يَوْمَيْنِ فَالْقَاضِي يؤجله إِن رَضِي الْخصم وَإِلَّا فيحبسه
وَقل مُحَمَّد لَا يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقْضِي بِالشُّفْعَة حَتَّى يحضر الثّمن
فَإِذا أحضر الثّمن يقْضِي بِالشُّفْعَة وَيَأْمُر الشَّفِيع بِتَسْلِيم الثّمن إِلَى المُشْتَرِي
فَإِن قضي القَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَة قبل إِحْضَار الثّمن إِلَيْهِ من سَاعَته فَقَالَ لَا أنقده إِلَى يَوْم أَو يَوْمَيْنِ أَو إِلَى شهر وأبى المُشْتَرِي أَن يقبل ذَلِك لَا يفْسخ قَضَاؤُهُ وَلَا ينْقض الْأَخْذ بِالشُّفْعَة وَلَكِن يحْبسهُ
وَالِاحْتِيَاط من القَاضِي أَن لَا يقْضِي بِالشُّفْعَة مَا لم يُؤَجل للشَّفِيع أَََجَلًا وَيَقُول لَهُ إِن لم تأت بِالثّمن إِلَى هَذَا الْأَجَل فَلَا شُفْعَة لَك حَتَّى إِذا امْتنع وفرط فِي الْأَدَاء تبطل شفعته فَأَما بِدُونِ ذَلِك إِذا قضي بِالشُّفْعَة لَا تبطل شفعته بِالتَّأْخِيرِ
وَلَو أَن الشَّفِيع بعد وجود الطلبين وَالْإِشْهَاد إِذا أخر المرافعة إِلَى بَاب القَاضِي وَلم يُخَاصم هَل تبطل شفعته فقد اخْتلفت الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا وَالْحَاصِل أَن عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لم تسْقط الشُّفْعَة بِالتَّأْخِيرِ بعد الإشهادين إِلَّا أَن يُسْقِطهَا بِلِسَانِهِ فَيَقُول تركت الشُّفْعَة
وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ إِذا ترك الْمُخَاصمَة إِلَى القَاضِي فِي زمَان يقدر على الْمُخَاصمَة فِيهِ بطلت شفعته وَلم يُوَقت
وَقَالَ مُحَمَّد وَزفر إِذا أخر الْمُطَالبَة بعد الْإِشْهَاد شهرا من غير عذر بطلت شفعته
وَعَن الْحسن أَنه قَالَ وَهَذَا قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَزفر وَبِه نَأْخُذ(3/55)
وَذكر الْكَرْخِي أَنه إِذا حَال بَين الشَّفِيع وَبَين الْإِشْهَاد عِنْد الدَّار أَو على البَائِع أَو المُشْتَرِي حَائِل لَا يَسْتَطِيع الشَّفِيع أَن يصل إِلَى ذَلِك مَعَه وَلَا أَن يبْعَث وَكيلا فَهُوَ على شفعته إِلَى أَن يَزُول الْحَائِل الْمَانِع لَهُ ثمَّ يعود الْأَمر بَينهم على مَا ذكرنَا لِأَنَّهُ ترك الْمُطَالبَة مَعَ الْمَانِع لَا يدل على الْإِعْرَاض وَلِهَذَا قَالُوا إِن حق الشُّفْعَة يجب عِنْد البيع
ويتأكد بِالطَّلَبِ وَيثبت الْملك بِهِ بِقَضَاء القَاضِي أَو بِالتَّرَاضِي من الْخَصْمَيْنِ
وَأما الْأَحْكَام فكثيرة نذْكر بعض الْمَشْهُور مِنْهَا فَمن ذَلِك بَيَان مَا تبطل بِهِ الشُّفْعَة وَمَا لَا تبطل مِمَّا يحدث من الشَّفِيع
بَيَان ذَلِك إِذا اشْترى الرجل دَارا لَهَا شَفِيع فساوم الشَّفِيع المُشْتَرِي فِي الدَّار لنَفسِهِ أَو لغيره أَو سَأَلَهُ أَن يوليه إِيَّاهَا أَو يشركهُ فِيهَا أَو يؤاجرها مِنْهُ أَو كَانَت أَرضًا فَطلب مِنْهُ الْمُزَارعَة أَو نخلا أَو كرما فَسَأَلَهُ الْمُعَامَلَة وَذَلِكَ كُله بَعْدَمَا علم بِالشِّرَاءِ فَذَلِك كُله تَسْلِيم للشفعة لِأَن ذَا دلَالَة الْإِعْرَاض عَن طلب الشُّفْعَة لِأَن حكمهَا يُنَافِي حكم أَخذ الدَّار بِالشُّفْعَة
وَلَو بَاعَ الشَّفِيع دَاره الَّتِي يشفع بهَا بعد الشِّرَاء للْمُشْتَرِي تبطل شفعته سَوَاء علم بِالشِّرَاءِ أَو لم يعلم لِأَنَّهُ بَطل الْجوَار الَّذِي هُوَ سَبَب الِاسْتِحْقَاق قبل أَخذ الدَّار بِالشُّفْعَة
وَلَو سلم الشُّفْعَة قبل البيع لَا يكون تَسْلِيمًا لِأَن الشُّفْعَة لم تثبت بعد فَلَا يَصح إِبْطَاله
وَلَو سلم بعد الشِّرَاء تبطل الشُّفْعَة سَوَاء علم أَو لم يعلم(3/56)
بِخِلَاف المساومة والاستئجار
وَلَو أخبر الشَّفِيع أَن الشِّرَاء بِأَلف دِرْهَم فَسلم الشُّفْعَة ثمَّ ظهر أَن الثّمن أَكثر أَو أقل أَو على خلاف جنسه فَالْأَصْل فِي هَذِه الْمسَائِل أَنه إِذا لم يحصل غَرَض الشَّفِيع على الْوَجْه الَّذِي سلم لم يَصح التَّسْلِيم وَإِن حصل صَحَّ فَإِذا ظهر أَن الثّمن أَكثر مِمَّا أخبر بِهِ لم يبطل التَّسْلِيم لِأَن الشَّفِيع إِذا لم يصلح لَهُ الشِّرَاء بِالْألف فَأولى أَن لَا يصلح بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا يفوت غَرَضه بِمَا ظهر بِخِلَاف مَا أخبر
وَلَو ظهر أَن الثّمن أقل لَا تبطل الشُّفْعَة لِأَن التَّسْلِيم يكون لِكَثْرَة الثّمن عِنْده وَأَنَّهَا لَا تَسَاوِي بهَا وَيصْلح لَهُ الدَّار بِالْأَقَلِّ
وَلَو أخبر أَن الثّمن ألف دِرْهَم فَإِذا هُوَ مائَة دِينَار فَإِن كَانَ قيمتهَا ألف دِرْهَم أَو أَكثر صَحَّ التَّسْلِيم وَإِن كَانَ أقل فَلهُ الشُّفْعَة عندنَا خلافًا لزفَر لما قُلْنَا
وَلَو أخبر أَن الثّمن ألف دِرْهَم أَو مائَة دِينَار ثمَّ ظهر أَنَّهَا بِيعَتْ بمكيل أَو مَوْزُون قِيمَته مثل ذَلِك أَو أقل فتسليمه بَاطِل لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون سلم لِأَنَّهُ لَا يقدر على ذَلِك الْجِنْس الَّذِي أخبر وَهُوَ يقدر على الْجِنْس الَّذِي بِيعَتْ بِهِ
وَكَذَا إِذا أخبر أَنَّهَا بِيعَتْ بِالْحِنْطَةِ ثمَّ ظهر أَنَّهَا بِيعَتْ بشعير قِيمَته مثل الحنظة أَو أقل فَلهُ الشُّفْعَة لما ذكرنَا
وَلَو أخبر أَن الثّمن دَرَاهِم أَو دَنَانِير ثمَّ ظهر أَن الثّمن عرض من الْعرُوض الَّذِي تجب الشُّفْعَة بِقِيمَتِه فَإِن كَانَ مثله أَو أَكثر فالتسليم صَحِيح وَإِن كَانَ أقل فَلَا يصلح لِأَن الْقيمَة دَرَاهِم أَو دَنَانِير(3/57)
وَإِن أخبر أَنَّهَا بِيعَتْ بِعرْض ثمَّ ظهر أَنَّهَا بِيعَتْ بِجِنْس آخر من الْعرُوض فَهُوَ على شفعته لما ذكرنَا
وَلَو بلغه أَنَّهَا بِيعَتْ نصفهَا فَسلم ثمَّ ظهر أَنه بَاعَ الْكل فَلهُ الشُّفْعَة
وَإِن كَانَ على عكس هَذَا فَلَا شُفْعَة لَهُ لِأَن الْإِنْسَان رُبمَا لَا يرضى مَعَ الشَّرِيك فَكَانَ التَّسْلِيم بِنَاء عَلَيْهِ ويرضى بِالدَّار كلهَا
وَفِي رِوَايَة الْجَواب على ضد مَا ذكرنَا
وَلَو أخبر أَن المُشْتَرِي زيد فَسلم ثمَّ ظهر أَنه عَمْرو فَلهُ الشُّفْعَة
وَإِن كَانَا قد اشترياها جَمِيعًا أَخذ نصيب الَّذِي لم يسلم الشُّفْعَة فِيهِ لِأَن الْإِنْسَان قد يرضى بشركة وَاحِد وَلَا يرضى بشركة غَيره
وَلَو اشْترى الرجل دَارا صَفْقَة وَاحِدَة فَأَرَادَ الشَّفِيع أَن يَأْخُذ بَعْضهَا دون بعض أَو يَأْخُذ مَا يَلِيهِ من الدَّار لَيْسَ لَهُ ذَلِك وَإِنَّمَا لَهُ أَن يَأْخُذ الْكل أَو يدع لِأَن فِيهِ تَفْرِيق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي
وَلَو اشْترى دارين صَفْقَة وَاحِدَة فَأَرَادَ شفيعهما أَن يَأْخُذ إِحْدَاهمَا وَيتْرك الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك سَوَاء كَانَت الداران متلاصقتين أَو لَا وَسَوَاء كَانَتَا فِي مصر وَاحِد أَو فِي مصرين لِأَن فِيهِ تَفْرِيق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي
وَقَالَ زفر لَهُ الْخِيَار بَين أَن يأخذهما أَو يَأْخُذ إِحْدَاهمَا
وَلَو كَانَ الشَّفِيع شَفِيعًا لإحداهما دون الْأُخْرَى وَقد وَقع البيع صَفْقَة وَاحِدَة فعلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَهُ أَن يأخذهما وَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ الَّتِي تجاوره بِالْحِصَّةِ وَقَالَ مُحَمَّد يَأْخُذ الَّتِي تليه بِالشُّفْعَة وَلَا شُفْعَة لَهُ فِي الْأُخْرَى لما ذكرنَا(3/58)
وَلَو أَن الشَّفِيع وجد الدَّار الْمَبِيعَة منقوضة بعد الشِّرَاء أَو مهدومة فَإِنَّهُ ينظر إِن كَانَ بِفعل المُشْتَرِي أَو الْأَجْنَبِيّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذ الْعَرَصَة بِالْحِصَّةِ وَإِن شَاءَ ترك
وَإِن انتقضت أَو انْهَدَمت بِنَفسِهَا فَلهُ الْخِيَار إِن شَاءَ أَخذهَا بِجَمِيعِ الثّمن وَإِن شَاءَ ترك لِأَن أَخذ الدَّار بِالشُّفْعَة بِمَنْزِلَة الشِّرَاء فَيثبت الْملك بِالشُّفْعَة فِي الْعَرَصَة وَالْبناء جَمِيعًا لكَونه تبعا لَهَا والأتباع لَا حِصَّة لَهَا من الثّمن إِذا فَاتَت لَا بصنع أحد فَأَما إِذا فَاتَت بصنع المُشْتَرِي أَو الْأَجْنَبِيّ فَصَارَ مَقْصُودا بِالْإِتْلَافِ وَالْقَبْض فَيصير لَهَا حِصَّة من الثّمن وَقد تغير الْمَبِيع فَكَانَ لَهُ الْخِيَار على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا
وَإِن كَانَ الْمُشْتَرى كرما وَفِيه أَشجَار وثمار فَقطع المُشْتَرِي شَجَرهَا أَو جد ثَمَرهَا أَخذ بِحِصَّة الْكَرم ويحط قيمَة مَا أَخذ مِنْهُ
وَإِن ذهبت بِآفَة سَمَاوِيَّة أَخذهَا بِجَمِيعِ الثّمن أَو ترك لما قُلْنَا
فَإِن لم يكن فِي وَقت الشِّرَاء فِيهِ ثَمَر ثمَّ أثمرت فجدها المُشْتَرِي فَإِن الشَّفِيع يَأْخُذهَا بِجَمِيعِ الثّمن إِن شَاءَ أَو يتْرك وَلَا يدفعل لَهُ بِحِصَّة الثَّمر لِأَنَّهُ لم يكن فِي أصل البيع فَإِن كَانَ الثَّمر فِي أصل البيع فَهُوَ كَمَا ذكرنَا من الْبناء وَالنَّخْل
وَإِن كَانَ المُشْتَرِي أَرضًا فِيهَا زرع فَإِنَّهُ يَأْخُذهَا الشَّفِيع بزرعها بقلا كَانَ أَو مستحصدا لِأَنَّهُ تبع الأَرْض فَإِن حصد المُشْتَرِي الزَّرْع ثمَّ جَاءَ الشَّفِيع فَإِنَّهُ أقسم الثّمن على قيمَة الأَرْض وعَلى قيمَة الزَّرْع وَهُوَ بقل يَوْم وَقع عَلَيْهِ العقد فَيَأْخُذ الشَّفِيع الأَرْض بِمَا أَصَابَهَا من الثّمن وَلَا يقسم الثّمن على قيمَة الزَّرْع وَهُوَ مستحصد هَذِه رِوَايَة عَن أبي يُوسُف
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ أقوم الأَرْض وفيهَا الزَّرْع وأقومها لَيْسَ(3/59)
فِيهَا ذَلِك الزَّرْع فَمَا كَانَ بَين ذَلِك فَهُوَ قيمَة الزَّرْع وَلَا أقوم الزَّرْع وَهُوَ بقل محصود
وَلَو كَانَ للدَّار شُفَعَاء بِسَبَب الشّركَة فَحَضَرُوا فَهِيَ بَينهم على عد الرؤوس عندنَا
وَعند الشَّافِعِي على قدر الْأَنْصِبَاء وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
فَإِن سلم الشُّرَكَاء إِلَّا وَاحِد فَلهُ أَن يَأْخُذ الدَّار كلهَا
وَإِن سلم الْبَعْض دون الْبَعْض فالدار كلهَا بَين من لم يسلم على قدر عَددهمْ
فَإِن سلم الشُّرَكَاء كلهم فللجيران الشُّفْعَة على عَددهمْ
وعَلى هَذَا إِذا بِيعَتْ دَار فِي زقاق غير نَافِذ فأهله جَمِيعًا شُرَكَاء فِي الشُّفْعَة وهم أولى من الْجِيرَان المتلاصقين الَّذين لَا طَرِيق لَهُم فِي الزقاق لِأَن الشَّرِيك فِي الطَّرِيق أولى
فَإِن سلم الشُّرَكَاء فِي الطَّرِيق فَالشُّفْعَة للجوار المتلاصقين
وَلَو اخْتلف الشَّفِيع وَالْمُشْتَرِي فِي الثّمن فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلفَيْنِ وَقَالَ الشَّفِيع بِأَلف فَالْقَوْل للْمُشْتَرِي فِي الثّمن مَعَ يَمِينه وعَلى الشَّفِيع الْبَيِّنَة فَإِن أَقَامَ الشَّفِيع الْبَيِّنَة يقْضِي بِبَيِّنَتِهِ وَإِن أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَة فَالْبَيِّنَة بَيِّنَة الشَّفِيع عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف الْبَيِّنَة بَيِّنَة المُشْتَرِي وَهِي تعرف فِي الخلافيات
وَلَو اشْترى الرجل ساحة فبناها ثمَّ جَاءَ شفيعها وَطلب الشُّفْعَة فَإِنَّهُ يقْضِي لَهُ بالعرصة وَيُقَال للْمُشْتَرِي اقلع بناءك وَسلم الساحة إِلَى الشَّفِيع عندنَا وَرُوِيَ فِي رِوَايَة عَن أبي يُوسُف أَنه يُقَال للشَّفِيع خُذ الدَّار بِالثّمن وبقيمة الْبناء أَو اترك وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة(3/60)
وَلَو أَخذ الشَّفِيع الدَّار بِالشُّفْعَة فبناها ثمَّ اسْتحقَّت الدَّار فَإِن الْمُسْتَحق يَأْخُذ الدَّار وَيُقَال للشَّفِيع اهدم بناءك وَلَا يرجع على المُشْتَرِي بِقِيمَة الْبناء إِن كَانَ أَخذ الدَّار من يَده وَلَا على البَائِع إِن كَانَ أَخذهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمغرور وَلَكِن يرجع على المُشْتَرِي بِالثّمن لِأَنَّهُ لم يسلم لَهُ الْمَبِيع
وَلَو اشْترى الرجل دَارا بِثمن مُؤَجل فالشفيع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذهَا بِثمن حَال وَإِن شَاءَ انْتظر إِلَى مُضِيّ الْأَجَل فَإِذا مضى الْأَجَل أَخذهَا وَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ بِثمن مُؤَجل لِأَن الْأَجَل إِنَّمَا يثبت بِالشّرطِ وَلم يُوجد بَين المُشْتَرِي وَالشَّفِيع
وَلَو مَاتَ الشَّفِيع بعد طلب الشُّفْعَة وَالْإِشْهَاد على المُشْتَرِي قبل أَن يقْضى لَهُ بِالشُّفْعَة تبطل الشُّفْعَة عندنَا وَلَا تثبت للْوَرَثَة
وَعند الشَّافِعِي يثبت للْوَرَثَة
فَحق الشُّفْعَة لَا يُورث عندنَا كالخيار وَعِنْده يُورث
وَلَو اشْترى رجل دَارا لم يرهَا فبيعت بجنبها دَار فأخذا بِالشُّفْعَة لم يبطل خِيَاره وَلَو كَانَ لَهُ فِيهَا خِيَار الشَّرْط يبطل خِيَاره لِأَنَّهُ لَو قَالَ أبطلت خياري قبل الرُّؤْيَة لم يبطل خِيَار الرُّؤْيَة فَلَا يبطل بِدلَالَة الْإِبْطَال وَلَو قَالَ أبطلت خِيَار الشَّرْط يبطل فَكَذَا بِالدّلَالَةِ
ثمَّ الْحِيلَة فِي إبِْطَال الشُّفْعَة هَل هِيَ مَكْرُوهَة رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنَّهَا لَا تكره
وَعَن مُحَمَّد أَنه قَالَ أكره ذَلِك أَشد الْكَرَاهَة
وعَلى هَذَا الْخلاف فِي إِسْقَاط الزَّكَاة قبل مُضِيّ الْحول وَالله أعلم(3/61)
كتاب الذَّبَائِح
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَا يُبَاح أكله من الْحَيَوَان وَمَا لَا يُبَاح وَمَا يكره
وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْإِبَاحَة
وَإِلَى بَيَان مَحل الذّبْح وكيفيته وَإِلَى بَيَان مَا يذبح بِهِ وَإِلَى بَيَان أَهْلِيَّة الذّبْح
أما الأول فَنَقُول إِن الْحَيَوَان على ضَرْبَيْنِ مَا لَا يعِيش إِلَّا فِي المَاء وَمَا لَا يعِيش إِلَّا فِي الْبر
أما الَّذِي لَا يعِيش إِلَّا فِي المَاء فكله محرم الْأكل إِلَّا السّمك خَاصَّة بِجَمِيعِ أَنْوَاعه سوى الطافي مِنْهُ فَإِنَّهُ مَكْرُوه لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي السّمك الطافي وَجَمِيع مَا فِي الْبَحْر حَلَال
ثمَّ عندنَا الطافي على وَجْهَيْن إِن مَاتَ بِسَبَب حَادث يُؤْكَل وَإِن مَاتَ حتف أَنفه لَا يُؤْكَل(3/63)
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن أكل الطافي
فَأَما الَّذِي مَاتَ من الْحر أَو الْبرد أَو كدر المَاء فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَقَالُوا فِي سَمَكَة ابتلعت سَمَكَة إِنَّهَا تُؤْكَل لِأَنَّهَا مَاتَت بِسَبَب حَادث
وَهُوَ حَلَال فِي حق الْمحرم والحلال جَمِيعًا
وَكَذَلِكَ اصطياد مَا فِي الْبَحْر حَلَال فِي حق الْمحرم والحلال
وَأما مَا لَا يعِيش إِلَّا فِي الْبر فعلى نَوْعَيْنِ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ دم سَائل وَمِنْه مَا لَهُ دم سَائل
أما مَا لَيْسَ لَهُ دم سَائل فكله حرَام إِلَّا الْجَرَاد مثل الذُّبَاب والزنبور وَسَائِر هوَام الأَرْض وَمَا يدب عَلَيْهَا وَمَا يكون تَحت الأَرْض من الْفَأْرَة واليربوع والحيات والعقارب لِأَنَّهَا من جملَة الْخَبَائِث إِلَّا أَن الْجَرَاد يحل بِالْحَدِيثِ الَّذِي كذكرنا
وَأما مَا لَهُ دم سَائل فعلى ضَرْبَيْنِ مستوحش ومستأنس
فالمستأنس مِنْهُ لَا يحل أكله من الْبَهَائِم سوى الْأَنْعَام وَهُوَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم لقَوْله تَعَالَى {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَاسم الْأَنْعَام خَاص فِيمَا ذكرنَا عِنْد أهل اللُّغَة
فَأَما مَا لَا يحل فالحمير وَالْبِغَال وَالْخَيْل وَهَذَا قَول أبي حنيفَة(3/64)
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد كَذَلِك إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا يحل الْفرس خَاصَّة وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما المستأنس من الطُّيُور كالدجاج والبط والأوز فَيحل بِإِجْمَاع الْأمة
وَأما المستوحش مِنْهُ فَيحرم كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطُّيُور إِلَّا الأرنب خَاصَّة لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ ابْن عَبَّاس أَنه نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطير وَخص مِنْهُ الأرنب لحَدِيث عمر
فذو الناب من السبَاع الْأسد والذنب والنمر والفهد والثعلب والضبع وَالْكَلب والسنور الْبري والأهلي
وَكَذَلِكَ الْفِيل وَابْن عرس من جملَة ذِي الناب وَنَحْوهَا
وَذُو المخلب من الطُّيُور الصَّقْر والبازي والنسر وَالْعِقَاب والشاهين وَنَحْوهَا
وَمَا سوى ذَلِك من المستوحش من الْبَهَائِم والطيور فَهُوَ حَلَال كالظبي وبقر الْوَحْش وحمر الْوَحْش وَالْإِبِل وَنَحْوهَا
وَمن الطُّيُور الْحمام والعصفور والعقعق وغراب الزَّرْع الَّذِي يَأْكُل الزَّرْع وَلَا يَأْكُل الْجِيَف وَنَحْوهَا إِلَّا أَنه يكره أكل الْغُرَاب الأبقع والغراب الْأسود الَّذِي يَأْكُل الْجِيَف
وَيكرهُ الْجَلالَة من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم لِأَن الْغَالِب من أكلهَا النَّجَاسَة
فَأَما الدَّجَاجَة المخلاة الَّتِي تَأْكُل النَّجَاسَة أَيْضا قَالُوا لَا يكره لِأَنَّهَا تخلطها بغَيْرهَا وَلِأَن الْجَلالَة ينتن لَحمهَا ويتغير وَلحم الدَّجَاجَة لَا(3/65)
ينتن وَلَا يتَغَيَّر
ثمَّ الْجَلالَة إِذا حبست أَيَّامًا حَتَّى تعتلف وَلَا تَأْكُل النَّجَاسَة تحل
وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة مُحَمَّد لم يُوَقت الْحَبْس بل يحبس حَتَّى يطيب لَحمهَا وَيذْهب نَتنه وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف مُقَدّر بِثَلَاثَة أَيَّام
فَأَما الدَّجَاجَة فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنَّهَا لَا تحبس لِأَنَّهُ لَا ينتن لَحمهَا وَلَكِن الْمُسْتَحبّ أَن تحبس يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ
أما جَنِين مَا يُؤْكَل لَحْمه إِذا خرج مَيتا لَا يحل عِنْد أبي حنيفَة وَزفر وَالْحسن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يحل وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما شَرَائِط الْحل فَمِنْهَا الذّبْح أَو النَّحْر فِي جَمِيع مَا يشْتَرط فِيهِ الذّبْح لَكِن النَّحْر فِي الْإِبِل وَالذّبْح فِي الشَّاة أحب
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا ذكيتم} وَاسم الذَّكَاة يَقع عَلَيْهِمَا جَمِيعًا
وَمِنْهَا التَّسْمِيَة حَتَّى لَو تَركهَا عَامِدًا لَا يحل عندنَا وَعند الشَّافِعِي يحل
وَأَجْمعُوا أَنه لَو تَركهَا نَاسِيا يحل وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ فِي ذَكَاة الِاخْتِيَار تجب التَّسْمِيَة لكل ذَبِيحَة عِنْد الحز وَالْقطع
وَفِي ذَكَاة الِاضْطِرَار يشْتَرط عِنْد الرَّمْي والإرسال لَا عِنْد الْإِصَابَة
وَلَا يشْتَرط التَّعْيِين لكل صيد بِخِلَاف الْأَهْلِيَّة بَيَانه أَنه(3/66)
لَو أضجع شَاة ليذبحها فَسمى ثمَّ بدا لَهُ أَن لَا يذبحها فأرسلها وأضجع أُخْرَى فذبحها بِتِلْكَ التَّسْمِيَة لم يحل
وَلَو رمى صيدا وسمى فأخطأه وَأصَاب آخر فَقتله فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ لِأَن التَّسْمِيَة عِنْد الذّبْح تشْتَرط عِنْد الْقُدْرَة وَعند الْعَجز أقيم الْإِرْسَال وَالرَّمْي مقَام الذّبْح إِذا اتَّصَلت بِهِ الْآلَة
وَكَذَا لَو أرسل كَلْبا على صيد بِعَيْنِه وسمى فَأخذ غير الَّذِي هُوَ سمى عَلَيْهِ من غير أَن مَال عَن سنَن الأولى يحل
وَلَو ذبح شَاة وسمى ثمَّ ذبح أُخْرَى فَظن أَن التَّسْمِيَة الأولي تجزي عَنْهُمَا لم يُؤْكَل فَيجب أَن يحدث لكل ذَبِيحَة تَسْمِيَة
وَلَو رمي سَهْما وسمى فَقتل بِهِ من الصَّيْد اثْنَيْنِ أَو أرسل كَلْبا وسمى فَقتل صيدين يحل كُله لما قُلْنَا
وَلَو سمى وَتكلم بِكَلَام قَلِيل أَو فعل فعلا قَلِيلا ثمَّ ذبح فَلَا بَأْس بِهِ وَيجْعَل كالمتصل للضَّرُورَة أما إِذا تكلم بِكَلَام طَوِيل أَو فعل فعلا كثيرا بَين التَّسْمِيَة والحز لَا يحل
وَمِنْهَا تَجْرِيد اسْم الله عِنْد الذّبْح عَن اسْم غَيره حَتَّى لَو قرن باسم الله اسْم غَيره وَإِن كَانَ اسْم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ لَا يحل
وتجريده عَن الدُّعَاء مُسْتَحبّ وَلَيْسَ بِشَرْط بِأَن قَالَ باسم الله اللَّهُمَّ تقبل عني أَو عَن فلَان وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يَدْعُو بِهَذَا وبمثله قبل التَّسْمِيَة أَو بعد الْفَرَاغ عَن التَّسْمِيَة مُنْفَصِلا عَنْهَا وَلَكِن لَا يُوجب الْحُرْمَة
وَلَو سبح أَو هلل أَو كبر وَأَرَادَ بِهِ التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة يحل أما لَو أَرَادَ بِهِ الْحَمد على سَبِيل الشُّكْر لَا يحل(3/67)
وَكَذَا لَو سمى يَنْبَغِي أَن يُرِيد بِهِ التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة
أما لَو أَرَادَ بِهِ التَّسْمِيَة عِنْد افْتِتَاح الْعَمَل لَا يحل
وَأما مَحل الذّبْح وكيفيته فَنَقُول الذَّكَاة نَوْعَانِ ذَكَاة اخْتِيَار وذكاة اضطرار
أما ذَكَاة الِاضْطِرَار فمحله جَمِيع الْبدن فَيحل بِوُجُود الْجرْح أَيْنَمَا أصَاب على مَا نذكرهُ
وَأما ذَكَاة الِاخْتِيَار فمحله مَا بَين اللبة واللحيين لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الذَّكَاة مَا بَين اللبة واللحيين
ثمَّ الذَّكَاة هِيَ فري الْأَوْدَاج والأدواج أَرْبَعَة الْحُلْقُوم والمريء والعرقان اللَّذَان بَينهمَا الْحُلْقُوم والمريء فالحلقوم مجْرى النَّفس والمريء مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب والعرقان مجْرى الدَّم
فَإِذا قطع الْأَوْدَاج الْأَرْبَعَة فقد أَتَى بالذكاة الْمَأْمُور بهَا بِتَمَامِهَا
فَأَما إِذا نقص من ذَلِك فقد اخْتلفُوا فِيهِ
رُوِيَ عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا قطع أَكثر الْأَوْدَاج حل وَفسّر ذَلِك بِأَن قطع ثَلَاثَة مِنْهَا من أَي جَانب كَانَ وَبِه أَخذ ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا يحل مَا لم يقطع الْحُلْقُوم والمريء وَأحد الودجين
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ مَا لم يقطع الْأَوْدَاج الْأَرْبَعَة أَو الْأَكْثَر من كل وَاحِد مِنْهَا لَا يحل حَتَّى أَنه إِذا قطع الثَّلَاثَة أَو الْأَكْثَر مِنْهَا وَقطع نصف الرَّابِع أَو أقل لَا يحل وَبِه أَخذ مُحَمَّد
فَصَارَ الْحَاصِل أَن عِنْد أبي حنيفَة الْأَكْثَر على رِوَايَة أبي يُوسُف يرجع إِلَى الثَّلَاثَة مِنْهَا وعَلى رِوَايَة مُحَمَّد الْأَكْثَر يرجع إِلَى كل وَاحِد من الْأَرْبَعَة وَقَالَ مُحَمَّد إِنَّه لَا يحل مَا لم يقطع الْكل أَو الْأَكْثَر من كل(3/68)
وَاحِد مِنْهَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يحل إِذا قطع ثَلَاثَة مِنْهَا الْحُلْقُوم والمريء وَأحد الودجين
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا قطع الْحُلْقُوم والمريء يحل
وَلَو أبان رَأس الْبَعِير أَو الشَّاة بِالسَّيْفِ فَإِن كَانَ من قبل الْحُلْقُوم أكل وَإِن كَانَ من قبل الْقَفَا فَإِن صَار بِحَال لَا يعِيش قبل قطع الْأَوْدَاج لَا يحل وَإِن كَانَ بِحَال يعِيش يحل
وَيكرهُ فِي حَال الذّبْح أَن يجرها برجلها إِلَى المذبح أَو يضجعها وَيحد الشَّفْرَة بَين يَديهَا
وَيكرهُ أَن يذبحها على وَجه يبلغ النخاع وَهُوَ الْعرق الْأَبْيَض الَّذِي فِي عظم الرَّقَبَة
وَيكرهُ أَن يسلخ قبل أَن تَمُوت لِأَن هَذَا زِيَادَة ألم لَا يحْتَاج إِلَيْهِ
فَإِن نخع أَو سلخ قبل أَن تبرد فَلَا بَأْس بذلك لِأَنَّهُ لم يُوجد فِيهِ ألم ذكره الْكَرْخِي
وَبَعض الْمَشَايِخ قَالُوا يكره النخاع بعد الْمَوْت قبل أَن يبرد وَيكرهُ السلخ
وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة من الشَّاة المذبوحة الذّكر والأنثيين والقبل والغدد والمثانة والمرارة وَالدَّم
ثمَّ أَبُو حنيفَة فسر هَذَا وَقَالَ الدَّم حرَام للنَّص الْقَاطِع وَأما الحكم فِي السَّبْعَة فمكروه لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تستحسنه الْأَنْفس وَإنَّهُ أَرَادَ بِهِ الدَّم المسفوح فَأَما دم الكبد وَالطحَال وَدم اللَّحْم فَلَيْسَ بِحرَام(3/69)
وَأما بَيَان مَا يذكي بِهِ وَهُوَ الْآلَة فعلى ضَرْبَيْنِ آلَة تقطع وَآلَة تفسخ
فالآلة الَّتِي تقطع على ضَرْبَيْنِ حادة وكليلة
فالحادة يجوز الذّبْح بهَا حديدا كَانَ أَو غير حَدِيد من غير كَرَاهَة
والكليلة الَّتِي تقطع يجوز الذّبْح بهَا مَعَ الْكَرَاهَة حديدا كَانَت أَو غير حَدِيد
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام كل مَا أنهر الدَّم وأفرى الْأَوْدَاج فَهُوَ ذَكَاة
وَقَالَ أَصْحَابنَا إِذا ذبح بظفر منزوع أَو بسن منزوع جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز
وَأما الْآلَة الَّتِي تفسخ فَهُوَ نَحْو الظفر الْقَائِم وَالسّن الْقَائِم إِذا ذبح بِهِ لَا يحل لِأَنَّهُ يعْتَمد على الْمَذْبُوح من وَجه فيختنق ويتفسخ حَتَّى قَالُوا إِذا كَانَ الظفر طَويلا فَأخذ إِنْسَان آخر بِيَدِهِ وَذبح بظفره وَأمر عَلَيْهِ كَمَا يمر السكين يحل لِأَنَّهُ لم يعْتَمد عَلَيْهِ حَتَّى يكون فِيهِ معنى التخنيق
وَأما بَيَان أَهْلِيَّة الذّبْح فَنَقُول يشْتَرط أَن يكون من أهل الْملَّة الَّتِي يقر عَلَيْهَا وَيعْقل الذّبْح ويضبطه وَيقدر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ من أهل الْملَّة وَهُوَ عَاقل فَالظَّاهِر أَنه يَأْتِي باسم الله تَعَالَى عِنْد الذّبْح وَإِذا لم يكن عَاقِلا فإجراء اسْم الله تَعَالَى على لِسَانه وَعَدَمه سَوَاء وَلِهَذَا لَا يَصح الْإِسْلَام مِنْهُ
وَالْقُدْرَة(3/70)
على الذّبْح لَا بُد مِنْهَا حَتَّى يتَحَقَّق فعل الذّبْح على وَجهه
فَيصح الذَّكَاة من الْمُسلم والكتابي إِذا عقلا الذّبْح وَلَا يتركان التَّسْمِيَة عمدا سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى صَغِيرا أَو بَالغا
وَلَا يجوز ذبح الْمَجُوسِيّ وَلَا الْمُرْتَد
وَلَا ذبح الصَّبِي والسكران وَالْمَجْنُون إِذا لم يعلقوا وَلم يضبطوا الذّبْح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي غير الصَّيْد فَأَما فِي الصَّيْد فَيشْتَرط أَن لَا يكون محرما وَلَا الذّبْح بِأَمْر الْمحرم وَلَا فِي الْحرم حَتَّى لَا يُؤْكَل مَا يذبح الْمحرم من الصَّيْد أَو يَأْمر بِهِ وَلَا مَا يذبحه الْحَلَال فِي الْحرم من الصَّيْد وَيكون ذَلِك كالميتة
فَأَما ذبح الْمحرم لغير الصَّيْد فسبب الْحل فِي الْحل وَالْحرم(3/71)
كتاب الصَّيْد
الاصيطاد مُبَاح فِي الْبَحْر فِي حق كَافَّة النَّاس وَفِي الْبر فِي حق غير الْمحرم على كل حَال إِلَّا فِي الْحرم وَفِي حق الْمحرم لَا يُبَاح فِي الْحل وَلَا فِي الْحَرَام
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {أحل لكم صيد الْبَحْر} وَلِأَن الْكسْب مُبَاح فِي الأَصْل وَمَا يصيده قد يُؤْكَل وَقد ينْتَفع بجلده وبشعره وَنَحْو ذَلِك
ثمَّ مَا يُبَاح أكله من الصَّيْد الْمَأْكُول بِأخذ الْجَوَارِح وَالرَّمْي وَغير ذَلِك من فعل الْعباد إِذا مَاتَ قبل أَن يقدر عَلَيْهِ لَهُ شَرَائِط أَحدهَا أَن تكون الْآلَة الَّتِي بهَا يصطاد جارحة تجرح الصَّيْد وَهُوَ السهْم وَالسيف وَالرمْح وَالْحَيَوَان الَّذِي لَهُ نَاب أَو مخلب فيجرح بِهِ فَيَمُوت هَذَا هُوَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة
أما إِذا لم يجرح الْكَلْب أَو الْبَازِي فَلَا يحل
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْكَلْب إِذا خنق يحل وَلَو لم يخنفه وَلم يجرحه وَلكنه كَسره فَمَاتَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَو أصَاب السهْم ظلف الصَّيْد أَو قرنه فَإِن وصل إِلَى اللَّحْم فأدماه أكل وَإِلَّا فَلَا(3/73)
وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي الشَّاة إِذا اعتلفت بالعناب فذبحت وَلم يسل مِنْهَا الدَّم فَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الصفار لَا يحل
وَقَالَ أَبُو بكر الإسكاف يحل
وَهَذَا إِذا مَاتَ بجرحه غَالِبا
فَأَما إِذا وَقع الشَّك فَلَا يحل إِذا كَانَ يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ بِأَن رمي صيدا فِي الْهَوَاء فَسقط على جبل أَو سطح أَو شجر أَو على سِنَان رمح مركوز فِي الأَرْض أَو على حرف آجرة أَو صَخْرَة أَو فِي المَاء ثمَّ سقط على الأَرْض لَا يحل احْتِيَاطًا لجَانب الْحُرْمَة
وَإِذا وَقع على آجرة مطبوخة على الأَرْض أَو على أَرض صلبة فَالْقِيَاس أَن لَا يحل وَفِي الِاسْتِحْسَان يحل لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَن الأَرْض
وَالثَّانِي أَن يكون الْحَيَوَان الْجَارِح معلما لقَوْله تَعَالَى {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين}
وَتَعْلِيم ذِي الناب أَنه إِذا أرسل يتبع الصَّيْد وَإِذا أَخذه أمْسكهُ على صَاحبه وَلم يَأْكُل مِنْهُ شَيْئا
وَتَعْلِيم ذِي المخلب أَن يستجيب إِذا دعِي وَيتبع الصَّيْد إِذا أرسل وَإِن أكل مِنْهُ فَلَا بَأْس بِهِ
ثمَّ أَبُو حنيفَة فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يُوَقت فِي التَّعْلِيم وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يَقُول أهل الْعلم بذلك إِنَّه معلم(3/74)
وروى الْحسن عَنهُ أَنه قَالَ لَا يَأْكُل أول مَا يصيد وَلَا الثَّانِي ثمَّ يُؤْكَل الثَّالِث وَمَا بعده
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا صَاد ثَلَاث مَرَّات وَلم يَأْكُل فَهُوَ معلم
ثمَّ إِذا صَار معلما من حَيْثُ الظَّاهِر وصاد بِهِ صَاحبه ثمَّ أكل بعد ذَلِك من صيد يَأْخُذهُ فقد بَطل تَعْلِيمه وَلَا يُؤْكَل بعد ذَلِك صَيْده حَتَّى يعلم تَعْلِيما ثَانِيًا بِلَا خلاف
فَأَما مَا صَاده قبل ذَلِك هَل يُؤْكَل جديده وقديمه عِنْد أبي حنيفَة لَا يُؤْكَل لِأَنَّهُ ظهر أَنه صَار معلما
وَعِنْدَهُمَا يحل لِأَنَّهُ الْعَالم قد ينسى
وَالثَّالِث أَن لَا يكون الْحَيَوَان الْجَارِح الَّذِي يصطاد بِهِ محرم الْعين كالخنزير فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ معلما لَا يحل صَيْده
فَأَما مَا سواهُ من الْجَوَارِح إِذا علم يحل صَيْده كالفهد والأسد وَالذِّئْب والنمر وَابْن عرس
الرَّابِع أَن يكون الْإِرْسَال مِمَّن هُوَ أهل للذبح لِأَن الْإِرْسَال وَالرَّمْي بِمَنْزِلَة الذّبْح فَلَا بُد من أَن يكون الْمُرْسل أَهلا من مُسلم أَو كتابي مَعَ سَائِر الشَّرَائِط
وَالْخَامِس أَن يكون الْإِرْسَال على مَا هُوَ صيد مشَاهد معاين بِأَن رأى صيدا أَو جمَاعَة فَرمى إِلَيْهِم
فَأَما التَّعْيِين فَلَيْسَ بِشَرْط حَتَّى أَنه لَو أصَاب صيدا آخر سوى مَا عاين يحل لِأَن الْإِرْسَال وجد إِلَى الصَّيْد وَفِي التَّعْيِين حرج
وَلَو أرسل إِلَى مَا لَيْسَ بصيد من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم أَو الْآدَمِيّ فَأصَاب صيدا لَا يحل لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِرْسَال إِلَى الصَّيْد
وَلَو سمع حس صيد فَظَنهُ صيدا فَأرْسل عَلَيْهِ كَلْبه أَو رمى(3/75)
سَهْمه إِلَيْهِ فَأصَاب صيدا وَبَان لَهُ أَن مَا ظَنّه صيدا فَهُوَ غنم أَو آدَمِيّ لَا يحل لِأَنَّهُ مَا أرسل إِلَى الصَّيْد لكنه ظَنّه كَذَلِك
وَلَو سمع حسا وَلَا يعلم أَنه حس صيد أَو آدَمِيّ فَأرْسل فَأصَاب صيدا لَا يحل
وَلَو سمع حسا فَظَنهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ وَأصَاب الَّذِي سمع حسه فَإِذا هُوَ صيد قَالُوا يحل لِأَنَّهُ رمى إِلَى محسوس معِين لكنه ظن أَنه آدَمِيّ وَقصد الْآدَمِيّ فَظهر أَنه بَطل قَصده وَلَكِن الرَّمْي صَادف مَحَله وَهُوَ الْإِرْسَال إِلَى محسوس معِين وَهُوَ الصَّيْد فصح إرْسَاله وتسميته كمن أَشَارَ إِلَى امْرَأَته وَقَالَ هَذِه الكلبة طَالِق تطلق وَإِن أَخطَأ الِاسْم
وَلَو ظن حسن صيد فَرَمَاهُ أَو أرسل فَإِذا هُوَ حسن صيد غير مَأْكُول أَو مَأْكُول وَأصَاب صيدا آخر يحل
وَقَالَ زفر إِن كَانَ صيدا لَا يُؤْكَل لَحْمه وَلَا يحل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِن كَانَ خنزيرا لَا يحل خَاصَّة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الصَّيْد اسْم للمأكول وَغَيره
وَالسَّادِس أَن يكون فَور الْإِرْسَال بَاقِيا وَلَا يَنْقَطِع إِلَى وَقت الْأَخْذ والإصابة حَتَّى إِنَّه إِذا أرسل إِلَى صيد وسمى فَمَا أَخذ فِي ذَلِك الْفَوْر من الصَّيْد فَقتله يحل فَإِذا انْقَطع الْفَوْر بِأَن جثم على صيد طَويلا ثمَّ مر بِهِ صيد آخر فَقتله لَا يحل الثَّانِي
وَكَذَلِكَ فِي الرَّمْي إِذا تغير بِأَن رمى إِلَى الصَّيْد فَذهب بِهِ الرّيح يمنه أَو يسرة فَأصَاب صيدا لَا يحل
وَلَو أصَاب السهْم حَائِطا أَو صَخْرَة فَرجع السهْم وَأصَاب الصَّيْد فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَل وَهَذَا لِأَن الْإِرْسَال انْقَطع فَاحْتمل أَنه حصل بِقُوَّة(3/76)
غَيره وَلَا يحل مَعَ الشَّك
فَأَما إِذا مر على سنَنه فَإِن أصَاب الْحَائِط فَلَا بَأْس بِهِ
وَلَو أرسل رجلَانِ كلبين أَو رميا سَهْمَيْنِ فأصابا مَعًا صيدا فقتلاه فَهُوَ بَينهمَا ولوجود السَّبَب مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَلَو سبق أَحدهمَا فَهُوَ لَهُ لِأَن سَبَب الْملك وَالذّبْح وجد مِنْهُ سَابِقًا وَهُوَ الْإِرْسَال بأثره فَكَانَ أولى
وَالسَّابِع التَّسْمِيَة فِي حَال الْإِرْسَال إِذا كَانَ ذَاكِرًا لَهَا لِأَن الْإِرْسَال وَالرَّمْي ذبح من الْفَاعِل تَقْديرا فَيشْتَرط التَّسْمِيَة عِنْده كَمَا فِي الذّبْح أَلا أَنه لَا يشْتَرط على كل صيد بِعَيْنِه بِخِلَاف الذّبْح على مَا مر
وَالثَّامِن أَن يلْحقهُ الْمُرْسل والرامي أَو من يقوم مقامهما قبل انْقِطَاع الطّلب أَو التواري عَنهُ وَهَذَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس أَن لَا يحل لاحْتِمَال أَنه مَاتَ بِسَبَب آخر لَكِن ترك الْقيَاس بالأثر والضرورة لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
فَأَما إِذا قعد عَن طلبه ثمَّ وجده بعد ذَلِك مَيتا فَلَا يُؤْكَل لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ كل مَا أصميت ودع مَا أنميت وَقَالَ أَبُو يُوسُف الإصماء مَا عاينه والإنماء مَا توارى عَنهُ
وَالتَّاسِع أَن لَا يدْرك ذبحة الِاخْتِيَار بِأَن كَانَ مَيتا
فَإِن كَانَ بِحَال لَا يعِيش وَلم يذبحه فَفِيهِ اخْتِلَاف بِنَاء على مَسْأَلَة المتردية والنطيحة(3/77)
والموقوذة إِذا ذبحت هَل تحل أم لَا وَهِي على وَجْهَيْن إِن كَانَ فِيهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة حلت بِالذبْحِ فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَإِن كَانَت فِيهَا حَيَاة وَلكنهَا غير مُسْتَقِرَّة تحل بِالذبْحِ عِنْد أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِن كَانَ فِيهَا من الْحَيَاة مَا يعِيش مثلهَا تحل وَإِن كَانَ لَا يعِيش مثلهَا لَا تحل
وَقَالَ مُحَمَّد إِن بَقِي حَيا أَكثر من بَقَاء الْمَذْبُوح بعد الذّبْح يحل
إِذا ثَبت هَذَا فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا وجد حَيا تبطل الذَّكَاة الاضطرارية عِنْد أبي حنيفَة وَإِن لم يكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَعِنْدَهُمَا على الْوَجْه الَّذِي قُلْنَا
وَلَو أبان رَأس الصَّيْد وَسمي يحل كُله
وَلَو قطع عضوا مِنْهُ سوى الرَّأْس فَمَاتَ لم يُؤْكَل الْعُضْو المبان وَيحل الْبَاقِي لِأَن الْأَوْدَاج تَنْقَطِع بإبابنة الرَّأْس فَيكون ذبحا
وَإِذا قطع عضوا غَيره لَا يُؤْكَل الْجُزْء المبان لِأَن الْمَوْت حصل والجزء مبان قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام مَا أبين من الْحَيّ فَهُوَ ميت
وَلَو قطع نِصْفَيْنِ طولا أَو عرضا يحل أكله لِأَن الْمَوْت يحصل بِهَذَا الْفِعْل فَيكون الْكل مذكى ذَكَاة اضطرار
وَإِن كَانَ أحد النصفين أَكثر فَإِن كَانَ مِمَّا يَلِي الرَّأْس أقل يُؤْكَل كُله وَإِن كَانَ أَكثر أكل مِمَّا يَلِي الرَّأْس وَلَا يُؤْكَل مَا سواهُ لِأَن الْأَوْدَاج مُتَّصِلَة من الْقلب إِلَى الدِّمَاغ فَمَتَى كَانَ النّصْف الَّذِي يَلِي الرَّأْس أقل يكون ذَكَاة بِقطع الْأَوْدَاج وَمَتى كَانَ أَكثر كَانَ ذَكَاة الِاضْطِرَار فَيكون ذَلِك عِنْد الْمَوْت فَيكون الْجُزْء الَّذِي بَان فَاتَ حَيَاته قبل الذَّكَاة فَيكون ميتَة
وَلَو قطع أقل الرَّأْس لَا يحل المبان وَيحل الْبَاقِي لِأَن هَذَا ذَكَاة الِاضْطِرَار فَلَا يحل المبان قبل الْمَوْت(3/78)
وَلَو بَقِي أقل الرَّأْس وَقطع الْأَكْثَر يحل كُله لِأَنَّهُ صَار ذَكَاة بِقطع الْعُرُوق
وَلَو قطع الرَّأْس نِصْفَيْنِ فعلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد يحل كُله وَهُوَ قَول أبي يُوسُف الأول ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يحل المبان فَكَانَ عِنْده أَن الْعُرُوق مُتَّصِلَة بِالنِّصْفِ الَّذِي يَلِي الْبدن وَعِنْدَهُمَا مُتَّصِلَة بالدماغ فَتَصِير مَقْطُوعَة بِقطع النّصْف(3/79)
كتاب الْأُضْحِية
يحْتَاج إِلَى بَيَان أَن الْأُضْحِية وَاجِبَة أم لَا وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْوُجُوب
وَبَيَان شَرَائِط الْأَدَاء وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْقَضَاء وَإِلَى بَيَان مَا يجوز فِي الْأُضْحِية وَمَا لَا يجوز وَإِلَى بَيَان مَا يكره
أما الأول فَنَقُول قَالَ أَصْحَابنَا إِن الْأُضْحِية وَاجِبَة على المقيمين من أهل الْأَمْصَار والقرى والبوادي من الْأَعْرَاب والتركمان
وَقَالَ الشَّافِعِي سنة وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا لَا تجب على الْمُسَافِرين
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لقَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} قَالَ أهل التَّفْسِير المُرَاد مِنْهُ صَلَاة الْعِيد وَنحر الْأُضْحِية وَالْأَمر للْوُجُوب وَالنَّص ورد فِي حق الْمُقِيم لِأَن الْخطاب للرسول عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ حكم لَا يعرف بِالْقِيَاسِ فَلَا يتَعَدَّى إِلَى الْمُسَافِر كَمَا فِي الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ(3/81)
وَأما شَرَائِط الْوُجُوب فَمِنْهَا الْيَسَار وَهُوَ الْيَسَار الَّذِي تعلق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر دون الْيَسَار الَّذِي تعلق بِهِ وجوب الزَّكَاة على مَا ذكرنَا فِي كتاب الزَّكَاة
وَمِنْهَا الْإِسْلَام لِأَنَّهَا عبَادَة وقربة
وَمِنْهَا الْوَقْت فَإِنَّهَا لَا تجب قبل أَيَّام النَّحْر
وَلِهَذَا لَو ولدت الْمَرْأَة ولدا بعد أَيَّام النَّحْر لَا تجب الْأُضْحِية لأَجله وَلَو مَاتَ الْوَلَد فِي وسط أَيَّام النَّحْر لَا تجب الْأُضْحِية لِأَن الْوُجُوب يتَأَكَّد فِي آخر الْوَقْت
وَكَذَا كل من مَاتَ من أهل وجوب الْأُضْحِية لما ذكرنَا
وَأما الْبلُوغ وَالْعقل هَل يشْتَرط فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَيْسَ بِشَرْط حَتَّى تجب على الصَّغِير إِذا كَانَ غَنِيا فِي مَاله حَتَّى لَو ضحى الْأَب أَو الْوَصِيّ من مَاله لَا يضمن
وَعند مُحَمَّد وَزفر لَا يجب على الصَّغِير حَتَّى يضمن الْأَب وَالْوَصِيّ
وَلَو كَانَ مَجْنُونا مُوسِرًا تجب فِي مَاله ويضحي عَنهُ الْوَلِيّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور كَمَا فِي صَدَقَة الْفطر
وَفِي رِوَايَة فرق بَين صَدَقَة الْفطر وَبَين الْأُضْحِية وَقَالَ لَا تجب الْأُضْحِية فِي مَاله
وَلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَنه تجب الْأُضْحِية على الْمُوسر بِسَبَب أَوْلَاده الصغار دون الْكِبَار بِمَنْزِلَة صَدَقَة الْفطر إِذا لم يكن للصغار مَال لَكِن إِذا ضحى من مَال الصَّغِير لَا يتَصَدَّق بِهِ لِأَن الْوَاجِب هُوَ الإراقة فَأَما التَّصَدُّق بِاللَّحْمِ فتطوع وَمَال الصَّغِير لَا يحْتَمل التَّبَرُّع فَيَنْبَغِي أَن يطعم الصَّغِير ويدخر لَهُ أَو يسْتَبْدل لحومه بالأشياء الَّتِي ينْتَفع بهَا الصَّغِير مَعَ بَقَاء أعيانها كَمَا فِي جلد الْأُضْحِية(3/82)
وَأما شَرَائِط الْأَدَاء وَكَيْفِيَّة الْقَضَاء فَمِنْهَا وَقت الْفجْر فَإِنَّهُ لَا يَصح التَّضْحِيَة إِلَّا فِي أَيَّام النَّحْر وَلَو ذهب الْوَقْت تسْقط التَّضْحِيَة
إِلَّا أَن فِي حق المقيمين فِي الْأَمْصَار يشْتَرط شَرط آخر وَهُوَ أَن يكون بعد صَلَاة الْعِيد بِالْحَدِيثِ حَتَّى إِن فِي حق أهل الْقرى تجوز التَّضْحِيَة فِي أول الْوَقْت
وَإِن دخل الرستاقي الْمصر لصَلَاة الْعِيد وَأمر أَهله بِأَن يضحوا عَنهُ لَهُم أَن يضحوا عَنهُ قبل صَلَاة الْعِيد
وَالْمُعْتَبر مَكَان الذَّبِيحَة لَا مَكَان الْمَذْبُوح عَنهُ فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَفِي رِوَايَة مَكَان الْمَذْبُوح عَنهُ وَهُوَ قَول الْحسن
وَكَذَلِكَ إِذا ترك الصَّلَاة يَوْم النَّحْر لعذر أَو لغير عذر يجوز أَن يُضحي بعد انتصاف النَّهَار
وَفِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث سَوَاء صلوا صَلَاة الْعِيد أَو لم يصلوا لَهُم أَن يضحوا قبل صَلَاة الْعِيد لِأَن التَّرْتِيب فِي الْيَوْم الأول ثَبت بِالْحَدِيثِ غير مَعْقُول الْمَعْنى فاقتصر عَلَيْهِ إِذا صلى أَو مضى وَقت الصَّلَاة
ثمَّ أَيَّام النَّحْر ثَلَاثَة يَوْم الْأَضْحَى وَهُوَ الْعَاشِر من ذِي الْحجَّة وَالْحَادِي عشر وَالثَّانِي عشر يجوز التَّضْحِيَة فِي نَهَار هَذِه الْأَيَّام ولياليها بعد طُلُوع الْفجْر من الْيَوْم الأولى إِلَى غرُوب الشَّمْس من الْيَوْم الثَّانِي عشر غير أَنه يكره الذّبْح بِاللَّيْلِ وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي أَرْبَعَة أَيَّام وَزَاد الْيَوْم الثَّالِث عشر(3/83)
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم أَنهم قَالُوا أَيَّام النَّحْر ثَلَاثَة أفضلهَا أَولهَا فَإِذا مَضَت هَذِه الْأَيَّام فقد فَاتَ الذّبْح فِي حق من لم يذبح حَتَّى لَا يجوز لَهُ أَن يذبح
ثمَّ إِن كَانَ أوجب شَاة بِعَينهَا أَو اشْتَرَاهَا ليضحي بهَا فمضت أَيَّام النَّحْر قبل أَن يذبحها تصدق بهَا حَيَّة وَلَا ينقص مِنْهَا شَيْئا من الشّعْر وَاللَّبن وَلَا يَأْكُل من لَحمهَا لِأَنَّهُ انْتقل الْوَاجِب من إِرَاقَة الدَّم إِلَى التَّصَدُّق
وَإِن لم يُوجب أَو لم يشتر وَالرجل مُوسر وَقد مَضَت أَيَّام النَّحْر فَإِن عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق بِقِيمَة الشَّاة الَّتِي تجوز فِي الْأُضْحِية لما قُلْنَا
وَأما بَيَان مَا يجوز فِي الْأُضْحِية وَمَا لَا يجوز وَمَا يكره وَذَلِكَ أَنْوَاع مِنْهَا أَنه لَا يجوز فِي الضَّحَايَا والهدايا إِلَّا الثني من الْإِبِل الْبَقر وَالْغنم والجذع من الضَّأْن خَاصَّة إِذا كَانَ عَظِيما
ثمَّ الثني من الْإِبِل عِنْد الْفُقَهَاء ابْن خمس سِنِين وَمن الْبَقر ابْن سنتَيْن وَمن الْغنم ابْن سنة والجذع من الْإِبِل ابْن أَربع سِنِين وَمن الْبَقر ابْن سنة وَمن الْغنم ابْن سِتَّة أشهر هَكَذَا حكى الْقَدُورِيّ
وَذكر الزَّعْفَرَانِي فِي الْأَضَاحِي وَقَالَ الْجذع ابْن سَبْعَة أشهر أَو ثَمَانِيَة فَأَما ابْن سِتَّة أشهر فَهُوَ حمل
وَلَا يجوز الْحمل والجدي والعجل والفصيل فِي الْأُضْحِية
وَلَا يجوز فِي الْأَضَاحِي شَيْء من الْوَحْش لعدم وُرُود الشَّرْع وَإِن(3/84)
كَانَ متولدا من الْوَحْش والإنسى فَالْمُعْتَبر فِيهِ جَانب الْأُم
وَالْإِبِل وَالْبَقر يجوز من سَبْعَة نفر على مَا روى جَابر أَنه قَالَ نحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَدنَة عَن سَبْعَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة
وَلَا تجوز الشَّاة عَن أَكثر من الْوَاحِد وَإِن كَانَت عَظِيمَة قيمتهَا قيمَة شَاتين لِأَن الْقرْبَة إِرَاقَة الدَّم وَذَلِكَ لَا يتَفَاوَت
وَلَكِن إِنَّمَا يجوز بِشَرْط أَن يكون قصدهم من التَّضْحِيَة التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى سَوَاء كَانَ من نوع وَاحِد كَمَا إِذا كَانُوا شُرَكَاء فِي الْأُضْحِية أَو فِي الْهَدْي أَو من أَنْوَاع مُخْتَلفَة بِأَن كَانَ نوى أحدهم الْأُضْحِية وَالْآخر الْهَدْي وَالْآخر دم الْكَفَّارَة وَنَحْو ذَلِك وَلَكِن الْأَفْضَل أَن تكون الشّركَة فِي نوع وَاحِد
فَأَما إِذا كَانَ أحد الشُّرَكَاء أَرَادَ بِالذبْحِ اللَّحْم لَا التَّقَرُّب أَو كَانَ أحدهم ذِمِّيا لم يَقع عَن الْأُضْحِية لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يتَجَزَّأ فَإِذا لم يكن الْبَعْض قربَة بَطل الْكل
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا لَا يجوز بِسَبَب الْعَيْب وَمَا يكره فَنَقُول الْعَيْب الْقَلِيل لَا يمْنَع وَالْكثير يمْنَع فذاهبة الْعين الواحداة وَهِي العوراء ومقطوعة الْأذن الْوَاحِدَة ومقطوعة الإلية والذنب كلهَا لَا تجوز
فَأَما إِذا كَانَ الذَّاهِب بعض بصر الْعين أَو بعض الْأذن الإلية والذنب فَفِيهِ ثَلَاث رِوَايَات فِي ظَاهر الرِّوَايَة الثُّلُث وَمَا دونه قَلِيل وَمَا زَاد عَلَيْهِ فَهُوَ كثير
وَفِي رِوَايَة الثُّلُث وَمَا زَاد فَهُوَ كثير وَمَا دون الثُّلُث قَلِيل
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف وَهُوَ قَوْله النّصْف وَمَا زَاد فَهُوَ كثير وَمَا دون النّصْف قَلِيل(3/85)
وَلَا يجوز السكاء الَّتِي لَا أذن لَهَا فِي الْخلقَة وَإِن كَانَت صَغِيرَة يجوز
والهتماء الَّتِي لَا أَسْنَان لَهَا لَا يجوز فَإِذا كَانَ لَهَا بعض الْأَسْنَان فَإِن كَانَت لَا تعتلف وَيصب فِي حلقها لَا يجوز وَإِن كَانَت تعتلف يجوز
والعجفاء الَّتِي لَا تنقي لَا يجوز
وَكَذَلِكَ العرجاء الَّتِي لَا تمشي إِلَى المنسك وَإِن كَانَت تقدر على الْمَشْي مَعَ العرج جَازَ
والثولاء وَهِي الْمَجْنُونَة جَازَ وَكَذَا الجرباء السمينة جَازَ
وَكَذَلِكَ الْخصي جَازَ وَعَن أبي حنيفَة إِنَّه أحب إِلَيّ لِأَنَّهُ أطيب لَحْمًا
وَمَا جَازَ مَعَ الْعَيْب فَهُوَ مَعَ الْكَرَاهَة وَإِنَّمَا الْمُسْتَحبّ هُوَ السليمة عَن الْعُيُوب الظَّاهِرَة
وَلَو اشْترى سليمَة للأضحية أَو أوجب على نَفسه ذبح شَاة بِعَينهَا ثمَّ ظهر بهَا عيب يمْنَع عَن الْجَوَاز يَوْم النَّحْر فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْعبْرَة لوقت الذّبْح لَكِن إِذا اعترضت آفَة عِنْد الذّبْح بِإِصَابَة السكين عينهَا وَنَحْو ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ من ضرورات الذّبْح وَهَذَا فِي حق الْمُوسر لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ أضْحِية كَامِلَة بِإِيجَاب الله تَعَالَى
فَأَما إِذا كَانَ مُعسرا اشْتَرَاهَا للأضحية أَو أوجبهَا بِعَينهَا ثمَّ اعترضت آفَة مَانِعَة عَن الْجَوَاز يجوز لَهُ أَن يُضحي بهَا لِأَنَّهَا مُعينَة فِي حَقه ففوات بَعْضهَا كفوات كلهَا حَتَّى لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء لكَونهَا(3/86)
معنية حَتَّى لَو أوجب الْفَقِير أضْحِية بِغَيْر عينهَا فَاشْترى صَحِيحَة ثمَّ تعيبت قبل الذّبْح بِعَيْب مَانع فضحى لَا يسْقط عَنهُ الْوَاجِب لما قُلْنَا
وَلَو ذبح إِنْسَان أضْحِية صَاحبه بِغَيْر أَمر جَازَ من صَاحبه اسْتِحْسَانًا
وَكَذَلِكَ لَو غَلطا فضحى كل وَاحِد مِنْهُمَا أضْحِية صَاحبه لِأَن الْإِذْن ثَابت من حَيْثُ الْعَادة دلَالَة يوترادان اللَّحْم فَإِن جَوَاز ذَلِك لصَاحبه بِالْإِذْنِ فَإِن لم يرض كل وَاحِد مِنْهُمَا بِفعل صَاحبه صَرِيحًا يكون أضْحِية كل وَاحِد مَا ضحى بِنَفسِهِ وَجَاز عَنهُ وَيضمن لصَاحبه وَصَارَ غَاصبا لَهُ بِالْأَخْذِ وَيصير مَالِكًا سَابِقًا على الذّبْح فَيصير مضحيا ملك نَفسه فَجَاز
وَكَذَا من غصب شَاة إِنْسَان وضحى بهَا يضمن قيمتهَا وَتجوز عَن أضحيته فِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة لما ذكرنَا بِخِلَاف الْمُودع إِذا ذبح الشَّاة الْوَدِيعَة وَضمن لَا يجوز لِأَنَّهَا لم تكن مَضْمُونَة وَقت الذّبْح لهَذَا افْتَرقَا
وَيكرهُ لَهُ أَن يحلب لبن الْأُضْحِية وَأَن يجز صوفها قبل التَّضْحِيَة لِأَنَّهَا من أَجزَاء الْأُضْحِية وَلَو فعل يتَصَدَّق بهَا
وَلَو بَاعَ شَيْئا مِنْهَا يتَصَدَّق بِثمنِهَا
وَأما بعد الذّبْح فَلَا بَأْس بذلك وَلَو ولدت قَالُوا يذبح وَلَدهَا مَعهَا
وَقَالَ بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يذبح وَلَكِن يتَصَدَّق بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمحل للأضحية
وللمضحي أَن يَأْكُل من أضحيته إِن شَاءَ كلهَا وَإِن شَاءَ أطْعم الْكل والأحب أَن يتَصَدَّق بالثلثين وَيَأْكُل الثُّلُث إِن كَانَ مُوسِرًا
وَإِن(3/87)
كَانَ ذَا عِيَال وَهُوَ وسط الْحَال فِي الْيَسَار فَلهُ أَن يتوسع بهَا على عِيَاله ويدخر مِنْهَا مَا شَاءَ وَينْتَفع بجلدها وشعرها وَله أَن يستبدلها بِشَيْء ينْتَفع بِعَيْنِه كالجراب والمنخل وَالثَّوْب
وَلَو بَاعَ ذَلِك أَو بَاعَ لَحمهَا فَإِنَّهُ يجوز بَيْعه وَلَا ينْقض البيع فِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة لَكِن يتَصَدَّق بِالثّمن وعَلى قَول أبي يُوسُف لَهُ أَن ينْقض البيع لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْوَقْف عِنْده فِي قَول(3/88)
كتاب الْغَصْب
مسَائِل الْغَصْب تبتنى على معرفَة حد الْغَصْب وَبَيَان حكمه
أما حد الْغَصْب الْمُوجب للضَّمَان فَنَقُول هُوَ إِزَالَة يَد الْمَالِك أَو صَاحب الْيَد عَن المَال بِفعل فِي الْعين فَأَما إِثْبَات الْيَد على مَال الْغَيْر على وَجه التَّعَدِّي بِدُونِ إِزَالَة الْيَد فَيكون غصبا مُوجبا للرَّدّ لَا مُوجبا للضَّمَان وهما عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي حَده إِثْبَات الْيَد على وَجه التَّعَدِّي
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن من سكن دَار غَيره بِغَيْر إِذْنه وَأخرج صَاحبهَا عَنْهَا لَو كَانَ فِيهَا أَو زرع أَرض غَيره بِغَيْر إِذْنه يكون غصبا مُوجبا للرَّدّ وَلَا يكون مُوجبا للضَّمَان عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وعَلى قَول مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ يجب الضَّمَان لَو خربَتْ الدَّار أَو غرق الْعقار وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو استخدم مَمْلُوك رجل بِغَيْر إِذْنه أَو بَعثه فِي حَاجَة أَو ركب دَابَّته أَو حمل عَلَيْهَا شَيْئا فَهَلَكت فَهُوَ ضَامِن لما قُلْنَا
وَإِن لم ينْقل شَيْئا مِمَّا يحْتَمل النَّقْل كَمَا إِذا جلس على بِسَاط الْغَيْر لَا يضمن
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن زَوَائِد الْغَصْب مُتَّصِلَة كَانَت أَو مُنْفَصِلَة من الْوَلَد(3/89)
وَاللَّبن وَالصُّوف وَالسمن لَا تكون مَغْصُوبَة خلافًا للشَّافِعِيّ لعدم إِزَالَة الْيَد
وَلَو جَاءَ الْمَالِك وَطلب الزَّوَائِد فَمنعهَا يضمن بِالْإِجْمَاع
فَأَما لَو بَاعهَا وَسلمهَا إِلَى المُشْتَرِي فَفِي الْمُنْفَصِل الْمَالِك بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن البَائِع وَإِن شَاءَ ضمن المُشْتَرِي قِيمَته يَوْم البيع وَالتَّسْلِيم
فَأَما فِي الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة فللمالك أَن يضمن الْغَاصِب قيمَة الْمَغْصُوب يَوْم الْغَصْب وَلَيْسَ لَهُ أَن يضمنهُ قيمَة الزَّوَائِد يَوْم البيع إِنَّمَا لَهُ أَن يضمن المُشْتَرِي قيمَة الغصوب مَعَ الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة يَوْم الْقَبْض بِالشِّرَاءِ وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وعَلى قَوْلهمَا لَهُ أَن يضمن البَائِع أَو المُشْتَرِي قِيمَته يَوْم البيع وَالتَّسْلِيم مَعَ الزَّوَائِد
وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي إِتْلَاف الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة فِي غير الْآدَمِيّ هَذَا هُوَ الصَّحِيح
وَأما فِي الْقَتْل فَلهُ الْخِيَار بَين أَن يضمنهُ بِالْغَصْبِ يَوْم الْغَصْب وَبَين أَن يضمنهُ بِالْقَتْلِ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْمَنَافِع لَا تضمن بِالْغَصْبِ والإتلاف خلافًا للشَّافِعِيّ
وَصُورَة الْغَصْب أَن يحبس عبد إِنْسَان بِغَيْر إِذن مَالِكه شهرا وَلم ينْتَفع بِهِ وَكَذَا الدَّوَابّ
وَصُورَة الْإِتْلَاف أَن يغصب عبدا أَو دَابَّة وانتفع بهَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلِهَذَا لَو أجر الْمَغْصُوب من إِنْسَان شهرا وَأخذ الْأُجْرَة فَإِن الْأُجْرَة(3/90)
ملك الْغَاصِب دون الْمَالِك لِأَن الْمَنَافِع تحدث فِي يَد الْغَاصِب
وَأما حكم الْغَصْب فَمن حكمه وجوب رد الْعين الْمَغْصُوبَة مَا دَامَت قَائِمَة من غير نُقْصَان لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام على الْيَد أخذت حَتَّى ترد
وَمن حكمه أَيْضا وجوب ضَمَان النُّقْصَان إِذا انْتقصَ
ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون النُّقْصَان بِسَبَب تراجع السّعر أَو بِفَوَات جُزْء من الْعين أَو بِفَوَات وصف أَو معنى مَرْغُوب فِي العَبْد تزداد قِيمَته بِهِ
أما النُّقْصَان بِسَبَب السّعر فَغير مَضْمُون فِي الْغَصْب لِأَنَّهُ فتور يحدثه الله تَعَالَى فِي قُلُوب الْعباد لَا معنى يرجع إِلَى الْعين
وَلِهَذَا لَا يعْتَبر فِي الرَّهْن وَالْمَبِيع إِذا كَانَ فِي يَد البَائِع حَتَّى لَا يسْقط الدّين بِقَدرِهِ وَلَا يثبت الْخِيَار للْمُشْتَرِي لما قُلْنَا
وَأما النُّقْصَان الَّذِي يرجع إِلَى الْعين أَو الْوَصْف فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ فِي أَمْوَال الرِّبَا كالمكيل وَالْمَوْزُون الَّذِي لَا يجوز بيع الْبَعْض بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا أَو فِي غير ذَلِك
فَإِن كَانَ فِي أَمْوَال الرِّبَا بِأَن غصب حِنْطَة وَنَحْوهَا فصب فِيهَا مَاء أَو غصب دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَانْكَسَرت فِي يَده وَصَارَت قراضة فصاحبه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذه وَلَا شَيْء لَهُ غير ذَلِك وَإِن شَاءَ تَركه وَضَمنَهُ مثله وزنا وَلَا يضمن نُقْصَان الضَّرْب
وَإِن كَانَ إِنَاء فضَّة فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضا إِن شَاءَ أَخذه وَلَا شَيْء لَهُ غير ذَلِك وَإِن شَاءَ ضمنه قِيمَته من الذَّهَب(3/91)
وَإِن كَانَ الْإِنَاء من الذَّهَب إِن شَاءَ أَخذه مهشوما وَإِن شَاءَ ضمنه قِيمَته من الْفضة لِأَن الصياغة مُتَقَومَة ولحصولها بصنع الْعباد وَلَا يُمكن تَضْمِينه بِجِنْسِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا فَيضمن بِخِلَاف جنسه حَتَّى لَا يفوت حَقه
وَكَذَلِكَ آنِية الصفر والنحاس والشبه إِن كَانَ يُبَاع وزنا لِأَنَّهُ يدخلهَا الرِّبَا
فَأَما إِذا كَانَ يُبَاع عددا لم يكن من مَال الرِّبَا
فَأَما إِذا كَانَ التآلف لَيْسَ من أَمْوَال الرِّبَا فنقصان الْجُزْء من العور والشلل ونقصان الْوَصْف كذهاب الْبَصَر والسمع أَو مَا يفوت بِهِ من معنى من الْعين كنسيان الحرفة وَنَحْوه أَو حدث بِهِ عيب ينقص قِيمَته كالإباق وَالْجُنُون وَالْكبر فِي العَبْد وَالْجَارِيَة فمضمون عَلَيْهِ
أما نَبَات اللِّحْيَة فِي الْغُلَام الْأَمر فَلَيْسَ بِنَقص فَيقوم العَبْد صَحِيحا لَا عيب فِيهِ وَلَا نقص يقوم وَبِه الْعَيْب وَالنَّقْص فَيضمن قدر ذَلِك لصَاحبه لِأَنَّهُ فَاتَ حَقه
وعَلى هَذَا إِذا غصب عصيرا فَصَارَ خلا أَو عنبا فَصَارَ زبيبا أَو لَبَنًا فَصَارَ رائبا أَو رطبا فَصَارَ تَمرا فصاحبه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ إخذه عينه وَلَا شَيْء لَهُ وَإِن شَاءَ ضمنه مثله وَسلم لَهُ ذَلِك كُله لِأَنَّهُ من أَمْوَال الرِّبَا
وَإِن كَانَ تبر ذهب أَو فضَّة فصاغ مِنْهُ إِنَاء أَو حليا أَو دَارهم أَو دَنَانِير فَإِنَّهُ يَأْخُذ ذَلِك كُله فِي قَول أبي حنيفَة وَلَا يُعْطِيهِ لعمله شَيْئا
وَعِنْدَهُمَا لَا سَبِيل لَهُ على المصوغ
وَعَلِيهِ مثله فَعِنْدَ أبي حنيفَة هَذَا الْوَصْف لَا قيمَة لَهُ فِي مَالِيَّة الْعين لِأَنَّهُ لَا يزِيد فِي الْعين بِخِلَاف الصَّنْعَة فِي غير أَمْوَال الرِّبَا
وَلَو غصب ثوبا فَقَطعه وَلم يخطه فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذه نَاقِصا(3/92)
مَقْطُوعًا وَضَمنَهُ مَا نقص بِالْقطعِ وَإِن شَاءَ تَركه وَضَمنَهُ قيمَة الثَّوْب يَوْم غصبه لِأَنَّهُ فَوت عَلَيْهِ مَنْفَعَة مُعْتَبرَة وَهُوَ لَيْسَ من أَمْوَال الرِّبَا
وَكَذَلِكَ إِذا غصب شَاة فذبحها وَلم يشوها فَلهُ الْخِيَار بَين أَن يَأْخُذ الشَّاة وَأخذ قيمَة مَا نَقصهَا وَإِن شَاءَ تَركهَا وَأخذ قيمتهَا مِنْهُ
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْمَالِك بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذهَا وَلَا شَيْء لَهُ غَيرهَا وَإِن شَاءَ تَركهَا وَضَمنَهُ قيمتهَا يَوْم غصبهَا لِأَن الذّبْح زِيَادَة
فَأَما إِذا زَاد الْمَغْصُوب سمنا فنفقة الْغَاصِب أَو كَانَ مَرِيضا فداواه حَتَّى صَحَّ أَو كَانَ زرعا أَو أشجارا فَسَقَاهَا حَتَّى نما وانْتهى فَإِنَّهُ يَأْخُذهُ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ بِسَبَب الزِّيَادَة لِأَن ذَلِك لم يحصل بِفِعْلِهِ
أما إِذا كَانَ زِيَادَة حصلت بِفِعْلِهِ ظَاهرا فَهِيَ أَنْوَاع نوع مِنْهُ مَا يكون استهلاكا للعين معنى وَنَوع هُوَ اسْتِهْلَاك من وَجه
وَالْجَوَاب فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِد فِي أَنه يَنْقَطِع حق الْمَالِك عَن الْعين وَيصير ملكا للْغَاصِب وَيضمن الْغَاصِب مثله أَو قِيمَته
وَلَكِن يَخْتَلِفَانِ فِي أَحْكَام أخر حَتَّى إِن الزِّيَادَة فِي الثّمن والمثمن لَا تجوز فِي الْفَصْل الأول لصيرورة الْمَبِيع هَالكا وَتجوز فِي الْفَصْل الثَّانِي وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي تكون الزِّيَادَة ملكا للْمَالِك وَلَا يَنْقَطِع حَقه عَن الْعين بِالضَّمَانِ
أما نَظِير الِاسْتِهْلَاك فبأن كَانَ حِنْطَة فطحنها الْغَاصِب أَو بيضًا فخضبه أَو دَقِيقًا فخبزه أَو قطنا فغزلها أَو غزلا فنسجه أَو سمسما فعصره أَو حِنْطَة فزرعها
وَنَظِير الْفَصْل الثَّانِي أَن قطع الثَّوْب قَمِيصًا أَو قبَاء فخاطبه أَو كَانَ(3/93)
لَحْمًا فشواه أَو غصب ساجة فَأدْخلهَا فِي بنائِهِ أَو لَبَنًا أَو آجرا فَجَعلهَا فِي أساس حَائِطه أَو غصب فسيلا فَكبر وَنَحْو ذَلِك
ثمَّ هَذِه الزَّوَائِد الَّتِي صَارَت ملكا للْغَاصِب لَا يُبَاح لَهُ الِانْتِفَاع بِهِ وَعَلِيهِ أَن يتَصَدَّق لِأَنَّهُ حصل بِسَبَب خَبِيث
وَلَو بَاعَ أَو وهب يجوز لكَونهَا ملكا لَهُ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَزفر أَنه يُبَاح لَهُ الِانْتِفَاع بهَا إِلَّا أَن عِنْد أبي يُوسُف بعد إرضاء صَاحبه بأَدَاء الضَّمَان وَعند زفر كَيْفَمَا كَانَ
وَمَا قَالَا قِيَاس وَجَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة اسْتِحْسَان
وَنَوع آخر مَا هُوَ زِيَادَة فِي الْعين وَلَيْسَ بِإِتْلَاف من وَجه وَهُوَ الصَّبْغ إِذا صبغه أصفر أَو أَحْمَر أَو أَخْضَر وَنَحْوهَا فَأَما إِذا صبغه أسود فَهُوَ نُقْصَان عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا زِيَادَة
ثمَّ الْجَواب فِي الصَّبْغ الَّذِي هُوَ زِيَادَة أَن صَاحب الثَّوَاب بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ترك الثَّوْب عَلَيْهِ وَضَمنَهُ قِيمَته أَبيض وَإِن شَاءَ أَخذه مصبوغا وَضمن لَهُ مَا زَاد الصَّبْغ فِيهِ
وَلَو غصب صبغ إِنْسَان فصبغ بِهِ ثَوْبه فَعَلَيهِ مثله وَالثَّوْب الْمَصْبُوغ لَهُ
وَلَو وَقع ثوب رجل فِي صبغ إِنْسَان فانصبغ فَصَاحب الثَّوْب بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أَخذه وَأعْطى مَا زَاد فِيهِ الصَّبْغ
وَإِن شَاءَ يَبِيع الثَّوْب فَيَأْخُذ رب الثَّوْب من الثّمن قيمَة ثوب أَبيض وَيَأْخُذ صَاحب الصَّبْغ(3/94)
قيمَة صبغة فِي الثَّوْب للْحَال لِأَن الصَّبْغ ينقص وَلَا صبغ لَهُ فِيهِ
فَأَما إِذا قصر الثَّوْب الْمَغْصُوب فَيَأْخذهُ صَاحبه وَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة فِي الثَّوْب
وَلَو غصب خمر مُسلم فخلله لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك وَله أَن يَأْخُذهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَال قَائِم
وَلَو اسْتهْلك الْغَاصِب الْخلّ فَإِنَّهُ يضمن خلا مثله
وَلَو غصب عصير مُسلم فتخمر عِنْده يضمن قيمَة الْعصير لِأَنَّهُ صَار مُسْتَهْلكا فِي حق الْمُسلم معنى
وَلَو غصب خمر مُسلم فاستهلكه لَا ضَمَان عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا قيمَة لَهَا
وَلَو اسْتهْلك خمر ذمِّي أَو عصب فَهَلَكت عِنْده يضمن قيمتهَا
وَلَو أتلفهَا الذِّمِّيّ يضمن مثلهَا وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يضمن
وَكَذَا إِذا أتلف الْخِنْزِير فَهُوَ على هَذَا الِاخْتِلَاف وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو غصب جلدا فدبغه فَإِن كَانَ جلدا لمذكى ودبغه بِمَا لَا قيمَة لَهُ مثل المَاء وَالتُّرَاب فلصاحبه أَن يَأْخُذهُ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عين مَال من جِهَة الْغَاصِب بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْغسْل
وَإِن دبغه بِمَا لَهُ قيمَة مثل العفص والقرظ فصاحبه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمنه قِيمَته غير مدبوغ وَإِن شَاءَ أَخذه وَأَعْطَاهُ مَا زَاد الدّباغ فِيهِ لِأَن لَهُ فِيهِ عين مَال قَائِم فَصَارَ كالصبغ فِي الثَّوْب
وَإِن كَانَ جلد ميتَة أَخذه من بَيت صَاحبه
فدبغه بِمَا لَيْسَ لَهُ(3/95)
قيمَة فلصاحبه أَخذه بِلَا شَيْء
وَإِن دبغه بِمَا لَهُ قيمَة فلصاحبه أَن يَأْخُذهُ وَيغرم لَهُ مَا زَاد الدّباغ فِيهِ لِأَن الْجلد صَار مَالا بِمَال الْغَاصِب وَهُوَ عين قَائِم
وَلَو هلك عِنْد الْغَاصِب لَا ضَمَان عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاع لِأَن الدّباغ لَيْسَ بِإِتْلَاف
فَأَما إِذا استهكله فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ عِنْد أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يضمن قيمَة الْجلد مدبوغا وبنقص عَنهُ مَا زَاد الدّباغ فِيهِ وَالْمَسْأَلَة تذكر فِي الخلافيات
وَأما إِذا أتلف الْغَاصِب الْمَغْصُوب على وَجه يبْقى مُنْتَفعا بِهِ أَو هلك على وَجه لَا ينْتَفع بِهِ بِأَن احْتَرَقَ وَنَحْوه ينظر إِن كَانَ مثلثا يضمن مثله وَإِن لم يكن مثلثا يلْزمه قِيمَته يَوْم الْغَصْب لِأَنَّهُ صَار متلفا من ذَلِك الْوَقْت وَمَتى ضمن وَاخْتَارَ الْمَالِك الضَّمَان فَإِنَّهُ يملك الْمَغْصُوب من وَقت الْغَصْب بطرِيق الظُّهُور أَو بطرِيق الْإِسْنَاد على حسب مَا قيل فِيهِ وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يملك
وَكَذَلِكَ إِذا أبق العَبْد لم يعرف قِيَامه بتصادقهما أَو قَامَت الْبَيِّنَة على الْمَوْت فَهُوَ على هَذَا الْخلاف
وَلَو ظهر حَيا لَا يعود ملك الْمَالِك فِيهِ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
ولقب الْمَسْأَلَة المضمونات هَل تملك بأَدَاء الضَّمَان أم لَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو أَنه هلك الْمَغْصُوب الْمثْلِيّ أَو انْقَطع الْمثْلِيّ عَن أَيدي النَّاس واختصما فِي حَال انْقِطَاعه فَإِن القَاضِي يَقُول لَهُ إِن شِئْت تَتَرَبَّص حَتَّى(3/96)
تَأْخُذ مثل حَقك فِي أَوَانه وَإِن شِئْت تَأْخُذ الْقيمَة فَإِن اخْتَار أَخذ الْقيمَة كَيفَ يحكم بذلك قَالَ أَبُو حنيفَة يحكم على الْغَاصِب بِقِيمَتِه يَوْم الْخُصُومَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَوْم الْغَصْب
وَقَالَ مُحَمَّد يحكم بِقِيمَتِه عِنْد آخر انْقِطَاعه
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَنَّهُ حَقه عَن الْعين إِنَّمَا يَنْقَطِع يَوْم الْخُصُومَة حَيْثُ اخْتَار الْقيمَة فَيجب اعْتِبَار الْقيمَة فِي هَذَا الْوَقْت
وَلَو غصب جَارِيَة فَولدت عِنْد الْغَاصِب ولدا وانتقصت بِالْولادَةِ فَردهَا على الْمَالِك هَل يضمن نُقْصَان الْولادَة إِن كَانَ فِي الْوَلَد وَفَاء بِهِ أَو قِيمَته أَكثر فَإِنَّهُ ينجبر النُّقْصَان بِهِ وَعَلِيهِ أَن يرد الْجَارِيَة مَعَ الْوَلَد وَلَا يضمن النُّقْصَان عِنْد أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة وَعند زفر يضمن
وَإِن لم يكن فِي الْوَلَد وَفَاء بِهِ أَو قِيمَته أَكثر فَإِنَّهُ ينجبر النُّقْصَان بِهِ وَعَلِيهِ أَن يرد الْجَارِيَة مَعَ الْوَلَد وَلَا يضمن النُّقْصَان عِنْد أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة وَعند زفر يضمن
وَإِن لم يكن فِي الْوَلَد وَفَاء بِهِ فَإِنَّهُ ينجبر بِقَدرِهِ وَيضمن الْبَاقِي
وَلَو مَاتَت من الْولادَة وَبَقِي وَلَدهَا فَإِنَّهُ يضمن قيمتهَا يَوْم الْغَصْب وَلَا ينجبر النُّقْصَان بِالْوَلَدِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَفِي رِوَايَة أُخْرَى ينجبر
وَلَو هلك الْوَلَد قبل الرَّد يجب عَلَيْهِ نُقْصَان الْولادَة وَجعل كَأَن الْوَلَد لم يكن
هَذَا إِذا كَانَ الْحَبل عِنْد الْغَاصِب من الزِّنَا فَأَما إِذا كَانَ الْحَبل من الْمولى أَو من الزَّوْج فَإِنَّهُ لَا يضمن الْغَاصِب وَإِن مَاتَت الْجَارِيَة لِأَن(3/97)
التّلف حصل بِسَبَب من جِهَة الْمولى فَصَارَ كَمَا لَو قَتلهَا الْمولى فِي يَد الْغَاصِب وَالله أعلم(3/98)
كتاب الدِّيات
يحْتَاج إِلَى بَيَان الْقَتْل الْمُوجب للْقصَاص وَالْقَتْل الْمُوجب للدية
وَإِلَى بَيَان مِقْدَار الدِّيَة وكيفيتها فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس وعَلى من تجب
أما بَيَان الأول فَنَقُول إِن الْجِنَايَة على الْآدَمِيّ نَوْعَانِ فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس
وكل وَاحِد مِنْهُمَا على نَوْعَيْنِ مُوجب للْقصَاص وَمُوجب لِلْمَالِ
أما الْجِنَايَة فِي النَّفس الْمُوجبَة للْقصَاص فنوع وَاحِد وَهُوَ الْقَتْل الْعمد الْخَالِي عَن الشُّبْهَة لقَوْله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام الْعمد قَود وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول يجب بِهِ أَحدهمَا إِمَّا الْقَتْل أَو الدِّيَة وَالْخيَار إِلَى الْوَلِيّ وَفِي قَول الْوَاجِب هُوَ الْقصاص عينا لَكِن للْوَلِيّ حق الْعُدُول إِلَى المَال من غير رضَا الْقَاتِل(3/99)
وَلَا خلاف أَنه إِذا لم يقدر على اسْتِيفَاء الْقصاص من كل وَجه فَإِن لَهُ حق الْعُدُول إِلَى المَال فَإِن من قطع يَد إِنْسَان وَيَد الْقَاطِع شلاء أَو منقوصة بإصبع أَو شج رَأس إِنْسَان وَرَأس الشاج أَصْغَر أَو أكبر فَإِنَّهُ لَا يجب الْقصاص عينا بل الْوَلِيّ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِك وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَلِكَ إِذا تعذر اسْتِيفَاء الْقصاص لِمَعْنى فَإِنَّهُ يجب المَال حَتَّى إِن الْقصاص إِذا كَانَ مُشْتَركا بَين رجلَيْنِ فَعَفَا أَحدهمَا فَإِنَّهُ يَنْقَلِب نصيب الآخر مَالا
وَكَذَلِكَ الخاطىء مَعَ الْعَامِد أَو الصَّغِير الْكَبِير أَو الْمَجْنُون والعاقل إِذا اشْتَركَا فِي الْقَتْل وَتعذر اسْتِيفَاء الْقصاص فِي حق أحد الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ يجب المَال عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ
وَأما الآب وَالْأَجْنَبِيّ إِذا اشْتَركَا فِي قتل الابْن فَلَا يجب الْقصاص على الْأَب بِالْإِجْمَاع وَلَا يجب على الشَّرِيك عندنَا وَلَكِن يجب المَال وَعند الشَّافِعِي يجب الْقصاص على الْأَجْنَبِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو وجد الْقَتْل الْعمد من الْجَمَاعَة فِي حق الْوَاحِد فَإِنَّهُم يقتلُون بِهِ بِالْإِجْمَاع قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَو اجْتمع أهل صنعاء على قَتله لقتلتهم بِهِ
وَأما الْوَاحِد إِذا قتل جمَاعَة فَإِنَّهُ يقتل وَلَا يجب شَيْء من الدِّيَة
وَعند الشَّافِعِي يجمع بَين الْقَتْل وَالدية فَيكون الْقَتْل بِمُقَابلَة الْوَاحِد وَتجب الدِّيَة فِي حق كل وَاحِد من البَاقِينَ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو قطع جمَاعَة يَد وَاحِد لَا تقطع أَيْديهم بهَا وَلَكِن يجب عَلَيْهِم دِيَة الْيَد
وَأما الْوَاحِد إِذا قطع يَد جمَاعَة فَإِنَّهُ تقطع يَده وَيجب عَلَيْهِ الدِّيَة فِي البَاقِينَ(3/100)
وَعند الشَّافِعِي الْأَيْدِي تقطع بيد وَاحِدَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْحر يقتل بِالْعَبدِ خلافًا للشَّافِعِيّ
وَالْعَبْد يقتل بِالْحرِّ بِالْإِجْمَاع وَيجْرِي الْقصاص بَين الصَّغِير وَالْكَبِير وَالذكر وَالْأُنْثَى وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِي النَّفس لما تلونا من النَّص خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَجْمعُوا أَن الْمُسلم لَا يقتل بالمستأمن وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ
وَأما الْمُسْتَأْمن هَل يقتل بالمستأمن فِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَو قتل إِنْسَان رجلا عمدا فَحق اسْتِيفَاء الْقود إِلَى الْوَلِيّ الْكَبِير إِن كَانَ وَاحِدًا وَلَو كَانُوا أَكثر فللكل
فَأَما إِذا كَانَ الْكل صغَارًا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ بَعضهم قَالُوا الِاسْتِيفَاء إِلَى السُّلْطَان وَبَعْضهمْ قَالُوا ينْتَظر إِلَى بلوغهم أَو بُلُوغ أحدهم
أما إِذا كَانَ الْبَعْض كبارًا وَالْبَعْض صغَارًا فقد قَالَ أَبُو حنيفَة للكبير ولَايَة الِاسْتِيفَاء وعَلى قَوْلهم يأخر إِلَى وَقت بُلُوغ الصغار وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما اللَّقِيط إِذا قتل عمدا فولاية اسْتِيفَاء الْقصاص إِلَى السُّلْطَان عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف لَا يَسْتَوْفِي وَلَكِن تجب الدِّيَة وَهِي مَسْأَلَة كتاب اللَّقِيط
وَأما الْقَتْل الْمُوجب لِلْمَالِ فأنواع عمد مَحْض فِيهِ شُبْهَة وَشبه الْعمد وَقتل الْخَطَأ وَالْقَتْل بطرِيق التسبيب
أما الأول فَمَا ذكرنَا من قتل الْمُسْتَأْمن وَنَحْوه(3/101)
وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من لَهُ الْقصاص فِي الطّرف إِذا استوفى الطّرف وسرى إِلَى النَّفس وَمَات لَا يجب الْقصاص لأجل الشُّبْهَة وَتجب الدِّيَة وعَلى قَوْلهم لَا يجب شَيْء
وَأَجْمعُوا أَن الإِمَام إِذا قطع يَد السَّارِق أَو البزاغ أَو الْخِتَان والفصاد والمأمور بِقطع الْيَد إِذا سرى فعلهم لَا يجب عَلَيْهِم شَيْء وَهِي تعرف فِي الخلافيات
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من لَهُ الْقصاص فِي النَّفس إِذا استوفى فِي الطّرف ثمَّ عَفا عَن النَّفس وبرأ لَا يقطع طرفه وَلَكِن يجب أرش الْيَد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدهم لَا يجب شَيْء
وَلَو سرى إِلَى النَّفس لَا يجب شَيْء وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من شج رَأس إِنْسَان فعفى عَنْهَا ثمَّ سرى إِلَى النَّفس تجب الدِّيَة دون الْقود
وَقَالُوا لَا يجب شَيْء
وَمن قَالَ لغيره اقتلني فَقتله عمدا أم خطأ تجب الدِّيَة دون الْقود فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب شَيْء
وَلَو قَالَ اقْتُل عَبدِي فَقتله لَا يجب شَيْء لِأَنَّهُ أمره فِيمَا هُوَ حَقه
وَلَو قَالَ لَهُ اقْتُل وَلَدي وَلَا وَارِث لَهُ سوى الْأَب فَقتله يقتل الْقَاتِل لِأَنَّهُ لَا حق لَهُ فِي دم وَلَده بِخِلَاف نَفسه وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ تجب الدِّيَة اسْتِحْسَانًا(3/102)
وَلَو عَفا الْمَجْرُوح عَن الْجراحَة ثمَّ مَاتَ مِنْهُ صَحَّ عَفوه اسْتِحْسَانًا
وَكَذَلِكَ الْوَارِث إِذا عَفا قبل موت الْمَجْرُوح يَصح الْعَفو اسْتِحْسَانًا لِأَن لَهُ حَقًا
وَلَو قَالَ الرجل اقْتُل أخي وَهُوَ وَارثه فَقتل لَا يجب الْقود اسْتِحْسَانًا وَتجب الدِّيَة وَعند زفر يقتل وَلِهَذَا نَظَائِر
وَأما الثَّانِي فَهُوَ الْقَتْل بِآلَة لم تُوضَع لَهُ وَلم يحصل بِهِ الْمَوْت غَالِبا مثل السَّوْط الصَّغِير والعصا الصَّغِيرَة فَإِنَّهُ يُوجب المَال دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع
فَأَما الْقَتْل بالعصا الْكَبِيرَة وَبِكُل آلَة يحصل بهَا الْمَوْت غَالِبا لَكِنَّهَا لَا تجرح فَعِنْدَ أبي حنيفَة هُوَ شبه الْعمد لَا يُوجب الْقود وَعِنْدَهُمَا يُوجب الْقود وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وعَلى هَذَا إِذا ضرب بِالسَّوْطِ الصَّغِير ووالى فِي الضربات حَتَّى مَاتَ لَا يجب الْقود عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدهم يجب وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْقَتْل الْخَطَأ فَهُوَ أَن يَرْمِي سَهْما إِلَى صيد فَأصَاب آدَمِيًّا أَو أَرَادَ أَن يطعن قَاتل أَبِيه فتقدمه رجل فَوَقع فِيهِ وَنَحْو ذَلِك
وَهُوَ مُوجب لِلْمَالِ دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة}(3/103)
وَأما الْقَتْل بطرِيق التسبيب فنحو من حفر بِئْرا على قَارِعَة الطَّرِيق فَوَقع فِيهِ إِنْسَان وَمَات فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الدِّيَة دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ مسبب للْقَتْل وَلَيْسَ بمباشر لِأَن الْحفر لَيْسَ بقتل
وعَلى هَذَا شُهُود الْقصاص إِذا رجعُوا لَا يجب عَلَيْهِم الْقصاص وَلَكِن تجب عَلَيْهِم الدِّيَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُم الْقَتْل مُبَاشرَة وَإِنَّمَا وجد مِنْهُم سَبَب الْقَتْل
وَأما بَيَان حكم مَا دون النَّفس فَنَقُول كل مَا يُمكن فِيهِ الْقصاص وَهُوَ الْفِعْل الْعمد الْخَالِي عَن الشُّبْهَة فَإِنَّهُ يُوجب الْقصاص
وكل مَا لَا يُمكن الْقصاص وَهُوَ الْفِعْل الْخَطَأ وَمَا فِيهِ شُبْهَة فَفِي بعض الْأَعْضَاء تجب دِيَة كَامِلَة وَفِي بعض الْأَعْضَاء يجب أرش مُقَدّر وَفِي الْبَعْض تجب حُكُومَة الْعدْل فَنَقُول لَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَنه لَا يجْرِي الْقصاص فِيمَا دون النَّفس بَين العبيد وَلَا بَين الْأَحْرَار وَالْعَبِيد وَلَا بَين الذّكر وَالْأُنْثَى لِأَن الْقصاص فِيهَا مَبْنِيّ على التَّسَاوِي فِي الْمَنَافِع والأروش وَلَا مُسَاوَاة بَين هَؤُلَاءِ فِي مَنَافِع الْأَطْرَاف والأروش وَلِهَذَا لَا تقطع الْيَد الصَّحِيحَة بالشلاء وَلَا بمنقوصة الْأَصَابِع
وَكَذَا لَا تقطع الْيُمْنَى إِلَّا باليمنى وَلَا الْيُسْرَى إِلَّا باليسرى
وَكَذَلِكَ فِي أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ يُؤْخَذ إِبْهَام الْيُمْنَى بإبهام الْيُمْنَى والسبابة بالسبابة وَالْوُسْطَى بالوسطى وَلَا يقطع الْأَصَابِع إِلَّا بِمِثْلِهَا من الْقَاطِع
وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذ الْعين الْيُمْنَى باليسرى وَلَا الْعين الْيُسْرَى باليمنى(3/104)
جب القوكذلك فِي الْأَسْنَان الثَّنية بالثنية والناب بالناب والضرس بالضرس وَلَا يُؤْخَذ الْأَعْلَى بالأسفل وَلَا الْأَسْفَل بالأعلى لما ذكرنَا من التَّفَاوُت فِي الْمَنَافِع وَإِنَّمَا يجْرِي الْقصاص فِيمَا يُمكن فِيهِ التَّسَاوِي لَا فِيمَا لَا يُمكن
وَلِهَذَا لَو قطع الْكَفّ من الْمفصل أَو من الْمرْفق أَو من الْكَتف يجب الْقصاص
وَلَو قطع من الساعد أَو من الْعَضُد لَا يجب لِأَنَّهُ لَا يعرف التَّسَاوِي
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ فِي غير المفاصل
وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْنَان إِذا قلع أَو كسر يجب الْقصاص فيقلع سنّ القالع وَيكسر بِقَدرِهِ بالمبرد
وَأما الْعين إِن قورت فَلَا يُمكن الْقصاص فِيهَا فَإِن كَانَت الْعين قَائِمَة وَذهب ضوءها فالقصاص مُمكن بِأَن يَجْعَل على وَجه الْقطن المبلول وتحمى مرْآة وتقرب من عينه حَتَّى يذهب ضوءها
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يجب الْقصاص فِي الْأَحول لِأَن الْحول نقص فِي الْعين والمماثلة شَرط
وَفِي الْأذن إِذا قطعت كلهَا أَو بَعْضهَا مَعْرُوفا يقْتَصّ
وَأجْمع أَصْحَابنَا على الْقصاص فِي الْحَشَفَة والمارن
وَاخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي الْأنف وَالذكر وَاللِّسَان إِذا استوعب كل وَاحِد مِنْهُمَا فَعِنْدَ أبي يُوسُف يجب الْقصاص وَعند مُحَمَّد لَا يجب
وَإِنَّمَا يُرِيد بِقطع الْأنف كل المارن فَأَما قَصَبَة الْأنف فَعظم وَأَجْمعُوا أَنه لَا يجب الْقصاص فِي الْعظم لعدم الْإِمْكَان
وَفِي حلق اللِّحْيَة وَالرَّأْس والحاجب والشارب إِذا لم ينْبت لَا(3/105)
يجب الْقصاص وَرُوِيَ فِي النَّوَادِر أَنه يجب الْقصاص
وَأما فِي الشجاج فَلَا خلاف أَنه يجب الْقصاص فِي الْمُوَضّحَة بِأَن يَنْتَهِي السكين إِلَى الْعظم وَلَا خلاف أَنه لَا يجب الْقصاص فِيمَا بعد الْمُوَضّحَة من الهاشمة وَغَيرهَا
وَأما فِيمَا قبل الْمُوَضّحَة فقد ذكر فِي الأَصْل أَنه يجب الْقصاص لِأَنَّهُ يُمكن تَقْدِير غور الْجراحَة بمسمار ثمَّ يعْمل حَدِيدَة على قدرهَا فتغمد فِي اللَّحْم إِلَى آخرهَا فيستوفى مثل مَا فعل
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب بِهِ الْقصاص
وَأما بَيَان وجوب الدِّيَة ومقدارها وكيفيتها فَنَقُول الْجِنَايَة الْمُوجبَة للدية إِمَّا إِن كَانَت فِي النَّفس أَو فِيمَا دونهَا
أما إِذا كَانَت فِي النَّفس فَفِيمَا بَين الْأَحْرَار تجب دِيَة كَامِلَة يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِير وَالْكَبِير والوضيع والشريف وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي دِيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم فضَّة وَفِي الْمَجُوس ثمانماثة دِرْهَم
ثمَّ مِقْدَار الدِّيَة فِي الْأَحْرَار ألف دِينَار أَو عشرَة آلَاف دِرْهَم فضَّة أَو مائَة من الْإِبِل كل وَاحِدَة أصل وَهُوَ الظَّاهِر فِي قَول أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد كَذَلِك وَقَالا من الْبَقر مِائَتَا بقرة وَمن الْغنم ألفا شَاة وَمن الْحلَل مِائَتَا حلَّة كل حلَّة ثَوْبَان إِزَار ورداء
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة فِي كتاب المعاقل مَا يدل على مثل قَوْلهم فَإِنَّهُ قَالَ إِذا صَالح الْوَلِيّ على أَكثر من مِائَتي بقرة أَو مِائَتي حلَّة لم يجز فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَلَو لم تكن هَذِه الْأَشْيَاء أصولا لجَاز(3/106)
الصُّلْح على أَكثر مِنْهَا كَمَا لَو صَالح على عرُوض أخر تزداد قيمتهاعن على الدِّيَة وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي من الْإِبِل وَالدَّنَانِير مثل قَوْلنَا وَفِي الدَّرَاهِم قَالَ اثْنَي عشر ألفا
وَأَصله مَا روى عُبَيْدَة السَّلمَانِي عَن عمر أَنه قضى فِي الدِّيَة من الدَّرَاهِم بِعشر آلَاف وَمن الدَّنَانِير بِأَلف وَمن الْإِبِل بِمِائَة وَمن الْبَقر بمائتين وَمن الشياه بِأَلفَيْنِ وَمن الْحلَل بمائتين
وَأما كَيْفيَّة الْأَسْنَان فِي الْإِبِل فَقَالَ أَصْحَابنَا فِي دِيَة الْخَطَأ إِنَّهَا خسمة أَنْوَاع عشرُون بنت مَخَاض وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود
وَقَالَ الشَّافِعِي عشرُون ابْن لبون مَكَان ابْن مَخَاض
وَأما دِيَة شبه الْعمد فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف أَربَاعًا خمس وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض وَخمْس وَعِشْرُونَ بنت لبون وَخمْس وَعِشْرُونَ حقة وَخمْس وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود
وَقَالَ مُحَمَّد فِي شبه الْعمد ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلقَة وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والمغيرة رَضِي الله عَنْهُم(3/107)
وَذكر فِي الأَصْل وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي شبه الْعمد أَثلَاث ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا
وَأما حكم الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس خطأ فَنَقُول قد تجب دِيَة كَامِلَة بتفويت الْعُضْو وَقد تجب الدِّيَة بتفويت معنى فِي النَّفس تفوت بِهِ النَّفس حكما فِي حق جنس الْمَنْفَعَة وَقد يجب أرش مُقَدّر وَقد تجب حُكُومَة الْعدْل
فَأَما الْعُضْو الَّذِي يجب كَمَال الدِّيَة بتفويته فَهُوَ الْعُضْو الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي الْبدن يفوت بِهِ جمال كَامِل أَو مَنْفَعَة بهَا قوام النَّفس وَذَلِكَ نَحْو اللِّسَان كُله وَالْأنف كُله وَالذكر كُله
وَتجب أَيْضا بِقطع الْحَشَفَة والمارن وَبَعض اللِّسَان إِذا كَانَ يمنعهُ من الْكَلَام وَكَذَا الْإِفْضَاء بَين السَّبِيلَيْنِ بِحَيْثُ لَا يسْتَمْسك الْبَوْل وَالْغَائِط
وَكَذَا حلق شعر رَأس الرجل وَالْمَرْأَة وَحلق لحية الرجل بِحَيْثُ لَا ينْبت وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي تجب حُكُومَة الْعدْل
وَأما حلق لحية العَبْد ذكر فِي الأَصْل تجب فِيهِ حُكُومَة الْعدْل وَفِي رِوَايَة الْحسن تجب قيمَة العَبْد
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الهندواني إِنَّمَا تجب الدِّيَة بحلق اللِّحْيَة إِذا كَانَت كَامِلَة يتجمل بهَا فَإِن كَانَت طاقات لَا يتجمل بهَا فَلَا شَيْء فِيهَا
وَكَذَلِكَ فِي لحية تشين وَلَا تزين بِأَن كَانَت على ذقنه شَعرَات
وَإِن كَانَت لحية يَقع بهَا الْجمال فِي الْجُمْلَة وَلَا يَقع بهَا الشين تجب فِيهَا حُكُومَة الْعدْل(3/108)
وَأما فَوَات الْمَعْنى فَهُوَ ذهَاب الْعقل وَالْبَصَر والسمع والشم والذوق وَالْكَلَام وَالْجِمَاع مَعَ قيام الْآلَة الَّتِي تقوم بهَا هَذِه الْمَنَافِع صُورَة فَتجب بِكُل وَاحِد مِنْهَا الدِّيَة
وَإِنَّمَا يعرف فَوَات الْبَصَر بِأَن يلقى بَين يَدَيْهِ حَيَّة فَإِن هرب يعلم أَن بَصَره بَاقٍ
وَفِي السّمع يتغفل ثمَّ يُنَادي فَإِن أجَاب يعلم أَنه لم يفت سَمعه
وَأما الْعُضْو الَّذِي فِي الْبدن مِنْهُ اثْنَان كالعينين والأذنين والشفتين والحاجبين إِذا حلقا على وَجه لَا ينبتان وَالْيَدَيْنِ والرجليين وثديي الْمَرْأَة وحلمتيهما فَفِيهَا الدِّيَة وَفِي وَاحِد من ذَلِك نصف الدِّيَة
وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ إِن قطعهمَا مَعَ الذّكر جملَة من جَانب وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ ديتان دِيَة بِإِزَاءِ الذّكر ودية بِإِزَاءِ الْأُنْثَيَيْنِ
وَإِن قطع الذّكر أَولا ثمَّ الْأُنْثَيَيْنِ يجب ديتان أَيْضا لِأَن بعد قطع الذّكر مَنْفَعَة الْأُنْثَيَيْنِ قَائِمَة وَهِي إمْسَاك الْمَنِيّ
وَأما إِذا قطع الْأُنْثَيَيْنِ أَولا ثمَّ الذّكر تجب الدِّيَة بِقطع الْأُنْثَيَيْنِ لزوَال مَنْفَعَة مَخْصُوصَة وَتجب بِقطع الذّكر حُكُومَة الْعدْل لِأَن مَنْفَعَة الإيلاد بطلت بِفَوَات الْأُنْثَيَيْنِ
وَفِي أشفار الْعَينَيْنِ كلهَا الدِّيَة وَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ربع الدِّيَة إِذا لم ينْبت
وَكَذَا فِي قطع الأجفان مَعَ الأشفار تجب دِيَة كَامِلَة وَتصير الأجفان تَابِعَة للأشفار
فَأَما إِذا قطع الأجفان الَّتِي لَا أشفار لَهَا تجب حُكُومَة الْعدْل وَصَارَ(3/109)
كَقطع الْأَصَابِع وَحدهَا يُوجب دِيَة كَامِلَة لِأَن الْكَفّ تبع
وَلَو قطع الْكَفّ بِدُونِ الْأَصَابِع تجب حُكُومَة الْعدْل
وَلَو قطع الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع تجب دِيَة وَاحِدَة لِأَن الْكَفّ تبع كَذَا هَذَا
وَفِي أَصَابِع الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن كلهَا الدِّيَة الْكَامِلَة
وَفِي كل إِصْبَع عشر الدِّيَة لَا فضل للكبيرة على الصَّغِيرَة
ثمَّ مَا كَانَ من الْأَصَابِع فِيهِ ثَلَاثَة مفاصل فَفِي كل مفصل ثلث دِيَة الإصبع وَمَا كَانَ فِيهِ مفصلان فَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نصف دِيَة الإصبع
وإصبع الْيَد وَالرجل فِي الْأَرْش سَوَاء
وَفِي الْأَسْنَان فِي كل سنّ إِذا سَقَطت خَمْسمِائَة دِرْهَم اسْتَوَى فِيهِ الأضراس والثنايا وَغَيرهَا
فَإِذا اسودت السن من الضَّرْبَة أَو احْمَرَّتْ أَو اصْفَرَّتْ فَفِيهِ الْأَرْش تَاما عِنْد أبي حنيفَة
وَقد روى أَبُو يُوسُف عَنهُ أَنه قَالَ فِيهَا حُكُومَة الْعدْل
وروى مُحَمَّد عَنهُ أَنه قَالَ إِن كَانَ حرا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن كَانَ عبدا فَفِيهِ حُكُومَة الْعدْل
وَقَالَ فِيهَا حُكُومَة الْعدْل
ثمَّ هَذَا الحكم فِي الْأَسْنَان بعد أَن يستأنى بهَا سنة فَإِن نَبتَت بَيْضَاء مُسْتَقِيمَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِن نَبتَت سَوْدَاء أَو حَمْرَاء أَو صفراء أَو خضراء جعلت كَأَن لم تكن لِأَنَّهُ لم يحصل بهَا الْجمال وَالْمَنْفَعَة
وَأما الشجاج فقد ذكر الْمَشَايِخ أَن الشجاج إِحْدَى عشرَة شجة(3/110)
أَولهَا الخادشة وَهِي الَّتِي تخدش الْجلد
وَبعدهَا الدامعة وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا مَا يشبه الدمع
وَبعدهَا الدامية وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا الدَّم
وَبعدهَا الباضعة وَهِي الَّتِي تبضع اللَّحْم
وَبعدهَا المتلاحمة وَهِي الَّتِي تذْهب فِي اللَّحْم أَكثر مِمَّا تذْهب الباضعة هَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد المتلاحمة قبل الباضعة وَهِي الَّتِي يتلاحم فِيهَا الدَّم ويسود
وَبعدهَا السمحاق وَهِي الَّتِي تصل إِلَى جلدَة رقيقَة فَوق الْعظم تِلْكَ الْجلْدَة تسمى السمحاق
ثمَّ الْمُوَضّحَة وَهِي الَّتِي توضح الْعظم
ثمَّ الهاشمة وَهِي الَّتِي تهشم الْعظم
ثمَّ المنقلة وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا الْعظم على وَجه النَّقْل
ثمَّ الآمة وَهِي الَّتِي تصل إِلَى أم الدِّمَاغ وَهِي جلدَة تَحت الْعظم فَوق الدِّمَاغ
ثمَّ الدامغة وَهِي الَّتِي تخرق الْجلْدَة وَتصل إِلَى الدِّمَاغ
فَهَذِهِ أحدى عشرَة شجة
وَلم يذكر مُحَمَّدًا لخادشة وَلَا الدامغة لِأَن لَا يتَّصل بهما الحكم غَالِبا لِأَن الخادشة لَا يبقي لَهَا أثر وَلَا حكم للشجة الَّتِي لَا يبْقى لَهَا أثر والدامغة لَا يعِيش مَعهَا الْإِنْسَان فَيكون حكمه حكم الْقَتْل
ثمَّ فِي الشجاج الَّتِي قبل الْمُوَضّحَة تجب حُكُومَة الْعدْل
وَفِي الْمُوَضّحَة تجب خمس من الْإِبِل(3/111)
وَفِي الهاشمة عشر من الْإِبِل
وَفِي المنقلة خَمْسَة عشر من الْإِبِل
وَفِي الآمة ثلث الدِّيَة
ثمَّ مَوَاضِع الشجاج عندنَا هُوَ الرَّأْس وَالْوَجْه فِي مَوَاضِع الْعظم مثل الْجَبْهَة والوجنتين والصدغين والذقن دون الْخَدين وَلَا تكون الْأمة إِلَّا فِي الرَّأْس وَفِي الْوَجْه فِي الْموضع الَّذِي يخلص مِنْهُ إِلَى الدِّمَاغ
وَالصَّغِيرَة والكبيرة فِي ذَلِك سَوَاء لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل من غير فصل
ثمَّ الْجراح فِي سَائِر الْبدن لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أرش مَعْلُوم سوى الْجَائِفَة وَهِي الْجراحَة النافذة إِلَى الْجوف والمواضع الَّتِي تنفذ الْجراحَة مِنْهَا إِلَى الْجوف هِيَ الصَّدْر وَالظّهْر والبطن والجنبان دون الرَّقَبَة وَالْحلق وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وفيهَا ثلث الدِّيَة
فَإِذا نفذت إِلَى الْجَانِب الآخر فَهِيَ جائفتان وَفِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ثلث الدِّيَة فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه حكم فِي جَائِفَة نفذت إِلَى الْجَانِب الآخر بِثُلثي الدِّيَة وَذَلِكَ بِحَضْرَة الصَّحَابَة من غير خلاف
وَأما مَا يجب حُكُومَة الْعدْل فِيهِ فقد ذكرنَا بعضه
وَمن ذَلِك كسر الضلع وَكسر قَصَبَة الْأنف وَكسر كل عظم من الْبدن سوى السن فِيهِ حُكُومَة الْعدْل
وَكَذَا فِي ثدي الرجل وَفِي حلمة ثدييه حُكُومَة عدل دون ذَلِك وَفِي أَحدهمَا نصف ذَلِك
وَفِي لِسَان الْأَخْرَس وَذكر الْخصي والعنين وَالْعين الْقَائِمَة الذَّاهِب نورها وَالسّن السَّوْدَاء وَالْيَد الشلاء وَالذكر الْمَقْطُوع(3/112)
الْحَشَفَة والكف الْمَقْطُوع الْأَصَابِع وَكسر الظفر وقلعة بِحَيْثُ لَا ينْبت أَو نبت مَعَ الْعَيْب
وَأما الصَّبِي الطِّفْل فَفِي لِسَانه حُكُومَة عدل مَا لم يتَكَلَّم
وَفِي يَده وَرجله وَذكره إِذا كَانَ يَتَحَرَّك مثل الْكَبِير وَفِي المارن وَالْأُذن الْمَقْصُود هُوَ الْجمال فَحكمه حكم الْكَبِير وَفِي الْمعِين إِذا وجد مَا يسْتَدلّ بِهِ على الْبَصَر كالكبير
وَفِي حلق رَأس إِنْسَان إِذا نبت أَبيض على قَول أبي حنيفَة لَا يجب شَيْء إِذا كَانَ حرا لِأَن الشيب لَيْسَ بِعَيْب وَإِن كَانَ عبدا يجب مَا نَقصه وَقَالَ أَبُو يُوسُف تجب حُكُومَة الْعدْل فيهمَا
وَفِي ثدي الْمَرْأَة المقطوعة الحلمة وَالْأنف الْمَقْطُوع الأرنبة والجفن الَّذِي لَا أشفار لَهُ حُكُومَة الْعدْل
ثمَّ الشَّجَّة إِذا التحمت وَنبت الشّعْر لَا يجب فِيهَا شَيْء على الشاج عِنْد أبي حنيفَة لِأَن الشين الَّذِي لحقه بِسَبَبِهِ قد زَالَ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف تجب عَلَيْهِ حُكُومَة عدل فِي الْأَلَم
وَقَالَ مُحَمَّد يلْزمه أُجْرَة الطَّبِيب
وَاخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَابنَا فِي كَيْفيَّة الْحُكُومَة فَقَالَ الطَّحَاوِيّ يقوم الْمَجْنِي عَلَيْهِ لَو كَانَ عبدا صَحِيحا وَيقوم وَبِه الشَّجَّة فَمَا نقص بَين الْقِيمَتَيْنِ كَانَت أرشا فِي شجة الْحر
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي يَقُول يقرب من الشَّجَّة الَّتِي لَهَا أرش مُقَدّر بالحزر وَالظَّن يحكم بذلك أهل الْعلم بالجراحات
وَأما حكم النِّسَاء فَنَقُول إِن دِيَة الْمَرْأَة على النّصْف من دِيَة الرجل بِإِجْمَاع الصَّحَابَة مثل عمر(3/113)
وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم فَإِنَّهُم قَالُوا دِيَة الْمَرْأَة على النّصْف من دِيَة الرجل إِلَّا أَن ابْن مَسْعُود قَالَ إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة وَالسّن فَإِنَّهَا كَالرّجلِ
وَأما فِيمَا دون النَّفس من الْمَرْأَة فَإِنَّهُ يعْتَبر بديتها فيتنصف كديتها لِأَن الْمَرْأَة فِي مِيرَاثهَا وشهادتها بِمَنْزِلَة النّصْف من الرجل فَكَذَا فِي الدِّيَة
وَقَالَ ابْن مَسْعُود تعاقل الْمَرْأَة الرجل فِيمَا كَانَ أَرْشه نصف عشر الدِّيَة يَعْنِي مَا كَانَ أقل من ذَلِك فالرجل وَالْمَرْأَة فِي ذَلِك سَوَاء وَاسْتدلَّ بالغرة
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب تعاقل الْمَرْأَة الرجل إِلَى ثلث دِيَتهَا يَعْنِي مَا كَانَ أقل من ثلث الدِّيَة فالرجل وَالْمَرْأَة فِيهِ سَوَاء
وَرُوِيَ أَن ربيعَة الرأت سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن رجل قطع إِصْبَع(3/114)
امْرَأَة فَقَالَ فِيهَا عشر من الْإِبِل قَالَ فَإِن قطع ثَلَاثًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثُونَ من الْإِبِل قَالَ فَإِن قطع أَرْبَعَة قَالَ فِيهَا عشرُون من الْإِبِل فَقَالَ ربيعَة لما عظم ألمها وزادت مصيبتها قل أَرْشهَا فَقَالَ لَهُ أعراقي أَنْت قَالَ لَا بل جَاهِل متعلم أَو عَالم متبين فَقَالَ هَكَذَا السّنة يَا ابْن أَخ أَرَادَ بذلك سنة زيد بن ثَابت
وَمَا قَالَ ربيعَة فَهُوَ حجتنا فِي الْمَسْأَلَة أَن مَا قَالُوا يُؤَدِّي إِلَى أَن يقل الأَرْض عِنْد كَثْرَة الْجِنَايَة وَهَذَا لَا يَصح لِأَن مَا دون النَّفس مُعْتَبر بدية النَّفس بِدلَالَة مَا زَاد على ثلث الدِّيَة
وَأما فِي العَبْد إِذا قَتله حر خطأ فَإِن كَانَ قَلِيل الْقيمَة فَإِنَّهُ يجب قِيمَته بِالْإِجْمَاع فَأَما إِذا كَانَ كَبِير الْقيمَة بِأَن زَادَت قِيمَته عَن دِيَة الْحر قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد يجب عشرَة آلَاف إِلَّا عشرَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ تجب قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت إِلَّا أَن عِنْد الشَّافِعِي تجب بِمُقَابلَة الْمَالِيَّة وَعند أبي يُوسُف تجب بِمُقَابلَة الدَّم وَلِهَذَا قَالَ مِقْدَار الدِّيَة يجب على الْعَاقِلَة وَيجب مُؤَجّلا فِي ثَلَاث سِنِين وَيدخل فِيهِ الْإِبِل كَمَا قَالَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما إِذا قَتله عبد خطأ فَإِنَّهُ يجب الدّفع أَو الْفِدَاء
وَأما إِذا جنى العَبْد على حر أَو على عبد غير الْمولي فَإِن كَانَ عمدا يجب الْقصاص وَإِن كَانَ خطأ فِي نفس أَو فِيمَا دونهَا قل أَرْشهَا أَو كثر فَذَلِك فِي رَقَبَة الْجَانِي وَلَيْسَ فِي ذمَّة الْمولى مِنْهُ شَيْء وَيكون(3/115)
الْمولى بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ دفع العَبْد بِالْجِنَايَةِ وَإِن شَاءَ فدى عَنهُ بِجَمِيعِ الْأَرْش لإِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك
فَإِن مَاتَ العَبْد قبل أَن يخْتَار الْفِدَاء فَلَا شَيْء على لمولى لِأَن الْحق مُتَعَلق بِالْعينِ فيزول بزواله وَإِن كَانَ بعد اخْتِيَار الْفِدَاء لم يبطل لِأَنَّهُ انْتقل الْحق إِلَى ذمَّة الْمولى بالتزامه
وَإِن جنى العَبْد على جمَاعَة فالمولى بِالْخِيَارِ بَين أَن يدْفع العَبْد إِلَيْهِم وَكَانَ مقسوما بَينهم على قدر مَا لكل وَاحِد مِنْهُم من أرش الْجِنَايَة وَبَين أَن يمسك العَبْد ويفدى بِأَرْش الْجِنَايَات كلهَا لما ذكرنَا
وَلَو تصرف الْمولى فِي العَبْد الْجَانِي بعد الْعلم بِالْجِنَايَةِ تَصرفا يُخرجهُ عَن ملكه نَحْو البيع وَالْهِبَة وَالْإِعْتَاق أَو أقرّ بِهِ لرجل أَو كَانَت أمة فاستولدها فَإِنَّهُ يصير مُخْتَارًا للْفِدَاء بِالدِّيَةِ إِن كَانَت الْجِنَايَة فِي النَّفس وبالأرش إِن كَانَت الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس لِأَن الْمُخَير بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا فعل مَا يدل على اخْتِيَار أَحدهمَا أَو منع من اخْتِيَار أَحدهمَا تعين الآخر للاختيار وَمَعَ هَذِه التَّصَرُّفَات تعذر الدّفع
وَإِن كَانَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ يلْزمه قيمَة عَبده إِذا كَانَت أقل من الْأَرْش لِأَنَّهُ لَا يصير مُخْتَارًا بِلَا علم وَلَكِن امْتنع التَّسْلِيم إِلَى الْوَلِيّ بِفِعْلِهِ مَعَ تعلق حق الْوَلِيّ بِهِ فَيصير متلفا عَلَيْهِ هَذَا الْقدر فليزمه ذَلِك الْقدر وَلَا حق لوَلِيّ الْجِنَايَة فِيمَا زَاد عَلَيْهِ
وَأما جِنَايَة الْمُدبر وَأم الْوَلَد فَفِي مَال الْمولى دون عَاقِلَته يعْتَبر الْأَقَل من أرش الْجِنَايَة وَمن قِيمَته لِأَن الأَصْل فِي جِنَايَة العَبْد هُوَ دفع الرَّقَبَة إِلَّا أَنه بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاد صَار مَانِعا من التَّسْلِيم من غير اخْتِيَار فَكَأَنَّهُ دبره وَهُوَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ فَيلْزمهُ الْأَقَل من ذَلِك لما ذكرنَا(3/116)
وَلَا يلْزم الْمولى بجنايتهما أَكثر من قيمَة وَاحِدَة وَإِن كثرت الأروش يَسْتَوِي فِيهِ من تقدم أَو تَأَخّر فِي الْجِنَايَة لِأَن الْمَنْع منع وَاحِد وَالضَّمان يتَعَلَّق بِهِ فَجعل كَأَن الْجِنَايَات اجْتمعت ثمَّ دبره وَهُوَ لَا يعلم بهَا
وَيعْتَبر قيمَة الْمُدبر لكل وَاحِد مِنْهُم يَوْم جنى عَلَيْهِ وَلَا يعْتَبر الْقيمَة يَوْم التَّدْبِير لِأَنَّهُ صَار مَانِعا بِالتَّدْبِيرِ السَّابِق عَن تَسْلِيمه فِي حَال الْجِنَايَة
وَأما جِنَايَة الْمكَاتب فعلية دون سَيّده وَدون عَاقِلَته يحكم عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَته وَمن أرش جِنَايَته
وَهَذَا لِأَن الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ دفع الرَّقَبَة وَتَسْلِيم رقبته مُمكن فِي الْجُمْلَة بِأَن عجز نَفسه فَيكون مُتَعَلقا بِرَقَبَتِهِ على طَرِيق التَّوَقُّف فَلَا ينْتَقل الْحق من رقبته إِلَى ذمَّته ليؤدي من كَسبه إِلَّا بِأحد معَان ثَلَاثَة إِمَّا بِحكم الْحَاكِم بأرشها عَلَيْهِ أَو يصطلحوا على الْأَرْش أَو يَمُوت وَيتْرك مَالا أَو ولدا وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا مَذْهَبنَا
وَقَالَ زفر إِن جِنَايَته تجب فِي ذمَّته بِمَنْزِلَة الْحر
وَثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي مَوَاضِع من ذَلِك أَن الْمكَاتب إِذا عجز قبل انْتِقَال الْجِنَايَة من رقبته يُقَال للْمولى ادفعه أَو افده وَعند زفر يُبَاع فِي الْأَرْش
وَمن ذَلِك أَيْضا أَن الْمكَاتب إِذا جنى ثمَّ جنى قبل الْقَضَاء بِالْجِنَايَةِ الأولى عَلَيْهِ يقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَة وَاحِدَة لِأَن الْجِنَايَة تتَعَلَّق بِالرَّقَبَةِ والرقبة الْوَاحِدَة تتضايق عَنْهُمَا كجنايتي العَبْد
وَعند زفر يحكم فِي كل جِنَايَة بِقِيمَتِه لِأَنَّهَا تجب عِنْده فِي الذِّمَّة وَلَا تضايق فِيهَا
وَأما جِنَايَة العَبْد وَالْمُدبر وَأم الْوَلَد على مَوْلَاهُم أَو على مَاله خطأ فَتكون هدرا لِأَنَّهُ لَو وَجب الضَّمَان يجب على العَبْد للْمولى وَالْمولى لَا يجب لَهُ مَال على عَبده(3/117)
وَكَذَا الْجِنَايَة من الْمولى عَلَيْهِم تكون هدرا أَيْضا إِلَّا أَن فِي الْمُدبر يجب عَلَيْهِ أَن يسْعَى فِي قِيمَته إِذا قتل الْمولى خطأ لِأَن الْعتْق وَصِيَّة فَلَا يجوز أَن يسلم للْقَاتِل
وَأما جِنَايَة الْمكَاتب على مَوْلَاهُ وَجِنَايَة مَوْلَاهُ عَلَيْهِ خطأ فلازمة لِأَن الْمكَاتب أَحَق بمنافعه وأكسابه فَيكون كَالْحرِّ سَوَاء
وَأما الْجَنِين فَنَقُول إِذا ضرب الرجل بطن امْرَأَة حرَّة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا فَعَلَيهِ الْغرَّة وَهِي عبد أَو أمة تعدل خَمْسمِائَة دِرْهَم ذكرا كَانَ الْجَنِين أَو أُنْثَى
وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَن لَا يجب شَيْء لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يكن فِيهِ حَيَاة وَقت الضَّرْب وَلِهَذَا لَو ضرب بطن دَابَّة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا لَا يجب الضَّمَان وَفِي الِاسْتِحْسَان يجب لإِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك
وَيكون على الْعَاقِلَة
وَلَو ألقته حَيا فَمَاتَ من سَاعَته فَعَلَيهِ الدِّيَة كَامِلَة على الْعَاقِلَة لِأَن صَارَت نفسا من كل وَجه
وَلَو مَاتَت الْأُم بِالضَّرْبِ ثمَّ خرج الْجَنِين مَيتا لَا يلْزمه الْغرَّة لاحْتِمَال أَنه مَاتَ بِسَبَب الخنق فَزَاد هَاهُنَا احْتِمَال آخر
وأصل الْوُجُوب ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا لَيْسَ نَظِيره
وَلَو ضرب بطن أمة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا يغرم نصف عشر قِيمَته من(3/118)
إِن كَانَ ذكرا وَعشر قيمتهَا إِذا كَانَ أُنْثَى وَقَالَ الشَّافِعِي فِيهِ عشر قيمَة الْأُم
وَهَذَا لما ذكرنَا أَن الْوَاجِب فِي الْجَنِين الْغرَّة بِالنَّصِّ وَهُوَ خَمْسمِائَة دِرْهَم وَذَلِكَ عشر دِيَة الْأُنْثَى وَنصف عشر دِيَة الذّكر وَالْقيمَة فِي الْأمة كالدية فِي الْحرَّة فَوَجَبَ عشر قيمتهَا إِن كَانَت أُنْثَى وَنصف عشر قِيمَته إِن كَانَ ذكرا بِنَاء على الْحر إِلَّا أَن مَا وَجب فِي جَنِين الْأمة فَهُوَ فِي مَال الضَّارِب حَالا لِأَن مَا دون النَّفس من الرَّقِيق ضَمَانه ضَمَان الْأَمْوَال وَذَلِكَ مِمَّا لَا تتحمله الْعَاقِلَة بِخِلَاف جَنِين الْحرَّة
وَأما بَيَان من تجب عَلَيْهِ الدِّيَة فَنَقُول كل دِيَة وَجَبت بِنَفس الْقَتْل فِي خطأ أَو شبة عمد أَو فِي عمد دَخلته شبهه تجب فِي ثَلَاث سِنِين على من وَجَبت عَلَيْهِ فِي كل سنة الثُّلُث
فالخطأ وَشبه الْعمد على الْعَاقِلَة
وَأما الْعمد الَّذِي تدخله الشُّبْهَة فيتحول مَالا فَهُوَ فِي مَال الْجَانِي فِي ثَلَاث سِنِين وَذَلِكَ مثل قتل الْأَب ابْنه وَالْمولى عَبده
وَكَذَلِكَ إِذا صولح من الْجِنَايَة على مَال لَا يجب على الْعَاقِلَة وَيجب على الْقَاتِل فِي مَاله حَالا لِأَنَّهُ مَا وَجب بِنَفس الْقَتْل وَإِنَّمَا وَجب بِعقد الصُّلْح فَإِن جعلاه مُؤَجّلا يكون مُؤَجّلا وَإِلَّا فَيكون حَالا كَثمن الْمَبِيع
وَكَذَا من أقرّ على نَفسه بِالْقَتْلِ خطأ فَالدِّيَة فِي مَاله فِي ثَلَاث سِنِين لَا على الْعَاقِلَة
وَكَذَلِكَ مَا وَجب بِجِنَايَة العَبْد فَإِنَّهُ لَا يكون على الْعَاقِلَة(3/119)
وأصل ذَلِك حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا لَا تعقل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا عبدا وَلَا صلحا وَلَا اعترافا وَلَا مَا دون أرش الْمُوَضّحَة إِلَّا أَن فِي الصُّلْح تجب حَالا وَفِي الْإِقْرَار والعمد الَّذِي فِيهِ شُبْهَة تجب عَلَيْهِ وَلَكِن مُؤَجّلا فِي ثَلَاث سِنِين لإِجْمَاع الصَّحَابَة أَن الدِّيَة تجب مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين فِي كل سنة الثُّلُث عِنْد انْقِضَائِهَا
وَكَذَلِكَ الحكم فِي الْحر من بدل النَّفس فَهُوَ فِي ثَلَاث سِنِين كالعشرة إِذا قتلوا وَاحِدًا خطأ فعلى عَاقِلَة كل وَاحِد مِنْهُم عشر الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين
وَلَا يغرم كل رجل من الْعَاقِلَة إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو أَرْبَعَة فِي ثَلَاث سِنِين فَإِن قلت الْعَاقِلَة حَتَّى صَار نصيب كل وَاحِد مِنْهُم أَكثر من ذَلِك يضم إِلَيْهِم أقرب الْقَبَائِل مِنْهُم فِي النّسَب من أهل الدِّيوَان كَانُوا أَو من غَيرهم حَتَّى لَا يلْزم الرجل مِنْهُم أَكثر من ذَلِك لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم بطرِيق الْإِعَانَة تَخْفِيفًا على قريبهم فَلَا يجوز أَن يجب عَلَيْهِم على وَجه فِيهِ تعسير عَلَيْهِم
وَأما أرش مَا دون النَّفس خطأ إِذا بلغ نصف عشر الدِّيَة فَهُوَ على الْعَاقِلَة فِي سنة
وَكَذَا فِي الْمَرْأَة إِذا بلغ نصف عشرَة دِيَتهَا يكون على الْعَاقِلَة فِي سنة لِأَن مَا دون النَّفس مُعْتَبر بِالدِّيَةِ
ثمَّ مَا زَاد فِي نصف الْعشْر إِلَى أَن يبلغ ثلث الدِّيَة فَفِي سنة قِيَاسا على مَا يجب على الْعَاقِلَة فِي السّنة الأولى
فَإِن زَاد على الثُّلُث فَالزِّيَادَة تجب فِي سنة أُخْرَى إِلَى الثُّلثَيْنِ
فَإِن زَاد على الثُّلثَيْنِ فَهِيَ فِي السّنة الثَّالِثَة(3/120)
ثمَّ الْعَاقِلَة من هم فعندنا الْعَاقِلَة هم أهل الدِّيوَان فِي حق من لَهُ الدِّيوَان وهم الْمُقَاتلَة وَمن لَا ديوَان لَهُ فعاقلته من كَانَ من عصبته فِي النّسَب
وَعند الشَّافِعِي لَا يلْزم أهل الدِّيوَان إِلَّا أَن يَكُونُوا من النّسَب
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ كَانَت الدِّيَة على الْقَبَائِل فَلَمَّا وضع عمر رَضِي الله عَنهُ الدَّوَاوِين جعلهَا على أهل الدِّيوَان وَذَلِكَ بِحَضْرَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من غير خلاف
وَتبين أَنه إِنَّمَا كَانَ على أهل الْقَبَائِل للتناصر فَلَمَّا صَار التناصر بالديوان اعْتبر الدِّيوَان لوُجُود الْمَعْنى وَلِهَذَا لَا تكون الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ وَالْعَبْد وَالْمُدبر وَالْمكَاتب من جملَة الْعَاقِلَة لأَنهم لَيْسُوا من أهل التناصر وَلَا من أهل الْإِعَانَة بِالشَّرْعِ وَالله أعلم(3/121)
بَاب ضَمَان الرَّاكِب
وَمن كَانَ فِي مَعْنَاهُ أصل الْبَاب أَن السّير فِي ملك نَفسه مُبَاح مُطلق وَالسير فِي طَرِيق الْمُسلمين مَأْذُون بِشَرْط السَّلامَة فَمَا تولد من سير تلف مِمَّا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فَهُوَ مَضْمُون وَمَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فَلَيْسَ بمضمون إِذْ لَو جَعَلْنَاهُ مَضْمُونا لصار مَمْنُوعًا عَن السّير وَهُوَ مَأْذُون
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا رضوَان الله عَلَيْهِم إِن مَا أثار من الْغُبَار بِالْمَشْيِ أَو بسير الدَّابَّة لَا يضمن مَا تولد مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَكَذَا مَا أثارت الدَّابَّة بسنابكها من الْحَصَى الصغار وَأما الْحَصَى الْكِبَار فَإِن الرَّاكِب يضمن مَا تولد مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يكون سَببا إِلَّا بالعنف فِي السّير فَيمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول من سَارَتْ دَابَّته فِي طَرِيق الْمُسلمين وَهُوَ رَاكب عَلَيْهَا أَو قَائِد أَو سائق فوطأت دَابَّته رجلا بِيَدِهَا أَو برجلها أَو كدمت أَو صدمت بصدرها أَو خبطت بِيَدِهَا فَهُوَ ضَامِن لِأَنَّهُ يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَكَذَلِكَ السَّائِق والقائد لِأَنَّهُ مقرب للدابة إِلَى الْجِنَايَة
والرديف كالراكب إِلَّا أَن الْفرق أَن الرَّاكِب قَاتل بِوَطْء الدَّابَّة بثقله وَفعله هُوَ لَيْسَ بمسبب والسائق مسبب حَتَّى تجب الْكَفَّارَة على(3/123)
الرَّاكِب دون السَّائِق والقائد
وَلَو نفحت الدَّابَّة برجلها وَهِي تسير أَو بذنبها فَلَا ضَمَان فِي ذَلِك على رَاكب وَلَا رَدِيف وَلَا سائق وَلَا قَائِد لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ غير مُمكن
وَلَو أوقف الدَّابَّة فِي الطَّرِيق فَهُوَ ضَامِن لما تولد من وقُوف الدَّابَّة من الْوَطْء والنفحة بِالرجلِ والذنب وَمَا عطب بروثها وبولها ولعابها
وَكَذَا إِذا أوقفها على بَاب مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسلمين فَهُوَ بِمَنْزِلَة الطَّرِيق لِأَنَّهُ من جملَته وَالسير مَأْذُون فِي الطَّرِيق دون الْوُقُوف والإيقاف
فَإِن جعل الإِمَام للْمُسلمين عِنْد بَاب الْمَسْجِد موقفا لوقوف الدَّوَابّ فَمَا حدث من الْوُقُوف غير مَضْمُون لِأَن مَأْذُون فِيهِ
وَلَكِن سَاق الدَّابَّة فِيهِ أَو قاد أَو سَار فِيهِ على الدَّابَّة يضمن لِأَن الْإِذْن فِي حق الْوُقُوف لَا غير فَبَقيَ السّير على مَا كَانَ بِشَرْط السَّلامَة
وعَلى هَذَا وقُوف الدَّوَابّ فِي سوق الْخَيل وَالدَّوَاب لِأَن ذَلِك مَأْذُون من جِهَة السُّلْطَان
وعَلى هَذَا الفلاة وَطَرِيق مَكَّة إِذا كَانَ وقُوف الدَّابَّة فِي غير المحجة فِي نَاحيَة مِنْهُ لِأَن هَذَا مِمَّا لَا يضر بِالنَّاسِ فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْإِذْن وَأما الْوُقُوف فِي المحجة فَهُوَ كالوقوف فِي طَرِيق الْمُسلمين
فَأَما إِذا كَانَ الطَّرِيق ملكا خَاصّا لَهُ فساق فِيهِ دابتة أَو سَار بهَا وَهُوَ رَاكب أَو فِي ملكه فِي الْجُمْلَة فَمَا تولد من سيره فَهُوَ غير مَضْمُون عَلَيْهِ إِلَّا وَطْء الدَّابَّة لِأَنَّهُ تصرف فِي ملكه فَلَا يتَقَيَّد بِشَرْط(3/124)
السَّلامَة لَكِن الْوَطْء بِمَنْزِلَة فعله لحُصُول الْهَلَاك بثقله وَمن تعدى على الْغَيْر فِي دَار نَفسه يضمن
وَلَو نفرت الدَّابَّة أَو انفلتت مِنْهُ فَمَا أَصَابَت فِي فورها ذَلِك لَا ضَمَان عَلَيْهِ وَسَوَاء كَانَ الانفلات فِي ملك صَاحبهَا أَو فِي الطَّرِيق أَو فِي ملك الْغَيْر لِأَنَّهُ لَا صنع لَهُ فِيهِ وَلَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَقد قَالُوا فِيمَن أرسل دَابَّته فَمَا أَصَابَت فِي فورها ضمن وَإِن مَالَتْ يَمِينا أَو شمالا ثمَّ أَصَابَت فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن لم يكن لَهَا طَرِيق آخر يجب الضَّمَان على الْمُرْسل لِأَنَّهَا بَاقِيَة على الْإِرْسَال وَإِن كَانَ لَهَا طَرِيق آخر فانعراجها باختيارها يقطع حكم الْإِرْسَال فَتَصِير كالمنفلتة
وَلَو حفر بِئْرا فِي طَرِيق الْمُسلمين أَو أخرج جنَاحا أَو نصب فِيهِ ميزابا أَو بنى دكانا أَو وضع حجرا أَو خَشَبَة أَو مَتَاعا أَو صب مَاء فِي الطَّرِيق أَو قعد ليستريح أَو لمَرض أَصَابَهُ فعثر بِشَيْء من ذَلِك عَابِر فَوَقع فَمَاتَ أَو وَقع على غَيره فَقتله أَو على مَال إِنْسَان فَهَلَك فَهُوَ ضَامِن لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لِأَن الطَّرِيق مَأْذُون فِيهِ للسير لَا غير فَمَا تولد مِنْهُ يكون مَضْمُونا
ثمَّ مَا كَانَ من الْجِنَايَة على بني آدم فَهُوَ على الْعَاقِلَة على مَا ذكرنَا وَمَا كَانَ على المَال فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَاله حَالا
وَلَو كَانَ الرجل سائرا على دَابَّته أَو وَاقِفًا عَلَيْهَا فِي ملكه أَو فِي طَرِيق الْعَامَّة فَنَخَسَ دَابَّته رجل فَضربت بذنبها أَو برجلها أَو نفرت فصدمت إنْسَانا فِي فَور النخسة فالناخس ضَامِن دون الرَّاكِب إِذا فعل ذَلِك بِغَيْر أمره لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي النخس فَمَا تولد مِنْهُ مَضْمُون عَلَيْهِ والراكب لَيْسَ بمتعد(3/125)
فَأَما إِذا انْقَطع الْفَوْر فَذَاك مُضَاف إِلَى اخْتِيَار الدَّابَّة لَا إِلَى الناخس
وَكَذَلِكَ لَو ضربهَا رجل بِغَيْر أمره
فَأَما إِذا نخس بِأَمْر الرَّاكِب أَو ضرب فنفحت برجلها إنْسَانا فَقتلته فَإِن كَانَ الرَّاكِب يسير فِي الطَّرِيق أَو كَانَ وَاقِفًا فِي ملكه أَو فِي مَوضِع قد أذن فِيهِ بِالْوُقُوفِ من هَذِه الْأَسْوَاق وَنَحْوهَا فَلَا ضَمَان فِي هَذَا على رَاكب وَلَا سائق وَلَا ضَارب وَلَا ناخس لِأَنَّهُ فعل بِأَمْر الرَّاكِب فعلا يملكهُ الرَّاكِب فَصَارَ فعله كَفِعْلِهِ وَلَو فعل الرَّاكِب لَا يضمن مَا أَصَابَت الدَّابَّة بِالرجلِ فَكَذَا هَذَا
وَلَو كَانَ الرَّاكِب وَاقِفًا فِي بعض طرق الْمُسلمين الَّتِي لم يُؤذن بِالْوُقُوفِ فِيهَا فَأمر رجلا أَن يضْرب دَابَّته فضربها فنفحت رجلا فَقتلته فَالدِّيَة عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ هَكَذَا ذكر الْكَرْخِي
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف فِي هَذَا أَن الضَّمَان على الرَّاكِب لَا غير لِأَن ضربه لَهُ بِأَمْر الرَّاكِب كضرب الرَّاكِب وَلَو فعل الرَّاكِب فتولد مِنْهُ شَيْء برجلها يضمن فَكَذَا هَذَا
وَوجه مَا ذكر الْكَرْخِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ بطرِيق التسبيب فصارا شَرِيكَيْنِ
وَلَو كَانَ الرجل يسير على دَابَّته فَأمر رجلا حَتَّى ينخسها أَو يضْربهَا فوطئت إنْسَانا فَمَاتَ فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا
وَكَذَلِكَ لَو فعل بِغَيْر أَمر الرَّاكِب فوطئت إنْسَانا فَمَاتَ فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا لِأَن الْمَوْت حصل بِسَبَب فعل الناخس وَثقل الرَّاكِب فَيكون الضَّمَان عَلَيْهِمَا(3/126)
وَلَو قاد الرجل قطارا فَمَا أوطأه أَوله أَو أوسطه أَو آخِره فَهُوَ ضَامِن لَهُ
وَكَذَلِكَ إِن صدم إنْسَانا فَقتله لِأَن الْقَائِد مقرب للبهيمة إِلَى الْجِنَايَة وَهَذَا مِمَّا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فِي الْجُمْلَة بِأَن يذود النَّاس عَن الطَّرِيق
فَإِن كَانَ مَعَه سائق فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا كَيْفَمَا كَانَ السَّائِق فِي وسط القطار أَو فِي آخِره لِأَنَّهُ قد يكون سائقا وَقَائِدًا وَقد يكون سائقا لَا غير وَالْأول قَائِد فهما مسببان فِي هَذِه الْجِنَايَة
وَلَو كَانَ على القطار محامل فِيهَا أنَاس نيام أَو غير نيام فَإِن كَانَ مِنْهُم الْقود والسوق فهم شُرَكَاء السَّائِق والقائد وعَلى الركْبَان الْكَفَّارَة لَا غير
فَأَما إِذا لم يكن مِنْهُم فعل فِي الْقود فهم كالمتاع فَلَا شَيْء عَلَيْهِم
وَلَو أَن حَائِطا من دَار إِنْسَان مَال إِلَى نَافِذ أَو إِلَى دَار رجل فَهَذَا على وَجْهَيْن
إِن بني الْحَائِط مائلا إِلَى ملك غَيره أَو إِلَى الطَّرِيق فَهُوَ ضَامِن لما عطب بسقوطه وَإِن لم يُطَالب بنقضه لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاء غَيره وهواء طَرِيق الْمُسلمين حَقهم أَيْضا فَمَا تولد مِنْهُ وَهُوَ مُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ يُؤَاخذ بِهِ
فَأَما إِذا بنى فِي ملكه وَحقه ثمَّ مَال الْبناء إِلَى الطَّرِيق أَو إِلَى دَار إِنْسَان فَلم يُطَالب بنقضه وَلم يشْهد عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى سقط على رجل فَقتله أَو على مَال إِنْسَان فأتلفه فَلَا يضمن لِأَنَّهُ شغل هَوَاء غَيره وَوَقع فِي يَده بِغَيْر صنعه وَهُوَ ميلان الْجِدَار فَيكون فِي يَده أَمَان(3/127)
كَثوب ألقته الرّيح فِي يَده فَمَا تولد مِنْهُ لَا يُؤْخَذ بِهِ وَإِن طُولِبَ بنقضه وَأشْهد عَلَيْهِ ثمَّ سقط بعد ذَلِك فِي مُدَّة أمكنه نقضه فِيهَا فَهُوَ ضَامِن لِأَن بعد الْمُطَالبَة يجب عَلَيْهِ التفريغ فَإِذا لم يفعل مَعَ الْإِمْكَان صَار مُتَعَدِّيا كَمَا فِي الثَّوْب الَّذِي هبت بِهِ الرّيح إِذا طلبه صَاحبه فَامْتنعَ عَن الرَّد يجب الضَّمَان عَلَيْهِ إِذا هلك
أما إِذا لم يفرط فِي نقضه وَذهب حَتَّى يسْتَأْجر من يهدمه فَسقط فأفسد شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِزَالَة يَده بِقدر الْمُمكن
وَالْإِشْهَاد أَن يَقُول الرجل اشْهَدُوا أَنِّي قد تقدّمت إِلَى هَذَا الرجل فِي هدم حَائِطه هَذَا
وَالْمُعْتَبر عندنَا الْمُطَالبَة بالهدم وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْإِشْهَاد ليثبت بِهِ الْمُطَالبَة عِنْد الْإِنْكَار كَمَا قُلْنَا فِي الشُّفْعَة إِن الْمُعْتَبر هُوَ الطّلب وَإِنَّمَا الْإِشْهَاد ليثبت الطّلب بِالشَّهَادَةِ عِنْد الْإِنْكَار حَتَّى لَو اعْترف صَاحب الدَّار أَنه طُولِبَ بنقضه وَجب عَلَيْهِ الضَّمَان وَإِن لم يشْهد عَلَيْهِ
ثمَّ إِن كَانَ الميلان إِلَى دَار إِنْسَان فالإشهاد إِلَى صَاحب الدَّار إِن كَانَ فِيهَا أَو لم يكن فِيهَا سَاكن وَإِن كَانَ فِيهَا سكان فالإشهاد إِلَى السكان
وَإِن كَانَ الميلان إِلَى طَرِيق الْعَامَّة فالإشهاد إِلَى كل من لَهُ حق الْمُرُور فِيهِ الْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِيهِ سَوَاء
وَلَكِن أَنما يَصح الْإِشْهَاد على مَالك الْحَائِط أَو الَّذِي لَهُ ولَايَة النَّقْض مثل الْأَب وَالْوَصِيّ وَلَا يَصح الْإِشْهَاد على الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَالْمُسْتَعِير وَالْمُودع لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم ولَايَة النَّقْض فَكَانَ الْإِشْهَاد عَلَيْهِم وَعَدَمه سَوَاء
وَلَو أشهد من لَهُ حق الْإِشْهَاد على صَاحب الْحَائِط المائل أَو على من يَصح عَلَيْهِ الْإِشْهَاد فَطلب مِنْهُ التَّأْجِيل أَو الْإِبْرَاء فأجل وَأَبْرَأ فَإِن كَانَ أميل إِلَى الدَّار صَحَّ لِأَنَّهُ أبطل حَقه
فَأَما إِذا كَانَ الْميل إِلَى(3/128)
الطَّرِيق فأبرأ أَو أجل الَّذِي أشهد عَلَيْهِ مِمَّن لَهُ حق الْمُرُور أَو القَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَنَّهُ هَذَا حق الْعَامَّة فإبراء الْوَاحِد وتأجيله يَصح فِي حَقه لَا فِي حق النَّاس
وَلَو بَاعَ صَاحب الدَّار بعد الْإِشْهَاد فَسقط الْحَائِط بَعْدَمَا قَبضه المُشْتَرِي أَو بَعْدَمَا ملكه فِي زمَان لَا يتَمَكَّن من نقضه فَلَا ضَمَان على البَائِع فِيمَا هلك بسقوطه لِأَنَّهُ لَا يملك النَّقْض فَسقط حكم الْإِشْهَاد وَإِن كَانَ بعد التَّفْرِيط لَا يسْقط الضَّمَان(3/129)
بَاب الْقسَامَة
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْقسَامَة وَإِلَى تَفْسِيرهَا وَإِلَى بَيَان من تجب عَلَيْهِ
أما الأول فالقسامة مَشْرُوعَة فِي الْقَتِيل الَّذِي يُوجد وَبِه عَلامَة الْقَتْل من الْجراح وَغَيرهَا وَلم يعرف لَهُ قَاتل بالأحاديث وَقَضَاء عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله عَلَيْهِ
وَأما تَفْسِير الْقسَامَة وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ فَهُوَ مَا روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله عَلَيْهِمَا أَنه قَالَ فِي الْقَتِيل يُوجد فِي الْمحلة أَو فِي دَار رجل فِي الْمصر إِن كَانَت بِهِ جِرَاحَة أَو أثر ضرب أَو أثر خنق فَإِن هَذَا قَتِيل وَفِيه الْقسَامَة على عَاقِلَة رب الدَّار إِذا وجد فِي الدَّار وعَلى عَاقِلَة أهل الْمحلة إِذا وجد فِي الْمحلة يقسم خَمْسُونَ رجلا كل رجل مِنْهُم بِاللَّه مَا قتلته وَلَا علمت لَهُ قَاتلا(3/131)
ثمَّ يغرمون الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين على أهل الدِّيوَان فِي كل سنة الثُّلُث مِقْدَار مَا يُصِيب كل وَاحِد مِنْهُم ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو أَرْبَعَة فِي ثَلَاثَة سِنِين فَإِن زَاد ضمُّوا إِلَيْهِم أقربهم مِنْهُم من الْقَبَائِل نسبا لَا جوارا فَإِن نَقَصُوا عَن خمسين كررت عَلَيْهِم الْأَيْمَان
ثمَّ لَا يدْخل فِي الْقسَامَة إِلَّا الْعَاقِل الْبَالِغ الْحر فَأَما الْمَرْأَة فَهَل تدخل ذكر الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يدْخل فِي الْقسَامَة إِلَّا رجل عَاقل بَالغ حر
وَذكر مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة فِي الْقَتِيل يُوجد فِي قَرْيَة امْرَأَة لَا يكون بهَا غَيرهَا وَلَيْسَ لَهَا عَاقِلَة قريبَة قَالَ تستحلف ويكرر عَلَيْهَا الْأَيْمَان وعَلى عاقلتها الَّتِي هِيَ أقرب الْقَبَائِل إِلَيْهَا فِي النّسَب
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ينظر إِلَى أقرب الْقَبَائِل إِلَيْهَا وَتَكون الْقسَامَة عَلَيْهِم وَلَا قسَامَة على الْمَرْأَة لِأَنَّهَا لَيست من أهل النُّصْرَة كَالصَّبِيِّ وَالْجُنُون وَالْعَبْد
وهما يَقُولَانِ إِن الْمَرْأَة من أهل الِاسْتِحْلَاف فِي الْحُقُوق وَمن أهل الْمُشَاركَة فِي الدِّيَة فَإِنَّهَا إِذا قتلت رجلا خطأ تشارك الْعَاقِلَة فِي الدِّيَة
وَيدخل فِي الْقسَامَة الْأَعْمَى والمحدود فِي الْقَذْف وَالذِّمِّيّ لأَنهم من أهل الِاسْتِحْلَاف والنصرة
وَيكون الِاخْتِيَار فِي رجال الْقسَامَة إِلَى أَوْلِيَاء الْقَتِيل لِأَن ذَلِك حَقهم وَلَهُم فِي الِاخْتِيَار فَائِدَة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا مَذْهَب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِذا كَانَ هُنَاكَ لوث أَي عَلامَة الْقَتْل من وَاحِد بِعَيْنِه أَو بَينهمَا عَدَاوَة ظَاهِرَة فَإِنَّهُ يسْتَحْلف الْأَوْلِيَاء خمسين يَمِينا(3/132)
ثمَّ يقْتَصّ من الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد مَالك
وَعند الشَّافِعِي يقْضِي لَهُم على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ
وَلَكِن هَذَا خلاف الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة
ثمَّ إِذا وجد الْقَتِيل فِي دَار رجل فالقسامة على رب الدَّار وعَلى جِيرَانه إِن كَانُوا عَاقِلَته وَإِن لم يَكُونُوا فعلى عَاقِلَته من أهل الْمصر وَعَلَيْهِم الدِّيَة كَذَا ذكر مُحَمَّد فِي الأَصْل وَلم يذكر إِذا كَانَت الْعَاقِلَة غيبا
وَذكر فِي اخْتِلَاف زفر وَيَعْقُوب أَن الْقسَامَة عَلَيْهِ وعَلى عَاقِلَته غيبا كَانُوا أَو حضورا
وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا قسَامَة على الْعَاقِلَة
وَذكر الْكَرْخِي إِن كَانَت الْعَاقِلَة حَاضِرَة فِي الْمصر دخلُوا فِي الْقسَامَة وَإِن كَانَت غَائِبَة فالقسامة على صَاحب الدَّار يُكَرر عَلَيْهِ الْإِيمَان وَالدية عَلَيْهِ وعَلى الْعَاقِلَة
ثمَّ الْقسَامَة وَالدية على الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من عَاقِلَة من وجد فيهم الْقَتِيل فَرب الدَّار وَقَومه أخص ثمَّ أهل الْمحلة ثمَّ أهل الْمصر
وَكَذَلِكَ الْقَبَائِل الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَإِن كَانَت الْمحلة فِيهَا من قبائل شَتَّى فَإِن الدِّيَة والقسامة على أهل الخطة وَلَيْسَ على المُشْتَرِي شَيْء عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا قسَامَة وَلَا دِيَة مَا بَقِي وَاحِد من أهل الخطة
وعَلى قَول أبي يُوسُف على أهل الخطة والمشترين جَمِيعًا
وَقيل إِنَّمَا أجَاب أَبُو حنيفَة على عَادَة أهل الْكُوفَة فَإِن أهل الخطة هم الَّذين يدبرون أَمر الْمحلة وَأَبُو يُوسُف بني على عَادَة أهل زَمَانه أَن التَّدْبِير إِلَى الْأَشْرَاف من أهل الخطة كَانُوا أَولا
وَأما إِذا لم يكن فِي الْمحلة أحد من أهل الخطة وفيهَا ملاك وسكان فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على(3/133)
الْملاك دون السكان
وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِم جَمِيعًا
وَلَو وجد الْقَتِيل فِي السُّوق فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على أَرْبَابهَا وَعند أبي يُوسُف على سكانها
وَإِن كنت السُّوق للعامة أَو للسُّلْطَان فَالدِّيَة فِي بَيت المَال
وَلَو وجد فِي الْمَسْجِد الْجَامِع أَو الجسور الْعَامَّة أَو النَّهر الْعَام كدجلة والفرات فَالدِّيَة فِي بَيت المَال وَلَا قسَامَة على أحد
فَأَما فِي النَّهر الْخَاص الَّذِي يقْضِي فِيهِ بِالشُّفْعَة للشَّرِيك فعلى عَاقِلَة أَرْبَاب النَّهر
وَلَو وجد فِي السجْن وَلَا يعرف من قَتله فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على بَيت المَال وَعند أبي يُوسُف تجب الْقسَامَة وَالدية على أهل السجْن
وَإِن وجد فِي السَّفِينَة فَالدِّيَة والقسامة على من فِي السَّفِينَة من ركبهَا أَو يمدها من الْمَالِك وَغَيره بِخِلَاف الدَّار لِأَنَّهَا مِمَّا ينْقل من مَوضِع إِلَى مَوضِع فَيعْتَبر فِيهِ الْيَد دون الْملك
وَكَذَلِكَ العجلة أَو الدَّابَّة إِذا وجد عَلَيْهَا قَتِيل وَمَعَهَا رجل يحملهَا وَهُوَ قَائِد أَو سائق أَو رَاكب فَإِنَّهُ يكون الْقسَامَة عَلَيْهِ
وَإِن اجْتمع رجال بَعضهم قَائِد وَبَعْضهمْ سائق
وَبَعْضهمْ رَاكب فَيكون عَلَيْهِم لِأَنَّهُ فِي أَيْديهم فَصَارَ كوجوده فِي دَارهم
وَإِن وجد فِي فلاة من الأَرْض ينظر إِن كَانَت ملكا لإِنْسَان فالقسامة وَالدية على الْمَالِك وعَلى قبيلته
وَإِن كَانَ ذَلِك الْموضع لَا مَالك لَهُ وَكَانَ موضعا يسمع فِيهِ الصَّوْت من مصر من الْأَمْصَار أَو(3/134)
قَرْيَة من الْقرى فَعَلَيْهِم وَإِن كَانَ لَا يسمع فِيهِ الصَّوْت وَلَيْسَ بِملك لأحد فَهُوَ هدر لِأَنَّهُ لَا يَد لأحد عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ فِي الدجلة والفرات أَرَادَ فِي حق الْقسَامَة فَأَما الدِّيَة فَفِي بَيت المَال إِذا ظهر أولياؤه
فَأَما إِذا وجد على شط نهر عَظِيم مثل دجلة والفرات فعلى أقرب الْقرى من ذَلِك الْموضع من حَيْثُ يسمع الصَّوْت الْقسَامَة وَالدية
وَلَو وجد الْقَتِيل فِي عَسْكَر فِي الفلاة فَإِن كَانَت ملكا فعلى أَرْبَاب الفلاة وَإِن لم يكن لَهَا مَالك فَإِن وجد فِي خباء أَو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والقسطاط وعَلى عواقلهم وَإِن وجد خَارِجا من الفسطاطا والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط
وَإِن كَانَ الْعَسْكَر لقوا قتالا فَقَاتلُوا فَلَا قسَامَة وَلَا دِيَة فِي قَتِيل وجد بَين أظهرهم لِأَن الظَّاهِر أَنه قَتِيل الْعَدو
وَلَو وجد قَتِيل فِي دَار نَفسه فديته على ورثته وعَلى عاقلتهم وَتَكون مِيرَاثا لَهُم لَو فضل من دِيَته عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء فِيهِ وَهُوَ هدر وَبِه أَخذ زفر
وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله لِأَن وجود الْقَتِيل فِي الدَّار بِمَنْزِلَة مُبَاشرَة الْقَتْل من صَاحبهَا فَإِذا وجد الْقَتِيل فِي دَار نَفسه فَيصير كَأَنَّهُ قتل نَفسه وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْمُعْتَبر فِي الْقسَامَة وَالدية حَال ظُهُور الْقَتِيل بِدَلِيل أَن مَاتَ قبل ذَلِك لَا يدْخل فِي الدِّيَة وَحَال ظُهُور الْقَتِيل الدَّار للْوَرَثَة فَيكون عَلَيْهِم وعَلى عاقلتهم كمن وجد قَتِيلا فِي دَار ابْنه أَو بِئْر حفرهَا ابْنه أَلَيْسَ أَن الْقسَامَة وَالدية على ابْنه وعواقله كَذَا هَذَا
ثمَّ يثبت الْمِيرَاث لَهُ بَعْدَمَا صَار للمقتول حَتَّى يقْضِي دينه فَمَا فضل يكون للْوَرَثَة بِسَبَب الْقَرَابَة وَالله أعلم(3/135)
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا لم يدع الْأَوْلِيَاء على رجل بِعَيْنِه من أهل الْمحلة
فَأَما إِذا ادعوا على رجل بِعَيْنِه فالقسامة وَالدية بحالهما فِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وروى عبد الله بن الْمُبَارك عَن أبي حنيفَة وَمُحَمّد أَنه يسْقط
وَقَالَ أَبُو يُوسُف الْقيَاس أَنه يسْقط وَفِي الِاسْتِحْسَان أَنه لَا يسْقط للأثر
وَجه ظَاهر الرِّوَايَة أَن الظَّاهِر أَن الْقَاتِل أحد أهل الْمحلة وَالْوَلِيّ يَدعِي إِلَّا أَنه عين وَهُوَ مُتَّهم فِي التَّعْيِين فَلَا يعْتَبر
فَأَما إِذا ادّعى الْوَلِيّ الْقَتْل على رجل من غَيرهم فَيكون إِبْرَاء لَهُم عَن الْقسَامَة وَالدية لِأَنَّهُ نفي الْقَتْل عَنْهُم بِدَعْوَاهُ على غَيرهم
وَلَو شهد اثْنَان من أهل الْمحلة للْوَلِيّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لم تقبل شَهَادَتهمَا فِي قَول أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد تقبل وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حنيفَة هَذَا لِأَن أهل الْمحلة صَارُوا خصما فِي هَذِه الدَّعْوَى فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَإِن خَرجُوا عَن الْخُصُومَة بِالْإِبْرَاءِ كَالْوَكِيلِ إِذا خَاصم ثمَّ عزل فَشهد لَا تقبل شَهَادَته كَذَا هَذَا
وَكَذَا لَو ادّعى الْأَوْلِيَاء الْقَتْل على وَاحِد من أهل الْمحلة بِعَيْنِه فَشهد شَاهِدَانِ من أهل الْمحلة عَلَيْهِ لم تقبل شَهَادَتهمَا بالِاتِّفَاقِ لِأَن الْخُصُومَة قَائِمَة عَلَيْهِم بعد هَذِه الدَّعْوَى على مَا بَينا فَتكون هَذِه شَهَادَة لأَنْفُسِهِمْ فَلَا تقبل(3/136)
كتاب الْحُدُود
جمع فِي هَذَا الْكتاب بَين حد الزِّنَا وحد الْقَذْف وَبَين التَّعْزِير فَيحْتَاج إِلَى بَيَان سَبَب وجوب كل وَاحِد مِنْهَا وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْوُجُوب
وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْحَد ومقداره
أما حد الزِّنَا فنوعان الرَّجْم وَالْجَلد مائَة
وَسبب وجوبهما جَمِيعًا هُوَ الزِّنَا إِلَّا أَن لوُجُوب الرَّجْم شَرَائِط إِذا وجد الْكل يجب وَإِلَّا فَيجب الْجلد
وَلَو أسقط الْجلد للشُّبْهَة يجب الْعقر إِذْ الزِّنَا فِي دَار الْإِسْلَام لَا يَخْلُو عَن عُقُوبَة أَو غَرَامَة
فَنَذْكُر الزِّنَا الْمُوجب للحد
وشرائط وجوب الرَّجْم
وَطَرِيق ثوبته عِنْد القَاضِي(3/137)
أما الزِّنَا فَهُوَ الْوَطْء الْحَرَام الْخَالِي عَن حَقِيقَة الْملك وَحَقِيقَة النِّكَاح وَعَن شُبْهَة الْملك وَعَن شُبْهَة النِّكَاح وَعَن شُبْهَة الِاشْتِبَاه أَيْضا
أما الْوَطْء فَفعل مَعْلُوم وَهُوَ إيلاج فرج الرجل فِي فرج الْمَرْأَة
وَإِنَّمَا شرطنا كَونه حَرَامًا فَإِن وَطْء الْمَجْنُون وَوَطْء الصَّبِي الْعَاقِل لَا يكون زنا لِأَن فعلهمَا لَا يُوصف بِالْحُرْمَةِ
وَكَذَلِكَ الْوَطْء فِي الْملك وَالنِّكَاح وَإِن كَانَ حَرَامًا لَا يكون زنا كَوَطْء الْحَائِض وَالنّفاس وَوَطْء الْجَارِيَة الْمَجُوسِيَّة وَالْأُخْت من الرَّضَاع وَالْجَارِيَة الْمُشْتَركَة وَنَحْوه
وَقَوله الْخَالِي عَن شُبْهَة الْملك فَإِن وطىء جَارِيَة ابْنه وَجَارِيَة مكَاتبه وَجَارِيَة عَبده الْمَأْذُون الْمَدْيُون وَالْجَارِيَة من الْمغنم فِي دَار الْحَرْب أَو بعد الْإِحْرَاز قبل الْقِسْمَة فَلَيْسَ بزنا فَإِن شُبْهَة الْملك وَهُوَ الْملك من وَجه ثَابت فِي هَذِه الْمَوَاضِع حَتَّى(3/138)
لَا يجب الْحَد وَإِن قَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام
وَقَوْلنَا عَن شُبْهَة العقد فَإِن وَطْء امْرَأَة تزَوجهَا بِغَيْر شُهُود أَو أمة تزوجت بِغَيْر إِذن مَوْلَاهَا أَو عبد تزوج بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ لَا يكون زنا
وَكَذَا من تزوج أمة على حرَّة أَو تزوج مَجُوسِيَّة أَو خمْسا فِي عقد أَو جمع بَين أُخْتَيْنِ أَو تزوج من مَحَارمه فَوَطِئَهَا وَقَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام لَا حد عَلَيْهِ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يجب الْحَد فِي كل وَطْء حرَام على التَّأْبِيد فوجود التَّزَوُّج فِيهِ لَا يُوجب شُبْهَة وَمَا لَيْسَ بِحرَام على التَّأْبِيد فَالْعقد يُوجب شُبْهَة كَالنِّكَاحِ بِغَيْر شُهُود وَنَحْوه وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما شُبْهَة الِاشْتِبَاه وَهِي أَنه إِذا وطىء فَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تحل لي لَا يجب الْحَد
وَإِذا قَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام فَإِنَّهُ يحد
وَجُمْلَة هَذَا أَن دَعْوَى الِاشْتِبَاه مُعْتَبرَة فِي سَبْعَة مَوَاضِع جَارِيَة الْأَب وَجَارِيَة الْأُم وَجَارِيَة الزَّوْجَة والمطلقة ثَلَاثًا مَا دَامَت فِي الْعدة وَأم الْوَلَد مَا دَامَت تَعْتَد مِنْهُ وَالْعَبْد إِذا وطىء جَارِيَة مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَة الْمَرْهُونَة فِي رِوَايَة كتاب الرَّهْن
وَفِي أَرْبَعَة مَوَاضِع لَا يحد وَإِن قَالَ علمت أَنَّهَا عَليّ حرَام جَارِيَة الابْن وَإِن سفل وَالْجَارِيَة الْمَبِيعَة إِذا وَطئهَا البَائِع قبل الْقَبْض وَالْجَارِيَة المتزوج عَلَيْهَا إِذا كَانَت فِي يَد الزَّوْج والمطلقة طَلَاقا بَائِنا وَالْجَارِيَة بَين الشَّرِيكَيْنِ
وَفِيمَا سوى مَا ذكرنَا يجب الْحَد وَلَا يعْتَبر شُبْهَة الِاشْتِبَاه
وَمن وجد على فرَاشه أَو فِي بَيته امْرَأَة
فَوَطِئَهَا وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا جاريتي أَو امْرَأَتي يحد لِأَنَّهُ لَا يحل لَهُ الْوَطْء مَعَ الِاشْتِبَاه
فَأَما الْأَعْمَى إِذا وجد على فرَاشه امْرَأَة فَوَطِئَهَا فَكَذَلِك الْجَواب عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ زفر لَا يجب عَلَيْهِ الْحَد كَمَا فِي الْمَرْأَة المزفوفة إِلَى بَيت زَوجهَا
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا دَعَا الزَّوْج الْأَعْمَى امْرَأَته فأجابته امْرَأَة فَقَالَت أَنا فُلَانَة امْرَأَتك فَوَطِئَهَا لَا حد عَلَيْهِ فَأَما إِذا أَجَابَتْهُ وَلم تقل أَنا فُلَانَة يجب الْحَد لِأَنَّهُ فِي وَسعه أَن يتحفظ أَكثر من هَذَا فَلَا يصير شُبْهَة فَيجب الْحَد
وَأما شَرَائِط وجوب الرَّجْم فَأن يَكُونَا محصنين
والإحصان عندنَا عبارَة عَن استجماع سَبْعَة اشياء الْبلُوغ وَالْعقل وَالْإِسْلَام وَالْحريَّة وَالنِّكَاح الصَّحِيح وَالدُّخُول على وَجه يُوجب الْغسْل من غير إِنْزَال وهما على صفة الْإِحْصَان(3/139)
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف إِن الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَكَذَا رُوِيَ عَن أَنه لَا يعْتَبر الدُّخُول بهَا وهما على صفة الْإِحْصَان حَتَّى قَالَ إِن الْمُسلم إِذا وطىء الْكَافِرَة صَار بهَا مُحصنا
وَإِذا وجد الْوَطْء قبل الْحُرِّيَّة ثمَّ أعتقا صَارا محصنين بِالْوَطْءِ الْمُتَقَدّم وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
فَإِذا فَاتَ شَرط من شَرَائِط الْإِحْصَان يجب الْجلد لَا الرَّجْم لقَوْله تَعَالَى {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة}
وَلَا يجمع بَين الْجلد وَالرَّجم بالِاتِّفَاقِ
وَاخْتلفُوا فِي الْجمع بَين الْجلد والتغريب فَقَالَ أَصْحَابنَا رَحِمهم الله لَا يجمع
وَقَالَ الشَّافِعِي يجمع وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
فَأَما طَرِيق ثُبُوته عِنْد القَاضِي فشيئان الْبَيِّنَة وَالْإِقْرَار
أما مُشَاهدَة القَاضِي الزِّنَا فِي حَالَة الْقَضَاء أَو قبل الْقَضَاء فَلَا يعْتَبر فِي حق الْحُدُود الْإِجْمَاع وَإِن كَانَ بَين الْعلمَاء اخْتِلَاف فِي غَيرهمَا من الْأَحْكَام
أما الْبَيِّنَة فشهادة أَرْبَعَة رجال عدُول أَحْرَار مُسلمين على الزِّنَا
وَلَا تقبل فِيهَا شَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال بِلَا خلاف
وَأما الْإِحْصَان فَيثبت بِشَهَادَة الرِّجَال مَعَ النِّسَاء عندنَا خلافًا ل زفر
وَأما الْإِقْرَار فَهُوَ أَن يقر الْمقر أَربع مَرَّات بِالزِّنَا عِنْد الإِمَام فِي أَرْبَعَة مَوَاطِن عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَيَنْبَغِي للْإِمَام(3/140)
إِذا جَاءَ الرجل وَأقر بِالزِّنَا أَن يزجره عَن الْإِقْرَار وَيظْهر الْكَرَاهِيَة من ذَلِك وَيَأْمُر بتنحيته عَن الْمجْلس فَإِن عَاد ثَانِيًا فعل بِهِ مثل ذَلِك
وَإِن عَاد ثَالِثا فعل بِهِ مثل ذَلِك
فَإِذا أقرّ أَربع مَرَّات نظر فِي حَاله هَل هُوَ صَحِيح الْعقل وَأَنه مِمَّن يجوز إِقْرَاره على نَفسه فَإِذا عرف ذَلِك سَأَلَهُ عَن الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيف زنى وبمن زنى وَمَتى زنى وَأَيْنَ زنى لاحتيال الشُّبْهَة فِي ذَلِك
فَإِذا بَين ذَلِك سَأَلَهُ هَل هُوَ مُحصن فَإِن قَالَ هُوَ مُحصن سَأَلَهُ عَن الْإِحْصَان مَا هُوَ فَإِن فسره وَوَصفه بشرائطه حكم عَلَيْهِ بِالرَّجمِ وَأمر بإقامته عَلَيْهِ
وَيعْتَبر اخْتِلَاف مجْلِس الْمقر لَا اخْتِلَاف مجْلِس القَاضِي حَتَّى إِن القَاضِي إِذا كَانَ فِي مَجْلِسه فَأقر الزَّانِي أَربع مَرَّات فِي أَرْبَعَة مجَالِس من مجْلِس الْمقر يُقَام عَلَيْهِ الْحَد وَسَوَاء تقادم الْعَهْد أَو لَا
وَإِنَّمَا يعْتَبر التقادم مَانِعا فِي الشَّهَادَة إِذا شهدُوا بعد تقادم الْعَهْد لَا تقبل لأجل التُّهْمَة وَلَا تُهْمَة فِي الْإِقْرَار
وَلَو أقرّ بِالزِّنَا عِنْد غير الإِمَام أَو عِنْد من لَيْسَ لَهُ ولَايَة إِقَامَة الْحَد أَربع مَرَّات فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر حَتَّى إِنَّه لَو شهد الشُّهُود على إِقْرَاره أَربع مَرَّات فِي مجَالِس مُخْتَلفَة فِي حَضْرَة من لَيْسَ لَهُ ولَايَة إِقَامَة الْحَد فَالْقَاضِي لَا يقبل هَذِه الشَّهَادَة لِأَن الزَّانِي إِن كَانَ مُنْكرا فقد رَجَعَ عَن الْإِقْرَار وَإِن كَانَ مقرا فَلَا عِبْرَة لشهادة مَعَ الْإِقْرَار
وَلَو أَنه إِذا أقرّ أَربع مَرَّات عِنْد القَاضِي ثمَّ رَجَعَ بعد الحكم بِالرَّجمِ أَو قبله أَو رَجَعَ بَعْدَمَا رجم قبل الْمَوْت إِن كَانَ مُحصنا أَو بعد مَا ضرب بعض الْجلد إِذا لم يكن مُحصنا أَو هرب فَإِنَّهُ يدْرَأ(3/141)
الْحَد عَنهُ لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لقن ماعزا الرُّجُوع حِين أقرّ بَين يَدَيْهِ بِالزِّنَا لَعَلَّك مسستها لَعَلَّك قبلتها فَلَو لم يَصح الرُّجُوع لم يكن لهَذَا التَّلْقِين فَائِدَة
ثمَّ إِذا ثَبت وجوب الرَّجْم بِالشَّهَادَةِ فَالْقَاضِي يَأْمر الشُّهُود أَولا بِالرَّجمِ فَإِذا رجموا رجم الإِمَام بعدهمْ ثمَّ النَّاس
وَقَالَ الشَّافِعِي الْبدَاءَة بالشهودة لَيْسَ بِشَرْط
فَإِن امْتنع الشُّهُود أَو بَعضهم عَن الرَّجْم سقط الرَّجْم فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي يُوسُف لِأَن امتناعهم عَن الرَّجْم أورث شُبْهَة الْكَذِب فِي شَهَادَتهم
وَفِي الْجلد لَا يُؤمر الشُّهُود بِهِ لِأَن كل وَاحِد لَا يعرف الْجلد على وَجهه
وَلَو جن الشُّهُود أَو خرسوا أَو عموا أَو ارْتَدُّوا أَو مَاتُوا سقط الْحَد لما قُلْنَا
ثمَّ ينصب الرجل قَائِما وَلَا يرْبط بِشَيْء وَلَا يحْفر لَهُ حفيرة
لِأَنَّهُ رُبمَا يفر فَيكون دلَالَة الرُّجُوع
وَفِي الْمَرْأَة يحْفر لَهَا حفيرة للستر وَفِي رِوَايَة لَا بَأْس بترك الْحفر
فَأَما فِي الْجلد فَإِنَّهُ يُقَام الرجل وتضرب الْمَرْأَة قَاعِدَة وَينْزع عَن الرجل ثِيَابه إِلَّا الْإِزَار فِي الزَّانِي وَفِي التعزيز وَلَا ينْزع فِي الْقَاذِف إِلَّا الفرو والحشو وَفِي الشَّارِب رِوَايَتَانِ وأشهرهما أَنه يجرد(3/142)
فَالْحَاصِل أَن أَشد الضَّرْب هُوَ التَّعْزِير ثمَّ الْجلد فِي الزِّنَا ثمَّ فِي الشّرْب ثمَّ فِي الْقَذْف
وَفِي الْمَرْأَة لَا ينْزع الثِّيَاب إِلَّا الفرو والحشو لِأَن كشف الْعَوْرَة حرَام والزجر وَاجِب
وَيضْرب الْحَد فِي الْأَعْضَاء كلهَا مُتَفَرقًا إِلَّا فِي الْعُضْو الَّذِي هُوَ مقتل وَهُوَ الرَّأْس وَالْوَجْه والصدر والبطن والمذاكير وَهَذَا فِي حق الصَّحِيح
فَأَما الْمَرِيض فَلَا يجلد حَتَّى يبرأ وَكَذَا الْحَامِل حَتَّى تضع حملهَا وَتخرج عَن النّفاس لِأَن النّفاس مرض بِخِلَاف الْحيض
فَأَما الرَّجْم فيقام فِي الْأَحْوَال كلهَا إِلَّا فِي الْحَامِل لِأَنَّهُ لَا جِنَايَة من الْحمل
وَلَا تُقَام الْحُدُود فِي الْمَسْجِد وَإِنَّمَا تُقَام فِي مَوضِع يُشَاهِدهُ الإِمَام أَو يبْعَث أَمِينه حَتَّى يُقَام بَين يَدَيْهِ
وَإِذا مَاتَ المرجوم يدْفع إِلَى أَهله حَتَّى يغسلوه ويكفنوه ويصلوا عَلَيْهِ هَكَذَا قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي مَاعِز اصنعوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بموتاكم
وَأما حد الْقَذْف فَيحْتَاج إِلَى بَيَان كيفيته وَبَيَان مِقْدَاره وَإِلَى تَفْسِير الْقَذْف الْمُوجب للحد وَإِلَى بَيَان شَرَائِطه
وَإِلَى بَيَان أَحْكَامه(3/143)
أما الأول فحد الْقَذْف مُقَدّر بِثَمَانِينَ سَوْطًا لقَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة}
وَأما تَفْسِير الْقَذْف فَهُوَ نَوْعَانِ أَحدهمَا أَن يقذفه بِصَرِيح الزِّنَا الْخَالِي عَن شُبْهَة الزِّنَا الَّذِي لَو أَقَامَ عَلَيْهِ أَرْبَعَة من الشُّهُود أَو أقربه الْمَقْذُوف يجب عَلَيْهِ حد الزِّنَا فَإِذا عجز الْقَاذِف عَن إثْبَاته بِالْحجَّةِ فَينْعَقد سَببا لوُجُوب حد الْقَذْف
الثَّانِي أَن يَنْفِي نسب إِنْسَان من أَبِيه الْمَعْرُوف فَيَقُول لست بِابْن فلَان أوهو لَيْسَ بأبيك فَهُوَ قَاذف لأمه كَأَنَّهُ قَالَ أمك زَانِيَة أَو زنت أمك
وَلَو قَالَ يَا ابْن الزَّانِي أويا ابْن الزَّانِيَة يكون قَاذِفا
وَلَو قَالَ لست لأمك لَا يكون قذفا
وَلَو قَالَ أَنْت ابْن فلَان لِعَمِّهِ أَو خَاله أَو لزوج أمه فِي غير حَال الْغَضَب لَا يكون قذفا لِأَنَّهُ ينْسب إِلَيْهِ فِي الْعرف
وَإِن كَانَ فِي حَال الْغَضَب على سَبِيل الشتم يكون قذفا
وَلَو قَالَ لرجل يَا زَانِيَة لَا يجب الْحَد عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا ل مُحَمَّد
وَلَا قَالَ لامْرَأَته يَا زاني يحد بِالْإِجْمَاع
وَلَو قَالَ يَا زانىء باهمزة وعنى بِهِ الصعُود يحد لِأَن الْعَامَّة لَا(3/144)
تعرف هَذَا
وَلَو قَالَ زنأت فِي الْجَبَل وعنى بِهِ الصعُود فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف يحد لما قُلْنَا خلافًا لمُحَمد
وَلَو قَالَ زنأت على الْجَبَل يحد بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل لَفظه على الصعُود
وَأما الشَّرَائِط فشروط وجوب الْحَد أَن يكون الْمَقْذُوف مُحصنا
وشرائط إِحْصَان حد الْقَذْف خَمْسَة الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة وَالْإِسْلَام والعفة عَن الزِّنَا
وَأما شَرط ظُهُور حد الْقَذْف عِنْد القَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أَو بِالْإِقْرَارِ فَهُوَ خُصُومَة الْمَقْذُوف ومطالبته وحضرته عِنْد الْإِقَامَة لِأَن فِيهِ حق العَبْد وَحقّ العَبْد لَا يثبت إِلَّا بمطاليته وخصومته
ثمَّ حق الْخُصُومَة والطلب للمقذوف إِذا كَانَ حَيا سَوَاء كَانَ حَاضرا أَو غَائِبا وَلَيْسَ لأحد حق الْخُصُومَة إِلَّا بإنابته عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَعند أبي يُوسُف لَا تصح وكَالَة فِي حد وَلَا قصاص
وَأَجْمعُوا أَنه لَا يَصح الْوكَالَة فِي اسْتِيفَاء الْحُدُود وَالْقصاص وعنوا بِهَذَا أَنه لَا بُد من حَضْرَة الْمَقْذُوف وحضرة ولي الْقصاص للاستيفاء
فَأَما إِذا حضر فَفِي حد الْقَذْف الِاسْتِيفَاء إِلَى الإِمَام وَفِي الْقصاص إِلَى الْوَلِيّ
لَكِن إِذا وكل إنْسَانا بِالِاسْتِيفَاءِ بَين يَدَيْهِ لعَجزه وَضعف قلبه جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَلَو أَنه طلب الْمَقْذُوف الْحَد وَخَاصم بَين يَدي القَاضِي وَحكم القَاضِي بِهِ ثمَّ مَاتَ أَو مَاتَ قبل أَن يُطَالب أَو مَاتَ بَعْدَمَا ضرب(3/145)
بعض الْحَد بَطل وَبَطل مَا بَقِي وَإِن كَانَ سَوْطًا وَاحِدًا وَلَا تبطل شَهَادَة الْمَقْذُوف وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَقُول الْوَارِث مقَامه فِي الْخُصُومَة والحضرة
فَالْحَاصِل أَن الْمُغَلب فِي حد الْقَذْف حق الله تَعَالَى عندنَا
وَعِنْده الْمُغَلب حق العَبْد فَلَا يُورث عندنَا خلافًا لَهُ
وعَلى هَذَا لَا يَصح الصُّلْح وَالْعَفو من الْمَقْذُوف عندنَا خلافًا لَهُ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
هَذَا إِذا قذفه فِي حَال الْحَيَاة فَأَما إِذا قذفه بعد الْمَوْت بِالزِّنَا فَإِن حق الْخُصُومَة فِيهِ للوالد وَإِن علا وللولد وَإِن سفل وَلَا حق للْأَخ وَالْعم وَالْمولى وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف حَتَّى يدْخل فِيهِ أَوْلَاد الْبَنَات عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد لَا يدْخل إِلَّا من يَرث بالعصوبة
وَأما بَيَان الْأَحْكَام فَنَقُول إِذا رفع الْمَقْذُوف الْأَمر إِلَى القَاضِي وَالْقَذْف صَحِيح فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُنكر الْقَاذِف أَو يقر
فَإِن أنكر وَطلب الْمَقْذُوف من القَاضِي أَن يؤجله حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة وَادّعى أَن لَهُ بَيِّنَة حَاضِرَة فِي الْمصر فَإِنَّهُ يؤجله إِلَى أَن يقوم من الْمجْلس وَيحبس الْمُدعى عَلَيْهِ الْقَذْف فَإِن أَقَامَهَا إِلَى آخر الْمجْلس وَإِلَّا خلى سَبيله وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ كَفِيلا بِنَفسِهِ وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَأْخُذ مِنْهُ كَفِيلا بِنَفسِهِ حَتَّى يحضر الشُّهُود وَلَا يحْبسهُ
وَعَن مُحَمَّد أَنه قَالَ أكفله ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا أحبسه فَإِن أَقَامَ شَاهدا وَاحِدًا عدلا فَإِنَّهُ يحبس حَتَّى يحضر الشَّاهِد الآخر وَإِن أَقَامَ شَاهدا غير عدل فَإِنَّهُ يؤجله إِلَى آخر الْمجْلس(3/146)
وَإِن قَالَ الْمَقْذُوف بينتي خَارج الْمصر أَو غائبون فَإِن القَاضِي يخلي سَبِيل الْقَاذِف على مَا ذكرنَا
وَإِن أَقَامَ رجلا وَامْرَأَتَيْنِ أَو
الشَّهَادَة على الشَّهَادَة
أَو كتاب القَاضِي فِي إِثْبَات الْقَذْف فَلَا يقبل لِأَن الذُّكُورَة شَرط فِي الْحَد
وَلَو أَقَامَ الْقَاذِف رجلا وَامْرَأَتَيْنِ على أَن الْمَقْذُوف صَدَقَة فِي قذفه لَهُ يقبل لِأَنَّهَا قَامَت على دَرْء الْحَد
وَإِن طلب الْمَقْذُوف من القَاضِي أَن يسْتَحْلف الْقَاذِف فَإِنَّهُ لَا يحلفهُ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ بِنَاء على أَن حد الْقَذْف حق الْعباد عِنْده
فَإِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة على الْقَذْف أَو أقرّ الْقَاذِف فَإِن القَاضِي يَقُول للقاذف أقِم الْبَيِّنَة على صِحَة قَوْلك
فَإِن أَقَامَ أَرْبَعَة من الشُّهُود على مُعَاينَة الزِّنَا أَو على إِقْرَاره بِالزِّنَا على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا يُقيم حد الزِّنَا على الْمَقْذُوف وَلَا يُقيم حد الْقَذْف على الْقَاذِف لِأَنَّهُ ظهر أَنه صَادِق فِي مقَالَته
فَإِن عجز عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة للْحَال وَقَالَ للْقَاضِي أجلني حَتَّى أحضر الْبَيِّنَة ولي بَيِّنَة فِي الْمصر فَإِنَّهُ يؤجله إِلَى قيام الْمجْلس فَإِن أَقَامَ الْبَيِّنَة إِلَى آخر الْمجْلس وَإِلَّا أَقَامَ عَلَيْهِ حد الْقَذْف وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ كَفِيلا حَتَّى يذهب فيطلب شُهُوده وَلَكِن يحْبسهُ وَيَقُول لَهُ ابْعَثْ إِلَى شهودك
وعَلى قَول أبي يُوسُف يُؤَجل إِلَى الْمجْلس الثَّانِي
وَعَن مُحَمَّد أَنه قَالَ إِن لم يجد أحدا يَبْعَثهُ إِلَى الشُّهُود أتركه حَتَّى يذهب ويحضر الشُّهُود وأبعث مَعَه شرطا حَتَّى يحفظوه وَلَا أَدَعهُ حَتَّى يفر فَإِن عجز أقيم عَلَيْهِ الْحَد
فَإِن ضرب بعض الْحَد فَحَضَرَ الشُّهُود وشهدوا بَطل الْحَد(3/147)
الْبَاقِي وَأَقْبل شَهَادَتهم
وَإِن شهدُوا بعد إِقَامَة الْحَد على صدق مقَالَته تقبل شَهَادَتهم وَيظْهر فِي حق الشَّهَادَة حَتَّى لَا يرد شَهَادَته بعد ذَلِك
وَأما التَّعْزِير فَيجب فِي جِنَايَة لَيست بموجبة للحد بِأَن قَالَ يَا كَافِر أَو يَا فَاسق أَو يَا فَاجر وَنَحْو ذَلِك
وَيكون التَّعْزِير على قدر الْجِنَايَة وعَلى قدر مَرَاتِب الْجَانِي قد يكون بالتغليظ فِي القَوْل وَقد يكون بِالْحَبْسِ وَقد يكون بِالضَّرْبِ
وَأَقل التَّعْزِير ثَلَاثَة أسواط فَصَاعِدا وَلَا يبلغ أَرْبَعِينَ بل ينقص مِنْهُ سَوط وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف فِي العَبْد ينقص من أَرْبَعِينَ أسواط وَفِي الْحر لَا يبلغ ثَمَانِينَ وَينْقص مِنْهُ خَمْسَة أسواط
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من بلغ حدا فِي غير حد فَهُوَ من الْمُعْتَدِينَ
وَلَا يُؤْخَذ فِيهِ الْكفَالَة
وَلَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَلَا بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة
وَعند مُحَمَّد يُؤْخَذ فِيهِ الْكَفِيل وَتقبل فِيهِ الشَّهَادَة على الشَّهَادَة وَشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَرُوِيَ عَنهُ أَنَّهَا تقبل فِي حق الْحَبْس أَيَّامًا ثمَّ يخرج وَلَا تقبل فِي حق الضَّرْب(3/148)
كتاب السّرقَة
قَالَ رَحمَه الله جمع فِي الْكتاب بَين السّرقَة وَقطع الطَّرِيق وَتَفْسِير الْبُغَاة وأحكامهم
أما الأول فَنَقُول يحْتَاج إِلَى تَفْسِير السّرقَة الْمُوجبَة للْقطع فِي الشَّرْع وَإِلَى بَيَان حكمهَا
أما الأول فَهُوَ أَخذ مَال الْغَيْر على سَبِيل الْخفية مَعَ شرائطها مِنْهَا أَن يكون السَّارِق عَاقِلا بَالغا
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَسْرُوق مَالا مُتَقَوّما حَتَّى لَو سرق الْخمر وَالْخِنْزِير وَجلد الْميتَة فَإِنَّهُ لَا قطع عَلَيْهِ
وَلَو سرق حرا صَغِيرا فَمَاتَ فِي يَده أَو مرض فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو أَصَابَته آفَة من الْوُقُوع فِي الْبِئْر أَو افتراس السَّبع يضمن لِأَنَّهُ تَضْييع لَهُ
وَمِنْهَا أَن يكون المَال الْمَسْرُوق مُقَدرا عندنَا بِعشْرَة دَرَاهِم(3/149)
وَعند مَالك بِثَلَاثِينَ درهما
وَعند الشَّافِعِي بِربع دِينَار
وَتكلم الْعلمَاء فِي صفة الدَّرَاهِم الْعشْرَة ذكر أَبُو الْحسن الْكَرْخِي أَنه يعْتَبر عشرَة دَرَاهِم مَضْرُوبَة
وَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه لَا يقطع فِي عشرَة دَرَاهِم تبرا مَا لم تكن مَضْرُوبَة
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا سرق عشرَة مِمَّا يروج بَين النَّاس قطع فَهَذَا يدل على أَن التبر إِذا كَانَ رائجا يقطع فِيهِ
وَيجب أَن يكون وزن الدَّرَاهِم الْعشْرَة وزن سَبْعَة مَثَاقِيل كَمَا فِي نِصَاب الزَّكَاة
وَيجب أَن يكون قيمَة الْمَسْرُوق عشرَة من وَقت السّرقَة إِلَى وَقت الْقطع وَلَا ينتقص من حَيْثُ السّعر
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه لَا يعْتَبر نُقْصَان السّعر بعد الْأَخْذ
وَلَو سرق فِي بلد وَأخذ فِي بلد أُخْرَى لَا يقطع مَا لم تكن الْقيمَة فِي البلدين عشرَة
فَأَما نُقْصَان الْقيمَة بانتقاص الْعين بعد الْأَخْذ فَلَا عِبْرَة بِهِ فَيقطع لِأَنَّهُ لَو هلك كُله لقطع فَكَذَا إِذا انْتقصَ
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا شَرط فِي سَرقَة عشر من حرز وَاحِد فَإِن أَخذ عشرَة من حرز وَاحِد يقطع سَوَاء كَانَت الْعشْرَة لوَاحِد أَو لجَماعَة لِأَنَّهَا سَرقَة وَاحِدَة من حرز وَاحِد
وَلَو أخرج عشرَة لرجل بَعْضهَا من دَار وَبَعضهَا من دَار أُخْرَى لَا يجب الْقطع لِأَنَّهُ سرقتان بِلَا نِصَاب
وَلَو أخرج من دَار وَاحِدَة عشرَة مرّة خَمْسَة وَمرَّة خَمْسَة لَا(3/150)
يقطع مَا لم يُوجد إِخْرَاج الْعشْرَة جملَة مرّة وَاحِدَة
وَلَو حمل اللُّصُوص جملَة مَتَاعا من الْحِرْز دفْعَة وَاحِدَة فَإِن بلغ قيمَة الْمَتَاع مِقْدَار مَا تكون حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم نِصَابا كَامِلا يجب الْقطع وَإِلَّا فَلَا
وَمِنْهَا أَن يكون المَال الْمَسْرُوق مَحْفُوظًا محرزا على الْكَمَال
وَإِنَّمَا يكون محرزا بِأحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون فِي مَكَان معد للإحراز عَادَة كالدور والبيوت والحوانيت والصناديق
وَإِمَّا أَن يكون محرزا بِالْحَافِظِ
وَفِي الْقسم الأول يكون الْمَكَان حرْزا بِنَفسِهِ سَوَاء كَانَ ثمَّة حَافظ أَو لَا وَذَلِكَ أَن يكون فِي الْأَمْصَار والقرى والخيام والأخبية فِي المفاوز مَعَ جمَاعَة ممتنعة إِلَّا إِذا كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَيْسَ ثمَّة حَافظ فَهَذَا لَا يكون حرْزا فِي الْعَادة
وَأما الْقسم الثَّانِي فَأن لَا يكون الْمَكَان حرْزا بِنَفسِهِ وَإِنَّمَا يكون حرْزا بِالْحَافِظِ وَذَلِكَ نَحْو قَارِعَة الطَّرِيق والمفازة والمساجد فَإِن كَانَ ثمَّة حَافظ قريب من المَال يكون حرْزا سَوَاء كَانَ نَائِما أَو يقظانا
وَلَو كَانَ الْعدْل والجوالق على الدَّابَّة فِي حَال السّير فَسرق رجل من الْعدْل يقطع
وَلَو سرق وَالْعدْل نَفسه والجوالق لَا يَقع لِأَن هَذَا غير مَحْفُوظ بالسائق
وَلَو دخل السَّارِق الْحِرْز وَأخذ مِنْهُ مَتَاعا فَقبل أَن يُخرجهُ علم بِهِ صَاحب الْحِرْز فَأَخذه لَا يقطع لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ الْإِخْرَاج من الْحِرْز
وَلَو أَخذه السَّارِق وَرمى بِهِ إِلَى خَارج الْحِرْز فَأَخذه صَاحبه ثمَّ إِن صَاحب الْحِرْز أَخذ السَّارِق من الْحِرْز لَا يقطع لِأَنَّهُ لم تثبت يَده عَلَيْهِ(3/151)
عِنْد الْخُرُوج لثُبُوت يَد غَيره
وَلَو رَمَاه من الْحِرْز ثمَّ خرج وَأَخذه يجب الْقطع عندنَا خلافًا لزفَر لِأَن هَذَا فِي حكم يَده إِذا لم يَأْخُذهُ غَيره
وَلَو أَخذ الْمَتَاع من الْحِرْز وناول صاحبا لَهُ خَارج الْحِرْز فَلَا قطع عَلَيْهِمَا عِنْد أبي حنيفَة كَيْفَمَا كَانَ وَقَالَ مُحَمَّد إِن أخرج الدَّاخِل يَده من الْحِرْز ونال الْخَارِج يقطع الدَّاخِل دون الْخَارِج وَإِن أَدخل الْخَارِج يَده فِي الْحِرْز وَأخذ فَلَا قطع عَلَيْهِمَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا أخرج الدَّاخِل يَده لَا قطع عَلَيْهِ لِأَن عِنْده دُخُول الْحِرْز لَيْسَ بِشَرْط إِذا أمكن السَّارِق أَخذ المَال المحرز
وعَلى هَذَا إِن السَّارِق إِذا نقب الْجِدَار وأخد المَال المحرز
وعَلى هَذَا إِن السَّارِق إِذا نقب الْجِدَار وَأدْخل يَده وَأخذ مَتَاعا يُسَاوِي عشرَة دَرَاهِم لَا قطع عَلَيْهِ عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يقطع
وَكَذَا لَو دخل الْحِرْز وَجمع المتع عِنْد النقب ثمَّ خرج وَأدْخل يَده وَأخرج فَهُوَ على هَذَا الْخلاف
وَكَذَا لَو دخلُوا الْحِرْز وحملوا الْأَمْتِعَة على ظهر رجل مِنْهُم أَو رجلَيْنِ حَتَّى أخرجَا الْأَمْتِعَة وَخرج الْبَاقُونَ من غير حمل شَيْء الْقيَاس أَن لَا يقطع غير الْحَامِل وَفِي الِاسْتِحْسَان يقطعون لِأَن السّرقَة من الْجَمَاعَة هَكَذَا تكون عَادَة
وَكَذَا لَو حملُوا على دَابَّة حَتَّى خرجت بهَا من الْحِرْز يجب الْقطع
وَإِن كَانَ مَعَهم صبي أَو مَجْنُون لَا قطع على الْكل عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِن باشرا الْإِخْرَاج دون الْكِبَار العاقلين لَا(3/152)
قطع على الْكل وَإِن بَاشر الْإِخْرَاج غَيرهمَا يجب الْقطع على الْكِبَار
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَسْرُوق أعيانا قَابِلَة للإدخار والإمساك وَلَا يتسارع إِلَيْهَا الْفساد حَتَّى لَو سرق ثمارا مجدودة محرزة فِي حَظِيرَة عَلَيْهَا بَاب مغلق أَو كَانَ ثمَّة حَافظ وَلَكِن يتسارع إِلَيْهَا الْفساد نَحْو الْعِنَب والتين والسفرجل وَالرّطب والبقول لَا يقطع
وَلَو كَانَت مِمَّا يبْقى مثل الْجَوْز واللوز وَالتَّمْر الْيَابِس والفواكه الْيَابِسَة يجب الْقطع
وَلَو كَانَت الثَّمَرَة الْبَاقِيَة على الشّجر وَالْحِنْطَة فِي السنبلة لم تحصد فِي حَائِط موثق أَو ثمَّة حَافظ لَا يجب الْقطع لِأَنَّهُ لم تستحكم مَالِيَّته بعد
وعَلى هَذَا لَو سرق اللَّحْم الطري أَو الْيَابِس لَا يجب الْقطع لِأَنَّهُ مِمَّا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد
وعَلى هَذَا
النَّبِيذ الْحَلَال والعصير وَاللَّبن بِخِلَاف الْخلّ والدبس
وَمِنْهَا أَن لَا يكون الْمَسْرُوق شَيْئا يُوجد مُبَاح الأَصْل كالطيور والخشب والقصب والنورة وَاللَّبن إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا لَهُ خطر عِنْد النَّاس كالذهب وَالْفِضَّة واللعل والفيروزج والساج والعاج وَنَحْوهَا أَو يحدث فِيهِ صنع كالسرير وَنَحْوه
وَمِنْهَا أَن لَا يكون مَأْذُونا بِالدُّخُولِ فِي الْحِرْز أَو فِيهِ شُبْهَة الْإِذْن كالسرقة من ذَوي الرَّحِم الْمحرم
وَكَذَلِكَ عبد الرجل ومدبره ومكاتبه وخادمه وخادم امْرَأَته(3/153)
وأجيرهما وضيفهما وَنَحْو ذَلِك
وَكَذَلِكَ لَو سرق العَبْد من ابْن مَوْلَاهُ وأبويه لِأَنَّهُ يدْخل عَلَيْهِم عَادَة
وَإِن سرق من غَرِيمه فَإِن كَانَ من جنس دينه وَهُوَ حَال لَا يقطع وَإِن كَانَ الدّين مُؤَجّلا لَا يقطع اسْتِحْسَانًا
وَإِن كَانَ الْمَسْرُوق أَكثر من الدّين وَتلك الزِّيَادَة تكون نصبا فَكَذَلِك لِأَن حَقه ثَابت فِي الْجُمْلَة شَائِعا
وَإِن كَانَ من خلاف جنسه يقطع خلافًا للشَّافِعِيّ
وَبَعض أَصْحَابنَا قَالُوا لَا يقطع لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ من السّلف
وَمِنْهَا أَن لَا يكون الْمَسْرُوق شَيْئا لَهُ تَأْوِيل الْأَخْذ أَو الْإِتْلَاف كَمَا إِذا سرق مُصحفا أَو صليبا أَو نردا أَو شطرنجا من ذهب أَو فضَّة
وَمِنْهَا أَن لَا يكون النّصاب تبعا لما لَا يقطع بسرقته كَمَا إِذا سرق كَلْبا أَو سنورا وَفِي عُنُقه طوق ذهب أَو فضَّة أَو مُصحفا مرصعا بِالذَّهَب والياقوت أَو سرق صَبيا حرا عَلَيْهِ حلى أَو ثِيَاب ديباج لَا يجب الْقطع
وَكَذَلِكَ لَو سرق إِنَاء فضَّة فِيهِ طَعَام وَأخرجه من الْحِرْز كَذَلِك لَا يجب الْقطع
وَلَو صب الطَّعَام وَأخرج الْإِنَاء يقطع
وَمِنْهَا شَرط ظُهُور السّرقَة الْمُوجبَة للْقطع عِنْد القَاضِي وَهُوَ خُصُومَة الْمَسْرُوق مِنْهُ حَتَّى لَو شهدُوا على السّرقَة من غير خُصُومَة أَو أقرّ السَّارِق فَإِن القَاضِي لَا يقطع
وَلَو جَاءَ السَّارِق ثَانِيًا إِلَى الْمَالِك ورد إِلَيْهِ قبل المرافعة إِلَى الْحَاكِم سقط الْحَد فِي الْمَشْهُور عندنَا
وَأما إِذا ردهَا بعد المرافعة وَسَمَاع الْبَيِّنَة لَا يسْقط الْقطع سَوَاء(3/154)
كَانَ قبل الْقَضَاء أَو بعده
وَأما إِذا وَهبهَا من السَّارِق أَو ملكهَا السَّارِق بِوَجْه مَا سقط الْقطع قبل الْقَضَاء وَبعده عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
ثمَّ الشَّرْط خُصُومَة الْمَسْرُوق مِنْهُ بِأَن كَانَ صَاحب ملك أَو صَاحب يَد أَمَانَة أَو يَد ضَمَان وَيثبت السّرقَة فِي حق الِاسْتِرْدَاد أما فِي حق الْقطع فعندنا كَذَلِك وَعند زفر لَا يثبت
وَالشَّافِعِيّ يَقُول لَا يعْتَبر خُصُومَة غير الْمَالِك أصلا
وَأما السَّارِق من السَّارِق فَإِن خصومته لَا تعْتَبر فِي حق الْقطع بِالْإِجْمَاع
وَهل تعْتَبر فِي حق الِاسْتِرْدَاد فِيهِ رِوَايَتَانِ
وَإِنَّمَا تعْتَبر الْخُصُومَة إِذا لم يتقادم الْعَهْد
فَأَما إِذا تقادم عهد السّرقَة فَلَا يسمع الْخُصُومَة كَمَا فِي حد الزِّنَا على مَا ذكرنَا
وَأما قطاع الطَّرِيق والبغاة فَنَقُول إِن قطاع الطَّرِيق الَّذين لَهُم أَحْكَام مَخْصُوصَة لَهُم شَرَائِط أَحدهَا أَن يكون لَهُم مَنْعَة وشوكة بِحَيْثُ لَا تمكن للمارة المقاومة مَعَهم وَقَطعُوا الطَّرِيق عَلَيْهِم سَوَاء كَانَ بِالسِّلَاحِ أَو بالعصا الْكَبِيرَة وَالْحجر وَغَيرهَا
وَالثَّانِي أَن يكون ذَلِك خَارج الْمصر بَعيدا عَنهُ
فَأَما فِي الْمصر وقريبا مِنْهُ أَو بَين مصرين فَلَا يكون قطع الطَّرِيق وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَخِلَافًا لأبي يُوسُف
وَالثَّالِث أَن يكون ذَلِك فِي دَار الْإِسْلَام على أهل دَار الْإِسْلَام
وَالرَّابِع أَن يُوجد فِيهِ جَمِيع مَا شَرط فِي السّرقَة الصُّغْرَى حَتَّى إِن مَا أخذُوا لَو قسم على القطاع فَأصَاب كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة دَرَاهِم(3/155)
يجب الْقطع وَإِلَّا فَلَا
وَيشْتَرط أَن يكون القطاع كلهم أجانب فِي حق أَصْحَاب الْأَمْوَال وَأَن يكون كلهم من أهل وجوب الْقطع حَتَّى إِذا كَانَ أحدهم ذَا رحم محرم أَو صَبيا أَو مَجْنُونا لَا يجب عَلَيْهِم الْقطع عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد خلافًا لأبي يُوسُف
وَإِذا كَانَ مَعَهم امْرَأَة فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَالأَصَح أَنه لَا يقطع
وَالْخَامِس أَن يظفر بهم الإِمَام قبل التَّوْبَة ورد الْأَمْوَال إِلَى أَرْبَابهَا
أما أحكامهم فَنَقُول إِن قطع الطَّرِيق على أَرْبَعَة أَنْوَاع إِن أخذُوا المَال لَا غير تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِذا كَانُوا صحيحي الْأَطْرَاف
وَإِن قتلوا وَلم يَأْخُذُوا المَال قتلوا
وَإِن أخذُوا المَال وَقتلُوا فالإمام بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قطع وَقتل وَإِن شَاءَ قتل لَا غير ثمَّ هُوَ مُخَيّر بَين أَن يقْتله صلبا وَبَين أَن يقْتله بِلَا صلب
ثمَّ الْكَرْخِي يَقُول يصلب حَيا ثمَّ يقتل والطَّحَاوِي يَقُول يصلب مقتولا
وَإِن خوفوا بِقطع الطَّرِيق لَا غير يحبسون ويعزرون حَتَّى يتوبوا وَهُوَ تَفْسِير النَّفْي لقَوْله تَعَالَى {أَو ينفوا من الأَرْض}(3/156)
ثمَّ إِذا أقيم الحدان الْقطع وَالْقَتْل فَلَا شَيْء عَلَيْهِم من ضَمَان مَا هلك من الْأَمْوَال وَضَمان الْجِرَاحَات وَالْقَتْل لِأَن الْحَد مَعَ الضَّمَان لَا يَجْتَمِعَانِ
وَأما إِذا فَاتَ شَيْء من الشَّرَائِط حَتَّى لَا يُقَام الْحَد عَلَيْهِم فَإِنَّهُ يحكم القَاضِي بِمَا هُوَ حكم ذَلِك الْفِعْل بِدُونِ قطع الطَّرِيق حَتَّى إِذا أخذُوا المَال لَا غير يجب الرَّد أَو الضَّمَان فَإِن قتلوا لَا غير يجب الْقصاص لَا الْحَد حَتَّى إِذا قتلوا بِالسِّلَاحِ يقتلُوا وَلَا يقتلُوا إِذا قتلوا بِغَيْر السِّلَاح
وَلَا يقتل الردء والمعين
وَإِن خَرجُوا إِن أمكن اسْتِيفَاء الْقصاص يقْتَصّ مِنْهُم وَإِلَّا فَيجب الضَّمَان
وَأما الْبُغَاة فقوم لَهُم شَوْكَة ومنعة وخالفوا الْمُسلمين فِي بعض الْأَحْكَام بالتأويل كالخوارج وَغَيرهم وظهروا على بَلْدَة من الْبِلَاد وَكَانُوا فِي عَسْكَر وأجروا أحكامهم
فَإِذا قطعُوا الطَّرِيق على أهل الْعدْل من الْمُسَافِرين فَلَا يجب عَلَيْهِم الْحَد لأَنهم يدعونَ إِبَاحَة أَمْوَالهم عَن تَأْوِيل وَلَهُم مَنْعَة
وَلَو جَاءَ رجل من أهل الْبَغي تَائِبًا وأتى بسارق قد سرق مَاله من أهل الْبَغي لَا يقطعهُ الإِمَام الْعدْل
وَلَو كَانَ رجل مِنْهُم فِي دَار أهل الْعدْل فَسرق مَال أهل الْعدْل يقطع وَإِن استحله لِأَنَّهُ لَا مَنْعَة لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم(3/157)
كتاب الْهِبَة
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة عقد الْهِبَة
وَإِلَى بَيَان رُكْنه وَإِلَى بَيَان شَرَائِط صِحَّته وَإِلَى بَيَان حكمه
أما الأول فَنَقُول الْهِبَة عقد مَشْرُوع مَنْدُوب إِلَيْهِ بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا}
وَأما السّنة فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام تحَابوا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع(3/159)
وَأما ركن الْهِبَة فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول فالإيجاب قَوْله وهبت هَذَا الشَّيْء مِنْك أَو جعلته لَك أَو هَذَا لَك أَو نحلته لَك أَو قَالَ جعلت هَذِه الدَّار لَك عمري أَو عمرك أَو حَياتِي أَو حياتك فَإِذا مت فَهُوَ رد عَليّ فَهَذَا كُله هبة وَهِي لَهُ حَيَاته وَمَوته وَالشّرط الَّذِي شَرطه بَاطِل على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ امسكوا عَلَيْكُم أَمْوَالكُم لَا تعمروها فَإِن من أعمر شَيْئا كَانَ لمن أعْمرهُ
وَلَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك رقبي أَو حبيسة وَدفعهَا إِلَيْهِ فَهِيَ عَارِية فِي يَده ويأخذها مِنْهُ مَتى شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قبضهَا فَهِيَ هبة وَقَوله رقبي وحبيسة بَاطِل
وَلَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك سُكْنى أَو هَذِه الشَّاة أَو هَذِه الأَرْض لَك منحة فَهِيَ عَارِية فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَن المنحة عبارَة عَن بذل الْمَنَافِع فَإِذا أضَاف إِلَى عين ينْتَفع بهَا مَعَ قِيَامهَا عمل بحقيقته فَأَما إِذا أضَاف إِلَى شَيْء لَا ينْتَفع بِهِ إِلَّا باستهلاكه كَمَا إِذا منحه طَعَاما أَو لَبَنًا أَو دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَإِنَّهُ يكون هبة لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَة لَهُ مَعَ قيام عينه
وعَلى هَذَا قَالُوا إِن عَارِية الْأَعْيَان تمْلِيك الْمَنَافِع وعارية الْمكيل وَالْمَوْزُون قرض وَيكون تمْلِيك الْعين
وَكَذَا لَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك سُكْنى عمري أَو عمري سُكْنى فَهِيَ عَارِية
وَكَذَا إِذا قَالَ هبة سُكْنى أَو سُكْنى هبة فَهِيَ عَارِية(3/160)
وَإِن قَالَ هَذِه الدَّار لَك عمري تسكنها أَو صَدَقَة تسكنها فَهِيَ هبة وَصدقَة وَقَوله تسكنها أَو تؤاجرها أَو تعيرها يكون مشورة فَيكون شرطا فَاسِدا وَالْهِبَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
كَذَا لَو قَالَ هِيَ لَك هبة تسكنها فَهِيَ هبة جَائِزَة لما ذكرنَا
وَلَو وهب الرجل أمة على أَن لَا يَبِيعهَا فالهبة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَهُوَ قَول أبي يُوسُف أَيْضا
وَكَذَا لَو شَرط أَن يتخذها أم ولد أَو أَن يَبِيعهَا من فلَان أَو يردهَا عَلَيْهِ بعد شهر كَانَت الْهِبَة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يكون الشَّرْط الْفَاسِد مُفْسِدا للْعقد وَإِنَّمَا جَاءَ الْفساد لأجل النَّهْي وَالنَّهْي ورد فِي البيع وَمَا ورد فِي غَيره فَبَقيَ غَيره على الأَصْل إِلَّا إِذا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه أجَاز الْعُمْرَى وأبطل شَرط المعمر
أما شَرَائِط الصِّحَّة فَمِنْهَا الْقَبْض حَتَّى لَا يثبت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ قبل الْقَبْض وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ مَالك الْقَبْض لَيْسَ بِشَرْط
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَنهم قَالُوا لَا تجوز الْهِبَة إِلَّا مَقْبُوضَة محوزة
وَمِنْهَا أَن تكون الْهِبَة مقسومة إِذا كَانَ يحْتَمل الْقِسْمَة وَتجوز إِذا كَانَ مشَاعا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة سَوَاء كَانَت الْهِبَة للشَّرِيك أَو غَيره
وَقَالَ الشَّافِعِي هبة الْمشَاع جَائِزَة
وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي التَّصَدُّق بالمشاع(3/161)
وَأَصله مَا روينَا عَن الصَّحَابَة أَنهم قَالُوا لَا تجوز الْهِبَة إِلَّا مَقْبُوضَة محوزة والحيازة يُرَاد بهَا الْقِسْمَة هَاهُنَا بِالْإِجْمَاع
وَمِنْهَا أَن تكون الْهِبَة متميزة عَن غير الْمَوْهُوب وَغير مُتَّصِلَة بِهِ وَلَا مَشْغُولَة بِغَيْر الْمَوْهُوب حَتَّى لَو وهب أَرضًا فِيهَا زرع للْوَاهِب دون الزَّرْع أَو نخلا فِيهَا ثَمَرَة للْوَاهِب معلقَة بِهِ دون الثَّمَرَة لَا يجوز وَكَذَلِكَ لَو وهب ثَمَرَة النّخل دون النّخل أَو الزَّرْع دون الأَرْض وَقبض النخيل وَالثَّمَرَة وَالْأَرْض وَالزَّرْع لَا يجوز
وَكَذَا لَو وهب دَارا فِيهَا مَتَاع للْوَاهِب أَو ظرفا فِيهِ مَتَاع للْوَاهِب دون الْمَتَاع أَو وهب دَابَّة عَلَيْهَا حمل للْوَاهِب دون الْحمل وَقَبضهَا فَإِنَّهُ لَا يجوز وَلَا يَزُول الْملك عَن الْوَاهِب إِلَى الْمَوْهُوب لَهُ لِأَن الْمَوْهُوب غير متميز عَمَّا لَيْسَ بموهوب فَيكون بِمَنْزِلَة هبة الْمشَاع
وَلَو قسم الْمشَاع وَسلم مَا وهب جَازَ
وَكَذَا فِي هَذِه الْفُصُول إِذا سلم الدَّار فارغة عَن الْمَتَاع
وَكَذَا إِذا حصد الزَّرْع وجز الثَّمر ثمَّ سلم النّخل وَالْأَرْض جَازَ لِأَن الْملك يثبت عِنْد الْقَبْض فَيعْتَبر حَالَة الْقَبْض وَتَكون الْهِبَة مَوْقُوفَة فِي حق ثُبُوت الْملك إِلَى وَقت الْإِفْرَاز وَفِي كَون الْهِبَة فِي الْحَال فَاسِدَة أَو لَا خلاف بَين الْمَشَايِخ وَلَكِن لَا خلاف أَنه إِذا وجد التَّسْلِيم بعد الْقِسْمَة والإفراز جَازَ
وَلَو وهب دَارا من رجلَيْنِ أَو كرا من طَعَام أَو ألف دِرْهَم أَو شَيْئا مِمَّا يقسم فَإِنَّهُ لَا يجوز عِنْد أبي جنيفة وَعِنْدَهُمَا جَائِز
وَالْحَاصِل أَن عِنْد أبي حنيفَة الشُّيُوع مَتى حصل عِنْد الْقَبْض فَإِنَّهُ يمْنَع صِحَة الْهِبَة وَإِن حصل الْقَبْض فِي غير مشَاع جَازَ فجوز هبة الِاثْنَيْنِ من الْوَاحِد وَلم يجوز هبة الْوَاحِد من الِاثْنَيْنِ
وَاعْتبر أَو يُوسُف(3/162)
وَمُحَمّد فِي فَسَاد العقد حُصُول الشُّيُوع فِي الطَّرفَيْنِ جَمِيعًا فجوزا هبة الْوَاحِد من اثْنَيْنِ وَهبة الِاثْنَيْنِ من الْوَاحِد
وَلَو وهب عبدا من رجلَيْنِ أَو شَيْئا مِمَّا لَا يقسم جَازَ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للشيوع فِيمَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة فِي بَاب الْهِبَة
وَلَو وهب رجل لِرجلَيْنِ وَقَالَ وهبت لَكمَا هَذِه الدَّار لهَذَا نصفهَا وَلِهَذَا نصفهَا فَهُوَ على الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ
وَلَو قَالَ وهبت لَك نصفهَا وَلِهَذَا نصفهَا لم يجز بِالْإِجْمَاع لِأَن العقد وَقع فِي الْمشَاع فِي كل نصف
وَلَو قَالَ وهبت لَكمَا هَذَا الدَّار لهَذَا ثلثهَا وَلِهَذَا ثلثاها جَازَ عِنْد مُحَمَّد وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يجوز فهما مرا على أَصلهمَا وَأَبُو يُوسُف فرق عِنْد مُخَالفَة النَّصِيبَيْنِ كَمَا لَو رهن عينا وَاحِدَة من اثْنَيْنِ لأَحَدهمَا الثُّلُث وَللْآخر الثُّلُثَانِ فَكَذَلِك هَذَا
ثمَّ إِن عِنْد أبي حنيفَة إِذا قسم وَسلم إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا حِصَّته مفرزة جَازَ لما قُلْنَا
وَلَو تصدق بِعشْرَة دَرَاهِم على مسكينين جَازَ وَلَو تصدق على غَنِيَّيْنِ لم يجز عِنْد أبي حنيفَة كَالْهِبَةِ من اثْنَيْنِ لِأَن الصَّدَقَة تقع من الْمُتَصَدّق لله تَعَالَى لَا للْفَقِير فَلَا يتَحَقَّق الشُّيُوع وَالصَّدَََقَة من الغنيين هبة فَلم تجز وَقيل على قَوْله تجوز الصَّدَقَة من الغنيين لِأَنَّهُ يحل لَهما صَدَقَة التَّطَوُّع
وَلَو وهب رجل لرجل مَا فِي بطن جَارِيَته أَو غنمه أَو مَا فِي ضروعها أَو وهب لَهُ سمنا فِي لبن أَو زبدا قبل أَن يمخض
أَو دهنا فِي سمسم قبل أَن يعصر أَو زيتا فِي زيتون أَو دَقِيقًا فِي حِنْطَة وسلطه على قَبضه عِنْد الْولادَة وَعند اسْتِخْرَاج ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن بعض هَذِه(3/163)
الْأَشْيَاء مَعْدُوم عِنْد العقد أَو معجوز التَّسْلِيم لِمَعْنى فِي الْمحل أَو مَجْهُول حَتَّى لَا يكون محلا للْبيع وَإِذا كَانَ هَكَذَا فَيكون فَاسِدا لَا مَوْقُوفا بِخِلَاف مَا ذكرنَا من هبة الْمشَاع والموهوب الْمُتَّصِل بِغَيْرِهِ حَيْثُ يجوز إِذا سلم بعد الْإِفْرَاز والفصل لِأَن الْمشَاع قَابل لحكمه لَكِن الْمَانِع هُوَ الْعَجز عَن التَّسْلِيم لِمَعْنى فِي غَيره فَإِذا زَالَ الْمَانِع فينقلب جَائِزا
وَلَو وهب جَارِيَة أَو حَيَوَانا وَاسْتثنى الْحمل جَازَت الْهِبَة فِي الْأُم وَالْحمل جَمِيعًا وَبَطل الِاسْتِثْنَاء
وَجُمْلَة هَذَا أَن الْعُقُود على ثَلَاثَة أضْرب أَحدهَا إِذا عقد على الْأُم دون الْحمل فسد العقد وَبَطل الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ كَالْبيع وَالْإِجَازَة وَالرَّهْن لِأَن الْحمل تبع للْأُم فِي هَذِه الْعُقُود فَكَانَ مُوجبه ثُبُوت الحكم فِي الْكل فَإِذا اسْتثْنى الْحمل فقد نفى بعض مُوجب العقد ففسد العقد
وَالثَّانِي أَن يَصح فِيهِ العقد وَيبْطل الِاسْتِثْنَاء وَذَلِكَ مثل النِّكَاح وَالْخلْع وَالصُّلْح عَن دم الْعمد وَالْهِبَة لِأَن مُوجبه أَن يثبت الحكم فِي الْكل
وَقد نفى بعض الْمُوجب بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيكون شرطا فَاسِدا وَالْهِبَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
الثَّالِث يجوز العقد وَالِاسْتِثْنَاء وَهُوَ الْوَصِيَّة إِذا أوصى بِجَارِيَة إِلَّا حملهَا صحت الْوَصِيَّة فِي الْجَارِيَة وَبَقِي الْحمل للْوَرَثَة لِأَن الْحمل أصل فِي حق هَذَا التَّصَرُّف حَتَّى تجوز الْوَصِيَّة بِالْحملِ فَجَاز الِاسْتِثْنَاء
وَلَو أعتق مَا فِي بطن جَارِيَته ثمَّ وَهبهَا جَازَت الْهِبَة فِي الْأُم
وَلَو دبر مَا فِي بطن جَارِيَته ثمَّ وَهبهَا لم يجز فَمن أَصْحَابنَا من(3/164)
قَالَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ وَمِنْهُم من فرق بَين التَّدْبِير وَالْإِعْتَاق
وَلَو وهب عبدا أَو ثوبا أَو عينا من الْأَعْيَان مفرزا مقسوما وَلم يَأْذَن لَهُ فِي قَبضه فَقَبضهُ الْمَوْهُوب لَهُ فَإِن كَانَ بِحَضْرَة الْوَاهِب يجوز اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز ذكرنَا فِي الزِّيَادَات
وَإِذا قَامَ من الْمجْلس ثمَّ قبض لَا يَصح لِأَن الْقَبْض فِي الْهِبَة بِمَنْزِلَة الْقبُول فِي حق إِثْبَات الحكم وَذَلِكَ يَصح فِي الْمجْلس لَا بعده كَذَلِك هَذَا
وَلَو وهب دينا لَهُ على رجل لرجل وَأذن لَهُ بِقَبْضِهِ مِمَّن عَلَيْهِ جَازَت الْهِبَة إِذا قبض ذَلِك اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز وَهُوَ قَول زفر وَلَو لم يَأْذَن لَهُ فِي قبض الدّين لم تجز الْهِبَة وَإِن قَبضه الْمَوْهُوب لَهُ بِحَضْرَة الْوَاهِب
وَلَو وهب الْعَارِية أَو الْوَدِيعَة وكل أَمَانَة فِي يَد إِنْسَان من صَاحب الْيَد فَإِنَّهُ يجوز وَيثبت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ وينوب قبض الْأَمَانَة عَن قبض الْهِبَة وَهَذَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس أَن لَا يكون قَابِضا حَتَّى يتَمَكَّن من قَبضه بالخلية وَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الْهِبَة تبرع وَقبض الْأَمَانَة يَنُوب عَنهُ بِخِلَاف مَا إِذا بَاعَ من الْمُودع لِأَن البيع عقد ضَمَان وَقبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الضَّمَان
وَلَو كَانَت الْعين مَضْمُونَة فِي يَد إِنْسَان بِالْمثلِ أَو بِالْقيمَةِ كَمَا فِي الْغَصْب والمقبوض على سوم الشِّرَاء فَوَهَبَهَا من صَاحب الْيَد تصح الْهِبَة وَيبرأ عَن الضَّمَان فَيكون قبضا غير مَضْمُون
وَلَو كَانَت مَضْمُونَة بغَيْرهَا كَالرَّهْنِ وَالْمَبِيع فَوَهَبَهَا الْمَالِك لمن هِيَ فِي يَده فَإِنَّهُ لَا يكون قَابِضا بذلك مَا لم يقبضهَا قبضا مستأنفا بعد عقد الْهِبَة لِأَنَّهَا إِذا كَانَت مَضْمُونَة بغَيْرهَا لم تصح الْبَرَاءَة عَنْهَا بِالْهبةِ فَلَا يصير قبض أَمَانَة وَلَا بُد من تجانس القبضين حَتَّى يتساويا(3/165)
ثمَّ إِذا صحت الْهِبَة عِنْد وجود شرائطها واحتجنا إِلَى بَيَان الحكم فَنَقُول حكم الْهِبَة ثُبُوت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ غير لَازم حَتَّى يَصح الرُّجُوع وَالْفَسْخ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَقع الْملك لَازِما إِلَّا فِي هبة الْوَلَد لوَلَده
لَكِن يكره الرُّجُوع فِي الْهِبَة لِأَن من بَاب الدناءة
وللموهوب لَهُ أَن يمْتَنع عَن الرَّد
وَلَا يَصح الرُّجُوع إِلَّا بتراض أَو بِقَضَاء القَاضِي لِأَنَّهُ فسخ بعد تَمام العقد فَصَارَ كالفسخ بِسَبَب الْعَيْب بعد الْقَبْض
وَإِنَّمَا يمْتَنع الرُّجُوع بِأَسْبَاب مِنْهَا الْعِوَض للْحَدِيث الْوَاهِب أَحَق بهبته مَا لم يثبت مِنْهَا أَي يعوض
وَلَكِن الْعِوَض نَوْعَانِ عوض مَشْرُوط فِي العقد وَعوض مُتَأَخّر عَن العقد
أما الْمَشْرُوط فِي العقد بِأَن قَالَ وهبت لَك هَذَا العَبْد على أَن تعوضني هَذَا الثَّوْب فَحكمه أَن لكل وَاحِد أَن يرجع فِي السلعتين جَمِيعًا مَا لم يتقابضا
وَإِن قبض أَحدهمَا دون الآخر كَانَ للقابض وَغير الْقَابِض الرُّجُوع
فَإِذا تقابضا جَمِيعًا انْقَطع الرُّجُوع وَصَارَ بِمَنْزِلَة البيع وَإِن كَانَ عقده عقد هبة حَتَّى يرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَيرجع فِي الِاسْتِحْقَاق وَتثبت الشُّفْعَة وَهَذَا عندنَا وَعند زفر عقده عقد بيع حَتَّى يشْتَرط الْقَبْض عندنَا لثُبُوت الْملك فِي هَذِه الْهِبَة وَلَا يَصح فِي الشُّيُوع وَعِنْده بِخِلَافِهِ(3/166)
فَأَما الْعِوَض الْمُتَأَخر عَن العقد فَهُوَ لإِسْقَاط الرُّجُوع فَلَا يصير فِي معنى الْمُعَاوضَة لَا ابْتِدَاء وَلَا انْتِهَاء وَإِنَّمَا يكون المَال الثَّانِي عوضا عَن الأول بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ نصا بِأَن أعْطى للْوَاهِب شَيْئا وَقَالَ هَذَا عوض عَن هِبتك أَو قد نحلتك هَذَا عَن هِبتك أَو كافأتك أَو جازيتك أَو أثبتك أَو قَالَ هَذَا بدل هِبتك أَو مَكَان هِبتك أَو قد تَصَدَّقت بِهَذَا عَلَيْك بَدَلا من هِبتك فَإِن هَذَا عوض فِي هَذِه الْوُجُوه إِذا وجد قبض الْعِوَض وَيكون الْعِوَض هبة تصح بِمَا تصح بِهِ الْهِبَة وَتبطل بِمَا تبطل بِهِ الْهِبَة
فَأَما إِذا لم يضف الْعِوَض إِلَى الْهِبَة الأولى فَإِنَّهَا تكون هبة مُبتَدأَة وَيثبت حق الرُّجُوع فِي الهبتين جَمِيعًا
وَمِنْهَا الْعِوَض من حَيْثُ الْمَعْنى وَهُوَ لَيْسَ بعوض مَالِي كالثواب فِي الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يكون عوضا مَانِعا من الرُّجُوع وكصلة الرَّحِم الْمحرم وصلَة الزَّوْجِيَّة حَتَّى لَا يَصح الرُّجُوع فِي هبة ذَوي الْأَرْحَام الْمَحَارِم وَهبة الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّهُ قد حصل الْعِوَض معنى
وَمِنْهَا إِذا زَادَت فِي الْهِبَة زِيَادَة مُتَّصِلَة بِفعل الْمَوْهُوب لَهُ أَو بِفعل غَيره بِأَن كَانَت جَارِيَة مَهْزُولَة فَسَمنت أَو كَانَت دَارا فَبنى الْمَوْهُوب لَهُ فِيهَا بِنَاء أَو كَانَت أَرضًا فغرس فِيهَا أشجارا أَو نصب فِيهَا دولابا وَهُوَ مُثبت فِي الأَرْض مَبْنِيّ فِيهَا أَو كَانَ ثوبا فصبغه بعصفر أَو قطعه قَمِيصًا وخاطه لِأَن الْمَوْهُوب اخْتَلَط بِغَيْرِهِ وَالرُّجُوع لَا يُمكن فِي غير الْمَوْهُوب فَامْتنعَ أصلا
أما الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة كالأرش وَالْولد والعقر فَلَا تمنع الرُّجُوع لِأَنَّهُ يُمكن الْفَسْخ فِي الْأُم وَالْأَصْل دونهَا بِخِلَاف زَوَائِد الْمَبِيع لِأَن ثمَّ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا لِأَنَّهَا عقد معوضة بِخِلَاف الْهِبَة(3/167)
وَأما نُقْصَان الْمَوْهُوب فَلَا يمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّهُ فَاتَ بعضه وَلَو كَانَ الْكل قَائِما فَرجع فِي الْبَعْض دون الْبَعْض جَازَ فَكَذَا هَذَا
وَمِنْهَا خُرُوج الْمَوْهُوب عَن ملك الْمَوْهُوب لَهُ بِأَن بَاعَ أَو وهب لِأَن اخْتِلَاف الْملكَيْنِ كاختلاف الْعَينَيْنِ
وَكَذَا إِذا مَاتَ الْمَوْهُوب لَهُ لِأَن الْملك ينْتَقل إِلَى ورثته
وَكَذَا إِذا مَاتَ الْوَاهِب لِأَنَّهُ ينْتَقل إِلَى ورثته
وَكَذَا لَو هلك الْمَوْهُوب لِأَنَّهُ زَالَ الْملك فَلَا يحْتَمل الْفَسْخ
ثمَّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة بِغَيْر الْقَضَاء فسخ عندنَا حَتَّى يجوز فِي الْمشَاع وَلَا يشْتَرط الْقَبْض خلافًا لزفَر وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو وهب رجل لِابْنِهِ الصَّغِير شَيْئا صحت الْهِبَة لِأَن قبض الْأَب كقبضه وَكَذَا قبض جده بعده وَقبض وَصِيّ الْأَب وَالْجد بعدهمَا حَتَّى لَو وهب هَؤُلَاءِ من الصَّغِير وَالْمَال فِي أَيْديهم صحت الْهِبَة ويصيرون قابضين للصَّغِير وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا بَاعَ الْأَب مَاله من ابْنه الصَّغِير ثمَّ هلك الْمَبِيع عقيب البيع كَانَ الْهَلَاك على الصَّغِير لِأَنَّهُ صَار قَابِضا بِقَبض الْأَب
وَكَذَلِكَ لَو وهب أَجْنَبِي للصَّغِير شَيْئا فَقبض ذَلِك أحد هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لِأَن لَهُم ولَايَة التَّصَرُّف فِي مَاله
وَمن غَابَ مِنْهُم غيبَة مُنْقَطِعَة فالولاية تنْتَقل إِلَى الْأَبْعَد كَمَا فِي ولَايَة النِّكَاح
وَلَا يجوز قبض غير هَؤُلَاءِ عَنهُ أَجْنَبِيّا كَانَ أَو ذَا رحم مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُم عَلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ الصَّغِير فِي حجره وَعِيَاله فَيكون قَبضه للهبة بِمَنْزِلَة إِيصَال النَّفْع إِلَيْهِ وَيكون من بَاب الْحِفْظ(3/168)
وَلَو قبض الصَّغِير الْعَاقِل مَا وهب لَهُ وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة جَازَ قَبضه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز لِأَن هَذَا من بَاب النَّفْع وَقبض هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ أَيْضا وَإِن كَانَ عَاقِلا لِأَن النّظر الْكَامِل فِي هَذَا أَن يملك كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَلِك
وَلَو وهب الْأَب مَال الصَّغِير لَا يجوز لِأَنَّهُ تبرع وَلَو وهب بِشَرْط الْعِوَض وَقبل الآخر الْعِوَض لم يجز ذَلِك فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَقَالَ مُحَمَّد يجوز ف أَبُو حنيفَة اعْتبر نفس الْهِبَة وَهِي من بَاب التَّبَرُّع وَلَا يملك الْأَب ذَلِك وَمُحَمّد يَقُول هَذَا بِمَعْنى البيع
وعَلى هَذَا الْخلاف الْمَأْذُون وَالْمكَاتب إِذا وهبا بِشَرْط الْعِوَض لم يجز عِنْدهمَا خلافًا لَهُ
وَلَو وهب رجل لعبد رجل فَإِن الْقبُول وَالْقَبْض إِلَى العَبْد دون مَوْلَاهُ وَيكون الْملك لمولى بِحكم أَنه كسب عَبده لِأَن الْغَرَض هُوَ وَجه العَبْد فَيكون هبة لَهُ وَلَا يجوز قبض الْمولى وقبوله عَنهُ سَوَاء كَانَ على العَبْد دين أَو لم يكن لِأَنَّهُ هبة للْعَبد
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الْمكَاتب أَن قبُول الْهِبَة وَقَبضهَا إِلَيْهِ دون مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ أَحَق بِكَسْبِهِ
وَيكون للْوَاهِب الرُّجُوع إِذا كَانَ العَبْد أَجْنَبِيّا فِي حَقه وَإِن كَانَ انْتقل الْملك إِلَى مَوْلَاهُ لِأَن ملك العَبْد غير مُسْتَقر فِيهِ فَكَأَن الْملك وَقع للْمولى ابْتِدَاء
وَكَذَلِكَ فِي الْمكَاتب إِن عتق فَظَاهر لِأَنَّهُ اسْتَقر ملكه وَإِن عجز وَصَارَ كَسبه للْمولى فَلهُ حق الرُّجُوع فِي قَول أبي يُوسُف وَلم يجز الرُّجُوع فِي قَول مُحَمَّد بِنَاء على أَن عِنْد أبي يُوسُف كَأَن الْملك وَقع للْمولى من الِابْتِدَاء وَعند مُحَمَّد كَأَنَّهُ ثَبت من وَقت الْعَجز(3/169)
وَلَو وهب الرجل لعبد رجل هبة والواهب ذُو رحم محرم من العَبْد دون الْمولى فَإِنَّهُ يرجع بالِاتِّفَاقِ
وَأما إِذا كَانَ الْمولى ذَا رحم محرم من الْوَاهِب دون العَبْد فَعِنْدَ أبي حنيفَة يرجع أَيْضا وَعِنْدَهُمَا لَا يرجع وَهَذَا بِنَاء على أَن الْملك فِي الْهِبَة يَقع للْمولى فَيكون هبة من الْمولى عِنْدهمَا وَإِن كَانَ ذَا رحم محرم لَا يرجع وَإِن كَانَ أَجْنَبِيّا يرجع وَلَا عِبْرَة لجَانب العَبْد وَعند أبي حنيفَة هَذَا هبة للْمولى من وَجه وَلِلْعَبْدِ من وَجه فَلَا تكون صلَة كَامِلَة فِي حق كل وَاحِد على الِانْفِرَاد والصلة الْكَامِلَة مَانِعَة للرُّجُوع فَلَا تتعدى إِلَى الصِّلَة من وَجه
فَأَما إِذا كَانَا جَمِيعًا ذَوي رحم محرم من الْوَاهِب ذكر أَبُو الْحسن الْكَرْخِي عَن مُحَمَّد أَن قِيَاس قَول أبي حنيفَة أَن يرجع لِأَنَّهُ لم يكن لكل وَاحِد مِنْهُمَا صلَة كَامِلَة
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الهندواني لَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَن الْهِبَة لأيهما كَانَت تمنع الرُّجُوع
وعَلى هَذَا التَّفْرِيع لَو وهب للْمكَاتب وَهُوَ ذُو رحم محرم من الْوَاهِب أَو مَوْلَاهُ ذُو رحم محرم من الْوَاهِب فَإِن أدّى الْمكَاتب اعْتبر حَاله لِأَنَّهُ اسْتَقر ملكه بِالْعِتْقِ
فَإِن عجز فَفِي قِيَاس قَول أبي حنيفَة يعْتَبر حَال الْمولى كَأَن الْهِبَة وَقعت لَهُ من الِابْتِدَاء
وَعند مُحَمَّد لَا يرجع لِأَن الْكسْب كَانَ للْمكَاتب وَعند الْعَجز ينْتَقل إِلَى الْمولى
وَلَو وهب الرجل أَوْلَاده فَسلم إِلَى الْكِبَار حصتهم وَقبض هُوَ حِصَّة الصغار جَازَ لما قُلْنَا
وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يُسَوِّي بَين أَوْلَاده فِي الْهِبَة فِي قَول أبي يُوسُف وَفِي قَول مُحَمَّد يجْزِيه إِن أَعْطَاهُم على قدر مواريثهم وَالله أعلم بِالصَّوَابِ(3/170)
كتاب الْوَدِيعَة
اعْلَم أَن عقد الْوَدِيعَة مَشْرُوع ومندوب إِلَيْهِ لِأَن فِيهِ إِعَانَة لصَاحِبهَا لحفظ مَاله وَالله تَعَالَى يَقُول {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى}
ثمَّ عقد الْوَدِيعَة استحفاظ من الْمُودع وائتمان لَهُ فَتكون الْوَدِيعَة أَمَانَة فِي يَد الْمُودع لوُجُود الائتمان من الْمُودع يلْزمه حفظهَا إِذا قبل الْوَدِيعَة لِأَنَّهُ الْتزم الْحِفْظ فَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظ على الْوَجْه الَّذِي يحفظ مَاله بحرزه وَبِيَدِهِ وبيد من كَانَ مَاله فِي يَده نعني بحرزه الَّذِي هُوَ ملكه أَو يستأجره أَو يستعيره وَلَيْسَ الشَّرْط أَن يحفظه فِي الْحِرْز الَّذِي يحفظ فِيهِ مَاله ونعني بيد من كَانَ مَاله فِي يَده كل من كَانَ فِي عِيَاله حَتَّى المتسأجر الَّذِي اسْتَأْجرهُ مشاهرة بِنَفَقَتِهِ وَكسوته دون الَّذِي اسْتَأْجرهُ بِالدَّرَاهِمِ أَو الْمُسْتَأْجر مياومة وَيدخل فِيهِ العَبْد الْمَأْذُون الَّذِي فِي يَده مَاله وَشريك الْمُفَاوضَة والعنان وَإِن لم يَكُونُوا فِي عِيَاله
ثمَّ إِذا أخرجه من يَده وَدفعه إِلَى غَيره وَدِيعَة يصير ضَامِنا لِأَنَّهُ رَضِي بحفظه دون حفظ غَيره من غير ضَرُورَة حَتَّى إِذا وَقع الْحَرِيق وَنَحْوه فِي دَاره فأودع غَيره لَا يضمن
وَأما مُودع الْمُودع هَل يضمن لَو هَلَكت الْوَدِيعَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة(3/171)
لَا يضمن وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يضمن وَالْمَالِك بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُودع الأول وَإِن شَاءَ ضمن الثَّانِي فَإِن ضمن الأول لَا يرجع على الثَّانِي وَإِن ضمن الثَّانِي يرجع على الأول
وَلَو اسْتهْلك الثَّانِي الْوَدِيعَة فَلصَاحِب الْوَدِيعَة الْخِيَار فِي تضمينها فَإِن ضمن الأول يرجع الأول على الثَّانِي لِأَنَّهُ يصير ملكا لَهُ بِالضَّمَانِ فَكَأَنَّهُ أودع مَاله عِنْده وَإِن ضمن الثَّانِي لَا يرجع على الأول وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
فَإِن اسْتردَّ الْمُودع الأول من الثَّانِي وَحفظه بِنَفسِهِ يبرأ عَن الضَّمَان عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وعَلى هَذَا إِذا اسْتعْمل الْوَدِيعَة بِأَن ركب الدَّابَّة وَلبس الثَّوْب ثمَّ نزل وَنزع يعود أَمينا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَفِي الْمُسْتَأْجر وَالْمُسْتَعِير إِذا خالفا ثمَّ تركا الْخلاف بَقِي الضَّمَان وَعند بَعضهم هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُودع
وَلَو سَافر بالوديعة لَا يضمن عِنْد أبي حنيفَة وَلَو أودع إنْسَانا ضمن وَعِنْدَهُمَا يضمن وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو رد الْوَدِيعَة إِلَى بَيت الْمُودع من غير حَضْرَة الْمُودع يضمن
وَكَذَا إِذا رد إِلَى يَد من فِي عِيَال الْمَالِك لِأَنَّهُ لم يرض بيدهم حَيْثُ أودع وَفِي الْإِجَارَة وَالْعَارِية لَا يضمن لعادة النَّاس حَتَّى إِن الْعَارِية إِذا كَانَت شَيْئا نفيسا قَالُوا يضمن وَقيل أَيْضا فِي الثِّيَاب كَذَلِك وَإِنَّمَا الْعَادة فِي بعض آلَات الْبَيْت
وَلَو بعث الْوَدِيعَة مَعَ من كَانَ فِي عِيَاله لَا يضمن(3/172)
وَلَو قَالَ لَهُ احفظ فِي هَذِه الدَّار وَلَا تحفظ فِي هَذَا الْبَيْت وَإنَّهُ مثل غَيره فِي الْحِرْز فَلَو حفظ فِي غَيره لَا يضمن بِخِلَاف الدَّاريْنِ
وَلَو قَالَ احفظ فِي هَذَا الْمصر وَلَا يخرج يجب عَلَيْهِ الْحِفْظ فِي ذَلِك الْمصر إِلَّا إِذا كَانَ ثمَّة عذر ظَاهر بِأَن قصد السُّلْطَان أَخذه فَأخْرجهُ مَعَ نَفسه
وَلَو قَالَ الْمُودع هَلَكت الْوَدِيعَة عِنْدِي أَو رَددتهَا إِلَيْك وَأنكر الْمُودع وَقَالَ لَا بل أتلفتها فَالْقَوْل قَول الْمُودع لِأَنَّهُ أَمِين فِي ذَلِك وَلَكِن مَعَ الْيَمين لِأَنَّهُ لَو أقرّ بذلك يلْزمه فَإِن أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على الْإِتْلَاف يضمن الْمُودع وَكَذَا إِذا حلف الْمُودع على الْإِتْلَاف فنكل
فَلَو أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنه أتلفهَا الْمُودع وَأقَام الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنَّهَا هَلَكت فَبَيِّنَة الْمُودع أولى لِأَنَّهَا أَكثر إِثْبَاتًا
وَلَو أَقَامَ على إِقْرَار الْمُودع أَنَّهَا هَلَكت يقبل وَيكون إكذابا لبينته
وَلَو طلب الْمُودع يَمِين الْمُودع بِاللَّه مَا يعلم أَنَّهَا هَلَكت فَالْقَاضِي يحلفهُ فَإِن حلف يقْضِي بِالضَّمَانِ وَإِن نكل يقْضِي بِالْبَرَاءَةِ
وعَلى هَذَا إِذا جحد الْوَدِيعَة فَالْقَوْل قَوْله
وَلَو أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على الْوَدِيعَة يضمن الْمُودع فَإِن أقرّ بالوديعة وَأقَام الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنَّهَا هَلَكت قبل جحوده الْوَدِيعَة لَا يقبل لِأَنَّهُ بالجحود أكذب بَينته وَإِن أَقَامَ على إِقْرَار الْمُودع بذلك يقبل
وَلَو طلب من القَاضِي أَن يحلف الْمُودع بِاللَّه مَا يعلم أَن الْوَدِيعَة هَلَكت قبل جحوده إِيَّاهَا يحلفهُ فَإِن حلف يقْضِي بِالضَّمَانِ وَإِن نكل يقْضِي بِالْبَرَاءَةِ
وَلَو أودع رجلَانِ عِنْد رجل وَدِيعَة وغابا ثمَّ حضر أَحدهمَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يدْفع إِلَيْهِ حِصَّته
مَا لم يجتمعا وَإِن طلب مِنْهُ عِنْد أبي(3/173)
حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَهُ أَن يقسم وَيدْفَع إِلَيْهِ حِصَّته وَلَا تصح الْقِسْمَة فِي حق الْغَائِب حَتَّى لَو هلك النّصْف الْبَاقِي فِي يَده يكون للْغَائِب فِي أَن يَأْخُذ الْمُودع نصفه الآخر
وَلَو أودع رجل عِنْد رجلَيْنِ وَدِيعَة مِمَّا يقسم فَلَهُمَا أَن يقسماه وَيَأْخُذ كل وَاحِد نصفه للْحِفْظ لِأَنَّهُ رَضِي بحفظهما وَأمكن من هَذَا الْوَجْه
وَلَو دفع أَحدهمَا إِلَى صَاحبه ضمن النّصْف عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ رَضِي بحفظهما لَا بِحِفْظ أَحدهمَا وَعِنْدَهُمَا لَا يضمن
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا إِذا كَانَت لَا تقسم لَا يضمن لِأَنَّهُ لَا يُمكن حفظهما فِي مَكَان وَاحِد فَكَانَ رَاضِيا بِحِفْظ أَحدهمَا
وعَلى هَذَا الْخلاف فِي المرتهنين والوكيلين بِالْقَبْضِ
وَلَو خلط الودية بِمَال نَفسه إِن كَانَ يُمكن التَّمْيِيز لَا شَيْء عَلَيْهِ ويميز وَإِن كَانَ لَا يُمكن التَّمْيِيز يضمن الْحَافِظ عِنْد أبي حنيفَة مثله لصَاحبه
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت وديعتان فخلط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى يضمن مثل ذَلِك لصاحبهما وَإِذا أدّى الضَّمَان حل لَهُ ذَلِك وَعِنْدَهُمَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير إِن شَاءَ الْمَالِك ضمنه مثله وَإِن شَاءَ أَخذ نصف الْمَخْلُوط
وَكَذَا فِي الوديعتين وَفِي سَائِر المكيلات والموزونات إِن شَاءَ ضمنه كل وَاحِد مثل حَقه وَإِن شَاءَ باعا الْمَخْلُوط وقبضا الثّمن وَيَأْخُذ صَاحب الْحِنْطَة ثمن الْحِنْطَة غير مخلوط بِالشَّعِيرِ وَيَأْخُذ صَاحب الشّعير ثمن الشّعير غير مخلوط بِالْحِنْطَةِ
وَلَو مَاتَ الْمُودع وَلم يبين الْوَدِيعَة فَإِن كَانَت مَعْرُوفَة وَهِي(3/174)
قَائِمَة ترد إِلَى صَاحبهَا
وَإِن لم تعرف يضمن وَيكون صَاحبهَا شَرِيكا للْغُرَمَاء وَالله تَعَالَى أعلم(3/175)
كتاب الْعَارِية
أعلم أَن إِطْلَاق اسْم الْعَارِية فِي الْعرف بطريقتين بطرِيق الْحَقِيقَة وبطريق الْمجَاز
أما بطرِيق الْحَقِيقَة فَهُوَ إِعَارَة الْأَعْيَان الَّتِي ينْتَفع بهَا مَعَ قِيَامهَا كالدور وَالْعَبِيد وَالدَّوَاب وَنَحْوهَا وَهُوَ تمْلِيك مَنَافِع الْأَعْيَان عِنْد عَامَّة الْمَشَايِخ
وَقَالَ الْكَرْخِي إِنَّه عقد إِبَاحَة فَإِنَّهُ لَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يُؤَاجر وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لملك الْإِجَارَة كالمستأجر يملك أَن يُؤَاجر
لَكِن هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح فَإِنَّهُ يملك أَن يعير وَلَو كَانَ إِبَاحَة لَكَانَ لَا يملك كالمباح لَهُ الطَّعَام لَا يملك الدّفع إِلَى غَيره إِلَّا أَنه لَا يملك الْإِجَارَة لِأَنَّهُ عقد لَازم وَالْعَارِية تبرع فَكيف يملك بِهِ مَا هُوَ لَازم فَيُؤَدِّي إِلَى تَغْيِير الْمَشْرُوع ثمَّ الْعَارِية أَمَانَة عندنَا وَعند الشَّافِعِي مَضْمُونَة وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو شَرط الضَّمَان فِي الْعَارِية هَل يَصح الْمَشَايِخ مُخْتَلفُونَ فِيهِ وَأما بطرِيق الْمجَاز فَهُوَ إِعَارَة الْمكيل وَالْمَوْزُون وكل مَا لَا يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ إِلَّا(3/177)
باستهلاكه فَهُوَ قرض حَقِيقَة وَلَكِن يُسمى عَارِية مجَازًا لِأَنَّهُ لما رَضِي بِالِانْتِفَاعِ بِهِ باستهلاكه بِبَدَل كَانَ تَمْلِيكًا لَهُ بِبَدَل وَهُوَ تَفْسِير الْقَرْض وَلَا يلْزم الْأَجَل فِيهِ كَمَا فِي الْعَارِية
ثمَّ الْعَارِية قد تكون مُطلقَة وَقد تكون مُقَيّدَة فالمطلقة
أَن يستعير شَيْئا وَلم يبين أَنه يَسْتَعْمِلهُ بِنَفسِهِ أَو بِغَيْرِهِ وَلم يبين كَيْفيَّة الِاسْتِعْمَال
وَحكمهَا أَنه ينزل منزلَة الْمَالِك فَكل مَا ينْتَفع بِهِ الْمَالِك ينْتَفع بِهِ الْمُسْتَعِير من الرّكُوب وَالْحمل وَله أَن يركب غَيره وَلَكِن يحمل بِقدر الْمُعْتَاد لَا زِيَادَة عَلَيْهِ لِأَن الزِّيَادَة تكون إتلافا
فَأَما إِذا بَين أَنه يسْتَعْمل بِنَفسِهِ فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن كَانَ مِمَّا يتَفَاوَت النَّاس فِي اسْتِعْمَاله كالركوب واللبس فَإِنَّهُ يخْتَص بِهِ وَلَا يجوز لَهُ أَن يركب غَيره وَأَن يلبس غَيره
وَإِن كَانَ شَيْئا لَا يتَفَاوَت كسكنى الدَّار فَلهُ أَن يعير غَيره
وَكَذَا إِذا سمي وقتا أَو مَكَانا فجاوز ذَلِك الْمَكَان أَو زَاد على الْوَقْت يضمن لِأَن التَّخْصِيص مُفِيد
فَأَما إِذا بَين مِقْدَار الْحمل وَالْجِنْس فَإِن حمله عَلَيْهِ أَو زَاد يضمن بِقدر الزِّيَادَة
وَلَو حمل عَلَيْهِ شَيْئا بِخِلَاف جنسه فَإِن كَانَ مثله فِي الخفة أَو أخف مِنْهُ لَا يضمن وَإِن كَانَ أثقل مِنْهُ يضمن إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا فِيهِ زِيَادَة ضَرَر بالدابة فَيضمن وَإِن كَانَ مثله فِي الْوَزْن والثقل بِأَن اسْتعَار دَابَّة ليحمل عَلَيْهَا مائَة من من الْقطن فَحمل عَلَيْهَا مائَة من من الْحَدِيد فَإِنَّهُ يضمن لِأَن ثقل الْحَدِيد يكون فِي مَوضِع وَاحِد وَثقل(3/178)
الْقطن يتفرق على جَمِيع ظهرهَا وبدنها
وَإِن كَانَ أثقل مِنْهُ فَإِن كَانَ من الْجِنْس الْمَذْكُور يضمن بِقدر الزِّيَادَة وَإِن كَانَ من خلاف الْجِنْس يضمن كل الْقيمَة
وَلَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يُؤَاجر لما ذكرنَا فَإِن فعل فَهُوَ ضَامِن من حِين سلمه إِلَى الْمُسْتَأْجر وَيكون الْمُعير بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُسْتَعِير وَإِن شَاءَ ضمن الْمُسْتَأْجر لوُجُود التَّعَدِّي مِنْهُمَا فَإِن ضمن الْمُسْتَعِير لم يرجع على الْمُسْتَأْجر لِأَنَّهُ ملك الْعين بِالضَّمَانِ فَكَأَنَّهُ آجر ملك نَفسه فَهَلَك وَإِن ضمن الْمُسْتَأْجر فَإِن كَانَ لَا يعلم أَنه عَارِية يرجع على الْمُسْتَعِير لِأَنَّهُ ضمن الدَّرك بِإِيجَاب عقد فِيهِ بدل فَيكون غرور فَأَما إِذا كَانَ يعلم فَلَا يرجع لِأَنَّهُ لَا غرور فِيهِ وَالرُّجُوع بِحكم الْغرُور
وَلَو اسْتعَار أَرضًا على أَن يَبْنِي فِيهَا بِنَاء أَو يغْرس فِيهَا غرسا فإمَّا إِن كَانَ مُطلقًا أَو مؤقتا إِلَى عشر سِنِين وَنَحْوه
فَإِن كَانَ مُطلقًا فَبنى فِيهَا أَو غرس فَلصَاحِب الأَرْض أَن يستردها فِي أَي وَقت شَاءَ لِأَن الْعَارِية غير لَازِمَة وعَلى الْمُسْتَعِير أَن يَأْخُذ غرسه وبناءه لِأَنَّهُ شغل أَرض غَيره وَلم يرض صَاحبه بذلك وَلَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يضمن الْمُعير قيمَة غرسه وبنائه وَيتْرك ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ الْغرُور لِأَن الْعَارِية تسترد على كل حَال
وعَلى قَول مَالك لَهُ أَن يرجع عَلَيْهِ
وَإِن كَانَ مؤقتا فَلهُ أَن يسْتَردّ أَيْضا لَكِن الْمُسْتَعِير بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُعير قيمَة غرسه وبنائه وَيتْرك ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غره حَيْثُ وَقت وقتا طَويلا ثمَّ اسْتردَّ قبل مضيه وَإِن شَاءَ أَخذ غرسه وبناءه إِن لم يضر(3/179)
الْقلع بِأَرْض الْمُعير فَأَما إِذا كَانَ يضر بِهِ فَالْخِيَار للْمُعِير إِن شَاءَ أَخذ الْغَرْس وَالْبناء بِالضَّمَانِ وَإِن شَاءَ رَضِي الله بِالْقطعِ فَأَما إِذا أعَار الأَرْض ليزرع فزرع ثمَّ أَرَادَ أَن يسْتَردّ وَالزَّرْع غير مدرك فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك وَتبقى الأَرْض فِي يَده بطرِيق الْإِجَارَة إِلَى أَن يَأْخُذ الْغلَّة لِأَن هَذِه مُدَّة يسيرَة مَعْلُومَة فِيهِ وَفِيه نظر من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَاف الْغَرْس وَالْبناء فَإِنَّهُ لَو انقلبت إِجَارَة يتَضَرَّر بِهِ الْمُعير لطول الْمدَّة
وَإِن اخْتلف الْمُعير وَالْمُسْتَعِير فِي عدد الْأَيَّام أَو فِي مِقْدَار الْحمل أَو فِي الْمَكَان فَالْقَوْل قَول الْمُعير لِأَن الْمُسْتَعِير قَابض لنَفسِهِ فَيكون سُقُوط الضَّمَان بِنَاء على الْإِذْن لَهُ(3/180)
كتاب الدَّعْوَى والبينات
الدَّعْوَى نَوْعَانِ صَحِيحَة وفاسدة
أما الصَّحِيحَة فَأن يُوجد فِيهَا شَرَائِط الصِّحَّة بِأَن يدعى على خصم حَاضر وَأَن يكون الْمُدعى بِهِ شَيْئا مَعْلُوما معينا وَأَن يتَعَلَّق بِهِ حكم على الْمَطْلُوب مِنْهُ
والفاسدة أَن لَا يكون الْخصم حَاضرا وَأَن يكون الْمُدعى بِهِ مَجْهُولا لِأَنَّهُ لَا يُمكن للشُّهُود الشَّهَادَة وَلَا للْقَاضِي الْقَضَاء بِهِ وَأَن لَا تلْزم الْمَطْلُوب مِنْهُ ذَلِك بِأَن ادّعى أَنه وَكيل فلَان
وَالْقَاضِي لَا يسمع دَعْوَاهُ إِذا أنكر الآخر لِأَن يُمكنهُ عَزله للْحَال
ثمَّ إِنَّمَا يصير الْمُدعى بِهِ مَعْلُوما إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ عِنْد القَاضِي بِأَن كَانَ مَنْقُولًا فِي الدَّعْوَى وبالشهادة وَإِن لم يكن مَنْقُولًا نَحْو الْعقار والرحى وَنَحْوهمَا مِمَّا يُمكن مَعْرفَته بالتحديد فإعلامه بذلك وَهُوَ فِي الْعقار
وَمَا لَا يُمكن مَعْرفَته بالتحديد كحجر الرَّحَى فينصب القَاضِي أَمينا حَتَّى يسمع الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَة عِنْد ذَلِك بِالْإِشَارَةِ
ثمَّ الْمُدَّعِي من يلْتَمس بِدَعْوَاهُ إِثْبَات ملك على غَيره فِي الْعين أَو فِي الدّين أَو يثبت حَقًا
وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ من يدْفع ذَلِك عَن نَفسه وينفيه(3/181)
وَقيل الْمُدعى من إِذا ترك الدَّعْوَى يتْرك وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ من إِذا ترك الدَّعْوَى لم يتْرك
وَذكر مُحَمَّد أَن الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُنكر
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا جَاءَ الْمُدَّعِي إِلَى القَاضِي مَعَ خَصمه فَالْقَاضِي يسْأَله مَاذَا يَدعِي عَلَيْهِ فَإِذا ادّعى الْمُدَّعِي دَعْوَى صَحِيحَة على خصم حَاضر سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَاب الْمُدَّعِي وَقَالَ أجب خصمك بِلَا أَو نعم وَمَا ذكرنَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس مَا ذكر فِي الزِّيَادَات أَن الْمُدَّعِي إِذا جَاءَ إِلَى القَاضِي مَعَ خَصمه فَإِنَّهُ لَا يسْأَل الْمُدَّعِي مَاذَا يَدعِي حَتَّى يبْدَأ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ ثمَّ إِذا ادّعى دَعْوَى صَحِيحَة وسمعها لَا يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَاب مَا لم يسْأَل الْمُدَّعِي مِنْهُ أَن يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَابه لِأَنَّهُ إنْشَاء الْخُصُومَة
لَكِن الصَّحِيح هُوَ الِاسْتِحْسَان لِأَن الْخَصْمَيْنِ رُبمَا يعجزان عَن ذَلِك لمهابة مجْلِس القَاضِي
فَإِذا سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْجَواب فَإِذا أقرّ بِهِ أمره بِتَسْلِيم الْمُدعى بِهِ إِلَى الْمُدَّعِي وَإِن أنكر سَأَلَ الْمُدَّعِي عَن الْبَيِّنَة عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا طلب الْمُدَّعِي مِنْهُ الْحلف لِأَن عِنْده إِذا قَالَ الْمُدَّعِي لي بَيِّنَة حَاضِرَة فِي الْمصر فَالْقَاضِي لَا يحلفهُ وَعِنْدَهُمَا يحلفهُ فَلذَلِك يسْأَل
فَإِذا قَالَ لَا بَيِّنَة لي أَو لَيْسَ لي بَيِّنَة حَاضِرَة فَإِنَّهُ يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا طلب الْمُدَّعِي الْيَمين لِأَن الْيَمين حَقه فَلَا بُد من طلبه
فَإِذا حلفه فَإِن حلف تَنْقَطِع الْخُصُومَة إِلَى وَقت إِقَامَة الْبَيِّنَة وَإِن نكل يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ عندنَا فِي الْأَمْوَال وَعند الشَّافِعِي يرد الْيَمين إِلَى الْمُدَّعِي فَإِذا حلف يقْضِي لَهُ
وَفِي الْقصاص فِي(3/182)
الطّرف يقْضِي بِالنّكُولِ أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يقْضِي بِالدِّيَةِ وَأما فِي النَّفس فعندهما يقْضِي بِالدِّيَةِ أَيْضا
وَعِنْده لَا يقْضِي بِالْقصاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ وَلَكِن يحبس حَتَّى يقر أَو يحلف وَكَذَا لَا يقْضِي بِالنّكُولِ فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يقْضِي وَأَجْمعُوا أَنه لَا يقْضِي بِالنّكُولِ فِي الْحُدُود
وعَلى هَذَا الِاسْتِحْلَاف عِنْده لَا يسْتَحْلف فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة وَهِي النِّكَاح وَالرّق وَالْوَلَاء وَالنّسب وَالرَّجْعَة والفيء فِي الْإِيلَاء وَالِاسْتِيلَاد لِأَن الِاسْتِحْلَاف لأجل النّكُول وَهُوَ بذل وَإِبَاحَة عِنْد أبي حنيفَة وَلَا يجْرِي ذَلِك فِي هَذِه الْأَشْيَاء
وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَعْنى الْإِقْرَار الَّذِي فِيهِ شُبْهَة وَهَذِه الْأَشْيَاء مِمَّا يثبت بِدَلِيل فِيهِ شُبْهَة وَهَذَا مِمَّا يعرف فِي الخلافيات
ثمَّ الدَّعْوَى إِمَّا أَن تكون فِي ملك مُطلق أَو بِسَبَب مَعَ التَّارِيخ أَو بِدُونِ وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت من الْخَارِج على ذِي الْيَد أَو من الخارجين على ذِي الْيَد أَو من صَاحِبي الْيَد أَحدهمَا على صَاحبه
أما إِذا كَانَ الدَّعْوَى فِي ملك مُطلق فَنَقُول إِن كَانَت من الْخَارِج على ذِي الْيَد بِلَا تَارِيخ فَبَيِّنَة الْخَارِج أولى عندنَا وَعند الشَّافِعِي بَيِّنَة الْيَد أولى وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وعَلى هَذَا الْخلاف إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء لِأَنَّهُ لم يثبت سبق أَحدهمَا فَبَقيت دَعْوَى ملك مُطلق
فَأَما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ أولى عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَهُوَ قَول مُحَمَّد أَولا ثمَّ رَجَعَ بعد رُجُوعه من الرقة وَقَالَ لَا تقبل بَيِّنَة ذِي الْيَد على وَقت وَلَا غَيره إِلَّا فِي التَّاج كَذَا ذكر ابْن سَمَّاعَة
وَذكر مُحَمَّد هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب الدَّعْوَى وَقَالَ عِنْد أبي(3/183)
حنيفَة يقْضِي بهَا للْخَارِج ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يقْضِي بهَا لصَاحب الْيَد وَهُوَ قَول مُحَمَّد أَي قَوْله الأول لِأَن بَيِّنَة صَاحب الْيَد أَثْبَتَت أَنه أول المالكين
وَأما إِذا وَقت أَحدهمَا
وَلم يُوَقت الآخر فَعِنْدَ مُحَمَّد لَا عِبْرَة لتاريخ صَاحب الْيَد
فالخارج أولى
وَعند أبي يُوسُف بَيِّنَة صَاحب الْوَقْت أولى وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة مَعَ مُحَمَّد وَفِي رِوَايَة مَعَ أبي يُوسُف
وَأما إِذا كَانَت الدَّعْوَى من الخارجين فِي ملك مُطلق بِلَا تَارِيخ أَو تاريخهما سَوَاء وَالشَّيْء فِي يَد الثَّالِث فَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ عندنَا
وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ فِي قَول تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَتبقى فِي يَد صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَفِي رِوَايَة يقرع بَينهمَا وَيَقْضِي للَّذي خرجت لَهُ الْقرعَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ أولى بالِاتِّفَاقِ لِأَن بَيِّنَة الخارجين مسموعة فيترجح أَحدهمَا بالتاريخ
وَأما إِذا وَقت أَحدهمَا دون الآخر فهما سَوَاء عِنْد أبي حنيفَة وَلَا عِبْرَة بالتاريخ لجَوَاز أَن يكون الآخر لَو وَقت كَانَ تَارِيخه أسبق
وَعند أبي يُوسُف صَاحب الْوَقْت أولى
وَعند مُحَمَّد الَّذِي أطلق أولى لِأَن الْملك الْمُطلق ملك من الأَصْل حكما حَتَّى يسْتَحق الزَّوَائِد بِهِ
وَأما إِذا كَانَ الشَّيْء فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنه لَهُ فَإِنَّهُ يقْضِي لكل وَاحِد مِنْهُمَا بِنصْف مَا فِي يَد صَاحبه لِأَنَّهُ خَارج فِي ذَلِك النّصْف
وَلَو أَقَامَ أَحدهمَا الْبَيِّنَة يقْضِي لَهُ بِنصْف مَا فِي يَد صَاحبه وَمَا فِي يَده يتْرك فِي يَده قَضَاء ترك(3/184)
وَلَو لم يكن لَهما بَيِّنَة قضى بَينهمَا نِصْفَيْنِ قَضَاء ترك حَتَّى لَو أَقَامَ أَحدهمَا الْبَيِّنَة على صَاحبه بعد ذَلِك تقبل
وَكَذَا إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف صَاحب الْوَقْت الأول أولى
وَقَالَ مُحَمَّد لَا يعْتَبر الْوَقْت فِي حق صَاحب الْيَد فَكَانَ بَينهمَا
وَأما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا وَقت دون الآخر فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا عِبْرَة للْوَقْت فَيكون بَينهمَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف هُوَ لصَاحب الْوَقْت فِي حق صَاحب الْيَد فَكَانَ بَينهمَا
وَأما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا وَقت دون الآخر فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا عِبْرَة للْوَقْت فَيكون بَينهمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف هُوَ لصَاحب الْوَقْت
وَأما إِذا كَانَ دَعْوَى الْملك بِسَبَب فَإِن كَانَ السَّبَب هُوَ الْإِرْث فَإِن كَانَ أَحدهمَا خَارِجا وَالْآخر صَاحب الْيَد وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنه ملكه مَاتَ أَبوهُ وَتَركه مِيرَاثا لَهُ فَهُوَ للْخَارِج فِي قَول أَصْحَابنَا جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت الْملك للْمَيت مُطلقًا فَصَارَ كَمَا لَو حضر المالكان وادعيا ملكا مُطلقًا يكون للْخَارِج كَذَا هَذَا
وَكَذَا إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء أَو ذكر أَحدهمَا الْوَقْت دون الآخر
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لصَاحب الْوَقْت الأول عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَفِي قَول مُحَمَّد الآخر للْخَارِج
وَأما إِذا كَانَا خَارِجين فِي دَعْوَى الْمِيرَاث على ثَالِث وَوقت أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لَهُ فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد(3/185)
رِوَايَتَانِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة قَالَ فِي الْمِيرَاث ذَلِك كُله سَوَاء وَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ
وَفِي نَوَادِر هِشَام إِن لم يؤرخا ملك الميتين فَهُوَ لصَاحب التَّارِيخ الأول
وَكَانَ أَبُو بكر الرَّازِيّ يفرق لمُحَمد بَين الْمِيرَاث من اثْنَيْنِ وَبَين الشِّرَاء من اثْنَيْنِ قَالَ فِي الْمِيرَاث بَينهمَا نِصْفَانِ وَفِي شِرَاء الخارجين من رجل وَاحِد إِنَّه لصَاحب الْوَقْت الأول لِأَن المُشْتَرِي يثبت الْملك لنَفسِهِ وَالْوَارِث يثبت الْملك للْمَيت
لَكِن رُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي الْإِمْلَاء فِي الخارجين إِذا أَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء من وَاحِد وأرخا أَن التَّارِيخ لَا يقبل إِلَّا أَن يؤرخا ملك البَائِع وَسوى بَينه وَبَين الْمِيرَاث
وَأما إِذا كَانَ السَّبَب هُوَ الشِّرَاء بِأَن ادّعى الْخَارِج الشِّرَاء من صَاحب الْيَد وَهُوَ مُنكر يقبل
وَلَو ادّعى صَاحب الْيَد الشِّرَاء من خَارج يقبل أَيْضا لِأَنَّهُ يَصح تلقي الْملك من جِهَته
فَأَما إِذا ادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الشِّرَاء من صَاحبه من غير تَارِيخ فَلَا يقْضِي بالبينتين عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَترك الْمُدعى بِهِ فِي يَد صَاحب الْيَد
وَعند مُحَمَّد يقْضِي بالبينتين جَمِيعًا لِأَنَّهُ يُمكن تصحيحهما وَيجْعَل كَأَن الْخَارِج بَاعَ من صَاحب الْيَد وَسلم إِلَيْهِ ثمَّ بَاعَ صَاحب الْيَد مِنْهُ وَلم يسلم إِلَيْهِ فَيُؤْمَر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ وَلَا يُمكن على الْعَكْس لِأَن بيع الْعقار قبل الْقَبْض عِنْده لَا يجوز
وَأما إِذا أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق فَإِنَّهُ يقْضِي لآخرهما وقتا أَيهمَا كَانَ وَالْبيع الثَّانِي ينْقض البيع الأول عِنْدهمَا وَقَالَ مُحَمَّد يقْضِي(3/186)
بهَا للْخَارِج وَفِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل لم يذكرهُ الْكَرْخِي
وأماإذا أَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء وَالْقَبْض فعندهما تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَالْمُدَّعِي لمن هُوَ فِي يَده وَعند مُحَمَّد يقْضِي بهَا للَّذي فِي يَده وَالثمن بِالثّمن قصاصا كَأَن الْخَارِج اشْتَرَاهَا من الدَّاخِل فقبضها ثمَّ اشْتَرَاهَا الدَّاخِل مِنْهُ وَقبض لِأَن الْمَذْهَب عِنْده أَن الْقَبْض الْمَوْجُود مهما أمكن أَن يَجْعَل قبض بيع يَجْعَل حملا لأمر الْعَاقِل على الصِّحَّة
وَأما الخارجان إِذا ادّعَيَا الشِّرَاء على صَاحب الْيَد فَإِن كَانَ وَاحِدًا وَأَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء مِنْهُ بِثمن مَعْلُوم وَلم يذكرَا التَّارِيخ وَلَا الْقَبْض فَإِنَّهُ يَجْعَل بَينهمَا نِصْفَيْنِ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِي قَول تهاترت الْبَيِّنَتَانِ
وَفِي قَول يقرع بَينهمَا
فَأَما إِذا أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لَهُ
وَكَذَا إِذا وَقت أَحدهمَا دون الآخر فَهُوَ لصَاحب الْوَقْت لِأَنَّهُ ثَبت سبق بيع أَحدهمَا وَبيع الآخر معنى حَادث وَلَا يعلم تَارِيخه فَيحكم بِهِ للْحَال
وَأما إِذا لم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا تَارِيخ وَلَكِن لَهُ قبض بِأَن كَانَ فِي يَد أَحدهمَا فَهُوَ أولى لِأَنَّهُ يحمل على قبض البيع وَالْبيع الثَّانِي حَادث وَلم يعرف تاريخهما فَجعل كَأَن بيع صَاحب الْقَبْض أسبق
فَإِن ذكر الآخر تَارِيخا ولأحدهما تَارِيخ وَللْآخر قبض لم يعْتَبر التَّارِيخ إِلَّا أَن يشْهدُوا أَن بَيْعه كَانَ قبل بيع الَّذِي الشَّيْء فِي يَده فَيَقْضِي لَهُ بِهِ وَيرجع الآخر بِالثّمن على البَائِع
فَأَما إِذا ادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الشِّرَاء من رجل غير الَّذِي ادّعى(3/187)
عَلَيْهِ صَاحبه وَأَقَامَا الْبَيِّنَة فَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ لِأَن المشتريين قاما مقَام البائعين كَأَنَّهُمَا حضرا وَأَقَامَا الْبَيِّنَة وَالْمَال بَينهمَا نِصْفَانِ
وَلَو أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق يكون لَهُ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَهَذِه رِوَايَة الْأُصُول
وَقد ذكرنَا فرق أبي بكر الرازق وَرِوَايَة الْإِمْلَاء عَن مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل فَلَا نعيده
ثمَّ فِي هَذِه الْمسَائِل فِي الشِّرَاء يثبت الْخِيَار لكل وَاحِد من مدعي الشِّرَاء لِأَنَّهُ يَدعِي شِرَاء الْكل فَلَا يرضى بِالنِّصْفِ مَعَ الشّركَة وَهِي عيب فَإِن اخْتَار أَخذ النّصْف يرجع على البَائِع بِنصْف الثّمن لاسْتِحْقَاق نصف الْمَبِيع وَإِن اخْتَار الرَّد رَجَعَ بِجَمِيعِ الثّمن لانفساخ البيع
وَإِن اخْتَار أَحدهمَا الرَّد وَالْآخر الْأَخْذ فَإِن كَانَ قبل تَخْيِير الْحَاكِم لَهما وَالْحكم لَهما نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْخُذ جَمِيع الْمَبِيع بِجَمِيعِ الثّمن لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّه بِحكم العقد وَإِنَّمَا امْتنع لأجل الْمُزَاحمَة فَإِذا ترك الآخر الْخُصُومَة فَلهُ ذَلِك بِحكم العقد
فَأَما إِذا كَانَ بعد حكم الْحَاكِم بَينهمَا فَيَأْخُذ النّصْف بِنصْف الثّمن لِأَنَّهُ بِحكمِهِ يَنْفَسِخ العقد فِي النّصْف وَلَا يعود إِلَّا بالتجديد
وَأما دَعْوَى النِّتَاج فَإِن ادّعى الْخَارِج وَذُو الْيَد النِّتَاج فِي دَابَّة فَهِيَ لصَاحب الْيَد لِأَنَّهُمَا ادّعَيَا أولية الْملك فاستويا فِي الدَّعْوَى فيرجح بِالْيَدِ وَفِي عين هَذِه الْمَسْأَلَة ورد حَدِيث جَابر عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَإِن ادّعى أَحدهمَا النِّتَاج فَهُوَ لصحب الْيَد أَيهمَا كَانَ لما ذكرنَا(3/188)
وَإِن كَانَ خارجان ادّعَيَا النِّتَاج وَهُوَ فِي يَد ثَالِث يَدعِي ملكا مُطلقًا فَهِيَ بَين الخارجين نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا
ثمَّ ظَاهر مَذْهَبنَا أَنه يقْضِي لصَاحب الْيَد لَا أَن يتْرك فِي يَده بِلَا قَضَاء
وَرُوِيَ عِيسَى بن أبان أَنه تتهاتر الْبَيِّنَتَانِ وَيتْرك فِي يَده صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَهَذَا خلاف مَذْهَبنَا فَإِن الخارجين يقْضِي بَينهمَا وَلَو كَانَ ترك فِي يَد صَاحب الْيَد لَا بطرِيق الْقَضَاء يَنْبَغِي أَن يكون لصَاحب الْيَد إِذا تهاترت الْبَيِّنَتَانِ
فَإِن أرخا فَإِنَّهُ ينظر إِن كَانَ سنّ النِّتَاج يُوَافق أحد التاريخين فَهُوَ لَهُ
وَإِن أشكل الْأَمر سقط حكم التَّارِيخ وَجعل كَأَنَّهُمَا لم يذكرَا التَّارِيخ
وَإِن خَالف الْوَقْتَيْنِ ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة أَنه لَا عِبْرَة للتاريخ وَالْحكم فِيهِ مَا ذكرنَا من غير تَارِيخ
وَذكر الْحَاكِم أَن فِي رِوَايَة أبي اللَّيْث تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَيبقى النِّتَاج فِي يَد صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَهُوَ الْأَصَح
كَذَا الْجَواب فِي كل مَا لَا يتَكَرَّر فِيهِ سَبَب الْملك وَلَا يُعَاد وَلَا يصنع مرَّتَيْنِ فَهُوَ كالنتاج(3/189)
وَمَا يتَكَرَّر فِيهِ سَبَب الْملك ويصنع مرَّتَيْنِ فَهُوَ على التَّفْصِيل الَّذِي ذكرنَا من دَعْوَى الْملك الْمُطلق وبالسبب
وَإِذا كَانَ حَائِط بَين دارين وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوع وَلَا لَهُ اتِّصَال بِالْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يكون بَينهمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الاستظلال
وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا عَلَيْهِ جُذُوع فالحائط لَهُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل لَهُ
وَإِن كَانَ لَهما جُذُوع على السوَاء فَهُوَ لَهما لِاسْتِوَائِهِمَا
وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا أَكثر ذكر الْكَرْخِي أَنه إِذا كَانَ لأَحَدهمَا ثَلَاثَة فَصَاعِدا وَللْآخر كثير فهما سَوَاء
أما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا مَا دون الثَّلَاثَة وَللْآخر أَكثر فَهُوَ لصَاحب الْكثير وَكَذَا ذكر مُحَمَّد فِي كتاب الْإِقْرَار وَذكر فِي كتاب الدَّعْوَى أَن لكل وَاحِد مِنْهُمَا مَا تَحت خشبته وَلَا يكون لَهُ كل الْحَائِط
وَإِن لم يكن لَهما جُذُوع ولأحدهما اتِّصَال بِالْبِنَاءِ من جَانب وَاحِد
أَي يكون بعض ألبان الْحَائِط الْمُدعى بِهِ فِي حَائِط مَمْلُوك لَهُ قَالَ صَاحب الِاتِّصَال أولى
وَذكر فِي الأَصْل أَنه إِذا كَانَ اتِّصَال تربيع فَهُوَ أولى من صَاحب الْجُذُوع
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا كَانَ الِاتِّصَال من الطَّرفَيْنِ كَانَ أولى من صَاحب الْجُذُوع
وَالْمرَاد من اتِّصَال التربيع أَن يكون بعض الألبان متداخلا فِي الْبَعْض كالأزج والطاقات وَأَبُو يُوسُف اعْتبر هَذَا فِي جَانِبي الْحَائِط الْمُدعى بِهِ مُتَّصِلا بحائطي(3/190)
الْمُدَّعِي لِأَن هَذَا دَلِيل على أَن باني الْحَائِط هُوَ ثمَّ لصَاحب الْجُذُوع حق وضع الْجُذُوع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَكَذَا إِذا كَانَ لَهُ جذع وَاحِد فالحائط لصَاحب الْأَكْثَر وَله حق الْوَضع وَلَيْسَ لصَاحبه أَن يرفع إِلَّا إِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة أَن الْحَائِط لَهُ فَحِينَئِذٍ يرفع لِأَن الْبَيِّنَة دَلِيل مُطلق
وَإِن كَانَ خصا بَين شَخْصَيْنِ والقمط إِلَى أَحدهمَا وَادّعى كل وَاحِد الخص فَهُوَ بَينهمَا عِنْد أبي حنيفَة وَلَا يرجح بِكَوْن القمط فِي جَانِبه
وَقَالا بِأَن صَاحب القمط أولى
وَلَو كَانَ وَجه الْبناء أَو الطاقات على الْحَائِط فِي أحد الْجَانِبَيْنِ فَلَا يرجع هَذَا بِالْإِجْمَاع لِأَن هَذَا لَا يخْتَص بِالْملكِ
وَلَو كَانَ لأَحَدهمَا سفل وَللْآخر علو فَلَيْسَ لصَاحب السّفل أَن يتَصَرَّف تَصرفا لم يكن فِي الْقَدِيم وَإِن كَانَ لَا يتَضَرَّر بِهِ صَاحبه عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا لَا بَأْس بِهِ إِذا لم يكن فِيهِ ضَرَر وَكَذَا صَاحب الْعُلُوّ
وَلَو انهدما فَامْتنعَ صَاحب السّفل عَن الْبناء لَا يجْبر عَلَيْهِ لِأَن الْإِنْسَان لَا يجْبر على عمَارَة بَيته لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلُوّ ابْن بِمَالك السّفل وضع عَلَيْهِ علوك وارجع عَلَيْهِ بِقِيمَتِه مَبْنِيا وامنع الآخر عَن السكن حَتَّى يدْفع الْقيمَة
وَكَذَا الْجَواب فِي الْحَائِط بَين الدَّاريْنِ
وَلَو هَدمه أَحدهمَا يجْبر على الْعِمَارَة وَالله تَعَالَى أعلم(3/191)
كتاب الْإِقْرَار
قَالَ رَحمَه الله يحْتَاج فِي هَذَا الْكتاب إِلَى بَيَان كَون الْإِقْرَار حجَّة وَإِلَى بَيَان أَلْفَاظ الْإِقْرَار وَإِلَى بَيَان شَرَائِط صِحَّته وَإِلَى بَيَان الْمقر بِهِ وَمَا يتَّصل بذلك من الْفرق بَين حَالَة الصِّحَّة وَحَالَة الْمَرَض
أما بَيَان كَون الْإِقْرَار حجَّة فَإِنَّهُ خبر صدق أَو رَاجِح صدقه على كذبه فَإِن المَال مَحْبُوب الْمَرْء طبعا فَلَا يقر بِهِ لغيره كَاذِبًا
وَأما بَيَان أَلْفَاظ الْإِقْرَار فَنَقُول إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ كَذَا أَو لفُلَان قبلي كَذَا فَهُوَ إِقْرَار لِأَن عَليّ كلمة إِيجَاب لُغَة والقبالة وَالْكَفَالَة اسْم للضَّمَان
وَكَذَا إِذا قَالَ لفُلَان فِي مَالِي ألف دِرْهَم فَهُوَ إِقْرَار لَهُ بذلك فِي مَال
لَكِن لم يبين مُحَمَّد فِي الأَصْل أَنه يكون مَضْمُونا أَو لَا وَذكر أَبُو بكر الرَّازِيّ أَنه إِقْرَار بِالشّركَةِ فَيكون ذَلِك الْقدر الْمقر بِهِ عِنْده أَمَانَة(3/193)
وَقَالَ بعض مَشَايِخ الْعرَاق إِن كَانَ مَاله محصورا فَهُوَ إِقْرَار بِالشّركَةِ وَإِن كَانَ غير مَحْصُور فَهُوَ إِقْرَار فِي ذمَّته
وَإِن قَالَ لَهُ من مَالِي ألف دِرْهَم فَهُوَ هبة لَا تصير ملكا لَهُ إِلَّا بقبوله وَالتَّسْلِيم من الْمقر
وَلَو قَالَ لَهُ عِنْدِي ألف دِرْهَم فَهُوَ وَدِيعَة
وَكَذَا لَو قَالَ معي أَو فِي منزلي أَو فِي بَيْتِي أَو فِي صندوقي أَو فِي كيسي لِأَنَّهَا لَا تخْتَص بِالْإِيجَابِ فَيحمل على الْأَدْنَى
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا ذكر هَذِه الْأَلْفَاظ مُطلقًا
فَأَما إِذا قرن بهَا لفظا آخر مُخَالفا للْأولِ فِي الْمَعْنى بِأَن قَالَ لفُلَان عَليّ أَو قبلي ألف دِرْهَم وَدِيعَة يكون وَدِيعَة لِأَنَّهُ بَيَان مُعْتَبر فَيصح بِشَرْط الْوَصْل كالاستثناء
أما إِذا ذكر مُطلقًا وَقَالَ عنيت بِهِ الْوَدِيعَة لَا يصدق لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر فَلَا يصدق على الْغَيْر
وَإِن قَالَ لفُلَان عِنْدِي أَو معي ألف دِرْهَم قرضا فَهُوَ إِقْرَار لِأَنَّهُ بَيَان مُعْتَبر
وَلَو قَالَ عِنْدِي كَذَا وأعني بِهِ الْإِقْرَار صدق وَإِن فصل لِأَن هَذَا إِقْرَار على نَفسه فَلَا يتهم
وَلَو قَالَ لَهُ من مَالِي ألف دِرْهَم لَا حق لي فِيهَا فَهُوَ إِقْرَار(3/194)
وَلَو قَالَ لفُلَان عِنْدِي ألف دِرْهَم وَدِيعَة قرضا أَو وَدِيعَة دينا أَو مُضَارَبَة قرضا أَو دينا أَو بضَاعَة قرضا أَو دينا فَهُوَ إِقْرَار إِذا ادّعى الْمقر لَهُ الدّين لِأَن الضَّمَان قد يطْرَأ على الْأَمَانَة
وَلَو قَالَ لفُلَان عِنْدِي ألف دِرْهَم عَارِية فَهُوَ قرض
وَكَذَا فِي كل مَا يُكَال أَو يُوزن لِأَن إِعَارَة مَا لَا ينْتَفع بِأَعْيَانِهَا إِلَّا بالاستهلاك يكون قرضا فِي الْعرف
وَأما بَيَان الشَّرَائِط فالعقل وَالْبُلُوغ شَرط بِلَا خلاف لِأَنَّهُ لَا يَصح بدونهما التَّصَرُّف الضار
وَأما الْحُرِّيَّة فَهِيَ شَرط فِي بعض الْأَشْيَاء دون بعض على مَا نذْكر
وَكَذَا الرِّضَا والطوع شَرط حَتَّى لَا يَصح إِقْرَار الْمُكْره بِشَيْء على مَا يعرف فِي كتاب الْإِكْرَاه
وَأما بَيَان أَنْوَاع الْمقر بِهِ فَهُوَ نَوْعَانِ فِي الأَصْل حُقُوق الله تَعَالَى وَالثَّانِي حُقُوق الْعباد
أما حُقُوق الله تَعَالَى فنوعان أَحدهمَا أَن يكون خَالِصا لله كَحَد الشّرْب وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْإِقْرَار بِهِ صَحِيح من الْحر وَالْعَبْد
وَلَو رَجَعَ الْمقر عَن ذَلِك قبل الِاسْتِيفَاء بَطل الْحَد لاحْتِمَال الصدْق فِي الرُّجُوع فأورث شُبْهَة
ويكتفي فِي ذَلِك بِالْإِقْرَارِ مرّة إِلَّا فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ يشْتَرط الْعدَد أَربع مَرَّات لحَدِيث مَاعِز بِخِلَاف الْقيَاس
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه اعْتبر عدد الْإِقْرَار بِعَدَد الشَّهَادَة فَشرط فِي السّرقَة وَالشرب الْإِقْرَار مرَّتَيْنِ لَكِن رُوِيَ عَنهُ أَنه رَجَعَ(3/195)
وَيَسْتَوِي الْجَواب فِي الْإِقْرَار بالحدود بَين تقادم الْعَهْد وَعَدَمه إِلَّا فِي شرب الْخمر فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذ بِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف بعد ذهَاب رَائِحَة الْخمر اسْتِحْسَانًا لحَدِيث ابْن مَسْعُود وَعند مُحَمَّد يُؤْخَذ بِهِ وَهُوَ الْقيَاس
فَأَما حد الْقَذْف فقد ذَكرْنَاهُ فِي كتاب الْحُدُود
وَأما حُقُوق الْعباد فأنواع مِنْهَا الْقصاص وَالدية
وَمِنْهَا الْأَمْوَال
وَمِنْهَا الطَّلَاق وَالْعتاق وَحقّ الشُّفْعَة وَنَحْو ذَلِك
وَالْمَال قد يكون عينا وَقد يكون دينا وَقد يكون مَعْلُوما وَقد يكون مَجْهُولا وَقد يكون الْإِقْرَار فِي الصِّحَّة وَقد يكون فِي الْمَرَض فَنَذْكُر جملَة ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى
أما إِقْرَار العَبْد فنذكره فِي كتاب الْمَأْذُون إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما الْحر فَإِقْرَاره بِالْمَالِ صَحِيح كَيْفَمَا كَانَ سَوَاء كَانَ بِالْمَالِ الْمقر بِهِ عينا أَو دينا وَسَوَاء كَانَ مَعْلُوما أَو مَجْهُولا وَعَلِيهِ الْبَيَان
فجهالة الْمقر بِهِ لَا تمنع صِحَة الْإِقْرَار وجهالة الْمَشْهُود بِهِ تمنع صِحَة الشَّهَادَة وَالْقَضَاء لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْقَضَاء بِالْمَجْهُولِ فَأَما فِي الْإِقْرَار فَيُؤْمَر بِالْبَيَانِ وَالْقَوْل قَوْله بَيَانه
إِذا أقرّ أَنه غصب من فلَان مَالا أَو لفُلَان عَلَيْهِ شَيْء أَو حق فَإِنَّهُ يُؤمر بِالْبَيَانِ فَإِذا بَين شَيْئا لَهُ قيمَة وَيجْرِي فِيهِ الْمَنْع وَالشح يصدق
وَإِن كَانَ بِخِلَافِهِ يجْبر على بَيَان شَيْء لَهُ قيمَة
فِي الْغَصْب إِذا قَالَ غصبت مِنْهُ شَيْئا فَبين مَا لَا قيمَة لَهُ(3/196)
بِأَن قَالَ غصبت مِنْهُ صَبيا حرا صَغِيرا أَو خمرًا لمُسلم أَو جلد ميتَة يصدق لِأَن هَذَا مِمَّا يغصب عَادَة
وَلَو قَالَ غصبت شَاة أَو عبدا أَو جَارِيَة فَبين سليما أَو مَعَ الْعَيْب أَو قَالَ غصبت دَارا فَبين فِي بَلْدَة قريبَة أَو فِي بَلْدَة بعيدَة يصدق لِأَن الْغَصْب يكون على مَا يتَّفق فَيكون القَوْل قَوْله إِلَّا أَن فِي غصب الدَّار إِن أمكنه تَسْلِيمهَا إِلَيْهِ يسلم وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِن خرجت أَو عجز عَن التَّسْلِيم إِلَّا عِنْد مُحَمَّد فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْقيمَة عِنْد الْعَجز وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو قَالَ عَليّ قفيز حِنْطَة فَهُوَ بقفيز الْبَلَد الَّذِي أقرّ فِيهِ فَكَذَلِك الرطل والأمنان والصنجات فَذَلِك كُله على وزن الْبَلَد
وَلَو قَالَ عَليّ ألف دِرْهَم فَهُوَ على مَا يتعارفه أهل الْبَلَد من الأوزان أَو الْعدَد وَإِن لم يكن شَيْئا متعارفا فَيحمل على وزن سَبْعَة فَإِنَّهُ الْوَزْن الْمُعْتَبر فِي الشَّرْع وَكَذَلِكَ فِي الدِّينَار يعْتَبر وزن المثاقيل إِلَّا فِي مَوضِع يتعارف فِيهِ بِخِلَافِهِ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ دريهم أَو دنينير فَعَلَيهِ التَّام لِأَن التصغير قد يذكر لصِغَر الحجم وَقد يكون لاستحقار الدِّرْهَم وَقد يكون لخفة الْوَزْن فَلَا ينتقص الْوَزْن بِالشَّكِّ
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ دَرَاهِم أَو دَنَانِير يَقع على ثَلَاثَة لِأَنَّهَا أقل الْجمع
وَلَو قَالَ عَليّ دَرَاهِم كَثِيرَة يَقع على عشرَة عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا على النّصاب وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَم
وَلَو قَالَ عَليّ مَال عَظِيم أَو كثير أَو كَبِير فَعَلَيهِ مِائَتَا(3/197)
دِرْهَم بِلَا خلاف عِنْد بَعضهم
وَقيل على قَول أبي حنيفَة يَقع على الْعشْرَة
وَقيل يعْتَبر حَال الْمقر إِن كَانَ غَنِيا يَقع على مَا يستعظم عِنْد الْأَغْنِيَاء وَإِن كَانَ فَقِيرا يَقع على النّصاب
وَلَو قَالَ غصبت إبِلا كَثِيرَة أَو شياها كَثِيرَة يَقع على أقل النّصاب من جنسه
وَإِن قَالَ عَليّ حِنْطَة كَثِيرَة يَقع عِنْدهمَا على خَمْسَة أوسق وَعند أبي حنيفَة الْبَيَان إِلَيْهِ
وَإِن قَالَ عَليّ أَمْوَال عِظَام رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على سِتّمائَة لِأَن أقل الْجمع ثَلَاثَة
وَلَو قَالَ عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم غير دِرْهَم يلْزمه دِرْهَمَانِ لِأَن كلمة غير بِالنّصب للاستثناء
وَكَذَا إِذا قَالَ عَليّ ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم غير ألف يلْزمه أَلفَانِ لما قُلْنَا
وَكَذَا لَو قَالَ عَليّ ثَلَاثَة دَرَاهِم إِلَّا درهما فَعَلَيهِ دِرْهَمَانِ
وَلَو قَالَ عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة يلْزمه سَبْعَة
وَلَو قَالَ إِلَّا سَبْعَة يلْزمه ثَلَاثَة لِأَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي
وَفِي الِاسْتِثْنَاء من الِاسْتِثْنَاء يكون الِاسْتِثْنَاء من الْمُسْتَثْنى لَا من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ وَيلْحق ذَلِك بالمستثنى مِنْهُ
إِذا قَالَ عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثَلَاثَة إِلَّا درهما يلْزمه ثَمَانِيَة لِأَن ثَلَاثَة وَصَارَت مُسْتَثْنَاة من الْعشْرَة ثمَّ الِاسْتِثْنَاء الثَّانِي من الثَّلَاثَة(3/198)
لِأَنَّهُ أقرب إِلَيْهِ فَيخرج دِرْهَم ويلتحق بالمستثنى مِنْهُ وَهُوَ سَبْعَة فَصَارَ ثَمَانِيَة
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا ثوبا لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَصح وَيخرج قدر قيمَة الثَّوْب
وَلَو اسْتثْنى شَيْئا من الْمكيل وَالْمَوْزُون بِأَن قَالَ عَليّ عشرَة دَرَاهِم إِلَّا قفيز حِنْطَة أَو عَليّ مائَة دِينَار إِلَّا عشرَة دَرَاهِم يَصح الِاسْتِثْنَاء عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله وَيخرج من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ قدر قيمَة القفيز وَالْعشرَة لِأَن الْجِنْس وَاحِد وَهُوَ الْقدر وَقَالَ مُحَمَّد وَزفر رحمهمَا الله لَا يَصح الِاسْتِثْنَاء كَمَا فِي الثَّوْب
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم إِلَّا قَلِيلا يلْزمه أَكثر من النّصْف وَالْقَوْل قَوْله فِي الزِّيَادَة مَعَ يَمِينه
وَكَذَا إِذا قَالَ عَليّ قريب من ألف أَو زهاء ألف أَو عظم الْألف لِأَن هَذَا أَكثر من النّصْف بِيَقِين وَفِي الزِّيَادَة القَوْل قَوْله
وَلَو قَالَ عَليّ ألف ونيف فَعَلَيهِ الْألف وَعَلِيهِ بَيَان النيف لِأَنَّهُ عبارَة عَن الزِّيَادَة
وَلَو قَالَ عَليّ ألف وَدِرْهَم أَو عَليّ مائَة ودينار يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ من جنس الْمَعْطُوف بالِاتِّفَاقِ
وَكَذَلِكَ فِي جَمِيع الْمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَأما فِي الْعرُوض والعددي المفاوات بِأَن قَالَ عَليّ عشرَة وثوب أَو عشرَة وَعبد أَو عشرَة ودابة فعلى قَول مُحَمَّد يلْزمه الْمَعْطُوف الْمُسَمّى وَالْقَوْل قَوْله فِي بَيَان الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وعَلى قَول أبي يُوسُف يكون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ من جنس الْمَعْطُوف لِأَن الْعرف على هَذَا(3/199)
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف لَا بل أَلفَانِ فجملة هَذَا إِن الِاسْتِدْرَاك فِي الإقرارات ثَلَاثَة أَنْوَاع إِمَّا أَن يكون فِي خلاف جنس الأول أَو يكون فِي جنس الأول واستدرك الْغَلَط فِي الْقدر من الْكَثْرَة والقلة أَو فِي الصّفة من الْجَوْدَة والرادءة
فَأَما الأول فبأن يَقُول عَليّ ألف دِرْهَم لَا بل مائَة دِينَار أَو كرّ حِنْطَة لَا بل كرّ شعير
وَحكمه أَنه يلْزمهُمَا جَمِيعًا لِأَن الْغَلَط فِيهِ نَادِر والنادر مُلْحق بِالْعدمِ
وَأما الثَّانِي بِأَن قَالَ عَليّ ألف دِرْهَم لَا بل أَلفَانِ أَو قَالَ عَليّ دِينَار لَا بل دِينَارَانِ فَيلْزمهُ الْأَكْثَر اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يلْزمهُمَا جَمِيعًا كَمَا فِي خلاف الْجِنْس وكما فِي الطَّلَاق إِذا قَالَ أَنْت طَالِق وَاحِدَة لَا بل ثِنْتَيْنِ يَقع الثَّلَاث وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَفِي الِاسْتِحْسَان أَنه إِخْبَار وَيجْرِي فِيهِ الْغَلَط فَيصح التَّدَارُك بِخِلَاف إنْشَاء الطَّلَاق حَتَّى إِن فِي الْإِخْبَار كَذَلِك بِأَن قَالَ كنت طلقت امْرَأَتي أمس وَاحِدَة لَا بل ثِنْتَيْنِ يَقع على الْأَكْثَر
وَأما الثَّالِث بِأَن قَالَ عَليّ ألف دِرْهَم سود لَا بل بيض
أَو قَالَ عَليّ قفيز حِنْطَة جَيِّدَة لَا بل وسط فَيلْزمهُ الأجود
وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف ثمن مَبِيع إِلَّا أَنه زيوف فَعِنْدَ أبي حنيفَة رَحْمَة الله عَلَيْهِ يلْزمه الْجيد وَلَا يصدق سَوَاء وصل أَو فصل كَمَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا العَبْد على أَنه معيب لم يصدق وَإِن وصل وَعِنْدَهُمَا إِن وصل يصدق وَإِن فصل لَا يصدق
وَفِي الْقَرْض رِوَايَتَانِ عَنهُ
وَإِذا قَالَ عَليّ ألفم دِرْهَم مُطلقًا ثمَّ قَالَ زيوف يصدق بِشَرْط الْوَصْل فِي قَوْلهم(3/200)
وَفِي الْغَصْب والوديعة
يصدق وصل أَو فصل
وَلَو قَالَ عَليّ من ثمن بيع ألف دِرْهَم ستوقة أَو رصاصا لَا يصدق عِنْد أبي حنيفَة وَعَن أبي يُوسُف أَنه يصدق إِذا وصل
وَفِي البيع الْفَاسِد وَفِي الْغَصْب والوديعة يصدق فِي الستوقة بِشَرْط الْوَصْل فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم ثمَّ قَالَ هُوَ ثمن عبد لم أقبضهُ مِنْهُ لم يصدق فِي قَول أبي حنيفَة إِلَّا أَن يَقُول مَوْصُولا وَالْعَبْد قَائِم بِعَيْنِه فِي يَد الْمقر لَهُ وَعِنْدَهُمَا إِن صدقه الْمقر لَهُ كَانَ القَوْل قَوْله وَإِن لم يصدقهُ كَانَ الْألف لَهُ لَازِما عَلَيْهِ
وَلَو قَالَ اقتضيت من فلَان ألف دِرْهَم الَّتِي لي عَلَيْهِ أَو قَالَ استوفيت أَو قبضت أَو أخذت وَقَالَ الْمقر لَهُ لم يكن لَك عَليّ شَيْء يُؤمر بردهَا إِلَيْهِ مَعَ يَمِينه على مَا يَدعِيهِ الْمقر
وَلَو قَالَ أخذت من فلَان ألف دِرْهَم وَدِيعَة فَقَالَ فلَان بل أخذت غصبا فَالْقَوْل قَول الْمقر لَهُ لما قُلْنَا
وَلَو قَالَ أودعني فلَان ألف دِرْهَم أَو قَالَ أَعْطَانِي وَدِيعَة فَقَالَ لَا بل أَخَذتهَا غصبا فَالْقَوْل قَول الْمقر لِأَنَّهُ مَا أقرّ بِسَبَب الضَّمَان وَهُوَ الْأَخْذ
ثمَّ الْإِقْرَار فِي حَالَة الصِّحَّة يَصح للْأَجْنَبِيّ وَالْوَارِث جَمِيعًا من جَمِيع المَال وَلَا يكون الدّين الْمُتَقَدّم أولى وَيكون الْغُرَمَاء أُسْوَة إِذا صَار مَرِيضا لَيْسَ لَهُ أَن يُؤثر الْبَعْض فِي الْقَضَاء وَفِي الْأَدَاء فِي حَالَة الصِّحَّة لَهُ أَن يُؤثر الْبَعْض لِأَن الدّين يثبت فِي الذِّمَّة حَالَة الصِّحَّة وَإِنَّمَا ينْتَقل(3/201)
إِلَى المَال بِالْمرضِ فَكَذَلِك على هَذَا
أما الْإِقْرَار فِي الْمَرَض فَيصح للْأَجْنَبِيّ من جَمِيع المَال وَلَا يَصح للْوَارِث إِلَّا إِذا أجَاز الْوَرَثَة لَكِن دين الصِّحَّة مقدم على دين الْمَرَض الثَّابِت بِإِقْرَارِهِ
أما إِذا ثَبت بِالْبَيِّنَةِ أَو بمشاهدة القَاضِي فهما سَوَاء
وَإِقْرَار الْمَرِيض بِاسْتِيفَاء الدّين فِي حَالَة الْمَرَض يَصح سَوَاء كَانَ دين الصِّحَّة أَو دين الْمَرَض فِي الْجُمْلَة وَهَذَا فِي حق الْأَجْنَبِيّ وَله تفاصيل كَثِيرَة
وَإِمَّا الْإِقْرَار بالوارث من الْمَرِيض أَو من الصَّحِيح فنوعان فِي حق النّسَب وَفِي حق الْمِيرَاث
أما فِي النّسَب فَمن الرجل يَصح بِخَمْسَة نفر بالوالدين وبالولد وبالزوجة وبكونه مولى لفُلَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تحميل النّسَب على غَيره
من الْمَرْأَة يَصح بأَرْبعَة بالوالدين وبالزوج وبالولاء دون الْوَلَد لِأَن فِيهِ تحميل النّسَب على الْغَيْر
وَلَا يَصح الْإِقْرَار بالأخ وَالْعم وَالْخَال فِي حق النّسَب وَنَحْو ذَلِك لما فِيهِ من تحميل النّسَب فَلَا بُد من الْبَيِّنَة
فَأَما فِي حق الْمِيرَاث فَإِن لم يكن للْمقر وَارِث ظَاهر صَحَّ إِقْرَاره فِي حق الْإِرْث لِأَنَّهُ إِقْرَار على نَفسه
فَأَما إِذا كَانَ لَهُ وَارِث ظَاهر فَلَا يَصح فِي حَقه وَإِن كَانَ الَّذِي أقرّ بِهِ مقدما عَلَيْهِ بِأَن أقرّ بالأخ وَله خَال وعمة لِأَن فِيهِ إبِْطَال حق الْقَرِيب
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ لَهُ مولى الْمُوَالَاة لِأَنَّهُ آخر الْوَرَثَة فَلَا يَصح إِقْرَاره فِي حَقه
وَلَو أوصى بِجَمِيعِ مَاله ثمَّ أقرّ بِأَخ صَحَّ إِقْرَاره وتنفذ الْوَصِيَّة من الثُّلُث(3/202)
وَكَذَا لَو أقرّ بِأَخ ثمَّ أوصى بِجَمِيعِ مَاله يَصح من الثُّلُث لِأَن إِقْرَاره بالأخ صَحِيح فِي حَقه إِن لم يَصح فِي حق غَيره
وَلَو أقرّ بالأخ ثمَّ رَجَعَ صَحَّ لِأَنَّهُ ثَبت بقوله
وعَلى هَذَا الْوَارِث إِذا أقرّ بوارث آخر يَصح فِي حق نصِيبه حَتَّى إِن الْأَخ إِذا أقرّ بِأَخ آخر فَإِن مَا فِي يَده يكون بَينهمَا نِصْفَيْنِ
وَهَذَا كُله إِذا صدقه الْمقر لَهُ فِي ذَلِك فَأَما إِذا لم يصدقهُ لم يثبت(3/203)
كتاب الْوَصَايَا
فِي هَذَا الْكتاب فصلان فصل فِي الْوَصِيَّة وَفصل فِي الْإِيصَاء
نبدأ بِالْوَصِيَّةِ فَنَقُول نحتاج إِلَى بَيَان الْوَصِيَّة وَإِلَى بَيَان صفة المشروعية وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الصِّحَّة وَإِلَى بَيَان الْمُوصى بِهِ وَإِلَى بَيَان الْمُوصى لَهُ وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة
أما الْوَصِيَّة فَهِيَ تمْلِيك مُضَاف إِلَى مَا بعد(3/205)
الْمَوْت بطرِيق التَّبَرُّع إِذْ التَّمْلِيك أَنْوَاع ثَلَاثَة فَلَا بُد لكل نوع من اسْم خَاص ليتميز عَن صَاحبه فَالْبيع اسْم لتمليك عين المَال بعوض فِي حَالَة الْحَيَاة وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة تمْلِيك عين المَال بِغَيْر عوض فِي حَالَة الْحَيَاة بطرِيق التَّبَرُّع وَالْعَارِية تمْلِيك الْمَنْفَعَة بطرِيق التَّبَرُّع فِي حَالَة الْحَيَاة فَيكون الْوَصِيَّة اسْما لتمليك المَال بعد الْمَوْت بطرِيق التَّبَرُّع فِي الْعين وَالْمَنَافِع جَمِيعًا
فَأَما الْإِعْتَاق فِي معرض الْمَوْت تنجيزا وَكَذَا الْهِبَة والمحاباة فَلَيْسَتْ من جملَة الْوَصِيَّة فَإِنَّهَا نَافِذَة للْحَال
وَكَذَلِكَ الْكفَالَة وَضَمان الدَّرك لَكِن فِي معنى الْوَصِيَّة على معنى أَنه يعْتَبر من ثلث المَال لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِالتَّرِكَةِ فِي مرض الْمَوْت
وَلَو كَانَ عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام أَو الزَّكَاة أَو الْكَفَّارَات وَجَبت فِي الصِّحَّة أَو فِي الْمَرَض فَيبْطل بِالْمَوْتِ عندنَا
وَلَو أوصى بهَا تصح من الثُّلُث بِمَنْزِلَة التَّبَرُّع فِي الْمَرَض
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الْقبُول من الْمُوصى لَهُ وَالرَّدّ يعْتَبر بعد الْمَوْت لِأَن الْإِيجَاب ينزل بعد الْمَوْت وَالْقَبُول يشْتَرط عِنْد الْإِيجَاب كَمَا فِي البيع وَغَيره وَهَذَا عندنَا
وَعند زفر الْقبُول لَيْسَ بِشَرْط وَلَا ترتد بِالرَّدِّ كالميراث
وَلَو رد أَو قبل فِي حَيَاة الْمُوصي لَا يَصح حَتَّى لَو مَاتَ الْمُوصى لَهُ بعد الْقبُول قبل موت الْمُوصي فَإِن الْوَصِيَّة لَا يكون ملكا لوَرَثَة الْمُوصى لَهُ
وَلَو مَاتَ الْمُوصى لَهُ بعد موت الْمُوصي قبل الْقبُول وَالرَّدّ فَالْقِيَاس أَن لَا يكون لوَرَثَة الْمُوصى لَهُ شَيْء لِأَن الْقبُول لم يُوجد من الْمُوصى لَهُ فَيبْطل وَفِي الِاسْتِحْسَان يصير لوَرثَته إِمَّا لِأَنَّهُ وجد الْقبُول مِنْهُ دلَالَة أَو لِأَن الْإِيجَاب قد تمّ بِنَفسِهِ وَتوقف على قبُوله فَإِذا مَاتَ ثَبت الْملك لَهُ كَأَنَّهُ قبل دلَالَة كالمشتري بِالْخِيَارِ إِذا مَاتَ يلْزم العَبْد
فَلَو رد ورثته بعد مَوته هَل يَصح ردهم اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قيل يجوز الرَّد لِأَنَّهُ صَحَّ لوُجُود الْقبُول مِنْهُم دلَالَة فَإِذا وجد الرَّد(3/206)
صَرِيحًا يبطل
وَقيل لَا يجوز لِأَنَّهُ صَار مِيرَاثا للْوَرَثَة عَن الْمُوصى لَهُ لصيرورته ملكا لَهُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَصح رد الْمِيرَاث
وَأما بَيَان المشروعية فَنَقُول
قَالَ بَعضهم مَشْرُوعَة بِصفة الْوُجُوب فِي حق الْكل
وَقَالَ بَعضهم وَاجِبَة فِي حق الْوَالِدين لقَوْله تَعَالَى {الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين}
وَالصَّحِيح أَنَّهَا مَشْرُوعَة بطريقة النّدب لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى تصدق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم فِي آخر أعماركم زِيَادَة فِي أَعمالكُم
وَأما شَرَائِط الصِّحَّة فَمِنْهَا أَهْلِيَّة التَّبَرُّع حَتَّى لَا يَصح من الصَّبِي وَالْعَبْد وَالْمكَاتب فِي حق الْمولى
وَمِنْهَا عدم الدّين لقَوْله تَعَالَى {فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا}
وَمِنْهَا التَّقْدِير بِثلث التَّرِكَة حَتَّى أَنَّهَا لَا تصح فِيمَا زَاد على الثُّلُث إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة وإجازتهم وردهم يَصح بعد الْمَوْت
أما قبل الْمَوْت فَلَا يَصح لما قُلْنَا إِن الْملك بِالْوَصِيَّةِ يثبت بعد الْمَوْت
وَمِنْهَا أَن يكون الْمُوصى لَهُ أَجْنَبِيّا حَتَّى أَن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز إِلَّا بِإِجَازَة الْوَرَثَة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة فَإِن أجَاز بعض الْوَرَثَة تنفذ بِقدر حِصَّته من الْمِيرَاث لَا غير(3/207)
وَمِنْهَا أَن لَا يكون قَائِلا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لقَاتل
وَلَو أجَاز الْوَرَثَة يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لِأَنَّهُ لَا يجوز لحق الْوَرَثَة فَيجوز بإجازتهم كَمَا فِي وَصِيَّة الْوَارِث
وَعند أبي يُوسُف لَا يجوز لِأَن الْمَانِع حق الله تَعَالَى فَصَارَ كالميراث
وَمِنْهَا أَن يكون الْمُوصى لَهُ مَوْجُودا حَيا حَتَّى لَو أوصى للجنين إِن كَانَ مَوْجُودا حَيا عِنْد الْإِيصَاء يَصح وَإِلَّا فَلَا
وَإِنَّمَا يعرف بِأَن ولد قبل سِتَّة أشهر حَيا
وَأما بَيَان الْمُوصى بِهِ فالموصى بِهِ يجب أَن يكون مَالا
ثمَّ المَال نَوْعَانِ الْمَنَافِع والأعيان
وَأما الْوَصِيَّة بالمنافع فجائزة بِأَن أوصى بِخِدْمَة عبد بِعَيْنِه لفُلَان يكون وَصِيَّة بِالْخدمَةِ لَهُ وَعين العَبْد تكون للْوَرَثَة مَا دَامَ الْمُوصى لَهُ حَيا وَإِذا مَاتَ فَيسلم العَبْد إِلَى الْوَرَثَة فَإِنَّهَا فِي معنى الْعَارِية المؤبدة فينتهي بِمَوْت الْمُوصى لَهُ
وَكَذَا لَو أوصى بِالْعَبدِ لإِنْسَان وبخدمته لآخر جَازَ لما قُلْنَا
وَكَذَا لَو أوصى بسكنى دَاره أَو بغلة بستانه وَلم يُوَقت فِي ذَلِك وقتا فَيكون للْمُوصى لَهُ مُدَّة حَيَاته وَيعود الْبُسْتَان وَالدَّار إِلَى الْوَرَثَة وَمَا كَانَ من الثَّمَرَة وَالْغلَّة حَاصِلا قبل موت الْمُوصى لَهُ فَيكون لوَرثَته وَمَا يحصل بعد مَوته يكون لوَرَثَة الْمُوصي
وَإِنَّمَا يجوز إِذا خرج من الثُّلُث وَإِنَّمَا يعْتَبر خُرُوج قيمَة الْأَعْيَان الَّتِي أوصى بغلتها وَخدمتهَا وثمرتها من الثُّلُث دون أَن يضم الْغلَّة وَقِيمَة الثَّمَرَة والخدمة إِلَى رَقَبَة الْأَعْيَان(3/208)
وَلَو أوصى بالثمرة بالغلة للْمَسَاكِين جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَلَو أوصى بسكنى دَاره أَو بِخِدْمَة عَبده أَو بِظهْر فرسه للْمَسَاكِين لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يجوز
وَلَو أوصى لفقير وَاحِد بِعَيْنِه جَازَ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْوَصِيَّة بأعيان الْأَمْوَال فَإِنَّهُ يجوز سَوَاء كَانَ الْمُوصى بِهِ مَوْجُودا معينا أَو بِربع المَال أَو ثلثه أَو خمسه وَله مَال أَو أوصى بالمعدوم بِأَن يُوصي بِمَا يُثمر نخله أَو مَا يخرج من بستانه أَو بِثلث مَاله وَلَا مَال لَهُ فَإِن الْوَصِيَّة جَائِزَة من الثُّلُث
وَيعْتَبر الثُّلُث وَقت موت الْمُوصي لَا قبله لما ذكرنَا أَنَّهَا إِيجَاب الْملك عِنْد الْمَوْت حَتَّى إِنَّه لَو أوصى بِثلث مَاله وَله ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ مَاتَ وَله ألف فَإِن الْوَصِيَّة تصح فِي ثلث الْألف لما قُلْنَا
وَلَو أوصى بِلَبن غنمه وأصوافها وَأَوْلَادهَا ثمَّ مَاتَ الْمُوصي فَإِنَّهُ يَقع على مَا هُوَ الْمَوْجُود يَوْم الْمَوْت دون مَا يحدث من بعد الْمَوْت وَإِن لم يكن شَيْئا مَوْجُودا وَقت الْمَوْت بِخِلَاف الْوَصِيَّة بثمرة النَّخْلَة فَإِنَّهُ يَقع على الْمَوْجُود وَقت الْمَوْت إِن كَانَ وَإِن لم يكن يَقع على مَا يحدث بعد موت الْمُوصي
وَأما الْوَصِيَّة بالموجود فَإِن كَانَ شَيْئا معينا فَإِنَّهُ يَصح فِيهِ حَتَّى إِذا خرج من الثُّلُث يكون للْمُوصى لَهُ وَإِن لم يكن يخرج يكون لَهُ بِقدر الثُّلُث
وَإِذا هلك ثُلُثَاهُ وَبَقِي الثُّلُث يكون كل الثُّلُث لَهُ إِن خرج من ثلث المَال
وَأما إِذا كَانَت الْوَصِيَّة بِثلث المَال أَو بربعه وَنَحْو ذَلِك فَإِن خرج يكون لَهُ وَإِن لم يخرج يكون لَهُ بِقدر الثُّلُث
وَأما إِذا اجْتمعت الْوَصَايَا لأَحَدهم بِالثُّلثِ وَلآخر بِالربعِ وَلآخر(3/209)
بالخمس فَإِن أجَاز الْوَرَثَة جَازَ فِي الْكل
وَإِلَّا يصرف إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم من الثُّلُث بِقدر وَصيته ويتضاربون فِي ذَلِك فَيكون ثلث الثُّلُث لهَذَا وَربع الثُّلُث وَخمْس الثُّلُث للآخرين كَمَا فِي الْمَوَارِيث
وَإِن كَانَ وَصِيَّة أحدهم أَكثر من الثُّلُث بِأَن أوصى لَهُ بِالنِّصْفِ أَو بالثلثين فَعِنْدَ أبي حنيفَة يضْرب من زَاد نصِيبه على الثُّلُث بِالثُّلثِ دون الزِّيَادَة وَمن كَانَ نصِيبه دون الثُّلُث فِيمَا سمي لَهُ
وَعِنْدَهُمَا يضْرب صَاحب الزِّيَادَة بِجَمِيعِ مَا سمي لَهُ كَمَا فِي الْمِيرَاث
وَأَجْمعُوا فِي خمس وَصَايَا أَنه يضْرب بِمَا سمي وَإِن جَاوز عَن الثُّلُث فِي الْعتْق الْموقع فِي الْمَرَض وَفِي الْعتْق الْمُعَلق بِمَوْت الْمُوصي وَهُوَ التَّدْبِير وبالمحاباة فِي الْمَرَض وبالوصية بِالْإِعْتَاقِ بعد الْمَوْت وبالوصية الْمُرْسلَة وَهِي الْوَصِيَّة بِشَيْء بِغَيْر عينه وَلَا يكون مَنْسُوبا إِلَى جُزْء من المَال نَحْو الْوَصِيَّة لفُلَان بِمِائَة دِرْهَم وَنَحْوهَا
وَهل يقدم بعض أَصْحَاب الْوَصِيَّة مُعلى الْبَعْض فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت الْوَصَايَا للعباد أَو تقع الله تَعَالَى
أما إِذا كَانَت الْوَصَايَا للعباد فَإِنَّهُ يقدم الْعتْق الْموقع فِي الْمَرَض وَالْعِتْق الْمُعَلق بِمُطلق الْمَوْت وَهُوَ التَّدْبِير الصَّحِيح والمحاباة فِي البيع الْوَاقِع فِي الْمَرَض
وَمَا سوى هَذِه الْوَصَايَا يتضارب فِيهَا أهل الْوَصَايَا على السوَاء لَا يقدم بَعضهم على بعض
وَإِن ضَاقَ الثُّلُث عَن الْعتْق والمحاباة يبْدَأ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّة فترجح بالبداءة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَقَالا يبْدَأ بِالْعِتْقِ لَا محَالة لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل الْفَسْخ(3/210)
وَأما إِذا كَانَت الْوَصَايَا بِمَا هُوَ من حُقُوق الله تَعَالَى نَحْو الْحَج وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات وَالصَّدقَات وَنَحْوهَا من أَعمال الْبر ينظر إِن كَانَ كُله تَطَوّعا بَدَأَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي لِاسْتِوَاء الْكل فِي نَفسه فِي الْقُوَّة فيترجح بالبداءة لِأَنَّهُ هُوَ الأهم عِنْده ظَاهرا وَلَا يقدم الْوَصِيَّة بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ يحْتَمل الْفَسْخ كَسَائِر الْوَصَايَا فَإِذا بلغ الثُّلُث للْكُلّ فبها ونعمت وَإِن فني الثُّلُث بِالْبَعْضِ يبطل الْبَاقِي
وَإِن كَانَت كلهَا فَرَائض مُتَسَاوِيَة بِأَن كَانَ وُجُوبهَا ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ يرجح بالبداءة لتساويها فِي الْقُوَّة وَقَالُوا فِي الْحَج وَالزَّكَاة عِنْد أبي يُوسُف يقدم الْحَج فِي رِوَايَة وَإِن أَخّرهُ جَازَ
وَفِي رِوَايَة يقدم الزَّكَاة وَهُوَ قَول مُحَمَّد رَحمَه الله
ثمَّ مَا أوجبه الله تَعَالَى ابْتِدَاء أولى مِمَّا أوجبه عِنْد فعل من الْمُكَلف فَقَالُوا يقدم الْحَج وَالزَّكَاة على الْكَفَّارَات الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن
ثمَّ هَذِه الْكَفَّارَات مُقَدّمَة على صَدَقَة الْفطر والفطرة مُقَدّمَة على كَفَّارَة الْفطر لِأَنَّهَا ثبتَتْ بِخَبَر الْوَاحِد وَهِي مُقَدّمَة على الْمَنْذُور هُوَ مقدم على الْأُضْحِية
والواجبات كلهَا مُقَدّمَة على النَّوَافِل
وَأما إِذا كَانَ مَعَ الْوَصَايَا الثَّابِتَة لحق الله تَعَالَى الْوَصِيَّة للآدمي فَإِن الْمُوصى لَهُ يضْرب مَعَ الْوَصَايَا بِالْقربِ وَيجْعَل كل جِهَة من جِهَات الْقرب مُفْردَة بِالضَّرْبِ وَلَا يَجْعَل كلهَا جِهَة وَاحِدَة بِأَن قَالَ ثلث مَالِي فِي الْحَج وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات ولزيد يقسم على أَرْبَعَة أسْهم لِأَن كل جِهَة غير الْأُخْرَى وَلَا يقدم الْفَرْض على حق الأدمِيّ لحَاجَة العَبْد إِلَى حَقه
ثمَّ إِنَّمَا يصرف إِلَى الْحَج الْفَرْض وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات إِذا أوصى(3/211)
بهَا فَأَما بِدُونِ الْوَصِيَّة فَلَا يصرف الثُّلُث إِلَيْهَا بل يسْقط عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ على مَا ذكرنَا فِي الزَّكَاة
وَإِذا أوصى يعْتَبر من الثُّلُث لتَعلق حق الْوَرَثَة بِمَالِه فِي مرض الْمَوْت
وَأما بَيَان الْمُوصى لَهُ وَأَحْكَامه فَنَقُول الْمُوصى لَهُ يجب أَن يكون حَيا وَأَن يكون أَجْنَبِيّا لَا وَارِث لَهُ وَلَا قَائِلا إِيَّاه وَقد ذكرنَا هَذَا حَتَّى لَو أوصى لِرجلَيْنِ أَحدهمَا ميت تكون الْوَصِيَّة كلهَا للحي
وَلَو أوصى لأَجْنَبِيّ ولوارثه يكون النّصْف للْأَجْنَبِيّ لِأَن الْوَارِث من أهل الْوَصِيَّة حَتَّى لَو أجَاز بَاقِي الْوَرَثَة جَازَ
وَلَو أوصى لِذَوي قرَابَته أَو لأقربائه أَو لذِي قراباته أَو لأرحامه أَو لِذَوي رحم مِنْهُ فَإِن عِنْد أبي حنيفَة يعْتَبر فِي هَذِه الْوَصِيَّة أَشْيَاء ذُو الرَّحِم الْمحرم وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَأَن لَا يكون فيهم وَالِد وَلَا ولد وَأَن يكون اثْنَيْنِ فَصَاعِدا إِن كَانَ بِلَفْظ الْجمع أَو يَقُول لِذَوي قرَابَته
وَلَو قَالَ لذِي قرَابَته يَقع على الْوَاحِد فَصَاعِدا
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد الْوَصِيَّة لجَمِيع قرَابَته من جِهَة الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام الْقَرِيب والبعيد فِيهِ سَوَاء كَمَا إِذا أوصى للعلوية والعباسية يصرف إِلَى من يتَّصل بعلي وعباس رَضِي الله عَنْهُمَا دون من فَوْقهمَا من الْآبَاء
بَيَانه إِذا ترك عمين وخالين فَعنده الْوَصِيَّة للعمين للقرب وَعِنْدَهُمَا بَين الْكل أَربَاعًا
وَلَو ترك عَمَّا وخالين فللعم النّصْف وَالنّصف للخالين عِنْده(3/212)
لِأَن اسْم الْجمع فِي الْوَصِيَّة ينْصَرف إِلَى اثْنَيْنِ فَيسْتَحق كل وَاحِد النّصْف فَيكون للأقرب النّصْف وَالنّصف للأبعدين بَينهمَا سَوَاء
وَإِن ترك عَمَّا وَاحِدًا وَلم يكن لَهُ غَيره من ذَوي الرَّحِم الْمحرم فالنصف للعم وَالنّصف رد على الْوَرَثَة عِنْده
وَعِنْدَهُمَا يصرف إِلَى ذِي الرَّحِم الَّذِي لَيْسَ بِمحرم
وَإِن كَانَ أوصى لذِي قرَابَته فَجَمِيع الثُّلُث للعم لما بَينا
وَلَو أوصى لأهل بَيت فلَان أَو لحسبه أَو نسبه أَو لأنسبائه فَهَذَا يَقع على قرَابَة أَبِيه الَّذين ينسبون إِلَيْهِ إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام دون قرَابَة أمه لِأَن النّسَب والحسب وَالْبَيْت يخْتَص بِالْأَبِ دون الْأُم
وَكَذَا لَو أوصى لآل فلَان فَهُوَ بِمَنْزِلَة أهل بَيت فلَان
وَلَو أوصى لأهل فلَان فَالْقِيَاس أَن يَقع على زَوْجَة فلَان خَاصَّة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يصرف إِلَى جَمِيع من كَانَ فِي عِيَاله من الْأَحْرَار وَلَا يدْخل فِيهِ المماليك وَأما الابْن الْكَبِير الَّذِي اعتزل عَنهُ وَالْبِنْت الَّتِي فِي بَيت الزَّوْج فَلَا تدخل
وَلَو أوصى لبني فلَان فَإِن كَانُوا لَا يُحْصى عَددهمْ كبني تَمِيم وَبني الْعَبَّاس فَإِنَّهُ يصرف إِلَى جَمِيع الْقَبِيلَة
وَيدخل فيهم الحليف وَالْموالى بِسَبَب الْوَلَاء والعتاقة لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة الصَّدَقَة وَله أَن يصرف إِلَى وَاحِد وَأكْثر عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ اسْم جنس وَعند مُحَمَّد يصرف إِلَى اثْنَيْنِ وَأكْثر دون الْوَاحِد لِأَن اسْم الْجمع فِي الْوَصِيَّة يَقع على الِاثْنَيْنِ وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء لِأَنَّهُ اسْم للقبيلة
وَلَو كَانُوا يُحصونَ وأبوهم من الْعَرَب فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ بَنو فلَان من الْعَرَب دون الحلفاء والموالي(3/213)
ثمَّ عِنْد أبي حنيفَة يدْخل فِيهِ الذُّكُور من أَوْلَاد الصلب دون الْإِنَاث
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يدْخل فِيهِ الْكل وَهُوَ قَول أبي حنيفَة الأول
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا كَانَ الْكل إِنَاثًا لَا يدْخلُونَ
وَأما إِذا لم يكن لفُلَان ولد الصلب فَإِن الْوَصِيَّة للذكور من أَوْلَاد الْبَنِينَ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يدْخل الْكل
وَهل يدْخل بَنو الْبَنَات فروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنهم يدْخلُونَ وَذكر فِي السّير الْكَبِير أَنهم لَا يدْخلُونَ
وَلَو كَانَ لَهُ ابْن وَاحِد وَبَنُو بَنِينَ فللابن النّصْف وَالْبَاقِي للْوَرَثَة دون بني الْبَنِينَ وَعِنْدَهُمَا للِابْن النّصْف وَالْبَاقِي لبني الْبَنِينَ
وَلَو كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَبَنُو ابْن فَالْكل للابنين لِأَن الِابْنَيْنِ فِي الْوَصِيَّة بِمَنْزِلَة الْجمع
وَلَو كَانَ لَهُ ابْن وَاحِد وَبَنَات فالنصف للِابْن وَالْبَاقِي للْوَرَثَة عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا للِابْن النّصْف وَالْبَاقِي للبنات
وَلَو كَانَ لَهُ بَنَات وَبَنُو ابْن فَلَا شَيْء لَهُم بل للْوَرَثَة عِنْده وَعِنْدَهُمَا للْكُلّ على السوَاء
وَلَو أوصى لولد فلَان فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ الذّكر والانثى على السوَاء وَيدخل فِيهِ الْجَنِين الَّذِي يُولد لأَقل من سِتَّة أشهر وَلَا يدْخل ولد الْوَلَد مَا دَامَ الصلبي حَيا
وَلَو كَانَ لَهُ بَنَات وَبَنُو الابْن فَهِيَ للبنات لَا غير
وَلَو كَانَ ولد وَاحِد فَالْكل لَهُ لِأَن اسْم الْوَلَد يَقع لَهُ
وَلَو أوصى لعقب فلَان فعقب الرجل هُوَ وَلَده من الذُّكُور وَالْإِنَاث
فَإِن لم يكن فولد وَلَده من الذُّكُور دون الْإِنَاث وَدون ولد(3/214)
الْإِنَاث
وَيكون هَذَا الِاسْم بعد موت الْأَب لَا قبله حَتَّى إِن الْمُوصي إِذا مَاتَ وَفُلَان حَيّ فَلَا شَيْء لَهُم لأَنهم لَا يكونُونَ عقبا حَال حَيَاته
وَكَذَا لَو أوصى لوَرَثَة فلَان فَهُوَ مثل عقب فلَان إِلَّا أَن فِي الْعقب سهم الذّكر وَالْأُنْثَى سَوَاء فِي الْوَرَثَة يكون بَينهم على قدر الْمَوَارِيث
وَلَو أوصى لعصبة فلَان فَإِنَّهُ يَصح الْوَصِيَّة وَإِن لم يمت فلَان حَتَّى إِذا مَاتَ الْمُوصي تصرف الْوَصِيَّة إِلَى عصبته فَإِن كَانَ لَهُ أَب وَابْن فالعصبة هُوَ الابْن دون الْأَب وَيكون للأقرب فَالْأَقْرَب على تَرْتِيب الْعَصَبَات
وَلَو أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذَات رحم محرم مِنْهُ وكل ذِي رحم محرم من أَزوَاجهنَّ من الذّكر وَالْأُنْثَى وهم فِي الْوَصِيَّة سَوَاء
وَلَو أوصى للأصهار فالصهر كل ذِي رحم محرم من زَوجته الذّكر وَالْأُنْثَى
وَلَو أوصى لأيتام بني فلَان فَإِنَّهُ يَقع على من لَا أَب لَهُ
وَلَو أوصى لأيامى بني فلَان فالأيم كل امْرَأَة لَا زوج لَهَا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَعند مُحَمَّد يَقع على الثّيّب الأيم والأرملة كل امْرَأَة محتاجة أرملت من زَوجهَا وَمَالهَا
ثمَّ هَذِه الْوَصَايَا نَوْعَانِ فَالْوَصِيَّة لقوم يُحصونَ تقع على عدد رؤوسهم على السوَاء ذكرهم وأنثاهم غنيهم وفقيرهم صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ
فَأَما إِذا كَانُوا لَا يُحْصى عَددهمْ فَهُوَ على ثَلَاثَة أوجه(3/215)
إِن أوصى لأهل الْحَاجة نصا بِأَن قَالَ لفقراء بني تَمِيم أَو لمساكينهم وأراملهم فَإِنَّهُ يَصح لِأَن الْحق فِيهِ لله تَعَالَى والفقراء مصارف فَصَاحب الْحق مَعْلُوم فَصحت
وَالثَّانِي أَن يذكر اسْما لَا يدل على الْحَاجة لَا عرفا وَلَا لُغَة كَقَوْلِه أوصيت لبني فلَان أَو لأيامى بني فلَان أَو لشبانهم أَو لكهولهم أَو لشيوخهم فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْوَصِيَّة تقع لَهُم وهم مَجْهُولُونَ
وَالثَّالِث أَن يكون الِاسْم قد يَقع على الْفُقَرَاء إِمَّا فِي عرف اللُّغَة أَو فِي عرف الشَّرْع كَمَا إِذا أوصى لأيتام بني فلَان أَو لعميانهم أَو لزمناهم لقَوْله تَعَالَى {واليتامى وَالْمَسَاكِين} فَمَتَى كَانُوا لَا يُحصونَ يسْتَدلّ بِهِ أَنه أَرَادَ بِهِ الْفُقَرَاء مِنْهُم تَصْحِيحا للْوَصِيَّة بِخِلَاف مَا إِذا كَانُوا يُحصونَ فَإِنَّهُ يَقع على الْأَغْنِيَاء والفقراء جَمِيعًا لِأَنَّهُ يُمكن الْعَمَل بِحَقِيقَة الِاسْم لِأَن الْوَصِيَّة تصح لَهُم
وَلَو أوصى لغلمان بني فلَان ولصبيانهم يَقع على من لم يَحْتَلِم
وَلَو قَالَ لشبانهم أَو لفتيانهم يَقع على من بلغ مِنْهُم إِلَى أَن يصير كهلا وَدخل فِي الثَّلَاثِينَ إِلَّا إِذا غَلبه الشمط قبل ذَلِك
والكهل يَقع على من دخل فِي الثَّلَاثِينَ إِلَى خمسين إِلَّا إِذا غلب الْبيَاض
وَالشَّيْخ يَقع على الْخمسين إِلَى آخر الْعُمر إِلَّا إِذا غلب الْبيَاض قبله هَذَا هُوَ الْأَشْبَه من الْأَقْوَال(3/216)
فصل فِي الْإِيصَاء
الله جلّ ذكره نقُول الْإِيصَاء جَائِز
وَلَا بُد لَهُ من الْقبُول من الْمُوصي لِأَنَّهُ مُتَبَرّع بِالْعَمَلِ فِيهِ فَلَا بُد من قبُوله
وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْتَبر الْقبُول بعد الْمَوْت كَمَا فِي الْوَصِيَّة بِالْمَالِ لِأَنَّهُ إِيجَاب بعد الْمَوْت لَكِن جَازَ هَاهُنَا الْقبُول فِي حَال الْحَيَاة بِخِلَاف الْوَصِيَّة بِالْمَالِ لضَرُورَة أَن الْمَيِّت إِنَّمَا يُوصي إِلَى من يعْتَمد عَلَيْهِ من الأصدقاء والأمناء فَلَو اعْتبر الْقبُول بعد الْمَوْت فَرُبمَا لَا يقبل فَلَا يحصل غَرَضه وَهُوَ الْمُوصي الَّذِي اخْتَارَهُ
وَإِذا صَحَّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن كَانَ الْمُوصي حَاضرا أَو غَائِبا
فَإِن كَانَ حَاضرا وَقبل مُوَاجهَة صَحَّ
وَلَو أَرَادَ أَن يرد الْوِصَايَة وَيرجع لَا يَصح بِدُونِ محْضر الْمُوصي أَو علمه لما فِيهِ من الْغرُور بِهِ
وَإِذا رد فِي المواجهة صَحَّ
فَأَما إِذا كَانَ غَائِبا فَبَلغهُ الْخَبَر فَقبل فَلَا يَصح رده إِلَّا بِحَضْرَة الْمُوصي
وَإِذا بلغه وَلم يقبل ورده صَحَّ بِغَيْر محضره لِأَنَّهُ لَيْسَ بغرور
وَأما إِذا بلغه بعد الْمَوْت فَإِذا قبل أَو تصرف فِي التَّرِكَة تَصرفا يدل(3/217)
على قبُوله فَلَا يَصح رده إِلَّا عِنْد الْحَاكِم لِأَنَّهُ قَائِم مقَام الْمُوصي كَالْوَكِيلِ لَا يملك عزل نَفسه فِي حَال غيبَة الْمُوكل وَيملك فِي حَال حَضرته
فَأَما إِذا لم يقبل ورد كَمَا علم يَصح وَله الْخِيَار بَين أَن يقبل وَيرد لِأَنَّهُ مُتَبَرّع فِي الْعَمَل فَلَا يجْبر عَلَيْهِ
وَلَو لم يعلم القَاضِي بِأَن للْمَيت وَصِيّا وَالْوَصِيّ غَائِب فأوصى إِلَى رجل فالوصي هُوَ وَصِيّ الْمَيِّت دون وَصِيّ القَاضِي لِأَنَّهُ اتَّصل بِهِ اخْتِيَار الْمَيِّت كَمَا إِذا كَانَ القَاضِي عَالما
ثمَّ للْقَاضِي أَن يعْزل وَصِيّ الْمَيِّت إِذا كَانَ فَاسِقًا غير مَأْمُون على التَّرِكَة
وَإِن كَانَ ثِقَة لكنه ضَعِيف لَا يقدر على التَّصَرُّف وَحفظ التَّرِكَة بِنَفسِهِ فَإِن القَاضِي يضم إِلَيْهِ غَيره وَلَا يعزله لاعتماد الْمُوصي عَلَيْهِ لأمانته فيحصيل الْغَرَض بهما
وَلَو أوصى الْمَيِّت إِلَى رجل ثمَّ أوصى إِلَى آخر كَانَ هَذَا اشتراكا فِي الْوِصَايَة مَا لم ينص على عزل الأول وإخراجه
وَكَذَلِكَ هَذَا من القَاضِي
وَلَو أَنه أوصى إِلَى رجل بِقَضَاء دينه وَأوصى إِلَى آخر بِأَن يعْتق عَنهُ فَهُوَ وصيان فيهمَا جَمِيعًا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَكَذَلِكَ إِذا أوصى بِنَصِيب بعض وَلَده إِلَى رجل وبنصيب من بَقِي إِلَى آخر
وعَلى هَذَا لَو أوصى بميراثه فِي بلد إِلَى رجل وَفِي بلد آخر إِلَى آخر
وَكَذَلِكَ لَو أوصى بتقاضي الدّين إِلَى رجل وبنفقة الْوَرَثَة إِلَى آخر وبحفظ(3/218)
المَال إِلَى آخر
وَكَذَا إِذا أوصى إِنْسَان للْحَال وَإِلَى آخر إِن قدم فَإِذا قدم فلَان فَهُوَ وَصِيّ دون الأول فهما وصيان فِي ذَلِك كُله عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا ل مُحَمَّد لِأَن الْوِصَايَة لَا تتجزأ عِنْدهمَا مَتى ثبتَتْ فِي الْبَعْض تثبت فِي الْكل
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة فِيمَن أوصى إِلَى فلَان حَتَّى يقدم فلَان فَإِذا قدم فَهُوَ الْوَصِيّ دون الأول فَهُوَ كَمَا قَالَ فَيكون عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي هَذَا
وَيجوز أَن يكون الأول قَول أبي يُوسُف خَاصَّة
وَعند وَمُحَمّد كل وَاحِد مِنْهُمَا وَصِيّ فِيمَا جعل إِلَيْهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الْخلاف
وَلَو أوصى إِلَى رجل وَهُوَ وَصِيّ لرجل آخر فَإِنَّهُ يكون وَصِيّا فِي تركته وتركة الأول عندنَا خلافًا لِابْنِ أبي ليلى
وَلَو أوصى إِلَى رجلَيْنِ فَإِن أَحدهمَا لَا ينْفَرد بِتَصَرُّف يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَعند أبي يُوسُف ينْفَرد
ثمَّ إِن عِنْدهمَا ينْفَرد فِي أَشْيَاء مَخْصُوصَة بِأَن يكون فِي تَأْخِير التَّصَرُّف ضَرَر إِلَى حَضْرَة صَاحبه أَو لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي وَذَلِكَ نَحْو شِرَاء الْكَفَن وجهاز الْمَيِّت وَكَذَا جمع الْأَمْوَال المتفرقة من قبض الدُّيُون والودائع وَالْمَغْصُوب
وَكَذَلِكَ فِي أَدَاء مَا على الْمَيِّت من رد الودائع وَالْمَغْصُوب وَقَضَاء الدّين وتنفيذ الْوَصِيَّة بِأَلفَيْنِ أَو بِأَلف مُرْسلَة أَو بِإِعْتَاق عبد بِعَيْنِه بِخِلَاف الْوَصِيَّة بأعمال الْبر أَو إِعْتَاق عبد غير معِين لِأَنَّهُ يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي
وَكَذَا شِرَاء مَا لَا بُد للْيَتِيم مِنْهُ نَحْو الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة وَكَذَا قبُول(3/219)
الْهِبَة وَبيع مَا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة للصَّبِيّ
وَهَكَذَا ينْفَرد بِالْخُصُومَةِ للْمَيت وَعَلِيهِ
وَلَو مَاتَ أحد الْوَصِيّين وَأوصى إِلَى رجل آخر جَازَ وَيكون قَائِما مقامة
وَإِن لم يوص إِلَى آخر فللقاضي أَن ينصب وَصِيّا آخر حَتَّى ينفذ تصرفهما عِنْدهمَا خلافًا لأبي يُوسُف
ثمَّ وَصِيّ الْأَب أولى من الْجد
فَإِن لم يكن فالجد ثمَّ وَصِيّ الْجد
فَإِن لم يكن فَالْقَاضِي ووصي القَاضِي
ثمَّ ينظر إِن كَانَ فِي التَّرِكَة دين يملك الْوَصِيّ بيع كل شَيْء لقَضَاء الدّين من الْعقار وَالْمَنْقُول
وَإِن لم يكن دين وَالْوَرَثَة كلهم صغَار يملك بيع كل شَيْء وإمساك ثمنه وَالتَّصَرُّف فِيهِ
وَإِن كَانَ كلهم كبارًا وهم حُضُور لَيْسَ لَهُ ولَايَة بيع شَيْء إِلَّا إِذا كَانَ فِيهِ وَصَايَا
وَإِن كَانُوا غيبا يملك بيع الْمَنْقُول لِأَن حفظ الثّمن أيسر وَله ولَايَة حفظ مَال الْغَائِب وَلَا يملك بيع الْعقار
وَإِن كَانَ بَعضهم صغَارًا وَبَعْضهمْ كبارًا غيبا يملك بيع الْعقار عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يَصح فِي حِصَّة الْكِبَار
وَأما وَصِيّ الْأُم وَالْأَخ وَالْعم فَهَؤُلَاءِ بِأَنْفسِهِم يملكُونَ حفظ مَال الصَّبِي وَبيع الْمَنْقُول لِأَنَّهُ من بَاب الْحِفْظ(3/220)
وَلَو قَالَ لرجل إِن مت من مرضِي هَذَا أَو فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنت وَصِيّ فِي مَالِي فبرأ وَلم يمت حَتَّى رَجَعَ من السّفر ثمَّ مَاتَ لَا يكون وَصِيّا لِأَنَّهُ تعلق بِشَرْط خَاص وَلم يُوجد
وَلَو أوصى إِلَى عبد إِنْسَان أَو إِلَى ذمِّي أَو إِلَى صبي عَاقل فَإِنَّهُ لَا ينفذ ويخرجه القَاضِي
وَلَو عتق العَبْد وَأسلم الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاج القَاضِي تنفذ الْوَصَايَا
وَإِذا بلغ الصَّبِي لَا تنفذ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا تنفذ
وَلَو تصرف العَبْد أَو الذِّمِّيّ قبل الْإِخْرَاج يَصح فِي رِوَايَة وَلَا يَصح فِي رِوَايَة وَفِي الصَّبِي لَا يَصح بِالْإِجْمَاع
وَلَو أوصى إِلَى عبد نَفسه فَإِن لم يكن فِي الْوَرَثَة كَبِير جَازَ عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَلَو كَانَ فِي الْوَرَثَة كَبِير لَا يَصح بِالْإِجْمَاع(3/221)
بَاب الرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة
أصل الْبَاب أَن الرُّجُوع فِي الْوَصِيَّة صَحِيح لِأَنَّهُ تبرع لم يتم لِأَن الْقبُول فِيهِ بعد الْمَوْت فَيملك الرُّجُوع كالرجوع عَن الْإِيجَاب فِي البيع قبيل الْقبُول
وَإِذا ثَبت أَنه يَصح الرُّجُوع فِيهِ فَكل فعل يُوجد من الْمُوصي فِيهِ دلَالَة على تبقية الْملك لنَفسِهِ يكون رُجُوعا
وكل فعل يدل على إبْقَاء العقد وتنفيذ الْوَصِيَّة لَا يدل على الرُّجُوع كَمَا إِذا وجد مِنْهُ فعل لَو فعل فِي ملك غَيره يَنْقَطِع حق الْملك للْمَالِك وَيصير ملكا لَهُ
فَإِذا فعل بعد الْوَصِيَّة فِي الْمُوصى بِهِ مَا يدل على إبْقَاء الْملك فِيهِ لنَفسِهِ فَيكون رُجُوعا كَمَا إِذا أوصى بِثَوْب ثمَّ قطعه وخاطه ونظائره كَثِيرَة
وَكَذَا إِذا اتَّصَلت بِعَين الْمُوصى بِهِ زِيَادَة لَا يُمكن تمييزها وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ نقضهَا فَإِنَّهُ يكون رُجُوعا لِأَنَّهُ لَا يُمكن تَسْلِيمهَا إِلَّا بِتَسْلِيم تِلْكَ الزِّيَادَة وَلَا يجب عَلَيْهِ ذَلِك فَيدل على الرُّجُوع وَذَلِكَ كالسويق إذالته بالسمن أَو بني بِنَاء فِي الدَّار الْمُوصى بهَا وَكَذَلِكَ لَو أوصى بِقطن ثمَّ حَشا بِهِ قبَاء وضربه أَو بِثَوْب فَجعله ظهارة أَو بطانة لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ نقض ذَلِك لكَونه تَصرفا فِي ملكه
وَكَذَلِكَ لَو أَزَال الْمُوصى بِهِ عَن ملكه بِأَن بَاعهَا ثمَّ اشْتَرَاهَا(3/223)
بطلت الْوَصِيَّة
وَلَو ذبح الشَّاة تبطل الْوَصِيَّة بِنَفس الذّبْح لِأَنَّهُ يدل على الرُّجُوع لِأَن الذَّبِيحَة لَا تبقى إِلَى مَا بعد الْمَوْت
وَلَو أوصى بقميص ثمَّ نقضه وَجعله قبَاء يكون رُجُوعا
وَلَو لم يخطه قبَاء لَكِن نقض الْقَمِيص فِيهِ اخْتِلَاف الْمَشَايِخ
وَلَو أوصى بدار ثمَّ جصصها أَو هدمها لَا يكون رُجُوعا لِأَن الْبناء تبع والتجصيص زِينَة
وَكَذَلِكَ لَو غسل الثَّوْب الْمُوصى بِهِ لإِزَالَة الْوَسخ
وَلَو قَالَ أوصيت بِهَذَا العَبْد لفُلَان ثمَّ قَالَ أوصيت بِهَذَا لفُلَان آخر يكون شركَة
وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي أوصيت بِهِ لفُلَان هُوَ لفُلَان يكون للثَّانِي وَلَا يكون شركَة
وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي أوصيت بِهِ لفُلَان فقد أوصيت بِهِ لفُلَان يكون شركَة
وَلَو أوصى ثمَّ أنكر الْوَصِيَّة وجحدها فالجحود لَا يكون رُجُوعا عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد يكون رُجُوعا
وَلَو أوصى بِعَبْد لإِنْسَان ثمَّ قَالَ مَا أوصيت لفُلَان فَهُوَ لعَمْرو وَهُوَ حَيّ ثمَّ مَاتَ عَمْرو قبل موت الْمُوصي يكون مِيرَاثا لِأَن الْوَصِيَّة انْتَقَلت إِلَى عَمْرو فَإِذا مَاتَ قبل موت الْمُوصي بطلت الْوَصِيَّة فَيكون مِيرَاثا
وَلَو قَالَ مَا أوصيت لفُلَان فَهُوَ لعقب عَمْرو وَعَمْرو حَيّ فَإِن مَاتَ عَمْرو قبل موت الْمُوصي فَهُوَ لوَرَثَة عَمْرو لأَنهم صَارُوا عقبا(3/224)
لَهُ قبل نَفاذ الْوَصِيَّة بِالْمَوْتِ وَلَو مَاتَ الْمُوصي وَعَمْرو حَيّ فَتكون الْوَصِيَّة لفُلَان لِأَنَّهُ لم تنْتَقل الْوَصِيَّة إِلَيْهِم لِأَن الْعقب لَا يكون قبل موت عَمْرو
وَلَو أوصى بِسيف لإِنْسَان فَهُوَ لَهُ بغمده وحمائله عِنْد أبي حنيفَة وَزفر
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَهُ السَّيْف لَا غير
وَكَذَا لَو أوصى بالميزان والقبان والسرج فَعِنْدَ زفر يدْخل كل مَا كَانَ تَوَابِع ذَلِك الشَّيْء
وَعند أبي يُوسُف يدْخل مَا كَانَ مُتَّصِلا بِهِ
وَفِي الْمُصحف الَّذِي لَهُ غلاف عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يدْخل الغلاف
وَعند زفر يدْخل فَأَبُو يُوسُف مر على أَصله وَكَذَا زفر
وَأَبُو حنيفَة إِمَّا أَن يفرق بَين الْمُصحف وَسَائِر الْمسَائِل أَو يكون عَنهُ رِوَايَتَانِ
وَلَو أوصى بِشَيْء فِي الظّرْف فَإِن الْمُعْتَبر فِيهِ الْعَادة إِن كَانَ مِمَّا يُبَاع مَعَ الظّرْف يدْخل وَإِلَّا فَلَا(3/225)
كتاب الْوكَالَة
يحْتَاج إِلَى بَيَان الْوكَالَة لُغَة وَشرعا وَإِلَى بَيَان أَنْوَاعهَا
أما الْوكَالَة فِي اللُّغَة فَهِيَ الْحِفْظ قَالَ الله تَعَالَى {حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل} أَي وَنعم الْحَافِظ
وَقد يُرَاد بهَا التَّفْوِيض يُقَال توكلت على الله أَي فوضت أَمْرِي إِلَيْهِ
وَفِي الشَّرْع كَذَلِك هِيَ تَفْوِيض التَّصَرُّف وَالْحِفْظ إِلَى الْوَكِيل
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا من قَالَ وكلت فلَانا فِي مَالِي يصير وَكيلا فِي الْحِفْظ لِأَنَّهُ أدنى
ثمَّ الْوكَالَة نَوْعَانِ أَحدهمَا فِي حُقُوق الله تَعَالَى والثانى فِي حُقُوق الْعباد أما الْوكَالَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى
فنوعان فِي الْإِثْبَات والاستيفاء(3/227)
الأول التَّوْكِيل فِي إِثْبَات الْحُدُود وَهُوَ الَّذِي يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْخُصُومَة من حد السّرقَة وحد الْقَذْف وَفِيه خلاف قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد يجوز وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يجوز
وَكَذَا الْخلاف فِي إِثْبَات الْقصاص أَيْضا
أما فِي غَيرهمَا فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْخُصُومَة فَلَا يَصح فِيهِ التَّوْكِيل فِي الْإِثْبَات بل يثبت ذَلِك عِنْد القَاضِي بالشهود وَالْإِقْرَار
وَأما فِي الِاسْتِيفَاء فَإِن كَانَ الْمَسْرُوق مِنْهُ حَاضرا والمقذوف يجوز التَّوْكِيل بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَن ذَلِك إِلَى الإِمَام وَهُوَ لَا يقدر أَن يُبَاشر بِنَفسِهِ على كل حَال
وَإِن كَانَ غَائِبا اخْتلف الْمَشَايِخ قيل يجوز لِأَنَّهُ لَا يَصح الْعَفو وَالصُّلْح عَنْهُمَا
وَقيل لَا يجوز لِأَنَّهُ يحْتَمل الْإِقْرَار والتصديق
وَأما فِي الْقصاص فَإِن كَانَ الْوَلِيّ حَاضرا يجوز وَإِن كَانَ غَائِبا لَا يجوز لاحْتِمَال الْعَفو
وَأما الْوكَالَة فِي حُقُوق الْعباد فأنواع مِنْهَا الْوكَالَة فِي الْخُصُومَة فِي إِثْبَات الدّين وَالْعين والحقوق
وَاخْتلفُوا فِيهَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَصح من غير رضَا الْخصم إِلَّا من عذر السّفر أَو الْمَرَض أَو كَانَت امْرَأَة مخدرة
وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ جَوَاب أَصْحَابنَا فِي الرجل وَالْمَرْأَة سَوَاء وَإِنَّمَا هَذَا شَيْء استحسنه الْمُتَأَخّرُونَ
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يَصح من غير رضَا الْخصم فِي الْأَحْوَال كلهَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة(3/228)
وَإِذا صَحَّ التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ فَإِذا أقرّ الْوَكِيل على مُوكله فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد يَصح فِي مجْلِس الْقَضَاء وَلَا يَصح فِي غير مَجْلِسه
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَصح فيهمَا جَمِيعًا
وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ لَا يَصح أصلا
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا اسْتثْنى الْإِقْرَار وتزكية الشُّهُود فِي عقد التَّوْكِيل يَصح وَيكون وَكيلا بالإنكار لَا غير
وَأما إِذا وكل بِالْخُصُومَةِ مُطلقًا ثمَّ اسْتثْنى الْإِقْرَار فِي كَلَام مُنْفَصِل فَعِنْدَ مُحَمَّد لَا يجوز وَعند أبي يُوسُف يَصح
وَأَجْمعُوا أَن إِقْرَار الْأَب وَالْوَصِيّ وَأمين القَاضِي على الصَّغِير لَا يَصح
وَأما التَّوْكِيل بِالْإِقْرَارِ إِن ثَبت عِنْده ذكر الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يجوز وَذكر فِي الْوكَالَة أَنه يجوز
وَالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ فِي مَال إِذا قضى القَاضِي بِالْمَالِ هَل يملك الْقَبْض فعندنا يملك وَعند زفر لَا يملك
أما الْوَكِيل بتقاضي الدّين فَيملك الْقَبْض أَيْضا فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَلَكِن أَصْحَابنَا الْمُتَأَخّرُونَ قَالُوا لَا يملك بِحكم الْعرف كالوكلاء فِي بَاب الْقَضَاء
وَأما الْوَكِيل بِقَبض الدّين فَهَل يملك الْخُصُومَة فِي إِثْبَات الدّين إِذا أنكر الْغَرِيم عِنْد أبي حنيفَة يملك وَعِنْدَهُمَا لَا يملك
وَأَجْمعُوا أَن الْوَكِيل بِقَبض الْعين إِذا أنكر الْغَرِيم لَا يملك الْخُصُومَة(3/229)
وَأَجْمعُوا أَن الْوَكِيل بالملازمة لَا يملك الْقَبْض
وَقَالُوا فِي الْوَكِيل بِطَلَب الشُّفْعَة وبالرد بِالْعَيْبِ وبالقسمة إِنَّه يملك الْخُصُومَة
ثمَّ لكل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ أَن يعْزل وَكيله من غير محْضر من خَصمه إِلَّا إِذا كَانَ وَكيلا بالتماس الْخصم فَلَا بُد من حَضْرَة الْخصم حَتَّى يَصح عَزله وَلَكِن لَا بُد من علم الْوَكِيل أَو حَضرته حَتَّى يَصح عَزله حَتَّى لَا يُؤَدِّي إِلَى الْغرُور فِي حَقه
وَكَذَا الْجَواب فِي كل وكَالَة
وَإِذا بلغ الْوَكِيل الْخَبَر بِالْعَزْلِ بِالْكِتَابَةِ أَو بالرسالة يَنْعَزِل بِلَا خلاف
وَأما إِذا جَاءَهُ على وَجه الْخَبَر لم يَنْعَزِل عِنْد أبي حنيفَة حَتَّى يُخبرهُ رجل عدل أَو رجلَانِ على أَي صفة كَانَا فَالشَّرْط عِنْده أحد شطري الشَّهَادَة إِمَّا الْعَدَالَة أَو الْعدَد
وَعِنْدَهُمَا خبر الْوَاحِد مَقْبُول وَلَا يشْتَرط الْعَدَالَة لِأَن هَذَا من بَاب الْمُعَامَلَة
وَمِنْهَا الْوكَالَة بِقَبض الدّين صَحِيحَة لحَاجَة صَاحبه إِلَى قبض الْوَكِيل لعَجزه عَن قبض دُيُونه بِنَفسِهِ كلهَا إِلَّا أَن فِي قبض رَأس مَال السّلم وَثمن الصّرْف يَصح التَّوْكِيل فِي الْمجْلس لَا خَارج الْمجْلس لِأَن الْمُوكل يملك الْقَبْض فِي الْمجْلس لَا غير
وَإِذا قبض الْوَكِيل يبرأ الْمَدْيُون وَصَارَ الْمَقْبُوض ملكا لصَاحب الدّين وَيكون أَمَانَة فِي يَد الْوَكِيل وَيكون حكمه حكم الْمُودع فِي أَن يقبل قَوْله إِنَّه دَفعه إِلَى صَاحب الدّين وَفِي كل مَا يبرأ بِهِ الْمُودع من الْوَدِيعَة(3/230)
وَلَيْسَ للْوَكِيل بِالْقَبْضِ أَن يُوكل غَيره لِأَنَّهُ رَضِي بِرَأْيهِ وأمانته وَحده
فَإِن فعل ذَلِك وَقبض الْوَكِيل الثَّانِي لم يبرأ الْغَرِيم من الدّين لِأَن التَّوْكِيل لم يَصح فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ إِلَّا إِذا وصل مَا قبض إِلَى الْوَكِيل الأول لِأَنَّهُ وصل إِلَى يَد من هُوَ نَائِب الْمَالِك فَإِن هلك فِي يَد الْقَابِض قبل ذَلِك ضمنه الَّذِي قَبضه وَلم يبرأ الدَّافِع من الدّين الَّذِي عَلَيْهِ وَكَانَ للطَّالِب أَن يَأْخُذ الْغَرِيم بِدِينِهِ
فَإِذا أَخذه مِنْهُ رَجَعَ الْغَرِيم على من دَفعه إِلَيْهِ فَيرجع الْوَكِيل الثَّانِي على الأول إِن هلك مَا قبض فِي يَده إِلَّا إِذا قَالَ الْمُوكل للْوَكِيل بِالْقَبْضِ اصْنَع مَا شِئْت فَلهُ أَن يُوكل غَيره بِالْقَبْضِ
وَلَيْسَ للْوَكِيل بِقَبض الدّين أَن يَأْخُذ عينا مَكَانَهُ لِأَن هَذَا عقد مُعَاوضَة وَقد وَكله بِقَبض حَقه لَا غير لَا بالاستبدال وَلَا بالاعتياض
وَلَو وكل رجلَيْنِ بِقَبض دينه فَلَيْسَ لأَحَدهمَا أَن يقبض دون صَاحبه لِأَنَّهُ رَضِي برأيهما لَا بِرَأْي أَحدهمَا فَإِن قبض أَحدهمَا لم يبرأ الْغَرِيم حَتَّى يصل مَا قبض أَحدهمَا إِلَى صَاحبه فَيَقَع ذَلِك فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا أَو يصل إِلَى الْمُوكل لِأَن الْمَقْصُود بِالْقَبْضِ قد حصل فكأنهما قد قبضاه ابْتِدَاء
وَلَو أَن الْوَكِيل بِقَبض الدّين قَبضه فَوَجَدَهُ معيبا فَمَا كَانَ للْمُوكل رده فللوكيل رده وَأخذ بدله لِأَنَّهُ قَائِم مقَامه
وَلَو كَانَ لرجل على رجل دين فَجَاءَهُ رجل وَقَالَ لَهُ إِن الطَّالِب أَمرنِي بِقَبْضِهِ مِنْك فَدفعهُ إِلَيْهِ ثمَّ جَاءَ الطَّالِب وَأنكر أَن يكون أمره بذلك فَهَذَا على ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا إِن صدق الْوَكِيل بِالْوكَالَةِ وَدفعه إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَال لَهُ ادْفَعْ الدّين إِلَى الطَّالِب وَلَا حق لَك على الْوَكِيل لِأَنَّهُ أقرّ بِالْوكَالَةِ ذ(3/231)
وَإِقْرَاره صَحِيح فِي حق نَفسه فَكَأَنَّهُ يَقُول إِن الطَّالِب ظَلَمَنِي بِالْقَبْضِ فَلَا أظلم الْوَكِيل الْقَابِض بِحَق
وَالثَّانِي إِن صدقه وَضَمنَهُ مَا دَفعه إِلَيْهِ ثمَّ حضر الْمُوكل وَرجع عَلَيْهِ رَجَعَ هُوَ على الْقَابِض لِأَنَّهُ وَإِن اعْترف أَنه قبض بِحَق وَأَن الطَّالِب ظَالِم فِيمَا قبض وَلكنه ضمنه مَا يَطْلُبهُ الطَّالِب بِغَيْر حق فَيصح الضَّمَان كَمَا لَو قَالَ مَا غصبك فلَان فَهُوَ عَليّ
وَالثَّالِث إِن كَانَ الْمَطْلُوب يَقُول كذب الْوَكِيل فِي الْوكَالَة أَو لم يصدق وَلم يكذب وَدفعه إِلَيْهِ ثمَّ حضر الطَّالِب وَأخذ مِنْهُ رَجَعَ على الْوَكِيل لِأَنَّهُ لما كذبه أَو لم يكذبهُ وَلم يصدقهُ ثمَّ طَالبه عَاد إِلَى التَّكْذِيب وَله ذَلِك فَلم يقر بِكَوْنِهِ قَابِضا بِحَق فَلهُ أَن يرجع
وَأما التَّوْكِيل بِالشِّرَاءِ فَنَقُول جملَة هَذَا أَن الْوكَالَة على ضَرْبَيْنِ وكَالَة عَامَّة ووكالة خَاصَّة
أما الْوكَالَة الْعَامَّة فَإِنَّهَا تصح مَعَ الْجَهَالَة الْكَثِيرَة كَمَا إِذا قَالَ اشْتَرِ لي مَا شِئْت أَو مَا رَأَيْت لِأَنَّهُ فوض الرَّأْي إِلَيْهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَة البضاعة وَالْمُضَاربَة
وَأما الْوكَالَة الْخَاصَّة فَالْقِيَاس أَن لَا تجوز مَا لم يذكر الْجِنْس وَقدر الثّمن وَالصّفة كَمَا فِي البيع
وَفِي الِاسْتِحْسَان أَن الْجَهَالَة الْيَسِيرَة لَا تمنع
وَإِنَّمَا تقل الْجَهَالَة إِذا كَانَ اسْم مَا وكل بِشِرَائِهِ لَا يتَنَاوَل إِلَّا نوعا وَاحِدًا وَذكر فِيهِ أحد أَمريْن إِمَّا الصّفة أَو مِقْدَار الثّمن
فَإِذا كَانَ الِاسْم يتَنَاوَل أنواعا مُخْتَلفَة أَو فِي حكم الْأَنْوَاع الْمُخْتَلفَة فَإِن الْجَهَالَة كَثِيرَة فَلَا تجوز الْوكَالَة وَإِن بَين مِقْدَار الثّمن أَو الصّفة أَو(3/232)
كِلَاهُمَا مَا لم يبين مَعَ ذَلِك نوعا مِنْهُ
أما بَيَان الأول إِذا قَالَ الْمُوكل للْوَكِيل اشْتَرِ لي عبدا أَو جَارِيَة إِن بَين الثّمن أَو الصّفة بِأَن قَالَ تركيا أَو روميا أَو هنديا جَازَ لِأَنَّهُ تقل الْجَهَالَة بِذكر أَحدهمَا وبحال الْمُوكل
وَلَو قَالَ اشْتَرِ لي حمارا أَو بغلا أَو فرسا وَلم يبين لَهُ صفة وَلَا ثمنا قَالُوا يجوز لِأَن النَّوْع لم يخْتَلف وَالصّفة تكون مَعْلُومَة بِحَال الْمُوكل
وَلَو قَالَ اشْتَرِ شَاة أَو بقرة وَلم يبين لَهُ صفة وَلَا ثمنا لم يجز لِأَنَّهَا لَا تصير مَعْلُومَة الصّفة بِحَال الْمُوكل وَقد ذكرنَا أَنه لَا بُد من أَن تكون الصّفة أَو الثّمن مَعْلُوما
وَأما بَيَان الثَّانِي إِذا قَالَ اشْتَرِ لي حَيَوَانا أَو مَمْلُوكا أَو دَابَّة أَو ثوبا لَا يجوز وَإِن بَين الثّمن لِأَن الِاسْم يَقع على أَنْوَاع مُخْتَلفَة
وَكَذَا إِذا قَالَ اشْتَرِ لي جوهرا لما قُلْنَاهُ
وَكَذَا إِذا قَالَ اشْتَرِ لي حِنْطَة لَا تجوز الْوكَالَة مَا لم يبين الثّمن أَو عدد القفزان
وَلَو وَكله بشرَاء عبد أَو جَارِيَة وسمى الثّمن أَو الصّفة فَاشْترى أعمى أَو مَقْطُوع الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن فَإِنَّهُ يجوز ذَلِك عِنْد أبي حنيفَة إِذا اشْترى مَا يُسمى عبدا أَو جَارِيَة وَعِنْدَهُمَا يجوز الْأَعْوَر أَو مَقْطُوع أحد الطَّرفَيْنِ فَأَما فَائت جنس الْمَنْفَعَة فَلَا يجوز
وَلَو وَكله بِأَن يَشْتَرِي لَهُ طَعَاما وَلم يبين لَهُ فَإِن كَانَ الثّمن قَلِيلا(3/233)
يصرف إِلَى الْخبز وَإِن كثيرا انْصَرف إِلَى الْحِنْطَة والدقيق
وَلَو قَالَ اشْتَرِ لي بدرهم لَحْمًا انْصَرف إِلَى مَا يُبَاع فِي السُّوق فِي الْأَغْلَب دون لحم الْوَحْش وَالطير والسمك والشواء والمطبوخ
وَفِي الرَّأْس ينْصَرف إِلَى المشوي دون النيء وَيَقَع على رَأس الْغنم دون الْبَقر وَهُوَ أَمر مَبْنِيّ على الْعَادة
وَلَو قَالَ اشْتَرِ لي جَارِيَة بِعَينهَا بِمِائَة دِينَار فاشتراها بِدَرَاهِم تكون قدر قيمَة مائَة دِينَار أَو أقل جَازَ على الْآمِر فِي قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ زفر لَا يلْزم الْآمِر وَهَذَا رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد
وَقَالَ الْكَرْخِي الْمَشْهُور من قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه لَا يجوز أَن يَشْتَرِيهَا بِالدَّرَاهِمِ كَمَا قَالَ زفر لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ
ثمَّ الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ إِذا خَالف يصير مُشْتَريا لنَفسِهِ
فَأَما الْوَكِيل بِالْبيعِ إِذا خَالف يكون مَوْقُوفا على إجَازَة صَاحبه وَالْفرق ظَاهر
وَأما التَّوْكِيل بِالْبيعِ فَنَقُول عِنْد أبي حنيفَة الْوَكِيل بِالْبيعِ مُطلقًا لَهُ أَن يَبِيع بِمَا عز وَهَان بِأَيّ ثمن كَانَ وَإِن كَانَ غبنا فَاحِشا وَسَوَاء كَانَ الثّمن عينا أَو دينا
وَعِنْدَهُمَا لَا يجوز إِلَّا أَن يَبِيع بالأثمان بِمثل قِيمَته
وَأما إِذا بَاعَ الْوَكِيل بعض مَا وكل بِبيعِهِ فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن كَانَ ذَلِك مِمَّا لَا ضَرَر فِي تبعيضه جَازَ بالِاتِّفَاقِ مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون أَو يَبِيع شَيْئَيْنِ
وَإِن كَانَ فِي تبعيضه ضَرَر بِأَن كَانَ التَّوْكِيل بِبيع عبد
فَبَاعَ نصفه جَازَ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يجوز إِلَّا أَن يُجِيزهُ الْمُوكل(3/234)
ثمَّ الْوكَالَة نَوْعَانِ مِنْهَا مَا لَا حُقُوق لَهُ إِلَّا مَا أَمر بِهِ كَالْوكَالَةِ بتقاضي الدّين وَالْوكَالَة بالملازمة وَنَحْوهمَا
وَمِنْهَا مَا يكون حُقُوقه للْوَكِيل وَعَلِيهِ
وَمِنْهَا مَا يكون حُقُوقه للْمُوكل وَعَلِيهِ
فَكل مَا لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى إِضَافَة العقد إِلَى الْمُوكل ويكتفي فِيهِ بِالْإِضَافَة إِلَى نَفسه كالبياعات والأشربة والإجارات وَالصُّلْح عَن إِقْرَار وَنَحْوهَا فَإِن الْحُقُوق ترجع إِلَى الْوَكِيل حَتَّى يجب عَلَيْهِ تَسْلِيم الْمَبِيع وَقبض الثّمن ويخاصم المُشْتَرِي الْوَكِيل فِي الْعَيْب وَيجب عَلَيْهِ الضَّمَان عِنْد الِاسْتِحْقَاق إِلَّا إِذا كَانَ العقد لَيْسَ من أهل لُزُوم الْعَهْد كَالصَّبِيِّ الْمَحْجُور وَالْعَبْد الْمَحْجُور وَالْقَاضِي وَأمين القَاضِي وَنَحْو ذَلِك
وللوكيل أَن يُوكل غَيره فِي الْحُقُوق
وَلَيْسَ للْمُوكل أَن يُبَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ مَا دَامَ الْوَكِيل قَائِما فَإِن مَاتَ الْوَكِيل أَو جن جنونا مطبقا وَهُوَ شهر عِنْد أبي يُوسُف وحول عِنْد مُحَمَّد يخرج الْوَكِيل من الْوكَالَة وَترجع الْعهْدَة إِلَى الْمُوكل
وَأما مَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْإِضَافَة إِلَى الْمُوكل كَالنِّكَاحِ وَالْخلْع وَالطَّلَاق على مَال وَالصُّلْح عَن دم الْعمد وَالْعِتْق على مَال وَالْكِتَابَة وَالصُّلْح عَن إِنْكَار وَنَحْوهَا فالحقوق ترجع إِلَى الْمُوكل
ثمَّ الْوَكِيل بِالْبيعِ إِذا رد عَلَيْهِ الْمَبِيع بِالْعَيْبِ يملك أَن يَبِيعهُ مرّة أُخْرَى
وَكَذَلِكَ فِي كل مَا يكون هُوَ الْخصم فِيهِ
وَلَو أَن الْوَكِيل بِالْبيعِ إِذا أَبْرَأ المُشْتَرِي من الثّمن أَو أَجله أَو أَخذ بِالثّمن عوضا غَيره أَو صَالحه من الثّمن على شَيْء فَذَلِك كُله جَائِز(3/235)
على الْوَكِيل عِنْد أبي حنيفَة وَيضمن للْمُوكل وعَلى قَوْلهمَا لَا يجوز شَيْء من ذَلِك
وَإِن ارْتَدَّ الْوَكِيل توقفت الْوكَالَة فَإِن أسلم جَازَ وَإِن قتل على ردته أَو لحق بدار الْحَرْب مُرْتَدا وَحكم بالحاقه تبطل وَعِنْدَهُمَا جَائِزَة وأصل الْمَسْأَلَة أَن تَصَرُّفَات الْمُرْتَد مَوْقُوفَة عِنْده وَعِنْدَهُمَا نَافِذَة
وتصرفات الْمُرْتَدَّة نَافِذَة بِلَا خلاف
فَإِن رَجَعَ مُسلما عَاد إِلَى وكَالَته عِنْد مُحَمَّد وَعند أبي يُوسُف لَا يعود(3/236)
كتاب الْكفَالَة
قَالَ يحْتَاج إِلَى بَيَان الْكفَالَة لُغَة وَشرعا وَإِلَى بَيَان أَلْفَاظ الْكفَالَة وَإِلَى بَيَان شَرَائِط صِحَّتهَا وَإِلَى بَيَان أَنْوَاع الْمَكْفُول بِهِ وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا
أما الأول فالكفالة لُغَة هِيَ الضَّم قَالَ الله تَعَالَى {وكفلها زَكَرِيَّا} أَي ضمهَا إِلَى نَفسه
وَفِي الشَّرْع ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة فِي حق الْمُطَالبَة أَو فِي حق أصل الدّين على حسب مَا اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ
وَأما أَلْفَاظ الْكفَالَة فَأن يَقُول الْكَفِيل للطَّالِب دَعه فَأَنا ضَامِن مَا عَلَيْهِ أَو كَفِيل بذلك أَو قبيل أَو زعيم أَو هُوَ إِلَيّ أَو عَليّ أَو هُوَ لَك(3/237)
عِنْدِي أَو هُوَ لَك قبلي
وَقد ذكرنَا فِي كتاب الْإِقْرَار إِذا قَالَ لفُلَان عِنْدِي كَذَا يكون إِقْرَارا بالوديعة وَهَاهُنَا يكون ضمانا لِأَن قَوْله عِنْدِي يحْتَمل هُوَ فِي يَدي وَيحْتَمل هُوَ فِي ذِمَّتِي فَيَقَع على الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَدِيعَة فَأَما الدّين فَلَا يكون إِلَّا فِي الذِّمَّة وَلَا يكون فِي الْيَد فَحمل على الْوُجُوب هَاهُنَا
وَأما شرائطها فَمن ذَلِك أَن يكون الْكَفِيل من أهل التَّبَرُّع لِأَن الْكفَالَة تبرع بِالْتِزَام المَال
فَلَا يَصح فِي الصَّبِي وَالْعَبْد الْمَحْجُور عَلَيْهِ
وَكَذَا لَا تصح كَفَالَة الْمكَاتب
وَكَذَا كَفَالَة الْمَرِيض لَا تصح إِلَّا من الثُّلُث كتبرعه
وَمن شَرطهَا أَيْضا أَن يكون الدّين صَحِيحا سَوَاء كَانَ على الصَّغِير أَو العَبْد الْمَحْجُور لِأَنَّهُ يُطَالب بعد الْعتْق
أما الْكفَالَة بِبَدَل الْكِتَابَة فَإِنَّهُ لَا تجوز لِأَنَّهُ لَيْسَ بدين صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يجب للْمولى على عَبده شَيْء وَإِنَّمَا وَجب مُخَالفا للْقِيَاس لصِحَّة الْكِتَابَة نظرا للْعَبد حَتَّى يصل إِلَى الْعتْق
وَأما الْمَكْفُول بِهِ فنوعان الدُّيُون والأعيان
وَمَا الْكفَالَة بالديون فصحيحة بِلَا خلاف وَصَاحب الدّين بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ طَالب الْأَصِيل وَإِن شَاءَ طَالب الْكَفِيل وَلَا يُوجب بَرَاءَة الْأَصِيل عندنَا(3/238)
وَعند ابْن أبي ليلى يُوجب الْبَرَاءَة وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ يصير الْكفَالَة وَالْحوالَة سَوَاء
وَأيهمَا اخْتَار مُطَالبَته لَا يبرأ الآخر بِخِلَاف غَاصِب الْغَاصِب مَعَ الْغَاصِب فَإِن للْمَالِك أَن يضمن أَيهمَا شَاءَ وَإِذا اخْتَار تضمين أَحدهمَا لم يكن لَهُ اخْتِيَار الآخر
وَكَذَا فِي إِعْتَاق أحد الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِيك السَّاكِت بِالْخِيَارِ بَين أَن يضمن الْمُعْتق إِن كَانَ مُوسِرًا وَبَين أَن يستسعي العَبْد فَإِذا اخْتَار أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ أَن يخْتَار الآخر
وَجُمْلَة هَذَا أَن الْكَفِيل لَيْسَ لَهُ أَن يُطَالب الْمَكْفُول عَنهُ بِالْمَالِ قبل أَن يُؤَدِّي عَنهُ شَيْئا إِلَّا أَنه إِذا طُولِبَ طَالب الْمَكْفُول عَنهُ بالخلاص
فَإِن حبس كَانَ لَهُ أَن يحبس الْمَكْفُول عَنهُ
أما إِذا أدّى فَينْظر إِن كَانَ كفل بِغَيْر أمره فَلَا يرجع عندنَا خلافًا لمَالِك لِأَنَّهُ تبرع بِقَضَاء دين غَيره وَإِن كفل عَنهُ بأَمْره وَهُوَ مِمَّن يجوز إِقْرَاره على نَفسه بِالدّينِ وَيملك التَّبَرُّع يرجع عَلَيْهِ لِأَن الْكفَالَة فِي حق الْمَكْفُول عَنهُ استقراض وَهُوَ طلب الْقَرْض وَالْكَفِيل بِالْأَدَاءِ مقرض للمكفول عَنهُ ونائب عَنهُ فِي الْأَدَاء إِلَى الْمَكْفُول لَهُ وَفِي حق الْمَكْفُول لَهُ تمْلِيك مَا فِي ذمَّة الْمَكْفُول عَنهُ من الْكَفِيل بِمَا أَخذه من المَال فَيرجع عَلَيْهِ بِمَا أقْرضهُ حَتَّى إِن الصَّبِي الْمَحْجُور إِذا أَمر رجلا بِأَن يكفل عَنهُ فكفل وَأدّى لَا يرجع عَلَيْهِ لِأَن استقراض الصَّبِي لَا يتَعَلَّق بِهِ الضَّمَان وَأما العَبْد الْمَحْجُور فَلَا يرجع عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْعتْق لما قُلْنَا
وَلَو وهب صَاحب الدّين المَال لأَحَدهمَا جَازَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة أَدَاء المَال
وَكَذَا لَو مَاتَ الطَّالِب فورثه أَحدهمَا لِأَن بِالْهبةِ وَالْمِيرَاث يملك مَا فِي ذمَّته فَإِن كَانَ الْمَوْهُوب(3/239)
لَهُ أَو الْوَارِث هُوَ الْكَفِيل فقد ملك مَا فِي ذمَّته فَيرجع على الْأَصِيل كَمَا لَو ملك ذَلِك بِالْأَدَاءِ
وَإِن كَانَ الْمَوْهُوب لَهُ أَو الْوَارِث هُوَ الْمَكْفُول عَنهُ برىء الْكَفِيل كَأَنَّهُ أدّى
وَلَو أَبْرَأ الطَّالِب الْأَصِيل فقد برئا جَمِيعًا
وَإِن أَبْرَأ الْكَفِيل برىء دون الْأَصِيل سَوَاء كَانَ ذَلِك بِأَمْر الْمَكْفُول عَنهُ أَو لَا
وَلَو قَالَ لأَحَدهمَا بَرِئت إِلَيّ من المَال فَهُوَ إِقْرَار بِالْقَبْضِ بالِاتِّفَاقِ لِأَن هَذَا اللَّفْظ يسْتَعْمل فِي الْأَدَاء
وَلَو قَالَ لأَحَدهمَا بَرِئت من المَال فَهُوَ إِقْرَار بِالْقَبْضِ عِنْد أبي يُوسُف كَأَنَّهُ قَالَ بَرِئت إِلَيّ من المَال
وَعند مُحَمَّد بِمَنْزِلَة قَوْله أَبْرَأتك من المَال
ثمَّ الْكَفِيل يرجع بِمَا ضمن لَا بِمَا أدّى لِأَنَّهُ ملك مَا فِي ذمَّة الْأَصِيل حَتَّى أَنه إِذا كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِم صِحَاح جَيِّدَة فَأدى زُيُوفًا وَتجوز بِهِ صَاحب الدّين فَإِنَّهُ يرجع بالجياد
وَكَذَا لَو أدّى عَنْهَا من الْمكيل وَالْمَوْزُون أَو الْعرُوض فَإِنَّهُ يرجع بِالدَّرَاهِمِ بِخِلَاف الْوَكِيل بِقَضَاء الدّين فَإِنَّهُ يرجع بِمَا أدّى لَا بِمَا على الْغَرِيم وَبِخِلَاف الصُّلْح إِذا صَالح من الْألف على خَمْسمِائَة فَإِنَّهُ يرجع بخمسائة لَا بِالْألف لِأَنَّهُ إِسْقَاط الْبَعْض
وَلَو كفل لرجل بِمَال إِلَى القطاف أَو إِلَى الْحَصاد أَو إِلَى الدياس أَو إِلَى النيروز أَو إِلَى المهرجان وَنَحْوهَا من الْآجَال المجهولة يَصح عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ بِخِلَاف البيع إِلَى هَذِه الْآجَال فَلَا يجوز بِالْإِجْمَاع
وَلَو كَانَ عَلَيْهِ ثمن بيع أَو دين حَال فَأَجله إِلَى هَذِه الْآجَال يَصح أَيْضا بِمَنْزِلَة الْكفَالَة
وَلَا خلاف فِي جَوَاز الْكفَالَة إِلَى أجل مَعْلُوم من الشَّهْر وَالسّنة وَنَحْوهَا(3/240)
أما إِذا كفل إِلَى أجل مَجْهُول لَا يشبه آجال النَّاس مثل مَجِيء الْمَطَر وهبوب الرّيح فالأجل بَاطِل وَالْكَفَالَة جَائِزَة لِأَن الْكفَالَة وَردت منجزة لَكِن الْأَجَل بَاطِل فَلم يَصح التَّأْجِيل فَتبقى الْكفَالَة حَالَة
أما إِذا علق الْكفَالَة بِشَرْط فَإِن كَانَ ذَلِك سَببا لوُجُوب الْحق أَو وَسِيلَة إِلَى الْأَدَاء فِي الْجُمْلَة مثل أَن يَقُول إِذا قدم زيد أَو اسْتحق الْمَبِيع فالكفالة جَائِزَة لِأَنَّهُ سَبَب للوصول إِلَى الْأَدَاء لِأَن زيدا رُبمَا يكون مضاربا
فَأَما إِذا قَالَ إِذا جَاءَ الْمَطَر أَو هبت الرّيح أَو دخل زيد دَارنَا فَأَنا كَفِيل عنْدك بِكَذَا فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْأَمْوَال لَا يجوز أَن يتَعَلَّق وُجُوبهَا بِالشُّرُوطِ
وَلَو كَانَ على رجل دين مُؤَجل فكفل بِهِ رجل مُطلقًا فَإِنَّهُ يكون مُؤَجّلا لِأَنَّهُ الْتزم مثل مَا على الْأَصِيل فَإِن سمي الْكَفِيل أَََجَلًا زَائِدا عَلَيْهِ أَو نَاقِصا أَو مثله يلْزمه كَذَلِك لِأَنَّهُ مُتَبَرّع فَيلْزمهُ على حسب مَا تبرع بِهِ
وَلَو كَانَ المَال حَالا فكفل إِنْسَان مُؤَجّلا بِأَمْر الْمَكْفُول لَهُ فَإِنَّهُ يجوز فَيكون تأجيلا فِي حَقّهمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَفِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه حَال على الْأَصِيل مُؤَجل فِي حق الْكَفِيل
وَلَو كفل عَن رجل لرجل والمكفول لَهُ غَائِب فَبَلغهُ الْخَبَر فَأجَاز لَا يَصح وَلَا تتَوَقَّف الْكفَالَة على قبُوله وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف خلافًا لَهما فَهَذَا كَذَلِك إِلَّا أَنَّهُمَا استحسنا فِي الْمَرِيض إِذا قَالَ عِنْد مَوته لوَرثَته اضمنوا مَا عَليّ من الدّين لغرمائي وهم غيب فَفَعَلُوا فَهُوَ جَائِز ويلزمهم نظرا للْغُرَمَاء(3/241)
وَلَو كفل رجلَانِ رجلا بِأَلف دِرْهَم بأَمْره وَلم يكفل كل وَاحِد عَن صَاحبه فَإِن على كل وَاحِد مِنْهُمَا خَمْسمِائَة لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكفَالَة
وَلَو أدّى أَحدهمَا لَا يرجع على صَاحبه لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَن نَفسه لَا عَن صَاحبه لَكِن يرجع على الْأَصِيل بِمَا أدّى
وَلَو لَقِي الْمَكْفُول لَهُ الكفيلين يعد ذَلِك فكفل أَحدهمَا عَن صَاحبه صَحَّ لِأَن الْكفَالَة عَن الْكَفِيل صَحِيحَة ثمَّ مَا أدّى فَالْقَوْل قَوْله إِنَّه أدّى من كَفَالَة الْكَفِيل الآخر أَو من كَفَالَة نَفسه لِأَنَّهُ لزمَه المَال من وَجْهَيْن
وَلَو لَقِي الْمَكْفُول لَهُ الْكَفِيل الآخر الَّذِي لم يكفل فَطلب مِنْهُ أَن يكفل عَن صَاحبه وكفل صَحَّ وَالْجَوَاب فِيهِ وَفِيمَا إِذا كَانَ فِي الِابْتِدَاء كفل كل وَاحِد من الكفيلين عَن صَاحبه سَوَاء وَهُوَ أَن كل مَا يُؤَدِّي كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الْمَكْفُول لَهُ فَذَلِك عَن نَفسه إِلَى خَمْسمِائَة
وَلَو قَالَ أؤدي عَن شَرِيكي لَا عَن نَفسِي لَا يقبل وَيكون عَن نَفسه
فَأَما إِذا زَاد على خَمْسمِائَة فَيرجع بِالزِّيَادَةِ على شَرِيكه إِن شَاءَ وَإِن شَاءَ على الْمَكْفُول عَنهُ
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى رجلَانِ من رجل عبدا بِأَلف دِرْهَم على أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا كَفِيل عَن صَاحبه ثمن حِصَّته
وَكَذَا الْجَواب فِي المفاوضين بعد فسخ الشّركَة إِذا كَانَ عَلَيْهِمَا دين لصَاحبه أَن يُطَالب بِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِذا أدّى أَحدهمَا النّصْف لَا يرجع فَإِذا أدّى زِيَادَة على النّصْف لَهُ أَن يرجع على صَاحبه لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا كَفِيل عَن صَاحبه
وَأما الْكفَالَة بالأعيان فَهِيَ أَنْوَاع ثَلَاثَة أَحدهمَا كَفَالَة بِعَين هِيَ أَمَانَة غير وَاجِبَة التَّسْلِيم كَالْوَدِيعَةِ وَكَمَال الْمُضَاربَة وَالشَّرِكَة وَهِي لَا تصح أصلا(3/242)
وَالثَّانِي الْكفَالَة بِعَين هِيَ أَمَانَة وَلكنهَا وَاجِبَة التَّسْلِيم كالعارية وَالْمُسْتَأْجر فِي يَد الْمُسْتَأْجر وَكَذَا الْعين الْمَضْمُونَة بغَيْرهَا كَالْمَبِيعِ قبل الْقَبْض مَضْمُون بِالثّمن وكالرهن مَضْمُون بِالدّينِ وَالْجَوَاب فِي الْكل وَاحِد وَهُوَ أَنه تصح الْكفَالَة بِتَسْلِيم الْعين فَمَتَى هَلَكت الْعين لَا يجب على الْكَفِيل قيمَة الْعين
وَالثَّالِث الْعين الْمَضْمُونَة بِقِيمَتِهَا كالمغصوب وَالْمَبِيع بيعا فَاسِدا والمقبوض على سوم الشِّرَاء تصح الْكفَالَة بهَا وَيجب عَلَيْهِ تَسْلِيم الْعين مَا دَامَت بَاقِيَة وَإِذا هَلَكت يجب عَلَيْهِ تَسْلِيم قيمتهَا مَتى ثَبت الْغَصْب بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار
ثمَّ الْكفَالَة بِالنَّفسِ بعد الدَّعْوَى من قبيل الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهُ مَضْمُون بِالتَّسْلِيمِ وَإنَّهُ يجب عَلَيْهِ تَسْلِيم النَّفس والحضور إِلَى بَاب القَاضِي حَتَّى يُقيم الْخصم الْبَيِّنَة فَتَصِح الْكفَالَة بِهِ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَلَكِن لَو هلك الْكَفِيل لَا شَيْء عَلَيْهِ من المَال الْمُدعى بِهِ حَتَّى لَا يُؤْخَذ من تركته وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَا لَو كفل بِنَفس من عَلَيْهِ التَّعْزِير
أما لَو كفل بِنَفس من عَلَيْهِ حد الْقَذْف أَو حد السّرقَة أَو الْقصاص هَل يجوز ذكر أَبُو الْحسن أَن الْكفَالَة بِالنَّفسِ فِي الْحُدُود وَالْقصاص جَائِزَة فِي قَوْلهم إِذا بذلها الْمَطْلُوب بِنَفسِهِ وَلَكِن هَل للْقَاضِي أَن يَأْمُرهُ بالتكفيل إِذا طلب الْخصم قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَأْخُذ القَاضِي مِنْهُ كَفِيلا وَلَكِن يحْبسهُ حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْبَيِّنَة أَو يَسْتَوْفِي
ثمَّ الْكَفِيل بِالنَّفسِ يُؤْخَذ بإحضار الْمَكْفُول عَنهُ مَا دَامَ إحضارة مُمكنا مَقْدُورًا
فَإِن صَار بِحَال لَا يقدر على إِحْضَاره بِوَجْه من الْوُجُوه بِأَن مَاتَ بطلت الْكفَالَة وَلَا شَيْء على الْكَفِيل فَأَما إِذا كَانَ يُرْجَى حُضُور الْمَكْفُول عَنهُ بِأَن غَابَ فَإِنَّهُ يتَأَخَّر الْمُطَالبَة بالإحضار عَن(3/243)
الْكَفِيل للْحَال ويؤجل إِلَى مُدَّة يُمكنهُ الْإِحْضَار فِي تِلْكَ الْمدَّة فَإِن لم يحضرهُ وَظَهَرت مماطلته فَإِنَّهُ يحبس الْكَفِيل فَإِذا ظهر للْقَاضِي أَنه لَا يقدر على الْإِحْضَار بِدلَالَة الْحَال أَو شهد الشُّهُود بذلك فَإِنَّهُ يخرج من الْحَبْس وَينظر إِلَى وَقت الْقُدْرَة كَمَا فِي الْإِعْسَار فِي حق الدّين وَإِذا أخرجه القَاضِي فَإِن الْغُرَمَاء يلازمونه وَلَا يحول القَاضِي بَينه وَبَين الْغُرَمَاء وَلَكِن لَيْسَ للْغُرَمَاء أَن يمنعوه من اشْتِغَاله كَمَا فِي الإفلاس سَوَاء
هَذَا إِذا كفل بِالنَّفسِ مُطلقًا
فَأَما إِذا ادّعى عَلَيْهِ ألف دِرْهَم فكفل بِنَفسِهِ على أَن يوافيه بِهِ غَدا فَإِن لم يوافه بِهِ غَدا فَعَلَيهِ المَال الَّذِي ادّعى فَإِن أقرّ الْمَطْلُوب بِالْألف أَو ثَبت بِالْبَيِّنَةِ وَقضى القَاضِي وكفل على هَذَا الْوَجْه صحت الْكفَالَة بِالنَّفسِ وَتَصِح الْكفَالَة بِالْمَالِ مُعَلّقا بِشَرْط ترك الموافاة غَدا وَالْكَفَالَة بِالشّرطِ صَحِيحَة فَإِذا لم يواف بِهِ غَدا يُؤْخَذ مِنْهُ المَال بِسَبَب الْكفَالَة بِالْمَالِ وَبقيت الْكفَالَة بِالنَّفسِ لِأَن من حجَّته أَن يَقُول لي عَلَيْهِ مَال آخر
وَلَو قَالَ كفلت بِنَفسِهِ على أَنِّي إِن لم أواف بِهِ غَدا فعلي الْألف وَلم يقل الْألف الَّذين ادعيت فعلى قَول مُحَمَّد لَا تصح الْكفَالَة وعَلى قَوْلهمَا تصح كَأَنَّهُ قَالَ فعلي الْألف الَّذِي تَدعِي لِأَنَّهُ هِيَ الْمَعْهُودَة
فَأَما إِذا أنكر الْمَطْلُوب المَال ثمَّ كفل بِنَفسِهِ على أَن يوافيه بِهِ غَدا وَإِن لم يواف بِهِ فَعَلَيهِ المَال فَلم يوافه بِهِ لَا يلْزمه المَال لِأَن وجوب المَال لَا يتَعَلَّق بالخطر أما الْكفَالَة بِالْمَالِ الثَّابِت فَيتَعَلَّق بالخطر
وَلَو كفل بِالنَّفسِ وَالْمَال وَسَماهُ ثمَّ قَالَ إِن وافيتك بِهِ غَدا فَأَنا(3/244)
بَرِيء مِنْهُ فوافاه بِهِ من الْغَد يبرأ من المَال فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي رِوَايَة لَا يبرأ لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ وَفِي الْبَرَاءَة معنى التَّمْلِيك فَلَا يَصح تَعْلِيقه بِالشّرطِ
وَلَو كفل بِالنَّفسِ على أَن يوافي بِهِ عِنْد القَاضِي غَدا فسلمه إِلَيْهِ فِي السُّوق فَإِنَّهُ يبرأ
وَالْأَصْل أَنه إِذا سلمه فِي مَكَان يقدر على أَن يحضرهُ فِيهِ إِلَى القَاضِي فَهُوَ كتسليمه فِي مجْلِس القَاضِي
وَكَذَا إِذا سلمه فِي أَطْرَاف هَذَا الْمصر
وَلَو سلمه فِي قَرْيَة هَذَا الْمصر الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَاض لَا يبرأ
وَلَو كفل على أَن يدْفع فِي مصر معِين فَدفع فِي مصر آخر يبرأ عِنْد أبي حنيفَة وَفِي كل مَوضِع فِيهِ قَاض وَعِنْدَهُمَا لَا يبرأ مَا لم يسلم فِي ذَلِك الْمصر بِعَيْنِه(3/245)
كتاب الْحِوَالَة
الْحِوَالَة مَشْرُوعَة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أُحِيل على مَلِيء فليتبعه
ثمَّ الْحِوَالَة مبرئة عندنَا حَتَّى يبرأ الْمُحِيل من الدّين الَّذِي عَلَيْهِ بالحوالة إِلَى الْمُحْتَال عَلَيْهِ
وللمحتال لَهُ أَن يُطَالب الْمُحْتَال عَلَيْهِ لَا غير
وَقَالَ زفر لَا يبرأ وَله أَن يطالبهما كَمَا فِي الْكفَالَة
وَكَذَا الْكفَالَة بِشَرْط بَرَاءَة الْأَصِيل حِوَالَة أَيْضا عندنَا لِأَنَّهَا حِوَالَة معنى
ثمَّ لَيْسَ للمحتال لَهُ أَن يرجع على الْمُحِيل إِلَّا إِذا توى مَا على الْمُحْتَال عَلَيْهِ وَذَلِكَ بطريقين عِنْد أبي حنيفَة بِأَن يَمُوت الْمُحْتَال عَلَيْهِ مُفلسًا أَو يجْحَد الْمُحْتَال عَلَيْهِ الْحِوَالَة وَيحلف
وَعِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وبطريق ثَالِث وَهُوَ أَن يقْضِي القَاضِي بإفلاسه فِي حَال الْحَيَاة لِأَن الْقَضَاء بالإفلاس صَحِيح عِنْدهمَا فِي حَالَة الْحَيَاة وَعند أبي حنيفَة لَا يَصح
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يعود الدّين إِلَى الْمُحِيل أبدا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة(3/247)
ثمَّ الْحِوَالَة نَوْعَانِ مُطلقَة ومقيدة أما الْمُطلقَة فَأن يحِيل صَاحب الدّين على رجل لَهُ مَال عَلَيْهِ أَو لم يكن وَقبل ذَلِك الرجل
فَإِن لم يكن عَلَيْهِ مَال يجب عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي
وَإِن كَانَ عَلَيْهِ مَال وَلم يُقيد الْحِوَالَة بِهِ بِأَن لم يقل أحيله عَلَيْك بِمَالي عَلَيْك أَو على أَن تعطيه مِمَّا عَلَيْك وَقبل الْمُحْتَال عَلَيْهِ فَعَلَيهِ أَدَاء الْأَلفَيْنِ ألف إِلَى الْمُحِيل وَألف إِلَى الْمُحْتَال لَهُ وللمحيل أَن يُطَالِبهُ بذلك الْألف لِأَنَّهُ لم تتقيد الْحِوَالَة بِهِ كَمَا إِذا كَانَ عِنْد رجل ألف دِرْهَم وَدِيعَة فأحال غَرِيمه عَلَيْهِ بِأَلف دِرْهَم وَلم يُقَيِّدهُ بِالْألف الْوَدِيعَة فَقبله لَهُ أَن يَأْخُذ الْوَدِيعَة وعَلى الْمُحْتَال عَلَيْهِ أَدَاء الْألف بالحوالة
فَأَما إِذا قيد الْأَدَاء بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَيْسَ للْمُحِيل أَن يُطَالِبهُ بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ تعلق بِهِ حق الْمُحْتَال لَهُ فَإِذا أدّى تقع الْمُقَاصَّة بَينهمَا
ثمَّ فِي الْحِوَالَة الْمُطلقَة إِذا لم يكن على الْمُحْتَال عَلَيْهِ دين فَأدى إِلَى الْمُحْتَال لَهُ أَو وهب لَهُ الْمُحْتَال لَهُ أَو تصدق عَلَيْهِ أَو ورث من الْمُحْتَال لَهُ أَو أدّى الْمُحْتَال عَلَيْهِ دَنَانِير أَو عرُوضا بدل الدَّرَاهِم فَإِنَّهُ يرجع على الْمُحِيل بِالْمَالِ بِمَنْزِلَة الْكَفِيل على مَا مر
وَإِن أَبرَأَهُ عَن الدّين وَقبل مِنْهُ وَلم يرد الْإِبْرَاء فَإِنَّهُ يبرأ
وَلَا يرجع على الْمُحِيل بِشَيْء كَمَا فِي الْكفَالَة
هَذَا إِذا كَانَت الْحِوَالَة بِأَمْر الْمُحِيل فَإِن كَانَت بِغَيْر أمره فَأدى الْمُحْتَال عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يرجع وَإِن كَانَ عَلَيْهِ دين فَهُوَ بِحَالهِ(3/248)
كتاب الصُّلْح
الصُّلْح مَشْرُوع بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
أما الْكتاب فَقَوله تعالي {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير}
وَأما السّنة فَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع
ثمَّ الصُّلْح أَنْوَاع ثَلَاثَة أَحدهَا الصُّلْح عَن إِقْرَار الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ جَائِز بِالْإِجْمَاع
وَالثَّانِي الصُّلْح عَن إِنْكَاره وَهُوَ جَائِز عندنَا
وَقَالَ ابْن أبي ليلى لَا يجوز وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَالثَّالِث الصُّلْح عَن سكُوت الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ جَائِز أَيْضا عندنَا وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ الصُّلْح بَين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ أَو بَين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيّ(3/249)
أما الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الدَّعْوَى فِي الْعين الْقَائِمَة أَو فِي الدّين وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ الصُّلْح عَن إِنْكَار أَو عَن إِقْرَار
أما إِذا كَانَت الدَّعْوَى فِي الْأَعْيَان الْقَائِمَة وَالصُّلْح عَن إِقْرَار فَإِن هَذَا الصُّلْح فِي معنى البيع من الْجَانِبَيْنِ فَمَا يجوز فِي البيع يجوز فِي الصُّلْح وَمَا لَا فَلَا
فَإِن كَانَ الْمُدعى بِهِ عرُوضا أَو عقارا أَو حَيَوَانا من العبيد وَالدَّوَاب يجوز الصُّلْح إِذا كَانَ بدل الصُّلْح عينا قَائِما معينا مَمْلُوكا لَهُ سَوَاء كَانَ كيليا أَو وزنيا أَو غير ذَلِك من الْحَيَوَان وَالْعرُوض
أما إِذا كَانَ دينا فَإِن كَانَ شَيْئا من الْمكيل وَالْمَوْزُون مَعْلُوم الْقدر وَالصّفة يجوز كَمَا فِي البيع لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تصلح ثمنا عينا كَانَ أَو دينا
وَإِن كَانَ الْبَدَل ثيابًا مَوْصُوفَة فِي الذِّمَّة لَا يجوز مَا لم يُوجد فِيهِ جَمِيع شَرَائِط السّلم بِخِلَاف الكيلي والوزني فَإِنَّهُ يثبت دينا فِي الذِّمَّة مُطلقًا فِي الْمُعَاوضَة الْمُطلقَة فيصلح ثمنا من غير أجل
وَإِن كَانَ الْبَدَل حَيَوَانا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يصير دينا فِي مُقَابلَة مَال بِمَال فَلَا يصلح ثمنا
وَإِن كَانَ الصُّلْح عَن إِنْكَار فَكَذَلِك الْجَواب فِي جَانب الْمُدَّعِي
فَأَما فِي جَانب الْمُدعى عَلَيْهِ فَهُوَ إِسْقَاط وَبدل عَمَّا لَيْسَ بِمَال
وعَلى هَذَا يثبت حق الشُّفْعَة فِي الْجَانِبَيْنِ فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار حَتَّى أَن الْبَدَل إِذا كَانَ دَارا وَالْمُدَّعى بِهِ دَارا يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة فِي الدَّاريْنِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة فِي الدَّار الَّتِي هِيَ بدل الصُّلْح دون الدَّار الَّتِي هِيَ مدعى بهَا لما قُلْنَا(3/250)
وَكَذَا حق الرَّد بِالْعَيْبِ وَحكم الِاسْتِحْقَاق على هَذَا فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار يثبت من الْجَانِبَيْنِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار يثبت فِي جَانب الْمُدَّعِي لَا غير
أما إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ ذَهَبا أَو فضَّة فَإِن كَانَ الْبَدَل غير الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهُ يجوز الصُّلْح كَيْفَمَا كَانَ وَإِن كَانَ الْبَدَل ذَهَبا أَو فضَّة
فَإِن كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار وَالْبدل من جنس الْمُدعى بِهِ فَلَا يَصح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء وَيشْتَرط التَّقَابُض
إِن كَانَ بِخِلَاف جنسه كالذهب مَعَ الْفضة يجوز مَعَ التَّفَاضُل وَلَكِن يشْتَرط الْقَبْض فِي الْمجْلس لِأَن هَذَا صرف فَيشْتَرط فِيهِ شَرَائِط الصّرْف
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الصُّلْح عَن إِنْكَار فِي حق الْمُدَّعِي
هَذَا كُله إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ عينا فَأَما إِذا كَانَ دينا فَإِن كَانَ دَرَاهِم أَو دَنَانِير وَبدل الصُّلْح عين مَال مَعْلُوم من غير الكيلي والوزني فَإِنَّهُ يجوز وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة بيع الْعين بِالدّينِ إِن كَانَ عَن إِقْرَار
وَإِن كَانَ عَن إِنْكَار فَفِي حق الْمُدَّعِي كَذَلِك إِلَّا أَنه إِذا كَانَ الْبَدَل من الذَّهَب وَالْفِضَّة الَّتِي تتَعَيَّن كالتبر والأواني مِنْهُمَا يكون صرفا فَيشْتَرط التَّسَاوِي والتقابض فِي الْجِنْس والتقابض فِي خلاف الْجِنْس دون التَّسَاوِي
وَإِن كَانَ الْبَدَل من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن كَانَ من جنسه كَمَا إِذا كَانَ عَلَيْهِ ألف دِرْهَم جَيِّدَة فَصَالح من ذَلِك على ألف دِرْهَم جَيِّدَة أَو رَدِيئَة جَازَ وَيكون هَذَا اسْتِيفَاء عين حَقه وإبراء عَن صفته
وَإِن صَالح على خَمْسمِائَة جَيِّدَة أَو رَدِيئَة جَازَ وَيكون اسْتِيفَاء(3/251)
للْبَعْض وإبراء عَن الْبَعْض
وَإِن صَالح على ألف دِرْهَم لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَيجْعَل صرفا والتساوي شَرط لصِحَّة الصّرْف عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وأصل هَذَا أَن الصُّلْح مَتى وَقع على جنس مَا هُوَ الْمُسْتَحق بِعقد المداينة يَجْعَل اسْتِيفَاء وَإِن لم يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء يكون صرفا فَيشْتَرط فِيهِ شَرَائِط الصّرْف
وعَلى هَذَا إِذا صَالح من ألف دِرْهَم رَدِيء على خَمْسمِائَة جَيِّدَة لَا يجوز لِأَن مُسْتَحقّ الرَّدِيء لَا يسْتَحق الْجيد فَلَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَيكون صرفا وَبيع ألف دِرْهَم رَدِيء بِخَمْسِمِائَة جَيِّدَة لَا يجوز لِأَنَّهُ رَبًّا
وَلَو صَالح من ألف سود على ألف بيض وَسلمهَا فِي الْمجْلس جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِيفَاء وَهُوَ صرف فَإِذا وجد التَّقَابُض وهما فِي مجْلِس وَاحِد جَازَ لِأَن الْجَوْدَة لَا قيمَة لَهَا عِنْد مقابلتها بجنسها
وَإِن افْتَرقَا بَطل
وَلَو صَالح عَن ألف بيض على خَمْسمِائَة سود جَازَ وَيكون هَذَا حطا عَن الْقدر وَالصّفة وَاسْتِيفَاء لبَعض الأَصْل
وَلَو صَالح من الدّين الْحَال على الْمُؤَجل وهما فِي الْقدر سَوَاء جَازَ وَيكون هَذَا تأجيلا للدّين
وَلَو كَانَ على الْعَكْس يجوز أَيْضا وَيكون اسْتِيفَاء وَيصير الآخر تَارِكًا حَقه وَهُوَ الْأَجَل
وَلَو كَانَ الدّين مُؤَجّلا وَصَالح على بعضه معجلا لَا يجوز لِأَن صَاحب الدّين الْمُؤَجل لَا يسْتَحق الْمُعَجل فَلَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَصَارَ عوضا وَبيع خَمْسمِائَة بِأَلف لَا يجوز(3/252)
وَلَو كَانَ الْبَدَل بِخِلَاف جنسه بِأَن صَالح من الدَّرَاهِم على الدَّنَانِير فَإِن وجد التَّقَابُض يجوز وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء لاخْتِلَاف الْجِنْس فَيصير صرفا فَيشْتَرط شَرَائِط الصّرْف
وَكَذَا فِي سَائِر الوزنيات إِذا كَانَت مَوْصُوفَة فِي الذِّمَّة لِأَنَّهُ افترق عَن دين بدين
وعَلى هَذَا إِذا كَانَ الدّين كيليا فَصَالح على جنسه أَو على خلاف جنسه على الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا من غير تفَاوت
وَأما إِذا كَانَ بدل الصُّلْح الْمَنَافِع بِأَن كَانَ على رجل عشرَة دَرَاهِم فَصَالح من ذَلِك على مَنْفَعَة الدَّار سنة أَو ركُوب الدَّابَّة سنة وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يجوز وَيكون إِجَارَة إِن كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار من الْجَانِبَيْنِ
وَإِن كَانَ عَن إِنْكَار من جَانب الْمُدَّعِي فَكل حكم عرف فِي الْإِجَارَة فَهُوَ الحكم هَاهُنَا فِي موت الْعَاقِدين وهلاك الْمُسْتَأْجر والاستحقاق من غير تفَاوت وَقد ذكرنَا فِي الْإِجَارَة إِلَّا أَن فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار يرجع إِلَى الْمُدعى بِهِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار يرجع إِلَى أصل الدَّعْوَى
وَإِن كَانَ الدّين الْمُدعى بِهِ حَيَوَانا بِأَن وَجب فِي الذِّمَّة عَن قتل الْخَطَأ أَو فِي الْمهْر وَبدل الْخلْع فَصَالح على دَرَاهِم فِي الذِّمَّة وافترقا من غير قبض جَازَ وَإِن كَانَ هَذَا دينا بدين لِأَن هَذَا لَيْسَ بمعاوضة بل اسْتِيفَاء عين حَقه لِأَن الْحَيَوَان الَّذِي وَجب فِي الذِّمَّة لم يكن وُجُوبه لَازِما حَتَّى إِن من عَلَيْهِ إِذا جَاءَ بِقِيمَتِه يجْبر من لَهُ على الْقبُول بِخِلَاف سَائِر الدُّيُون
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ مَالا فَأَما إِذا كَانَ حقوقا لَيست بِمَال فَصَالح مِنْهَا على بدل هُوَ مَال فَهَذَا على ضَرْبَيْنِ ضرب يجوز وَضرب لَا يجوز(3/253)
أما الضَّرْب الَّذِي يجوز فنحو الصُّلْح عَن مُوجب الْعمد فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس على أَي بدل كَانَ دينا كَانَ أَو عينا أقل من الدِّيَة وَأرش الْجِنَايَة أَو أَكثر لِأَن هَذَا بدل الْقصاص لَا بدل الدِّيَة إِلَّا أَن الْبَدَل إِذا كَانَ دينا لَا بُد من الْقَبْض فِي الْمجْلس حَتَّى لَا يكون افتراقا عَن دين بدين
وبمثله لَو كَانَ الصُّلْح فِي قتل الْخَطَأ وجراح الْخَطَأ فِيمَا ذكرنَا من جَوَاز الصُّلْح وَاشْتِرَاط الْقَبْض فِي الدّين إِلَّا أَن الْفرق بَين الْعمد وَالْخَطَأ أَن فِي الْعمد الصُّلْح على أَكثر من الدِّيَة وَالْأَرْض جَائِز وَفِي الْخَطَأ على أَكثر من الدِّيَة وَالْأَرْش لَا يجوز لِأَن هَا هُنَا الْأَرْش وَالدية مقدران شرعا وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ رَبًّا فَلَا يجوز فَهُوَ الْفرق
ثمَّ ينظر إِن كَانَ الْبَدَل مِمَّا يصلح مهْرا فِي النِّكَاح وَتَصِح تَسْمِيَته يجب ذَلِك
وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يصلح مهْرا وَلَا تصح تَسْمِيَته وَيجب فِي ذَلِك مهر الْمثل تجب هَاهُنَا دِيَة النَّفس فِي الْقَتْل وَأرش الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ أَنه إِذا صَالح على خمر أَو خِنْزِير فِي الْعمد فَإِن كَانَ فِي النِّكَاح يجب مهر الْمثل وَهَاهُنَا يسْقط الْقصاص وَلَا يجب شَيْء وَيكون ذَلِك عفوا مِنْهُ
وَمَا عرفت من الْجَواب فِي الصُّلْح عَن دم الْعمد فَهُوَ الْجَواب فِي الْخلْع وَالْعِتْق على مَال وَالْكِتَابَة فِيمَا ذكرنَا
وَأما الضَّرْب الثَّانِي فأنواع كَثِيرَة مِنْهَا أَن المُشْتَرِي إِذا صَالح مَعَ الشَّفِيع عَن حق الشُّفْعَة على مَال مَعْلُوم لَا يجوز
وَمِنْهَا أَن الْكَفِيل بِالنَّفسِ إِذا صَالح الْمَكْفُول لَهُ بِمَال مَعْلُوم على أَن يبرأ من الْكفَالَة فَالصُّلْح بَاطِل وَالْكَفَالَة لَازِمَة
وَلَو كَانَ لرجل ظلة على طَرِيق نَافِذَة أَو كنيف شَارِع فخاصمه رجل(3/254)
فِيهِ وَأَرَادَ طَرحه فَصَالحه على دَرَاهِم فَالصُّلْح بَاطِل لِأَن هَذَا حق لجَماعَة الْمُسلمين وَلم يكن لَهُ حق مُعْتَبر حَتَّى يكون إِسْقَاطًا لحقه
وبمثله لَو كَانَ الطَّرِيق غير نَافِذ فخاصمه رجل من أهل الطَّرِيق فَصَالحه على دَرَاهِم مُسَمَّاة فَالصُّلْح جَائِز لِأَنَّهُ مُشْتَرك بَين جمَاعَة محصورة فَيكون جُزْء مِنْهُ ملكا لهَذَا الْوَاحِد فَيكون صلحا عَن حَقه وَفِيه فَائِدَة لاحْتِمَال أَن يُصَالح الْبَقِيَّة بِخِلَاف الأول لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الصُّلْح من جَمِيع النَّاس
وَلَو ادّعى رجل على رجل مائَة دِرْهَم فأنكرها الْمُدعى عَلَيْهِ فَصَالح الْمُدَّعِي على أَنه إِن حلف الْمُدعى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيء فَحلف الْمُدعى عَلَيْهِ مَا لهَذَا الْمُدَّعِي قَلِيل وَلَا كثير فَإِن الصُّلْح بَاطِل وَالْمُدَّعِي على دَعْوَاهُ فَإِن أَقَامَ بَيِّنَة أَخذه بهَا وَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة وَأَرَادَ استحلافه لَهُ ذَلِك وَإِنَّمَا بَطل ذَلِك لِأَنَّهُ إِبْرَاء مُعَلّق بِالشّرطِ وَهُوَ فَاسد لِأَن فِيهِ معنى التَّمْلِيك
وَأما الِاسْتِحْلَاف فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن حلف فِي غير مجْلِس القَاضِي فَلهُ أَن يحلفهُ ثَانِيًا لِأَن الْحلف فِي غير مجْلِس القَاضِي لَا عِبْرَة بِهِ فيحلفه ثَانِيًا
وَأما إِذا حلف فِي مجْلِس القَاضِي فَلَا يحلفهُ ثَانِيًا لِأَن حق الْمُدَّعِي فِي الْحلف صَار مُسْتَوْفِي مرّة فَلَا يجب عَلَيْهِ الْإِيفَاء ثَانِيًا
وَلَو اصطلحا على أَن يحلف الْمُدَّعِي فَمَتَى حلف فالدعوى لَازِمَة للْمُدَّعى عَلَيْهِ فَحلف الْمُدَّعِي على ذَلِك فَإِن الصُّلْح بَاطِل وَلَا يلْزم الْمُدعى عَلَيْهِ شَيْء بِهَذَا لِأَن هَذَا إِيجَاب المَال بِشَرْط وَهُوَ فَاسد
وَلَو ادّعى على امْرَأَة نِكَاحهَا فصالحها على مائَة دِرْهَم على أَن تقر لَهُ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ جَائِز وَتَكون الْمِائَة زِيَادَة فِي مهرهَا لِأَن إِقْرَارهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُول على الصِّحَّة(3/255)
وَكَذَا لَو قَالَ لَهَا أَعطيتك مائَة دِرْهَم على أَن تَكُونِي امْرَأَتي فَهُوَ جَائِز إِذا قبلت ذَلِك بِمحضر من الشُّهُود وَيكون هَذَا كِنَايَة عَن النِّكَاح ابْتِدَاء
وَكَذَا لَو قَالَ تَزَوَّجتك أمس على ألف دِرْهَم فَقَالَت لَا فَقَالَ أزيدك مائَة على أَن تقري لي بِالنِّكَاحِ فأقرت كَانَ لَهَا ألف وَمِائَة وَالنِّكَاح جَائِز وَيحمل إِقْرَارهَا على الصِّحَّة
وَكَذَا لَو ادعِي على رجل مَجْهُول النّسَب أَنه عَبده فَأنْكر وَقَالَ إِنِّي حر الأَصْل فَصَالح الْمُدَّعِي عَلَيْهِ مَعَ الْمُدَّعِي على بدل مَعْلُوم جَازَ حَتَّى لَو أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة بعد ذَلِك لَا تقبل وَيصير ذَلِك بِمَنْزِلَة الْعتْق بِبَدَل وَلَكِن تقبل الْبَيِّنَة فِي حق إِثْبَات الْوَلَاء
وَلَو ادّعى على رجل ألف دِرْهَم فَأنْكر فَقَالَ أقرّ لي بهَا عَلَيْك على أَن أُعْطِيك مائَة دِرْهَم كَانَ بَاطِلا لِأَن هَذَا إِيجَاب الْألف على نَفسه بِمِائَة دِرْهَم
وَكَذَلِكَ لَو صَالح الْقَاذِف مَعَ الْمَقْذُوف بِشَيْء على أَن يعْفُو عَنهُ وَلَا يخاصمه فَهُوَ بَاطِل
وَكَذَلِكَ لَو صَالح الشَّاهِد بِمَال على أَن لَا يشْهد عَلَيْهِ أَو أَرَادَ أَن يشْهد على الزَّانِي أَو السَّارِق أَو الْقَاذِف فَصَالَحُوهُ على مَال فَالصُّلْح بَاطِل وَلَا تقبل شَهَادَته فِي هَذِه الْحَادِثَة وَفِي غَيرهَا إِلَّا أَن يَتُوب وَيسْتَرد المَال مِنْهُ فِي جَمِيع ذَلِك
وَلَو ادّعى رجل قبل رجل وَدِيعَة أَو عَارِية أَو مَالا مُضَارَبَة أَو إِجَارَة فَقَالَ الْأمين قد رَددتهَا عَلَيْك أَو هَلَكت ثمَّ صَالحه على مَال فَإِن الصُّلْح بَاطِل عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد جَائِز وَهِي من الخلافيات(3/256)
وَأما إِذا كَانَ الصُّلْح بَين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ بِإِذن الْمُدعى عَلَيْهِ أَو بِغَيْر إِذْنه
أما إِذا كَانَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَصح الصُّلْح وَيكون وَكيلا عَنهُ فِي الصُّلْح وَيجب المَال على الْمُدعى عَلَيْهِ دون الْوَكِيل سَوَاء كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار أَو عَن إِنْكَار لِأَن الْوَكِيل فِي الصُّلْح لَا ترجع إِلَيْهِ الْحُقُوق وَهَذَا إِذا لم يضمن بدل الصُّلْح عَن الْمُدعى عَلَيْهِ فَأَما إِذا ضمن فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ بِحكم الْكفَالَة وَالضَّمان لَا بِحكم العقد
فَأَما إِذا كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَهَذَا صلح الْفُضُولِيّ
وَهُوَ على أَرْبَعَة أوجه فِي ثَلَاثَة مِنْهَا يَصح الصُّلْح وَيجب المَال على الْمصَالح الْفُضُولِيّ وَلَا يجب على الْمُدعى عَلَيْهِ شَيْء بِأَن يَقُول الْفُضُولِيّ للْمُدَّعِي أصالحك من دعواك هَذِه على فلَان بِأَلف دِرْهَم على أَن ضَامِن لَك هَذِه الْألف أَو عَليّ هَذِه الْألف أَو قَالَ عَليّ ألفي هَذِه أَو على عَبدِي هَذَا أضَاف المَال إِلَى نَفسه أَو عين الْبَدَل فَقَالَ عَليّ هَذِه الْألف أَو عَليّ هَذَا العَبْد وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَن التَّبَرُّع بِإِسْقَاط الدّين بِأَن يقْضِي دين غَيره بِغَيْر إِذْنه صَحِيح والتبرع بِإِسْقَاط الْخُصُومَة عَن غَيره صَحِيح وَالصُّلْح عَن إِقْرَار إِسْقَاط للدّين وَالصُّلْح عَن إِنْكَار إِسْقَاط للخصومة فَيجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَفِي فصل وَاحِد لَا يَصح بِأَن قَالَ أصالحك من دعواك هَذَا مَعَ فلَان على ألف دِرْهَم أَو على عبد وسط فَإِن هَذَا الصُّلْح مَوْقُوف على إجَازَة الْمُدعى عَلَيْهِ فَإِن أجَاز يَصح وَيجب المَال عَلَيْهِ دون الْمصَالح لِأَن الْإِجَازَة بِمَنْزِلَة ابْتِدَاء التَّوْكِيل وَالْحكم فِي التَّوْكِيل كَذَلِك وَإِن لم يجز يبطل الصُّلْح لِأَنَّهُ لَا يجب المَال وَالْمُدَّعى بِهِ لَا يسْقط(3/257)
وعَلى هَذَا الْخلْع من الْأَجْنَبِيّ على هَذِه الْفُصُول إِن كَانَ بِإِذن الزَّوْج يكون وَكيلا عَنهُ وَيجب المَال على الْمَرْأَة للزَّوْج دون الْوَكِيل لِأَنَّهُ معبر وسفير فَلَا يرجع إِلَيْهِ بالحقوق
وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَإِن وجد من الْفُضُولِيّ ضَمَان بدل الْخلْع أَو قَالَ خَالع امْرَأَتك على كَذَا دِرْهَم عَليّ أَو على عَبدِي هَذَا أوعلي هَذَا الْألف أَو عَليّ هَذَا العَبْد فَإِن الْخلْع صَحِيح وَيجب المَال على الْفُضُولِيّ وَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع لِأَنَّهُ مُتَبَرّع
وَإِن قَالَ اخلع امْرَأَتك على كَذَا فَقَالَ خلعت فَإِنَّهُ مَوْقُوف على إجَازَة الْمَرْأَة فَإِن أجازت صَحَّ الْخلْع وَيجب الْبَدَل عَلَيْهَا دون الْفُضُولِيّ
وَإِن لم تجز بَطل الْخلْع وَلَا يَقع الطَّلَاق
وعَلى هَذِه الْفُصُول الْعَفو عَن دم الْعمد من الْأَجْنَبِيّ
وعَلى هَذِه الْفُصُول الزِّيَادَة فِي الثّمن من الْأَجْنَبِيّ إِن كَانَت بِإِذْنِهِ يكون وَكيلا وَتجب على المُشْتَرِي
لَا وَإِن كَانَت بِغَيْر إِذن المُشْتَرِي فَهُوَ على الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا(3/258)
بَاب آخر من الصُّلْح
جمع فِي الْبَاب مسَائِل مُتَفَرِّقَة مِنْهَا أَن من كَانَ لَهُ على آخر ألف دِرْهَم فَقَالَ للمديون أصالحك على أَن أحط عَنْك مِنْهَا خَمْسمِائَة على أَن تُعْطِينِي الْيَوْم خَمْسمِائَة فَصَالحه على ذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد إِن أعطَاهُ خَمْسمِائَة فِي ذَلِك الْيَوْم برىء من الْخَمْسمِائَةِ الْأُخْرَى وَإِن لم يُعْطه حَتَّى مضى الْيَوْم انْتقض الصُّلْح وعادت الْألف عَلَيْهِ كَمَا كَانَت
وَقَالَ أَبُو يُوسُف بِأَنَّهُ يبرأ من الْخَمْسمِائَةِ وَيبقى عَلَيْهِ خَمْسمِائَة
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا قَالَ أصالحك عَن الْألف على خَمْسمِائَة تعجلها الْيَوْم فَإِن لم تعجلها فالألف عَلَيْك وَلم يعجل الْيَوْم بَطل الصُّلْح وَعَلِيهِ الْألف
وَحَاصِل هَذَا أَن عِنْدهمَا هَذَا الْكَلَام فِي مَوضِع الْإِجْمَاع وَهُوَ الْفَصْل الثَّانِي لَيْسَ تَعْلِيق الْبَرَاءَة عَن خَمْسمِائَة بِشَرْط تَعْجِيل خَمْسمِائَة لِأَن الْألف كلهَا مُعجلَة بِحكم عقد المداينة فَلَا معنى لاشتراطه وَهُوَ ثَابت وَلِأَن تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ لَا يجوز لِأَنَّهُ تمْلِيك من وَجه حَتَّى يرْتَد بِالرَّدِّ وَهَذَا الْكَلَام صَحِيح بِالْإِجْمَاع وَلكنه حط وإبراء عَن الْخَمْسمِائَةِ للْحَال وَتَعْلِيق فسخ الْبَرَاءَة بترك التَّعْجِيل فِي الْيَوْم وَتَعْلِيق الْفَسْخ بِالشّرطِ جَائِز فَإِن من قَالَ لغيره أبيعك هَذَا العَبْد بِأَلف(3/259)
دِرْهَم على أَن تعجلها الْيَوْم فَإِن لم تعجلها فَلَا بيع بَيْننَا فَإِن البيع جَائِز وَجعل ترك التَّعْجِيل شرطا فِي الْفَسْخ فَكَذَا هَذَا وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي فصل الْخلاف
وَعند أبي يُوسُف هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِشَرْط التَّعْجِيل والبراءة لَا يَصح تَعْلِيقهَا بِالشُّرُوطِ وَجه قَول أبي يُوسُف أَنه صَالح على عوض بِشَرْط تَعْجِيله فَإِذا لم يُوجد الْوَفَاء بالتعجيل لم يَنْفَسِخ العقد بِدُونِ شَرط الْفَسْخ صَرِيحًا وَلم يُوجد فَبَقيَ الْحَط صَحِيحا كَمَا إِذا قَالَ بِعْتُك هَذَا العَبْد بِأَلف على أَن تعجلها الْيَوْم
بِخِلَاف الْفَصْل الْمجمع عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك صلح على خَمْسمِائَة للْحَال وَجعل ترك التَّعْجِيل شرطا للْفَسْخ عرفنَا ذَلِك بالتنصيص على ذَلِك الشَّرْط
وَلَو صَالح على أَن يُعْطِيهِ خَمْسمِائَة إِلَى شهر على أَن يحط عَنهُ خَمْسمِائَة السَّاعَة فَإِن لم يُعْطه إِلَى شهر فَعَلَيهِ الْألف فَهُوَ صَحِيح لِأَن هَذَا إِبْرَاء للْحَال وَتَعْلِيق لفسخ الْإِبْرَاء بِالشّرطِ
وعَلى هَذَا الْكفَالَة إِذا أَخذ مِنْهُ كَفِيلا بِأَلف دِرْهَم فَصَالح مَعَه على أَن يحط خَمْسمِائَة وَشرط على الْكَفِيل ذَلِك إِن أوفاه خَمْسمِائَة إِلَى شهر فَإِن لم يوفه خَمْسمِائَة إِلَى رَأس الشَّهْر فَعَلَيهِ الْألف فَهُوَ جَائِز وَالْألف على الْكَفِيل إِن لم يوفه لما قُلْنَا
وَلَو ضمن الْكَفِيل الْألف مُطلقًا ثمَّ قَالَ عَنْك حططت خَمْسمِائَة على أَن توفيني رَأس الشَّهْر خَمْسمِائَة فَإِن لم توفني فالألف عَلَيْك فَهَذَا صَحِيح وَهُوَ أوثق من الأول
وَلَو قَالَ لمن عَلَيْهِ الْألف مَتى مَا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت تَبرأ عَن الْبَاقِي فَإِن هَذَا لَا يَصح وَيبقى عَلَيْهِ الْألف لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ(3/260)
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ صالحتك على أَنَّك مَتى مَا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت بَرِيء من خَمْسمِائَة لَا يَصح لما قُلْنَا
وَكَذَا من قَالَ هَذِه الْمقَالة لمكاتبه إِذا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت بَرِيء من بَاقِي الْكِتَابَة لما قُلْنَا
وَلَو قَالَ لَهُ إِن أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت حر وَالْبدل ألف يَصح وَيبرأ لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْعتْق وَتثبت الْبَرَاءَة حكما
وَمِنْهَا المُشْتَرِي إِذا وجد بِالْمَبِيعِ عَيْبا فَصَالحه البَائِع من الْعَيْب على شَيْء دَفعه إِلَيْهِ أَو حط عَنهُ من ثمنه شَيْئا فَإِن كَانَ الْمَبِيع مِمَّا يجوز رده على البَائِع أَو كَانَ لَهُ حق الْمُطَالبَة بأرشه دون رده فَالصُّلْح جَائِز لِأَن هَذَا صلح عَن حَقه وَإِن لم يكن لَهُ حق الرَّد وَلَا أَخذ الْأَرْش لَا يجوز الصُّلْح لِأَن هَذَا أَخذ مَال لَا بِمُقَابلَة شَيْء فَلَا يجوز
وَهَذَا إِذا كَانَ بيعا يجوز فِيهِ التَّفَاضُل
وَأما إِذا كَانَ فِي بيع الرِّبَا فَلَا يجوز لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الزِّيَادَة وَهُوَ رَبًّا فَلَا يجوز
وَفِي الْموضع الَّذِي جَازَ إِذا زَالَ الْعَيْب بِأَن انجلى الْبيَاض يبطل الصُّلْح وَيَأْخُذ البَائِع مَا أدّى لِأَنَّهُ زَالَ حَقه
وَلَو صَالح عَن عيب قَائِم وَعَن كل عيب يجوز
وَلَو لم يجد بِهِ عَيْبا وَصَالح مَعَ هَذَا عَن كل عيب جَازَ لوُجُود سَبَب الْحق
وَلَو صَالح عَن عيب خَاص كالعمى وَنَحْوه يجوز لِأَنَّهُ لما جَازَ عَن كل عيب جَازَ عَن الْوَاحِد(3/261)
كتاب الْمُزَارعَة
فِي الْكتاب فصلان فصل فِي الْمُزَارعَة وَفصل فِي الْمُعَامَلَات
ونحتاج إِلَى تفسيرهما فِي عرف اللُّغَة وَالشَّرْع
وَإِلَى بَيَان مشروعيتهما وَإِلَى بَيَان أَنْوَاع الْمُزَارعَة وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْمُزَارعَة المصححة مِنْهَا والمفسدة وَإِلَى بَيَان الْمعَانِي الَّتِي تجْعَل عذرا فِي فسخ الْمُزَارعَة والامتناع مِنْهَا بعد الشُّرُوع فِيهَا
أما الأول فَنَقُول الْمُزَارعَة عبارَة عَن عقد الزِّرَاعَة بِبَعْض الْخَارِج
وَهُوَ إِجَارَة الأَرْض أَو الْعَامِل بِبَعْض الْخَارِج
وَأما إجارتهما بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير فِي الذِّمَّة أَو مُعينَة فَلَا يكون عقد مُزَارعَة بل سمي إِجَارَة وَقد ذكرنَا فِي كتاب الْإِجَارَة
وَكَذَا الْمُعَامَلَة هُوَ إِجَارَة الْعَامِل ليعْمَل فِي كرمه وأشجاره من السَّقْي وَالْحِفْظ بِبَعْض الْخَارِج
وَأما بَيَان المشروعية فَقَالَ أَبُو حنيفَة كلتاهما فاسدتان غير مشروعتين(3/263)
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد كلتاهما مشروعتان
وَقَالَ الشَّافِعِي الْمُعَامَلَة مَشْرُوعَة دون الْمُزَارعَة وَهِي مَعْرُوفَة فِي الخلافيات
وَأما بَيَان أَنْوَاع الْمُزَارعَة ذكر فِي الْكتاب وَقَالَ الْمُزَارعَة أَنْوَاع أَرْبَعَة
وَهِي كَذَلِك فِي الظَّاهِر لَكِن يتَفَرَّع مِنْهَا أَنْوَاع أخر وَمَعْرِفَة ذَلِك مَبْنِيَّة على معرفَة أصُول مِنْهَا أَن الْمُزَارعَة فِيهَا معنى الْإِجَارَة وَالشَّرِكَة لِأَنَّهَا إِمَّا إِجَارَة الأَرْض أَو الْعَامِل بِبَعْض الْخَارِج إِن كَانَ بالبذر من قبل صَاحب الأَرْض فَهُوَ مُسْتَأْجر الْعَامِل ليعْمَل لَهُ فِي أرضه بِمَا يُعْطِيهِ من الْعِوَض وَهُوَ بعض الْخَارِج الَّذِي هُوَ نَمَاء ملكه وَهُوَ الْبذر
وَإِن كَانَ الْبذر من الْعَامِل فَهُوَ مُسْتَأْجر الأَرْض ليزرعها بِبَعْض الْخَارِج الَّذِي هُوَ نَمَاء ملكه وَهُوَ الْبذر
وَمِنْهَا أَيْضا معنى الشّركَة بَين الْمُتَعَاقدين لكَون الْخَارِج مُشْتَركا بَينهمَا على قدر مَا سميا فِي العقد
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول قد جَاءَ الشَّرْع بِجَوَاز الْمُزَارعَة بِبَعْض الْخَارِج إِذا كَانَ عوضا عَن مَنْفَعَة الأَرْض أَو عَن مَنْفَعَة الْعَامِل بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس لِأَن الْأُجْرَة مَعْدُومَة مَجْهُولَة فَمَتَى كَانَ العقد على هَذَا الْوَجْه يكون مُزَارعَة صَحِيحَة وَإِلَّا فَيكون مُزَارعَة فَاسِدَة
وأصل آخر وَهُوَ أَن صَاحب الْبذر يسْتَحق الْخَارِج بِسَبَب أَنه نَمَاء ملكه لَا بِالْإِجَارَة وَالَّذِي لَيْسَ بِصَاحِب الْبذر يسْتَحق الْخَارِج بِالشّرطِ وَهُوَ عقد الْمُزَارعَة فَإِن العقد إِذا كَانَ صَحِيحا يجب الْبَدَل(3/264)
الْمُسَمّى وَإِذا كَانَ فَاسِدا لَا يسْتَحق الْبَدَل الْمُسَمّى وَلَكِن يجب أجر الْمثل بِمُقَابلَة مَنْفَعَة الأَرْض أَو مَنْفَعَة الْعَامِل لِأَنَّهُ لم يرض ببذل الْمَنْفَعَة من غير عوض
لَكِن عِنْد مُحَمَّد يجب أجر الْمثل بَالغا مَا بلغ وَعند أبي يُوسُف مُقَدرا بِقِيمَة الْخَارِج الْمُسَمّى ذكر الْخلاف فِي كتاب الشّركَة وَيكون الْخَارِج كُله لصَاحب الْبذر لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه
ثمَّ إِذا كَانَ الْبذر من صَاحب الأَرْض يكون الزَّرْع كُله لَهُ طيبا وَلَا يتَصَدَّق بِشَيْء لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه وَقد حصل فِي أرضه
وَإِن كَانَ الْبذر من الْعَامِل فَإِن الْخَارِج بِقدر بذره وبقدر مَا غرم من أجر مثل الأَرْض والمؤن يطيب لَهُ لِأَنَّهُ أدّى عوضه وَيتَصَدَّق بِالْفَضْلِ على ذَلِك لِأَنَّهُ وَإِن تولد من بذره لَكِن فِي أَرض غَيره بِعقد فَاسد فأورث شُبْهَة الْخبث
وعَلى هَذَا قَالُوا فِي الْمُزَارعَة الصَّحِيحَة إِذا لم تخرج الأَرْض شَيْئا لَا يجب على وَاحِد مِنْهُمَا لَا أجر الْعَمَل وَلَا أجر الأَرْض لِأَن الْوَاجِب هُوَ الْخَارِج لكَون التَّسْمِيَة صَحِيحَة فتقومت الْمَنَافِع بِهَذَا الْبَدَل فَمَتَى لم يُوجد بقيت الْمَنَافِع على الأَصْل وَهِي غير مُتَقَومَة
وَفِي الْمُزَارعَة الْفَاسِدَة يجب أجر الْمثل وَإِن لم تخرج الأَرْض شَيْئا لِأَن الْمَنَافِع تتقوم هَاهُنَا بِأَجْر الْمثل ففوات الْخَارِج لَا يمْنَع من وُجُوبه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول ذكر فِي الْكتاب وَقَالَ الْمُزَارعَة أَنْوَاع أَرْبَعَة وَهِي فِي الظَّاهِر كَذَلِك وَلَكِن يتَفَرَّع مِنْهُمَا أَنْوَاع أخر
أما بَيَان الْأَرْبَعَة أَن يكون الأَرْض وَالْبذْر من رب الأَرْض وَالْبَقر وَالْعَمَل وآلاته من الْعَامِل
أَو يكون الأَرْض وَالْبَقر وَالْبذْر من رب الأَرْض وَالْعَمَل من الْعَامِل لَا غير(3/265)
أَو تكون الأَرْض وَحدهَا من صَاحب الأَرْض وَالْبَاقِي كُله من الْعَامِل
أَو تكون الأَرْض وَالْبَقر من صَاحب الأَرْض وَالْبذْر وَالْعَمَل من الْعَامِل
فَفِي الثَّلَاثَة الأولى الْمُزَارعَة صَحِيحَة لِأَن فِي الْفَصْل الأول صَاحب الأَرْض مُسْتَأْجر للْعَمَل وَالْبَقر آلَة الْعَمَل فَيكون تبعا لَهُ فَلَا تكون الْأُجْرَة بِمُقَابلَة الْبَقر كمن اسْتَأْجر خياطا ليخيط بآلته يجوز
وَفِي الْفَصْل الثَّانِي صَاحب الأَرْض مُسْتَأْجر لِلْعَامِلِ أَيْضا وَحده
وَفِي الْفَصْل الثَّالِث يكون الْعَامِل مُسْتَأْجرًا للْأَرْض وَحدهَا
وَقد ذكرنَا أَن اسْتِئْجَار الأَرْض وَحدهَا واستئجار الْعَامِل بِبَعْض الْخَارِج وَحده يكون مُزَارعَة صَحِيحَة لوُرُود الحَدِيث فِيهِ مُخَالفا للقياص
وَفِي الْفَصْل الرَّابِع لَا يجوز لِأَنَّهُ يصير صَاحب الْبذر وَهُوَ الْعَامِل مُسْتَأْجرًا للْأَرْض وَالْبَقر بِبَعْض الْخَارِج فَيكون الْبَعْض بِمُقَابلَة الْبَقر مَقْصُودا وَلم يرد الشَّرْع بِهِ فَبَقيَ على أصل الْقيَاس
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف فِي الأمالي أَنَّهَا جَائِزَة
وَأما مَا يتَفَرَّع مِنْهَا الِاسْتِئْجَار الْبذر وَهُوَ أَن يدْفع الرجل بذرا إِلَى رجل ليزرعه فِي أرضه ببقره بِنصْف أَو بِثلث فالمزارعة فَاسِدَة لما قُلْنَا إِنَّه يصير مُسْتَأْجرًا الأَرْض وَالْعَامِل جَمِيعًا وَلم يرد الشَّرْع بِهِ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنَّهَا جَائِزَة
وَمِنْهَا أَن يشْتَرك أَرْبَعَة من أحدهم الأَرْض وَمن الآخر الْبذر وَمن الثَّالِث الْبَقر وَمن الرَّابِع الْعَمَل فَهِيَ فَاسِدَة
وَفِي عين(3/266)
هَذِه الْحَادِثَة ورد الْأَثر بِالْفَسَادِ
وَلَو شَرط عمل صَاحب الأَرْض مَعَ الْعَامِل لَا يجوز لِأَنَّهُ لم يُوجد تخلية الأَرْض وَيجب أجر الْمثل فِيمَا إِذا كَانَ الْبذر من الْعَامِل وَيجب أجر مثل عمل الْعَامِل إِذا كَانَ الْبذر من صَاحب الأَرْض
وَلَو شَرط عمل عبد صَاحب الأَرْض على أَن يكون الْخَارِج أَثلَاثًا ثلثه لصَاحب الأَرْض وَثلثه لعَبْدِهِ وَثلثه لِلْعَامِلِ إِن كَانَ الْبذر من صَاحب الأَرْض جَازَ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجر لِلْعَامِلِ فَيكون العَبْد معينا لَهُ وَيكون نصيب العَبْد لصَاحبه
وَإِن كَانَ الْبذر من الْعَامِل لَا يجوز وَيكون الْخَارِج لصَاحب الْبذر وَعَلِيهِ أجر مثل الأَرْض وَالْعَبْد وَكَذَا أجر الْبَقر إِن كَانَ من صَاحب الأَرْض أَيْضا
وَلَو شَرط عمل رجل أَجْنَبِي مَعَ الْعَامِل
على أَن الْخَارِج يكون أَثلَاثًا فَإِن كَانَ الْبذر من الْعَامِل لَا يجوز فِي حق الْعَامِل الثَّانِي وَيجوز فِيمَا بَين صَاحب الأَرْض وَالْعَامِل الأول فَيكون الثُّلُث لصَاحب الأَرْض وَالثُّلُثَانِ لِلْعَامِلِ الأول وللعامل الثَّانِي أجر الْمثل
وَإِن كَانَ الْبذر من صَاحب الأَرْض جَازَ وَيكون الثُّلُث لَهُ وَلكُل عَامل الثُّلُث لِأَنَّهُ يصير مُسْتَأْجرًا للعاملين وَهَذَا جَائِز
وَأما شَرَائِط الصِّحَّة وَالْفساد فَمن شَرَائِط الصِّحَّة بَيَان الْمدَّة سنة أَو أَكثر وَهَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة أَنه قَالَ هَذَا فِي بِلَادهمْ لِأَن وَقت الزِّرَاعَة(3/267)
متفاوت فَيصير ابْتِدَاء الزِّرَاعَة مَجْهُولا أما فِي بِلَادنَا فَيجب أَن يجوز لِأَن وقته مَعْلُوم فَصَارَ كالمعاملة وَيَقَع على أول زرع يخرج
وَأما فِي الْمُعَامَلَة فَالْقِيَاس أَن يشْتَرط بَيَان الْمدَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان أَنه يَقع على أول ثَمَر يخرج فَإِذا انْتهى الثَّمر انْتهى العقد
فَأَما فِي الرطاب فَإِذا دفع الأَرْض ليزرع الرطاب وَدفع بذرها أَو دفع أَرضًا فِيهَا أصُول رطبَة ثَابِتَة وَلم يسم الْمدَّة فَإِن كَانَ شَيْئا لَيْسَ لابتداء نَبَاته وَلَا لانْتِهَاء جزه وَقت مَعْلُوم لَا يجوز فَأَما إِذا كَانَ وَقت جزه مَعْلُوما فَإِنَّهُ يجوز وَيَقَع على وَقت جزه وَاحِدَة كَمَا فِي الشَّجَرَة المثمرة
وَلَو دفع إِلَيْهِ نخلا فِيهَا طلع وَبسر أَحْمَر أَو أصفر أَو أَخْضَر فَإِنَّهُ يجوز وَإِن لم يبين الْوَقْت لِأَنَّهُ وَقت إِدْرَاكه مَعْلُوم
وَلَو دفع إِلَيْهِ الْبُسْر وَقد تناهى عظمه لَكِن لم يصر رطبا بعد لَا يجوز لِأَنَّهُ لم يبْق لِلْعَامِلِ عمل يحصل بِهِ الثَّمر
وَكَذَا الْجَواب فِي دفع الزَّرْع مُزَارعَة إِن كَانَ بقلا لم يستحصد جَازَ وَإِن استحصد لَا يجوز لما قُلْنَا
وَمِنْهَا إِذا شَرط على الْعَامِل شرطا يبْقى منفعَته إِلَى السّنة الثَّانِيَة وَقد دفع الأَرْض مُزَارعَة سنة كحفر الْأَنْهَار الصغار والآبار وَوضع المسناة تفْسد الْمُزَارعَة وَإِن كَانَ فِي مَوضِع لَا يبْقى يجوز
وعَلى هَذَا إِذا شَرط الكراب لَا تفْسد لِأَنَّهُ لَا تبقى منفعَته فِي(3/268)
السّنة الثَّانِيَة وَإِن شَرط الثنيان تفْسد وَبَعْضهمْ قَالُوا أَرَادَ بِهِ تَثْنِيَة الكراب مرَّتَيْنِ ومرارا وَهَذَا تبقى منفعَته فِي السّنة الثَّانِيَة
وَمِنْهُم من قَالَ أَرَادَ بِهِ أَن تثنى الكراب بعد انْقِضَاء مُدَّة الْمُزَارعَة حَتَّى يرد الأَرْض مكروبة إِلَى صَاحبهَا وَهُوَ شَرط مُفسد
ثمَّ شَرط الكراب إِذا لم يكن مُفْسِدا هَل يلْزم الْمزَارِع فَنَقُول يلْزم بِالشّرطِ لِأَنَّهُ سَبَب لزِيَادَة الْغلَّة فَصَارَ كمن اشْترى جَارِيَة على أَنَّهَا خبازة أَو كاتبة فَيجْبر على الكراب لَو امْتنع
وَلَو عقد الْمُزَارعَة مُطلقًا هَل يجب الكراب على الْعَامِل إِن كَانَ بِحَال يخرج الأَرْض زرعا مُعْتَادا من غير كراب لَا يلْزمه وَإِن كَانَ لَا يخرج زرعا مُعْتَادا فَإِنَّهُ يجْبر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ يخرج شَيْئا قَلِيلا لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ مُطلق عمل الزِّرَاعَة فَيَقَع على أدنى عمل مُعْتَاد فَأَما غير المتعاد من الزَّرْع الْقَلِيل فَلَا عِبْرَة بِهِ
وَكَذَا السَّقْي يجب عَلَيْهِ إِذا كَانَ لَا يخرج زرعا مُعْتَادا بِمَاء السَّمَاء وَحده
وَلَو دفع على أَنه إِن زرع بكراب فَلهُ كَذَا
إِن ثنى فَلهُ كَذَا
وَإِن زرع بِغَيْر كراب وثنيان فَكَذَا صَحَّ العقد فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَكَذَا إِذا قَالَ إِن زرع حِنْطَة فَلهُ كَذَا وَإِن زرع شَعِيرًا فَلهُ كَذَا فَهُوَ على هَذَا أَيْضا
وَمِنْهَا أَن يشْتَرط الْحَصاد والدياس والتذرية وَالْحمل إِلَى مَوضِع البيدر فَهُوَ شَرط مُفسد للْعقد فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه شَرط صَحِيح وَهُوَ قَول مَشَايِخ خُرَاسَان(3/269)
وَأما شَرط الْحمل بعد الْقِسْمَة إِلَى منزل صَاحب الأَرْض فَهُوَ مُفسد بالِاتِّفَاقِ
وَمِنْهَا التَّخْلِيَة بَين الأَرْض والمزارع شَرط الصِّحَّة وَقد ذكرنَا
وَأما الْمعَانِي الَّتِي تجْعَل عذرا للْفَسْخ أَو تجْعَل عذرا فِي الِامْتِنَاع عَن الْعَمَل أَو حق أَخذ الأَرْض فَنَقُول إِذا عقد عقد الْمُزَارعَة ثمَّ أَرَادَ أَحدهمَا الِامْتِنَاع فَإِن كَانَ صَاحب الْبذر لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الشُّرُوع إِلَّا بعد إِتْلَاف ملكه
وَهُوَ الْبذر
وَإِذ لم يكن صَاحب الْبذر لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِعُذْر يفْسخ بِهِ العقد
وَلَو مَاتَ أَحدهمَا فللآخر أَن يمْتَنع إِن كَانَ قبل الشُّرُوع
وَبعد الشُّرُوع يَنْفَسِخ العقد عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ على التَّفْصِيل الَّذِي نذْكر
والأعذار الْمُوجبَة حق الْفَسْخ فِي جَانب صَاحب الأَرْض هُوَ الدّين الَّذِي لَا وَجه لقضائه إِلَّا بِثمن الأَرْض أَو كَون الْعَامِل جانيا
وَفِي جَانب الْعَامِل هُوَ الْمَرَض الَّذِي يعجزه عَن الْعَمَل وَالسّفر وَنَحْو ذَلِك
ثمَّ إِذا فسخ أَو ترك العقد وَقد عمل فِيهَا الْعَامِل من الكراب وكرى السواقي وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذ شَيْئا من صَاحب الأَرْض لِأَنَّهُ لَا قيمَة للمنافع وهما قوماها بالخارج وَقد بَطل سَبَب الِاسْتِحْقَاق بِالْفَسْخِ لَكِن هَذَا فِي الحكم أما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَعَلَيهِ أَن يُرْضِي الْعَامِل بِإِعْطَاء عوض عمله(3/270)
ثمَّ بَيَان كَيْفيَّة الْفَسْخ بِمَوْت أحد الْعَاقِدين فَنَقُول إِن مَاتَ رب الأَرْض وَالزَّرْع بقل وَقد عقد الْمُزَارعَة ثَلَاث سِنِين فَإِنَّهُ يبْقى العقد فِي هَذِه السّنة لهَذَا الزَّرْع وَلَيْسَ لوَرَثَة رب الأَرْض أَخذ الأَرْض وَلَكِن تتْرك الأَرْض فِي يَد الْمزَارِع حَتَّى يستحصد فَإِذا استحصد قسموه على شرطهم وتنتقض الْمُزَارعَة فِيمَا بَقِي من السنين وَإِنَّمَا يبْقى العقد نظرا للجانبين شرعا
وَلَو مَاتَ المزراع وَالزَّرْع بقل فَإِن كَانَ وَرَثَة المزراع قَالُوا نَحن نعمل فَلَيْسَ لصَاحب الأَرْض أَن يقْلع
وَتبقى الْمُزَارعَة حكما
فَأَما إِذا قَالَ وَرَثَة الْمزَارِع نَحن لَا نعمل وَلَكِن نقلع الزَّرْع والبقل بَيْننَا لَا يجبرون على الْعَمَل وَيُقَال لصَاحب الأَرْض اقلع فَيكون بَيْنكُم أَو أعطهم قيمَة حصتهم وَالزَّرْع كُله لَك أَو أنْفق على حصتهم وَتَكون نَفَقَتك فِي حصتهم
فَأَما إِذا انْقَضتْ الْمدَّة من غير موت المزارعين وَالزَّرْع بقل انْتهى عقد الْمُزَارعَة وَلَكِن الزَّرْع مُشْتَرك بَينهمَا فَيكون الْعَمَل عَلَيْهِمَا إِلَى أَن يستحصد وعَلى الْمزَارِع أجر مثل نصف الأَرْض
وعَلى هَذَا فِي مُدَّة الْإِجَارَة وَالْعَارِية إِذا انْقَضتْ وَالزَّرْع بقل فَإِنَّهُ يجب أجر مثل الأَرْض وَيتْرك الزَّرْع حَتَّى يستحصد نظرا لَهما بِخِلَاف الْمَوْت فَإِنَّهُ ثمَّة لَا يجب أجر مثل الأَرْض لِأَن ثمَّة يبْقى العقد حكما وَيكون الْعَمَل على الْعَامِل لَا عَلَيْهِمَا
وعَلى هَذَا قَالُوا إِن الْجمال إِذا مَاتَ فِي بعض طَرِيق مَكَّة فَإِن الْمُسْتَأْجر يمْضِي إِلَى مَكَّة بِالْمُسَمّى لأَنا بَقينَا العقد حكما كَذَا هَذَا
وَكَذَا إِذا كَانَ على صَاحب الأَرْض دين فادح وَفِي الأَرْض الزَّرْع(3/271)
بقل لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيع الأَرْض بل يبْقى العقد إِلَى أَن يستحصد لما قُلْنَا(3/272)
كتاب الْإِكْرَاه
الْإِكْرَاه نَوْعَانِ نوع يُوجب الإلجاء والإضرار كالتخويف بِالْقَتْلِ وَقطع الْعُضْو وَالضَّرْب المبرح المتوالي الَّذِي يخَاف مِنْهُ التّلف
وَنَوع لَا يُوجب كالتخويف بِالْحَبْسِ والقيد وَالضَّرْب الْيَسِير
وَالَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْإِكْرَاه من الْفِعْل وَالتّرْك إِمَّا إِن كَانَ من الْأُمُور الحسية أَو من الْأُمُور الشَّرْعِيَّة
أما إِذا وَقع الْإِكْرَاه على الْفِعْل الْحسي فَهُوَ أَقسَام ثَلَاثَة فِي حق الْإِبَاحَة والرخصة وَالْحُرْمَة
أما الَّذِي يحْتَمل الْإِبَاحَة كشرب الْخمر وَأكل الْميتَة وَالْخِنْزِير فَإِن كَانَ الْإِكْرَاه بِمَا يُوجب الِاضْطِرَار وَهُوَ الْقَتْل وَقطع الْعُضْو وَنَحْوه
فَإِن كَانَ غَالب حَال الْمُكْره أَنه يقْتله لَو لم يشرب فَإِنَّهُ يُبَاح لَهُ شربه وتناوله لِأَن هَذَا مِمَّا يُبَاح عِنْد الضَّرُورَة كَمَا فِي حَال المخمصة
وَإِن كَانَ غَالب حَاله أَنه لَا يقْتله وَلَا يُحَقّق مَا أوعده أَو كَانَ التخويف بِمَا لَيْسَ فِيهِ خوف تلف النَّفس كالحبس والقيد وَالضَّرْب الْيَسِير فَإِنَّهُ لَا يُبَاح الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَلَا يرخص حَتَّى يَأْثَم بالإقدام عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجب تَقْدِيم حق الله تَعَالَى على حق نَفسه(3/273)
وَفِي الْفَصْل الأول يُبَاح حَتَّى لَو أقدم لَا إِثْم عَلَيْهِ
وَلَو لم يقدم حَتَّى هلك يَأْثَم لِأَنَّهُ صَار مهْلكا نَفسه عَن اخْتِيَار
وَأما الْفَصْل الَّذِي يرخص فِيهِ وَلَا يسْقط الْحُرْمَة كَمَا إِذا أكره بِالْقَتْلِ على أَن يجْرِي كلمة الْكفْر على لِسَانه أَو على أَن يشْتم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو على أَن يُصَلِّي إِلَى الصَّلِيب فَإِنَّهُ لَا يُبَاح لَهُ ذَلِك وَلَكِن يرخص لَهُ الْفِعْل وَإِن امْتنع حَتَّى قتل كَانَ مثابا ثَوَاب الْجِهَاد لِأَن الْحُرْمَة لم تسْقط بِخِلَاف الْفَصْل الأول
وعَلى هَذَا لَو أكره على إِتْلَاف مَال إِنْسَان بِمَا فِيهِ خوف التّلف وغالب ظَنّه أَن يفعل فَإِنَّهُ يرخص وَلَا يُبَاح لِأَن حُرْمَة مَال الْغَيْر لَا تسْقط لحقه وَلَكِن يرخص بِالضَّمَانِ كَمَا فِي حَال المخمصة
وَأما الْفَصْل الثَّالِث فَلَا يُبَاح وَلَا يرخص وَإِن كَانَ يُخَالف الْقَتْل على نَفسه كَمَا إِذا أكره بِالْقَتْلِ على أَن يقتل فلَانا الْمُسلم أَو يقطع عضوه أَو يضْربهُ ضربا يخَاف فِيهِ التّلف وَكَذَا فِي ضرب الْوَالِدين على وَجه يخَاف مِنْهُ التّلف لِأَن الْقَتْل حرَام مَحْض وَضرب الْوَالِدين كَذَلِك فَلَا يسْقط لأجل حَقه
وَلَو فعل فَإِنَّهُ يَأْثَم فِي الْآخِرَة
وَأما أَحْكَام الدُّنْيَا من الْقود وَالضَّمان فَنَقُول فِي الْإِكْرَاه على إِتْلَاف مَال الْغَيْر يجب الضَّمَان على الْمُكْره بِلَا خلاف
وَأما فِي الْقَتْل خطأ وعمدا فَيكون الحكم على الْمُكْره عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَيصير الْمُكْره آلَة وَيصير قَاتلا فَيكون الحكم عَلَيْهِ
وَعند أبي يُوسُف تجب الدِّيَة على الْمُكْره وَلَا يجب الْقود أصلا
وَعند الشَّافِعِي يجب على الْمُكْره وَالْمكْره جَمِيعًا الْقود
وَعند زفر على الْمُكْره وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة(3/274)
وَكَذَا فِي الْإِكْرَاه على الْقطع على هَذَا الْخلاف
هَذَا إِذا لم يَأْذَن الْمُكْره عَلَيْهِ للمكره على مَا أكره
أما إِذا أذن لَهُ بِقطع الْيَد وَالْقَتْل فَلَا يُبَاح للمكره ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يُبَاح بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْن وَلَكِن فِي الْقطع لَا يجب الضَّمَان على أحد لوُجُود الْإِذْن من جِهَته وَفِي الْقَتْل لَا عِبْرَة لإذنه بل تجب الدِّيَة على الْمُكْره كَمَا لَو لم يُوجد الْإِذْن هَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة وَفِي رِوَايَة لَا يجب
وَلَو أكره على الزِّنَا بِالْقَتْلِ لَا يُبَاح وَلَا يرخص للرجل ويرخص للْمَرْأَة
وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول أَولا إِنَّه لَا يجب الْحَد ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ فَإِن كَانَ الْإِكْرَاه من السُّلْطَان لَا يجب الْحَد وَيجب الْعقر
وَإِن كَانَ من غَيره يجب الْحَد
وَعِنْدَهُمَا لَا يجب الْحَد وَيجب الْعقر كَيْفَمَا كَانَ
وَأما الْإِكْرَاه على الْأُمُور الشَّرْعِيَّة فنوعان فِي الأَصْل إِمَّا إِن ورد الْإِكْرَاه على إنْشَاء التَّصَرُّف أَو على الْإِقْرَار بِهِ
أما إِذا ورد على الْإِنْشَاء فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن كَانَ تَصرفا يحْتَمل الْفَسْخ وَيشْتَرط فِيهِ الرِّضَا كَالْبيع وَالشِّرَاء وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا وَالْإِكْرَاه بِأَيّ طَرِيق كَانَ فَإِنَّهُ يكون التَّصَرُّف فَاسِدا إِن اتَّصل بِهِ التَّسْلِيم يُفِيد الْملك وَإِلَّا فَلَا
وعَلى قَول زفر يكون مَوْقُوفا على إجَازَة الْمُكْره وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة(3/275)
وَهَذَا إِذا بَاعَ أَو اشْترى بِالثّمن الَّذِي أكره عَلَيْهِ
فَأَما إِذا بَاعَ بِخِلَاف جنسه ينفذ وَيخرج عَن الْإِكْرَاه لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْر مَا أكره عَلَيْهِ
وَإِن بَاعَ بِأَقَلّ من ذَلِك الثّمن فَالْقِيَاس أَن ينفذ وَلَا يكون مكْرها وَفِي الِاسْتِحْسَان يكون مكْرها
وَإِن بَاعه بِأَكْثَرَ من ذَلِك الثّمن يكون طَائِعا
وَإِن كَانَ تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالنِّكَاح وَالْيَمِين وَالنّذر وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ ينفذ التَّصَرُّف عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ الطَّلَاق إِن كَانَ قبل الدُّخُول بهَا يلْزمه نصف الْمهْر الْمُسَمّى
والمتعة فِي غير الْمُسَمّى على الْمُكْره لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب إكراهه
وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول يجب على الزَّوْج الْمُكْره لِأَنَّهُ استوفى مَنْفَعَة الْبضْع
وَأما فِي الْعتاق فَيجب الضَّمَان على الْمُكْره سَوَاء كَانَ مُوسِرًا أَو مُعسرا وَلَا يسْعَى العَبْد فِي ذَلِك وَيكون الْوَلَاء للْمُعْتق الْمُكْره لِأَن الْعتْق حصل بِفعل الْمُكْره لَكِن جعل ذَلِك إتلافا من الْمُكْره فَعَلَيهِ قِيمَته
وَفِي النِّكَاح إِذا أكرهت الْمَرْأَة على التَّزْوِيج بِأَلف وَمهر مثلهَا عشرَة آلَاف فَالنِّكَاح صَحِيح وَيَقُول القَاضِي للزَّوْج إِن شِئْت تمم لَهَا مهر مثلهَا وَإِلَّا فرقت بَيْنكُمَا وَإِن لم ترض الْمَرْأَة إِن كَانَ الزَّوْج كفوا لَهَا
وتخير الْمَرْأَة إِن كَانَ غير كُفْء وَإِن تمم لَهَا مهر مثلهَا
وَإِن رضيت الْمَرْأَة بِنُقْصَان الْمهْر وَعدم الْكَفَاءَة يثبت الْخِيَار للأولياء فِي عدم الْكَفَاءَة بالإتفاق وَفِي نُقْصَان الْمهْر عِنْد أبي حينفة خلافًا لَهما هَذَا إِذا كَانَ قبل الدُّخُول
فَإِن كَانَ بعد الدُّخُول وَهِي غير مُكْرَهَة فِي التَّمْكِين يجوز النِّكَاح لوُجُود الرِّضَا دلَالَة وَيسْقط الْخِيَار للْمَرْأَة وَيبقى الْخِيَار للأولياء
وَإِن فرق القَاضِي بَينهمَا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ قبل الدُّخُول لِأَن(3/276)
الْفرْقَة جَاءَت من قبلهَا
وَأما إِذا أكره على الأقارير فَلَا يَصح سَوَاء كَانَ بِالْمَالِ أَو الطَّلَاق أَو الْعتاق وَنَحْو ذَلِك لِأَن الْإِقْرَار إِخْبَار وَالْخَبَر الَّذِي ترجح كذبه لَا يكون حجَّة وَالْإِكْرَاه دَلِيل رُجْحَان الْكَذِب
وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْإِكْرَاه بوعيد شَيْء مُعْتَبر عِنْد النَّاس حَتَّى يكون نافيا للضَّرَر
وَيخْتَلف باخْتلَاف حَال الْمُكْره من الشّرف والدناءة والضعف وَالْقُوَّة حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا بِأَن السَّوْط الْوَاحِد والقيد وَالْحَبْس فِي الْيَوْم الْوَاحِد إِكْرَاه فِي حق بعض النَّاس وَلَيْسَ بإكراه فِي حق الْبَعْض فَيكون مفوضا إِلَى رَأْي القَاضِي الْمُجْتَهد لاخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِيهِ
وَلَو أكره رجل على قتل وَارثه بإكراه يُوجب الإلجاء فَإِنَّهُ لَا يحرم عَن الْمِيرَاث وَإِن كَانَ لَا يُبَاح لَهُ الْإِقْدَام على قَتله لِأَنَّهُ مُضْطَر فِيهِ
وَلَو أكره رجل على شِرَاء ذِي رحم محرم مِنْهُ حَتَّى عتق لَا يجب على الْمُكْره شَيْء لِأَن الشِّرَاء يَصح بِمثل الْقيمَة وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ لَا تجب وَالْإِعْتَاق وَشِرَاء الْقَرِيب سَوَاء فِي ثُبُوت الْعتْق إِلَّا أَنه لَا تجب الْقيمَة هَاهُنَا لِأَنَّهُ حصل لَهُ عوض وَهُوَ صلَة الرَّحِم
وَلَو أكره على شِرَاء عبد قَالَ لَهُ إِن مَلكتك فَأَنت حر فَاشْتَرَاهُ وَقَبضه حَتَّى عتق عَلَيْهِ لَا يضمن الْمُكْره لِأَنَّهُ مبَاشر الشَّرْط فَإِن الْعتْق بِالْيَمِينِ يَقع
وَكَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَأَنت حر فأكره على أَن يدْخل الدَّار فَدخل فَعتق لَا يضمن لِأَنَّهُ مبَاشر للشّرط دون الْعلَّة(3/277)
ثمَّ الْإِكْرَاه عِنْد أبي حنيفَة إِنَّمَا يَصح من السُّلْطَان لَا غير
وَعِنْدَهُمَا يَصح من كل مسلط لَهُ قدرَة تَحْقِيق مَا وعد
وَقيل إِن هَذَا اخْتِلَاف زمَان لِأَن فِي زمن أبي حنيفَة كَانَ لَا يقدر على الْإِكْرَاه إِلَّا السُّلْطَان وَفِي زمانهما تَغَيَّرت الْأُمُور فَأجَاب كل وَاحِد على حسب زَمَانه
وَبَعْضهمْ حققوا الِاخْتِلَاف من حَيْثُ الْمَعْنى
وَلَو أَن صَبيا مسلطا بِأَن كَانَ سُلْطَانا أكره رجلا بِالْقَتْلِ على الْقَتْل وَنَحْوه فَالْجَوَاب فِيهِ وَفِي الْبَالِغ سَوَاء لِأَنَّهُ تحقق مِنْهُ الْإِكْرَاه لَهُ
وَكَذَا إِذا كَانَ رجل بِهِ مرّة يخْتَلط بِهِ وَهُوَ مسلط يجوز إكراهه كالعاقل سَوَاء(3/278)
كتاب الْقِسْمَة
الْقِسْمَة فِي الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة نَوْعَانِ قسْمَة الْأَعْيَان وَقِسْمَة الْمَنَافِع وَهِي الْمُهَايَأَة
أما قسْمَة الْأَعْيَان الْمُشْتَركَة فمشروعة عرفنَا شرعيتها بِحَدِيث رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قسم خَيْبَر بَين الْغَانِمين
وَعَلِيهِ توارث الْأمة
والأعيان الْمُشْتَركَة قد تكون أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَة فقسمتها تكون تَمْيِيز الْأَنْصِبَاء لَا غير مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَقد تكون أَشْيَاء مُخْتَلفَة مثل الدّور وَالْعَقار وَالْعرُوض وَالْحَيَوَان وقسمتها تكون فِي معنى البيع
ثمَّ الْقِسْمَة قد تكون من القَاضِي وأمينه بِإِذْنِهِ وَقد تكون من الشُّرَكَاء عِنْد التَّرَاضِي
فَإِن كَانَت الْقِسْمَة من القَاضِي عِنْد المرافعة إِلَيْهِ فَإِن كَانَ فِي ذَلِك مَنْفَعَة لَهُم فَإِنَّهُ يقسم
وَإِن كَانَ فِيهِ ضَرَر أَو لَا حَاجَة لَهُم إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يفعل وَإِن تَرَاضيا عَلَيْهِ وَلَكِن يُفَوض الْأَمر إِلَيْهِم حَتَّى يقسموا بِأَنْفسِهِم فَإِن الْحمام الْمُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ إِذا طلبا من القَاضِي الْقِسْمَة لَا يقسم لِأَن فِي الْقِسْمَة ضَرَرا لِأَنَّهُمَا يتضرران بذلك لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِانْتِفَاع بِبَعْض الْحمام دون الْبَعْض وَلَو قسما(3/279)
بأنفسهما جَازَ لولايتهما على أَنفسهمَا
وَكَذَا فِي الْبَيْت الْوَاحِد وَالثَّوْب الْوَاحِد والجوهرة الْوَاحِدَة لَا تجوز الْقِسْمَة من القَاضِي
وَلَو طلبا مِنْهُ الْقِسْمَة لَا يفعل وَلَو قسما بأنفسهما جَازَ
وَكَذَا دَار بَين اثْنَيْنِ لأَحَدهمَا فِيهَا شقص قَلِيل إِن طلب صَاحب الْقَلِيل لَا يقسم لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة لَهُ فِيهِ فَيكون مُتَعَنتًا
وَإِن طلب صَاحب الْكثير يقسم لِأَن لَهُ حَاجَة فِي ذَلِك وَيدْفَع الضَّرَر عَن نَفسه وَلَو قسما بأنفسهما جَازَ لما قُلْنَا
ثمَّ الْمَقْسُوم لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ دورا أَو عقارا أَو مَنْقُولًا فَإِن كَانَ عقارا وَهِي فِي يَد الْجَمَاعَة وطلبوا الْقِسْمَة من القَاضِي فَإِن قَالُوا هِيَ بَيْننَا مِيرَاث عَن فلَان فَإِن عِنْد أبي حنيفَة لَا يقسم حَتَّى يقيموا الْبَيِّنَة على موت فلَان وعَلى عدد الْوَرَثَة وَعِنْدَهُمَا يقسم بإقرارهم وَيشْهد أَنه قسمهَا بإقرارهم
وَلَو كَانَ ذَلِك فِي عرُوض أَو شَيْء مَنْقُول فَإِنَّهُ يقسم بإقرارهم بالِاتِّفَاقِ
وَكَذَا إِذا أقرُّوا بِكَوْن الْعقار بَينهم ملكا مُطلقًا وَلم يدعوا انْتِقَال الْملك فِيهَا من وَاحِد فَإِنَّهُ يقسم بَينهم بإقرارهم بِالْإِجْمَاع
وَإِن ادعوا أَنهم اشْتَروا من فلَان الْغَائِب فَفِي رِوَايَة الأَصْل لَا يقسم حَتَّى يثبتوا الِانْتِقَال من الْغَائِب وَفِي رِوَايَة يقسم بإقرارهم
وَهَذَا إِذا لم يكن فِي الْوَرَثَة غَائِب كَبِير أَو صَغِير لَا ولي لَهُ فَأَما إِذا كَانَ فِي الْوَرَثَة كَبِير غَائِب أَو صَغِير فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يقسم على كل حَال
وَعِنْدَهُمَا ينظر إِن كَانَت الدَّار فِي يَد الْكِبَار الْحُضُور فَإِنَّهُ يقسم بَينهم وَيَضَع حق الْغَائِب فِي يَد أَمِين يحفظه ويوكل عَن الصَّغِير(3/280)
رجلا حَتَّى يحفظه
وَإِن كَانَت الدَّار فِي يَد الْغَائِب أَو فِي يَد الصَّغِير أَو فِي أَيْدِيهِمَا مِنْهَا شَيْء فَإِنَّهُ لَا يقسم حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة على الْمِيرَاث وَعدد الْوَرَثَة بالِاتِّفَاقِ
ثمَّ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة على الْمِيرَاث ينظر إِن كَانَ الْحَضَر اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَالْغَائِب وَاحِد أَو أَكثر وَفِيهِمْ صَغِير فَإِن القَاضِي يقسم بَينهم ويعزل نصيب كل صَغِير وغائب وَيجْعَل فِي يَد أَمِين يحفظه
وَلَو كَانَ هَذَا فِي ملك مُطلق وشريكان حاضران وَشريك غَائِب فَالْقَاضِي لَا يقسم لِأَن القَاضِي لَهُ ولَايَة فِي الْجُمْلَة فِي مَال مُشْتَرك بَين الْوَرَثَة فَيكون قَضَاء على الْحَاضِر وَلَا ولَايَة لَهُ على مَال الْغَائِب مَقْصُودا فَلَا يقسم من غير أَن يحضر من يقوم مقَامه
وَلَو حضر وَارِث وَاحِد وَغَابَ الْبَاقُونَ وَطلب الْقِسْمَة فَإِن القَاضِي لَا يقسم لِأَن الْقِسْمَة لَا تصح إِلَّا بَين المتقاسمين الْحَاضِرين
وَلَو كَانَ وَارِث كَبِير حَاضر وَهُنَاكَ وَارِث صَغِير نصب القَاضِي لَهُ وَصِيّا وَقسم لِأَنَّهُ حضر المتقاسمان وَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يحكم بِالْقِسْمَةِ على أَحدهمَا للطَّالِب
وَلَو قسم دَارا بَين شَرِيكَيْنِ وفيهَا مسيل المَاء وَالطَّرِيق وَنَحْوهمَا فَإِن قسم مُطلقًا وَأمكن أَن يَجْعَل فِي نصيب كل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيقا ومسيل مَاء فَإِنَّهُ تصح الْقِسْمَة فِي الْكل
وَإِن كَانَ لَا يُمكن جعل الطَّرِيق فِي ملك أَحدهمَا بل يحْتَاج إِلَى تسييل المَاء والاستطراق فِي نصيب شَرِيكه فَإِن ذكر الْقَاسِم فِي الْقِسْمَة إِنِّي قسمت الدَّار بَينهمَا بحقوقها فَإِنَّهُ يبْقى مُشْتَركا بَينهمَا فَيكون لَهُ حق تسييل المَاء والاستطراق فِي نصيب شَرِيكه
وَإِن لم يذكر الْحُقُوق تنقض الْقِسْمَة وَيكون ذَلِك غَلطا من(3/281)
الْقَاسِم لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن كل وَاحِد مِنْهُمَا من الِانْتِفَاع بِهِ بِدُونِ الطَّرِيق
وَلَو قسم دورا بَينهم وَجعل لكل وَاحِد نصِيبه فِي دَار وَاحِدَة سَوَاء كَانَت متلاصقة أَو فِي بَلْدَة أَو فِي بِلَاد لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا إِن كَانَ يُمكن التَّعْدِيل فِي الْقِسْمَة فِي ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ
وعَلى هَذَا قسْمَة الرَّقِيق بِأَن جعل نصيب كل وَاحِد فِي عبد لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا جَائِز
فَأَما فِي الْمَنْقُول سوى الرَّقِيق إِذا كَانَ جِنْسا وَاحِدًا مثل الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم والمكيل وَالْمَوْزُون فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف لِأَن التَّفَاوُت يسير
فَأَما إِذا جعل لأَحَدهم الْإِبِل وَللْآخر الْغنم وَللْآخر الْبَقر لم يجز لاخْتِلَاف الْأَنْوَاع
وَكَذَا فِي الثِّيَاب من جنس وَاحِد تجوز الْقِسْمَة وَفِي الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة لَا تجوز
وَفِي الثَّوْب الْوَاحِد لَا تجوز لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى الْقطع وَهُوَ ضَرَر
ثمَّ إِذا قسم الدَّار فَإِنَّهُ يقسم الْعَرَصَة بالذراع وَيقسم الْبناء بِالْقيمَةِ وَيجوز أَن يَجْعَل لأَحَدهمَا أَكثر ذِرَاعا من الآخر لِأَن قِيمَته أَكثر
ثمَّ ذكر أَبُو الْحسن أَن أَبَا حنيفَة قَالَ يحْتَسب فِي الْقِسْمَة كل ذِرَاع من السّفل الَّذِي لَا علو لَهُ بذراعين من الْعُلُوّ الَّذِي لَا سفل لَهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ذِرَاع من السّفل بِذِرَاع من الْعُلُوّ
وَقَالَ مُحَمَّد يقسم على الْقيمَة دون الذِّرَاع
ومشايخنا قَالُوا إِنَّمَا أجَاب أَبُو حنيفَة على عَادَة أهل الْكُوفَة(3/282)
لاختيارهم السّفل على الْعُلُوّ
الْعَمَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على قَول مُحَمَّد لاخْتِلَاف حَال الْبِلَاد فِي ذَلِك فَتعْتَبر الْقيمَة
ثمَّ مَا كَانَ فِي البيع من خِيَار الرُّؤْيَة وَخيَار الشَّرْط وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ فَفِي الْقِسْمَة كَذَلِك لَا يَخْتَلِفَانِ لِأَنَّهَا فِي معنى البيع وَهَذَا إِذا قسما بِالتَّرَاضِي
فَأَما إِذا قسم القَاضِي فَكَذَلِك فِي الْعَيْب وَلَا يثبت خِيَار الرُّؤْيَة وَلَا خِيَار الشَّرْط فِيهِ لِأَنَّهُ لَو فسخ كَانَ للْقَاضِي أَن يقسم ثَانِيًا فَلَا فَائِدَة فِيهِ
ولأحد الشَّرِيكَيْنِ أَن يحْفر فِي نصِيبه بِئْرا أَو بالوعة وَإِن كَانَ يضر بقسم شَرِيكه وَكَذَا هَذَا فِي الجارين
وَإِذا ظهر للْمَيت دين بعد الْقِسْمَة أَو وَارِث غَائِب أَو طِفْل أدْرك وَلم يكن لَهُ وَصِيّ فَلهم نقض الْقِسْمَة لِأَن الْقَاسِم غلط فِيهَا فَإِن كَانَ للْمَيت مَال سوى مَا قسم يقْضِي مِنْهُ الدّين وَلَا ينْقض الْقِسْمَة
وَكَذَلِكَ إِذا قضى بعض الْوَرَثَة الدّين أَو كفل رجل عَن صَاحب الدّين
وَكَذَا لَو ظهر الدّين للْوَارِث الَّذِي قسم وَلَا تكون الْقِسْمَة مِنْهُ إِبْرَاء للدّين الَّذِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يعلم ذَلِك
وَكَذَلِكَ إِذا ظَهرت الْوَصِيَّة لأَجْنَبِيّ أَو ظهر ولد وَارِث فَإِنَّهُ تنقض الْقِسْمَة لِأَن الْمُوصى لَهُ كواحد من الْوَرَثَة
وَأما الْمُهَايَأَة فنوعان من حَيْثُ الْمَكَان أَو من حَيْثُ الزَّمَان(3/283)
أما من حَيْثُ الْمَكَان بِأَن كَانَت دَارا كَبِيرَة يسكن أَحدهمَا نَاحيَة وَالْآخر نَاحيَة جَازَ وَهِي قسْمَة الْمَنَافِع وَلَا يشْتَرط فِيهَا بَيَان الْمدَّة
وَلَو استغل أَحدهمَا نصِيبه جَازَ بِخِلَاف الْعَارِية فَإِنَّهَا لَا تؤاجر
وَقَالَ بَعضهم لَا يجوز كَمَا فِي الْعَارِية إِلَّا إِذا اشْترطَا الاستغلال لمن شَاءَ مِنْهُمَا
وَأما من حَيْثُ الزَّمَان بِأَن كَانَت دَارا صَغِيرَة يسكن أَحدهمَا شهرا وَالْآخر شهرا جَازَ وَهَذَا فِي معنى الْعَارِية وَلِهَذَا يشْتَرط الْمدَّة
وَلَو آجر أَحدهمَا لَا يجوز كَمَا فِي الْعَارِية
وَلَو تهايآ فِي الرَّقِيق الْمُشْتَرك فَأخذ أَحدهمَا عبدا وَالْآخر عبدا جَازَ عِنْدهمَا بِلَا شكّ لِأَن قسْمَة الرَّقِيق جَائِزَة عِنْدهمَا
وَعند أبي حنيفَة تجوز هَاهُنَا لِأَنَّهَا قسْمَة الْمَنَافِع وَهِي من جنس وَاحِد
وَفِي النخيل وَالشَّجر الْمُشْتَرك إِذا أَخذ أَحدهمَا طَائِفَة يستثمرها وَينْتَفع بثمرها خَاصَّة وَالْآخر طَائِفَة لَا يجوز لِأَنَّهَا اسْتِحْقَاق الْعين بِالْإِجَارَة
وَفِي الْأَرَاضِي يزرع أَحدهمَا الْبَعْض وَالْآخر الْبَعْض جَائِز لِأَنَّهَا قسْمَة الْمَنَافِع(3/284)
كتاب الْمَأْذُون
قَالَ يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْإِذْن للْعَبد فِي التِّجَارَة وَإِلَى تَفْسِير الْإِذْن
وَإِلَى بَيَان حكم الْإِذْن وَمَا يملك بِهِ العَبْد من التَّصَرُّف وَمَا لَا يملك
وَإِلَى بَيَان صِحَة الْحجر وَإِلَى بَيَان حكم الْمَأْذُون بعد الْحجر
أما الأول فَلَمَّا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ يُجيب دَعْوَة الْمَمْلُوك
وَعَلِيهِ توارث الْأمة
وَأما إِذن العَبْد الصَّغِير الْعَاقِل أَو الصَّبِي الْحر الْعَاقِل فَصَحِيح عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يَصح وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما تَفْسِير الْإِذْن فَنَقُول الْإِذْن نَوْعَانِ خَاص وعام
فَأَما الْإِذْن الْخَاص فَأن يَقُول لعَبْدِهِ اشْتَرِ بدرهم لَحْمًا لنَفسك أَو اشْتَرِ كسْوَة لنَفسك أَو لفُلَان فَاشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ يجوز وَيكون(3/285)
مَأْذُونا فِي ذَلِك خَاصَّة وَالْقِيَاس أَن يكون مَأْذُونا فِي الْأَنْوَاع كلهَا لِأَن الْإِذْن بِالتَّصَرُّفِ لَا يتَجَزَّأ وَفِي الِاسْتِحْسَان يقْتَصر على مَا أذن فِيهِ لِأَن هَذَا من بَاب الِاسْتِخْدَام فَلَو نفذ الْإِذْن إِلَى غَيره وَلم يكن قصد الْمولى أَن يكون مَأْذُونا فِي التِّجَارَات لَا يقدر على الِاسْتِخْدَام
وَأما الْإِذْن الْعَام فَأن يَقُول أَذِنت لَك فِي التِّجَارَات أَو فِي التِّجَارَة يصير مَأْذُونا فِي الْأَنْوَاع كلهَا بِلَا خلاف
أما إِذا أذن فِي نوع بِأَن قَالَ اتّجر فِي الْبَز أَو فِي بيع الطَّعَام أَو غير ذَلِك يصير مَأْذُونا فِي أَنْوَاع التِّجَارَات عندنَا
وَعند زفر وَالشَّافِعِيّ يقْتَصر على مَا سمي
وَكَذَا إِذا قَالَ اقعد فِي التِّجَارَة أَو فِي الصِّنَاعَة يصير مَأْذُونا فِي جَمِيع أَنْوَاع الْحَرْف
وَكَذَا إِذا قَالَ أَذِنت لَك أَن تتجر شهرا أَو سنة يصير مَأْذُونا فِي جَمِيع الْأَوْقَات مَا لم يحْجر عَلَيْهِ حجرا عَاما
وَكَذَا لَو قَالَ اتّجر فِي الْبَز وَلَا تتجر فِي الْخَزّ لَا يَصح نَهْيه ويعم الْإِذْن فِي النَّوْعَيْنِ وَغَيرهمَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة أَن الْإِذْن تمْلِيك التَّصَرُّف أَو إِسْقَاط الْحق وَفك الْحجر ثمَّ الْإِذْن قد يثبت صَرِيحًا وَقد يثبت بطرِيق الدّلَالَة
فالصريح مَا ذكرنَا
وَأما الدّلَالَة بِأَن رأى الْمولى عَبده يَبِيع وَيَشْتَرِي فَسكت وَلم يَنْهَهُ عَن ذَلِك يصير مَأْذُونا فِي التِّجَارَات وَلَا يصير مَأْذُونا فِي بيع ذَلِك الشَّيْء بِعَيْنِه وَفِي الشِّرَاء يصير مَأْذُونا وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يصير مَأْذُونا
والكسوت يكون إِذْنا فِي مَوَاضِع فَإِن من بَاعَ عبدا من إِنْسَان(3/286)
بِحَضْرَتِهِ وَالْعَبْد سَاكِت يكون إقراراي مِنْهُ بِالرّقِّ دلَالَة
وَكَذَا المُشْتَرِي إِذا قبض السّلْعَة بِحَضْرَة البَائِع وَسكت البَائِع يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ
وَكَذَا إِذا سمع الشَّفِيع بِالْبيعِ فَلم يطْلب الشُّفْعَة وَسكت يكون تَسْلِيمًا للشفعة
وَكَذَا الْبكر إِذا زَوجهَا وَليهَا فَسمِعت من الْوَلِيّ وسكتت يكون إِذْنا
وَله نَظَائِر
وَفِي بعض الْمَوَاضِع لَا يكون السُّكُوت رضَا على مَا عرف فِي مَوْضِعه
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا فَأَنت حر فَإِنَّهُ يصير مَأْذُونا لِأَنَّهُ لَا يقدر على الْأَدَاء إِلَّا بِالْكَسْبِ فَيكون إِذْنا لَهُ دلَالَة
وَكَذَلِكَ إِذا كَاتب عَبده يصير مَأْذُونا لِأَنَّهُ جعله أَحَق بِكَسْبِهِ
ثمَّ الْإِذْن بِالتِّجَارَة يَصح مُعَلّقا بِشَرْط ومضافا إِلَى وَقت بِأَن قَالَ أَذِنت لَك إِلَى رَأس الشَّهْر أَو قَالَ إِذا جَاءَ رَأس الشَّهْر فقد أَذِنت لَك جَازَ لِأَن الْإِذْن إِسْقَاط لحق نَفسه والإسقاط يَصح تَعْلِيقه بالأخطار
وبمثله لَو علق الْحجر بِالشّرطِ لَا يَصح لِأَن الْحجر فِيهِ معنى الْإِثْبَات وإعادة الْحق وَلَا يَصح تَعْلِيق الْإِثْبَات بِالشّرطِ
وَأما بَيَان حكم الْإِذْن وَمَا يملك الْمَأْذُون وَمَا لَا يملكهُ فَنَقُول كل مَا كَانَ من التِّجَارَة وتوابع التِّجَارَة وضروراتها فَإِنَّهُ يملكهُ الْمَأْذُون وَمَا لَا فَلَا(3/287)
وَله أَن يسْتَأْجر إنْسَانا ليعْمَل مَعَه أَو مَكَانا ليحفظ فِيهِ أَمْوَاله أَو دوابا ليحمل عَلَيْهَا أمتعته
وَله أَن يُؤَاجر مَا اشْترى من الدَّوَابّ وَالرَّقِيق
وَله أَن يُؤَاجر نَفسه أَيْضا
وَيصِح مِنْهُ الشِّرَاء بِالنَّقْدِ والنسيئة وبالعروض لِأَن ذَلِك مُعْتَاد للتجار
وَيملك البيع وَالشِّرَاء بِغَبن يسير بِالْإِجْمَاع
وَأما بِالْغبنِ الْفَاحِش فَيملك أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما كَمَا اخْتلفُوا فِي الْوَكِيل بِالْبيعِ الْمُطلق إِذا بَاعَ بِغَبن فَاحش إِلَّا أَن فِي الْوَكِيل بِالشِّرَاءِ بِغَبن فَاحش لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا يجوز
وَفِي الْمَأْذُون الشِّرَاء وَالْبيع سَوَاء يجوز بِغَبن فَاحش عِنْد أبي حنيفَة لِأَن الْوَكِيل مُتَّهم وَلَا تُهْمَة هَاهُنَا
وَيملك تَأْخِير الدّين من ثمن مَبِيع أَو إِقْرَار لَهُ بِإِتْلَاف كَسبه وَنَحْو ذَلِك
وَالْقَرْض لَا يَصح تَأْجِيله مِنْهُ كَمَا لَا يَصح من الْحر
وَأما الْحَط فَلَا يَصح مِنْهُ لكَونه تَبَرعا
وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاء وَالْكَفَالَة لِأَنَّهُ تبرع
وَيملك التَّصَدُّق باليسير والضيافة الْيَسِيرَة لِأَنَّهَا من ضرورات التِّجَارَة عَادَة
وَلَا يملك التَّصَدُّق بالدرهم الْكَامِل وَلَا الْهِبَة وَلَا الْهَدِيَّة وَلَا الْقَرْض
وَكَذَا لَا يملك الْكفَالَة بِالنَّفسِ وَلَا بِالْمَالِ لِأَنَّهَا تبرع
وَلَا يملك أَن يُكَاتب وَأَن يعْتق على مَال لِأَنَّهُ لَيْسَ من التِّجَارَة
وَيملك أَن يُوكل بِالْبيعِ وَالشِّرَاء لِأَنَّهُ هَذَا من عَادَة التِّجَارَة فَإِنَّهُ لَا(3/288)
يقدر أَن يفعل ذَلِك كُله بِنَفسِهِ
وَيجوز لَهُ أَن يتوكل عَن غَيره بِالْبيعِ بالِاتِّفَاقِ
وَهل يجوز أَن يتوكل بِالشِّرَاءِ عَن غَيره إِن وَكله بِالشِّرَاءِ نَقْدا وَدفع الثّمن إِلَيْهِ أَو لم يدْفع فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز لِأَنَّهُ يصير فِي معنى الْكَفِيل بِالثّمن
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجوز
وَإِذا توكل بشرَاء عبد نَسِيئَة لَا يجوز الشِّرَاء عَن الْآمِر وَيصير مُشْتَريا لنَفسِهِ لِأَنَّهُ يصير الثّمن عَلَيْهِ وَالْملك يَقع لغيره وَعَلِيهِ التَّسْلِيم إِلَيْهِ لِأَن الثّمن مُؤَجل فَيكون بِمَعْنى الْكفَالَة
فَأَما إِذا كَانَ الشِّرَاء بِالنَّقْدِ فَلَا يجب عَلَيْهِ التَّسْلِيم إِلَى الْآمِر بل لَهُ أَن يحْبسهُ حَتَّى يَسْتَوْفِي الثّمن من الْمُوكل فَلَا يكون فِي معنى الْكفَالَة بل فِي معنى البيع
وَيملك أَن يَأْذَن لعبيده فِي التِّجَارَة
وَله أَن يعير دوابه
وَله أَن يودع وَيقبل الْوَدِيعَة لِأَن هَذَا من صَنِيع التُّجَّار
وَله أَن يدْفع المَال مُضَارَبَة وَيَأْخُذ المَال من غَيره وضاربه ويشارك مَعَ غَيره شركه عنان
وَلَا يجوز أَن يُشَارك شركَة مُفَاوَضَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن الْكفَالَة وَلَا تصح مِنْهُ الْكفَالَة
وَإِذا شَارك شركه مُفَاوَضَة تنْقَلب شركَة عنان
وَهل يملك أَن يُكَاتب عبدا من أكسابه إِن لم يكن عَلَيْهِ دين وَأَجَازَ الْمولى جَازَ وَيكون العَبْد مكَاتبا لمَوْلَاهُ وَيدْفَع بدل الْكِتَابَة إِلَى الْمولى وَيعتق إِلَّا إِذا أذن الْمولى إِيَّاه بِقَبض بدل الْكِتَابَة
وَإِن كَانَ عَلَيْهِ دين لَا يَصح لِأَنَّهُ تعلق بِهِ حق الْغُرَمَاء فَيكون مَوْقُوفا على إجَازَة الْمولى فَإِن لم يجز الْمولى ورد الْكِتَابَة يَنْفَسِخ وَمَا اكْتَسبهُ يصرف إِلَى دينه
وَإِن أجَاز الْمولى الْكِتَابَة وَأمر العَبْد بِقَبض بدل الْكِتَابَة إِن كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق لَا تصح الْكِتَابَة لِأَن هَذَا إِعْتَاق بِشَرْط الْأَدَاء وَالْمولى(3/289)
لَا يملك كسب عَبده الْمَأْذُون إِذا كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق فَكَذَا هَذَا وَيُبَاع الْمكَاتب فِي الدّين
وَإِن كَانَ الدّين غير مُسْتَغْرق يعْتق العَبْد وَيضمن الْمولى قيمَة العَبْد للْغُرَمَاء لتَعلق حَقهم بِهِ كَمَا لَو أعْتقهُ ابْتِدَاء
وَعِنْدَهُمَا تصح الْكِتَابَة كَيْفَمَا كَانَ كَمَا يَصح الْإِعْتَاق كَيْفَمَا كَانَ وَالْكَسْب الَّذِي أَدَّاهُ الْمكَاتب إِلَى العَبْد الْمَأْذُون يدْفع إِلَى الْغُرَمَاء وَإِن فضل شَيْء فعلى مَوْلَاهُ لإتلاف حَقهم بِالْإِعْتَاقِ
وَلَا يملك التَّسَرِّي بِجَارِيَة من أكسابه لِأَنَّهُ لَا يملك حَقِيقَة
وَلَيْسَ لَهُ أَن يتَزَوَّج لِأَنَّهُ لَيْسَ من التِّجَارَة فَإِن أذن الْمولى جَازَ وَعَلِيهِ الْمهْر بعد الْعتاق إِن كَانَ النِّكَاح بِغَيْر إِذن الْمولى
وَإِن كَانَ بِالْإِذْنِ مِنْهُ يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ وَكَسبه لَكِن بَعْدَمَا فضل من دين التِّجَارَة إِن ثَبت بِإِقْرَار الْمولى
فَإِن ثَبت بِالْبَيِّنَةِ تحاص الْمَرْأَة الْغُرَمَاء بمهرها
وَلَيْسَ لَهُ أَن يُزَوّج عَبده لِأَنَّهُ لَيْسَ من التِّجَارَة وَفِيه ضَرَر بالمولى
وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يُزَوّج أمته عِنْدهمَا
وَعند أبي يُوسُف يملك لِأَنَّهُ تصرف نَافِع
وَيصِح مِنْهُ الْإِقْرَار على نَفسه بِالثّمن وَالْأُجْرَة
وَلَو أقرّ بِالْغَصْبِ فَإِن كَانَ مُعَاينَة فَالضَّمَان يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ من التِّجَارَة معنى فَإِنَّهُ يملك بِهِ الْمَغْصُوب
وَكَذَلِكَ إِذا جحد الْمُضَاربَة والوديعة لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْغَصْب
ثمَّ إِذا ثَبت تعلق الدّين بِرَقَبَة العَبْد وَكَسبه فَإِن الدّين يقْضِي من الْكسْب أَولا
فَإِن فضل من الدّين شَيْء أَو لم يكن لَهُ كسب أصلا فَإِن القَاضِي يَبِيع الرَّقَبَة إِذا طلبه الْغُرَمَاء إِلَّا إِذا قضى الْمولى دينه
وَلَا يجوز من الْمولى بيع العَبْد إِلَّا بِإِذن الْغُرَمَاء أَو بِإِذن القَاضِي أَو(3/290)
بِأَن يقْضِي دينهم لِأَن ملكه قَائِم لكنه مَشْغُول بِحَق الْغُرَمَاء
وَلَو أعْتقهُ الْمولى صَحَّ إِعْتَاقه لِأَنَّهُ ملكه غير أَنه إِن كَانَ عَلَيْهِ دين أقل من قِيمَته يقْضِي دُيُونه وَإِن كَانَت دُيُونه أَكثر من قِيمَته غرم قِيمَته وَإِن كثرت فَإِن فضل شَيْء عَن قِيمَته يُؤَاخذ العَبْد بعد الْعتاق
وَإِن كَانَ الْمَأْذُون مُدبرا أَو أم ولد ثمَّ أعْتقهُ جَازَ عتقه وَلَا ضَمَان للْغُرَمَاء لِأَنَّهُ حَقهم غير مُتَعَلق بهما لِأَنَّهُ لَا يجوز بيعهمَا
وَلَو أعتق عبد عَبده الْمَأْذُون إِن كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق لَا يَصح إِعْتَاقه عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَإِن كَانَ غير مُسْتَغْرق يَصح بِالْإِجْمَاع وَالْمولى ضَامِن لقيمته إِن كَانَ مُوسِرًا وَإِن كَانَ مُعسرا فللغرماء أَن يضمنوا العَبْد وَيرجع هُوَ على الْمولى كَمَا إِذا أعتق العَبْد الْمَرْهُون
فَأَما حكم الْحجر فَنَقُول إِن الْمولى يملك حجر العَبْد الْمَأْذُون إِذا كَانَ حجرا مَشْهُورا بِأَن يشْتَهر ذَلِك فِي السُّوق
فَأَما إِذا حجر فِي بَيته فَلَا يَصح لِأَن فِيهِ ضَرَرا بِالنَّاسِ وغرورا
وَلَو بَاعه وَلَا دين عَلَيْهِ يصير مَحْجُورا لِأَنَّهُ صَار ملك الْغَيْر فَلَا تبقى ولَايَة الأول عَلَيْهِ
وَكَذَا إِذا كَانَت جَارِيَة فاستولدها الْمولى صَارَت ومحجورا عَلَيْهَا دلَالَة منع الْمولى أم الْوَلَد عَن الْخُرُوج إِلَى الْأَسْوَاق
وَإِن أُغمي عَلَيْهِ لم يصر مَحْجُورا اسْتِحْسَانًا
وَفِي الْجُنُون يصير مَحْجُورا(3/291)
وَإِذا أبق أَو ارْتَدَّ صَار مَحْجُورا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يصير مَحْجُورا
إِذا دبر الْمَأْذُون لَا يصير مَحْجُورا لِأَنَّهُ يُمكنهُ التَّصَرُّف مَعَ التَّدْبِير
وَإِذا صَحَّ الْحجر فَلَا يملك التَّصَرُّف بعده فِي حق الْمولى
وَلَو أقرّ بِشَيْء من حُقُوق الْأَمْوَال فَإِنَّهُ لَا يلْزم مَوْلَاهُ وَلَا يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ لَكِن يُؤَاخذ بعد الْعتاق
وَإِذا كَانَ فِي يَده شَيْء من الأكساب وَعَلِيهِ دين فَإِنَّهُ لَا يَصح حجره فِي حَقّهَا
وَلَيْسَ للْمولى أَن يستردها لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِهِ
وَلَو جنى الْمَأْذُون جنايات فَإِنَّهُ يقْتَصّ فِيمَا يجب فِيهِ الْقصاص وَالدَّفْع أَو الْفِدَاء فِيمَا لَا يجب فِيهِ الْقصاص
والمأذون وَغير الْمَأْذُون فِي ذَلِك سَوَاء وَقد ذكرنَا هَذَا فِي كتاب الدِّيات فَلَا نعيده(3/292)
كتاب السّير
قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير الْجِهَاد وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة فرض الْجِهَاد وَإِلَى بَيَان من يفترض عَلَيْهِ وَإِلَى بَيَان مَا يجب حَال شُهُود الْوَقْعَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام الْأَنْفَال والغنائم وَإِلَى بَيَان حكم الْجِزْيَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام أهل الرِّدَّة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام الْبُغَاة وَنَحْو ذَلِك
أما تَفْسِير الْجِهَاد
فَهُوَ الدُّعَاء إِلَى الدّين الْحق والقتال مَعَ من امْتنع عَن الْقبُول بِالْمَالِ وَالنَّفس قَالَ الله تَعَالَى {انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} وَقَالَ {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ}(3/293)
وَأما بَيَان كَيْفيَّة فَرْضه فَنَقُول إِنَّه فرض كِفَايَة لَا فرض عين
ونعني بِهِ أَنه إِذا لم يقم بِهِ الْبَعْض من أهل الثغور وَغَيرهم مِمَّن هُوَ يقرب مِنْهُم فَإِنَّهُ يفْرض على جَمِيع النَّاس مِمَّن لَهُ قدرَة عَلَيْهِ إِمَّا بِالنَّفسِ أَو بِالْمَالِ
فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ لِأَن الْمَقْصُود وَهُوَ دفع شَرّ الْكَفَرَة وَالدُّعَاء إِلَى دين الْإِسْلَام يحصل بِالْبَعْضِ فَمَا لم يتَعَيَّن الْبَعْض يجب على الْكل وَإِذا تعين الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا كَانَ النفير عَاما يجب على العَبْد أَن يخرج بِغَيْر إِذن الْمولى وعَلى الْمَرْأَة القادرة عَلَيْهِ أَن تخرج بِغَيْر إِذن زَوجهَا وعَلى الْوَلَد أَن يخرج بِغَيْر إِذن الْوَالِدين أَو أَحدهمَا إِذا كَانَ الآخر مَيتا
فَأَما إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض فَلَا يجوز لهَؤُلَاء أَن يخرجُوا إِلَّا بِالْإِذْنِ
وَأما بَيَان مَا يجب حَال شُهُود الْوَقْعَة فَنَقُول إِذا لَقِي الْغُزَاة قوما من الْكفَّار فَإِن لم تبلغهم الدعْوَة أصلا يَنْبَغِي أَن يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام أَولا
فَإِن أَبَوا فَإلَى الذِّمَّة
فَإِن أَبَوا فَحِينَئِذٍ يقاتلونهم
فَأَما إِذا بلغتهم الدعْوَة فَالْأولى الْبدَاءَة بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام
فَإِن بدأوا بِالْقِتَالِ والإغارة والبينات عَلَيْهِم فَلَا بَأْس بذلك لِأَنَّهُ قد توجه عَلَيْهِم الْخطاب بِالْإِيمَان بِاتِّفَاق الْأمة
فَإِن سمع رجلا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله أَو قَالَ أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِن كَانَ من عَبدة الْأَوْثَان أَو من الثنوية أَو من الدهرية فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتله لِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ
وَإِن كَانَ من أهل الْكتاب فإتيان الشَّهَادَتَيْنِ لَا يَكْفِي مَا لم يتبرأ من دين الْيَهُودِيَّة والنصرانية
وَكَذَا إِذا قَالَ أَنا مُسلم أَو مُؤمن أَو أَنا مصل لأَنهم(3/294)
يَعْتَقِدُونَ أَن دينهم إِسْلَام وَأَن لَهُم شرائع وَصَلَاة
وَإِذا قَالَ أَنا صليت مَعَ الْمُسلمين بِجَمَاعَة أَو أَنا على دين مُحَمَّد لَا يُبَاح قَتله لِأَن ذَلِك دلَالَة الْإِسْلَام
ثمَّ الْغُزَاة لَهُم أَن يقتلُوا كل من كَانَ من أهل الْقِتَال وكل من قَاتل وَإِن لم يكن من أهل الْقِتَال فِي الْجُمْلَة نَحْو الصّبيان والمجانين والرهابين والشيوخ الهرمى
فَأَما إِذا لم يقاتلوا فَلَا يُبَاح قتل هَؤُلَاءِ
وَأما الرهابين فَإِن كَانُوا لَا يخالطون النَّاس فَكَذَلِك
وَإِن كَانُوا يخالطون النَّاس أَو يدلون على عورات الْمُسلمين فَيُبَاح قَتلهمْ
وَلَا بَأْس أَن يحرقوا حصونهم بالنَّار ويغرقوها بِالْمَاءِ وينصبوا المجانيق على حصونهم ويهدموها عَلَيْهِم وَأَن يرموها بالنبال وَإِن علمُوا أَن فيهم أُسَارَى الْمُسلمين والتجار لِأَن فِيهِ ضَرُورَة
وَكَذَا إِذا تترسوا بأطفال الْمُسلمين وبأساراهم لَكِن يَنْبَغِي أَن يقصدوا بِهِ قتل الْكفَّار دون الْمُسلمين لما فِيهِ من ضَرُورَة إِقَامَة الْفَرْض عَلَيْهِم
ثمَّ إِذا ظفر الْغُزَاة بهم فَلَا بَأْس بِأَن يقتل الْمُقَاتلَة مِنْهُم من كَانَ مُقَاتِلًا سوى الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتلهمَا بعد الْفَرَاغ من الْقِتَال لِأَنَّهُمَا لَيْسَ من أهل الْقَتْل ليَكُون جَزَاء على قتالهما إِلَّا إِذا كَانَ الصَّبِي أَو الْمَعْتُوه ملكا فَلَا بَأْس بِقَتْلِهِمَا كسرا لشوكتهما وَيُبَاح فِي حَالَة الْقِتَال لدفع الشَّرّ
وَأما الشُّيُوخ والرهابين والنسوان إِذا قَاتلُوا فَيُبَاح قَتلهمْ بعد الْفَرَاغ أَيْضا جَزَاء على قِتَالهمْ إِلَّا إِذا كَانَت الْمَرْأَة ملكة فَيُبَاح قَتلهَا وَإِن لم تقَاتل
وَيَنْبَغِي لَهُم أَن يخرجُوا إِلَى دَار الْإِسْلَام نِسَاءَهُمْ وصبيانهم ويسترقوهم لما فِيهِ من مَنْفَعَة الْمُسلمين وَلَا يَنْبَغِي أَن يتركوهم فِي دَار(3/295)
الْحَرْب لما فِيهِ من ضَرَر بِالْمُسْلِمين
وَأما الشَّيْخ الفاني الَّذِي لَا قتال عِنْده وَلَا يقدر أَن يلقح لَكِن يُمكن أَن يفادى بِهِ فَإِن شاؤوا تَرَكُوهُ وَإِن شاؤوا أَخْرجُوهُ على قَول من يرى مفاداة الْأَسير بالأسير وعَلى قَول من لَا يرى يتركونه فِي دَارهم لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
وَكَذَا فِي الْعَجُوز الْكَبِيرَة الَّتِي لَا تَلد
وَلَا يَنْبَغِي للغزاة أَن يفر وَاحِد من اثْنَيْنِ مِنْهُم
وَالْحَاصِل أَن الْأَمر مَبْنِيّ على غَالب الظَّن فَإِن غلب فِي ظن الْمقَاتل أَنه يغلب وَيقتل فَلَا بَأْس بِأَن يفر مِنْهُم وَلَا عِبْرَة بِالْعدَدِ حَتَّى إِن الْوَاحِد إِذا لم يكن مَعَه سلَاح فَلَا بَأْس بِأَن يفر من اثْنَيْنِ مَعَهُمَا السِّلَاح أَو من الْوَاحِد الَّذِي مَعَه سلَاح
ثمَّ الْغُزَاة هَل لَهُم أَن يُؤمنُوا الْكَفَرَة إِن كَانَ عِنْدهم أَن الْقُوَّة للكفرة يجب أَن يُؤمنُوا حَتَّى يتقووا ثمَّ يخبروهم بِنَقْض الْأمان ويشتغلوا بِالْقِتَالِ لِأَن الْأمان فِي هَذِه الْحَالة فِي معنى الْقِتَال
ثمَّ أَمَان الْوَاحِد الْحر أَو العَبْد الْمقَاتل أَو الْمَرْأَة صَحِيح بِلَا خلاف
فَأَما أَمَان العَبْد الْمَحْجُور فَلَا يَصح عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ يَصح وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما أَمَان الصَّبِي الْمُرَاهق فَلَا يَصح عِنْدهم
وَعند مُحَمَّد يَصح
وَأَجْمعُوا أَنه لَا يجوز أَمَان التَّاجِر فِي دَار الْحَرْب وَلَا الْأَسير فِيهَا وَلَا أَمَان الْمُسلم الَّذِي لم يُهَاجر إِلَيْنَا وَلَا أَمَان الذِّمِّيّ الْمقَاتل مَعَهم لأَنهم متهمون فِي ذَلِك(3/296)
فَأَما الْمُسلم الْحر فيستوي فِيهِ الْأَعْمَى وَالْمَرِيض وَالشَّيْخ الْكَبِير لِأَن هَؤُلَاءِ من أهل الرَّأْي
ثمَّ بعد صِحَة الْأمان للْإِمَام أَن ينْقض إِذا رأى الْمصلحَة فِيهِ لَكِن يُخْبِرهُمْ بذلك ثمَّ يقاتلهم حَتَّى لَا يكون تغريرا لَهُم
وَكَذَا الْجَواب فِي الْمُوَادَعَة وَهُوَ الصُّلْح على ترك الْقِتَال مُدَّة بِمَال أَو بِغَيْر مَال تجوز من الإِمَام إِن رأى الْمصلحَة ثمَّ يُخْبِرهُمْ بِالنَّقْضِ وينقض حَتَّى لَا يكون تغريرا
وَمَا أَخذ من المَال إِن لم يتم الْمدَّة يرد إِلَيْهِم بِقَدرِهِ
وَكَذَلِكَ الْمُوَادَعَة فِي حق الْمُرْتَدين وَأهل الْبَغي جَائِزَة إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة الْأمان
وَهَذَا إِذا كَانَ الصُّلْح على أَن يَكُونُوا على حكم الْكفْر
وَلَو صَالحُوا على أَن يَكُونُوا على أَحْكَام الْمُسلمين فَإِنَّهُم يصيرون ذمَّة وَلَا يجوز لنا نقض ذَلِك كعقد الذِّمَّة
وَأما أَحْكَام الْأَنْفَال والغنائم فَنَقُول هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء النَّفْل وَالْغنيمَة والفيء
أما النَّفْل فَمَا خصّه الإِمَام لبَعض الْغُزَاة تحريضا لَهُم على الْقِتَال لزِيَادَة قُوَّة وجرأة مِنْهُم بِأَن قَالَ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه أَو قَالَ لسرية مَا أصبْتُم فَهُوَ لكم أَو قَالَ لأحد معِين مَا أصبت فَهُوَ لَك فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ وَيثبت الْملك لَهُ فِي النَّفْل وَلَا يُشَارك فِيهِ غَيره من الْغُزَاة
وَالسَّلب عبارَة عَن ثِيَاب الْمَقْتُول وسلاحه الَّتِي مَعَه ودابته الَّتِي عَلَيْهَا سرجها وآلاتها وَمَا عَلَيْهَا من الحقيبة الَّتِي فِيهَا الْأَمْوَال وَمَا على الْمَقْتُول من الْكيس الَّذِي فِيهِ الدَّرَاهِم
فَأَما مَا يكون مَعَ غُلَامه على فرس آخر وأمواله الَّتِي على دَابَّة أُخْرَى فَذَلِك من(3/297)
الْغَنِيمَة يشْتَرك فِيهِ الْغُزَاة كلهم وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي السَّلب للْقَاتِل وَإِن لم ينص عَلَيْهِ الإِمَام وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْفَيْء فَمَا حصل من غير مقاتلة فَهُوَ خَاص لرَسُول عَلَيْهِ السَّلَام فيتصرف فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ شَاءَ قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء}
وَأما الْغَنَائِم فَهُوَ اسْم لما يُؤْخَذ من أَمْوَال الْكَفَرَة بِقُوَّة الْغُزَاة وقهر الْكَفَرَة بِسَبَب الْقِتَال بِإِذن الإِمَام
وَيتَعَلَّق بالغنائم أَحْكَام مِنْهَا حكم ثُبُوت الْحق وَالْملك فِيهَا فَنَقُول هَذَا أَقسَام ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يتَعَلَّق حق التَّمَلُّك أَو حق الْملك للغزاة بِنَفس الْأَخْذ والاستيلاء وَلَا يثبت بِهِ الْملك قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ فَإِن عِنْده فِي قَول يثبت الْملك بِنَفس الْأَخْذ
وَفِي قَوْله بعد الْفَرَاغ من الْقِتَال وانهزام الْعَدو
ويبتنى على هَذَا الأَصْل فروع مِنْهَا أَن الإِمَام إِذا بَاعَ شَيْئا من الْغَنَائِم لَا لحَاجَة الْغُزَاة أَو بَاعَ وَاحِد من الْغُزَاة فَإِنَّهُ لَا يَصح عندنَا لعدم الْملك
وَكَذَا لَو أتلف وَاحِد من الْغُزَاة فِي دَار الْحَرْب فَإِنَّهُ لَا يضمن
وَلَو مَاتَ وَاحِد من الْغُزَاة لَا يُورث سَهْمه(3/298)
وَلَو لحق المدد الْجَيْش قبل الْقِسْمَة فِي دَار الْحَرْب يشاركونهم فِي الْقِسْمَة
وَلَو قسم الإِمَام فِي دَار الْحَرْب لَا مُجْتَهدا وَلَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْغُزَاة فَإِنَّهُ لَا يَصح الْقِسْمَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَصح بِخِلَاف ذَلِك فِي الْفُصُول وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما بَيَان ثُبُوت الْحق فَإِن الْأَسير إِذا أسلم قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يكون حرا
وَلَو أسلم قبل الْأَخْذ يكون حرا لما أَنه يتَعَلَّق بِهِ حق الْغُزَاة بِالْأَخْذِ
وَكَذَلِكَ لَو أسلم أَرْبَاب الْأَمْوَال قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام فَإِنَّهُم لَا يختصون بِأَمْوَالِهِمْ بل هم من جملَة الْغُزَاة فِي الِاسْتِحْقَاق بِسَبَب الشّركَة فِي الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام بِمَنْزِلَة المدد
وَكَذَا لَيْسَ لوَاحِد من الْغُزَاة أَن يَأْخُذ شَيْئا من الْغَنَائِم من غير حَاجَة وَلَو لم يثبت الْحق كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُبَاح
وَالْقسم الثَّانِي بعد الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام قبل الْقِسْمَة فَإِن حق الْملك يتَأَكَّد ويستقر وَلَكِن لَا يثبت الْملك أَيْضا
وَلِهَذَا قَالُوا لَو مَاتَ وَاحِد مِنْهُم يُورث نصِيبه
وَلَو قسم الإِمَام أَو بَاعَ جَازَ
وَلَو لحقهم مدد لَا يشاركونهم وَيضمن الْمُتْلف وَلَكِن الْملك لَا يثبت حَتَّى لَو أعتق وَاحِد من الْغُزَاة عبدا من عبيد الْغَنِيمَة لَا يعْتق لِأَنَّهُ لَا يثبت الْملك الْخَاص إِلَّا بِالْقِسْمَةِ
وَالْقسم الثَّالِث بعد الْقِسْمَة يثبت الْملك الْخَاص لكل وَاحِد فِيمَا هُوَ نصِيبه
فَأَما حكم الطَّعَام والعلف فِي دَار الْحَرْب فَنَقُول لَا بَأْس بتناول الطَّعَام والعلف لعُمُوم الْحَاجة سَوَاء كَانَ المتناول(3/299)
غَنِيا أَو فَقِيرا من غير ضَمَان لِأَن فِي إِلْزَام الْغَنِيّ حمل الطَّعَام والعلف مَعَ نَفسه مُدَّة ذَهَابه وإيابه ومقامه فِي دَار الْحَرْب حرجا عَظِيما
وَإِذا كَانَ محرزا بدار الْإِسْلَام لَا يُبَاح التَّنَاوُل بِغَيْر ضَمَان
وَمَا فضل من الطَّعَام والعلف بعد الْإِحْرَاز قبل الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يرد إِلَى الْغَنِيمَة إِن كَانَ غينا وَإِن كَانَ فَقِيرا يَأْكُل بِالضَّمَانِ
وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يرد ثمنه إِلَى الْفُقَرَاء
وَإِن بَاعَ شَيْئا مِنْهُ يرد ثمنه إِلَى الْمغنم إِن كَانَ غَنِيا قبل الْقِسْمَة وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة يتَصَدَّق على الْفُقَرَاء
وَإِن كَانَ فَقِيرا يَأْكُل إِن كَانَ بعد الْقِسْمَة
وَأما مَا سوى الطَّعَام والعلف من الْأَمْوَال فَلَا يُبَاح للغزاة أَن يَأْخُذُوا شَيْئا مِنْهَا لتَعلق حق الْكل بهَا إِلَّا فِي السِّلَاح والكراع وَالثيَاب عِنْد الْحَاجة وَإِذا اسْتغنى يردهُ إِلَى الْمغنم أَو يدْفع إِلَيْهِ بِحِصَّتِهِ من الْغَنِيمَة فَلَا يُبَاح للغني أَن يفعل ذَلِك بِخِلَاف الطَّعَام والعلف
وَمِنْهَا حكم كَيْفيَّة قسْمَة الْغَنَائِم فَنَقُول يقسم على خَمْسَة أسْهم فَأَرْبَعَة أسْهم للغزاة وَالْخمس لأربابه وَإِنَّمَا يصرف إِلَى الْمُقَاتلَة يَعْنِي بِهِ أهل الْقِتَال سَوَاء كَانَ شَابًّا أَو شَيخا عبدا مَأْذُونا أَو حرا بعد أَن كَانَ رجلا مُسلما مَأْذُونا لِلْقِتَالِ وَسَوَاء كَانَ صَحِيحا أَو مَرِيضا
أما الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ وَالْعَبْد الْمَحْجُور عَن الْقَتْل إِذا قَاتلُوا فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُم الإِمَام شَيْئا لَا سَهْما كَامِلا لِأَنَّهُ لَا يجب الْقِتَال على هَؤُلَاءِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة
ثمَّ ينظر إِن كَانَ رَاجِلا فَلهُ سهم وَاحِد وَإِن كَانَ فَارِسًا فَلهُ(3/300)
سَهْمَان عِنْد أبي حنيفَة سهم لَهُ وَسَهْم لفرسه
وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثَلَاث أسْهم سهم لَهُ وسهمان لفرسه
ثمَّ يُسهم للفارس لفرس وَاحِد عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر
وَعند أبي يُوسُف يُسهم لفرسين وَلَا يُسهم لما زَاد على ذَلِك وَهَذِه الْمَقَادِير تعرف بالأخبار الْوَارِدَة فِي الْبَاب وَمِنْهَا أَنه يعْتَبر حَال الْمقَاتل فِي كَونه فَارِسًا أَو رَاجِلا فِي حَال دُخُوله دَار الْحَرْب فِي ظَاهر الرِّوَايَة إِذا كَانَ قَصده الدُّخُول للْجِهَاد حَتَّى إِذا كَانَ يدْخل تَاجِرًا فَإِنَّهُ لَا يسْتَحق
وَلَو دخل فَارِسًا لقصد الْجِهَاد يسْتَحق سهم الفرسان وَإِن مَاتَ فرسه
وَعند الشَّافِعِي يعْتَبر وصف الْمقَاتل حَال شُهُود الْوَقْعَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو دخل رَاجِلا ثمَّ اشْترى فرسا أَو وهب لَهُ أَو ورث أَو اسْتعَار أَو اسْتَأْجر وَقَاتل فَارِسًا فَلهُ سهم راجل لاعْتِبَار حَال الدُّخُول
وروى الْحسن عَنهُ أَنه لَهُ سهم فَارس
وَلَو دخل فَارِسًا ثمَّ بَاعَ فرسه أَو آجره أَو أَعَارَهُ أَو رَهنه أَو وهبه وَسلم روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن لَهُ سهم فَارس لاعْتِبَار الدُّخُول
وَذكر فِي السّير الْكَبِير أَن لَهُ سهم راجل لِأَنَّهُ لم يكن دُخُوله لقصد الْجِهَاد فَاعْتبر الْحسن حَالَة الدُّخُول بِنَاء على الظَّاهِر وَاعْتبر حَال شُهُود الْوَقْعَة أَيْضا لأجل حَقِيقَة الْقِتَال
وَمِنْهَا حكم الأسرى فَنَقُول الإِمَام بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قتل الْمُقَاتلَة مِنْهُم سَوَاء كَانُوا من الْمُشْركين أَو من أهل الْكتاب من الْعَرَب أَو من الْعَجم لِأَنَّهُ قد يكون مصلحَة(3/301)
الْمُسلمين فِي قَتلهمْ وَإِن شَاءَ استرقهم وقسمهم بَين الْغَانِمين إِلَّا فِي حق مُشْركي الْعَرَب فَإِنَّهُم لَا يسْتَرقونَ وَلَكِن يقتلُون إِن لم يسلمُوا قَالَ الله تَعَالَى {تقاتلونهم أَو يسلمُونَ}
فَأَما النِّسَاء والذراري فيسترقون كلهم الْعَرَب والعجم فِيهِ سَوَاء وَلَا يُبَاح قَتلهمْ لِأَنَّهُ فِيهِ مَنْفَعَة للْمُسلمين
وَلَيْسَ للْإِمَام أَن يمن على الأسرى فَيتْرك قَتلهمْ لِأَن فِيهِ إبِْطَال حق الْغُزَاة من غير نفع يرجع إِلَيْهِم
وَهل يجوز أَن يتْرك قَتلهمْ بالمفاداة بِأَن يفادى بهم أسرى الْمُسلمين عِنْد أبي حنيفَة لَا تجوز المفاداة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد تجوز المفاداة بهم
وَلَا يجوز مفاداة أسر الْكفَّار بِمَال يُؤْخَذ مِنْهُم وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ للْإِمَام خِيَار آخر فِي حق أهل الْكتاب وَعَبدَة الْأَوْثَان من الْعَجم أَن يعْقد مَعَهم عقد الذِّمَّة على أَن يقبلُوا الْجِزْيَة وَيتْرك الْأَرَاضِي فِي أَيْديهم بالخراج كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بسواد الْعرَاق فِي حق مُشْركي الْعَجم
فَأَما فِي حق مُشْركي الْعَرَب فَلَا يجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم كَمَا لَا يجوز الاسترقاق فَيقسم أراضيهم بَين الْغُزَاة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجْتَمع دِينَار فِي جَزِيرَة الْعَرَب
وَمِنْهَا حكم الْخمس فَنَقُول إِن الْخمس فِي زَمَاننَا يقسم على ثَلَاثَة أسْهم سهم لِلْيَتَامَى وَسَهْم(3/302)
للْمَسَاكِين وَسَهْم لأبناء السَّبِيل
وَلم يكن ذكر هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف على طَرِيق الِاسْتِحْقَاق حَتَّى لَو صرف إِلَى صنف مِنْهُم جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَة
وَاخْتلف مَشَايِخنَا قَالَ بَعضهم بِأَن فِي زمن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقسم على خَمْسَة أسْهم سهم للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَهْم لأقرباء الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام للْفُقَرَاء دون الْأَغْنِيَاء
وَقَالَ بَعضهم يصرف إِلَى الْفُقَرَاء والأغنياء من الأقرباء وَثَلَاثَة أسْهم إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى فِي الْكتاب وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يقسم على خَمْسَة أسْهم فسهم الرَّسُول يصرف إِلَى كل خَليفَة فِي زَمَانه وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى يصرف إِلَى بني هَاشم من أَوْلَاد فَاطِمَة وَغَيرهَا وَثَلَاثَة أسْهم أُخْرَى إِلَى مَا نَص الله عَلَيْهِم
وَعِنْدنَا على الْوَجْه الَّذِي كَانَ وَقد بَقِي ثَابتا وهم فُقَرَاء الْقَرَابَة سوى سهم الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ سقط بوفاته وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ الْخمس إِنَّمَا يجب فِيمَا يُؤْخَذ من أَمْوَال أهل الْحَرْب إِذا أَخذ إِمَّا بِإِذن الإِمَام أَو بِقُوَّة قوم لَهُم مَنْعَة وشوكة فَإِن الْغَنِيمَة اسْم لمَال يُؤْخَذ على طَرِيق الْقَهْر وَالْغَلَبَة أما فِي المنعة فَظَاهر
وَكَذَا إِذا أذن الإِمَام لسرية أَو لوَاحِد حَتَّى يدْخل للإغارة بِخمْس مَا أَصَابَهُ لِأَنَّهُ أَخذ بِقُوَّة الإِمَام ومعونته والإمداد عِنْد الْحَاجة
فَأَما إِذا دخل قوم لَا مَنْعَة لَهُم بِغَيْر إِذن الإِمَام وَأخذُوا شَيْئا لَا يجب فِيهِ الْخمس عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وهم بِمَنْزِلَة اللُّصُوص والتجار ظفروا بِمَال أهل الْحَرْب خُفْيَة وأخرجوه يكون ملكا لَهُم خَاصَّة وَلَا خمس فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بغنيمة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم أَمْوَال الْكفَّار الَّتِي أخذت مِنْهُم(3/303)
وَأما حكم أَمْوَالنَا الَّتِي أخذُوا من الْمُسلمين بالقهر وَالْغَلَبَة فِي دَار الْإِسْلَام فَقبل أَن يحرزوا بدار الْحَرْب لَا يثبت الْملك لَهُم
وَإِن أحرزوا يثبت الْملك لَهُم عندنَا خلافًا لَهُ
وَكَذَا الْجَواب فِي عبيدنا إِذا أخذُوا فِي دَار الْإِسْلَام
فَأَما إِذا أبق العَبْد منا وَدخل دَار الْحَرْب ثمَّ أَخَذُوهُ وأسروه لَا يصير ملكا لَهُم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يملكونه
وَأَجْمعُوا أَنهم إِذا أخذُوا مدبرينا ومكاتبينا وَأُمَّهَات أَوْلَادنَا أَنهم لَا يملكُونَ حَتَّى لَو وجد الْملك الْقَدِيم يَأْخُذهُ من غير شَيْء قبل الْقِسْمَة وَبعد الْقِسْمَة وَفِي يَد التَّاجِر
فَأَما كل مَال ملكوه فَإِن وجد قبل الْقِسْمَة يُؤْخَذ بِغَيْر شَيْء
وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة يُؤْخَذ بِالْقيمَةِ
وَإِن وجد فِي يَد تَاجر أخرجه إِلَى دَار الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يَأْخُذ بِالثّمن إِن شَاءَ لِأَن للْمَالِك الْقَدِيم حق التَّمَلُّك بِالْبَدَلِ كالشفيع وَهَذَا فِي غير الْمكيل وَالْمَوْزُون فَأَما فِي الْمِثْلِيَّات فَلَا يَأْخُذ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي أَن يَأْخُذ شَيْئا وَيُعْطِي مثله
وَلَو أَن حَرْبِيّا دخل دَار الْإِسْلَام بِغَيْر أَمَان يصير فَيْئا لجَماعَة الْمُسلمين حَتَّى لَو أسلم قبل أَن يَأْخُذهُ وَاحِد من الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَا يعْتق وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة
فَأَما عِنْدهمَا فَيصير ملكا للآخذ حَتَّى لَو أسلم قبل الْأَخْذ يكون حرا
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا عَاد إِلَى دَار الْحَرْب قبل الْأَخْذ ثمَّ أسلم يكون حرا لِأَن حق أهل دَار الْإِسْلَام لم يتَأَكَّد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لم يثبت
فَإِن دخل بِأَمَان ثمَّ أَخذ يَصح الْأمان وَلَا يصير ملكا للآخذ لَكِن يَقُول لَهُ الإِمَام إِن رجعت قبل سنة فَلَا شَيْء عَلَيْك وَإِن(3/304)
مَضَت سنة وضعت عَلَيْك الْجِزْيَة وصرت ذِمِّيا فَإِن ذهب قبل مُضِيّ السن وَإِلَّا صَار رَاضِيا بِالذِّمةِ وَيصير ذِمِّيا(3/305)
بَاب أَخذ الْجِزْيَة
وَحكم الْمُرْتَدين أما حكم الْجِزْيَة فَنَقُول إِن أَخذ الْجِزْيَة وَعقد الذِّمَّة مَشْرُوع فِي حق جَمِيع الْكفَّار إِلَّا فِي حق مُشْركي الْعَرَب والمرتدين فَإِنَّهُ لَا يقبل مِنْهُم الْجِزْيَة كَمَا لم يشرع فيهم الاسترقاق
فَأَما فِي حق أهل الْكتاب فَلقَوْله تَعَالَى {هم المعتدون}
وَأما فِي حق الْعَجم فبحديث عمر رَضِي الله عَنهُ أَن فتح سَواد الْعرَاق وَضرب الْجِزْيَة على جَمَاعَتهمْ وَوضع الْخراج على أراضيهم
ثمَّ الْجِزْيَة إِنَّمَا تشرع فِي حق المقاتلين من الرِّجَال الْعُقَلَاء الْأَحْرَار الأصحاء دون النِّسَاء وَالصبيان والمجانين والأرقاء لِأَنَّهَا تجب على من يجب عَلَيْهِ الْقَتْل
ثمَّ الْجِزْيَة على التَّفَاوُت فِي حق الْمُوسر المكثر فِي كل سنة ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ درهما
وَفِي حق الْمُتَوَسّط أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ
وَفِي حق الْفَقِير المعتمل أَعنِي الْقَادِر على الْعَمَل وَالْكَسْب اثْنَا عشر درهما حَتَّى لَا يجب على الزَّمن وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخ الفاني إِذا لم يَكُونُوا أَغْنِيَاء وَإِذا(3/307)
كَانُوا أَغْنِيَاء فَكَذَلِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من التقل
وَعَن أبي يُوسُف فِي رِوَايَة أَنه يجب على الْأَغْنِيَاء مِنْهُم
وعَلى هَذَا فِي التغلبي الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على الْعَمَل لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن الصَّدَقَة المضاعفة جِزْيَة حَقِيقَة
وَكَذَلِكَ إِن مرض الذِّمِّيّ أَكثر السّنة لَا تجب الْجِزْيَة لِأَن الصِّحَّة شَرط
وَكَذَلِكَ أهل الصوامع والرهابين والسياحون يُؤْخَذ مِنْهُم الْخراج إِذا كَانُوا مِمَّن يقدرُونَ على الْعَمَل
وَعَن مُحَمَّد أَنه لَا خراج عَلَيْهِم لأَنهم لَا يقتلُون إِذا لم يكن مِنْهُم شَرّ ظَاهر فَلَا تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة ثمَّ الْجِزْيَة تجب زجرا لَهُم عَن الْكفْر فِي الْمُسْتَقْبل عِنْد أبي حنيفَة حَتَّى تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة فِي السّنة الَّتِي يعْقد فِيهَا الذِّمَّة
وَإِذا مَضَت السّنة لَا يُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة فِي السّنة الَّتِي يعْقد فِيهَا الذِّمَّة
وَإِذا مَضَت السّنة لَا يُؤْخَذ لما مضى
وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذ مَا دَامَ ذِمِّيا لما مضى
ولقب الْمَسْأَلَة أَن الموانيد هَل تُؤْخَذ أم لَا فَعنده لَا تُؤْخَذ خلافًا لصاحبيه
وَأما إِذا أسلم الذِّمِّيّ أَو مَاتَ تسْقط الْجِزْيَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما حكم أهل الرِّدَّة فَنَقُول لَهُم أَحْكَام من ذَلِك أَن الرجل الْمُرْتَد يقتل لَا محَالة إِذا لم يسلم وَلَا يسترق لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام أَولا فَإِن أسلم وَإِلَّا(3/308)
فَيقْتل من سَاعَته إِذا لم يطْلب التَّأْجِيل
فَأَما إِذا طلب التَّأْجِيل إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام لينْظر فِي أمره فَإِنَّهُ يُؤَجل وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا الأولى أَن يُؤَجل ثَلَاثَة أَيَّام وَيحبس ويعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَإِذا وَقع الْيَأْس فَحِينَئِذٍ يقتل
فَأَما الْمَرْأَة فَلَا تقتل عندنَا
خلافًا للشَّافِعِيّ وَلكنهَا تحبس وتجبر على الْإِسْلَام وتضرب فِي كل ثَلَاثَة أَيَّام إِلَى أَن تسلم
وَكَذَا الْجَواب فِي الْأمة إِلَّا أَن الْأمة تحبس فِي بَيت الْمولى لِأَن ملكه قَائِم بِخِلَاف الْمُرْتَدَّة الْمَنْكُوحَة فَإِن النِّكَاح قد بَطل بِالرّدَّةِ
وَلَو لحقت بدار الْحَرْب ثمَّ ظهر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم لَهُم أَن يسترقوا الْمُرْتَدَّة دون الْمُرْتَد
فَأَما الصَّبِي الْعَاقِل إِذا ارْتَدَّ فَردته صَحِيحَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد كإسلامه
وَعند أبي يُوسُف إِسْلَام صَحِيح دون ارتداده
وَعند الشَّافِعِي لَا يَصح كِلَاهُمَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
لَكِن لَا يقتل ويعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَلَكِن لَا يحبس وَلَا يضْرب وَإِذا بلغ الْآن يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام جبرا وَيحبس وَيضْرب لَكِن لَا يقتل لِأَنَّهُ لَا يجب الْقَتْل بِهَذِهِ الرِّدَّة
وعَلى هَذَا الصَّبِي إِذا حكم بِإِسْلَامِهِ تبعا لِأَبَوَيْهِ ثمَّ بلغ كَافِرًا وَلم يسمع مِنْهُ الْإِقْرَار بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ يجْبر على الْإِسْلَام وَلَكِن لَا يقتل أَيْضا فَأَما إِذا سمع مِنْهُ الْإِقْرَار بعد الْبلُوغ يقتل إِذا ارْتَدَّ
والسكران إِذا ارْتَدَّ فِي حَال ذهَاب عقله فَالْقِيَاس أَن تصح ردته فِي حق الْأَحْكَام وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا تصح
وَإِن ذهب عقله بِسَبَب(3/309)
البرسام وَالْإِغْمَاء فَارْتَد فِي تِلْكَ الْحَالة لَا تصح ردته قِيَاسا واستحسانا لِأَن الْكفْر لَا يَصح بِدُونِ الْقَصْد
وَمِنْهَا حكم مَال الْمُرْتَد وتصرفاته قَالَ أَبُو حنيفَة إِنَّه مَوْقُوف فَإِن مَاتَ أَو قتل على ردته أَو لحق بدار الْحَرْب بَطل جَمِيع ذَلِك إِلَّا أَن يَدعِي ولد جَارِيَة لَهُ فَيثبت نسبه وَتصير الْجَارِيَة أم ولد لَهُ
وَإِن أسلم صَحَّ ذَلِك كُله لِأَن مَاله مَوْقُوف عِنْده بَين أَن يصير لوَرثَته من وَقت الرِّدَّة وَبَين أَن يبْقى لَهُ إِذا أسلم فالتصرفات المبنية عَلَيْهِ كَذَلِك
وَعند أبي يُوسُف تَصَرُّفَاته صَحِيحَة مثل تصرف الصَّحِيح
وَعند مُحَمَّد تَصَرُّفَاته مثل تصرف الْمَرِيض لَا تصح تبرعاته إِلَّا من الثُّلُث لِأَن عِنْدهمَا ملكه بَاقٍ بعد الرِّدَّة وَإِنَّمَا يَزُول بِالْمَوْتِ وَالْقَتْل وإلحاق بدار الْحَرْب
وَأما حكم مَال الْمُرْتَدَّة وتصرفاتها فَمثل قَوْلهمَا فِي الْمُرْتَد عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا لَا تقتل
وَمِنْهَا حكم مِيرَاث الْمُرْتَد وَإِذا مَاتَ أَو قتل أَو لحق بدار الْحَرْب وَترك مَاله فِي دَار الْإِسْلَام قَالَ أَبُو حنيفَة فَمَا اكْتَسبهُ فِي حَال الْإِسْلَام
فَهُوَ مِيرَاث لوَرثَته الْمُسلمين وَمَا اكْتَسبهُ فِي حَال الرِّدَّة فَهُوَ فَيْء
وَعِنْدَهُمَا الْكل مِيرَاث
ثمَّ عِنْدهمَا يعْتَبر حَال الْوَارِث وَقت الْمَوْت وَالْقَتْل دون الرِّدَّة فَإِن كَانَ مُسلما حرا يَرث وَإِلَّا فَلَا
وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يعْتَبر حَال الرِّدَّة لَا غير
وَفِي رِوَايَة يعْتَبر حَال الرِّدَّة والدوام إِلَى وَقت الْمَوْت وَالْقَتْل(3/310)
وَكَذَلِكَ إِذا لحق بدار الْحَرْب فَإِنَّهُ يُورث مَاله لِأَن اللحاق بدار الْحَرْب بِمَنْزِلَة الْمَوْت
لَكِن هَل يشْتَرط قَضَاء القَاضِي بلحاقه فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَكِن القَاضِي يحكم بِعِتْق أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبريه
وَأما الْمكَاتب فَإِذا أدّى بدل الْكِتَابَة إِلَى ورثته عتق وَيكون الْوَلَاء للمرتد وَيقوم الْوَرَثَة مقَامه فِي حق قبض بدل الْكِتَابَة كَمَا إِذا مَاتَ الْمولى وَترك مكَاتبا
وَلَو أَن الْمُرْتَد بَعْدَمَا لحق بدار الْحَرْب عَاد إِلَى دَار الْإِسْلَام مُسلما فَإِن كَانَ قبل قَضَاء القَاضِي بلحاقه فَمَا لَهُ على حَاله وَلم يعْتق مدبروه ومكاتبوه وَأُمَّهَات أَوْلَاده
وَإِن كَانَ بعد الْقَضَاء فَمَا وجد من مَاله فِي يَد وَارثه بِحَالهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ كَأَنَّهُ وهب مِنْهُ وَله أَن يرجع
وَمَا زَالَ عَن ملكه بالتمليك أَو بِالْأَكْلِ فَلَا رُجُوع فِيهِ
وَلَا سَبِيل لَهُ على أُمَّهَات الْأَوْلَاد والمدبرين وَلَا يفْسخ عتقهم لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل الْفَسْخ وَإِن وجد بدل الْكِتَابَة فِي يَد الْوَرَثَة يَأْخُذهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْء على الْوَرَثَة(3/311)
بَاب أَحْكَام الْبُغَاة
قَالَ إِذا خرج طَائِفَة على الإِمَام على التَّأْوِيل وخالفوا الْجَمَاعَة فَإِن لم يكن لَهُم مَنْعَة فللإمام أَن يَأْخُذهُمْ ويحبسهم حَتَّى يحدثوا تَوْبَة
وَإِن كَانَت لَهُم مَنْعَة فَإِنَّهُ يجب على الَّذين لَهُم قُوَّة وشوكة أَن يعينوا إِمَام أهل الْعدْل ويقاتلوهم حَتَّى يهزموهم ويقتلوهم
وَبعد الانهزام يقتلُون مدبريهم وأسرائهم ويجهزون على جريحهم
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله}
وَإِن عَفا الإِمَام عَن أسرائهم فَلَا بَأْس بِهِ أَيْضا
وَإِن لم يكن لَهُم مَنْعَة ينحازون إِلَيْهَا فَلَيْسَ للْإِمَام أَن يقتل أَسْرَاهُم وَلَا مدبريهم وَلَكِن يحبسهم حَتَّى يحدثوا تَوْبَة
ثمَّ يخلى سبيلهم
ثمَّ بعد التَّوْبَة مَا أَخذ الإِمَام من أَمْوَالهم وسلاحهم وَهُوَ قَائِم يرد إِلَيْهِم
وَمَا استهلكوه فَلَا ضَمَان عَلَيْهِم
وَكَذَا فِي جَانب أهل الْبَغي إِذا أتلفوا أَمْوَال أهل الْعدْل(3/313)
وَأَصله حَدِيث الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ وَقعت الْفِتْنَة فَاجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم متوافرون على أَن كل دم أريق بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَهُوَ هدر وكل مَا أتلف بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَلَا ضَمَان فِيهِ وكل فرج استبيح بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَلَا حد فِيهِ وَمَا كَانَ قَائِما يرد
وَهَذَا إِذا أتلفوا فِي حَال التجبر والمنعة
فَأَما إِذا أتلفوا مَالهم ونفوسهم قبل ظُهُور المنعة أَو بعد الانهزام فَإِنَّهُم يضمنُون لأَنهم من أهل دَار الْإِسْلَام
وَهَذَا جَوَاب الحكم وَإِنَّمَا نعني بِهِ أَن يضمن كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ للْآخر مَا أتلف من الْأَنْفس وَالْأَمْوَال لكَونهَا معصومة فِي هَذِه الْحَالة إِلَّا بطرِيق الدّفع
ثمَّ كل من لَا يُبَاح قَتله من أهل الْحَرْب لَا يُبَاح قَتله من أهل الْبَغي إِلَّا إِذا وجد الْقِتَال من العبيد والنسوان والشيوخ فيحنئذ يقتلُون فِي حَالَة الْقِتَال
وَبعد الانهزام لَا يُبَاح
وَيكرهُ أَن يبْعَث برؤوس الْبُغَاة أَو الحربى إِلَى الْآفَاق إِلَّا إِذا كَانَ فِي ذَلِك وَهن لَهُم فَلَا بَأْس بِهِ
ثمَّ قَتْلَى أهل الْعدْل شُهَدَاء يفعل بهم مثل مَا يفعل بِالشُّهَدَاءِ يكفنون فِي ثِيَابهمْ وَلَا يغسلون وَيصلى عَلَيْهِم
فَأَما قَتْلَى أهل الْبَغي فَلَا يصلى عَلَيْهِم سَوَاء كَانَ لَهُم مَنْعَة أَو لم يكن وَهُوَ الصَّحِيح
وَلَكِن يغسلون ويكفنون ويدفنون لِأَن هَذَا من شِيمَة الْمَوْتَى
وَأما قَضَاء قَاضِي أهل الْبَغي بِشَهَادَة أهل الْبَغي فَلَا يَصح لاحْتِمَال أَنه قضى بِمَا هُوَ بَاطِل عندنَا لأَنهم يسْتَحلُّونَ أَمْوَالنَا ودماءنا وَلَا يقبل قَاضِي أهل الْعدْل كتاب قاضيهم لما ذكرنَا من الِاحْتِمَال(3/314)
وَإِذا تَابُوا وَرَجَعُوا ينظر الإِمَام فِي قضاياه فَإِن قضى بِمَا هُوَ الْحق بِشَهَادَة أهل الْعدْل ينفذ وَإِلَّا فَيرد الْكل
وَأما إِذا نصبوا قَاضِيا من أهل الْعدْل فَإِن قَضَاءَهُ نَافِذ لِأَن لَهُم شَوْكَة وَقُوَّة وَأمكن للْقَاضِي تَنْفِيذ قضاياه بقواهم وَالله أعلم(3/315)
كتاب الشّرْب
فِي هَذَا الْكتاب فصلان أَحدهمَا فِي أَحْكَام الشّرْب
الثَّانِي فِي أَحْكَام الْأَرَاضِي
أما الأول فَنَقُول إِن الْمِيَاه أَنْوَاع أَرْبَعَة مَاء مَمْلُوك وَهُوَ مَا أحرز فِي الْأَوَانِي
وَحكمه حكم سَائِر الْأَمْلَاك لَيْسَ لأحد فِيهِ حق وَلَا يحل لأحد أَن يَأْخُذهُ وَلَا أَن يشربه إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القاتلة بِأَن أَصَابَهُ الْعَطش على وَجه يهْلك فَيُبَاح لَهُ الْأَخْذ وَالشرب وَلَو منع صَاحبه لَهُ أَن يقاتله بِالسِّلَاحِ حَتَّى يتَمَكَّن من تنَاوله بِقدر مَا يدْفع بِهِ عطشه إِذا كَانَ مَعَه فضل مَاء عَن حَاجته الماسة
وَفِي الطَّعَام يُبَاح لَهُ أَن يَأْخُذ جبرا وقهرا وَلَكِن لَا يُقَاتل بِالسِّلَاحِ كَمَا قَالَ بعض الْمَشَايِخ
وَقَالَ بَعضهم هَذَا فِي البئرالخاص وَالنّهر الْخَاص فَإِن حق الشّفة ثَابت لكل النَّاس فَمن منع حَقه لَهُ أَن يُقَاتل مَعَه
فَأَما فِي المَاء الْمَمْلُوك فَعِنْدَ الضَّرُورَة القاتلة يُبَاح لَهُ الْأَخْذ قهرا لَكِن لَا يُقَاتل كَمَا فِي الطَّعَام(3/317)
وَالثَّانِي المَاء الَّذِي يكون فِي الْبِئْر والحوض وَالْعين الْمَمْلُوكَة لَهُ فَهُوَ حق خَاص لَهُ كالمملوك لَكِن لعامة النَّاس حق الشّفة من هَذَا المَاء حَتَّى يشرب بِنَفسِهِ وَيَأْخُذ المَاء لنَفسِهِ ولمواشيه وَلَيْسَ لصَاحب المَاء حق الْمَنْع وَهُوَ معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس شُرَكَاء فِي الثَّلَاث فِي المَاء والكلأ وَالنَّار
وَلَكِن لَو أَرَادَ أحد أَن يسْقِي زرعه من ذَلِك المَاء لَا يجوز لَهُ ذَلِك ويمنعه السُّلْطَان عَنهُ
لِأَن هَذَا يبطل حَقه لِأَنَّهُ لَو أطلق هَذَا لشاركه فِيهِ كل من يُمكنهُ سقِِي أرضه مِنْهُ فَيبْطل حَقه أصلا
وَالثَّالِث أَن يكون نَهرا مُشْتَركا بَين جمَاعَة محصورة حَتَّى يثبت الشُّفْعَة بِسَبَب الشّركَة فِيهِ كَانَ لهَؤُلَاء الشُّرَكَاء حق السَّقْي بِقدر شركتهم فِي النَّهر وَلَيْسَ لغَيرهم حق السَّقْي للمزارع وَالْأَشْجَار إِنَّمَا لَهُم حق الشّفة
وَلَو أَرَادَ وَاحِد من الشُّرَكَاء أَن يكْرِي نَهرا صَغِيرا وَيَأْخُذ المَاء من النَّهر الْمُشْتَرك فيسوق إِلَى أَرض أَحْيَاهَا لَيْسَ لَهَا مِنْهُ شرب لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِرِضا الشُّرَكَاء
وَكَذَلِكَ إِذا أَرَادَ أَن ينصب عَلَيْهِ رحى لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِرِضا الشُّرَكَاء لِأَن بقْعَة الرَّحَى حق وَملك لجماعتهم فَإِذا بنى اخْتصَّ بِتِلْكَ الْبقْعَة وَانْقطع حق الشُّرَكَاء عَنْهَا فَيمْنَع
أما إِذا كَانَ مَوضِع الرَّحَى ملكه موليس فِيهِ ضَرَر بالشركاء بِأَن كَانَ المَاء يُدِير الرَّحَى وَيجْرِي المَاء على سنَنه فِي النَّهر فَلَيْسَ لَهُم حق الْمَنْع لِأَن المَاء مُشْتَرك بَينهم وَلكُل وَاحِد مِنْهُم أَن ينْتَفع بِحقِّهِ على وَجه لَا يتَضَرَّر بِهِ شركاؤه
فَأَما إِذا كرى نَهرا من هَذَا النَّهر وعرج المَاء حَتَّى يصل إِلَى الرَّحَى(3/318)
الْمَمْلُوكَة لَهُ فِي أرضه فيدير رحاه ثمَّ يجْرِي النَّهر من أَسْفَله لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَن فِيهِ ضَرَرا بالشركاء بِقطع المَاء عَن سنَنه فَيتَأَخَّر وُصُول حَقهم إِلَيْهِم وينتقص فِي الْجُمْلَة أَيْضا
وَكَذَا الْجَواب فِي نصب الدالية والسانية
وَالرَّابِع الْأَنْهَار الْعِظَام كالفرات والدجلة والجيحون وَغَيرهَا فَلَا حق لأحد فِيهَا على الْخُصُوص بل هُوَ حق الْعَامَّة فَكل من يقدر على سقِِي أراضيه مِنْهَا فَلهُ ذَلِك
وَكَذَا نصب الرَّحَى والدالية وَنَحْو ذَلِك
وَهَذَا إِذْ لم يكن فِيهِ ضرب بالنهر الْعَظِيم أما إِذا كَانَ فِيهِ ضرب فَيمْنَع عَن ذَلِك
ثمَّ كري الْأَنْهَار الْعِظَام على السُّلْطَان من مَال بَيت المَال لِأَن مَنْفَعَتهَا ترجع إِلَى عَامَّة النَّاس فَيكون مؤونة ذَلِك فِي مَال الْعَامَّة وَهُوَ مَال بَيت المَال
وَأما كري النَّهر الْمُشْتَرك بَين أَقوام معلومين فَعَلَيْهِم وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة عَلَيْهِم جَمِيعًا أَن يكروا من أَعْلَاهُ فَإِذا جَاوز أَرض رجل وَاحِد دفع عَنهُ حِصَّته يكرن الْكرَى على من بَقِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الكري عَلَيْهِم جَمِيعًا من أَوله إِلَى آخِره بحصص الشّرْب وَالْأَرْض(3/319)
وَبَيَان ذَلِك أَن النَّهر إِذا كَانَ بَين عشرَة وَلكُل وَاحِد مِنْهُم عَلَيْهِ أراض على السوَاء فَإِن الكري من فوهة النَّهر إِلَى أَن يُجَاوز شرب أَوَّلهمْ بَينهم على عشرَة أسْهم على كل وَاحِد مِنْهُم الْعشْر فَإِذا تجَاوز شرب الأول خرج هُوَ من الكري وَيكون الكري على البَاقِينَ على تِسْعَة أسْهم فَإِذا تجَاوز شرب الثَّانِي سَقَطت عَنهُ النَّفَقَة وَيكون الكري على البَاقِينَ على ثَمَانِيَة أسْهم على هَذَا التَّرْتِيب
وَقَالا إِن المؤونة بَينهم على عشرَة أسْهم من أول النَّهر إِلَى آخِره
فهما يَقُولَانِ إِن لصَاحب الْأَعْلَى مَنْفَعَة فِي حفر الْأَسْفَل فَإِنَّهُ مسيل مائَة كَمَا أَن لصَاحب الْأَسْفَل مَنْفَعَة فِي الْأَعْلَى ثمَّ حفر الْأَعْلَى مُشْتَرك فَكَذَلِك الْأَسْفَل
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن فوهة النَّهر مُشْتَركَة لَا يتَوَصَّل أحدهم إِلَى الِانْتِفَاع بشربه إِلَّا بحفرها
وَكَذَا حفر مَا بعْدهَا فَإِذا تجَاوز شرب أحدهم فَلَا حق لَهُ فيحفر مَا بعد أرضه لِأَن ذَلِك ملك الْبَاقِي لَا ملكه إِنَّمَا لَهُ حق تسييل المَاء فِيهِ فَتكون المؤونة على الْمَالِك لَا على صَاحب الْحق كَمَا فِي مسيل المَاء على سَطَعَ مَمْلُوك لغيره
وَإِذا كَانَ نهر لرجل بَين أراض فَاخْتَلَفُوا فِي المسناة قَالَ صَاحب الأَرْض هِيَ ملكي وَقَالَ صَاحب النَّهر هِيَ ملكي وَلَا يعرف أَن المسناة فِي يَد من هِيَ وَفِي تصرف من هِيَ قَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ ملك صَاحب الأَرْض حَتَّى إِن لَهُ أَن يغْرس فِيهَا ويزرع وَيمْنَع صَاحب النَّهر عَن إِلْقَاء الطين فِيهَا وَعَن الْمُرُور فِيهَا إِلَّا أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يحْفر المسناة فيسيل مَاء النَّهر فِي غير مَوْضِعه فَيكون حق صَاحب النَّهر فِي إمْسَاك المَاء لَا غير
وعَلى قَوْلهمَا إِنَّمَا هِيَ ملك صَاحب النَّهر
وَمن مَشَايِخنَا من قَالَ إِن هَذَا الْخلاف مَبْنِيّ على أَن النَّهر هَل لَهُ حَرِيم أم لَا فَإِن كرى رجل نَهرا فِي أَرض موَات بِإِذن السُّلْطَان فَعِنْدَ(3/320)
أبي حنيفَة لَيْسَ لَهُ حَرِيم
وَعِنْدَهُمَا لَهُ حَرِيم فَكَانَ الظَّاهِر شَاهدا لصَاحب النَّهر عِنْدهمَا وَلَيْسَ بِشَاهِد لَهُ عِنْد أبي حنيفَة
لَكِن أهل التَّحْقِيق من مَشَايِخنَا قَالُوا لَا خلاف أَن للنهر حريما فِي أَرض موَات فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جعل للبئر حريما فَيكون جعله ذَاك جعلا للنهر حريما بطرِيق الأولى لشدَّة حَاجَة النَّهر إِلَى الْحَرِيم
وَلَكِن الْخلاف هَاهُنَا فِيمَا إِذا لم يعرف أَن المسناة فِي يَد صَاحب النَّهر بِأَن كَانَت مُتَّصِلَة بالأراضي مُسَاوِيَة لَهَا وَلم تكن أَعلَى مِنْهَا فَالظَّاهِر شَاهد أَنَّهَا من جملَة أراضيه إِذْ لَو لم تكن هَكَذَا لكَانَتْ أَعلَى لإلقاء الطين فِيهَا وَنَحْو ذَلِك
وَعِنْدَهُمَا الظَّاهِر شَاهد لصَاحب النَّهر لكَونه حريما لَهُ فَوَقع الْكَلَام بَينهم فِي التَّرْجِيح
ثمَّ الشّرْب الْخَاص أَو الْمُشْتَرك لَا يجوز بَيْعه وهبته وَنَحْو ذَلِك إِلَّا الْوَصِيَّة
وَيجْرِي فِيهِ الْإِرْث لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَين مَال بل هُوَ حق مَالِي
فَأَما إِذا بَاعَ تبعا لأرضه جَازَ وَيصير الشّرْب لصَاحب الأَرْض وَإِنَّمَا يدْخل الشّرْب إِذا ذكره صَرِيحًا فِي البيع أَو يذكر إِنِّي بِعْت الأَرْض بحقوقها أَو بمرافقها أَو بِكُل قَلِيل وَكثير هُوَ لَهَا دَاخل فِيهَا وخارج مِنْهَا من حُقُوقهَا فَحِينَئِذٍ يدْخل
فَأَما فِي الْإِجَارَة فَيدْخل الشّرْب من غير ذكر لِأَن الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجرَة لَا يكون إِلَّا بِالْمَاءِ بِخِلَاف البيع
أما أَحْكَام الْأَرَاضِي
فَهِيَ أَنْوَاع وَأَرْض مَمْلُوكَة عامرة لَا يجوز لأحد التَّصَرُّف فِيهَا وَالِانْتِفَاع بهَا إِلَّا بِرِضا صَاحبهَا
وَالثَّانيَِة أَرض خراب انْقَطع مَاؤُهَا وَهِي ملك صَاحبهَا لَا تَزُول(3/321)
عَنهُ إِلَّا بإزالته وتورث عَنهُ إِذا مَاتَ
وَهَذَا إِذا عرف صَاحبهَا
وَإِن لم يعرف فَحكمهَا حكم اللّقطَة
الثَّالِثَة الأَرْض الْمُبَاحَة وَتسَمى الْموَات وَهِي نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا يكون تبعا لبَعض الْقرى مرعى لمواشيهم ومحتطبا لَهُم فَهِيَ حَقهم لَا يجوز للْإِمَام أَن يقطعهَا من أحد لِأَن فِي ذَلِك ضَرَرا بهؤلاء
وَلَكِن ينْتَفع بالحطب والقصب الَّتِي فِيهَا هَؤُلَاءِ وَغَيرهم وَلَيْسَ لَهُم أَن يمنعوها عَن غَيرهم لِأَنَّهَا لَيست بِملك لَهُم
وَالْحَد الْفَاصِل أَن يسمع صَوت الرجل من أدنى الأَرْض الْمَمْلُوكَة إِلَيْهِ فَمَا لم يسمع صَوته فِيهِ فَهِيَ لَيست بتابعة لقريتهم
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا لَا يكون تبعا لقرية من الْقرى فَهِيَ على الْإِبَاحَة من أَحْيَاهَا بِإِذن الإِمَام فَعِنْدَ أبي حنيفَة تكون ملكا لَهُ وَعِنْدَهُمَا بِغَيْر إِذن الإِمَام تصير ملكا لَهُ وَيصير هُوَ أَحَق بهَا من غَيره ملكا
والإحياء أَن يَبْنِي ثمَّة بِنَاء
أَو يحْفر نَهرا أَو يَجْعَل للأراضي مسناة وَنَحْو ذَلِك
أما إِذا وضع أحجارا حولهَا وَجعل ذَلِك حدا فَإِنَّهُ لَا تصير ملكا لَهُ وَلَكِن يكون هُوَ أَحَق بِالِانْتِفَاعِ بهَا بسبق يَده على مَا رُوِيَ مني مناخ من سبق
ثمَّ فِي الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَة لَا شركَة لأحد فِي الْحَطب والقصب مِنْهَا وَإِنَّمَا لَهُم حق فِي الْكلأ وَلَيْسَ لأربابها منع الْغَيْر عَن ذَلِك للْحَدِيث الَّذِي روينَا
وَلَو منع عَن الدُّخُول يَقُول لَهُ أخرج الْكلأ إِلَى الطَّالِب وَإِلَّا فَاتْرُكْهُ حَتَّى يدْخل فيحصد بِنَفسِهِ
وَهَكَذَا المروج الْمَمْلُوكَة والأجمة الْمَمْلُوكَة فِي حق الْكلأ والسمك لَا فِي الْحَطب والقصب(3/322)
ثمَّ إِذا حفر نَهرا هَل لَهُ حَرِيم عِنْد بعض الْمَشَايِخ على الْخلاف الَّذِي ذكرنَا فِي المسناة
وَعند بَعضهم لَهُ حَرِيم بِقدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ بالِاتِّفَاقِ لإلقاء الطين وَنَحْوه
وَاخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي مِقْدَاره قَالَ أَبُو يُوسُف قدر عرض نصف النَّهر من هَذَا الْجَانِب وَقدر النّصْف من الْجَانِب الآخر
وَقَالَ مُحَمَّد قدر عرض جَمِيع النَّهر من كل جَانب
وَكَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْحَوْض
فَأَما حَرِيم بِئْر العطن فأربعون ذِرَاعا بِالْإِجْمَاع
وحريم الْعين خَمْسمِائَة ذِرَاع من كل جَانب بِالْإِجْمَاع
وَاخْتلفُوا فِي بِئْر الناضح قَالَ أَبُو حنيفَة أَرْبَعُونَ من كل جَانب
وَقَالا سِتُّونَ ذِرَاعا(3/323)
كتاب الْأَشْرِبَة
قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير أَسمَاء الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة فِي الْجُمْلَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا
أما الْأَسْمَاء فثمانية الْخمر وَالسكر ونقيع الزَّبِيب ونبيذ التَّمْر والفضيخ والباذق والطلاء وَيُسمى المثلث والجمهوري وَيُسمى أَبُو يوسفي
أما الْخمر فَهُوَ اسْم للنيء من مَاء الْعِنَب بَعْدَمَا غلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَسكن عَن الغليان وَصَارَ صافيا وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا غلي وَاشْتَدَّ فَهُوَ خمر وَإِن لم يسكن عَن الغليان
وَأما السكر فَهُوَ النيء من مَاء الرطب بَعْدَمَا غلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَسكن غليانه عِنْده وَعِنْدَهُمَا إِذا غلي وَلم يسكن غليانه
وَأما نَقِيع الزَّبِيب فَهُوَ الزَّبِيب إِذا نقع فِي المَاء حَتَّى خرجت حلاوته إِلَى المَاء من غير طبخ
وَأما نَبِيذ التَّمْر فَيَقَع على المَاء الَّذِي نقع فِيهِ التَّمْر فَخرجت حلاوته ثمَّ اشْتَدَّ وغلي وَقذف بالزبد وَهَذَا الأسم يَقع على الْمَطْبُوخ والنيء مِنْهُ(3/325)
وَأما الفضيخ فَهُوَ الْبُسْر إِذا خرج مِنْهُ المَاء وغلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَذَلِكَ بِأَن يكسر ويدق يُسمى فضيخا لِأَنَّهُ يفضخ أَي يكسر ويرض
وَأما الباذق فَهُوَ اسْم لما طبخ أدنى من مَاء الْعِنَب حَتَّى ذهب أقل من الثُّلثَيْنِ سَوَاء كَانَ أقل من الثُّلُث أَو النّصْف أَو طبخ أدنى طبخه بَعْدَمَا صَار مُسكرا وَسكن عَن الغليان
وَأما الطلاء فَهُوَ اسْم للمثلث وَهُوَ الْمَطْبُوخ من مَاء الْعِنَب بَعْدَمَا ذهب ثُلُثَاهُ وَبَقِي الثُّلُث وَصَارَ مُسكرا
وَأما الجمهوري فَهُوَ الطلاء الَّذِي يلقى فِيهِ المَاء حَتَّى يرق وَيعود إِلَى الْمِقْدَار الَّذِي كَانَ فِي الأَصْل ثمَّ طبخ أدنى طبخه وَصَارَ مُسكرا وَهَذَا بَيَان الْأَسْمَاء
أما بَيَان الْأَحْكَام فَنَقُول أما الْخمر فلهَا أَحْكَام سِتَّة الأول تَحْرِيم شرب قليلها وكثيرها
وَيحرم الِانْتِفَاع بهَا للتداوي وَغَيره
لَكِن عِنْد أبي حنيفَة مَا لم تسكن من الغليان يُبَاح شربهَا وَعِنْدَهُمَا إِذا صَار مُسكرا يحرم شربه وَإِن لم يسكن من الغليان قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حرمت الْخمر لعينها قليلها وكثيرها وَالسكر من كل شراب
وَالثَّانِي تَكْثِير جَاحد حرمتهَا لِأَن حرمتهَا ثبتَتْ بِنَصّ الْكتاب
وَالثَّالِث يحرم تمليكها وتملكها بِسَبَب الْملك من البيع وَالْهِبَة وَغَيرهمَا مِمَّا للعباد فِيهِ صنع
وَالرَّابِع هِيَ نجسه نَجَاسَة غَلِيظَة حَتَّى إِذا أصَاب الثَّوْب أَكثر(3/326)
من قدر الدِّرْهَم يمْنَع جَوَاز الصَّلَاة لقَوْله تَعَالَى {رِجْس من عمل الشَّيْطَان}
وَالْخَامِس يجب الْحَد بِشرب قليلها وكثيرها بِإِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهِ
وَالسَّادِس يجب فِيهِ الْحَد مُقَدرا بِثَمَانِينَ سَوْطًا فِي حق الْأَحْرَار وَفِي حق العبيد نصف ذَلِك
وَأما حكم السكر ونقيع الزَّبِيب وَالتَّمْر من غير طبخ والفضيخ والباذق فواحد وَهُوَ أَنه يحرم شرب قليلها وكثيرها لَكِن هَذِه الْحُرْمَة دون حُرْمَة الْخمر حَتَّى إِن من جحد حُرْمَة هَذِه الْأَشْرِبَة لَا يكفر بِخِلَاف الْخمر
وَكَذَا لَا يجب الْحَد بِشرب قليلها وَإِنَّمَا يجب الْحَد بالسكر
وَقَالَ بعض النَّاس بِإِبَاحَة هَذِه الْأَشْرِبَة مثل بشر المريسي وَغَيره لوُرُود الْأَخْبَار فِي إِبَاحَة شربهَا
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي النَّجَاسَة فَفِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة أَنه نجس الْعين كَالْخمرِ وَيمْنَع من جَوَاز الصَّلَاة مَا كَانَ مُقَدرا بِأَكْثَرَ من قدر الدِّرْهَم وَفِي رِوَايَة ظَاهر
وَعَن أبي يُوسُف أَنه اعْتبر فِيهِ الْكثير الْفَاحِش
أَو مَا بيع هَذِه الْأَشْرِبَة وتمليكها فَجَائِز عِنْد أبي حنيفَة
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يجوز ذَلِك فهما يَقُولَانِ إِن المَال مَا يُبَاح الِانْتِفَاع بِهِ(3/327)
حَقِيقَة وَشرعا وَهَذِه الْأَشْرِبَة لَا يُبَاح شربهَا وَلَا الِانْتِفَاع بهَا شرعا فَلَا تكون مَالا كَالْخمرِ
أَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْأَخْبَار تَعَارَضَت فِي هَذِه الْأَشْرِبَة فِي الْحل وَالْحُرْمَة فَقُلْنَا بِحرْمَة الشّرْب احْتِيَاطًا وَلَا تبطل الْمَالِيَّة الثَّابِتَة فِي الْحَالة الأولى احْتِيَاطًا لِأَن الِاحْتِيَاط لَا يجْرِي فِي إبِْطَال حُقُوق النَّاس
وَأما حكم الطلاء وَحكم مطبوخ التَّمْر وَالزَّبِيب أدنى طبخ على السوَاء فالقليل مِنْهُ حَلَال ظَاهر والمسكر حرَام وَهُوَ الْقدح الَّذِي يسكر
فَإِذا سكر يجب عَلَيْهِ الْحَد
وَيجوز بَيْعه وتمليكه وَيضمن متلفه وَهَذَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة أَنه حرَام شربه لَكِن لَا يجب الْحَد مَا لم يسكر وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَفِي رِوَايَة قَالَ لَا أحرمهُ وَلَكِن لَا أشْرب مِنْهُ وَالصَّحِيح قَوْلهمَا بِاتِّفَاق عَامَّة الصَّحَابَة على إِبَاحَة شربه حَتَّى إِن عِنْد أبي حنيفَة هَذَا من عَلامَة مَذْهَب السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ السّنة أَن تفضل الشَّيْخَيْنِ وتحب الختنين إِلَى أَن قَالَ وَلَا تحرم نَبِيذ الْجَرّ
ثمَّ مَا سوى هَذِه الْأَشْرِبَة مِمَّا يتَّخذ من الْحِنْطَة وَالشعِير والذرة وَالسكر والفانيذ وَالْعَسَل والتين فَهِيَ مُبَاحَة وَإِن سكر مِنْهَا وَلَا حد على من سكر مِنْهَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح من الرِّوَايَة لِأَن هَذِه من جملَة الْأَطْعِمَة وَلَا عِبْرَة بالسكر فَإِن فِي بعض الْبِلَاد قد يسكر الْمَرْء من الْخبز وَنَحْوه والبنج يسكر وَلبن الرمكة يسكر(3/328)
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن الْمُسكر مِنْهُ حرَام كَمَا فِي المثلث وَلَكِن إِذا سكر مِنْهُ لَا حد فِيهِ بِخِلَاف المثلث
ثمَّ حد السكر الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الْحَد وَالْحُرْمَة عِنْد أبي حنيفَة أَن يَزُول عقله بِحَيْثُ لَا يفهم شَيْئا
وَعِنْدَهُمَا إِذا كَانَ غَالب كَلَامه الهذيان
فَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة غَايَة السكر فَاعْتبر الْكَمَال فِي دَرْء الْحَد وَلَو كَانَ الْخمر فِيهَا حموضة غالبة وفيهَا طعم المرارة لكنه مغلوب فَإِنَّهُ لَا يحل مَا لم يزل من كل وَجه
وهما اعتبرا الْغَالِب فَيحل عِنْدهمَا
وَيحرم على الْأَب أَن يسْقِي الصّبيان خمرًا وَعَلِيهِ الْإِثْم فِي الشّرْب
وَكَذَلِكَ لَو سقى الدَّوَابّ حَتَّى سكرت ثمَّ ذَبحهَا لَا يحرم أكل لَحمهَا
وَلَو نقعت فِيهَا الْحِنْطَة ثمَّ غسلت حَتَّى زَالَ طعمها ورائحتها يحل أكلهَا
وَلَو ألْقى فِي الْخمر علاجا من الْملح والمسك وَالْبيض والخل حَتَّى صَارَت حامضا يحل شربهَا عندنَا وَصَارَت خلا
وَعند الشَّافِعِي لَا يحل
ولقب الْمَسْأَلَة أَن تَحْلِيل الْخمر بالعلاج هَل يُبَاح أم لَا وَلَو نقل الْخمر من الظل إِلَى الشَّمْس وَمن الشَّمْس إِلَى الظل حَتَّى تصير حامضا تحل عندنَا وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَالله أعلم(3/329)
كتاب الْحَظْر وَالْإِبَاحَة
سمى مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله ومشايخنا هَذَا الْكتاب
كتاب الِاسْتِحْسَان
لما فِيهِ من الْمسَائِل الَّتِي استحسنها الْعقل وَالشَّرْع
وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي سَمَّاهُ كتاب الْحَظْر وَالْإِبَاحَة لما فِيهِ من بَيَان أَحْكَام الْحَظْر وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة وَالنَّدْب على الْخُصُوص
وَبَدَأَ الْكتاب بِإِبَاحَة الْمس وَالنَّظَر إِلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء فَنَقُول النسوان على أَرْبَعَة أَنْوَاع نوع مِنْهَا الزَّوْجَات والمملوكات بِملك الْيَمين
وَنَوع مِنْهَا الأجنبيات وَذَوَات الرَّحِم الَّتِي لَا يحرم نِكَاحهنَّ
وَنَوع آخر ذَوَات الرَّحِم الْمحرم والمحارم الَّتِي لَا رحم لَهَا كالمحرمة بِالرّضَاعِ والصهرية
وَنَوع آخر مملوكات الْغَيْر
أما النَّوْع الأول فَيحل للزَّوْج وللمالك النّظر والمس من قرنها إِلَى قدمهَا عَن شَهْوَة وَيحل الِاسْتِمْتَاع فِي الْفرج وَمَا دون الْفرج إِلَّا فِي حَالَة الْحيض فَإِنَّهُ لَا يُبَاح الْوَطْء فِي هَذِه الْحَالة مَا لم تطهر
وَهل يُبَاح الْجِمَاع فِيمَا دون الْفرج قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا(3/331)
يُبَاح الِاسْتِمْتَاع إِلَّا فَوق الْإِزَار
وَقَالَ مُحَمَّد يجْتَنب شعار الدَّم وَيحل لَهُ مَا وَرَاء ذَلِك من غير إِزَار
وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي تَفْسِير قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف مَا فَوق الْإِزَار بَعضهم قَالُوا أَرَادَ مَا فَوق السُّرَّة من الْبَطن وَنَحْوه وَلَا يُبَاح مَا دون السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة
وَقَالَ بَعضهم أَرَادَ بِهِ أَنه يحل الِاسْتِمْتَاع مَعَ الْإِزَار لَا مكشوفا
وَكَذَا لَا يحل الِاسْتِمْتَاع بالدبر عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الظَّوَاهِر يُبَاح
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين}
من غير فصل إِلَّا أَن حَالَة الْحيض صَارَت مُسْتَثْنَاة لقَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى}
وَصَارَ الِاسْتِمْتَاع بالدبر مُسْتَثْنى بأجماع الصَّحَابَة وَبِحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من أَتَى حَائِضًا أَو امْرَأَة فِي دبرهَا أَو أَتَى كَاهِنًا فَصدقهُ فِيمَا يَقُول فَهُوَ كَافِر بِمَا أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما النّظر إِلَى عين الْفرج فمباح أَيْضا لِأَن الِاسْتِمْتَاع مُبَاح فالنظر أولى لَكِن لَيْسَ من الْأَدَب النّظر إِلَى فرج نَفسه أَو إِلَى فرجهَا
وأصل ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا نظرت إِلَى مَا مِنْهُ وَمَا نظر إِلَى مَا مني
وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الْمَحَارِم من ذَوَات الرَّحِم والمحارم الَّتِي لَا وَالركبَة وَإِلَى الْبَطن وَالظّهْر وَيُبَاح النّظر إِلَى مَا سوى ذَلِك من الشّعْر والصدر والساعدين والساقين وَنَحْوهَا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن} رحم لَهَا من الأجنبيات فَنَقُول(3/332)
النّظر حرَام إِلَى هَؤُلَاءِ إِلَى مَا بَين السُّرَّة {إِلَّا لبعولتهن}
وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ غَالب رَأْيه أَنه لَا يَشْتَهِي
فَأَما إِذا كَانَ غَالب حَاله أَنه يَشْتَهِي فَلَا يُبَاح لَهُ النّظر
وَمَا عرفت من الْجَواب فِي حق النّظر فَهُوَ الْجَواب فِي حق الْمس أَنه لَا يُبَاح لَهُ مس الْأَعْضَاء الَّتِي لَا يُبَاح لَهُ النّظر إِلَيْهَا وَيُبَاح مس الْأَعْضَاء الَّتِي يُبَاح لَهُ النّظر إِلَيْهَا
وَهَذَا إِذا كَانَت الْأَعْضَاء مكشوفة
فَأَما إِذا كَانَت مَعَ الثِّيَاب وَاحْتَاجَ ذُو الرَّحِم الْمحرم إِلَى مس هَذِه الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة وَرَاء الثَّوْب للإركاب والإنزال والوضع فِي الْقَبْر واللحد فَلَا بَأْس بذلك إِذا كَانَ لَا يَشْتَهِي لأجل الْحَاجة
وَأما النَّوْع الثَّالِث وَهُوَ مملوكات الْغَيْر فَحكمهَا وَحكم ذَوَات الرَّحِم الْمحرم فِي حُرْمَة النّظر والمس سَوَاء
وَأما النَّوْع الرَّابِع وَهُوَ الأجنبيات وَذَوَات الرَّحِم بِلَا محرم فَإِنَّهُ يحرم النّظر إِلَيْهَا أصلا من رَأسهَا إِلَى قدمهَا سوى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِالنّظرِ إِلَيْهِمَا من غير شَهْوَة فَإِن كَانَ غَالب رَأْيه أَنه يَشْتَهِي يحرم أصلا
وَأما الْمس فَيحرم سَوَاء عَن شَهْوَة أَو عَن غير شَهْوَة وَهَذَا إِذا كَانَت شَابة
فَإِن كَانَت عجوزا فَلَا بَأْس بالمصافحة إِن كَانَ غَالب رَأْيه أَنه لَا(3/333)
يَشْتَهِي
وَلَا تحل المصافحة إِن كَانَت تشْتَهي وَإِن كَانَ الرجل لَا يَشْتَهِي
فَإِن كَانَ عِنْد الضَّرُورَة فَلَا بَأْس بِالنّظرِ وَإِن كَانَ يَشْتَهِي كَالْقَاضِي وَالشَّاهِد ينظر إِلَى وَجههَا عِنْد الْقَضَاء وَتحمل الشَّهَادَة أَو كَانَ يُرِيد تزَوجهَا لِأَن الْغَرَض لَيْسَ هُوَ اقْتِضَاء الشَّهْوَة على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ للْمُغِيرَة بن شُعْبَة لَو نظرت إِلَيْهَا لأحرى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا
وَأما النّظر إِلَى الْقَدَمَيْنِ هَل يحرم ذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان هِيَ عَورَة فِي حق النّظر وَلَيْسَ بِعَوْرَة فِي حق الصَّلَاة
وَكَذَا ذكر فِي الزِّيَادَات إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَيست بِعَوْرَة فِي حق الصَّلَاة
وَذكر ابْن شُجَاع عَن الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا لَيست بِعَوْرَة فِي حق النّظر كالوجه وَالْكَفَّيْنِ
وَأما الرِّجَال فِي حق الرِّجَال فَيُبَاح لكل وَاحِد النّظر إِلَى الآخر سوى مَا بَين الرّكْبَة إِلَى السُّرَّة
وَالركبَة عَورَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ والسرة لَيست بِعَوْرَة عندنَا وَعِنْده عَورَة
وَكَذَلِكَ النِّسَاء فِي حق النِّسَاء يُبَاح النّظر إِلَى جَمِيع الْأَعْضَاء سوى مَا بَين الرّكْبَة إِلَى السُّرَّة
وَمَا يُبَاح النّظر يُبَاح الْمس من غير شَهْوَة
وَلَا يُبَاح الْمس وَالنَّظَر إِلَى مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة إِلَّا فِي حَالَة الضَّرُورَة بِأَن كَانَت الْمَرْأَة ختانة تختن النِّسَاء أَو كَانَت تنظر إِلَى الْفرج لمعْرِفَة الْبكارَة أَو كَانَ فِي مَوضِع الْعَوْرَة قرح أَو جرح يحْتَاج إِلَى التَّدَاوِي وَإِن كَانَ لَا يعرف ذَلِك إِلَّا الرجل يكْشف ذَلِك الْموضع الَّذِي فِيهِ جرح وقرح فَينْظر إِلَيْهِ ويغض الْبَصَر مَا اسْتَطَاعَ(3/334)
وَكَذَا يُبَاح للنِّسَاء النّظر إِلَى الرِّجَال إِلَّا فِيمَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة لِأَن هَذَا لَيْسَ بِعَوْرَة فَإِن الرِّجَال قد يكونُونَ فِي إِزَار وَاحِد فِي الْأَسْوَاق وَلم يُنكر عَلَيْهِم أحد(3/335)
بَاب آخر قَالَ رجل رأى
إنْسَانا قتل أَبَاهُ عمدا بِالسِّلَاحِ أَو أقرّ عِنْده ثمَّ قَالَ الْقَاتِل إِنَّمَا قتلته لِأَنَّهُ قتل وليي عمدا أَو أَنه ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام وَلم يعرف الابْن ذَلِك إِلَّا بِدَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُبَاح لَهُ أَن يقْتَصّ مِنْهُ لَا يقبل قَوْله لِأَن الْقصاص ثَبت عِنْده لوُجُود الْقَتْل الْعمد ظَاهرا بالعيان أَو بِالْإِقْرَارِ فَإِن الْإِقْرَار حجَّة بِنَفسِهِ وَقَول الْقَائِل يحْتَمل الصدْق وَالْكذب فَلَا يعْتَبر إِلَّا بِحجَّة
وَلَو شهد عِنْده رجلَانِ عَدْلَانِ إِن هَذَا الرجل قتل أَبَاك عمدا بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاح لَهُ أَن يقْتله لِأَن قَول الشَّاهِدين لَا يصير حجَّة بِدُونِ قَضَاء القَاضِي بِخِلَاف الْإِقْرَار والعيان
وَلَو شهد عِنْد الابْن شَاهِدَانِ على دَعْوَى الْقَاتِل أَنه قَتله بِحَق ينظر إِن كَانَ بِحَال لَو شَهدا عِنْد القَاضِي فَالْقَاضِي يقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يتعجل بِالْقَتْلِ بل يتَوَقَّف إِلَى أَن يشهدَا عِنْد القَاضِي
وَإِن كَانَ بِحَال لَا يقبل القاضى قَوْلهمَا يُبَاح لَهُ أَن يقْتله للْحَال بَيَانه إِذا كَانَ الشَّاهِدَانِ محدودين فِي الْقَذْف أَو فاسقين أَو النِّسَاء وحدهن فَالْقَاضِي لَا يقْضِي بقَوْلهمْ وَيُبَاح لَهُ أَن يقْتله للْحَال
وَإِن كَانَا رجلَيْنِ عَدْلَيْنِ يتَوَقَّف(3/337)
وَكَذَلِكَ فِي الشَّاهِد الْوَاحِد يتَوَقَّف
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي المحدودين أحب إِلَيّ أَن يتَوَقَّف لِأَن القَاضِي رُبمَا يقبل شَهَادَتهمَا على رَأْي الشَّافِعِي وَيكون اجْتِهَاده يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَرَاهُ حَقًا وصوابا وَقَضَاء القَاضِي فِي فصل مُخْتَلف فِيهِ جَائِز
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِقين وَالنِّسَاء وحدهن يجب أَن يكون الْجَواب كَذَلِك عِنْده لِأَن ذَلِك فصل مُخْتَلف فِيهِ أَيْضا
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِيمَا إِذا رأى إنْسَانا أَخذ مَال أَبِيه أَو أقرّ عِنْده ثمَّ قَالَ كَانَ ذَلِك عِنْده وَدِيعَة لي فَأَخَذته أَو كَانَ لي عَلَيْهِ دين فاقتضيته فَلهُ أَن يَأْخُذهُ
وَلَو شهد رجلَانِ عِنْده بذلك لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ لما قُلْنَا
وَلَو أَن القَاضِي إِنَّمَا قضى فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ وَهُوَ من أهل الِاجْتِهَاد بِرَأْيهِ والمقضى عَلَيْهِ فَقِيه مُجْتَهد يرى بِخِلَاف مَا يقْضِي بِهِ القَاضِي فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتْرك رَأْيه بِرَأْي القَاضِي سَوَاء كَانَ ذَلِك من بَاب الْحل أَو الْحُرْمَة أَو الْملك أَو الطَّلَاق أَو الْعتاق وَنَحْوه لِأَن قَضَاء القَاضِي فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ ينفذ بِإِجْمَاع الْأمة لِأَن رَأْيه ترجح بِولَايَة القَاضِي وَهَذَا قَول مُحَمَّد
وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف فِيمَا لَيْسَ من بَاب الْحُرْمَة فَأَما إِذا كَانَ من بَاب الْحُرْمَة فَيتبع رَأْي نَفسه احْتِيَاطًا فِي بَاب الْحُرْمَة بَيَانه رجل قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَلْبَتَّة وَهُوَ رجل فَقِيه فِي زَعمه واجتهاده أَنه طَلَاق ثَلَاث أَو بَائِن فَرفعت الْمَرْأَة الْأَمر إِلَى القَاضِي ورأيه أَنه طَلَاق وَاحِد يملك الرّجْعَة فَقضى بِالْحلِّ للْمَرْأَة عَلَيْهِ يحل للزَّوْج وَطْؤُهَا وَيصير رَأْيه متروكا بِرَأْي القَاضِي عِنْد مُحَمَّد وَعند أبي يُوسُف بِخِلَافِهِ(3/338)
وَلَو كَانَ رَأْي الزَّوْج أَن هَذَا طَلَاق رَجْعِيّ ورأي القَاضِي أَنه طَلَاق بَائِن أَو ثَلَاث فَقضى بِالْحُرْمَةِ يحرم عَلَيْهِ وَطْؤُهَا فِي الْقَوْلَيْنِ
وَلَو كَانَ الرجل الْمُطلق لَيْسَ بفقيه فَأفْتى لَهُ الْفُقَهَاء بِأَن هَذَا طَلَاق محرم وَرفعت الْأَمر إِلَى القَاضِي وَقضى القَاضِي بِالْحلِّ يحل لَهُ وَطْؤُهَا لِأَن فَتْوَى الْفُقَهَاء للمطلق بِمَنْزِلَة الِاجْتِهَاد مِنْهَا فَيجب عَلَيْهِ ترك الْفَتْوَى بِرَأْي القَاضِي عِنْد مُحَمَّد خلافًا لأبي يُوسُف
وَإِذا كَانَت الْمَسْأَلَة على الْعَكْس فَالْجَوَاب كَذَلِك أَنه يتبع رَأْي القَاضِي من الْقَوْلَيْنِ
وَلَو أَن فَقِيها مُجْتَهدا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَلْبَتَّة ورأيه أَنه ثَلَاث وعزم على الْحُرْمَة وأمضى رَأْيه فِيمَا بَينه وَبَينهَا وأجنب عَنْهَا ثمَّ تحول رَأْيه إِلَى أَنه طَلَاق يملك الرّجْعَة يجب الْعَمَل بِالرَّأْيِ الأول فِي حق هَذِه الْمَرْأَة حَتَّى لَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاح جَدِيد أَو بعد الزَّوْج الثَّانِي وبالرأي الثَّانِي فِي الْمُسْتَقْبل فِي حَقّهَا وَفِي حق غَيرهَا لِأَن مَا أمضى بِالِاجْتِهَادِ لَا ينْقض بِاجْتِهَاد مثله
وَلَو لم يعزم على الْحُرْمَة وَلم يمض اجْتِهَاده بَينه وَبَينهَا حَتَّى تحول رَأْيه إِلَى الْحل وَأَنه طَلَاق رَجْعِيّ لَهُ أَن يَطَأهَا وَلَا تقع الْفرْقَة لِأَنَّهُ لم يُوجد إِمْضَاء الِاجْتِهَاد الأول فَصَارَ كَالْقَاضِي إِذا كَانَ رَأْيه التَّحْرِيم فَقيل أَن يقْضِي تحول رَأْيه إِلَى الْحل يعْمل بِالرَّأْيِ الثَّانِي وَيَقْضِي بِالْحلِّ فِي حق هَذِه الْمَرْأَة فَكَذَا هَذَا(3/339)
بَاب آخر مِنْهُ لَا خلاف
بَين الْأمة فِي إِبَاحَة اسْتِعْمَال الْحَرِير للنِّسَاء لبسا واستفراشا وجلوسا عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك
فَأَما فِي حق الرِّجَال فاللبس حرَام بِالْإِجْمَاع بِأَن جعله قبَاء أَو قيمصا أَو قلنسوة وَهُوَ حَرِير خَالص فِي غير حَالَة الْحَرْب
فَأَما فِي حَال الْحَرْب فَكَذَلِك عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يُبَاح اللّبْس فِي حَال الْحَرْب
وَهَذَا إِذا كَانَ كُله حَرِيرًا
فَأَما إِذا كَانَ لحْمَته حَرِيرًا فَلَا يكره فِي الْحَرْب بِالْإِجْمَاع وَيكرهُ فِي غَيره
وَإِذا كَانَ السدى حَرِيرًا لَا غير لَا يكره بِالْإِجْمَاع
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام على مَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ حَرِيرًا بِشمَالِهِ وذهبا بِيَمِينِهِ وَرفع بهما يَدَيْهِ وَقَالَ إِن هذَيْن حرَام على ذُكُور أمتِي حل لإناثها ف أَبُو حنيفَة أَخذ بِعُمُوم الحَدِيث وَلم يفصل بَين الْحَرْب وَغَيره
وهما قَالَا بِالْإِبَاحَةِ فِي حق أهل الْحَرْب لِأَن لِبَاس الْحَرِير أهيب لِلْعَدو وَأثبت للسلاح فخصا أهل الْحَرْب من عُمُوم الحَدِيث وَلَكِن أَبَا حنيفَة قَالَ هَذَا الْمَعْنى يحصل بِمَا إِذا كَانَ لحْمَته حَرِيرًا فَلَا ضَرُورَة فِي الْحَرِير الْخَالِص
وَأما لِبَاس الصّبيان والمجانين فَحَرَام على الْأَوْلِيَاء ويأثمون(3/341)
بذلك
أما لَا حُرْمَة فِي حَقهم فَلِأَنَّهُ لَا خطاب عَلَيْهِم
وَأما النّوم على الْحَرِير واستعماله فِي الْجُلُوس عَلَيْهِ والاتكاء عَلَيْهِ فَجَائِز عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيم بِخِلَاف اللبَاس
وَعِنْدَهُمَا لَا يجوز للرِّجَال أَيْضا لِأَنَّهُ لِبَاس الْكَفَرَة من الْأَعَاجِم
وَلَكِن الْقَلِيل من الْحَرِير عَفْو فِي حق اللّبْس وَذَلِكَ مِقْدَار ثَلَاث أَصَابِع أَو أَربع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لبس فَرْوَة أطرافها من حَرِير وَكَذَلِكَ الْعلم فِي الثِّيَاب مُعْتَاد من غير نَكِير من أحد فَيكون إِجْمَاعًا
وَأما اسْتِعْمَال الذَّهَب وَالْفِضَّة بطرِيق التحلي فمباح فِي حق النِّسَاء وَفِي حق الرِّجَال حرَام سوى التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ
لما روينَا من الحَدِيث وَجَاءَت الرُّخْصَة فِي الْخَاتم
وَأما اسْتِعْمَال الْأَوَانِي من الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي الشّرْب وَالْأكل والأدهان وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يسْتَعْمل فِي الْبدن فَحَرَام فِي حق الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا حَتَّى المكحلة والمرآة والمجمر وَنَحْوهَا وَكَذَلِكَ الركاب واللجام والثفر والكرسي والسرير وَنَحْوهَا
أما إِذا كَانَ ففا أَو مضببا فَلَا بَأْس بِاسْتِعْمَالِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ على السَّيْف
وَعِنْدَهُمَا يكره ذَلِك كُله لِأَن الذَّهَب وَالْفِضَّة صَارا من أَجزَاء ذَلِك الشَّيْء
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّه تبع لما لَيْسَ بِذَهَب وَفِضة والعبر للْأَصْل وَهَذَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
وَفِي رِوَايَة إِذا كَانَ فَمه عِنْد الشّرْب يَقع على الْعود لَا يكره وَإِن كَانَ يَقع على الْفضة يكره
وَكَذَا إِذا كَانَ الْجُلُوس على الْكُرْسِيّ المف وَالْمذهب على هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ إِن كَانَ الْجُلُوس على مَوضِع الْعود لَا يكره وَإِن كَانَ على الْفضة يكره
وَفِي رِوَايَة لَا يكره أصلا(3/342)
وهما رخصا فِي الْمُصحف فِي رِوَايَة
وَفِي رِوَايَة يكره فِي الْمُصحف أَيْضا
وَهَذَا إِذا كَانَ الذَّهَب مِمَّا يخلص بالإذابة
فَأَما إِذا كَانَ مموها بِمَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فَلَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ لَا يخلص عِنْد الإذابة
وَكَذَا كِتَابَة الذَّهَب وَالْفِضَّة على الثِّيَاب فعلى هَذَا الِاخْتِلَاف
وَإِذا جدع أَنفه فَجعل أنفًا من فضَّة لإِزَالَة الشين لَا يكره وَلَو جعل من الذَّهَب لَا يكره أَيْضا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ من الْفضة ينتن فَرخص فِي ذَلِك وَفِي عين هَذَا ورد الْأَثر
وَلَو تحرّك سنه فشدها بِذَهَب أَو فضَّة فَلَا بَأْس بِهِ عِنْد أبي حنيفَة
وَفِي الْجَامِع الصَّغِير لَا يشدها بِالذَّهَب
وَعند مُحَمَّد لَا بَأْس بِهِ
وَكَانَ أَبُو حنيفَة لَا يرى بَأْسا بشدها بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى الذَّهَب
وَلَو خيف سُقُوط الفص من خَاتم الْفضة فَشد بمسمار من ذهب فَلَا بَأْس بِهِ بالِاتِّفَاقِ لأجل الضَّرُورَة
وَلَو سَقَطت سنّ إِنْسَان وَأَرَادَ أَن يُعِيدهَا ويشدها بِالذَّهَب وَالْفِضَّة يكره عِنْد أبي حنيفَة كَمَا لَو وضع سنّ ميت آخر يكره
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا بَأْس بِإِعَادَة سنه مَكَانهَا وَلَا يشبه سنه سنّ ميت آخر وَبَينهمَا فصل عِنْدِي وَإِن لم يحضرني ذَلِك
ثمَّ ذكر فِي الْكتاب مسَائِل ذكرهَا مُتَفَرِّقَة فِي الْكتب وَقد جمعهَا هَاهُنَا وَقد ذَكرنَاهَا فِي موَاضعهَا فَلَا نعيدها وَنَذْكُر بعض مَا لم نذكرهُ
وَمِنْهَا أَنه يكره شرب لبن الأتان للتداوي بالِاتِّفَاقِ أما عِنْد أبي حنيفَة فَلَا يشكل كَمَا فِي بَوْل مَا يُؤَكد لَحْمه
وَأَبُو يُوسُف فرق(3/343)
وَقَالَ الأَصْل هُوَ الْكَرَاهَة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم عَلَيْكُم وَلَكِن فِي الْبَوْل ورد حَدِيث خَاص فَبَقيَ الْبَاقِي على الأَصْل
وَقَالَ لَا بَأْس بعيادة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ للْحَدِيث الْوَارِد فِيهِ وَلأَجل إلْف أهل الذِّمَّة خُصُوصا فِي حَال الْمَرَض مِمَّا يَدعُوهُم إِلَى الدّين الْحق
أما السَّلَام فَقَالُوا يكره لما فِيهِ من التَّعْظِيم وتعظيمهم مَكْرُوه
وَأما رد السَّلَام فَلَا بَأْس بِهِ لِأَن الِامْتِنَاع من ذَلِك يؤذيهم وَالْإِحْسَان فِي حَقهم مَنْدُوب لَكِن يَنْبَغِي أَن لَا يزِيد على قَوْله وَعَلَيْكُم لِأَنَّهُ قيل إِنَّهُم يَقُولُونَ السام عَلَيْكُم فيجابون بقوله وَعَلَيْكُم بطرِيق المجازاة
وَهل يكره منع هَؤُلَاءِ من الدُّخُول فِي الْمَسَاجِد قَالَ مَالك يمْنَعُونَ عَن دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام وَعَن كل مَسْجِد
وَقَالَ الشَّافِعِي يمْنَعُونَ عَن دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام لَا غير
وَعِنْدنَا لَا يمْنَعُونَ عَن دُخُول شَيْء من الْمَسَاجِد وَذَلِكَ لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يدْخلُونَ الْمَسْجِد الْحَرَام عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعرض الْإِسْلَام عَلَيْهِم وَنَحْو ذَلِك
وَيكرهُ للْمَرْأَة أَن تصل شعرهَا الْمَقْطُوع بشعرها وَكَذَا بِشعر غَيرهَا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة
وَلَا بَأْس بِأَن تصل شعرهَا بِشعر الْبَهِيمَة لِأَن ذَلِك من بَاب الزِّينَة وَهِي غير مَمْنُوعَة عَنْهَا للزَّوْج
وَيكرهُ اللّعب بالنرد وَالشطْرَنْج
وَالْأَرْبَعَة عشر وكل لَهو لقَوْله(3/344)
عَلَيْهِ السَّلَام مَا أَنا من دَد وَلَا الدَّد مني
وَبَعض أَصْحَاب الحَدِيث أباحوا اللّعب بالشطرنج لما فِيهِ من تشحيذ الخاطر
وَلَكِن الصَّحِيح هُوَ الْكَرَاهَة على مَا روينَا كل لعب حرَام إِلَّا ثَلَاثَة
وَهَذَا إِذا لم يكن فِيهِ قمار
فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ قمار فَهُوَ حرَام مَحْض لثُبُوت حرمته بِنَصّ الْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ}
وَلَو أَن حَامِلا مَاتَت وَفِي بَطنهَا ولد يضطرب فَإِن كَانَ غَالب الظَّن أَنه ولد حَيّ وَهُوَ فِي مُدَّة يعِيش غَالِبا فَإِنَّهُ يشق بَطنهَا لِأَن فِيهِ إحْيَاء الْآدَمِيّ بترك تَعْظِيم الْآدَمِيّ وَترك التَّعْظِيم أَهْون من مُبَاشرَة سَبَب الْمَوْت
وَلَو ابتلع إِنْسَان درة رجل فَمَاتَ لم يشق بَطْنه لإِخْرَاج الدرة لِأَن حُرْمَة النَّفس فَوق حُرْمَة المَال
وَإِن كَانَ الَّذِي ابتلع غَنِيا يضمن قيمَة الدرة لصَاحِبهَا
وَإِن كَانَ فَقِيرا فَيكون لَهُ ثَوَاب التَّصَدُّق بهَا وَالله تَعَالَى أعلم(3/345)
كتاب السَّبق
قَالَ لَا بَأْس بالمسابقة فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء فِي النصل والحافر والخف والقدم لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ كل لعب حرَام إِلَّا ثَلَاث ملاعبة الرجل أَهله ورميه عَن قوسه وتأديبه فرسه
وَتَفْسِير الْمُسَابقَة فِي النصل هُوَ الرَّمْي بِالسِّهَامِ والرماح وكل سلَاح يُمكن أَن يرْمى بِهِ
فَكَانَت الْمُسَابقَة بذلك من بَاب تعلم أَسبَاب الْجِهَاد فَكَانَ مرخصا وَإِن كَانَ فِي الأَصْل من اللّعب
وَتَفْسِير الْمُسَابقَة بالحافر هُوَ عَدو الْفرس وَالْحمار والبغل
وَالْمرَاد بالخف هُوَ الْإِبِل وَالْبَقر لِأَنَّهُ قد يركب عَلَيْهَا فِي بَاب الْجِهَاد بعض النَّاس
وَالْمرَاد بالمسابقة بالقدم هُوَ الْمَشْي بالقدم وَهَذَا مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ للكر وللفر فِي الْجِهَاد
فَكَانَ من رياضة النَّفس
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت سابقت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فسبقته فَلَمَّا حملت اللَّحْم سابقته فَسَبَقَنِي فَقلت هَذِه بِتِلْكَ
ثمَّ الْمُسَابقَة على أَرْبَعَة أوجه فَثَلَاثَة أوجه مِنْهَا حَلَال وَالرَّابِع حرَام
أما أحد الْأَوْجه الْحَلَال بِأَن كَانَ السُّلْطَان أَو أحد من الرؤساء إِذا(3/347)
قَالَ لجَماعَة من الفرسان أَو لاثْنَيْنِ من سبق مِنْكُم فَلهُ كَذَا أَو إِن سبق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَمن سبق جعل لَهُ خطر
وَكَذَا إِذا قَالَ لجَماعَة من الرُّمَاة إِلَى الهدف من أصَاب مِنْكُم الهدف فَلهُ كَذَا لِأَن هَذَا تحريض لَهُم على فعل هُوَ سَبَب الْجِهَاد فِي الْجُمْلَة
وَالتَّرْجِيح من الإِمَام فِي الْغَنِيمَة لبَعض الْغُزَاة تحريضا لَهُم على الْجِهَاد جَائِز بِأَن قَالَ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وَمن دخل الْحصن أَولا فَلهُ من النَّفْل كَذَا مَعَ أَن الْغَنِيمَة حق الْغُزَاة فِي الْجُمْلَة فَهَذَا يُعْطي من مَاله فأحق بِالْجَوَازِ
وَالثَّانِي أَن يسابق رجلَانِ أَو يسابق جمَاعَة فِي السِّهَام أَو فِي الْفرس أَو الْمَشْي بالقدم وَقَالَ لصَاحبه إِن سبقتني فلك كَذَا وَإِن سبقتك فَلَا شَيْء عَلَيْك فَهَذَا مُبَاح لِأَن الْخطر فِيهِ من أحد الْجَانِبَيْنِ
وَالثَّالِث إِن كَانَ الْخطر من الِاثْنَيْنِ أَو من الْجَمَاعَة وَمَعَهُمْ مُحَلل يَأْخُذ خطرهم إِن سبق وَلَا يغرم وَإنَّهُ سبق فَهَذَا جَائِز
الرَّابِع أَن يكون الْخطر من كل وَاحِد على أَنه إِن سبق فَلهُ الْخطر وَإِن سبق فَيغرم لصَاحبه مثله فَهَذَا لَا يجوز لِأَن هَذَا من بَاب الْقمَار وَإِن حرَام
ثمَّ إِنَّمَا يجوز الرِّهَان والمسابقة فِيمَا يجوز أَن يسْبق أَحدهمَا ويسبق الآخر
فَأَما إِذا كَانَ فِي مَوضِع يعلم من حَيْثُ الْغَالِب أَنه يسْبق أَحدهمَا فَإِن ذَلِك لَا يجوز لِأَن هَذَا إِيجَاب المَال للْغَيْر على نَفسه بِشَرْط لَا مَنْفَعَة لَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا جَوَّزنَا ذَلِك فِي الْفَصْل الأول لِأَنَّهُ تحريض على مُبَاشرَة سَبَب الْجِهَاد فِي الْجُمْلَة(3/348)
كتاب الْمَفْقُود
قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير الْمَفْقُود وَإِلَى بَيَان أَحْكَامه على الْخُصُوص
أما الأول فالمفقود هُوَ الَّذِي غَابَ عَن بَلَده بِحَيْثُ لَا يعرف أَثَره وَمضى على ذَلِك زمَان وَلم يظْهر أَثَره
وَأما حكمه فنوعان أَحدهمَا فِي الْحَال وَالثَّانِي فِي الْمَآل
أما حكم الْمَآل إِذا تطاول الزَّمَان بَعْدَمَا فقد من وَقت وِلَادَته بِحَيْثُ لَا يعِيش مثله إِلَى ذَلِك الزَّمَان بِيَقِين أَو من حَيْثُ الْغَالِب يحكم بِمَوْتِهِ
وَتَقَع الْفرْقَة بَينه وَبَين نِسَائِهِ
وَيعتق أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبروه
وَيقسم مَاله بَين ورثته
وَلَا يَرث هُوَ من أحد
وَلم يقدر فِي ظَاهر الرِّوَايَة تَقْديرا فِي ذَلِك
وروى ابْن زِيَاد عَن أبي حنيفَة أَنه قدر ذَلِك بِمِائَة وَعشْرين سنة من وَقت الْولادَة(3/349)
وَأما حكم الْحَال فَهُوَ أَن القَاضِي هُوَ الْحَافِظ لمَاله والمتصرف فِيهِ فِيمَا يرجع إِلَى الْحِفْظ
فَإِن كَانَ شَيْئا مِمَّا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد فَإِنَّهُ يَبِيعهُ ويحفظ ثمنه
وَكَذَا إِذا كَانَ عرُوضا وَحفظ الثّمن أيسر فَلَا بَأْس بِبيعِهِ
وَلَا يَبِيع الْعقار أصلا
وَإِن كَانَ لَهُ ودائع يتْرك فِي أَيْديهم لكَوْنهم أُمَنَاء مَا دَامَ الْمَفْقُود فِي حكم الْأَحْيَاء
ثمَّ إِن لَهُ أَن ينْفق من مَاله على نِسَائِهِ إِن كَانَ يعلم بِبَقَاء النِّكَاح بَينهمَا
وَكَذَا على أَوْلَاده الصغار والذكور الْكِبَار الزمنى وَالْإِنَاث
وَإِن لم يكن لَهُ مَال وَله ودائع فَإِنَّهُ ينْفق من ذَلِك إِذا كَانَ من جنس الطَّعَام وَالثيَاب وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير
وَلَا يَبِيع الْعرُوض للنَّفَقَة على هَؤُلَاءِ وَلَكِن للْأَب أَن يَبِيع الْعرُوض فِي نَفَقَته لِأَن للْأَب ولَايَة التَّصَرُّف فِي مَال الابْن فِي الْجُمْلَة وَإِن لم يكن من بَاب الْحِفْظ بِخِلَاف القَاضِي
وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُودع مقرا بالوديعة وبالنكاح وبالنسب
فَأَما إِذا كَانَ مُنْكرا فَإِنَّهُ لَا يسمع عَلَيْهِ الْخُصُومَة فِي إِثْبَات المَال وَلَا فِي إِثْبَات النِّكَاح وَالنّسب لِأَن هَذَا قَضَاء على الْغَائِب من غير أَن يكون عَنهُ خصم حَاضر وَإنَّهُ غير جَائِز عندنَا
وَلَو مَاتَ وَاحِد من أقربائه فَإِنَّهُ لَا يَرث حَتَّى لَا يَأْخُذ القَاضِي حِصَّته من تَرِكَة الْمَيِّت فيحفظ على الْمَفْقُود وَلَكِن يُوقف حَتَّى يظْهر أمره لِأَنَّهُ حَيّ من حَيْثُ الظَّاهِر وَالظَّاهِر لَا يصلح حجَّة لاسْتِحْقَاق أَمر لم يكن وَلَكِن لما كَانَت الْحَيَاة ثابته ظَاهرا اعْتبر فِي حق التَّوَقُّف(3/350)
كتاب اللَّقِيط واللقطة
وَجعل الْآبِق قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير اللَّقِيط واللقطة والآبق والضالة وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا على الْخُصُوص
أما الأول فَنَقُول أما اللَّقِيط فَمَا يلتقط وَيُؤْخَذ مِمَّا طرح على الأَرْض من صغَار بني آدم
واللقطة مَا يلتقط مِمَّا يُوجد مطروحا على الأَرْض من الْأَمْوَال من غير الْحَيَوَان
والآبق هُوَ الْمَمْلُوك الَّذِي فر من صَاحبه قصدا
والضالة هِيَ الدَّابَّة الَّتِي ندت وضلت الطَّرِيق إِلَى مربطها
وَأما الثَّانِي فَنَقُول أما حكم اللَّقِيط فَنَقُول إِن اللَّقِيط يُسَاوِي الصَّبِي الَّذِي لَيْسَ بلقيط فِي عَامَّة الْأَحْكَام
وَله أَحْكَام على الْخُصُوص(3/351)
مِنْهَا أَن الْتِقَاطه وَاجِب على كل من وجده لِأَن فِي تَركه ضيَاعه فَيجب عَلَيْهِ صيانته
وَمِنْهَا أَنه إِذا التقطه فَإِن شَاءَ تبرع بتربيته والإنقاف عَلَيْهِ وَإِن شَاءَ رفع الْأَمر إِلَى السُّلْطَان ليأمر بتربيته أحدا من مَال بَيت المَال والإنفاق عَلَيْهِ لِأَن بَيت المَال معد لحوائج جَمِيع الْمُسلمين
وَهَذَا إِذا لم يكن لَهُ مَال
فَإِن كَانَ لَهُ مَال بِأَن وجد الْمُلْتَقط مَعَه مَالا فَيكون مَال اللَّقِيط فنفقته من ذَلِك المَال لِأَنَّهُ غير مُحْتَاج فَلَا يثبت حَقه فِي بَيت المَال
وَلَو أنْفق عَلَيْهِ الْمُلْتَقط ليرْجع عَلَيْهِ بعد بُلُوغه فَإِن كَانَ بِإِذن القَاضِي لَهُ أَن يرجع وَإِلَّا فَيكون مُتَبَرعا
وَمِنْهَا أَن الْولَايَة عَلَيْهِ للسُّلْطَان فِي حق الْحِفْظ وَفِي حق التَّزْوِيج لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ وَلَيْسَ للملتقط ولَايَة التَّزْوِيج
وَإِذا زوجه السُّلْطَان فالمهر فِي بَيت المَال إِلَّا إِذا كَانَ للقيط مَال فَيكون فِي مَاله
وَمِنْهَا الولا فَيكون وَلَاؤُه لبيت المَال حَتَّى إِنَّه إِذا جنى على إِنْسَان خطأ فَإِن ذَلِك يكون فِي بَيت المَال لِأَن عَاقِلَته جَمِيع الْمُسلمين فَيكون عقله من مَالهم وَهُوَ مَال بَيت المَال
وَكَذَلِكَ مِيرَاثه لبيت المَال إِذا لم يظْهر لَهُ وَارِث
وَمِنْهَا حكم الْحُرِّيَّة فَهُوَ حر من حَيْثُ الظَّاهِر لِأَن دَار الْإِسْلَام دَار حريَّة فيبني على الظَّاهِر
وَلَو ادّعى الْمُلْتَقط أَنه عَبده فَإِن لم يقر بِأَنَّهُ لَقِيط فَالْقَوْل قَوْله لِأَن الصَّغِير لَا يَد لَهُ فَهُوَ وَسَائِر الْأَمْوَال سَوَاء فَإِذا كَانَ فِي يَده فَهُوَ(3/352)
ملكه ظَاهرا فَيكون القَوْل قَوْله
فَأَما إِذا أقرّ أَنه لَقِيط فَلَا يَصح دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ ثبتَتْ حُرِّيَّته ظَاهرا
وَلَو بلغ اللَّقِيط وَأقر أَنه عبد فلَان إِن لم يجز عَلَيْهِ حكم الْأَحْرَار من قبُول شَهَادَته وَضرب قَاذفه وَنَحْو ذَلِك يَصح إِقْرَاره
وَإِن أجْرى عَلَيْهِ من أَحْكَام الْحُرِّيَّة شَيْء لَا يَصح
وَمِنْهَا حكم النّسَب إِذا ادّعى الْمُلْتَقط أَو غَيره أَنه ابْنه وَالْمُدَّعِي مُسلم أَو ذمِّي فَالْقِيَاس أَن لَا يَصح دَعْوَاهُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَفِي الِاسْتِحْسَان يَصح لِأَن فِي هَذَا نفع للصَّغِير
وَلَو ادَّعَاهُ رجلَانِ أَحدهمَا مُسلم وَالْآخر ذمِّي فَإِنَّهُ يثبت نسبه من الْمُسلم
وَلَو ادّعى الْمُسلم أَنه عَبده وَالذِّمِّيّ أَنه ابْنه فَإِنَّهُ يثبت نسبه من الذِّمِّيّ حَتَّى يثبت لَهُ الْحُرِّيَّة وَيكون مُسلما لِأَن حكمه حكم دَار الْإِسْلَام
وَلَو كَانَا مُسلمين وَأَحَدهمَا عبد مَأْذُون أَو مكَاتب فالنسب يثبت من الْحر
وَلَو كَانَا حُرَّيْنِ مُسلمين فَإِن لم يكن لَهما بَيِّنَة وَلم يذكر أَحدهمَا عَلامَة أَو ذكرا جَمِيعًا الْعَلامَة أَو أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَة فَهُوَ بَينهمَا
وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا بَيِّنَة أَو ذكر الْعَلامَة وَلم يكن للْآخر ذَلِك فَالْأول أولى لِأَنَّهُ ترجح جَانِبه بمرجح
وَإِن ادَّعَت امْرَأَة اللَّقِيط أَنه ابْنهَا فَإِن لم يكن لَهَا زوج لَا يَصح لِأَن فِي ذَلِك حمل النّسَب على الْغَيْر وَإِن كَانَ لَهَا زوج فصدقها أَو شهِدت لَهَا الْقَابِلَة أَو شَاهِدَانِ يثبت النّسَب بَينهمَا(3/353)
وَلَو ادَّعَت امْرَأَتَانِ فَإِن لم يكن لَهما بَيِّنَة لَا تقبل
وَإِن أَقَامَا الْبَيِّنَة على أَنه ابْنهَا من فلَان فَعَن أبي حنيفَة أَنه يقبل مِنْهُمَا وَمن الرجل
وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة أبي حَفْص يَجْعَل ابنهما وَفِي رِوَايَة أبي سُلَيْمَان لَا يَجْعَل ابنهما
وَأما حكم الْإِسْلَام فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَصْحَابنَا فَفِي ظَاهر الرِّوَايَات اعْتبر الْمَكَان دون الْوَاجِد فَإِن وجد فِي دَار الْإِسْلَام يكون مُسلما
وَإِن وجد فِي كَنِيسَة الْيَهُود أَو فِي بيعَة النَّصَارَى أَو فِي قَرْيَة كلهم أهل الذِّمَّة فَهُوَ تبع لَهُم
وَفِي رِوَايَة اعْتبر الْوَاجِد كَيْفَمَا كَانَ دون الْمَكَان
وَفِي رِوَايَة اعْتبر جَانب الْإِسْلَام إِمَّا الْوَاجِد أَو الْمَكَان
وَأما حكم اللّقطَة على الْخُصُوص فَمِنْهَا أَن من ظفر على لقطَة فالأخذ أولى
أما التّرْك فَقَالُوا إِن كَانَ يَأْمَن على نَفسه أَنه يعرفهَا ويردها على صَاحبهَا وَلَا محَالة أَو غَالِبا فالأخذ أولى لِأَنَّهُ رُبمَا يَأْخُذهُ فَاسق لَو تَركه
وَأما إِذا كَانَ لَا يَأْمَن على نَفسه فالترك أولى لِأَن صيانه نَفسه عَن الْوُقُوع فِي الْفساد أولى مَعَ احْتِمَال أَن يَأْخُذهُ مصلح فيصل إِلَى صَاحبه أَيْضا
وَإِذا أَخذ وَأَرَادَ أَن يَضَعهَا مَكَانهَا وَنَدم على الْأَخْذ فوضعها هَل يضمن فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يضمن وَفِي بعض الرِّوَايَات يضمن وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَلَو دَفعهَا إِلَى غَيره بِغَيْر إِذن القَاضِي فَإِنَّهُ يضمن لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ حفظهَا بِنَفسِهِ بالتزامه الْحِفْظ بالالتقاط
وَلَو هكلت فِي يَده فَإِن أشهد على اللّقطَة بِأَن قَالَ للنَّاس إِنِّي(3/354)
وجدت لقطَة فَمن طلبَهَا فدلوه عَليّ فَإِنَّهُ لَا يضمن
وَلَو لم يشْهد فَعِنْدَ أبي حنيفَة يضمن وَعِنْدَهُمَا لَا يضمن إِذا كَانَ أَخذه ليَرُدهُ إِلَى صَاحبه وَيحلف على ذَلِك إِن لم يصدقهُ صَاحبه
ثمَّ الْمُلْتَقط إِذا أَخذه ليَرُدهُ إِلَى صَاحبه وَأشْهد يَنْبَغِي أَن يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي فَإِن كَانَت اللّقطَة حَيَوَانا فَالْقَاضِي يَأْمُرهُ حَتَّى يؤاجرها فَتكون نَفَقَتهَا ومؤونتها من الْأُجْرَة إِن رأى الْمصلحَة فِي ذَلِك
وَإِن لم ير الْمصلحَة فِي الْإِجَارَة فَإِن رأى أَن يَأْمُرهُ بِأَن ينْفق عَلَيْهَا بِمَا لنَفسِهِ ليرْجع على صَاحبه فعل وَإِن رأى أَن يَبِيعهَا ويأمره بإمساك ثمنهَا فعل
وَيعرف ذَلِك سنة فِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة وَفِي رِوَايَة الْحسن على قدر حَال اللّقطَة فِي النفيس سنة وَفِي الدني الَّذِي قِيمَته زَائِدَة على عشرَة دَرَاهِم لَا ينقص من شهر على هَذَا الِاعْتِبَار
فَإِذا مضى وَقت التَّعْرِيف وَلم يظْهر صَاحبهَا فَإِن كَانَ الرجل مُوسِرًا لَا يحل لَهُ أَن ينْفق على نَفسه وَلَكِن يتَصَدَّق بهَا على الْفُقَرَاء
وَقَالَ الشَّافِعِي يحل
وَإِن كَانَ مُعسرا لَهُ أَن يتَصَدَّق على نَفسه وَإِن شَاءَ يتَصَدَّق بهَا على الْفُقَرَاء
فَإِن ظهر صَاحبهَا فَإِن شَاءَ أمضى الصَّدَقَة وَله ثَوَابهَا وَإِن شَاءَ أَخذ من الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ وَإِن شَاءَ ضمن الْمُلْتَقط
وَإِن كَانَ شَيْئا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد فَإِنَّهُ يعرفهَا بِقدر مَا لَا يفْسد ثمَّ يتَصَدَّق أَو ينْفق على نَفسه على مَا ذكرنَا
وَإِنَّمَا يدْفع إِلَى من يَدعِي اللّقطَة إِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة
فَإِن ذكر عَلَامَات(3/355)
هِيَ فِيهَا فَإِن شَاءَ الْمُلْتَقط صدقه وَدفع إِلَيْهِ وَإِن شَاءَ امْتنع حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة
وَكَذَا الْجَواب فِي الدَّابَّة الضَّالة من الْغنم وَالْإِبِل وَغَيرهمَا فَأَما إِذا لم تكن ضَالَّة وَلكنهَا نفرت فِي المراعي فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذهَا لِأَن ذَلِك أَمر مُعْتَاد إِذا كَانَ قَرِيبا من الْبَلدة أَو الْقرْيَة أَو الْخيام
فَأَما إِذا كَانَ غَالب ظَنّه أَنَّهَا ضَالَّة فَإِنَّهُ يَأْخُذهَا
وَأما العَبْد إِذا لم يكن ضَالًّا للطريق وَلكنه آبق من صَاحبه فَالْجَوَاب مَا ذكرنَا
لَا وَلَكِن هَاهُنَا مَتى رده إِلَى الْمَالِك إِن كَانَ من مسيرَة سفر يسْتَحق الْجعل على صَاحبه أَرْبَعِينَ درهما عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا يجب شَيْء
وَإِن كَانَ الرَّد فِي أقل من مُدَّة السّفر يسْتَحق الرضخ بِقَدرِهِ
وَلَو كَانَ الرَّاد اثْنَيْنِ فَيكون الْجعل بَينهمَا
وَهَذَا إِذا كَانَت قِيمَته أَكثر من أَرْبَعِينَ درهما
فَأَما إِذا كَانَت أَرْبَعِينَ أَو دون ذَلِك فَإِنَّهُ ينقص من الْجعل درهما عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا ينقص مِنْهُ شَيْء
وَلَو كَانَ الرَّاد من كَانَ فِي عِيَاله لَا يسْتَحق الْجعل
فَأَما من لم يكن فِي عِيَاله فَإِنَّهُ يسْتَحق سَوَاء كَانَ أَجْنَبِيّا أَو ذَا رحم محرم مِنْهُ إِلَّا الْوَالِدين والمولودين فَفِيهِ اخْتِلَاف بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد(3/356)
كتاب الْخُنْثَى
قَالَ الْخُنْثَى من يكون لَهُ آلَة الرِّجَال وَآلَة النِّسَاء
والشخص الْوَاحِد لَا يكون ذكرا وَأُنْثَى وَلَكِن يحْتَمل أَن يكون ذكرا وَآلَة النِّسَاء فِي حَقه نُقْصَان بِمَنْزِلَة مَوضِع شجة لم تلتئم وَيحْتَمل أَن يكون أُنْثَى وَآلَة الرِّجَال فِي حَقّهَا زِيَادَة بِمَنْزِلَة الْأصْبع الزَّائِدَة
وَالشَّرْع جعل الْعَلامَة الفاصلة بَينهمَا قبل الْبلُوغ هُوَ المبال على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الْخُنْثَى يُورث من حَيْثُ يَبُول فَلَمَّا جعل الأمارة هَذَا فِي حق الْإِرْث فَكَذَا فِي حق الْأَحْكَام الَّتِي تخْتَص بالخنثى يجب أَن يكون هُوَ الْعَلامَة
فَإِن كَانَ يَبُول من مبال الرِّجَال فَهُوَ ذكر
وَإِن كَانَ يَبُول من مبال النِّسَاء فَهُوَ أُنْثَى وَإِن كَانَ يَبُول مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحكم للأسبق مِنْهُمَا
وَإِذا اسْتَويَا فِي السَّبق قَالَ أَبُو حنيفَة أتوقف فِيهِ
وَقَالا يعْتَبر الْأَكْثَر فِي ذَلِك ثمَّ إِذا اسْتَويَا فِي الْكَثْرَة والقلة توقفا فِيهِ أَيْضا كَمَا توقف أَبُو حنيفَة
والتوقف فِي مَوضِع عدم الدَّلِيل وَاجِب وَهُوَ الْخُنْثَى الْمُشكل
وَإِنَّمَا يظْهر الْحَال وَيَزُول الْإِشْكَال بِالْبُلُوغِ بِظُهُور الْحيض وَالْحَبل ونهود الثديين ونبات اللِّحْيَة والاحتلام وَنَحْوهَا فَيجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام الذّكر أَو الْأُنْثَى(3/357)
فَأَما فِي حَال كَونه مُشكلا فَلهُ أَحْكَام مَخْصُوصَة مِنْهَا الْخِتَان يَنْبَغِي أَن يشترى لَهُ جَارِيَة ختانة من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال وَمن مَال الْأَبَوَيْنِ إِن كَانَ وَإِلَّا فَالْقَاضِي يَشْتَرِي لَهُ من مَال بَيت المَال جَارِيَة ختانة فتختنه فَإِن كَانَ ذكرا فَهِيَ جَارِيَته وَإِن كَانَ أُنْثَى فالأنثى قد تختن الْأُنْثَى عَن الْحَاجة إِلَيْهِ
وَلَا يلبس الْحَرِير احْتِيَاطًا
وموقفه فِي الصَّلَاة خلف صف الذُّكُور قبل صف النِّسَاء
وَكَذَا فِي تَرْتِيب الْجَنَائِز عِنْد الِاجْتِمَاع تقدم جنَازَته على جَنَازَة الْإِنَاث
وتغسله زَوجته إِن كَانَت وَإِلَّا فَلَا يغسل وَلَكِن ييمم إِن كَانَ لَهُ ذُو رحم محرم ييممه بِلَا خرقَة وَإِن كَانَ أَجْنَبِيّا فَمَعَ الْخِرْقَة
وَأما حكم الْمِيرَاث فَعِنْدَ أَصْحَابنَا يكون لَهُ أقل الْأَنْصِبَاء وَهُوَ نصيب الْأُنْثَى إِن كَانَ أقل
وَأَن كَانَ أَكثر فِي بعض الْأَحْوَال يكون لَهُ نصيب الذُّكُور
وعَلى قَول الشّعبِيّ يكون لَهُ نصف مِيرَاث الرِّجَال وَنصف مِيرَاث النِّسَاء
بَيَانه
إِذا ترك ابْنا مَعْرُوفا وَخُنْثَى للِابْن الثُّلُثَانِ وللخنثى الثُّلُث لِأَنَّهُ أقل
وَإِذا ترك خُنْثَى وعصبة فللخنثى النّصْف وَهُوَ مِيرَاث الْبِنْت وَالْبَاقِي للْعصبَةِ
وَلَو ترك اختا لأَب وَأم وَخُنْثَى لأَب وعصبة يَجْعَل أُنْثَى أَنه ترك أُخْتا لأَب وَأم وأختا لأَب وعصبة فللأخت للْأَب وَالأُم(3/358)
النّصْف وللخنثى السُّدس وَالْبَاقِي للْعصبَةِ
وَإِن تركت زوجا وأختا لأَب وَأم وَخُنْثَى لأَب فَللزَّوْج النّصْف وَللْأُخْت لأَب وَأم النّصْف وَلَا شَيْء للخنثى وَيجْعَل ذكرا لِأَن هَذَا أَسْوَأ حَالَة لأَنا لَو جَعَلْنَاهُ أُنْثَى يكون نصِيبه السُّدس وتعول الْمَسْأَلَة وَلَو جَعَلْنَاهُ ذكرا لَا يَرث شَيْئا كَمَا إِذا تركت زوجا وأختا لأَب وَأم وأخا لأَب على هَذَا الْقيَاس
وَبَيَان قَول الشّعبِيّ وَتَفْسِير قَول أبي يُوسُف وتخريجه لَهُ وَتَخْرِيج مُحَمَّد على وَجه آخر يذكر فِي الْفَرَائِض إِن شَاءَ الله تَعَالَى ونشير إِلَيْهِ هَاهُنَا إِذا ترك ابْنا وَخُنْثَى فعلى تَخْرِيج أبي يُوسُف يَجْعَل المَال بَينهمَا على سَبْعَة أسْهم للِابْن الْمَعْرُوف أَرْبَعَة وَله ثَلَاثَة
وعَلى تَخْرِيج مُحَمَّد الْمِيرَاث بَينهمَا على اثْنَي عشر سَهْما بطرِيق تَنْزِيل الْأَحْوَال فَيكون للِابْن الْمَعْرُوف سَبْعَة وللخنثى خَمْسَة وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ(3/359)
كتاب الشَّهَادَات
يحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة فُصُول إِلَى بَيَان تحمل الشَّهَادَة
وَإِلَى بَيَان حُضُور الشُّهُود عِنْد النِّكَاح وَإِلَى بَيَان جَوَاز أَدَاء الشَّهَادَة عِنْد القَاضِي
أما الأول فَنَقُول تحمل الشَّهَادَة إِنَّمَا يجوز عِنْد المعاينة أَو عَن سَماع الْإِقْرَار وإنشاء القَوْل من النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْبيع وَنَحْوهَا من الْخصم
فَأَما التسامع من النَّاس فَلَا عِبْرَة بِهِ إِلَّا فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة فِي النِّكَاح وَالنّسب وَالْمَوْت وَفِي الْوَلَاء اخْتِلَاف عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يقبل وَعند أبي يُوسُف يقبل
وَإِنَّمَا يَصح التَّحَمُّل مِمَّن لَهُ عقل وتمييز ليفهم كَلَام الْخَصْمَيْنِ أَو يعلم مَا يَفْعَله سَوَاء كَانَ حرا أَو عبدا أَو فَاسِقًا أَو كَافِرًا أَو صَغِيرا عَاقِلا أَو بَالغا حَتَّى إِذا زَالَت هَذِه الْمعَانِي وَحدثت ضدها تقبل شَهَادَته
وَكَذَا العَبْد إِذا تحمل الشَّهَادَة لمَوْلَاهُ أَو الْمَرْأَة لزَوجهَا تقبل بعد الْعتْق والبينونة
لَكِن لَو شهد لمَوْلَاهُ وَردت شَهَادَته أَو شهِدت الْمَرْأَة لزَوجهَا وَردت ثمَّ شهد بعد الْعتْق والبينونة فِي تِلْكَ الْحَادِثَة لَا تقبل بِخِلَاف الْكَافِر إِذا شهد على مُسلم فِي حَادِثَة فَردَّتْ شَهَادَته ثمَّ(3/361)
أعَاد تِلْكَ الشَّهَادَة بعد الْإِسْلَام تقبل وَالْفرق مَذْكُور فِي الخلافيات
وَأما حُضُور الشُّهُود عِنْد عقد النِّكَاح فقد بَينا ذَلِك فِي كتاب النِّكَاح
فَلَا نعيده
وَأما جَوَاز الشَّهَادَة عِنْد القَاضِي فَنَقُول شَهَادَة رجلَيْنِ عَدْلَيْنِ مَقْبُولَة فِي جَمِيع الْأَحْكَام فِي أَسبَاب الْعُقُوبَات وَغَيرهَا إِلَّا فِي الزِّنَى فَإِنَّهُ لَا تقبل إِلَّا شَهَادَة أَرْبَعَة رجال عدُول
وَشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ مَقْبُولَة فِي جَمِيع الْأَحْكَام عندنَا إِلَّا فِي الْحُدُود وَالْقصاص
وَعند الشَّافِعِي لَا تقبل إِلَّا فِي الْأَمْوَال وتوابعها
وَكَذَا حكم الشَّهَادَة على الشَّهَادَة مثل حكم شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ
وَتجوز شَهَادَة الْأَقَارِب مثل شَهَادَة الْأَجَانِب إِلَّا شَهَادَة الْوَالِدين والمولودين وَشَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ لصَاحبه
وَعند الشَّافِعِي تقبل شَهَادَة الْأزْوَاج
وَلَا تجوز شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف إِذا تَابَ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَلَا تجوز شَهَادَة الْأَعْمَى وَإِن كَانَ بَصيرًا عِنْد التَّحَمُّل عِنْد أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف تقبل إِذا كَانَ بَصيرًا عِنْد التَّحَمُّل
وَلَا تجوز شَهَادَة العَبْد والأخرس
وَالصَّبِيّ الْعَاقِل وَالْمَعْتُوه وَلَا شَهَادَة الْأَخير لَهُ فِي تِجَارَته الَّتِي اسْتَأْجرهُ فِيهَا وَلَا شَهَادَة أحد الشَّرِيكَيْنِ فِي مَال الشّركَة وَالتَّصَرُّف فِيهَا وَتقبل فِيمَا سوى ذَلِك(3/362)
وَأما شَهَادَة الْفَاسِق فَإِن تحرى القَاضِي الصدْق فِي شَهَادَته تقبل وَإِلَّا فَلَا
وَعند الشَّافِعِي لَا تقبل أصلا وَلَا تقبل فِي الْعُقُوبَات
وَلَو طعن الْمَشْهُود عَلَيْهِ فِي الشَّاهِد أَنه رَقِيق أَو فَاسق لم تمض الشَّهَادَة مَا لم يقم الْبَيِّنَة على الْحُرِّيَّة إِن كَانَ مَجْهُول النّسَب
وَكَذَا مَا لم يسل عَن عدالتهم فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة
وَلَا يجوز الْقَضَاء بِظَاهِر الْعَدَالَة بالِاتِّفَاقِ
وَقبل الطعْن يجوز عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَلَو اخْتلف الشَّاهِدَانِ فِي الْوَقْت وَالْمَكَان والعبارة مَعَ اسْتِوَاء العبارتين فِي الْمَعْنى فَإِن كَانَ ذَلِك فِي الْإِقْرَار تقبل شَهَادَتهمَا وَلَا يُوجب اخْتِلَاف الشَّهَادَة
وَإِن كَانَ فِي الْفِعْل
من الْغَصْب وَالْقَتْل وَالْقطع وإنشاء البيع وَالطَّلَاق وَنَحْوهَا
فَإِنَّهُ يُوجب اخْتِلَاف الشَّهَادَة فَمَا لم يُوجد على كل وَاحِد شَاهِدَانِ لَا يقبل
وَإِذا اخْتلف الشَّاهِدَانِ فِي جنس الْمَشْهُود بِهِ لَا يقبل
وَلَو اخْتلفَا فِي الْمِقْدَار وَأَحَدهمَا يدْخل فِي الآخر وَالْمُدَّعِي يَدعِي الْأَكْثَر كَمَا إِذا شهد أَحدهمَا على ألف وَالْآخر على أَلفَيْنِ لَا تقبل عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا تقبل على الْأَقَل
وَكَذَا إِذا شهد أَحدهمَا على طَلْقَة وَالْآخر على طَلْقَتَيْنِ أَو ثَلَاث لَا يقبل عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يقبل على الْأَقَل
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا شهد أَحدهمَا على ألف وَالْآخر على ألف وَخَمْسمِائة وَالْمُدَّعِي يَدعِي الْأَكْثَر يقبل على ألف وَقد ذكرنَا فِي الطَّلَاق
وَأكْثر مسَائِل الشَّهَادَة ذكرنَا فِي الْكتب السَّابِقَة فَلَا نعيدها(3/363)
كتاب الرُّجُوع عَن الشَّهَادَات
الرُّجُوع عَن الشَّهَادَة لَا يَصح بعد قَضَاء القَاضِي وَيصِح قبله لِأَنَّهُ إِخْبَار يحْتَمل الْغَلَط
وَإِنَّمَا يصير حجَّة ضَرُورَة صِحَة الْقَضَاء فَمَا لم يتَّصل بِهِ قَضَاء القَاضِي يَصح الرُّجُوع
وَلَا يلْزم الشُّهُود بذلك شَيْء لِأَنَّهُ لم يثبت بِهِ الحكم
وَبعد الحكم لَا يَصح الرُّجُوع فِي حق الْخصم وَلَكِن يُصِيب متلفا فِي حق الْمَشْهُود عَلَيْهِ فَيلْزمهُ ضَمَانه إِلَّا إِذا حصل الْعِوَض للْمَشْهُود عَلَيْهِ فبذلك لَا يضمن لِأَنَّهُ يكون إتلافا بعوض فَلَا يكون إتلافا معنى
وَالْعبْرَة فِي الرُّجُوع بَقَاء من بَقِي من الشُّهُود لَا رُجُوع من رَجَعَ وَيبقى الْحق بِقدر بَقَاء الشُّهُود ويتلف بِقدر مَا رَجَعَ
إِذا ثَبت هَذَا الأَصْل تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل
إِذا شهد شَاهِدَانِ على رجل بِمَال وَقضى القَاضِي بذلك وَسلم المَال إِلَى الْمُدَّعِي ثمَّ رَجَعَ أَحدهمَا غرم نصف المَال لِأَنَّهُ بَقِي النّصْف بِبَقَاء شَاهد وَاحِد
وَلَو رجعا جَمِيعًا غرما المَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ
وَلَو كَانُوا أَرْبَعَة فَرجع اثْنَان أَو وَاحِد مِنْهُم فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لبَقَاء المَال بِبَقَاء الشَّاهِدين
وَلَو رَجَعَ ثَلَاثَة يلْزمهُم نصف المَال لبَقَاء النّصْف بِبَقَاء شَاهد وَاحِد
وَلَو شهد رجل وَامْرَأَتَانِ على مَال فَرَجَعت امْرَأَة غرمت ربع(3/365)
المَال
وَلَو رجعتا غرمتا نصف المَال لبَقَاء النّصْف بِبَقَاء رجل لِأَن الْمَرْأَتَيْنِ بِمَنْزِلَة رجل وَاحِد
وَلَو شهد رجل وَاحِد وَعشر نسْوَة على رجل بِمَال ثمَّ رجعُوا جَمِيعًا بعد الحكم فَقَالَ أَبُو حنيفَة على الرجل سدس المَال وعَلى النِّسَاء خَمْسَة أسداسه لِأَن كل امْرَأتَيْنِ بِمَنْزِلَة رجل وَاحِد
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد على الرجل النّصْف وعَلى النِّسَاء النّصْف لِأَن النِّسَاء وَإِن كثرن لَهُنَّ شطر الشَّهَادَة
وَلَو شَهدا على رجل أَنه بَاعَ عَبده من فلَان بِأَلف وَقبض الثّمن ثمَّ رجعا لم يضمنا لِأَن هَذَا إِتْلَاف بعوض
وَكَذَا لَو شَهدا على رجل أَنه تزوج امْرَأَة بِأَلف دِرْهَم وَهُوَ مهر مثلهَا وَقضى القَاضِي بِالنِّكَاحِ ثمَّ رجعا لم يضمنا لِأَنَّهُمَا أثبتا لَهُ الْبضْع بِمُقَابلَة المَال
وَلَو شَهدا على رجل أَنه طلق امْرَأَته ثَلَاثًا وَقد دخل بهَا وَقضى القَاضِي ثمَّ رجعا لم يضمنا إِلَّا مَا زَاد على مهر الْمثل لِأَنَّهُ بِقدر مهر الْمثل إِتْلَاف بعوض وَهُوَ اسْتِيفَاء مَنَافِع الْبضْع
وَلَو كَانَ قبل الدُّخُول فَإِن كَانَ الْمهْر مُسَمّى ضمنا النّصْف وَإِن لم يكن الْمهْر مُسَمّى يضمنَانِ الْمُتْعَة لِأَن ذَلِك تلف بِشَهَادَتِهِمَا وَلم يحصل لَهُ بمقابلته عوض
وَكَذَلِكَ لَو شَهدا على رجل بِإِجَارَة دَاره سنة ثمَّ رجعا بعد اسْتِيفَاء السُّكْنَى فَإِنَّهُمَا يغرمان للْمُسْتَأْجر مَا زَاد على أجر الْمثل لِأَنَّهُ بِقدر أجر الْمثل حصل الْعِوَض وَالْبَاقِي بِغَيْر عوض فَيكون إتلافا
وَكَذَا لَو شَهدا على رجل أَنه أعتق عَبده بِأَلف دِرْهَم وَسلم إِلَيْهِ أَولا ثمَّ رجعا لم يضمنا لِأَن هَذَا إِتْلَاف بعوض(3/366)
وَلَو شَهدا أَنه أعتق بِغَيْر مَال ثمَّ رجعا يضمنَانِ للإتلاف بِغَيْر عوض
وَلَو شَهدا على أَنه قَالَ لعَبْدِهِ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَأَنت حر وَقد دخل وَقضى القَاضِي بِالْعِتْقِ ثمَّ رجعا ضمنا لِأَن هَذِه شَهَادَة على الْإِعْتَاق وَهُوَ إِتْلَاف بِغَيْر عوض فيضمنان
وَلَو شَهدا أَنه حلف بِعِتْق عَبده بِدُخُول الدَّار وَشهد آخرَانِ على الدُّخُول وَقضى القَاضِي بِالْعِتْقِ ثمَّ رجعُوا فَإِن الضَّمَان يجب على شُهُود الْيَمين لَا على شُهُود الدُّخُول لِأَن الدُّخُول شَرط وَكَلَام الْيَمين صَار إعتاقا والتلف يُضَاف إِلَى الْعلَّة دون الشَّرْط وَيكون الْمُتْلف هُوَ شَاهد الْيَمين
وَلَو شَهدا على رجل بِسَرِقَة عشرَة دَرَاهِم وَقضى القَاضِي عِنْد خُصُومَة الْمَالِك وَقطعت يَده ثمَّ رجعا يغرمان دِيَة الْيَد
وَكَذَلِكَ لَو شَهدا على رجل بقتل الْخَطَأ أَو بجراحه خطأ ثمَّ رجعا
وَلَو شَهدا على الْقَتْل الْعمد وَقضى القَاضِي واقتص ثمَّ رجعا لَا يجب الْقصاص على الشُّهُود عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يجب وَلَكِن عندنَا يجب المَال لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِيجَاب الْقصاص بالتسبيب وَيُمكن إِيجَاب المَال كَمَا فِي حفر الْبِئْر
وَلَو شهد أَرْبَعَة على رجل بِالزِّنَا وَشهد آخرَانِ على الْإِحْصَان ثمَّ رجعُوا بعد إِقَامَة الرَّجْم لَا يجب على شُهُود الْإِحْصَان شَيْء وَتجب الدِّيَة على شُهُود الزِّنَى لِأَن الزِّنَا عِلّة والإحصان شَرط
وَلَو رَجَعَ أحد الشُّهُود بِالزِّنَا بعد الرَّجْم فَإِنَّهُ يجد حد الْقَذْف(3/367)
لِأَن شَهَادَته صَارَت قذفا بِإِقْرَارِهِ وَيغرم ربع الدِّيَة لبَقَاء ثَلَاثَة أَربَاع بِثَلَاثَة شُهُود
وَإِن رَجَعَ آخر فَكَذَلِك
وَلَو أَنه إِذا رَجَعَ وَاحِد مِنْهُم بعد الْقَضَاء قبل إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِم يحدون جَمِيعًا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد يحد الرَّاجِع وَحده اسْتِحْسَانًا
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا رَجَعَ وَاحِد قبل الْقَضَاء بِالرَّجمِ فَإِنَّهُم يحدون جَمِيعًا وَهِي من مسَائِل الخلافيات(3/368)
كتاب أدب القَاضِي
الْقَضَاء فَرِيضَة محكمَة يجب على من وجد فِي حَقه شَرَائِط الْقَضَاء من الْولَايَة على الْمقْضِي عَلَيْهِ بِتَسْلِيم الْمقْضِي بِهِ إِلَى الْمقْضِي لَهُ وَهُوَ السُّلْطَان أَو من يقوم مقَامه لِأَن هَذَا من بَاب إنصاف الْمَظْلُوم من الظَّالِم وَهَذَا مفوض إِلَى الْخُلَفَاء والسلاطين غير أَنهم إِذا عجزوا بِأَنْفسِهِم إِمَّا لعدم الْعلم أَو لاشتغالهم بِأُمُور أخر يجب عَلَيْهِم أَن يقلدوه من كَانَ يصلح لَهُ مِمَّن هُوَ من أفقه النَّاس بحضرتهم وأورعهم
فَإِن وجدوا اثْنَيْنِ أَحدهمَا أفقه وَالْآخر أورع فالأورع أولى لِأَنَّهُ يُمكنهُ أَن يقْضِي بِعلم غَيره وَلَا بُد من الْوَرع حَتَّى لَا يتَجَاوَز حد الشَّرْع وَلَا يصور الْبَاطِل بِصُورَة الْحق طَمَعا فِي الرِّشْوَة
وَيجب على من استجمع فِيهِ شَرَائِط الْقَضَاء أَن يقبله إِذا قلدوه حَتَّى لَو امْتنع يَأْثَم إِلَّا إِذا كَانَ فِي الْعلمَاء بحضرتهم مِمَّن يصلح لَهُ كَثْرَة فَلَا بَأْس بِأَن يعْتَذر بِعُذْر فَيدْفَع عَن نَفسه إِلَى غَيره لِأَنَّهُ لَيْسَ بمتعين لذَلِك وَالَّذِي تعين لَا يحل لَهُ الِامْتِنَاع إِذا قلد وَلَكِن لَا يَنْبَغِي أَن يطْلب لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُقَلّد فَيذْهب مَاؤُهُ وَحُرْمَة علمه(3/369)
ثمَّ الْقَضَاء لَهُ وَاجِبَات وآداب فَأَما الْوَاجِبَات فَمِنْهَا أَنه يجب على القَاضِي أَن يقْضِي فِي كل حَادِثَة بِمَا يثبت عِنْده أَنه حكم الله تَعَالَى إِمَّا بِدَلِيل قَطْعِيّ نَحْو نَص الْكتاب مُفَسرًا لَا شُبْهَة فِي مَعْنَاهُ أَو السّنة المتواترة أَو الْمَشْهُورَة أَو الْإِجْمَاع وَإِمَّا بِدَلِيل ظَاهر مُوجب للْعَمَل كظاهر النَّص من الْكتاب وَالسّنة وَالْقِيَاس وَذَلِكَ فِي مَوضِع لَا إِجْمَاع فِيهِ بَين الْفُقَهَاء
وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ أَو لم تكن وَاقعَة أَو كَانَت وَاقعَة وَلَا رِوَايَة فِي جوابها عَن السّلف يجب عَلَيْهِ أَن يعْمل بِرَأْي نَفسه إِن كَانَ من أهل الِاجْتِهَاد وَإِن لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد يخْتَار قَول من هُوَ أفقههم وأورعهم
وَلَو كَانَ القَاضِي من أهل الِاجْتِهَاد لَكِن لم ينظر فِي دَلِيل الْمَسْأَلَة وَاعْتمد على اجْتِهَاد من هُوَ أفقه مِنْهُ هَل يجوز لَهُ الْقَضَاء بِهِ على قَول أبي حنيفَة جَازَ وعَلى قَوْلهمَا لَا يجوز إِلَّا وَأَن يعْمل بِاجْتِهَاد نَفسه ذكر الِاخْتِلَاف فِي كتاب الْحُدُود
وَمِمَّا يجب عَلَيْهِ أَيْضا أَن يقْضِي بِمَا ثَبت عِنْده بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار أَو يكون الْمُدعى بِهِ مِمَّا يدْخل فِيهِ النّكُول لِأَن الشَّرْع جعل هَذِه الْجُمْلَة حجَّة فِي حَقه وَلَكِن لَا بُد من أَن يثبت عَدَالَة الشُّهُود عِنْده بالسؤال عَنْهُم مِمَّن لَهُ علم بأحوالهم فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فعدلوه وَقَالُوا هُوَ جَائِز الشَّهَادَة
وَأما الْقَضَاء بِعلم نَفسه بالمعاينة أَو بِسَمَاع الْإِقْرَار أَو بمشاهدة الْأَحْوَال فَإِن قضى بِعلم حَادث لَهُ فِي زمَان الْقَضَاء وَفِي مَكَانَهُ فِي الْأَمْلَاك الْمُرْسلَة والحقوق من الطَّلَاق وَالْعتاق وَنَحْوهمَا وَفِي(3/370)
الْقصاص وَفِي حد الْقَذْف جَازَ
وَإِن كَانَ فِي سَائِر الْحُدُود لَا يجوز وَهَذَا عندنَا
وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ فِي قَول لَا يجوز فِي الْكل وَفِي قَول يجوز فِي الْكل
وَأما إِذا قضى بِعلم كَانَ قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء أَو بِعلم بعد التَّقْلِيد لَكِن قبل أَن يصل إِلَى الْبَلَد الَّذِي ولي قَضَاءَهُ فقد أجمع أَصْحَابنَا أَنه لَا يجوز فِي الْحُدُود غير حد الْقَذْف
فَأَما فِي سَائِر الْأَحْكَام وَفِي حد الْقَذْف وَالْقصاص فقد اخْتلفُوا قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يجوز
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز وفروع هَذَا الْفَصْل ودلائله تعرف فِي الْمَبْسُوط إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَلَا يجوز للْقَاضِي أَن يقْضِي لنَفسِهِ وَلَا لِأَبَوَيْهِ وَإِن علوا وَلَا لزوجته وَلَا لأولاده وَإِن سفلوا وَلَا لكل من لَا تجوز شَهَادَته لَهُم
وَهل يقْضِي بِكِتَاب قَاضِي ورد إِلَيْهِ من قُضَاة الْبلدَانِ لَيْسَ لَهُ أَن يقْضِي فِي الْحُدُود وَالْقصاص وَأما فِي الدُّيُون وَالْعرُوض وَالْعَقار فقد جَازَ الْقَضَاء بِهِ
وَلَا يجوز فِي الْحُدُود وَالْقصاص الْقَضَاء بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة
وَفِي الْغُلَام وَالْجَارِيَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يكْتب إِلَى الْقَضَاء وَلَا يقبل
وَعَن أبي يُوسُف يقبل وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَعمل الْقُضَاة على هَذَا لأجل الضَّرُورَة الْعَامَّة
ثمَّ فِيمَا يقبل فِيهَا الْكتاب إِذا ورد الْكتاب إِلَى القَاضِي الْمَكْتُوب إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَن لَا يفك الْكتاب وَلَا يقرأه إِلَّا بِحَضْرَة الْخصم كي لَا يتهم فِي ذَلِك(3/371)
وَأما آدَاب الْقُضَاة فللقاضي أَن يجلس مَعَ نَفسه قوما من الْفُقَهَاء ليشاور مَعَهم إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ
فَإِن اتَّفقُوا عَلَيْهِ والحادثة مَعْرُوفَة فِي السّلف يقْضِي بِهِ
وَإِن اخْتلفُوا فعلى مَا ذكرنَا
فَإِن بدا لَهُ أَن يرجع فِيمَا اعْتمد على قَول بَعضهم وَرَأى الصَّوَاب فِي قَول الآخر فَلهُ ذَلِك لِأَن لَهُ أَن يقْضِي فِي الْمُجْتَهد فِيهِ بِمَا لَاحَ لَهُ من دَلِيل الِاجْتِهَاد إِن كَانَ مُجْتَهدا
فَأَما بعد الحكم فَلَيْسَ لَهُ أَن يبطل ذَلِك الْقَضَاء لِأَن صَار بِالْقضَاءِ كالمتفق عَلَيْهِ وَلَكِن يعْمل فِي الْمُسْتَقْبل بِخِلَافِهِ إِذا رأى ذَلِك صَوَابا
وَيَنْبَغِي أَن يعدل بَين الْخَصْمَيْنِ فِي مجلسهما مِنْهُ لَا يقرب أَحدهمَا دون الآخر وَإِن كَانَ لَهُ شرف الْعلم وَالنّسب
وَإِن كَانَ يُرِيد تَعْظِيم ذَلِك فِي الْمجْلس يَنْبَغِي أَن يجلس خَصمه مَعَه أَيْنَمَا أَجْلِس الأول
وَكَذَلِكَ يعدل بَينهمَا النّظر والمنطق وَلَا يُشِير إِلَى أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر
وَكَذَلِكَ لَا يَخْلُو بِأَحَدِهِمَا دفعا للتُّهمَةِ
وَلَا يرفع صَوته على أَحدهمَا مَا لم يرفع على الآخر عِنْد الشغب والمنازعة
فَأَما إِذا وجد من أَحدهمَا فَإِنَّهُ يرفع صَوته عَلَيْهِ تأديبا لَهُ
وَلَا يَنْبَغِي أَن يلقن أحد الْخَصْمَيْنِ حجَّته
وَلَا بَأْس بِأَن يلقن الشَّاهِد إِذا كَانَ يستحي ويهاب مجْلِس القَاضِي بِشَيْء هُوَ حق
وَإِذا تكلم أَحدهمَا أسكت الآخر حَتَّى يسمع كَلَامه وَيفهم ثمَّ يستنطق الآخر حَتَّى يكون أقرب إِلَى الْفَهم
وَلَا يَنْبَغِي أَن يجلس للْقَضَاء وَبِه مَا يشْغلهُ عَنهُ نَحْو الْهم(3/372)
وَالْغَصْب وَالنُّعَاس وَغَيرهَا على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان
وَيَنْبَغِي أَن يقدم الرِّجَال على حِدة وَالنِّسَاء على حِدة الأول فَالْأول
وَلَا يخلط النِّسَاء بِالرِّجَالِ لِأَنَّهُ سَبَب للفتنة
وَيَنْبَغِي أَن يتَّخذ كَاتبا من أهل العفاف وَالصَّلَاح وَهُوَ فَقِيه عَالم بصنعة الْكِتَابَة ثمَّ يقعده حَيْثُ يرى مَا يكْتب وَمَا يصنع
وَفِي عَادَة السّلف أَن القَاضِي هُوَ الَّذِي يكْتب خُصُومَة كلا الْخَصْمَيْنِ على كاغذ السُّؤَال وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب ثمَّ يكْتب شَهَادَة الشُّهُود على حسب مَا شهدُوا بعد كِتَابَة جَوَاب الْخصم ثمَّ يطوي الْكتاب ثمَّ يختمه ثمَّ يكْتب على ظَهره خُصُومَة فلَان وَفُلَان فِي شهر كَذَا فِي سنة كَذَا ويضعه فِي قمطرة على حِدة
وَفِي زَمَاننَا الْعَادة أَن الْكَاتِب هُوَ الَّذِي يكْتب كتاب الدَّعْوَى وَيتْرك مَوضِع التَّارِيخ وَلَا يكْتب جَوَاب الْخصم وَيكْتب أَسمَاء الشُّهُود بعد ذَلِك وَيتْرك فِيمَا بَين الخطين فُرْجَة فَإِذا رفع الدَّعْوَى عِنْد القَاضِي فَيكْتب التَّارِيخ بِنَفسِهِ وَيكْتب جَوَاب الْخصم على الْوَجْه الَّذِي تقرر
وَإِذا شهد الشُّهُود فِي الْمجْلس على مَا يَدعِيهِ الْمُدَّعِي يكْتب شَهَادَة كل وَاحِد تَحت اسْمه على الْوَجْه الَّذِي تقرر وَيخْتم الْكتاب ثمَّ يكْتب بِنَفسِهِ فِي ذَلِك الْيَوْم أَسمَاء الشُّهُود أَو يَأْمر الْكَاتِب حَتَّى يَكْتُبهُ بَين يَدَيْهِ وَيخْتم وَيبْعَث بذلك على يَد رجل من أهل الثِّقَة فِي السِّرّ إِلَى أهل الثِّقَة وَالسِّلَاح عِنْده حَتَّى يعدلُوا الشُّهُود
فَإِذا اتّفق اثْنَان أَو أَكثر على تَزْكِيَة رجل قبل قَوْله وَعمل بِهِ
وَإِن اجْتمع جمَاعَة على أَنه ثِقَة وَاثْنَانِ على جرحه يَأْخُذ بِالْجرْحِ
وَالْعدَد شَرط عِنْدهمَا فِي المزكين
وَأما عِنْد أبي حنيفَة فالواحد كَاف(3/373)
وَكَذَا الْخلاف فِي الَّذِي يبْعَث المستورة يشْتَرط فِيهِ الْعدَد عِنْدهمَا خلافًا لَهُ
ثمَّ يسْأَل عَن التَّزْكِيَة عَلَانيَة بَعْدَمَا يسْأَل فِي السِّرّ حَتَّى لَا يَقع فِيهِ رِيبَة على القَاضِي فيتهم بذلك
وَلَا يَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقبل الْهَدِيَّة إِلَّا من ذِي رحم محرم مِنْهُ أَو من صديق قديم الصُّحْبَة قد كَانَ بَينهمَا التهادي قبل زمَان الْقَضَاء فَأَما من غير هذَيْن فَلَا يقبل الْهَدِيَّة وَيكون ذَلِك فِي معنى الرِّشْوَة
وَأما الدعْوَة فَإِن كَانَ دَعْوَة عَامَّة مثل دَعْوَة الْعرس والختان فَلَا بَأْس بذلك
فَأَما الدعْوَة الْخَاصَّة فَإِن كَانَت من ذِي الرَّحِم الْمحرم أَو الصّديق الْقَدِيم الَّذِي كَانَ يضيفه قبل الْقَضَاء فَلَا بَأْس بالإجابة
وَفِي غَيرهمَا لَا يَنْبَغِي أَن يحضر لِأَن ذَلِك يُوجب تُهْمَة فِيهِ
وَلَا بَأْس للْقَاضِي أَن يبْعَث الْخَصْمَيْنِ إِلَى الْمُصَالحَة إِن طمع مِنْهُمَا الْمُصَالحَة
وَإِن لم يطْمع وَلم يرضيا بذلك فَلَا يردهما إِلَى الصُّلْح ويتركهما على الْخُصُومَة وَينفذ الْقَضَاء فِي حق من قَامَت الْحجَّة لَهُ وَالله تَعَالَى أعلم(3/374)
كتاب الْوَقْف وَالصَّدَََقَة
فِي الْكتاب فصلان فصل فِي الْوَقْف وَفصل فِي الصَّدَقَة
أما الأول فقد أجمع الْعلمَاء أَن من وقف أرضه أَو دَاره مَسْجِدا بِأَن قَالَ جعلت هَذِه الأَرْض مَسْجِدا يُصَلِّي فِيهِ النَّاس أَنه جَائِز لِأَن هَذَا إبِْطَال ملكه عَنهُ وَجعله لله تَعَالَى خَالِصا كمن أعتق عَبده
لَكِن التسلم شَرط عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف لَيْسَ بِشَرْط
وتسليمه عِنْدهمَا أَن يَأْذَن للنَّاس بِصَلَاة الْجَمَاعَة فِيهِ فَيصَلي فِيهِ جمَاعَة من النَّاس بِجَمَاعَة فَإِنَّهُ يصير مُسلما إِلَى النَّاس كَذَا ذكر هِلَال الرَّأْي فِي كتاب الْوَقْف الَّذِي صنفه
وَقَالَ بعض الْمَشَايِخ إِذا جعل لَهُ مُتَوَلِّيًا قيمًا يتَصَرَّف فِي مَصَالِحه وَيَأْذَن لَهُ بِقَبْضِهِ بطرِيق النِّيَابَة عَن النَّاس
وَيَأْمُرهُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَيكون التَّسْلِيم صَحِيحا وَلَا يُمكنهُ الرُّجُوع بعد ذَلِك عِنْدهمَا(3/375)
وَأما إِذا جعل أرضه أَو دَاره وَقفا على الْفُقَرَاء أَو على وُجُوه الْخَيْر فَعِنْدَ أبي حنيفَة إِن جعله وَقفا فِي حَال حَيَاته وَلم يقل وَصِيَّة بعد وَفَاته فَإِنَّهُ يكون هَذَا الْوَقْف صَحِيحا فِي حق التَّصْدِيق بالغلة وبالسكنى فِي الدَّار إِلَى وَقت وَفَاته وَيكون نذرا بالتصدق بذلك وَتَكون رَقَبَة الأَرْض على ملكه يجوز لَهُ بَيْعه والتصرفات فِيهِ
وَإِذا مَاتَ يصير مِيرَاثا للْوَرَثَة وَهَذَا معنى قَول بعض الْمَشَايِخ إِن الْوَقْف لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أَن الْوَقْف لَا حكم لَهُ عِنْده بل يكون نذرا بالتصدق بغلته ومنافعه
وَأما إِذا وقف فِي حَال حَيَاته وَأوصى بذلك بعد وَفَاته فَإِنَّهُ يجوز بِلَا خلاف لَكِن ينظر إِن خرج من الثُّلُث يجوز فِي الْكل وَإِن لم يخرج من الثُّلُث يجوز الْوَقْف فِيهِ بِقدر الثُّلُث وَيبقى الْبَاقِي إِلَى أَن يظْهر لَهُ مَال آخر أَو يُجِيزهُ الْوَرَثَة
فَإِن لم يظْهر لَهُ مَال وَلم يجز الْوَرَثَة تقسم الْغلَّة بَينهم أَثلَاثًا الثُّلُث للْوَقْف وَالثُّلُثَانِ بَين الْوَرَثَة على قدر أنصبائهم
وَإِن أجَازه الْوَرَثَة يصير جَائِزا ويتأبد الْوَقْف بِحَيْثُ لَا يبطل بعد ذَلِك
وَلَو رفع الْأَمر إِلَى القَاضِي فَأمْضى القَاضِي الْوَقْف بِنَاء على دَعْوَى صَحِيحَة وَشَهَادَة قَائِمَة على ذَلِك وَأنكر الْوَاقِف ذَلِك صَحَّ
وَلَو شهد الشُّهُود على الْوَقْف من غير دَعْوَى قَالُوا إِن القَاضِي يقبل لِأَن الْوَقْف حكمه التَّصَدُّق بالغلة وَهُوَ حق الله تَعَالَى وَفِي حُقُوق الله تَعَالَى لَا يشْتَرط الدَّعْوَى
وَهَذَا إِذا كَانَ من رَأْي القَاضِي أَن الْوَقْف صَحِيح لَازم لَا يجوز نقضه بِحَال كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد حَتَّى يكون قَضَاء فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ فَينفذ قَضَاؤُهُ وَلَا يُمكن نقضه بعد ذَلِك وَلَا يجوز بَيْعه وَلَا يُورث بالِاتِّفَاقِ لِأَن قَضَاء القَاضِي فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ على أحد(3/376)
الْوَجْهَيْنِ بِرَأْيهِ وَهُوَ من أهل الِاجْتِهَاد ينفذ بِالْإِجْمَاع
هَذَا الَّذِي ذكرنَا على مَذْهَب أبي حنيفَة
أما عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَعَامة الْفُقَهَاء فَإِن الْوَقْف صَحِيح فِي حق الرَّقَبَة وَيَزُول عَن ملكه كَمَا فِي الْمَسْجِد
لَكِن اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِيمَا بَينهمَا قَالَ مُحَمَّد إِنَّمَا يجوز بِأَرْبَع شَرَائِط أَحدهَا أَن يُخرجهُ من يَده ويسلمه إِلَى الْمُتَوَلِي حَتَّى يتَصَرَّف فِيهِ فَيصْرف أَولا إِلَى مصَالح الْوَقْف وَيصرف الْبَاقِي إِلَى الْمُسْتَحقّين
وَالثَّانِي أَن يكون فِي المفروز دون الْمشَاع
وَالثَّالِث أَن لَا يشْتَرط لنَفسِهِ شَيْئا من مَنَافِع الْوَقْف
وَالرَّابِع أَن يكون مُؤَبَّدًا بِأَن يَجْعَل آخِره إِلَى فُقَرَاء الْمُسلمين
وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا يشْتَرط شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا وقف فِي حَالَة الصِّحَّة
فَأَما إِذا وقف فِي حَالَة الْمَرَض فَإِن وقف وَأوصى بهَا بعد وَفَاته فَهَذَا وَحَالَة الصِّحَّة مَعَ الْوَصِيَّة سَوَاء يعْتَبر خُرُوجه من الثُّلُث وَلَا يكون مِيرَاثا للْوَرَثَة
وَإِن لم يَجعله وَصِيَّة بعد وَفَاته فَفِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة هَذَا وَالْوَقْف فِي حَالَة الصِّحَّة سَوَاء
وَذكر الطَّحَاوِيّ هُوَ بِمَنْزِلَة الْوَقْف بعد وَفَاته
والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَو مُرَاد مُحَمَّد أَن وقف الْمَرِيض نَافِذ للْحَال غير مُضَاف إِلَى مَا بعد الْمَوْت كَالْوَصِيَّةِ فَإِن الْمَرِيض إِذا أعتق فِي حَالَة الْمَرَض ينفذ عتقه وَإِن كَانَ لَا يخرج من الثُّلُث عِنْدهمَا وَيسْعَى وَهُوَ حر
وَعند أبي حنيفَة ينفذ بِقدر الثُّلُث دون الثُّلثَيْنِ وَيسْعَى(3/377)
وَهُوَ رَقِيق فَيعتق الْبَاقِي
وَمُرَاد الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يَصح من جَمِيع المَال بل من الثُّلُث بِمَنْزِلَة الْوَصِيَّة
وبمنزلة الْوَقْف وَالْوَصِيَّة بعد الْمَوْت هَذَا هُوَ الصَّحِيح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي الْعقار
فَأَما فِي الْمَنْقُول هَل يجوز وَقفه إِن كَانَ تبعا للعقار كالثيران وآلا الحراثة وَالْعَبِيد فَإِنَّهُ يجوز ويعجل وَقفا وَيكون ملكا لعامة الْفُقَرَاء كعبيد الْخمس فِي الْغَنَائِم
وَأما إِذا كَانَ مَقْصُودا فَإِن كَانَ مِمَّا يجْرِي فِيهِ التَّعَامُل وَهُوَ مُعْتَاد فِيمَا بَين النَّاس يجوز عِنْدهمَا خلافًا لأبي حنيفَة وَذَلِكَ نَحْو الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله وَلَا نَحْو المر والقدوم لحفر الْقُبُور وكثياب الْجِنَازَة وَنَحْوهَا
وَأما وقف الْكتب فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ على قَوْلهمَا وَعَن نصير بن يحيى أَنه وقف كتبه على الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أبي حنيفَة
وَلَو جعل أرضه أَو دَاره رِبَاطًا أَو مَقْبرَة أَو سِقَايَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يجوز
وَعِنْدَهُمَا يجوز غير أَن مُحَمَّدًا يشْتَرط الشَّرَائِط الَّتِي ذكرنَا وَالتَّسْلِيم عِنْده هُوَ أَن ينزل فِي الرِّبَاط بعض الْمَارَّة وَأَن يدْفن فِيهَا الْمَوْتَى وَأَن يسقى مِنْهَا النَّاس وَسقي الْوَاحِد كَاف أَو يسلم إِلَى الْمُتَوَلِي ويأمره أَن يَأْذَن للمارة بالنزول فِيهَا والدفن فِي الْمقْبرَة وَالشرب من السِّقَايَة بَعْدَمَا صب المَاء فِيهَا
وَلَو وقف أَرضًا على عمَارَة الْمَسَاجِد وَمَرَمَّة الرِّبَاط والمقابر جَازَ عِنْدهمَا(3/378)
فَأَما الْوَقْف على مَسْجِد بِعَيْنِه هَل يجوز اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قَالَ بَعضهم على الْخلاف على قَول مُحَمَّد لَا يجوز لِأَن هَذَا لَا يتأبد عِنْده فَإِن الْمَسْجِد إِذا خرب وَاسْتغْنى النَّاس عَن الصَّلَاة فِيهِ يعود ملكا لصَاحبه إِن كَانَ حَيا وَيصير مِيرَاثا لوَرَثَة الْوَاقِف بعد وَفَاته
وعَلى قَول أبي يُوسُف يجوز لِأَن عِنْده لَا يصير مِيرَاثا بالخراب فَإِنَّهُ يبْقى مَسْجِدا أبدا
وَقَالَ أَبُو بكر الْأَعْمَش يَنْبَغِي أَن يجوز بالِاتِّفَاقِ
وَقَالَ أَبُو بكر الإسكاف يَنْبَغِي أَن لَا يجوز بالِاتِّفَاقِ
وَأما حكم الصَّدَقَة إِذا قَالَ دَاري هَذِه صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق إِن شَاءَ بِعَين الدَّار وَإِن شَاءَ بَاعهَا وَتصدق بِثمنِهَا على الْفُقَرَاء لِأَن الصَّدَقَة عِنْد الْإِطْلَاق تقع على تمْلِيك الرَّقَبَة دون التَّصَدُّق بِالسُّكْنَى وَالْغلَّة بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ دَاري هَذِه صَدَقَة مَوْقُوفَة على الْمَسَاكِين أَنه ينْصَرف عِنْد أبي حنيفَة إِلَى التَّصَدُّق بالغلة لوُجُود التعارف
وَلَو قَالَ جَمِيع مَا أملك فَهُوَ صَدَقَة فَإِنَّهُ ينْصَرف إِلَى أَمْوَال الزَّكَاة من السوائم وأموال التِّجَارَة والصامت دون الْعقار وَالرَّقِيق وَعَلِيهِ أَن يتَصَدَّق بِالْكُلِّ ويمسك نَفَقَة نَفسه وَعِيَاله
ثمَّ إِذا ملك مَالا يتَصَدَّق بِمثل مَا أنْفق من المَال الَّذِي نذر بالتصدق بِهِ(3/379)
وَلَو قَالَ مَا لي صَدَقَة فِي الْمَسَاكِين فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِيهِ السوائم وَالْعَقار وَالرَّقِيق وَيدخل أَمْوَال التِّجَارَة والصامت وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق نَظَائِره وَبينا الْفرق فَلَا نعيده
وَالله تَعَالَى أعلم
انْتهى بِحَمْد الله تَعَالَى(3/380)