من أربعة وتعرف بمثلثة عثمان ومربعة عبد الله رضي الله عن الجميع.
فصل: ولا يفرض للأخت مع الجد إلا في مسألة واحدة وهي إذا ماتت امرأة(2/421)
وخلفت زوجاً وأختاً وجداً فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس وأصلها من ستة وتعول إلى تسعة ويجمع نصف الأخت وسدس الجد ويقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وتصح من سبعة وعشرين للزوج تسعة وللأم ستة وللجد ثمانية وللأخت أربعة لأنه لا بد أن يعطي الزوج النصف لأنه ليس ههنا من يحجبه ولا بد من أن تعطي الأم الثلث لأنه ليس ههنا من يحجبها ولا بد من أن يعطي الجد السدس لأن أقل حقه السدس ولا يمكن إسقاط الأخت لأنه ليس ههنا من يسقطها ولا يمكن أن تعطي النصف كاملاً لأنه لا يمكن تفضيلها على الجد فوجب أن يقسم مالهما بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وتعرف هذه المسألة بالأكدرية لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه الأكدر فنسبت إليه وقيل سميت أكدرية لأنها كدرت على زيد أصله لأنه لا يعيل مسائل الجد وقد أعال ولا يفرض للأخت مع الجد وقد فرض فإن كان مكان الأخت في الأكدرية أخ لم يرث لأن للزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس ولا يجوز أن يشارك الجد في السدس لأن الجد يأخذ السدس بالفرض والأخ لا يرث بالفرض وإنما يرث بالتعصيب ولم يبق ما يرثه بالتعصيب فسقط وبالله التوفيق.(2/422)
كتاب النكاح
مدخل
...
كتاب النكاح
النكاح جائز لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ولما روى علقمة عن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء1".
فصل: ولا يصح النكاح إلا من جائز التصرف فأما الصبي والمجنون فلا يصح منهما عقد النكاح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع وأما المحجور عليه لسفه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي لأنه عقد يستحق به المال فلم يصح منه من غير إذن الولي ويصح منه بإذن الولي لأنه لا يأذن له إلا فيما يرى الحظ فيه وأما العبد فلا يصح نكاخه بغير إذن المولى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل2" ولأنه بالنكاح تنقص قيمته ويستحق بالمهر والنفقة كسبه وفي ذلك إضرار بالمولى فلم يجز من غير إذنه ويصح منه بإذن المولى لأنه لما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه بغير إذنه دل على أنه يصح بإذنه ولأن المنع لحق المولى فزال بإذنه.
فصل: ومن جاز له النكاح وتاقت نفسه إليه وقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن يتزوج لحديث عبد الله ولأنه أحصن لفرجه وأسلم لديه ولا يجب ذلك لما روى إبراهيم بن ميسرة رضي الله عنه عن عبيد بن سعد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب فطرتي
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 2، 3. مسلم في كتاب النكاح حديث 1. النسائي في كتاب الصيام باب 46. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1.
2 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16.(2/423)
فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح1" ولأنه ابتغاء لذة تصبر النفس عنها فلم يجب كلبس الناعم وأكل الطيب ومن لم تتق نفسه إليه فالمستحب له أن يتزوج لأنه تتوجه عليه حقوق هو غني عن التزامها ويحتاج أن يشتغل عن العبادة بسببها وإذا تركه تخلى للعبادة فكان تركه أسلم لدينه.
فصل: والمستحب أن لايتزوج إلا ذات دين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك2" ولا يتزوج إلا ذات عقل لأن القصد بالنكاح العشرة وطيب العيش ولا يكون ذلك إلا مع ذات عقل ولا يتزوج إلا من يستحسنها لما روى أبو بكربن محمد بن عمرو بن حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما النساء لعب فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها".
فصل: وإذا أراد نكاح امرأة فله أن ينظر وجهها وكفيها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من نساء الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً" ولا ينظر إلى ماسوى الوجه والكفين لأنه عورة ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه لأنه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة لأنه يحتاج إليه
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1.
2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 15. أبو داود في النكاح باب 2. الترمذي في كتاب النكاح باب 4. النسائي في كتاب النكاح باب 10. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 6.(2/424)
للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها في التحمل والأداء ويجوز لمن اشترى جارية أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها للحاجة إلى معرفتها ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة لأنه موضع ضرورة فجاز له النظر إلى الفرج كالنظر في حال الختان وأمامن غير حاجة فلا يجوز للأجنبي أن ينظر إلى الأجنبية ولا للأجنبية أن تنظر إلى الأجنبي لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30 - 31] وروت أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فاقبل ابن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبن عنه" فقلت: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا فقال: "أفعمياوان أنتما أليس تبصرانه1" وروى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فاستقبلته جارية من خثعم فلوى عنق الفضل فقال أبوه العباس لويت عنق ابن عمك قال: "رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما" ولا يجوز النظر إلى الأمرد من غير حاجة لأنه يخاف الافتتان به كما يخاف الافتتان بالمرأة.
فصل: ويجوز لذوي المحارم النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة من ذوات المحارم لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] ويجوز للرجل أن ينظر إلى ذلك من الرجل وللمرأة أن تنظر إلى ذلك من المرأة لأنهم كذوي المحارم في تحريم النكاح على التأبيد فكذلك في جواز النظر واختلف أصحابنا فير مملوك المرأة فمنهم من قال هو محرم لها في جواز النظر والخلوة وهو المنصوص لقوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] فذكره مع ذوي المحارم في إباحة النظر وروى أنس رضي الله عنه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34. أبو داود في كتاب اللباس باب 29.أحمد في مسنده "6/296".(2/425)
قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة غلاما فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الغلام فتقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك" ومنهم من قال ليس بمحرم لأن المحرم من يحرم على التأبيد وهذا لا يحرم على التأبيد فلم يكن محرماً واختلفوا في المراهق مع الأجنبية فمنهم من قال: هو كالبالغ في تحريم النظر لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء ولأنه كالبالغ في الشهوة فكان كالبالغ في تحريم النظر ومن أصحابنا من قال: يجوز له النظر إلى ما ينظر ذو محرم وهو قول أبي عبد الله الزبيري لقوله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] فدل على أنه إذا لم يبلغوا الحلم لم يستأذنوا.
فصل: ومن تزوج امرأة أو ملك جارية يملك وطأها فله أن ينظر منها إلى غير الفرج وهل يجوز أن ينظر إلى الفرج؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النظر إلى الفرج يورث الطمس" والثاني يجوز وهو الصحيح لأنه يملك الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ وإن زوج أمته حرم عليه النظر إلى ما بين السرة والركبة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة1".
__________
1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34. كتاب الصلاة باب 26.(2/426)
باب ما يصح به النكاح
لا يصح النكاح إلا بولي فإن عقدت المرأة لم يصح وقال أبو ثور: إن عقدت بإذن الولي صح ووجهه أنها من أهل التصرف وإنما منعت من النكاح لحق الولي فإذا أذن زال المنع كالعبد إذا أذن له المولى في النكاح وهذا خطأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه رفعه: "ولا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها" ولأنها غير مأمونة على البضع لنقصان عقلها وسرعة انخداعها فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال ويخالف العبد فإنه منع لحق المولى فإنه ينقص قيمته بالنكاح ويستحق كسبه في المهر والنفقة فزال المنع بإذنه فإن عقد النكاح بغير ولي وحكم به الحاكم ففيه وجهان: أحدهما وهو قول(2/426)
أبو سعيد الاصطخري أنه ينقض حكمه لأنه مخالف لنص الخبر وهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له1" فإن أصابها فلها مهرها بما استحل من فرجها والثاني لا ينقض وهو الصحيح لأنه مختلف فيه فلم ينقض فيه حكم الحاكم كالشفعة للجار وأما الخبر فليس بنص لأنه محتمل للتأويل فهو كالخبر في شفعة الجار فإن وطئها الزوج قبل الحكم بصحته لم يجب الحد وقال أبو بكر الصيرفي: إن كان الزوج شافعياً يعتقد تحريمه وجب عليه الحد كما لو وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية والمذهب الأول لأنه وطء مختلف في إباحته فلم يجب به الحد كالوطء في النكاح بغير شهود ويخالف من وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية لأنه لا شبهة له في وطئها وإن طلقها لم يقع الطلاق وقال أبو إسحاق يقع لأنه نكاح مختلف في صحته فوقع فيه الطلاق كنكاح المرأة في عدة أختها والمذهب الأول لأنه طلاق في غير ملكه فلم يصح كما لو طلق أجنبية.
فصل: وإن كانت المنكوحة أمة فوليها مولاها لأنه عقد على منفعتها فكان إلى المولى كالإجارة وإن كانت الأمة لامرأة زوجها من يزوج مولاتها لأنه نكاح في حقها فكان إلى وليها كنكاحها ولا يزوجها الولي إلا بإذنها لأنه تصرف منفعتها فلم يجز من غير إذنها فإن كانت المولاة غير رشيدة نظرت فإن كان وليها غير الأب والجد لم يملك تزويجها لأنه لا يملك التصرف في مالها وإن كان الأب أو الجد ففيه وجهان: أحدهما لا يملك لأن فيه تغريراً بمالها ولأنها ربما حبلت وتلفت والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يملك تزويجها لأنها تستفيد به المهر والنفقة واسترقاق ولدها وإن كانت المنكوحة حرة فوليها عصباتها وأولاهم الأب ثم الجد ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم لأن الولاية في النكاح تثبت لدفع العار عن النسب والنسب إلى العصبات فإن لم يكن لها عصبة زوجها المولى المعتق ثم عصبة المولى ثم مولى المولى ثم عصبته لأن الولاء كالنسب في التعصيب فكان كالنسب في التزويج فإن لم يكن فوليها السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
1 رواه التنرمذي في كتاب النكاح باب 15. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 15. الدارمي في كتاب النكاح باب 11. أحمد في مسنده "6/47، 66".(2/427)
"فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له1" ولا أحد من الأولياء وهناك من هو أقرب منه لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث وإن استوى اثنان في الدرجة وأحدهما يدلي بالأبوين والآخر بأحدهما كأخوين أحدهم من الأب والأم والآخر من الأب ففيه قولان: قال في القديم هما سواء لأن الولاية بقرابة الأب وهما في قرابة الأب سواء وقال في الجديد يقدم من يدلي في الأبوين لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بأحدهما كالميراث فإن استويا في الدرجة والإدلاء فالمستحب أن يقدم أسنهما وأعلمهما وأورعهما لأن الأسن أخبر والأعلم أعرف بشروط العقد والأورع أحرص على طلب الحظ فإن زوج الآخر صح لأن ولايته ثابتة وإن تشاحا أقرع بينهما لأنهما تساويا في الحق فقدم بالقرعة كما لو أراد أن يسافر بإحدى المرأتين فإن خرجت القرعة لأحدهما فزوج الآخر ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن خروج القرعة لأحدهما لا يبطل ولاية الآخر والثاني لا يصح لأنه يبطل فائدة القرعة.
فصل: ولا يجوز للابن أن يزوج أمه بالبنوة لأن الولاية ثبتت للأولياء لدفع العار عن النسب ولا نسب بين الابن والأم وإن كان للابن تعصيب بأن كان ابن ابن عمها جاز له أن يزوجها لأنهما يشتركان في النسب فإن كان لها ابنا ابن عم أحدهما ابنها فعلى القولين في أخوين أحدهما من الأب والأم والآخر من الأب.
فصل: ولا يجوز أن يكون الولي صغيراً ولا مجنوناً ولا عبداً لأنه لا يملك العقد لنفسه فلا يملكه لغيره واختلف أصحابنا في المحجور عليه لسفه فمنهم من قال يجوز أن يكون ولياً لأنه إنما حجر عليه في المال خوفاً من إضاعته وقد أمن ذلك في تزويج ابنته فجاز له أن يعقد كالمحجور عليه للفلس ومنهم من قال: لا يجوز لأنه ممنوع من عقد النكاح لنفسه فلم يجز أن يكون ولياً لغيره ولا يجوز أن يكون فاسقاً على المنصوص لأنها ولاية فلم تثبت مع الفسق كولاية المال ومن أصحابنا من قال: إن كان أباً أو جداً لم يجز وإن كان غيرهما من العصيات جاز لأنه يعقد بالإذن فجاز أن يكون فاسقاً كالوكيل ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما لا يجوز لما ذكرناه والثاني يجوز لأنه حق يستحق بالتعصيب فلم يمنع منه الفسق كالميراث والتقدم في الصلاة على الميت وهل يجوز أن يكون أعمى فيه وجهان: أحدهما يجوز لأن شعيباً عليه السلام كان أعمى
__________
1 المصدر السابق.(2/428)
وزوج ابنته من موسى صلى الله عليه وسلم والثاني لا يجوز لأنه يحتاج إلى البصر في اختيار الزوج ولا يجوز للمسلم أن يزوج ابنته الكافرة ولا للكافر أن يزوج ابنته المسلمة لأن الموالاة بينهما منقطعة والدليل عليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولهذا لا يتوارثان ويجوز للسلطان أن يزوج نساء أهل الذمة لأن ولايته تعم المسلمين وأهل الذمة ولا يجوز للكافر أن يزوج أمته المسلمة وهل يجوز للمسلم أن يزوج أمته الكافرة فيه وجهان: أحدهما يجوز وهو قول أبي إسحاق وأبي سعيد الاصطخري وهو المنصوص لأنها ولاية مستفادة بالملك فلم يمنع منها اختلاف الدين كالولاية في البيع والإجارة والثاني لا يجوز وهو قول أبي القاسم الداركي لأنه إذا لم يملك تزويج الكافرة بالنسب فلأن لا يملك بالملك أولى.
فصل: وإن خرج الولي عن أن يكون من أهل الولاية بفسق أو جنون انتقلت الولاية إلى من بعده من الأولياء لأنه بطلت ولايته فانتقلت الولاية إلى ممن بعده كما لو مات فإن زال السبب الذي بطلت فيه الولاية عادت الولاية لزوال السبب الذي أبطل الولاية فإن زوجها من انتقلت إليه قبل أن يعلم بعود ولاية الأول ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع ما وكل في بيعه قبل أن يعلم بالعزل وإن دعت المنكوحة إلى كفؤ فعضلها الولي زوجها السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" ولأنه حق توجه عليه تدخله النيابة فإذا امتنع قام السلطان مقامه كما لو كان عليه دين فامتنع عن أدائه وإن غاب الولي إلى مسافة تقصر فيها الصلاة زوجها السلطان ولم يكن لمن بعده من الأولياء أن يزوج لأن ولاية الغائب باقية ولهذا لو زوجها في مكانه صح العقد وإنما تعذر من جهته فقام السلطان مقامه كما لو حضر وامتنع من تزويجها فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز تزويجها إلا بإذنه لأنه كالحاضر والثاني يجوز للسلطان أن يزوجها لأنه تعذر استئذانه فأشبه إذا كان في سفر بعيد ويستحب للحاكم إذا غاب الولي وصار التزويج إليه أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها ويخرج من الخلاف فإن عند أبي حنيفة أن الذي يملك التزويج هو الذي تنتقل الولاية إليه.
فصل: ويجوز للأب والجد تزويج البكر من غير رضاها صغيرة كانت أو كبيرة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر(2/429)
يستأمرها أبوها في نفسها1 " فدل على أن الولي أحق بالبكر وإن كانت بالغة فالمستحب أن يستأذنها للخبر وإذنها صماتها لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها2" ولأنها تستحي أن تأذن لأبيها فجعل صماتها إذناً ولا يجوز لغير الأب والجد تزويجها إلا أن تبلغ وتأذن لما روى نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن ابنتي تكره ذلك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها وقال: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإن سكتن فهو إذنهن" فتزوجت بعد عبد الله بن المغيرة بن شعبة ولأنه ناقص الشفقة ولهذا لا يملك التصرف في مالها بنفسه ولا يبيع مالها بنفسه فلا يملك التصرف في بضعها بنفسها فإن زوجها بعد البلوغ ففي إذنها وجهان: أحدهما أن إذنها بالنطق لأنه لما افتقر تزويجها إلى إذنها افتقر إلى نطقها بخلاف الأب والجد والثاني وهو المنصوص في الإملاء وهو الصحيح أن إذنها بالسكوت لحديث نافع وأما الثيب فإنها إن ذهبت بكارتها بالوطء فإن كانت بالغة عاقلة لم يجز لأحد تزويجها إلا بإذنها لما روت خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها وإذنها بالنطق لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" فدل على أن إذن الثيب بالنطق وإن كانت صغيرة لم يجز تزويجها حتى تبلغ وتأذن لأن إذنها معتبر في حال الكبر فلا يجوز الإفتيات عليها في حال الصغر وإن كانت مجنونة جاز للأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة لأنه لا يرجى لها حال تستأذن فيها ولا
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 23 - 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 11.
2 رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. مسلم في كتاب النكاح حديث 66.، 68. أبو داود في كتاب النكاح باب 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. النسائي في كتاب النكاح باب 31.(2/430)
يجوز لسائر العصبات تزويجها لأن تزويجها إجبار وليس لسائر العصبات غير الأب والجد ولاية الإجبار فأما الحاكم فإنها إن كانت صغيرة لم يملك تزويجها لأنه لا حاجة بها إلى النكاح وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها إن رأى ذلك لأنه قد يكون في تزويجها شفاء لها وإن ذهبت بكرتها بغير الوطء ففيه وجهان: أحدهما أنها كالموطوءة لعموم الخبر والثاني وهو المذهب أنها تزوج تزويج الأبكار لأن الثيب إنما اعتبر إذنها لذهاب الحياء بالوطء والحياء لا يذهب بغير الوطء.
فصل: وإن كانت المنكوحة أمة فللمولى أن يزوجها بكراً كانت أم ثيباً صغيرة كانت أو كبيرة عاقلة كانت أو مجنونة لأنه عقد يملكه عليها بحكم الملك فكان إلى المولى كالإجارة وإن دعت الأمة المولى إلى النكاح فإن كان يملك وطأها لم يلزمه تزويجها لأنه يبطل عليه حقه من الاستمتاع وإن لم يملك وطأها ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه تزويجها لأنه تنقص قيمتها بالنكاح والثاني يلزمه لأنه لا حق له في وطئها وإن كانت مكاتبة لم يملك السيد تزويجها بغير إذنها لأنه لا حق له في منفعتها فإن دعت السيد إلى تزويجها ففيه وجهان: أحدهما يجبر لأنها تستعين بالمهر والنفقة على الكتابة والثاني لا يجبر لأنها ربما عادت إليه وهي ناقصة بالنكاح.
فصل: وإن كان ولي المرأة ممن يجوز له أن يتزوجها كابن عم والمولى المعتق لم يجز أن يزوجها من نفسه فيكون موجباً قابلاً لأنه يملك الإيجاب بالإذن فلم يجز أن يملك شطري العقد كالوكيل في البيع فإن أراد أن يتزوجها فإن كان هناك من يشاركه في الولاية زوجها منه وإن لم يكن هناك من يشاركه في الولاية زوجها الحاكم منه وإن أراد الإمام أن يتزوج امرأة لا ولي لها غيره ففيه وجهان: أحدهما أن له أن يزوجها من نفسه لأنه إذا فوض إلى غيره كان غيره وكيلاً والوكيل قائم مقامه فكان إيجابه كإيجابه والثاني يرفعه إلى حاكم ليزوجه منها لأن الحاكم يزوج بولاية الحكم فيصير كما لو زوجها منه ولي ويخالف الوكيل لأنه يزوجها بوكالته ولهذا يملك عزله إذا شاء ولا يملك عزل الحاكم من غير سبب وإذا مات انعزل الوكيل ولا ينعزل الحاكم وإن كان لرجل ابن ابن وبنت ابن وهما صغيران فزوج بنت الابن بابن الابن ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو قول أبي العباس ابن القاص لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدان" والثاني وهو قول أبي بكر ابن الحداد المصري أنه يجوز كما يجوز أن يلي شطري العقد في بيع ماله من ابنه فعلى هذا يحتاج أن يقول: زوجت بنت ابني بابن ابني وهل يحتاج إلى القبول فيه وجهان: أحدهما يحتاج(2/431)
إلى القبول وهو أن يقول بعد الإيجاب وقبلت نكاحها له وهو قول أبي بكر بن الحداد لأنه يتولى ذلك بولايتين فقام فيه مقام الاثنين والثاني لا يحتاج إلى لفظ القبول وهو قول أبي بكر القفال لأنه قام مقام اثنين فقام لفظه مقام لفظين.
فصل: وإن وكل الولي رجلاً في التزويج فهل يلزمه أن يعين الزوج فيه قولان: أحدهما لا يلزمه لأنه من ملك التوكيل في عقد لم يلزمه تعيين من يعقد معه كالموكل في البيع والثاني يلزمه لأن الولي إنما جعل إليه اختيار الزوج لكمال شفقته ولا يوجد كمال الشفقة في الوكيل فلم يجعل اختيار الزوج إليه.
فصل: ولا يجوز للولي أن يزوج المنكوحة من غير كفء إلا برضاها ورضى سائر الأولياء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم1" ولأن في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء فلم يجز من غير رضاهم.
فصل: وإن دعت المنكوحة إلى غير كفء لم يلزم الولي تزويجها لأنه يلحقه العار فإن رضيا جميعاً جاز تزويجها لما روت فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أبا الجهم يخطبني ومعاوية فقال: "أما أبو الجهم فأخاف عليك عصاه وأما معاوية فشاب من شباب قريش لا شيء له ولكني أدلك على من هو خير لك منهما" قلت: من يا رسول الله؟ قال: "أسامة" قلت: أسامة؟ قال: "نعم أسامة فتزوجي أبا زيد فبورك لأبي زيد في وبورك لي في أبي زيد" وقال عبد الرحمن بن مهدي: أسامة من الموالي وفاطمة قرشية ولأن المنع من نكاح غير الكفء لحقهما فإن رضيا زال المنع فإن زوجت المرأة من غير كفء من غير رضاها أو من غير رضا سائر الأولياء فقد قال في الأم: النكاح باطل وقال في الإملاء: كان للباقين الرد وهذا يدل على أنه صحيح فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما أنه باطل لأنه عقد في حق غيره من غير إذن فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه والثاني أنه صحيح ويثبت فيه الخيار لأن النقص يوجب الخيار دون البطلان كما لو اشترى شيئاً معيباً ومنهم من قال العقد باق قولاً واحداً لما ذكرناه وتأول قوله في الإملاء على أنه أراد بالرد المنع من العقد ومنهم من قال: إنه عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء بطل العقد كما لو اشترى الوكيل سلعة وهو يعلم بعيبها وإن لم يعلم صح العقد
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 46.(2/432)
وثبت الخيار كما لو اشترى الوكيل سلعة ولم يعلم بعيبها وحمل القولين على هذين الحالين.
فصل: والكفاءة في الدين والنسب والحرية والصنعة فأما الدين فهو معتبر فالفاسق ليس بكفء للعفيف لما روى أبو حاتم المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض1" وأما النسب فهو معتبر فالأعجمي ليس بكفء للعربية لما روي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: لا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم وغير القرشي ليس بكفء للقرشية لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" وهل تكون قريش كلها أكفاء ففيه وجهان: أحدهما أن للجميع أكفاءكما أن الجميع في الخلافة أكفاء والثاني أنهم يتفاضلون فعلى هذا غير الهاشمي والمطلبي ليس بكفء للهاشمية والمطلبية لما روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى كنانة من بني اسماعيل واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم2" وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهم أكفاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهم في الخمس وقال: "إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد" وأما الحرية فهي معتبرة فالعبد ليس بكفء للحرة لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ} ولأن الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد وأما الصنعة فهي معتبرة فالحائك ليس بكفء للبزاز والحجام ليس بكفء للخراز لأن الحياكة والحجامة
__________
1 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 3. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 46.
2 رواه مسلم في كتاب الفضائل حديث 1. الترمذي. في كتاب المناقب باب 1. أحمد في مسنده "4/107".(2/433)
يسترذل أصحابها، واختلف أصحابنا في اليسار فمنهم من قال: يعتبر فالفقير ليس بكفء للموسر لما روى سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسب المال والكرم التقوى1" ولأن نفقة الفقير دون نفقة الموسر ومنهم من قال: لا يعتبر لأن المال يروح ويغدو لا يفتخر به ذوو المروءات ولهذا قال الشاعر:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
فصل: وإن كان للمرأة وليان وأذنت لكل واحد منهما في تزويجها فزوجها كل واحد منهما من رجل نظرت فإن كان العقدان في وقت واحد أو لم يعلم متى عقدا أو علم أن أحدهما قبل الآخر ولكن لم يعلم عين السابق منهما بطل العقدان لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر وإن علم السابق ثم نسي وقف الأمر لأنه قد يتذكر وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الأول والثاني باطل لما روى سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما2" فإن ادعى كل واحد من الزوجين أنه هو الأول وادعيا علم المرأة به فإن أنكرت العلم فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم العلم وإن أقرت لأحدهما سلمت إليه وهل تحلف للآخر فيه قولان: أحدهما لا تحلف لأن اليمين تعرض على المنكر حتى يقر ولو أقرت للثاني بعدما أقرت للأول لم يقبل فلم يكن في تحليفها له فائدة والثاني تحلف لأنه ربما نكلت وأقرت للثاني فيلزمها المهر فعلى هذا إن حلفت سقط دعوى الثاني وإن أقرت للثاني لم يقبل رجوعها ويجب عليها المهر للثاني وإن نكلت رددنا اليمين على الثاني فإن لم يحلف استقر النكاح للأول وإن حلف حصل مع الأول إقرار ومع الثاني يمين ونكول المدعى
__________
1 رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 49 باب 6. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 14. أحمد في مسنده "15/10".
2 رواه أبود داود في كتاب النكاح باب 21. الترمذي في كتاب النكاح باب 19. النسائي في كتاب البيوع باب 96. الدارمي في كتاب النكاح باب 15.(2/434)
عليه فإن قلنا إنه كالبينة حكم بالنكاح للثاني لأن البينة تقدم على الإقرار وإن قلنا إنه بمنزلة الإقرار وهو الصحيح ففيه وجهان: أحدهما يحكم ببطلان النكاحين لأن مع الأول إقراراً ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار فصار كما لو أقرت لهما في وقت واحد والثاني أن النكاح للأول لأنه سبق الإقرار له فلم يبطل بإقرار بعده ويجب عليها المهر الثاني كما لو أقرت للأول ثم أقرت للثاني.
فصل: ويجوز لولي الصبي أن يزوجه إذا رأى ذلك لما روي أن عمر رضي الله عنه زوج ابناً له صغيراً ولأنه يحتاج إليه إذا بلغ فإن زوجه ألف حفظ الفرج وهل له أن يزوجه بأكثر من امرأة ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز لأن حفظ الفرج يحصل بامرأة والثاني يجوز أن يزوجه بأربع لأنه قد يكون له فيه حفظ وأما المجنون فإنه إن كان له حال إفاقة لم يجز تزويجه بغير إذنه لأنه يمكن استئذانه فلا يجوز الافتيات عليه وإن لم يكن له حال إفاقة ورأى الولي تزويجه للعفة أو الخدمة زوجه لأن له فيه مصلحة وأما المحجور عليه للسفه فإنه رأى الولي تزويجه زوجه لأن ذلك من مصلحته فإن كان كثير الطلاق سراه بجارية لأنه لا يقدر على إعتاقها وإن طلب التزويج وهو محتاج إليه فامتنع الولي فتزوج بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما أنه لا يصح لأنه تزوج بغير إذنه فلم يصح منه كما لو تزوج قبل الطلب والثاني يصح لأنه حق وجب له يجوز أن يستوفيه بإذن من هو عليه فإذا امتنع جاز له أن يستوفيه بنفسه كما لو كان له على رجل دين وامتنع من أدائه وأما العبد فإنه إن كان بالغاً فهل يجوز لمولاه أن يزوجه بغير رضاه فيه قولان: أحدهما له ذلك لأنه مملوك يملك بيعه وإجارته فملك تزويجه من غير رضاه كالأمة والثاني ليس له ذلك لأن النكاح يقصد به الاستمتاع فلم يملك إجباره عليه كالقسم وإن كان صغيراً ففيه طريقان: أحدهما أنه على القولين لأنه تصرف بحق الملك فاستوى فيه الصغير والكبير كالبيع والإجارة والثاني أنه يملك تزويجه قولاً واحداً لأنه ليس من أهل التصرف فجاز تزويجه كالابن الصغير وإن دعا العبد البالغ مولاه إلى النكاح ففيه قولان: أحدهما يلزمه تزويجه لأنه مكلف مولى عليه فإذا طلب التزويج وجب تزويجه كالسفيه والثاني لا يلزمه لأنه يملك بيعه وإجارته فلم يلزمه تزويجه كالأمة وأما المكاتب فلا يملك المولى إجباره على النكاح لأنه سقط حقه من رقبته ومنفعته فإن دعا يجب عليه تزويج العبد ففي المكاتب وجهان: أحدهما لا يجب لأنه مملوك فلم يلزمه تزويجه كالعبد والثاني يجب لأنه لا حق له في كسبه بخلاف العبد فإن كسبه للمولى فإذا زوجه بطل عليه كسبه للمهر والنفقة.(2/435)
فصل: ولا يصح النكاح إلا بشاهدين وقال أبو ثور: يصح من غير شهادة لأنه عقد فصح من غير شهادة كالبيع وهذا خطأ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدان" ويخالف البيع فإن القصد منه المال والقصد من النكاح الاستمتاع وطلب الولد ومبناهما على الاحتياط ولا يصح إلا بشاهدين ذكرين فإن عقد برجل وامرأتين لم يصح لحديث عائشة رضي الله عنها ولا يصح إلا بعدلين لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل1" فإن عقد بمجهولي الحال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه لا يصح لأنه ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت بمجهولين كالإثبات عند الحاكم والثاني يصح وهو المذهب لأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة لم تصح أنكحة العامة إلا بحضرة الحاكم لأنهم لا يعرفون شروط العدالة وفي ذلك مشتقة فاكتفى بالعدالة الظاهرة كما اكتفى في الحوادث في حقهم بالتقليد حين شق عليهم إدراكها بالدليل فإن عقد بمجهولين ثم بان أنهما كانا فاسقين لم يصح لأن حكمنا بصحته في الظاهر إذا بان خلافه حكم بإبطاله كما لو حكم الحاكم باجتهاده ثم وجد النص بخلافه ومن أصحابنا من قال فيه قولان بناء على القولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان أنهما كانا فاسقين وإن عقد بشهادة أعميين ففيه وجهان: أحدهما أنه يصح لأن الأعمى يجوز أن يكون شاهداً والثاني لا يصح لأنه لا يعرف العاقد فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد ويصح بشهادة ابني أحد الزوجين لأنه يجوز أن يثبت النكاح بشهادتهما وهو إذا جحد الزوج الآخر وهل يصح بشهادة ابنيهما أو بشهادة ابن الزوج وابن الزوجة فيه وجهان: أحدهما يصح لأنهما من أهل الشهادة والثاني لا يصح لأنه لا يثبت هذا النكاح بشهادتهما بحال.
فصل: وإذا اختلف الزوجان فقالت الزوجة عقدنا بشاهدين فاسقين وقال الزوج عقدنا بعدلين ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول الزوج لأن الأصل بقاء العدالة والثاني أن القول قول الزوجة لأن الأصل عدم النكاح وإن تصادقا على أنهما تزاوجا بولي وشاهدين وأنكر الولي والشاهدان لم يلتفت إلا إنكارهم لأن الحق لهما دون الولي والشاهدين.
فصل: ولا يصح إلا على زوجين معينين لأن المقصود بالنكاح أعيانهما فوجب
__________
1 رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 11.(2/436)
تعيينهما فإن كانت المنكوحة حاضرة فقال زوجتك هذه صح وإن قال زوجتك هذه فاطمة واسمها عائشة صح لأن مع التعيين بالإشارة لا حكم للاسم فلم يؤثر الغلط فيه وإن كانت المنكوحة غائبة فقال زوجتك ابنتي وليس له غيرها صح وإن قال زوجتك ابنتي فاطمة وهي عائشة صح لأنه لا حكم للاسم مع التعيين بالنسب فلم يؤثر الخطأ فيه وإن كان له اثنتان فقال زوجتك ابنتي لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة وإن قال زوجتك عائشة وقبل الزوج ونويا ابنته أو قال زوجتك ابنتي وقبل الزوج ونويا الكبيرة صح لأنها تعينت بالنية وإن قال زوجتك ابنتي ونوى الكبيرة وقبل الزوج ونوى الصغيرة لم يصح لأن الإيجاب في امرأة والقبول في أخرى وإن قال زوجتك ابنتي عائشة ونوى الصغيرة وقبل الزوج ونوى الكبيرة صح النكاح في عائشة في الظاهر ولم يصح في الباطن لأن الزوج قبل في غير ما أوجب الولي.
فصل: ويستحب أن يخطب قبل العقد لما روي عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله قال عبد الله ثم تصل خطبتك بثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب: 70] فإن عقد من غير خطبة جاز لما روى سهل ابن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة: "زوجتكها بما معك من القرآن" ولم يذكر الخطبة ويستحب أن يدعو لهما بعد العقد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير".
فصل: ولا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح لأن ما سواهما من الألفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى النكاح ولأن الشهادة شرط في النكاح فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع الشهادة على النكاح واختلف أصحابنا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة فمنهم من قال: لا يصح لأن كل لفظ لا ينعقد به نكاح غيره لم ينعقد به نكاحه كلفظ الإحلال ومنهم من قال: يصح لأنه لما خص بهبة البضع من غير بدل خص بلفظها وإن قال زوجني فقال زوجتك صح لأن الذي خطب الواهبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: زوجنيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زوجتكها بما معك من القرآن" وإن قال زوجتك فقال قبلت ففيه قولان: أحدهما يصح لأن القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي كما يرجع في البيع إلى ما أوجبه(2/437)
البائع والثاني لا يصح لأن قوله قبلت ليس بصريح في النكاح فلم يصح به كما لو قال زوجتك فقال: نعم وإن عقد بالعجمية ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "استحللتم فروجهن بكلمة الله1" وكلمة الله بالعربية فلا تقوم العجمية مقامها كالقرآن والثاني وهو قول أبي سعيد الاصطخري إنه إن كان يحسن بالعربية لم يصح وإن لم يحسن صح لأن ما اختص بلفظ غير معجز جاز بالعجمية عند العجز عن العربية ولم يجز عند القدرة كتكبير الصلاة والثالث وهو الصحيح أنه يصح سواء أحسن بالعربية أو لم يحسن لأن لفظ النكاح بالعجمية يأتي على ما يأتي عليه لفظه بالعربية فقام مقامه ويخالف القرآن فإن القصد منه النظم المعجز وذلك لا يوجد في غيره والقصد بالتكبيرة العبادة ففرق فيه بين العجز والقدرة كأفعال الصلاة والقصد بالنكاح تمليك ما يقصد بالنكاح والعجمية كالعربية في ذلك فإن فصل بين القبول والإيجاب بخطبة بأن قال الولي زوجتك وقال الزوج بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت نكاحها ففيه وجهان: أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه يصح لأن الخلية مأمور بها للعقد فلم تمنع صحته كالتيمم بين صلاتي الجمع والثاني لا يصح لأنه فصل بين الإيجاب والقبول فلم يصح كما لو فصل بينهما بغير الخطبة ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين والخطبة مأمور بها قبل العقد.
فصل: وإذا انعقد العقد لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط لأن العادة في النكاح أنه يسأل عما يحتاج إليه قبل العقد فلا حاجة فيه إلى الخيار بعده والله أعلم.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجة في كتاب المتاسك باب 84. أحمد في مسنده "5/73".(2/438)
باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم
من ارتد عن الدين لم يصح نكاحه لأن النكاح يراد للاستمتاع ولا يوجد ذلك في نكاح المرتد ولا يصح نكاح الخنثى المشكل لأنه إذا تزوج امرأة لم يؤمن أن يكون امرأة وإن تزوج رجلاً ولا يصح نكاح المحرم لما بيناه في الحج.
فصل: ويحرم على الرجل من جهة النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت لقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ(2/438)
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] ومن حرم عليه مما ذكرناه بنسب حرم عليه بذلك النسب كل من يدلي به وإن بعد فتحرم عليه الأم وكل من يدلي بالأمومة من الجدات من الأب والأم وإن علون وتحرم عليه البنت وكل من ينتسب إليه بالبنوة من بنات الأولاد وأولاد الأولاد وإن سفلن وتحرم عليه الأخت من الأب والأخت من الأم والأخت من الأب والأم وتحرم عليه العمة وكل من يدلي إليه بالعمومة من أخوات الآباء والأجداد من الأب والأم أو من الأب أو من الأم وإن علون وتحرم عليه بنت الأخ وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخ من بنات أولاده وأولاد أولاده وإن سفلن وتحرم عليه بنت الأخت وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخت من أولادها وأولاد أولادها وإن سفلن لأن الاسم يطلق على ما قرب وبعد والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 19] وغيرها وقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] فأطلق عليهم اسم الآباء مع البعد وقال صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يرمون: "إرموا فإن أباكم إسماعيل عليه السلام كان رامياً" فسمى إسماعيل أباهم مع البعد ولأن من بعد منهم كمن قرب في الحكم والدليل عليه أن ابن الابن كالابن والجد كالأب في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة فلأن يكون كالابن والأب في التحريم ومبناه على التغليب أولى.
فصل: وتحرم عليه من جهة المصاهرة أم المرأة دخل بها أم لم يدخل لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ويحرم عليه كل من يدلي إلى امرأته بالأمومة من الجدات من الأب والأم لما بيناه في الفصل قبله ويحرم عليه ابنة المرأة بنفس العقد تحريم جمع لأنه إذا حرم عليه الجمع لأنه إذا حرم عليه الجمع بين المرأة وأختها فلأن يحرم عليه الجمع بين المرأة وابنتها أولى فإن بانت الأم قبل الدخول حلت له البنت وإن دخل بالأم حرمت عليه البنت على التأبيد لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وتحرم عليه كل من ينتسب إلى امرأته بالبنوة من بنات أولادها وأولاد أولادها وإن سفلن من وجد منهن ومن لم يوجد كما تحرم البنت وتحرم عليه حليلة الابن لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وتحرم عليه حليلة كل من ينتسب إليه بالنبوة من بني الأولاد وأولاد الأولاد لما بيناه وتحرم عليه حليلة الأب لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وتحرم عليه حليلة كل من يدلي إليه بالأبوة من الأجداد لما ذكرناه.
فصل: ومن حرم عليه بنكاحه أو بنكاح أبيه أو ابنه حرم عليه بوطئه أو وطء أبيه أو ابنه في ملك أو شبهة لأن الوطء معنى تصير به المرأة فراشاً فتعلق به تحريم المصاهرة(2/439)
كالنكاح ولأن الوطء في إيجاب التحريم آكد من العقد بدليل أن الربيبة تحرم بالعقد تحريم جمع وتحرم بالوطء على التأبيد فإذا ثبت تحريم المصاهرة بالعقد فلأن يثبت بالوطء أولى واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة فقال في أحد القولين هو كالوطء في التحريم لأنها مباشرة لا تستباح إلا بملك فتعلق بها تحريم المصاهرة كالوطء والثاني لا يحرم بها ما يحرم بالوطء لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ولأنه مباشرة لا توجب العدة فلا يتعلق بها التحريم كالمباشرة بغير شهوة وإن تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة انفسخ النكاح لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.
فصل: وإن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة فأرد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: " لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح1" ولا تحرم بالزنا أمها أو ابنتها ولا تحرم هي على ابنه ولا على أبيه للآية والخبر ولأنه معنى تصير به المرأة فراشاً فلم يتعلق به تحريم المصاهرة كالمباشرة بغير شهوة وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته للآية والخبر وإن زنى بامرأة فأتت منه ببينة فقد قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لم أفسخ فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفاً من أن تكون منه فعلى هذا إن علم قطعاً أنها منه بأن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه لم تحل له ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة يحرمها فعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم وهو الصحيح لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلم يتعلق بها التحريم كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا واختلف أصحابنا في المنفي باللعان فمنهم من قال: يجوز للملاعن نكاحها لأنها منفية عنه فهي كالبنت من الزنا ومنهم من قال: لا يجوز للملا عن نكاحها لأنه غير منفية عنه قطعاً ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.
فصل: ويحرم عليه أن يجمع بين أختين في النكاح لقوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ولأن الجمع بينهما يؤدي إلى العداوة وقطع الرحم ويحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها2" ولأنهما امرأتان لو كانت
__________
1 رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 63.
2 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27. مسلم في كتاب النكاح حديث 37 - 39. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب النكاح باب 30. أحمد في مسنده "1/78" "2/179".(2/440)
إحداهما ذكراً لم يحل له نكاح الأخرى فلم يجز الجمع بينهما في النكاح كالأختين فإن جمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها في عقد واحد بطل نكاحهما لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى فبطل نكاحهما وإن تزوج إحداهما بعد الأخرى بطل نكاح الثانية لأنها اختصت بالتحريم وإن تزوج إحداهما ثم طلقها فإن كان طلاقاً بائناً حلت له الأخرى لأنه لم يجمع بينهما في الفراش وإن كان رجعياً لم تحل لأنها باقية على الفراش وإن قال أخبرتني بانقضاء العدة وأنكرت المرأة لم يقبل قوله في إسقاط النفقة والسكنى لأنه حق لها ويقبل قوله في جواز نكاح أختها لأن الحق لله تعالى وهو مقلد فيما بينه وبينه فإن نكح وثني وثنية ودخل بها ثم أسلم وتزوج بأختها في عدتها لم يصح قال المزني: النكاح موقوف على إسلامها فإن لم تسلم حتى انقضت العدة صح كما يقف نكاحها على إسلامها وهذا خطأ لأنها جارية إلى بينونة فلم يصح نكاح أختها كالرجعية ويخالف هذا نكاحها فإن الموقوف هناك الحل والنكاح يجوز أن يقف حله ولا يقف عقده ولهذا يقف حل نكاح المرتدة على انقضاء العدة ولا يقف نكاحها على الإسلام ويقف حل نكاح الرجعية على العدة ولا يقف نكاح أختها على العدة.
فصل: ومن حرم عليه نكاح امرأة بالنسب له أو بالمصاهرة أو بالجمع حرم عليه وطؤها بملك اليمين لأنه إذا حرم النكاح فلأن يحرم الوطء وهو المقصود أولى وإن ملك أختين فوطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تحرم الموطوءة ببيع أو عتق أو كتابة أو نكاح فإن خالف ووطئها لم يعد إلى وطئها حتى تحرم الأولى والمستحب أن لا يطأ الأولى حتى يستبرئ الثانية حتى لا يكون جامعاً للماء في رحم أختين وإن تزوج امرأة ثم ملك أختها لم تحل له المملوكة لأن أختها على فراشه وإن وطئ مملوكة ثم تزوج أختها حرمت المملوكة وحلت المنكوحة لأن فراش المنكوحة أقوى لأنه يملك به حقوق لا تملك بفراش المملوكة من الطلاق والظهار والإيلاء واللعان فثبت الأقوى وسقط الأضعف كملك اليمين لما ملك به لا يملك بالنكاح من الرقبة والمنفعة إذا طرأ على النكاح ثبت وسقط النكاح.
فصل: وما حرم من النكاح والوطء بالقرابة حرم بالرضاع لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فنص على الأم والأخت وقسنا(2/441)
عليهما من سواهما وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة1".
فصل: ومن حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد برضاع أو نكاح أو وطء مباح صار لها محرماً في جواز النظر والخلوة لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم فصار محرماً لها كالأم والبنت ومن حرمت عليه بوطء شبهة لم يصر محرماً لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح ولم تلحق بذوات المحارم والأنساب.
فصل: ويحرم على المسلم أن يتزوج ممن لا كتاب له من الكفار كعبدة الأوثان ومن ارتد عن الإسلام لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 211] ويحرم عليه أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأن كل صنف حرم وطء حرائرهم بعقد النكاح حرم وطء إمائهم بملك اليمين كالأخوات والعمات ويحل له نكاح حرائر أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم قبل التبديل لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولأن الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا من أهل الذمة فتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية وأسلمت عنده وتزوج حذيفة رضي الله عنه بيهودية من أهل المدائن وسئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص ويحل له وطء إمائهم بملك اليمين لأن كل جنس حل نكاح حرائرهم حل وطء إمائهم كالمسلمين ويكره أن يتزوج حرائرهم وأن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنا لا نأمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدين أو أن يتولى أهل دينها فإن كانت حربية فالكراهية أشد لأنه لا يؤمن ما ذكرناه ولأنه يكثر سواد أهل الحرب ولأنه لا يؤمن أن يسبي ولده منها فيسترق.
فصل: وأما غير اليهود والنصارى من أهل الكتاب كمن يؤمن بزبور داود عليه السلام وصحف شيث فلا يحل للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنه قيل إن ما معهم ليس من كلام الله عز وجل وإنما هو شيء نزل به جبريل عليه السلام كالأحكام التي نزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم من غير القرآن وقيل إن الذي معهم ليس بأحكام وإنما هي مواعظ والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 20، 27. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 9. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 34. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16.(2/442)
مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ومن دخل في دين اليهود والنصارى بعد التبديل لا يجوز للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ إماءهم بملك اليمين لأنهم دخلوا في دين باطل فهم كمن ارتد من المسلمين ومن دخل فيهم ولا يعلم أنهم دخلوا قبل التبديل أو بعده كنصارى العرب وهم تنوخ وبنو تغلب وبهراء لم يحل نكاح حرائرهم ولا وطء إمائهم بملك اليمين لأن الأصل في الفروج الحظر فلا تستباح مع الشك.
فصل: واختلف أصحابنا في السامرة والصابئين فقال أبو إسحاق: السامرة من اليهود والصابئين من النصارى واستفتى القاهر أبا سعيد الاصطخري في الصابئين فأفتى بقتلهم لأنهم يعتقدون أن الكواكب السبعة مدبرة والمذهب أنهم وافقوا اليهود والنصارى في أصول الدين من تصديق الرسل والإيمان بالكتب كانوا منهم وإن خالفوهم في أصول الدين لم يكونوا منهم وكان حكمهم حكم عبدة الأوثان واختلفوا في المجوس فقال أبو ثور: يحل نكاحهم لأنهم يقرون على دينهم بالجزية كاليهود والنصارى وقال أبو إسحاق: إن قلنا أنهم كان لهم كتاب حل نكاح حرائرهم ووطء إمائهم والمذهب أنه لا يحل لأنهم غير متمسكين بكتاب فهم كعبدة الأوثان وأما حقن الدم فلأن لهم شبهة كتاب والشبهة في الدم تقتضي الحقن وفي البضع تقتضي الحظر وأما ما قال أبو إسحاق فلا يصح لأنه لو جاز نكاحهم على هذا القول لجاز قتلهم على القول الآخر.
فصل: ويحرم عليه نكاح من ولد بين وثني وكتابية لأن الولد من قبيلة الأب ولهذا ينسب إليه ويشرف بشرفه فكان حكمه في النكاح حكمه ومن ولد بين كتابي ووثنية ففيه قولان: أحدهما أنها لا تحرم عليه لأنها من قبيلة الأب والأب من أهل الكتاب والثاني أنها تحرم لأنه لم تتمحض كتابية فأشبهت المجوسية.
فصل: ولا يحل له نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25](2/443)
ولأنها إن كانت لكافر استرق ولده منها وإن كانت لمسلم لم يؤمن أن يبيعها من كافر فيسترق ولده منها وأما الأمة المسلمة فإنه إن كان الزوج حراً نظرت فإن لم يخش العنت وهو الزنا لم يحل نكاحها لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله عز وجل: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} [النساء: 25] فدل على أنها لا تحل لمن لم يخش العنت وإن خشي العنت ولم تكن عنده حرة ولا يجد طولاً وهو ما يتزوج به حرة ولا ما يشتري به أمة جاز له نكاحها للآية وإن وجد ما يتزوج به حرة مسلمة لم يحل له نكاح الأمة لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فدل على أنه إذا استطاع ما ينكح به محصنة مؤمنة أنه لاينكح الأمة وإن وجد ما يتزوج به حرة كتابية أو يشتري به أمة ففيه وجهان: أحدهما يجوز لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا غير مستطيع أن ينكح المحصنات المؤمنات والثاني لا يجوز لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} وهذا لا يخشى العنت وإن كانت عنده حرة لا يقدر على وطئها لصغر أو لرتق أو لضنى من مرض ففيه وجهان: أحدهما يحل له نكاح الأمة لأنه يخشى العنت والثاني لا يحل له لأن تحته حرة فلا يحل هل نكاح الأمة والصحيح هو الأول فإن لم تكن عنده حرة ولم يقدر على طول حرة وخشي العنت فتزوج أمة ثم تزوج حرة أو وجد طول حرة أو أمن العنت لم يبطل نكاح الأمة وقال المزني: إذا وجد صداق حرة بطل نكاح الأمة لأن شرط الإباحة قد زال وهذا خطأ لأن زوال شرط الإباحة قد زال وهذا خطأ لأن زوال الشرط لا حكم له كما لو أمن العنت بعد العقد وإن كان الزوج عبداً حل له نكاح الأمة وإن وجد صداق حرة ولم يخف العنت لأنها مساوية له فلم يقف نكاحها على خوف العنت وعدم صداق الحرة كالحرة في حق الحر.
فصل: ويحرم على العبد نكاح مولاته لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض فإن(2/444)
المرأة بحكم الملك تطالبه بالسفر إلى المشرق والعبد بحكم النكاح يطالبها بالسفر إلى المغرب والمرأة بحكم النكاح تطالبه بالنفقة والعبد بحكم الملك يطالبها بالنفقة وإن تزوج العبد حرة ثم اشترته انفسخ النكاح لأن ملك اليمين أقوى لأنه يملك به الرقبة والمنفعة فأسقط النكاح ويحرم على المولى أن يتزوج أمته لأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنع منها ملك اليمين فبطل وإن تزوج جارية ثم ملكها انفسخ النكاح لما ذكرناه في العبد إذا تزوج حرة ثم اشترته.
فصل: ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه لأن له فيها شبهة تسقط الحد بوطئها فلم يحل له نكاحها كالجارية المشتركة بينه وبين غيره فإن تزوج جارية أجنبي ثم ملكها ابنه ففيه وجهان: أحدهما أنه يبطل النكاح لأن ملك الابن كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد فكان كملكه في إبطال النكاح والثاني لا يبطل لأنه لا يملكها بملك الابن فلم يبطل النكاح.
فصل: ولا يجوز نكاح المعتدة من غيره لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ولأن العدة وجبت لحفظ النسب لو جوزنا فيها النكاح اختلط النسب وبطل المقصود ويكره نكاح المرتابة بالحمل بعد انقضاء العدة لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً من غيره فإن تزوجها ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي العباس أن النكاح باطل لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها كما لو حدثت الريبة قبل انقضاء العدة والثاني وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق أنه يصح وهو الصحيح لأنها ريبة حدثت بعد انقضاء العدة فلم تمنع صحة العقد كما لو حدثت بعد النكاح ويجوز نكاح الحامل من الزنا لأن حملها لا يلحق بأحد فكان وجوده كعدمه.
فصل: ويحرم على الحر أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خذ منهن أربعاً" ويحرم على العبد أن يجمع بين أكثر من امرأتين وقال أبو ثور: يحل له أن يجمع بين(2/445)
أربع وهذا خطأ لما روي أن عمر رضي الله عنه خطب وقال: من يعلم ماذا يحل للمملوك من النساء فقال رجل: أنا فقال: كم؟ قال: ثنتان فسكت عمر وروي ذلك عن علي وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
فصل: ولا يجوز نكاح الشغار وهو أن يتزوج الرجل ابنته أو أخته من رجل على أن يزوجه ذلك ابنته أو أخته ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته من رجلين فأما إذا قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك صح النكاحان لأنه لم يحصل التشريك في البضع وإنما حصل الفساد في الطلاق وهو أنه جعل الصداق أن يزوجه ابنته فبطل الصداق وصح النكاح زإن قال زوجتك ابنتي بمائة على أن تزوجني ابنتك بمائة صح النكاحان ووجب مهر المثل لأن الفساد في الصداق وهو شرطه مع المائة تزويج ابنته فأشبه المسألة قبلها وإن قال زوجتك ابنتي بمائة على أن تزوجني ابنتك بمائة ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الشغار هو الخالي من الصداق وههنا لم يخل من الصداق والثاني لا يصح وهو المذهب لأن المبطل هو التشريك في البضع وقد اشترك في البضع.
فصل: ولا يجوز نكاح المتعة وهو أن يقول زوجتك ابنتي يوماً أو شهراً لما روى محمد بن علي رضي الله عنهما انه سمع أباه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد لقي ابن عباس وبلغه أنه يرخص في متعة النساء فقال علي كرم الله وجهه: إنك امرؤ تائه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية لأنه عقد يجوز مطلقاً(2/446)
فلم يصح مؤقتاً كالبيع ولأنه نكاح لا يتعلق به الطلاق والظهار والإرث وعدة الوفاة فكان باطلاً كسائر الأنكحة الباطلة.
فصل: ولا يجوز نكاح المحلل وهو أن ينكحها على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما وأن يتزوجها على أن يحللها للزوج الأول لما روى هزيل بن عبد الله قال: لعن الرسول صلى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة والواشمة والموشومة والمحلل والمحلل له وآكل الربا ومطعمه ولأنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته فشابه نكاح المتعة وإن تزوجها على أنه إذا وطئها طلقها ففيه قولان: أحدهما أنه باطل لما ذكرناه من العلة والثاني أنه يصح لأن النكاح مطلق وإنما شرط قطعه بالطلاق فبطل الشرط وصح العقد فإن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها كره ذلك لما روى أبو مرزوق التجيبي أن رجلاً أتى عثمان رضي الله عنه فقال: إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا بنكاح رغبة فإن تزوج على هذه النية صح النكاح لأن العقد إنما يبطل بما شرط لا بما قصد ولهذا لو اشترى عبداً بشرط أن لا يبيعه بطل ولو اشتراه بنية أن لا يبيعه لم يبطل.
فصل: وإن تزوج بشرط الخيار بطل العقد لأنه عقد يبطله التوقيت فبطل بالخيار الباطل كالبيع وإن شرط أن لا يتسرى عليها أو لا ينقلها من بلدها بطل الشرط لأنه يخالف مقتضى العقد ولا يبطل العقد لأنه لا يمنع مقصود العقد وهو الاستمتاع فإن شرط أن لا يطأها ليلاً بطل الشرط لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أوحرم حلالاً1" فإن كان الشرط من جهة المرأة بطل العقد وإن كان من جهة الزوج لم يبطل لأن الزوج يملك الوطء ليلاً ونهاراً وله أن يترك فإذا شرط أن لا يطأها فقد شرط ترك ماله تركه والمرأة يستحق عليها الوطء ليلاً ونهاراً فإذا شرطت ان لا يطأها فقد شرطت منع الزوج من حقه وذلك ينافي مقصود العقد فبطل.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 12. الترمذي في كتاب الأحكام باب 17، ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 23.(2/447)
فصل: ويجوز التعريض بخطبة المعتدة عن الوفاة والطلاق الثلاث لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ولما روت فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن عمرو طلقها ثلاثاً فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقيني بنفسك فزوجها بأسامة رضي الله عنه ويحرم التصريح بالخطبة لأنه لما أباح التعريض دل على أن التصريح محرم ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح فتخبر بانقضاء العدة والتعريض يحتمل غير النكاح فلا يدعوها إلى الإخبار بانقضاء العدة وإن خالعها زوجها فاعتدت لم يحرم على الزوج التصريح بخطبتها لأنه يجوز له نكاحها فهو معها كالأجنبي مع الأجنبية في غير العدة ويحرم على غيره التصريح بخطبتها لأنها محرمة عليه وهل يحرم التعريض فيه قولان: أحدهما يحرم لأن الزوج يملك أن يستبيحها في العدة فلم يجز لغيره التعريض بخطبتها كالرجعية والثاني لا يحرم لأنها معتدة بائن فلم يحرم التعريض بخطبتها كالمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنه زوجها والمرأة في الجواب كالرجل في الخطبة فيما يحل وفيما يحرم لأن الخطبة للعقد فلا يجوز أن يختلفا في تحليله وتحريمه والتصريح أن يقول إذا انقضت عدتك تزوجتك أو ما أشبهه والتعريض أن يقول رب راغب فيك وقال الأزهري: أنت جميلة وأنت مرغوب فيك وقال مجاهد: مات رجل وكانت امرأته تتبع الجنازة فقال لها رجل لا تسبقينا بنفسك فقال: قد سبقك غيرك ويكره التعريض بالجماع لقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] وفسر الشافعي رحمه الله السر بالجماع فسماه سراً لأنه يفعل سراً وأنشد فيه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسبابة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحس السر أمثالي
ولأن ذكر الجماع دناءة وسخف.
فصل: ومن خطب امرأة فصرح له بالإجابة حرم على غيره خطبتها إلا أن يأذن فيه الأول لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول أو يأذن له فيخطب وإن لم يصرح له بالإجابة ولم يعرض له لم يحرم على غيره لما روي أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن(2/448)
معاوية وأبا الجهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو الجهم لا يضع العصا عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له" فانكحي أسامة وإن عرض له بالإجابة ففيه قولان: قال في القديم: تحرم خطبتها لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأن فيه إفساد المتقارب بينهما وقال في الجديد: لا تحرم لأنه لم يصرح له بالإجابة فأشبه إذا سكت عنه فإن خطب على خطبة أخيه في الموضع الذي لا يجوز فتزوجها صح النكاح لأن المحرم سبق العقد فلم يفسد به العقد وبالله التوفيق.(2/449)
باب الخيار في النكاح والرد بالعيب
إذا وجد الرجل امرأته مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء وهي التي انسد فرجها أو قرناء وهي التي في فرجها لحم يمنع الجماع ثبت له الخيار وإن وجدت المرأة زوجها مجنوناً أو مجذوماً أو أبرص أو مجبوباً أو عنيناً ثبت لها الخيار لما روى زيد بن كعب بن عجرة قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني غفار فرأى بكشحها بياضاً فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "البسي ثيابك والحقي بأهلك" فثبت الرد بالبرص بالخبر وثبت في سائر ما ذكرناه بالقياس على البرص لأنها في معناه منع الاستمتاع إن وجد أحدهما الآخر وله فرج الرجال وفرج النساء ففيه قولان: أحدهما يثبت له الخيار لأن النفس تعاف عن مباشرته فهو كالأبرص والثاني لا خيار له لأنه يمكنه الاستمتاع به وإن وجدت المرأة زوجها خصياً ففيه قولان: أحدهما لها الخيار لأن النفس تعافه والثاني لا خيار لها لأنها تقدر على الاستمتاع به وإن وجد أحدهما بالآخر عيباً وبه مثله بأن وجده أبرص وهو أبرص(2/449)
ففيه وجهان: أحدهما له الخيار لأن النفس تعاف من عيب غيرها وإن كان بها مثله والثاني لا خيار له لأنهما متساويان في النقص فلم يثبت لهما الخيار كما لو تزوج عبد بأمة وإن حدث بعد العقد عيب يثبت به الخيار فإن كان بالزوج ثبت لها الخيار لأن ما ثبت به الخيار إذا كان موجوداً حال العقد ثبت به الخيار إذا حدث بعد العقد كالإعسار بالمهر والنفقة وإن كان بالزوجة ففيه قولان: أحدهما يثبت به الخيار وهو قوله في الجديد وهو الصحيح لأن ما ثبت به الخيار في ابتداء العقد ثبت به الخيار إذا حدث بعده كالعيب في الزوج والثاني وهو قوله في القديم إنه لا خيار له لأنه يملك أن يطلقها.
فصل: والخيار في هذه العيوب على الفور لأنه خيار ثبت بالعيب فكان على الفور كخيار العيب في البيع ولا يجوز الفسخ إلا عند الحاكم لأنه مختلف فيه.
فصل: وإن فسخ قبل الدخول سقط المهر لأنه إن كانت المرأة فسخت كانت الفرقة من جهتها فسقط مهرها وإن كان الرجل هو الذي فسخ إلا أنه فسخ لمعنى من جهة المرأة وهو التدنيس بالعيب فصار كأنها اختارت الفسخ وإن كان الفسخ بعد الدخول سقط المسمى ووجب مهر المثل لأنه يستند الفسخ إلى سبب قبل العقد فيصير الوطء كالحاصل في نكاح فاسد فوجب مهر المثل وهل يرجع به على من غره فيه قولان: قال في القديم يرجع لأنه غره حتى دخل في العقد وقال في الجديد: لا يرجع لأنه حصل له في مقابلته الوطء فإن قلنا يرجع فإن كان الرجوع على الولي رجع بجميعه وإن كان على المرأة ففيه وجهان: أحدهما يرجع بجميعه كالولي والثاني يبقى منه شيئا حتى لا يعري الوطء عن بدل وإن طلقها قبل الدخول ثم علم أنه كان بها عيب لم يرجع بالنصف لأنه رضي بإزالة الملك والتزام نصف المهر فلم يرجع به.
فصل: ولا يجوز لولي المرأة الحرة ولا لسيد الأمة ولا لولي الطفل تزويج المولى عليه ممن به هذه العيوب لأن في ذلك إضراراً بالمولى عليه فإن خالف وزوج فعلى ما ذكرناه فيمن زوج المرأة من غير كفء وإن دعت المرأة الولي أن يزوجها بمجنون لم يلزمه تزويجها لأن عليه في ذلك عاراً وإن دعت إلى نكاح مجبوب أو عنين لم يكن له أن يمتنع لأنه لا ضرر عليه في ذلك وإن دعت إلى نكاح مجذوم أو أبرص ففيه وجهان:(2/450)
أحدهما له أن يمتنع لأن عليه في ذلك عاراً والثاني ليس له أن يمتنع لأن الضرر عليها دونه.
فصل: وإن حدث العيب بالزوج ورضيت به المرأة لم يجبرها الولي على الفسخ لأن حق الولي في ابتداء العقد دون الاستدامة ولهذا لو دعت المرأة إلى نكاح عبد كان للولي أن يمتنع ولو أعتقت تحت عبد فاختارت المقان معه لم يكن للولي إجبارها على الفسخ.
فصل: إذا ادعت المرأة على الزوج أنه عنين وأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه فإن نكل ردت اليمين على المرأة وقال أبو سعيد الاصطخري: يقضي عليه بنكوله ولا تحلف المرأة لأنه أمر لا تعلمه والمذهب الأول لأنه حق نكل فيه المدعى عليه عن اليمين فردت على المدعي كسائر الحقوق وقوله إنها لا تعلمه يبطل باليمين في كتابة الطلاق وكناية القذف فإذا حلفت المرأة أو اعترف الزوج أجله الحاكم سنة لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قضى في العنين أن يؤجل سنة وعن علي عليه السلام وعبد الله والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم نحوه ولأن العجز عن الوطء قد يكون بالتعنين وقد يكون لعارض من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة فإذا مضت عليه الفصول الأربعة واختلفت عليه الأهوية ولم يزل دل على أنه خلقة ولا تثبت المدة إلا بالحاكم لأنه يختلف فيها بخلاف مدة الإيلاء فإن جامعها في الفرج سقطت المدة وأدناه أن يغيب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولا تتعلق بما دونه فإن كان بعض الذكر مقطوعاً لم يخرج من التعنين إلا بتغييب جميع ما بقي من أصحابنا من قال: إذا غيب من الباقي بقدر الحشفة خرج من حكم التعنين لأن الباقي قائم مقام الذكر والمذهب الأول لأنه إذا كان الذكر سليماً فهناك حد يمكن اعتباره وهو الحشفة وإن كان مقطوعاً فليس هناك حد يمكن اعتباره فاعتبر الجميع وإن وطئها في الدبر لم يخرج من حكم التعنين لأنه ليس بمحل للوطء ولهذا لا يحصل به الإحلال للزوج الأول وإن وطئ في الفرج وهي حائض سقطت المدة لأنه محل للوطء وإن ادعى أنه وطئها فإن كانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يمكن إثباته بالبينة وإن كانت بكراً فالقول قولها لأن الظاهر أنه لم يطأها فإن قال الزوج وطئت ولكن عادت البكارة حلفت لجواز أن يكون قد ذهبت البكارة ثم عادت.(2/451)
فصل: وإن اختارت المقام معه قبل انقضاء الأجل ففيه وجهان: أحدهما يسقط خيارها لأنها رضيت بالعيب مع العلم والثاني لا يسقط خيارها لأنه إسقاط حق قبل ثبوته فلم يصح كالعفو عن الشفعة قبل البيع وإن اختارت المقام بعد انقضاء الأجل سقط حقها لأنه إسقاط حق بعد ثبوته وإن أرادت بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ لم يكن لها لأنه خيار ثبت بعيب وقد أسقطته فلم يجز أن ترجع فيه فإن لم يجامعها حتى انقضى الأجل وطالبت بالفرقة فرق الحاكم بينهما لأنه مختلف فيه وتكون الفرقة فسخاً لأنه فرقة لا تقف على إيقاع الزوج ولا من ينوب عنه فكانت فسخاً كفرقة الرضاع وإن تزوج امرأة ووطئها ثم عن منها لم تضرب المدة لأن القدرة يقين فلا تترك بالاجتهاد.
فصل: وإن وجدت المرأة زوجها مجبوباً ثبت لها الخيار في الحال لأنه عجزه متحقق فإن كان بعضه مجبوباً وبقي ما يمكن الجماع به فقالت المرأة لا يتمكن من الجماع به وقال الزوج أتمكن ففيه وجهان: أحدهما أن القول قوله لأن له ما يمكن الجماع بمثله فقبل قوله كما لو اختلفا وله ذكر قصير والثاني وهو قول أبي إسحاق أن القول قول المرأة لأن الظاهر معها فإن الذكر إذا قطع بعضه ضعف وإن اختلفا في القدر الباقي هل يمكن الجماع به فالقول قول المرأة لأن الأصل عدم الإمكان.
فصل: إذا تزوجت المرأة رجلاً على أنه على صفة فخرج بخلافها أو على نسب فخرج بخلافه ففيه وجهان: أحدهما أن العقد باطل لأن الصفة المقصودة كالعين ثم اختلاف العين يبطل العقد فكذلك اختلاف الصفة ولأنها لم ترض بنكاح هذا الزوج فلم يصح كما لو أذنت في نكاح رجل على صفة فزوجت ممن هو على غير تلك الصفة والقول الثاني أنه يصح العقد وهو الصحيح لأنه ما لا يفتقر العقد إلى ذكره إذا ذكره وخرج بخلافه لم يبطل العقد كالمهر فعلى هذا إن خرج أعلى من المشروط لم يثبت الخيار لأن الخيار يثبت للنقصان لا للزيادة فإن خرج دونها فإن كان عليها في ذلك نقص بأن شرط أنه حر فخرج عبداً أو أنه جميل فخرج قبيحاً أو أنه عربي فخرج عجمياً ثبت لها الخيار لأنه نقص لم ترض به وإن لم يكن عليها نقص بأن شرطت أنه عربي فخرج عجمياً وهي عجمية ففيه وجهان: أحدهما لها الخيار لأنها ما رضيت أن يكون مثلها والثاني لا خيار لها لأنها لا نقص عليها في حق ولا كفاءة.
فصل: وإن كان الغرر من جهة المرأة نظرت فإن تزوجها على أنها حرة فكانت أمة وهو ممن يحل له نكاح الأمة ففي صحة النكاح قولان: فإن قلنا إنه باطل فوطئها لزمه مهر المثل وهل يرجع به على الغار فيه قولان: أحدهما لا يرجع لأنه حصل له في مقابلته(2/452)
الوطء والثاني يرجع لأن الغار ألجأه إليه فإن كان الذي غره غير الزوجة رجع عليه وإن كانت هي الزوجة رجع عليها إذا عتقت وإن كان وكيل السيد رجع عليه في الحال وإن أحبلها ضمن قيمة الولد رجع بها على من غره وإن قلنا إنه صحيح فهل يثبت له الخيار فيه قولان: أحدهما لا خيار له لأنه يمكنه أن يطلق والثاني له الخيار وهو الصحيح لأن ما ثبت به الخيار للمرأة ثبت به الخيار للرجل كالجنون وقال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبداً فلا خيار له قولاً واحداً لأنه مثلها والصحيح لا فرق بين أن يكون حراً أو عبداً لأن عليه ضرراً لم يرض به وهو استرقاق ولده منها وعدم الاستمتاع بها في النهار فإن فسخ فالحكم فيها كالحكم فيه إذا قلنا إنه باطل وإن قلنا لا خيار له أو له الخيار ولم يفسخ فهو كالنكاح الصحيح فإن وطئها قبل العلم بالرق فالولد حر لأنه لم يرض برقه وإن وطئها بعد العلم بالرق فالولد مملوك لأنه رضي برقه وإن غرته بصفة غير الرق أو بنسب ففي صحة النكاح قولان: فإن قلنا إنه باطل ودخل بها وجب مهر المثل وهل يرجع به على من غره على القولين: فإن قلنا يرجع فإن كان الغرور من غيرها رجع بالجميع وإن كان منها ففيه وجهان: أحدهما يرجع بالجميع كما يرجع على غيرها والثاني يبقى منه شيئا حتى لا يعري الوطء عن بدل وإن قلنا إنه صحيح فإن كان الغرور بنسب فخرجت أعلى منه لم يثبت الخيار وإن خرجت دونه ولكن مثل نسبه أو أعلى منه لم يثبت الخيار وإن كانت دون نسبه ففيه وجهان: أحدهما له الخيار لأنه لم يرض أن تكون دونه والثاني لا خيار له لأنه لا نقص على الزوج بأن تكون المرأة دونه في الكفاءة فإن قلنا إن له الخيار فاختار الفسخ فالحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا إنه باطل وإن اختار المقام فهو كما قلنا إنه صحيح وقد بيناه.
فصل: وإن تزوج امرأة من غير شرط يظنها حرة فوجدها أمة فالنكاح صحيح والمنصوص أنه لا خيار له وقال فيمن تزوج حرة يظنها مسلمة فخرجت كتابية أن له الخيار فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما له الخيار لأن الحرة الكتابية أحسن حالاً من الأمة لأن الولد منها حر والاستمتاع بها تام فإذا جعل له الخيار فيها كان في الأمة والولد منها رقيق والاستمتاع بها ناقص أولى والقول الثاني لا خيار له لأن العقد وقع مطلقاً فهو كما لو ابتاع شيئاً يظنه على صفة فخرج بخلافها فإنه لا يثبت له الخيار فكذلك ههنا وإذا لم يجعل له الخيار في الأمة ففي الكتابية أولى ومنهم من حملها على ظاهر النص فقال له الخيار في الكتابية(2/453)
ولا خيار له في الأمة لأن في الكتابية ليس من جهة الزوج تفريط لأن الظاهر ممن لا غيار عليه أنه ولي مسلمة وإنما التفرط من جهة الولي في ترك الغيار وفي الأمة التفريط من جهة الزوج في ترك السؤال.
فصل: إذا أعتقت الأمة وزوجها حر لم يثبت لها الخيار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أعتقت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها وكان عبداً فاختارت نفسها ولو كان حرا ما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنها لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر ولهذا لا يثبت به الخيار في ابتداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته وإن أعتقت تحت عبد ثبت لها الخيارلحديث عائشة رضي الله عنها ولأن عليها عاراً وضرراً في كونها تحت عبد ولهذا لو كان ذلك في ابتداء النكاح ثبت لها الخيار فثبت به الخيار في استدامته ولها أن تفسخ بنفسها لأنه خيار ثابت بالنص فلم يفتقر إلى الحاكم وفي وقت الخيار قولان: أحدهما أنه على الفور لأنه خيار لنقص فكان على الفور كخيار العيب في البيع والثاني أنه على التراخي لأنه لو جعلناها على الفور لم نأمن أن تختار المقام أو الفسخ ثم تندم فعلى هذا في وقته قولان: أحدهما يتقدر بثلاثة أيام لأنه جعل حداً لمعرفة الحظ في الخيار في البيع والثاني أن لها الخيار إلى أن تمكنه من وطئها لأنه روي ذلك عن ابن عمر وحفصة بنت عمر رضي الله عنهما وقول الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وخارجة بن يزيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسليمان بن يسار رضي الله عنهم فإن أعتقت ولم تختر الفسخ حتى وطئها ثم ادعت الجهل بالعتق فإن كان في موضع يجوز أن يخفي عليها العتق فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر أنها لم تعلم وإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليها لم يقبل قولهها لأن ما تدعيه خلاف الظاهر وإن علمت بالعتق ولكن ادعت أنها لم تعلم بأن لها الخيار ففيه قولان: أحدهما لا خيار لها كما لو اشترى سلعة فيها عيب وادعى أنه لم يعلم أن له الخيار والثاني أن لها الخيار لأن الخيار بالعتق لا يعرفه غير أهل العلم وإن أعتقت وهي صغيرة ثبت لها الخيار إذ بلغت وإن كانت مجنونة ثبت لها الخيار إذا عقلت وليس للولي أن يختار لأن هذه طريقة الشهوة فلا ينوب عنها الولي كالطلاق وإن أعتقت فلم تختر حتى عتق الزوج ففيه قولان: أحدهما لا يسقط خيارها لأنه حق ثبت في حال الرق فلم يتغير بالعتق كما لو وجب عليه حد ثم أعتق والثاني يسقط لأن الخيار ثبت للنقص وقد زال فإن أعتقت وهي في العدة من طلاق رجعي فلها أن تترك الفسخ لانتظار البينونة بانقضاء العدة ولها أن تفسخ لأنها(2/454)
إذا لم تفسخ ربما راجعها إذا قارب انقضاء العدة فإذا فسخت احتاجت أن تستأنف العدة وإن اختارت المقام في العدة لم يسقط خيارها لأنها جارية إلى بينونة فلا يصح منها اختيار المقام مع ما ينافيه وإن أعتقت تحت عبد فطلقها قبل أن تختار الفسخ ففيه قولان: أحدهما أن الطلاق ينفذ لأنه صادف الملك والثاني لا ينفذ لأنه يسقط حقها من الفسخ فعلى هذا إن فسخت لم يقع الطلاق وإن لم تفسخ حكمنا بوقوع الطلاق من حين طلق.
فصل: وإن أعتقت وفسخت النكاح فكان قبل الدخول سقط المهر لأن الفرقة من جهتها وإن كان بعد الدخول نظرت فإن كان العتق بعد الدخول استقر المسمى وإن كان قبله ودخل بها ولم تعلم بالعتق سقط المسمى ووجب مهر المثل لأن العتق وجد قبل الدخول فصار كما لو وجد الفسخ قبل الدخول ويجب المهر للمولى لأنه وجب بالعقد في ملكه وإن كانت مفوضة فأعتقت فاختارت الزوج وفرض لها المهر بعد العتق ففي المهر قولان: إن قلنا يجب بالعقد كان للمولى لأنه وجب قبل العتق وإن قلنا يجب بالفرض كان لها لأنه وجب بعد العتق.
فصل: وإن تزوج عبد مشرك حرة مشركة ثم أسلما ففيه وجهان: أحدهما لا خيار لها لأنها دخلت في العقد مع علمها برقه والثاني وهو ظاهر النص أن لها أن تفسخ النكاح لأن الرق ليس بنقص في الكفر وإنما هو نقص في الإسلام فيصير كنقص حدث بالزوج فيثبت لها الخيار وإن تزوج العبد المشرك أمة فدخل بها ثم أسلمت وتخلف العبد فأعتقت الأمة وثبت لها الخيار لأنها عتقت تحت عبد وإن أسلم العبد وتخلفت المرأة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه لا يثبت لها الخيار وهو ظاهر ما نقله المزني والفرق بينها وبين ما قبلها أن هناك الأمر موقوف على إسلام الزوج فإذا لم تفسخ لم تأمن أن لا يسلم حتى يقارب انقضاء العدة ثم يسلم فتفسخ النكاح فتطول العدة وههنا الأمر موقوف على إسلامها فأي وقت شاءت أسلمت وثبت النكاح فلم يثبت لها الفسخ والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يثبت لها الخيار كالمسألة قبلها وأنكر ما نقله المزني.
فصل: إذا ملك مائة دينار وأمة قيمتها مائة دينار وزوجها من عبد بمائة ووصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول لم يثبت لها الخيار لأنها إذا فسخت سقط مهرها وإذا سقط المهر عجز الثلث عن عتقها فسقط خيارها فيؤدي إثبات الخيار إلى إسقاطه فسقط.
فصل: وإن أعتق عبد وتحته أمة ففيه وجهان: أحدهما يثبت لها الخيار كما يثبت للأمة إذا كان زوجها عبداً والثاني لا يثبت لأن رقها لا يثبت به الخيار في ابتداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته.(2/455)
باب نكاح المشرك
إذا أسلم الزوجان المشركان على صفة لو لم يكن بينهما نكاح جاز لهما عقد النكاح أقرا على النكاح وإن عقد بغير ولي ولا شهود لأنه أسلم خلق كثير فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم ولم يسألهم عن شروطه وإن أسلما والمرأة ممن لا تحل له كالأم والأخت لم يقرا على النكاح لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز الإقرار على نكاحها وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين أو أسلمت المرأة والزوج يهودي أو نصراني فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة وإن كان بعد الدخول وقفت الفرقة على انقضاء العدة فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح وإن لم يسلم حتى انقضت العدة حكم بالفرقة وقال أبو ثور: إن أسلم الزوج قبل الزوجة وقعت الفرقة وهذا خطأ لما روى عبد الله بن شبرمة أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته وإن أسلم بعد انقضاء العدة فلا نكاح بينهما والفرقة الواقعة باختلاف الدين فسخ لأنها فرقة عريت عن لفظ الطلاق ونيته فكانت فسخاً كسائر الفسوخ.
فصل: وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه لزمه أن يختار أربعاً منهن لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً ولأن ما زاد على أربع لا يجوز إقرار المسلم عليه فإن امتنع أجبر عليه بالحبس والتعزير لأنه حق توجه عليه لا تدخله النيابة فأجبر عليه فإن أغمي عليه في الحبس خلي إلى أن يفيق لأن خرج على أن يكون من أهل الاختيار فخلي كما يخلى من عليه دين إذا أعسر به فإن أفاق أعيد إلى الحبس والتعزير إلى أن يختار ويؤخذ بنفقة جميعهن إلى أن يختار لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح والاختيار أن يقول اخترت نكاح هؤلاء الأربع فينفسخ نكاح البواقي أو يقول اخترت فراق هؤلاء فيثبت نكاح البواقي وإن طلق واحدة منهن كان ذلك اختياراً لنكاحها لأن الطلاق لا يكون إلا في زوجة وإن ظاهر منها أو آلى لم يكن ذلك اختياراً لأنه قد يخاطب به غير الزوج وإن وطئ واحدة ففيه وجهان: أحدهما أنه الاختيار لأن الوطء لا يجوز إلا في ملك فدل على الاختيار كوطء البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار والثاني وهو الصحيح أنه ليس باختيار لأنه اختيار للنكاح فلم يجز بالوطء كالرجعة وإن قال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها لم يصح لأن الاختيار كالنكاح فلم يجز تعليقه على الصفة ولا في غير معين وإن قالت كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يصح لأن الفسخ(2/456)
لا يجوز تعليقه على الصفة ولأن الفسخ إنما يستحق فيما زاد على أربع وقد يجوز أن لا يعلم أكثر من أربع فلا يستحق فيها الفسخ وإن قال كلما أسلمت واحدة فهي طالق ففيه وجهان: أحدهما يصح وهو ظاهر النص لأنه قال وإن قال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يكف شيئاً إلا أن يريد به الطلاق فدل على أنه إذا أراد الطلاق صح ووجهه أن الطلاق يصح تعليقه على الصفات والثاني وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا يصح لأن الطلاق ههنا يتضمن اختيار الزوجية والاختيار لا يجوز تعليقه على الصفة وحمل قول الشافعي رحمه الله على من أسلم وله أربع نسوة في الشرك وأراد بهذا القول الطلاق فإنه يصح لأنه طلاق لا يتضمن اختياراً فجاز تعليقه على الصفة وإن أسلم ثم ارتد لم يصح اختياره لأن الاختيار كالنكاح فلم يصح مع الردة وإن أسلم وأحرم فالمنصوص أنه يصح اختياره فمن أصحابنا من جعلها على قولين: أحدهما لا يصح كما لا يصح نكاحه والثاني يصح كما تصح رجعته ومنهم من قال إن أسلم ثم أحرم ثم أسلمن لم يجز أن يختار قولاً واحداً لأنه لا يجوز أن يبتدئ النكاح وهو محرم فلا يجوز أن يختاره وحمل النص عليه وإذا أسلم ثم أسلمن ثم أحرم فإن له الخيار لأن الإحرام طرأ بعد ثبوت الخيار.
فصل: وإن مات قبل أن يختار لم يقم وارث مقامه لأن الاختيار يتعلق بالشهوة فلا يقوم فيه غيره مقامه وتجب على جميعهن العدة لأن كل واحدة منهن يجوز أن تكون من الزوجات فمن كانت حاملاً اعتدت بوضع الحمل ومن كانت من ذوات الشهر اعتدت بأربعة أشهر وعشر ومن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بالأقصى من الأجلين من ثلاثة أقراء أو أربعة أشهر وعشر ليسقط الفرض بيقين ويوقف ميراث أربع نسوة إلى أن يصطلحن لأنا نعلم أن فيهن أربع زوجات وإن كان عددهن ثمانية فجاء أربع يطلبن الميراث لم يدفع إليهن شيء لجواز أن تكون الزوجات غيرهن وإن جاء خمس دفع إليهن ربع الموقوف لأن فيهن زوجة بيقين ولا يدفع إليهن إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق ليمكن صرف الباقي إلى باقي الورثة وإن جاء ست دفع إليهن نصف الموقوف لأن فيهن زوجتين بيقين وعلى هذا القياس وإن كان فيهن أربع كتابيات ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي القاسم الداركي أنه لا يوقف شيء لأنه لا يوقف إلا ما يتحقق استحقاقه ويجهل مستحقه وههنا لا يتحقق الاستحقاق لجواز أن تكون الزوجات الكتابيات فلا يرثن والثاني يوقف لأنه لا يجوز أن يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق أنهم يستحقونه ويجوز أن تكون المسلمات زوجاته فلا يكون الجميع لباقي الورثة.(2/457)
فصل: وإن أسلم وتحته أختان أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه لزمه أن يختار إحداهما لما روي أن ابن الديلمي أسلم وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى" وإن أسلم وتحته أم وبنت وأسلمتا معه لم يخل إما أن لا يكون قد دخل بواحدة منهما أو دخل بهما أو دخل بالأم دون البنت أو بالبنت دون الأم فإن لم يكن دخل بواحدة منهما ففيه قولان: أحدهما يمسك البنت وتحرم الأم وهو اختيار المزني لأن النكاح في الشرك كالنكاح الصحيح بدليل أنه يقر عليه والأم تحرم بالعقد على البنت وقد وجد العقد والبنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم ولم يوجد الدخول والقول الثاني وهو الصحيح أنه يختار من شاء منهما لأن عقد الشرك إنما تثبت له الصحة إذا انضم إليه الاختيار فإذا لم ينضم إليه الاختيار فهو كالمعدوم ولهذا لو أسلم وعنده أختان واختار إحداهما جعل كأنه عقد عليهما ولم يعقد على الأخرى فإذا اختار الأم صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على البنت وإذا اختار البنت صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على الأم فعلى هذا إذا اختار البنت حرمت الأم على التأبيد لأنها أم امرأته وإن اختار الأم حرمت البنت تحريم جمع لأنها بنت امرأة لم يدخل بها وإن دخل بها حرمت البنت بدخوله بالأم وأما الأم فإن قلنا إنها تحرم بالعقد على البنت حرمت لعلتين بالعقد على البنت وبالدخول بها وإن قلنا إنها لا تحرم بالعقد حرمت بعلة وهي الدخول وإن دخل بالأم دون البنت فإن قلنا إن الأم تحرم بالعقد على البنت حرمت الأم بالعقد على البنت وحرمت البنت بالدخول بالأم وإن قلنا إن الأم لا تحرم بالعقد على البنت حرمت بالبنت بالدخول بالأم وثبت نكاح الأم وإن دخل بالبنت دون الأم ثبت نكاح البنت وانفسخ نكاح الأم وحرمت في أحد القولين بالعقد وبالدخول وفي القول الآخر بالدخول.
فصل: وإن أسلم وتحته أربع إماء فأسلمن معه فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة اختار واحدة منهن لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها فجاز له اختيارها كالحرة وإن كن ممن لا يحل له نكاح الأمة لم يجز أن يمسك واحدة منهن وقال أبو ثور: يجوز لأنه ليس بابتداء النكاح فلا يعتبر فيه عدم الطول وخوف العنت كالرجعة وهذا خطأ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها فلا يجوز له اختيارها كالأم والأخت ويخالف الرجعة لأن الرجعة سد ثلمة في النكاح والاختيار إثبات النكاح في المرأة فصار كابتداء العقد وإن أسلم وتحته إماء وهو موسر فلم يسلمن حتى أعسر ثم أسلمن فله أن يختار واحدة منهن لأن وقت الاختيار عند اجتماع إسلامه وإسلامهن وهو في هذا الحال ممن يجوز له نكاح الأمة فكان له اختيارها(2/458)
وإن أسلم بعضهن وهو موسر وأسلم بعضهن وهو معسر فله أن يختار من اجتمع إسلامه وإسلامها وهو معسر ولا يختار من اجتمع إسلامه وإسلامها وهو موسر اعتباراً بوقت الاختيار.
فصل: وإن أسلم وعنده أربع إماء فأسلمت منهن واحدة وهو ممن يجوز له نكاح الإماء فله أن يختار المسلمة وله أن ينتظر إسلام البواقي ليختار من شاء منهن فإن اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك لأن الفسخ إنما يكون فيمن فضل عمن يلزم نكاحها وليس ههنا فضل فإن خالف وفسخ ولم يسلم البواقي لزم نكاح المسلمة وبطل الفسخ وإن أسلمن فله أن يختار واحدة فإن اختار نكاح المسلمة التي اختار فسخ نكاحها ففيه وجهان: أحدهما ليس له ذلك لأنا منعنا الفسخ فيها لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزم فيها النكاح وبإسلام غيرها صارت فاضلة عمن يلزم نكاحها فثبت فيها الفسخ والثاني وهو المذهب أن له أن يختار نكاحها لأن اختيار الفسخ كان قبل وقته فكان وجوده كعدمه كما لو اختار نكاح مشركة قبل إسلامها.
فصل: وإن أسلم وعنده حرة وأمة وأسلمتا معه ثبت نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاح الأمة مع وجود حرة فلا يجوز أن يختارها فإن أسلم وأسلمت الأمة معه وتخلفت الحرة فإن أسلمت قبل انقضاء العدة ثبت نكاحها وبطل نكاح الأمة كما لو أسلمتا معاً وإن انقضت العدة ولم تسلم بانت باختلاف الدين فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة فله أن يمسكها.
فصل: وإن أسلم عبد وتحته أربع فأسلمن معه لزمه أن يختار اثنتين فإن أعتق بعد إسلامه وإسلامهن لم تجز له الزيادة على اثنتين لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد وإن أسلم وأعتق ثم أسلمن أو أسلمن وأعتق ثم أسلم لزم نكاح الأربع لأنه جاء وقت الاختيار وهو ممن يجوز له أن ينكح أربع نسوة.
فصل: وإن تزوج امرأة معتدة من غيره وأسلما فإن كان قبل انقضاء العدة لم يقرا على النكاح لأنه لا يجوز له أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز إقراره على نكاحها وإن كان بعد انقضاء العدة أقرا عليه لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها وإن أسلما وبينهما نكاح متعة لم يقرا عليه لأنه إن كان بعد انقضاء المدة لم يبق النكاح وإن كان قبله لم يعتقدا تأبيده(2/459)
والنكاح عقد مؤبد وإن أسلما على نكاح شرط فيه الخيار لهما أو لأحدهما متى شاء لم يقرا عليه لأنهما لا يعتقدان لزومه والنكاح عقد لازم وإن أسلما على نكاح شرط فيه خيار ثلاثة أيام فإن كان قبل انقضاء المدة لم يقرا عليه لأنهما لا يعتقدان لزومه وإن كان بعد انقضاء المدة أقرا عليه لأنهما يعتقدان لزومه وإن طلق المشرك امرأته ثلاثاً ثم تزوجها قبل زوج ثم أسلما لم يقرا عليه لأنه لا تحل له قبل زوج فلم يقرا عليه كما لو أسلم وعنده ذات رحم محرم وإن قهر حربي حربية ثم أسلما فإن اعتقدا ذلك نكاحاً أقرا عليه لأنه نكاح لهم فيمن يجوز ابتداء نكاحها فأقرا عليه كالنكاح بلا ولي ولا شهود وإن لم يعتقدا ذلك نكاحاً لم يقرا عليه لأنه ليس بنكاح.
فصل: إذا ارتد الزوجان أو أحدهما فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة وإن كان بعد الدخول وقعت الفرقة على انقضاء العدة فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة فهما على النكاح وإن لم يجتمعا وقعت الفرقة لأنه انتقال من دين إلى دين يمنع ابتداء النكاح فكان حكمه كما لو أسلم أحد الوثنيين.
فصل: وإن انتقل الكتابي إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقر عليه لأنه لو كان على هذا الدين في الأصل لم يقر عليه فكذلك إذا انتقل إليه وما الذي يقبل منه فيه ثلاثة أقوال: أحدها يقبل منه الإسلام أو الدين الذي كان عليه أو دين يقر عليه أهله لأن كل واحد من ذلك مما يجوز الإقرار عليه والثاني لا يقبل منه إلا الإسلام لأنه دين حق أو الدين الذي كان عليه لأنا أقررناه عليه والثالث لا يقبل منه إلا الإسلام وهو الصحيح لأنه اعترف ببطلان كل دين سوى دينه ثم بالانتقال عنه اعترف ببطلانه فلم يبق إلا الإسلام وإن انتقل الكتابي إلى دين يقر أهله عليه ففيه قولان: أحدهما يقر عليه لأنه دين يقر أهله عليه فأقر عليه كالإسلام والثاني لا يقر عليه لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فعلى هذا فيما يقبل منه قولان: أحدهما يقبل منه الإسلام أو الدين الذي كان عليه والثاني لا يقبل منه إلا الإسلام لما ذكرناه وكل من انتقل من الكفار إلى دين لا يقر عليه فحكمه في بطلان نكاحه حكم المسلم إذا ارتد.
فصل: وإن تزوج كتابي وثنية ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبو سعيد الاصطخري أنه لا يقر عليه لأن كل نكاح لم يقر عليه المسلم لم يقر عليه الذمي كنكاح المرتدة والثاني وهو المذهب أنه يقر عليه لأن كل نكاح أقر عليه بعد الإسلام أقر عليه قبله كنكاح الكتابية.
فصل: إذا أسلم الوثنيان قبل الدخول ثم اختلفا فقالت المرأة أسلم أحدنا قبل(2/460)
صاحبه فانفسخ النكاح وقال الزوج بل أسلمنا معاً فالنكاح على حاله ففيه قولان: أحدهما أن القول قول الزوج وهو اختيار المزني لأن الأصل بقاء النكاح والثاني أن القول قول المرأة لأن الظاهر معها فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر متعذر قال في الأم: إذا أقام الزوج بينة أنهما أسلما حين طلعت الشمس أو حين غربت الشمس لم ينفسخ النكاح لاتفاق إسلامهما في وقت واحد وهو عند تكامل الطلوع أو الغروب فإن أقام البينة أنهما أسلما حال طلوع الشمس أو حال غروبها انفسخ نكاحهما لأن حال الطلوع والغروب من حين يبتدئ بالطلوع والغروب إلى أن يتكامل وذلك مجهول وإن أسلم الوثنيان بعد الدخول واختلفا فقال الزوج أسلمت قبل انقضاء عدتك فالنكاح باق وقالت المرأة بل أسلمت بعد اقضاء عدتي فلا نكاح بيننا فقد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أن القول قول الزوج ونص في مسألتين على أن القول قول الزوجة: إحداهما إذا قال الزوج للرجعية راجعتك قبل انقضاء العدة فنحن على النكاح وقالت الزوجة بل راجعتني بعد انقضاء العدة فالقول قول الزوجة والثانية إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم فقال: أسلمت قبل انقضاء العدة فالنكاح باق وقالت المرأة بل أسلمت بعد انقضاء العدة فالقول قول المرأة ومن أصحابنا من نقل جواب بعضها إلى بعض وجعل في المسائل كلها قولين أحدهما أن القول قول الزوج لأن الأصل بقاء النكاح والثاني أن القول قول الزوجة لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة ومنهم من قال هي على اختلاف حالين فالذي قال إن القول قول الزوج إذا سبق بالدعوى وإذا قال القول قول الزوجة إذا سبقت بالدعوى لأن قول كل واحد منهما مقبول فيما سبق إليه فلا يجوز إبطاله بقول غيره ومنهم من قال هي على اختلاف حالين على وجه آخر فالذي قال القول قول الزوج أراد إذا اتفقا على صدقه في زمان ما ادعاه لنفسه بأن قال: أسلمت وراجعت في رمضان فقالت المرأة صدقت لكن انقضت عدتي في شعبان فالقول قول الزوج باتفاقهما على الإسلام بالرجعة في رمضان واختلافهما في انقضاء العدة والذي قال القول قول المرأة إذا اتفقا على صدقهما في زمان ما ادعته لنفسه بأن قالت انقضت عدتي في شهر رمضان فقال الزوج لكن راجعت أو أسلمت في شعبان فالقول قول المرأة لاتفاقهما على انقضاء العدة في رمضان واختلافهما في الرجعة والإسلام.(2/461)
كتاب الصداق
مدخل
...
كتاب الصداق
المستحب أن لا يعقد النكاح إلا بصداق لما روى سعد بن سهل رضي الله عنه أن امرأة قالت: قد وهبت نفسي لك يا رسول الله صلى الله عليك قر في رأيك فقال رجل: زوجنيها قال: "أطلب ولو خاتماً من حديد" فذهب فلم يجئ بشيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء" فقال: نعم فزوجه بما معه من القرآن ولأن ذلك أقطع للخصومة ويجوز من غير صداق لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فأثبت الطلاق مع عدم الرفض وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "إني أزوجك فلانة" قال: نعم قال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلاناً؟ " قالت: نعم فزوج أحدهما من صاحبه فدخل عليها ولم يفرض لها به صداق فلما حضرته الوفاة قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر فأخذت سهمه فباعته بمائة ألف ولأن القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق فصح من غير صداق.
فصل: ويجوز أن يكون الصداق قليلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اطلب ولو خاتماً من حديد" ولأنه بدل منفعتها فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها ويجوز أن يكون كبيراً لقوله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء: 20] قال معاذ رضي الله عنه: القنطار ألف ومائتا أوقية وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ملء مسك ثور ذهباً والمستحب أن يخفف لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة1" ولأنه إذا كبر أجحف وأضر ودعا إلى المقت والمستحب أن لا يزيد على خمسمائة درهم لما روى روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا أتدرون ما النش نصف أوقية وذلك خمسمائة درهم والمستحق الاقتداء به والتبرك بمتابعته فإن ذكر صداق في السر وصداق في العلانية فالواجب ما عقد به العقد لأن الصداق يجب بالعقد فوجب ما عقد به وإن قال: زوجتك
__________
1 رواه أحمد في مسنده "6/82، 145".(2/462)
ابنتي بألف وقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة وجب مهر المثل لأن الزوج لم يقبل بألف والوالي لم يوجب بخمسمائة فسقط الجميع ووجب مهر المثل.
فصل: ويجوز أن يكون الصداق ديناً وعيناً وحالاً ومؤجلاً لأنه عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه كالإجازة.
فصل: ويجوز أن يكون منفعة كالخدمة وتعليم القرآن وغيرهما من المنافع المباحة لقوله عز وجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجعل الرعي صداقا وزوج النبي صلى الله عليه وسلم الواهبة من الذي خطبها بما معه من القرآن ولا يجوز أن يكون محرماً كالخمر وتعليم التوراة وتعليم القرآن للذمية لا تتعلمه للرغبة في الإسلام ولا ما فيه غرر كالمعدوم والمجهول وما لم يتم ملكه عليه كالمبيع فبل القبض ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والطير الطائر لأنه عوض في عقد فلا يجوز بما ذكرناه كالعوض في البيع والإجارة فإن تزوج على شيء من ذلك لم يبطل النكاح لأن فساده ليس أكثر من عدمه فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده ويجب مهر المثل لأنها لم ترضى من غير بدل ولم يسلم لها البدل وتعذر رد المعوض فوجب رد بدله كما لو باع سلعة بمحرم وتلفت بيد المشتري.
فصل: فإن تزوج كافر بكافرة على محرم كالخمر والخنزير ثم أسلما أو تحاكما إلينا قبل الإسلام نظرت فإن كان قبل القبض سقط المسمى ووجب مهر المثل لأنه لا يمكن إجباره على تسليم المحرم وإن كان بعد القبض برئت ذمته منه كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا وإن قبض البعض برئت ذمته من المقبوض ووجب بقدر ما بقي من مهر المثل فإن كان الصداق عشرة أزقاق خمر فقبضت منها خمسة ففيه وجهان: أحدهما يعتبر بالعدد فيبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل لأنه لا قيمة لها فكان الجميع واحداً فيها فسقط نصف الصداق ويجب نصف مهر المثل والثاني يعتبر بالكيل لأنه أحصر وإن أصدقها عشرة من الخنازير وقبضت منها خمسة ففيه وجهان: أحدهما يعتبر بالعدد فتبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل لأنه لا قيمة لها فكان الجميع واحداً والثاني يعتبر بما له قيمة وهو الغنم لو كانت غنماً كم كانت قيمة ما قبض منها فيبرأ منه بقدره ويجب بحصة ما بقي من مهر المثل لأنه لما لم تكن له قيمة اعتبر بما له قيمة كما يعتبر الحر بالعبد فيما ليس له أرش مقدر من الجنايات.(2/463)
فصل: وإن أعتق رجل على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها وقبلت لم يلزمها أن تتزوج به لأنه سلف في عقد فلم يلزم كما لو قال لامرأة خذي هذا الألف على أن تتزوجي بي وتعتق الأمة لأنه أعتقها على شرط باطل فسقط الشرط وثبت العتق كما لو قال لعبده: إن ضمنت لي خمراً فأنت حر فضمن ويرجع عليها بقيمتها لأنه لم يرض في عتقها إلا بعوض ولم يسلم له فتعذر الرجوع إليها فوجبت قيمتها كما لو باع عبداً بعوض محرم وتلف العبد في يد المشتري وإن تزوجها بعد العتق على قيمتها وهما لا يعلمان قدرها فالمهر فاسد وقال أبو علي بن خيران: يصح كما لو تزوجها على عبد لا يعلمان قيمته وهذا خطأ لأن المهر هناك هو العبد وهو معلوم والمهر ههنا هو القيمة وهي مجهولة فلم يجز وإن أراد حياة يقع بها العتق وتتزوج به ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن خيران أنه يملك ذلك بأن يقول إن كان في معلوم الله تعالى إني إذا أعتقتك تزوجت بي فأنت حرة فإذا تزوجت به علمنا أنه قد وجد شرط العتق وإن لم تتزوج به علمنا أنه لم يوجد شرط العتق والثاني هو قول أكثر أصحابنا أنه لا يصح ذلك ولا يقع العتق ولا يصح النكاح لأنه حال ما تتزوج به نشك أنها حرة أو أمة والنكاح مع الشك لا يصح فإذا لم يصح النكاح لم تعتق لأنه لم يوجد شرط العتق وإن أعتقت امرأة عبداً على أن يتزوج بها وقبل العبد ولا يلزمه أن يتزوج بها لما ذكرناه في الأمة ولا يلزمه قيمته لأن النكاح حق للعبد فيصير كما لو أعتقته بشرط أن تعطيه مع العتق شيئاً آخر ويخاف الأمة فإن نكاحها حق للمولى فإذا لم يسلم له رجع عليها بقيمتها وإن قال رجل لآخر أعتق عبدك عن نفسك على أن أزوجك ابنتي فأعتقه لم يلزمه التزويج لما ذكرناه وهل تلزمه قيمة العبد فيه وجهان بناء على القولين فيمن قال لغيره أعتق عبدك عن نفسك وعلى ألف فأعتقه لم يلزمه التزويج لما ذكرناه وهل تلزمه قيمة العبد فيه وجهان بناء على القولين فيمن قال لغيره أعتق عبدك عن نفسك وعلى ألف فأعتقه أحدهما يلزمه كما لو قال أعتق عبدك عني على ألف والثاني لا يلزمه لأنه بذل العوض على ما لا منفعة له فيه.
فصل: ويثبت بالصداق خيار الرد بالعيب لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب فثبت فيه خيار الرد كالعوض في البيع ولا يثبت فيه خيار الشرط ولا خيار المجلس لأنه أحد عوضي النكاح فلم يثبت فيه خيار الشرط وخيار المجلس كالبضع ولأن خيار الشرط وخيار المجلس جعلا لدفع الغبن والصداق لم يبن على المغابنة فإن شرط فيه خيار الشرط فقد قال الشافعي رحمه الله: يبطل النكاح فمن أصحابنا من جعله قولاً لأنه أحد عوضي النكاح فبطل النكاح بشرط الخيار فيه كالبضع ومنهم من قال: لا يبطل وهو(2/464)
الصحيح كما لا يبطل إذا جعل المهر خمراً أو خنزيراً وما قال الشافعي رحمه الله محمول على ما إذا شرط في المهر والنكاح ويجب مهر المثل لأن شرط الخيار لا يكون إلا بزيادة جزء أو نقصان جزء فإذا سقط الشرط وجب إسقاط ما في مقابلته فيصير الباقي مجهولاً فوجب مهر المثل وإن تزوجها بألف على أن لا يتسرى عليها أو لا يتزوج عليها بطل الصداق لأنه شرط باطل أضيف إلى الصداق فأبطله ويجب مهر المثل لما ذكرناه في شرط الخيار.
فصل: وتملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحاً ومهر المثل إن كان فاسداً لأنه عقد يملك المعوض فيه بالعقد فملك العوض فيه بالعقد كالبيع وإن كانت المنكوحة صغيرة أو غير رشيدة سلم المهر إلى من ينظر في مالها وإن كانت بالغة رشيدة وجب تسليمه إليها ومن أصحابنا من خرج في البكر البالغة قولاً آخر أنه يجوز أن يدفع إليها أو إلى أبيها وجدها لأنه يجوز إجبارها على النكاح فجاز للولي قبض صداقها بغير إذنها كالصغيرة فإن قال الزوج لا أسلم الصداق حتى تسلم نفسها فقال المرأة لا أسلم نفسي حتى أقبض الصداق ففيه قولان: أحدهما لا يجبر واحد منهما بل يقال: من سلم منكما أجبرنا الآخر والثاني يؤمر الزوج بتسليم الصداق إلى عدل وتؤمر المرأة بتسليم نفسها فإذا سلمت نفسها أمر العدل بدفع الصداق إليها كالقولين فيمن باع سلعة بثمن معين وقد بينا القولين في البيوع فإذا قلنا بالقول الأول لم تجب لها النفقة في حال امتناعها لأنها ممتنعة بغير حق وإن قلنا بالقول الثاني وجبت لها النفقة لأنها ممتنعة بحق وإن تبرعت وسلمت نفسها ووطئها الزوج أجبر على دفع الصداق وسقط حقها من الامتناع لأن الوطء استقر لها جميع البدل فسقط حق المنع كالبائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن.
فصل: فإن كان الصداق عيناً لم تملك التصرف فيه قبل القبض كالمبيع وإن كان ديناً فعلى القولين في الثمن وإن كان عيناً فهلكت قبل القبض هلك من ضمان الزوج كما يهلك المبيع قبل القبض من ضمان البائع وهل ترجع إلى مهر المثل أو إلى بدل العين ففيه قولان قال في القديم ترجع إلى بدل العين لأنه عين يجب تسليمها لا يسقط الحق بتلفها فوجب الرجوع إلى بدلها كالمغصوب فعلى هذا إن كان مما له مثل وجب مثله وإن لم يكن له مثل وجبت قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى أن تلف كالمغصوب ومن أصحابنا من قال: تجب قيمته يوم التلف لأنه وقت الفوات والصحيح هو الأول لأن هذا يبطل بالمغصوب وقال في الجديد: ترجع إلى مهر المثل لأنه عوض معين تلف قبل(2/465)
القبض وتعذر الرجوع إلى المعوض فوجب الرجوع إلى بدل المعوض كما لو اشترى ثوباً بعبد فقبض الثوب ولم يسلم العبد وتلف عنده فإنه يجب قيمة الثوب وإن قبضت الصداق ووجدت به عيباً فردته أو خرج مستحقاً رجعت في قوله القديم إلى بدله وفي قوله الجديد إلى مهر المثل وإن كان الصداق تعليم سورة من القرآن فتعلمت من غيره أو لم تتعلم لسوء حفظها فهو كالعين إذا تلفت فترجع في قوله القديم إلى أجرة المثل وفي قوله الجديد إلى مهر المثل.
فصل: ويستقر الصداق بالوطء في الفرج لقوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} وفسر الإفضاء بالجماع وهل يستقر بالوطء في الدبر فيه وجهان: أحدهما يستقر لأنه موضعي يجب بالإيلاح فيه الحد فأشبه الفرج والثاني لا يستقر لأن المهر في مقابلة ما يملك بالعقد والوطء في الدبر غير مملوك فلم يستقر به المهر ويستقر بالموت قبل الدخول وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة لا يستقر بموتها لأنها كالسلعة تباع وتبتاع والسلعة المبيعة إذا تلفت قبل التسليم سقط الثمن فكذلك إذا ماتت الأمة وجب أن يسقط المهر والمذهب أن يستقر لأن النكاح إلى الموات فإذا ماتت انتهى النكاح فاستقر البدل كالإجارة إذا انقضت مدتها واختلف قوله في الخلوة فقال في القديم تقرر المهر لأنه عقد على المنفعة فكان التمكين فيه كالاستيفاء في تقرر البدل كالإجارة وقال في الجديد: لا تقرر لأنها خلوة فلا تقرر المهر كالخلوة في غير النكاح.
فصل: وإن وقعت فرقة بعد الدخول لم يسقط من الصداق شيء لأنه استقر فلم يسقط فإن أصدقها سورة من القرآن وطلقها بعد الدخول وقبل أن يعلمها ففيه وجهان: أحدهما يعلمها من وراء حجاب كما يستمع منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني لا يجوز أن يعلمها لأنه لا يؤمن الافتتان بها ويخالف الحديث فإنه ليس له بدل فلو منعناه من سماعه منها أدى إلى إضاعته وفي الصداق لا يؤدي إلى إبطاله لأن في قوله الجديد ترجع إلى مهر المثل وفي قوله القديم ترجع إلى أجرة التعليم وإن وقعت الفرقة قبل الدخول نظرت فإن كانت بسبب من جهة المرأة بأن أسلمت أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ النكاح برضاعه سقط مهرها لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم فسقط البد كالبائع إذا أتلف المبيع قبل التسليم وإن كانت بسبب من جهته نظرت فإن كانت بطلاق سقط نصف(2/466)
المسمى لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وإن بإسلامه أو بردته سقط نصفه لأنه فرق انفرد الزوج بسببها قبل الدخول فتنصف بها المهر كالطلاق وإن كان بسبب منها نظرت فإن بخلع سقط نصفه لأن المغلب في الخلع جهة الزوج بدليل أنه يصح الخلع به دونهما وهو إذا خالع مع أجنبي فسار كما لو انفرد به وإن كان بردة منها ففيه وجهان: أحدهما يسقط نصفه لأن حال الزوج في النكاح أقوى فسقط نسفه كما لو ارتد وحده والثاني يسقط الجميع لأن المغلب في المهر جهة المرأة لأن المهر لها فسقط جميعه كما لو انفردت بالردة فإن اشترت المرأة زوجها قبل الدخول ففيه وجهان: أحدهما يسقط النصف لأنه البيع تم بالزوجة والسيد وهو قائم مقام الزوج فصار كالفرقة الواقعة بالخلع والثاني يسقط جميع المهر لأن البيع تم بها دون الزوج فسقط جميع المهر كما لو أرضعت من يفسخ النكاح برضاعه.
فصل: وإن قتلت المرأة نفسها فالمنصوص أنه لا يسقط مهرها وقال في الأمة: إذا قتلت نفسها أو قتلها مولاها أنه يسقط مهرها فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما يسقط المهر لأنها فرقة حصلت من جهتها قبل الدخول فسقط بها المهر كما لو ارتدت والثاني لا يسقط وهو اختير المزني وهو الصحيح لأنها فرقة حصلت بانقضاء الأجل وانتهاء النكاح فلا يسقط بها المهر كما لو ماتت وقال أبو إسحاق: لا يسقط في الحرة ويسقط في الأمة على ما نص عليه لأن الحرة كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا يملك منعها من السفر والأمة لا تصير كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا لا يملك منعها من السفر مع المولى وإن قتلها الزوج استقر مهرها لأن إتلاف الزوج كالقبض كما أن إتلاف المشتري للمبيع في يد البائع كالقبض في تقرير الثمن.
فصل: ومتى ثبت الرجوع في النصف لم يخل إما أن يكون الصداق تالفاً أو باقياً فإن كان تالفاً فإن كان مما له مثل رجع بنصف مثله وإن لم يكن له مثل رجع بقيمة نصفه أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض لأنه إن كانت قيمته يوم العقد أقل ثم زادت كانت الزيادة في ملكها فلم يرجع بنصفها وإن كانت قيمته يوم العقد أكثر ثم نقص كان النقصان مضموناً عليه فلم يرجع بما هو مضمون عليه وإن كان باقياً لم يخل إما أن يكون باقياً على حالته أو زائداً أو ناقصاً أو زائداً من وجه ناقصاً من وجه فإن كان على حالته رجع في نصفه ومتى يملك فيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا يملك(2/467)
إلا باختيار التملك لأن الإنسان لا يملك شيئاً بغير اختياره إلا الميراث فعلى هذا إن حدثت منه زيادة قبل الاختيار كانت لها الثاني وهو المنصوص أنه يملك بنفس الفرقة لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فعلق استحقاق النصف بالطلاق فعلى هذا إن حدثت منه زيادة كانت بينهما وإن طلقها والصداق زائد نظرت فإن كانت زيادة متميزة كالثمرة والنتاج واللبن رجع بنصف الأصل وكانت الزيادة لها لأنها زيادة متميزة حدثت في ملكها فلم تتبع الأصل في الرد كما قلنا في الرد بالعيب في البيع وإن كانت الزيادة غير متميزة كالسمن وتعليم الصنعة فالمرأة بالخيار بين أن تدفع النصف بزيادته وبين أن تدفع قيمة النصف فإن دفعت النصف أجبر الزوج على أخذه لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز وإن دفعت قيمة النصف أجبر على أخذها لأن حقه في نصف المفروض والزائد غير المفروض فوجب أخذ البدل وإن كانت المرأة مفلسة ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يجوز للزوج أن يرجع بنصف العين مع الزيادة لأنه لا يصل إلى حقه من البدل فرجع بالعين مع الزيادة كما يرجع البائع في المبيع مع الزيادة عند إفلاس المشتري والثاني وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يرجع لأنه ليس من جهة المرأة تفريط فلا يؤخذ منها ما زاد في ملكها بغير رضاها ويخالف إذا أفلس المشتري فإن المشتري فرط في حبس الثمن إلى إن أفلس فرجع البائع في العين مع الزيادة فإن كان الصداق نخلاً وعليها طلع غير مؤبر فبذلت المرأة نصفها مع الطلع ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر الزوج على أخذها لأنها هبة فلا يجبر على قبولها والثاني يجبر وهو المنصوص لأنه نماء غير متميز فأجبر على أخذها كالسمن وإن بذلت نصف النخل دون الثمرة لم يجبر الزوج على أخذها وقال المزني يلزمنه أن يرجع فيه وعليه ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ كما يلزم المشتري ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ وهذا خطأ لأنه قد صار حقه في القيمة فلا يجبر على أخذ العين ولأن عليه ضرراً في ترك الثمرة على نخله فلم يجبر ويخالف المشتري فإن دخل في العقد عن تراض فأقرا على ما تراضيا عليه فإن طلب الزوج الرجوع بنصف النخل وترك الثمرة إلى أوان الجذاذ ففيه وجهان: أحدهما لا تجبر المرأة لأنه صار حقه في القيمة والثاني تجبر عليه لأن الضرر زال عنها ورضي الزوج بما يدخل عليه من الضرر وإن طلقا والصداق ناقص بأن كان عبداً فعمي أو مرض فالزوج بالخيار بين أن يرجع بنصفه ناقصاً وبين أن يأخذ قيمة النصف فإن رجع في النصف أجبرت المرأة على دفعه لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن طلب القيمة أجبرت على الدفع لأن الناقص دون حقه وإن طلقها والصداق زائد من(2/468)
وجه ناقص من وجه بأن كان عبداً فتعلم صنعة ومرض فإن تراضيا على أخذ نصفه جاز لأن الحق لهما وإن امتنع الزوج من أخذه لم يجبر عليه لنقصانه وإن امتنعت المرأة من دفعه لم تجبر عليه لزيادته وإن كان الصداق جارية فحبلت فهي كالعبد إذا تعلم صنعة ومرض لأن الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر لأنه يخاف منه عليها فكان حكمه حكم العبد وإن كان بهيمة فحملت ففيه وجهان: أحدهما أن المرأة بالخيار بين أن تسلم النصف مع الحمل وبين أن تدفع القيمة لأنه زيادة من غير نقص لأن الحمل لا يخاف منه على البهيمة والثاني وهو ظاهر النص أنه كالجارية لأنه زيادة من وجه ونقصان من وجه فإن ينقص به اللحم فيما يؤكل ويمنع من الحمل عليه فيما يحمل فكان كالجارية وإن باعته ثم رجع إليها ثم طلقها الزوج رجع بنصفه لأنه يمكن الرجوع إلى عين ماله فلم يرجع إلى القيمة وإن وصت به أو وهبته ولم يقبض ثم طلقها رجع بنصفه لأنه باق على ملكها وتصرفها وإن كاتبته أو وهبته وأقبضته ثم طلقها رجع بنصفه لأنه باق على ملكها وتصرفها وإن كاتبته أو وهبته وأقبضته ثم طلقها فقد روى المزني أنه يرجع فمن أصحابنا من قال يرجع لأنه باق على ملكها ومنهم من قال أنه لا يرجع لأنه لا يملك نقض تصرفها ومنهم من قال فيه قولان: إن قلنا أن التدبير وصية فله الرجوع وإن قلنا أنه عتق بصفة رجع بنصف قيمته.
فصل: وإن كان الصداق عيناً فوهبته من الزوج ثم طلقها قبل الدخول ففيه قولان: أحدهما لا يرجع عليها وهو اختير المزني لأن النصف تعجل له بالهبة والثاني يرجع وهو الصحيح لأنه عاد إليه بغير الطلاق فلم يسقط حقه من النصف بالطلاق كما لو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه وإن كان ديناً فأبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول فإن قلنا أنه لا يرجع في الهبة لم يرجع في الإبراء وإن قلنا يرجع في الهبة ففي الإبراء وجهان: أحدهما يرجع كما يرجع في الهبة والثاني لا يرجع لأن الإبراء إسقاط لا يفتقر إلى القبول والهبة تمليك تفتقر إلى القبول فإن أصدقها عيناً فوهبتها منه ثم ارتدت قبل الدخول فهل يرجع بالجميع فيه قولان لأن الرجوع بالجميع في الردة كالرجوع بالنصف في الطلاق وإن اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن ووهب البائع الثمن منه ثم وجد بالسلعة عيباً ففي ردها والرجوع بالثمن وجهان بناء على القولين فإن وجد به عيباً وحدث به عند عيب آخر فهل يرجع بالأرش فيه وجهان بناء على القولين: وإن اشترى سلعة ووهبها من البائع ثم أفلس المشتري فللبائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن قولاً واحداً لأن حقه في الثمن ولم يرجع إليه الثمن.(2/469)
فصل: إذا طلقت المرأة قبل الدخول ووجب لها نصف المهر جاز للذي بيده عقدة النكاح أن يعفو عن النصف لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وفيمن بيده عقد النكاح قولان قال في القديم: هو الولي فيعفو عن النصف الذي لها لأن الله تعالى خاطب الأزواج فقال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ولو كان الزوج لقال: إلا أن يعفون أو تعفو لأنه تقدم ذكر الأزواج وخاطبهم بخطاب الحاضر فلما عدل عن خطابهم دل على أن الذي بيده عقدة النكاح غير الزوج فوجب أن يكون هو الولي وقال في الجديد: هو الزوج فيعفو عن النصف الذي وجب له بالطلاق فأما الولي فلا يملك العفو لأنه حق لها فلا يمللك العفو عنه كسائر ديونها وأما الآية فتحتمل أن يكون المراد به هو الأزواج فخاطبهم بخطاب الحاضر ثم خاطبهم بخطاب الغائب كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] فإذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي لم يصح العفو منه إلا بخمسة شروط: أحدهما أن يكون أباً أو جداً لأنهما لا يتهمان فيما يريان من حظ الولد ومن سواهما متهم والثاني أن تكون المنكوحة بكراً فأما الثيب لا يجوز العفو عن مالها لأنه لا يملك الولي تزويجها والثالث أن يكون العفو بعد الطلاق وأما قبله فلا يجوز لأنه لا حظ لها في العفو قبل الطلاق لأن البضع معرض للتلف فإذا عفا ربما دخل بها فتلفت منفعة بضعها من غير بدل والرابع أن يكون قبل الدخول فأما بعد الدخول فقد أتلف بضعها فلم يجز إسقاط بدله والخامس أن تكون صغيرة أو مجنونة فأما البالغة الرشيدة فلا يملك العفو عن مهرها لأنه لا ولاية عليها في المال.
فصل: وإن فوضت بضعها بأن تزوجت وسكت عن المهر أو تزوجت على أن لا مهر لها ففيه قولان: أحدهما لا يجب لها مهر بالعقد وهو الصحيح لأنه لو وجب لها المهر بالعقد لتنصف بالطلاق والثاني يجب لأنه لو لم يجب لم استقر بالدخول ولها أن تطالب بالفرض لأن إخلاء العقد عن المهر خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قلنا يجب بالعقد فرض لها مهر المثل لأن البضع كالمستهلك فضمن بقيمته كالسلعة المستهلكة في يد المشتري ببيع فاسد وإن قلنا لا يجب لها المهر بالعقد فرض لها ما يتفقان عليه لأنه ابتداء إيجاب فكان إليهما كالفرض في العقد ومتى فرض لها مهر المثل أو ما يتفقان عليه صار ذلك كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت والتنصف بالطلاق لأنه مهر مفروض(2/470)
فصار كالمفروض في العقد وإن لم يفرض لها حتى طلقها لم يجب لها شئ من المهر لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [النساء: 238] فدل على أنه إذا لم يفرض يجب النصف وإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل لأن الوطء في النكاح من غير مهر خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ماتا أو أحدهم قبل الفرض ففيه قولان: أحدهما لا يجب لها المهر لأنه مفوضة فارقت زوجها قبل الفرض والمسيس فلم يجب لها مهر كما لو طلقت والثاني يجب لها المهر لما روى علقمة قال أتى عبد الله في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يكن فرض لها شيئاً ولم يدخل بها فقال أقول فيها برأيي لها صداق نسائها وعليها العدة ولها بمثل ما قضيت ففرج بذلك ولأن الموت معنى يستقر به المسمى فاستقر به مهر المفوضة كالوطء وإن تزوجت على أن لا مهر لها في الحال ولا في الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن النكاح باطل لأن النكاح من غير مهر لم يكن إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصير كما لو نكح نكاحاً ليس له والثاني يصح لأنه يلغي قولها لا مهر لي في الثاني لأنه شرط باطل في الصداق فسقط وبقي العقد فعلى هذا يكون حكمه حكم القسم قبله.
فصل: ويعتبر مهر المثل بمهر نساء العصبات لحديث علقمة عن عبد الله وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن وأقربهن الأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام فإن لم يكن لها نساء عصبات اعتبر بأقرب النساء إليها من الأمهات والخالات لأنهن أقرب إليها فإن لم يكن لها أقارب اعتبر بنساء بلدها ثم بأقرب النساء شبهاً بها ويعتبر بمهر من هي على صفتها في الحسن والعقل والعفة واليسار لأنه قيمة متلف فاعتبر فيها الصفات التي يختلف بها العوض والمهر يختلف بهذه الصفات ويجب من نقد البلد كقيم المتلفات.
فصل: وإذا أعسر الرجل بالمهر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول لم يجز الفسخ لأن البضع صار كالمستهلك بالوطء فلم تفسخ بالإفلاس كالبيع بعد هلاك السلعة ومن أصحابنا من قال: إن كان قبل الدخول ثبت الفسخ وإن كان بعد الدخول ففيه قولان: أحدهما لا يثبت لها الفسخ لما ذكرناه والثاني يثبت لها الفسخ وهو الصحيح لأن البضع لا يتلف بوطء واحد فجاز الفسخ والرجوع إليه ولا يجوز الفسخ إلا بالحاكم لأنه مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب.(2/471)
فصل: إذا زوج الرجل أبنه الصغير وهو معسر ففيه قولان: قال في القديم يجب المهر على الأب لأنه لما زوجه مع العلم بوجوب المهر والإعسار كان ذلك رضا بالتزامه وقال في الجديد يجب على الابن وهو الصحيح لأن البضع له فكان المهر عليه.
فصل: وإن تزوج العبد بإذن المولى فإن كان مكتسباً وجب المهر والنفقة في كسبه لأنه لا يمكن إيجاب ذلك على المولى لأنه لم يضمن ولا في رقبة العبد لأنه وجب برضا من له الحق ولا يمكن إيجابه في ذمته لأنه في مقابلة الاستمتاع فلا يجوز تأخيره عنه فلم يبق إلا الكسب فتعلق به ولا يتعلق إلا بالكسب الحادث بعد العقد فإن كان المهر مؤجلاً تعلق بالكسب الحادث بعد حلوله لأن ما كسبه قبله للمولى ويلزم المولى تمكينه من الكسب بالنهار ومن الاستمتاع بالليل لأن إذنه في النكاح يقتضي ذلك فإن لم يكن مكتسباً وكان مأذوناً له بالتجارة فقد قال في الأم: يتعلق بما في يده فمن أصحابنا من حمله على ظاهره لأنه دين لزمه بعقد أذن فيه المولى فقضى مما في يده كدين التجارة ومن أصحابنا من قال: يتعلق بما يحصل من فضل المال لأن ما في يده للمولى فلا يتعلق به كما لا يتعلق بما في يده من الكسب وإنما يتعلق بما يحدث وحمل كلام الشافعي رحمه الله على ذلك وإن لم يكن مكتسباً ولا مأذوناً له بالتجارة ففيه قولان: أحدهما يتعلق بالمهر والنفقة بذمته يتبع به إذا أعتق لأنه دين لزمه برضا من له الحق فتعلق بذمته كدين القرض فعلى هذا للمرأة أن تفسخ إذا أرادت والثاني يجب في ذمة السيد لأنه لما أذن له في النكاح مع العلم بالحال صار ضامناً للمهر والنفقة وإن تزوج بغير إذن المولى ووطئ فقد قال في الجديد: يجب في ذمته يتبع به إذا أعتق لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته كدين القرض وقال في القديم يتعلق برقبته لأن الوطء كالجناية وإن أذن له بالنكاح فنكح نكاحاً فاسداً ففيه قولان: أحدهما أن الإذن يتضمن الصحيح والفاسد لأن الفاسد كالصحيح في المهر والعدة والنسب فعلى هذا حكمه حكم الصحيح وقد بيناه والثاني وهو الصحيح أنه لا يتضمن الفاسد لأن الإذن يقتضي عقداً يملك به فعلى هذا حكمه حكم ما لو تزوج بغير إذنه وقد بيناه.(2/472)
باب اختلاف الزوجين في الصداق
إذا اختلف الزوجان في قدر المهر أو في أجله تحالفا لأنه عقد معاوضة فجاز أن يثبت التحالف في قدر عوضه وأجله كالبيع وإذا تحالفا لم ينفسخ النكح لأن التحالف(2/472)
يوجب الجهل بالعوض والنكاح لا يبطل بجهالة العوض ويجب مهر المثل لأن المسمى سقط وتعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله كما لو تحالفا في الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشتري وقال أبو على بن خيران: إن زاد مهر المثل على ما تدعيه المرأة لم تجب الزيادة لأنها لم تدعيها وقد بينا فساد قوله في البيع وإن ماتا أو أحدهما قام الوارث مقام الميت لما ذكرناه في البيع فإن اختلف الزوج وولى الصغيرة في قدر المهر ففيه وجهان: أحدهما يحلف الزوج ويوقف يمين المنكوحة إلى أن تبلغ ولا يحلف الولي لأن الإنسان لا يحلف لإثبات الحق لغيره والثاني أنه يحلف وهو الصحيح لأنه باشر العقد فحلف كالوكيل في البيع فإن بلغت المنكوحة قبل التحالف لم يحلف الولي لأنه لا يقبل إقراره عليها فلم يحلف وهذا فيه نظر لأن الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره وإن ادعت المرأة أنها تزوجت به يوم السبت بعشرين ويوم الأحد بثلاثين وأنكر الزوج أحد العقدين وأقامت المرأة البينة على العقدين وادعت المهرين قضى لها لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم السبت ثم خالعها ثم تزوجها يوم الأحد فلزمه المهران.
فصل: وإن اختلفا في قبض المهر فادعاه الزوج وأنكرت المرأة فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض وبقاء المهر وإن كان الصداق تعليم سورة فادعى الزوج أنه علمها وأنكرت المرأة فإن كانت لا تحفظ السورة فالقول قولها لأن الأصل عدم التعليم وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما أن القول قولها لأن الأصل أنه لم يعلمها والثاني أن القول قوله لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره وإن دفع لها شيئاً وادعى أنه دفعه عن الصداق وادعت المرأة أنه هدية فإن اتفقا على أنه لم يتلفظ بشيء فالقول قوله من غير يمين لأن الهدية لم تصح بغير قول وإن اختلفا في اللفظ فادعى الزوج أنه قال هذا عن صداقك وادعت المرأة أنه قال هو هدية فالقول قول الزوج لأن الملك له فإذا اختلفا في انتقاله كان القول في الانتقال قوله كما لو دفع إلى رجل ثوباً فادعى أنه باعه وادعى القابض أنه وهبه له.
فصل: وإن اختلفا في الوطء فادعته المرأة وأنكر الزوج فالقول قوله لأن الأصل عدم الوطء فإن أتت بولد يلحقه نسبه ففي المهر قولان: أحدهما يجب لأن إلحاق النسب يقتضي وجود الوطء والثاني لا يجب لأن الولد يلحق بالإمكان والمهر لا يجب إلا بالوطء والأصل عدم الوطء.
فصل: وإن أسلم الزوجان قبل الدخول فادعت المرأة أنه سبقها بالإسلام فعليه نصف المهر وادعى الزوج أنها سبقته فلا مهر لها فالقول قول المرأة لأن الأصل بقاء(2/473)
المهر وإن اتفقا على أن أحدهما سبق ولا يعلم عين السابق منهما فإن كان المهر في يد الزوج لم يجز للمرأة أن تأخذ منه شيئاً لأنها تشك في الاستحقاق وإن كان في يد الزوجة رجع الزوج بنصفه لأنه يتيقن استحقاقه ولا يأخذ من النصف الآخر شيئاً لأنه شك في استحقاقه.
فصل: وإن أصدقها عيناً ثم طلقها قبل الدخول وقد حدث بالصداق عيب فقال الزوج حدث بعد ما إلي فعليك أرشه وقالت المرأة بل حدث قبل عوده إليك فلا يلزمني أرشه فالقول قول المرأة لأن الزوج يدعي وقوع الطلاق قبل النقص والأصل عدم الطلاق والمرأة تدعي حدوث النقص قبل الطلاق والأصل عدم النقص فتقابل الأمران فسقطا والأصل براءة ذمتها.
فصل: وإذا وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد لزمه المهر لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل" فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن أكرهها على الزنا وجب عليه المهر لأنه وطء سقط فيه الحد عن الموطوءة بشبه والواطئ من أهل الضمان في حقها فوجب عليه المهر كما لو وطئها في نكاح فاسد فإن طاوعته على الزنا نظرت فإن كانت حرة لم يجب لها المهر لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وإن كانت أمة لم يجب لها المهر على المنصوص للخبر ومن أصحابنا من قال: يجب لأن المهر حق للسيد فلم يسقط بإذنها كأرش الجناية.
فصل: وإن وطئ المرأة وادعت المرأة أنه استكرهها وادعى الواطئ أنها طاوعته ففيه قولان: أحدهما القول قول الواطيء لأن الأصل براءة ذمته والثاني قول الموطوءة لأن الواطئ متلف ويشبه أن يكون القولان مثبتين على القولين في اختلاف رب الدابة وراكبها ورب الأرض وزارعها.
فصل: وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وهو جاهل بالتحريم ففيه قولان: أحدهما لا يجب المهر لأن البضع للسيد وقد أذن له ائتلافه فسقط بدله كما لو أذن له في قطع عضو منها والثاني يجب لأنه وطء سقط عنه الحد للشبه فوجب عليه المهر كما لو وطئ في نكاح فاسد فإن أتت منه بولد ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالمهر لأنه متولد من مأذون فيه فإذا كان في بدل المأذون فيه قولان كذلك(2/474)
وجب أن يكون في بدل ما تولد منه قولان وقال أبو إسحاق: تجب قيمة الولد يوم سقط قولاً واحداً لأنها تجب بالإحبال ولم يوجد الإذن في الإحبال والطريق الأول أظهر لأنه وإن لم يأذن في الإحبال إلا أنه أذن في سببه إذا طلقت المرأة لم يخل إما أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل الدخول نظرت فإن لم يفرض لها مهر وجب لها المتعة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] ولأنه لحقها بالنكاح ابتذال وقلت الرغبة فيها بالطلاق فوجب لها المتعة وإن فرض لها المهر لم تجب لها المتعة لأنه لما أوجب بالآية لمن لم يفرض لها دل على أنه لا يجب لمن فرض لها ولأنه حصل لها في مقابلة الابتذال نصف المسمى فقام ذلك مقام المتعة وإن كان بعد الدخول ففيه قولان: قال في القديم: لا تجب لها المتعة لأنها مطلقة من نكاح لم يخل من عوض فلم تجب لها المتعة كالمسمى لها قبل الدخول وقال في الجديد: تجب لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وكان ذلك في نساء دخل بهن ولأن ما حصل من المهر لها بدل عن الوطء وبقي الابتذال بغير بدل فوجب لها المتعة كالمفوضة قبل الدخول وإن وقعت الفرقة بغير الطلاق نظرت فإن كانت بالموت لم تجب لها المتعة لأن النكاح قد تم بالموت وبلغ منها فلم تجب لها متعة وإن كانت بسبب من جهة أجنبي كالرضاع فحكمه حكم الطلاق في الأقسام الثلاثة لأنه بمنزلة الطلاق في تصنيف المهر فكانت كالطلاق في المتعة وإن كانت بسبب من جهة الزوج كالإسلام والردة والعيان فحكمه حكم الطلاق في الأقسام الثلاثة لأنها فرقة حصلت من جهته فأشبهت الطلاق وإن كانت بسبب من جهة الزوجة كالإسلام والردة والرضاع والفسخ بالإعسار والعيب بالزوجين جميعاً لم تجب لها المتعة لأن المتعة وجت لها لما يلحقها من الابتذال بالعقد وقلة الرغبة فيها بالطلاق وقد حصل ذلك بسبب من جهتها فلم تجب وإن كانت بسبب منها نظرت فإن كانت بخلع أو جعل الطلاق إليها فطلقت كان حكمها حكم المطلقة في الأقسام الثلاثة لأن المغلب فيها جهة الزوج لأنه يمكنه أن يخالعها مع غيرها ويجعل الطلاق إلى غيرها فجعل كالمفرد به وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج فقد قال في موضع لا(2/475)
متعة لها وقال في موضع لها المتعة فمن أصحابنا من قال هي على قولين: أحدهما لا متعة لها لأن المغلب جهة السيد لأنه يمكنه أن يبيعها من غيره فكان حكمه في سقوط المتعة حكم الزوج في الخلع في وجوب المتعة ولأنه يملك بيعها من غير الزوج فصار اختياره للزوج اختياراً للفرقة والثاني أن لها المتعة لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في العقد فسقط حكمها كما لو وقعت الفرقة من جهة الأجنبي وقال أبو إسحاق: وإن كان مولاها طلب البيع لم تجب لأنه هو الذي اختار الفرقة وإن كان الزوج طلب وجبت لأنه هو الذي اختار الفرقة وحمل القولين على هذه الحالين.
فصل: والمستحب أن تكون المتعة خادماً أو مقنعة أو ثلاثين درهماً لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: يستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يفعل فبثياب وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: يمتعها بثلاثين درهماً وروي عنه أنه قال: يمتعها بجارية وفي الوجوب وجهان: أحدهما ما يقع عليه اسم المال والثاني وهو المذهب أنه يقدرها الحاكم لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وهل يعتبر بالزوج أو الزوجة فيه وجهان: أحدهما يعتبر بحال الزوج للآية والثاني يعتبر بحالها لأنه بدل عن المهر فاعتبر بها.(2/476)
باب الوليمة والنثر
الطعام الذي يدعى إليه الناس ستة: الوليمة للعرس والخرس للولادة والإعذار للختان والوكيرة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر والمأدبة لغير سبب ويستحب ما سوى الوليمة لما فيها من إظهار لنعم الله والشكر عليها واكتساب الأجر والمحبة ولا تجب لأن الإيجاب بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابه وأما وليمة العرس فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال هي واجبة وهو المنصوص لما روى أنس رضي الله عنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة1" ومنهم من
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 7، 54. مسلم في كتاب النكاح حديث 79، 80. أبو داود في كتاب النكاح 29. الترمذي في كتاب النكاح باب 10. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 24. الموطأ في كتاب النكاح حديث 47. أحمد في مسنده "3/165".(2/476)
قال هي مستحبة لأنه طعام لحادث سرور فلم تجب كسائر الولائم ويكره النثر لأن التقاطه دناءة وسخف ولأنه يأخذ قوم دون قوم ويأخذه من غيره أحب.
فصل: ومن دعي إلى وليمة وجب عليه الإجابة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها1" ومن أصحابنا من قال هي فرض على الكفاية لأن القصد إظهارها وذلك يحصل بحضور البعض وإن دعي مسلم إلى وليمة ذمي ففيه وجهان: أحدهما تجب الإجابة للخبر والثاني لا تجب لأن الإجابة للتواصل واختلاف الدين يمنع التواصل وإن كانت الوليمة ثلاثة أيام أجاب في اليوم الأول والثاني ويكره الإجابة في اليوم الثالث لما روي أن سعيد بن المسيب رحمه الله دعي مرتين فأجاب ثم دعي الثالثة فحصب الرسول وعن الحسن رحمه الله أنه قال: الدعوى أول يوم حسن والثاني حسن والثالث رياء وسمعة وإن دعاه اثنان ولا يمكنه الجمع بينهما أجاب أسبقها لحق السبق فإن استويا في السبق أجاب أقربهما رحما فإن
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 71. مسلم في كتتتاب النكاح حديث 96 - 98. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 1. الموطأ في كتاب النكاح حديث 49.(2/477)
استويا في الرحم أجاب أقربهما داراً لأنه من أبواب البر فكان التقديم فيه على ما ذكرناه كصدقة التطوع فإن استويا في ذلك أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة.
فصل: وإن دعي موضع فيه دف أجاب لأن الدف يجوز في الوليمة لما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصل بين الحلال والحرام الدف1" فإن دعي إلى موضع فيه منكر من زمر أو خمر فإن قدر على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة ولإزالة المنكر وإن لم يقدر على إزالته لم يحضر لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس على مائدة تدار فيها الخمر وروى نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسمع زمارة راع فوضع إصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول يا نافع أتسمع حتى قلت لا فأخرج أصبعيه من أذنيه ثم رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع وإن حضر في موضع فيه تماثيل فإن كانت كالشجر جلس وإن كانت على صورة حيوان فإن كانت على بساط يداس أو مخدة يتكأ عليها جلس وإن كانت على حائط أو ستر معلق لم يجلس لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل2" وكان في البيت قرام فيه تمثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التماثيل التي كانت البيت يقطع فتصير كهيئة الشجر ومر بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ولأن ما كان كالشجرة فهو كالكتابة والنقوش وما كان على صورة الحيوان على حائط أو ستر فهو كالصنم وما يوطأ فليس كالصنم لأنه غير معظم.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 6. النسائي في كتاب النكاح باب 72. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 20.
2 رواه مسلم في كتاب اللنكاح حديث 106. أبو داود في كتاب الأطعمة باب 1. أحمد في مسنده "2/507".(2/478)
فصل: ومن حضر الطعام فإن كان مفطراً ففيه وجهان: أحدهما يلزمه أن يأكل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليأكل وأن كان صائماً فليصل1" والثاني لا يجب لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك2" وإن دعي وهو صائم لم تسقط عنه الإجابة للخبر ولأن القصد التكثير والتبرك بحضوره وذلك يحصل مع الصوم فإن كان الصوم فرضاً لم يفطر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإن كان صائماً فليصل" وإن كان تطوعاً فالمستحب أن يفطر لأنه يدخل السرور على من دعاه وإن لم يفطر جاز لأنه قربة فلم يلمه تركها والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: "أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وأكل طعامكم الأبرار3".
__________
1 رواه مسلم في كتاب النكاح حديث 150، 106. أبو داود في كتاب الطعمة باب 1. ابن ماجة في كتاب الصيام باب 47.
2 رواه أبو داود في كتاب الأطعمة باب 54. أحمد في مسنده"3/138".
3 رواه البخاري في كتاب الإستعراض باب 12. مسلم في كتاب المساقاة حديث 33. الموطأ في كتاب البيوع حديث 84. ابن ماجة في كتاب الصدقات باب 8.(2/479)
باب عشرة النساء والقسم
إذا تزوج امرأة فإن كانت ممن يجامع مثلها وجب تسليمها بالعقد إذا طلب ويجب عليه تسليمها إذا عرضت عليه فإن طالب بها الزوج فسألت الإنظار أنظرت ثلاثة أيام لأنه قريب ولا تنظر أكثر منه لأنه كثير وإن كانت لا يجامع مثلها لصغر أو مرض يرجى زواله لم يجب التسليم إذا طلب الزوج ولا التسلم إذا عرضت عليه لأنها لا تصلح للاستمتاع وإن كانت لا يجامع مثلها لمعنى لا يرجى زواله بأن كانت نضوة الخلق أو بها مرض لا(2/479)
يرجى زواله وجب التسليم إذا طلب والتسلم إذا عرضت عليه لأن المقصود من مثلها الاستمتاع بها في غير جماع.
فصل: وإن كانت الزوجة حرة وجب تسليمها ليلاً ونهاراً لأنه لا حق لغيرها عليها وللزوج أن يسافر بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه ولا يجوز لها أن تسافر بغير إذن الزوج لأن الاستمتاع مستحق له فلا يجوز تفويته عليه وإن كانت أمة وجب تسليمها بالليل دون النهار لأنها مملوكة عقد على إحدى منفعتيها فلم يجب التسليم في وقتها كما لو لأجرها لخدمة النهار وقال أبو إسحاق لو كان بيدها صنعة كالغزل والنسج وجب تسليمها بالليل والنهار لأنه يمكنها العمل في بيت الزوج والمذهب الأول لأنه قد يحتاج إليه في خدمة غير الصنعة ويجوز للمولى أن يبيعها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لذن لعائشة رضي الله عنها في شراء بريرة وكان لها زوج ويجوز له أن يسافر بها لأنه يملك بيعها فملك السفر بها كغير الزوجة.
فصل: ويجوز للزوج أن يجبر امرأته على الغسل من الحيض والنفاس لأن الوطء يقف عليه في غسل الجنابة قولان: أحدهما له أن يجبرها عليه لأن كمال الاستمتاع يقف عليه لأن النفس تعاف من وطء الجنب الثاني ليس له أن يجبرها لأن الوطء لا يقف عليه وفي التنظيف والاستحداد وجهان: أحدهما يملك إجبارها عليه لأن كمال الاستمتاع يقف عليه والثاني لا يملك إجبارها عليه لأن الوطء لا يقف عليه وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته ففيه وجهان: أحدهما له منعها لأنه يمنع كمال الاستمتاع والثاني ليس له منعها لأنه لا يمنع الوطء فإن كانت ذمية فله منعها من السكر لأنه يمنع الاستمتاع لأنها تصير كالزق المنفوخ ولأنه لا يأمن أن تجني عليه وهل له أن يمنعها من أكل لحم الخنزير وشرب القليل من الخمر فيه ثلاثة أوجه: أحدها يجوز له منعها لأنه يمنع كمال الاستمتاع والثاني ليس له منعها لأنه لا يمنع الوطء والثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه ليس له منعها من لحم الخنزير لأنه لا يمنع الوطء وله منعها من قليل الخمر لأن السكر يمنع الاستمتاع ولا يمكن التمييز بين ما يسكر وبين ما لا يسكر مع اختلاف الطباع فمنع من الجميع.
فصل: وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: "حقه عليها أن لا تخرج من بيتها إلى بإذنه فإن فعلت لعنها الله وملائكة الرحمن وملائكة الغضب حتى تئوب أو ترجع" قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالماً(2/480)
قال: "وإن كان لها ظالماً" ولأن حق الزوج واجب فلا يجوز تركه بما ليس بواجب ويكره منعها من عيادة أبيها إذا أثقل وحضور مواراته إذا مات لأن منعها من ذلك يؤدي إلى النفور ويغريها بالعقوق.
فصل: ويجب على الزوج معاشرتها بالمعروف مع كف الأذى لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ويجب عليه بذل ما يجب من حقها من غير مطل لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومن العشرة بالمعروف بذل الحق من غير مطل ولقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" ولا يجب عليه الاستمتاع لأنه حق له فجاز تركه كسكنى الدار المستأجرة ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة فلا يمكن إيجابه والمستحب أن لا يعطلها لما روى عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتصوم النهار؟ " قلت: نعم وقال: "تقوم الليل" قلت: نعم قال: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني1" ولأنه إذا عطلها لا يأمن الفساد ووقوع الشقاق ولا يجمع بين امرأتين في مسكن إلا برضاهما لأن ذلك ليس من العشرة بالمعروف ولأنه يؤدي إلى الخصومة ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى لأنه دناءة وسوء عشرة ولا يستمتع بها إلا بالمعروف فإن كانت نضو الخلق ولم تحتمل الوطء لم يجز وطؤها لما فيه من الأضرار.
فصل: ولا يجوز وطؤها في الدبر لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها2" ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الإليتين لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، ِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5] ويجوز وطؤها في الفرج مدبرة لما روى جابر رضي الله عنه قال: قالت اليهود: إذا جامع الرجل امرأته من ورائها جاء ولدها أحول فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 323] قال: يقول يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج.
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 1. مسلم في كتاب النكاح حديث 5. النسائي في كتاب النكاح باب 4. أحمد في مسنده "2/158".
2 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 45. أحمد في مسنده "2/444"(2/481)
فصل: ويكره العزل لما روت جذامه بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي" {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} فإن كان ذلك في وطء أمته لم يحرم لأن الاستمتاع بها حق له لا حق لها فيه وإن كان في وطء زوجته فإن كانت مملوكة لم يحرم لأنه يلحقه العار باسترقاق ولده منها وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز لأن الحق لهما وإن لم تأذن ففيه وجهان: أحدهما لا يحرم لأن حقها في الاستمتاع دون الإنزال والثاني يحرم لنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه.
فصل: وتجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى كما يجب عليه معاشرتها ويجب عليها بذل ما يجب له من غير مطل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت فبات وهو علها ساخط لعنتها الملائكة حتى تصبح1".
فصل: ولا يجب عليها خدمته في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدم لأن المعقود عليها من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه.
فصل: وإن كان له امرأتان أو أكثر فله أن يقسم لهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لنسائه ولا يجب عليه ذلك لأن القسم لحقه فجاز له تركه وإذا أراد أن يقسم لم يجز أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضى البواقي إلى بقرعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط2" ولأن البداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور وإذا قسم الواحدة بالقرعة أو من غير قرعة لزمه القضاء للبواقي لأنه إذا لم يقضي مال فدخل في الوعيد.
فصل: ويقسم المريض والمجبوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم في مرضه لأن القسم يراد للأنس وذلك يحصل مع المرض والجب وإذا كان مجبوباً لا يخاف منه طاف به الولي على نسائه لأنه يحصل لها به الأنس ويقسم للحائض والمريضة والنفساء والمحرمة والمظاهر منها والمولى منها لأن القصد من القسم الإيواء والأنس وذلك يحصل مع هؤلاء وإن كانت مجنونة لا يخاف منها قسم لها لأنه يحصل لها الأنس وإن كان يخاف منها لم يقسم لها لأنها لا تصلح للأنس.
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 85. مسلم في كتاب النكاح حديث 121. أبو داود في كتاب النكاح باب 40.أحمد في مسنده "2/439".
2 رواه النسائي في كتاب عشرة النساء باب 2. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 47. أحمد في مسنده "2/295، 347".(2/482)
فصل: وإن سافرت المرأة بغير إذن الزوج سقط حقها من القسم والنفقة لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر وإن سافرت بإذنه ففيه قولان: أحدهما لا يسقط لأنها سافرت بإذنه فأشبه إذا سافرت معه والثاني لا يسقط لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد عدم الجميع فسقط ما تعلق به كالثمن لما وجب في مقابلة المبيع سقط بعدمه.
فصل: وإن اجتمع عنده وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من نكح حرة على أمة فللحرة ليلتان وللأمة ليلة والحق في قسم الأمة لها دون المولى لأنه يراد لحظها فلم يكن للمولى فيه حق فإن قسم للحرة ليلتين ثم أعتق الأمة فإن كان بعدها أوفاها حقها استأنف القسم لها لأنهما تساويا بعد انقضاء القسم وإن كان قبل أن يوفيها حقها أقام عندها ليلتين لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة فوجب التسوي بينهما وإن قسم للأمة ثم أعتقت فإن كان بعدما أوفى للحرة حقها سوى بينهما وإن كان قبل أن يوفي الحرة حقها لم يزد على ليلة لأنهما تساويا فوجب التسوية بينهما.
فصل: وعماد القسم الليل لقوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} [النبأ: 10] قيل في التفسير الإيواء إلى المساكن ولأن النهار للمعيشة والليل للسكون ولهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل: 86] فإن كانت معيشته بالليل فعماد قسمه النهار لأن نهاره كليل غيره والأولى أن يقسم ليله ليله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق فإن قسم ليلتين أو ثلاثة جاز لأنه في حد القليل وإن زاد على الثلاث لا يجوز من غير رضاهن لأن فيه تغريراً بحقوقهن فإن فعل ذلك لزمه القضاء للبواقي لأنه إذا قضى ما قسم بحق فلأن يقضي ما قسم بغير حق أولى وإذا قسم لها ليلة كان لها الليلة وما يليها من النهار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة يومها وليلتها غير أن سودة وهبت ليلتها لعائشة تبتغي بذلك رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وجمع الله بين ريقي وريقه.
فصل: والأولى أن يطوف إلى نسائه في منازلهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك أحسن في العشرة وأصون لهن وله أن يقيم في موضع ويستدعي واحدة واحدة لأن(2/483)
المرأة تابعة للزوج في المكان ولهذا يجوز أن ينقلها إلى حيث شاء وإن كان محبوساً في موضع فإن أمكن حضورها فيه لم يسقط حقها من القسم لأنه يصلح للقسم فصار كالمنزل وإن لم يمكن حضورها فيه سقط القسم لأنه تعذر الاجتماع لعذر وإن كانت له امرأتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما فإن لم يقم معها في منزل لم يلزمه القضاء بالمقام في بلد الأخرى لأن المقام في البلد معها ليس بقسم وإن أقام معها في منزلها لزمه القضاء للأخرى لأن القسم لا يسقط باختلاف البلاد كما لا يسقط باختلاف المحال.
فصل: ويستحب لمن قسم أن يسوي بينهن في الاستمتاع لأنه أكمل في العدل فإن لم يفعل جاز لأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة ويمكن التسوية بينهن في ذلك ولهذا قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] قال ابن عباس رضي الله عنه: تعني في الحب والجماع وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملكه ولا أملكه".
فصل: ولا يجوز أن يخرج في ليلتها من عندها فإن مرض غيرها من النساء وخاف أن يموت وأكرهه السلطان جاز أن يخرج لأنه موضع ضرورة وعليه القضاء كما يترك الصلاة إذا أكره إلى تركها وعليه القضاء والأولى أن يقضيها في الوقت الذي خرج لأنه أعدل وإن خرج في آخر الليل وقضاه في أوله جاز لأن الجميع مقصود في القسم فإن دخل على غيرها بالليل فوطئها ثم عاد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه القضاء بليلة لأن الجماع معظم المقصود والثاني يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها لأنه أقرب إلى التسوية والثالث أنه لا يقضيها بشيء لأن الوطء غير مستحق في القسم وقدره من الزمان لا ينضبط فسقط ويجوز أن يخرج في نهارها للمعيشة ويدخل إلى غيرها ليأخذ شيئاً أو يترك شيئاً ولا يطيل فإن أطال لزمه القضاء لأنه ترك الإيواء المقصود وإن دخل إلى غيرها في حاجه فقبلها جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان يوم أو أقل يوم إلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا جميعاً ويقبل ويلمس فإذا جاء إلى التي هو يومها أقام عندها ولا يجوز أن يطأها لأنه معظم المقصود فلا يجوز في قسم غيرها فإن وطئها وانصرف ففيه وجهان: أحدهما أنه يلزمه أن يخرج في نهار الموطوءة ويطأها لأنه هو العدل والثاني لا يلزمه شيء لأن الوطء غير مستحق وقدره من الزمان لا ينضبط فسقط وإن كان عنده امرأتان فقسم لإحداهما مدة ثم طلق الأخرى قبل أن يقضيها ثم تزوجها لزمه قضاء حقه لأنه حق تأخر القضاء لعذر وقد زال فوجب كما لو كان عليه دين فأعسر ثم أيسر.(2/484)
فصل: وإن تزوج امرأة وعنده امرأتان أو ثلاث قطع الدور للجديدة فإن كانت بكراً أقام عندها سبعاً لما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة أن يقيم عند البكر مع الثيب سبعاً قال أنس: ولو شئت أن أرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفعت وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً أو سبعا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة رضي الله عنها وقال: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت" فإن أقام عند البكر سبعاً لم يقض للباقيات شيئاً وإن أقام عند الثيب ثلاثاً لم يقض فإن أقام سبعاً ففيه وجهان: أحدهما يقضي السبع لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن" والثاني يقضي ما زاد على الثلاث لأن الثلاث مستحقة لها فلا يلزمه قضاؤها وإن تزوج العبد أمة وعنده امرأة قضى للجديدة حق العقد وفي قدره وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: هي على النصف كما قلنا في القسم الدائم وقال أبو إسحاق هي كالحرة لأن قسم العقد للزوج فلم يختلف برقها وحريتها بخلاف القسم الدائم لأنه حق لها فاختلف برقها وحريتها وإن تزوج رجل امرأتين وزفتا إليه في وقت واحد أقرع بينهما لتقديم حق العقد كما يقرع للتقديم في القسم الدائم.
فصل: وإن أراد السفر بامرأة أو امرأتين أو ثلاث أقرع بينهن فمن خرجت عليها القرعة سافر بها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فصارت القرعة على عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها فخرجتا معه جميعاً ولا يجوز أن يسافر بواحدة من غير قرعه لأن ذلك ميل وترك للعدل وإن سافر بامرأتين بالقرعة سوى بينهما في القسم كما يسوي بينهما في الحضر فإن كان في سفر طويل لم يلزمه القضاء للمقيمات لأن عائشة رضي الله عنها لم تذكر القضاء ولأن المسافرة اختصت بمشاقة السفر فاختصت بالقسم وإن كان في سفر قصير ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في السفر الطويل والثاني يلزمه لأنه في حكم الحضر وإن سافر ببعضهن بغير قرعة لزمه القضاء للمقيمات لأنه قسم بغير قرعة فلزمه القضاء كما لو سافر ببعضهن بغير قرعة لزمه القضاء للمقيمات لأنه قسم بغير قرعة فلزمه القضاء كما لو قسم لها في الحضر وإن سافر بامرأة بقرعة إلى بلد ثم عن له سفر إلى بلد أبعد يلزمه القضاء لأنه سفر واحدة وقد أقرع له وإن سافر بامرأة بالقرعة وانقضى سفره ثم أقام معها مدة لزمه أن يقضي المدة التي أقام معها بعد انقضاء السفر لأن القرعة إنما تسقط القضاء في قسم السفر وإن كان عنده امرأتان ثم تزوج بامرأتين وزفتا إليه في وقت واحد لزمه أن يقسم لهما حق العقد ولا يقدم إحداهما بغير القرعة فإن أراد السفر قبل أن يقسم لهما أقرع بين الجميع فإن خرجت القرعة لإحدى القديمتين سافر بها فإذا قدم قضى حق العقد للجديدتين وإن خرجت القرعة لإحدى الجديدتين سافر بها ويدخل حق العقد في(2/485)
قسم السفر لأن القصد من قسم العقد الألفة والاستمتاع وقد حصل ذلك وهل يلزمه أن يقضي للجديدة الأخرى حق العقد فيه وجهان: أحدهما لا يلزمه كما لا يلزمه في القسم الدائم والثاني وهو قول أبي إسحاق لأنه سافر بها بعد ما استحقت الأخرى حق العقد فلزمه القضاء كما لو كان عنده أربع نسوة فقسم للثلاث ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل قضاء حق الرابعة.
فصل: ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها لما روت عائشة رضي الله عنها أن سودة وهبت يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها تبتغي بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك إلا برضا الزوج لأن حقه ثابت في استمتاعها فلا تملك نقله إلى غيرها من غير رضاه ويجوز من غير رضى الموهوب لأنه زيادة في حقها ومتى تقسم لها الليلة الموهوبة وجهان: أحدهما تضم إلى ليلتها لأنه اجتمع لها ليلتان فلم يفرق بينهما والثاني تقسم لها في الليلة التي كانت للواهبة لأنها قائمة مقامها فقسم لها في ليلتها ويجوز أن تهب ليلتها للزوج لأن الحق بينهما فإن تركت حقها صار للزوج ثم يجعلها الزوج لمن شاء من نسائه ويجوز أن تهب ليليها لجميع ضرائرها فإن كن ثلاث صار القسم أثلاثاً بين الثلاث وإن وهبت ليلتها ثم رجعت لا يصح الرجوع فيما مضى لأنه هبة اتصل بها القبض ويصح في المستقبل لأنها هبه لم يتصل بها القبض.
فصل: وإن كان له إماء لم يكن لهن حق القسم فإن بات عند بعضهن لم يلمه أن يقضي للباقيات لأنه لا حق لهن في استمتاع السيد ولهذا يجوز لهن مطالبته بالفيئة إذا حلف ألا يطأهن ولا خيار له بحبه وتعنينه والمستحب أن لا يعطلهن لأنه إذا عطلهن لم يأمن أن يفجرن وإن كان عنده زوجات وإماء فأقام عند الإماء لم يلزمه القضاء للزوجات لأن القضاء يجب بقسم مستحق وقسم الإماء غير مستحق فلم يجب قضاؤه كما لو بات عند صديق له.(2/486)
باب النشوز
إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز وعظها لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} ولا يضربها لأنه يجوز أن يكون ما ظهر منه لضيق صدر من غير جهة الزوج وإن تكرر منها النشوز فله أن يضربها لقوله عز وجل: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34](2/486)
وإن نشزت مرة فيه قولان: أحدهما أنه يهجرها ولا يضربها لأن العقوبات تختلف باختلاف الجرائم ولهذا ما يستحق بالنشوز لا يستحق بخوف النشوز فكذلك ما يستحق بتكرر النشوز لا يستحق بنشوز مرة والثاني وهو صحيح أن يهجرها وبضربها لأنه يجوز أن يهجرها للنشوز فجاز أن يضربها كما لو تكرر منها فأما الوعظ فهو أن يخوفها بالله عز وجل وبما يلحقها من الضرر بسقوط نفقتها وأما الهجران فهو أن يهجرها في الفراش لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قال لا تضاجعها في فراشك وأما الهجران بالكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام1" وأما الضرب فهو أن يضربها ضرباً غير مبرح ويتجنب المواضع المخوفة والمواضع المستحسنة لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بكتاب الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرب غير مبرح2" ولأن القصد التأديب دون الإتلاف والتشويه.
فصل: وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز لقوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} [النساء: 128] وقالت عائشة رضي الله عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتعجل يومها لامرأة أخرى فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 57، 62. مسلم في كتاب البر حديث 23، 25. الترمذي في كتاب البر باب 21، 24. أحمد في مسنده "1/176، 183".
2 رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 84. أحمد في مسنده "5/73".(2/487)
حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] واختلف قوله في الحكمين فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلى بإذنهما وقال في القول الآخر هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض لقوله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين ولم يعتبر رضا الزوجين وروى عبيدة أن علياً رضي الله عنه بعث رجلين فقال لهما: أتريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقال الرجل: أما هذا فلا فقال: كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي ولأنه وقع الشقاق وأشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا والمستحب أن يكون حكماً من أهله وحكماً من أهله للآية ولأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية فبعث عثمان رضي الله عنه حكماً من أهله وهو ابن عباس رضي الله عنه وحكماً من أهلها وهو معاوية رضي الله عنه ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال وإن كان من غير أهلهما جاز لأنهما في أحد القولين وكيلان وفي الآخر حاكمان وفي الجميع يجوز أن يكونا من غير أهلهما ويجب أن يكونا ذكرين عدلين لأنهما في أحد القولين حاكمان وفي الآخر وكيلان إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان فإن قلنا إنهما حاكمان لا يجوز أن يكونا إلا فقيهين وإن قلنا إنهما وكيلين جاز أن يكونا من العامة وإن غاب الزوجان فقلنا إنهما وكيلان نفذ تصرفهما كما ينفذ تصرف الوكيل مع غيبة الموكل وإن قلنا أنهما حاكمان لم ينفذ حكمهما لأن الحكم للغائب لا يجوز وإن جنا لم ينفذ حكم الحكمين لأنهما في أحد القولين وكيلان والوكالة تبطل بجنون الموكل وفي القول الآخر حاكمان إلا أنهما يحكمان للشقاق وبالجنون زال الشقاق.(2/488)
كتاب الخلع
إذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة وخافت أن لا تؤدي حقه جاز أن تخالعه على عوض لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وروي أن جميلة بنت سهل كانت تحث ثابت بن قيس بن الشماس وكان يضربها فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: لا أنا ولا ثابت وما أعطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها فأخذ منها فقعدت في بيتها" وإن لم تكره منه شيئاً وتراضيا على الخلع من غير سبب جاز لقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر كالإقالة في البيع وإن ضربها أو منعها حقها طمعاً في أن تخالعه على شيء من مالها لم يجز لقوله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 29] فإن طلقها في هذه الحال على عوض لم يستحق العوض لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض كالبيع فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لأن الرجعة إنما تسقط بالعوض وقد سقط العوض فتثبت الرجعة فيه فإذا زنت لقوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] فدل على أنها إذا أتت بفاحشة جاز عضلها ليأخذ شيء من مالها والثاني أنه لا يجوز ولا يستحق فيه العوض لأنه خلع أكرهت عليه بمنع الحق فأشبه إذا منعها حقها لتخالعه من غير زنا فأما الآية فقد قيل إنها منسوخة بآية الإمساك في البيوت وهي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم ولأنه روي عن قتاده أنه فسر الفاحشة بالنشوز فعلى هذا إذا كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه.
فصل: ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة الابن الأصغر بعوض وغير عوض لما روي(2/489)
عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنما الطلاق بيد الذي يحل له الفرج ولأنه طريق الشهوة فلم يدخل في الولاية ولا يجوز أن يخلع البنت الصغيرة من الزوج بشيء من مالها لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع فإن خالعها بشيء من مالها لم يستحق ذلك وإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ومن أصحابنا من قال إذا قلنا إن الذي بيده عقد النكاح هو الولي فله أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها وهذا خطأ لأنه إنما يملك الإبراء على هذا القول بعد الطلاق وهذا الإبراء قبل الطلاق.
فصل: ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشيء من مالها لأنها ليست من أهل التصرف في مالها فإن طلقها على شيء من مالها لم يستحق ذلك كما لا يستحق ثمن ما باع منها فإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ويجوز للأمة أن تخالع زوجها على عوض في ذمتها ويجب دفع العوض من حيث يجب دفع المهر في نكاح العبد لأن العوض في الخلع كالمهر في النكاح فوجب من حيث وجب المهر.
فصل: ويصح الخلع مع غير الزوجة وهو أن يقول رجل طلق امرأتك بألف علي وقال أبو ثور: لا يصح لأن بذل العوض في مقابلة ما يحصل لغيره سفه وذلك لا يجوز أن يقول لغيره بع عبدك من فلان بألف علي وهذا خطأ لأنه قد يكون له غرض وهو أن يعلم أنهما على نكاح فاسد أو تخاصم دائم فيبذل العوض ليخلصهما طلباً للثواب كما يبذل العوض لاستنقاذ أسير أو حر في يد من يسترقه بغير حق ويخالف البيع فأنه تمليك يفتقر إلى رضا المشتري فلم يصح بالأجنبي والطلاق إسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المرأة فصح بالمالك والأجنبي كالعتق بالمال فإن قال طلق امرأتك على مهرها وأنا ضامن فطلقها بانت ورجع الزوج على الضامن بمهر المثل في قوله الجديد وببدل مهرها في قوله القديم لأنه أزال الملك عن البضع بمال ولم يسلم له وتعذر الرجوع إلى البضع فكان فيما يرجع إليه قولان كما قلنا فيمن يضمن أصدق امرأته مالاً فتلف قبل القبض.
فصل: ويجوز الخلع في الحيض لأن المنع من الطلاق في الحيض للضرر الذي يلحقها بتطويل العدة والخلع جعل للضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والتقصير في حق الزوج والضرر بذلك أعظم من الضرر بتطويل العدة فجاز دفع أعظم الضررين بأخفها ويجوز الخلع من غير حاكم لأنه قطع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فلم يفتقر إلى الحاكم كالإقامة في البيع.
فصل: ويصح الخلع بلفظ الخلع والطلاق فإن خالعها بصريح الطلاق أو الكناية مع النية فهو طلاق لأنه لا يحتمل غير الطلاق وإن خالعها بصريح الخلع نظرت لأنه لم(2/490)
ينوبه الطلاق ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع به فرقة وهو قوله في الأم لأنه كناية في الطلاق من غير نية فلم يقع بها فرقة كما لو عريت عن العوض والثاني أنه فسخ وهو قوله في القديم لأنه جعل للفرقة فلا يجوز أن يكون طلاقاً لأن الطلاق لا يقع إلا بصريح أو كناية مع النية والخلع ليس بصريح في الطلاق ولا معه نية الطلاق فوجب أن يكون فسخاً والثالث أنه طلاق وهو قوله في الإملاء وهو اختيار المزني لأنها إنما بذلت العوض للفرقة والفرقة التي يملك إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون طلاقاً فإن قلنا إنه فسخ بصريحه وصريحه الخلع والمفاداة لأن المفاداة ورد بها القرآن والخلع ثبت له العرف فإذا خالعها بأحد هذين اللفظين انفسخ النكاح من غير نية وهل يصح الفسخ بالكناية كالمباراة والتحريم والتحريم وسائر كنايات الطلاق فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الفسخ لا يصح تعليقة على الصفحات فلم يصح بالكناية كالنكاح والثاني يصح لأنه أحد نوعي الفرقة فأنقسم لفظها إلى الصريح والكناية كالطلاق فعلى هذا إذا خالفها بشيء من الكنايات لم ينفسخ النكاح حتى ينويا واختلف أصحابنا في لفظ الفسخ فمنهم من قال هو كناية لأنه لم يثبت له عرف في فرقة النكاح ومنهم من قال هو صريح لأنه أبلغ في معنى الفسخ من لفظ الخلع وإن خالع بصريح الخلع ونوى به الطلاق فإن قلنا بقوله في الإملاء فهو طلاق لأنه إذا كان طلاقاً من غير نية الطلاق فمع النية أولى وإن قلنا بقوله في القديم ففيه وجهان: أحدهما أنه طلاق لأنه يحتمل الطلاق وقد اقترنت به نية الطلاق والثاني أنه فسخ لأنه على هذا القول صريح في فسخ النكاح فلا يجوز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحاً في فرقة النكاح لم يجز أن يكون كناية في الظهار.
فصل: ويصح الخلع منجزاً بلفظ المعاوضة لما فيه من المعاوضة ويصح معلقاً على شرط لما فيه من الطلاق فأما المنجز بلفظ المعاوضة فهو أن يوقع الفرقة بعوض وذلك مثل أن يقول طلقتك وأنت طالق بألف وتقول المرأة قبلت كما تقول في البيع بعتك هذا بألف ويقول المشتري قبلت أو تقول المرأة طلقني بألف فيقول الزوج طلقتك كما يقول المشتري بعني هذا بألف ويقول البائع بعتك ولا يحتاج أن يعيد في الجواب ذكر الألف لأن الإطلاق يرجع إليه كما يرجع في البيع ولا يصلح الجواب في هذا إلا على الفور كما نقول في البيع ويجوز للزوج أن يرجع في الإيجاب قبل القبول وللمرأة أن ترجع في الاستدعاء قبل الطلاق كما يجوز في البيع وأما غير المنجز فهو أن يعلق الطلاق على(2/491)
ضمان مال أو دفع مال فإن كان بحرف "إن" بأن قال إن ضمنت لي ألفاً فأنت طالق لم يصح الضمان إلا على الفور لأنه لفظ شرط تحتمل الفور والتراخي إلا أنه لما ذكر العوض صار تمليكاً بعوض فاقتضى الجواب على الفور كالتمليك في المعاوضات وإن قال إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق لم تصح العطية إلى على الفور بحيث يصلح أن تكون جواباً لكلامه لأن العطية ههنا هي القبول ويكفي أن تحضر المال وتأذن في قبضه أخذ أو لم يأخذ لأن اسم العطية يقع عليه وإن لم يأخذ ولهذا يقال أعطيت فلاناً مالاً فلم يأخذه وإن قالت طلقني بألف فقال أنت طالق بألف إن شئت لم يقع الطلاق حتى توجد المشيئة لأنه أضاف إلى ما التزمت المشيئة فلم يقع إلى بها ولا تصح المشيئة إلا بالقول وهو أن تقول على الفور شئت لأن المشيئة وإن كانت بالقلب فإنها لا تعرف إلا بالقول فصار تقديره أنت طالق إن قلت شئت ويصح الرجوع قبل الضمان وقبل العطية وقبل المشيئة كما يجوز فيما عقد بلفظ المعاوضة وإن كان بحرف (متى) و (أي وقت) بأن يقول متى ضمنت لي أو أي وقت ضمنت لأي ألفاً فأنت طالق جاز أن يوجد الضمان على الفور وعلى التراخي والفرق بينه وبين قوله إن ضمنت لي ألفاً أن اللفظ هناك عام في الزمانين ولهذا لو قال إن ضمنت لي الساعة أو إن ضمنت لي غداً جاز فلما اقترن به ذكر العوض جعلناه على الفور قياساً على المعاوضات والعموم يجوز تخصيصه بالقياس وليس كذلك قوله (متى) و (أي وقت) لأنه نص في كل واحد من الزمانين صريح في المنع من التعيين في أحد الزمانين ولهذا لو قال أي وقت أعطيتني الساعة كان محالاً وما يقتضيه الصريح لا يترك بالقياس وإن رجع الزوج في هذا قبل القبول لم يصح لأن حكمه حكم الطلاق المعلق الصفات دون المعاوضات وإن كان بحرف (إذا) بأن قال إذا ضمنت لي ألفاً فأنت طالق فقد ذكر جماعة من أصحابنا أحكمه حكم قوله إن ضمنت لي في القضاء الجواب على الفور وفي جواز الرجوع فيه قبل القبول وعندي أن حكمه حكم (متى) و (أي وقت) لأنه يفيد ما يفيده متى وأي وقت ولهذا إذا قال متى ألقاك جاز أن يقول إذا شئت كما يجوز أن يقول متى شئت وأي وقت شئت بخلاف إن فإنه لو قال متى ألقاك لم يجز أن يقول إن شئت.
فصل: ويجوز الخلع بالقليل والكثير والدين والعين والمال والمنفعة لأنه عقد على منفعة لبضع فجاز بما ذكرناه كالنكاح فإن خالعها على أن تكفل ولده عشر سنين وبين مدة الرضاع وقدر النفقة وصفتها فالمنصوص أن يصح فمن أصحابنا من قال فيه قولان(2/492)
لأنها صفقة جمعت بيعاً وإجارة ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأن الحاجة تدعو إلى الجمع بينهما لأنه إذا أفرد أحدهما لم يمكنه أن يخالع على الآخر وفي غير الخلع يمكنه أن يفرد أحدهما ثم يعقد على الآخر وإن مات الولد بعد الرضاع ففي النفقة وجهان: أحدهما أنها تحل لأنها تأجلت لأجله وقد مات والثاني أنها لا تحل لأن الدين إنما يحل بمن عليه دون من له.
فصل: وإن خالعها خلعاً منجزاً على عوض ملك العوض على العقد وضمن بالقبض كالصداق فإن كان عيناً فهلكت قبل القبض أو خرج مستحقاً أو على عبد فخرج حراً أو على خل فخرج خمراً رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل المسمى في قوله القديم كما قلنا في الصداق وإن خالعها على أن ترضع ولده فمات فهو كالعين إذا هلكت قبل القبض وإن مات الولد ففيه قولان: أحدهما يسقط الرضاع ولا يقوم غير الولد مقامه لأنه عقد في قوله الجديد وإلى أجرة الرضاع في قوله القديم والقول الثاني أنه لا يسقط الرضاع بل يأتيها بولد آخر لترضعه لأن المنفعة باقية وإن مات المستوفي قام غيره مقامه كما لو اكترى ظهراً ومات فإن الوارث يقوم مقامه فعلى هذا إن لم يأت بولد آخر حتى مضت المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع عليها لأنها مكنته من الاستيفاء فأشبه إذا أجرته داراً وسلمتها إليه ولم يسكنها والثاني يرجع عليها لأن المعقود عليه تحت يدها فتلف من ضمانها كما لو باعت منه شيئاً وتلف قبل أن يسلم فعلى هذا يرجع بمهر المثل في قوله الجديد وبأجرة الرضاع في قوله القديم وإن خالعه على خياطة ثوب فتلف الثوب فهل تسقط الخياطة أو يأتيها بثوب آخر لتخيطه فيه وجهان بناء على القولين في الرضاع.
فصل: ويجوز رد العوض فيه بالعيب لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب فثبت فيه الرد بالعيب كالبيع والصداق فإن كان العقد على عين بأن طلقها على ثوب أو قال إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق فأعطته ووجد به عيباً فرده رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل العين سليماً في قوله القديم كما ذكرناه في الصداق وإن كان الخلع منجزاً على عوض موصوف في الذمة فأعطته ووجده معيباً فرده طالب بمثله سليماً كما قلنا فيمن أسلم في ثوب وقبضه ووجده معيباً فرده وإن قال إن دفعت إلي عبداً من صفته كذا وكذا فأنت طالق فدفعت إليه عبداً على تلك الصفة طلقت فإن وجده معيباً فرده رجع في قوله الجديد إلى مهر المثل وإلى بدل العبد في قوله القديم لأنه تعين بالطلاق فصار كما لو خالعها على عين فردها بالعيب ويخالف إذا كان موصوفاً في الذمة(2/493)
في خلع منجز فقبضه ووجد فيه عيباً فرده لأنه لم يتعين بالعقد ولا بالطلاق فرجع إلى ما في الذمة وإن خالعها على عين على أنها على صفة فخرجت على دون تلك الصفة ثبت له الرد كما قلنا في البيع فإذا رده رجع إلى مهر المثل في أحد القولين وإلى بدل المشروط في القول الآخر كما قلنا فيما رده بالعيب.
فصل: ولا يجوز الخلع على محرم ولا على ما فيه غرر كالمجهول ولا ما لم يتم ملكه عليه ولا ما لا يقدر على تسليمه لأنه عقد معاوضة فلم يجز على ما ذكرناه كالبيع والنكاح فإن طلقها على شيء من ذلك وقع الطلاق لأن الطلاق يصح مع عدم العوض فصح مع فساده كالنكاح ويرجع عليها بمهر المثل لأنه تعذر رد البضع فوجب رد بدله كما قلنا فيمن تزوج على خمر أو خنزير فإن خالعها بشرط فاسد بأن قالت طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي فطلقها وقع الطلاق ويرجع عليها بمهر المثل لأن الشرط فاسد فإذا سقط وجب إسقاط ما زيد في البدل لأجله وهو مجهول فصار العوض فيه مجهولاً فوجب مهر المثل فإن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق على ألف ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه تعليق طلاق بشرط والثاني لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع فعلى هذا إذا وجد الشرط وقع الطلاق ورجع عليها بمهر المثل.
فصل: فإذا خالع امرأته لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق لأنه لا يملك بضعها فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية ولا يملك رجعتها في العدة وقال أبو ثور: إن كان بلفظ الطلاق فله أن يراجعها لأن الرجعة من مقتضى الطلاق بل يسقط بالعوض كالولاء في العتق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا وهب بعوض فإن الرجوع من مقتضى الهبة وقد سقط بالعوض ويخالف الولاء فإن إثباته لا يملك ما اعتاض عليه من الرق وبإثبات الرجعة يملك من اعتاض عليه من البضع.
فصل: وإن طلقها بدينار على أن له الرجعة سقط الدينار وثبتت له الرجعة وقال المزني يسقط الدينار والرجعة ويجب مهر المثل كما قال الشافعي فيمن خالع امرأة على عوض وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت العوض وثبتت الرجعة أن العوض يسقط ولا تثبت الرجعة وهذا خطأ لأن الدينار والرجعة شرطان متعارضان فسقطا وبقي طلاق مجرد فثبتت معه الرجعة فأما المسألة التي ذكرها الشافعي رحمه الله فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين ومنهم من قال لا تثبت الرجعة هناك لأنه قطع الرجعة في الحال وإنما شرطت أن تعود فلم تعد وههنا لم يقطع الرجعة فثبتت.(2/494)
فصل: وإن وكلت المرأة في الخلع ولم تقدر العوض فخالع الوكيل بأكثر من المثل لم يلزمها إلا مهر المثل لأن المسمى عوض فاسد بمقتضى الوكالة فسقط ولزم مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد فإن قدر العوض بمائه فخالع عنها على أكثر منها ففيه قولان: أحدهما يلزمها مهر المثل لما ذكرناه والثاني يلزمها أكثر الأمرين من مهر المثل أو المائة فإن كان مهر المثل أكثر وجب لأن المسمى سقط لفساده ووجب مهر المثل وإن كانت المائة أكثر وجبت لأنها رضيت بها وأما الوكيل فإنه إن ضمن العوض في ذمته رجع الزوج عليه بالزيادة لأنه ضمنها بالعقد وإن لم يضمن بأن أضاف إلى مال الزوجة لم يرجع عليه بشيء فإن خالع على خمر أو خنزير وجب مهر المثل لأن المسمى سقط فوجب مهر المثل فإن وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض فخالع الوكيل بأقل من مهر المثل فقد نص فيه على قولين: قال في الإملاء يقع ويرجع عليه بمهر المثل وقال في الأم الزوج بالخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعياً وقال فيمن وكل وقدر العوض فخالع على أقل منه أن الطلاق لا يقع فمن أصحابنا من نقل القولين في الوكالة المطلقة إلى الوكالة التي قدر فيها العوض والقول في الوكالة التي قدر فيها العوض إلى الوكالة المطلقة وهو الصحيح عندي لأن الوكالة المطلقة تقتضي المنع من النقصان عن المقدر فيكون في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع الطلاق لأنه طلاق أوقعه على غير الوجه المأذون فيه فلم يقع كما لو وكله في الطلاق في يوم فأوقعه في يوم آخر والثاني أنه يقع الطلاق بائناً ويجب مهر المثل لأن الطلاق مأذون فيه فإذا وقع لم يرد والمسمى فاسد فوجب مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد والثالث أن الطلاق يقع لأنه مأذون فيه وإنما قصر في البدل فثبت له الخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرد ويكون الطلاق رجعياً لأنه لا يمكن إجبار الزوج على المسمى لأنه دون المأذون فيه ولا يمكن إجبارها على مهر المثل فيما أطلق ولا على الذي نص عليه من المقدر لأنها لم ترض به فخير بين الأمرين ليزول الضرر عنهما ومن أصحابنا من قال فيما قدر العوض فيه لا يقع الطلاق لأنه خالف نصه وفيما أطلق يقع الطلاق لأنه لم يخالف نصه وإنما خالفه من جهة الاجتهاد وهذا يبطل بالوكيل في البيع فأنه لا فرق بين أن يقدر له الثمن فباع بأقل منه وبين أن يطلق فباع بما دون ثمن المثل وإذا خالعها على خمر أو خنزير لم يقع الطلاق لأنه طلاق غير مأذون فيه فيخالف وكيل المرأة فأنه لا ويقع الطلاق وإنما يقبله فإذا كان العوض فاسداً سقط ورجع إلى مهر المثل.(2/495)
فصل: وإذا خالع امرأة في مرضه ومات لم يعتبر البدل من الثلث سواء حابى أو لم يحاب لأنه لا حق للورثة في بضع المرأة ولهذا لو طلق من غير عوض لم تعتبر قيمة البضع من الثلث فإن خالعت المرأة زوجها في مرضها وماتت فإن لم يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال لأن الذي بذلت بقيمة ما ملكته فأشبه إذا اشترت متاعاً بثمن المثل وإن زاد على مهر المثل اعتبرت الزيادة من الثلث لأنه لا يقابلها بدل فاعتبرت من الثلث كالهبة فإن خالعت على عبد قيمته مائة ومهر مثلها خمسون فقد حابت بنصفه فلم يخرج النصف من الثلث بأن كان عليها ديون تستغرق قيمة العبد فالزوج بالخيار بين أن يقر العقد في العبد فيستحق نصفه وبين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل ويضرب به مع الغرماء لأن الصفقة تبعضت عليه وإن خرج النصف من الثلث أخذ جميع العبد نصفه بمهر المثل ونصفه بالمحاباة ومن أصحابنا من قال هو بالخيار بين أن يقر العقد في العقد بين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل لأنه تبعضت عليه الصفقة من طريق الحكم لأنه دخل على أن يكون جميع العبد له عوضاً وقد صار نصفه عوضاً ونصفه وصية والمذهب الأول لأن الخيار إنما يثبت بتبعيض الصفة لما يلحقه من الضرر لسوء المشاركة ولا ضرر عليها ههنا لأنه صار جميع العبد له فلم يثبت له الخيار.(2/496)
ألفاً فأنت طالق ثلاثاً فأعطته بعض الألف لم يقع شئ لأن ما كان من جهته طريقه الصفات ولم توجد الصفة فلم يقع وما كان من جهتها طريقه الأعواض فقسم على عدد الطلاق وإن بقيت له على امرأته طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً ولك علي ألف فطلقها واحدة فالمنصوص أنه يستحق الألف واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس وأبو إسحاق المسألة مفروضة في امرأة علمت أنه لم يبق له لا طلقة فيكون معنى قولها طلقني ثلاثاً أي كمل لي الثلاث كرجل أعطى رجل نصف درهم فقال له أعطني درهماً أي كمل لي درهماً وأما إذا ظنت أن لها الثلاث لم يجب أكثر من ثلث الألف لأنها بذلت الألف في مقابلة الثلاث فوجب أن يكون لكل طلقة ثلث الألف ومن أصحابنا من قال يستحق الألف بكل حال لأن القصد من الثلاث تحريمها إلى أن تنكح زوجاً غيره وذلك يحصل بهذه السلفة فاستحق بها الجميع وقال المزني رحمه الله: لا يستحق إلا ثلث الألف علمت أو لم تعلم لأن التحريم يتعلق بها وبطلقتين قبلها كما إذا شرب ثلاث أقداح فسكر كان السكر بثلاث وإذا فقأ عين الأعور كان العمى بفقء الباقية وبالمفقوءة قبلها وهذا خطأ لأن لكل قدح تأثيراً في السكر ولذهاب العين الأولى تأثيراً في العمى ولا تأثير للأولى والثانية في التحريم لأنه لو كان لهما تأثير في التحريم لكمل لأنه لا يتبعض وإن ملك عليها ثلاث تطليقات فقالت له طلقني بألف فطلقها ثلاثاً استحق الألف لأنه فعل ما طلبته وزيادة فصار كما لو قال من رد عبدي فلاناً فله دينار فرده مع عبدين آخرين فإن قالت طلقني عشراً بألف فطلقها واحدة ففيه وجهان: أحدهما يجب عشر الألف لأنها جعلت لكل طلقه عشر الألف والثاني يجب له ثلث الألف لأنه ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم وإن طلقها ثلاثاً فله على الوجه الأول ثلاثة أعشار الألف وعلى الوجه الثاني له جميع الألف وإن بقيت له طلقة فقالت له: طلقني ثلاثاً على ألف طلقة أحرم بها عليك وطلقتين في نكاح آخر إذا نكحتني فطلقها لثلاث وقعت طلقة ولا يصح ما زاد لأنه سلف في الطلاق ولأنه طلاق قبل النكاح فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق فقال المسمى ووجب مهر المثل وإن قلنا نفرق الصفقة ففيما يستحق قولان: أحدهما ثلث الألف والثاني جميع الألف كما قلنا في البيع.
فصل: وإن قالت أنت طالق على ألف وطالق وطالق لم تقع الثانية والثالثة لأنها بانت بالأولى وإن قالت أنت طالق وطالق وطالق على الألف وقال أردت الأولى بالألف لم يقع ما بعدها لأنها بانت بالأولى وإن قال أردت الثانية بالألف فإن قلنا يصح خلع الرجعية وقعت الأولى رجعية وبانت بالثانية ولم تقع الثالثة وإن قلنا لا يصح خلع الرجعية وقعت(2/497)
الأولى رجعية أو الثانية رجعية وبانت الثالثة وإذا قال أردت الثالثة بالألف فقد ذكر بعض أصحابنا أنه يصح ويستحق الألف قولاً واحداً لأنه يحصل بالثالثة من التحريم ما لا يحصل بغيرها وعندي أنه لا يستحق الألف على القول الذي يقول أنه لا يصح خلع الرجعية لأن الخلع يصادف رجعية وإن قال أردت الثلاث بالألف لم تقع الثانية والثالثة لأن الأولى وقعت بثلث الألف وبانت بها فلم يقع ما بعدها.
فصل: وإن قال أنت طالق وعليك ألف طلقت ولا يستحق عليها شيئاً لأنه أوقع الطلاق من غير عوض ثم استأنف إيجاب العوض من غير طلاق فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجع لأنه طلق من غير عوض وإن قال أنت طالق على أن عليك ألفاً فقبلت صح الخلع ووجب المال لأن تقديره أنت طالق على ألف فإذا قبلت وقع الطلاق ووجب المال.
فصل: إذا قالت إن دفعت لي ألف درهم فأنت طالق فإن نويا صنفاً من الدراهم صح الخلع وحمل الألف على ما نويا لأنه عوض معلوم وإن لم ينويا صنفاً نظرت فإن كان في موضع فيه نقد غالب حمل العقد عليه لأن إطلاق العوض يقتضي نقد البلد كما تقول في البيع وإن لم يكن فيه نقد غالب فدفعت إليه ألف درهم بالعدد دون الوزن لم تطلق لأن الدراهم في عرف الشرع بالوزن وإن دفعت إليه ألف درهم نقرة لم تطلق لأنه لا يطلق اسم الدراهم على النقرة وإن دفعت إليه ألف درهم فضة طلقت لوجود الصفة ويجب ردها لأن العقد وقع على عوض مجهول ويرجع بمهر المثل لأنه تعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله وإن دفعت إليه دراهم مغشوشة فإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم طلقت لوجود الصفة وإن كانت الفضة فيها ألف درهم لم تطلق لأن الدراهم لم تطلق إلا على الفضة.
فصل: وإن قال أعطيتني عبداً فأنت طالق فأعطته عبداً تملكه طلقت سليماً كان أم معيباً قناً أو مدبراً لأن اسم العبد يقع عليه ويجب رده والرجوع بمهر المثل لأنه عقد وقع على مجهول وإن دفعت إليه مكاتباً أو مغصوباً لم تطلق لأنها لا تملك العقد عليه وإن قال إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فأعطته وهو مغصوب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها لا تطلق كما لو خالعها على عبد غير معين فأعطته عبداً مغصوباً والثاني وهو المذهب أنها تطلق لأنها أعطته ما عينه ويخالف إذا خالعها على عبد غير معين لأن هناك أطلق العقد فحمل على ما يقتضيه العقد والعقد يقتضي دفع عبد تملكه.(2/498)
فصل: وإن اختلف الزوجان فقال الزوج طلقتك على مال وأنكرت المرأة بانت بإقراره ولم يلزمها المال لأن الأصل عدمه وإن قال طلقتك بعوض فقالت طلقني بعوض بعد مضي الخيار بانت بإقراره والقول في العوض قولها لأن الأصل براءة ذمتها وإن اختلفا في قدر العوض أو في عينة أو صفته أو في تعجيله أو تأجيله تحالفا لأنه عوض في عقد معاوضة فتحالفا فيه على ما ذكرناه كالبيع فإذا تحالفا لم يرتفع الطلاق وسقط المسمى ووجب مهر المثل كما لو اختلفا في ثمن السلعة بعدما تلفت في يد المشتري وإن خالعها على ألف درهم واختلفا فيما نويا فادعى أحدهما صنفاً وادعى الأخر صنفاً آخر تحالفا ومن أصحابنا من قال لا يصح للاختلاف في النية لأن ضمائر القلوب لا تعلم والأول هو المذهب لأنه لما جاز أن تكون النية كاللفظ في صحة العقد عند الاتفاق وجب أن تكون كالفظ عند الاختلاف ولأنه قد يكون بينهما أمارات يعرف بها ما في القلوب ولهذا يصح الاختلاف في كنايات القذف والطلاق وإن قال أحدهما خالعت على ألف درهم وقال الآخر خالعت على ألف مطلق تحالفا لأن أحدهما يدعي الدراهم والأخر يدعي مهر المثل وإن بقيت له طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً على ألف فطلقها قلنا أنها إن علمت ما بقي استحق الألف وإن لم تعلم لم يستحق إلا ثلث الألف وإن اختلفا فقالت المرأة نعم أعلم وقال الزوج: بل علمت تحالفا ورجع الزوج إلى مهر المثل لأنه اختلاف في عوض الطلقة وهي تقول بذلت ثلث الألف في مقابلتها وهو يقول بذلت الألف.
فصل: وإن قال خالعتك على ألف وقالت بل خالعت غيري بانت المرأة لاتفاقهما على الخلع والقول في العوض قولها لأنه يدعي عليها حقاً والأصل عدمه وإن قالت خالعتك على ألف وقالت خالعتني على ألف ضمنها عني زيد لزمها الألف لأنها أقرت به ولا شيء على زيد إلا أن يقر به وإن قال خالعتك على ألف في ذمتك فقالت بل خالعتني على ألف لي في ذمة زيد تحالفا لأن الزوج يدعي عوضاً في ذمتها وهي تدعي عوضاً في ذمة غيرها وصار كما لو ادعى أحدهما أن العوض عنده وادعى أخر أنه عند الآخر.(2/499)
المجلد الثالث
كتاب الطلاق
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطلاق
يصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه وإن قال إذا تزوجت امرأة فهي طالق لم يصح لما روى المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك1". وأما الصبي فلا يصح طلاقه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق2". فأما من لا يعقل فإنه لم يعقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمجنون والمريض ومن شرب دواء للتداوي فزال عقله أو أكره على شرب الخمر حتى سكر لم يقع طلاقه لأنه نص في الخبر على النائم والمجنون وقسنا عليهما الباقين وإن لم يعقل بسبب لا يعذر فيه كمن شرب الخمر لغير عذر فسكر أو شرب دواء لغير حاجة فزال عقله فالمنصوص في السكران أنه يصح طلاقه وروى المزني أنه قال في القديم: لا يصح ظهاره والطلاق والظهار واحد فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يصح وهو اختيار المزني وأبي ثور لأنه زائل العقل فأشبه النائم أو مفقود الإرادة فأشبه بالمكره والثاني: أنه يصح وهو الصحيح لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن وطلحة والزبير رضي الله عنهم فقلت: إن خالداً يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فقال عمرهم هؤلاء عندك
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 7، الترمذي في كتاب الطلاق باب 6، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 17، أحمد في مسنده 2/190.
2 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 17، أحمد في مسنده 1/116.(3/3)
فاسألهم فقال علي عليه السلام: "تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة". فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال فجعلوه كالصاحي ومنهم من قال يصح طلاقه قولا واحدا ولعل ما رواه المزني حكاه الشافعي رحمه الله عن غيره وفي علته ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس إن سكره لا يعلم إلا منه وهو متهم في دعوى السكر لفسقه فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل والثاني: أنه يقع طلاقه تغليظاً عليه لمعصيته فعلى هذا يصح ما فيه تغليظ كالطلاق والعتق والردة وما يوجب الحد ولا يصح ما فيه تخفيف كالنكاح والرجعة وقبول الهبات والثالث أنه لما كان سكره بمعصية أسقط حكمه فجعل كالصاحي فعلى هذا يصح منه الجميع وهذا هو الصحيح لأن الشافعي رحمه الله نص على صحة رجعته.
فصل: وأما المكره فإنه ينظر فإن كان إكراهه بحق كالمولى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق وقع طلاقه لأنه قول حمل عليه بحق فصح كالحربي إذا أكره على الإسلام وإن كان بغير حق لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه1". ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر ولا يصير مكرهاً إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون المكره قاهراً له لا يقدر على دفعه والثاني: أن يغلب على ظنه أن الذي يخافه من جهته يقع به والثالث: أن يكون به ما يهدده به مما يلحقه ضرر به كالقتل والقطع والضرب المبرح والحبس الطويل والاستحقاق بمن يغض منه ذلك من ذوي الأقدار لأنه يصير مكرها بذلك وأما الضرب القليل في حق من لا يبالي به والاستخفاف بمن لا يغض منه أو أخذ القليل من المال ممن لا يتبين عليه أو الحبس القليل فليس بإكراه وأما النفي فإن كان فيه تفريق بينه وبين الأهل فهو إكراه وإن لم يكن فيه تفريق بينه وبين الأهل ففيه وجهان: أحدهما: أنه إكراه لأنه جعل النفي عقوبة كالحد
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب 16.(3/4)
ولأنه تلحقه الوحشة بمفارقة الوطن والثاني: ليس بإكراه لتساوي البلاد في حقه وإذا أكره على الطلاق فنوى الإيقاع ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع لأن اللفظ يسقط حكمه بالإكراه وبقيت النية من غير لفظ فلم يقع بها الطلاق والثاني: أنه يقع لأنه صار بالنية مختاراً.
فصل: وإن قال الأعمى لامرأته أنت طالق وهولا يعرف معناه ولا نوى موجبه لم يقع الطلاق كما لو تكلم بكلمة الكفر وهولا يعرف معناه ولم يرد موجبه وإن أراد موجبه بالعربية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الماوردي البصري أنه يقع لأنه قصد موجبه فلزمه حكمه والثاني: وهو قول الشيخ أبي أحمد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يصح كما لا يصير كافراً إذا تكلم بالكفر وأراد موجبه بالعربية.
فصل: ويملك الحر ثلاث تطليقات لما روى أبو رزين الأسدي قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فأين الثلاث؟ قال: تسريح بإحسان الثالثة ويملك العبد طلقتين لما روى الشافعي رحمه الله أن مكاتبا لأم سليمة طلق امرأته وهي حرة تطليقتين وأراد أن يراجعها فأمره أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان رضي الله عنه فيسأله فذهب إليه فوجده آخذاً بيد زيد بن ثابت فسألهما عن ذلك فابتدراه وقالا حرمت عليك حرمت عليك.
فصل: ويقع الطلاق على أربعة أوجه: واجب ومستحب ومحرم ومكروه فأما الواجب فهو في حالتين: أحدهما: إذا وقع الشقاق ورأى الحكمان الطلاق وقد بيناه في النشوز والثاني: إذا آلى منهما ولم يفئ إليهما ونذكره في الإيلاء إن شاء الله تعالى وأما المستحب فهو في حالتين: إحداهما إن كان يقصر في حقها في العشرة أوفي غيرها فالمستحب أن يطلقها لقوله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ولأنه إذا لم يطلقها في هذه الحال لم يؤمن أن يفضي إلى الشقاق أو إلى الفساد والثاني: أن لا تكون المرأة عفيفة فالمستحب أن يطلقها لما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن إمرأتي لا ترد يد لامس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلقها". ولأنه لا يأمن أن تفسد عليه الفراش وتلحق به نسبا ليس منه.(3/5)
فصل: وأما المحرم فهو طلاق البدعة وهو إثنان: أحدهما: طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل والثاني: طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل والدليل عليه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده مرة أخرى ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده أخرى ثم يمسكها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء ولأنه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة وإذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملاً فيندم على مفارقتها مع الولد لأنه لا يعلم هل علقت بالوطء فتكون عدتها بالحمل أولم تعلق فتكون عدتها بالإقراء وأما طلاق غير المدخول بها في الحيض فليس بطلاق بدعة لأنه لا يوجد تطويل العدة فأما طلاقها في الحيض وهي حامل على القول الذي يقول إن الحامل تحيض فليس ببدعة وقال أبو إسحاق هو بدعة لأنه طلاق في الحيض والمذهب الأول لما روى سالم أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل" ولأن الحامل تعتد بالحمل فلا يؤثر الحيض في تطويل عدتها وأما طلاق من لا تحمل في الطهر المجامع فيه وهي الصغيرة الآيسة من الحيض فليس ببدعة لأن تحريم الطلاق للندم على الولد أو للريبة بما تعتد به من الحمل والأقراء وهذا لا يوجد في حق الصغيرة والآيسة وأما طلاقها بعدما استبان حملها فليس ببدعة لأن المنع للندم على الولد وقد علم بالولد أو للإرتياب بما تعدت به وقد زال ذلك بالحمل وإن طلقها في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه وقع الطلاق لأن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فدل على أن الطلاق وقع والمستحب أن يراجعها لحديث ابن عمر رضي الله عنه ولأنه بالرجعة يزول المعنى الذي لأجله حرم الطلاق وإن لم يراجعها جاز لأن الرجعة إما أن تكون كابتداء النكاح أو كبقاء على النكاح ولا يجب واحد منهما.
فصل: وأما المكروه من الطلاق من غير سنة ولا بدعة والدليل عليه ما روى محارب ابن دثار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق1". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 3، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 1.(3/6)
طريقة فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها".
فصل: وإذا أراد الطلاق فالمستحب أن يطلقها طلقة واحدة لأنه يمكنه تلافيها وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف فإن عند أبي حنيفة لا يجوز جمعها ولأنه يسلم من الندم وإن جمعها في طهر واحد جاز لما روي أن عويمر العجلاني قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن امرأته كذبت عليها إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها". ولو كان جمع الثلاث محرماً لأنكر عليه فإن جمع الثلاث أو أكثر بكلمة واحدة وقع الثلاث لما روى الشافعي رحمه الله أن ركانة ابن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة" فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلولم يقع الثلاث إذا أراده بهذا اللفظ لم يكن لاستحلافه معنى وروي أن رجلاً قال لعثمان رضي الله عنه إني طلقت امرأتي مائة فقال ثلاث يحرمنها وسبعة وتسعون عدوان وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل طلق امرأته ألفاً فقال ثلاث منهن يحرمن عليه وما بقي فعليه وزره.
فصل: ويجوز أن يفوض الطلاق إلى امرأته لما روت عائشة رضي الله عنها قالت:(3/7)
لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير بنسائه بدأ بي فقال: "إني مخبرك خبرا وما أحب أن تصنعي شيئا حتى تستأمري أبويك " ثم قال: إن الله تعالى قا ل: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} إلى قوله: {مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 - 29] فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلته وإذا فوض الطلاق إليها فالمنصوص أن لها أن تطلق ما لم يتفرقا عن المجلس أو يحدث ما يقطع ذلك وهو قول أبي العباس ابن القاص وقال أبو إسحاق لا تطلق إلا على الفور لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فكان القبول فيه على الفور كالبيع وحمل قول الشافعي رحمه الله أنه أراد مجلس الخيار لا مجلس القعود وله أن يرجع فيه قبل أن تطلق وقال أبوعلي ابن خيران ليس له أن يرجع لأنه طلاق معلق بصفة فلم يجز الرجوع فيه كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وهذا خطأ لأنه ليس بطلاق معلق بصفة وإنما هو تمليك يفتقر إلى القبول يصح الرجوع فيه قبل القبول كالبيع وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثاً فطلقت واحدة وقعت لأن من ملك إيقاع ثلاث طلقات ملك إيقاع طلقة كالزوج إذا بقيت له طلقة طلق ثلاثا وإن قال لوكيله طلق امرأتي جاز أن يطلق متى شاء لأنه توكيل مطلق فلم يقتض التصرف على الفور كما لو وكله في بيع وإن قال له طلق امرأتي ثلاثاً فطلقها طلقة أو قال طلق امرأتي واحدة فطلقها ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالزوجة في المسألتين والثاني: لا يقع لأنه فعل غير ما وكل فيه.
فصل: وتصح إضافة الطلاق إلى جزء من المرأة كالثلث والربع واليد والشعر لأنه لا يتبعض وكان إضافته إلى الجزء كالإضافة إلى الجميع كالعفو عن القصاص وفي كيفية وقوعه وجهان: أحدهما: يقع على الجميع اللفظ لأنه لما لم يتبعض كان تسمية البعض كتسمية الجميع والثاني: أنه يقع على الجزء المسمى ثم يسري لأن الذي سماه هو البعض ولا يجوز إضافته إلى الريق والحمل لأنه ليس بجزء منها وإنما هو مجاور لها وإن قال بياضك طالق أو سوادك طالق أو لونك طالق ففيه وجهان: أحدهما: يقع لأنه من جملة الذات التي لا ينفصل عنها فهو كالأعضاء والثاني: لا يقع لأنها أعراض تحل في الذات.
فصل: ويجوز إضافة الطلاق إلى الزوج بأن يقول لها أنا منك طالق أو يجعل الطلاق إليها فتقول أنت طالق لأنه أحد الزوجين فجاز إضافة الطلاق إليه كالزوجة واختلف أصحابنا في إضافة العتق إلى المولى فمنهم من قال يصح وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنه إزالة ملك يجوز بالصريح والكناية فجاز إضافته إلى المالك كالطلاق وقال(3/8)
أكثر أصحبنا لا يصح والفرق بينه وبين الطلاق أن الطلاق يحل النكاح وهما مشتركان في النكاح والعتق يحل الرق والرق يختص به العبد. والله أعلم.(3/9)
باب ما يقع به الطلاق وما لا يقع
لا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية مع النية فإن نوى الطلاق من غير صريح ولا كناية لم يقع الطلاق لأن التحريم في الشرع علق على الطلاق ونية الطلاق ليست بطلاق ولأن إيقاع الطلاق بالنية لا يثبت إلا بأصل أو بالقياس على ما ثبت بأصل وليس ههنا أصل ولا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت.
فصل: والصريح ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح لأن الطلاق ثبت له عرف الشرع واللغة والسراح والفراق ثبت لهما عرف الشرع فإنهما ورد بهما القرآن فإذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك أو أنت مطلقة أو سرحتك أو أنت مسرحة أو فارقتك أو أنت مفارقة وقع الطلاق من غير نية فإن خاطبها بأحد هذه الألفاظ ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وقال أردت طلاقاً من وثاق أو قال سرحتك وقال أردت تسريحا من اليد أو قال فارقتك وقال أردت فراقاً بالجسم لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه فإن علمت المرأة صدقه فيما دين فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه وإن رآهما الحاكم على الاجتماع ففيه وجهان: أحدهما: يفرق بينهما بحكم الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر". والثاني: لا يفرق بينهما لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع وإن قال أنت طالق من وثاق أو سرحتك من اليد أو فارقتك بجسمي لم تطلق لأنه اتصل بالكلام ما يصرف اللفظ عن حقيقته ولهذا إذ قال لفلان علي عشرة إلا خمسة لم يلزمه عشرة وإذا قال: لا إله إلا الله لم يجعل كافرا بابتداء كلامه وإن قال: أنت طالق ثم قال قلته هازلاً وقع الطلاق ولم يدن لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة"1.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 9، الترمذي في كتاب الطلاق باب 9، ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 13.(3/9)
فصل: قال في الإملاء: لو قال له رجل طلقت امرأتك فقال نعم طلقت عليه في الحال لأن الجواب يرجع إلى السؤال فيصير كما لو قال طلقت ولهذا لو كان هذا جواباً عن دعوى لكان صريحا في الإقرار وإن قال أردت به في نكاح قبله فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأن اللفظ يحتمله وإن لم يكن له أصل لم يقبل لأنه يسقط حكم اللفظ وإن قال له أطلقت امرأتك فقال له قد كان بعض ذلك وقال أردت أني كنت علقت طلاقها بصفة قبل منه لأنه يحتمله اللفظ وإن قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك لم تطلق لأن قوله أنت طالق لولا أبوك ليس بإيقاع طلاق وإنما هو يمين بالطلاق وأنه لولا أبوها لطلقها فتصير كما لو قال والله لولا أبوك لطلقتك.
فصل: وأما الكناية فهي كثيرة وهي الألفاظ التي تشبه الطلاق وتدل على الفراق وذلك مثل قوله: أنت بائن وخلية وبرية وبتة وبتلة وحرة وواحدة وبيني وابتدعي واغربي واذهبي واستفلحي والحقي بأهلك وحبلك على غاربك واستتري وتقنعي واعتدي وتزوجي وذوقي وتجرعي وما أشبه ذلك فإن خاطبها بشيء من ذلك ونوى به الطلاق وقع وإن لم ينولم يقع لأنه يحتمل الطلاق وغيره فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا وإذا لم ينوبه الطلاق لم يصر طلاقاً كالإمساك عن الطعام والشراب لما احتمل الصوم وغيره إذا نوى به الصوم صار صوما وإذا لم ينوبه الصوم لم يصر صوما وإن قال أنا منك طالق أو جعل الطلاق إليها فقالت طلقتك أو أنت طالق فهو كناية يقع به الطلاق مع النية ولا يقع من غير(3/10)
نية لأن استعمال هذا اللفظ في الزوج غير متعارف وإنما يقع به الطلاق مع النية من جهة المعنى فلم يقع به من غير نية كسائر الكنايات وإن قال له رجل ألك زوجة فقال لا فإن لم ينوبه الطلاق لم تطلق لأنه ليس بصريح وإن نوى به الطلاق وقع لأنه يحتمل الطلاق.
فصل: واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه النية في الكنايات فمنهم من قال إذا قارنت النية بعض اللفظ من أوله أومن آخره وقع الطلاق كما أن في الصلاة إذا قارنت النية جزءاً منها صحت الصلاة ومنهم من قال لا تصح حتى تقارن إليه جميعها وهو أن ينوي ويطلق عقيبها وهو ظاهر النص لأن بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه فأما الصلاة فلا تصح حتى تقارن النية جميعها بأن ينوي الصلاة ويكبر عقيبها ومتى خلا جزء من التكبير عن النية لم تصلح صلاته.
فصل: وأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق من الألفاظ كقوله اقعدي واقربي واطعمي واسقيني وما أحسنك وبارك الله فيك وما أشبه ذلك فإنه لا يقع به الطلاق وإن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو أوقعنا الطلاق لأوقعناه بمجرد النية وقد بينا أن الطلاق لا يقع بمجرد النية.
فصل: واختلف أصحابنا في قوله أنت الطلاق فمنهم من قال هو كناية فإن نوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق وأقام المصدر مقام الفاعل كقوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أراد غائرا. وإن لم ينولم يقع لأن قوله أنت الطلاق لا يقتضي وقوع الطلاق ومنهم من قال هو صريح ويقع به الطلاق من غير نية لأن لفظ الطلاق يستعمل في معنى طالق والدليل عليه قول الشاعر:
أنوهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاما فعاما
فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما
وقال آخر:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق آلم
فأنت الطلاق والطلاق عزيمة ... ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم
فبيني بها إن كنت غير رفيقة ... فما لامرئ بعد الثلاثة مقدم
فصل: واختلفوا فيمن قال لامرأته كلي واشربي ونوى الطلاق فمنهم من قال لا يقع(3/11)
وهو قول أبي اسحق لأنه لا يدل على الطلاق فلم يقع به الطلاق كما لو قال أطعميني واسقيني ومنهم من قال يقع وهو الصحيح لأنه يحتمل معنى الطلاق وهو أن يريد كلي ألم الفراق واشربي كأس الفراق فوقع به الطلاق مع النية كقوله ذوقي وتجرعي.
فصل: إذا قال لامرأته اختاري أو أمرك بيدك فقالت اخترت لم يقع الطلاق حتى ينويا لأنه كناية لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلم يقع به الطلاق حتى يتفقا على نية الطلاق وإن قال اختاري ونوى اختيار الطلاق أو قال أمرك بيدي ونوى تمليك أمر الطلاق فقالت اخترت الزوج لم يقع الطلاق لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم تجعل ذلك طلاقا ولأن اختيار الزوج اختيار النكاح لا يحتمل غيره فلم يقع به الطلاق فإن قالت اخترت نفسي لم يقع الطلاق حتى تنوي الطلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه اخترت نفسي للنكاح ويحتمل اخترت نفسي للطلاق ولهذا لو صرحت به جاز فلم يقع به الطلاق من غير نية وإن قالت اخترت الأزواج ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقع لأن الزوج من الأزواج والثاني: يقع وهو الأظهر عندي لأنها لا تحل للأزواج إلا بمفارقته كما لو قال لها الزوج تزوجي ونوى به الطلاق وإن قالت اخترت أبوي ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق لأن اختيار الأبوين لا يقتضي فراق الزوج والثاني: أنه يقع لأنه يتضمن العود إليهما بالطلاق فصار كقوله الحقي بأهلك وإن قال لها أمرك بيدك ونوى به إيقاع الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق لأنه صريح في تمليك الطلاق وتعليقه على قبولها فلم يجز صرفه إلى الإيقاع والثاني: أنه يقع لأن اللفظ يحتمل الإيقاع فهو كقوله حبلك على غاربك.
فصل: إذا قال لامرأته أنت علي حرام ونوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل التحريم بالطلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار لأنه يحتمل التحريم بالظهار ولا يكون ظهارا ولا طلاقاً من غير نية لأنه ليس بصريح في واحد منهما وإن نوى تحريم عينها لم تحرم لما روى سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} إلى آخر الآية ويجب عليه بذلك كفارة يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية القبطية أم إبراهيم(3/12)
ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] فوجبت الكفارة في الأمة بالآية وقسنا الحرة عليها لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه وإن قال أنت علي حرام ولم ينو شيئاً ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه الكفارة فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحاً في إيجاب الكفارة لأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة الظهار والثاني: لا يجب فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحاً في شيء لأن ما كان كناية في جنس لا يكون صريحاً في ذلك الجنس ككنايات الطلاق وإن قال لأمته أنت علي حرام فإن نوى به العتق كان عتقاً لأنه يحتمل أنه أراد تحريمها بالعتق وإن نوى الظهار لم يكن ظهاراً لأن الظهار لا يصح من الأمة وإن نوى تحريم عينها لم تحرم ووجب عليه كفارة يمين لما ذكرناه وإن لم يكن له نية ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يجب عليه الكفارة قولاً واحدا لعموم الآية ومنهم من قال فيه قولان كالقولين في الزوجة لما ذكرناه وإن كان له نسوة أو إماء فقال أنتن علي حرام ففي الكفارة قولان: أحدهما: يجب لكل واحدة كفارة والثاني: يجب كفارة واحدة كالقولين فيمن ظاهر من نسوة وإن قال لامرأته أنت علي كالميتة والدم فإن نوى به الطلاق فهو طلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار وإن نوى به تحريمها لم تحرم وعليه كفارة يمين لما ذكرناه في لفظ التحريم وإن لم ينو شيئاً فإن قلنا إن لفظ التحريم صريح في إيجاب الكفارة لزمته الكفارة لأن ذلك كناية عنه وإن قلنا إنه كناية لم يلزم شيء لأن الكناية لا يكون لها كناية.
فصل: إذا كتب طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينولم يقع الطلاق لأن الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط فلم يقع الطلاق بمجردها وإن نوى به الطلاق ففيه قولان: قال في الإملاء لا يقع به الطلاق لأنه فعل ممن يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالإشارة وقال في الأم هو طلاق وهو صحيح لأنها حروف يفهم منها الطلاق فجاز أن يقع بها الطلاق كالنطق فإذا قلنا بهذا فهل يقع بها الطلاق من الحاضر والغائب فيه وجهان: أحدهما: أنه يقع بها إلا في حق الغائب لأنه جعل في العرف لإفهام الغائب كما جعلت الإشارة لإفهام الأخرس ثم لا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس وكذلك لا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب والثاني: أنه يقع بها من الجميع لأنها كناية فاستوى فيها الحاضر والغائب كسائر الكنايات.
فصل: فإن أشار إلى الطلاق فإن كان لا يقدر على الكلام كالأخرس صح طلاقه(3/13)
بالإشارة وتكون إشارته صريحاً لأنه لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة وحاجته إلى الطلاق كحاجته غيره فقامت الإشارة مقام العبارة وإن كان قادراً على الكلام لم يصح طلاقه بالإشارة لأن الإشارة إلى الطلاق ليست بطلاق إنما قامت مقام العبارة في حق الأخرس لموضع الضرورة ولا ضرورة ههنا فلم تقم مقام العبارة.(3/14)
باب عدد الطلاق والاستثناء فيه
إذا خاطب امرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق كقوله أنت طالق أو بائن أو بتة أو ما أشبهها ونوى طلقتين أو ثلاثاً وقع لما روي أن ركانة ابن عبد يزيد قال: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فدل على أنه لو أراد ما زاد على واحدة لوقع ولأن اللفظ يحتمل العدد بدليل أنه يجوز أن يفسره به وهو أن يقول أنت طالق طلقتين أو ثلاثاً أو بائن بطلقتين وثلاث وما احتمله اللفظ إذا نواه وقع به الطلاق كالكناية وإن قال أنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: يقع لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين والثاني: لا يقع ما زاد على واحدة لأنه صريح في واحدة ولا يحتمل ما زاد فلو أوقعنا ما زاد لكان إيقاع طلاق بالنية من غير لفظ وذلك لا يجوز وإن قال لها اختاري وقالت المرأة اخترت اتفقا على عدد ونوياه وقع ما نوياه وإن اختلفا فنوى أحدهما: طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع ما زاد على طلقة لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة وإذا نوى أحدهما: طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع لأنه لم يوجد الإذن والإيقاع إلا في طلقة فلم يقع ما زاد.
فصل: وإن قال أنت وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق الثلاث لم يقع شيء لأن قوله أنت ليس من ألفاظ الطلاق فلو أوقعنا الطلاق لكان بالنية في بيان العدد وإن قال أردت بعدد الإصبعين المقبوضتين قبل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وأشار بالأصابع ولم يقل هكذا وقال أردت واحدة ولم أرد العدد قبل لأنه يحتمل ما يدعيه.
فصل: وإن قال أنت طالق واحدة في اثنتين نظرت فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين وقعت ثلاث لأن في تستعمل بمعنى مع والدليل عليه قوله عز وجل: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29 - 30] والمراد مع عبادي فإن لم يكن له نية نظرت فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب طلقت طلقة واحدة بقوله أنت طالق(3/14)
ولا يقع بقوله في اثنتين شيء لأنه لا يعرف مقتضاه فلم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهولا يعرف معناه وإن نوى مقتضاه في الحساب ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبو بكر الصيرفي أنه يقع طلقتان لأنه أراد موجبه في الحساب وموجبه في الحساب طلقتان والثاني: وهو المذهب أنه لا يقع إلا طلقة واحدة لأنه إذا لم يعلم مقتضاه لم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهولا يعلم وقال أردت مقتضاه في العربية فإن كان عالماً في الحساب نظرت فإن نوى موجبه في الحساب طلقت طلقتين لأن موجبه في الحساب طلقتان وإن قال أردت واحدة في اثنتين باقيتين طلقت واحدة لأنه يحتمل ما يدعيه كقوله له عندي ثوب في منديل وأراد في منديل وإن لم يكن له نية فالمنصوص أنها تطلق طلقة لأن هذا اللفظ غير متعارف عند الناس ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين فلا أن يوقع بالشك وقال أبو إسحاق يحتمل أن تطلق طلقتين لأنه عالم بالحساب ويعلم أن الواحدة في اثنتين طلقتان في الحساب.
فصل: وإن قال أنت طالق طلقة بل طلقتان ففيه وجهان: أحدهما: يقع طلقتان كما إذا قال له علي درهم بل درهمان لزمه درهمان والثاني: يقع الثلاث والفرق بينه وبين الإقرار أن الإقرار إخبار يحتمل التكرار فجاز أن يدخل الدرهم في الخبرين والطلاق إيقاع فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين فحمل على طلاق مستأنف ولهذا لو أقر بدرهم في يوم ثم أقر بدرهم في يوم آخر لم يلزمه إلا درهم ولو طلقها في يوم ثم طلقها في يوم آخر كانتا طلقتين.
فصل: وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثاً وقع الثلاث لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجمع كما لو قيل ذلك للمدخول بها وإن قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم يكن له نية وقعت الأولى دون الثانية والثالثة وحكي عن الشافعي رحمه الله في القديم أنه قال يقع الثلاث فمن أصحابنا من جعل ذلك قولاً واحداً وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأن الكلام إذ لم ينقطع ارتبط بعضه ببعض فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا وقال أكثر أصحابنا لا يقع أكثر من طلقة وما حكي عن القديم إنما هو حكاية عن مالك رحمه الله ليس بمذهب له لأنه تقدمت الأولى فبانت بها فلم يقع ما بعدها.
فصل: وإن قال للمدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق نظرت فإن كان أراد به التأكيد لم يقع أكثر من طلقة لأن التكرار يحتمل التأكيد وإن أراد الإستئناف وقع بكل لفظة طلقة لأنه يحمل الاستئناف وإن أراد بالثاني التأكيد وبالثالث الاستئناف وقع(3/15)
طلقتان وإن لم يكن له نية ففيه قولان: قال في الإملاء: يقع طلقة لأنه يحتمل التكرار والاستئناف فلا يقع ما زاد على طلقة بالشك وقال في الأم: يقع الثلاث لأن اللفظ الثاني والثالث كاللفظ الأول فإذا وقع بالأول طلاق وجب أن يقع بالثاني والثالث مثله وأما إذا غاير بينها في الحروف بأن قال أنت طالق وطالق ثم طالق ولم يكن له نية وقع بكل لفظة طلقة لأن المغايرة بينها في اللفظ تسقط حكم التأكيد فإن ادعى أنه أراد التأكيد لم يقبل في الحكم لأنه يخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق وطالق وطالق وقع بالأول طلقة وبالثاني طلقة لتغاير اللفظين ويرجع في الثالث إليه لأنه لم يغاير بينه وبين الثاني فهو كقوله أنت طالق أنت طالق وإن غاير بين الألفاظ ولم يغاير بالحروف بأن قال أنت طالق أنت مسرحة أنت مفارقة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم المغايرة في الحروف لأنه إذا تغير الحكم بالمغايرة بالحروف فلأن يتغير بالمغايرة في لفظ الطلاق أولى والثاني: أن حكمه حكم اللفظ الواحد لأن الحروف هي العاملة في اللفظ وبها يعرف الاستئناف ولم توجد المغايرة في الحروف.
فصل: وإن قال أنت طالق بعض طلقة وقعت طلقة لأن ما يتبعض من الطلاق كان تسمية بعضه كتسمية جميعه كما لو قال بعضك طالق وإن قال أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة لأن نصفي طلقة هي طلقة وإن قال أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقع طلقتان لأن ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف فكمل النصف فصار طلقتين والثاني: تطلق طلقة لأنه أضاف الأنصاف الثلاثة إلى طلقة وليس للطلقة إلا نصفان فألغى النصف الثالث وإن قال أنت طالق نصفي طلقتين وقعت طلقتان لأنه يقع من كل طلقة نصفها ثم يسري فيصير طلقتين وإن قال أنت طالق نصف طلقتين ففيه وجهان: أحدهما: تقع طلقة واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة والثاني: أنه تقع طلقتان لأنه يقتضي النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل النصفان فيصير الجميع طلقتين وإن قال أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت طلقة واحدة لأنها أجزاء الطلقة وإن قال أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة وقع ثلاث طلقات لأن بدخول حروف العطف وقع بكل جزء طلقة وسرى إلى الباقي وإن قال أنت نصف طالق طلقت كما لو قال نصفك طالق وإن قال أنت نصف طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنه كناية فلا يقع بإطلاق من غير نية والثاني: أنه صريح فيقع به طلقة بناء على الوجهين فيمن قال لامرأته أنت الطلاق.
فصل: وإن كان له أربع نسوة فقال أوقعت عليكن أو بينكن طلقة طلقت كل واحدة(3/16)
منهن طلقة لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقة وتكمل بالسراية وإذا قال أوقعت عليكن أو بينكن طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً وقع على كل واحدة طلقة لأنه إذا قسم بينهن لم يزد نصيب كل واحدة منهن على طلقة وإن قال أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين وقع على كل واحدة طلقتان وإن قال أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات وقع على كل واحدة ثلاث طلقات لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ واللفظ محتمل له وإن قال أوقعت عليكن خمساً وقع على كل واحدة طلقتان لأنه يصيب كل واحدة طلقة وربع وكذلك إن قال أوقعت عليكن ستاً أو سبعاً أو ثمانيا وإن قال أوقعت عليكن تسعاً طلقت كل واحدة ثلاثا وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة طلقت كل واحدة ثلاثاً لأنه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن ثم يكمل.
فصل: وإن قال أنت طالق ملء الدنيا أو أنت طالق أطول الطلاق أو أعرضه وقعت طلقة لأن شيئاً من ذلك لا يقتضي العدد وقد تتصف الطلقة الواحدة بذلك كله.
فصل: وإن قال أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه وقعت طلقة لأنه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه لتعجلها أو لحبه لها أو لحبها له فلم يقع ما زاد بالشك وإن قال أنت طالق كل الطلاق أو أكثره وقع الثلاث لأنه كل الطلاق وأكثره.
فصل: وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة طلقت طلقتين لأن الجميع يصادف الزوجية وإن قال أردت بعدها طلقة أوقعها لم يقبل في الحكم لأن الظاهر أنه طلاق ناجز ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقعت طلقتان وفي كيفية وقوع ما قبلها وجهان: قال أبوعلي ابن أبي هريرة: يقع مع التي أوقعها لأن إيقاعها فيما قبلها إيقاع طلاق في زمان ماض فلم يعتبر كما لو قال أنت طالق أمس وقال أبو إسحاق يقع قبلها اعتباراً بموجب لفظه كما لو قال أنت طالق قبل موتي بشهر ثم مات بعد شهر ويخالف قوله أنت طالق أمس لأنا لو أوقعناه في أمس تقدم الوقوع على الإيقاع وههنا يقع الطلاقان بعد الإيقاع وإن قال أردت بقولي قبلها طلقة في نكاح قبله فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه وإن لم يكن له أصل لم يقبل منه لأنه لا يحتمل ما يدعيه.
فصل: وإن قال لها أنت طالق طلقة قبلها طلقة وبعدها طلقة طلقت ثلاثا على ما ذكرناه وإن قال لها أنت طالق طلقة وبعدها طلقة طلقت ثلاثاً لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقة ويقع قبلها نصف طلقة وبعدها نصف طلقة ثم يكمل النصفان فيصير الجميع ثلاثا.(3/17)
فصل: وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة لم تقع الثانية لأنها بائن بالأولى فلم تقع الثانية وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأن وقوع طلقة عليها يوجب وقوع طلقة قبلها ووقوع ما قبلها يمنع وقوعها فيما نعا بالدور وسقطا والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تطلق ليس شيء لأن وقوع طلقة قبلها ما قبلها يوجب إسقاطها وإسقاط ما قبلها فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها وإن قال أنت طالق طلقة معها طلقة ففيه وجهان: أحدهما: أنها تطلق واحدة وهو قول المزني لأنه أفردها فجاز كما لو قال أنت طالق واحدة بعدها واحدة والوجه الثاني أنها تطلق طلقتين لأنهما يجتمعان في الوقوع فلا تتقدم إحداهما على الأخرى فهو كما لو قال أنت طالق طلقتين وإن قال أنت طالق طلقتين ونصفا طلقت طلقتين لأنه جمع بين الطلقتين في الإيقاع فبانت بهما ثم أوقع النصف بعدما بانت فلم يقع.
فصل: إذا قال لامرأته أنت طالق طلقة لا تقع عليك طلقت لأنه أوقع الطلاق ثم أراد رفعه والطلاق إذا وقع لم يرتفع وإن قال أنت طالق أولا لم تطلق لأنه ليس بإيقاع.
فصل: ويصح الاستثناء في الطلاق لأنه لغة العرب ونزل به القرآن وحروفه إلا وغير وخلا وسوى وعدا وحاشى فإذا قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وقعت طلقتان وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين وقعت طلقة وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً طلقت ثلاثاً لأن الاستثناء يرفع المستثنى منه فيسقط وبقي الثلاث وإن قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين وطلقة ففيه وجهان: أحدهما: يقع الثلاث لأنه استثنى ثلاثا من ثلاث والثاني: تقع طلقة لأن الاستثناء الثاني هو الباطل فسقط وبقي الاستثناء الأول وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة طلقت ثلاثا لأنه يبقى طلقتان ونصف ثم يسري النصف إلى الباقي فيصير ثلاثاً وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة واحدة وقعت طلقة لأن المعطوف على الاستثناء مضموم إلى الاستثناء ولهذا إذا قال له علي مائة إلا خمسة وعشرين ضمت الخمسة إلى العشرين في الاستثناء ولزمه ما بقي وإن قال أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة ففيه وجهان: أحدهما: تطلق طلقة لأن الواو في الإسمين المنفردين كالتثنية فيصير كما لو قال أنت طالق طلقتين إلا طلقة والثاني: وهو المنصوص أنها تطلق طلقتين لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلقة واستثناء طلقة من طلقة باطل فسقط وبقي طلقتان وإن قدم الاستثناء على المستثنى منه بأن قال أنت إلا واحدة طالق ثلاثاً فقد قال بعض أصحابنا أنه لا يصح الاستثناء فيقع الثلاث لأن الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم من كلامه ويحتمل عندي أنه يصح الاستثناء فيقع طلقتان لأن التقديم والتأخير في ذلك لغة العرب قال الفرزدق يمدح(3/18)
هشام بن إبراهيم بن المغيرة خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
تقديره وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبو الممدوح.
فصل: ويصح الاستثناء من الاستثناء لقوله عز وجل: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 58 - 60] فاستثنى آل لوط من المجرمين واستثنى من آل لوط امرأته وإذ قال أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين إلا طلقة طلقت طلقتين لأن تقديره أنت طالق ثلاثاً إلا طلقتين فلا يقعان إلا طلقة فتقع وإن قال أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: أنها تطلق ثلاثاً لأنه لا يقع من الخمس إلا ثلاث فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً والثاني: أنها تطلق طلقتين لأنه لما وصل بالاستثناء علم أنه قصد الحساب وإن قلت أنت طالق خمساً إلا اثنتين طلقت على الوجه الأول طلقة وعلى الوجه الثاني تطلق ثلاثا وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يقع الثلاث لأن الاستثناء الأول يرفع المستثنى منه فيبطل والاستثناء الثاني فرع عليه فسقط وبقي الثلاث والثاني: تطلق طلقتين لأنه لما وصله بالاستثناء صار كأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا ثم أثبت اثنتين والثالث تقع طلقة لأن الاستثناء الأول لا يصح فسقط وبقي الاستثناء الثاني فيصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين.
فصل: وإن قال أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة وقال أبوها شئت واحدة لم تطلق لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيصير تقديره أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدة فلا يقع طلاق.
فصل: وإن قال امرأتي طالق أو عبدي حر أو لله علي كذا أو والله لأفعلن كذا إن شاء الله أو بمشيئة الله أو ما لم يشأ الله لم يصح شيء من ذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ثم قال إن شاء الله كان له ثنيا1 ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث2". ولأنه علق هذه الأشياء على مشيئة الله تعالى ومشيئته لا تعلم فلم يلزم بالشك شيء وإن قال أنت طالق إلا أن يشاء الله ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأنه مقيد بمشيئة الله تعالى فأشب
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 6.
2 رواه البخاري في كتاب الكفارات باب 9، مسلم في كتاب الأيمان حديث، 23. الترمذي في كتاب النذور باب 7. النسائي في كتاب الأيمان باب 43. الموطأ في كتاب النذور حديث 10.(3/19)
الطلاق وعلق رفعه بمشيئة الله تعالى ومشيئة الله لا تعلم فسقط حكم رفعه وبقي حكم ثبوته ويخالف إذا قال أنت طالق إن شاء الله فإنه علق الوقوع على مشيئة الله تعالى.
فصل: ولا يصح الاستثناء في جميع ما ذكرناه إلا أن يكون متصلاً بالكلام فإن انفصل عن الكلام من غير عذر لم يصح لأن العرف في الاستثناء أن يتصل بالكلام فإن انفصل لضيق النفس صح الاستثناء لأنه كالمتصل في العرف ولا يصح إلا أن يقصد إليه فأما إذا كانت عادته في كلامه أن يقول إن شاء الله فقال إن شاء الله على عادته لم يكن استثناء لأنه لم يقصده واختلف أصحابنا في وقت نية الاستثناء فمنهم من قال لا يصح إلا أن يكون ينوي ذلك من ابتداء الكلام ومنهم من قال إذا نوى قبل الفراغ من الكلام جاز.
فصل: إذا قال يا زانية أنت طالق إن شاء الله أو أنت طالق يا زانية إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الطلاق ولا يرجع إلى قوله يا زانية لأن الطلاق إيقاع فجاز تعليقه بالمشيئة وقوله يا زانية صفة فلا يصح تعليقها بالمشيئة ولهذا يصح أن يقول أنت طالق إن شاء الله ولا يصح إن يقول أنت زانية إن شاء الله وإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة فقال حفصة وعمرة طالقان إن شاء الله لم تطلق واحدة منهما وإن قال حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله فقد قال بعض أصحابنا تطلق حفصة ولا تطلق عمرة لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو طلاق عمرة ويحتمل عندي أن لا تطلق واحدة منهما لأن المجموع بالواو كالجملة الواحدة.
فصل: وإن طلق بلسانه واستثنى بقلبه نظرت فإن قال أنت طالق ونوى بقلبه إن شاء الله لم يصح الاستثناء ولم يقبل في الحكم ولا يدين فيه لأن اللفظ أقوى من النية لأن اللفظ يقع به الطلاق من غير نية والنية لا يقع بها الطلاق من غير لفظ فلو أعملنا النية لرفعنا القوي بالضعيف وذلك لا يجوز كنسخ الكتاب بالسنة وترك النص بالقياس وإن قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهم دين فيه لأنه لا يسقط اللفظ بل يستعمله في بعض ما يقتضيه بعمومه وذلك يحتمل فديه فيه ولا يقبل في الحكم وقال أبو حفص الباب بشامي: يقبل في الحكم لأن اللفظ يحتمل العموم والخصوص وهذا غير صحيح لأنه وإن احتمل الخصوص إلا أن الظاهر العموم فلا يقبل في الحكم دعوى الخصوص فإن قال امرأتي طالق ثلاثا واستثنى بقلبه إلا طلقة أو طلقتين لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ وهل يدين فيه وجهان: أحدهما: يدين لأنه لا يسقط حكم اللفظ وإنما يخرج بعض ما يقتضيه فدين فيه كما لو قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهن والثاني: لا يدين وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لأنه يسقط ما يقتضيه(3/20)
اللفظ بصريحه بما دونه من النية وإن قال لأربع نسوة أربعكن طالق واستثنى بعضهم بالنية لم يقبل في الحكم وهل يدين فيه وجهان: أحدهما: يدين والثاني: لا يدين ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها.(3/21)
باب الشرط في الطلاق
إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع وإذا لم يوجد لم يقع لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون عند شروطهم". ولأن الطلاق كالعتق لأن كل واحد منهما قوة وسراية ثم العتق إذا علق على شرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده فكذلك الطلاق فإن علق الطلاق على شرط ثم قال عجلت ما كنت علقت على الشرط لم تطلق في الحال لأنه تعلق بالشرط ولا يتغير وإذا وجد الشرط طلقت وإن قال أنت طالق ثم قال أردت إذا دخلت الدار أو إذا جاء رأس الشهر لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ بظاهره ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يدعي صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله فدين فيه كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد طلاقاً من وثاق فإن قال أنت طالق إن دخلت الدار وقال أردت الطلاق في الحال ولكن سبق لساني إلى الشرط لزمه الطلاق في الحال لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة.
فصل: والألفاظ التي تستعمل في الشرط في الطلاق من وإن وإذا ومتى وأي وقت وكلما وليس في هذه الألفاظ ما يقتضي التكرار إلا قوله كلما فإنه يقتضي التكرار فإذا قال من دخلت الدار فهي طالق أو قال لامرأته إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار أو متى دخلت الدار أوفي أي وقت دخلت الدار فأنت طالق فوجد الدخول وقع الطلاق وإن تكرر الدخول لم يتكرر الطلاق لأن اللفظ لا يقتضي التكرار وإن قال كلما دخلت الدار فأنت طالق فدخلت طلقت وإن تكرر الدخول تكرر الطلاق لأن اللفظ يقتضي التكرار.
فصل: وإن كانت له امرأة لا سنة في طلاقها ولا بدعة وهي الصغيرة التي لم تحض أو الكبيرة التي يئست من الحيض أو الحامل أو التي لم يدخل بها فقال لها أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للسنة أو للبدعة أو أنت طالق للسنة والبدعة طلقت لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها فلغت الصفة وبقي الطلاق فوقع فإن قال للصغيرة أو الحامل أو التي لم يدخل بها أنت طالق للسنة أو أنت طالق للبدعة وقال أردت به إذا صارت من أهل سنة الطلاق أو بدعته طلقت في الحال ولم يقبل ما(3/21)
يدعيه في الحكم لأن اللفظ يقتضي طلاقاً ناجزا ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن كانت له امرأة لها سنة وبدعة في الطلاق وهي المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء فقال لها: أنت طالق للسنة فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق في الحال لفقد الصفة فإذا جامعها أو حاضت طلقت لوجود الصفة وإن قال أنت طالق للسنة إن كنت في هذه الحالة ممن يقع عليها طلاق السنة فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه طلقت لوجود الصفة وإن كانت حائضا أوفي طهر جامعها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة وإن صارت في طهر لم تجامع فيه لم تطلق أيضاً لأنه شرط أن تكون للسنة وأن تكون في تلك الحال وذلك لا يوجد بعد انقضاء الحال وإن قال لها أنت طالق للسنة وللبدعة أو أنت طالق طلقة حسنة قبيحة طلقت في الحال طلقة لأنه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين فسقطت الصفتان وبقي الطلاق فوقع وإن قال أنت طالق طلقتين طلقة للسنة وطلقة للبدعة طلقت في الحال طلقة فإذا صارت في الحالة الثانية طلقت طلقة وإن قال أنت طالق طلقتين للسنة وللبدعة ففيه وجهان: أحدهما: يقع طلقة في حال السنة وطلقة في حال البدعة لأنه يمكن إيقاعها على الصفتين فلم يجز إسقاطهما والثاني: يقع في الحال طلقتان لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة من الطلقتين وإيقاع كل واحدة منهما على الصفتين لا يمكن فلغت الصفتان ووقعت الطلقتان وإن قال أنت طالق ثلاثاً للسنة وقع الثلاث في طهر لم يجامعها فيه لأن ذلك طلاق للسنة وإن قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وقع في الحال طلقتان لأن إضافة الطلاق إليهما يقتضي التسوية فيقع في الحال طلقة ونصف ثم يكمل فيصير طلقتين ويقع الباقي في الحالة الأخرى وإن قال أردت بالبعض طلقة في هذه الحال وطلقتين في الحالة الأخرى ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة إنه لا يقبل قوله في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق فصار كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد إذا دخلت الدار والثاني: وهو المذهب أنه يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأن البعض يقع على القليل والكثير حقيقة ويخالف دعوى دخول الدار فإن الظاهر إنجاز الطلاق فلم تقبل في الحكم دعوى التأخير.
فصل: وإن قال إن قدم فلان فأنت طالق فقدم وهي في طهر لم يجامع فيه وقع طلاق سنة وإن قدم وهي حائض أوفي طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعة إلا أنه لا يأثم لأنه لم يقصد كما إذا رمى صيداً فأصاب آدميا فقتله فإن القتل صادف محرماً لكنه لم يأثم لعدم القصد وإن قال إن أقدم فلان فأنت طالق للسنة فقدم وهي في حال السنة(3/22)
طلقت وإن قدم وهي في حال البدعة لم تطلق حتى تصير إلى حال السنة لأنه علقه بعد القدم بالسنة.
فصل: وإن قال أنت طالق أحسن الطلاق وأكمله وأعدله وما أشبهها من الصفات الحميدة طلقت للسنة لأنه أحسن الطلاق وأكمله وأعدله وإن قال أردت به طلاق البدعة واعتقدت أن الأعدل والأكمل في حقها لسوء عشرتها أن تطلق للبدعة نظرت فإن كان ما يدعيه من ذلك أغلظ عليه بأن تكون في الحال حائضا أوفي طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعة لأن ما ادعاه أغلظ عليه واللفظ يحتمله فقبل منه وإن كان أخف عليه بأن كانت في طهر لم يجامع فيه دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه مخالف للظاهر فإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وما أشبههما من صفات الذم طلقت في حال البدعة لأنه أقبح الطلاق وأسمجه وإن قال أردت طلاق السنة واعتقدت أن طلاقها أقبح الطلاق وأسمجه لحسن دينها وعشرتها فإن كان ذلك أغلظ عليه لما فيه من تعجيل الطلاق قبل منه لأنه أغلظ عليه واللفظ يحتمله وإن كان أخف عليه لما فيه من تأخير الطلاق دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ولا يقبل في الحكم لأنه مخالف للظاهر وإن قال أنت طالق طلاق الحرج طلقت للبدعة لأن الحرج فيما خالف السنة وأثم به.
فصل: وإن قال لها وهي حائض إذا طهرت فأنت طالق طلقت بانقطاع الدم لوجود الصفة وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر لأن إذا اسم للزمان المستقبل فاقتضى فعلاً مستأنفا ولهذا لو قال لرجل حاضر إذا جئتني فلك دينار لم يستحق بهذا الحضور حتى يغيب ثم يجيئه وإن قال لها وهي طاهر إن حضت فأنت طالق طلقت برؤية الدم وإن قال لها ذلك وهي حائض لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لما ذكرناه في الطهر فإن قال لها وهي حائض إن طهرت طهراً فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لأنه لا يوجد طهر كامل إلا أن تطعن في الحيض الثاني وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض لأن الطهر الكامل لا يوجد إلا بما ذكرناه وإن قال إن حضت حيضة فأنت طالق فإن كانت طاهراً لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر وإن كانت حائضاً لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر لما ذكرناه في الطهر.
فصل: وإن قال أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة نظرت فإن كانت لها سنة وبدعة في طلاقها نظرت فإن كانت طاهراً طلقت طلقة لأن ما بقي من الطهر قرء وإن كانت(3/23)
حائضاً لم تطلق حتى تطهر ثم يقع في كل طهر طلقة وإن لم يكن لها سنة ولا بدعة نظرت فإن كانت حاملاً طلقت في الحال طلقة لأن الحمل قرء يعتد به وإن كانت تحيض على الحمل لم تطلق في أطهارها لأنها ليست بأقراء ولهذا لا يعتد بها فإن راجعها قبل الوضع وطهرت في النفاس وقعت طلقة أخرى فإذا حاضت وطهرت وقعت الثالثة وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت فإن كانت صغيرة مدخولاً بها طلقت في الحال طلقة فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت وإن راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق.
فصل: وإن قال إن حضت فأنت طالق فقالت حضت فصدقها طلقت وإن كذبها فالقول قولها مع يمينها لأنه لا يعرف الحيض إلا من جهتها وإن قال لها قد حضت فأنكرت طلقت بإقراره وإن قال لها إن حضت فضرتك طالق فقالت حضت فإن صدقها طلقت ضرتها وإن كذبها لم تطلق لأن قولها يقبل على الزوج في حقها ولا يقبل على غيرها إلا بتصديق الزوج كالمودع يقبل قوله في رد الوديعة على المودع ولا يقبل في الرد على غيره وإن قال إذا حضت فأنت وضرتك طالقان فقالت حضت فإن صدقها طلقتا وإن كذبها وحلفت طلقت هي ولم تطلق ضرتها وإن صدقتها الضرة على حيضها لم يؤثر تصديقها ولكن لها أن تحلف الزوج على تكذيبها وإن قال إذا حضتما فأنتما طالقتان فإن قالتا حضنا فصدقهما طلقتا وإن كذبهما لم تطلق واحدة منهما لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين حيضها وحيض صاحبتها ولا يقبل قول كل واحدة منهما إلا في حيضها أوفي حقها نفسها دون صاحبتها ولم يوجد الشرطان وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى طلقت المكذبة لأنها غير مقبولة القول على صاحبتها ومقبولة القول في حق نفسها وقد صدق الزوج صاحبتها فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت والمصدقة مقبولة القول في الحيض في حق نفسها وقد صدقها الزوج وقول صاحبتها غير مقبول في حيضها في طلاقها ولم يوجد الشرطان في حقها فلم تطلق.
فصل: وإن قال لامرأتين إن حضتما حيضة فأنتما طالقان ففيه وجهان: أحدهما: أن هذه الصفة لا تنعقد لأنه يستحيل اجتماعهما في حيضة فبطل والثاني: أنهما إذا حاضتا وقع الطلاق لأن الذي يستحيل هو قوله حيضة فيلغي لاستحالتها ويبقى قوله إن حضتما فيصير كما لو قال إن حضتما فأنتما طالقتان وقد بينا حكمه.
فصل: وإن قال لأربع نسوة إن حضتن فأنتن طوالق فقد علق طالق كل واحدة منهن(3/24)
بأربع شرائط وهي حيض الأربع فإن قلن حضنا وصدقهن طلقن لأنه وجد حيض الأربع وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يثبت حيض الأربع لأن قول كل واحدة منهن لا يقبل إلا في حقها وإن صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يوجد الشرط وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة لأن قولها مقبول في حيضها في حق نفسها وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الأربع في حقها فطلقت ولا تطلق المصدقات لأن قول كل واحدة منهن مقبول في حيضها في حقها غير مقبول في حق صواحبها وقد بقيت واحدة منهن مكذبة فلم تطلق لأجلها.
فصل: وإن قال لهن كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق فقد جعل حيض كل واحدة منهن صفة لطلاق البواقي فإن قلن حضنا فصدقهن طلقت كل واحدة منهن ثلاثاً لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب تطلق بحيض كل صاحبة طلقة فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأن كل واحدة منهن وإن قبل قولها في حقها إلا أنه لا يقبل في حق غيرها وإن صدق واحدة منهن وقع على كل واحدة منهن طلقة لأن لكل واحدة منهن صاحبة ثبت حيضها ولا يقع على المصدقة طلاق لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها وإن صدق اثنتين وقع على كل واحدة منهما طلقة لأن لكل واحدة منهما صاحبة ثبت حيضها ويقع على كل واحدة من المكذبتين طلقتان لأن لكل واحدة منهما صاحبتين ثبت حيضهما فإن صدق ثلاثاً وقع على كل واحدة منهن طلقتان لأن لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما ووقع على المكذبة ثلاث تطليقات لأن لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن.
فصل: وإن قال لامرأته إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق لم يجز وطؤها قبل الاستبراء لأن الأصل عدم الحمل ووقوع الطلاق فإن لم يكن بها حمل طلقت وإن وضعت حملاً لأقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق لم تطلق لأنا تيقنا من أنها كانت حاملا عند العقد وإن وضعته لأكثر من أربع سنين طلقت طلقة لأنا تيقنا أنها لم تكن حاملاً عند العقد وإن وضعته لما بين ستة أشهر وأربع سنين نظرت فإن لم يطأها الزوج في هذه المدة لم يقع الطلاق لأنا حكمنا بأنها كانت حاملا عند العقد وإن كان وطئها نظرت فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لم يقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته لأكثر من ستة(3/25)
أشهر من وقت العقد والوطء جميعا ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنها تطلق لأنه يجوز أن يكون قبل الوطء ويجوز أن يكون حدث من الوطء والظاهر أنه حدث من الوطء لأن الأصل فيما قبل الوطء العدم والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنها لم تطلق لأنه يحتمل أن يكون موجودا عند العقد ويحتمل أن يكون حادثا من الوطء بعده والأصل بقاء النكاح وإن قال لها إن كنت حاملاً فأنت طالق فهل يحرم وطؤها قبل الاستبراء فيه وجهان: أحدهما: لا يحرم لأن الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة والثاني: يحرم لأنه يجوز أن تكون حاملاً فيحرم وطؤها ويجوز أن لا تكون حاملاً فيحل وطؤها فغلب التحريم فإن استبرأها ولم يظهر الحمل فهي على الزوجية وإن ظهر الحمل نظر فإن وضعت لأقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق حكم بوقوع الطلاق لأنا تيقنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت العقد لم تطلق لأنا علمنا أنها لم تكن حاملا وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين نظرت فإن كان الزوج لم يطأها طلقت لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وطئها نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء وقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد وإن وطئها نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء وقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملاً وقت العقد وإن وضعته بعد ستة أشهر من بعد وطئه لم يقع الطلاق وجهاً واحداً لأنه يجوز أن يكون موجودا وقت العقد ويجوز أن يكون حدث بعده فلا يجوز أن يوقع الطلاق بالشك واختلف أصحابنا في صفة الاستبراء ووقته وقدره وذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايني رحمه الله في الاستبراء في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها ثلاثة أقراء وهي أطهار لأنه استبراء حرة فكان بثلاثة أطهار والثاني: بطهر لأن القصد براءة الرحم فلا يزاد على قرء واستبراء الحرة لا يجوز إلا بالطهر فوجب أن يكون طهرا والثالث أنه بحيضه لأن القصد من هذا الاستبراء معرفة براءة الرحم والذي يعرف به براءة الرحم الحيض وهل يعتد بالاستبراء قبل عقد الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتد لأن الاستبراء لا يجوز أن يتقدم على سببه والثاني: يعتد به لأن القصد معرفة براءة الرحم وذلك يحصل وإن تقدم ومن أصحابنا من قال في المسألة الثانية: الاستبراء على ما ذكرناه لأن الاستبراء لاستباحة الوطء فأما في المسألة الأولى فلا يجوز الاستبراء بدون ثلاثة أطهار ولا يعتد بما وجد منه قبل الطلاق لأنه استبراء حرة للطلاق فلا يجوز بما دون ثلاثة أطهار ولا بما تقدم على الطلاق كالاستبراء في سائر المطلقات.
فصل: إذا قال لامرأته إن ولدت ولداً فأنت طالق فولدت ولداً طلقت حياً كان أو(3/26)
ميتاً لأن اسم الولد يقع على الجميع فإن ولدت آخر لم تطلق لأن اللفظ لا يقتضي التكرار وإن قال كلما ولدت ولداً فأنت طالق فولدت ولدين من حمل واحداً بعد واحد طلقت بالأول ولم تطلق بالثاني وإن ولدت ثلاثة أولاد واحداً بعد واحد طلقت بالأول طلقة وبالثاني طلقة ولا يقع بالثالث شيء وحكى أبوعلي بن خيران عن الإملاء قولاً آخر أنه يقع بالثالث طلقة أخرى والصحيح هو الأول لأن العدة انقضت بالولد الأخير فوجدت الصفة وهي بائن فلم يقع بها طلاق كما لو قال إذا مت فأنت طالق وإن ولدت ثلاثة دفعة واحدة طلقت ثلاثاً لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة فوقع كما لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق وإن كلمت عمرا فأنت طالق وإن كلمت بكرا فأنت طالق فلمتهم دفعة واحدة طلقت ثلاثا وإن قال إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة واحدة وإن قال إن ولدت أنثى فأنت طالق طللقتين فوضعت ذكرا وأنثى دفعة واحدة طلقت ثلاثا وإن وضعت أحدهما: بعد الآخر وقع بالأول ما علق عليه ولم يقع بالثاني شيء لبينونتها بانقضاء العدة وهذا ظاهر وإن لم تعلم كيف وضعتهما طلقت طلقة لأنها يقين والورع أن يلتزم الثلاث وإن قال يا حفصة إن كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق وإن كان أنثى فأنت طالق فولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة لم تطلق واحدة منهما لأنه ليس فيهما أول وإن قال إن كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقة وإن كان في بطنك أنثى فأنت طالق طلقتين فوضعت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا لاجتماع الصفتين وإن قال إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق فوضعت ذكرا وأنثى لم تطلق لأن الصفة أن يكون جميع ما في البطن ذكرا ولم يوجد ذلك.
فصل: وإذا قال للمدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان: إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة وإن قال لم أرد بقولي إذا طلقتك فأنت طالق عقد الطلاق بالصفة وإنما أردت أني إذا طلقتك تطلقين بما أوقع علىك من الطلاق لم يقبل قوله في الحكم لأن الظاهر أنه عقد طلاقاً على صفة ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إن طلقتك فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وقعت طلقتان إحداهما بدخول الدار والأخرى بوجود الصفة لأن الصفة أن يطلقها وإن علق طلاقها بدخول الدار فدخلت فقد طلقها وإن قال لها مبتدئاً إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال إذا طلقتك فأنت طالق فدخلت الدار وقعت طلقة بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا طلقتك فأنت طالق لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع ما بعد عقد الصفة وما وقع بدخول الدار ليس بابتداء إيقاع بعد عقد الصفة وإنما هو(3/27)
وقوع بالصفة السابقة لعقد الطلاق فإن قال إن طلقك فأنت طالق ثم وكل من يطلقها فطلقها وقعت الطلقة التي أوقعها الوكيل ولا يقع ما عقده على الصفة لأن الصفة أن يطلقها بنفسه وإن قال إذا أوقعت إليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت فقد قال بعض أصحابنا أنها تطلق صفة بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا أوقعت عليك لأن قوله إذا أوقعت عليك يقتضي طلاقاً يباشر إيقاعه وما يقع بدخول الدار يقع حكماً قال الشيخ الإمام: وعندي أنه يقع طلقتان إحداهما بدخول الدار والأخرى بالصفة كما قلنا فيمن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وإن قال كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق طلقت طلقتين إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية لأن الصفة إيقاع الطلاق والصفة لم تتكرر فلم يتكرر الطلاق.
فصل: وإن قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقعت طلقتان طلقة بقوله أنت طالق وطلقة بوجود الصفة وإن قال لها بعد هذا العقد أو قبله إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار طلقت طلقتين طلقة بدخول الدار وطلقة بوجود الصفة وإن كان وكيلاً بعد هذا العقد في طلاقها فطلقها ففيه وجهان: أحدهما: يقع ما أوقعه الوكيل ولا يقع ما علقه بالصفة كما قلنا فيمن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم وكل من يطلق والثاني: أنه يقع طلقتان طلقة بإيقاع الوكيل وطلقة بالصفة لأن الصفة وقوع طلاق الزوج وما وقع بإيقاع الوكيل هو طلاق الزوج وإن قال إذا طلقتك فأنت طالق وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقع الثلاث طلقة بقوله أنت طالق وطلقتان بالصفتين وإن قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة أو نصفه عقدها قبل هذا العقد أو بعده طلقت ثلاثاً واحدة بعد واحدة لأن بالطلقة الأولى توجد صفة الطلقة الثانية وبالثانية توجد صفة الطلقة الثالثة.
فصل: وإن قال لغير المدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق أو إذا وقع عليك طلاقي(3/28)
فأنت طالق أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوقعت عليها طلقة بالمباشرة أو بالصفة لم يقع غيرها لأنها تبين بها فلم يلحقها ما بعدها.
فصل: وإن قال متى لم أطلقك أو إي وقت لم أطلقك فأنت طالق فهو على الفور فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه وقع الطلاق وإن قال لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على التراخي ولا يقع به الطلاق إلا عند فوات الطلاق وهو عند موت أحدهما: وإن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على الفور فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فلم يطلق وقع الطلاق فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين ومنهم من حملهما على ظاهرهما فجعل قوله إن لم أطلقك على التراخي وجعل قوله إذا لم أطلقك على الفور وهو الصحيح لأن قوله إذا اسم لزمان مستقبل ومعناه أي وقت ولهذا يجاب به عن السؤال عن الوقت فيقال متى ألقاك فتقول إذا شئت كما تقول أي وقت شئت فكان على الفور كما لو قال أي وقت لم أطلقك فأنت طالق وليس كذلك إن فإنه لا يستعمل في الزمان ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك فتقول إن شئت وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل فيقال هل ألقاك فتقول إن شئت فيصير معناه إن فاتني أن أطلقك فأنت طالق والفوات يكون في آخر العمر وإن قال لها كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات لم تطلق فيها وقع عليها ثلاث طلقات واحدة بعد واحدة لأن معناه كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق وقد سكت ثلاث سكتات.
فصل: وإن قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها إن خرجت أو إن لم تخرجي أو إن لم يكن هذا كما قلت فأنت طالق طلقت لأنه حلف بطلاقها وإن قال إن طلعت الشمس أو إن جاء الحاج فأنت طالق لم يقع الطلاق حتى تطلع الشمس أو يجيء الحاج لأن اليمين ما قصد بها المنع من فعل أو الحث على فعل أو التصديق على فعل وليس في طلوع الشمس ومجيء الحاج منع ولا حث ولا تصديق وإنما هو صفة للطلاق فإذا وجدت وقع الطلاق بوجود الصفة وإن قال لها إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول وقعت طلقة لأنه حلف بطلاقها فإن أعاد ثالثاً وقعت طلقة ثانية وإن أعاد رابعاً وقعت طلقة ثالثة لأن كل مرة توجد صفة طلاق وتنعقد صفة أخرى وإن أعادها خامساً لم يقع طلاق لأنه لم يبق له طلاق ولا ينعقد به يمين في طلاق غيرها لأن اليمين بطلاق من لا يملكها لا ينعقد وإن كانت له امرأتان إحداهما مدخول بها والأخرى غير مدخول بها فقال إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول(3/29)
بها طلقة رجعية وتطلق غير المدخول بها طلقة بائنة فإن أعاد لم تطلق واحدة منهما لأن غير المدخول بها بائن والمدخول بها لا يوجد شرط طلاقها لأن شرط طلاقها أن يحلف بطلاقهما ولم يحلف بطلاقهما لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها.
فصل: وإذا كان له أربعة نسوة وعبيد فقال: كلما طلقت امرأة من نسائي فعبد من عبيدي حر وكلما طلقت امرأتين فعبدان حران وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أعبد أحرار وكلما طلقت أربعاً فأربعة أعبد أحرار ثم طلقهن فالمذهب أنه يعتق خمسة عشر عبداً لأن بطلاق الأولى يعتق عبد بوجود صفة الواحدة وبطلاق الثانية يعتق ثلاثة أعبد لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وبطلاق الثالثة يعتق أربعة أعبد لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق الثلاث وبطلاق الرابعة يعتق سبعة أعبد لأنه اجتمع ثلاث صفات طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وطلاق أربع ومن أصحابنا من قال يعتق سبعة عشر عبداً لأن في طلاق الثالثة ثلاث صفات طلاق واحدة وطلاق اثنتين بعد الواحدة وطلاق الثلاث ومنهم من قال يعتق عشرون عبداً فجعل في الثلاث ثلاث صفات وجعل في الأربع أربع صفات طلاق واحدة وطلاق اثنتين وطلاق ثلاث بعد الواحدة وطلاق أربع والجميع خطأ لأنهم عدوا الثانية مع ما قبلها من الاثنتين وعدوا الثالثة مع ما قبلها من الثلاث ثم عدوهما مع ما بعدهما من الاثنتين والثلاث وهذا لا يجوز لأن ما عد مرة في عدد لا يعد في ذلك العدد مرة أخرى والدليل عليه أنه لو قال كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر ثم أكل رمانة عتق عبدان لأن الرمانة نصفان ثم لا يقال إنه يعتق ثلاثة لأنه إذا أكل نصف رمانة عتق عبد فإذا أكل الربع الثالث عتق عبد لأنه مع الربع الثاني نصف وإذا أكل الربع الرابع عتق عبد لأنه مع الربع الثالث نصف فكذلك ههنا وقال أبو الحسن بن القطان يعتق عشرة لأن الواحدة والاثنتين والثلاث والأربع عشر وهذا خطأ أيضاً لأن قوله كلما طلقت يقتضي التكرار وقد وجد طلاق الواحدة أربع مرات وطلاق المرأتين مرتين وطلاق الثلاث مرة وطلاق الأربع مرة فأسقط ابن القطان اعتبار ما يقتضيه اللفظ من التكرار في المرأة والمرأتين وهذا لا يجوز.
فصل: إذا كان له أربع نسوة فقال: أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق ثم طلق واحدة منهن طلقن ثلاثاً ثلاثاً لأن طلاق الواحدة يوقع على كل واحدة منهن طلقة واحدة ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة منهن يوقع الطلاق على صواحبها وهن ثلاث فطلقت كل واحد منهن ثلاثاً.
فصل: وإن كان له امرأتان فقال لإحداهما أنت طالق طلقة بل هذه ثلاثاً وقع على(3/30)
الأول طلقة وعلى الثانية ثلاث لأنه إذا وقع على الأولى طلقة ثم أراد رفعها فلم يرتفع وأوقع على الثانية ثلاثا فوقعت وإن قال للمدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثاً إن دخلت الدار فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر بن الحداد المصري تطلق واحدة في الحال ويقع بدخول الدار إتمام الثلاث لأنه نجز واحدة فوقعت وعلق ثلاثاً على الشرط فوقع ما بقي منها عند وجود الشرط ومن أصحابنا من قال: يرجع الشرط إلى الجميع ولا تطلق حتى تدخل الدار لأن الشرط يغلب الإيقاعين فرجع إليهما.
فصل: وإن قال لها أنت طالق إلى شهر ولم يكن له نية وقع الطلاق بعد الشهر لأن إلى تستعمل في انتهاء الفعل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وتستعمل أيضاً في ابتداء الفعل كقولهم فلان خارج إلى شهر فلا يقع الطلاق في الحال مع الاحتمال كما لا يقع بالكنايات من غير نية.
فصل: وإن قال أنت طالق في شهر رمضان طلقت برؤية الهلال أول الشهر وقال أبو ثور: لا تطلق إلا في آخر الشهر لتستوعب الصفة التي علق الطلاق عليها وهذا خطأ لأن الطلاق إذا علق على شيء وقع بأول جزء منه كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق لأنها تطلق بالدخول إلى أول جزء من الدار فإن قال أردت في آخر الشهر دين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه يؤخر الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه وإن قال أنت طالق في أول الشهر وقع الطلاق في أول ليلة يرى فيها الهلال وإن قال أنت طالق في غرة الشهر طلقت في أوله فإن قال أردت اليوم الثاني أو الثالث دين لأن الثالث من أول الشهر تسمى غررا ولا يقبل في الحكم لأنه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه وإن قال أنت طالق في آخر الشهر طلقت في آخر يوم منه تاماً كان الشهر أو ناقصا وإن قال أنت طالق في أول آخر رمضان ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر لأن آخر الشهر هو النصف الثاني وأوله أول ليلة السادس عشر والثاني: أنها تطلق في أول اليوم الأخير من آخر الشهر لأن آخر الشهر هو اليوم الأخير فوجب أن تطلق في أوله وإن قال: أنت طالق في آخر أول الشهر طلقت على الوجه الأول في آخر اليوم الخامس عشر وعلى الوجه الثاني تطلق في آخر اليوم الأول،(3/31)
وإن قال أنت طالق في آخر أول آخر رمضان طلقت على الوجه الأول عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر لأن أول آخر الشهر ليلة السادس عشر وآخرها عند طلوع الفجر من يومها وعلى الوجه الثاني تطلق بغروب الشمس من آخر يوم منه لأن أول آخره إذا طلع الفجر من آخر يوم منه فكان آخره عند غروب الشمس وإن قال: أنت طالق في أول آخر أول الشهر طلقت على الوجه الأول بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر لأن آخر أوله عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر فكان أول طلوع فجره وعلى الوجه الآخر تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر لأن آخر أول الشهر غروب الشمس من أول يوم منه فكان أوله طلوع الفجر.
فصل: وإن قال أنت طالق اليوم طلقت في الحال لأنه من اليوم وإن قال أنت طالق في غد طلقت بطلوع فجره وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد لم تطلق لأنه لا يجوز أن تطلق اليوم لأنه لم يوجد شرطه وهو مجيء الغد ولا يجوز أن تطلق إذا جاء غد لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله وإن قال أنت طالق اليوم غداً طلقت اليوم طلقة ولا تطلق غداً طلقة أخرى لأن طلاق اليوم تعين وقوله غداً يحتمل أن تكون طالقة بطلاقها اليوم فلا نوقع طلاقا بالشك وإن قال أردت طلقة في اليوم وطلقة في غد طلقت طلقتين لأن اللفظ يحتمل ما يدعيه وهو غير متهم فيه لما فيه عليه من التغليظ وإن قال أردت نصف طلقة اليوم ونصف طلقة غدا طلقت طلقتين طلقة بالإيقاع وطلقة بالسراية وإن قال أردت نصف طلقة اليوم والنصف الباقي في غد ففيه وجهان: أحدهما: تطلق اليوم طلقة ولا تطلق غداً لأن النصف الباقي قد وقع في اليوم فلم يبق ما يقع غداً والثاني: أنه يقع في اليوم الثاني طلقة أخرى لأن الذي وقع في اليوم بالسراية وبقي النصف الثاني فوقع في الغد فسرى وإن قال أنت طالق اليوم أوغدا ففيه وجهان: أحدهما: تطلق غداً لأنه يقين والثاني: أنها تطلق اليوم لأنه جعل كل واحدة منهما محلاً للطلاق فتعلق بأولهما.
فصل: إذا قال إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق فرآه غيره طلقت لأن رؤية الهلال في عرف الشرع رؤية الناس والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"1. ويجب الصوم والفطر برؤية غيره وإن قال أردت رؤيتي لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف الظاهر ويدين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه فإن رآه بالنهار لم تطلق لأن رؤية هلال
__________
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 11، الترمذي في كتاب الصوم باب 3، 5، النسائي في كتاب الصيام باب 9، 12، ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7، أحمد في مسند 1/226.(3/32)
الشهر ما يراه في الشهر وهو بعد الغروب ولهذا لا يتعلق الصوم والفطر إلا بما نراه بعد الغروب وإن غم عليهم الهلال فعدوا شعبان ثلاثين يوماً طلقت لأنه قد ثبتت الرؤية بالشرع فصار كما لو ثبتت بالشهادة وإن أراد رؤيته بعينه فلم يره حتى صار قمراً لم تطلق لأنه ليس بهلال حقيقة واختلف الناس فيما يصير به قمراً فقال بعضهم يصير قمرا إذا استدار وقال بعضهم إذا بهر ضوءه.
فصل: إذا قال إذا مضت سنة فأنت طالق اعتبر مضي السنة بالأهلة لأنها هي السنة المعهودة في الشرع فإن كان العقد أول الشهر مضى اثنا عشر شهراً بالأهلة طلقت فإن كان في أثناء الشهر حسب ما بقي من الشهر الهلالي فإن بقي خمسة أيام عد بعدها أحد عشر شهراً بالأهلة ثم عد خمسة وعشرين يوماً من الشهر الثاني عشر لأنه تعذر اعتبار الهلال في شهر فعد شهراً بالعدد كما نقول في الشهر الذي غم عليهم الهلال في الصوم فإن قال: أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما أو سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً لم يقبل في الحكم لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه لأن السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس يوم وسدس يوم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إذا مضت السنة فأنت طالق طلقت إذا مضت بقية سنة التاريخ وهو انسلاخ ذي الحجة قلت البقية أو كثرت لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك فإن قال أردت سنة كاملة دين لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه يدعي ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه فإن قال أنت طالق في كل سنة طلقة حسبت السنة من حين العقد كما إذا حلف لا يكلم فلاناً سنة جعل ابتداء السنة من حين اليمين وكما إذا باع بثمن مؤجل اعتبر ابتداء الأجل من حين العقد فإذا مضى من السنة بعد العقد أدنى جزء طلقت طلقة لأنه جعل السنة محلا لطلاق وقد دخل فيها فوقع كما لو قال أنت طالق في شهر رمضان فدخل الشهر.
فصل: وإن قال أنت طالق في الشهر الماضي فالمنصوص أنها تطلق في الحال وقال الربيع فيه قول آخر أنها لا تطلق وقال فيمن قال لامرأته إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق إنها لا تطلق واختلف أصحابنا فيه فنقل أبوعلي بن خيران جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: تطلق لأنه علق الطلاق على صفة مستحيلة فألغيت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة له ولا بدعة(3/33)
في طلاقها أنت طالق للسنة أو للبدعة والثاني: لا تطلق لأنه علق الطلاق على شرط لم يوجد فلم يقع وقال أكثر أصحابنا إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي طلقت وإن قال إن طرت أو صعدت في السماء فأنت طالق لم تطلق قولاً واحداً وما قاله الربيع من تخريجه والفرق بينهما أن الطيران وصعود السماء لا يستحيل في قدرة الله عز وجل وقد جعل لجعفر بن أبي طالب جناحان يطير بهما وقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاع الطلاق في زمان ماض مستحيل.
فصل: وإن قال إن قدم زيد فأنت طالق قبله بشهر فقدم زيد بعد شهر طلقت قبل قدومه بشهر لأنه إيقاع طلاق بعد عقده وإن قدم قبل شهر ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالمسألة قبلها وهو إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي لأنه إيقاع طلاق قبل عقده والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يقع الطلاق ههنا قولاً واحداً لأنه علق الطلاق على صفة وقد كان وجودها ممكنا فوجب اعتباره وإيقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره.
فصل: وإن قال أنت طالق قبل موتي بشهر فمات قبل مضي شهر لم تطلق لتقدم الشرط على العقد وإن مضى شهر ثم مات عقيبه لم تطلق لأن وقوع الطلاق مع اللفظ وإن مضى شهر وجزء ثم مات طلقت في ذلك الجزء وإن قال أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيد بشهر ثم خالعها بعد يومين أو ثلاثة وقدم زيد بعد هذا القول بأكثر من شهر لم يصح الخلع لأنها بانت بالطلاق فلم يصح الخلع بعده وإن قدم بعد الخلع بأكثر من شهر صح الخلع لأنه صادف الملك فلم يقع الطلاق بالصفة.
فصل: وإن قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد فقدم ليلاً لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط وإن قال أردت باليوم الوقت قبل منه لأنه قد يستعمل اليوم في الوقت كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وهو غير متهم فيه فقبل منه وإن ماتت المرأة في أول اليوم الذي قدم زيد في آخره فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو بكر بن الحداد المصري يقع الطلاق لأنه إذا قال أنت طالق في يوم السبت طلقت بطلوع الفجر فإذا قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد فقدم وجب أن يقع بعد طلوع الفجر في اليوم الذي يقدم فيه زيد وقد قدم وكانت باقية بعد طلوع الفجر فوجب أن يقع الطلاق ومن أصحابنا من قال لا يقع لأنه جعل الشرط في وقوع الطلاق قدوم زيد وقدوم زيد وجد بعد موت المرأة فلا يجوز أن يقع الطلاق ويخالف قوله أنت طالق يوم السبت فإنه علق الطلاق على شرط واحد وهو اليوم وههنا علق على شرطين اليوم وقدوم زيد وقدوم زيد وجد وقد ماتت المرأة فلم يلحقها الطلاق.(3/34)
فصل: وإن قال إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم فمضى اليوم ولم يطلقها ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق لأن مضي اليوم شرط في وقوع الطلاق في اليوم ولا يوجد شرط الطلاق إلا بعد مضي محل الطلاق فلم يقع والثاني: يقع وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله لآن قوله إن لم أطلقك اليوم معناه إن فاتني طلاقك اليوم فإذا بقي من اليوم ما لا يمكنه أن يقول فيه أنت طالق فقد فاته فوقع الطلاق في بقيته وإن قال لعبده إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق فأعتقه طلقت المرأة لأن معناه إن فاتني بيعك وقد فاته بيعه بالعتق.
فصل: إذا تزوج بجارية أبيه ثم قال إذا مات أبي فأنت طالق فمات أبوه ففيه وجهان: وهو قول أبي العباس بن سريح أنها لا تطلق لإنه إذا مات الأب ملكها فانفسخ النكاح ويكون الفسخ في زمان الطلاق فوقع الفسخ وانفسخ الطلاق كما لو قال رجل لزوجته إن مت فأنت طالق ثم مات والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنها تطلق ولا يقع الفسخ لأن صفة الطلاق توجد عقيب الموت وهو زمان الملك والفسخ يقع بعد الملك فيكون زمان الطلاق سابقاً لزمان الفسخ فوقع الطلاق ولم يقع الفسخ وإن قال الأب لجاريته أنت حرة بعد موتي وقال الإبن أنت طالق بعد موت أبي فمات الأب وقع العتق والطلاق لأن العتق يمنع من الدخول في ملك الابن فوقع العتق والطلاق معاً.
فصل: إذا كتب إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ونوى الطلاق فضاع الكتاب لم يقع الطلاق لأنه لم يأتها الكتاب وإن وصل وقد ذهبت الحواشي وبقي موضع الكتابة وقع الطلاق لأن الكتاب هو المكتوب وإن أتاها وقد أمحى الكتاب لم تطلق أيضاً لأنه لم يأتها الكتاب وإن انطمس حتى لا يفهم منه شيء لم تطلق لأنه ليس بكتاب فهو كما لو جاءها كتاب فيه صورة وإن جاء وقد أمحى بعضه فإن كان الذي أمحى موضع الطلاق لم يقع لأن المقصود لم يأتها وإن بقي موضع الطلاق وذهب الباقي فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: يقع لأن المقصود من الكتاب قد أتاها ومن أصحابنا من قال لا يقع لأنه قال إذا جاءك كتابي هذا وذلك يقتضي جميعه وإذا قال إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب وقد أمحى الجميع إلا موضع الطلاق فقد وقع الطلاق لأنه أتاها كتابه وإن قال أتاك طلاقي فأنت طالق وكتب إذا أتاك كتابي فأنت طالق ونوى الطلاق وأتاها الكتاب طلقت طلقتين طلقة بمجيء الكتاب وطلقة بمجيء الطلاق.
فصل: وإن قال إن قدم فلان فأنت طالق فقدم به ميتاً أو حمل مكرهاً لم تطلق لأنه(3/35)
ما قدم وإنما قدم به وإن أكره حتى قدم بنفسه ففيه قولان كالقولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم وإن قدم مختارا وهو غير عالم باليمين فإن كان ممن لا يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه كالسلطان طلقت لأنه طلاق معلق على صفة وقد وجدت الصفة وإن كان ممن يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه فعلى القولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا.
فصل: وإن قال إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق فخرجت بالإذن انحلت اليمين فإن خرجت بعد ذلك بغير الأذن لم تطلق لأن قوله إن خرجت لا يقتضي التكرار والدليل عليه أنه لو قال لها إن خرجت فأنت طالق فخرجت مرة طلقت ولو خرجت مرة أخرى لم تطلق فصار كما لو قال إن خرجت مرة إلا بإذني فأنت طالق وإن قال كلما خرجت إلا بإذني فأنت طالق ثم خرجت بغير الإذن طلقت طلقة وإن خرجت مرة ثانية بغير الإذن وقعت طلقة أخرى وإن خرجت مرة ثالثة وقعت طلقة أخرى لأن اللفظ يقتضي التكرار وإن قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إل غير الحمام لم يحنث لأن الخروج كان إلى الحمام وإن خرجت إلى غير الحمام ثم عدلت إلى الحمام حنث بخروجها إلى غير الحمام بغير الإذن وإن خرجت إلى الحمام وإلى غيره وجمعت بينهما في القصد عند الخروج ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأن الحنث علقه على الخروج إلى غير الحمام وهذا الخروج مشترك بين الحمام وغيره والثاني: يحنث لأنه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الإذن وانضم إليه غيره فوجب أن يحنث كما لو قال إن كلمت زيداً فأنت طالق ثم كلمت زيدا وعمرا وإن قال إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق فأذن لها ولم تعلم بالإذن ثم خرجت لم تطلق لأنه علق الخلاص من الحنث بمعنى من جهته يختص به وهو الإذن وقد وجد الإذن والدليل عليه أنه يجوز لمن عرفه أن يخبر به المرأة فلم يعتبر علمها فيه كما لو قال إن خرجت قبل أن أقوم فأنت طالق ثم قام ولم تعلم به.
فصل: وإن قال لها إن خالفت أمري فأنت طالق ثم قال لها لا تكلمي أباك فكلمته لم تطلق لأنها لم تخالف أمره وإنما خالفت نهيه وإن قال إن بدأتك بالكلام فأنت طالق وقالت المرأة إن بدأتك بالكلام فعبدي حر فكلمها لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد لأن يمينه انحلت بيمينها بالعتق ويمينها انحلت بكلامه وإن قال أنت طالق إن كلمتك وأنت طالق إن دخلت الدار طلقت لأنه كلمها باليمين الثانية وإن قال أنت طالق إن كلمتك ثم أعاد ذلك طلقت لأنه كلمها بالإعادة وإن قال إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي بذلك طلقت لأنه كلمها بقوله فاعلمي ذلك،(3/36)
طلقت لأنه كلمها بقول فاعلمي ذلك ومن أصحابنا من قال إن وصل الكلام باليمين لم تطلق لأنه من صلة الأول.
فصل: إذا قال لامرأته إذا كلمت رجلاً فأنت طالق وإن كلمت فقيها فأنت طالق وإن كلمت طويلاً فأنت طالق فكلمت رجلاً طويلاً فقيها طلقت ثلاثاً لأنه اجتمع صفات الثلاثة فوقع بكل صفة طلقة.
فصل: وإن قال إن رأيت فلاناً فأنت طالق فرآه ميتا أو نائما طلقت لأنه رآه وإن رآه في مرآة أو رأى ظله في الماء لم تطلق لأنه ما رآه وإنما رأى مثاله وإن رآه من وراء زجاج شفاف طلقت لأنه رآه حقيقة.
فصل: وإن كانت في ماء جار فقال لها إن خرجت منه فأنت طالق وإن وقفت فيه فأنت طالق لم تطلق خرجت أو وقفت لأن الذي كانت فيه من الماء مضى بجريانه لم تخرج منه ولم تقف فيه وإن كان في فيها تمرة فقال إن أكلتها فأنت طالق وإن رميتها فأنت طالق وإن أمسكتها فأنت طالق فأكلت نصفها لم تطلق لأنها ما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها وإن كانت معه تمرة فقال إن أكلتها فأنت طالق فرماها إلى تمر كثير فأكل جميعه وبقي تمرة لا يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها لم تطلق لجواز أن تكون هي المحلوف عليها فلم تطلق بالشك وإن أكل تمراً كثيراً فقال لها إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق فعدت من واحد إلى عدد يعلم أن المأكول دخل فيه لم تطلق لأنها أخبرته بعدد ما أكل وإن أكلا تمرا واختلط النوى فقال إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق فأفردت كل نواة لم تطلق لأنها ميزت وإن اتهمها بسرقة شيء فقال أنت طالق إن لم تصدقيني أنك سرقت أم لا فقالت سرقت وما سرقت لم تطلق لأنها صدقته في أحد الخبرين وإن قال إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق وسلم إليها كيساً فأخذت منه شيئاً لم تطلق لأن ذلك ليس بسرقة وإنما هو خيانة.
فصل: وإن قال من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق فأخبرته امرأته بقدوم زيد وهي صادقة طلقت لأنها بشرته وإن كانت كاذبة لم تطلق لأن البشارة ما بشر به الإنسان ولا سرور في الكذب وإن أخبرتاه بقدومه واحدة بعد واحدة وهما صادقتان طلقت الأولى دون الثانية لأن المبشرة هي الأولى وإن أخبرتاه معا طلقتا لاشتراكهما في البشارة وإن قال من أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق فأخبرته امرأته بقدوم زيد طلقت صادقة كانت أو كاذبة لأن الخبر يوجد مع الصدق والكذب فإن أخبرته إحداهما بعد الأخرى أو أخبرتاه معاً طلقتا لأن الخبر وجد منهما.(3/37)
فصل: وإن قال أنت طالق إن شئت فقالت في الحال شئت طلقت وإن قالت شئت إن شئت فقال شئت لم تطلق لأنه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها مشيئة الطلاق وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بمشيئته فلم يقع الطلاق كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس وإن قال أنت طالق إن شاء زيد فقال زيد شئت طلقت وإن لم يشأ زيد لم تطلق وإن شاء وهو مجنون لم تطلق لأنه لا مشيئة له وإن شاء وهو سكران فعلى ما ذكرناه من طلاقه وإن شاء وهو صبي ففيه وجهان: أحدهما: تطلق لأن له مشيئة ولهذا يرجع إلى مشيئة في اختيار أحد الأبوين في الحضانة والثاني: لا تطلق معه لأنه لا حكم لمشيئته في التصرفات وإن كان أخرس فأشار إلى المشيئة وقع الطلاق كما يقع طلاقه إذا أشار إلى الطلاق وإن كان ناطقاً فخرس فأشار ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع وهو اختيار الشيخ أبي حامد الأسفرايني رحمه الله لأن مشيئته عند الطلاق كانت بالنطق والثاني: أنه يقع وهو الصحيح لأنه في حال بيان المشيئة من أهل الإشارة والاعتبار بحال البيان لا بما تقدم ولهذا لو كان عند الطلاق أخرس ثم صار ناطقا كانت مشيئته بالنطق وإن قال أنت طالق إن شاء الحمار فهو كما لو قال أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء وقد بيناه وإن قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق ليرضى فلان كما يقول لعبده أنت حر لوجه الله أو لمرضاة الله وإن قال أنت طالق لرضى فلان ثم قال أردت إن رضي فلان على سبيل الشرط دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه وهل يقبل في الحكم فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل لأن ظاهر اللفظ يقتضي إنجاز الطلاق فلم يقبل قوله في تأخيره كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد إن دخلت الدار والثاني: أنه يقبل لأن اللفظ يصلح للتعليل والشرط فقبل قوله في الجميع.
فصل: وإن قال إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق طلقت بكل واحدة من الصفتين وإن قال إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا بوجودهما سواء قدم الكلام أو الدخول لأن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب وإن قال إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا بوجود الكلام والدخول والتقديم للكلام على الدخول لأن الفاء في العطف للترتيب فيصير كما لو قال إن كلمتك ثم دخلت دارك فأنت طالق وإن قال إن كلمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق طلقت بوجود كل واحدة منها طلقة لأنه كرر حرف الشرط فوجب لكل واحدة منهما جزاء وإن قال لزوجتين إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان فدخلت إحداهما أحد الدارين ودخلت الثانية الدار الأخرى ففيه وجهان: أحدهما: تطلقان لأن دخول الدارين وجد منهما والثاني: لا تطلقان وهو الصحيح لأنه علق(3/38)
طلاقه بدخول الدارين فلا تطلق واحدة منهما بدخول إحدى الدارين كما لو قال علق طلاق كل واحدة منهما بدخول الدارين بلفظ مفرد وإن قال إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان فأكلت كل واحدة منهما رغيفاً فعلى الوجهين.
فصل: وإن قال أنت طالق إن ركبت إن لبست لم تطلق إلا باللبس والركوب ويسميه أهل النحو اعتراض الشرط على الشرط فإن لبست ثم ركبت طلقت وإن ركبت ثم لبست لم تطلق لأنه جعل اللبس شرطا في الركوب فوجب تقديمه وإن قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى يوجد القيام والقعود ويتقدم القعود على القيام لأنه جعل القعود شرطاً في القيام وإن قال إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فأنت طالق لم تطلق حتى يوجد السؤال ثم الوعد ثم العطية لأنه شرط في العطية الوعد وشرط في الوعد السؤال وكأن معناه إن سألتني شيئا فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق وإن قال إن سألتني إن أعطيتك إن وعدتك فأنت طالق لم تطلق حتى تسأل ثم يعدها لأن معناه إن سألتني فأعطيتك إن وعدتك فأنت طالق.
فصل: وإن قال أنت طالق إن دخلت الدار بفتح الألف أو أنت طالق إن شاء الله بفتح الألف وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق لدخولك الدار أو لمشيئة الله عز وجل طلاقك وإن قال أنت طالق إذ دخلت الدار وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لأن إذا لما مضى.
فصل: وإن قال إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء لم تطلق حتى تدخل الدار لأن الشرط ثبت بقوله إن دخلت الدار ولهذا لو قال أنت طالق إن دخلت الدار ثبت الشرط وإن لم يأت بالفاء وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق وقال أردت إيقاع الطلاق في الحال قبل من غير يمين لأنه إقرار على نفسه وإن قال أردت أن أجعل دخولها للدار وطلاقها شرطين لعتق أو لطلاق آخر ثم سكت عن الجزاء قبل قوله مع اليمين لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال أردت الشرط والجزاء وأقمت الواو مقام الفاء قبل قوله مع اليمين لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق وقال أردت به الطلاق في الحال قبل قوله من غير يمين لأنه قرار بالطلاق وإن قال أردت تعليق الطلاق بدخول الدار قبل قوله مع يمينه لأنه يحتمل ما يدعيه.
فصل: إذا قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق ثم قال أردت به الأجنبية قبل قوله مع اليمين وإن كانت له زوجة اسمها زينب وجارة اسمها زينب فقال زينب طالق وقال أردت بها الجارة لم يقبل والفرق بينهما أن قوله إحداكما طالق صريح فيهما وإنما يحمل على(3/39)
زوجته بدليل وهو أنه لا يطلق غير زوجته فإذا صرفه إلى الأجنبية فقد صرفه إلى ما لا يقتضيه تصريحه فقبل منه وليس كذلك قوله زينب طالق لأنه ليس بصريح في واحدة منهما وإنما يتناولها من جهة الدليل وهو الاشتراك في الاسم ثم يقابل هذا الدليل دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه.
فصل: وإن كانت له زوجتان اسم إحداهما حفصة واسم الأخرى عمرة فقال يا حفصة فأجابته عمرة فقال لها أنت طالق ثم قال أردت طلاق حفصة وقع الطلاق على عمرة بالمخاطبة وعلى حفصة باعترافه بأنه أراد طلاقها وإن قال ظننتها حفصة فقلت أنت طالق طلقت عمرة ولم تطلق حفصة لأنه لم يخاطبها ولم يعترف بطلاقها وإن رأى امرأة اسمها حفصة فقال حفصة طالق ولم يشر إلى التي رآها وقع الطلاق على زوجته حفصة ولم يقبل قوله لم أردها لأن الظاهر أنه أراد طلاق زوجته ولم يعارض هذا الظاهر غيره.
فصل: إذا قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً ثم قال لها أنت طالق فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال يقع عليها طلقة بقوله أنت طالق ولا يقع من الثلاث قبلها شيء كما إذا قال لها إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتدت انفسخ نكاحها ولم يقع من الثلاث شيء ومنهم من قال: يقع بقوله أنت طالق طلقة وطلقتان من الثلاث وهو قول أبي عبد الله الختن لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقة ويقع ما بقي بالشرط وهو طلقتان ومنهم من قال لا يقع عليها بعد هذا القول طلاق وهو قول أبي العباس بن سريح وأبي بكر بن الحداد المصري والشيخ أبي حامد الاسفرايني والقاضي أبي الطيب الطبري وهو الصحيح عندي والدليل عليه أن إيقاع الطلاق يؤدي إلى إسقاطه لأنا إذا أوقعنا عليها طلقة لزمنا أن نوقف عليها قبلها ثلاثا بحكم الشرط وإذا وقع قبلها الثلاث لم تقع الطلقة وما أدى ثبوته إلى نفيه سقط ولهذا قال الشافعي رحمه الله فيمن زوج عبده بحرة بألف درهم وضمن صداقها ثم باع العبد منها بتلك الألف قبل الدخول أن البيع لا يصح لأن صحته تؤدي إلى إبطاله فإنه إذا صح البيع انفسخ النكاح بملك الزوج وإذا انفسخ النكاح سقط المهر لأن الفسخ من جهتها وإذا سقط المهر سقط الثمن لأن الثمن هو المهر وإذا سقط الثمن بطل البيع فأبطل البيع حين أدى تصيحه إلى إبطاله فكذلك ههنا ويخالف الفسخ بالردة فإن الفسخ لا يقع بإيقاعه وإنما تقع الردة والفسخ من موجباتها والطلاق الثلاث لا ينافي الردة فصحت الردة وثبت موجبها وهو الفسخ والطلاق يقع بإيقاعه والثلاث قبله تنافيه فمنع صحته فعلى هذا إن حلف على امرأته بالطلاق الثلاث(3/40)
أنه لا يفعل شيئا وأراد أن يفعله ولا يحنث فقال إذا وقع على امرأتي طلاقي فهي طالق قبله ثلاثاً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث فقال إذا فعل المحلوف عليه لأن عقد اليمين صح فلا يملك رفعه والثاني: لا يحنث لأنه يجوز أن يعلن الطلاق على صفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى والدليل عليه أنه إذا قال إذا حل رأس الشهر فأنت طالق ثلاثاً صحت هذه الصفة ثم يملك إسقاطها بأن يقول أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم.
فصل: إذا علق طلاق امرأته على صفة من يمين أو غيرها ثم بانت منه ثم تزوجها قبل وجود الصفة ففيه ثلاثة أقوال: أحدها لا يعود حكم الصفة في النكاح الثاني وهو اختيار المزني لأنها صفة علق عليها الطلاق قبل النكاح فلم يقع بها الطلاق كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها ودخلت الدار والثاني: أنها تعود ويقع بها الطلاق وهو الصحيح لأن العقد والصفة وجدا في عقد النكاح فأشبه إذا لم يتخللهما بينونة والثالث أنها إن بانت بما دون الثلاث عاد حكم الصفة وإن بانت بالثلاث لم تعد لأن بالثلاث انقطعت علائق الملك وبما دون الثلاث لم تنقطع علائق الملك ولهذا بنى أحد العقدين على الآخر في عدد الطلاق فيما دون الثلاث ولا يبنى بعد الثلاث وإن علق عتق عبده على صفة ثم باعه ثم اشتراه قبل وجود الصفة ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث لأنه يمكنه أن يشتريه بعد البيع كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث والثاني: أنه كالبائن بالثلاث لأن علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت في البائن بالثلاث.
فصل: وإن علق الطلاق على صفة ثم أبانها ووجدت الصفة في حالة البينونة انحلت الصفة وإن تزوجها لم يعد حكم الصفة وكذلك إذا علق عتق عبده على صفة ثم باعه ووجدت الصفة قبل أن يشتريه انحلت الصفة فإن اشتراه لم يعد حكم الصفة وقال أبو سعيد الأصطخري رحمه الله لا تنحل الصفة لأن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق مقدر بالزوجة وقوله إن دخلت الدار فأنت حر مقدر بالملك لأن الطلاق لا يصح في غير الزوجية والعتق لا يصح في غير ملك فيصير كما لو قال إن دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق وإن دخلت الدار وأنت مملوكي فأنت حر والمذهب الأول لأن اليمين إذا علقت على عين تعلقت بها ولا نقدر فيها الملك والدليل عليه أنه لو قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق والدار في ملكه فباعها ثم دخلها وقع الطلاق ولا يجعل كما لو قال إن دخلت هذه الدار وهي في ملكي فأنت طالق فكذلك ههنا. والله أعلم.(3/41)
باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه
إذا شك الرجل هل طلق امرأته أم لا لم تطلق لأن النكاح يقين واليقين لا يزال بالشك والدليل عليه ما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"1. والورع أن يلتزم الطلاق لقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2. فإن كان بعد الدخول راجعها وإن كان قبل الدخول جدد نكاحها وإن لم يكن له رغبة طلقها لتحل لغيره بيقين وإن شك في عدده بنى الأمر على الأقل لما روى عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرأ واحدة صلى أم اثنتين فليبن على واحدة وإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثاً فليبن على اثنتين وإن لم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليبن على ثلاث ويسجد سجدتين قبل أن يسلم"3. فرد إلى الأقل ولأن الأقل يقين والزيادة مشكوك فيها فلا يزال اليقين بالشك والورع أن يتم الأكثر فإن كان الشك الثلاث وما دونها طلقها ثلاثاً حتى تحل لغيره بيقين.
فصل: وإن كانت له امرأتان فطلق إحداهما بعينها ثم نسيها أو خفيت عليه عينها بأن طلقها في ظلمة أومن وراء حجاب رجع إليه في تعيينها لأنه هو المطلق ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين لأنهما محبوستان عليه فإن عين الطلاق في إحداهما فكذبتاه حلف للأخرى لأن المعينة لو رجع في طلاقها لم يقبل وإن قال طلقت هذه لا بل هذه طلقتا في الحكم لأنه أقر بطلاق الأولى ثم رجع إلى الثانية فقبلنا إقراره بالثانية ولم يقبل رجوعه في الأولى وإن كن ثلاثاً فقال طلقت هذه لا بل هذه لا بل هذه طلقن جميعا وإن قال طلقت هذه أو هذه لا بل هذه طلقت الثالثة وواحدة من الأوليين وأخذ بتعيينه لأنه أقر أنه طلق إحدى الأوليين ثم رجع إلى أن المطلقة هي الثالثة فلزمه ما رجع إليه ولم يقبل رجوعه عما أقر به وإن قال طلقت هذه لا بل هذه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 4، 34. مسلم في كتاب الحيض حديث 98، 99. أبو داود في كتاب الصلاة باب 192. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 74.
2 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 3. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده 3/153.
3 رواه الترمذي في كتاب الصلاة، باب 174.(3/42)
أو هذه طلقت الأولى وواحدة من الأخريين وإن قال طلقت هذه أو هذه وهذه أخذ ببيان الطلاق في الأولى والأخريين فإن عين في الأولى بقيت الأخريان على النكاح وإن قال لم أطلق الأولى طلقت الأخريان لأن الشك في الأولى والأخريين فهو كما لو قال طلقت هذه أو هاتين ولا يجوز له أن يعين بالوطء فإن وطئ إحداهما لم يكن ذلك تعييناً للطلاق في الأخرى فيطالب بالتعيين بالقول فأن عين الطلاق في الموطوءة لزمه مهر المثل وإذا عين وجبت العدة من حين الطلاق.
فصل: وإن طلق إحدى المرأتين بغير عينها أخذ بتعيينها ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين وله أن يعين الطلاق فيمن شاء منهما فإن قال هذه لا بل هذه طلقت الأولى ولم تطلق الأخرى لأن تعيين الطلاق إلى اختياره وليس له أن يختار إلا واحدة فإذا اختار إحداهما لم يبق له اختيار وهل له أن يعين الطلاق بالوطء ففيه وجهان: أحدهما: لا يعين بالوطء وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأن إحداهما محرمة بالطلاق فلم تتعين بالوطء كما لو طلق إحداهما بعينها ثم أشكلت فعلى هذا يؤخذ بعد الوطء بالتعيين بالقول فإن عين الطلاق في الموطوءة لزمه المهر والثاني: يتعين وهو قول أبي إسحاق واختيار المزني وهو الصحيح لأنه اختيار شهوة والوطء قد دل على الشهوة وفي وقت العدة وجهان: أحدهما: من حين يلفظ بالطلاق لأنه وقت وقوع الطلاق والثاني: من حين التعيين وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة رحمه الله لأنه وقت تعيين الطلاق.
فصل: وإن ماتت الزوجات قبل التعيين وبقي الزوج وقف من مال كل واحدة منهما نصف الزوج فإن كان قد طلق إحداهما بعينها فعين الطلاق في إحداهما أخذ من تركة الأخرى ما يخصه وإن كذبه ورثتها فالقول قوله مع يمينه وإن كان قد طلق إحداهما بغير عينها فعين الطلاق في إحداهما دفع إليه من مال الأخرى ما يخصه وإن كذبه ورثتها فالقول قوله من غير يمين لأن هذا اختيار شهوة وقد اختار ما اشتهى وإن مات الزوج بقيت الزوجتان وقف لهما من ماله نصيب زوجة إلى أن يصطلحا لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى فوجب أن يوقف إلى أن يصطلحا لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين فإن قال وارث الزوج أنا أعرف الزوجة منهما ففيه قولان: أحدهما: يرجع إليه لأنه لما قام مقامه في استلحاق النسب قام مقامه في تعيين الزوجة والثاني: لا يرجع إليه لأن كل واحدة منهما زوجة في الظاهر وفي الجوع إلى بيانه إسقاط وارث مشارك والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث واختلف أصحابنا في(3/43)
موضع القولين فقال أبو إسحاق القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت وفيمن طلق إحداهما من غير تعيين ومنهم من قال القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت لأنه إخبار فجاز أن يخبر الوارث عن الموروث وأما إذا طلق إحداهما من غير تعيين فإنه لا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً لأنه اختيار شهوة فلم يقم الوارث فيه مقام الموروث كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ومات قبل أن يختا أربعا منهن.
فصل: وإن طلق إحدى زوجتيه ثم ماتت إحداهما ثم مات الزوج قبل البيان عزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج لجواز أن تكون هي الزوجة ويعزل من تركة الزوج ميراث زوجة لجواز أن تكون الباقية زوجة فإن قال ورث الزوج الميتة قبله مطلقة فلا ميراث لي منها والباقية زوجة فلها الميراث معي قبل لأنه إقرار على نفسه بما يضره فإن قال الميتة هي الزوجة فلي الميراث من تركتها والباقية هي المطلقة فلا ميراث لها معي فإن صدق على ذلك حمل الأمر على ما قال فإن كذب بأن قال وارث الميتة إنها هي المطلقة فلا ميراث لك منها وقالت الباقية أنا الزوجة فلي معك الميراث ففيه قولان: أحدهما: يرجع إلى بيان الوارث فيحلف لورثة الميتة أنه لا يعلم أنه طلقها ويستحق من تركتها ميراث الزوج ويحلف للباقية أنه طلقها ويسقط ميراثها من الزوج والثاني: لا يرجع إلى بيان الوارث فيجعل ما عزل من ميراث الميتة موقوفاً حتى يصطلح عليه وارث الزوج ووارث الزوجة وما عزل من ميراث الزوج موقوفاً حتى تصطلح عليه الباقية ووارث الزوج.
فصل: وإن كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال يا حفصة إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق وإن كان أنثى فأنت طالق فولدت ذكرا وأنثى واحدا بعد واحد وأشكل المتقدم منهما طلقت إحداهما بعينها وحكمها حكم من طلق إحدى امرأتين بعينها ثم أشكلت عليه وقد بيناه.
فصل: وإن رأى طائراً فقال إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق وإن كان حماما فإمائي حرائر ولم يعرف لم تطلق النساء ولم تعتق الإماء لجواز أن يكون الطائر غيرهما والأصل بقاء الملك والزوجية فلا يزل بالشك وإن قال إن كان هذا غراباً فنسائي طوالق وإن كان غير غراب فإمائي حرائر ولم يعرف منع من التصرف في الإماء والنساء لأنه تحقق زوال الملك في أحدهما: فصار كما لو طلق إحدى المرأتين ثم أشكلت ويؤخذ بنفقة الجميع إلى أن يعين لأن الجمع في حبسه ويرجع في البيان إليه لأنه يرجع إليه في أصل الطلاق والعتق فكذلك في تعيينه فإن امتنع من التعيين مع العلم به حبس حتى يعين،(3/44)
وإن لم يعلم لم يحبس ووقف الأمر إلى أن يتبين وإن مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة ففيه وجهان: أحدهما: يرجع إليهم لأنهم قائمون مقامه والثاني: لا يرجع لأنهم لا يملكون الطلاق فلم يرجع إليهم في البيان ومتى تعذر في البيان أقرع بين النساء والإماء فإن خرجت القرعة على الإماء عتقن وبقي النساء على الزوجية وإن خرجت القرعة على النساء رق الإماء ولم تطلق النساء وقال أبو ثور: تطلق النساء بالقرعة كما تعتق الإماء وهذا خطأ لأن القرعة لها مدخل في العتق دون الطلاق ولهذا لو طلق إحدى نسائه لم تطلق بالقرعة ولو أعتق أحد عبيده بالقرعة فدخلت القرعة في العتق دون الطلاق كما يدخل المشاهد والمرأتان في السرقة لإثبات المال دون القطع ويثبت للنساء الميراث لأنه لم يثبت بالقرعة ما يسقط الإرث.
فصل: وإن طار طائر فقال رجل إن كان هذا الطائر غراباً فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غرابا فعبدي حر ولم يعرف الطائر لم يعتق واحد من العبدين لأنا نشك في عتق كل واحد منهما ولا يزال يقين الملك بالشك وإن اشترى أحد الرجلين عبد الآخر علق عليه لأن إمساكه للعبد إقرار بحرية عبد الآخر فإذا ملكه عتق عليه كما لو شهد بعتق عبد ثم اشتراه.
فصل: إذا اختلف الزوجان فادعت المرأة على الزوج أنه طلقها وأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق وإن اختلفا في عدده فادعت المرأة أنه طلقها ثلاثا وقال الزوج طلقتها طلقة فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الأصل عدم ما زاد على طلقة.
فصل: وإن خيرها ثم اختلفا فقالت المرأة اخترت وقال الزوج ما اخترت فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الأصل عدم الاختيار وبقاء النكاح وإن اختلفا في النية فقال الزوج ما نويت وقالت المرأة نويت ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أن القول قول الزوج لأن الأصل عدم النية وبقاء النكاح فصار كما لو اختلفا في الاختيار والثاني: وهو الصحيح أن القول قول المرأة والفرق بينه وبين الاختلاف في الاختيار أن الاختيار يمكن إقامة البينة عليه فكان القول فيه قوله كما لو علق طلاقه بدخول الدار فادعت أنها أنكرت وأنكر الزوج والنية لا يمكن إقامة البينة عليها فكان القول قولها كما لو علق الطلاق على حيضها فادعت أنها حاضت وأنكر.
فصل: وإن قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق وادعى أنه أراد التأكيد وادعت المرأة أنه أراد الاستئناف فالقول قوله مع يمينه لأنه اعترف بنيته وإن قال الزوج أردت(3/45)
الاستئناف وقالت المرأة أردت التأكيد فالقول قول الزوج لما ذكرناه ولا يمين عليه لأن اليمين تعرض ليخاف فيرجع ولو رجع لم يقبل رجوعه فلم يكن لعرض اليمين معنى.
فصل: وإن قال أنت طالق في الشهر الماضي وادعى أنه أراد من زوج غيره في نكاح قبله وأنكرت المرأة أن يكون قبله نكاح أو طلاق لم يقبل قول الزوج في الحكم حتى يقيم البينة على النكاح والطلاق فإن صدقته المرأة على ذلك لكنها أنكرت أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه فإن قال أردت أنها طالق في الشهر الماضي بطلاق كنت طلقتها في هذا النكاح وكذبته المرأة فالقول قوله مع يمينه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك يريد أن يرفع الطلاق وههنا لا يرفع الطلاق وإنما ينقله من حال إلى حال.
فصل: وإن قال إن كان هذا الطائر غراباً فنسائي طوالق وإن لم يكن غراباً فإمائي حرائر ثم قال كان هذا الطائر غراباً طلقت النساء فإن كذبه الإماء حلف لهن فإن حلف ثبت رقهن وإن نكل ردت اليمين عليهن فإن حلفن ثبت طلاق النساء بإقراره وعتق الإماء بنكوله ويمينهن فإن صدقنه ولم يطلبن إحلافه ففيه وجهان: أحدهما: يحلف لما في العتق من حق لله عز وجل والثاني: لا يحلف لأنه لما أسقط العتق بتصديقهن سقط اليمين بترك مطالبتهن وإن قال كان هذا الطائر غير غراب عتق الإماء فإن كذبته النساء حلف لهن وإن نكل عن اليمين ردت عليهن فإن حلفن ثبت عتق الإماء بإقراره وطلاق النساء بيمينهن ونكوله.(3/46)
باب الرجعة
إذا طلق الحر امرأته طلقة أو طلقتين أو طلق العبد امرأته بعد الدخول طلقة فله أن يراجعها قبل انتهاء العدة لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] والمراد به إذا قاربن أجلهن وروى ابن عباس رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة وراجعها وروى ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "مر ابنك فليراجعها فإن انقضت العدة لم يملك رجعها". لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فلو ملك رجعتها لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح فإن طلقها قبل الدخول لم يملك الرجعة لقوله عز وجل: {وَإذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فدلت الرجعة على الأجل فدل على أنها لا تجوز من غير أجل والمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ(3/46)
مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] .
فصل: ويجوز أن يطلق الرجعية ويلاعنها ويولي منها ويظاهر منها لأن الزوجية باقية وهل له أن يخالعها ففيه قولان: قال في الأم: يجوز لبقاء النكاح وقال في الإملاء لا يجوز لأن الخلع للتحريم وهي محرمة فإن مات أحدهما: ورثه الآخر لبقاء الزوجية إلى الموت ولا يجوز أن يستمتع بها لأنها معتدة فلا يجوز وطؤها كالمختلعة فإن وطئها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها لزمه المهر لأنه وطء في ملك قد تشعث فصار كوطء الشبهة وإن راجعها بعد الوطء فقد قال في الرجعة عليه المهر وقال في المرتد: إذا وطئ امرإته في العدة ثم أسلم أنه لا مهر عليه واختلف أصحابنا فيه فنقل أبو سعيد الإصطخري الجواب في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما: يجب المهر لأنه وطء في نكاح قد تشعث والثاني: لا يجب لأن بالرجعة والإسلام قد زال التشعث فصار كما لو لم تطلق ولم يرتد وحمل أبو عباس وأبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقالا في الرجعة: يجب المهر وفي المرتد لا يجب لأن بالإسلام صار كأن لم يرتد وبالرجعة لا يصير كأن لم تطلق لأن ما وقع من الطلاق لم يرتفع ولأن أمر المرتد مراعى فإذا رجع إلى الإسلام تبينا أن النكاح بحاله ولهذا لوطلق وقف طلاقه فإن أسلم حكم بوقوعه وإن لم يسلم لم يحكم بوقوعه فاختلف أمرها في المهر بين أن يرجع إلى الإسلام وبين أن لا يرجع وأمر الرجعية غير مراعى ولهذا لو طلق لم يقف طلاقه على الرجعة فلم يختلف أمرها في المهر بين أن يراجع وبين أن لا يراجع فإذا وطئها وجب عليها العدة لأنه كوطء الشبهة ويدخل فيه بقية العدة الأولى لأنهما من واحد.
فصل: وتصح الرجعة من غير رضاها لقوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ولا تصح الرجعة إلا بالقول فإن وطئها لم تكن ذلك رجعة لاستباحة بضع مقصود يصح بالقول فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح وإن قال راجعتك أو ارتجعتك صح لأنه وردت به السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "مر ابنك فليراجعها". فإن قال رددتك صح لأنه ورد به القرآن وهو قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وإن قال أمسكتك ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يصح لأنه ورد به القرآن وهو قوله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} والثاني: أنه لا يصح لأنه إذا صح به النكاح وهو ابتداء الإباحة فلأن تصح به الرجعة وهو إصلاح لما تشعث منه(3/47)
أولى والثاني: لا يصح لأنه صريح في النكاح ولا يجوز أن يكون صريحاً في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحاً في الطلاق لم يجز أن يكون صريحاً في الظهار وإن قال راجعتك للمحبة وقال أردت به مراجعتك لمحبتي لك صح وإن قال راجعتك لهوانك وقال أردت به أني راجعتك لأهينك بالرجعة صح لأنه أتى بلفظ الرجعة وبين سبب الرجعة وإن قال لم أرد الرجعة وإنما أردت أني كنت أحبك قبل النكاح أو كنت أهينك قبل النكاح فرددتك بالرجعة إلى المحبة التي كانت قبل النكاح أو الإهانة التي كانت قبل النكاح قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه.
فصل: وهل يجب الإشهاد عليها فيه قولان: أحدهما: يجب لقوله عز وجل: {أَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولأنه استباحة بضع مقصود فلم يصح من غير إشهاد كالنكاح والثاني: أنه مستحب لأنه لا يفتقر إلى الولي فلم يفتقر إلى الإشهاد كالبيع.
فصل: ولا يجوز تعليقها على شرط فإن قال راجعتك إن شئت فقالت شئت لم يصح لأنه استباحة بضع فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح ولا يصح في حال الردة وقال المزني إنه موقوف فإن أسلمت صح كما يقف الطلاق والنكاح على الإسلام وهذا خطأ لأنه استباحة بضع فلم يصح مع الردة كالنكاح ويخالف الطلاق فإنه يجوز تعليقه على الشرط والرجعة لا يصح تعليقها على الشرط وأما النكاح فإنه يقف فسخه على الإسلام وأما عقده فلا يقف والرجعة كالعقد فيجب أن لا تقف على الإسلام.
فصل: وإن اختلف الزوجان فقال الزوج راجعتك وأنكرت المرأة فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة فالقول قول الزوج لأنه يملك الرجعة فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق وإن كان بعد انقضاء العدة فالقول قولها لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة وإن اختلفا في الإصابة فقال الزوج أصبتك فلي الرجعة وأنكرت المرأة فالقول قولها لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة.
فصل: فإن طلقها طلقة رجعية وغاب الزوج وانقضت العدة وتزوجت ثم قدم الزوج وادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة فله أن يخاصم الزوج الثاني وله أن يخاصم الزوجة فإن بدأ بالزوج نظرت فإن صدقه سقط حقه من النكاح ولا تسلم المرأة إليه لأن إقراره يقبل على نفسه دونها وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الرجعة فإن حلف سقط دعوى الأول وإن نكل ردت اليمين عليه فإن حلف وقلنا إن يمينه مع نكول المدعى عليه كالبينة حكمنا بأنه لم يكن بينهما نكاح فإن كان قبل الدخول لم يلزمه(3/48)
شيء وإن كان بعد الدخول لزمه مهر المثل وإن قلنا إنه كالإقرار لم يقبل إقراره في إسقاط حقها فإن دخل بها لزمه المسمى وإن لم يدخل بها لزمه نصف المسمى ولا تسلم المرأة إلى الزوج الأول على القولين لأنا جعلناه كالبينة أو كالإقرار في حقه ومن حقها وإن بدأ بخصومة الزوجة فصدقته لم تسلم إليه لأنه لا يقبل إقرارها على الثاني كما لا يقبل إقراره عليها ويلزمها المهر لأنها أقرت أنها حالت بينه وبين بضعها فإن زال حق الثاني بطلاق أو فسخ أو وفاة ردت إلى الأول لأن المنع لحق الثاني وقد زال وإن كذبته فالقول قولها وهل تحلف على ذلك ففيه وجهان: أحدهما: لا تحلف لأن اليمين تعرض عليها لتخاف فتقر وأقرت لم يقبل إقراره فلم يكن في تحليفها فائدة والثاني: تحلف لأن في تحليفها فائدة وهو أنها ربما أقرت فيلزمها المهر وإن حلفت سقط دعواه وإن نكلت ردت اليمين عليه فإذا حلف حكم له بالمهر.
فصل: إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحبلت من الزوج ووضعت وشرعت في إتمام العدة من الأول وراجعها صحت الرجعة لأنه راجعها في عدته فإن راجعها قبل الوضع ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لأنها في عدة من غيره فلم يملك بضعها والثاني: يصح بما بقي عليها من عدته لأن حكم الزوجية باق وإنما حرمت لعارض فصار كما لو أحرمت.
فصل: إذا طلق الحر امرأته ثلاثاً أو طلق العبد امرأته طلقتين حرمت عليه ولا يحل له نكاحها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها والدليل قوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وروت عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته بت طلاقها فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إني كنت عند رفاعة وطلقني ثلاث تطليقات فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا والله حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 1. ولا تحل إلا بالوطء في الفرج فإن وطئها فيما دون الفرج أو وطئها في الموضع المكروه لم تحل لأن
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 49. النسائي في كتاب الطلاق باب 9. الموطأ في كتاب النكاح حديث 17، 18. أحمد في مسنده 1/214.(3/49)
النبي صلى الله عليه وسلم علق على ذوق العسيلة وذلك لا يحصل إلا بالوطء في الفرج وأدنى الوطء أن يغيب الحشف في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولا تتعلق بما دونه فإن أولج الحشفة في الفرج من غير انتشار لم تحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بذوق العسيلة وذلك لا يحصل من غير انتشار وإن كان بعض الذكر مقطوعاً فعلى ما ذكرناه في الرد بالعيب في النكاح وإن كان مسلولاً أحل بوطئه لأنه في الوطء كالفحل وأقوى منه ولم يفقد إلا الإنزال وذلك غير معتبر في الإحلال وإن كان مراهقاً أحل لأنه كالبالغ في الوطء وإن وطئت وهي نائمة أو مجنونة أو استدخلت هي ذكر الزوج وهو نائم أو مجنون أو وجدها على فراشه فظنها غيرها فوطئها حلت لأنه وطء صادف النكاح.
فصل: فإن رآها رجل أجنبي فظنها زوجته فوطئها أو كانت أمة فوطئها مولاها لم تحل لقوله عز وجل: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وإن وطئها للزوج في نكاح فاسد كالنكاح بلا ولي ولا شهود أوفي نكاح شرط فيه أنه إذا أحلها للزوج الأول فلا نكاح بينهما ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يحلها لأنه وطء في نكاح غير صحيح فلم تحل كوطء الشبهة والثاني: أنه يحلها لما روى عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" 1. فسماه محللا ولأنه وطء في نكاح فأشبه الوطء في النكاح الصحيح.
فصل: وإن كانت المطلقة أمة فملكها الزوج قبل أن ينكحها زوجاً غيره فالمذهب أنها لا تحل لقوله عز وجل: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ولأن الفرج لا يجوز أن يكون محرماً عليه من وجه مباحا من وجه ومن أصحابنا من قال يحل وطؤها لأن الطلاق يختص بالزوجية فآثر التحريم في الزوجية.
فصل: وإن طلق امرأته ثلاثا وتفرقا ثم ادعت المرأة أنها تزوجت بزوج أحلها جاز له أن يتزوجها لآنها مؤتمنة فيما تدعيه من الإباحة فإن وقع في نفسه أنها كاذبة فالأولى أن لا يتزوجها احتياطاً.
فصل: وإن تزوجت المطلقة ثلاثا بزوج وادعت عليه أنه أصابها وأنكر الزوج لم يقبل قولها على الزوج الثاني في الإصابة ويقبل قولها في الإباحة للزوج الأول لأنها تدعي على الزوج الثاني حقا وهو استقرار المهر ولا تدعي على الأول شيئا وإنما تخبره عن أمر هي فيه مؤتمنة فقبل وإن كذبها الزوج الأول فيما تدعيه على الثاني من الإصابة ثم رجع
__________
1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 15. الترمذي في كتاب النكاح باب 28. النسائي في كتاب الطلاق باب 13. أحمد في مسنده 1/448.(3/50)
فصدقها جاز له أن يتزوجها لأنه قد لا يعلم أنه أصابها ثم يعلم بعد ذلك وإن ادعت على الثاني أنه طلقها وأنكر الثاني لم يجز للأول نكاحها لأنه إذا لم يثبت الطلاق فهي باقية على نكاح الثاني فلا يحل للأول نكاحها ويخالف إذا اختلفا في الإصابة بعد الطلاق لأنه ليس لأحد حق في بضعها فقبل قولها.
فصل: إذا عادت المطلقة ثلاثاً إلى الأول بشروط إباحة ملك عليها ثلاث تطليقات لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث فوجب أن يستأنف الثلاث فإن طلقها طلقة أو طلقتين فتزوجت بزوج آخر فوطئها ثم أبانها رجعت إلى الأول بما بقي من عدد الطلاق لأنها عادت قبل استيفاء العدد فرجعت بما بقي كما لو رجعت قبل أن تنكح زوجاً غيره.(3/51)
كتاب الإيلاء
يصح الإيلاء من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وأما الصبي والمجنون فلا يصح الإيلاء منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". لأنه قول يختص بالزوجية فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق وأما من لا يقدر على الوطء فأن كان بسبب يزول كالمريض والمحبوس صح إيلاؤه وإن كان بسبب لا يزول كالمجبوب والأشل ففيه وجهان: أحدهما: يصح إيلاؤه لأن من صح إيلاؤه إذا كان قادراً على الوطء صح إيلاؤه إذا لم يقدر كالمريض والمحبوس والثاني: قاله في الأم لا يصح إيلاؤه لأنه يمين على ترك ما لا يقدر عليه بحال فلم يصح كما لو حلف لا يصعد للسماء ولأن القصد بالإيلاء أن يمنع نفسه من الجماع باليمين وذلك لا يصح ممن لا يقدر عليه لأنه ممنوع من غير يمين ويخالف المريض والمحبوس لأنهما يقدران عليه إذا زال المرض والحبس فصح منهما المنع باليمين والمجبوب والأشل لا يقدران بحال.
فصل: ولا يصح الإيلاء إلا بالله عز وجل وهل يصح بالطلاق والعتاق والصوم والصلاة وصدقة المال فيه قولان: قال في القديم: لا يصح لأنه يمين بغير الله عز وجل فلم يصح به الإيلاء كاليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة وقال في الجديد: يصح وهو الصحيح لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق فصح به الإيلاء كاليمين بالله عز وجل فإذا قلنا بهذا فقال إن وطئتك فعبدي حر فهو مول وإن قال إن وطئتك فلله علي أن أعتق رقبة فهو مول وإن قال إن وطئتك فأنت طالق أو امرأتي الأخرى طالق فهو مول وإن قال إن وطئتك فعلي أن أطلقك أو أطلق امرأتي الأخرى لم يكن مولياً لأنه لا يلزمه بالوطء شيء وإن قال إن وطئتك فأنت زانية لم يكن مولياً لأنه لا يلزمه بالوطء حق لأنه لا يصير بوطئها قاذفاً لأن القذف لا يتعلق بالشرط لأنه لا يجوز أن تصير زانية بوطء الزوج كما لا تصير زانية بطلوع الشمس وإذا لم يصر قاذفاً لم يلزمه بالوطء حق فلم يجز أن يكون موليا وإن قال إن وطئتك فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن مولياً لأن المولي هو الذي يلزمه بالوطء بعد أربعة أشهر حق أو يلحقه ضرر وهذا يقدر على وطئها بعد أربعة أشهر(3/52)
من غير ضرر يلحقه ولا حق يلزمه لأن صوم شهر مضى لا يلزمه كما لو قال إن وطئتك فعلي صوم أمس وإن قال إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري وهو مظاهر فهو مول وقال المزني لا يصير مولياً لأن ما وجب عليه لا يتعين بالنذر كما لو قال: إن وطئتك فعلي أن أصوم اليوم الذي علي من قضاء رمضان في يوم الاثنين وهذا خطأ لأنه يلزمه بالوطء حق وهو إعتاق هذا العبد وأما الصوم فقد حكى أبو علي ابن أبي هريرة فيه وجهاً آخر أنه يتعين بالنذر كالعتق والذي عليه أكثر أصحابنا وهو المنصوص في الأم أنه لا يتعين والفرق بينهما أن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام والرقاب كتفاضل أثمانها وإن قال إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت لم يكن مولياً في الحال لأنه يمكنه أن يطأها في الحال ولا يلزمه شيء لأنه يقف العتق بعد الوطء على شرط آخر فهو كما لو قال إن وطئتك ودخلت الدار فعبدي حر وإن ظاهر منها قبل الوطء صار مولياً لأنه لا يمكنه أن يطأها في مدة الإيلاء إلا بحق يلزمه فصار كما لو قال إن وطئتك فعبدي حر.
فصل: ولا يصح الإيلاء إلا على ترك الوطء في الفرج فإن قال والله لا وطئتك في الدبر لم يكن مولياً لأن الإيلاء هو اليمين التي يمتنع بها نفسه من الجماع والوطء في الدبر ممنوع منه من غير يمين ولأن الإيلاء هو اليمين التي يقصد بها الإضرار بترك الوطء والوطء الذي يلحق الضرر بتركه هو الوطء في الفرج وإن قال والله لا وطئتك فيما دون الفرج لم يكن مولياً لأنه لا ضرر في ترك الوطء فيما دون الفرج.
فصل: وإن قال والله لا أنيكك في الفرج أو والله لا أغيب ذكري في فرجك أو والله لا أقتضك بذكري وهي بكر فهو مول في الظاهر والباطن لأنه صريح في الوطء في الفرج وإن قال والله لا جامعتك أولا وطئتك فهو مول في الحكم لأن إطلاقه في العرف يقتضي الوطء في الفرج وإن قال أردت بالوطء وطء القدم وبالجماع الاجتماع بالجسم دين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه وإن قال والله لا أقتضك ولم يقل بذكري ففيه وجهان: أحدهما: أنه صريح كالقسم الأول والثاني: أنه صريح في الحكم كالقسم الثاني لآنه يحتمل الاقتضاض بغير ذكره وإن قال والله لا دخلت عليك أولا يجتمع رأسي ورأسك أولا جمعني وإياك بيت فهو كناية فإن نوى به الوطء في الفرج فهو مول وإن لم تكن له نية فليس بمول لأنه يحتمل الجماع وغيره فلم يحمل على الجماع من غير نية كالكنايات في الطلاق وإن قال والله لا باشرتك أو لامستك أولا أفضي إليك ففيه قولان: قال في(3/53)
القديم هو مول لأنه ورد القرآن بهذه الألفاظ والمراد بها الوطء فإن نوى به غير الوطء دين لأنه يحتمل ما يدعيه وقال في الجديد: لا يكون مولياً إلا بالنية لأنه مشترك بين الوطء وغيره فلم يحمل على الوطء من غير نية كقوله لا أجتمع رأسي ورأسك واختلف أصحابنا في قوله لا أصيبك أولا لمستك أولا غشيتك أولا باضعتك فمنهم من قال هو كقوله لا باشرتك أولا مسستك فيكون على قولين ومنهم من قال هو كقوله لا أجتمع رأسي ورأسك فإن نوى به الوطء في الفرج فهو مول وإن لم يكن له نية فليس بمول وإن قال والله لا غيبت الحشفة في الفرج فهو مول لأن تغييب ما دون الحشفة ليس بجماع ولا يتعلق به أحكام الجماع فصار كما لو قال والله لا وطئتك وإن قال والله لا جامعتك إلا جماع سوء فإذا أراد به لا جامعتك إلا في الدبر أو فيما دون الفرج فهو مول لأنه منع نفسه من الجماع في الفرج في مدة الإيلاء وإن أراد به لا جامعتك إلا جماعاً ضعيفاً لم يكن مولياً لأن الجماع الضعيف كالقوي في الحكم فكذلك في الإيلاء.
فصل: ولا يصح الإيلاء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر حراً كان الزوج أو عبداً حرة كانت الزوجة أو أمة فإن آلى على ما دون أربعة أشهر لم يكن موليا لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فدل على أنه لا يصير بما دونه موليا ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر والدليل عليه ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول:
ألا طال هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي حليل ألاعبه
والله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
سأل عمر رضي الله عنه النساء كم تصبر المرأة عن الزوج فقلن شهرين وفي(3/54)
الثالث يقل الصبر وفي الرابع يفقد الصبر فكتب عمر إلى امرأة الأجناد أن لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وإن آلى على أربعة أشهر لم يكن مولياً لأن المطالبة بالفيئة أو الطلاق بعد أربعة أشهر فإذا آلى على أربعة أشهر لم يبق بعدها إيلاء فلا تصح المطالبة من غير إيلاء.
فصل: وإن قال والله لا وطئتك فهو مول لأنه يقتضي التأبيد وإن قال والله لا وطئتك مدة أو والله ليطولن عهدك بجماعي فإن أراد مدة تزيد على أربعة أشهر فهو مول وإن لم يكن له نية لم يكن مولياً لأنه يقع على القليل والكثير فلا يجعل موليا من غير نية وإن قال والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك سنة فهما إيلان في زمانين لا يدخل أحدهما: في الآخر فيكون مولياً في كل واحد منهما لا يتعلق أحدهما: بالآخر في حكم من أحكام الإيلاء وإذا تقضى حكم أحدهما: بقي حكم الآخر لأنه أقر كل واحد منهما في زمان فانقرد كل واحد منهما عن الآخر في الحكم وإن قال والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال والله لا وطئتك سنة دخلت المدة الأولى في الثانية كما إذا قال له علي مائة ثم قال له علي ألف دخلت المائة في الألف فيكون إيلاء واحداً إلى سنة بيمين فيضرب لهما مدة يوم واحدة ويوقف لهما وقفاً واحداً فإن وطئ بعد الخمسة الأشهر حنث في يمين واحد فيجب عليه كفارة واحدة وإن وطئ في الخمسة الأشهر حنث في يمينين فيجب عليه في أحد القولين كفارة وفي الثاني كفارتان وإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإن مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه ليس بمول لأن كل واحد من الزمانين أقل من مدة الإيلاء والثاني: أنه مول لأنه منع نفسه من وطئها ثمانية أشهر فصار كما لو جمعها في يمين واحدة.
فصل: وإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك ففيه قولان: قال في القديم يكون مولياً في الحال لأن المولى هو الذي يمتنع من الوطء خوف الضرر وهذا يمتنع من الوطء خوفاً من أن يطأها فيصير مولياً فعلى هذا إذا وطئها صار موليا وذلك ضرر وقال في الجديد: لا يكون مولياً في الحال لأنه يمكنه أن يطأها في غير ضرر يلحقه في الحال فلم يكن مولياً فعلى هذا إذا وطئها صار مولياً لأنه يبقى يمين يمنع الوطء على التأبيد وإن قال والله لا وطئتك في السنة إلا مرة صار موليا في قوله القديم ولا يكون مولياً في الحال في قوله الجديد فإن وطئها نظرت فإن لم يبق من السنة أكثر من أربعة أشهر لم يكن موليا وإن بقي أكثر من أربعة أشهر صار مولياً.
فصل: وإن علق الإيلاء على شرط يستحيل وجوده بأن يقول والله لا وطئتك حتى(3/55)
تصعدي إلى السماء أو تصافحي الثريا فهو مول لأن معناه لا وطئتك أبدا وإن علق على ما لا يتيقن أنه لا يوجد إلا بعد أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك إلى يوم القيامة أو إلى أن أخرج من بغداد إلى الصين وأعود فهو مول لأن القيامة لا تقوم إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن شرائطها تتقدمها ويتيقن أنه لا يقدر أن يخرج من بغداد إلى الصين ويخرج إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر وإن علق على شرط الغالب على الظن أنه لا يوجد إلا في الزيادة على أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال أو حتى يجيء زيد من خراسان ومن عادة زيد أن لا يجيء إلا مع الحاج وقد بقي على وقت عادته زيادة عن أربعة أشهر فهو مول لأن الظاهر أنه لا يوجد شيء من ذلك إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر وإن علق على أمر يتيقن وجوده قبل أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يذبل هذا البقل أو يجف هذا الثوب فليس بمول لأنا نتيقن أن ذلك يوجد قبل أربعة أشهر وإن علقه على الأمر الغالب على الظن أنه يوجد قبل أربعة أشهر مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يجيء زيد من القرية وعادته أنه يجيء في كل جمعة لصلاة الجمعة أو لحمل الحطب لم يكن مولياً لأن الظاهر أنه يوجد قبل مدة الإيلاء وإن جاز أن يتأخر لعارض وإن قال والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي فهو مول لأن الظاهر بقاؤهما وإن قال والله لا وطئتك حتى يموت فلان فهو مول ومن أصحابنا من قال ليس بمول والصحيح هو الأول لأن الظاهر بقاؤه ولأنه لو قال إن وطئتك فعبدي حر كان موليا على قوله الجديد وإن جاز أن يموت العبد قبل أربعة أشهر.
فصل: وإن قال والله لا وطئتك في هذا البيت لم يكن مولياً لأنه يمكنه أن يطأها من غير حنث ولأنه لا ضرر عليها في ترك الوطء في بيت يعينه وإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن مولياً لما ذكرناه من التعليلين وإن قال والله لا وطئتك إن شئت فقالت في الحال شئت كان موليا وإن أخرت الجواب لم يكن مولياً على ما ذكرناه في الطلاق.
فصل: وإن قال لأربع نسوة والله لا وطئتكن لم يصر مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن لأنه يمكنه أن يطأ ثلاثاً منهن من غير حنث فلم يكن مولياً وإن وطئ ثلاثاً منهن صار مولياً من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بحنث ويكون ابتداء المدة من الوقت الذي تعين فيه الإيلاء وإن طلق ثلاثاً منهن كان الإيلاء موقوفاً في الرابعة لا يتعين فيها لأنه يقدر على(3/56)
وطئها من غير حنث ولا يسقط منها لأنه قد يطأ الثلاث المطلقات بنكاح أو سفاح فيتعين الإيلاء في الرابعة لأنه يحنث بوطئها والوطء المحظور كالمباح في الحنث ولهذا قال في الأم: ولو قال والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية لم يكن مولياً من امرأته حتى يطأ الأجنبية وإن ماتت من الأربع واحدة سقط الإيلاء في الباقيات لأنه قد فات الحنث في الباقيات لأن الوطء في الميتة قد فات ولأن الإيلاء على الوطء وإطلاق الوطء لا يدخل فيه وطء الميتة ويدخل فيه الوطء المحرم وإن قال لأربع نسوة والله لا وطئت واحدة منكن وهو يريد كلهن صار مولياً في الحال لأنه يحنث بوطء كل واحدة منهن ويكون ابتداء المدة من حين اليمين فأيتهن طالبت وقف لها فإن طلقها وجاءت الثانية وقف لها فإن طلقها وجاءت الثالثة وقف لها فإن طلقها وجاءت الرابعة وقف لها فإن طالبت الأولى فوطئها حنث وسقط الإيلاء فيمن بقي لأنه لا يحنث بوطئهن بعد حنثه بوطء الأولى وإن طلق الأولى ووطئ الثانية سقط الإيلاء في الثالثة والرابعة وإن طلق الأولى والثانية: ووطئ الثالثة سقط الإيلاء في الرابعة وحدها وإن قال والله لا وطئت واحدة منكن وأراد واحدة بعينها تعين الإيلاء فيها دون ما سواها ويرجع في التعيين إلى بيانه لأنه لا يعرف إلا من جهته فإن عين واحدة وصدقته الباقيات تعين فيها وإن كذبه الباقيات حلف لهن فإن نكل حلفن وثبت فيهن حكم الإيلاء بنكوله وإيمانهن وإن قال والله لا وطئت واحدة منكن وهو يريد واحدة لا بعينها فله أن يعين فيمن شاء ويؤخذ بالتعيين إذا طلبن ذلك فإذا عين في واحدة منهن لم يكن للباقيات مطالبة وفي ابتداء المدة وجهان: أحدهما: من وقت اليمين والآخر من وقت التعيين كما قلنا في العدة في الطلاق إذا أوقعه في إحداهن لا بعينها ثم عينه في واحدة منهن وإن قال والله لا أصبت كل واحدة منكن فهو مول من كل واحدة منهن وابتداء المدة من حين اليمين فإن وطئ واحدة منهن حنث ولم يسقط الإيلاء في الباقيات لأنه يحنث بوطء كل واحدة منهن.
فصل: وإن كانت له امرأتان فقال لإحداهما: والله لا أصبتك ثم قال للأخرى أشركتك معها لم يصر مولياً من الثانية لأن اليمين بالله عز وجل لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أوصفة والتشريك بينهما كناية فلم يصح بها اليمين بالله عز وجل وإن قال لإحداهما إن أصبتك فأنت طالق ثم قال للأخرى أشركتك معها ونوى صار مولياً لأن الطلاق يصح بالكناية.
فصل: وإذا صح الإيلاء لم يطالب بشيء قبل أربعة أشهر لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وابتداء المدة من حين اليمين لأنها ثبتت بالنص(3/57)
والإجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كمدة العقد فإن آلى منها وهناك عذر يمنع من الوطء نظرت فإن كان لمعنى في الزوجة بأن كانت صغيرة أو مريضة أو ناشزة أو مجنونة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو معتكفة عن فرض لم تحسب المدة وإن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة انقطعت المدة لأن المدة إنما نظرت لامتناع الزوج من الوطء وليس في هذه الأحوال من جهته امتناع فإن زالت هذه الأعذار استؤنفت المدة لأن من شأن هذه المدة أن تكون متوالية فإذا انقطعت استؤنفت كصوم الشهرين المتتابعين فإن كانت حائضاً حسبت المدة فإن طرأ الحيض في أثنائها لم تنقطع لأن الحيض عذر معتاد لا ينفك منه فلو قلنا إنه يمنع الاحتساب اتصل الضرر وسقط حكم الإيلاء ولهذا لا يقلع التتابع في صوم الشهرين المتتابعين وإن كانت نفساء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحتسب المدة لأنه كالحيض في الأحكام فكذلك في الإيلاء والثاني: لا يحتسب وإذا طرأ قطع لأنه عذر نادر فهو كسائر الأعذار وإن كان العذر لمعنى في الزوج بأن كان مريضاً أو مجنوناً أو غائباً أو مجبوباً أو محرماً أو صائماً عن فرض أو معتكفاً عن فرض حسبت المدة فأن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة لم تنقطع لأن الامتناع من جهته والزوجية باقية فحسبت المدة عليه وإن آلى في حال الردة أوفي عدة الرجعية لم تحتسب المدة وإن طرأت الردة أو الطلاق الرجعي في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث بالطلاق والردة فلم يكن للامتناع حكم وإن أسلم بعد الردة أو راجع بعد الطلاق وبقيت مدة التربص استؤنفت لمدة لما ذكرناه.
فصل: إذا طلقها في مدة التربص انقطعت المدة ولم يسقط الإيلاء فإن راجعها وقد بقيت مدة التربص استؤنفت المدة فإن وطئها حنث في اليمين وسقط الإيلاء لأنه أزال الضرر وإن وطئها وهي نائمة أو مجنونة حنث في يمينه وسقط الإيلاء وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث في يمينه لارتفاع القلم عنه وهل يسقط حقها؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأنها وصلت إلى حقها والثاني: لا يسقط لأن حقها في فعله لا في فعلها وإن وطئها وهو مجنون لم يحنث لارتفاع القلم عنه وهل يسقط حقها ففيه وجهان: أحدهما: يسقط وهو الظاهر من المذهب لأنها قد وصلت منه إلى حقها وإن لم يقصد فسقط حقها كما لو وطئها وهو يظن أنها امرأة أخرى والثاني: وهو قول المزني أنه لا يسقط حقها لأنه لا يحنث به فلم يسقط به الإيلاء.
فصل: وإن وطئها وهناك مانع من إحرام أو صوم أو حيض سقط به حقها من الإيلاء لأنها وصلت منه إلى حقها وإن كان بمحرم.(3/58)
فصل: وإن لم يطلقها ولم يطأها حتى انقضت المدة نظرت فإن لم يكن عذر يمنع الوطء ثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق لقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] وإن كانت الزوجة أمة لم يجز للمولى المطالبة وإن كانت مجنونة لم يكن ثوابها المطالبة لأن المطالبة بالطلاق أو الفيئة طريقها الشهوة فلا يقوم الولي فيه مقامها والمستحب أن يقول له في المجنونة اتق الله في حقها فإما أن تفيء إليها أو تطلقها وإن ثبت لها المطالبة فعفت عنها الزوجة جاز لها أن ترجع وتطالب لأنها إنما ثبت لها المطالبة لدفع الضرر بترك الوطء وذلك يتجدد مع الأحوال فجاز لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ وإن طولب بالفيئة فقال أمهلوني ففيه قولان: أحدهما: يمهل ثلاثة أيام لأنه قريب والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 64 - 65] ولهذا قدر به الخيار في البيع والثاني: يمهل قدر ما يحتاج إليه للتأهب للوطء فإن كان ناعساً أمهل إلى أن ينام وإن كان جائعا أمهل إلى أن يأكل وإن كان شبعانا أمهل إلى أن يخف وإن كان صائماً أمهل إلى أن يفطر لأنه حق حمل عليه وهو قادر على أدائه فلم يمهل أكثر من قدر الحاجة كالين الحال.
فصل: وإن وطئها في الفرج فقد أوفاها حقها ويسقط الإيلاء وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به وإن وطئها في الموضع المكروه أو وطئها فيما دون الفرج لم يعتد به لأن الضرر لا يزول إلا بالوطء في الفرج فإن وطئها في الفرج فإن كانت اليمين بالله تعالى فهل تلزمه الكفارة فيه قولان: قال في القديم: لا تلزمه لقوله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} فعلق المغفرة بالفيئة فدل على أنه استغنى عن الكفارة وقال في الجديد: تلزمه الكفارة وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" 1. ولأنه حلف بالله تعالى وحنث فلزمته الكفارة كما لو حلف على ترك صلاة فصلاها واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان فيمن جامع وقت المطالبة فأما إذا وطئ في مدة
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 11، 13. الترمذي في كتاب النذور باب 6. النسائي في كتاب الأيمان باب 15، 16. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 7. الموطأ في كتاب النذور حديث 11. أحمد في مسنده 4/256.(3/59)
التربص فإنه يجب عليه الكفارة قولاً واحداً لأن بعد المطالبة الفيئة واجبة فلا يجب بها كفارة كالحلق عند التحلل ومنهم من قال القولان في الحالين ويخالف كفارة الحج فإنها تجب بالمحظور والحلق المحظور وهو الحلق في حال الإحرام وأما الحلق عند التحلل فهو نسك وليس كذلك كفارة اليمين فإنها تجب بالحنث والحنث الواجب كالحنث المحظور في إيجاب الكفارة وإن كان الإيلاء على عتق وقع بنفس الوطء لأنه عتق معلق على شرط فوقع وجوده وإن كان على نذر عتق أو نذر صوم أو صلاة أو التصدق بمال فهو بالخيار بين أن يفي بما نذر وبين أن يكفر كفارة يمين لأنه نذر نذراً على وجه اللجاج والغضب فيخير فيه بين الكفارة وبين الوفاء بما نذر وإن كان الإيلاء على الطلاق الثلاث طلقت ثلاثاً لأنه طلاق معلق على شرط فوقع بوجوده وهل يمنع من الوطء أم لا ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن خيران أنه يمنع من وطئها لأنها تطلق قبل أن ينزع فمنع منه كما يمنع في شهر رمضان أن يجامع وهو يخشى أن يطلع الفجر قبل أن ينزع والثاني: وهو المذهب أنه لا يمنع لأن الإيلاج صادف النكاح والذي يصادف غير النكاح هو النزع وذلك ترك الوطء وما تعلق التحريم بفعله لا يتعلق بتركه ولهذا لو قال لرجل ادخل داري ولا تقم فيها جاز أن يدخل ثم يخرج وإن كان الخروج في حالة الحظر وأما مسألة الصوم فقد ذكر بعض أصحابنا أنها على وجهين: أحدهما: أنه لا يمنع فلا فرق بينها وبين مسألتنا فعلى هذا لا يزيد على تغييب الحشفة في الفرج ثم ينزع فإذا زاد على ذلك أو استدام لم يجب عليه الحد لأنه وطء اجتمع فيه التحليل والتحريم فلم يجب به الحد وهل يجب به المهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب كما تجب الكفارة على الصائم إذا أولج قبل الفجر واستدام بعد طلوعه والثاني: لا يجب لأن ابتداء الوطء يتعلق به المهر الواجب بالنكاح لأن المهر في مقابلة كل وطء يوجد في النكاح وقد تكون مفوضة فيجب عليه المهر بتغييب الحشفة فلو أوجبنا بالاستدامة مهراً أدى إلى إيجاب مهرين بإيلاج واحد وليس كذلك الكفارة فإنها لا تتعلق بابتداء الجماع فلا يؤدي إيجابها في الاستدامة إلى إيجاب كفارتين بإيلاج واحد وإن نزع ثم أولج نظرت فإن كانا جاهلين بالتحريم بأن اعتقدا أن الطلاق لا يقع إلا باستكمال الوطء لم يجب عليهما الحد للشبهة فلهذا يجب المهر وإن كانا عالمين بالتحريم ففي الحد وجهان: أحدهما: أنه يجب لأنه إيلاج مستأنف محرم من غير شبهة فوجب به الحد كالإيلاج في الأجنبية فعلى هذا لا يجب المهر لأنها(3/60)
زانية والثاني: لا يجب الحد لأن الإيلاجات وطء واحد فإذا لم يجب في أوله لم يجب في إتمامه فعلى هذا يجب لها المهر وإن علم الزوج بالتحريم وجهلت الزوجة أو علمت ولم تقدر على دفعه لم يجب عليها الحد ويجب لها المهر وفي وجوب الحد على الزوج وجهان وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة ففي وجوب الحد عليها وجهان: أحدهما: يجب فعلى هذا لا يجب لها المهر والثاني: لا يجب فعلى هذا يجب لها المهر.
فصل: وإن طلق فقد سقط حكم الإيلاء وبقيت اليمين فإن امتنع ولم يف ولم يطلق ففيه قولان: قال في القديم: لا يطلق عليه الحاكم لقوله صلي الله عليه وسلم: "الطلاق لمن أخذ بالساق" 1. ولأن ما خير فيه الزوج بين أمرين لم يقم الحاكم فيه مقامه في الاختيار كما لو أسلم وتحته أختان فعلى هذا يحبس حتى يطلق أو يفيء كما يحبس إذا امتنع من اختيار إحدى الأختين وقال في الجديد: يطلق الحاكم عليه لأن ما دخلت النيابة فيه وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم فيه مقامه كقضاء الدين فعلى هذا يطلق عليه طلقة وتكون رجعية وقال أبو ثور: تقع طلقة بائنة لأنها فرقة لدفع الضرر لفقد الوطء فكانت بائنة كفرقة العنين وهذا خطأ لأنه طلاق صادف مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعياً كالطلاق من غير إيلاء ويخالف فرقة العنين فإن تلك الفرقى فسخ وهذا طلاق فإذا وقع الطلاق ولم يراجع حتى بانت ثم تزوجها والمدة باقية فهل يعود الإيلاء على ما ذكرناه في عود اليمين في النكاح الثاني؟ فإن قلنا يعود فإن كانت المدة باقية استؤنفت مدة الإيلاء ثم طولب بعد انقضائها بالفيئة أو الطلاق فإن راجعها والمدة باقية استؤنفت المدة وطولب بالفيئة أو الطلاق وعلى هذا إلى أن يستوفي الثلاث فإن عادت إليه بعد استيفاء الثلاث والمدة باقية فهل يعود الإيلاء على قولين.
فصل: وإن انقضت المدة وهناك عذر يمنع الوطء نظرت فإن كان لمعنى فيها كالمرض والجنون الذي لا يخاف منه أو الإغماء الذي لا تمييز معه أو الحبس في موضع لا يصل إليه أو الإحرام أو الصوم الواجب أو الحيض أو النفاس لم يطالب لأن المطالبة تكون مع الاستحقاق وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال فلم تجز المطالبة فيه وإن كان العذر من جهته نظرت فإن كان مغلوباً على عقله لم يطالب لأنه لا يصلح للخطاب ولا يصلح منه جواب فإن كان مريضاً مرضاً يمنع الوطء أو حبس بغير حق حبساً يمنع الوصول إليه طولب أن يفيء فيئة المعذور بلسانه وهو أن يقول لست أقدر على الوطء ولو
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 31.(3/61)
قدرت لفعلت فإذا قدرت فعلت وقال أبو ثور: لا يلزمه الفيئة باللسان لأن الضرر بترك الوطء لا يزول بالفيئة باللسان وهذا خطأ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الأضرار وقد ترك القصد إلى الإضرار بما أتى به من الاعتذار ولأن القول مع العذر يقوم مقام الفعل عند القدرة ولهذا نقول إن إشهاد الشفيع على طلب الشفعة في حال الغيبة يقوم مقام الطلب في حال الحضور في إثبات الشفعة وإذا فاء باللسان ثم قدر طولب بالوطء لأنه تأخر بعذر فإذا زال العذر طولب به.
فصل: وإن انقضت المدة وهو غائب فإن كان الطريق آمنا فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو بحملها إليه أو بالطلاق وإن كان الطريق غير آمن فاء فيئة معذور إلى أن يقدر فإن لم يفعل أخذ بالطلاق.
فصل: وإن انقضت المدة وهو محرم قيل له إن وطئت فسد إحرامك وإن لم تطأ أخذت بالطلاق فإن طلقها سقط حكم الإيلاء وإن وطئها فقد أوفاها حقها وفسد نسكه وإن لم يطأ ولم يطلق ففيه وجهان: أحدهما: يقتنع منه بفيئة معذور إلى أن يتحلل لأنه غير قادر على الوطء فأشبه بالمريض والمحبوس والثاني: لا يقتنع منه وهو ظاهر النص لأنه امتنع من الوطء بسبب من جهته.
فصل: وإن انقضت المدة وهو مظاهر قيل له إن وطئت قبل التفكير أثمت للظهار وإن لم تطأ أخذت بالطلاق فإن فقال أمهلوني حتى أشتري رقبة أكفر بها أمهل ثلاثة أيام وإن قال أمهلوني حتى أكفر بالصيام لم يمهل لأن مدة الصيام تطول وإن أراد أن يطأها قبل أن يكفر وقالت المرأة لا أمكنك من الوطء لأني محرمة عليك فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله أنه ليس لها أن تمتنع فإن امتنعت سقط حقها من المطالبة كما نقول فيمن له دين على رجل فأحضر مالا فامتنع صاحب الحق من أخذه وقال لا آخذه لأنه مغصوب أن يلزمه أن يأخذه أو يبرئه من الدين وعندي أن لها أن تمتنع لأنه وطء محرم فجاز لها أن تمتنع منه كوطء الرجعية ويخالف صاحب الدين فإنه يدعي أنه مغصوب والذي عليه الدين يدعي أنه ماله والظاهر معه فإن اليد تدل على الملك وليس كذلك وطء المظاهر منها فإنهما متفقان على تحريمه فنظيره من المال أن يتفقا على أنه مغصوب فلا يجبر صاحب الدين على أخذه.
فصل: وإن انقضت المدة فادعى أنه عاجز ولم يكن قد عرف حاله أنه عنين وقادر ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص أنه يقبل قوله لأن التعنين من العيوب التي لا يقف(3/62)
عليها غيره فقبل قوله فيه مع اليمين فإن حلف طولب بفيئة معذور أو يطلق والوجه الثاني أنه لا يقبل قوله لأنه متهم فعلى هذا يؤخذ بالطلاق.
فصل: وإن آلى المجبوب وقلنا أنه يصح إيلاؤه أو الى وهو صحيح الذكر وانقضت المدة وهو مجبوب فاء فيئة معذور وهو أن يقول لو قدرت فعلت فإن لم يفيء أخذ بالطلاق.
فصل: وإن اختلف الزوجان في انقضاء المدة فادعت المرأة انقضاءها وأنكر الزوج فالقول قول الزوج لأن الأصل أنها لم تنقض ولأن هذا اختلاف في وقت الإيلاء فكان القول فيه قوله وإن اختلفا في الإصابة فادعى الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة فعلى ما ذكرناه في العنين.(3/63)
كتاب الظهار
مدخل
...
كتاب الظهار
الظهار محرم لقوله عز وجل: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] ويصح ذلك من كل زوج مكلف لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ولأنه قول يختص به النكاح فصح من كل زوج مكلف كالطلاق ولا يصح من السيد في أمته لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فخص به الأزواج ولأن الظهار كان طلاقاً في النساء في الجاهلية فنسخ حكمه وبقي محله.
فصل: وإن قالت أنت علي كظهر أمي فهو ظهار وإن قال أنت علي كظهر جدتي فهو ظهار لأن الجدة من الأمهات ولأنها كالأم في التحريم وإن قال أنت علي كظهر أبي لم يكن ظهاراً لأنه ليس بمحل الاستمتاع فلم يصر بالتشبيه به مظاهرا كالبهيمة وإن قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي ففيه قولان: قال في القديم: ليس بظهار لأن الله تعالى نص على الأمهات وهن الأصل في التحريم وغيرهن فرع لهن ودونهن فلم يلحقن بهن في الظهار وقال في الجديد: هو ظهار وهو الصحيح لأنها محرمة بالقرابة على التأبيد فأشبهت الأم وإن شبهها بمحرم من غير ذوات المحارم نظرت فإن كانت امرأة حلت له ثم حرمت عليه كالملاعنة والأم من الرضاع وحليلة الأب بعد ولادته أو محرمة تحل له في الثاني كأخت زوجته وخالتها وعمتها لم يكن ظهاراً لأنهن دون الأم في التحريم وإن لم تحل له قط ولا تحل له في الثاني كحليلة الأب قبل ولادته فعلى القولين في ذوات المحارم.
فصل: وإن قال أنت عندي أو أنت مني أو أنت معي كظهر أمي فهو ظهار لأنه يفيد ما يفيد قوله أنت علي كظهر أمي وإن شبهها بعضو من أعضاء الأم غير الظهر بأن قال(3/64)
أنت علي كفرج أمي أو كيدها أو كرأسها فالمنصوص أنه ظهار ومن أصحابنا من جعلها علي قولين قياساً على من شبهها بذات رحم محرم منه غير الأم والصحيح أنه ظهار قولاً واحداً لأن غير الظهر كالظهر في التحريم وغير الأم دون الأم في التحريم وإن قال أنت علي كبدن أمي فهو ظهار لأنه يدخل الظهر فيه وإن قال أنت علي كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه ظهار لأنه يعبر به عن الجملة والثاني: أنه كناية لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة فلم يكن ظهاراً من غير نية والثالث وهو قول علي ابن أبي هريرة أنه ليس بصريح ولا كناية لأن الروح ليس من الأعيان التي يقع بها التشبيه وإن شبه عضواً من زوجته بظهر أمه بأن قال رأسك أو يدك علي كظهر أمي فهو ظهار لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه علي يدها ورأسها كالطلاق وعلى قول ذلك القائل يجب أن يكون ههنا قول آخر أنه ليس بظهار.
فصل: وإن قال أنت علي كأمي أو مثل أمي لم يكن ظهاراً إلا بالنية لأنه يحتمل أنها كالأم في التحريم أوفي الكرامة فلم يجعل ظهاراً من غير نية كالكنايات في الطلاق.
فصل: وإن قال أنت طالق ونوى به الظهار لم يكن ظهارا وإن قال أنت علي كظهر أمي ونوى به الطلاق لم يكن طلاقاً لأن كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية فلا ينصرف عن موجبه بالنية وإن قال أنت طالق كظهر أمي ولم ينو شيئاً وقع الطلاق بقوله أنت طالق ويلغى قوله كظهر أمي لأنه ليس معه ما يصير به ظهارا وهو قوله أنت علي أو مني أو معي أو عندي فيصير كما لو قال ابتداء كظهر أمي وإن قال أردت أنت طالق طلاقاً يحرم كما يحرم الظهار وقع الطلاق وكان قوله كظهر أمي تأكيدا وإن قال أردت أنت طالق وأنت علي كظهر أمي فإن كان الطلاق رجعياً صار مطلقا ومظاهرا وإن كان بائنا وقع الطلاق ولم يصح الظهار لأن الظهار يلحق الرجعية ولا يلحق البائن وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي ولم ينو شيئاً فهو ظهار لأنه أتى بصريحه وأكده بلفظ التحريم وإن نوى به الطلاق فقد أكد الربيع أنه طلاق وروى في بعض نسخ المزني أنه ظهار وبه قال بعض أصحابنا لأن ذكر الظهار قرينة ظاهرة ونية الطلاق قرينة خفية فقدمت القرينة الظاهرة على القرينة الخفية والصحيح أنه طلاق وأما الظهار فهو غلط وقع في بعض النسخ لأن التحريم كناية في الطلاق والكناية مع النية كالصريح فصار كما لو قال أنت طالق كظهر أمي وإن أردت الطلاق والظهار فإن كان الطلاق رجعياً صار مطلقا ومظاهرا وإن كان الطلاق بائنا صح الطلاق ولم يصح الظهار لما ذكرناه فيما تقدم وعلى مذهب ذلك القائل هو مظاهر لأن القرينة الظاهرة مقدمة وإن قال أردت تحريم عينها وجبت كفارة يمين وعلى قول ذلك القائل هو مظاهر.(3/65)
فصل: ويصح الظهار مؤقتا وهو أن يقول أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهرا نص عليه في الأم وقال في اختلاف العراقيين لا يصير مظاهراً لأنه لو شبهها بمن تحرم إلى وقت لم يصر مظاهراً فكذلك إذا شبهها بأمه إلى وقت والصحيح هو الأول لما روى سلمة بن صخر قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتتابع بي حتى أصبحت فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان فبينما هي تحدثني ذات ليلة وتكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "حرر رقبة". ولأن الحكم إنما تعلق بالظهار لقوله المنكر والزور وذلك موجود في المؤقت.
فصل: ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه بالشرط كالطلاق وإن قال إن تظاهرت من فلانة فأنت علي كظهر أمي فتزوج فلانة وتظاهر منها صار مظاهراً من الزوجة لأنه قد وجد شرط ظهارها وإن قال إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم تزوج فلانة وظاهر منها ففيه وجهان: أحدهما: لا يصير مظاهراً من الزوجة لأنه شرط أن يظاهر من الأجنبية والشرط لم يوجد فصار كما لو قال إن تظاهرت من ثلاثة وهي أجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها وظاهر منها والثاني: يصير مظاهرا لأنه علق ظهارها بعينها ووصفها بصفة والحكم إذا تعلق بعين على صفة كانت الصفة تعريفا لا شرطا كما لو قال والله لا دخلت دار زيد هذه فباعها زيد ثم دخلها فإنه يحنث وإن لم تكن ملك زيد.
فصل: وإن قالت الزوجة لزوجها أنت علي كظهر أبي أو أنا عليك كظهر أمك لم يلزمها شيء لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجية يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق.
فصل: وإذا صح الظهار ووجد العود وجبت الكفارة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] والعود هو أن(3/66)
يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فلم يفعل وإن ماتت المرأة عقيب الظهار أو طلقها عقيب الظهار لم تجب الكفارة والدليل على أن العود ما ذكرناه هو أن تشبيهها بالأم يقتضي أن لا يمسكها فإذا أمسكها عاد فيما قال فإذا ماتت أو طلقها عقيب الظهار لو يوجد العود فيما قال.
فصل: وإن تظاهر من رجعية لم يصر عائداً قبل الرجعة لأنه لا يوجد الإمساك وهي تجري إلى البينونة فإن راجعها فهل تكون الرجعة عوداً أم لا فيه قولان: قال في الإملاء: لا تكون عوداً حتى يمسكها بعد الرجعة لأن العود استدامة الإمساك والرجعة ابتداء استباحة فلم تكن عودا وقال في الأم: هو عود لأن العود هو الإمساك وقد سمى الله عز وجل الرجعة إمساكاً فقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ولأنه إذا حصل العود باستدامة الإمساك فلأن يحصل بابتداء الاستباحة أولى وإن بانت منه ثم تزوجها فهل يعود الظهار أم لا على الأقوال التي مضت في الطلاق فإذا قلنا أنه يعود فهل يكون النكاح عوداً فيه وجهان: الصحيح لا بناء عن القولين في الرجعة وإن ظاهر الكافر من امرأته وأسلمت المرأة عقيب الظهار فإن كان قبل الدخول لم تجب الكفارة لأنه لم يوجد العود وإن كان بعد الدخول لو يصر عائداً ما دامت في العدة لأنها تجري إلى البينونة وإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة ففيه وجهان: أحدهما: لا يصير عائداً لأن العود هو الإمساك على النكاح وذلك لا يوجد إلا بعد الإسلام والثاني: يصير عائداً لأن قطع البينونة بالإسلام أبلغ من الإمساك فكان العود به أولى.
فصل: وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج عقيب الظهار ففيه وجهان: أحدهما: أن الملك عود لأن العود أن يمسكها على الاستباحة وذلك قد وجد والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن ذلك ليس بعود لأن العود هو الإمساك على الزوجية والشروع في الشراء تسبب لفسخ النكاح فلم يجز أن يكون عودا وإن قذفها وأتى من اللعان بلفظ الشهادة وبقي لفظ اللعان فظاهر منهما ثم أتى بلفظ اللعن عقيب الظهار لم يكن ذلك عوداً لأنه يقع به الفرقة فلم يكن عوداً كما لو طلقها وإن قذفها ثم ظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعان ففيه وجهان: أحدهما: أنه صار عائداً لأنه أمسكها زماناً أمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلق والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يكون عائداً لأنه اشتغل بما يوجب الفرقة فصار كما لو ظاهر منها ثم طلق وأطال لفظ الطلاق.
فصل: وإن كان الظهار مؤقتاً ففي عوده وجهان: أحدهما: وهو قول المزني أن العود فيه أن يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه كما قلنا في الظهار المطلق، والثاني:(3/67)
وهو المنصوص أنه لا يحصل العود فيه إلا بالوطء لأن إمساكه يجوز أن يكون لوقت الظهار ويجوز أن يكون لما بعد مدة الظهار فلا يتحقق العود إلا بالوطء فإن لم يطأها حتى مضت المدة سقط الظهار ولم تجب الكفارة لأنه لم يوجد العود.
فصل: وإن تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات وأمسكهن لزمه لكل واحدة كفارة وإن تظاهر منهن بكلمة واحدة بأن قال أنتن علي كظهر أمي وأمسكهن ففيه قولان: قال في القديم تلزمه كفارة واحدة لما روى ابن عباس عن سعيد بن المسيب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سئل عن رجل تظاهر من أربع نسوة فقال يجزيه كفارة واحدة وقال في الجديد يلزمه أربع كفارات لأنه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهن فلزمه أربع كفارات كما لو أفردهن بكلمات وإن تظاهر من امرأة ثم ظاهر منها قبل أن يكفر عن الأول نظرت فإن قصد التأكيد لزمه كفارة واحدة وإن قصد الاستئناف ففيه قولان: قال في القديم تلزمه كفارة واحدة لأن الثاني لو يؤثر في التحريم وقال في الجديد يلزمه كفارتان لأنه قول يؤثر في تحريم الزوجة كرره على وجه الاستئناف فتعلق بكل مرة حكم الطلاق وإن أطلق ولم ينو شيئاً فقدر قال بعض أصحابنا حكمه حكم ما لو قصد التأكيد ومنهم من قال حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف كما قلنا فيمن كرر الطلاق وإن كانت له امرأتان وقال لإحداهما إن تظاهرت منك فالأخرى علي كظهر أمي ثم تظاهر من الأولى وأمسكها لزمه كفارتان قولاً واحداً لأنه أفرد كل واحدة منهما بظهار.
فصل: وإذا وجبت الكفارة حرم وطؤها إلى أن يكفر لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 3 - 4] فشرط في العتق والصوم أن يكونا قبل المسيس وقسنا عليهما الإطعام وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "ما حملك على ما صنعت"؟ قال: رأيت بياض ساقها في القمر قال: "فاعتزلها حتى تكفر عن يمينك". واختلف قوله: في المباشرة فيما دون الفرج فقال في القديم تحرم لأنه قول يؤثر في تحريم الوطء فحرم به ما دونه من المباشرة كالطلاق وقال في الجديد لا تحرم لأنه وطء لا يتعلق بتحريمه مال فلم يجاوزه التحريم كوطء الحائض. والله أعلم.(3/68)
باب كفارة الظهار
وكفارته عتق رقبة لمن وجد وصيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة وإطعام ستين مسكينا لمن لا يجد الرقبة ولا يطيق الصوم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ(3/68)
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وروت خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: "اتق الله فإنه ابن عمك" فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله} الآية فقال: "يعتق رقبة" فقلت: لا يجد قال: "فليصم شهرين متتابعين" قلت: يا رسول الله شيخ كبير ما به صيام قال: " فليطعم ستين مسكيناً" قلت: يا رسول الله ما عنده شيء يتصدق به قال: "فأتى بعرق من تمر" قلت: يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر قال: "قد أحسنت فاذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك". فإن كان له مال يشتري به رقبة فاضلاً عما يحتاج إليه لقوته ولكسوته ومسكنه وبضاعة لا بد له منها وجب عليه العتق وإن كان له رقبة لا يستغني عن خدمتها بأن كان كبيراً أو مريضاً أو ممن لا يخدم نفسه لم يلزمه صرفها في الكفارة لأن ما يستغرقه حاجته كالمعدوم في جواز الإنتقال إلى البدل كما نقول فيمن معه ماء يحتاج إليه للعطش وإن كان ممن يخدم نفسه ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه العتق لأنه مستغن عنه والثاني: لا يلزمه لأن ما من أحد إلا ويحتاج إلى الترفه والخدمة وإن وجبت عليه كفارة وله مال غائب إن كان لا ضرر عليه في تأخير الكفارة ككفارة القتل وكفارة الوطء في رمضان لم يجز أن ينتقل إلى الصوم لأنه قادر على العتق من غير ضرر فلا يكفر بالصوم كما لو حضر المال وإن كان عليه ضرر في تأخير الكفارة ككفارة الظهار ففيه وجهان: أحدهما: لا يكفر بالصوم لأن له مالاً فاضلاً عن كفايته يمكنه أن يشتري به رقبة فلا يكفر بالصوم كما نقول في كفارة القتل والثاني: له أن يكفر بالصوم لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى أن يحضر المال فجاز له أن يكفر بالصوم.
فصل: وإن اختلف حاله من حين وجبت الكفارة إلى حين الأداء ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يعتبر حال الأداء لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها فاعتبر فيها حال الأداء كالوضوء والثاني: يعتبر حال الوجوب لأنه حق يجب على وجه التطهير فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد والثالث يعتبر أغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين الأداء فأي وقت قدر على العتق لزمه لأنه حق يجب في الذمة بوجود المال فاعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحجج.
فصل: ولا يجزئ في شيء من الكفارات إلا رقبة مؤمنة لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فنص في كفارة القتل على رقبة مؤمنة وقسنا عليها سائر الكفارات.(3/69)
فصل: ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب التي تضر بالعمل ضرراً بينا لأن المقصود تمليك العبد منفعته وتمكينه من التصرف وذلك لا يحصل مع العيب الذي يضر بالعمل ضرراً بيناً فإن أعتق أعمى لم يجز لأن العمى يضر بالعمل الضرر البين وإن أعتق أعور أجزأه لأن العور لا يضر بالعمل ضرراً بيناً لأنه يدرك ما يدرك البصير بالعينين ولا تجزئ مقطوع اليد أو الرجل لأن ذلك يضر بالعمل ضررا بينا ولا يجزئ مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى لأن منفعة اليد تبطل بقطع كل واحد منهما ويجزئ مقطوع الخنصر أو البنصر لأنه لا تبطل منفعة اليد بقطع إحداهما إن قطعتا جميعاً فإن كانتا من كف واحدة لم تجزه لأنه تبطل منفعة اليد بقطعهما وإن كانتا من كفين أجزأه لأنه لا تبطل منفعة كل واحد من الكفين وإن قطع منه أنملتان فإن كانتا من الخنصر أو البنصر أجزأه لأن ذهاب كل واحدة منهما لا يمنع الإجزاء فلأن لا يمنع ذهاب أنملتين أولى وإن كانتا من الوسط أو السبابة لم يجزه لأنه تبطل به منفعة الأصبع وإن قطعت منه أنملة فإن كانت من غير الإبهام أجزأه لأنه لا تبطل به منفعة الأصبع وإن كانت من الإبهام لم يجزه لأنه تبطل به منفعة الإبهام.
فصل: وإن كان أعرج نظرت فإن كان عرجاً قليلاً أجزأه لأنه لا يضر بالعمل ضرراً بيناً وإن كان كثيراً لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا ويجزئ الأصم لأن الصمم لا يضر بالعمل بل يزيد في العمل لأنه لا يسمع ما يشغله وأما الأخرس فقد قال في موضع يجزئه وقال في موضع لا يجزئه فمن أصحابنا من قال إن كان مع الخرس صمم لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا وإن لم يكن معه صمم أجزأه لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان يعقل الإشارة أجزأه لأنه يبلغ بالإشارة ما بلغ بالنطق وإن كان لا يعقل لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا وحمل القولين على هذين الحالين وإن كان مجنوناً جنوناً مطبقاً يمنع العمل لم يجزه لأنه لا يصلح للعمل وإن كان يجن ويفيق نظرت فإن كان زمان المجنون أكثر لم يجزه لأنه يضر به ضررا بينا وإن كان زمان الإفاقة أكثر أجزأه لأنه لا يضر به ضررا بينا ويجزئ الأحمق وهو الذي يفعل الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه.
فصل: ويجزئ الأجدع لأنه كغيره في العمل ويجزئ مقطوع الأذن لأن قطع الأذن لا يؤثر في العمل وغيره أولى منه ليخرج من الخلاف فإن عند مالك لا يجزئه ويجزئ ولد الزنا لأنه كغيره في العمل وغيره أولى منه لأن الزهري والأوزاعي لا يجيزان ذلك،(3/70)
ويجزئ المجبوب والخصي لأن الجب والخصي لا يضران بالعمل ضررا بينا ويجزئ الصغير لأنه يرجى من منافعه وتصرفه أكثر مما يرجى من الكبير ولا يجزئ عتق الحمل لأنه لم يثبت له حكم الأحياء ولهذا لا يجب عنه زكاة الفطر ويجزئ المريض الذي يرجى برؤه ولا يجزئ من لا يرجى برؤه لأنه لا عمل فيه ويجزئ نضو الخلق إذا لم يعجز عن العمل ولا يجزئ إذا عجز عن العمل وإن أعتق مرهونا أو جانيا وجوزنا عتقه أجزأه لأنه كغيره في العمل.
فصل: ولا يجزئ عبد مغصوب لأنه ممنوع من التصرف في نفسه فهو كالزمن وإن أعتق غائباً لا يعرف خبره فظاهر ما قاله هاهنا أنه لا يجزئه وقال في زكاة الفطر إن عليه فطرته فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يجزئه عن الكفارة وتجب زكاة الفطر عنه لأنه على يقين من حياته وعلى شك من موته واليقين لا يزال بالشك والثاني: لا يجزئ في الكفارة ولا تجب زكاة فطرته لأن الأصل في الكفارة وجوبها فلا تسقط بالشك والأصل في الزكاة هو براءة ذمته منها فلا تجب بالشك ومنهم من قال لا يجزئه في الكفارة وتجب زكاة الفطر لأن الأصل ارتهان ذمته بالكفارة بالظهار المتحقق وارتهانها بالزكاة بالملك المتحقق فلم تسقط الكفارة بالحياة المشكوك فيها ولا الزكاة بالموت المشكوك فيه.
فصل: ولا يجزئ عتق أم الولد ولا المكاتب لأنهما يستحقان العتق بغير الكفارة بدليل أنه لا يجوز إبطاله بالبيع فلا يسقط بعتقهما فرض الكفارة كما لو باع من فقير طعاماً ثم دفعه إليه عن الكفارة ويجزئ المدبر والمعتق بصفة لأن عتقهما غير مستحق بدليل أنه يجوز إبطاله بالبيع.
فصل: وإن اشترى من يعتق عليه من الأقارب ونوى عتقه عن الكفارة ولم يجزه لأن عتقه مستحق بالقرابة فلا يجوز أن يصرفه إلى الكفارة كما لو استحق عليه الطعام في النفقة في القرابة فدفعه إليه عن الكفارة وإن اشترى عبداً بشرط أن يعتقه فأعتقه عن الكفارة لم يجزه لأنه مستحق العتق بغير الكفارة فلا يجوز صرفه إلى الكفارة وإن كان مظاهرا وله عبد فقال لامرأته إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي عن كفارة الظهار فوطئها ثم أعتق العبد عن الظهار ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي الطبري إنه لا يجزئه لأنه عتق مستحق بالحنث في الإيلاء والثاني: وهو قول أبي إسحاق إنه يجزئه وهو المذهب لأنه لا يتعين عليه عتقه لأنه مخير بين أن يعتقه وبين أن يكفر كفارة يمين.(3/71)
فصل: وإن كان بينه وبين آخر عبد وهو موسر فأعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن الكفارة أجزأه لأنه عتق العبد بالمباشرة والسراية وحكم السراية حكم المباشرة ولهذا إذا جرحه وسرى إلى نفسه جعل كما لو باشر قتله وإن كان معسرا عتق نصيبه وإن ملك نصيب الآخر وأعتقه عن الكفارة أجزأه لأنه أعتق جميعه عن الكفارة وإن كان في وقتين فأجزأه كما لو أطعم المساكين في وقتين وإن أعتق نصف عبدين عن كفارة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يجزئه لأن المأمور به عتق رقبة ولم يعتق رقبة والثاني: يجزئه لأن أبعاض الجملة كالجملة في زكاة الفطر وزكاة المال فكذلك في الكفارة والثالث أنه إن كان باقيهما حراً أجزأه لأنه يحصل تكميل الأحكام والتمكين من التصرف في منافعه على التمام وإن كان مملوكاً لم يجزه لأنه لا يحصل له تكميل الأحكام والتمكين التام.
فصل: إذا قال لغيره أعتق عبدك عني فأعتقه عنه دخل العبد في ملكه وعتق عليه سواء كان بعوض أو بغير عوض واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتق عليه فقال أبو إسحاق يقع الملك والعتق في حالة واحدة ومن أصحابنا من قال يدخل في ملكه ثم يعتق عليه وهو الصحيح لأن العتق لا يقع عنه في ملك غيره فوجب أن يتقدم الملك ثم يقع العتق إن قال أعتق عبدك عن كفارتي فأعتقه عن كفارته أجزأه لأنه وقع العتق عنه فصار كما لو اشتراه ثم أعتقه.
فصل: وإن لم يجد رقبة وقدر على الصوم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين لقوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] فإن دخل فيه في أول الشهر صام شهرين بالأهلة لأن الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فإن دخل فيه وقد مضى من الشهر خمسة أيام صام ما بقي فصام الشهر الذي بعده ثم يصوم من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوماً لأنه تعذر اعتبار الهلال في شهر فاعتبر بالعدد كما يعتبر العدد في الشهر الذي غم عليهم الهلال في صوم رمضان وإن أفطر في يوم منه من غير عذر لزمه أن يستأنف وإن جامع بالليل قبل أن يكفر أثم لأنه جامع قبل التفكير ولا يبطل التتابع لأن جماعه لم يؤثر في الصوم فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل وإن كان الفطر لعذر نظرت فإن كانت امرأة فحاضت في صوم كفارة القتل أو الوطء في كفارة رمضان لم ينقطع التتابع لأنه لا صنع لها في الفطر ولأنه لا يمكن حفظ الشهرين من الحيض إلا بالتأخير إلى أن تيأس من الحيض وفي ذلك تغرير بالكفارة لأنها ربما ماتت قبل الإياس فتفوت وإن كان الفطر بمرض ففيه وجهان: أحدهما: يبطل التتابع لأنه أفطر باختياره فبطل التتابع(3/72)
كما لو أجهده الصوم فأفطر والثاني: لا يبطل لأن الفطر بسبب من غير جهته فلم يقطع التتابع كالفطر بالحيض وإن كان بالسفر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالفطر بالمرض لأن السفر كالمرض في إباحة الفطر فكان كالمرض في قطع التتابع والثاني: أنه يقطع التتابع قولاً واحداً لأن سببه من جهته وإن انقطع الصوم بالإغماء فهو كما لو أفطر بالمرض وإن أفطرت الحامل أو المرضع في كفارة القتل أو الجماع في رمضان خوفاً على ولديهما ففيه وجهان: أحدهما: أنه على قولين لأنه فطر لعذر فهو كالفطر بالمرض والثاني: أنه ينقطع التتابع قولاً واحداً لأن فطرهما لعذر في غيرهما فلم يلحقا بالمريض ولهذا يجب عليهما الفدية مع القضاء في يوم رمضان ولا يجب على المريض وإن دخل في الصوم فقطعه بصوم رمضان أو يوم النحر لزمه أن يستأنف لأنه ترك التتابع بسبب لا عذر فيه.
فصل: وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة لم يبطل صومه وقال المزني يبطل كما قال في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة وقد دللنا عليه في الطهارة والمستحب أن يخرج من الصوم ويعتق لأن العتق أفضل من الصوم لما فيه من نفع الآدمي ولأنه يخرج من الخلاف.
فصل: وإن لم يقدر على الصوم لكبر لا يطيق معه الصوم أو لمرض لا يرجى برؤه منه لزمه أن يطعم ستين مسكيناً للآية والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مداً من الطعام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث الجماع في شهر رمضان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أطعم ستين مسكيناً" قال: لا أجد قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا فقال: "خذه وتصدق به". وإذا ثبت هذا بالجماع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه.
فصل: ويجب ذلك من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة لأن الأبدان بها تقوم ويجب من غالب قوت بلده قال القاضي أبو عبيد ابن حربويه يجب من غالب قوته لأن في الزكاة الاعتبار بماله فكذلك ههنا والمذهب الأول لقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والأوسط الأعدل وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد ويخالف الزكاة فإنها تجب من المال والكفارة تجب في الذمة فإن عدل إلى قوت بلد أخرى فإن كان أجود من غالب قوت بلده الذي هو فيه جاز لأنه زاد خيراً فإن لم يكن أجود فإن كان مما يجب فيه زكاة ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه لأنه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد والثاني: لا يجزئه وهو الصحيح لأنه دون قوت البلد،(3/73)
فإن كان في موضع قوتهم الأقط ففيه قولان: أحدهما: يجزئه لأنه مكيل مقتات فأشبه قوت البلد والثاني: لا يجزئه لأنه يجب فيه الزكاة فلم يجزئه كاللحم وإن كان لحماً أو سمكاً أو جراداً ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالأقط ومنهم من قال لا يجزئه قولا واحدا ويخالف الأقط لأنه يدخله الصاع وإن كان في موضع لا قوت فيه وجب من غالب قوت أقرب البلاد إليه.
فصل: ولا يجوز الدقيق والسويق والخبز ومن أصحابنا من قال يجزئه لأنه مهيأ للاقتيات مستغنى عن مؤنته وهذا فاسد لأنه إن كان قد هيأه لمنفعة فقد فوت فيه وجوها من المنافع ولا يجوز إخراج القيمة لأنه أخذ ما يكفر به فلم يجز فيه القيمة كالعتق.
فصل: ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا للآية والخبر فإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم لما عليه من الطعام لم يجزه لأن ما وجب للفقراء بالشرع وجب فيه التمليك كالزكاة ولأنهم يختلفون في الأكل ولا يتحقق أن كل واحد منهم يتناول قدر حقه وإن قال لهم ملكتكم هذا بينكم بالسوية ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأنه يلزمهم مؤنة في قسمته فلم يجزه كما لو سلم إليهم الطعام في السنابل والثاني: أنه يجزئه وهو الأظهر لأنه سلم إلى كل واحد منهم قدر حقه والمؤنة في قسمته قليلة فلا يمنع الإجزاء.
فصل: ولا يجوز أن يدفع إلى مكاتب لأنها تجب لأهل الحاجة والمكاتب مستغن بكسبه إن كان له كسب أوبأن يفسخ الكتابة ويرجع إلى مولاه إن لم يكن له كسب ولا يجوز أن يدفع إلى كافر لأنها كفارة فلا يجوز صرفها إلى كافر كالعتق ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من زوجة أو والد أو ولد لأنه مستغن بالنفقة فإن دفع بعض ما عليه من الطعام ثم قدر على الصيام لم يلزمه الإنتقال إلى الصوم كما لا يلزمه الإنتقال إلى العتق إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم والأفضل أن ينتقل إليه لأنه أصل.
فصل: ولا يجوز أن يكفر عن الظهار قبل أن يظاهر لأنه حق يتعلق بسببين فلا يجوز تقديمه عليهما كالزكاة قبل أن يملك النصاب ويجوز أن يكفر بالمال بعد الظهار وقبل العود لأنه حق مال يتعلق بسببين فإذا وجد أحدهما: جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول وكفارة اليمين قبل الحنث.
فصل: ولا يجوز شيء من الكفارات إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات(3/74)
ولكل امرئ ما نوى" 1. ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النية كالزكاة ولا يلزمه في النية تعيين سبب الكفارة كما لا يلزمه في الزكاة تعيين المال الذي يزكيه فإن كفر بالصوم لزمه أن ينوي كل ليلة أنه صائم غداً عن الكفارة وهل يلزمه نية التتابع فيه ثلاثة أوجه: أحدها يلزمه أن ينوي كل ليلة لأن التتابع واجب فلزمه نيته كالصوم والثاني: يلزمه أن ينوي ذلك في أوله لأنه يتميز بذلك عن غيره والثالث وهو الصحيح أنه لا تلزمه نية التتابع لأن العبادة هي الصوم والتتابع شرط في العبادة فلم تجب نيته في أداء العبادة كالطهارة وستر العورة لا يلزمه نيتهما في الصلاة.
فصل: وإن كان المظاهر كافراً كفر بالعتق أو الطعام لأنه يصح منه العتق والإطعام في غير الكفارة فصح منه في الكفارة ولا يكفر بالصوم لأنه لا يصح منه الصوم في غير الكفارة فلا يصح منه في الكفارة فإن كان المظاهر عبداً فقد ذكرناه في باب المأذون فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1. مسلم في كتاب الإمارة حديث 155. أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. النسائي في كتاب الطهارة باب 59. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 26.(3/75)
كتاب اللعان
مدخل
...
كتاب اللعان
إذا علم الزوج أن امرأته زنت فإن رآها بعينه وهي تزني ولم يكن نسب يلحقه فله أن يقذفها وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن رجل وجد مع امرأته رجلاً إن تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم افتح". وجعل يدعوا فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولا سكوته وإن أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض أن رجلاً يزني بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها وله أن يسكت لأن الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزني بها لم يجز أن يقذفها لأنه يجوز أن يكون قد دخل إليها هارباً أو سارقاً أو دخل ليراودها عن نفسها ولم تمكنه فلا يجوز قذفها بالشك وإن استفاض أن رجلا يزني بها ولم يجده عندها ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قذفها لأنه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما والثاني: يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ولأن الاستفاضة تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف.
فصل: ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف فطولب بالحد أو بالتعزير فله أن يسقط ذلك بالبينة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا(3/76)
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا أتى بأربعة شهداء لم يجلد ويجوز أن يسقط باللعان لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو الحد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد ويتعذر عليه إقامة البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا" قال هلال قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل فإن قدر على البينة ولاعن جاز لأنهما بينتان في إثبات حق فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى كالرجلين والرجل والمرأتين في المال وإن كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف بالبينة ولا ينتفي إلا باللعان لأن الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفي النسب وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن لنفي النسب جاز وإن أراد أن يلاعن ويثبت الزنا وينفي النسب باللعان جاز
فصل: وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير ولم يكن نسب لم يلاعن ومن أصحابنا من قال له أن يلاعن لقطع الفراش والمذهب الأول لأن المقصود باللعان درء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب لما يلحقه من الضرر بكل واحدة منهما وليس ههنا واحد منهما وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود ويحصل له ذلك بالطلاق فلا يلاعن لأجله وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب به فقد روى المزني أنه ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة وحدها وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد فمن أصحابنا من قال لا يلاعن لأنه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب وقال أبو إسحاق له أن يلاعن لأن الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقط من غير طلب كما يجوز أن يقضي الدين المؤجل قبل الطلب وقوله ليس عليه أن يلتعن لا يمنع الجواز وإنما يمنع الوجوب.
فصل: وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر وله أن يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير قذف وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فقذفها عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه ليس بتعزير قذف وإنما هو تعزير على الكذب لحق الله تعالى،(3/77)
وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذي رماها به عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير لدفع الأذى لأنا قد حددناه للقذف فإن ثبت بالبينة أو بالإقرار أنها زانية ثم قذفها فقد روى المزني أنه لا يلاعن لدرء التعزير وروى الربيع أنه يلاعن لدرء التعزير واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق المذهب ما رواه المزني وما رواه الربيع من تخريجه لأن اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها بالإقرار أو البينة ولأن القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف والتعزير ههنا على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف لأنه بالقذف لم يلحقها معرة وقال أبو الحسن ابن القطان وأبو القاسم الداركي هي على قولين: أحدهما: لا يلاعن لما ذكرناه والثاني: يلاعن لأنه إنما جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.(3/78)
باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز
إذا تزوج امرأة وهوممن يولد لمثله وأمكن اجتماعهما على الوطء وأتت بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" 1. ولأن مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه وليس ههنا ما يعارضه ولا ما يسقطه فوجب أن يلحق به.
فصل: وإن كان الزوج صغيراً لا يولد لمثله لم يلحقه لأنه لا يمكن أن يكون منه أن ينتفي عنه من غير لعان لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين وههنا لا يجوز أن يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان واختلف أصحابنا في السن التي يجوز أن يولد له فمنهم من قال يجوز أن يولد له بعد عشر سنين ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك وهو ظاهر النص
__________
1 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 6. كتاب الحدود باب 33. مسلم في كتاب الرضاع حديث 37. داود في كتاب الطلاق باب 34. الترمذي في كتاب الرضاع باب 8. النسائي في كتاب الطلاق باب 48. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 20. أحمد في مسنده 1/25، 59.(3/78)
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" 1. ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع سنين ولا يجوز أن يولد له قبله لأن المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع وما قاله الشافعي رحمه الله أراد على سبيل التقريب لأنه لا بد أن يمضي بعد التسع إمكان الوطء وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر وذلك قريب من العشرة وإن كان الزوج مجبوباً فقد روى المزني أن له أن يلاعن وروى الربيع أنه ينتفي من غير لعان واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر والأنثيين انتفى من غير لعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما وإن قطع أحدهما: لحقه ولا ينتفي إلا بلعان لأنه إذا بقي الذكر أولج وأنزل وإن بقي الأنثيان ساحق وأنزل وحمل الروايتين على هذين الحالين وقال القاضي أبو حامد في أصل الذكر ثقبان أحدهما: للبول والآخر للمني فإذا انسدت ثقبة المني انتفى الولد من غير لعان لأنه يستحيل الإنزال وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان لأنه يمكنه الإنزال وحمل الروايتين على هذين الحالين.
فصل: وإن لم يكن اجتماعهما على الوطء بأن تزوجها وطلقها عقيب العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه.
فصل: وإن أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان لأنا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش وإن دخل بها ثم طلقها وهي حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه وانتفى عنه من غير لعان لأنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش وإن طلقها وهي غير حامل واعتدت بالأقراء ثم وضعت ولداً قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه لأنا تيقنا أن عدته لم تنقض وإن أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه وقال أبو عباس بن سريج لا يلحقه لأنا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها للأزواج وما حكم به يجوز نقضه لأمر محتمل وهذا خطأ لأنه يمكن أن يكون منه والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة أشهر لحقه وإن كان الأصل عدم الوطء وبراءة الرحم فإن وضعته لأكثر من أربعة سنين نظرت فإن كان الطلاق بائناً انتفى عنه بغير لعان لأن العلوق حادث بعد زوال الفراش وإن كان رجعيا ففيه قولان: أحدهما:
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 26. أحمد في مسنده 2/180، 187.(3/79)
ينتفي عنه بغير لعان لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة فصار كما لو طلقها طلاقا بائنا والقول الثاني يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقه ولدها فيه وجهان: قال أبو إسحاق يلحقه أبداً لأن العدة يجوز أن تمتد لأن أكثر الطهر لا حد له ومن أصحابنا من قال: يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة وهو الصحيح لأن العدة إذا انقضت بانت وصارت كالمبتوتة.
فصل: وإن كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على القافة ولا يلاعن لنفيه لأنه يمكن نفيه بغير لعان وهو القافة فلا يجوز نفيه باللعان فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك حتى تبلغ السن الذي ينسب فيه إلى أحدهما: فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان وإن قال زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه ففيه قولان: أحدهما: لا يلاعن لنفيه لأن أحدهما: ليس بزان فلم يلاعن لنفي الولد كما لو وطئها رجل بشبهة وهي زانية والثاني: أن له أن يلاعن وهو الصحيح لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كما لوكانا زانيين.
فصل: وإن أتت امرأته بولد فادعى الزوج أنه من زوج قبله وكان لها زوج قبله نظرت فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولدون ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للأول لأنه يمكن أن يكون منه وينتفي عن الزوج بغير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول ولأقل من ستة أشهر من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما لأنه لا يمكن أن يكون من واحد منهما وإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولستة أشهر فصاعداً من عقد الزوج الثاني عرض على القافة لأنه يمكن أن يكون من كل واحد منهما فإن ألحقته بالأول لحق به وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج لحق به ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب فإن انتسب إلى الأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل(3/80)
رددنا اليمين عليها وإن حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفي إلا باللعان لأنه ثبتت ولادته على فراشه وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويثبت نسبه فيه وجهان بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن وادعى أن المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعاً عن اليمين: أحدهما: لا ترد اليمين لأن اليمين حق للزوجة وقد أسقطته بالنكول فلم يثبت لغيرها والثاني: ترد لأنه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد فإذا أسقطت حقها لم يسقط حق الولد.
فصل: وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج ليس هذا مني ولا هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير بينة لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم يقبل قولها من غير بينة فإن قلنا إن الولد يعرض مع الأم على القافة في أحد الوجهين عرض على القافة فإن لحقته بالأم لحق بها وثبت نسبه من الزوج لأنها أتت به على فراشه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن قلنا إن الولد لا يعرض مع الأم على القافة أولم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه فإذا حلف انتفى النسب من غير لعان لأنه لم تثبت ولادته على فراشه وإن نكل رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن نكلت فهل توقف اليمين على بلوغ الولد ليحلف على ما ذكرناه من الوجهين في الفصل قبله.
فصل: إذا تزوج امرأة وهي وهو ممن يولد له ووطئها ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة ولا غيرها وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه ولا يحل له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه الله على رؤوس الأولين والآخرين"1. وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الإمكان وهو يعلم أنه لم يصبها وجب عليه نفيه باللعان لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته" 2. فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم دل على أن الرجل مثلها ولأنه إذا لم ينفه
__________
1 رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 42. أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. النسائي في كتاب الطلاق باب 47.
2 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب النكاح باب 42.(3/81)
جعل الأجنبي مناسبا له ومحرما له ولأولاده ومزاحما لهم في حقوقهم وهذا لا يجوز ولا يجوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطء شبهة أومن زوج قبله.
فصل: وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت وأتت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الزنا لزمه قذفها ونفي النسب لما ذكرناه وإن وطئها في الطهر الذي زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه بأن علم أنه كان يعزل منها أو رأى فيه شبها بالزاني لزمه نفيه باللعان وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
فصل: وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال ابن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو للذي رميت به". فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". فجعل الشبه دليلاً على أنه ليس منه. والثاني: أنه لا يجوز نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بني فزارة فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم قال: "ما ألوانها"؟ قال: حمر قال: " هل فيها من أوراق"؟ قال: إن فيها لورقاً قال: "فأنى ترى ذلك"؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" 1.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 41. مسلم في كتاب اللعان حديث 18، 20. أبو داود في كتاب الطلاق باب 38. النسائي في كتاب الطلاق باب 46. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 58. أحمد في مسنده 2/234.(3/82)
فصل: وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان أفنعزل عنهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا قضى خلق نسمة خلقها". ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق به وإن أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له النفي لأنه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به والثاني: أن له نفيه لأن الولد من أحكام الوطء فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نفيه لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به والثاني: له نفيه لأنه وضع لا يبتغي منه الولد.
فصل: إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد فإن كان حملاً فله أن يلاعن وينفي الولد لأن هلال بن أمية لاعن على نفي الحمل وله أن يؤخره إلى أن تضع لأنه يجوز أن يكون ريحاً أو غلظاً فيؤخر ليلاعن على يقين وإن كان الولد منفصلاً ففي وقت نفيه قولان: أحدهما: أنه الخيار في نفيه ثلاثة أيام لأنه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما يقدم عليه من النفي فجعل الثلاث حدا لأنه قريب ولهذا قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم فسر القريب بالثلاث فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} والثاني: وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور لأنه خيار غير مؤد لدفع الضرر فكان على الفور كخيار الرد بالعيب فإن حضرت الصلاة فبدأ بها أو كان جائعاً فبدأ بالأكل أوله مال غير محرز واشتغل بإحرازه أو كان عادته الركوب واشتغل بإسراج المركوب فهو على حقه من النفي لأنه تأخير لعذر وإن كان محبوساً أو مريضاً أو قيماً على مريض أو غائباً لا يقدر على المسير وأشهد على النفي فهو على حقه وإن لم يشهد مع القدرة على الإشهاد سقط حقه لأنه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الإشهاد مقامه إلى أن يقدر كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطء في حق المولى إذا عجز عن الوطء إلى أن يقدر.
فصل: وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليه ذلك من طريق العادة بأن كان معها في دار أو محله صغيرة لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه ظاهر وإن قال علمت بالولادة إلا أني لم أعلم أن لي النفي فإن كان ممن يخالط أهل العلم لم يقبل قوله لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ(3/83)
في موضع بعيد من أهل العلم قبل قوله لأن الظاهر أنه صادق فيما يدعيه وإن كان في بلد فيه أهل العلم إلا أنه من العامة ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب والثاني: يقبل لأن هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع بالعيب فإن ذلك يعرفه الخاص والعام.
فصل: وإن هنأه رجل بالولد فقال بارك الله لك في مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا وأمن على دعائه أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفي لأن ذلك يتضمن الإقرار به وإن قال أسن الله براءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لم يسقط حقه من النفي لأنه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل التحية بالتحية.
فصل: وإن كان الولد حملاً فقد أخرت النفي حتى ينفصل ثم ألاعن على يقين فالقول قوله مع يمينه لأنه تأخير لعذر يحتمله الحال وإن قال أخرت لأني قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان سقط حقه من النفي لأنه ترك النفي من غير عذر.
فصل: إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما: وأقر بالآخر أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما: دون الآخر وجعلنا ما انتفى منه تابعاً لما أقر به ولم نجعل ما أقر به تابعاً لما انتفى منه لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لنفيه ولهذا إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطاً لإثباته ولم ننفه احتياطا لنفيه وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر من ولادة الأول لم ينتف الثاني من غير اللعان لأن اللعان يتناول الأول فإن نفاه باللعان انتفى وإن أقر به أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد وجعلنا لما نفاه تابعا لما لحقه ولم نجعل مل لحقه تابعاً لما نفاه لما ذكرناه في التوأمين وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الأول انتفى بغير لعان لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
فصل: وإن لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر لم يلحقه واحد منهما لأنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر انتفى الأول باللعان وانتفى الثاني بغير لعان لأنا تيقنا بوضع الأول براء رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش.
فصل: وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قابل النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن(3/84)
لإسقاط الحد لأنه قذف غير محتاج إليه فلم نجز الحقيقة باللعان كقذف الأجنبية وإن كان هناك نسب يلحقه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يلاعن لأنه قذف غير محتاج إليه لأنه كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن له أن يلاعن لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا ينتفي بغير لعان فجاز له نفيه باللعان.
فصل: وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه يحتاج إلى نفيه باللعان وإن كان حملاً فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه وروى في الجامع أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يلاعن قولا واحدا وما رواه المزني في المختصر أراد إذا انفصل وقد بين في الأم فإنه قال لا يلاعن حتى ينفصل ووجهه أن الحمل غير متحقق لجواز أن يكون ريحا فينفش ويخالف إذا قذفها في حال الزوجية لأن هناك يلاعن لدرء الحد فتبعه نفي الحمل وههنا ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يلاعن حتى ينفصل لما ذكرناه والثاني: يلاعن وهو الصحيح لأن الحمل موجود في الظاهر ومحكوم بوجوده ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات ومنع من أخذها في الزكاة ومنعت الحامل إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع وهذه الطريقة هي الصحيحة لأن الشافعي رحمه الله نص في مثلها على قولين وهي في نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان: أحدهما: تجب لها النفقة يوما بيوم والثاني: لا تجب حتى تنفصل.
فصل: وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه الحد بالبينة وهل له أن يلاعن لنفي الحمل قبل أن ينفصل على ما ذكرناه من الطريقين في الفصل قبله.
فصل: وإن قذف امرأته في نكاح فاسد فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفي عنه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح وإن كان حملاً فعلى ما ذكرناه من الطريقين.
فصل: وإن ملك أمة لم تصر فراشاً بنفس الملك لأنه قد يقصد بملكها الوطء وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل لم تصر فراشاً فإن وطئها صارت فراشاً له فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطء لحقه لأن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة(3/85)
فقال عبد هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هولك الولد للفراش وللعاهر الحجر". وروى ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعزلونهم! لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما تعجبون من أبي عبد الله يقول بنفي ولد الأمة باللعان فجعل أبو العباس هذا قولاً ووجهه أنه كالنكاح في لحوق النسب فكان كالنكاح في النفي باللعان ومن أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولاً واحدا لأنه يمكنه نفيه بغير اللعان وهو أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح فإنه لا يمكنه نفي الولد فيه بغير لعان ولعل أحمد أراد بأبي عبد الله غير الشافعي رحمة الله عليهما.
فصل: إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد لأنه في أحد القولين يجب حد واحد فكفاه في إسقاطه لعان واحد وفي القول الثاني يجب حدان إلا أنهما حقان لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد كما يكتفي في حقين لواحد بيمين واحد وإن قذف أربع نسوة أفرد كل واحد منهن بلعان لأنها أيمان فلم تتداخل فيها حقوق الجماعة كالأيمان في المال وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ بقذفها لأن حقها أسبق وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع بينهن فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة جاز لأن الباقيات يصلن إلى حقوقهن من اللعان من غير نقصان.(3/86)
باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام
يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار مسلماً كان أو كافراً حراً كان أو عبداً لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب والكافر كالمسلم والعبد كالحر في ذلك فأما الصبي والمجنون فلا يصح لعانهما لأنه قول يوجب الفرقة فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق وأما الأخرس فإنه إن لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح لعانه لأنه في معنى المجنون وإن كانت له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح لعانه لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه فكان كالناطق في لعانه وأما من اعتقل لسانه فإنه إن كان مأيوساً منه صح لعانه بالإشارة كالأخرس وإن لم يكن مأيوساً منه ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لعانه لأنه غير مأيوس(3/86)
من نطقه فلم يصح لعانه بالإشارة كالساكت والثاني: يصح لأن أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها أصمتت فقيل لها: ألفلان كذا ولفلان كذا فأشارت أي نعم فرفع ذلك فرؤيت أنها وصية ولأنه عاجز عن النطق يصح لعانه بالإشارة كالأخرس.
فصل: وإن كان أعجمياً فإن كان يحسن بالعربية ففيه وجهان: أحدهما: يصح لعانه بلسانه لأنه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر الأيمان والثاني: لا يصح لأن الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها مع القدرة كأذكار الصلاة فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لأنه ليس بأكثر من أذكار الصلاة وأذكار الصلاة تجوز بلسانه إذا لم يحسن بالعربية فكذلك اللعان وإن كان الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه وفي عدده وجهان بناء على القولين في الشهادة على الإقرار بالزنا أحدهما: يحتاج إلى أربعة، والثاني: يكفيه اثنان.
فصل: ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لأنه يمين في دعوى فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوي فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن يلاعن بينهما لأنه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم.
فصل: واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات أشهد بالله إني لمن الصادقين ثم يقول وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين وتقول المرأة أربع مرات أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تقول وعلي غضب الله إن كان من الصادقين والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإن أخل أحدهما: بأحد هذه الألفاظ الخمسة لم يعتد به لأن الله عز وجل علق الحكم على هذه الألفاظ فدل على أنه لا يتعلق بما دونها ولأنه بينة يتحقق بها الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال أحلف أو أقسم أو أولى ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين والثاني: أنه لا يجوز لأنه أخل باللفظ المنصوص عليه وإن أبدل لفظ اللعنة بالإبعاد أو لفظ الغضب بالسخط ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن معنى الجميع واحد والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعرة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا(3/87)
أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الغضب أغلظ والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه.
فصل: والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة لأن ابن عباس وابن عمر وسهل ابن سعد رضي الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على حداثة سنهم والصبيان لا يحضرون المجالس إلا تابعين للرجال فدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان ولأن اللعان بني على التغليظ للردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في الردع والمستحب أن يكونوا أربعة لأن اللعان سبب للحد ولا يثبت الحد إلا بأربعة فيستحب أن يحضر ذلك العدد ويستحب أن يكون بعد العصر لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه قوله عز وجل: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِالله} [المائدة: 206] قيل هو بعد العصر وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف يميناً على مال مسلم فاقتطعه ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر لقد أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل الماء فإن الله عز وجل يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك" 1. ويستحب أن يتلاعنا من قيام لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال بن أمية فأرسل إليهما فجاآ فقام هلال فشهد ثم قامت فشهدت ولأن فعله من قيام أبلغ في الردع واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين إنه يجب لأنه تغليظ ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ وقال في الآخر يستحب كالتغليظ في الجماعة والزمان والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف موضع من البلد الذي فيه اللعان فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رأى قوماً يحلفون بين الركن والمقام فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشرب باب 10. كتاب التوحيد باب 24.(3/88)
قال أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا فقال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كان في المدينة لاعن في المسجد لأنه أشرف البقاع بها وهل يكون على المنبر أو عند المنبر اختلفت الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف عند منبري على يمين آثمة ولو على سواك من رطب وجبت له النار". وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار". فقال أبو إسحاق: إن كان الخلق كثيراً لاعن على المنبر ليسمع الناس وإن كان الخلق قليلاً لاعن عند المنبر مما يلي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبوعلي ابن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر لأن ذلك علو وشرف والملاعن ليس في موضع العلو والشرف وحمل قوله على منبري أي عند منبري لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض وإن كان بيت المقدس لاعن عند الصخرة لأنها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع وإن كانت المرأة حائضاً لاعنت على باب المسجد لأنه أقرب إلى الموضع الشريف وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة وإن كان نصرانيا لاعن في البيعة وإن كان مجوسياً لاعن في بيت النار لأن هذه المواضع عندهم كالمساجد عندنا.
فصل: وإذا أراد اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله لقد صدقت عليها فقالت كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما". وإن كانت المرأة غير برزة بعث إليها الحاكم من يستوفي عليها اللعان ويستحب أن يبعث معه أربعة.
فصل: ويبدأ بالزوج ويأمره أن يشهد لأن الله تعالى بدأ به وبدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في(3/89)
لعان هلال بن أمية ولأن لعانه بينة لإثبات الحق ولعان المرأة بينة الإنكار فقدمت بينة الإثبات فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد بها لأن لعانها إسقاط الحد والحد لا يجب بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة والمرأة إلى كلمة الغضب أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال لما كان في الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ويستحب أن يأمر من يضع يده على فيه في الخامسة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول إنها موجبة.
فصل: وإن لاعن وهي غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ويرفع في نسبها حتى تتميز وإن كانت حاضرة ففيه وجهان: أحدهما: يجمع بين الإشارة والاسم لأن مبنى اللعان على التأكيد ولهذا تكرر فيه لفظ الشهادة وإن حصل المقصود بمرة والثاني: أنه تكفيه الإشارة لأنها تتميز بالإشارة كما تتميز في النكاح والطلاق.
فصل: وإن كان القذف بالزنا كرره في الألفاظ الخمسة فإن قذفها بزناءين ذكرهما في الألفاظ الخمسة لأنه يكون صادقاً في أحدهما: دون الآخر فإن سمى الزاني بها ذكره في اللعان في كل مرة لأنه ألحق به المعرة في إفساد الفراش فكرره في اللعان كالمرأة فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وإن هذا الولد من زنا وليس مني فإن قال هذا الولد ليس مني ولم يقل من زنا لم ينتف لأنه يحتمل أن يريد أنه ليس مني في الخلق أو الخلق وإن قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس مني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروزي أنه ينتفي منه لأن ولد الزنا لا يلحق به والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه لا ينتفى لأنه قد يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا على قول أبي بكر الصيرفي فوجب أن يذكر أنه ليس مني لينتفي الاحتمال.
فصل: وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير والدليل عليه(3/90)
ما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة أوحد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " فقال هلال: قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل وإن قذفها برجل فسماه في اللعان سقط عنه حده لأنه سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة فإن لم يسمه في اللعان ففيه وجهان: أحدهما: يسقط حده لأنه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة والثاني: لا يسقط حده لأنه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة إذا لم يسمها فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد ذكر الزوجة.
فصل: وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى عن ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة فإن لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول.
فصل: ويجب على المرأة حد الزنا لأنه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها الحد كالشهادة ولا يجب على الرجل الذي رماها به حد الزنا لأنه لا يصح منه درء الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان
فصل: وإن كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر رضي الله عنه وحرمت عليه على التأبيد لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً فإن كان اللعان في نكاح فاسد أو كان اللعان بعد البينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية فهل تحرم المرأة على التأبيد ففيه وجهان: أحدهما: تحرم وهو الصحيح لأن ما وجب تحريماً مؤبداً إذا كان في نكاح أوجبه وإن لم يكن في نكاح كالرضاع والثاني: لا يحرم لأن التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم يثبت به تحريم.
فصل: وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ(3/91)
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] ولا تذكر المرأة للنسب في اللعان لأنه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه
فصل: إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كان المرأة محصنة أو التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لأن ذلك حق عليه فعاد بتكذيبه ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم لأنه حق له فلا يعود بتكذيبه نفسه وإن لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لأنه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها.
فصل: وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة لأن الزوجية بقيت إلى الموت فإن كان هناك ولد ورثه لأنه مات قبل نفيه وما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها يسقط بموته لأنه اختص ببدنه وقد فات وإن ماتت الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج لأن الزوجية بقيت إلى الموت وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه لأن الحاجة داعية إلى نفيه فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لإسقاطه ولا يسقط من الحد لولم يلاعن شيء لحقه من الإرث كما يسقط ما لها عليه من القصاص لأن القصاص ثبت مشتركاً بين الورثة فإذا سقط ما يخصه بالإرث سقط الباقي وحد القذف يثبت جميعه لكل واحد من الورثة ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه كان للباقين أن يستوفوا الجميع فإن مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه باللعان لأنه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه وإذا نفاه لم يرثه لأنا تبينا باللعان أنه لم يكن ابنه.
فصل: إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال أنا ألاعن سمع اللعان وسقط ما بقي من الحد وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد لأن ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة.
فصل: إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت فإن كان بالزنا الذي تلاعنا عليه لم يجب حد لأن اللعان في حقه كالبينة ولو أقام البينة على القذف ثم أعاد القذف لم يجب الحد فكذلك إذا لاعن وإن قذفها بزنا آخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب الحد لأن اللعان في حقه كالبينة ثم بالبينة يبطل إحصانها فكذلك في اللعان والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف الزوجة وقد زالت الزوجية باللعان فزالت الحاجة إلى القذف فلزمه الحد وإن تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد لأن اللعان حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد عن الأجنبي فإذا قذفها ولاعنها(3/92)
ونكلت عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا فيها فقال أبو العباس لا يرتفع إحصانها إلا في حق الزوج فإن قذفها أجنبي وجب عليه الحد لأن اللعان حجة اختص بها الزوج فلا يبطل به الإحصان إلا في حقه وقال أبو إسحاق يرتفع إحصانها في حق الزوج والأجنبي فلا يجب على واحد منهما الحد بقذفها لأنها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها كما لوحدت بالإقرار أو البينة.(3/93)
كتاب الأيمان
مدخل
...
كتاب الأيمان
تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وأما غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من غير مكلف كالبيع وفيمن زال عقله بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق وأما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على مقهور يمين". ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح كما لو أكره على كلمة الكفر وأما من لا يقصد اليمين وهو الذي يسبق لسانه إلى اليمين أو أراد اليمين على شيء فسبق لسانه إلى غيره فلا تصح يمينه لقوله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا هو قول الرجل لا والله وبلى والله ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
فصل: ويصح اليمين على الماضي والمستقبل فإن حلف على ماض وهو صادق فلا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه ولا يجوز أن يجعل اليمين عليه إلا وهو صادق فدل على أنه يجوز أن يحلف على ما هو صادق فيه وروى محمد ابن كعب القرظي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر وفي يده عصا: يا أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فو الذي نفسي بيده إن في يدي عصا وإن كان كاذبا وهو أن يحلف على أمر أنه كان ولم يكن أو على امرأته لم وكان أثم بذلك وهو اليمين الغموس والدليل عليه ما روي عن الشعبي رضي الله عنه عن عبد الله(3/94)
ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الشرك بالله" قال ثم ماذا؟ قال: "عقوق الوالدين" قال ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" 1. قيل للشعبي ما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ وهو فيها كاذب. وروى عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو علي غضبان" 2. وإن كان على مستقبل نظرت فإن كان على أمر مباح ففيه وجهان: أحدهما: الأولى أن لا يحنث لقوله عز وجل: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] والثاني: أن الأولى أن يحنث لقوله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] فإن حلف على فعل مكروه أوترك مستحب فالأولى أن يحنث لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير".
فصل: وتكره اليمين بغير الله عز وجل فإن حلف بغيره كالنبي والكعبة والآباء والأجداد لم تنعقد يمينه لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله تعالى" 3. وروي عن عمر رضي الله عنه قال: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: "إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" فقال عمر رضي الله عنه: والله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا وإن قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودي أو نصراني أو أنا بريء من الله أومن الإسلام لم ينعقد يمينه لما روى بريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف أنه بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فقد قال وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً". لأنه يمين بمحدث فلم ينعقد كاليمين بالمخلوقات.
فصل: وتجوز اليمين بأسماء الله وصفاته فإن حلف من أسمائه بالله انعقدت يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشاً ثم قال: إن شاء الله". وإن حلف بالرحمن أو بالإله أو بخالق
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 6. النسائي في كتاب التحريم باب 3. أحمد في مسنده 2/201.
2 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 4. مسلم في كتاب الإيمان حديث 22. أبو داود في كتاب الأيمان باب 1. الترمذي في كتاب البيوع باب 42. أحمد في مسنده 1/377.
3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 13. أبو داود في كتاب الأيمان باب 4. الترمذي في كتاب النذور باب 9. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 14.(3/95)
الخلق أو ببارئ النسمة أو بالحي القيوم أو بالحي الذي لا يموت أو برب السموات والأرضين أو بمالك يوم الدين أو برب العالمين وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا يشاركه فيها أحد انعقدت يمينه لأنه لا يسمى بها غيره ولا يوصف بها سواه فصار كما لو قال والله فإن حلف بالرحيم والرب القادر والقاهر والملك والجبار والخالق والمتكبر ولم ينوبه غير الله عز وجل انعقدت به يمينه لأنه لا تطلق هذه الأسماء إلا عليه وإن نوى به غيره لم ينعقد لأنه قد تستعمل في غيره مع التقييد لأنه يقال فلان رحيم القلب ورب الدار وقادر على المشي وقاهر للعدو وخالق للكذب ومالك البلد وجبار متكبر فجاز أن تصرف إليه بالنية فإن قال والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم لم تنعقد يمينه إلا أن ينوي به الله تعالى لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين الخلق مستعملة في الجميع استعمالاً واحداً فلم تنصرف إلى الله تعالى من غير نية كالكنايات في الطلاق وإن حلف بصفة من صفاته نظرت فإن حلف بعظمة الله أو بعزته أو بكبريائه أو بجلاله أو ببقائه أو بكلامه انعقدت يمينه لأن هذه الصفات للذات لم يزل موصوفاً بها ولا يجوز وصفه بضدها فصار كاليمين بأسمائه وإن قال وعلم الله ولم ينوبه المعلوم أو بقدرة الله ولم ينوبه المقدور انعقدت يمينه لأن العلم والقدرة من صفات الذات لم يزل موصوفاً بهما ولا يجوز وصفه بضدهما فصارا كالصفات الستة فإن نوى بالعلم المعلوم أو بالقدرة المقدور لم ينعقد يمينه لأنه قد يستعمل العلم في المعلوم(3/96)
والقدرة في المقدور ألا ترى أنك تقول اغفر لنا علمك فينا وتريد المعلوم وتقول انظروا إلى قدرة الله وتريد به المقدور فانصرف إليه بالنية فإن قال وحق الله وأراد به العبادات لم ينعقد يمينه لأنه يمين بمحدث وإن لم ينو العبادات انعقدت يمينه لأن الحق يستعمل فيما يستحق من العبادات ويستعمل فيما يستحقه الباري من الصفات وذلك من صفات الذات وقد انضم إليه العرف في الحلف به فانعقدت به اليمين من غير نية.
فصل: وإن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته فإن أراد به ما أخذ علينا من العهد في العبادات فليس بيمين لأنه يمين بمحدث وإن أراد بالعهد استحقاقه ما تعبدنا به فهو يمين لأنه صفة قديمة وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن العادة الحلف بها والتغليظ بصفاته كالطالب الغالب وترك المهلك والثاني: ليس بيمين لأنه يحتمل العبادات ويحتمل ما ذكرناه من استحقاقه ولم يقترن بذلك عرف عام وإنما يحلف به بعض الناس وأكثرهم لا يعرفونه فلم يجعل يمينا.
فصل: وإن قال بالله لأفعلن كذا بالباء المعجمة من تحت فإن أراد بالله إني أستعين بالله أو أثق بالله في الفعل الذي أشار إليه لم يكن يميناً لأن ما نواه ليس بيمين واللفظ يحتمله فلم يجعل يمينا وإن لم يكن له نية كان يميناً لأن الباء من حروف القسم فحمل إطلاق اللفظ عليه وإن قال تالله لأفعلن كذا بالتاء المعجمة من فوق فالمنصوص في الأيمان والإيلاء أنه يمين وروى المزني في القسامة أنه ليس بيمين واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المذهب ما نص عليه في الأيمان والإيلاء لأن التاء من حروف القسم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] وقوله تعالى: {لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فصار كما لو قال والله وبالله وما رواه المزني صحف فيه والذي قال المزني في القسامة بالباء المجمعة من تحت وتعليله يدل عليه فإنه قال لأنه دعاء وتالله ليس بدعاء ومن أصحابنا من قال إن كان في الأيمان والإيلاء فهو يمين لأنه يلزمه حق وإن كان في القسامة لم يكن يميناً لأنه يستحق به المال فلم يجعل يمينا وإن قال الله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه قد تحذف حروف القسم ولهذا روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل أبا جهل فقال: "آلله إنك قتلته". قال الله إني قتلته وإن لم يكن له نية لم(3/97)
يكن يميناً لأنه لم يأت بلفظ القسم وإن قال لاها الله ونوى به اليمين فهويمين لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق". وإن لم ينو اليمين لم يكن يميناً لأنه غير متعارف في اليمين فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال وأيم الله ونوى به اليمين فهو يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسامة بن زيد: "وأيم الله إنه لخليق بالإمارة". فإن لم يكن له فيه لم يكن يميناً لأنه لم يقترن به عرف ولا نية.
فصل: وإن قال لعمر الله ونوى به اليمين فهو يمين لأنه قد قيل معناه بقاء الله وقيل حق الله وقيل علم الله والجميع من الصفات التي تنعقد بها اليمين فإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأن الشرع ورد به في اليمين وهو قول الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} والثاني: أنه ليس بيمين وهو ظاهر النص لأنه غير متعارف في اليمين.(3/98)
فصل: وإن قال أقسمت بالله أو أقسم بالله لأفعلن كذا ولم ينو شيئاً فهو يمين لأنه ثبت له عرف الشرع وعرف العادة فالشرع قوله عز وجل: {فَيُقْسِمَانِ بِالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] وقوله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53] وعرف العادة أن الناس يحلفون بها كثيرا وإن قال أردت بقولي أقسمت بالله الخبر عن يمين متقدمة وبقولي أقسم بالله الخبر عن يمين مستأنفة قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ فأما في الحكم فالمنصوص في الأيمان أنه يقبل وقال في الإيلاء إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل فمن أصحابنا من قال لا يقبل قولا واحدا وما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة وقوله في الأيمان أنه يقبل إرادته فيما بينه وبين الله عز وجل ومنهم من قال لا يقبل في الإيلاء ويقبل في غيره من الأيمان لأن الإيلاء يتعلق به حق المرأة فلم يقبل منه خلاف الظاهر والحق في سائر الأيمان لله عز وجل فقبل قوله ومنهم من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يقبل لأن ما يدعيه يحتمله اللفظ والثاني: لا يقبل لأن ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة فإن قال شهدت بالله أو أشهد بالله لأفعلن كذا فإن نوى به اليمين فهو يمين لأنه قد يراد بالشهادة اليمين وإن نوى بالشهادة بالله الأيمان بها فليس بيمين لأنه قد يراد به ذلك وإن لم يكن له نية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين لأنه ورد به القرآن والمراد به اليمين وهو قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] والثاني: أنه ليس بيمين لأنه ليس في اليمين بها عرف من جهة العادة وأما في الشرع فقد ورد والمراد به اليمين وورد والمراد به الشهادة فلم يجعل يميناً من غير نية وإن قال أعزم بالله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه يحتمل أن أقول أعزم ثم يبتدئ اليمين بقوله بالله لأفعلن كذا وإن أراد إني أعزم بالله أي بمعونته وقدرته لم يكن يمينا وإن لم ينو شيئاً لم يكن يميناً لأنه يحتمل اليمين ويحتمل العزم على الفعل بمعونة الله فلم يجعل يمينا من غير نية ولا عرف وإن قال أقسم أو اشهد أو اعزم ولم يذكر اسم الله تعالى لم يكن يميناً نوى به اليمين أولم ينو لأن اليمين لا ينعقد إلا باسم معظم أوصفة معظمة ليتحقق المحلوف عليه وذلك لم يوجد.
فصل: وإن قال أسألك بالله أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا فإن أراد به الشفاعة بالله عز وجل في الفعل لم يكن يمينا وإن أراد أن يحلف عليه ليفعلن ذلك صار حالفا(3/99)
لأنه يحتمل اليمين وهو أن يبتدئ بقوله بالله لتفعلن كذا وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يميناً لم ينعقد لواحد منهما لأن السائل صرف اليمين عن نفسه والمسؤول لم يحلف.
فصل: إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء زيد أن أفعله فقال زيد قد شئت أن يفعله انعقدت يمينه لأنه علق عقد اليمين على مشيئته وقد وجدت ثم يقف البر والحنث على فعل الشيء وتركه وإن قال زيد لست أشاء أن يفعله لم تنعقد اليمين لأنه لم يوجد شرط عقدها وإن فقدت مشيئته بالجنون أو الغيبة أو الموت لم ينعقد اليمين لأنه لم يتحقق شرط الانعقاد ولا ينعقد اليمين به. والله أعلم.(3/100)
باب جامع الايمان
إذا حلف لا يسكن دارا وهو فيها فخرج في الحال بنية التحويل وترك رحله فيها لم يحنث لأن اليمين على سكناه وقد ترك السكنى فلم يحنث بترك الرحل كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج وترك رحله فيه وإن تردد إلى الدار لنقل الرحل لم يحنث لأن ذلك ليس بسكنى وإن حلف لا يسكنها وهو فيها أولا يلبس هذا الثوب وهو لابسه أولا يركب هذه الدابة وهو راكبها فاستدام حنث لأن الاسم يطلق على حال الاستدامة ولهذا تقول سكنت الدار شهرا ولبست الثوب شهرا وركبت الدابة شهرا وإن حلف لا يتزوج وهو متزوج أولا يتطهر وهو متطهر أولا يتطيب وهو متطيب فاستدام لم يحنث لأنه لا يطلق الاسم عليه في حال الاستدامة ولهذا تقول تزوجت من شهر وتطهرت من شهر وتطيبت من شهر ولا تقول تزوجت شهرا وتطهرت شهرا وتطيبت شهرا وإن حلف لا يدخل الدار وهو فيها فاستدام ففيه قولان: قال في الأم: يحنث لأن استدامة الدخول كالإبتداء في التحريم في ملك الغير فكذلك في الحنث في اليمين كاللبس والركوب وقال في حرملة: لا يحنث وهو الصحيح لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا نقول دخلت الدار من شهر ولا تقول دخلتها شهراً فلم يحنث بالاستدامة كما لو حلف لا يتطهر أولا يتزوج فاستدام فإن حلف لا يسافر وهو في السفر فأخذ في العود لم يحنث لأنه أخذ في ترك السفر وإن استدام السفر حنث لأنه مسافر.(3/100)
فصل: وإن حلف لا يساكن فلانا وهما في مسكن واحد ففارق أحدهما: الآخر في الحال وبقي الآخر لم يحنث لأنه زالت المساكنة وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان أو دار كبيرة وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق لم يحنث لأنه ما ساكنه فإن حلف لا يدخل داراً فأدخل إحدى الرجلين أو ادخل رأسه إليها لم يحنث وإن حلف لا يخرج من دار فأخرج إحدى الرجلين أو أخرج رأسه منها لم يحنث لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا وكان يدخل رأسه إلى عائشة لترجله ولأن كمال الدخول والخروج لا يحصل بذلك.
فصل: وإن حلف لا يدخل داراً فحصل في سطحها وهو غير محجر لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن السطح من الدار وهذا خطأ لأنه حاجز بين داخل الدار وخارجها فلم يصر بحصوله فيه داخلاً فيها كما لو حصل على حائط الدار وإن كان محجراً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يحيط به سور الدار والثاني: لا يحنث وهو ظاهر النص لأنه لم يحصل في داخل الدار وإن كان في الدار نهر فطرح نفسه في الماء حتى حمله إلى داخل الدار حنث لأنه دخل الدار وإن كان في الدار شجرة منتشرة الأغصان فتعلق بغصن منها ونزل فيها حتى أحاط به حائط الدار حنث وإن نزل فيه حتى حاذى السطح فإن كان غير محجر لم يحنث وإن كان محجرا فعلى الوجهين.
فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث لأن اليمين على وجه عين مضافة إلى مالك فلم يسقط الحنث فيه بزوال الملك كما لو حلف لا يكلم زوجة فلان هذه فطلقها ثم كلمها وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً لزيد وعمرو ولم يحنث لأن اليمين معقودة على دار جميعها لزيد وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل داراً يسكنها زيد بإعارة أو إجارة أو غصب فإن أراد مسكنه حنث لأنه يحتمل ما نوى وإن لم يكن له نية لم يحنث وقال أبو ثور: يحنث لأن الدار تضاف إلى الساكن والدليل عليه قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فأضاف بيوت أزواجهن إليهن بالسكنى وهذا خطأ لأن حقيقة الإضافة تقتضي ملك العين ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد جعل ذلك إقرارا له بملكها.
فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت وصارت ساحة أو جعلت حانوتاً أو بستاناً فدخلها لم يحنث لأنه زال عنها اسم الدار وإن أعيدت بغير تلك الآلة لم يحنث(3/101)
بدخولها لأنها غير تلك الدار وإن أعيدت بتلك الآلة ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة لأنها غير تلك الدار والثاني: أنه يحنث لأنها عادت كما كانت.
فصل: وإن حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب فقلع الباب ونصبه في مكان آخر وبقي الممر الذي كان عليه الباب فدخلها من الممر حنث وإن دخلها من الموضع الذي نصب فيه الباب لم يحنث ومن أصحابنا من قال إن دخل من الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لأنه لم يدخل من ذلك الباب لأن الباب نقل وهذا خطأ لأن الباب هو الممر الذي يدخل ويخرج منه دون المصراع المنصوب والممر الأول باق فتعلق به الحنث وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها أولاً يدخل من باب هذه الدار فسد الباب وجعل الباب في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحنث وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وهو المنصوص في الأم لأن اليمين انعقدت على باب موجود مضاف إلى الدار وذلك هو الباب الأول فلا يحنث بالثاني كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره ثم دخلها والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحنث وهو الأظهر لأن اليمين معقودة على بابها وبابها الآن هو الثاني فتعلق الحنث به كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره واشترى أخرى فإن الحنث يتعلق بالدار الثانية دون الأولى.
فصل: وإن حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو بيتاً في الحمام لم يحنث لأن المسجد وبيت الحمام لا يدخلان إطلاق اسم البيت ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى والمسجد وبيت الحمام لم يجعل لذلك فإن دخل بيتاً من شعر أو أدم نظرت فإن كان الحالف ممن يسكن بيوت الشعر والأدم حنث وإن كان ممن لا يسكنها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا يحنث لأن اليمين تحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حل على ما يتعارف أكله منفردا وبيت الشعر والأدم غير متعارف للقروي فلم يحنث به والثاني: وهو قول أبي إسحاق وغيره أنه يحنث لأنه بيت جعل للإيواء والسكنى فأشبه بيوت المدر وقولهم إنه غير متعارف في حق أهل القرى يبطل بالبيت من المدر فإنه غير متعارف في حق أهل البادية ثم يحنث به وخبز الأرز غير متعارف في حق غير الطبري ثم يحنث بأكله إذا حلف لا يأخذ الخبز.(3/102)
فصل: وإن حلف لا يأكل هذه الحنطة فجعلها دقيقاً أولا يأكل هذا الدقيق فجعله عجينا أولا يأكل هذا العجين فجعله خبزاً لم يحنث بأكله وقال أبو العباس: يحنث لأن اليمين تعلقت بعينه فتعلق الحنث بها وإن زال الاسم كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله والمذهب الأول لأنه علق اليمين على العين والاسم ثم لا يحنث بغير العين فكذلك لا يحنث بغير الاسم ويخالف الحمل لأنه لا يمكن أكله حيا والحنطة يمكن أكلها حباً أو لأن الحمل ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين فلم يدخل في اليمين والحنطة غير ممنوع من أكلها فتعلق بها اليمين وإن حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله وهو تمر أولا يأكل هذا الحمل فأكله وهو كبش أولا يكلم هذا الصبي فكلمه وهو شيخ ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا يحنث كما لا يحنث في الحنطة إذا صارت دقيقاً فأكله والثاني: أنه يحنث لأن الانتقال حدث فيه من غير صنعة وفي الحنطة الانتقال حدث فيها بصنعة وهذا لا يصح لأنه يبطل به إذا حلف لا يأكل هذا البيض فصار فرخا أولا يأكل هذا الحب فصار زرعاً فإنه لا يحنث وإن كان الانتقال حدث فيه من غير صنعة وإن حلف لا يشرب هذا العصير فصار خمراً أولا يشرب هذا الخمر فصار خلاً فشربه لم يحنث كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا وإن حلف لا يلبس هذا الغزل فنسج منه ثوباً حنث بلبسه لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجاً فصار كما لو حلف لا يأكل هذا الحيوان فذبحه وأكله.
فصل: وإن حلف لا يشرب هذا السويق فاستفه أولا يأكل هذا الخبز فدقه وشربه أو ابتلعه من غير مضغ لم يحنث لأن الأفعال أجناس مختلفة كالأعيان ثم لو حلف على جنس من الأعيان لم يحنث بجنس آخر فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال لم يحنث بجنس آخر وإن حلف لا يذوق هذا الطعام فذاقه ولفظه ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يوجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده ولهذا لا يبطل به الصوم والثاني: أنه لا يحنث الذوق معرفة الطعم وذلك يحصل من غير ازدراد وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاق وزاد عليه وإن حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق وإن قال والله لا طعمت هذا الطعام فأوجر في حلقه حنث لأن معناه لا جعلته لي طعاماً وقد جعله طعاما له.(3/103)
فصل: وإن حلف لا يأكل اللحم حنث بأكل لحم كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير لأن اسم اللحم يطلق على الجميع ولا يحنث بأكل السوك لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم وهل يحنث بأكل لحم ما لا يؤكل لحمه ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه يطلق عليه اسم اللحم وإن لم يحل كما أطلق على اللحم المغصوب وإن لم يحل والثاني: لا يحنث لأن القصد باليمين أن يمنع نفسه مما يستبيحه ولحم ما لا يؤكل لحمه ممنوع من أكله من غير يمين فلم يدخل في اليمين وإن حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث وإن حلف لا يأكل الشحم فأكل اللحم لم يحنث لأنهما جنسان مختلفان في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل سمين الظهر والجنب وما يعلو اللحم ويتخلله من البياض حنث لأنه لحم سمين وإن حلف على الشحم فأكل ذلك لم يحنث لأنه ليس بشحم وإن حلف على اللحم أو الشحم فأكل الكبد أو الطحال أو الرئة أو الكرش أو المخ لم يحنث لأنه مخالف للحم والشحم في الاسم والصفة وإن حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه لحم والثاني: لا يحنث لأن اللحم لا يطلق إلا على لحم البدن واختلف أصحابنا في الألية فمنهم من قال: هو شحم يحنث به في اليمين على الشحم ولا يحنث به في اليمين على اللحم لأنه يشبه الشحم في بياضه ويذوب كما يذوب الشحم ومنهم من قال: هو لحم فيحنث به في اليمين على اللحم ولا يحنث به في اليمين على الشحم لأنه نابت في اللحم ويشبهه في الصلابة ومنهم من قال: ليس بلحم ولا شحم ولا يحنث به في اليمين على واحد منهما لأنه مخالف للجميع في الاسم والصفة فصار كالكبد والطحال وإن حلف على اللحم فأكل شحم العين لم يحنث لأنه مخالف للحم في الاسم والصفة وإن حلف على الشحم فأكله ففيه وجهان: أحدهما: يحنث به بدخوله في اسم الشحم والثاني: لا يحنث به لأنه لا يدخل في إطلاق اسمه كما لا يدخل لحم السمك في إطلاق اليمين على اللحم ولا التمر الهندي في إطلاق اليمين على التمر.
فصل: وإن حلف لا يأكل الرؤوس ولم يكن له نية حنث برؤوس الإبل والبقر والغنم لأنها تباع مفردة وتؤكل مفردة عن الأبدان ولا يحنث برؤوس الطير فإنها لا تباع مفردة ولا تؤكل مفردة فإن كان في بلد يباع فيه رؤوس الصيد ورؤوس السمك مفردة حنث بأكلها لأنها تباع مفردة فهي كرؤوس الإبل والبقر والغنم وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يطلق عليها اسم الرؤوس إلا في البلد الذي يباع فيه ويعتاد أكله والثاني: يحنث بها لأن ما ثبت له العرف في مكان وقع الحنث به في كل مكان كخبز الأرز.(3/104)
فصل: وإن حلف لا يأكل البيض حنث بأكل كل بيض يزايل بائضه في الحياة كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة لأنه يؤكل مفردا ويباع منفردا فيدخل في مطلق اليمين ولا يحنث بما لا يزايل بائضه كبيض السمك والجراد لأنه لا يباع منفردا ولا يؤكل منفرداً فلم يدخل في مطلق اليمين.
فصل: وإن حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد لأن اسم اللبن يطلق على الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره كما يحنث في اليمين على اللحم بأكل لحم الجميع وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره ويحنث بالحليب والرائب وما جمد منه لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن واللوز واللبا والزبد والسمن والمصل والأقط وقال أبوعلي ابن هريرة إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه لأنه من اللبن والمذهب الأول لأنه لا يطلق عليه اسم اللبن فلم يحنث به وإن كان منه كما لو حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر أولا يأكل السمسم فأكل الشيرج فإنه لا يحنث وإن كان التمر من الرطب والشيرج من السمسم.
فصل: وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة وهو ظاهر فيها حنث وإن حلف لا يأكل اللبن فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه أو حلف لا يأكل الخل فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه حنث وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا أكله مع غيره لم يحنث لأنه لم يفرده بالأكل فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو والمذهب الأول لأنه فعل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على جماعة وهو فيهم.
فصل: وإن حلف لا يأكل أدماً فأكل اللحم حنث لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الإدام اللحم" 1. ولأنه يؤتدم به في العادة فحنث به كالخل والمري فإن أكل التمر ففيه
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب 27. بلفظ: "سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم".(3/105)
وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يؤتدم به في العادة وإنم يؤكل قوتا أو حلاوة والثاني: أنه يحنث به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سائلا خبزا وتمرا وقال: "هذا أدم هذا".
فصل: وإن حلف لا يأكل الفاكهة فأكل الرطب أو العنب أو الرمان أو الإترنج أو التوت أو النبق حنث لأنها ثمار أشجار فحنث بها كالتفاح والسفرجل وإن أكل البطيخ أو الموز حنث لأنه يتفكه به كما يتفكه بثمار الأشجار وإن أكل الخيار أو القثاء لم يحنث لأنهما من الخضروات.
فصل: وإن حلف لا يأكل بسرا ولا رطباً فأكل منصفاً حنث في اليمين لأنه أكل البسر والرطب وإن حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفاً لم يحنث لأنه لم يأكل بسرة ولا رطبة.
فصل: وإن حلف لا يأكل قوتاً فأكل التمر أو الزبيب أو اللحم وهو ممن يقتات ذلك حنث وهل يحنث به غيره على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد.
فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة وحلاوة لأن اسم الطعام يقع على الجميع والدليل عليه قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وهل يحنث بأكل الدواء ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام والثاني: يحنث لأنه يطعم في حال الاختيار ولهذا يحرم فيه الربا.(3/106)
فصل: وإن حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر احتمل عندي وجهين: أحدهما: يحنث لأنه يدخل في اسم الماء المطلق ولهذا تجوز به الطهارة والثاني: لا يحنث لأنه لا يشرب وإن حلف لا يشرب ماء فراتاً فشرب ماء دجلة أو غيره من المياه العذبة حنث لأن الفرات هو الماء العذب والدليل عليه قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] وأراد به العذب وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة لم يحنث لأن الفرات إذا عرف بالألف واللام فهو النهر الذي بين العراق والشام.
فصل: وإن حلف لا يشم الريحان فشم الضميران وهو الريحان الفارسي حنث وإن شم ما سواه كالورد والبنفسج والياسمين والزعفران لم يحنث لأنه لا يطلق اسم الريحان إلا على الضميران وما سواه لا يسمى إلا بأسمائها وإن حلف لا يشم المشموم حنث بالجميع لأن الجميع مشموم وإن شم الكافور أو المسك أو العود أو الصندل لم يحنث لأنه لا يطلب عليه اسم المشموم وإن حلف لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما لم يحنث لأنه لم يشم الورد والبنفسج وإن جف الورد والبنفسج فشمهما ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث كما لا يحنث إذا حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج.
فصل: وإن حلف لا يلبس شيئاً فلبس درعاً أو جوشناً أو خفاً أو فعلاً ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ليس شيئا والثاني: لا يحنث لأن إطلاق اللبس لا ينصرف إلى غير الثياب.
فصل: وإن كان معه رداء فقال والله لا لبست هذا الثوب وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به حنث لأنه لبسه وهو رداء فإن جعله قميصاً أو سراويل ولبسه لم يحنث لأنه لم يلبسه وهو رداء فإن قال والله لا لبست هذا الثوب ولم يقل وهو رداء فأرتدي به أو تعمم به أو اتزر به أو جعله قميصاً أو سراويل حنث ومن أصحابنا من قال: لا يحنث لأنه حلف على لبسه وهو على صفة فلم يحنث بلبسه على غير تلك الصفة والصحيح هو الأول لأنه حلف على لبسه ثوباً فحمل على العموم كما لو قال: والله لا لبست ثوبا.
فصل: وإن حلف لا يلبس حلياً فلبس خاتماً من ذهب أو فضة أو مخنقة من لؤلؤ(3/107)
أو غيره من الجواهر لأن الجميع حلي والدليل عليه قوله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] وإن لبس شيئاً من الخرز أو السبج فإن كان ممن عادته التحلي بها كأهل السواد حنث لأنهم يسمونه حليا وهل يحنث به غيرهم على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد وإن تقلد سيفاً محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلى وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه من حلي الرجال والثاني: لا يحنث لأنه ليس من الآلات المحلاة فلم يحنث به كالسيف وإن حلف لا يلبس خاتماً فلبسها في غير الخنصر أو حلف لا يلبس قميصاً فارتدى به أولا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث لأن اليمين يقتضي لبسا متعارفا وهذا غير متعارف.
فصل: وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له خبزاً أو لبس له ثوباً أو شرب له ماء من غير عطش لم يحنث لأن الحنث لا يقع إلا على ما عقد عليه اليمين والذي عقد عليه اليمين شرب الماء من عطش فلو حنثناه على ما سواه لحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه وإن حلف لا يلبس له ثوباً فوهب له ثوباً فلبسه لم يحنث لأنه لم يلبس ثوبه.
فصل: وإن حلف لا يضرب امرأته فضربها ضرباً غير مؤلم حنث لأنه يقع عليه اسم الضرب وإن عضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث لأن ذلك ليس بضرب وإن لكمها أو لطمها أو رفسها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه ضربها والثاني: لا يحنث لأن الضرب المتعارف ما كان يؤلم وإن حلف ليضرب عبده مائة سوط فشد مائة سوط فضربه بها ضربة واحدة فإن تيقن أنه أصابه لماءة بر في يمينه لأنه ضربه مائة سوط وإن تيقن أنه لم يصبه بالمائة لم يبر لأنه ضربه دون المائة وإن شك هل أصابه بالجميع أولم يصبه بالجميع فالمنصوص أنه يبر وقال المزني: لا يبر كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف ليفعلن كذا في وقت إلا أن يشاء فلان فمات فلان حنث وإذا لم نجعله باراً للشك في المشيئة وجب أن لا نجعله باراً للشك في الإصابة والمذهب الأول لأن أيوب عليه السلام حلف ليضربن امرأته عددا فقال عز وجل: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}(3/108)
[ص: 44] ويخالف ما قاله الشافعي رحمه الله في المشيئة لأنه ليس الظاهر وجود المشيئة فإذا لم تكن مشيئة حنث بالمخالفة والظاهر إصابته بالجميع فبر وإن حلف ليضربنه مائة مرة فضربه بالمائة المشدودة لم يبر لأنه لم يضربه إلا مرة فإن حلف ليضربنه مائة ضربة فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة فأصابه الجميع ففيه وجهان: أحدهما: لا يبر لأنه ما ضربه إلا ضربة ولهذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة إلى الجمرة لم يحتسب له سبعا والثاني: أنه يبر لأنه حصل بكل سوط ضربة ولهذا لو ضرب به في حد الزنا حسب بكل سوط جلدة.
فصل: وإن حلف لا يهب له فأعمره أو أرقبه أو تصدق عليه حنث لأن الهبة تمليك العين بغير عوض وإن كان لكل نوع منها اسم وإن وقف عليه وقلنا إن الملك ينتقل إليه حنث لأنه ملكه العين من غير عوض وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه ملكه بعوض وإن وصى به لم يحنث لأن التمليك بعد الموت والميت لا يحنث.
فصل: وإن حلف لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث لأن الكلام لا يطلق في العرف إلا على كلام الآدمي وإن حلف لا يكلم فلاناً فسلم عليه حنث لأن السلام من كلام الآدميين ولهذا تبطل به الصلاة فإن كلمه وهو نائم أو ميت أوفي موضع لا يسمع كلامه لم يحنث لأنه لا يقال في العرف كلمه وإن كلمه في موضع يسمع إلا أنه لم يسمع لاشتغاله بغيره حنث لأنه كلمه ولهذا يقال كلمه فلم يسمع وإن كلمه وهو أصم فلم يسمع الصمم ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه كلمه وإن لم يسمع فحنث كما لو كلمه فلم يسمع لاشتغاله بغيره والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لأنه كلمه وهولا يسمع فأشبه إذا كلمه وهو غائب وإن كاتبه أو راسله ففيه قولان: قال في القديم يحنث وقال في الجديد لا يحنث وأضاف إليه أصحابنا إذا أشار إليه فجعلوا الجميع على قولين: أحدهما: يحنث والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً} [الشورى: 51] فاستثنى الوحي وهو الرسالة من الكلام فدل على أنها منه وقوله عز وجل: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: 41] فاستثنى الرمز وهو الإشارة من الكلام فدل على أنها منه ولأنه وضع لإفهام الآدميين فأشبه الكلام والقول الثاني أنه لا يحنث لقوله عز وجل: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ(3/109)
صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26] ثم قال: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: 28 - 29] فلو كانت الإشارة كلاما لم تفعله وقد نذرت أن لا تكلم ولأن حقيقة الكلام ما كان باللسان ولهذا يصح نفيه عما سواه بأن تقول ما كلمته وإنما كاتبته أو راسلته أو أشرت إليه ويحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام لقوله عليه السلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام والسابق أسبقهما إلى الجنة" 1. وإن كاتبه أو راسله ففيه وجهان: أحدهما: لا يخرج من مأثم الهجران لأن الهجران ترك الكلام فلا يزول إلا بالكلام والثاني: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يخرج من مأثم الهجران لأن القصد بالكلام إزالة ما بينهما من الوحشة وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة.
فصل: وإن حلف لا يسلم على فلان فسلم على قوم هو فيهم ونوى السلام على جميعهم حنث لأنه سلم عليه وإن استثناه بقلبه لم يحنث لأن اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه يحتمل التخصيص فجاز تخصيصه بالنية وإن أطلق السلام من غير نية ففيه قولان: أحدهما: أنه يحنث لأن سلم عليهم فدخل كل واحد منهم فيه والثاني: أنه لا يحنث لأن اليمين يحمل على المتعارف ولا يقال في العرف لمن سلم على الجماعة وفيهم فلان إنه كلم فلانا وسلم على فلان وإن حلف لا يدخل على فلان في بيت فدخل على جماعة في بيت هو فيهم ولم يستثنه بقلبه حنث بدخوله عليهم وإن استثنى بقلبه عليهم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث كما لو حلف لا يسلم عليه فسلم عليهم واستثناه بقلبه والثاني: أنه يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالاستثناء والسلام قول فجاز تخصيصه بالاستثناء ولهذا لو قال سلام عليكم إلا على فلان صح وإن قال دخلت عليكم إلا على فلان لم يصح.
فصل: وإن حلف لا يصوم أولا يصلي فدخل فيهما حنث لأنه بالدخول فيهما يسمى صائما ومصليا وإن حلف لا يبيع أولا يتزوج أولا يهب لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب من غير قبول لأنه يقال وهب له ولم يقبل والصحيح هو الأول لأن الهبة عقد تمليك فلم يحنث فيه من غير إيجاب
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 57، 57. مسلم في كتاب البر حديث 23، 25. الترمذي في كتاب البر باب 21، 24. أحمد في مسنده 1/176، 183.(3/110)
وقبول كالبيع والنكاح ولا يحنث إلا بالصحيح فأما إذا باع بيعاً فاسداً أو وهب هبة فاسدة لم يحنث لأن هذه العقود لا تطلق في العرف والشرع إلا على الصحيح.
فصل: وإن قال والله لا تسريت ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أن يحنث بوطء الجارية لأنه قد قيل إن التسري مشتق من السراة وهو الظهر فيصير كأنه حلف لا يتخذها ظهراً والجارية لا يتخذها ظهرا إلا بالوطء وقد قيل إنه مشتق من السر وهو الوطء فصار كما لو حلف لا يطؤها والثاني: أنه لا يحنث إلا بالتحصين عن العيون والوطء لأنه مشتق من السر فكأنه حلف لا يتخذها أسرى الجواري وهذا لا يحصل إلا بالتحصين والوطء والثالث أنه لا يحنث إلا بالتحصين والوطء والإنزال لأن التسري في العرف اتخاذ الجارية لابتغاء الولد ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه.
فصل: وإن حلف أنه لا مال له وله دين حال حنث لأن الدين الحال مال بدليل أنه تجب فيه الزكاة ويملك أخذه إذا شاء فهو كالعين في يد المودع وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لأنه لا يستحق قبضه في الحال والثاني: أن يحنث لأنه يملك الحوالة به والإبراء عنه وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه على ملكه وتصرفه وإن كان له مال ضال ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأن الأصل بقاؤه والثاني: لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه فلا يحنث بالشك.
فصل: وإن حلف أنه لا يملك عبدا وله مكاتب فالمنصوص أنه لا يحنث وقال في الأم: ولو ذهب ذاهب إلى أنه عبد ما بقي عليه درهم إنما يعني أنه عبد في حال دون حال لأنه لو كان عبداً له لكان مسلطا على بيعه وأخذ كسبه فمن أصحابنا من جعل ذلك قولاً آخر وقال أبوعلي الطبري رحمه الله إنه لا يحنث قولاً واحدا وإنما ألزم الشافعي رحمه الله نفسه شيئا وانفصل عنه فلا يجعل ذلك قولاً له.
فصل: وإن حلف لا يرفع منكراً إلى فلان القاضي أو إلى هذا القاضي ولم ينو أنه لا يرفعه إليه وهو قاض فرفعه إليه بعد العزل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحنث لأنه شرط أن يكون قاضياً فلم يحنث بعد العزل كما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكلها بعد ما صارت دقيقا والثاني: أنه يحنث لأنه علق اليمين على عينه فكان ذكر القضاء تعريفاً لا(3/111)
شرطاً كما لو حلف لا يدخل دار زيد هذه فدخلها بعد ما باعها زيد وإن حلف لا يرفع منكراً إلى قاض حنث بالرفع إلى كل قاض لعموم اللفظ وإن حلف لا يرفع منكراً إلى القاضي لم يحنث إلا بالرفع إلى قاضي البلد لأن التعريف بالألف واللام يرجع إليه فإن كان في البلد قاض عند اليمين فعزل وولي غيره فرفع إليه حنث.
فصل: وإن حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو دهراً أو حقباً أو زماناً بر بأدنى زمان لأنه اسم للوقت ويقع على القليل والكثير وإن حلف لا يكلمه مدة قريبة أو مدة بعيدة بر بأدنى مدة لأنه ما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.
فصل: وإن حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يحنث لأنه حلف على فعله وهو طلب الخدمة ولم يوجد ذلك منه وإن حلف لا يتزوج أولا يطلق فأمر غيره حتى تزوج له أو طلق عنه لم يحنث لأنه حلف على فعله نفسه ولم يفعل وإن حلف لا يبيع أولا يضرب فأمر غيره ففعل فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث لما ذكرناه وإن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان فالمنصوص أنه لا يحنث وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يحنث ووجهه أن العرف في حقه أن يفعل ذلك عنه بأمره واليمين يحمل على العرف ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حملت على رؤوس الأنعام والصحيح هو الأول لأن اليمين على فعله والحقيقة لا تنتقل بعادة الحالف ولهذا لو حلف السلطان أنه لا يأكل الخبز أولا يلبس الثوب فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم يكن ذلك من عادته وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالبيع والضرب في حق من يتولاه بنفسه والثاني: أنه يحنث قولاً واحداً لأن العرف في الحلق في حق كل أحد أن يفعله غيره بأمره ثم يضاف الفعل إلى المحلوق.
فصل: وإن حلف لا يدخل دارين فدخل أحدهما: أولا يأكل رغيفين فأكل أحدهما: أولا يأكل رغيفا فأكله إلا لقمة أولا يأكل رمانة فأكلها إلا حبة أولا يشرب ماء حب فشربه إلا جرعة لم يحنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر أو ماء هذه البئر ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يحنث بشرب بعضه لأنه يستحيل شرب جميعه فانعقدت اليمين على ما لا يستحيل وهو شرب البعض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحنث بشرب بعضه لأنه حلف على شرب جميعه فلم يحنث بشرب بعضه كما لو حلف على شرب ماء في الحب.(3/112)
فصل: وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمر ولم يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يشار إليه إن اشتراه زيد دون عمر فلم يحنث وإن اشترى كل واحد منهما طعاماً ثم خلطاه فأكل منه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يحنث لأن ليس فيه شيء يمكن أن يقال هذا الطعام اشتراه زيد دون عمرو فلم يحنث كما لو اشترياه في صفقة واحدة والثاني: أنه إن أكل النصف فما دونه لم يحنث وإن أكل أكثر من النصف حنث لأن النصف فما دونه يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو فلم يحنث بالشك وفيما زاد يتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد والثالث: وهو قول أبي إسحاق أنه أكل الحبة والعشرين حبة لم يحنث لجواز أن يكون مما اشتراه عمرو وإن أكل الكف والكفين حنث لأنه يستحيل فيما يختلط أن يتميز في الكف والكفين ما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو.
فصل: وإن حلف لا يدخل دار زيد فحمله غيره باختياره فدخل به حنث لأن الدخول ينسب إليه كما ينسب إذا دخلها راكباً على البهيمة أو دخلها برجله فإن دخلها ناسياً لليمين أو جاهلاً بالدار أو أكره حتى دخلها ففيه وجهان: أحدهما: يحنث لأنه فعل ما حلف عليه فحنث والثاني: لا يحنث وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن حال النسيان والجهل والإكراه لا يدخل في اليمين كما لا يدخل في الأمر والنهي في خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يدخل في اليمين لم يحنث به وإن حمله غيره مكرهاً حتى دخل به ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كما لو أكره حتى دخلها بنفسه لأنه لما كان في حال الاختيار دخوله بنفسه ودخوله محمولاً واحداً لوجب أن يكون في حال الإكراه دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا ومنهم من قال: لا يحنث قولاً واحداً لأن الفعل إنما ينسب إليه إما بفعله حقيقة أو بفعل غيره بأمره مجازا وههنا لم يوجد واحد منهما فلم يحنث.
فصل: وإن حلف ليأكلن هذا الرغيف غداً فأكله من الغد بر في يمينه لأنه فعل ما حلف على فعله وإن ترك أكله في الغد حتى انقضى حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره وإن أكل نصفه في الغد حنث لأنه قدر على أكل الجميع ولم يفعل وإن أكله في يومه حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره فحنث كما لوترك أكله حتى انقضى الغد وإن تلف الرغيف في يومه أوفي الغد قبل أن يتمكن من أكله ففيه قولان كالمكره،(3/113)
وإن تلف من الغد بعدما تمكن من أكله ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يحنث قولا واحدا لأنه فوته باختياره ومنهم من قال فيه قولان لأن جميع الغد وقت للأكل فلم يكن تفويته بفعله فإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الشهر مع رأس الشهر فقضاه قبل رؤية الهلال حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن رأى الهلال ومضى زمان أمكنه فيه القضاء فلم يقضه حنث لأنه فوت القضاء باختياره وإن أخذ عند رؤية الهلال في كيله وتأخر الفراغ منه لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وإن أخر عن أول ليلة الشك ثم بان أنه كان من الشهر ففيه قولان كالناسي والجاهل وإن قال والله لأقضين حقه إلى شهر رمضان فلم يقضه حتى دخل الشهر حنث لأنه ترك ما حلف على فعله من غير ضرر وإن قال والله لأفين حقه إلى أول الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم قال حكمها حكم ما لو قال والله لأقضين حقه عند رأس الشهر وهو ظاهر النص وإن قضاه قبل رؤية الهلال حنث وإن رأى الهلال ومضى وقت يمكن فيه القضاء ثم قضاه حنث لأن إلى فد تكون للغاية كقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فلما احتمل أن تكون للغاية واحتمل أن تكون للمقارنة لم يجز أن نحنثه بالشك ويخالف قوله والله لأقضين حقه إلى رمضان لأنه لا يحتمل أن تكون للمقارنة لأنه لا يمكن أن يقارن القضاء في جميع شهر رمضان فجعلناه للغاية.
فصل: وإن كان له على رجل حق فقال له والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي ففر منه الغريم لم يحنث الحالف وقال أبوعلي ابن أبي هريرة فيه قولان كالقولين في المكره وهذا خطأ لأنه حلف على فعل نفسه ولم يوجد ذلك منه ولو قال والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك ففارقه الغريم مختارا ذاكرا لليمين حنث الحالف وإن فارقه مكرهاً أو ناسياً ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين في المكره والناسي ومنهم من قال يحنث الحالف قولاً واحداً لأن الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره والصحيح هو الأول وأن يعتبر في فعل من حلف على فعله وإن كانت اليمين على فعل الحالف اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن كانت على فعل غيره اعتبر الاختيار والقصد في فعله وإن فارقه الحالف لم يحنث لأن اليمين على فعل الغريم ولم يوجد منه فعل وإن حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه ثم أفلس وفارقه لما يعلم من وجوب إنظار المعسر حنث لأنه فعل المحلوف عليه مختاراً ذاكراً لليمين فحنث،(3/114)
وإن وجب الفعل بالشرع كما لو حلف لأرددت عليك المغصوب فرده حنث وإن وجب الرد بالشرع فإن ألزمه الحاكم مفارقته فعلى قولين.
فصل: وإن حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه منه فأحاله على غيره أو أبرأه من الدين أو دفع إليه عوضاً عن حقه حنث في اليمين لأنه لم يستوف حقه وإن كان حقه دنانير فدفع إليه شيئاً على أنه دنانير فخرج نحاساً فعلى القولين في الجاهل وإن قال من عليه الحق والله لا فارقتك حتى أدفع إليك مالك وكان الحق عيناً فوهبها منه فقبلت حنث لأنه فوت الدفع بقبوله وإن كان دينا فأبرأه منه وقلنا إنه لا يحتاج الإبراء إلى القبول على الصحيح من المذهب فعلى الطريقين فيمن حلف لا يدخل الدار فحمل إليه مكرهاً.(3/115)
باب كفارة اليمين
إذا حلف بالله تعالى ثم حنث وجبت عليه الكفارة لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك من أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". وإن حلف على فعل مرتين بأن قال والله لا دخلت الدار والله لا دخلت الدار نظرت فإن نوى بالثاني التأكيد لم يلزمه إلا كفارة واحدة وإن نوى الاستئناف ففيه قولان: أحدهما: يلزمه كفارتان لأنهما يمينان بالله عز وجل فتعلق بالحنث فيهما كفارتين كما لو كانت على فعلين والثاني: تجب كفارة واحدة وهو الصحيح لأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادت الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد بها التأكيد وإن لم يكن له نية فإن قلنا إنه إذا نوى الاستئناف لزمه كفارة واحدة فههنا أولى وإن قلنا هناك تجب كفارتان ففي هذا قولان بناء على القولين فيه من كرر لفظ الطلاق ولم ينو.
فصل: والكفارة إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهو مخير بين الثلاثة والدليل عليه قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] فإن لم يقدر على الثلاثة لزمه صيام ثلاثة أيام لقوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] فإن كان يكفر بالمال فالمستحب أن لا يكفر قبل الحنث ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة لا يجيز تقديم الكفارة على الحنث،(3/115)
وإن أراد أن يكفر بالمال قبل الحنث نظرت فإن كان الحنث بغير معصية جاز تقديم الكفارة لأنه حق مال يتعلق بسببين يختصانه فإذا وجد أحدهما: جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول وإن كان الحنث بمعصية والثاني: يجوز لما ذكرناه والثاني: لا يجوز لأنه يتوصل به إلى معصية واختلف أصحابنا في كفارة الظهار قبل العود وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت فمنهم من قال فيه وجهان كما قلنا في اليمين على معصية ومنهم من قال يجوز لأنه ليس فيه توصل إلى معصية وإن كان يكفر بالصوم لم يجز قبل الحنث لأنها عبادة تتعلق بالبدن لا حاجة به إلى تقديمها فلم يجز تقديمها على الوجوب كصوم رمضان.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالعتق لم يجز إلا بما يجوز في الظهار وقد بيناه وإن أراد أن يكفر بالإطعام أطعم كل مسكين مدا كما يطعم في الظهار وقد بيناه.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالكسوة كسا كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو رداء أم مقنعة أو خمار لأن الشرع ورد به مطلقا ولم يقدر فحمل على ما يسمى كسوة في العرف وهل يجزئ فيه القلنسوة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه لأنه لا يطلق عليه اسم الكسوة والثاني: أنه يجزئه وهو قول أبي إسحاق المروزي لما روي أن رجلاً سأل عمران بن الحصين عن قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] قال لو أن وفداً قدموا على أميركم هذا فكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم قد كسوا ولا يجزئ الخف والنعل والمنطقة والتكة لأنه لا يقع عليه اسم الكسوة ويجزئ الكساء والطيلسان لأنه من الكسوات ويجوز ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصوف والخز وأما الحرير فإنه إن أعطاه للمرأة أجزأه وهل يجوز أن يعطي رجلاً ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئ لأنه يحرم عليه لبسه والثاني: يجزئه وهو الصحيح لأنه يجوز أن يعطي الرجال كسوة النساء والنساء كسوة الرجال ويجوز فيه الخام والمقصور والبياض والمصبوغ فأما الملبوس فإنه إن ذهبت قوته لم يجزه وإن لم تذهب قوته أجزأه كما تجزئه الرقبة إذا لم تبطل منفعتها ولا تجزئه إذا بطلت منفعتها.
فصل: وإن أراد أن يكفر بالصيام ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إلا متتابعاً لأنه كفارة جعل الصوم فيها بدلاً عن العتق فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل والثاني: أنه يجوز متتابعا ومتفرقا لأنه صوم نزل به القرآن مطلقاً فجاز متفرقا ومتتابعا كالصوم في فدية الأذى.(3/116)
فصل: وإن كان الحالف عبدا فكفارته الصوم وإن كان الصوم يضر به لشدة الحر وطول النهار نظرت فإن حلف بإذن المولى وحنث بإذنه جاز له أن يصوم من غير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز أن يصوم إلا بإذنه لأنه لزمه بغير إذنه وإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه جاز أن يصوم بغير إذنه لأنه لزمه بإذنه وإن حلف بإذنه وحنث بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه وجد أحد السببين بإذنه فصار كما لو حلف بغير إذنه وحنث بإذنه والثاني: لا يجوز أن يصوم إذا كان الصوم لا يضر به كالصوم في الشتاء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه لا ضرر عليه والثاني: أنه كصوم الذي يضرب به على ما ذكرناه لأنه ينقص من نشاطه في خدمته فإن صام في المواضع التي منعناه من الصوم فيها أجزأه لأنه من أهل الصيام وإنما منع منه لحق المولى فإذا فعل بغير إذنه صح كصلاة الجمعة فإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وله مال لم يكفر بالعتق لأنه ليس من أهل الولاء ويلزمه أن يكفر بالطعام أو الكسوة ومن أصحابنا من قال فرضه الصوم وهو قول المزني لأنه ناقص بالرق وهو كالعبد والمذهب الأول لأنه يملك المال بنصف الحر ملكاً تاما فأشبه الحر.(3/117)
كتاب العدة
مدخل
...
كتاب العدة
إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ولأن العدة تجب لبراءة الرحم وقد تيقنا براءة رحمها وإن طلقها بعد الدخول وجبت العدة لأنه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على وجوبها بعد الدخول ولأن بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة الرحم وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان: أحدهما: لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى والثاني: تجب لأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء ولهذا تستقر به الأجرة في الإجارة كما تستقر بالاستيفاء فجعل كالاستيفاء في إيجاب العدة
فصل: وإن وجبت العدة على المطلقة لم تخل إما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة نظرت فإن كانت حاملاً من الزوج اعتدت بالحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضع الحمل فإن كان الحمل ولداً واحداً لم تنقض العدة حتى ينفصل جميعه وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع لأن الحمل هو الجميع ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بوضع الجميع وإن وضعت ما بان فيه خلق آدمي انقضت به العدة وإن وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمي وشهد أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمي ففيه طريقان: من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بيناه في عتق أم الولد وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روي أنه أتي عثمان رضي الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها فقال ابن عباس رضي الله عنه: أنزل الله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فالفصال في العامين والحمل في ستة أشهر وذكر القتيبي في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وأكثره أربع سنين لما روى الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن أنس حدثت جميلة بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها لا تزيد المرأة على اثنتين في الحمل قال مالك: سبحان الله من يقول هذا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقلما تنقضي به عدة الحامل أن تضع(3/118)
بعد ثمانين يوماً من بعد إمكان الوطء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم ليخلق في بطن أمه نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوما" 1. ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين.
فصل: فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة أقراء لقوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] والأقراء هي الأطهار والدليل عليه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والمراد به في وقت عدتهن كما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والمراد به في يوم القيامة والطلاق المأمور به في الطهر فدل على أنه وقت العدة وإن كان الطلاق في وقت الحيض كان أول الأقراء الطهر الذي بعده فإن كان في حال الطهر نظرت فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءاً لأن الطلاق إنما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الإضرار بها في تطويل العدة فلولم تحسب بقية الطهر قرءاً كان الطلاق في الطهر أضر بها من الطلاق في الحيض لأنه أطول للعدة فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر بأن وافق آخر لفظ الطلاق آخر الطهر أو قال لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك كان أول الأقراء الطهر الذي بعد الحيض وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر قرءا وهذا لا يصح لأن العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز الاعتداد بما قبله وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم وروى البويطي وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضي من الحيض يوم وليلة فمن أصحابنا من قال هما قولان: أحدهما: تنقضي العدة برؤية الدم لأن الظاهر أن ذلك حيض والثاني: لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين فالذي رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك حيض والذي رواه البويطي وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة لأنه لا يعلم أنه حيض قبل يوم وليلة وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة ففيه قولان: أحدهما: أنه من العدة لأنه لا بد من اعتباره فعلى هذا إذا راجعها فيه صحت الرجعة وإن
__________
1 رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب 6. مسلم في كتاب القدر حديث 1. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4.(3/119)
تزوجت فيه لم يصح النكاح والثاني: ليس من العدة لأنا لو جعلناه من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة فإن تزوجت فيه صح النكاح.
فصل: وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى في الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءاً ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم تحيض يوماً ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها.
فصل: وإن كانت من ذوات الأقراء فارتفع حيضها فإن كان لعارض معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم فتعتد بالأقراء لأن ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله فإن ارتفع بغير سبب معروف ففيه قولان: قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة لأن العدة تراد لبراءة الرحم وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لأن الاعتداد بالشهور جعل بعد الإياس فلم يجز قبله فإن قلنا بالقول القديم ففي القدر التي تمكث فيه قولان: أحدهما: تسعة أشهر لأنه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر والثاني: تمكث أربع سنين لأنه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة لأنه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءة الرحم بيقين فإذا علمت براءة الرحم بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر لما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المرأة إذا طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها ولأن تربصها فيما تقدم ليس بعدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء فإذا علمت اعتدت بعدة الآيسات فإن حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالأقراء لأنا تبينا أنها من ذوات الأقراء فإن اعتدت(3/120)
وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لأنها انقضت العدة وتعلق بها حق الزوج فلم يبطل فإن حاضت بعد العدة قبل النكاح ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث معه والثاني: يلزمها لأنها صارت من ذوات الأقراء قبل تعلق حق الزوج بها فلزمها الاعتداد بالأقراء فإن قلنا بقوله الجديد إنها تقعد إلى الإياس ففي الإياس قولان: أحدهما: يعتبر إياس أقاربها لأنها أقرب إليهن والثاني: يعتبر إياس نساء العالم وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة لأنه لا يتحقق الإياس فيما دونها فإذا تربصت قدر الإياس اعتدت بعد ذلك بالأشهر لأن ما قبلها لم يكن عدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء.
فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة لأن الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وإن كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالأهلة ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الأول وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم به ثلاثون يوما وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله: إذا طلقت المرأة في أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة لأنها إذا فاتها الهلال في الشهر الأول فاتها في كل شهر فاعتبر العدد في الجميع وهذا خطأ لأنه لم يتعذر اعتبار الهلال إلا في الشهر الأول فلم يسقط اعتباره فيما سواه.
فصل: وإن كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت بالشهور لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بعادة النساء والدليل عليه أنها لو بلغت سناً لا تحيض فيه النساء وهي تحيض كانت عدتها بالأقراء اعتباراً بحالها فكذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تعتد بالأشهر اعتباراً بحالها وإن ولدت ولم تر حيضا قبله ولا نفاسا بعده ففي عدتها وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنها تعتد بالشهور للآية والثاني: أنها لا تعتد بالشهور بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء.
فصل: وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال إلى(3/121)
الأقراء لأن الشهور بدل عن الأقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها وهل يحسب ما مضى من الأشهر قرءاً ففيه قولان: أحدهما: يحتسب به وهو قول أبي العباس لأنه طهر بعده حيض فاعتدت به قرءاً كما لو تقدمه حيض والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتسب به كما إذا اعتدت بقرئين ثم أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الأقراء شهراً وإن انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالأقراء لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة وإن شرعت في العدة بالأقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الأقراء إذا قلنا إن الحامل تحيض لأن الأقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على براءة الرحم من جهة القطع والظاهر إذا عارضه قطع سقطت دلالته كالقياس إذا عارض نصه وإن اعتدت بالأقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت لأن ما رأت من الحيض لم يكن موجوداً في حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجوداً في حال العدة بالأقراء فسقط معه حكم الإقراء.
فصل: وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملاً اعتدت بالحمل لما ذكرناه في الحرة وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بقرءين لما روى جابر عن عمر رضي الله عنه أنه جعل عدة الأمة حيضتين ولأن القياس اقتضى أن تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف إلا أن القرء لا يتبعض فكمل فصارت قرءين ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لواستطعت أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها تعتد بشهرين لأن الشهور بدل من الأقراء فكانت بعددها كالشهور في عدة الحرة والثاني: أنها تعتد بثلاثة أشهر لأن براءة الرحم لا تحصل إلا بثلاثة أشهر لأن الحمل يمكث أربعين يوماً نطفة ثم أربعين يوماً علقة ثم أربعين يوماً مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيه وهو الحمل والثالث أنها تعتد بشهر ونصف لأن القياس يقتضي أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في الحد ولأن القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم إذا وجب عليه نصف مد في جزاء الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوماً لأنه لا يتبعض وإن أراد أن يكفر بالإطعام أخرج نصف مد.
فصل: وإن أعتقت الأمة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لأنه وجبت عليها العدة وهي حرة وإن انقضت عدتها بقرءين ثم اعتقت لم يلزمها زيادة لأنها اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم حاضت أو اعتدت ذات(3/122)
الأقراء بالأقراء ثم صارت آيسة فإن أعتقت في أثناء العدة ففيه ثلاثة أقوال أحدها: تتم عدة أمة لأنه عدد محصور يختلف بالرق والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد والثاني: أن
ها إن كانت رجعية أتمت عدة حرة وإن كانت بائناً أتمت عدة أمة كما نقول فيمن مات عنها زوجها أنها إن كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة وإن كانت بائنا لم تنتقل والثالث: وهو الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة لأن الاعتبار في العدة بالانتهاء ولهذا لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء.
فصل: وإن وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لأن وطء الشبهة كالوطء في النكاح في النسب فكان كالوطء في النكاح في إيجاب العدة فإن زنى بامرأة لم تجب عليها العدة لأن العدة لحفظ النسب والزاني لا يلحقه نسب.
فصل: ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أولم يدخل لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] فإن كانت حائلا وهي حرة اعتدت بأربعة أشهر وعشر للآية وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال لأنا دللنا على أن عدتها بالأقراء على النصف إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرءين والشهور تتبعض فوجب عليها نصف ما يجب على الحرة وإن كانت حاملاً بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد حللت فانكحي". وإن كنت حاملاً بولد لا يلحق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لأنه لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد فإن كان الحمل لاحقاً برجل وطئها بشبهة اعتدت به منه وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور لأنه لا يجوز أن تعتد عن شخصين في وقت واحد وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة الطفل لأن الحمل عن الزنا لا حكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور وإن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لأنه توفي عنها وهي زوجته.
فصل: وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت فإن لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا لأن كل واحدة منهما يجوز أن تكون(3/123)
هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها وإن دخل بهما فإن كانتا حاملتين اعتدتا بوضع الحمل لأن عدة الطلاق والوفاة في الحمل واحدة وإن كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة شهور وعشر لأنها تجمع عدة الطلاق والوفاة وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدتا بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر أو ثلاثة أقراء وابتداء الأشهر من موت الزوج وابتداء الأقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرد بيقين وإن اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها إذا اتفقت صفتهما وقد بيناه وإن طلق إحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه فإن كانت المطلقة معينة ومات قبل أن يبين إلا في شيء واحد وهو أنا متى أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الأقراء فإن ابتداء الأشهر من حين الموت فأما الأقراء فإن قلنا على أحد الوجهين أن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق كان ابتداء الأقراء من حين الطلاق وإن قلنا بالوجه الآخر أن ابتداء العدة من حين التعيين كان ابتداء الأقراء من حين الموت لأن بالموت وقع الأياس من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه.
فصل: إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم أن لها أن تفسخ النكاح ثم تتزوج لما روى عمر بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلاً استهوته الجن فغاب عن امرأته فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج ولأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالتعنين وتعذر النفقة بالإعسار فلأن يجوز ههنا وقد تعذر الجميع أولى والثاني: وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته وقول عمر رضي الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام تصبر حتى يعلم موته ويخالف فرقة التعنين والإعسار بالنفقة لأن هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين وههنا لم يثبت سبب الفرقة وهو الموت فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج لما رويناه عن عمر رضي الله عنه ولأن يمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم تعتد لأن الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة قال أبو إسحاق يعتبر ابتداء المدة من حين أمرها الحاكم بالتربص ومن أصحابنا من قال يعتبر(3/124)
من حين انقطع خبره والأول أظهر لأن هذه المدة تثبت بالإجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى الحكم بالفرقة فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يفتقر لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها والثاني: أنه يفتقر إلى الحكم لأنه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة التعنين وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا ففيه قولان: أحدهما: تقع ظاهرا وباطنا فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج لأنه فسخ مختلف فيه فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين والثاني: ينفذ في الظاهر دون الباطن لأن عمر رضي الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته وإن قلنا بالقول الجديد أنها باقية على نكاح الزوج فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز نقضه على قوله الجديد ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد والثاني: أنه يجوز لأنه حكم مخالف لقياس جلي وهو أن يكون حياً في ماله ميتاً في نكاح زوجته.
فصل: وإن رجع المفقود فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه وإن قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه وإن فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة فإن قلنا بقوله القديم صح النكاح سواء قلنا إن الحاكم ينفذ الظاهر دون الباطن أو قلنا إنه ينفذ في الباطن دون الظاهر لأن الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة.(3/125)
باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه
إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعياً كان سكناها حيث يختار الزوج من المواضع التي تصلح لسكنى مثلها لأنها تجب لحق الزوجية وإن كان الطلاق بائناً نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة فإن كان الموضع يصلح لسكنى مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج فيه فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها لأن سكناها تختص بالموضع(3/125)
الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكنى مثلها كالحجرة أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز لأنهما كالدارين المتجاورتين فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع تستتر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره لأنه لا يؤمن من النظر ولا يحرم لأن مع المحرم يؤمن بالفساد وإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان" 1.
فصل: وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت فإن كانت مدة العدة غير معلومة كالعدة بالحمل أو بالأقراء فالبيع باطل لأن المنافع في مدة العدة مستثناة فيصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة فإن كانت مدة العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه وجهان: أحدهما: إنها على قولين كبيع الدار المستأجرة والثاني: أنه يبطل قولا واحدا والفرق بينهما أن منفعة الدار تنتقل إلى المستأجر ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع الدار واستثنى بعض المنفعة والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة ولهذا إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى منفعتها لنفسه.
فصل: وإن حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى تنقضي العدة لأن حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها إن بيعت الدار استؤجر لها بحقها مسكن تسكن فيه لأن حقها وإن ثبت بعد حقوق الغرباء إلا أنه يستند إلى سبب متقدم وهو الوطء في النكاح فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضاربت بالسكنى في تلك المدة فإن انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على الغرماء فإن زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها ترجع على الغرماء بما بقي لها كما ردت الفاضل إذا ألقت عدتها فيما دون العادة والثاني: لا ترجع عليهم لأن الذي استحقت الضرب به قدر عادتها والثالث: إن كانت عدتها بالإقراء لم ترجع لأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها وهي متهمة وإن كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم لأنه لا يلحقها فيه تهمة فإن لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم بأجرة أقل مدة
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 111، 112. مسلم في كتاب الحج حديث 424. الترمذي في كتاب الرضاع باب 16. أحمد في مسنده 1/222. بدون لفظ: "فإن ثالثهما الشيطان".(3/126)
تنقضي بها العدة لأنه يقين فلا يجب ما زاد بالشك فإن زادت العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه إذا زادت على العادة.
فصل: وإن طلقت وهي في مسكن لها لزمها أن تعتد به لأنه مسكن وجبت فيه العدة ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لأن سكناها عليه في العدة.
فصل: وإن مات الزوج وهي في العدة قدمت على الورثة في السكنى لأنها استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك لأن إضراراً بها في التضييق عليها وإن أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولا بناء فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين جاز لأنه لا ضرر عليها وإن قلنا إنها بيع فعلى ما بيناه.
فصل: وإن توفي عنها زوجها وقلنا إنها تستحق السكنى فإن كانت في مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه لما روت فريعة بنت مالك أن زوجها قتل فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله". وإن لم تكن في مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث الوصية لأنه دين مستحق فقدم وإن زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها فإن لم يكن له مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى وإن قلنا لا تجب لها السكنى اعتدت حيث شاءت فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب عليها الاعتداد فيه.
فصل: وإن أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان: أحدهما: أنها تخير بين الدارين في الاعتداد لأن الأولى خرجت عن أن تكون مسكناً لها بالخروج منها والثانية: لم تصر مسكنا لها والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الأولى.
فصل: وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت العدة قبل أن تفارق البنيان ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن لها أن تعود ولها أن تمضي في سفرها لأن العدة وجبت بعد الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها أن تعود وتعتد لأنه لم يثبت لها حكم السفر فإن وجبت العدة وقد فارقت البنيان فإن كان في سفر انتقال ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهي بين الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت الانتقال إليها فإن كانت في سفر حاجة فلها أن تمضي في سفرها ولها أن تعود لأن في قطعها عن السفر مشقة وإن وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد فإن كان للبقاء لها أن تقيم وتعتد لأنه(3/127)
الإجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع آخر لأنه حال عذر ولا ننتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من الموضع الذي وجبت فيه العدة لأنه أقرب إلى موضع الوجوب كما قلنا فيمن وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان أنه ينقل الزكاة إلى أقرب موضع منه وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى أوحد فإن كانت ذات خدر بعث إليها السلطان من يستوفي الحق منها وإن كانت برزة جاز إحضارها لأنه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى مكانها وإن احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن تخرج لذلك بالليل لما روى مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول الله إنا نستوحش بالليل ونبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا درنا إلى بيوتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحدثن عند إحداكن ما بدا لكن حتى إذا أردتم النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها". ولأن الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة وإن أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت فإن كانت في عدة الوفاة جاز لحديث مجاهد وإن كانت في عدة المبتوتة ففيه قولان: قال في القديم لا يجوز لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وقال في الجديد: يجوز وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال: طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال لها: "اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا". ولأنها بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى عنها زوجها.(3/129)
باب الإحداد
الإحداد ترك الزينة وما يدعوا إلى المباشرة ويجب ذلك في عدة الوفاة لما روت أم(3/129)
سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل" 1. ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية لأنها باقية على الزوجية ولا يجب على أم الولد إذا توفي عنها مولاها ولا على الموطوءة بشبهة لما روت أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الإحداد لأنها معتدة بائن فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وقال في الجديد لا يجب عليها الإحداد لأنها معتدة من طلاق فلم يلزمها الإحداد كالرجعية.
فصل: ومن لزمها الإحداد حرم عليها أن تكتحل بالإثمد والصبر وقال أبو الحسن الماسرجسي: إن كانت سوداء لم يحرم عليها والمذهب أنه يحرم لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولأنه يحسن الوجه ويجوز أن تكتحل بالأبيض كالتوتيا لأنه لا يحسن بل يزيد العين مرهاً فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر والإثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار ولما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال: "ما هذا يا أم سلمة قلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب فقال إنه يشب الوجه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار".
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 46، النسائي في كتاب الطلاق باب 64. أحمد في مسنده 6/302.(3/130)
فصل: ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة ولأنه يدعوا إلى المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون وأن تبيضه باسفيذاج العرائس لأن ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب فهو بالتحريم أولى ويحرم عليها ترجيل الشعر لأنه يحسنها ويدعوا إلى مباشرتها.
فصل: ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيباً إلا عند طهرها من حيضها نبذة من قسط أو أظفار" 1. ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعوا إلى المباشرة ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الأدهان المطيبة كالبان ودهن الورد ودهن البنفسج لأنه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس لأنه يرجل الشعر ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "امتشطي" فقلت بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: "بالسدر تغلفين به رأسك". ولأن ذلك تنظيف لا تزيين فلم يمنع منه ويجوز أن تقلم الأظفار وتحلق العانة لأنه يراد للتنظيف لا للزينة.
فصل: ويحرم عليها لبس الحلي لحديث أم سلمة ولأنه يزيد في حسنها ولهذا قال الشاعر:
__________
1 رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 46، 49.مسلم في كتاب الرضاع حديث 125، 126. أبو داود في كتاب الطلاق باب 43، 46. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 101، 102. أحمد في مسنده 6/37، 148.(3/131)
وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
فصل: ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي والأخضر الصافي لحديث أم عطية: ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: إنه لا يحرم لحديث أم عطية: "ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب"، والعصب ما صبغ غزله ثم نسج والمذهب أنه يحرم لأن الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشي والديباج وهذا كله صبغ غزله ثم نسج ولأنه ما صبغ غزله ثم نسج أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ كالأزرق المشبع والأخضر المشبع فإنه لا يحرم لأنه لا زينة فيه ولا يحرم ما عمل من غزله من غير صبغ كالمعمول من القطن والكتان والإبريسم والصوف والوبر لأنها وإن كانت حسنة إلا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليها وإن عمل على البياض طرز فإن كانت كباراً حرم عليها لبسه لأنه زينة ظاهرة أدخلت عليه وإن كانت صغاراً ففيه وجهان: أحدهما: يحرم كما يحرم قليل الحلي وكثيره. والثاني: لا يحرم لقلتها وخفائها.(3/132)
باب اجتماع العدتين
إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلاً بتحريمها وجب عليها إتمام عدة الأول واستئناف عدة الثاني ولا تدخل عدة أحدهما: في عدة الآخر لما روى سعيد بن المسيب وسيمان بن بشار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها بمخفقة ضربات ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت عليه بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولم(3/132)
ينكحها أبدا ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فإن كانت حائلاً انقطعت عدة الأول بوطء الثاني إلى أن يفرق بينهما لأنها صارت فراشاً للثاني فإذا فرق بينهما أتمت ما بقي من عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني لأنهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما وإن كانت حاملاً نظرت فإن كان الحمل من الأول انقطعت عدتها منه بوضعه ثم استأنفت العدة من الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس وإن كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الأول وإن أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة فإن ألحقته بالأول انقضت به عدته وإن ألحقته بالثاني انقضت به عدته وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أولم تعلم أولم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء لأنه إن كان من الأول لزمها للثاني ثلاثة أقراء وإن كان من الثاني لزمها إكمال العدة من الأول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين وإن لم يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه قولان: أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما: لأنه غير لاخق بواحد منهما فعلى هذا إذا وضعت أكملت عدة الأول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء والثاني: تعتد به عن أحدهما: لا يعينه لأنه يمكن أن يكون من أحدهما: ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفي باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس.
فصل: إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها فيه قولان: قال في القديم تحرم عليه على التأبيد لما رويناه عن عمر رضي الله عنه أنه قال ثم لا ينكحها أبدا وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأبيد كالوطء في النكاح بلا ولي وما روي عن عمر رضي الله عنه فقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فخطب عمر رضي الله عنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة فرجع إلى قول علي كرم الله وجهه.
فصل: إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً ثم وطئها في العدة وجب عليها عدة بالوطء لأنه وطء في نكاح قد تشعث فهو كالوطء الشبهة فإن كانت من ذوات الأقراء أومن ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق لأنهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لأنها من عدة الطلاق فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها(3/133)
لأنها في عدة وطء شبهة وإن حملت من الوطء صارت في عدة الوطء حتى تضع وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق ففيه قولان: أحدهما: تدخل لأنهما لواحد فدخلت إحداهما في الأخرى كما لو كانتا بالأقراء والثاني: لا يدخل لأنهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الأخرى فإن قلنا يتداخلان كان في العدتين إلى أن تضع لأن الحمل لا يتبعض وله أن يراجعها إلى أن تضع لأنها في عدة الطلاق وإن قلنا لا يتداخلان فإن لم تر دماً على الحمل وقلنا إنه ليس بحيض فهي معتدة بالحمل عن وطء الشبهة إلى أن تضع فإذا وضعت أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لأنها في عدة الطلاق وهل له أن يراجعها قبل الوضع فيه وجهان: أحدهما: ليس له أن يراجعها لأنها في عدة وطء الشبهة والثاني: له أن يراجعها لأنها لم تكمل عدة الطلاق فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا إنه حيض كانت عدتها من الوطء بالحمل وعدتها من الطلاق بالإقرار التي على الحمل لأن عليها عدتين إحداهما بالأقراء والأخرى بالحمل فجاز أن تجتمعا فإذا أمضت ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق وإن وضعت قبل انقضاء الأقراء فقد انقضت عدة الوطء وعليها إتمام عدة الطلاق فإذا راجعها في بقية عدة الطلاق صحت الرجعة وإن راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان على ما ذكرناه فأما إذا كانت قد حبلت من الوطء قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل وعدة الوطء بالأقرار فإن قلنا إن عدة الأقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها من الطلاق والوطء بالحمل فإذا أوضعت انقضت العدتان جميعا وإن قلنا لا ندخل عدة الأقراء في الحمل فإن كانت لا ترى الدم على الحمل أوتراه وقلنا إنه ليس بحيض فإن عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئناف عدة الوطء بالأقراء وإن كانت ترى الدم وقلنا إنه حيض فإن سبق الوضع انقضت العدة الأولى وعليها إتمام العدة الثانية فإن سبق انقضاء الأقراء انقضت عدة الوطء ولا تنقضي العدة الأولى إلا بالوضع.
فصل: إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة وقال المزني: لا يجوز كما لا يجوز لغيره وهذا خطأ لأن نكاح غيره يؤدي إلى اختلاط الأنساب ولا يوجد ذلك في نكاحه وإن تزوجها انقطعت العدة وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن يطأها وهذا خطأ لأن المرأة تصير فراشا بالعقد ولا يجوز أن تبقى مع الفراش عدة ولأنه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه ويخالف الأجنبي فإن نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشاً إلا بالوطء فإن وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الأولى وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها(3/134)
استئناف عدة لأنها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة كما لو تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول وعليها أن تتمم ما بقي عليها من العدة الأولى لأنا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب لأنه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطؤها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد عشرون وتختلط المياه وتفسد الأنساب.
فصل: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت فإن وطئها بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى فإن راجعها ثم طلقها ثم راجعها قبل أن يطأها ففيه قولان: أحدهما: ترجع إلى العدة الأولى وتبنى عليها كما لو خالعها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل أن يطأها والثاني: أنها تستأنف العدة وهو اختيار المزني وهو الصحيح لأنه طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة كما لولم يتقدمه طلاق ولا رجعية وتخالف المختلفة لأن هناك عادت إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطء وههنا عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه فإذا طلقها استأنفت العدة كما لو ارتدت بعد الدخول ثم أسلمت ثم طلقها وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرءان ثم طلقها من غير رجعية ففيه طريقان: قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن خيران رحمهما الله: هي كالمسألة قبلها فتكون على قولين وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم أن نقول ارتجع أولم يرتجع سواء والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية أوجب عدة فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة الوفاة وقال أبو إسحاق تبنى على عدتها قولاً واحداً لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد.
فصل: وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقاً رجعياً ثم أعتقت الأمة وفسخت النكاح ففيه قولان: أحدهما: أنها على قولين: أحدهما: تستأنف العدة من حين الفسخ والثاني: لا تستأنف والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولاً واحدا لأن إحدى العدتين من طلاق والأخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الأخرى.
فصل: وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الإصابة فادعاه أحدهما: وأنكر الآخر ففيه قولان: قال في الجديد قول المنكر لأن الأصل عدم الإصابة وقال في القديم القول قول المدعي لأن الخلوة تدل على الإصابة.
فصل: وإن اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج فالقول قولها وإن اختلفا في وضع ما تنقضي به العدة فادعت(3/135)
المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها لقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة 228] فحرج النساء على كتمان ما في الأرحام كما حرج على كتمان الشهادة فقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء ولأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله لأن ذلك اختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله.
فصل: وإن طلقها فقالت المرأة وقد بقي من الطهر ما يعتد به قرء أو قال الزوج طلقك ولم يبق شيء من الطهر فالقول قول المرأة لأن ذلك اختلاف في وقت الحيض وقد بينا أن القول في الحيض قولها.
فصل: وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج طلقتك بعد الولادة على الرجعة وقالت المرأة طلقتني قبل الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج لأنهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته ولأن هذا اختلاف في قوله وهو أعلم به فرجع إليه وإن اتفقنا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج ولدت قبل الطلاق فلي الرجعة وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك فالقول قولها لأنهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا في وقتها وإن جهلا وقت الطلاق ووقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة فالقول قول الزوج لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة فإن جهلا وقتهما أو جهل السابق منهما لم يحكم بينهما لأنهما لا يدعيان حقاً وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس هذا بجواب فإما أن تجيب جواباً صحيحاً أو نجعلك ناكلاً فإن استفتى أفتيناه بما ذكرناه في المسألة قبلها وأن للزوج الرجعة لأن الأصل وجوب العدة وبقاء الرجعة والورع أن لا يراجعها.
فصل: فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا فقالت المرأة نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لأنه أعلم بقصده وإن مات واختلفت الزوجة والوارث فالقول قولها(3/136)
لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة ظاهر فإن الأمر بالخروج يقتضي خروجاً من غير عود.(3/137)
باب استبراء الأمة وأم الولد
من ملك أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو غيرها من الأسباب لزمه أن يستبرئها لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أو طاس أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة فإن كانت حاملاً استبرأها بوضع الحمل لحديث أبي سعيد الخدري وإن كانت حائلاً نظرت فإن كانت ممن تحيض استبرأها بقرء وفي القرء قولان: أحدهما: أنه طهر لأنه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة والثاني: أن القرء حيض وهو الصحيح لحديث أبي سعيد ولأن براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض فإن قلنا إن القرء هو الطهر فإن كانت عند وجوب الإستبراء طاهراً كانت بقية الطهر قرءاً فإن طعنت في الحيض لم تحل حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء حتى تطهر فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت وإن قلنا إن القرء هو الحيض فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهراً لم تشرع في القرء حتى تحيض فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضاً لم تشرع في القرء إلا في الحيضة الثانية لن بقية الحيض لا تعد قرءاً فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر أوكبر ففيه قولان: أحدهما: تستبرأ بشهر لأن كل شهر في مقابلة قرء والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر وهو الصحيح لأن ما دونها لم يجعل دليلا على براءة الرحم.
فصل: وإن ملكها وهي مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال لأن الإستبراء يراد للاستباحة ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال وإن اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت في مدة الخيار فإن قلنا إنها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء لأنه اشتراها قبل الملك وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان: أحدهما: لايعتد به لأن الملك غير تام لأنه معرض للفسخ والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وجواز الفسخ لا يمنع الاستبراء كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به وإن ملكها بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان: أحدهما: لا يعتد به لأن الملك غير تام والثاني: يعتد به لأنه استبراء بعد الملك وللشافعي رحمه الله ما(3/137)
يدل على كل واحد من الوجهين وإن ملكها بالإرث صح الاستبراء وإن لم تقبض لأن المورث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف.
فصل: وإن مللك أمة وهي زوجته لم يجب الاستبراء لأن الاستبراء لبراءة الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لأن الولد من النكاح مملوك ومن ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما.
فصل: وإن كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ أو باعها ثم رجعت إليه بالإقالة لزمه أن يستبرئها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ فصار كما لو باعها ثم استبرأها فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لأن بالرهن لم يزل ملكه عن استمتاعها لأن له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة وإنما منع من وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له وإن ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الأمة ثم أسلمت وجب استبراؤها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالإسلام وإن زوجها ثم طلقت فإن كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها لأنه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها كما لوباعها ثم اشتراها والثاني: تحل له وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك العدة.
فصل: ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها وهل يحرم التلذذ بها بالنظر والقبلة ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له لأنه لا يؤمن أن تكون أم ولد لمن ملكها من جهته وإن ملكها ممن لا حرمة له كالمسبية ففيه وجهان: أحدهما: لا تحل له لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها كما لو ملكها ممن له حرمة والثاني: أنها تحل لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال خرجت في سهمي يوم حلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأن المسبية يملكها حاملاً كانت أو حائلاً فلا يكون التلذذ بها إلا في ملكه وإنما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء مشرك ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة وإن وطئت زوجته بشبهة لم يحل له وطؤها قبل إنقضاء العدة لأنه يؤدي إلى إختلاط المياه وإفساد النسب وهل له التلذذ بها في غير الوطء على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لأنها زوجته حاملا كانت أو حائلا.
فصل: ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لأنا قد دللنا على أنه يجب على(3/138)
المشتري الاستبراء فلم يجب على البائع لأن براءة الرحم تحصل باستبراء المشتري وإن أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء لأنها لم تصر فراشا له وإن وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له.
فصل: وإن أعتق أم ولده في حياته أو أعتقت بموته لزمها الاستبراء لأنها صارت بالوطء فراشاً له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لأنه استبراء بحكم اليمين فصار كاستبراء المسبية وإن أعتقها أومات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء لأنه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء كما لوطلق أمرأته قبل الدخول ثم مات ولأنها صارت فراشأ لغيره فلا يلزمها لأجله استبراء وإن زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل إما أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أولا يعلم مقدار ما بينهما فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لأنه إن كان المولى مات أولاً فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء وإن مات الزوج أولاً فقد مات المولى بعده وهي معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما: لأنه يجوز أن يكون قد مات المولى أولاً فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة وإن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة لأنه إن مات الزوج أولاً فقد اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشأ للمولى فإذا مات لزمها أن تستبرئ منه بحيضة وإن مات المولى أولاً لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين وإن لم يعلم قدر ما بين المدتين من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقن كما يلزم من نسي صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها شيء من تركة الزوج لأن الأصل فيه الرق فلم تورث مع الشك.
فصل: وإن كانت بين رجلين جارية فوطئها ففيها وجهان: أحدهما: يجب استبراءان لأنه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما: في الأخر كالعدتين والثاني: يجب استبراء واحد لأن القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد.(3/139)
فصل: إذا أستبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو مني وصدقه المشتري لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل وإن كذبه المشتري نظرت فإن لم يكن أقر بالوطء حال البيع لم يقبل قوله لأن الملك انتقل الى المشتري في الظاهر فلم يقبل إقراره بما يبطل حقه كما لو باعه عبداً ثم أقر أنه كان غصبه أو اعتقه وهل يلحقه نسب الولد فيه قولان: قال في القديم والإملاء يلحقه لأنه يجوز أن يكون إبناً لواحد ومملوكا لغيره وقال في البويطي لا يلحقه لأن فيه إضراراً بالمشتري لأنه قد يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا كان ابناً لغيره لم يرثه فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع فإن كان قد إستبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر فصاعداً لم يلحقه الولد لأنه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى فإن لم يكن المشتري قد وطئها كانت الجارية والولد مملوكين وإن كان قد وطئها فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين الوطء فهو كما لولم يطأها لأنه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد مملوكين له وإن أتت بولد لستة أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا وإن ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن قد وطئها المشتري فهو كالقسم قبله لأنه لم تصر فراشا له وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة فإن ألحقته بالبائع لحق به وإن ألحقته بالمشتري لحقته وقد بينا حكم الجميع.(3/140)
كتاب الرضاع
إذا ثار للمرأة لبن على ولد فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات متفرقات صار الطفل ولداً لها في حكمين: في تحريم النكاح وفي جواز الخلوة وأولاده أولادها وصارت المرأة أماً له وأمهاتها جداته وآباؤها أجداده وأولادها إخوته وأخواته وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته وإن كان الولد ثابت النسب من رجل صار الطفل ولداً له وأولاده أولاده وصار الرجل أباً له وآباؤه أجداده وأمهاته جداته وأولاده إخوته وإخوته وأخواته أعمامه وعماته والدليل عليه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] فنص على الأمهات والأخوات فدل على ما سواه وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة بن عبد المطلب فقال: " إنها ابنة أخي من الرضاعة وإنه يحرم من الرضاع مثل ما يحرم من النسب". وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" 1. وروت عائشة رضي الله عنها أن أفلح أخا أبي القعيس أستأذن عليها فأبت أن تأذن له فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أفلا أذنت لعمك" فقالت: يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال: "فأذني له فإنه عمك". وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ولأن اللبن حدث للولد والولد ولدها فكان المرضع باللبن ولدهما.
فصل: وتنتشر حرمة الرضاع من الولد إلى أولاده وأولاد أولاده ذكوراً أو إناثاً ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه وإخوته وأخواته ولا يحرم على المرضعة أن تتزوج بأبي الطفل ولا بأخيه ولا يحرم على زوج المرضعة الذي ثار اللبن على ولده أن يتزوج بأم الطفل ولا بأخته لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وحرمة النسب في الولد تنتشر إلى أولاده ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه ولا إلى إخوته وأخواته فكذلك الرضاع.
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 20، 27. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 9. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الموطأ في كتاب الرضاع حديث، 1، 2، 16.(3/141)
فصل: ولا يثبت تحريم الرضاع فيما يرتضع بعد الحولين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} البقرة: 233] فجعل تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعد الحولين وروى يحيى بن سعيد أن رجلاً قال لأبي موسى الأشعري إني مصصت من ثدي امرأتي لبناً فذهب في بطني قال أبو موسى لا أراه إلا قد حرمت عليك فقال عبد الله بن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال عبد الله: لا إرضاع إلا ما كان في الحولين قال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا رضاع إلا ما كان في الحولين.
فصل: ولا يثبت تحريم الرضاع بما دون خمس رضعات وقال أبو ثور يثبت بثلاث رضعات لما روت أم الفضل رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الإملاجه ولا الإملاجتان". فدل على أن الثلاث يحرمن والدليل على أنه لا يحرم ما دون خمس الرضعات ما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن وحديث أم الفضل يدل على أن الثلاث يحرمن من جهة دليل الخطاب والنص يقدم على دليل الخطاب وهو ما رويناه ولا يثبت إلا بخمس رضعات متفرقات لأن الشرع ورد بها مطلقاً فحمل على العرف والعرف في الرضعات أن يرتضع ثم يقطعه باختياره من غير عارض ثم يعود إليه بعد زمان ثم يرتضع ثم يقطعه وعلى هذا إلى أن يستوفي العدد. كما(3/142)
أن العادة في الأكلات أن تكون متفرقة في أوقات فأما إذا قطع الرضاع لضيق نفس أو لشيء يلهيه ثم رجع إليه أو انتقل من ثدي إلى ثدي كان الجميع رضعة كما أن الأكل إذا قطعه لضيق نفس أو شرب ماء أو الانتقال من لون إلى لون كان الجميع أكلة فإن قطعت المرضعة عليه ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك ليس برضعة لأنه قطع عليه بغير اختياره والثاني: أنه رضعة لأن الرضاع يصح بكل واحد منهما ولهذا أو جرته وهو نائم ثبت التحريم كما يثبت إذا ارتضع منها وهي نائمة فإذا تمت الرضعة بقطعه وجب أن تتم بقطعها فإن أرضعته امرأة أربع رضعات ثم أرضعته امرأة أخرى أربع رضعات ثم عاد إلى الأولى فارتضع منها وقطع وعاد إلى الأخرى في الحال فارتضع منها ففيه وجهان: أحدهما: لا يتم عدد الخمس من واحدة منهما لأنه انتقل من أحدهما: إلى الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تكن كل واحدة منهما رضعة كما لو انتقل من ثدي إلى ثدي والثاني: يتم العدد من كل واحدة منهما لأن الرضعة أن يرتضع القليل والكثير ثم يقطع ولا يعود إلا بعد زمان طويل وقد وجد ذلك.
فصل: وإن شكت المرضعة هل أرضعته أم لا أو هل أرضعته خمس رضعات أو أربع رضعات لم يثبت التحريم كما لو شك الزوج هل طلق امرأته أم لا وهل طلق ثلاثاً أو طلقتين.
فصل: ويثبت التحريم بالوجور لأنه يصل اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وانتشار العظم ما يحصل بالرضاع ويثبت بالسعوط لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلاً لتحريم الرضاع كالفم وهل يثبت بالحقنة فيه قولان: أحدهما: يثبت لما ذكرناه في السعوط والثاني: لا يثبت لأن الرضاع جعل لإنبات اللحم وانتشار العظم والحقنة جعلت للإسهال فإن ارتضع مرتين وأوجر مرة وأسعط مرة وحقن مرة وقلنا إن الحقنة تحرم يثبت التحريم لأنا جعلنا الجميع كالرضاع في التحريم وكذلك في إتمام العدد.
فصل: وإن حلبت لبناً كثيراً في دفعة واحدة وسقته في خمسة أوقات فالمنصوص أنه رضعة وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس رضعات فمن أصحابنا من قال هو من تخريج الربيع ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه خمس رضعات لأنه يحصل به ما يحصل بخمس رضعات والثاني: أنه رضعة وهو الصحيح لأن الوجور فرع للرضاع ثم العدد في الرضاع لا يحصل إلا بما ينفصل خمس مرات فكذلك في الوجور. وإن حلبت(3/143)
خمس مرات وسقته دفعة واحدة ففيه طريقان: من أصحابنا من قال هو على قولين كالمسألة قبلها ومنهم من قال هو رضعة قولاً واحداً لأنه لم يشرب إلا مرة وفي المسألة قبلها شرب خمس مرات وإن حلبت خمس مرات وجعلتها في إناء ثم فرقته وسقته خمس مرات ففيه طريقان: من أصحابنا من قال يثبت التحريم قولاً واحداً لأنه تفرق في الحلب والسقي ومنهم من قال هو على قولين لأن التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل حكمه بالجمع في إناء.
فصل: وإن جبن اللبن وأطعم الصبي حرم لأنه يحصل به ما يحصل باللبن من إنبات اللحم وانتشار العظم.
فصل: فإن خلط اللبن بمائع أو جامد أو طعم الصبي حرم وحكى عن المزني أنه قال: إن كان اللبن غالباً حرم وإن كان مغلوباً لم يحرم لأن مع غلبة المخالطة يزول الاسم والمعنى الذي يراد به وهذا خطأ لأن ما تعلق به التحريم إذا كان غالباً تعلق به إذا كان مغلوباً كالنجاسة في الماء القليل.
فصل: فإن شرب لبن امرأة ميتة لم يحرم لأنه معنى يوجب تحريماً مؤبداً فبطل بالموت كالوطء.
فصل: ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة فإن شرب طفلان من لبن شاة لم يثبت بينهما حرمة الرضاع لأن التحريم بالشرع ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية والبهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن فلم يلحق به في التحريم ولأن الأخوة فرع على الأمومة فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلأن لا يثبت به الأخوة أولى ولا يثبت التحريم بلبن الرجل وقال الكرابيسي: يثبت كما ثبت بلبن المرأة وهذا خطأ لأن لبنه لم يجعل غذاء للمولود فلم يثبت به التحريم كلبن البهيمة وإن ثار للخنثى لبن فارتضع منه صبي فإن علم أنه رجل لم يحرم وإن علم أنه امرأة حرم فإن أشكل فقد قال أبو إسحاق إن قال النساء إن هذا اللبن لا يكون على غزارته إلا لامرأة حكم بأنه امرأة وأن لبنه يحرم ومن أصحابنا من قال لا يجعل اللبن دليلاً لأنه قد يثور اللبن للرجل بينه فعلى هذا يوقف أمر من يرضع بلبنه كما يوقف أمره.
فصل: فإن ثار للبكر لبن أو لثيب لا زوج لها فأرضعت به طفلاً ثبت بينهما حرمة الرضاع لأن لبن النساء غذاء للأطفال فإن ثار لبن للمرأة على ولد من الزنا فأرضعت به طفلاً ثبت بينهما حرمة الرضاع لأن الرضاع تابع للنسب ثم النسب يثبت ولا يثبت بينه وبين الزاني فكذلك حرمة الرضاع.(3/144)
فصل: إذا ثار لها لبن على ولد من زوج فطلقها وتزوجت بآخر فاللبن للأول إلى أن تحبل من الثاني وينتهي إلى حال ينزل اللبن على الحبل فإن أرضعت طفلا كان ابنا للأول زاد اللبن أولم يزد انقطع ثم عاد أولم ينقطع لأنه لم يوجد سبب يوجب حدوث اللبن غير الأول فإن بلغ الحمل من الثاني إلى حال ينزل فيه اللبن نظرت فإن لم يزد اللبن فهو للأول فإن أرضعت به طفلاً كان ولداً للأول لأنه لم يتغير اللبن فإن زاد فارتضع به طفل ففيه قولان: قال في القديم هو ابنهما لأن الظاهر أن الزيادة لأجل الحبل والمرضع به لبنهما فكان ابنهما وقال في الجديد: هو ابن الأول لأن اللبن للأول يقين ويجوز أن تكون الزيادة لفضل الغذاء ويجوز أن تكون للحمل فلا يزال اليقين بالشك فإن انقطع اللبن ثم عاد في الوقت الذي ينزل اللبن على الحبل فأرضعت به طفلاً ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه ابن للأول لأن اللبن خلق غذاء للولد دون الحمل والولد للأول فكان المرضع به ابنه والثاني: أنه من الثاني لأن لبن الأول انقطع فالظاهر أنه حدث للحمل والحمل للثاني فكان المرضع باللبن ابنه والثالث أنه ابنهما لأن لكل واحد منهما أمارة تدل على أن اللبن له فجعل المرضع باللبن ابنهما فإن رضعت الحمل وأرضعت طفلاً كان ابناً للثاني في الأحوال كلها زاد اللبن أولم يزد اتصل أو انقطع ثم عاد لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع أن يكون اللبن لغيره.
فصل: وإن وطئ رجلان امرأة وطئاً يلحق به النسب فأتت بولد وأرضعت بلبنه طفلاً كان الطفل ابناً لمن يلحقه نسب الولد لأن اللبن تابع للولد فإن مات الولد ولم يثبت نسبه بالقافة ولا بالانتساب إلى أحدهما: فإن كان له ولد قام مقامه في الانتساب فإذا انتسب إلى أحدهما: صار المرضع ولد من انتسب إليه وإن لم يكن له ولد ففي المرضع بلبنه قولان: أحدهما: أنه ابنهما لأن اللبن قد يكون من الوطء وقد يكون من الولد والقول الثاني أنه لا يكون ابنهما لأن المرضع تابع للمناسب ولا يجوز أن يكون المناسب ابناً لاثنين فكذلك المرضع فعلى هذا هل يخير المرضع في الانتساب إلى أحدهما: فيه قولان: أحدهما: لا يخير لأنه لا يعرض على القافة فلا يخير بالانتساب والثاني: يخير لأن الولد قد يأخذ الشبه بالرضاع في الأخلاق ويميل طبعه إلى من ارتضع بلبنه ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أفصح العرب ولا فخر بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد وارتضعت في بني زهرة". ولهذا يقال يحسن خلق الولد إذا حسن خلق المرضعة ويسوء خلقه إذا ساء خلقها فإذا قلنا أنه يخير فانتسب إلى أحدهما: كان ابنه من الرضاعة فإذا قلنا لا يخير فهل له أن يتزوج بنتيهما فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو الأصح أنه لا يحل له نكاح(3/145)
بنت واحد منهما لأنا وإن جهلنا عين الأب منهما إلا أنا نتحقق أن بنت أحدهما: أخته وبنت الآخر أجنبية فلم يجز له نكاح واحدة منهما كما لو اختلطت أخته بأجنبية والثاني: أنه يجوز أن يتزوج بنت من شاء منهما فإذا تزوجها حرمت عليه الأخرى لأن الأصل في بنت كل واحد منهما الإباحة وهو يشك في تحريمها واليقين لا يزال بالشك فإذا تزوج إحداهما تعينت الأخوة في الأخرى فحرم نكاحها على التأبيد كما لو اشتبه ماء طاهر وماء نجس فتوضأ بأحدهما: بالاجتهاد فإن النجاسة تتعين في الآخر ولا يجوز أن يتوضأ به والثالث: أنه يجوز أن يتزوج بنت كل واحد منهما ثم يطلقها ثم يتزوج الأخرى لأن الحظر لا يتعين في واحدة منهما كما يجوز أن يصلي بالاجتهاد إلى جهة ثم يصلي بالاجتهاد إلى جهة أخرى ويحرم أن يجمع بينهما لأن الحظر يتعين في الجميع فصار كرجلين رأيا طائراً فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غراباً فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غراباً فعبدي حر فطار ولم يعلم أنه غراب ولا غيره فإنه لا يعتق على واحد منهما لانفراده بملك مشكوك فيه وإن اجتمع العبدان لواحد عتق أحدهما: لاجتماعهما في ملكه.
فصل: وإن أتت امرأته بولد ونفاه باللعان فأرضعت بلبنه طفلاً كان الطفل ابناً للمرأة ولا يكون ابناً للزوج لأن الطفل تابع للولد والولد ثابت النسب من المرأة دون الزوج فكذلك الطفل فإن أقر بالولد صار الطفل ابناً له لأنه تابع للولد.
فصل: وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد فثار لهن منه لبن فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي القاسم الأنماطي وأبي بكر بن الحداد المصري أنه لا يصير المولى أباً للصبي لأنه رضاع لم يثبت به الأمومة فلم تثبت به الأبوة والثاني: وهو قول أبي إسحاق وأبي العباس ابن القاص أنه يصير المولى أباً للصبي وهو الصحيح لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات فصار ابناً له وإن كان لرجل خمس أخوات فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة فهل يصير خالاً له على الوجهين.
فصل: وإن كان لرجل زوجة صغيرة فشربت من لبن أمه خمس رضعات انفسخ بينهما النكاح لأنها صارت أخته وإن كانت له زوجة كبيرة وزوجة صغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحهما لأنه لايجوز أن يكون عنده امرأة وابنتها فإن كان له زوجتان صغيرتان فجاءت امرأة فأرضعت إحداهما خمس رضعات ثم أرضعت الأخرى خمس رضعات ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ نكاحهما وهو اختيار المزني لأنهما(3/146)
صارتا أختين فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما في وقت واحد والثاني: أنه ينفسخ نكاح الثانية لأن سبب الفسخ حصل بالثانية فاختص نكاحهما بالبطلان كما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى.
فصل: ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع فالمنصوص أنه يلزمه نصف مهر المثل ونص في الشاهدين بالطلاق إذا رجعا على قولين: أحدهما: يلزمهما مهر المثل والثاني: لزمهما نصف مهر المثل واختلف أصحابنا فيه فنقل أبو سعيد الإصطخري جوابه من إحدى المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يجب مهر المثل لأنه أتلف البضع فوجب ضمان جميعه والثاني: يجب نصف مهر المثل لأنه لم يغرم للصغير إلا نصف بدل البضع فلم يجب له أكثر من نصف بدله وقال أبو إسحاق يجب في الرضاع نصف المهر وفي الشهادة يجب الجميع والفرق بينهما أن في الرضاع وقعت الفرقة ظاهراً وباطناً وتلف البضع عليه وقد رجع إليه بدل النصف فوجب له بدل النصف وفي الشهادة لم يتلف البضع في الحقيقة وإنما حيل بينه وبين ملكه فوجب ضمان جميعه والصحيح طريقة أبي إسحاق وعليها التفريع وإن كان لرجل زوجة صغيرة فجاء خمسة أنفس وأرضع كل واحد منهم الصغيرة من لبن أم الزوج أو أخته رضعة وجب على كل واحد منهم خمس نصف المهر لتساويهم في الإتلاف وإن كانوا ثلاثة فأرضعها أحدهم رضعة وأرضعها كل واحد من الآخرين رضعتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب على كل واحد منهم ثلث النصف لأن كل واحد منهم وجد منه سبب الإتلاف فتساووا في الضمان كما لو طرح رجل في خل قدر دانق من نجاسة وآخر قدر درهم والثاني: يقسط على عدد الرضعات فيجب على من أرضع رضعة الخمس من نصف المهر وعلى كل واحد من الآخرين الخمسان لأن الفسخ حصل بعدد الرضعات فيقسط الضمان عليه.
فصل: إذا ارتضعت الصغيرة من أم زوجها خمس رضعات والأم نائمة سقط مهرها لأن الفرقة قد حصلت بفعلها فسقط مهرها ولا يرجع الزوج عليها بمهر مثلها ولا بنصفه لأن الإتلاف من جهة العاقد قبل التسليم لا يوجب غير المسمى فإن ارتضعت من أم الزوج رضعتين والأم نائمة وأرضعتها الأم تمام الخمس والزوجة نائمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسقط من نصف المسمى نصفه وهو الربع ويجب الربع والثاني: يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى خمسان ويجب ثلاثة أخماسه ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها وبالله التوفيق.(3/147)
كتاب النفقات
باب نفقة الزوجة
إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح وجبت نفقتها لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أوفي منزل دون منزل أوفي بلد دون بلد لم تجب النفقة لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع أو سلم في موضع دون موضع فإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل حيث يريد وهو حاضر وجبت عليه النفقة لأنه وجد التمكين التام وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله أو يمضي زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها لأنه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك وإن تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولأنه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله كما لا يجب بدل ما تلف من البيع في يد البائع قبل التسليم.
فصل: وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان: أحدهما: تجب النفقة لأنها سلمت من غير منع والثاني: لا يجب وهو الصحيح لأنه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع وإن كانت كبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما: لا تجب لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع والثاني: تجب وهو الصحيح لأن التمكين وجد من جهتها وإن تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير فهرب منها وإن سلمت وهي مريضة أو رتقاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو محجوب أو حسيم لا يقدر على الوطء وجبت النفقة لأنه وجد التمكين من الاستمتاع وما تعذر فهو بسبب لا تنسب فيه التفريط.
فصل: وإن سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب النفقة لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح ولا يستحق ما في مقابلته.(3/148)
فصل: وإن انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير إذنه أو سافرت بغير إذنه سقطت نفقتها حاضراً كان الزوج أو غائباً لأنها خرجت عن قبضته وطاعته فسقطت نفقته كالناشزة وإن سافرت بإذنه فإن كان معها وجبت النفقة لأنها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته وإن لم يكن معها ففيه قولان ذكرناهما في القسم.
فصل: وإن أحرمت بالحج بغير إذنه سقطت نفقتها لأنه إن كان تطوعاً فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس واجب وإن كان واجباً فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي وإن أحرمت بإذنه فإن خرجت معه لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن طاعته وقبضته وإن خرجت وحدها فعلى القولين في سفرها بإذنه.
فصل: وإن منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لما ذكرناه في الحج وإن كان نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لأن الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها وإن كان عن نذر لم يأذن فيه فإن بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لأنها منعت حق الزوج بعد وجوبه وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها لأن ما استحق قبل النكاح لا حق للزوج في زمانه كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت وإن اعتكفت بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج.
فصل: وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط نفقتها لأنها في قبضته والثاني: وهو الصحيح أنها تسقط لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها لأن ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لأنها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور وإن كان بنذر معين فإن كان النذر بإذن الزوج لم تسقط نفقتها لأنه لزمها برضاه وإن كان بغير إذنه فإن كان بنذر بعد النكاح سقطت نفقتها وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف.
فصل: وإن منعت نفسها بالصلاة فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن الراتبة لم تسقط نفقتها لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه وإن كان بقضاء فوائت فإن قلنا إنها على الفور لم تسقط نفقتها وإن قلنا إنها على التراخي سقطت نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان وإن كانت بالصلوات المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم.
فصل: وإن كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج لم(3/149)
تسقط نفقتها لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته وقال أبوعلي ابن خيران فيه قول آخر أنها تسقط لأنه امتنع الاستمتاع لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها كما لو أحرمت المسلمة من غير إذن الزوج والصحيح هو الأول لأن الحج فرض موسع الوقت والإسلام فرض مضيق الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهي مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة وإن أسلمت قبل إنقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك فيه قولان: أحدهما: تستحق لأن بالإسلام زال ما تشعث من النكاح فصار كأن لم يكن والقول الثاني أنها لا تستحق لأنه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت عن الطاعة وإن ارتد الزوج بعد دخول الإسلام لم تسقط نفقتها لأن امتناع الوطء بسبب وهو قادر على إزالته فلم تسقط النفقة وإن ارتدت المرأة سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة فإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى من الردة؟ فيه طريقان من أصحابنا من قال فيه قولان كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا والفرق بينها وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها منع بل أقامت على دينها والمرتدة أحدثت منعاً بالردة فغلظ عليها وإن ارتدت الزوجة وعادت إلى الإسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حين عادت إلى الإسلام وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة حتى يمضي زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها والفرق بينهما أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالإسلام والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة.
فصل: إن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة لوجود التمكين التام وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه يجب لها نصف النفقة اعتباراً بما سلمت والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنه تجب لأنه لم يوجد التمكين التام فلم يجب لها شيء من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار. والله أعلم.(3/150)
باب قدر النفقة
إذا كان الزوج موسراً وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه لزمه في كل يوم مدان وإن كان معسرا وهولا يقدر على النفقة ولا كسب لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله}(3/150)
[الطلاق: 7] ففرق بين الموسر والمعسر وأوجب على كل واحد منهما على قدر حاله ولم يبين المقدار فوجب تقديره بالاجتهاد وأشبه ما تقاس النفقة الطعام في الكفارة لأنه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الأذى وأقل ما يجب مد وهو في كفارة الجماع في رمضان فإن كان متوسطاً لزم مد ونصف لأنه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه ولا بالمعسر وهو فوقه فجعل عليه مد ونصف وإن كان الزوج عبداً أو مكاتباً وجب عليه مد لأنه ليس بأحسن حالاً من الحر المعسر فلا يجب عليه أكثر من مد وإن كان نصفه حراً ونصفه عبداً وجب عليه نقفة المعسر قال المزني: إن كان موسراً بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف لأنه اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة المعسر وهو نصف مد وهذا خطأ لأنه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد.
فصل: وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: [233] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". والمعروف ما يقتاته الناس في البلد ويجب لها الحب فإن دفع إليها سوقياً أو دقيقاً أو خبزاً لم يلزمها قبوله لأنه طعام وجب بالشرع فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة وإن اتفقا على دفع العوض ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض فيه كالطعام في الكفارة والثاني: يجوز وهو الصحيح لأنه طعام يستقر في الذمة للآدمي فجاز أخذ العوض فيه كالطعام في القرض ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق الله تعالى ولم يأذن في أخذ العوض عنه والنفقة تجب لحقها وقد رضيت بأخذ العوض.
فصل: ويجب لها الأدم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللحم لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من أو اسط ما تطعمون أهليكم الخبز والزيت وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم ولأن ذلك من النفقة بالمعروف.
فصل: ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والسدر والدهن للرأس وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام لأن ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج لم يلزمه وإن طلبه منها لزمه ثمنه لأنه للزينة وأما الأدوية وأجرة الطبيب والحجام فلا تجب عليه لأنه ليس من النفقة الثابتة وإنما يحتاج إليه لعارض وأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر(3/151)
إصلاح ما انهدم من الدار وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لأنه يراد للتنظيف وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه.
فصل: ويجب لها الكسوة لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولحديث جابر: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". ولأنه يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والإبريسم ولامرأة المعسر من غليظ القطن والكتان ولامرأة المتوسط ما بينهما وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة لأن ذلك من الكسوة بالمعروف.
فصل: ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم وزلية أو لبد أو حصير للنهار ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع ولامرأة المعسر من غير المرتفع ولامرأة المتوسط ما بينهما لأن ذلك من المعروف
فصل: ويجب لها مسكن لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون والتصرف والاستمتاع ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه كما قلنا في النفقة.
فصل: وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو ذا رحم محرم وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنهم يصلحون للخدمة والثاني: لا يجوز لأن النفس تعاف من استخدامهم وإن قالت المرأة أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لأن القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه وذلك لا يحصل بخدمتها وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يلزمها الرضا به لأنه تقع الكفاية بخدمته والثاني: لا يلزمها الرضا به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الخدمة.
فصل: وإن كان الخادم مملوكاً لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته فإن كان موسراً لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد وإن كان متوسطاً أو معسراً لزمه مد لأنه لا تقع(3/152)
الكفاية بما دونه وفي أدمه وجهان: أحدهما: أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها والثاني: أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص لأن العرف في الأدم أن يكون من دون أدمها وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها ويجب لخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس لأن ذلك يراد للزينة والخادم لا يراد للزينة وإن كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها خف لحاجتها إلى الخروج.
فصل: ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لأن العرف في الكسوة أن تبدل في هذه المدة فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا القدر لم يجب عليه بدلها كما لا يجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفد قبل انقضاء اليوم وإذا انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه تجديدها لأن الكسوة مقدرة بالكفاية وهي مكفية والثاني: يلزمه تجديدها وهو الصحيح كما يلزمه الطعام في كل يوم وإن بقي عندها طعام اليوم الذي قبله ولأن الاعتبار بالمدة لا بالكفاية بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفرش وجبة الخز والإبريسم فلا يجب تجديدها في كل فصل لأن العادة أن لا تجدد في كل فصل.
فصل: وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقي لأنه دفع ما يستحق دفعه وإن سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه لأنه غير مستحق وإن دفع إليها كسوة الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان أحدهما: له أن يرجع لأنه دفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها والثاني: لا يرجع لأنه دفع ما يستحق دفعه فلم يرجع به كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه.
فصل: وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه وقال أبو بكر بن الحداد المصري لا يجوز وقال أبو الحسن الموردي البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز لأن للزوج حظاً في جمالها وعليه ضرراً في نقصان جمالها والأول أظهر لأنه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر وإن قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه ومن أصحابنا من قال إن أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الاستمتاع بمرضها والمذهب الأول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الأكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه.(3/153)