غنائم ثم بعث سرية أخرى إلى عدو خلف الروم فلقوا السرية الأولى وحضر الشتاء فلم يقدروا على الذهاب وكتب إليهم الإمام يأمرهم بالرجعة مع أصحابهم وبنصرتهم فخرجوا جميعاً بغنائم السرية الأولى فلا شركة للسرية الثانية معهم في ذلك لأنهم ما دخلوا لنصرتهم فكانوا كالتجار في حقهم إلا أن يلقوا قتالاً بعد انصرافهم قبل أن يخرجوا فحينئذ يشاركونهم فيها بمنزلة التجار .
وهذا بخلاف ما لو كانت السرية الثانية مبعوثة إلى ناحية من الروم أيضاً لأن هناك كل واحدة م السريتين إنما بعثت لقتال الروم فكانت كل واحدة في حكم المدد للأخرى سواء علموا بمكانهم أو لم يعلموا .
فإذا التقوا في دار الحرب كلنوا شركاء فيما أصابوا ولو بعث الإمام سرية فأصابوا غنائم فخلفوا معها إناساً ومضوا أياماً فأصابوا غنائم ودخلت سرية أخرى فأخذت الغنائم التي خلفوها وخرجوا إلى دار الإسلام ثم أقبل الذين أتوا بالغنائم الأخرى حتى خرجوا بها إلى دار الإسلام فإن الغنيمة الأولى تشترك فيها السريتان جميعاً لأن السرية الأولى أصابوها والثانية أحرزوها بدار الإسلام .
فأما الغنيمة الأخرى فهي للذين مضوا خاصة لا شركة فيها للسرية الثانية ولا لأصحابهم الذين كانوا تخلفوا مع الغنائم الأولى لأنهم هم الذين أصابوها وأحرزوها بالدار لم يشاركهم في شيء من ذلك غيرهم .
ولو بعث الإمام سرية فأصابوا غنائم ثم أسلم رجل في دار الحرب فقتل قوماً منهم وأخذ أموالهم والتحق بالسرية ثم خرجوا إلى دار الإسلام ولم يلقوا@(4/30)
قتالاً فللسرية شركة مع الرجل فيما أصاب لأنه أحرزه بمنعتهم وشاركوه في إحراز ذلك بدار الإسلام .
ولا شركة للرجل مع السرية فيما أصابوا لأنه التحق بهم على قصد النجاة من المشركين فكان حاله كحال التاجر يلتحق بالسرية بعد إصابة الغنيمة .
وإن لقوا قتالاً بعدما التحق بهم الرجل اشتركوا في المصاب كله لأن الرجل قاتل عن غنائمهم فيشركهم فيها كالتاجر .
وكذلك لو كان الرجل الذي التحق بهم أسيراً في دار الحرب أسر قبل ذلك بزمان لأن حاله كحال الذي أسلم منهم فإنه لا ينعقد له سبب الاستحقاق معهم وإنما قصد النجاة بالالتحاق بهم .
وإن كان مأسوراً من هذه السرية والمسألة بحالها .
فإنه يشاركهم فيما أصابوا وإن لم يلقوا قتالاً لأنه كان انعقد له سبب الاستحقاق معهم ثم اعترض له عارض غير قادح في ذلك السبب فإذا زال صار كأن لم يكن فإن لم يلتحق هذا الأسير بهم حتى خرجوا إلى دار الإسلام فلا شركة للسرية مع الأسير فيما أصاب لأنهم ما شاركوه في الإصابة ولا في الإحراز .
ولا شركة له معهم فيما أصابوا بعد ما أسر هو لأنه شاركهم في الإصابة ولا في الإحراز .
ولكنه يشاركهم فيما كانوا أصابوا قبل أن يؤسر لأنه شاركهم في الإصابة فثبت حقه فيها .
ثم بالأسر لا يبطل ما كان ثابتاً في حقه وحاله في ذلك كحال السرية التي امتنعت في دار الحرب بعد إصابة الغنيمة .
ولو أن سرية حاصروا أهل حصن لهم كنائس خارجة من حصنهم فأرادوا هدمها فقالوا : نفديها منكم بألف دينار فأخذوها ومضوا@(4/31)
في أرض الروم ثم جاءت سرية أخرى فأرادوا هدم الكنائس فلا بأس بأن يخربوها وإن ثبت عندهم ما جرى بين أهل الحصن وبين السرية الأولى لنهم إنما بذلوا الدنانير ليدفعوا أهل السرية الأولى عما قصدوا من الهدم ولينصرفوا عنهم بأنفسهم وقد حصل لهم ذلك المقصود فكانت السرية الثانية في سعة من هدمها .
إلا أن يصالحوهم أيضاً فإن صالحوهم على ألف دينار أخرى وأخذوها ثم اتقت السريتان في دار الحرب اشتركوا في الفداءين مع الغنائم كلها لأن المأخوذ على سبيل الفداء فيء فإنه مأخوذ منهم بطريق القهر لأن أهل الحصن ما دفعوا ذلك إلا ليزيلوا قهرهم عنهم والمأخوذ بهذا الطريق يكون غنيمة .
فإن مرت السريتان بذلك الحصن فليس لهم أن يخربوا شيئاً منه ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام وقد بينا هذا فيما سبق أن صلح كل سرية مطلقاً يتقيد بمدة بقائها في دار الحرب ف الخوف لأهل الحرب إنما كان بذلك السبب فإن خرجوا ثم رجعوا غزاة فلا بأس بتخريبها لأن حكم ذلك الصلح قد انتهى بخروجهم إلى دار الإسلام إذا حالهم في الرجعة كحال جيش آخر فلا بأس بهدم ما قدروا عليه .
إلا أن يفديه العدو مرة أخرى وإن كانوا حين انصرفوا عنها داخلين في دار الحرب قد صار العدو دونها وقاتلوا المسلمين عنها ومنعوها منهم ثم قاتلهم المسلمون حتى أجلوهم عنها فلا بأس بأن يخربوها أهل السرية وغيرهم سواء في ذلك لأنهم حين قاتلوا المسلمين دفعاً عنها فقد أحرزوها من المسلمين وانتبذ ما كان لهم فيها من أمان بهذا الإحراز .
وهو نظير ما لو صالحوهم في الابتداء على أن يكفوا عنهم مجانيقهم@(4/32)
وينصرفوا عن حصنهم ففعلوا ذلك ثم رجعوا إليهم فوجدوهم قد خرجوا من الحصن وقاتلوهم حتى انهزموا ودخلوا الحصن فإنه يحل للمسلمين قتالهم وهدم حصنهم ولو أنهم بعد الخروج من الحصن لم يقاتلوا المسلمين حتى مروا بهم فإن كانوا أخذوا منهم الفداء على أن يكفوا عنهم وعن حصنهم ما داموا في حصنهم حل قتالهم أيضاً لانتهاء الصلح بخروجهم منها وإن كان وقع الفداء على أن يكفوا عنهم وعن حصنهم فليس ينبغي لهم أن يعرضوا لهم ما لم يقاتلوهم وإن كان ملكهم بعث قوماً فأنزلهم الحصن فقاتلهم أولئك الذين بعثوا وسع المسلمين قتال أهل الحصن وتخريب الحصن والكنائس لأن أولئك منهم وإنما نزلوا حصنهم لينصرهم وليزدادوا قوة بهم فكان قتالهم كقتال أهل الحصن .
ولو كانت السرية مبعوثة من الجند في دار الحرب فأخذوا من أهل الحصن الفداء من كنائسهم ثم مضت وجاء العسكر فأرادوا هدم الكنائس وعلموا ما صنعت السرية فإن كان أهل العسكر عند الصلح بالقرب من الحصن على وجه لو استعانت بهم السرية قدروا على أن يعينوهم فليس لأهل العسكر أن يخربوا كنائسهم لأنهم كانوا ردءاً للسرية والردء في الحكم كالمباشر فيما يكون من أمر الحرب .
ولو كانوا مع السرية حين وقع الصلح لم يكن لهم أن يهدموا الكنائس بدون رد المال كما لا@(4/33)
يكون ذلك للسرية فكذلك إذا كانوا بالقرب منهم بخلاف ما إذا كانوا بالبعد منهم فإن حالهم الآن كحال جيش آخر جاء من أرض الإسلام ألا ترى أن السرية لو خرجت إلى دار الإسلام قبل الالتحاق بالجيش كان للجيش معهم الشركة في الدنانير المقبوضة في المسألة الأولى دون الثانية وبه يتضح الفرق .
ولو أن السرية المبعوثة من دار الإسلام أصابت غنائم وخلفوها مع أجرائهم وخرجوا إلى دار الإسلام ثم دخلت سرية أخرى فلقوا الأجراء وأصابوا غنائم وخرجوا مع الأجراء إلى دار الإسلام فغنيمة السرية الأولى تشترك فيها السريتان لوجود الإصابة من إحداهما والإحراز من الأخرى ولا شركة للسرية الأولى فيما أصابت السرية الثانية لأنهم لم يشاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز .
ولو كانت السرية الأولى بعثوا الغنائم مع الأجراء إلى دار الإسلام ثم دخلت سرية أخرى فأصابت غنائم ثم التقت السريتان في دار الحرب وخرجوا فلا شركة للسرية الثانية في غنائم السرية الأولى .
لأنهم ما شاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز .
ولأهل السرية الأولى الشركة في غنائم السرية الأخرى لأنهم شاركوهم في إحرازها بالدار حين التقوا في دار الحرب وخرجوا معهم .
فإن لم يلتقوا فلا شركة لهم في ذلك أيضاً لأن السرية الأخيرة تفردت بالإصابة والإحراز فإن أهل السرية الأولى ما كانوا معهم عند القتال ولا بالقرب منهم بحيث لو استغاثوا بهم أغاثوهم .
ولو أن السرية الأولى خلفوا غنائمهم في دار الحرب ومضوا حتى التقوا مع السرية الأخرى فأصابوا غنائم ثم خرجوا قبل أن يلقوا الذين خلفوهم مع غنائمهم الأولى لأهل السرية الأولى خاصة لأن السرية الثانية ما شاركوهم في الإصابة ولا في@(4/34)
الإحراز والغنيمة الثانية بن الذين أحرزوها من أهل السريتين .
وإن كان الذين مضوا لقوا السرية الثانية في موضع قريب من الذين خلفوا على الغنائم اشترك الكل في جميع ما أصابوا لأنه إذا كان بعضهم بحيث يتمكن من أن يغيث البعض لو استغاثوا بهم فهم بمنزلة جيش واحد بعضهم ردء للبعض وإن كانوا بالبعد منهم فهم بمنزلة عسكرين متفرقين دخلوا أرض الروم من جانبين .
ولو أن السرية التي حاصرت حصناً أصابوا غنائم فيهم سبايا ثم لم يقدروا على فتح الحصن فسألهم أهل الحصن المفاداة بالمال فإنه يكره للمسلمين أن يفعلوا ذلك لأنه قد ثبت عندنا انتساخ قوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } بقوله - تعالى - : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } على ما ذكره السدي .
فإن فعلوا جاز ذلك لأن فعلهم حصل في موضع الاجتهاد فإن الاختلاف بين العلماء في مفاداة الأسير بالمال ظاهر وقد بيناه في السير الصغير فإن دخلت سرية أخرى فالتقوا مع السرية الأولى لم يشاركوهم في فداء أولئك السبي بخلاف ما تقدم من فداء الكنائس لأن ما أخذوه عوضاً عن السبي بمنزلة الثمن فقد كانوا أثبتوا اليد على السبي ثم سلموهم إلى دار الحرب بما أخذوا منهم فيكون هذا بمنزلة الجيش أصابوا غنائم وباعوها أو قسموها في دار الحرب ثم لحقهم مدد وأما الكنائس فلم تصر محرزة لأهل الإسلام على وجه يجوز بيعهم فيها فكان ما أخذوا من الفداء في حكم مال أصابوه غنيمة ابتداء .
والذي يوضح هذا الفرق أن الإمام لو باع السبي في دار الحرب من تجار المسلمين جاز بيعه ولو باع كنائسهم قبل أن تصير الأرض دار الإسلام لم يجز بيعه .
ولو كانت السرية مبعوثة من العسكر في دار الحرب ثم لحقهم العسكر والمسألة بحالها فإن كان العسكر حين أخذت السرية السبي بالقرب منهم شركوهم في فداء السبي بمنزلة ما لو كانوا حضروا معهم وإن كانوا بالبعد منهم فلا@(4/35)
شركة بينهم في ذلك إلا أن يكون أمير العسكر قد نهى أمير السرية أن يبيع شيئاً من السبي أو يفادي به فحينئذ يكون فداء السبي بينهم وبين أهل العسكر لأنه بعدما نهي عن ذلك لا يكون له ولاية البيع ففعله لا يكون بيعاً لكنه يكون رداً للسبي عليهم فكأن ردهم بغير شيء ثم أخذ منهم مالاً بطريق المعاوضة فلو كان بهذه الصفة كانوا شركاء في المال بخلاف الأول فهناك حين فوض إليه تدبير السرية مطلقاً فقد ثبت له ولاية البيع ويكون الفداء منهم مأخوذاً بطريق الثمن فلا شركة فيه لمن يلحقهم بعد ذلك إلا أن تكون شركته ثابتة في السبي قبل البيع بأن كانوا بالقرب منهم .
ولو قال أهل الحصن للسرية نهب لكم ألف دينار نتصدق بها عليكم على أن تنصرفوا ففعلوا ذلك ثم لحق بهم العسكر فهم شركاؤهم في المال لأن هذا مأخوذ بطريق الفداء حين شرطوا عليهم أن ينصرفوا عنهم ألا ترى أنه لا ينبغي لهم بعدما قبضوا المال أن يعرضوا لهم إلا أن يردوا المال عليهم .
وهذا بخلاف ما لو وهبوا لهم المال بغير شرط فانصرفوا عنهم لأن المال هناك مأخوذ بجهة التبرع المحض أو بسبب تعمد المراضاة بأن كانوا اشتروا من السرية شيئاً بها فلا يأخذ حكم الغنيمة .
ولو باعت السرية منهم بألف دينار وشرط عليهم أهل الحصن في الشراء الانصراف عنهم فإنه يسلم للسرية من ذلك قدر قيما ما باعوا وما زاد على ذلك فهو غنيمة بينهم وبين أهل العسكر لأنهم إنما أعطوا الزيادة بإزاء ما شرطوا عليهم من الانصراف فكان ذلك غنيمة وأما مقدار القيمة فإنما أعطوه عوضاً عما أخذوا من تلك السرية فيختصون به .
ولو أن السرية المبعوثة من دار الإسلام أصابت سبياً وغنائم فجعلوها في الكنيسة وقيدوا السبي فيها وأغلقوا الباب عليهم ودفنوا الأموال ثم مضوا في دار الحرب وجاءت سرية أخرى ففتحوا باب الكنيسة وأخذوا@(4/36)
الأساري واستخرجوا الأموال وخرجوا بها إلى دار الإسلام ثم جاءت السرية الأولى فهذه الموال يشترك فيها أهل السريتين لأن إحداهما أصابت والأخرى أحرزتها بالدار .
فإن لم تنته السرية الثانية إلى تلك الكنيسة حتى خرجت السرية الأولى إلى دار الإسلام من ناحية أخرى والمسألة بحالها فتلك الأموال كلها للسرية الثانية خاصة لأن أهل السرية الأولى حين تركوها في دار الحرب وخرجوا فقد سقطت يدهم عنها من كل وجه والتحقت بسائر أموال أهل الحرب مما هو ضائع ليس في يد إحداهما فإنما أصابها السرية الثانية وهم الذين أحرزوها .
وكذلك لو كانوا لم يخرجوا إلى دار الإسلام ولكن علم أهل الحرب بحال تلك الكنيسة فجاءوا وأخذوا الأموال منها ثم جاءت السرية الثانية فاستنقذوها من أيديهم وأخرجوها إلى دار الإسلام قبل أن يلتقوا مع السرية الأولى فذلك كله للسرية الثانية خاصة لأن أهل الحرب بالأخذ صاروا محرزين لها فتلحق بسائر أموالهم التي لم يأخذها منهم أحد حتى الآن وقد تفردت السرية الثانية خاصة بالأخذ والإحراز منها .
ولو كان بعض السرية الأولى ترك في تلك الكنيسة شيئاً من متاعه أيضاً فإن لم يأخذه أهل الحرب حتى أخذته السرية الثانية فهو مردود على صاحبه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأنه وجد عين ماله فإن أهل الحرب ما أحرزوه ولا علموا به حتى يزول ملكه بذلك وإن كان أهل الحرب قد أخذوه ثم وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة .
لأن أهل الحرب صاروا محرزين له بنفس الأخذ لكونه في دراهم والله الموفق .@(4/37)
فيكون أهل العسكر فيه شركاء وما لا يكون ولو أن رجلاً من أهل العسكر صار في دار الحرب وأصاب عسلاً أو لؤلؤاً أو جوهراً أو معدن ذهب أو فضة فذلك كله فيء لأنه مال تمكن من أخذه في دار الحرب بقوة الجيش والجيش حين دخلوا فقد كان قصدهم إعلاء كلمة الله - تعالى - وإعزاز الدين فكل مال يصل إلى يد بعضهم في دار الحرب باعتبار قوتهم فهو غنيمة وتحقيق ما ذكرنا أنه ما كان يتمكن من إثبات اليد على هذا المال ما لم يصل إلى هذا المكان وما وصل إلى هذا المكان إلا بقوة الجيش فكانوا ردءاً له في السبب الذي يتمكن به من أخذ هذا المال .
وإن باعه قبل أن يعلم الأمير به من تاجر وأخذ ثمنه فرأى الإمام أن يجيز بيعه فإنه يأخذ الثمن فيجعله في الغنيمة لأن أهل العسكر كانوا شركاءه فيما باع قبل البيع فيكون لهم الشركة في الثمن أيضاً .
ولو كان احتش حشيشاً وباعه جاز ذلك وكان طيباً له وكذلك لو كان يستقي الماء على ظهره أو دابته فيبيعه لأن الحشيش والماء مباح ليس من الغنيمة في شيء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت فيهما شركة عامة بين المسلمين بقوله : " الناس شركاء في ثلاث : في الماء والكلأ والنار "@(4/38)
فإذا لم يأخذ حكم الغنيمة بأخذه كان هو المنفرد بإحرازه فيكون مملوكاً له فإذا باعه طاب ثمنه له بخلاف ما تقدم .
ولو كان قطع خشباً أو حطباً وباعه من تاجر في العسكر أخذ الأمير الثمن منه فجعله في الغنيمة لأن الحطب والخشب مال مملوك فيكون كسائر الأموال ألا ترى لو أن رجلاً أخذ من أرض رجل كلأ من بئره ماء في دار الإسلام كان ذلك له ولو باعه كان الثمن طيباً له فإذا أخذه في دار الحرب أولى أن يكون ذلك له ولو أخذ خشباً أو حطباً من شجر نابتة في أرض لم ينتبه أحد كان صاحب الأرض أحق به حتى لو باعه الآخذ لم يجز بيعه ولو استهلكه ضمن قيمته لصاحب الأرض فتبين أن الحطب بمنزلة سائر الأموال التي يتحقق فيها الإحراز بالمكان وأن الكلأ والماء لا يتأتى ذلك فيهما وإنما يكون الإحراز فيهما باليد خاصة .
ولو كان باع الحطب من جندي للوقود أمر برد الثمن على المشتري لأن ما باع كان من الغنيمة والبائع والمشتري في الانتفاع به على السواء فلهذا يلزمه رد الثمن عليه بخلاف ما إذا باعه من تاجر .
وكذلك لو كان المبيع طعاماً من الحنطة والعسل أو علف الدواب من الشعير والقت والتبن فإن هذا كله من الغنيمة ولكل واحد من الغانمين حق الانتفاع به وبهذا تبين أن القت من جملة الأشجار لا من الحشيش حتى لو أخذه من أرض غيره فلصاحب الأرض أن يسترده منه قال - رضي الله تعالىعنه - : وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - يفتي بأنه بمنزلة الحشيش فإنه تافه لا قيمة له قبل الأخذ في أكثر المواضع ولكن ما ذكره محمد - رحمه اله - اصح فإن الحشيش ما ينبت على وجه الأرض ولا يقوم على ساق والشجر ما يقوم على ساق القت من جنس ما ينبت على ساق .
وقيل في تأويل قوله - تعالى - : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } النجم ما ينتشر على وجه الأرض والشجر ما ينبت على ساق والقت من جنس ما ينبت على ساق فكان بمنزلة الشجر .
ولو ظفر أهل العسكر بحشيش للمشركين قد احتشوه وأحرزوه فأخذ ذلك رجل وباعه واستهلكه المشتري فإن كان المشتري تاجراً كان الثمن في الغنيمة وإن كان من أهل العسكر كان الثمن مردوداً@(4/39)
عليه لأن امشركين كانوا أحرزوه هذا وملكوه فإذا ظفر به العسكر فأخذوه كان في حكم الغنيمة بخلاف ما سبق مما لم يحرزه أحد حتى أخذه هذا البائع وأحرزه .
ولو كان في الجند تاجر وجد في دار الحرب من هذا الخشب الخلنج فعمل منه قصاعاً وأخونة ثم أخرجها إلى دار الإسلام فإن الإمام يأخذ ذلك ويبيعه وينظر إلى قيمة الخشب غير معمول وإلى قيمته معمولاً فيقسم الثمن على ذلك ويعطيه حصة عمله ويجعل الباقي في الغنيمة لأن الخشب الذي أخذه قبل العمل كان مالاً متقوماً فكان من جملة الغنيمة ثم هذه الصنعة فيها منه استهلاك من وجه ولهذا لو فعله الغاصب بالمغصوب كان متملكاً له بالضمان إلا أن هاهنا لا يمكن أن يجعل الغاصب ضامناً لأن استهلاك الغنائم في دار الحرب لا يوجب عليه الضمان وإذا لم يكن ضامناً لا يملك أصل الخشب ثم الصنعة التي اتصلت به حقه من الغنيمة في شيء وأصل الخشب غنيمة ولا يمكن تميز أحدهما عن الآخر بالقسمة فيصار فيه إلى البيع وقسمة الثمن بمنزلة ما لو هبت الريح على ثوب إنسان وألقته في صبغ غيره فانصبغ ثم أبى صاحب الثوب أن يغرم لصاحب الصبغ قيمة صبغه وعلى هذا لو أخذ جلود الغنم التي كانت تذبح فجعلها فرواً أو اصطاد سمكاً وملحه لأن المعنى الذي قلنا يجمع الفصول كلها .
ولو كان الذي عمل ذلك عملاً بعد إخراج الغنائم إلى دار الإسلام والمسألة بحالها فهو ضامن قيمة الخشب وكان المعمول له لأن بعد الإحراز هو ضامن لما يستهلك من المال فيتملك محل العمل بالضمان قبل العمل ثم إنما اتخذ المعمول من ملك نفسه .
وعلى هذا لو قسمت الغنائم في دار الحرب ثم أخذ الخشب ممن وقع في سهمه وعمل ذلك منه لأنه صار غاصباً ضامناً وبالعمل صار مستهلكاً له من وجه فيقرر عليه ضمان قيمته لصاحبه وأوضح هذا الفرق بما لو أخذ جلوداً ذكية لرجل فدبغها وجعلها فرواً كان الفرو له وغرم قيمة الجلود لصاحبها لأن المغصوب مال مضمون قبل العمل .
ولو أخذ جلوداً ميتة فدبغها وجعلها فرواً قوم الفرو وجلداً غير@(4/40)
معمول وقوم معمولاً فإن شاء العامل أعطاه جلده ذكياً غير معمول وإن شاء بيع الفرو وقسم ثمنه على قيمة الجلد ذكياً غير معمول وعلى قيمته فرواً معمولاً لأن الغاصب لم يكن ضامناً للجلد هاهنا فإنه ما كان متقوماً قبل الدبغ ولو كان دبغ الجلد دباغاً لا يزيد فيه شيئاً أخذه صاحبه بغير شيء وإن دبغه بما له قيمة ولكن لم يتغير عن حاله فلصاحب الجلد أن يأخذه ويعطيه ما زاد الدبغ فيه وليس له أن يضمنه قيمة جلده لأنه لو استهلكه قبل الدبغ لم يكن ضامناً .
فكذلك حكم الغنائم قبل الإحراز إذا صنع منها شيئاً ألا ترى أن واحداً من العسكر في أرض الترك لو أصاب دواب من هذه السمور موتى فسلخها ثم دبغها وجعل منها فرواً يساوي ألف دينار ثم أخرجه إلى دار الإسلام لم يكن له ذلك لأنه ما تمكن منه إلا بقوة الجيش فلا يسلم له ولكنه يباع على ما ذكرنا .
وكذلك لو أصاب معدن نحاس أو رصاص فجعل منه أباريق وكذلك لو كان معدن ذهب أو فضة فاتخذ مما استخرج من الأباريق في قول محمد - رحمه الله - فأما في قياس قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : يؤخذ من أباريق الذهب والفضة فيرد في الغنيمة ولا شيء له بسبب صنعته بناء على مذهبه أنه لا يعتبر الصنعة في الذهب والفضة ولا تصير العين بها في حكم المستهلك كما قال فيمن غصب نقرة واتخذ منها قلباً وقد بينا في شرح المختصر والله الموفق .@(4/41)
باب التجار وغيرهم وما يحل لهم من الغنيمة
قد بينا أن من لا شركة له في الغنيمة بسهم أو رضخ فإنه لا يحل له تناول الطعام والعلف من الغنيمة لأنه ليس من جملة الغزاة وحل ذلك للغزاة كان بطريق الضرورة فإنهم لا يقدرون على حملها من دار الإسلام ولا يجدونها في دار الحر شراء لأنهم مقاتلون للعدو لا معاملون معهم .
فأما التجار لا تتحقق الضرورة في حقهم لأنهم لا يجدون ذلك بطرق الشراء .
ثم الغزاة يتقوون بما يأكلون ويعلفون دوابهم على نصرة الدين وتحصيل الغنائم في المستقبل بخلاف التجار ومع هذا لا ضمان على التجار فيما أكلوا من ذلك في دار الحرب لنهم لو استهلكوا ذلك لا على وجه الانتفاع لم يضمنوا فعلى وجه الانتفاع أولى .
وكما أن للغزاة أن يتناولوا من ذلك فلهم أن يطعموا من يجب عليهم نفقته من العبيد والنساء والأولاد إذا كانوا معهم في دار الحرب لأن حاجة هؤلاء إلى النفقة كحاجة أنفسهم ولو لم يطعموهم من الغنيمة احتاجوا إلى أن يكتسبوا للإنفاق عليهم وما كان من أجير لا يقاتل فلا ينبغي له أن يرزأ شيئاً من ذلك@(4/42)
لأنه لا نصيب له في الغنيمة وهو غير مستوجب نفقته على من استأجره وإنما له الأجر فقط .
والمدد إذا لحق الجيش قبل القسمة والبيع فلهم أن يتناولا من ذلك الطعام والعلف لأنهم شركاء الجيش في الغنيمة بعدما لحقوا بهم فإن قسمت الغنيمة أو بيعت فليس لأحد أن يأخذ من ذلك شيئاً بدون إذن من وقع في سهمه وإن فعل ذلك ضامناً له بمنزلة سائر أملاكه ولو أخذ جندي شيئاً من طعام الغنيمة فأهداه إلى تاجر في العسكر لا يريد القتال لم يستحب للتاجر أن يأكل ذلك لأن التناول منه مباح للجندي وذلك لا يتعدى إلى الإهداء ألا ترى أن المباح له الطعام لا يملك أن يهديه إلى غيره ولأن الإباحة للجندي لأجل الضرورة ولا ضرورة في الإهداء إلى الغير وإذا سقط اعتبار إهدائه كان هذا وما لو أخذه التاجر بنفسه من الغنيمة سواء ويستوي أن لو كان الجندي المهدي هو الذي أتى بذلك الطعام من بعض المطامير أو غيره أتى به لأنه غنيمة في الوجهين .
بخلاف ما لو احتش الجندي أو استقى ماء ثم بعث به إلى تاجر فلا بأس للتاجر أن ينتفع به لأن ذلك ليس من الغنيمة وقد صار ملكاً خالصاً لمن أحرزه فله أن يهديه إلى من أحب .
ألا ترى أنه ليس لغيره أن يأخذه شيئاً من ذلك بغير رضاه وإن كان محتاجاً إليه بخلاف الطعام فإنه من جملة الغنيمة ألا ترى أن الذي جاء به إذا لم يكن محتاجاً إليه فلا بأس لغيره من الغزاة أن يأخذ منه بمقدار حاجته .
وإن كان الأخذ محتاجاً إليه فلا ينبغي لأحد أن يأخذ منه شيئاً بغير رضاه لأنه إنما يأخذه لحاجته وقد تعين لحاجة صاحبه وبعد ما استويا في المعنى الترجيح يقع بالسبق وقد سبقت يده إليه فكان هو أحق به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " منى مناخ من سبق " .
واستدلالاً بمن حضر@(4/43)
الجامع وجلس في موضع ينتظر الصلاة فإنه لا يكون لأحد أن يزعجه من ذلك ليجلس فيه بنفسه .
والدليل على الفرق بين الحشيش والطعام أن الحشيش لو أخذه الإنسان من المحرز بغير إذنه فاستهلكه كان ضامناً له والطعام لو أخذه جندي أو تاجر ممن جاء به فاستهلكه لم يكن عليه ضماناً له لأنه من الغنيمة والغنيمة لا تضمن بالاستهلاك في دار الحرب .
ولو أن جندياً ذبح شاة من الغنيمة فسلخها وطبخ لحمها أو أخذ حنطة من الغنيمة فطحنها وخبزها ثم دعا تاجراً إلى طعامه حتى أكله معه أو أهداه إليه لم أر بأساً بذلك لأنه قد استهلك طعام الغنيمة بما صنع .
ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك بملك الغير كان متمكناً ضامناً للمغصوب منه فإذا فعله بالغنيمة أولى أن يصير متملكه ثم الملك يطلق له الإباحة والإهداء إلى الغير بخلاف ما إذا لم يتغير الطعام حاله .
والذي يوضح الفرق بينهما أن بعد التغير لو جاءه إنسان فأتلفه كان ضامناً له وقبل ذلك لو أتلفه إنسان لم يكن ضامناً ثم مبنى الطعام المهيأ للأكل على التوسع فيه .
ألا ترى أن العبد المأذون إذا صنع طعاماً فدعا إليه غيره بغير إذا مولاه لم يكن بأكل ذلك بأس وكسبه مملوك لمولاه فهذا الذي لا ملك فيه لأحد يكون أيسر منه لا محلة .
ولو أن تاجراً ذهب مع الجند إلى بعض المطامير وهي نائية عن العسكر فجاء منها بطعام فلا بأس بأن يأكل من ذلك ويعلف دابته لأنه هو الذي أصابه وإنما يثبت حق سائر الغانمين فيه بإصابته فلا يكون حقهم في ذلك مانعاً له من الانتفاع به ألا ترى أنه لو أصاب مالاً آخر كان هو شريكاً للعسكر في ذلك المال وإن لم يكن شريكاً لهم فيما أحرزوه دونه وكذلك في الطعام ولذلك يشترط أن يأتي به من موضع بعيد لأن ما كان بالقرب من العسكر فقد صار مأخوذاً بقوة أهل العسكر قبل إصابته فهو نظير المحرز@(4/44)
بأخذ أهل العسكر دونه .
والغنم والبقر من جملة الأطعمة لا بأس لكل واحد من الغانمين أن يذبحه ويتناول منه لحاجته في دار الحرب ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام فأما بعد الخروج فلا يحل شيء من ذلك إلا عند تحقق الضرورة بشرط الضمان لأن الحق يتأكد في الغنيمة بالإحراز فحكم الشركة يتقرر في الطعام والعلف بتأكد الحق كما يتقرر الملك بالقسمة والحق بالبيع .
وإن كانوا فصلوا من دار الحرب ولكنهم في الدرب بعد في موضع لا يأمن فيه المسلمون إلا بالجند العظيم ولا يقدر أهل الحرب على المقام فيه أيضاً فهذا وما لو كانوا في دار الحرب سواء في إباحة تناول الطعام والعلف لأن هذه البقاع كانت في يد أهل الحرب فكل موضع لا يأمن فيه المسلمون ولا يقدرون على المقام فيه فهو باق على ما كان ولأن إباحة التناول لأجل الحاجة والحاجة متحققة في هذا الموضع لعوز الطعام والعلف فيه بالشراء .
فإذا أخرجوا إلى الموضع الذي يأمن فيه المسلمون فقد ارتفعت الحاجة وليس لهم أن يتناولوا بعد ذلك شيئاً من الطعام والعلف قال : ثم ما داموا في دار الحرب فلا فرق في إباحة التناول بين أن يكون عند المتناول طعام كثير من ذلك الجنس وبين ألا يكون لأن باعتبار الحاجة صار الطعام مستثنى من شركة الغنيمة ما داموا في دار الحرب باقياً أصل الإباحة وباعتبار بقائه على أصل الإباحة يستوي في الانتفاع به المستغني عنه والمحتاج إليه .
قال : وإذا ذبحوا غنماً أو بقراً للأكل فليردوا جلودها في الغنيمة لأن هذا مما@(4/45)
لا يدخل تحت مصلحة الأكل خصوصاً بعد ما جف ويستوي في إباحة التناول ما يؤكل على سبيل الغذاء عادة سواء كان مما يكون في ذلك الموضع أو مما ينقل إليه من موضع آخر وقد بينا فيه خلاف بعض أهل الشام في هذا .
وما يكون من التوابل للقدور فهو بمنزلة ما يتغذى به لأنه مأكول في الناس عادة .
وما يحتاجون إليه في الوقود فالجواب فيه كالجواب في الطعام لأن الحاجة إليه معلوم وقوعها وإصلاح الطعام للأكل لا يكون إلا به .
وكل ما يجوز أن يوقدوا به لطبخهم من أنواع الحطب فكذلك يجوز أن يفعلوا ذلك لبرد أصابهم لأن ذلك من أصول حوائجهم .
ألا ترى أنهم لو أوقدوا للطبخ لم يمنعوا من الاصطلاء بها .
فكذلك إذا أوقدوا للاصطلاء بها في الابتداء وكل ما يكون من الأدهان لهم أن يأكلوا كالزيت ونحوه ولم أن يستصحبوا به لأنه انتفاع بالعين على وجه يصير مستهلكاً فيه من الوجهين فأما البزر للسراج فهو كالحطب للوقود وكل واحد منهما يعلم وقع الحاجة إليه فيكون مستثنى من شركة الغنيمة .
فأما البنفسج والخيري والزنبق فلا ينبغي لهم أن يستصحبوا بشيء م ذلك لأن هذا ليس مما يؤكل عادة لأنه لا يحل لهم الأدهان به إذ الأدهان ليس من أصول الحوائج فهو كالغالية والطيب لا يجوز لهم أن يتطيبوا بشيء من ذلك لأن ذلك ليس من أصول حوائجهم فإذا لم يحل الأدهان به الاستصباح به أولى .
وكذلك لا ينبغي أن يتناولوا شيئاً من الزنجبيل المربى والإهليلج المربى وكذلك من سائر الأدوية@(4/46)
التي تؤخذ وقد صنعها العدو لأن هذه ليست بأطعمة الناس يعني أنها ليست من أصول الحوائج ومما يتعلق بها بقاء النفس فلا تكون مستثنى نم شركة الغنيمة بخلاف الطعام ألا ترى أن المرأة تستوجب على زوجها بعقد النكاح النفقة ولا تستوجب عليه الدواء .
إلا أن يبيع الإمام شيئاً من ذلك واشتراه رجل فحينئذ يكون له أن يتناوله لأنه اختص بملكه حين باشر سببه .
فإن وجد شيئاً من الأدوية نابتاًفي أرضهم فأخذ من ذلك فإن كان للمأخوذ قيمة في ذلك الموضع فهو من جملة الغنيمة فلا ينتفع بشيء منه لأن مأخوذه ومأخوذ غيره فيما هو من الغنيمة سواء .
وإن كان شيئاً لا قيمة له في ذلك الموضع فلا بأس بأن يتداوى به لأنه بمنزلة الحشيش في جواز الانتفاع به في هذا الموضع إذا لم يكن متقوماً وإن كان لو نقله إلى موضع آخر يصير متقوماً .
وعلف الدواب فيما ذكرنا قياس طعام بني آدم لأن حاجة الغازي إلى علف دابته أصلية بمنزلة حاجته إلى الطعام .
وما جاز له أكله جاز أن يعلف دابته أيضاً ألا ترى أن السمن لما جاز له أن يوقح دابته وكذلك لا بأس له بأن ينتفع بالخل لأنه مطعوم وهو إدام الطعام وهو بمنزلة التوابل في إصلاح المرقة به فأما الثياب والأواني وسائر الأموال فليس ينبغي لأحد أن ينتفع بشيء من ذلك لأن@(4/47)
حاجته إلى الانتفاع ه غير معلوم وقوعها فلا يصير مستثنى من شركة الغنيمة ولا يباح الانتفاع به إلا عند تحقق الضرورة فإن عند تحقق الضرورة يجوز له أن ينتفع بملك الغير فلا يجوز الانتفاع بالغنيمة أولى .
ثم إذا ذهبت الضرورة يرده في الغنيمة ولا ضمان عليه في النقصان بخلاف ملك الغير فإن هناك يضم بالاستهلاك ويضمن بإدخال النقصان فيه باستعماله أما الغنيمة فلا يضمنها بالاستهلاك في دار الحر إلا أن في الاستهلاك من غير حاجة يؤدبه الأمير وعند الحاجة يعذره والضرورة في الثياب أن يصيبه البرد حتى يخاف على نفسه وفي الأواني بأن يحتاج إلى الأكل والشرب فيها وليس عنده شيء من ذلك وكذلك ركوب الدابة فقد جاء في الأثر أن ركوب دواب لا غنيمة من الغلول فإن وجد حماراً أو فرساً أو بغلاً أو برذوناً ولا حاجة به إلى ركوبها بأن كان عنده غيرها أو كان راجلاً ولكن لم يلحقه عناء شديد فليس له أن يركبها وإن ركب شيئاً منها ليسقيها أو يحمل عليها علفاً أو علف الغنيمة فلا بأس به لأن هذا من حاجة ما هو غنيمة وهذه الدابة في نفسها غنيمة وليس له أن يركبها بحاجة نفسه .
ولا يحمل شيئاً من متاعه أو علف دوابه التي يملكها ولا يقاتل عليها أيضاً حتى تجيء الضرورة وهو المارد من الأثر إن ذلك من الغلول والضرورة في الركوب@(4/48)
أن يكون قد أعيى وهو يخاف العدو إن لم يركب أو لا يخاف العدو ولكنه قد بلغ منه الجهد بحيث يخاف على نفسه أو يكون قد قتل فرسه فلا يستطيع أن يقاتل راجلاً فحينئذ لا بأس بأن يركبه وإن تلف لم يضمن شيئاً في الحكم ولا فيما بينه وبين الله - تعالى - لأن الركوب مباح له شرعاً .
بخلاف ما يستهلكه من غير حاجة فإنه لا يكون ضامناً في الحكم لعدم تأكد الحق فيه ولكن عليه أن يغرم قيمة ذلك فيما بينه وبين الله - تعالى - لأنه آثم في الاستهلاك فيفتي بأداء الضمان .
والانتفاع بالأسلحة بمنزلة ركوبه الدابة في جميع ما ذكرنا متى كان مباحاً له شرعاً لأجل الضرورة فهو غير ضامن لما يتلف به في الحكم وفيما بينه وبين الله - تعالى - ومتى كان آثماً في الاستعمال فإنه يفتي بالغرم فيما بينه وبين ربه وإن كان لا يجبر عليه في الحكم لأن التوبة تلزمه في هذا الموضع تمام التوبة برد قيمة ما أتلفه من الغنيمة .
والجلال للدواب بمنزلة الثياب للناس واللجم والسروج للدواب بمنزلة السلاح للرجال في جميع ما بينا ولو وجدوا في دار الحرب أشناناً أو صابوناً فأراد بعضهم غسل ثيابه بذلك فهو مكروه لأن هذا ليس من أصول الحوائج فباعتبار لا يثبت الاستثناء من شركة الغنيمة .
إلا أن الأشنان إن كان نابتاً في موضع لا قيمة له فلا بأس لمن أخذه أن ينتفع به وإن كان في موضع له قيمة فبأخذه يصير ذلك من الغنيمة فهو بمنزلة مأخوذ غيره وما أحرزه العدو في بيوتهم فإن قيل : قد رخص له أن يوقد النار بالحطب وإن كان له قيمة في ذلك الموضع فلماذا لا يرخص له في غسل الرأس بالخطمي وغسل اليد والثياب بالأشنان والصابون قلنا : لأن في الوقود معنى إصلاح الطعام الذي هو من أصول@(4/49)
الحوائج فباعتباره يصير مستثنى من شركة الغنيمة وذلك لا يوجد في هذه الأشياء فلا يصير مستثنى ولو وجد مجمراً لم يكن له أن يتجمر به لأن هذا ليس من أصول الحوائج كالطيب .
وكذلك لا يوقد به لأن هذا ليس من الوقود في الناس .
فإن كان في موضع من أرض العدو وذلك خشبهم الذي يوقدون به فلا بأس بأن يوقدوا به وعند ذلك يتجمر به أيضاً بطريق الأولى .
ولو وجدوا أخونة وقصاعاً وأوتاداً فليس ينبغي لهم أن ينتفعوا بها للوقود إلا عند تحقق الضرورة لأن هذا بمنزلة الأمتعة لا يستعمل في الوقود عادة .
فأما الخشب الذي هو غير معمول فإن كان له قيمة في ذلك الموضع فإنه لا يحل الانتفاع به إلا@(4/50)
للوقود وإن كان لا قيمة له في ذلك المكان فلا بأس بالانتفاع به وقد ذكرنا حكم اتخاذ القصاع والأقداح منه بعد إخراجها إلى دار الإسلام فأما قبل الإخراج إلى دار الإسلام إذا أراد الانتفاع بشيء م ذلك فلا بأس به لأن قبل الصنعة كان الانتفاع به مباحاً له باعتبار أنه غير متقدم في ذلك الموضع فصنعته لا تحول بينه وبين الانتفاع به أيضاً وإن أراد الأمير قسمة الغنائم في دار الحرب فإنه يأخذ ذلك من العامل فيجعله في الغنيمة بعد أن يعطيه قيمة عمله بأن يقوم الخشب معمولاً وغير معمول فإن كان باعها أعطاه فضل ذلك من الثمن وإن كان الخشب المعمول لا قيمة له غير معمول في دار الحرب ولا في دار الإسلام فهو سالم لصاحبه لأنه بعمله صار مالاً متقوماً فيكون كسباً له ألا ترى أن من اتخذ كوزاً من تراب غيره يكون مملوكاً له والطين الذي يتخذ منه القدور في هذا بمنزلة الخشب الذي تعمل منه القصاع على ما بينا .
وإذا ذهب قوم في طلب الغنائم فوجدوا أرماكاً للمشركين وأمتعة وطعاماً وسبياً فلا بأس بان يحملوا ذلك كله على الأرماك حتى يأتوا به العسكر لأن ذلك كله للغانمين والحمل وما يحمل عليه وإذا ثبت الحكم بهذه العلة في الأمتعة فكذلك في الطعام لأنهم إنما يأتون بالطعام لينتفع به الجيش كلهم .
وإن وجدوا شيئاً يسيراً من العلف والطعام فأخذوه لحاجة أنفسهم فإنه لا يستحب لهم أن يحملوه على الأرماك التي للعدو ولا على حمرهم وبغالهم ولا على عجلهم إلا عند تحقق الضرورة لأنهم أحق الناس بذلك@(4/51)
الطعام إذا لم يكن فاضلاً عن حاجتهم فكان حكمه حكم الطعام الذي أدخلوه من دار الإسلام لحاجتهم ولو وجدوا بقراً وثيراناً وإبلاً فلا بأس بأن يحملوا عليها ما أخذوا من الطعام لحاجة أنفسهم لأن هذا من جملة الطعام أيضاً .
ألا ترى أن لهم أن يذبحوه للأكل ويكون أخص به إذا لم يكن فاضلاً عن حاجتهم فكذلك لا بأس بأن يحملوا عليها ما أخذوا من الطعام لحاجة أنفسهم بخلاف ما تقدم .
فإن وجدوا الطعام اليسير على الأرماك وذلك لا يفضل عن حاجتهم فعليهم أن يأخذوا ذلك عنها ويحمولها على دوابهم ثم يسوقن الأرماك عرياً إلى المعسكر لأن استدامة الحمل عليها كإنشائه .
ولو كان معهم طعام أدخلوه من دار الإسلام فأرادوا أن يحملوا ذلك على الإبل والبقر من الغنيمة لم يحل لهم ذلك إلا عند الضرورة لأنها وإن كانت أطعمة فهي من الغنيمة ألا ترى أن ما يفيضمنها عن حاجتهم فلسائر الغانمين أخذه منهم والمحمول ملك خاص لهم لا سبيل لأحد على شيء منه فلا يكون لهم أن ينتفعوا بما هو من الغنيمة من وجه فيما ليس من الغنيمة في شيء من الوجوه بخلاف الطعام الذي أخذوه لحاجة أنفسهم وإنما يحمل طعامهم ومتاعهم عليها بمنزلة ركوبهم إياها .
وإن وجدوا غرائر لأهل الحرب فيها الطعام فذها والأرماك التي يوجد عليها الطعام سواء لأن الغرائر ظروف فهي من الغنيمة لا من الطعام كالأرماك فأرادوا ذبحها وأكلها لم يؤذن لهم في ذلك إلا عند تحقق الضرورة وهذا على أصل أبي حنيفة - رصي الله عنه - ظاهر أنه يكره لحم الخيل كما هو قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فلا يكون الخيل من جملة الطعام في الغنيمة وعلى قولهما وإن كان أكله مباحاً لمالكه ولكن ما يكون من جملة الغنيمة لا يعد من جملة الطعام الذي يرخص لكل واحد منهم في الاختصاص به أكلاً إلا أن يكون معداً لذلك عرفاً أو منصوصاً عليه شرعاً ومنفعة الأكل في الأنعام منصوص عليه قال الله تعالى : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وفي الخيل غير منصوص عليه وهو مما لا يعتاده الناس غالباً أيضاً وإنما الغالب عليها@(4/52)
الركوب فلهذا يكره ذبحها وأكلها في الغنائم إلا من ضرورة .
وإن رأى الأمير أن يمنعهم من تناول الطعام والعلف فلا بأس بذلك إذا كان على وجه الاعتبار والنظر فيه لهم بأن كانوا أغنياء عن ذلك ألا ترى أنه لو رأى أن يبيعها أو يقسمها في دار الحرب كان ذلك نافذاً منه ويرتفع به حكم إباحة التناول فكذلك إذا رأى أن يمنعهم من التناول إلا أن يكونوا محتاجين إلى ذلك فحينئذ يكره له أن يمنعهم من التناول أصلا ًويمنعهم من التناول إلا بثمن لأنه يقصد إلى رخصة شرعية فيريد رفعها برأيه مع حاجة الناس إليها وذلك منهي عنه بمنزلة ما لو منعهم من الانتفاع بالماء للعامة أو التطرق في الطريق الجادة .
فإن فعل ذلك وأخذ منهم الثمن فجعله في الغنيمة ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلافه فإنه يمضي قضاءه لأن ذلك حصل منه في موضع الاجتهاد .
وقد بينا أن قضاء مثله في المجتهدات نافذ .
قال : وقد قال بعض الناس : لا ينبغي للأمير أن يعرض بشيء من ذلك المال وإن كان الناس عنه أغنياء ولم يتبين هذا المخالف من هو فكأنه اعتمد ما ذكرنا من النكتة أنه يمنعهم من الرخصة الشرعية ولكن علماءنا - رحمهم الله تعالى - قالوا : بثبوت الرخصة لأجل الحاجة فعند تحقق الحاجة هو في منعهم عن الرخص قاصد إلى الإضرار بهم لا إلى توفير المنفعة عليهم حتى لو كان في ذلك منفعة ظاهرة للمسلمين كان هو في سعة من أن يفعله أيضاً فأما في غير موضع الحاجة فهو ناظر لهم وله ولاية النظر ولو لم يكن فيه سوى أن عند المنع لا يسرفون في التناول من طعامهم وعند الإطلاق يسرفون في التناول من طعام الغنيمة لكان هذا كافياً في سعة الرأي والاجتهاد له في المنع .
وما وجدوا في منازل أهل@(4/53)
الحرب من طين قد أحرزوه لغسل الرأس أو من الطين الذي للدواء فليس أحب لهم أن يستعملوا شيئاً من غير حاجة لأن بالإحراز صار ذلك مملوكاً لهم وما يصاب من ملكهم بطريق القهر يكون غنيمة وهذا الاستعمال ليس من أصول الحوائج فإن وجدوا طيناً لم يحرزوه فإن كان له قيمة في ذلك الموضع فلا بأس بأن يستعملوه وهذا وما تقدم من نظائره سواء .
وكذلك الحكم فيما وجدوا من دم الأخوين والحرمل بخلاف الوقود فإنهم وإن وجدوا من ذلك ما قد أحرزوه فلهم أن ينتفعوا به وهو استحسان وفي القياس لا يكون لهم ذلك إلا باعتبار الحاجة ولكن قد بينا أن الوقود يتحقق فيما هو من أصول الحوائج .
فإن وجدوا أوتاداً أو عموداً لفسطاط قد جعله أهل الحرب فهذا مال متقوم من جملة الغنيمة فلا ينبغي لأحد منهم أن ينتفع به من غير حاجة وكذلك ما وجدوا من خشب أحرزه أهل الحرب لغير الوقود فجعل بعضهم من ذلك أوتاداً أو قصاعاً لم ينبغ له أن ينتفع بشيء من ذلك لأن حكم الغنيمة ثابت في أصله وإن لم ثابتاً في الصنعة حتى أن على الإمام أن يبيع ذلك ويقسم الثمن على قيمته غير معمول وعلى قيمته معمولاً فيعطيه حصة عمله ويجعل الباقي في الغنيمة أو يعطيه حصة قيمة عمله ويجعل ذلك في الغنيمة .
وكذلك لو كان الصانع هو الذي أخذ الخشب من شجرهم وكان له قيمة في ذلك الموضع فإذا لم يكن له قيمة فلا بأس بأن ينتفع به في دار الحرب فإذا خرج إلى دار الإسلام فحكمه كحكم ما سبق لأن الأصل غنيمة ف الوجهين ولكن في الموضع@(4/54)
إنما صار غنيمة بأخذه وهو ما قصد بأخذه سوى الانتفاع به فجعل انتفاعه به مقدماً باعتبار قصده وهناك قد كان ذلك غنيمة باعتبار الاستيلاء عليه بعد إحراز المشركين له فلا يكون له أن ينتفع به من غير حاجة ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يأمر أهل العسكر إذا فصلوا من الدرب أن يردوا الأوتاد في الغنيمة .
قال : ولا بأس بأن يدهنوا سروجهم وجلودهم التي يقاتلون عليها بالزيت والشحم الذي يصبونه في دار الحرب فأما ما حملوا من ذلك معهم للتجارة لا للقتال فلا ينبغي لهم أن يدهنوا به شيئاً من ذلك والقياس في الكل واحد لأن ما أصابوه من جملة الغنيمة ولكنه استحسن فقال : لهم أن يأكلوا ذلك ليتقووا به على القتال فكذلك لهم أن يدهنوا به ما يستعملونه في القتال بأدهان فأما دهان ما حملوه للتجارة معهم ليس مما يحصل لهم به التقوى على القتال فهو نظير التجار في العسكر لا يكون لهم أن يتناولوا شيئاً من ذلك .
ولو أودع الأمير شيئاً من الغنائم في دار الحرب مسلماً فاستهلكه لم يكن ضامناً لأن الحق فيه غير متأكد قبل الإحراز فاستهلكه قبل الإيداع وبعده سواء إذ الإيداع ليس من الإحراز في شيء .
وللإمام أن يؤدبه لأنه خان فيما ائتمنه .
ولو استهلكه قبل الإيداع أدبه على ذلك فبعده أولى إلا أيكون طعاماً فأكله فحينئذ لا يؤدبه فيه إذا كان من جملة الغانمين كما لو أكله قبل@(4/55)
الإيداع ولو كان قال له : إن استهلكته فأنت ضامن له كان هذا الشرط باطلاً لأنه مخالف لحكم الشرع من حيث اشتراط الضمان على الأمين واشتراط الضمان قبل تأكد الحق فيه بالإحراز .
وإن قال حين دفعه إليه : هو عليك بقيمته أو هو عليك بألف درهم فرضي به القابض فهذا بيع لأنه صريح بالبيع الصحيح أو بالبيع الفاسد والبيع الفاسد كان أو صحيحاً بمنزلة الإحراز من الإمام فإن الملك يثبت له إما بنصيبه أو عند القبض كما يثبت بالقسمة .
ولو نقل أمير العسكر لسرية بعثها الربع بعد الخمس فجاءوا بطعام فلا بأس بأن يتناولا منه وإن كانوا أغنياء عنه أهل العسكر وأهل السرية في ذلك سواء لأن التنفيل لا يؤثر في حكم تناول الطعام والعلف فإن حق المنفل بمنزلة سهام الغانمين وفي السهام التفاوت بين الفرسان والرجالة ثابت ولم يمنع ذلك التسوية بينهم في إباحة التناول فكذلك النفل .
ولو نفل للسرية جميع ما أصابت فلا بأس لأهل السرية أن يتناولا منها لقيام شركتم فيها بسهامهم وليس لأهل العسكر أن يتناولا من ذلك شيئاً لأنه لا نصيب لهم فيه فحالهم فيما جاء به أهل السرية بعد التنفيل كحال التجار في الغنيمة .
ولو كان الأمير قال للسرية : من أصاب منكم شيئاً فهو له خاصة فليس لأحد منهم أن يتناول من طعام قد أخذه صاحبه إلا بالثمن أو أن يعطيه صاحبه لأن هذا التنفيل بمنزلة القسمة فكل من أصاب شيئاً بعد هذا فقد اختص بملكه ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه فإن تناول رجل من ذلك شيئاً بغير رضاه من أصابه فهو ضامن له كما هو الحكم في الغنائم بعد القسمة .
ألا ترى أن أحدهم لو أصاب جارية فاشتراها بحصته فله أن يطأها وقد بينا هذا في السير الصغير .
ولو لم ينفل الأمير للسرية شيئاً فاستأجر أميرهم قوماً يسوقون الغنائم إلى@(4/56)
العسكر جاز ذلك من جملة ما أصابوا لأن الأمير إنما أرسله للقتال وإحراز الغنائم فيمون ذلك إذناً له فيما يحصل به الإحراز وهو السوق للدلالة وإن لم يصرح بذلك .
ثم ينبغي لأمير العسكر أن يبيع مما جاءوا به من الطعام ما يؤدي أجر الأجراء ويخلي ما بين الناس وبين ما بقي حتى يأكلوا وهذا إذا لم يصب أهل العسكر غنيمة أخرى فإن كانوا أصابوا أعطى أجر الأجراء من ذلك وخلى بين الناس وبين ما جاء به أهل السرية من الطعام والعلف ليأكلوا بقدر حاجتهم فإن أكلوا ذلك كله قبل أن يباع فللأجراء مقدار أجرهم فلا ضمان على أحد فيما يأكل منه ولكن إن غنموا أخرى قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام أعطى من ذلك أجر الأجراء وإلا أعطاهم أجرهم من بيت المال لأن هذا دين وجب لحاجة المسلمين ولأن الغرم مقابل بالغنم والله الموفق .
باب وما جاء في الغلول
وإذا وجد الغلول في رحل رجل أوجع ضرباً ولم يبلغبه أربعين سوطاً لأنه ارتكب جريمة ليس فيها حد مقدر فيعزر عليها ولا يبلغ بالتعزير شيئاً من الحد لقوله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ حداً في غيره فهو من المعتدين " .
ولا يحرق رحله بما صنع لأنه خائن والخيانة لا توجب عليه إحراق رحله .
ولا قطع عليه أيضاً لأن له فيها نصيباً ومن@(4/57)
سرق مالاً له فيه نصيب لم يلزمه قطع اليد .
وهذا قول الجمهور من الفقهاء فأما أهل الشام كانوا يقولون : يحرق رحل الغال ويروون فيه حديثاً عن الحسن - رضي الله تعالى عنه - قال : يؤخذ الغلول من رحله ثم يحرق رحله إلا أن يكون فيه مصحف وأصحاب الحسن يروون عنه موقوفاً وقد ذكر الأوزاعي عن الحسن هذا الحديث مرفوعاً ولكن الفقهاء لم يصححوا هذا الحديث لأنه شاذ يرويه مجهول ولا يعرف فإن الأوزاعي لم يذكر لم يذكر اسم الرجل الذي بينه وبين الحسن ثم هو مخالف للآثار المشهورة وقد ذكر في الكتاب بعضها .
أن رسول الله صلى عليه وسلم ألحق الوعيد بكل من ظهر منه غلول ولم يشتغل بإحراق رحل أحد فمن ذلك حديث مدعم - عبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم - قد وهبه له رفاعة بن زيد فبينا هو بحذاء رحل النبي عليه الصلاة والسلام إذ جاءه سهم عائر فقتله أي لا يدري من رمى به فقال الناس : هنيئاً له الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها القسمة لتشتعل عليه ناراً " فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين فقال صلى اله عليه وسلم : " شراك من نار " وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : استشهد فلان فقال : " كلا إني رأيته يجر إلى النار بعباءة غلها "@(4/58)
وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - : ما ظهر الغلول في قوم قطر إلا ألقي في قلوبهم الرعب ولا فشا الربا في قوم إلا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ولا حكم على قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا نقض قوم العهد إلا سلط عليهم العدو ولما قال رجل لسلمان - رضي الله عنه - : إني أخذت خيطاً من الغنيمة فخطت به ثوبي قال : كل شيء وقدره .
فهذا كله دليل على عظم الوزر في الغلول وأنه ليس فيه إحراق الرحل لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وقال جابر - رضي الله عنه - : ليس في الغلول قطع ولا نكال وهذا بنفي إحراق الرحل فإن ذلك أعظم النكال .
وكما لا يحرق رحل الغال لا يحرم سهمه من الغنيمة ولا من العطاء لأنه لو سرق مالاً لا نصيب له فيه لا يحرم سهمه به فإذا كان له نصيب أولى .
والذين يقولون بإحراق رحله يقولون لا يحرق المصحف ولا الحيوان ولا السلاح فيه يقاس سائر الأمتعة .
فإن قالوا : إنما لا يحرق الحيوان لمعنى المثلة فينبغي لهم أن يذبحه ثم يحرقوه وإن قالوا : لا يحرق السلاح لأنه يتقوى به على القتال فكذلك سائر الأمتعة لأن الغازي لا يستصحب في العادة إلا ما يحتاج إليه للقتال .
والدليل على ضعف هذا الحديث المروي فيه أن الغلول فيما نرى ما كان في زمن من الأزمنة أكثر منه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة المنافقين والأعراب الذين يغزون معه وهم كانوا أصحاب غلول وكان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفعلون وما يعتقدون وأهل المغازي لم يدعوا شيئاً مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم@(4/59)
في مغازية إلا رووه فلو كان أحرق رحل أحد لنقلوا ذلك مستفيضاً وحيث لم يوجد ذلك في شيء من الكتب المشهورة عرفنا أن الحديث لا أصل له ثم فيه إثبات حد بحديث شاذ وإثبات ما يخالف الأصول مما يثبت مع الشبهات بمثل هذا الحديث الشاذ لا يجوز فكيف يثبت به ما يندرئ الشبهات ! أرأيتم ثيابه التي عليه أتحرق ويترك عرياناً فلعله لا يؤمن عليه أن يموت من البرد أرأيتم إن لم يكن له رحل أيحرق متاعه الذي في بيته بالثغر أو ما عنده من وديعة أو عارية لإنسان في رحله أرأيتم رجلين أعار كل واحد منهما صاحبه متاعاً ثم غل كل واحد منهما أيحرق ما عند كل واحد منهما من متاع صاحبه أرأيتم قوماً مجتمعين في رحل غل بعضهم وعلم به أصحابه ولم يخبروا بما صنع أيحرق متاعه خاصة أو متاعهم بكتمانهم عليه واستكثر من الشواهد في تبعيد قول من يقول بحرق رحل الغال ثم ذكر الأصل الذي بينا في كتاب الاستحسان .
إن الكبار من الصحابة - رضي الله تعالى عليهم - كانوا لا يعملون بخبر الواحد حتى يشهد به غيره معه أو حتى يحلف كما هو قول علي - رضي الله تعالى عنه - فإذا كان هذا مذهبهم فيما يثبت مع الشبهات كالميراث وفي الاستئذان الذي لا يتعلق به حكم ملزم فكيف يعتمد على حديث شاذ في إقامة حد عظيم وهو إحراق رحل الغال فإن ذلك مما @(4/60)
لا يجوز إثباته مع الشبهة ألا ترى أن الصحابة - رضي الله تعالى عليهم - اتفقوا على حد الخمر ثم كان علي - رضي اله تعالى عنه - يقول : " ما كنت لأقيم على رجل حداً فيموت فيكون في نفسي من ذلك شيء إلا حد الخمر " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله تعالى عنه - لم يسناه فبهذا تبين أن قول من يقول بإحراق رحل الغال ضعيف جداً والله الموفق .
باب الشراء فيمن يزيد وبيع السهام
ولا بأس ببيع الغنائم فيمن يزيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم باع قعباً وطستاً بيع من يزيد وإنما أوردت هذا لأن من الناس من يكره بيع المزايدة وقال : إنه استيام على سوم الغير وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يستام الرجل على سوم أخيه " وليس كما ظنوا فالاستيام على سوم الغير إنما يكون بعد أن سركن كل واحد منهما إلى صاحبه والمزايدة تكون قبل ذلك حتى أن صاحب المتاع إذا كان هو المنادي على سلعته فإن طلبه إنسان بثمن سماه فلم يسكت عن@(4/61)
النداء فلا بأس لغيره أن يزيد وإن سكت عن النداء وركن إلى ذلك لم يحل لأحد أ يزيد لأن ذلك يكون استياماً على سوم الغير .
وإن كان المنادي هو الدلال فما لم يخبر به صاحب المتاع يجوز لغيره أن يزيد وإذا أخبره بلك فركن إليه لم يحل لأحد أن يزيد بعد ذلك وذكر عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السهام حتى تقسم وبه نأخذ فإن بيع الغازي سهمه قبل القسمة باطلاً لأنه باع ما لا يملك .
ألا ترى أنه لو أعتق كان عتقه باطلاً فالبيع أحرى أن يكون باطلاً ألا ترى أنه لا يدري أن نصيبه أين يقع وما دام في دار الحرب لا يدري أنه هل يبقى حياً حتى يكون له نصيب أو يموت قبل الإحراز .
وهذا هو المراد بما يرويه عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم وقد بينا أن بيع الإمام الغنائم قبل القسمة جائز فيكون المراد بالنهي بيع الرجل سهمه .
وذكر عن الشعبي - رحمة الله عليه - في الرجل يشتري الجارية من المغنم ثم يجد بها داء قال : يردها وبه نأخذ فإن المشتري يستحق بمطلق العقد سلامة المعقود عليه سواء اشتراه من الغنيمة أو من المالك فإذا لم يسلم له ذلك ردها بالعيب فإن كانت الغنيمة لم تقسم رد عليه ثمنها وإن كانت قد قسمت بيعت الجارية مع بيان عيبها ويعطى الأول ثمنها من الثمن الثاني فإن فضل شيء منه جعل في بيت المال وإن نقص الثمن الثاني عن الثمن الأول فذلك على بيت المال أيضاً ثم ذكر باباً في كيفية الرد بالعيب وقد بينا ذلك فيما أملينا من شرح الزيادات والله أعلم بالصواب .@(4/62)
باب من السبايا والنفقة عليهم والعهدة في بيعهم
وإذا سبى أهل رجل من أهل الحرب وولده فوقعوا في سهم رجل فجاء الحربي بأمان فقال : آتيك بثمنهم حتى أشتريهم وأودعهم في دار الإسلام ووقع له أن يسلم أو يكون ذمياً فيقول المسلم : نعم فالرقيق على حالهم رقيق للذي وقع في سهمه لأنه ما جرى بينه وبين الحربي عقد وإنما جرى بينهما الميعاد أو الاستيام وبه لا يثبت الملك للحربي فيهم ولا يلزم المسلم الامتناع من التصرف فيهم ولكن يستحب له أن يفي بعدته لأن الوفاء بالعهد من أخلاق المؤمنين وخلف الوعد من صفات المنافقين به ورد الأثر .
فلا ينبغي له أن يخرجهم من ملكه حتى يخلف الحربي الموعد إلا العتق فإنه لا بأس بأن يعتقهم قبل مجيء الحربي لأن في هذا تحصيل مقصود الحربي .
فلا يكون من خلف الوعد في شيء إلا الزوجة فإنه لا ينبغي له أن يعتقها حتى يخلف الحربي الموعد لأن الحربي إذا اشتراها لم تعتق وكانت أمة له بخلاف الأولاد ففي إعتاقه إياها قبل مجيئه خلف الوعد وهو نظير ما قلنا في المكاتب يشتري زوجته مع أولاد له منها فأعتق المولى بعض أولاده ينفذ عتقه فيه ولو أتعق زوجته لم ينفذ عتقه فيها لأن في إعتاقه الولد يحصل للمكاتب مقصوده وليس في إعتاق الزوجة تحصيل مقصوده فإنها بعد أداء بدل الكتابة تكون مملوكة له يطؤها بملك اليمين .
فإن أخلف الحربي الوعد@(4/63)
فلا بأس للمسلم بأن يتصرف فيهم بما شاء لأن بإخلاف الحربي يرتفع حكم ذلك الوعد وإنما يتبين ذلك بان لا يجيء إلى الوقت الذي وقت له فإن كان لم يوقت له في ذلك وقتاً فذلك على قدر الذهاب والمجيء ومقدار أيام على قدر ما يرى أنه يحتبس لجمع المال لأن البناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال .
فإن كان الحربي حين ذهب ليأتي بالثمن دفع دنانير أو دراهم إلى المولى وقال : أنفق هذا عليهم ففعل ذلك ثم جاء الحربي فأراد أن يجعل ذلك من الثمن وقال : دفعته إليك قرضاً وقال المولى : دفعته إلي صلة فالقول قول الحربي مع يمينه لأنه هو الدافع للمال فالقول في المدفوع قول الدافع لأن بمطلق الدفع لا يثبت إلا الأقل المتيقن به وذلك القرض فيكون القول قول الحربي في ذلك .
سواء قال : قد ذكرت لك أنه قرض أو قال : نويت ذلك في نفسي وكذلك لو كان أعطاه شيئاً من الطعام مما يتأتى فيه الإدخار لينفقه عليهم وإن كان أعطاه شيئاً مما لا يمكن إدخاره كالخبز واللحكم والثريد فالقول فيه أيضاً قول الحربي في القياس لأن ذلك كله ملكه ولكنه استحسن في هذا فقال : القول قول المسلم ولا شيء للحربي عليه لأن الظاهر أن الدفع في مثله يكون على سبيل الهدية دون القرض والبناء على الظاهر واجب .
وهذا القياس والاستحسان نظير ما قالوا في الزوج إذا بعث إلى زوجته شيئاً قبل أن يبني بها ثم زعم أنه بعث ذلك إليها بجهة الصداق وقالت المرأة : بل هي هدية فالقول قول الزوج في ذلك كله إلا في الطعام الذي لا يمكن ادخاره فإن القول في ذلك قولها استحساناً .
وكذلك إن كان الحربي أعطاه ثياباً ليكسوهم والحاصل أنهم مماليك المسلم فدفع ذلك إليهم بنفقتهم وكسوتهم بمنزلة دفعه إليه لينفق على نفسه فلا يتعين فيه جهة الصلة إلا بالتصريح به ثم ذكر ثلاث أبواب قد تقدم بيان شرحها في الزيادات .@(4/64)
باب من الشهادات في الغنائم والفيء
ولو صالحوا أهل الحصن على أن يؤمنوا أحرارهم ويكون للمسلمين رقيقهم ففتحوا الحصن ثم قال المسلمون لناس منهم : هؤلاء من أرقائك وقال أولئك القوم : نحن من أحرارهم فالقول قول أولئك القوم مع إيمانهم لأن من في يد نفسه القول قوله فيما يدعي من الحرية ما لم يثبت رقه بالحجة فإن قيل : هذا نوع ظاهر يدفع به الاستحقاق ولا يثبت به استحقاقهم أنفسهم بعدما ظهر المسلمون عليهم قلنا : هم بهذا الظاهر يدفعون ظهور الاستحقاق على أنفسهم لأن الظهور عليهم إنما يوجب الاستحقاق في حق من لم يتناوله الصلح والأمان فما لم يثبت أن هؤلاء من جملة من لم يتناوله الصلح لا يثبت الاستحقاق عليهم وبهذا تبين أنهم يدفعون الاستحقاق عن أنفسهم فالقول قولهم مع إيمانهم .
فإن شهد عليهم شهود عدول من المسلمين أو من أهل الذمة أنهم من أرقائهم قبلت الشهادة لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت بإقرار الخصم .
ولا يمتنع بول هذه الشهادة بسبب ما للشهود في المشهود به من النصيب بالسهم أو الرضخ لأن ذلك ليس بشركة ملك وقد بينا أن مثل هذه الشركة لا يمنع قبول الشهادة .
ألا ترى أنه لو شهد به قوم ممن لا نصيب بهم في الغنيمة كان للقاضي أن يقضي بشهادتهم وإن كان القاضي من جملة الغانمين ومعلوم أن ولاية الشهادة دون ولاية القضاء فإذا كان النصيب للقاضي بهذا الطريق فلا يمنع صحة قضائه فيه فالنصيب للشاهد أولى يمنع قبول شهادته فيه .
ثم استكثر من الشواهد لذلك حتى قال : لو شهد قوم من الغزاة على واحد منهم بالغلول قبلت شهادتهم مع وجود@(4/65)
النصيب لهم في المشهود به ولو لم تقبل شهادتهم في ذلك لأجل نصيبهم لم يقبل فيه أيضاً شهادة آبائهم وأولادهم لأن شركة الملك كما تمنع قبول شهادة الشريك في المال المشترك تمنع قبول شهادة أبائه وأولاده في ذلك ولو بطلت الشهادة لهذا بطلت فيه شهاد الفقراء والمساكين ممن لم يشهد القتال لأن لهم في المشهود به نصيباً باعتبار الخمس وبطلت أيضاً شهادة المسلمين على من سرق من بيت المال شيئاً لثبوت الحق للشاهد في ذلك وأحد لا يقول بهذا فعرفنا أن الشركة العامة لا تمنع قبول الشهادة وإنه إنما يمنع قبول الشهادة باعتبار شركة المالك لأن الشاهد يثبت الملك لنفسه بشهادته فأما من يثبت حقاً عاماً لا ملكاً فإنه لا يمنع قبول شهادته ألا ترى أنه لو شهد مسلمان على رجل أنه بنى داره هذه في طريق المسلمين أمره الإمام بهدمها حتى يعيدها طريقاً كما كانت ومعلوم أن في الطريق حقاً لكل أحد فكان الشاهد منتفعاً بشهادته من هذا الوجه ولكن لما انعدم الملك له في المشهود به واليد وكانت شهادته مقبولة فكذلك ما سبق والله أعلم .@(4/66)
باب ما يتبايع أهل الإسلام بينهم مما يأخذونه من الأطعمة والأعلاف
قد بينا أن لكل واحد من الغانمين حق التناول من الطعام والعلف قبل إحراز الغنيمة بالدار فإن أصاب أحدهم شيئاً من ذلك كثيراً فليأخذ منه مقدار كفايته وليقسم سائر ذلك بين أصحابه لأنه باعتبار سبق يده إليه صار أحق به بقد حاجته فعليه فيما يفضل عن حاجته أن يوصله إلى المحتاجين منهم .
فإن أراد أن يحمل الفضل إلى منزل آخر نظر فإن كان يعلم أنه لا يصيب في ذلك المنزل شيئاً فلا بأس له بذلك لأنه من جملة حاجته وتجدد الحاجة إلى الطعام والعلف في كل منزل معلوم وما يعلم وجوده بطريق الظاهر فهو كالموجود حقيقة .
ألا ترى أن من لا يملك من الزاد والراحلة وما يحتاج إليه في الذهاب والرجوع في طريق الحج وما يترك للعيال في هذه المدة لا يلزمه الحج وباعتبار حق يده صار هو أحق بما كان مشغولاً بحاجته فكان له ألا يعطيه غيره .
وإن كان يعلم أنه يصيب في المنزل الآخر مثل هذا ولكنه يكره الطلب في المنزل الآخر فلعله يشق ذلك عليه أن يدفع الفضل إلى المحتاجين من أصحابه لأنه@(4/67)
فاضل عن حاجته بتمكنه من إصابة مقدار حاجته في المنزل الآخر وحاجة أصحابه إلى ما في يده متحققة في الحال .
فليس له أن يمنعهم حقهم لتحصيل الراحة لنفسه أو لطمأنينة قلبه فإن أبى أن يعطيهم فأخذوا ذلك منه فلا بأس في الفصل الثاني ومكروه في الفصل الأول لأنه إذا ظفر بجنس حقه وإذا كان له حق المنع شرعاً فليس لهم أن يبطلوا عليه هذا الحق بالأخذ منه لحرمة يده هاهنا .
وفي الوجهين لاضمان عليهم لأنها غير محرزة بالدار فلا يضمن مستهلكها شيئاً .
وإن أخذوا ذلك منه فخاصمهم إلى الإمام قبل أن يأكلوا فإن كان هو محتاجاً إلى ذلك رده الإمام عليه لأن الأخذ منه مع قيام حاجته تعد وعلى الإمام إزالة اليد المتعدية .
وكذلك إن كانا جميعاً غنيين عنه لأن يده إلى ذلك كانت أسبق وإنما يجوز الأخذ منه باعتبار الحاجة للمحتاج .
فإذا لم يكن الآخذ محتاجاً إليه كان متعدياً في إزالة يده وإن كان الثاني محتاجاً إليه دون الأول لم يسترده منه الإمام لأنه يحق أخذه منه وعلى الإمام تقرير اليد المحقة .
فأما إذا كانا غنيين عنه فللإمام أن يأخذه منهما فيدفعه إلى غيرهما وإذا ثبت بهذا الطريق أن له ولاية الاسترداد من الثاني ثبت له ولاية الرد على الأول لمراعاة قلبه كما لو تخاصما عنده قبل أن يأخذه منه وهكذا الحكم الذي ذكرنا في كل ما يكون للمسلمين فيه حق كالنزول في الرباطات والجلوس في المساجد لانتظار الصلوات والنزول بمنى أو عرفات للحج حتى إذا ضرب رجل فسطاطاً في مكان وقد كان ذلك المكان ينزل فيه غيره قبل ذلك ومعروف بذلك فالذي بدر إلى ذلك المنزل أحق به وليس للآخر أن يحوله منه لأن يده سبقت إليه والإحراز في المباح يحصل بسبق اليد كالصيد والحطب@(4/68)
والحشيش فإن كان أخذ من ذلك موضعاً واسعاً فوق ما يحتاج إليه فلغيره أن يأخذ منه ناحية لا يحتاج إليها فينزلها معه لأنه باعتبار سبق يده إنما صار أحق به لحاجته ولو طلب ذلك منه رجلان كل واحد منهما يحتاج إلى أن ينزل فيه فأراد الذي بدر إليه أن يعطيه أحدهما دون الآخر كان له ذلك لأن حاجة من اختاره كحاجته وعند قيام حاجته هو أحق به باعتبار يده فكذلك عند قيام حاجة من اختاره لأنه قد يرغب في مجاورة بعض الناس دون البعض ويعد الإنسان ذلك من حوائجه والدليل أن حديث الزبير - رضي الله تعالى عنه - فإنه كان يسبق الناس إلى المنازل فيجعل على كل موضع علامة فإذا جاء أصحابه أعطاهم تلك المنازل التي كان أخذها ولو بدر إليه أحدهما فنزله فأراد الذي كان أخذه في الابتداء وهو عنه غني أن يخرجه عنه وينزله محتاجاً آخر لم يكن له ذلك لأن هذا الرأي كان له باعتبار يده وقد اعترض عليهما يد أخرى هي محقة باعتبار حاجة صاحبها فليس له ولاية إبطالها عليه فإن قال : إنما كنت أخذته لهذا الآخر بأمره لا لنفسي استحلف على ذلك لأنه أخبر بخبر محتمل فيحلف على ذلك لإنكار خصمه وبعد الحلف له أن يأخذه من يد الذي بدر إليه لأنه تبين أن يده فيه كانت الذي أمره بذلك وقيام حاجة الآمر يمنع غيره من إثبات اليد عليه فإذا
ظهر أن يده يد متعدية أمر بإزالتها وهذا هو الحكم أيضاً فيما يفضل من حاجة الآخذ من الطعام والعلف إذا قال أخذته لفلان بأمره .
ولو أن رجلين من أهل العسكر أصاب أحدهما شعيراً والآخر قضباً فتبادلا وكل واحد منهما محتاج إلى ما اشترى فلكل واحد منهما أن يتناول ما اشترى من صاحبه وليس هذا ببيع بينهما لأن لكل واحد منهما أن يصيب من العلف مقدار حاجته إلا أن قيام حاجة صاحبه كان يمنعه من الأخذ منه بغير رضاه فيسترضي كل واحد منهما صاحبه بهذه المبايعة ثم يتناول بأصل الإباحة .
بمنزلة الأضياف على المائدة إذا تناول اثنان طعاماً بين يدي كل واحد منهما لم يكن ذلك بيعاً ولكن كل واحد منهما كان ممنوعاً من أن يمد يده إلى ما بين يدي غيره بغير رضاه فبعد وجود التراضي بهذا السبب يتناول كل واحد منهما على ملك المضيف باعتبار الإباحة منه .
وإن كان كل واحد منهما محتاجاً إلى ما أعطى صاحبه@(4/69)
وصاحبه محتاج إلى ذلك أيضاً فأراد أحدهما نقض ما صنع فليس له ذلك لأنه اعترض على يده يد محقة فإن صاحبه أخذه بطيبة نفسه فقيام حاجته يمنعه من الأخذ منه كما لو كان هو الذي بدر إليه في الابتداء .
وإن كان البائع محتاجاً إلى ما أعطي وكان المشتري غنياً عنه فللبائع أن يأخذ ما أعطى ويرد ما أخذ لأن صاحبه لو كان هو الذي بدر إليه في الابتداء وهو غني عنه كان له أن يأخذه منه لحاجته إليه فكذلك إذا كان هو الذي سلمه إليه إلا أن هناك يأخذه منه من غير أن يعطيه شيئاً وهاهنا يرد عليه ما أخذه منه بمقابلته لأنه لو لم يرد ذلك عليه كان غروراً منه والغرور حرام حتى لو كان وهبه له كان له أن يأخذه لحاجته إليه إذا كان الموهوب له غنياً عنه من غير أن يعطيه شيئاً بمقابلته .
وإن كان حين قصد الاسترداد م صاحبه أعطاه صاحبه محتاجاً إليه لم يكن له أن يأخذه منه لأنه هو الذي سلطه على الدفع إلى غيره فكأنه دفعه بنفسه إلى هذا المحتاج ثم أراد أن يأخذه منه وقيام حاجة من في يده في مثل هذا بمنعه من الأخذ منه .
ولو تبايعاً وهما غنيان أو محتاجان أو أحدهما غني والآخر محتاج فلم يتقابضا حتى بدا لأحدهما ترك ذلك فله أن يتركه لأن هذه المبايعة ما كانت معتبرة شرعاً فإنها لم تصادف محلها فكان الحال بعدها كالحال قبلها ما لم يتقابضا فإن هذا الحكم يبتنى على اليد بمجرد المبايعة قبل القبض لا تتحول اليد من أحدهما إلى الآخر .
ولو أقرض أحدهما صاحبه شيئاً على أن يعطيه مثله فإن كان كل واحد منهما غنياً عن ذلك أو محتاجاً إليه فليس على المستقرض شيء لأنه@(4/70)
تناول باعتبار أنه من طعام الغنيمة وإنما الاستقراض كان لتطيب نفس صاحبه بالتسليم إليه فلا يلزمه باعتباره ضمان ان استهلكه وإن لم يستهلكه بعد فالمقرض أحق به إذا أراد استرداده .
لأنه ما رضي بتحويل اليد إلى صاحبه إلا بشرط أن يجب له عليه مثله وقد تعذر إيجاب هذا الشرط فينعدم رضاه ويصير هذا وما لو أخذه صاحبه منه بغير رضاه سواء .
وإن كان الآخذ محتاجاً إليه والمعطي غنياً عنه فليس له أن يأخذه منه لأنه لو أخذه منه بغير رضاه كان هو أحق به لحاجته إليه وغنى صاحبه عنه فإذا أخذه برضى أولى .
وإن كانا غنيين عنه حين أقرضه ثم احتاجا إليه قبل الاستهلاك فالمعطي أحق به لأن حاجتهما إذا اعترضت قبل حصول المقصود فهو في حكم الموجود عند ابتداء الأخذ وقد بينا أن رضى المعطي لم يتم به حين لم يسلم له الشرط فهو أحق بالاسترداد .
وإن احتاج الآخذ أولاً ثم احتاج إليه المعطي أو لم يحتج إليه فلا سبيل له على الآخذ لأن باعتبار حاجة الآخذ قد اتصفت يده بالحقيقة فلا يكون لأحد أن يزيلها بغير رضاه وإن احتاج إلى ذلك .
وإن اشترى أحدهما حنطة من صاحبه مما هو غنيمة بدراهم من مال المشتري فدفع الدراهم وقبض الحنطة فهو أحق بها من غيره إذا كان هو إليها محتاجاً لأنه أثبت يده عليها بطيب نفس صاحبه وقد تأكدت يده لحاجته .
فإن أراد أحدهما نقض البيع والحنطة قائمة بعينها فله ذلك لأن ما جرى بينهما لم يكن بيعاً حقيقة فإنهما في تناول طعام الغنيمة سواء .
فيرد المشتري الحنطة ويأخذ دراهمه إن كانا غنيين عنها أو كان البائع محتاجاً إليها والمشتري غنياً فإن كان المشتري هو المحتاج إليها فعلى البائع أن يرد ثمنه لأنه أخذه من غير سبب صحح@(4/71)
معتبر شرعاً .
والحنطة سالمة للمشتري لأن يده فيها اتصفت بالحقية لحاجته لا لتسليم الباع إليه فإن البائع إذا كان غنياً عنها كان له أن يأخذها منه بغير رضاه .
وإن كان المشتري قد استهلكها فعلى البائع رد الثمن عليه وما استهلكه المشتري سالم له على كل حال فإن ذهب المشتري ولم يقدر عليه البائع ليرد عليه الدراهم فهي في يده بمنزلة اللقطة إلا أنها مضمونة في يده لأنه قبضها على قصد التملك لنفسه فحكمه كحكم الملتقط لقصد التملك بالأخذ ثم يبدو له ذلك في الإمساك والتعريف والتصدق به بعد التعريف على ما هو معلوم في اللقطة .
فإن رفع أمرها إلى صاحب المغانم والمقاسم قال : قد أجزت بيعك فهات الثمن جاز له أن يدفع الثمن إلى صاحب المغانم لأن للملتقط أن يدفع اللقطة إلى الإمام إذا طلب ذلك منه فهذا مثله .
فإن جاء صاحب الدراهم بعد ذلك نظر فإن كان قد استهلك الحنطة قبل أن يجيز صاحب المغانم البيع فالدراهم مردودة عليه لأن صحة الإجازة تستدعي بقاء المعقود عليه في يد المشتري فإن الإجازة في حكم ثبوت الملك للمشتري في المحل كإنشاء العقد فإذا بطلت الإجازة وجب رد دراهمه عليه .
فإن كان لم يستهلكها إلا بعد الإجازة فالدراهم في الغنيمة لأن إجازة صاحب المغانم بيعه كإنشاء العقد منه ولو باع بنفسه الطعام من الغانمين بدراهم كان ذلك جائزاً وكان الثمن في الغنيمة وإن كان هو مسيئاً فيما صنع فهذا مثله .
فإن قال المشتري : قد كنت أكلت الحنطة قبل أن يجيز البيع فرد علي الدراهم وحلف على ذلك لم يصدق ولم يرد عليه الدراهم حتى يقيم البينة أنه كان استهلكها قبل إجازة البيع لأن ما عرف قيامه فالأصل بقاؤه ما لم يعلم الهلاك @(4/72)
وهذا لأن الاستهلاك حادث فإنما يحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات فإذا أراد استناده إلى وقت سابق لم يصدق على ذلك إلا بحجة .
ولو أن رجلين أصاب أحدهما حنطة والآخر ثوباً فأرادا أن يتبايعا فليس لهما ذلك لأن الذي أصاب الثوب ممنوع من الانتفاع به من غير ضرورة فيكون ممنوعاً عن التصرف فيه أيضاً بخلاف الطعام .
فإن فعلا واستهلك كل واحد منهما ما أخذ من صاحبه في دار الحرب فلا ضمان على واحد منهما إلا أن بائع الثوب مسيء في البيع لأن حق التصرف في الغنيمة للإمام فهو يفتات على رأي الإمام بهذا التصرف فيكون مسيئاً فيه والمشتري للثوب قد استهلك ثوباً من الغنيمة من غير ضرورة له في ذلك فيكون مسيئاً أيضاً .
وإن لم يستهلكا ذلك حتى دخلا دار الإسلام فقد وجب على كل واحد منهما رد ما في يده لأن ما جرى بينهما من المبايعة كان باطلاً فما في يد كل واحد منهما من جملة الغنيمة وقد تأكد حق الغانمين فيه بالإحراز فعليه رده وإن استهلكه كان ضامناً لأن الطعام إنما يخالف سائر الأموال قبل تأكد الحق بالإحراز فأما بعد التأكد فهو كسائر الأموال يجب قسمته بين الغانمين ولا يحل لأحد منهم أن يتناول شيئاً في دار الحرب بعد ولم يستهلكا ذلك فعلى الذي قبض الثوب في الغنيمة كما لو كان هو الذي أصابه ابتداء وأما الذي قبض الحنطة فالحكم في حقه ما هو الحكم في الفصل الأول من اعتبار حاجتهما أو غناهما أو حاجة الآخذ دون المعطي أو المعطي دون الآخذ في جميع ما ذكرنا فإن كان المشتري للحنطة قد ذهب بها ولا يوقف على أثره أخذ صاحب المغانم الثوب ممن@(4/73)
هو في يده كما لو كان هو الذي أخذه ابتداء وإن كان الآخذ للثوب هو الذي لم يوقف عليه فإن صاحب المغانم لا يعرض لمشتري الحنطة بشيء ما داوا في دار الحرب بمنزلة ما لو كان هو الذي أصابها في الابتداء فإن كان إخراجها قبل أن يأكلها أخذها منه صاحب المغانم فجعلها في الغنيمة ولو أن رجلاً من أهل العسكر استأجر رجلاً لتعلف له فذهب الرجل إلى بعض المطامير وأتاه بذلك العلف ثم قال : قد بدا لي ألا أعطيك هذا وآخذه لنفسي وأرد عليك الأجر وأبى المستأجر إلا أن يأخذه فإن أقر الأجير أنه جاء به على الإجازة .
أجبر على دفعه إلى المستأجر وإن كانا محتاجين إليه أو كانا غنيين عنه لأن يد الأجير كيد المستأجر وقد صحت هذه الإجازة ل الأجير عقد العقد على منافعه وما استؤجر عليه ليس من الجهاد في شيء .
وإن كان الأجير محتاجاً إلى ذلك والمستأجر غنياً عنه فله أن يمنعه لأنه لو كان في يد المستأجر كان للأجير حق الأخذ منه لحاجته فإذا كان في يد الأجير أولى أن يكون له حق المنع منه .
ولكن لا أجر له عليه وإن كان قد أخذه منه رده عليه لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه حين منعه ما جاء به .
ولو كان استأجره ليحتش له حشيشاً والمسألة بحالها فللمستأجر@(4/74)
أن يأخذه منه وإن كان هو غنياً عنه والأجير محتاجاً إليه إذا أقر أنه احتشه له بينا فيما سبق أن الحشيش ليس من جملة الغنيمة .
ولو احتشه المستأجر لنفسه لم يكن لغيره أن يأخذه منه وإن كان محتاجاً إليه ودار الحرب ودار الإسلام في ذلك سواء فكذلك إذا احتشه له لغيره لأن يد أجيره كيده بخلاف الطعام فإنه من جملة الغنيمة حتى لو بقي إلى وقت القسمة كان مقسوماً بين الغانمين فإذا كان الأجير محتاجاً إليه غنياً عنه كان المحتاج إليه أحق به .
ثم في الطعام إن سلمه الأجير إلى المستأجرين حين جاء به ثم أراد أن يأخذه بعد ذلك لحاجته إليه وغنى المستأجر عنه فله ذلك وبه يظهر الفرق بينه وبين الحشيش .
وإذا أخذه هاهنا لم يسقط حقه في الأجر لأن حكم العقد قد انتهى بالتسليم إليه وقد تقرر حقه في الأجر ثم الأخذ بعد ذلك منه بحق لا يكون فوق الأخذ بطريق الغصب وذلك لا يسقط حقه في الأجر فهذا أولى .
وإن كان استأجره ليأتيه بالعلف من بعض المطامير ولم يسم له مطمورة بعينها فأتاه بعد ذلك فله أجر مثله لا يجوز به ما سمى لهمن الجر لأن العقد كان فاسداً لجهالة المعقود عليه وهو ذهابه ومجيئه والحكم في الإجازة الفاسدة وجوب أجر المثل بعد إيفاء المعقود عليه وكذلك لو لم يجد شيئاً فرجع إليه لأنه قد أقام العمل الذي استأجره عليه وهو الذهاب والطلب فله أجر المثل بخلاف ما سبق في العقد الصحيح أنه إذا منعه ما جاء به لم يكن له عليه أجر المثل لأن هناك بالمنع يصير في حكم العامل لنفسه فلا يستوجب الأجر على غيره حتى أن هناك لو لم يجد شيئاً كان له أجر الذهاب أيضاً .
لأنه كان عاملاً له في الذهاب وهو غير عامل له في الرجوع حين لم يأت بالطعام والعلف فعرفت أنه لا فرق بين العقد الفاسد والصحيح بل في الموضعين جميعاً إن لم يدفعه إليه ما جاء به فلا أجر له وإن لم يجد شيئاً فله الأجر في الذهاب من المسمى في العقد الصحيح ومن أجر المثل في اعقد الفاسد ولا أجر له في الرجوع لأنه غير عامل له ذلك والله الموفق .@(4/75)
باب هدية أهل الحرب
وإذا بعث ملك العدو إلى أمير الجند بهدية فلا بأس بأن يقبلها ويصير فيئاً للمسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدية المشركين في الابتداء على ما روي أنه أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة .
واستهداه أدماً ثم لما ظهر منهم مجاوزة الحد في طلب العوض أبى قبول الهدية منهم بعد ذلك وقال : إنا لا نقبل زبد المشركين فبهذا تبين أن للأمير رأياً في قبول ذلك ولأن في القبول معنى التأليف وفي الرد إظهار معنى الغلظة والعدواة .
وإذا طمع في إسلامهم فهو مندوب إلى أن يؤلفهم فيقبل الهدية ويهدي إليهم عملاً بقوله عليه السلام : " تهادوا تحابوا " .
وإذا لم يطمع في في إسلامهم فله أن يظهر معنى الغلظة والشدة عليهم برد الهدية فإن قبلها كلن ذلك فيئاً للمسلمين لأنه ما أهدى إليه بعينه بل لمنعته ومنعته للمسلمين فكان هذا بمنزلة المال المصاب بقوة المسلمين .
وهذا بخلاف ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدية فإن قوته ومنعته لم تكن بالمسلمين على ما قال الله - تعالى - : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فلهذا كانت الهدية له خاصة ثم الذي حمل المشرك على الإهداء إليه خوفه منه وطلب الرفق به وبأهل مملكته وتمكنه من ذلك بعسكره فكانت الهدية بينه وبين أهل العسكر وكذلك إن كانت الهدية إلى قائد من قواد المسلمين ممن له عدة ومنعة لأن الرهبة منه والرغبة في التأليف@(4/76)
معه بالهدية ليرفق به أهل مملكته إنما كان باعتبار منعته وذلك تحت رايته وبجميع أهل العسكر .
وإن كان أهدى إلى بعض المبارزين أو إلى رجل من عرض العسكر فذلك له خاصة لأن الهدية إلى مثله لم تكن على وجه الخوف منه أو طلب الرفق به وإن كان فذلك الخوف باعتبار قوته في نفسه لا لغيره إذ لا منعة له فيكون ذلك سالماً له خاصة .
وعلى هذا قالوا : لو أهدى إلى مفت أو واعظ شيئاً فإن ذلك سالم له خاصة لأن الذي حمل المهدي إلى الإهداء إليه التقرب إليه معني فيه خاصة بخلاف الهدية إلى الحكام فإن ذلك رشوة لأن معنى الذي حمل المهدي على التقرب إليه ولايته الثانية بتقليد الإمام إياه والإمام في ذلك نائب عن المسلمين .
والأصل في ذلك قول النبي صلى اله عليه وسلم : " هدايا الأمراء غلول " يعني إذا حبسوا ذلك لأنفسهم فذلك بمنزلة الغلول منهم والغلول اسم خاص لما يؤخذ من المغنم فعرفنا أن ذلك بمنزلة الغنيمة وتخصيص الأمير بذلك دلنا على أن مثله في حق الواحد من عرض الناس لا يكون غلولاً وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عاملاً فجاء بمال فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته : " فهلا جلس أحدكم في بيت أبيه وأمه حتى يهدي إليه " وفي هذا إشارة إلى ما قلنا وأن عمر - رضي الله عنه - استعمل أبا@(4/77)
هريرة - رضي الله عنه - على البحرين فجاء بمال فقال عمر : يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله - تعالى - فقال : لست بعدو الله ولا كتابه ولم أسرق مال الله يا أمير المؤمنين خيلي تناتجت وسهامي اجتمعت فلم يلتفت عمر - رضي الله عنه - إلى قوله وأخذ المال فجعله في بيت المال وكذلك لو بعث الخليفة عاملاً إلى كورة فأهدي إليه فإعلم الخليفة أنه أهدى إليه طوعاً أخذ ذلك منه فجعله في بيت المال لأنه أهدى إليه لعمله الذي قلده وقد كان هو نائباً في ذلك عن المسلمين فهذه الهدايا حق المسلمين توضع في بيت مالهم .
فإن علم أنهم أهدوا إليه مكرهين فينبغي أن يأخذه فيرده على أهله وإن لم يقدر على ذلك عزله في بيت لمال حتى يأتي أهله بمنزلة اللقطة وبهذا الطريق أمر عمر بن عبد العزيز حين استخلف برد الأموال التي اجتمعت في بيت المال لأنه علم أن من قبله من المروانية كانوا أخذوا ذلك بطريق الإكراه .
وعلى هذا لو أن ملك العدو أهدى إلى ملك الثغر أو إلى قائد من قواده فإنه لا ينبغي للمهدى إليه أن يرزاً شيئاً من ذلك ولكن الخليفة يأخذها منه فيجعلها في بيت المال وإن كانت الهدية إلى شجاع من المسلمين فهو سالم له لأن طلبهم الرفق من ملك@(4/78)
الثغر باعتبار قوته من المسلمين ومن المبارز باعتبار قوته في نفسه .
ولو أن أمير عسكر المسلمين أهدى إلى ملك العدو فعوضه ملك العدو نظر في هديته فإن كان مثل هدية أمير العسكر أو فيه زيادة بقدر ما يتغابن الناس فيه فهو سالم له لأن الجالب لهذه الهدية ما قدم من الإهداء إليه وقد كان في ذلك عاملاً لنفسه .
وإن كان أكثر من ذلك بما لا يتغابن الناس في مثله فله من ذلك مقدار قيمة هديته والفضل فيء لجماعة المسلمين الذين معه وكذلك الحكم في القائد الذي ممن يخاف ويرجى منه إذا كان هو الذي أهدى إليهم والأصل في ذلك حديث عمر - رضي الله عنه - فإن امرأته أهدت إلى امرأة ملك الروم هدية من طيب أو غيره فأهدت إليها امرأة الملك هدايا فأعطاها عمر من ذلك مثل هديتها وأخذ ما بقي من ذلك فجعله في بيت المال فكلمه في ذلك عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فقال له عمر - رضي الله عنه - : قل لصاحبتك فلتهد إليها حتى تنظر أتهدي إليها مثل هذا أم لا وإن أهدى مبارز إلى رجل من أهل الحرب قائد أو ملك فأهد إليه أضعاف ذلك فهو سالم له لأن هذه الزيادة لم تكن باعتبار تعزز له بغيره ولكنه أخذ مالاً بطيبة أنفسهم فيكون ذلك سالماً له .
ولو أن المسلمين حاصروا حصناً فباعهم أمير العسكر متاعاً فإن كان بمثل قيمته أو بغبن يسير فالثمن سالم له لأنه بدل ملكه .
وإن كان بغبن فاحش فله من الثمن بقدر قيمة ملكه والباقي يكون فيئاً لأهل العسكر لأنهم إنما بذلوا هذه الزيادة للخوف منه أو@(4/79)
لطلب الرفق حتى لا يقطع أشجارهم ولا يخرب بنياتهم أو ينصرف عنهم وتمكنه من ذلك كله بقوة العسكر فلهذا كان الفضل بمنزلة الغنيمة وهذا الذي ذكرنا له الظاهر الوقوف على حقيقته .
وإن كان البائع رجلاً من عرض العسكر فالثمن سالم له قل أو كثر أنهم ما أعطوه هذه الزيادة لرغبة أو رهبة منه ولكنه استزبنهم فليس عليهم حتى أخذ المال بطيب أنفسهم ولكنهم أعطوه بدلاً عن ملكه بطيب أنفسهم فيكون ذلك سالماً له .
ولا بأس بأن يبيع المسلمون من المشركين ما بدا لهم من الطعام والثياب وغير ذلك إلا السلاح والكراع والسبي سواء دخلوا إليهم بأمان أو بغير أمان لأنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين ولا يحل للمسلمين ولا يحل للمسلمين اكتساب سبب تقويتهم على قتال المسلمين وهذا المعنى لا يوجد في سائر الأمتعة .
ثم هذا الحكم إذا لم يحاصروا حصناً من حصونهم فأما إذا حاصروا حصناً من حصونهم فلا ينبغي لهم أن يبيعوا من أهل الحصن طعاماً ولا شراباً ولا شيئاً يقويهم على المقام لأنهم إنما حاصروهم لنفذ طعامهم وشرابهم حتى يعطوا بأيديهم ويخرجوا على حكم الله - تعالى - ففي بيع الطعام وغيره منهم اكتساب سبب تقويتهم على المقام في حصنهم بخلاف ما سبق فإن أهل الحرب في دراهم يتمكنون من اكتساب ما يتقون به على المقام لا بطريق الشراء من المسلمين فأما أهل الحصن لا يتمكنون من ذلك بعدما أحاط المسلمون بهم فلا يحل لأحد من المسلمين أن يبيعهم شيئاً من ذلك .
ومن فعله فعلم به الإمام أدبه على ذلك لارتكابه ما لا يحل وأو أن أمير العسكر بعث رسولاً إلى ملكهم في حاجة فأجازه الملك بجائزة وأخرجها الرسول إلى العسكر أو إلى دار الإسلام فذلك سالم له@(4/80)
خاصة لأن هذه الجائزة للرسول ما كانت لرغبة أو رهبة بل للإنسانية والمروءة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيز الوفود والرسل الذين يأتون وأوصى أن يفعل ذلك بعده ولا يظن أحد أن ذلك كله كان منه لرغبة أو رهبة .
وكذلك إن كان الرسول أهدى إلى ملكهم بهدية فعوضه بأضعاف ذلك أو باعهم متاعه بأضعاف قيمته فذلك كله سالم له بمنزلة من دخل دار الحرب بأمان وعاملهم فأخذ مالاً بطيب أنفسهم ولو أن ملك العدو أهدى إلى أمير العسكر فأراد أن يعوضه من الغنيمة ففي القياس ليس له ذلك فإنه قد ثبت في الغنيمة حق الغانمين حتى لا يملك أن يخص بعض الغانمين بشيء منه بطريق التنفيل بعد الإصابة فكيف يملك أن يخص ملك العدو بشيء منه ولكنه استحسن فقال : ما أهدي إليه يصير من الغنيمة ألا ترى أنه لو أراد أن يرد ما أهدي إليه كان متمكناً من ذلك وإن كان فيه إبطال حق الغانمين عنه فكذلك إذا أراد أن يقبل ويعوضه من الغنيمة ورأى النظر للمسلمين في ذلك إلا أنه لا يعوض من الغنيمة أكثر من الهدية بما لا يتغابن الناس فيه فإن فعل ذلك فليجعل ذلك الفضل من ماله لأنه لا يقابل هذه الزيادة عوض يجعل للمسلمين فهو بمنزلة الإهداء إليهم ابتداء من الغنيمة والحاصل أن العوض مقصود من الهدية فيكون كالمشروط .
ولا بأس له أن يعاملهم في متاع الغنيمة إذا لم يكن في ذلك غبن فاحش في جانب المسلمين فذلك حكم التعويض من هديتهم .@(4/81)
باب ما يكون إحرازاً منهم وما لا يكون
ولو أن أهل الحرب دخلوا دارنا للإغارة فأخذوا أموالاً وسبايا ثم أسلموا قبل أن يدخلوا بذلك دارهم فالإمام يأخذ منهم جميع ما أخذوا فيرده على أهله لأنهم لم يملكوا ما أخذوا حين لم يحرزوه بدارهم فإن الملك يستدعي تمام القهر وذلك لا يسبق الإحراز فكانوا بمنزلة الغاصبين قبل الإحراز ويؤمرون بالرد .
سواء أسلموا ها هنا أو صاروا ذمة لأن هذا السبب إنما يتقرر ملكهم فيما كان مملوكاً لهم ولا يوجب الملك لهم فيما لم يكن مملوكاً قبله .
ويستوي إذا كانوا قسموا ذلك في دارنا بينهم أو لم يقسموا لأن المغصوب بالقسمة لا يصير ملكاً للغاصبين فإن قيل : أليس أن المسلمين لو قسموا الغنائم في دار الحرب كان ذلك منهم بمنزلة الإحراز في تأكد الحق به فلماذا لا يجعل قسمتهم بمنزلة الإحراز منهم قلنا : لأن إقامة القسمة مقام الإحراز يتحقق في حق المسلمين لوجود أمير هو نافذ الحكم بين المسلمين ولا يوجد ذلك في حق أهل الحرب فإنما يعتبر في حقهم تمام السبب حساً وبقسمتهم لا يزداد السبب قوة وحساً .
وعلى هذا لو دخل مسلم عسكرهم بأمان فاشترى بعض تلك الأمتعة فعليه أن يردها على أهلها بغير شيء لأنهم لم يملكوها قبل الإحراز فلا يملكها المشتري منهم أيضاً وكان هو متبرعاً فيما فدى به ملك الغير بغير أمره فإن كان أهل الحرب قد دخلوا دارهم ثم أسلموا صار ذلك لهم لأنهم بالإحراز قد ملكوا لتمام السبب وهو القهر ثم يتقرر ملكهم بالإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام : من أسلم على مال فهو له وكذلك إن جاءوا @(4/82)
ذمة لأن عقد الذمة في تقرر الملك به خلف عن الإسلام فيعمل عمله .
وكذلك إن استأمنوا إلينا ومعهم ذلك المال لأنهم استفادوا الأمان في أنفسهم وأموالهم .
وهذا بخلاف ما إذا اشتراها منهم مسلم فإن للمالك القديم أن يأخذه منه بالثمن لأن ملك المالك القديم قد انقطع بالملك الذي حدث لهم فلا يعود حقه في ذلك الملك ما لم يتحول إلى غيرهم وبالشراء يتحول الملك إلى المسلم فيظهر حق المالك القديم على وجه لا يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمشتري وذلك في الأخذ بالثمن فأما إذا أسلموا أو صاروا ذمة أو خرجوا بأمان فالملك لم يتحول منهم إلى غيرهم فلهذا لا يظهر حق المالك القديم في الأخذ .
فإن كان المسلمون دخلوا دارهم مغيرين وأصابوا سبايا من أحرارهم فلم يخرجوهم حتى أسلموا فقد أمنوا من القتل بالإسلام ولكنهم أرقاء لأن الرق قد ثبت فيهم لما صاروا مقهورين والإسلام يمنع ابتداء الاسترقاق ولا يمنع الرق الثابت وهذا بخلاف ما سبق لأن المسلمين إذا قهروهم فقد صاروا مقهورين حساً وحكماً ثم بإسلامهم لا يرتفع القهر حكماً فنفي الرق والقهر منهم في دار الإسلام لا يكون حكماً وإنما يكون حساً والقهر الحسي لا يتم قبل الإحراز .
وبيان هذا المعنى أن القاهر إذا كان مسلماً فهو محرز بإسلامه فيما يرجع إلى حق الله تعالى ولهذا لا يحل لأحد إخراج مأسورين من أيديهم فأما أهل الحرب فإنما يكون قهرهم باليد لا بالدين .
ألا ترى أنه يحل لكل واحد منهم أخذ ذلك من أيدهم وأهل الذمة إذا كانوا قاهرين بمنزلة المسلمين في ذلك فإن الذمة خلف عن الإسلام في حصول الإحراز بها في حق الشرع حتى لا يحل لأحد التعرض لهم فيما أخذوا وأنه يخمس ما سبي أهل الذمة كما يخمس ما سبي المسلمون .
ولو أن أهل منعة من الترك دخلوا الروم فسبوا من أحرارهم فلم يدخلوهم دارهم حتى أسلم السبي فهم أحرار لأنهم ما صاروا محرزين لهم بالدين إذ لا دين لهم وباليد لا يتم القهر قبل الإحراز بالدار .
فإذا أسلموا@(4/83)
تقررت حريتهم حتى لو أدخلوهم دارهم بعد ذلك ثم ظهر المسلمون عليهم كانوا أحراراً أو لو كانوا إنما أسلموا بعدما دخلوا دارهم كانوا عبيداً لهم فإن أسلموا كانوا عبيداً لهم وإن خرجوا إلينا مراغمين فهم أحرار كما هو الحكم في عبد الحربي إذا أسلم لأنهم حين أحرزوهم بدارهم ومنعتهم فقد تم قهرهم ويثبت الرق والملك ثم بمجرد إسلام المملوك لا يزيل الملك الثابت عليه سواء كان ثابتاً لكافر أو مسلم .
ولو كان أسلم الترك قبل أن يدخلوا الأسراء دارهم ثم أسلم الأسراء بعدهم فهم عبيد لهم لأنهم صاروا محرزين لهم بإسلامهم فكان هذا وما لو كانوا مسلمين عند الأخذ سواء ثم إذا أخرجوهم إلى دار الإسلام فإنه يؤخذ الخمس منهم بمنزلة أهل منعة من المسلمين دخلوا مغيرين دار الحرب بغير إذن الإمام وأصابوا سبايا فكما أن هناك يخمس ما أصابوا والباقي يكون لهم فها هنا كذلك .
وإن كان إسلام الفريقين بعدما أدخلوهم دارهم ثم خرجوا إلى دارنا فهم عبيد للذين أسروهم ولا خمس فيهم لأنهم ملكوهم بالإحراز بدارهم قبل الإسلام فلم يثبت حكم الغنيمة فيهم فلا يثبت بعد ذلك بإسلامهم بخلاف الأول فهناك لم يملكوهم قبل الإسلام .
وإن ثبت حقهم فيهم ولكن إنما يثبت الملك بالإحراز بدار الإسلام فيثبت حكم الغنيمة فيما إذا أحرزوا وإذا أسلم الأسراء قبل الترك في أرض الروم ثم أسلم الترك بعدهم فالأسراء أحرار لما بينا أن حريتهم قد تأكدت بالإسلام قبل أن يثبت الرق فيهم بالإحراز .
ولو أسلم الفريقان معاً أو لا يدرى أيهما أسلم قبل الآخر فهم أحرار لأن حريتهم معلومة والسبب الموجب لرقهم وتقدم إسلام الترك غير معلوم والرق لا يثبت بالشك فإن قيل : قهر@(4/84)
الترك إياهم معلوم أيضاً وذلك مبطل لحريتهم قلنا : قبل الإحراز لا فإن ذلك بعض العلة وببعض العلة لا يثبت شيء من الحكم .
وإن أسر الترك امرأة من الروم فأسلمت في أيديهم وزوجها في مدينة من مدائن الروم لم تبن من زوجها وإن أخرجها الترك إلى دارهم لأن حريتها تأكدت بالإسلام فلا تصير هي من أهل منعة الترك ولكنها حربية أسلمت في دار الحرب فلا تبين من زوجها حتى تحيض ثلاث حيض أو تخرج إلى دار الإسلام فحينئذ تبين لتباين الدارين حقيقة أو حكماً .
وإن أسلم الترك قبل إسلامها بانت من زوجها حين أسلمت بعد إسلام الترك أو قبل إسلام الترك إذا أسلم الترك لأن الترك الآن بمنزلة جيش المسلمين دخلوا دار الحرب وهناك لو أسلمت امرأة ثم التحقت بالعسكر كانت حرة وتبين من زوجها لإحرازها نفسها بمنعة المسلمين ولو سبوا امرأة فأسلمت بانت من زوجها لأنها صارت أمة لهم بالسبي يقسمونها ويتحقق تباين الدارين بينها وبين زوجها إذا أسلمت حكماً فكذلك هذا الحكم فيما إذا أسلم الترك ولو لم يسلموا ولم تسلم هي حتى أحرزوها بدارهم فقد بانت من زوجها لأنها صارت أمة لهم فتكون من أهل دارهم وقد بينا أن أهل الحرب باختلاف المنعات أهل دور مختلفة فإذا تحقق تباين الدارين بينها وبين زوجها بانت منه ولأنهم ملكوها بالسبي حين أحرزوها في دارهم .
فكان هذا وما لو ملكها المسلمون بالسبي بدون زوجها سواء وهناك تبين من زوجها فها هنا كذلك حتى إذا أسلموا وقد أصابت الجارية أحدهم بالقسمة فاستبرأها بحيضة حل له أن يطأها لأنها من أهل الكتاب ولا زوج لها والله أعلم بالصواب .@(4/85)
باب ما يقطع من الخشب وما يصاب من الملح وغيره
وإذا خرجت سرية بإذن الإمام لقطع الشجر فوصلوا إلى مكان يخاف فيه المسلمون ثم قطعوا الخشب وجاءوا به فهو غنيمة يخمس لأن الموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون من جملة دار الحرب فإن دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون فإن قيل : كما أن المسلمين لا يأمنون في هذا المكان فكذلك أهل الحرب لا يأمنون فيه قلنا : نعم ولكن هذه البقاع كانت في يد أهل الحرب فلا تصير دار الإسلام إلا بانقطاع يد أهل الحرب عنها من كل وجه وهذا لأن ما كان ثابتاً فإنه يبقى ببقاء بعض آثاره ولا يرتفع إلا باعترض معنى هو مثله أو فوقه وإذا ثبت أنه من أرض أهل الحرب فما يكون فيه من الخشب يكون في يد أهل الحرب فهذا مال أصابه المسلمون من أهل الحرب بطريق القهر وهو الغنيمة بعينه .
فإن كان الأمير إذا بعثهم ليقطعوا الخشب حتى يجعل ذلك سفناً للمسلمين أو مجانيق والمسألة بحالها فإن الإمام يأخذ ما جاءوا به فيجعل في تلك المنفعة التي أرسلهم لها لأنهم امتثلوا أمر الأمير فيما أخذوا ولا يتحقق الامتثال مع القصد إلى الاغتنام وإذا لم يقصدوا الاغتنام بما أخذوا لم يكن ذلك غنيمة .
وهذا لأن للإمام رأياً فيما يرجع إلى النظر للمسلمين .
ألا ترى أنه يصح منه التنفيل قبل الإصابة بطريق النظر فكذلك يصح منه جعل المصاب لمنفعة معلومة قبل الإصابة فإن أخذ من ذلك ما يغنيه وبقي فضل فالباقي يكون غنيمة .
لأن السبب الموجب للاغتنام قد وجد في الكل ولكن في القدر المشغول لحاجة المسلمين يجعل ذلك متقدماً لقصد الإمام وما وراء ذلك يثبت فيه حكم الغنيمة بمنزلة ما يفضل من التركة عن الدين والوصية .
وكذلك لو كان بعثهم من العسكر في دار الحرب ليأتوا بالخشب أو بالطعام أو بالعلف@(4/86)
لمنفعة عينها للمسلمين فإن ما جاءوا به يكون مصروفاً إلى تلك المنفعة فإن فضل منها شيء فهو غنيمة لأهل السرية وأهل العسكر لأنهم قصدوا تحصيل تلك المنفعة لا الاغتنام فإن فضل منها شيء فهو غنيمة حين خرجوا مطيعين للأمير .
وكذلك لو كان بعثهم من بعض مدائن أهل الثغور وقد أصابهم قحط ليأتوا بالطعام والعلف لأهل المدينة ففعلوا ذلك فإنه يقسم ذلك بين أهل المدينة بغير خمس ولا يقسمه بين أهل السرية وهذا كله إذا بين لهم عند الخروج أنه لماذا يوجههم لأنه إنما ينعدم القصد منهم إلى الاغتنام إذا علموا مراد الأمير فيما أرسلهم لأجله وخرجوا مطيعين له في ذلك فإن كانوا إنما جاءوا بالطعام بعدما استغنى المسلمون عن ذلك فهو بمنزلة الغنيمة الآن لأن السبب الموجب لتقديم أهل المدينة فيه حاجتهم وقد انعدم فكان هذا وما يفضل من المنفعة التي عينها الإمام سواء .
ولو أن الأمير في هذه الفصول نفلهم بعض ما جاءوا به فذلك صحيح لأنه جعل بعض ما يأتون به مصروفاً إلى منفعة المسلمين وبعضه مصروفاً إليهم بطريق التنفيل ففي كل واحد منهما نظر من الإمام لأنهم قلما يرغبون في الخروج إذا لم يكن لهم نصيب في المصاب والتنفيل للتحريض على الخروج فإن قيل : كيف يصح النفل لجماعة السرية المبعوثة من دار الإسلام قلنا : إنما لا يصح ذلك فيما هو غنيمة يفضل فيها الفارس على الراجل باعتبار أنه ليس في ذلك التنفيل إلا إبطال الخمس وإبطال تفضيل الفارس على الراجل وهذا المعنى لا يوجد ها هنا لأن ما يأتون به لا يكون غنيمة لمن أصابها بل يكون مصروفاً إلى منفعة المسلمين فلذلك جاز التنفيل فيه لهم .
ولو جاءوا بذلك بعد ما استغنى عنه المسلمون بطل النفل@(4/87)
لأن ما جاءوا به قد صار غنيمة والنفل العام للسرية المبعوثة من دار الإسلام في الغنيمة لا يصح .
وإن كان قال من أخذ منكم شيئاً فله نصفه والمسألة بحالها فالنفل جائز لأهلها على ما نفلوا لأن هذا نفل خاص لمن يأخذ دون غيره فيتحقق فيه معنى التحريض على الطلب والأخذ وذلك صحيح في الغنائم .
ولو أن السرية حين خرجت لقطع الخشب في دار الإسلام دون مسالح المسلمين فإن كان أرسلهم لمنفعة عينها كان ما جاءوا به مصروفاً إلى تلك المنفعة وإن كان نفل لهم بعض ذلك أعطاهم النفل وصرف ما بقي إلى تلك المنفعة فإن جاءوا بذلك بعدما استغنى الأمير عما بعثهم لأجله فكل من جاء بذلك من شيء فهو له خاصة لأن ما جاءوا به ليس بغنيمة ها هنا فإنهم أصابوه في دار الإسلام والمباح في دار الإسلام كل من سبقت يده إليه فهو بمنزلة الصيد .
فإن جاءوا به جميعاً فهو بينهم بالسوية لأن تفضيل الفارس على الراجل في الغنيمة وهذا ليس من جملة الغنيمة فإن قيل : فلماذا يصح التنفيل من الإمام فيه قلنا : لا على وجه التنفيل ولكن على وجه التحضيض للآخذ ببعض ما يأخذه من المباح وصرف ما بقي إلى المنفعة التي عينها .
ولو خرجت السرية لقطع الخشب بغير إذن الإمام إلى دار الحرب أو إلى الموضع المخوف فما جاءوا به يكون غنيمة لأنهم أهل منعة جاءوا بمال من دار الحرب بطريق القهر وفي المصاب أهل المنعة يستوي الحال بين ما بعد إذن الإمام وما قبله .
وإن كانوا أصابوا ذلك في موضع يأمن فيه المسلمون فلكل رجل منهم ما أخذ لأن هذا مباح ملك بالأخذ في@(4/88)
دار الإسلام كالصيد والحطب والحشيش .
فإن كانوا لقوا العدو في ذلك الموضع فقاتلوهم على ذلك حتى أجلوهم عنه فكذلك الجواب لأن ما كان في دار الإسلام فمجرد دخول أهل الحرب إلى ذلك الموضع لا يأخذ حكم دار الحرب فحين أجلوا عنه العدو بالقتال بقي على حكم دار الإسلام كما كان فكل من أخذ منهم شيئاً فهو له .
وكذلك لو وجدوا العدو قد قطعوه ولكنهم لم يحرزوه في دارهم لأنهم قبل الإحراز لا يملكون ما يصيبون في دار الإسلام فيبقى على ما كان قبل إصابتهم .
وإن كانوا أحرزوه بدارهم ثم لحقهم المسلمون فأخذوه منهم فهذا غنيمة لأنهم بالإحراز قد ملكوه فأهل السرية إنما أحرزوا ملكهم بطريق القهر فكان غنيمة .
وعلى هذا حكم الملاحة وهو الموضع الذي يكون فيه الملح من أرض الإسلام أو من أرض الحرب فإن الحكم فيه كالحكم في الخشب في دار الإسلام في جميع ما ذكرنا .
لأن ذلك مباح يملك بالأخذ كالخشب .
وكذلك سائر الأموال من ذهب أو من فضة أو من جوهر خرجت سرية في طلبه فإن ما وجدوا من ذلك في أرض الإسلام لا يكون غنيمة إلا أن هذا يخمس لقوله عليه السلام : وفي الركاز الخمس .
وكذلك لو وجدوا ذلك بعد ما استخرجه أهل الحرب ولكنهم لم يحرزوه فإنه يخمس وما بقي فهو لمن أخذه خاصة لأنهم قبل الإحراز لا يملكونه فكان الحكم فيه قبل أخذهم وبعد أخذهم سواء .
وإن كانت السرية إنما أصابت ذلك في دار الحرب فإنه يخمس ما أصابوا والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأنهم أخرجوه من دار الحرب بطريق القهر فقد كانوا أهل منعة .
وإن لم يكونوا أهل منعة والمسألة بحالها فالمأخوذ لمن أخذه ولا خمس فيه في جميع هذه الفصول لأنهم أصابوا ذلك من دار الحرب على وجه@(4/89)
التلصص لا على وجه إعزاز الدين .
إلا أن يكونوا خرجوا بإذن الإمام فحينئذ يكون لما أصابوا حكم الغنيمة لأن الإمام الآن كالمدد لهم عليه أن ينصرهم .
وليس له أن يبعثهم إذا لم يعلم القوة منهم فما جاءوا به يكون مأخوذاً على وجه إعزاز الدين والخمس يجب في مثله لأن وجوب الخمس في الغنيمة لإظهار شرفه حتى يعلم أنه كسب حصل بأشرف الجهات .
وإن كان أمير الثغر هو الذي بعث السرية لقطع الخشب وأخذ الملح ونفل لهم من ذلك فإنه يصح من تنفيله ما يصح من الأمير الأعظم لأنه حين فوض إليه تدبير الثغر فقد أقامه في ذلك مقام نفسه فيصح منه ما يصح من الأمير الأعظم ما لم ينهه عن التنفيل ثم بين ما إذا خص الإمام نفسه أو غيره بالتنفيل وقد بينا حكم ذلك فقال : في الجملة لو خص ولده أو والده بالتنفيل فذلك صحيح منه كما لو خص أجنبياً آخر وهذا لتباين الملك بين الولد والوالد بخلاف العبد والمكاتب فإذا كان يصح منه التنفيل في حق نفسه إذا عم به جماعة المسلمين فها هنا أولى لأن منفعته فيما يحصل لولده ووالده دون منفعته فيما يحصل له ثم ذكر حديث سالم بن أبي الجعد .
أن رجلاً من أشجع جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة فقال : اصبر ثم ذهب فأصاب من العدو غنيمة وأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فطيبها له فأنزل الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } الآية الطلاق : 2،3@(4/90)
فهذا أصل علمائنا فيما يصيبه الواحد والمثنى من دار الحرب .
إذا دخلوا على وجه التلصص بغير إذن الإمام بخلاف أهل المنعة وبخلاف ما إذا كان الواحد بعثه الإمام ثم في كل موضع يكون للمصاب حكم الغنيمة فالآخذ وغيره فيه سواء وفي كل موضع لا يكون للمصاب حكم الغنيمة فإن الآخذ يختص به وإن أخذوا جميعاً فذلك بينهم بالسوية لا يفضل فيه الفارس على الراجل لأن هذا التنفيل حكم يختص بالغنيمة كالخمس وهذا ليس بغنيمة بل هو إحراز المباح على وجه التلصص لا على وجه إعزاز الدين فيكون بمنزلة الاصطياد والاحتشاش .
ولو أخذ واحد منهم شيئاً من ذلك ثم دفعه إلى صاحبه يحفظه له فأمسكه حتى أخرجه فهو للآخذ لأنه صار أحق به حين سبقت يده إليه ثم حفظ صاحبه له بأمره كحفظه له بنفسه إلى أن أخرجه .
وإن كان صاحبه غلبه فانتزعه منه فهو للذي أخرجه لأن الأول لم يملكه بمجرد الأخذ فإنه لم يكن في منعة المسلمين حتى يصير بالأخذ محرزاً وإنما يحصل إحرازه بالإخراج إلى دار الإسلام وذلك إنما وجد من الغاصب الذي انتزعه منه غير أني أكره للمسلم أن يقهر عليه صاحبه بعدما أخذه لأن يده سبقت إليه وليد المسلم حرمة في حق المسلمين ولأنه أحرزه بالدين وقد بينا أن الإحراز بالدين يثبت في حق الآثم وإن كان لا يعتبر ذلك في حكم الملك والتقوم .
فإن جاء ناس من المشركين يريدون أخذ ذلك منهم فغلبهم المسلمون حتى دفعوهم عن ذلك فهو للذين أخذوه أيضاً لأن@(4/91)
الآخذ قد صار أحق به بذلك الأخذ فلا يتغير ذلك الحكم بالقتال الذي ابتلوا به .
فإن قيل حين قاتلوا عنه : فلماذا لا يجعلون في حكم أهل منعة حتى يكون لمصابهم حكم الغنيمة .
قلنا : لأن هذا شيء وقع اتفاقاً لا قصداً فلا يصيرون به قاهرين حكماً ألا ترى أنهم لو أتوا قوماً من أهل الشرك نياماً فقتلوهم وأخذوا أموالهم كان لكل واحد منهم ما أخذ ولم يكن لذلك حكم الغنيمة فهذا مثله .
يوضحه أنهم إذا كانوا أهل منعة فإنه لا يختلف الحكم فيما أصابوا بالقتال دفعاً عنه إذا ابتلوا به وعدم القتال وكذلك فيما أصاب الذين لا منعة لهم لا يختلف الحكم بذلك ولو أن هؤلاء الذين لا منعة لهم لحقهم جند المسلمين في دار الحرب بعدما أصاب كل فريق المال فإنه يخمس ما أصابوا ثم ينظر إلى ما أصاب الذين لا منعة لهم فيقسم ذلك بينهم وبين أهل العسكر لأنهم صاروا كالمدد لهم حين التحقوا بهم فيشاركونهم فيما أصابوا إذ الجند قد دخلوا غزاة فأما ما أصاب أهل الجند قبل أن يلتحق بهم اللصوص فلا شركة فيه معهم للصوص إلا أن يلقوا قتالاً فيقاتلوا معهم دفعاً عن ذلك .
لأنهم ما كانوا غزاة حين دخلوا فلا يصيرون بمنزلة المدد للجيش بل حالهم فيما أصاب الجيش كحال من كان تاجراً في دار الحرب أو أسيراً أو أسلم من أهل الحرب والتحق بالجيش بعد الإصابة وقد بينا أنه لا شركة لهؤلاء في المصاب إلا أن يلقوا قتالاً وأما وجوب الخمس في الكل فلأنه صار محرزاً بقوة الجيش فيتحقق فيه معنى إعزاز الدين .
ولو أن عسكراً دخلوا أولاً بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام ثم دخل على أثرهم رجل أو رجلان بغير إذن الإمام وقد نهى الإمام عن ذلك فإن لحقا بهم قبل الإصابة تثبت الشركة بينهم في المصاب بعد ذلك وإن كان بعد الإصابة لم يشاركوهم في ذلك إلا أن يلقوا قتالاً فيقاتلوا معهم لأنهم متلصصون حين دخلوا بغير إذن الإمام فلا يصيرون مدداً للجيش ما لم يقاتلوا معهم وهذا لأن مدد الجيش غزاة وهم ليسوا بغزاة حكماً حين دخلوا متلصصين فإنما يعتبر فيهم أن يصيروا غزاة حقيقة وذلك بأن يقاتلوا معهم .@(4/92)
وإن كانوا لحقوهم بإذن الإمام شاركوهم فيما أصابوا لأنهم بنفس الدخول صاروا غزاة الآن فكانوا مدداً للجيش يشاركونهم فيما اصابوا قبل أن يلتحقوا بهم .
ولو أسلم قوم من المرتدين في دار الحرب ثم التحقوا بالعسكر فحالهم وحال غيرهم ممن يسلم من أهل الحرب سواء لأنهم حين دخلوا دار الحرب مرتدين فقد صاروا أهل حرب فبعد ذلك وإن أسلموا والتحقوا بالجيش لا يكونون غزاة بمنزلة المدد للجيش ما لم يقاتلوا معهم دفعاً عما أصابوا .
ولو أن قوماً لا منعة لهم دخلوا دار الحرب بغير إذن الإمام وأصابوا شيئاً ثم لحقهم قوم لا منعة لهم أيضاً ولكن بإذن الإمام فالتقوا بعدما أصاب كل فريق شيئاً فإن لم يصيروا أهل منعة بعدما التقوا فما أصاب المتلصصون قبل أن يلتقوا أو بعد ما التقوا يكون لهم خاصة ولا خمس فيه لأنه لا يتغير حكم ما أصابهم بالالتقاء فهؤلاء إذا لم يصيروا بهم أهل منعة فيبقى الحكم فيما أصابوا على ما كان قبل أن يلتحقوا بهم فكل من أخذ شيئاً فهو له خاصة بخلاف ما إذا كان الذين التحقوا بهم أهل منعة فقد تغير صفة إصابتهم وإحرازهم بالالتحاق بهم .
وما أصاب الذين دخلوا بإذن الإمام قبل الالتقاء وبعده فإنه يخمس ويقسم الباقي بينهم على قسمة الغنيمة كما كان الحكم في مصابهم قبل الالتقاء لأن اللصوص لا يصيرون في حكم المدد لهم حين لم يتغير حالهم بهذا الالتقاء .
وإن كانوا حين اجتمعوا صاروا أهل منعة وقد أصابوا غنائم قبل أن يلتقوا وبعد ما التقوا خمس ما أصاب الفريقان وكان ما أصاب كل فريق منهم قبل أن يلتقوا بينهم على سهام الغنيمة وما أصابوا بعدما التقوا فهو بينهم جميعاً على سهام الغنيمة لأن الإحراز في جميع المصاب وجد @(4/93)
على وجه القهر حين صاروا أهل منعة بعد الاجتماع فيجب الخمس في جميع ذلك .
إلا أن فيما أصاب كل فريق قبل الالتقاء لا يكون الفريق الآخر في حكم المدد لهم إذ لا منعة لكل فريق على الانفراد فلهذا يقسم ما أصاب كل فريق بينهم خاصة ولا يشاركه فيه الفريق الأول إلا أن يلقوا قتالاً بعدما اجتمعوا فإن لقوا قتالاً بعدما اجتمعوا .
اشتركوا في جميع ما أصابوا لوجود القتال من كل واحد من الفريقين على وجه الدفع عما أصابه الفريق الثاني وإن كان دخول الفريقين بغير إذن الإمام والمسألة بحالها فهذا وما سبق سواء إلا في حرف واحد وهو أن ما أصاب كل فريق قبل الالتقاء يكون بينهم جميعاً ها هنا على سهام الغنيمة بخلاف الأول لأن ها هنا قد استوى الحكم في مصاب كل فريق قبل الالتقاء فإنما يعتبر في الحكم حال تأكد الحق بالإحراز وهم أهل منعة عند ذلك وقد تم الإحراز بقوتهم فيخمس الكل والباقي بينهم وهناك قد اختلف حكم مصاب كل فريق لأن ما أصاب الذين دخلوا بإذن الإمام له حكم الغنيمة فلا شركة فيه للمتلصصين ما لم يقاتلوا عنه وما أصاب المتلصصون لم يكن له حكم الغنيمة ولا شركة فيه للذين دخلوا بإذن الإمام أيضاً ما لم يقاتلوا دفعاً عنه فإذا فعلوا ذلك فقد صار الكل غنيمة وتم الإحراز في الكل بقوتهم .
ولو كان أحد الفريقين لهم منعة والآخر لا منعة لهم والمسألة بحالها فإن@(4/94)
الذين لا منعة لهم لا يشاركون أهل المنعة فيما أصابوا قبل الالتقاء إلا أن يلقوا قتالاً بعدما التحقوا بهم وأهل المنعة يشاركون الذين لا منعة لهم فيما أصابوا وإن لم يلقوا قتالاً بعد ذلك لأنهم صاروا محرزين لذلك بمنعتهم فصار أهل المنعة في ذلك بمنزلة المدد لهم وفي الأول المتلصصون ما صاروا محرزين بمنعة الذين دخلوا بإذن الإمام إذ لا منعة لهم .
ولو كان الذين لهم المنعة دخلوا بغير إذن الإمام والذين لا منعة لهم دخلوا بإذنه اشتركوا في جميع ما أصابوا لأن كل فريق بنفس الدخول صاروا غزاة أحد الفريقين باعتبار المنعة والآخر باعتبار إذن الإمام فكان كل فريق كالمدد للفريق الآخر .
فيما أصابوه .
ولو دخل كل فريق من الفريقين الذين لا منعة لهم بإذن الإمام فالتقوا بعدما أصاب كل فريق شيئاً فإنه يخمس جميع ما أصابوا والباقي بينهم على قسمة الغنيمة سواء صاروا أهل منعة بالاجتماع أو لم يصيروا أهل منعة لأن إذن الإمام قد جمعهم وكان كل فريق غازياً بنفس الدخول بإذن الإمام فيكون أحد الفريقين بمنزلة المدد للفريق الآخر فيما أصابوا قبل الالتقاء فإن قيل : إصابة كل فريق ها هنا وإحرازه لم تكن بمنعة الفريق الآخر فكيف يثبت للفريق الآخر معهم شركة في ذلك قلنا : لأنهم باعتبار إذن الإمام صاروا غزاة في دار الحرب والغزاة في دار الحرب بعضهم مدد للبعض من غير اعتبار المنعة .
ألا ترى أن الجيش لو كانوا دخلوا وأصابوا غنائم ثم التحق بهم رجل أو رجلان بإذن الإمام كان مدداً لهم يشاركهم في المصاب وإن لم يكن لهم منعة بنفسه بخلاف ما إذا دخل بغير إذن الإمام فذلك ما سبق وعلى هذا لو كان كل واحد من الفريقين أهل منعة وقد دخلوا بغير إذن الإمام والتقوا في دار الحرب فإنه يخمس جميع ما أصابوا ويكون الباقي بينهم على سهام الغنيمة .
لأن كل فريق ها هنا باعتبار المنعة صاروا غزاة كما دخلوا وقد صار بعضهم مدداً للبعض بالالتقاء وإنما تم الإحراز في المصاب بهم جميعاً فكانوا شركاء في المصاب على سهام الغنيمة والله الموفق .@(4/95)
والذين أسلموا من أهل الحرب قد بينا أن الأسير إذا انفلت فلحق بالجيش الذي دخل معهم قبل أن يخرجوا فهو شريكهم فيما أصابوا حال كونه مأسوراً لأنه انعقد له معهم سبب الاستحقاق حين دخل معهم على قصد القتال وشاركهم في إتمام الإحراز فما اعترض من الأسر بين ذلك يصير كأن لم يكن بمنزلة ما لو مرض وهو في العسكر زماناً ويستوي إن كان دخوله في الابتداء بإذن الإمام أو بغير إذنه لأنه غاز حين دخل معهم على قصد القتال في الوجهين جميعاً ألا ترى أنه لو دخل معهم تاجراً ثم ترك التجارة وقاتل معهم فأسر أو كان أسلم من أهل الحرب والتحق بهم يريد القتال فأسر ثم انفلت قبل أن يخرجوا فإنه يشاركهم فيما أصابوا وإن لم يوجد الإذن من الإمام له في القتال إذا التحق بهم قبل الإحرار والقسمة والبيع .
فإن خرج ذلك العسكر وهو مأسور ثم انفلت والتحق بعسكر آخر وقد أصابوا غنائم لم يشاركهم إلا أن يلقوا قتالاً فيقال معهم لأنه لم ينعقد له سبب الاستحقاق معهم حتى الآن فيكون حاله في حقهم كحال من أسلم في دار الحرب والتحق بالعسكر وهو لا يصير مدداً لهم بنفس الالتحاق بهم لأن قصده النجاة من المشركين إلا أن يقاتل معهم دفعاً عن المصاب فيكون ذلك دليل كونه قاصداً إلى أن يكون مدداً لهم بنفس الالتحاق بهم لأن قصده النجاة من المشركين إلا أن يقاتل معهم دفعاً عن المصاب فيكون ذلك دليل كونه قاصداً إلى أن يكون مدداً لهم .
ولو أنه حين انفلت قتل بعض المشركين وأخذ ماله وأخرجه إلى دار الإسلام فهو له ولا خمس فيه بمنزلة حربي أسلم ثم فعل ذلك وهذا لأنه بمنزلة اللص فيما أخذه لأن قصده النجاة منهم دون القتال على وجه إعزاز الدين فإنه مقهور لا منعة له فيهم .
فإذا كان الأسراء الذين@(4/96)
أسلموا أهل منعة والمسألة بحالها خمس جميع ما أصابوا وكان ما بقي بينهم على سهام الغنيمة الآخذ منهم وغير الآخذ فيه سواء ويستوي إن كان كل فريق أهل منعة قبل أن يلتقوا أو حين اجتمعوا صارت لهم منعة لأنهم محاربون في الحقيقة وقد أحرزوا المال بطريق القهر وهم ظاهرون فيتحقق معنى إعزاز الدين فيما أصابوا فلهذا يكون غنيمة .
ولو تمكن الأسراء من قتل قوم من أهل الحرب غيلة وأخذوا أموالهم لم يكن بذلك بأس لأنهم محاربون لهم ومع ذلك هم مقهورون مظلومون فلهم أن ينتصفوا من بعض من ظلمهم إذا تمكنوا من ذلك .
فإن فعلوا ذلك ثم خرجوا إلى دارنا ولا منعة لهم فكل من أخذ شيئاً فهو له خاصة وإن اشترك في الأخذ رجلان فارس وراجل فهو بينهما سواء لأن المصاب لم يأخذ حكم الغنيمة حين لم يصيروا أهل منعة بعدما تجمعوا .
فإن كان الآخذ أعطاه صاحبه ليحمله فهو للأول لأن يد من أخرجه نائبة عن يد الآخذ حين ائتمنه .
وإن غلبه عليه وأخرجه فهو للذي أخرجه وقد بينا هذا .
ولو كان الأسراء فعلوا ذلك بعدما حصلت لهم منعة والذين أسلموا فعلوا ذلك ولا منعة لهم ثم التقوا في دار الحرب ثم خرجوا فإنه يخمس جميع المصاب لأنه محرز بالدار بقوم هم أهل منعة فيكون غنيمة .
ثم ما أصاب الذين لا منعة لهم فهو مقسوم بينهم جميعاً على سهام الغنيمة لأنهم أحرزوا ذلك بمنعة الفريق الآخر وكان الفريق الآخر كالمدد لهم في ذلك باعتبار منعتهم .
ولا شركة للذين لا منعة لهم مع أصحاب المنعة فيما أصابوا قبل الالتقاء لأنهم ما أحرزوا ذلك بمنعتهم إذ لا @(4/97)
منعة للفريق الآخر حتى يجعلوا كالمدد لهم فيما أصابوا .
إلا أن يلقوا قتالاً بعدما اجتمعوا فحينئذ يشارك بعضهم بعضاً في المصاب لأنهم اجتمعوا في القتال دفعاً عن جميع المصاب فإنهم اشتركوا في الإصابة .
وهذا إذا كان الذين لقوهم من أهل الحرب فقاتلوهم أهل منعة فإن كانوا لا منعة لهم لا يتغير الحكم بهذا القتال لأن قتالهم للدفع إنما يتغير به الحكم إذا قاتلوا من كان يتوهم منه استنفاذ المال من أيديهم وهذا لا يتحقق فيما إذا لقيهم رجل أو رجلان من أهل الحرب وإنما يتوهم إذا لقيهم أهل منعة .
وإن كان الفريقان حين أصابوا ما أصابوا لا منعة لكل واحد منهما فلما التقوا صارت لهم منعة فهم شركاء في جميع ما أصابوا لأن بالالتقاء لما تغير حالهم بما حدث لهم من المنعة صار هذا في الحكم وما لو كانوا مجتمعين عند الإصابة سواء وهذا لأن بعضهم صار مدداً للبعض .
وصار كل فريق متمكناً من إحراز ما أصابه بقوة الفريق الآخر حين صاروا أهل منعة بعدما تجمعوا بخلاف ما سبق .
وإن كان الإمام أرسل إلى كل فريق يأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه ويأخذوا الأموال ففعلوا وكلا الفريقين لا منعة لهم ولم يلتقوا حتى خرج كل فريق إلى دار الإسلام فما أصاب كل فريق يخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام الغنيمة لأنهم صاروا غزاة حين بلغهم إذن الإمام بمنزلة قوم لا منعة لهم دخلوا دار الحرب بإذن الإمام وهذا لأن على الإمام أن ينصرهم إذا علم بحالهم وأمرهم أن يفعلوا ذلك فكانوا قاهرين باعتبار هذا المعنى .
وكذلك إن التقوا في دار الحرب فصارت لهم منعة أو لم تصر أو كان أحد الفريقين لهم منعة والآخر لا منعة لهم لأن إذن الإمام قد جمعهم وقد بينا أنهم لو دخلوا ابتداء على هذا الوجه بإذن الإمام كانوا شركاء في المصاب إذا التقوا فكذلك إذا فعلوا في دار الحرب بإذن الإمام ثم التقوا بعد ذلك .
ولو بعث الإمام قوماً لا منعة@(4/98)
لهم من دار الإسلام في طلب الغنيمة فخرج إليهم أسراء وقوم أسلموا وقد أصاب كل فريق شيئاً فإن كان حين اجتمعوا لم يصر لهم منعة أيضاً ثم لقوا قتالاً فأصابوا غنائم فجميع ما أصاب الذين دخلوا بإذن الإمام يخمس والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأنهم قاهرون باعتبار أن الإمام .
وما أصاب الفريق الآخر فهو لهم خاصة الفارس والراجل فيه سواء ولا شركة لغير الآخذ فيه مع الآخذ لأنهم لصوص إذ ليس لهم إذن من الإمام ولا منعة بها يصيرون قاهرين قبل الالتقاء ولا بعده فإن قيل : لماذا لم يجعل الذين دخلوا بإذن الإمام في حقهم بمنزلة أهل المنعة حتى يكونوا مدداً لهم قلنا : لأن أهل المنعة إنما صاروا مدداً لهم باعتبار أنهم أحرزوا ما أصابوا بقوتهم ومنعتهم وهذا غير موجود ها هنا وإنما يثبت حكم الغنيمة فيما أصاب الذين دخلوا بإذن الإمام لوجود الإذن حكماً وهذا مقصور على مصابهم لا يتعدى إلى مصاب الفريق الآخر .
فأما إذا كانوا أهل منعة فحكم الغنيمة فيما أصابوا باعتبار منعتهم حساً فيتعدى من ذلك إلى ما أصاب الفريق الآخر حين أحرزوه بمنعتهم .
فإذا كانوا بعد الاجتماع أهل منعة يخمس جميع ما أصابوا والباقي بينهم على سهام الغنيمة لقوا قتالاً أو لم يلقوا لأن بالالتقاء قد تغير حالهم فقد صاروا به أهل منعة ولهذا تغير الحكم فيما أصاب كل فريق .
وإن كان الذين دخلوا بإذن الإمام لا منعة لهم والفريق الآخر لهم منعة فإنه يشارك بعضهم بعضاً في جميع المصاب بعدما يرفع الخمس من ذلك لأن الذين دخلوا بإذن الإمام غزاة باعتبار الإذن والآخرون غزاة باعتبار المنعة فكان@(4/99)
حالهم بعد الالتقاء كحال قوم لا منعة لهم دخلوا بإذن الإمام والتحقوا بالعسكر بعد إصابة الغنيمة فيشارك بعضهم بعضاً في المصاب فإن كانت المنعة للذين دخلوا بإذن الإمام خاصة والمسألة بحالها فإن أهل المنعة يشاركون الأسراء فيما أصابوا قبل الالتقاء بعدما يرفع منه الخمس لأنهم أحرزوا ذلك بمنعتهم ولا شركة للأسراء فيما أصاب أهل المنعة إلا أن يلقوا قتالاً فيقاتلوا معهم .
وإن كان لكل فريق منعة فإنه يشارك بعضهم بعضاً فيما أصابوا لأن كل فريق بمنعتهم صاروا مدداً للفريق الآخر وفي مصاب أهل المنعة لا فرق بين وجود الإذن من الإمام وعدم الإذن كما لو كانوا دخلوا في دار الإسلام . والله الموفق .
باب المستأمنين من المسلمين يأخذون أموال أهل الحرب ثم يخرجونها
قد بينا فيما سبق أن المستأمن إذا أخذ شيئاً من مالهم بغير طيب أنفسهم فأخرجه إلى دارنا أمر برده ولا يجبر عليه في الحكم لأنه أخفر ذمة نفسه لا ذمة الإمام والمسلمين واستدل عليه بحديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه .
أنه صحب قوماً من المشركين فوجد منهم غفلة فقتلهم وأخذ أموالهم فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يخمس فأبى أن يفعل ذلك ولم يجبره على رد ذلك على@(4/100)
ورثتهم فهو الأصل في هذا الجنس فإن جاء صاحب المتاع مسلماً أو معاهداً أو بأمان وأقام على ذلك بينة عدولاً من المسلمين أو أقر ذو اليد بذلك فإن الإمام يجبره بالرد ولا يفتيه على ذلك لأنه حين أخذ المال لم يكن لصاحب المتاع أمان من المسلمين في نفسه ولا في ماله وإنما كان على ذلك الرجل ألا يغدر بهم حين دخل إليهم بأمان وذلك غير داخل تحت حكم الإمام فلا يجبره على الرد بذلك القدر من السبب .
ألا ترى أنه لو فقأ عين رجل منهم أو قتل رجلاً منهم أو استهلك مالاً ثم خرج هارباً إلى دار الإسلام فجاء صاحب الحق وخاصمه في ذلك لم يقض القاضي له بشيء فكذلك إذا أخرج مالاً لهم .
وكذلك إن كان المستأمنون الذين فعلوا ذلك أهل منعة فأخرجوا ما أخذوا إلى دار الإسلام فهذا والواحد إذا أخرجه سواء لأنهم فعلوا ذلك بمنعة أنفسهم لا بمنعة الإمام .
فإن كانوا حين اجتمعوا وصارت لهم منعة نابذوا أهل الحرب ثم لحقوا بعسكر من المسلمين قد غنموا غنائم ثم أصابوا غنائم أخرى أيضاً بعد ما التحقوا بهم فجميع ما أصاب أهل العسكر قبل الالتقاء يخمس والباقي لهم خاصة دون التجار لأن التجار لا يصيرون مدداً لهم ولا في حكم الغزاة بمجرد الالتقاء ما لم يقاتلوا دفعاً عما أصابوا .
وما أصابوا بعد الالتقاء فهو بين الكل على قسمة الغنيمة لأنهم اشتركوا في الإصابة والإحراز .
وما أصاب التجار في أمانهم فإنهم يؤمرون برده على أهله من غير أن يجبروا عليه في الحكم لأنهم كانوا محرزين لذلك باعتبار منعتهم لا باعتبار منعة الجيش فكان إخراجهم ذلك إلى منعة الجيش وإلى دار الإسلام سواء إلا أن يلقوا قتالاً فقاتلوا دفعاً عن ذلك فحينئذ التجار يشاركون الجيش في جميع ما أصابوا@(4/101)
ويأخذ الإمام ما أصاب التجار فيجعل ذلك موقوفاً حتى يجيء صاحبه فيأخذه لأن الإحراز ها هنا حصل بقوة العسكر وبقتالهم دفعاً عن ذلك المال فبقيت ولاية الإمام فيه ألا ترى أنه لو لم يكن مأخوذاً على وجه الغدر كان حكمه حكم الغنيمة بقسمة الإمام بين أهل العسكر والتجار بعدما يرفع الخمس من ذلك وإذا ثبت ولاية الإمام فيه فعليه إزالة الغدر بإيصاله إلى صاحبه .
ألا ترى أن الذين أخذ منهم تلك الأموال لو جاءوا إلى العسكر ولهم منعة فقالوا : نريد قتالكم أو تخلوا بيننا وبين التجار حتى نقتلهم ونأخذ أموالنا لم يسعنا أن ندع أهل الحرب يقاتلونهم ولكن يلزمنا نصرة التجار بأن نأخذ مما في أيديهم مما غدروا فيه ونرده على أهله ونمنعهم من قتل التجار وكذلك إن كان الذين جاءوا للاستنقاذ قوماً سوى أصحاب الأموال .
ولو كان المستأمنون لا منعة لهم والمسألة بحالها فعلى أهل العسكر أن يردوا ما أصاب المستأمنون على أهله لأنهم ما كانوا محرزين لذلك بمنعتهم وإنما صاروا محرزين له بقوة أهل العسكر ولهذا يثبت حقهم فيه لو كان غنيمة وإن لم يلقوا قتالاً بعد ما التحقوا بهم .
فعرفنا أن ولاية الإمام قد تثبت في هذا المال حين كان محرزاً بقوة أهل العسكر فعليه رده على أهله وليس عليه أن يبعث به إليهم ولكنه يكتب إلى صاحبه حتى يدخل بأمان فيأخذه لأنه ما أخرجه من يد صاحبه وإنما وقع في يده من غير فعله فهو نظير الثوب إذا هبت به الريح وألقته في حجر إنسان فإنه لا يجب عليه أن يحمله إلى صاحبه ولكن عليه أن يعلمه حتى يجيء فيأخذه منه .
ولو أن مستأمناً في دار الحرب خرج إلى دار الإسلام وأهل الحرب لا يعلمون به ثم عاد إليهم فلم يعرضوا له وظنوا أنه على الأمان الأول فلا بأس بأن يقتلهم ويأخذ ما بدا له من أموالهم لأن بوصوله إلى دار الإسلام قد انتهى حكم الأمان بينه وبينهم سواء علموا به أو لم يعلموا فإذا@(4/102)
دخل إليهم بغير استئمان جديد كان حاله وحال من لم يكن مستأمناً فيهم قبل هذا سواء ألا ترى أنهم لو علموا بذلك قتلوه وأخذوا ماله فإن لم يعلموا لا يثتب لهم أمان من جهته فإن قيل : إنما كان لا يحل له أن يفعل ذلك قبل الخروج للتحرز عن الغدر وهذا المعنى قائم ما لم يعلموا بخروجه قلنا : لا كذلك فإنه ليس عليه أن يعلمهم بخروجه وإنما عليهم ألا يغفلوا عنه حتى لا يشتبه عليهم خروجه وبعد انتهاء الأمان بالخروج هو محارب لهم والحرب خدعة فظنهم أنه على الأمان الأول لا يمنعه من أن يصنع بهم ما يصنعه المحارب .
وكذلك إذا خرج إلى عسكر المسلمين في دار الحرب لأن الأمان ينتهي بينه وبينهم بوصوله إلى منعة المسلمين كما ينتهي بخروجه إلى دار الإسلام فإن كان أهل الحرب أخذوه حين عاد إليهم فقالوا له : أين كنت فأخبرهم أنه لم يرجع إلى دار الإسلام بعد أو قالوا له : من أنت فقال : أنا مستأمن فيكم فتركوه لم يحل له أن يعرض لهم في شيء بعد هذا لأن الذين كلمهم به بمنزلة الاستئمان الجديد .
ألا ترى أنه لو لم يكن دخل إليهم بأمان حتى الآن فلما أخذوه قال : أنا مستأمن فيكم كان مستأمناً إذا خلوا سبيله لا يحل له أن يغدر بهم بعد ذلك .
وإن كان هذا المستأمن خرج إلى قوم من المسلمين لا منعة لهم قد بعثهم الإمام طليعة في دار الحرب .
والمسألة بحالها لم يحل له أن يعرض لأهل الحرب بشيء لأن حكم الأمان الأول بينه وبين أهل الحرب باق ما لم ينابذهم أو يلتحق بمنعة المسلمين وباعتبار ذلك الأمان لا يحل لهم أن يتعرض لهم .
فإن اجتمع المستأمنون في دار الحرب في مكان حتى صارت لهم منعة ثم لم ينبذوا إلى أهل الحرب حتى تفرقوا كما كانوا فإنه لا يحل لأحد منهم أن يتعرض لهم بشيء لأنهم على الأمان الأول حين لم ينبذوا إلى أهل الحرب .
فإن قيل : لماذا لا يجعل ما حدث لهم من المنعة بمنزلة منعة المسلمين في دار الحرب حتى ينتهي به حكم ذلك الأمان قلنا : لأن انتهاء الأمان باعتبار منعة المحاربين لأهل الحرب والمستأمنون ما دخلوا محاربين فبالجمع لا يصيرون محاربين ما @(4/103)
لم ينبذوا إليهم بخلاف أهل العسكر .
وكذلك إن اجتمعوا مع قوم من الأسراء ومن الذين أسلموا في دار الحرب ولهم منعة إلا أنهم لم ينبذوا إلى أهل الحرب بالمحاربة لأن الأسراء مقهورون في أيديهم والذين أسلموا ما كانوا محاربين لهم فلا يصيرون محاربين في الظاهر بمجرد المنعة ما لم ينبذوا إليهم بالمحاربة ولا ينتهي أمان المستأمنين بالتحاقهم بمثل هذه المنعة .
وإن كان الأسراء قد نبذوا إلى أهل الحرب بالمحاربة والمسألة بحالها فلا بأس للمستأمنين إذا عادوا إليهم أن يقتلوا من قدروا عليه منهم لأنهم التحقوا بأهل منعة من المسلمين هم محاربون لأهل الحرب وحكم الأمان ينتهي بذلك كما لو التحقوا بالعسكر .
فإن كان المشركون علموا بهم فقالوا لهم حين رجعوا : لم أتيتموهم فقالوا : خرجنا إلى عسكرهم تجاراً وأتيناهم لننهاهم عما صنعوا فتركوهم لما قالوا لم يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشيء لأن هذا الكلام بمنزلة الاستئمان منهم فإنهم أخبروهم أنهم على الأمان الأول وإنما تركوهم على ذلك الأمان وكذلك هذا الجواب فيما إذا خرجوا إلى عسكر في دار الحرب ثم رجعوا إليهم فأخبروهم أنهم خرجوا للتجارة أو لحاجة .
ولو أن المستأمنين أصابوا شيئاً من أهل الحرب ثم تجمعوا فصارت لهم منعة ونبذوا إلى أهل الحرب وأخبروهم أنهم يقاتلونهم ثم قاتلوهم أو لم يقاتلوهم حتى أصابوا غنائم فأخرجوها فإن ما أصابوا بعد النبذ يخمس ويقسم بينهم على سهام الغنيمة وما أصابوا قبل النبذ فهو لمن أصاب ولا خمس فيه لأنهم أخذوا ذلك على وجه الغدر وإنما أحرزوه بمنعتهم خاصة لا بمنعة الإمام والمسلمين فيفتيهم الإمام بالرد من غير أن يجبره عليه في الحكم
ولو كان@(4/104)
مكان المستأمنين أسراء أو قوم أسلموا منهم والمسألة بحالها خمس الإمام ذلك كله وقسم الباقي على سهام الغنيمة لأنهم أخذوا حين أخذوا وهو حلال لهم ثم أحرزوه بمنعة وقوة فيثبت فيه حكم الغنيمة فأما المستأمنون فإنما أخذوا ما أخذوا قبل النبذ وهو عليهم حرام فلا يثبت حكم الغنيمة في ذلك المأخوذ بما حدث لهم من المنعة .
ألا ترى أنهم لو أحرزوا ذلك بمنعة الجيش أخذه الإمام فيرده على أهله ولم يقسمه بينهم على قسمة الغنيمة والأسراء لو أحرزوا ما أخذوا بمنعة الجيش قسم بينهم وبين الجيش على قسمة الغنيمة فكذلك إذا أحرزوه بمنعتهم إلا أن هناك يثبت للإمام ولاية الإجبار على الرد وها هنا لا يثبت .
وإن كان المستأمنون لحقوا في دار الحرب بقوم لصوص لا منعة لهم وقد دخلوا بغير إذن الإمام ولم يصيروا أهل منعة بعدما اجتمعوا فالحكم فيما أصاب كل فريق بعد الالتقاء كما كان قبله حتى أن ما أصاب المستأمنون اللصوص فهو لمن ولي الأخذ منهم خاصة وما أصاب المستأمنون أمروا برده من غير جبر فإن صاروا أهل منعة حين اجتمعوا فنبذوا إلى أهل الحرب ثم خرجوا إلى دار الإسلام فإن الإمام يخمس ما أصاب اللصوص لأنهم أخذوه والأخذ حلال لهم وأحرزوه وهم قاهرون بما حدث لهم من المنعة فيخمس ما أصابوا ويقسم ما بقي بينهم وبين المستأمنين على سهام الغنيمة فإن قيل : كيف يثبت للمستأمنين في ذلك حق الشركة معهم ولم يقاتلوا دفعاً عن ذلك المال بعدما التحقوا بهم قلنا : لأنه يصير بمنعة حدثت لهم وباعتبارها أخذ حكم الغنيمة فكان هذا أكثر تأثيراً من قتالهم دفعاً عن ذلك المال .
فأما ما أصاب المستأمنون فإنهم يؤمرون برده من غير أن يجبروا على ذلك لأنهم أخذوا والأخذ حرام عليهم فلا يصير غنيمة بالإخراج وما أحرزوه بمنعة غيرهم من المسلمين فلا يثبت للإمام فيه ولاية الإجبار على الرد .
وإن كانوا لم ينبذوا إلى أهل الحرب حتى خرجوا والمسألة بحالها لم يخمس شيء من ذلك لأنهم أصابوه على وجه التلصص وأخرجوه كذلك فإنهم لم يظهروا القتال مع أهل الحرب في دارهم واعتبار المنعة لإظهار القتال وإذا لم يظهروه كان هذا وما لم يصيروا أهل منعة بعد@(4/105)
الالتقاء في الحكم سواء وإذا لم يصر ما أصاب اللصوص غنيمة فهو للآخذ خاصة ولا شركة للمستأمنين معهم في ذلك والذي يوضح هذا الفرق أن المستأمنين لو رجعوا إلى أهل الحرب قبل أن ينبذوا إليهم كانوا على الأمان الأول لا يحل لهم أن يتعرضوا لأهل الحرب بشيء وبعد ما نبذوا إليهم باعتبار المنعة لو رجعوا إليهم من غير استئمان جديد حل لهم أن يقتلوا من قدروا عليه منهم .
وكذلك لو كان المستأمنون حين اجتمعوا أهل منعة والذين لحقوا بهم لا منعة لهم لأن المستأمنين ما كانوا محاربين لهم ولكنهم كانوا في أمان منهم فلا ينتهي حكم ذلك الأمان منهم ما لم ينبذوا إليهم أو يصلوا إلى أهل منعة من المسلمين .
وإن كانت المنعة للصوص دون المستأمنين فلحوق المستأمنين بهم بمنزلة لحوقهم بعسكر دخلوا بإذن الإمام لأن اللصوص محاربون للمشركين وقد بينا أنهم إذا كانوا أهل منعة فدخولهم بإذن الإمام وبغير إذن الإمام سواء .
وإن كان المستأمنون أهل منعة حين اجتمعوا قبل أن يلتحقوا باللصوص الذين لهم منعة والمسألة بحالها فهذا والأول سواء إلا في خصلة واحدة وهو أن الإمام ها هنا لا يأخذ من المستأمنين ما كانوا أخذوه ولكنه يفتيهم بالرد فيه لأنهم ما أخذوه بمنعة اللصوص وإنما أخذوه بمنعة أنفسهم فلا يثبت ولاية الإمام في أخذ ذلك منهم وفي الأول إنما أخذوه بمنعة اللصوص إذا كانوا أهل منعة فحكمهم كحكم العسكر .
فإن لقوا قتالاً في الفصل الثاني فإن الإمام يأخذ من المستأمنين ما كانوا أخذوا فيرده إلى أهله لأن اللصوص حين قاتلوا دفعاً عن ذلك المال فقد ثبت للإمام فيه الولاية كما يثبت له عند قتال العسكر دفعاً عن ذلك المال فإن التحق المستأمنون ولا منعة لهم بقوم من المسلمين دخلوا بإذن الإمام ولا منعة لهم وبعد الاجتماع لم يصيروا أهل منعة أيضاً فإن@(4/106)
المستأمنين يؤمرون برد ما كانوا أصابوا من غير جبر ويخمس ما أصاب الفريق الآخرون والباقي لهم خاصة دون المستأمنين لأن المستأمنين بعدما التحقوا بهم كانوا على أمانهم لو رجعوا وإنما خرجوا إلى دار الإسلام وهم مستأمنون فعرفنا أنهم ما صاروا مدداً للذين دخلوا بإذن الإمام ولا صاروا محابين في دار الحرب .
وكذلك إن صاروا أهل منعة بعد الاجتماع إلا أن ينبذوا إلى أهل الحرب فحينئذ يشاركونهم فيما أصابوا قبل أن يلتحقوا بهم وبعدما نبذوا جميعاً لأن الأمان قد انتبذ بينهم وبين أهل الحرب وقد حدثت لهم المنعة بالتحاقهم بهم وقد بينا أن هذا بمنزلة القتال دفعاً عن المصاب أو أقوى منه .
فأما ما أصاب المستأمنون فإنهم يفتون فيه بالرد من غير جبر لأنهم ما أحرزوا ذلك بمنعة غيرهم من المسلمين فلا يثبت فيه ولاية الإمام .
ولو أن المستأمنين الذين لا منعة لهم التحقوا بقوم أسراء أو أسلموا في دار الحرب أهل منعة ولكنهم لم ينابذوا أهل الحرب فما أصاب الأسراء قبل أن يلتحق بهم المستأمنون يخمس والباقي لهم خاصة لأنهم أخذوا ذلك والأخذ حلال لهم .
والمستأمنون بالالتحاق بهم ما صاروا مدداً لهم في ذلك لأنهم لم يقاتلوا معهم دفعاً عن ذلك ولا حدثت لهم المنعة بالتحاقهم بهم فقد كانوا أهل منعة قبل ذلك .
وكذلك ما أصابوا بعدما التحق بهم المستأمنون لأنهم لم يصيروا محاربين لأهل الحرب حين لم ينبذوا إليهم فهم بمنزلة اللصوص في ذلك في اختصاصهم بالمصاب لمعنى فقهي وهو أن الأمان بين أهل الحرب وبين المستأمنين يبقى بعد ما التحقوا بهم إذا كانوا لم ينابذوا أهل الحرب ومع بقاء الأمان لا يمكن أن يجعلوا كالردء والمدد لهم فيما أصابوا فلهذا لا يشاركهم المستأمنون في شيء من ذلك وإن كان ما أصابوا غنيمة باعتبار منعتهم حتى يخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام الغنيمة .
وإن كانوا قد نابذوا أهل الحرب والمسألة بحالها فما@(4/107)
أصابوهم والمستأمنون بعد النبذ فهو فيء بينهم جميعاً لأن أمان المستأمنين حين انتهى بالوصول إليهم فإنهم التحقوا بمنعة من المسلمين هم مقاتلون لأهل الحرب منابذون فكانوا بمنزلة الردء لهم فيما أصابوا بعد الالتحاق بهم .
وما أصاب المستأمنون قبل الالتحاق بهم فإن الإمام يأخذه فيرده على أهله لأنهم أحرزوه بمنعة قوم من غزاة المسلمين فيثبت للإمام فيه ولاية الإجبار على الرد بخلاف الأول فهناك الأسراء ما كانوا غزاة على الإطلاق حين لم ينابذوا أهل الحرب فلا يثبت للإمام ولاية الإجبار فيما أصابه المستأمنون وإن أحرزوه بمنعتهم ولكنه يفتيهم بالرد .
وإن صار المستأمنون أهل منعة قبل أن يلتحقوا بالأسراء الذين نابذوا أهل الحرب فإن الإمام لا يجبرهم على رد ما أخذوا لأنهم أحرزوه بمنعة أنفسهم لا بمنعة الغزاة وفي مثله لا يثبت للإمام ولاية الإجبار في الرد إلا أن يلقوا قتالاً فحينئذ يثبت للإمام فيه ولاية الإجبار بقتال الغزاة للدفع عن ذلك المال فيأخذه ويرده على أهله .
وإذا أخذ المستأمن في دار الحرب مال حربي على سبيل الغدر فأخرجه ثم أسر الحربي الذي هو صاحب المال فالمال للمسلم الذي كان أخذه وقد طاب له الآن لأن المال كان مملوكاً له حين أخرجه ولكنه كان لا يطيب له لبقاء حق المأخوذ منه وحين أسر وصار عبداً بطل حقه فزال المانع من الطيبة للآخذ به فإن قيل : الآسر يخلف المأسور فيما هو حقه كما يخلفه في ملك نفسه قلنا : نعم ولكن فيما يكون محلاً للتملك بالقهر والمال الذي هو مملوك للمسلم لا يكون محلاً للتملك بالقهر فلهذا لا يثبت حق الأسير فيه ألا ترى أن حربياً مستأمناً لو أدان مسلماً ديناً في دارنا ث عاد إلى دار الحرب فأسر بطل الدين عن صاحبه ولم يكون فيئا .
لأن الدين في الذمة لا يكون محل التملك بالقهر بل أولى لأن هناك الدين كان ملك الأسير في ذمة من عليه وها هنا المال لم يكن ملك الأسير في يد المسلم ألا ترى أنه لو لم يؤسر حتى رجع إلى دارنا فطلب دينه أجبر المدين على قضاء دينه وها هنا لو لم يؤسر حتى خرج وطلب ذلك المال لم يجبر المسلم على دفع شيء إليه سواء كان قائماً بعينه في يد آخذه أو استهلكه فإن قيل : فلماذا لا@(4/108)
يخلفه وارثه في ذلك الحق بمنزلة ما لو مات إذ الرق تلف حكماً قلنا : لأن إثبات التوريث يكون بالنص لا بالرأي ولأن الوراث إنما يخلف المورث فيما يفضل عن حاجته وبالاسترقاق تبدلت نفسه ولكن لم تنقطع حاجته فلا يمكن جعل الوارث خلفاً له في أملاكه وحقوقه وكذلك لو لم يؤسر الحربي ولكن الإمام غلب على تلك الأرض وقتل صاحب المال لأن حقه قد سقط بموته ولم يخلفه في ذلك ورثته حين وقع الظهور عليهم فصاروا أرقاء فإن رق الوارث يمنع هذه الخلافة كرق المورث والمانع من الطيب للآخذ قيام حق الغير فيه وقد تحقق سقوطه ولو قتل الحربي ولم يقع الظهور على داره فإن الآخذ يفتي برد المال إلى ورثته لأنهم خلفاؤه في حقوقه وأملاكه بعدما قتل كما يخلفونه إذا مات حتف أنفه وقيام حقهم كقيام حق المأخوذ منه في المنع من الطيبة للآخذ .
ولو كان الآخذ أخرج المال إلى عسكر في دار الحرب ثم إن أهل العسكر أسروا صاحب المال فهو فيء لهم مع المال يخمس والباقي بين أهل العسكر والمستأمن على سهام الغنيمة لأن حق أهل العسكر كان يثبت في هذا المال باعتبار الإحراز بمنعتهم لولا قيام حق المأخوذ منه ألا ترى أنه لو كان مكان المستأمن أسير كان المال غنيمة لأهل العسكر ألا ترى أنه يثبت للإمام ولاية الإجبار على الرد فيه وما كان ذلك إلا باعتبار ثبوت حق أهل العسكر فيه وقد زال المانع وهو حق الحربي حين أسر ولأن هذا المال لما كان مستحق الرد على الأسير في الحكم كان بمنزلة مال آخر في يده فيكون محل التملك بالقهر وقد تحقق الظهور عليه فيكون فيئاً بخلاف الأول فهناك المال غير مستحق الرد عليه في الحكم بل ملك الآخذ فيه هو متقدم في الحكم وذلك يمنع تمام استيلاء المسلمين عليه بأسر الحربي .
وكذلك إن قتل الحربي ووقع الظهور على الدار فإن لم يقع الظهور على الدار فإن الإمام يأخذ ذلك المال فيرده على ورثة الحربي لأنهم خلفاؤه في ذلك وإنما هذا نظير حربي مستأمن@(4/109)
في دارنا أودع رجلاً مالاً ثم رجع إلى دار الحرب فأخذ أسيراً فإن الوديعة تكون فيئاً للذين أسروه بمنزلة نفسه لما بينا أن المال كان مستحق التسليم إليه في الحكم ويد المودع فيه كيده فيثبت حكم الاستيلاء عليه حين أسر .
وكذلك لو قتل فظهر على الدار وإن لم يقع الظهور على الدار والمال في يد المودع على حاله إلا أن يأتي وارثه فيأخذه فكذلك ما سبق والذي يوضح الفرق بين ما يحرزه المستأمن بدار الإسلام وبين ما يحرزه بمنعة الجيش أن المأخوذ لو كانت جارية فأعتقها بعدما أخرجها إلى دار الإسلام نفذ عتقه فيها .
ولو أعتقها بعدما أخرجها إلى العسكر لم ينفذ عتقه فيها فبهذا تبين قيام ملكه فيها بعد الإخراج إلى دار الإسلام وانعدام ملكه إذا أحرزها بالعسكر وإنما امتنع ثبوت القهر لقيام ملكه في المحل .
ولو أن الأسراء تجمعوا فصارت لهم منعة فأخذوا أموالاً فأخرجوها إلى دار الإسلام خمس ما أصابوا لأن الأخذ كان مباحاً لهم وكانوا قاهرين عند الإحراز باعتبار المنعة .
بخلاف ما إذا كانوا مستأمنين ولم ينابذوا أهل الحرب فإنه لا يخمس ما جاءوا به ولكنهم يفتون برده لأن الأخذ كان حراماً عليهم لمعنى الغدر .
ألا ترى أن المال المأخوذ لو كان في يد الأسراء ولم يخرجوا حتى غلب المسلمون على تلك الدار فإنه يخمس ذلك كله ويمثله في المستأمنين لو وقع الظهور على الدار والمال في أيديهم ولكنهم لم ينابذوا أهل الحرب فإن المال فيء للمسلمين ولا شيء للمستأمنين فيه .
لأن المستأمنين ما داموا في أمانهم فيكون المال في أيديهم لكونه في يد صاحبه فيصير فيئاً إذا وقع الظهور عليه كسائر أمواله ولا شيء للمستأمنين فيه لأنهم ليسوا بغزاة بخلاف الأسراء فإنهم كانوا محاربين لأهل الحرب فكانوا بمنزلة الغزاة في المال الذي أحرزوه بمنعة المسلمين فلهذا يخمس ويقسم الباقي بينهم وبين الأسراء على سهام الغنيمة .
ولو كان المستأمنون حين أخذوا تلك الأموال نبذوا إلى أهل الحرب فقاتلوهم ولهم منعة فحالهم الآن كحال@(4/110)
الأسراء لأنهم خرجوا من أمانهم وصاروا محاربين لهم ألا ترى أنه لو أسلم أهل الدار وصاروا ذمة قبل أن يقع الظهور عليهم لم يؤمر المستأمنون برد المال ها هنا وفي الأول يؤمرون برد المال .
ولو دخل عليهم عسكر آخر فالتحق المستأمنون بهم لم يتعرض لشيء من ذلك المال لأن المستأمنين إنما أحرزوه بمنعتهم لا بمنعة الجيش بخلاف ما إذا لم ينابذوا أهل الحرب فإن هناك إنما أحرزوه بمنعة الجيش فيأخذ الإمام المال ويرده على أهله فإن كان الجيش الذين دخلوا ظهروا على الدار وقتلوا صاحب المال أو أسروه فقد صار ذلك المال فيئاً بين أهل العسكر وبين المستأمنين وإن لم يظهروا على الدار ولكن قتلوا صاحب المال لم يعرضوا لما أخذ المستأمنون وأمروا بالرد إلى ورثة صاحب المال وقد بينا هذا الفرق .
وإذا كان المسلم مستأمناً في دار الحرب فنزل قرية من قراهم ثم مر بهم عسكر من المسلمين ولهم منعة فقتلوا رجال أهل القرية وسبوا من فيها ولم يعرضوا للمستأمن بشيء فهو على أمانه فيما بينه وبين أهل الحرب لا يحل له أن يعرض لهم بشيء لأنه لم يوجد ما يوجب انتهاء الأمان بينه وبين أهل القرية فإن القرية لم تصر دار الإسلام إذ القرى تتبع البلدة ولأن المسلمين حين مضوا وتركوها فقد عرفنا أنه لم يكن من قصدهم أن يصيروها دار الإسلام ولم يكن المسلم المستأمن هو المحرز لنفسه بمنعة المسلمين إنما هم الذين نزلوا ذلك الموضع ثم ارتحلوا منه وربما كان هو نائماً لم يشعر بمجيئهم ولا بذهابهم فيكون هو على أمانه على حاله .
وإن كان العسكر نزلوا بالقرب من القرية فذهب هو إلى العسكر فقد انتهى الأمان بينه وبين أهل الحرب لأنه الآن أحرز نفسه بمنعة الجيش فيخرج به من أمان أهل الحرب حتى إذا عاد إليهم فله أن يقتلهم ويأخذ أموالهم .
ألا ترى أنه لو سار معهم@(4/111)
أياماً أو قاتل معهم قوماً من أهل الحرب والمشركون لا يعلمون بذلك فإنه يكون خارجاً من أمانهم فكذلك إذا صار في عسكرهم بخروجه إليهم .
وإن كان المسلمون حين قتلوا رجال أهل القرية حملوه كرهاً فأدخلوه في عسكرهم فلما علموا أنه مسلم خلوا سبيله فرجع إلى دار الحرب ففي القياس لا أمان بينه وبينهم لأنه صار محرزاً بمنعة الجيش وإن كان بغير اختيار منه فيخرج به من عهد المشركين كما لو حملوه كرهاً إلى دار الإسلام ولكنه استحسن فقال : الموضع الذي نزل فيه العسكر من جملة دار الحرب والمستأمن من المسلمين ما دام في دار الحرب فهو في أمان منهم .
إلا أن يوجد منه فعل يستدل به على نبذ الأمان ولم يوجد ذلك حين كان مكرهاً على الخروج إلى العسكر لأن الإكراه إن كان بوعيد التلف لا يبقى له فعل أصلاً وإن كان بتهديد دون ذلك لا يبقى رضاه به حتى يجعل دليلاً على نبذ الأمان منه .
فأما إذا أخرج إلى دار الإسلام فالمسلم في دار الإسلام لا يكون في أمان أهل الحرب قط أرأيت لو أقام في أهله سنة لا يدعونه يرجع إلى أهل الحرب أكان يبقى له في أمان منهم هذا لا يقول به أحد فكذلك إذا أخرجوه إلى دار الإسلام ثم خلوا سبيله فرجع إليهم كان له أن يقتل من شاء منهم ما لم يجدد بينه وبينهم أماناً . والله أعلم .@(4/112)
باب ما يظهر عليه أهل الشرك فيحرزونه من أموال المسلمين ثم يصيبه المسلمون
قد بينا فيما تقدم أنهم يملكون أموالنا بطريق القهر بعدما يتم الإحراز بدارهم فإذا ظهر عليه المسلمون فهو غنيمة لهم بمنزلة سائر أموالهم إلا أن المستولي عليه إذا وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لأنه صار مظلوماً فكان على المسلمين القيام بنصرته ودفع الظلم عنه فإنهم لا يتمكنون من السكنى في دار الإسلام إلا بأن يدفع بعضهم عن بعض فكان دفع هذا الظلم على الغزاة الذين يذبون عن دار الإسلام ويأخذون الكفاية على ذلك فإذا وقع المال في أيديهم فنقول : قبل القسمة الحق لعامتهم ودفع الظلم واجب عليهم أيضاً وذلك في رد المال عليه فيجب رده مجاناً وأما بعد القسمة فقد تعين الملك فيه لمن وقع في سهمه وما كان يجب عليه دفع الظلم عنه بتسليم ملك نفسه إليه إلا أن حق الذي وقع في سهمه كان في المالية حتى كان للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم وحق المأسور منه كان في العين فيجب مراعاة الحقين وذلك بإيصال عين الملك إليه إذا وصل إلى من وقع في سهمه ما هو حقه وهو المالية إن شاء ولأن قبل القسمة الثابت للغانمين حق لا ملك والثابت للمستولي عليه حق أيضاً فيترجح حقه بالسبق فيأخذه مجاناً وبعد القسمة الثابت لمن وقع في سهمه ملك وللمستولي عليه حق والحق وإن كان سابقاً فإنه لا يعارض الملك المستقر شرعاً فيجب مراعاتها وذلك في أن يأخذه بالقيمة إن شاء .
وكذلك لو دخل مسلم إليهم فاشتراه بثمن وأخرجه إلى دار@(4/113)
الإسلام فلصاحبه أن يأخذه بالثمن إن شاء ولو وهبوه منه ولصاحبه أن يأخذه منه بقيمته إن شاء للمعنيين اللذين ذكرناهما واستدل على ذلك بأحاديث رواها في الكتاب منها حديث تميم بن طرفة قال : أخذ المشركون ناقة لمسلم فابتاعها منهم مسلم فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام : أعطه ثمنها الذي ابتاعها به وإلا فخل بينها وبينه .
ثم ذكر قول زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب .
إن المأسور منه إذا وجده بعد القسمة فلا سبيل له عليه والمراد به أنه لا سبيل له عليه في الأخذ مجاناً ولكن إذا أعطاه قيمته فهو أحق به وذكر عن الحسن والزهري رحمة الله عليهما : إنه لا يرد على صاحبه قبل القسمة ولا بعدها ولا يؤخذ بهذا لأنه خلاف ما اتفق عليه الكبار من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعن أبي بكر رضي الله عنه قال : يرد على صاحبه قسم أو لم يقسم إذا قامت به البينة وبه نأخذ فإنه ما لم يثبت حق المستولي عليه بالحجة لا يتمكن من أخذه وطريق ثبوت حقه إقامة البينة وبعد ما يثبت حقه فإنه يأخذه قبل القسمة مجاناً وبعدها بالقيمة إن أحب فكان مراد الصديق رضي الله تعالى عنه أنه أحق به إذا رغب في أداء القيمة بعد القسمة .
وأهل الذمة في هذا الحكم كالمسلمين لأن نفوسهم وأموالهم معصومة متقومة بالإحراز بالدار ولهذا لا يسترقون إذا وقع الظهور عليهم كالإحراز من المسلمين فالحكم في أموالهم إذا وقع الاستيلاء عليها كالحكم في أموال المسلمين .
وذكر عن مكحول في رجل من العدو قال للجيش من المسلمين : أرأيتم إن أنا جئتكم بمسلم أتعطونني فداءه فقالوا : نعم فصالحهم على شيء معلوم ثم جاء به فمات الحربي في العسكر فقال : يدفع فداء ذلك المسلم إلى@(4/114)
أولياء الكافر وهذا لأنهم خلفاؤه فكما أن في حال حياته كان علينا أن نفي له بما شرطنا فنعطيه الفداء فكذلك بعد موته يدفع من التزم ذلك بالشرط إلى ورثته وذكر عن إبراهيم في المسلم يشتري من أهل الحرب الحر المسلم قال : ثمنه يكون ديناً على الحر له وإنما أراد به إذا اشتراه بأمره لأن الحر لا يسترق فلم يكن هذا العقد شراء في الحقيقة وإنما كان قد فدى به المسلم .
فإن كان بغير أمره فهو متطوع فيما أدى وإن كان بأمره فهو دين له عليه لأنه كالمستقرض منه حين أمره بأن يؤدي فداءه .
ألا ترى أنه لو أمره بأن يقضي عنه ديناً كان له أن يرجع به عليه ولو قضى الدين بغير أمره لم يرجع به عليه والمدين كالمأسور لصاحب الدين فإذا ثبت هذا الحكم فيما هو مشبه بالأسر ففي حقيقته أولى .
فأما العبد أو الأمة إذا أبق إليهم فأخذوه ثم ظهر المسلمون عليه فهو مردود على صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بخلاف الفرس إذا عاد إليهم وعند أبي يوسف ومحمد رحمة الله تعالى عليهما يقال : الجواب فيهما سواء يأخذه صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يفرق فيقول : الآبق لا يكون محرزاً أبداً لثبوت يد محترمة له على نفسه بخلاف الدابة وهي مسألة معروفة@(4/115)
واستدل عليه بحديث عمر رضي الله تعالى عنه .
أنه كتب إلى أبي عبيدة في جواب هذه المسألة إن كانت الأمة خمست وقسمت فسبيلها وإن كانت لم تخمس ولم تقسم فارددها على أهلها وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول : تأويله أنها أبقت فلم تدخل دار الحرب حتى خرجوا إليها فأحرزوها وذكر : إن غلاماً لابن عمر رضي الله تعالى عنهما أبق يوم اليرموك إلى العدو وعاد فرس له فظهر المسلمون على ذلك فرده عليه خالد قبل أن يقسم وهما يقولان : بهذا التقييد يتبين أن بعد القسمة لا يرد عليه مجاناً .
ألا ترى أنه سوى بين العبد والدابة وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول : في العبد قد ثبت بالدليل أنهم لا يكونون محرزين له فعرفنا به أنه كان يرده عليه لو جاء بعد القسمة أيضاً مجاناً والله الموفق .
أو بأكثر من وزنه وإذا ظهر المسلمون على إبريق ذهب أو فضة لمسلم قيمته أكثر من وزنه لصياغته ثم وقع في الغنيمة فإن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بقيمته إن شاء فإن كان ذهباً أخذه بقيمته دراهم وإن كان فضة أخذها بقيمتها دنانير للأصل المعروف أنه لا قيمة للجودة والصنعة في الأموال الربوية عند@(4/116)
المقابلة بجنسها على ما قال عليه الصلاة والسلام : جيدها ورديها سواء .
وحق من وقع في سهمه مرعي في الصنعة كما هو في الأصل فلو اشتغلنا بالتقويم بجنس الإبريق لا يمكن تقويم الصنعة أصلاً فيفوت حقه فيه مجاناً وذلك لا وجه له فقلنا تقوم بخلاف الجنس لتظهر قيمة الصنعة فيتوفر عليه تمام المالية بمنزلة ما لو كسر قلباً لإنسان أو استهلكه فإنه يضمن قيمته من خلاف جنسه لهذا المعنى فإن قضى القاضي له بالقيمة أو اصطلحا عليه بغير قضاء ولم يتقابضا حتى افترقا فذلك جائز لا ينقضه افتراقهما لأن ما يعطيه من القيمة ليس ببدل عن عين الإبريق ألا ترى أن المستولي عليه يعيد الإبريق إلى قديم ملكه حتى لو كان مشترياً فوجد به عيباً رده بالعيب على بائعه ولو أراد بيعه مرابحة باعه على الثمن الأول دون ما أخذه به ولو كان موهوباً في يده كان للواهب أن يرجع فيه ولو كان عبداً في عنقه جناية خوطب بالدفع أو الفداء .
فعرفنا أنه لم يتملكه على من وقع في سهمه ابتداء ولكنه يعيده إلى قديم ملكه بما يفديه به فلا يتحقق معنى المصارفة بينهما حتى يشترط القبض في المجلس وهو نظير ما قال علماؤنا رحمهم الله تعالى فيمن استهلك إبريقاً على رجل فقضي عليه بقيمته من خلاف جنسه ثم افترقا قبل القبض أنه لا يبلط القضاء بل أولى لأنه هناك الغاصب المستهلك يتملك لكن ذلك ملك ثبت شرطاً للقضاء بالقيمة لا على سبيل المقابلة بها فإذا لم يتحقق هناك معنى المصارفة بينهما فلأن لا يتحقق ها هنا وهو لا يتملكه على من وقع في سهمه أصلاً وإنما يعيده إلى قديم ملكه كان أولى .
وكذلك ول وهبوا الإبريق لمسلم فأخرجه أو اشتراه منهم بخمر فأخرجه لأن هذا الشراء لم يكن صحيحاً معتبراً وإنما كان أخذ الإبريق منهم بطيب أنفسهم فإذا أخرجه@(4/117)
كان لصاحبه أن يأخذه بقيمته إن شاء كما في الفصل الأول ولو كان المشتري منهم الإبريق بالخمر نصرانياً أو مسلماً اشتراه بثوب وأخرجه فلصاحبه المسلم أن يأخذه بقيمة الخمر من النصراني وبقيمة الثوب من المسلم لأن هذا الشراء كان صحيحاً فإنه يتمكن من أخذه بمثل ما أعطاه المشتري والثوب ليس من ذوات الأمثال فيكون مثل القيمة والمسلم ممنوع من تمليك الخمر فلعجزه عن تسليم المثل يلزمه القيمة ولا بأس بأن يقوم الثوب والخمر بما هو من جنس الإبريق فيأخذه به سواء كان ذلك مثل وزن الإبريق أو أقل أو أكثر لما بينا أنه ليس يتملكه بما يؤدي ابتداء ولكن يعيده إلى قديم ملكه بما يعطي من الفداء بمنزلة العبد الجاني يفديه من الأرش فيبقى على ملكه كما كان لا أن يتملكه بما يؤدي من الفداء وإن كانت سلامته تتعلق بذلك وإذا لم توجد المبادلة أصلاً لا يتمكن فيه معنى الربا وكذلك لو كان الإبريق اشتراه رجل مسلم أو نصراني في دار الحرب بأكثر من وزنه من جنسه ثم أخرجه فلصاحبه أن يأخذه بمثل ما أدى وإن كان أضعاف وزنه لأنه فداء وليس بشراء ثم قد علم أن الربا لا يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب فما لم يرد عليه مثل ما غرم فيه لا يكون له أن يأخذه فإن قيل : لماذا لم يقولوا بهذا فيما إذا اشتراه مسلم بخمر فأخرجه قلنا : لأن الخمر لا يتقوم في حق المسلم فلا يمكنه أن يأخذه منه بقيمة ما أدى من الخمر فلهذا أخذه بقيمة الإبريق بخلاف ما إذا كان المشتري نصرانياً فإن الخمر مال متقوم في حقه فأما ما أعطي من الدراهم ها هنا ما لم متقوم في حق كل واحد منهما قال : وهذا بخلاف الشفعة وإنما عني به إذا اشترى داراً بعبد وفي الدار صفائح من فضة أو سلاسل من ذهبن فأراد الشفيع أن يأخذها بالقيمة فإنه يثبت هناك بين
الشفيع والمشتري حكم الربا وحكم الصرف في حصة الصفائح على ما بيناه في الزيادات .
وهذا لأن الشفيع يتملك الدار ابتداء بما يؤدي من قيمة العبد فيكون ذلك شراء مبتدأ وهذا إنما هو فداء يفدي به صاحب الإبريق ملكه الأول .
ألا ترى أن المستولي عليه يأخذ من غير أن ينقض شيئاً من العقود حتى لو باعه المشتري من غيره لم يكن له أن ينقض ذلك العقد بخلاف الشفيع فإنه يتمكن من نقض تصرفات المشتري .
وكذلك لو كان المأسور عبداً ففقأ الذي أخرجه عينيه كان لمالكه أن يأخذه بجميع الثمن إن شاء ولو هدم المشتري@(4/118)
بناء الدار التي فيها الشفعة فإن للشفيع أن يأخذ ما بقي بحصته من الثمن وكذلك حكم المرابحة في جميع ما ذكرنا فهو دليل على أن ما يعطي الشفيع يكون ثمناً وما يعطي المالك القديم يكون فداء فإن قيل : فلماذا قلتم في مسألة أول الباب أنه يصار إلى التقويم بخلاف الجنس إذا كان هذا فداء ولا يتمكن فيه معنى المعاوضة قلنا : لما بينا أنه لا يظهر مالية الصنعة عند التقويم بالجنس إذ لا قيمة له فللحاجة إلى إظهار مالية الصنعة صرنا إلى التقويم بخلاف الجنس لا لأن ذلك مبادلة فأما في تقويم الثوب والخمر إذا كان المشتري نصرانياً لا حاجة إلى ذلك فلهذا جوزنا تقويمه بجنس الإبريق .
ولو أسر العدو عبداً لذمي فدخل إليهم ذمي فاشتراه بأرطال من خمر وأخرجه لصاحبه أن يأخذه بمثلها لأن الخمر من ذوات الأمثال وهو مال متقوم في حقهم كالعصير والخل في حقنا .
فإن قضى القاضي له بذلك فلم يأخذه حتى أسلم أحدهما لم ينتقض القضاء وكان على صاحبه قيمة الخمر يأخذه منه لما بينا أن هذا فداء فلا يبطل بالإسلام قبل القبض .
بخلاف شراء العبد بالخمر ابتداء وأخذ الدار بالشفعة بالخمر .
وإذا لم يبطل القضاء فعليه قيمة الخمر لأن السبب الموجب لتسليمه باق وقد عجز عن تسليم العين فإن كان هو المسلم فالمسلم ممنوع من تمليك الخمر وإن كان صاحبه هو المسلم فهو ممنوع عن تملك الخمر فلهذا يلزمه القيمة في الوجهين .
ولو قضى القاضي لصاحب العبد أن يأخذه بالثمن من المشتري من العدو فإن أراد المشتري أن يحبسه حتى يأخذ منه الثمن فله ذلك لأن ملكه إنما حيي بما أدى المشتري فيكون له أن يحبس العبد به بمنزلة راد الآبق يحبسه بالجعل لهذا المعنى لا لأن المولى يتملك ابتداء بما يعطيه من الجعل .
فإن مات العبد في يده بطل الفداء عن صاحبه لأنه كان يفدي لتسليم العبد له@(4/119)
ولم يسلم .
وإن ذهبت عينه فلصاحبه أن يأخذه بجميع الثمن إن شاء سواء كان ذهاب العين بفعل المشتري أو بغير فعله بمنزلة ما لو حصل ذلك قبل قضاء القاضي وهذا لأن الفداء إنما يكون للأصل لا للأوصاف ألا ترى أن العبد الجاني إذا ذهبت عينه لم يسقط عن مولاه شيء من الفداء سواء كان ذلك منه قبل اختيار الفداء أو بعده .
وإن قتله المشتري فقد بطل الفداء بمنزلة ما لو مات ولا ضمان على القاتل لأن قتله إياه بعد قضاء القاضي وقبله سواء فإنه ما بقي له حق الحبس باعتبار يده لا يلزمه ضمان قيمته بالجناية كالبائع إذا قتل المبيع قبل القبض وهذا لأن العبد كان مملوكاً للمشتري وكان ما يعطي في حق المولى فداء وفي حق المشتري هو يزيل ملكه عن العبد بعوض يأخذه فيكون بمنزلة البائع .
يقتل المبيع قبل القبض وهذا بخلاف راد الابق إذا قتله قبل أن يأخذه بجعل أو ولي الجناية إذا قتل العبد الجاني بعدما اختار المولى الفداء .
لأن هناك القاتل لم يكن مالكاً لرقبة العبد قط حتى يبقى ضمان ملكه باعتباره يده وها هنا المشتري من العدو كان مالكاً له فيبقى ضمان ملكه باعتبار بقاء يده وذلك يمنع وجوب ضمان القيمة عليه بالقتل .
ولو كان المأسور جارية فولدت في يد المشتري منهم كان لصاحبه أن يأخذه وولدها بالثمن لأن الولد جزء منها وفي الفداء يجعل تبعاً لها فإن قتل المشتري ولدها أو مات الولد قبل قضاء القاضي أو بعده كان لصاحبها أن يأخذ الأم بجميع الثمن إن شاء لأن الوليد تبع في حكم الفداء فبفواته لا يسقط شيء من الثمن بمنزلة فوات سائر الأطراف وإذا ماتت الأم وبقي الولد فكذلك الجواب في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يأخذ الولد بجميع الثمن إن شاء وفي قول@(4/120)
محمد رحمه الله تعالى : يأخذه بحصته من الثمن إذا قسم على قيمتها وقيمة الولد لأن الأصل في هذا الفداء الأم دون الولد فلا يمكن إبقاء جميع الفداء بعد فوات الأصل فلا بد من توزيع الفداء على قيمتها لما يثبت له حق الأخذ في الولد وإنما يثبت له ذلك الحق لأن الولد يسري إليه ملك الأصل وحق الأخذ في الأصل ثابت له باعتباره ملكه فكذلك في الولد وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول : لما بقي له حق الأخذ باعتبار بقاء الولد بقي عليه جميع الفداء لأن الفداء لا يحتمل التوزع على الأصل والتبع وقد تقدم بيان هذه المسألة فيما أمليناه من شرح الجامع فلهذا أوجزنا في البيان ها هنا .
وقد ذكر بعد هذا باباً قد بينا شرح مسائله في الجامع .
والله الموفق .
باب العبد المأسور يشتريه رجل ثم يقربه لغير مولاه
وإذا اشترى العبد المأسور فأخرج ثم لم يأخذه المالك القديم بالثمن حتى أقر المشتري لآخر أنه كان عبداً له قبل أن يؤسر وصدقه المقر له وكذبه مولى العبد فإن المقر له لا سبيل له على العبد ومولاه المعروف أحق به بالثمن لأن حق@(4/121)
الأخذ ثابت له باعتبار ملكه الظاهر قبل أن يؤسر والمشتري من العدو أقر بذلك الحق بعينه لآخر وإقراره فيما يكون حقاً له صحيح فأما فيما هو مستحق عليه للغير فهو باطل لأنه كان لا يملك إبطال هذا الحق مع قيام ملكه في العبد فلا يملك تحويله إلى غيره توضيحه وهو أن ثبوت حق الأخذ للمأسور منه باعتبار ملكه وملك المقر له يثبت في حق المقر خاصة .
لأن الإقرار لا يكون حجة إلا في حق المقر فأما ملك المولى المعروف فهو ثابت في حق المقر له وفي حق المشترى من العدو فلا يثبت للمقر له مزاحمة المولى المعروف باعتبار ملك لم يظهر في حقه .
فإذا لم يرغب المولى المعروف في أخذه فللمقر له أن يأخذه بالثمن إن شاء لأن حق الأخذ في حق المقر ثابت للمقر له بإقراره ولكنه كان لا يظهر في حق المولى المعروف لكونه مقدماً عليه فإذا زال ذلك بتسليمه كان له أن يأخذه .
وإن أخذه المولى المعروف بالثمن فلا شيء للمقر له على المشتري من العدو من قيمة ولا ثمن لأنه أخذ من يده بحق مستحق لا باختياره .
ولو أزاله من ملكه باختياره لم يكن له عليه من سبيل فإذا أخذ منه بغير اختياره أولى وهذا لأنه بالشراء من العدو قد ملكه ملكاً صحيحاً والثمن الذي أعطاه كان مملوكاً له أيضاً ملكاً صحيحاً فما أخذ من الثمن الآن بدل ما أدى فيكون سالماً له وما أخرجه من يده فقد كان مملوكاً له وليس لأحد أن يضمنه شيئاً .
ولو كان المشتري أقر انه عبد لهذا الرجل دبره قبل أن يؤسر والمسألة بحالها فهو مدبر للمقر له ولا شيء للمولى المعروف ولا سبيل له على العبد لأن المشتري ها هنا أقر بأنه ملك للمقر له وهو يملك أن يملكه ابتداء بالبيع أو الهبة فيملك الإقرار له بالملك أيضاً .
ثم قد تصادقا على أنه مدبر ولو دبره المشتري ابتداء صح تدبيره فإذا أقر أنه مدبر لغيره وصدقه المقر له كان مدبراً أيضاً وبعدما صار مدبراً لا يبقى للمولى المعروف حق أخذه بالثمن كما لو@(4/122)
دبره المشتري وهو بهذا الإقرار ما أبطل على المولى المعروف ملكاً هو متقوم لحقه فلا يضمن له شيئاً .
قال : ولا يشبه هذا الشفعة يعني أن المشتري للدار إذا أقر بأنها موقوفة على فلان فإنه لا يبطل به حق الشفيع في الأخذ بالشفعة لأن للشفيع ولاية نقص تصرف المشتري بالأخذ بالشفعة فلا يكون إقراره صحيحاً في حقه .
بمنزلة ما لو اتخذ الدار مسجداً فأما المولى القديم فليس له حق إبطال تصرف المشتري بالأخذ .
ألا ترى أنه لو أعتقه أو دبره لم يكن له أن ينقض حقه أو يأخذه فإقراره بأنه مدبر لغيره يكون صحيحاً في حقه أيضاً بمنزلة المشتري شراء فاسداً إذا أقر بعد القبض أن العبد مدبر لفلان وصدقه المقر له فإنه لا يكون للبائع حق الاسترداد لفساد البيع إلا أن هناك البائع يضمن المشتري القيمة باعتبار قبضه وها هنا المولى القديم لا يضمن المشتري شيئاً لأنه ما قبضه منه ولا تملكه عليه وهو بمنزلة ما لو باشر التدبير في الوجهين جميعاً .
ولو قال المقر له قد كان عبدي ولم أدبره قط فليس لواحد منهما أن يأخذه ولكنه يكون مدبراً موقوف الحال لأن المشتري من العدو أقر أنه مدبر والمولى المعروف مقر بأنه ملكه بالشراء وأن إقراره فيه نافذ .
وكذلك المقر له فيصير مدبراً باتفاقهم ثم كل واحد منهم ينفيه عن نفسه فيبقى مدبراً موقوف الحال فإذا مات المقر له عتق لأن المشترى قد أقر بأن عتقه قد تعلق بموت المقر له والمقر له كان مقراً بأن إقرار المشتري فيه نافذ فعند موت المقر له يحصل الاتفاق منهم على حريته فإن لم يمت المقر له حتى رجع إلى تصديق المشتري أخذه مدبراً له لأنه أقر له بما لا يحتمل الفسخ وهو الولاء الثابت بالتدبير فلا يبطل ذلك بتكذيبه .
ولكنه إذا صدقه بعد التكذيب فهو وما لو صدقه ابتداء في الحكم سواء وإن لم يرجع إلى تصديقه حتى جنى العبد جناية فجنايته تتوقف في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن موجب جناية المدبر على@(4/123)
مولاه ولا يدري من المولى منهما والقضاء على المجهول بالقيمة غير ممكن هذا هو القياس ولكن استحسن محمد فاقل : يسعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن كسبه مملوك لمولاه وأرش جنايته على مولاه باعتبار أن الكسب له ألا ترى أن المكاتب لما كان أحق بكسبه كان موجب جنايته على نفسه فإذا قضينا بالأقل في كسبه فقد قضينا على مولاه بيقين .
وأصل هذه المسألة ما ذكرنا في شرح المختصر جارية بين رجلين أقر كل واحد منهما أنها أم ولد لصاحبه وفيه قولان لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بيناه ثمة .
فإن جنى عليه كان الأرش موقوفاً لتوقف الملك في نفسه فإن احتاج إلى نفقة ولم يقدر على كسب لمرض أنفق عليه من أرش الجناية لأنه مال مولاه بيقين ونفقة الملوك عند عجزه عن الكسب على مولاه وإن كان يقدر على العمل ولا أرش له فنفقته على نفسه وإن لم يقدر على العمل تصدق عليه بمنزلة حر مريض لا يقدر على الكسب وليس له قريب يجب عليه نفقته .
ولو أن رجلاً اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها ثم أقر أنها مدبرة لفلان فقال فلان : هي جاريتي وليست بمدبرتي فإنه يأخذها أمة له لأنه أقر له بالملك وشهد عليه بالتدبير فيصح إقراره فيما أقر به له لوجود التصديق ولا تقبل شهادته عليه لأنه كذبة فيه ولا يشبه هذا العبد المأسور لأن هناك المقر له حين أنكر التدبير فقد زعم أن السبي جرى عليه وأن المشتري قد ملكه وأنه قد أقر فيه بالتدبير وهو يملكه فلم يبق له حق الأخذ بالثمن لما نفذ فيه من إقرار المشتري وها هنا المقر له يقول : العبد عبدي والشراء من المشتري كان باطلاً فإقراره بالتدبير لغو لأنه لم يصادف ملكه فلهذا أخذ الأمة منه بحكم إقراره فتكون مملوكة له غير مدبرة وذكر بعد هذا باباً قد تقدم شرح مسائلة في الزيادات والله الموفق .@(4/124)
باب من الفداء فيما يصلح وفيما لا يصلح
المشتري للعبد المأسور من العدو إذا أخرجه فحضر مولاه فإن كان اشتراه بشيء له مثل من جنسه فللمولى أن يأخذه بمثله وإن كان اشتراه بما ليس من ذوات الأمثال كالثياب والأمتع فللمولى أن يأخذه بقيمته لأن المولى إنما يعطي المشتري ما غرم فيه ليندفع به الضرر والخسران عنه وتمام ذلك بالمثل صورة ومعنى فيجب مراعاة ذلك إلا إذا تعذر اعتبار المماثلة صورة فحينئذ تعتبر المماثلة في معنى المالية كما في بدل المغصوب والمستهلك .
يوضحه : أن المولى حين رغب في أخذه فقد أجاز ما صنعه المشتري وإجازته في الانتهاء بمنزلة الإذن له في الابتداء أن يفديه بمال نفسه ولو أذن له في الابتداء كان الحكم فيه ما ذكرنا لمعنى وهو أن ذوات الأمثال كالمكيل والموزون مما يجوز استقراضه فالمولى صار كالمستقرض منه فلهذا يغرم مثله وأما الثياب والأمتعة لا يجوز فيها الاستقراض وهي تكون مضمونة بالقيمة بحكم الاستقراض الفاسد .
فإن اختلفا في مقدار قيمته فالقول قو الذي فداه به مع يمينه لأن المولى يدعي عليه ثبوت حق الأخذ له عند أداء الأقل وهو ينكر ذلك ما لم يؤد الأكثر الذي دعاه والقول قول المنكر مع يمينه ولأن ما فداه به ملكه وقد كان في يده إلى أن دفعه إلى@(4/125)
الحربي فيكون هو أعرف بقيمته من المولى القديم لأنه لم يصل ذلك إلى يده قط فالظاهر أنه محازف فيما يدعي من قيمته .
وكذلك إن كان الذي فداه به مكيلاً أو موزوناً فاختلفا في وزنه أو جودته فالقول قول الذي فداه مع يمينه للمعنيين اللذين ذكرناهما .
وعلى المولى البينة لأنه يدعي ثبوت حق أخذ ملكه بمقدار ما أقر به والآخر ينكر ولو أنكر ثبوت الحق له أصلاً كان عليه أن يثبت بالبينة فكذلك إذا أنكر ثبوت الحق له عند إحضار أقل المالين فإن أقام بينة مسلمين أو ذميين والمشتري من العدو ذمي فقد أثبت دعواه بما هو حجة على خصمه والبينة العادلة أحق بالعمل بها من اليمين الفاجرة .
وإن كان الذي فداه من أهل الحرب حربياً كان أو مستأمناً فينا ثم أخرجه بأمان فليس لمولاه أن يأخذه منه لأن المشتري في ملكه قائم مقام البائع والبائع وهو الذي أخرجه لو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك العبد لم يكن لمولاه أن يأخذه منه فكذلك المشتري وهذا لأن ثبوت حق الأخذ له باعتبار أنه صار مظلوماً وأن على المشتري القيام بنصرته وهذا لا يوجد فيما إذا كان الذي أخرجه حربياً مستأمناً لأنه ليس من أهل دارنا ولا يلزمه نصرة من هو من أهل دارنا .
بخلاف الذمي ولكنه يجبر على بيعه لأن هذا العبد كان من أهل دارنا فلا يترك الحربي ليرجع به إلى دار الحرب .
وإن كان العبد مسلماً فهو غير مشكل لأنه لو كان عبداً من الأصل فأسلم أجبر على بيعه فها هنا أولى أن يجبر على بيعه .
وإن كان هذا الحربي الذي اشتراه خرج مسلماً أو ذمياً ومعه العبد لم يكن لمولاه عليه سبيل بمنزلة ما لو خرج البائع مسلماً أو ذمياً والأصل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلم على مال فهو له إذا كان@(4/126)
خرج ذمياً والعبد مسلم فإنه يجبر على بيعه من المسلمين لأنه لا يترك عبد مسلم في يد كافر يستعبده لما فيه من الإذلال بالمسلم .
وإن كان المأسور ممن لا يحتمل التملك أو النقل من ملك إلى ملك كالحر والمدبر والمكاتب وأم الولد فهو مردود على ما كان عليه سواء أسلموا أو صاروا ذمة أو خرجوا إلينا بأمان لأن هذا مما لا يجري عليه السبي ولا يكون محرزاً أبداً فإذا لم يكن ملكاً لهم قبل الإسلام لا يكون ملكاً لهم بالإسلام أيضاً ولكن عليهم إزالة يد الظلم عنه فإن اختلف المولى القديم مع المشتري من العدو في المال الذي فداه به في جنسه أو مقداره فالقول قول الذي فداه به لما بينا فإن أقام المولى البينة أخذ ببينته لأنه نور دعواه بالحجة وهو في الظاهر مدع للزيادة وإن كان في المعنى منكراً كما بينا ولكن الدعوى ظاهراً تكفي لقبول البينة كالمودع يدعي رد الوديعة ويقيم البينة على ذلك وإن أقاما جميعاً البينة .
فالبينة بينة المولي القديم وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله تعالى عنهما وأما عند أبي يوسف رضي الله عنه البينة بينة المشتري من العدو إلا أنه لم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله ها هنا لما كان بينهما حين صنف الكتاب وأصل هذه المسألة في الشفيع والمشتري إذا اختلفا في الثمن وأقاما البينة فإن البينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فكذلك ها هنا المولى القديم بمنزلة الشفيع وعند أبي يوسف رحمه الله هناك البينة بينة المشتري لأنه يثبت الزيادة ببينة فها هنا كذلك .
ولو اتفقا على أنه فداه بثياب معلومة واختلفا في قيمتها وأقام كل واحد منهما البينة فالبينة ها هنا بينة المشتري من العدو بالاتفاق وكذلك في الشفعة إذا اختلفا في مقدار قيمة لعبد المشتري به بالدار وأقاما البينة فإن البينة بينة المشتري أما عند أبي يوسف رحمه الله فلا إشكال فيه لأنه يثبت الزيادة في الفصلين وأما عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله تعالى عنهما فوجه الفرق أن في الفصل الأول المشتري@(4/127)
ببينته يثبت فعل نفسه والمولى القديم ببينته يثبت فعل المشتري وإنما يثبت فعل المرء عليه بالبينة لا أن يثبت هو فعل نفسه بالبينة وهذا التعليل نظير ما قال في مسألة الشفعة إنه صدر من المشتري إقراران وللشفيع أن يأخذ بما عليه وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا اختلفا في القيمة لأنه لا خلاف بينهما في أصل الفعل وهو الفداء من المشتري بما فداه به من الثياب وإنما الخلاف في مقدار القيمة فالمثبت للزيادة من البينتين فيه أولى .
ولو أن المشتري من العدو كان اشتراه بما لا يحل من خمر أو خنزير أو ميتة فإن كان المشتري مسلماً فللمولى القديم أن يأخذه بقيمته لأن ما جرى بينهما لم يكن شراء وإنما كان أخذ مال الكافر بطيبة نفسه فكأنه وهبه له .
وإن كان المشتري ذمياً فإن اشتراه بميتة فكذلك الجواب لأن الميتة ليست بمال في حقهم كما في حقنا فما جرى بينهما لم يكن شراء لأن الشراء اسم لمبادلة مال بمال .
وإن كان اشتراه بخمر أو خنزير فما جرى بينهما كان شراء على حقيقته لأن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم .
ثم إن كان المولى القديم ذمياً أخذه في الخمر بالمثل وفي الخنزير بالقيمة .
وإن كان مسلماً أخذه فيهما بالقيمة لما بينا أن المسلم ممنوع من تمليك الخمر وعند العجز عن تسليم الخمر مع وجود السبب الموجب للتسليم يجب عليه قيمته .
ولو كان العبد قبل الأسر بين نصراني ومسلم ثم اشتراه ذمي من العدو بالخمر فإن النصراني يأخذ نصفه بمثل نصف ذلك الخمر والمسلم يأخذ نصفه بنصف قيمة الخمر اعتباراً للبعض بالكل وهذا لأن النصراني قادر على أداء المثل في نصيبه والمسلم عاجز عن ذلك وإن كان الذي اشتراه من العدو مسلماً أخذه الموليان بقيمته لأن الذي جرى من المسلم لم@(4/128)
يكن شراء إذ الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم وإن كان اشتراه من العدو مسلم ونصراني فإن كان المولى القديم مسلماً أخذ نصفه من المسلم المشتري بنصف قيمته لأن الذي كان منه في نصيبه بمنزلة الإنهاب دون الشراء .
وأخذ نصفه من النصراني بنصف قيمة الخمر لأن الذي كان منه في نصيبه حقيقة الشراء فالخمر مال في حقه وإن كان مولاه نصرانياً أخذ من المسلم النصف بقيمته لما بينا ومن النصراني النصف بما أدى من الخمر فيه لأنه قادر على أداء المثل له .
وإن كان للعبد في الأصل موليان مسلم ونصراني ثم اشتراه من العدو بالخمر مسلم ونصراني أيضاً فإن النصف الذي اشتراه المسلم يأخذه الموليان بنصف قيمة العبد لأنه لا يملكه بالشراء حقيقة والنصف الذي اشتراه النصراني فالمولى المسلم يأخذ ذلك النصف بنصف قيمة ما أدى من الخمر والنصراني يأخذ بالمثل لأن كل نصف في هذا الموضع بمنزلة عبد كامل وحكم الجزء معتبر بحكم الكل في الوجهين .
فإن كانا اشترياه بخنازير فإنهما يأخذان النصف من المشتري المسلم بنصف قيمة العبد لأنه ما أخذه بالشراء حقيقة بل ذلك في حقه بمنزلة الهبة .
والنصف الآخر يأخذانه من النصراني بنصف قيمة الخنازير لأنه تملك ذلك النصف بالشراء حقيقة والخنزير ليس من ذوات الأمثال في حق أحد .
وإن أراد أحد الموليين أخذ حصته من العبد دون الآخر فله أن يأخذه على الوجه الذي قلنا لأن حق كل واحد منهما في الأخذ ثابت في النصف باعتبار قديم ملكه فإن أبطل أحدهما حقه لا يتعذر على الآخر استيفاء حقه لأن إبطاله غير عامل في حق صاحبه والله الموفق .@(4/129)
باب من الفداء الذي يرجع إلى أهله إذا ظهر عليه المسلمون والذي لا يرجع
ولو أن المشركين استولوا على متاع المسلمين فأحرزوه بعسكرهم في دار الإسلام ثم قاتلهم جيش من المسلمين حتى استنقذوه منهم قبل أن يحرزوه بدارهم فذلك مردود على صاحبه لأنهم بمنزلة الغاصبين لم يملكوه قبل الإحراز فمن وصل إلى يده كان عليه رده إلى مالكه لأن مال المسلم لا يكون غنيمة للمسلمين .
فإذا لم يعلم الإمام بذلك حتى قسمه بين من أصابه فقسمته باطلة والمتاع مردود على أهله لأنه تبين أن القسمة لم تصادف محلها فإن هذه القسمة تتضمن التمليك من الإمام لكل واحد منهم ما يصيبه وليس له ولاية التمليك في مال المسلمين من غير رضى صاحبه .
وكذلك إن أسلم عليه أهل الحرب أو صاروا ذمة لأنهم غاصبون فيتأكد عليهم وجوب الرد بإسلامهم .
قال صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى ترد فإن علم الإمام الحال ورأى أن إحرازهم بالعسكر يكون تاماً فخمسه@(4/130)
وقسمه مع غنائم المشركين بين من أصابه من المسلمين ثم رفع ذلك إلى قاض يرى ذلك غير إحراز جاز ما صنع الأول ولم يبطله لأنه أمضى فصلاً مختلفاً فيه باجتهاده .
وكذلك لو أسلموا أو صاروا ذمة فقضى بأن ذلك سالم لهم بالاجتهاد نفذ قضاؤه فإن قيل : هذا قضاء بخلاف الإجماع لأن العلماء في هذه المسألة على قولين : منهم من يقول : لا يملكونه وإن أحرزوه بدارهم ومنهم من يقول يملكونه بعد الإحراز وأحد لا يقول يملكونه قبل الإحراز بدارهم قلنا الخلاف بين العلماء في الفصلين : أحدهما : أن أموال المسلمين هل تكون محلاً للتمليك بالقهر بعد الإحراز بالدار أم لا والآخر : أن الإحراز فيما هو محل للتمليك بالقهر هل يتم باليد قبل الإحراز بالدار أم لا فإذا اجتهد القاضي واستقر رأيه على أن مال المسلم محل التملك بالقهر وأن القهر يتم بالإحراز بالعسكر بدون الإحراز بالدار وأمضى الحكم كان ذلك منه اجتهاداً في موضعه فيكون قضاؤه نافذاً بمنزلة ما لو قضى بشهادة الفساق أو على الغائب أو بشهادة رجل وامرأتين بالنكاح على غائب فإنه ينفذ قضاؤه وإن كان من يجوز القضاء على الغائب يقول : ليس للفساق شهادة ولا للنساء مع الرجال شهادة في النكاح ولكن قيل : كل واحد من الفصلين مجتهد فيه فينفذ القضاء من القاضي باجتهاده فيهما وهذا لأن المجتهد يتبع الدليل لا القائل به وهذا بخلاف ما سبق لأن هناك القاضي ما قضى بالقسمة عن اجتهاده وإنما قضى بذلك لعدم علمه بأن هذا المال مصاب من المسلمين إذا صار ذلك معلوماً له كان قضاؤه باطلاً وهو بمنزلة المتحري في باب القبلة إذا تبين خطأه بعد الفراغ من الصلاة .
لا يلزمه الإعادة والذي لم يجتهد ولم يشتبه عليه ولكنه صلى إلى جهته ثم تبين أنه أخطأ يلزمه الإعادة وهذا لأن مطلق الفعل يكون محمولاً على الصواب ما لم يتبين فيه الخطأ وما يفعل عن اجتهاد ونظر يكون محمولاً على الصواب ما أمكن والإمكان قائم إذا صادف قضاؤه محلاً مجتهداً فيه .
ألا ترى أن من مات وله رقيق وعليه دين كثير فباع القاضي رقيقه وقضى دينه ثم قامت البينة لبعضهم أن مولاه كان دبره فإن بيع القاضي فيه يكون باطلا ولو كان القاضي عالماً بتدبيره فاجتهد وأبطل تدبيره لأنه وصيه وباعه في الدين ثم ولي قاض آخر يرى ذلك خطأ فإنه ينفذ قضاء الأول لهذا المعنى وإن كان القاضي الثاني لا يعلم@(4/131)
أن الأول فعله عن اجتهاد أو لأنه لم يقف على حقيقة الحال فإنه ينفذ قضاؤه أيضاً لما بينا : أن قضاء القاضي كان محمولاً على الصحة ما أمكن ولأن تحسين الظن بالقاضي واجب قال الله تعالى : { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وأحسن الوجهين أن يحمل على أنه قضى بعد العلم عن اجتهاد فلذا نفذ قضاؤه حتى يعلم خلاف ذلك .
ولو أن تاجراً من المسلمين دخل عسكرهم في دارنا وفدى ما أصابوه من المسلمين بما لو أخرجه فعليه رده علي صاحبه وهو متبرع في الفداء الذي أدى بغير أمر صاحبه فإن ظهر المسلمون عليهم قبل أن يدخلوا دارهم وأصابوا ذلك الفداء بعينه فلا سبيل للتاجر عليه سواء وجده قبل القسمة أو بعدها لأن المشركين ملكوا ذلك بالأخذ ملكاً تاماً حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً لهم وهذا لأنهم ما ملكوا هذا المال بطريق القهر حتى يشترط فيه الإحراز بالدار ولكن بتمليك صاحب المال إياهم ذلك طوعاً فيكون ذلك بمنزلة ما يشترونه من تجار المسلمين .
فيملكونه بنفس الشراء على وجه لا يبقى لصاحبه فيه حق بعد التسليم وليس في هذا أكثر من أن ما أعطوا بمقابلته كان مستحقاً لمسلم ولكن بدل المستحق مملوك إذا جرى السبب بين المسلمين واتصل به القبض فإذا جرى بين المسلمين وبين أهل الحرب أولى ولأنه لما أعطاهم بطيبة نفسه يجعل في حكم السلامة لهم بمنزلة ما لو وهبه منهم .
ألا ترى أنهم لو قتلوا مسلماً وأخذوا جيفته فدخل عليهم قوم من أهل بيته وأعطوهم جعلاً ليأخذوه فيدفنوه كان ذلك سالماً لهم إن أسلموا أو صاروا ذمة وكان غنيمة سالمة للمسلمين إن ظفروا به قبل أن يحرزوه بدارهم فهذا مثله قال .
ألا ترى أنهم لو أسروا أحراراً من المسلمين أو من أهل الذمة فأدخلوهم دارهم ثم جاءهم أهل الأسارى فافتدوهم بمال فإن ذلك المال يكون سالماً لهم إذا أسلموا أو صاروا ذمة ويكون غنيمة سالمة للمسلمين إذا ظهروا عليه ولا معنى لقول من يقول : إنهم ها هنا أحرزوا المال بدارهم لأنه لو كان .@(4/132)
المعنى هذا لوجب أن يقال : إذا وقع في الغنيمة فوجده صاحبه قبل القسمة أن يكون له حق الأخذ بغير شيء كما في المال الذي أخذوه قهراً وأحرزوه .
فإن قال هذا القائل : فأنا هكذا أقول قلنا : هو بعيد فإن قوماً من المسلمين لو خافوا أهل الحرب أن يستأصلوهم فصالحوهم على ألا يغزوهم سنة على أن يؤدي إليهم المسلمون في تلك السنة ألف ثوب هروي وقبضوها وانقضت السنة ثم إن المسلمين ظفروا بهم وغنموا تلك الثياب بأعيانها فإنها تكون غنيمة لمن أخذها سالمة لهم قبل القسمة وبعد القسمة لأنهم أخذوا ذلك بطيبة أنفس أهلها وإنما الذي يرد على صاحبه قبل القسمة ما أخذ بطريق القهر .
وكذلك لو كان هذا الصلح بين أهل المدينة من المسلمين وبين عسكر المشركين في دار الإسلام ثم جاء مدد للمسلمين فاستنقذوا المال من المشركين قبل أن يحرزوه بدارهم كان ذلك غنيمة لمن أصابه باعتبار المعنى الذي قلنا .
فعرفنا أن فيما يكون مأخوذا بطيب نفس صاحبه دار الإسلام ودار الحرب سواء وإنما جاز للمسلمين هذا النوع من الصلح لأنهم يخافون الاستئصال والإهلاك على النفوس والذراري فيجعلون الأموال فداء لذلك وصاحب الشرع ندب إلى ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه : اجعل مالك دون نفسك وقد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حين أحس الضعف ببعض المسلمين يوم الخندق فلما أحس بهم القوة كما قاله السعدان رضي الله عنهما امتنع منه فصار ذلك اصلاً في الجواز عند الخوف على ذراري المسلمين .
ولو أنهم أسروا مسلماً فافتدى منهم بسلاحه أو بفرسه وخلوا سبيله ثم ظفر المسلمون بعين ذلك المال فإن كان المشركون لم يحرزوه فهو مردود على@(4/133)
الأسير قبل القسمة وبعدها مجاناً وإن كانوا أحرزوه فهو مردود على صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة إن أحب لأن المشركين أصابوا هذا المال بطريق القهر فإن يدهم الثابتة على الأسير تكون ثابتة على المال الذي مع الأسير فيثبت فيه حكم المصاب بالاستيلاء مقصوداً بخلاف ما سبق فيدهم على الفداء هناك ما ثبتت إلا بطيب نفس صاحب المال وإن كان الإمام حين وقع هذا المال في الغنيمة باعه ولم يكن المشركون أحرزوه فبيعه باطل وهو مردود على صاحبه إلا أن يعلم أنه باعه حفظاً على صاحبه لأنه خاف عليه الضيعة ولا يدري متى يجيء صاحبه من المسلمين فحينئذ يكون بيعه نافذاً بمنزلة القاضي يبيع اللقطة ثم يأتي صاحبها .
وإن لم يعلم أنه على أي طريق باعه فإن بيعه يكون مردوداً لأن البناء على الظاهر واجب لتعذر الوقوف علي حقيقة الحال والظاهر أنه باعه على أنه من الغنيمة فيحمل على ذلك الوجه حتى يعلم غير ذلك وقد كان قال قبل هذا في بيع المدبر في الدين بعد موت مولاه : إذا لم يعلم كيف باعه فإنه يكون بيعه جائزاً بناء على أنه فعل ذلك عن علم حتى يعلم خلافه فمن أصحابنا من يقول : لا فرق بينهما وينبغي أن يكون في الفصلين روايتان ومنهم من فرق فقال : ها هنا بيع المال للحفظ على الغائب لا يكون مستحقاً على القاضي ولكنه يكون بالخيار إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فأما بيع التركة بالدين مستحق على القاضي إذا طلب صاحب الدين فلهذا حملنا هناك مطلق بيعه على الوجه المستحق وهو أن يكون بعد إبطال التدبير عن اجتهاد إذ المعارضة لا تقع بين المستحق وغير المستحق وها هنا استوى الجانبان فحملنا مطلق بيعه على ما هو الظاهر .
فإن كان الأسير بعث إلى بعض أهله فسأله أن يفديه بمال من أهل الحرب بمال نفسه أو من مال الأسير فدخل إليهم المأمور بأمان ففعل ذلك ثم ظهر المسلمون على المال فهو فيء ولا سبيل لصاحبه عليه لأن المال ما وصل إلى يدهم بطريق القهر ها هنا بل@(4/134)
بتسليم صاحبه إليهم طوعاً .
وكذلك لو كانوا قالوا له : لنقتلنك أو لتفدين نفسك لأنه كان متمكناً من ألا يدفع المال إليهم حين لم يكن المال معه فعرفنا أنهم ما أثبتوا اليد على المال قهراً بخلاف ما إذا كان المال معه حين أسروه فإنه غير متمكن من دفع يدهم عن ذلك المال ألا ترى أن هناك لو صير حتى قتلوه كانت يدهم ثابتة على هذا المال وها هنا لو فعل ذلك لم تثبت يدهم على شيء من ماله في دار الإسلام ولا على شيء من مال المأمور الذي أمره بأن يفديه من ماله أرأيت لو رد هذا الفداء بعدما وقع في الغنيمة أكان يرد على من أدى أو على من أمر به وهو الأسير وكل واحد منهما بعيد من الفقه ولو وقع مسلم في صف المشركين وكان يقاتلهم ثم صالحهم وهو ممتنع منهم على أن يسلم لهم سلاحه وفرسه ويؤمنوه ففعلوا ذلك ثم إن المسلمين أصابوا ذلك المال فهو فيء .
لأن يدهم عليه ما ثبتت إلا بإعطاء الرجل ذلك إليهم فإنه أعطي وهو مقاتل ممتنع منهم وفي تلك الحالة لم تكن يدهم ثابتة على نفسه فكذلك على ما معه من المال بخلاف ما بعد الأسر .
ولو حاصر المشركون مدينة من مدائن المسلمين فصالحوهم على أن يكفوا عنهم أياماً مسماة على أن يعطوهم رقيقاً من أهل الحرب مسمين كانوا أسروهم منهم وأولئك الرقيق عبيد لأناس من أهل الذمة فطابت أنفس مواليهم بتسليمهم إليهم ثم بعد مضي المدة أتى المسلمين مدد فقاتلوهم وظهروا على أولئك الرقيق فهم فيء لأن الموالي أعطاهم المشركون بطيبة أنفسهم ولو كان والي المدينة أخذ أولئك الرقيق بغير طيب أنفسهم فدفعهم إلى أهل الحرب والمسألة بحالها فإن ظفر بهم المسلمون قبل أن يحرزوهم بدارهم ردوا على مواليهم قبل القسمة وبعدها بغير شيء وإن كان بعد الإحراز ردوا على مواليهم قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة إن أحبوا لأنهم أخذوا من الموالي بغير@(4/135)
طيب أنفسهم فلا فرق بين أن يكون الآخذ أمير المسلمين فيدفعه إلى أهل الحرب وبين أن يكون الآخذ أهل الحرب بطريق القهر .
فإن أبوا أخذهم بعد القسمة بالقيمة كان لهم أن يضمنوا الأمير قيمتهم لأنه غصبهم من الموالي والمغصوب مضمون على الغاصب بالقيمة ما لم يعد به إلى يد مولاه وإذا ضمن قيمتهم فقد ملكهم بالضمان فيكون حكمهم كحكم ما لو كانوا ملكاً له فأخذه المشركون بغير رضاه حتى يكون له أن يأخذهم بالقيمة ولا يقال : هو قد سلمهم طوعاً فينبغي ألا يكون له حق الأخذ بعد ذلك من الغنيمة وهذا لأنه سلمهم طوعاً على أن يتملكوا على الموالي لا عليه فبعد ما استقر الملك له لا يمكن اعتبار الرضى والطواعية منه فكان هذا بمنزلة المأخوذ منه قهراً والله تعالى الموفق والمعين .
باب فداء العبد الغصب والعارية وغير ذلك
رجل غصب عبداً ثم أصابه المشركون فأحرزوه ثم وقع في الغنيمة فإن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لأن المغصوب باق على ملكه .
فلا فرق بين أن يستولي على ذلك في يده أو في يد الغاصب منه لأن حق الآخذ في الموضعين له باعتبار قديم ملكه .
فإن أخذه قبل القسمة بغير شيء بريء الغاصب من الضمان لأن عين ماله عاد إلى يده مجاناً .
وإن أخذه بعد القسمة بالقيمة كان له أن يضمن الغاصب تلك القيمة لأنه ما وصلت يده إلى ماله إلا بعد أداء مثله في المالية فبهذا تبين أن المالية التي كانت مضمونة على@(4/136)
الغاصب لم تسلم للمغصوب منه فيكون له حق تضمين باعتبار الغصب كما لو رده على صاحبه فدفع بجناية كان جنى عند الغاصب أو بيع في دين كان لزمه عند الغاصب .
وإن أبى أن يأخذه بالقيمة كان له أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه لأنه ما تمكن من إثبات يده عليه حين كان ممنوعاً من أخذه قبل أداء القيمة فيكون هذا بمنزلة الهلاك في يد الغاصب .
ثم إذا ضمن الغاصب قيمته فقد ملكه بالضمان فيقوم مقام المالك في ثبوت الخيار له بين أن يأخذه ممن وقع في سهمه بالقيمة وبين أن يتركه وكذلك لو كان الغاصب ضمن قيمته قبل أن يصيبه المسلمون وكذلك لو لم يقع العبد في الغنيمة .
ولكن اشتراه منهم تاجر فأخرجه فإن كان مولاه لم يضمن الغاصب قيمته فهو بالخيار إن شاء أخذه من المشتري بالثمن ثم يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته يوم غصبه ومن الثمن الذي غرم فيه لأن التيقن بالاستحقاق عليه في مقدار الأقل وهو نظير ما لو بيع العبد بالدين بعدما رده على المغصوب منه .
وإن شاء تركه وضمن الغاصب كمال قيمته يوم الغصب لأنه حين كان لا يتوصل إليه إلا بثمن ولا يلزمه أداء الثمن كان هو كالهالك في يده .
ثم الخيار للغاصب في أخذه بالثمن من المشتري سواء ضمن قيمته قبل الشراء أو بعده لأنه ملكه بالضمان .
فإن كان مولاه حين ضمن الغاصب قيمته قبل الشراء إنما أخذ القيمة@(4/137)
بزعم الغاصب بعدما حلف .
ثم ظهر العبد في يد المشتري فأدى قيمته كما قال المولى فهو بالخيار إن شاء رد القيمة على الغاصب وأخذ العبد بالثمن ثم رجع على الغاصب بالأقل وإن شاء أمسك تلك القيمة والخيار في الأخذ بالثمن للغاصب لأنه لم يتوفر عليه كمال المالية حين ظهر أن قيمته كما قال المولى فتقع الحاجة إلى إثبات الخيار له لدفع الضرر عن نفسه فإن أبى أن يرد القيمة المقبوضة وقال : أنا أرجع على الغاصب بفضل القيمة لم يكن له ذلك لأن حقه في القيمة وقت الغصب وبمعرفة قيمته الآن لا يتبين أن قيمته وقت الغصب كان هذا المقدار وإنما يعلم ذلك بطريق الظاهر وبالظاهر لا يثبت الاستحقاق فلهذا لا يستحق فضل القيمة إذا أبى أن يرد المقبوض وإنما استدل الكرخي رحمه الله بهذا اللفظ وهو قوله : فوجد قيمة العبد كما قال المولى في التقسيم الذي ذهب إليه فيما إذا أخذ المغصوب منه القيمة بزعم الغاصب وقد بينا ذلك في كتاب الغصب من شرح المختصر وكذلك لو وقع العبد في الغنيمة فحضر مولاه قبل القسمة مع الغاصب فإنه يبدأ بتخيير المولى فإن شاء رد القيمة المقبوضة وأخذ العبد بغير شيء وإن أبى رد القيمة فلا سبيل له على العبد ولا على الغاصب ولكن الغاصب يأخذه بغير شيء لأنه صار راضياً بتلك القيمة حين أبى أن يرده القيمة فكأن الغاصب كان أعطاه القيمة بقوله في الابتداء ثم وقع العبد في الغنيمة وقيمته أكثر من ذلك .
وإن لم يحضر حتى وقع في سهم رجل بالقسمة فمولاه بالخيار إن شار رد القيمة على الغاصب ثم أخذه بقيمته ممن وقع في سهمه ثم يرجع على الغاصب بالأقل من قيمته@(4/138)
يوم غصبه ومن قيمته المدفوعة إلى من وقع سهمه وإن شاء امسك تلك القيمة ولا سبيل له على العبد وللغاصب أن يأخذه بقيمته إن شاء ولو كان مولاه إنما أخذ القيمة من الغاصب ببينة قامت له أو بإقرار أو بإباء يمين عن الغاصب أو بصلح كان بينهما فلا سبيل له على العبد في شيء من ذلك ولكن الغاصب هو الذي يأخذه بقيمته إن شاء لما بينا أن الملك قد استقر للغاصب بما أدى من القيمة فانقطع حق المغصوب منه من كل وجه .
ولو أن عبداً كان في يد رجل إجارة فأخذه المشركون ثم وقع في الغنيمة فإن وجده المستأجر قبل القسمة كان هو الخصم فيأخذه بغير شيء حتى يرده إلى الأجارة كما كان لأن يده بحكم الإجازة كانت مستحقة على المولى حتى لو أراد أن يأخذه منه لم يكن متمكناً من ذلك وعقد الإجازة فيما بقي من المدة لم يبطل فلهذا كان هو الخصم في استرداده .
ويبطل عنه الأجر بمقدار ما كان في يد المشركين لأنه ما كان متمكناً من الانتفاع به في تلك المدة .
فإذا أقام البينة أنه كان في يده على وجه الإجارة فرده الحاكم عليه ثم حضر صاحبه فجحد الإجارة وزعم أنه كان وديعة في يده أو عارية فالقول قوله وعلى المستأجر إعادة البينة لأن القاضي ما قضى بعقد الإجارة حين رده عليه فإن تلك البينة قامت على غائب ليس عنه خصم وهو يستغني عن إثبات الإجارة في الاسترداد ولأن حق الاسترداد إنما يثبت له باعتبار أنه أخذ من يده@(4/139)
ويستوي في ذلك أن يكون يده فيه بجهة الوديعة أو العارية أو الإجازة فلهذا لا يتضمن قضاؤه بالرد القضاء بالإجازة على الغائب .
وإن وجده بعد القسمة فإن القاضي يقول له : إن شئت فخذه بالقيمة وأنت متطوع في الفداء فإن فعل ذلك رده القاضي عليه وعاد إلى يده على الإجارة كما كان وإنما كان متطوعاً في الفداء لأنه فدى ملك الغير من غير حاجة له إلى ذلك فإن المستأجر لم يكن في ضمانه .
ولو أبى أن يفديه ما كان لصاحبه أن يضمنه شيئاً فإذا كان هو بالفداء لا يسقط الضمان عن نفسه كان متبرعاً فيه ثم إذا حضر مولاه فأنكر الإجارة لم يلتفت إلى ذلك والقضاء عليه ماض باعتبار تلك البينة لأن بمجرد يده ما كان يتمكن من أخذه بعد القسمة ألا ترى أنه لو كان في يده وديعة أو عارية لم يكن له أن يأخذه بعد القسمة أصلاً فعرفنا أنه حين قضى له بالأخذ فقد قضى بالإجارة على الغائب بما قام عليه من البينة وجعل من وقع في سهمه خصماً عن الغائب في إنكار الإجارة وهذا بخلاف ما قبل القسمة فإن هناك يتمكن من الأخذ بمجرد إثبات اليد بنفسه قبل الأسر لمعنى وهو أن حق الأخذ بعد القسمة إنما يثبت لمن يحيي بالأخذ ملكاً كان له قبل الأسر إما في العين أو في المنفعة والمستأجر يحيي ملكه في المنفعة فأما المودع والمستعير فهو لا يحيي ملكاً له قبل الأسر فيكون أخذه بالقيمة في حكم ابتداء التملك بعوض ولا يكوهن فداء للمأسور فأما قبل القسمة إنما يأخذه مجاناً ليعيده إلى يده كما كان والمودع والمستعير في هذا كالمستأجر فإن أبى المستأجر أن يفديه بالقيمة أو بالثمن من المشتري حتى حضر مولاه فأخذه بذلك كان للمستأجر أن يأخذه منه حتى يعيده في الإجارة ويجب عليه الأجر في المستقبل وليس عليه شيء لما مضى لأن عقد الإجارة باق بينهما في بقية المدة فإن الإجارة في حكم عقود متعددة بحسب ما يحدث من المنفعة أو كان منعقداً جملة ولكن بفوات بعض المعقود عليه لا يبطل العقد فيما بقي وليس للمؤاجر أن يقول : إني فديته فلا أعطيكه حتى تعطيني الفداء لأن العين لم تكن في ضمان المستأجر فما @(4/140)
كان عليه شيء من الفداء حتى
يحبسه عنه بذلك وهو بالأخذ إعادة إلى قديم ملكه وقد كان للمستأجر حق مستحق في قديم ملكه فيعود كما كان وهو بمنزلة ما لو جنى العبد جناية في يد المستأجر ففداه المؤاجر بالأرش .
وإن كان العبد رهناً في يد المأسور منه والمسألة بحالها فإن وجده المرتهن قبل القسمة فهو أحق بأخذه باعتبار يده وقد كانت يده مستحقة على الراهن فلا ينتظر حضور الراهن في أخذه إذا أقام البينة على أنه أخذ عن يده ثم بعد الأخذ يعود رهناً كما كان فإن حضر الراهن فأنكر الدين والرهن فالقول قوله إلا أن يعيد المرتهن عليه البينة لما بينا أن الرد عليه كان بمجرد ثبوت الأخذ من يده لا بثبوت صفة يديه وهو يد الرهن .
فإن حضر المرتهن بعد القسمة فإن شاء أخذه بقيمته وإن شاء تركه فإن أخذه بالقيمة عاد رهناً كما كان قبل الأسر ثم إذا حضر مولاه فأراد أخذه بعد قضاء الدين فإن كان قيمة الرهن والدين سواء أو كان الدين أكثر فللمولى ذلك عندهم جميعاً لأن جميع مالية الرهن كان مضموناً على المرتهن والفداء في المضمون يكون على الضامن لا يرجع به علي غيره وإن كان الدين مثل نصف قيمته على قول أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما فالجواب كذلك وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكون للمرتهن أن يرجع على الراهن بنصف الفداء ولا يدفع العبد إليه حتى يقبض ذلك وهذا نظير الفداء من الجناية إذا فداه المرتهن والراهن غائب وفي قمته فضل على الدين فإن المرتهن يكون متطوعاً في الفضل في قولهما وفي قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يكون متطوعاً ولكن يرجع به علي الراهن فكذلك حكم الفداء بعد الأسر ولا حاجة إلى إعادة البينة إن أنكر الراهن الرهن والدين لما بينا أن القاضي إنما قضى ها هنا للمرتهن بالأخذ بالقيمة باعتبار أنه أحيا به ملك اليد المستحق له بعقد الرهن فكان من وقع في سهمه خصماً عن @(4/141)
الراهن في إثبات ذلك عليه بالبينة .
وإن حضر الراهن والمرتهن جميعاً فأبى الراهن أن يفديه وفداه المرتهن عاد رهناً كما كان والمرتهن متطوع فيما أدى من القيمة عندهم جميعاً بمنزلة الفداء من الجناية فإن عند حضرة الراهن يكون المرتهن متطوعاً في الفداء سواء كان في قيمته فضل على الدين أو لم يكن ولو لم يحضر المرتهن وحضر الراهن فأقام البينة أنه عبده كان مرهوناً عند فلان بمائة فإن وجد قبل القسمة قضى له به لأن حق الأخذ له مجاناً باعتبار قديم ملكه وقد أثبته بالبينة ولكن لا يدفع إليه لأنه يقر أن اليد فيه مستحقة عليه للمرتهن حتى يقضيه دينه فلا يدفعه القاضي إليه نظراً منه للمرتهن فإنه ناظر لكل من عجز عن النظر بنفسه ولكنه يضعه علي يدي عدل حتى يحضر المرتهن فيقبضه .
وإن حضر بعد القسمة أو وجده في يد المشتري من العدو فأراد أن يفديه بالثمن قضي له بذلك لأنه يحيي ملكه القديم بهذا الأخذ .
ثم إن كان الفداء مثل قيمة الرهن أو أكثر دفعه القاضي إليه ولم يضعه على يدي عدل لأن الفداء على المرتهن ها هنا باعتبار أن مالية الرهن كانت في ضمانه بخلاف الإجارة وإذا ثبت للراهن حق الرجوع على المرتهن بما غرم من الفداء فقد سقط حكم استحقاق يده عليه ما لم يرد عليه الفداء فلهذا سلمه إليه بخلاف ما قبل القسمة فإذا أخذه ثم حضر المرتهن قيل له : إن شئت فأد الفداء وخذه رهناً كما كان وإن شئت فدعه وقد بطل دينك لأن ماليته هلكت في ضمان المرتهن حين لم يتمكن الراهن من أخذه إلا بالفداء فيجعل هو في حكم المستوفي لدينه وإنما لم يجعل الراهن متبرعاً في الفداء لأنه قصد به إحياء ملكه في العين وهو مضطر إلى ذلك بخلاف المرتهن في فضل الفداء فإنه يكون متبرعاً في الفداء والمستأجر كذلك لأنه ما قصد به إحياء ملكه في@(4/142)
العين إذ لا ملك له في العين وإن كان الفداء الذي فدى به الراهن أقل من قيمة الرهن فإن القاضي يضعه على يدي عدل ولا يدفعه إلى الراهن لأن أكثر ما فيه أن الراهن يصير موفياً للمرتهن بما أدى ذلك القدر من دينه باعتبار ثبوت حق الرجوع به له عليه ولكن استحقاق اليد للمرتهن لا يبطل باستيفائه بعض الدين فلهذا وضعه على يدي عدل فإذا حضر المرتهن فإن شاء أدى الفداء وكان رهناً بجميع الدين عنده كما كان قبل الأسر وإن أبى أن يؤدي الفداء كان رهناً عنده بما بقي من دينه لأن بتعذر الفداء قد صار هو مستوفياً بطريق المقاصة فإن الراهن استوجب الرجوع عليه بذلك وللمرتهن عليه مثله فكان قصاصاً به فإن مات في يد المرتهن بعد ذلك رجع الراهن على المرتهن بالفداء الذي فداه لأنه بهلاك الرهن صار مستوفياً جميع دينه وظهر أنه في مقدار الفداء قد استوفاه مرتين وإن كان فداه بدراهم وكان الدين دنانير أو طعاماً أو غير ذلك رجع عليه بحصة الفداء من الدين الذي كان له على الراهن لأن الاستيفاء بطريق المقاصة بمنزلة استيفاء الدين حقيقة حتى لو استوفاه حقيقة
رجع في ذلك المستوفى بعد هلاك الرهن وهذا لأن ضمان الرهن باعتبار المالية لا باعتبار العين فإنه ضمان استيفاء والاستيفاء إنما يكون بالجنس لا بخلاف الجنس والمجانسة بين الأموال بصفة المالية فلهذا كان رجوعه بذلك القدر من الدين لا من جنس الفداء .
ولو أن العبد الموهوب أسره العدو فأحرزه ثم وقع في الغنيمة فحضر الواهب والموهوب له قبل القسمة فإنه حق الأخذ للموهوب له لأن الاستيلاء حصل على ملكه وثبوت حق الأخذ باعتبار قديم الملك أو باعتبار اليد وقد كانا للموهوب له حين أسر فإذا أخذه رجع فيه الواهب لأنه بالأخذ أعاده إلى قديم ملكه وقد كان حق الرجوع للواهب ثابتاً في قديم ملكه .
وإن كان الموهوب له غائباً فلا سبيل للواهب عليه لأن حقه في ملكه مقصور عليه فما لم يعد إلى قديم ملكه لا يظهر فعل حقه .
وإن قال الموهوب له حين حضر لا حاجة لي فيه لم يلتفت إلى قوله وقضى القاضي عليه بالرد ثم قضى للواهب بالرجوع فيه لأنه تعلق بملكه حق الواهب وقد جاء الواهب طالباً لحقه .
وهو في هذا الإباء متعنت قاصد إلى الإضرار بالعين لا إلى دفع الضرر عن@(4/143)
نفسه لأنه يأخذه مجاناً والقاضي لا يلتفت إلى قول المتعنت ولأنه لما تعلق به حق الواهب بملكه قام طلب الواهب بحضرته قمام طلبه .
وإن كان حضرا بعد القسمة أو وجداه في يد المشتري فإن أخذه الموهوب له بالثمن أو بالقيمة فللواهب أن يرجع فيه لأنه عاد كما كان في يد الموهوب له .
فإن قال الموهوب له فليرد الواهب على الفداء لم يلتفت إلى قوله لأنه فدى ملك نفسه وهو ما كان مضموناً على غيره ليرجع عليه بحكم ذلك الضمان .
وإن قال الموهوب له : لا أريد أخذه لم يجبر على ذلك لأنه غير متعنت في هذا الإباء بل هو ممتنع من التزام غرم غير مفيد في حقه وللإنسان أن يمتنع من التزام الغرم .
وإن كان له فيه فائدة فلأن يكون له أن يمتنع منه ولا فائدة له فيه كان أولى فإن قال الواهب : أنا أفديه لم يكن له ذلك لأن الأسر لم يكن على ملكه وقد بينا أن حق الأخذ بالفداء لمن يحيي به ملكه والواهب ها هنا بالفداء يحيي ملك الموهوب له ثم يترتب حقه في الرجوع على ملكه والموهوب له ممتنع من هذا الفداء فلا يصير الواهب متمكناً منه بعدما صح الامتناع ممن له الحق .
وإن كان المأسور عبداً جانياً فإن وجده مولاه قبل القسمة أخذه بغير شيء وقد عاد إلى قديم ملكه كما كان فيخاطب بالدفع بالجناية أو الفداء وإن حضر صاحب الجناية دون المولى لم يكن له عليه سبيل لأن الأسر ما وقع على ملكه ولا على يده إنما كان حقه في ملك المولى فما لم يظهر محل حقه لا تسمع خصومته .
فإن حضر المولى فأبى أن يأخذه قيل له : اختر الدفع أو الفداء لأنه متمكن من إعادته إلى قديم ملكه فيجعل هذا التمكن بمنزلة حقيقة عود الملك إليه مراعاة لحق ولي الجناية .
فإن اختار الدفع دفع إلى ولي الجناية لأنه في الامتناع من الأخذ مع اختيار الدفع متعنت قاصد إلى إضرار صاحب الجناية .
وإن فداه بأرش الجناية قيل له : خذه لنفسك إن شئت لأنه قد وصل إلى ولي الجناية@(4/144)
حقه فخلص الحق في الأخذ للمولى وله رأي في إيصال المنفعة لنفسه والامتناع من ذلك .
وإن حضرا بعد القسمة فلمولاه أن يفديه بالقيمة وبعد الفداء يخير بين الدفع بالجناية وبين الفداء بالأرش لأنه عاد إلى قديم ملكه .
وإن أبى أن يفديه فله ذلك لأنه ممتنع من التزام الغرم بعلمه أنه لا فائدة له فيه فإن ولي الجناية يأخذه منه .
ثم ليس لصاحب الجناية عليه سبيل لأن محل حقه فات لا بصنع المولى فلا يكون هو في حقه مختاراً ولا مستهلكاً فإن قيل : لماذا لم يجعل مستهلكاً حين امتنع من أخذه بعد ما تمكن منه قلنا : هذا إن لو تمكن منه مجاناً فأما إذا لم يتمكن منه مجاناً إلا بعد التزام غرم فلا لأنه لا يجبر بسبب جناية العبد على التزام غرم شاء أو أبى .
ولو كان العبد مديناً والمسألة بحالها فإن حضر الغريم ولم يحضر المولى لم يكن له أن يأخذ العبد حتى يحضر المولى لأن الأسر لم يكن على ملكه ولا على يده .
ولكنه إن أقام الغريم البينة على دينه وقف القاضي العبد حتى يحضر المولى ولم يقسمه في الغنيمة لأنه يثبت بهذه البينة استحقاق ماليته بالدين للطالب فلا يشتغل بالقسمة فيه بخلاف ما سبق من حق ولي الجناية والواهب فإن ذلك مقصور على ملك المولى والموهوب له فلا يظهر قبل عود ملكهما وأما الدين في رقبة العبد يدور معه حيثما دار فاستحقاق المالية ها هنا ثابت سواء أخذه المولى أو لم يأخذه .
فإذا حضر المولى وفداه بالدين سلم الملك له إن أبى بيع العبد في الدين لأن الدين الذي ظهر وجوبه في ذمة العبد يستوفي من ماليته بالبيع فيه في ملك من كان .
وإن لم يحضر الغريم حتى قسم أو وجده في يد المشتري من العدو فالمولى بالخيار في الأخذ بالقيمة فإن أخذه بيع@(4/145)
في الدين إلا أن يفديه المولى وإن أبى أن يأخذه بيع في الدين في ملك من وجده الغريم في ملكه إلا أن يفديه بالدين لما بينا أن الدين لا يبطل عن ماليته بتحول الملك عن المولى إلى غيره ألا ترى أن العبد المدين إذا أعتق كان للغريم أن يطالبه بدينه بخلاف العبد الجاني فإن ولي الجناية لا يبيعه بعد العتق .
فإن بيع في الدين ولم يبق من ثمنه شيء عوض الذي وقع في سهمه قيمته من بيت المال لأن ماليته استحقت بسبب سابق على أخذه فتبين أنه أعطى بالقيمة عبداً لا قسمة له .
وإن بقي من الثمن الثلث عوض مقدار ثلثي قيمته بقدر ما استحق بالدين وإن حضر الغريم فأثبت دينه قبل أن يحضر المولى فإن القاضي يبيعه في الدين لأن حق الغريم متعلق بماليته .
وليس في هذا البيع إبطال حق المولى وفي التأخير إلى أن يحضر إضرار بالغريم فعلى القاضي أن يشتغل بدفع الضرر عنه وهو أن يبيعه في الدين .
فإن حضر مولاه كان له أن يأخذه من المشتري الآخر بالثمن الذي اشتراه به لأن الأصل أن المأسور منه يثبت له أن يأخذه من المشتري الآخر بالثمن الذي اشتراه به لأن الأصل أن المأسور منه يثبت له حق الأخذ من يد من يجده في يده من غير أن يشتغل بنقص التصرف ألا ترى أنه لا ينقض القسمة ليأخذه مجاناً فكذلك لا ينقض البيع الثاني ليأخذه بالثمن الأول ولكن يأخذه بالثمن الثاني حتى يعيده إلى قديم ملكه فإن فعل ذلك فأراد الغريم أن يرجع عليه بما بقي من دينه لم يكن له ذلك لأن حقه كان في مالية الرقبة قد وصل إليه ذلك مرة فليس له أن يطالب بشيء آخر حتى يعتق العبد كما لو بيع له في ملك مولاه قبل الأسر مرة .
فإن قال المشتري الأول : أنا أرجع بما أخذ مني الغريم من ثمن العبد على الذي اشتراه مني لم يكن له ذلك لأنه قد أخذ منه عوض ملكه مرة فإن استحق عليه ذلك بسبب دين العبد لا يثبت له حق الرجوع عليه ببدله مرة أخرى .
ولكن للمشتري الأول أن يبيع@(4/146)
العبد بما أخذ منه بجهة دينه فيباع فيه إلا أن يقضي المولى ذلك عنه لأن العبد عاد إلى قديم ملك المولى وقد كانت ماليته في ملكه مستحقة بدينه ألا ترى أنه لو لم يكن بيع فإنه يباع إلا أن يقضي الدين فإذا بيع مرة وصرف إلى دائنه الثمن الذي هو حق المشتري الأول يثبت للمشتري الأول حق الرجوع به في ماليته باعتبار أنه قام مقام الغريم في الرجوع به في ملك المولى لأنه غير متطوع فيما أدى بل هو مجبر عليه في الحكم ومن أجبر على قضاء دين الغير بملكه يثبت له حق الرجوع عليه وهذا دين آخر سوى ما بيع العبد فيه وقد ظهر وجوبه في حق المولى من الوجه الذي قررنا فيه إلا أن يفديه المولى .
ولو أن المشتري من العدو فداه بدينه ثم حضر مولاه وأخذه بالثمن فإنه يقال له : في عتق العبد الذي أدى عنه الدين الأقل من قيمته ومن الدين فإن فديته بذلك وإلا بيع له في ذلك لأن المشتري كان مضطراً إلى أداء ذلك الفداء فلا يكون متبرعاً فيه ولكن الضرورة إنما تحققت في الأقل من قيمته فيكون رجوعه في رقبته بمقدار الأقل .
فالحاصل أنه متى عاد إلى قديم ملك المولى وقد كانت ماليته مستحقة بالدين فإنما يعود كما كان فلا يجوز أن يسلم للمولى مجاناً ما لم يقض عنه الدين وما أدى من الفداء إلى المشتري من العدو فداء لملكه لا أن يكون بدلاً عن ماليته بمنزلة العبد المدين إذا جنى جناية ففداه المولى فإنه يباع في الدين على حاله .
ولو أن المشتري من العدو باعه من آخر أو وهبه أو تصدق به ثم حضر الغرماء كان لهم أن يبطلوا تصرفه لأن دينهم واجب عليه في ملك المشتري من العدو كما كان في ملك المولى قبل الأسر فكما لا ينفذ بيع المولى وهبته فيه بغير رضى الغرماء فكذلك بيع المشتري من العدو .
فإن لم يبطلوا حتى حضر المولى فأخذه من المشتري الآخر بالثمن أو من الموهوب له بالقيمة ثم حضر الغرماء فأرادوا إبطال البيع أو الهبة لم يكن لهم ذلك لأنه إنما كان لهم حق الإبطال في الملك الحادث فيه بعدما اشتغل بدينهم وقد ارتفع كل ملك حادث حين أخذه المولى وعاد إلى قديم ملكه ففي حق الغرماء عاد كما كان قبل الأسر فيباع في ديونهم إلا أن يفديه المولى .
ولو كان العبد@(4/147)
المأسور وديعة أو عارية فوجده المودع قبل القسمة أو المستعير كان لهما أن يأخذاه إذا أقاما البينة لأن الأسر كان من يدهما وحق الأسر قبل القسمة باعتبار اليد فيعاد إلى يدهما على ما كان قبل الأسر .
فإن جاءا بعد القسمة فأرادا الأخذ بالقيمة أو وجداه في يد المشتري من العدو فليس لهما حق الأخذ لأن حق الأخذ بالفداء إنما يكون لمن يحيي بالأخذ ملكاً قد كان له والمودع والمستعير لم يكن لهما ملك قبل الأخذ فلو أخذاه بالفداء كان ذلك تملكاً منهما العبد بالبدل ابتداء ومن في يده غير مجبر على ابتداء التمليك من غيره بعوض .
وإن قالا نحن نتطوع بالفداء عن المولى القديم فهذا ليس بشيء لأنه لا ملك فيه للمولى القديم قبل الأخذ ليتطوعا بفداء ملكه ولا شيء في ذمة المولى القديم ليتبرعا بأداء ذلك عنه .
ولكن إن حضر المولى القديم فله أن يأخذه بالفداء لأنه بالأخذ يحيي قديم ملكه .
ولو أن العبد المأسور اشتراه رجل من العدو ووقع في سهم رجل بالقسمة فلحقه دين بالاستهلاك أو بالتصرف بأن أذن له مولاه في التجارة ثم حضر المولى القديم فله أن يأخذه بالفداء لأن حقه في الأخذ بالفداء سابق على حق الغرماء فلا يمتنع لحق الغرماء وإذا أخذه تبعه الدين فبيع فيه إلا أن يفديه المولى لأن حقهم ثابت في ماليته فيدور معها أينما دارت بمنزلة العبد الجاني إذا لحقه دين ثم دفع بالجناية فإنه يباع في الدين إلا أن يقضيه ولي الجناية .
وكذلك لو مات مولى العبد المدين حتى صار العبد ميراثاً للورثة فإنه يباع في الدين فكذلك ما تقدم وإن كان مولاه لم يرغب في أخذه بالفداء لأجل دينه .
فقد بطل حقه وبيع في@(4/148)
الدين في ملك من له العبد إلا أن يفديه بالدين فإن لم يعلم مولاه بالدين حتى أخذه ثم ثبت الدين عليه فالمولى بالخيار لأن الدين عيب فكان ظهور هذا العيب بعد أخذه بمنزلة ظهور عيب آخر .
كان حدث به عند المشتري فيكون له حق الرد به .
وهذا لأنه إنما رغب في أخذه بالفداء ليعود إليه كما كان وقد تبين أنه لم يعد إليه كما كان فإن ماليته كانت فارغة والآن عاد إليه مستحق المالية .
فإن رده واسترد ما أدى بعي العبد في الدين عند من رده عليه وإن أمسكه بيع في الدين عند المولى لأنه رضي بعيبه فصار كما لو كان عالماً بالعيب حين أخذه .
فإن كان المأخوذ منه غائباً حين أثبت الغرماء دينهم فقال المولى : أنا أرده فإن القاضي يمهله في ذلك يومين أو ثلاثة فإن حضر رده عليه وإلا باعه للغرماء لأن دينهم ثابت على العبد وفي التأخير مدة طويلة إضرار بهم فأما في مدة يسيرة لا يكون في التأخير كثير ضرر عليهم وفيه نظر للمولى .
ألا ترى أن القاضي لو قال لهم : هاتوا من يشتريه لأبيعه لكم احتاجوا إلى هذا القدر من المدة حتى يحضروا المشتري .
وكذلك لو أرادوا بيع العبد في ملك مولاه فطلب المهلة يومين أو ثلاثة لينظر أي الوجهين أنفع له أي البيع أو الفداء فإن القاضي يجيبه إلى ذلك فكذلك ها هنا فإن مضت مدة المهلة ولم يحضر فبيع في الدين أو فداه ثم حضر المأخوذ منه فلا سبيل للمولى عليه لأنه إن كان بيع فقد خرج العبد عن ملكه والخصومة في العيب إنما كانت له ما بقي في ملكه فأما بعد إخراجه من ملكه فلا .
وإن كان فداه فقد زال العيب وليس له أن يخاصم في العيب بعد زوال العيب ولو لم يحضر المأسور منه حتى طلب الغرماء منه دينه ففداه من في يده بالدين ثم حضر المأسور منه فله أن@(4/149)
يأخذه بالفداء لأنه طهر من الدين فعاد على ما كان قبل لحوق الدين إياه .
وبعدما أخذه المأسور منه لا يكون للذي فداه بالدين أن يرجع عليه بشيء بخلاف ما سبق لأن هناك إنما فداه من دين كان حادثاً في ملكه والمستحق بهذا الدين المالية التي هي حقه فلا يرجع به على أحد وهناك إنما كان فداه سابقاً على ملكه وكان لمستحق به مالية هي ملك المولى القديم فإذا ظهرت تلك المالية كان له أن يرجع فيها .
وكذلك لو اختار بيعه في الدين ثم حضر المأسور منه فأخذه بالثمن الثاني فإنه لا يكون للمشتري الأول أن يرجع عليه بشيء بخلاف ما إذا كان الدين في ملك المأسور منه والذي يقرر الفرق أن الدين بمنزلة العيب فإذا كان حادثاً في ملكه كان عهدة ذلك العيب عليه ألا ترى أن المأسور منه كان يرده عليه إن علم بذلك العيب فكيف يرجع هو على المأسور منه باعتباره والعيب الأول كان في يد المأسور منه .
ألا ترى أنه لا يكون للمأسور منه أن يرده عليه بسبب ذلك العيب فلهذا كان للمشتري من العدو أن يبيعه بما لحقه من الغرم بسبب ذلك العيب فلهذا كان للمشتري من العدو أن يبيعه وإن كان الدين على العبد قبل الأسر فباعه القاضي بالدين في ملك المشتري من العدو وقبض الثمن فتوى في يده قبل أن يدفعه إلى الغرماء ثم حضر المأسور منه فأخذه بالفداء لم يكن للغرماء على العبد سبيل حتى يعتق .
لما بينا أنه بيع لهم مرة في الدين والقاضي في ذلك البيع عامل لهم فهلاك الثمن في يده كهلاكه في أيديهم فلهذا لا يبيعون العبد بشيء آخر حتى يعتق فليس لمن بيع عليه العبد أن يبيع العبد المأسور منه بشيء ها هنا لأن الثمن لما لم يصل إلى الغرماء لم يسقط شيء من دينهم عن العبد وإنما كان حق الرجوع له في رقبة العبد باعتبار أنه قضى دينه بملكه وكان مجبراً على ذلك في الحكم فإذا لم يصر ها هنا قاضياً شيئاً لا يثبت له حق الرجوع في رقبة العبد بشيء .
ألا ترى أن الغرماء لو أبرءوا العبد من الدين بعد قبض الثمن من المشتري الثاني كان الثمن سالماً للمشتري الأول الذي بيع العبد عليه فإما أن يقال : تبين بهذا أنه توى ماله في يد القاضي فلا يرجع بشيء منه على العبد أو يقال بعد الإبراء لما لم يصر قاضياً شيئاً من دين العبد لم يرجع عليه بشيء فكذلك إذا هلك الثمن المقبوض قبل الدفع إلى الغرماء والأول أصح ولو أوصى لرجل بخدمة عبده أو بغلته ما عاش فإذا مات رجع إلى وارثه@(4/150)
وأوصى برقبته لآخر أو أوصى ظهر فرسه لرجل في حياته وبرقبته لآخر فإنه تنفذ وصيته على ما أوصى به إذا كان يخرج من ثلثه فإن أسر المشركون العبد أو الفرس ثم وقع في الغنيمة فحضر الموصى له بالخدمة وأقام البينة كان خصماً وإن لم يحضر صاحب الرقبة لأنه أسر من يده فكان هو أحق باسترداده قبل القسمة .
ثم إن حضر صاحب الرقبة فأنكر الوصية قيل له : أعد البينة على وصيتك وإلا فلا شيء لك لما بينا أنه إنما قضى للذي أقام البينة باعتبار إثباته الأسر من يده لا باعتبار ثبوت وصيته فيحتاج إلى إقامة البينة لإثبات الوصية على خصمه وقد تقدم نظيره في الإجارة .
وإن كان الذي حضر صاحب الرقبة فإن القاضي يقضي به له لأنه أثبت بالبينة أن الأسر كان على ملكه وتأثير الملك في إثبات حق الأخذ أكثر من تأثير اليد ثم لا يدفعه إليه .
ولكن يضعه على يدي عدل حتى يحضر صاحب الخدمة فيقبضه لأنه أقر بيد مستحقة فيه لغيره فهو قياس الرهن الذي سبق .
وإن لم يحضر واحد منهما حتى قسم أو كان اشتراه رجل من العدو ثم حضر صاحب الذمة فأقام البينة فله أن يأخذه بالفداء لأنه يحيي بالأخذ حقاً مستحقاً له فإن للموصي له بالخدمة حقاً لازماً لا يتمكن أحد من إبطال ذلك عليه بخلاف المستعير .
وإذا أخذه ثم حضر صاحب الرقبة فأنكر وصيته لم يلتفت إلى إنكاره لأن من ضرورة القضاء بحق الأخذ له بالفداء القضاء بالوصية فإن بمجرد اليد بدون حق مستحق لا يقضى له بذلك فعرفنا أن ذا اليد انتصب خصماً عن صاحب الرقبة في إثبات الوصية عليه .
فيكون العبد في يد صاحب الوصية بالخدمة كما كان قبل الأسر إلى أن يموت فإذا مات رجعت الرقبة إلى@(4/151)
صاحبها فيكون لورثة صاحب الخدمة أن يرجعوا عليه بالفداء الذي فداه الموصى له بالخدمة من ماله فيباع العبد له في ذلك إلا أن يفديه صاحب الرقبة لأنه كان مضطراً إلى أداء ذلك الفداء ليتوصل به إلى إحياء حقه فلا يكون متبرعاً فيه ولم يكن العبد في ضمانه ولا في ملكه حتى يتقرر الفداء عليه .
فإذا بطلت الوصية وعاد العبد إلى صاحب الرقبة فقد ظهر أنه فدى ملكه ولم يكن متبرعاً فيه فيستوجب الرجوع به في مالية العبد لأنها حييت له بهذا الفداء ثم وارثه في ذلك بعد موته يقوم مقامه فيرجع بما كان له حق الرجوع في حياته أن لو بطلت الوصية في حال حياته بسبب من الأسباب .
ولو لم يفده صاحب الخدمة حتى حضر هو مع صاحب الرقبة جميعاً فإن رغب صاحب الخدمة في الفداء فهو أحق به لأن حقه مقدم على حق الرقبة .
وإن أبى أن يفديه فداه صاحب الرقبة ثم لا سبيل عليه لصاحب الخدمة لأنه متى أبى أن يفديه فقد أبطل وصيته فيه غذ كانت مقصورة على ملك الموصي وقد تم منه الرضا ببطلان ذلك الملك فيبطل وصيته بفوات محل حقه وبعدما بطلت وصية صاحب الخدمة فصاحب الرقبة أحق بالعبد .
فإن لم يحضر صاحب الخدمة وحضر صاحب الرقبة فله أن يأخذه بالفداء وإذا أخذه لم يوضع على جديد عدل بل يسلم إليه لأن صاحب الخدمة لم يبق له حق في الأخذ بالخدمة إلا أن يؤدي إليه ذلك الفداء ولا يعلم أنه يرغب فيه بعد ذلك أو لا يرغب ولا حق له فيه في الحال .
بخلاف ما تقدم قبل القسمة لأنه قبل القسمة حقه ثابت في خدمته من غير أن يلزمه أداء شيء فمن هذا الوجه يقع الفرق .
فإن حضر صاحب الخدمة يخير فإن شاء أدى إلى صاحب الرقبة ما فداه به وكان هو أحق بخدمته ما عاش بمنزلة ما لو كان هو الذي حضر أولاً وفداه وهذا@(4/152)
لأن صاحب الرقبة يحيي ملكه بالفداء فلا يكون متبرعاً فيه .
وإذا ظهر حق سابق على حقه فله أن يرجع به على صاحب الحق لأنه ما رضي بالفداء حتى يكون المنتفع به غيره ولأنه إنما يعود على حكم ملك الموصي إذا استقر الفداء على ملك الموصى له بالخدمة .
فإذا أدى ذلك الموصى له بالخدمة وأخذ العبد ثم مات الموصى له فالعبد لصاحب الرقبة إلا أنه يباع في ذلك الفداء كما لو كان الموصى له هو الذي فداه من المشتري من العدو فإن بيع في الفداء فلم يف ثمنه بالفداء ثم عتق العبد يوماً من الدهر لم يتبع بشيء مما بقي له من الفداء لأن العبد ما اكتسب سبب وجود هذا الدين حتى يكون ثابتاً في ذمته يتبع به بعد العتق ولكن إنما يتبع به باعتبار أن ماليته حييت بسبب هذا الفداء لصاحب الرقبة فيكون الواجب مقدار المالية لا الأكثر منه وهو نظر العبد الآبق إذا رده راد وبيع في جعله على قول من يرى الجعل المقدر قلت قيمته أو كثر فلم يف ثمنه بالجعل لم يتبع العبد بشيء مما بقي منه بعد العتق فهذا مثله .
وإن أبى صاحب الخدمة أن يدفع الفداء إلى صاحب الرقبة .
بعدما عرض القاضي ذلك عليه فإن لم يبطل القاضي وصيته بإبائه حتى رغب في أداء الفداء كان له ذلك وإن أبطل القاضي وصيته حين أبى ذلك فلا سبيل له على العبد بعد ذلك وإن رغب في الفداء لأن الإباء إنما يتأكد حكمه إذا اتصل به قضاء القاضي بمنزلة إباء اليمين من المنكر وإباء الإسلام من أحد الزوجين بعد إسلام الآخر والله الموفق .@(4/153)
وإذا اشترى العبد المأسور مسلم من العدو بألف درهم وألف رطل من خمر فأراد مولاه أن يأخذه فإن كانت قيمته ألفاً أو أقل قيل لمولاه خذ بألف درهم أو دع لأنه إنما يأخذه بما غرم فيه المشتري مما هو مال متقوم وذلك الألف فإن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم .
وإن كانت قيمته أكثر من ألف فإنما يأخذه بكمال قيمته لأن العقد لم يكن صحيحاً في حق المسلم وإنما أخذه بطيب أنفسهم فكأنهم وهبوه له ولأنه إن اشتراه بخمر لم يكن له أن يأخذه منه بأقل من قيمته فإذا اشتراه بدراهم مع الخمر أولى ألا يأخذه منه إلا بقيمته وهو نظير مسلم أعتق عبداً له بألف درهم ورطل من خمر فقبل العبد ذلك كان حراً .
ثم إن كانت قيمته ألفاً أو أقل فعليه الألف لأنه التزم ذلك طوعاً بإزاء ما سلم له وهو العتق .
وإن كانت قيمته أكثر من ألف فعليه تمام القيمة لأن المعتق ما رضي بالألف وحدها ولو أعتقه على خمر كان عليه قيمة نفسه فإذا شرط الخمر مع الألف أولى .
ولو كان اشتراه بألف وعشرين شاة ميتة أو عشرين زقاً من دم فإن مولاه يأخذه بالألف سواء كانت قيمته أقل أو أكثر لأن ضم الميتة والدم إلى اللف لغو بخلاف ضم الخمر إلى الألف وهذا لأن الخمر يتمول وإن فسدت قيمته في حق المسلمين وهو مال متقوم في حق غيرهم حتى يضمن مستهلكه على الذمي بخلاف الميتة والدم فإنه لا قيمة لهما عند أحد من الناس ألا@(4/154)
ترى أن ما يشتريه المسلم بالخمر يملكه بالقبض حتي ينفذ عتقه فيه بخلاف ما يشتريه بالميتة والدم .
ولو أن مسلماً أعتق عبده على ميتة أو دم عتق مجاناً بخلاف ما إذا أعتقه على خمر .
وإذا كان العبد في يد مسلم فأقام مسلم البينة أنه عبده ولد في ملكه وأقام ذو اليد البينة أنه اشتراه من المغانم أو ممن وقع في سهمه من الغنيمة فإنه يقضي به للمدعي بغير شيء لأنه أثبت ببينته ملكه في العبد وذو اليد ما أثبت ببينته الملك لأنه أثبت الشراء من المغانم أو ممن وقع في سهمه وذلك لا يوجب الملك له ما لم يعلم أن العدو أسروه وأحرزوه لجواز أن يكونوا أخذوه ولم يحرزوه حتى ظهر المسلمون عليه أو أن هذا العبد كان أبق إليهم ثم وقع في الغنيمة .
ولو كان في بينة ذي اليد إثبات الملك له لم تكن معارضة لبينة الخارج فإذا لم يكن فيها إثبات الملك له أولى ألا تكون معارضة له وإن أقام ذو اليد البينة أن العدو أخذوا هذا العبد فأحرزوه ثم وقع في الغنيمة فاشتراه ممن وقع في سهمه فإن القاضي يقضي به للذي هو في يده لأن في بينة ذي اليد إثبات سبب زوال ملك المدعي وهو محتاج إلى ذلك فلا بد من قبولها لحاجته ولأنه لا منافاة بين الأمرين والبينتان حجج فعند إمكان العمل بالبينتين يجب العمل بهما .
ثم الثابت بها كالثابت باتفاق الخصمين فيقال للمدعي إن شئت فخذه بالثمن وإن شئت فدع لأن العدو ملكوه حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة أو دخل منهم داخل إلينا بأمان وهو معه لم يكن له عليه سبيل بخلاف ما قبل ثبوت إحراز المشركين إياه .
وكذلك لو باعه الداخل إلينا بأمان من مسلم آخر لم يكن للمولى القديم عليه سبيل لأن المشتري قام فيه مقام البائع وبعدما حصل في دارنا على وجه لا سبيل للمولى على أخذه لا يثبت له حق الأخذ وإن انتقل الملك فيه إلى غيره فإن.@(4/155)
أخذه من المشتري بالثمن فأعتقه أو كاتبه أو دبره أو باعه ثم علم أن الشهود الذين شهدوا على ملكه لم يكونوا من أهل الشهادة فجميع ما صنع الآخذ من ذلك باطل والعبد مردود على من كان في يده لأنه تبين بطلان قضاء القاضي له بالملك حين أظهر أنه قضى بغير حجة فكان متصرفاً فيما لا يملكه فإن قيل : القاضي أجبره على أن يملكه إياه بالثمن فهب أن القضاء كان باطلاً فهذا لا يكون دون ما لو أجبر سلطان رجلاً على بيع عبد من فلان ودفعه إليه وهناك المشتري يملكه بالقبض حتى ينفذ فيه تصرفاته بالعتق والتدبير فكذلك ها هنا قلنا : هناك إنما أجبره على بيع مبتدأ وهو سبب موجب للملك وقد انعقد بصفة الفساد لانعدام شرط الجواز فيه وهو الرضاء به فلهذا يملكه المشتري منه بالقبض وها هنا ما أجبره على مباشرة سبب التملك ابتداء وإنما أعاده إلى قديم ملكه وقد تبين أنه لم يكن له ملك فيه قبل هذا والملك لا يثبت ابتداء بغير سبب فلهذا لا ينفذ عتقه .
ألا ترى أنه لو حضر قبل القسمة وأقام البينة أنه عبده فأخذه مجاناً فأعتقه ثم علم أن الشهود كانوا عبيداً فإنه يرد العبد في الغنيمة ويبطل عتقه لهذا المعنى فكذلك إذا أخذه بعد القسمة بالقيمة أو من يد المشتري بالثمن وهذا لأن ما يؤدي فداء لملكه لا عوض عن ملك يثبته لنفسه بخلاف ما يعطى المشتري من المكره .
ولو كان مكان العبد أمة فاستولدها المقضي لها بها ردت هي وعقرها وولدها رقيقاً في الغنيمة لأنه تبين أن وطئ ما لا يملك إلا أن الحد يسقط عنه لصورة القضاء فيجب العقر والولد يملك بملك الأصل .
ثم في القياس لا يثبت نسبه لأن ثبوت نسب الولد يستدعي شبهة حكمية في المحل ولم توجد .
وفي الاستحسان يثبت النسب منه لأنه وطئها وهي مملوكة له في قضاء القاضي وهذا القدر في المحل يكفي لإثبات النسب بالدعوة فإن النسب يثبت بأدنى شبهة فإن قيل : فلماذا لا يجعل الولد حراً بالقيمة بمنزلة ولد المغرور قلنا : لأن الغرور إنما يتحقق إذا ترتب الاستيلاء على سبب ملك ثابت له في المحل حكماً أو حقيقة ولم يوجد لأن القاضي لم يملكه إياه ابتداء وإنما أعاده إلى قديم ملكه وقد تبين أنه لم يكن مالكاً له وليس من ضرورة ثبوت النسب منه عتق الولد كما لو وطئ أمة الغير بشبهة فولدت منه وهذا بخلاف @(4/156)
ما لو أثبت ديناً على رجل بالبينة فأجبر القاضي المدينة على بيع أمته فباعها وأعتقها المشتري أو دبرها أو استولدها أو باعها ثم ظهر أن شهود الدين كانوا عبيداً فإن هناك القاضي يبطل من تصرف المشتري ما يحتمل النقض ولا يبطل من تصرفه ما لا يحتمل النقض لأن هناك أجبره على تمليك مبتدأ فيكون بمنزلة الإكراه الباطل على البيع وها هنا ما أجبر من في يده على التمليك ابتداء من الآخذ .
يوضحه : أن إجبار القاضي هناك على البيع إذا تصرف المشتري بعده بمنزلة إجبار المالك على ذلك التصرف بعينه وما لا يحتمل النقض ينفذ من المكره إذا باشره على وجه لا يرد بخلاف ما يحتمل النقض ولو كان القاضي هو الذي ولي بيع ذلك عليه أو أمينه والمسألة على حالها فإنه ينقض جميع تصرفات المشتري ها هنا لأنه تبين أن البيع كان موقوفاً والبيع الموقوف لا يوجب الملك فلا ينفذ تصرفات المشتري فيه قبل إجازة المالك وفي الأول البيع كان فاسداً لأن المالك باشره ولكن لم يكن راضياً به والرضاء شرط صحة البيع فعند انعدامه يكون البيع فاسداً وإن استولدها المشتري ها هنا فإنه يغرم عقرها وقيمة ولدها ويكون الولد حراً لأن القاضي هو الذي باعها وكان بيعه في الصورة حقاً ما لم يتبين بطلان شهادة الشهود فكان المشتري في حكم المغرور ها هنا وولد المغرور حر بالقيمة بخلاف ما تقدم في أخذ المأسور منه وإنما المأسور منه نظير من ادعى أمة في يد رجل أنه كان وهبها منه وأنه يرجع فيها الآن وأقام البينة فقضى القاضي له بها فأعتقها أو استولدها ثم ظهر أن الشهود كانوا عبيداً فإنها مردودة على المقضى عليه مع ولدها وعقرها ولكن يثبت نسب الولد من المدعي استحساناً لأن القاضي حين قضى بالرجوع في الهبة فقد أعادها إلى قديم ملكه ولم يملكها ابتداء فكان هذا والمأسور منه في المعنى سواء .
ولو كان ذو اليد اشترى العبد المأسور من المغانم أو ممن وقع في سهمه فجاء رجل وأقام البينة أن أصله كان له فقبل قضاء القاضي أعطى ذو اليد العبد بالثمن الذي اشتراه به صلحاً ولم يقر أنه عبده فأعتقه أو كانت أمة فاستولدها ثم أقام رجل البينة أنه عبده فزكيت بينته ولم تزك بينة الأول فإن القاضي ينقض جميع ما صنع المدعي ويردها إلى من كانت في يده ويقضي للذي@(4/157)
زكيت بينته أن يأخذها مع ولدها بالثمن الذي أخذها به الأول لأن ما جرى بين ذي اليد وبين المدعي الأول لم يكن تمليكاً مبتدأ وإنما كان على وجه الفداء لملكه القديم .
فإذا لم يثبت ملكه القديم كان ذلك باطلاً والملك لا يثبت بغير سبب فلا ينفذ شيء من تصرفاته لانعدام الملك في المحل ولكنه يغرم العقر فيسلم ذلك لذي اليد لأن العقر دراهم وهي لا تفك بالفداء .
ولو كان قتل الولد قبل أن تزكى بينة المدعي والمسألة بحالها فقيمة الولد والعقر يكون سالماً لمن كانت في يده لأن القيمة دراهم أو دنانير كالعقر وباعتبارهما لا يسقط شيء من الثمن عن المالك القديم لأنه ما لزمه فداء والفداء إنما يكون لأصل الملك وقد سلم له ذلك حين أخذ الجارية .
وهذا بخلاف ما إذا ادعى شفعة في دار فسلمها إليه ذو اليد على دعواه ثم ظهر أنه لم يكن له فيها شفاعة لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء المبتدأ فكان ذلك تمليكاً مبتدأ جرى بينهما بالتراضي فيكون نافذاً فأما إذا أخذ المأسور بالثمن لا يكون تمليكاً ابتداءً ولكنه أعادة إلى قديم ملكه بالفداء الذي يعطى .
ولو كان ذو اليد صدقه في أن الأمة أمته والمسألة بحالها فإن القاضي لا يقضي للثاني بشيء وإن زكيت بينته فجميع ما صنع الآخذ فيها نافذ لأن ذا اليد حين أقر له بالملك فقد أقر بنفوذ تصرفه فيها من حيث الإعتاق والاستيلاء .
ولو باشر ذلك بنفسه لم يكن للذي أثبت الملك فيها بالبينة عليها سبيل بعد ذلك فكذلك إذا أقر ذو اليد بنفوذ ذلك فيها يوضحه أنه بهذا الإقرار سلطه على مباشرة هذه التصرفات فيها وفعل المسلط على التصرف كفعل المسلط بخلاف ما تقدم فإن هناك @(4/158)
ما سلطه على شيء إنما ترك الخصومة وسلمها إليه باعتبار زعمه أنه كان تملكها قبل الأسر وقد تبين أن ذلك كان باطلاً ولو كان المقر له ها هنا باعها أو رهنها لم يبطل به حق الذي يقيم البينة أنه كان يملكها قبل الأسر لأن ذا اليد لو باشر هذا التصرف بنفسه لم يبطل به حق المأسور منه .
فكذلك إذا أقر بنفوذ هذا التصرف فيه بخلاف العتق والاستيلاد إلا أن ها هنا ينقض القاضي بيع المقر له ويرده على ذي اليد حتى يأخذه المدعي بالثمن الأول منه بخلاف ما إذا كان ذو اليد هو الذي باعها منه لأن هناك إنما صدر البيع ممن يملكها وقد بينا أن المأسور منه يثبت له حق الأخذ بالثمن أو بالقيمة من غير أن ينقض تصرفاً وها هنا إنما صدر البيع ممن لم يكن مالكاً لها حقيقة لأن إقرار ذي اليد للمدعي الأول بأنه كان يملكها لم يكن تمليكاً منه ابتداء إلا أنه إذا اتصل به تصرف لا يمكن نقضه كالإعتاق يبطل به حق المولى القديم في الأخذ وإذا اتصل به تصرف يحتمل النقض لا يبطل به حق المولى القديم فينقض هذا التصرف ويرده إلى الأول ليأخذه المولى منه بالثمن فإن حق الآخذ إنما يثبت بالفداء من المالك لا من غير المالك ولو كان الآخذ أعتقها أو استولدها ثم تصادقوا أنها لم تكن ملكاً له وأنه كان ادعى باطلاً فإن كان ذو اليد أعطاها إياه على غير تصديق منه أبطل القاضي ما تصرف فيها الآخذ ما يحتمل النقض وما لا يحتمل النقض في ذلك سواء لأن الحق لهم وقد تصادقوا أنه لم يكن مالكاً فتبطل جميع تصرفاته بتصادقهم عليه إلا أن نسب الولد يثبت من الواطئ استحساناً لما قلنا فإن النسب بعد ثبوته لا يحتمل النقض والنسب حق الولد ولا يعتبر بتصادقهم في حقه .
فإن كان باعها من غيره ثم تصادق على ذلك@(4/159)
المشتري الأول والآخر وكذب المشتري الثاني أو كذبت الأمة بعدما أعتقها أو استولدها فإنه لا ينقض شيء من تصرف الآخذ ها هنا لأن تصادقهما ليس بحجة في إبطال حق المشتري الثاني ولا في إبطال حق الجارية في العتق وفي الاستيلاد ولكن الآخذ قد أقر على نفسه أنه أخذها بغير حق وقد صار مستهلكاً لها بتصرفه فيضمن قيمتها وإقراره حجة على نفسه فتقع المقاصة بالثمن الذي أعطى .
وليس عليه في الوطء عقر وولدها حر بغير القيمة لأن ضمان الغنيمة تقرر عليه من حين قبضها وذلك سبب لوقوع الملك له فيها فتبين بهذا الطريق أنه استولدها على ملكه .
وإن كان ذو اليد صدقه بما قال حين أعطاه ثم تصادقوا على أنها لم تكن للمدعي فإن الإعتاق والاستيلاد وكل تصرف لا يحتمل النقض يكون نافذاً فيها من الآخذ لأنهم تصادقوا على نفوذ ذلك التصرف فيه في الابتداء وبعد نفوذ ذلك التصرف غير محتمل للنقض فلا ينتقض بتصادقهم أيضاً ولكن يغرم المدعي قيمة الأمة لما بينا أنه أقر بأنه أخذها بغير حق وقد احتسبت عنده فيغرم قيمتها كما في الفصل المتقدم إذا كذبتهما الأمة .
ولو كان الآخذ باعها أو كاتبها ثم تصادقوا جميعاً فذلك كله باطل وهي مردودة على من كانت في يده لأن هذا التصرف محتمل للنقض وقد تصادقوا على أن من باشره لم يكن مالكاً لها فكان ذلك اتفاقاً منهم على بطلان هذا التصرف والحق لهم لا يعدوهم .
فإن كان عبداً فكاتبه واستوفى بعض بدل الكتابة ثم تصادقوا فإن المشتري من العدو يسترد العبد مع ما أخذ منه المكاتب لأن ذلك كسب عبده كما لو تصادقوا عليه فيكون هو أحق به .
ولو كان أدى جميع المكاتبة ثم تصادقوا لم يرد العتق الذي نفذ فيه لأنه لا يحتمل النقض بعد وقوعه ولكن يضمن المكاتب قيمة المكاتب يوم أدى الكتابة لإقراره على نفسه فصار مستهلكاً ملك الآخذ وإنما تحقق ذلك عند تحقق@(4/160)
استيفاء بدل الكتابة فلهذا يضمن القيمة معتبراً بذلك الوقت إن كانت القيمة ازدادت وتكون المكاتبة للمأخوذ منه دون المكاتب لإقراره أنه كسب عبده قد كان اكتسبه قبل أن يملكه هو بالضمان لأنه إذا ضمن القيمة يوم استوفى المكاتبة فإنما يملكه من هذا الوقت والكسب كان حاصلاً قبله فيرده على المأخوذ منه .
وإن كانت القيمة نقصت قبل أداء المكاتبة فأراد أن يضمنه قيمته يوم قبضه منه فله ذلك لأن المكاتب قد أقر بأنه قبضه لنفسه من غير حق فكان بمنزلة الغاصب له بزعمه .
ثم تصير المكاتبة للمكاتب ها هنا لأنه بالضمان ملكه من وقت القبض ها هنا والكسب إنما حصل بعد ذلك فيكون له إذ الكسب يملك بضمان الأصل تبعاً له .
وكذلك لو لم يكاتبه حتى مات العبد وقد اكتسب كسباً ثم تصادقا على ما بينا فللمأخوذ منه أن يضمنه قيمته يوم قبضه ويكون الكسب للذي مات في يده فإن كانت ازدادت قيمته ها هنا قبل الموت فأراد أن يضمنه قيمته زائدة لم يكن له ذلك لأنه بمنزلة المغصوب في يده وإنما يضمن الغاصب قيمة المغصوب إذا مات من وقت القبض إذ لا صنع له في الموت بخلاف ما تقدم فهناك باستيفاء بدل الكتابة يصير مستهلكاً له فكان له أن يضمنه قيمته باعتبار الاستهلاك فإن الاستهلاك بعد الغصب يتحقق وكل واحد منهما سبب لوجوب ضمان القيمة فله أن يضمنه بأي السببين شاء قال : وهذا بمنزلة ما لو اشترى عبداً من رجل بشيء لا ثمن له كالخمر أو الميتة فقبضه ومات في يده والذي أشار إليه رواية في أن المشتري بالميتة والدم يصير مضموناً بالقبض وإن كان لا يصير مملوكاً وهذا بخلاف ما أشار إليه في@(4/161)
المبسوط فهناك قال : العقد غير منعقد أصلاً فبقي القبض بتسليم المال وذلك غير موجب للضمان على القابض بخلاف المشتري بالخمر ولكن الأصح ما ذكر ها هنا لأنه يقبضه على أنه له ومثل هذا القبض وإن حصل بإذن المالك يكون موجباً ضمان القيمة .
ألا ترى أن هذا لا يكون دون المقبوض على سوم الشراء وذلك مضمون بالقيمة وإن لم يصر مملوكاً للقابض فهذا مثله .
ولو كان دبر العبد فاكتسب بعد التدبير مالاً ثم تصادقوا فالتدبير لا يحتمل النقض كالإعتاق ثم للمأخوذ منه أن يضمن المدبر الأكثر من قيمته يوم قبضه أو يوم دبره لأنه بالتدبير صار كالمستهلك له فإنه احتبس عنده بما جرى فيه من العتق يعني العتق المضاف إلى ما بعد الموت وقد بينا أن الاستهلاك موجب للضمان بعد القبض فكان له أن يضمنه بأي السببين شاء .
والكسب يكون للضامن لأنه حادث بعد التدبير وقد ملكه بالضمان من وقت القبض أو من وقت التدبير .
وإن كانت جارية فاستولدها فالجواب فيها كالجواب في المدبرة وإن كان دفعها إليه في الابتداء على غير تصديق منه أنها له فدبرها أو استولدها أو كاتبها فأدت ثم اكتسبت مالاً ثم تصادق الآخذ والمأخوذ منه على أنها لم تكن له في الأصل وكذبتهما الأمة فقد بينا أن تصادقهما في إبطال حق الأمة في العتق بعد ما ثبت بالظاهر لا يكون معتبراً يبقى حكم الضمان فيما بينهما فيكون للمأخوذ منه أن يضمن الآخذ أكثر القيمتين لأنه صار حابساً لها مستهلكاً بالتدبير أو الاستيلاد .
وما اكتسبت بعد ذلك فهو سالم للضامن لأنه ملكها بالضامن من حين تقرر عليه الضامن فيكون الكسب الحادث بعد ذلك مملوكاً له فإن قيل : كيف يكون الكسب له وهو مقر أنها أمة المأخوذ منه وإن كسبها مملوك له قلنا : نعم ولكن القاضي كذبه في هذا الإقرار حين@(4/162)
قضى عليه بقيمتها والمقر متى صار مكذباً في إقراره يبطل حكم إقراره ألا ترى أن المقر له لو كذبه بطل به إقراره فإذا كذبه القاضي أولى وفرق في الكتابة بين هذا وبين ما سبق فهناك إذا تعذر رد المكاتب بعد العتق بالداء وقد صدقهما قد بينا أنه يرد المكاتبة التي قبضها وها هنا إذا تعذر رد المكاتبة بتكذيبه إياهما لم يلزمه رد المكاتبة مع ضمان القيمة .
لأن هناك قد ثبت حق المأخوذ منه في ذلك الكسب لوجود التصديق من المكاتب لولا العتق الذي نفذ فيه فعرفنا أن تعذر الرد إنما كان باعتبار أنه اتصل به ما لا يحتمل النقض لا باعتبار تكذيب القاضي إياه في ذلك فيقتصر الحكم على المحل الذي وجد فيه ما لا يحتمل النقض وذلك غير موجود في المكاتبة المقبوضة وها هنا ما ثبت له الحق فيما اكتسبه بعد الكتابة لأن المكاتب يكذبهما في ذلك .
فلو كان هذا التصادق منهما قبل استيفاء البدل لم يكن له على المكاتب ولا على كسبه سبيل فلهذا قلنا : بأنه لا يلزمه رد المكاتبة عليه ها هنا ثم بهذا التقرير تبين أنه إذا ازدادت القيمة ها هنا فإنه يضمنه القيمة يوم كاتب لا يوم استوفى البدل لأن الاحتباس قد تحقق ها هنا بنفس الكتابة فلا يتصور تكرره باستيفاء البدل وها هنا إنما يتحقق الاحتباس باستيفاء بدل الكتابة فيضمنه قيمته عند ذلك .
وإذا تبين هذا يتضح به الفرق الأول فإنه إنما يملكه بالضمان من حين يتقرر عليه ضمان القيمة وها هنا إنما تقرر عليه ضمان القيمة بعقد الكتابة والمستوفى من المكاتبة كسب حادث بعد ذلك فيكون سالماً للضامن وهناك إنما ضمن قيمته من وقت الأداء والمستوفى كسب كان حاصلاً قبل ذلك ألا ترى أن المأذون المديون لو كاتبه مولاه فأدى فعتق كان للغرماء أن يضمنوه قيمته يوم عتق لأن مالية الرقبة كان مستحقاً لهم بالدين وقد صار مستهلكاً بقبضه بدل الكتابة فإن قبل ذلك كان لهم أن يردوه عبداً فيبيعوه في دينهم .
ثم يكون لهم أن يأخذوا المكاتبة إن لم تف القيمة بديونهم لأن حقهم كان ثابتاً في هذا الكسب لبقاء حقهم في مالية الرقبة .
ولو غصب عبداً قيمته@(4/163)
ألف فصار يساوي ألفين في يده ثم كاتبه الغاصب ولا يعلم أنه لغيره ثم صارت قيمته ثلاثة آلاف ثم أدى فعتق ثم تصادق الغاصب والمغصوب منه على ما كان بينهما وكذبهما العبد فإن القاضي يضمن الغاصب قيمة العبد يوم كاتبه لا يوم أدى فعتق لأن الاحتباس والاستهلاك قد حصل بنفس الكتابة ألا ترى انه لو لم يكن استوفى المكاتبة لم يعمل تصادقهما في حق المكاتب ولم يكن للمغصوب منه عليه سبيل فإذا ثبت أنه يضمن قيمته يوم كاتب ثبت أنه يملكه من ذلك الوقت فتكون المكاتبة سالمة للغاصب لأنه استوفاها من كسب كان بعد تقرر الضمان عليه فهو إيضاح لما سبق والله الموفق .
باب ما لا يكون فيئاً
وإن أحرز في أرض الحرب مسلم غصب من مسلم عبداً ثم ارتد وأحرزه بدار الحرب معه ثم ظهر المسلمون على المرتد فقتلوه وأخذوا ما معه فالعبد مردود على المغصوب منه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأن الآخذ كان ضامناً له ولا يخرجه من ضمانه إحرازه فإذا لم يبرأ من ضمانه لم يكن محرزاً له ومعنى هذا الكلام من وجهين .
أحدهما : أن ضمان الغصب يوجب الملك له عند تقرره عليه وفيما انعقد له بسبب الملك لا يكون مستولياً عليه متملكاً له على غيره بطريق القهر .
والثاني : أن رد العين قد لزمه بحكم الغصب على وجه إذا تعذر يخلفه ضمان القيمة فيه .
ثم بالردة واللحوق بدار الحرب لا يسقط @(4/164)
عنه ما لزمه من ضمان الرد ولا ما هو خلف عنه في ضمان القيمة لأن ذلك واجب في ذمته والإحراز بدار الحرب لا يتحقق فيما في ذمته .
فإذا أخذه المولى بعد القسمة بغير شيء يعوض الذي وقع في سهمه قيمته من بيت المال لاستحقاق نصيبه وكذلك لو كان ارتد قبل الغصب والمسألة بحالها لأنه ما دام في دار الإسلام فهو مخاطب بحكم الإسلام بمنزلة المسلم فيكون ملتزماً ضمانه بالغصب .
والمرأة إن كانت هي التي اغتصبت ثم ارتدت في هذا الحكم كالرجل والذمي إذا نقض العهد بعد الغصب أو قبله في هذا الحكم كالمسلم لأنه ملتزم للضمان وإنما أورده هنا لأن الذمي الناقض للعهد يكون فيئاً والمرتدة بعد اللحاق بدار الحرب كذلك ومع ذلك المغصوب يكون مردوداً على المالك لأنهما حين أحرزاه لم يتملكا المغصوب لكونهما ضامنين له فإذا بقي على ملك المسلم حتى ظهر عليه المسلمون كان مردوداً على صاحبه وإن كان من في يده فيئاً .
ولو كان المرتد اللاحق بدار الحرب أو الذمي الناقض للعهد خرج من دار الحرب فغصب مالاً من مسلم أو ذمي فأدخله دار الحرب ثم وقع الظهور على ما معه فذلك فيء لأنه صار من أهل الحرب حين التحق بهم مرتداً أو ناقضاً للعهد وغصب الحربي مال المسلم لا يكون موجباً للضمان عليه كما أن استهلاكه مال المسلم لا يوجب الضمان عليه بخلاف ما تقدم فهناك حين غصب كان هو من أهل دار الإسلام لو استهلك المال كان هو ضامناً له فكذلك إذا غصبه وإذا لم يكن ضامناً مطالباً بالرد يتم إحرازه له فيصير مالكاً ثم ظهور المسلمين على مال الحربي سبب لكون المال غنيمة فإن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة .
لأنه بمنزلة ما لو كان المحرز غيره من أهل الحرب ألا ترى أنه لو أسلم في هذا الفصل كان المال سالماً له وفي الفصل الأول لو أسلم كان@(4/165)
مأموراً برده على صاحبه وهنا على قياس الاستهلاك أيضاً فإنه لو استهلكه بعدما صار حربياً ثم أسلم لم يكن عليه ضمانه ولو استهلكه قبل أن يصير حربياً ثم أسلم فهو ضامن لصاحبه وكذلك لو أن حربياً دخل إلينا بأمان فاغتصب مسلماً أو معاهداً مالاً فأدخله في دار الحرب ثم أسلم كان عليه أن يرده ولو وقع في الغنيمة كان مردوداً على صاحبه قبل القسمة وبعدها بغير شيء .
بخلاف ما إذا خرج الحربي مغيراً لا مستأمناً لأنه إذا كان مستأمناً فهو ضامن للمغصوب بالأخذ كما يكون ضامناً لو استهلكه فلا يتم إحرازه فيه ولو خرج مغيراً لم يكن ضامناً لما أخذه لأنه لو استهلكه لم يكن ضامناً له فيتم إحرازه فيه .
ولو أن الغاصب الذي هو ضامن لما دخل دار الحرب ومعه المغصوب غصبه منه غريه فاختصما فيه إلى سلطانهم فمنع السلطان الغاصب الأول أن يعرض للغاصب الآخر فيه ثم أسلم أهل الدار فذلك المال للغاصب الآخر لا سبيل لأحد عليه لأن إحرازه له قد تم حساً باعتبار أنه غلبه وحكماً بقوة سلطانهم حين قصر يد الغاصب الأول عن استرداده فصار هو مالكاً له لأنه حربي حين أخذه فلا يكون ضامناً بالغصب كما لا يكون ضامناً بالاستهلاك ولأنه لو أخذه من يد المالك بهذه الصفة يصير متملكاً بالإحراز بالدار وبقوة سلطانهم فكذلك إذا أخذه من يد الغاصب من المالك ثم الغاصب الأول يضمن قيمته لصاحبه لأنه تعذر عليه رد العين بعدما لزمه ذلك وضمان القيمة خلف عن رد العين عند تعذره .
ولو ظهر المسلمون على الدار فإن صاحبه يأخذه قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة إن شاء لأن هذا المال صار غنيمة كسائر الأموال التي أخذت من الغاصب الثاني والحكم فيما صار غنيمة مما كان أصل الملك فيه لمسلم ما بينا .
ولو أن مسلمين مستأمنين أو أسيرين في دار الحرب اغتصب أحدهما صاحبه شيئاً ثم ارتد الغاصب ومنع المغصوب وتابعه على ذلك سلطان تلك البلاد ثم أسلموا جميعاً بعد ذلك فعلى@(4/166)
الغاصب رد المغصوب على صاحبه ولو ظهر المسلمون على الدار فهو مردود على صاحبه قبل القسمة وبعدها بغير شيء لأن الغاصب ضامن لما أخذه ها هنا أما في المستأمنين فغير مشكل لأن أحدهما لو استهلك مال صاحبه كان ضامناً كما لو قتله فكذلك بالغصب يصير ضامناً وأما في الأسيرين فمن أصحابنا من يقول : هذا الجواب قول محمد رحمة الله عليه لأن عنده الأسير كالمستأمن في حكم ضمان نفسه إذا قتله مسلم فكذلك في حكم ضمان ماله فأما عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لو قتل أحد الأسيرين صاحبه لم يضمن شيئاً من بدل نفسه فكذلك إذا غصب ماله لا يكون ضامناً له قال رضي الله تعالى عنه : والأصح أن هذا قولهم جميعاً لأن المسلم معتقد حكم الإسلام حيثما يكون فهو بهذا الاعتقاد يكون مستوجباً رد العين وضمان القيمة عند تعذر رد العين خلف عن رد العين في محل معصوم متقوم وبالأسر لا يخرج ماله من أن يكون متقوماً وهذا لأن المسلم وإن كان أسيراً فهو من أهل دار الإسلام ألا ترى أن زوجته التي في دار الإسلام لا تبين منه فيكون الإحراز في ماله باقياً حكماً باعتبار يده فلهذا كان الغاصب ضامناً له ومع كونه ضامناً لا يتم إحرازه .
ولو كانا أسما في دار الحرب والمسألة بحالها فإن أسلم أهل الدار قبل أن يظهر المسلمون عليهم رد المغصوب على المغصوب منه لما بينا أنه بنفس الإسلام صار ملتزماً أحكام الإسلام ومن حكم الإسلام رد المغصوب على المغصوب منه على ما قال صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى ترد وبعد ما وجب عليه رد العين لا يتم إحرازه له وإن ارتد وصار غالباً بقوة سلطانهم فإن لم يسلموا حتى ظهر عليهم المسلمون فالغاصب فيء لمن أصابه لأنه ما أحرز نفسه بدار الإسلام@(4/167)
فلا يكون معصوماً من الاسترقاق بعد ما صار حربياً بالردة .
بخلاف ما لو ارتد في دار الإسلام ولحق بدار الحرب لأن هناك حربيته كانت متأكدة بالإحراز بالدار فلا يحتمل الانتقاض بعد ذلك بحال .
ولا سبيل للمغصوب منه على المال قبل القسمة ولا بعدها لأن بمجرد إسلامه لم يصر ماله محرزاً بالدار حقيقة ولا حكماً إلا أنه إذا وقع الظهور على الدار والمال في يده فيكون هو أحق به لسبق إحرازه باعتبار يده وهذا لا يوجد فيما غصبه منه غيره ممن صار حربياً لأن ذلك المال ليس في يده حقيقة ولا حكماً فيكون غنيمة للمسلمين لا سبيل له عليه ومن أصحابنا من يقولك موضوع هذه المسألة فيما إذا كان الغاصب حربياً حين غصبه فأما إذا كان مسلماً ثم ارتد كما وضع عليه المسألة الأولى فلا يكون الجواب كذلك ألا ترى أنه قال : الغاصب فيء لمن أصابه ولم يقل : إنه يجبر على الإسلام ولو كان مراده أن يكون مسلماً حين يغصبه ثم يرتد لكان مجبراً على الإسلام فإما أن يقال : هذا غلط وقع من الكاتب أو وضع في المسلمين في الابتداء ثم ذهب وهمه إلى أنه وضع في حربي يغصب من المسلم أسلم في دار الحرب فأجاب بما قال : وهذا لأن الحرية تتأكد بنفس الإسلام على وجه لا يحتمل الانتقاض بعد ذلك بوجه من الوجوه فيقتل الغاصب إن لم يسلم فأما أن يجعل فيئاً فلا .
ولو استودع مسلم مسلماً شيئاً وأذن له إن غاب أن يخرجه معه فارتد المودع ولحق بدار الحرب فلحقه صاحبه وطلبه منه فمنعه واختصما فيه إلى سلطان تلك البلاد فقصر يد المسلم عنه ثم أسلم أهل الدار فالوديعة للمودع لا سبيل لصاحبها عليها لأنه ما كان ضامناً لها في دار الإسلام وحين منعها في دار الحرب@(4/168)
كان هو حربياً لو استهلكها لم يضمن فذلك إذا منعها ولأنه بهذا المنع يصير في حكم الغاصب فكأنه غصبه منه الآن ابتداء فيتم إحرازه بقوة السلطان .
فإن أسلم بعد ذلك كان سالماً له ولو وقع في الغنيمة رد على صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة ولو كان غصبه في دار الإسلام والمسألة بحالها فإنه مردود على المغصوب منه على كل حال لأنه كان ضامناً له في دار الإسلام فلا يصير ضامناً بالمنع بعد الطلب في دار الحرب إذ الغصب بعد الغصب لا يتحقق مع بقاء الأول فيجعل وجود هذا المنع كعدمه .
وإن كان حين طلبه في دار الحرب من الغاصب أعطاه إياه ثم وثب فأخذ منه ثانية وقصر السلطان يد المغصوب منه عن الاسترداد ثم أسلم أهل الدار فهو سالم للغاصب لأن حكم الغصب الأول قد انتهى بالرد على صاحبه ويسقط عنه ما كان لزمه من رد العين فيكون أخذه الآن غصباً ابتداء وذلك غير موجب للضمان عليه لأنه حربي في هذه الحالة فيصير محرزاً له بهذا الغصب حين منعه السلطان منه .
وكذلك لو لم يكن الغاصب رده ولكن المغصوب منه قدر عليه فأخذه ثم خاصمه فيه الغاصب فرده عليه سلطان أهل الحرب لأنه أخذه منه فهذا والأول سواء لأن الغاصب برئ من ضمانه حين أخذه المغصوب منه من يده فالتحق هذا المال بمال آخر أدخله مع نفسه فإذا غلب عليه الغاصب قوة السلطان يصير محرزاً له ولو أن رجلين أسلما في دار الحرب ثم غصب أحدهما صاحبه شيئاً وجحده فاختصما إلى سلطان تلك البلاد فسلمه للغاصب لكونه في يده ثم أسلم أهل الدار والرجلان مسلمان على حالهما .
فالمغصوب مردود على المغصوب منه لأن رد العين مستحق على الغاصب بحكم اعتقاده فإسلام أهل الدار لا يزيده إلا وكادة وبقوة سلطان أهل الحرب المسلم لا يصير محرزاً مال المسلم ولا متملكاً لأنهما لو كانا في دار الإسلام لم يكن هو متملكاً بحكم سلطان المسلمين فكيف يصير متملكاً بحكم سلطان أهل الحرب .
وإن لم يسلموا حتى ظهر المسلمون على الدار فالمغصوب فيء لمن أصاب ولا@(4/169)
سبيل عليه للمغصوب منه وإن أقام البينة لأن الغاصب لا يكون محرزاً لهذا المال أبداً والمغصوب منهه إنما يكون محرزاً باعتبار يده ولهذا قلنا : إنه لا يكون محرزاً عقاره لأن يده لا تكون متأكدة عليها ولا يكون محرزاً لما أودعه من حربي في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وإنما يكون محرزاً لما في يده أو لما أودعه مسلماً أو معاهداً باعتبار أن يد ذي اليد معتبرة محترمة صالحة للإحراز بها وهي قائمة مقام يده وهذا المعنى لا يوجد في يد الغاصب منه لأنها وإن كانت محترمة فهي ليست بقائمة مقام يده فيلتحق هذا المال بما ليس في يد أحد أصلاً فيكون فيئاً .
ألا ترى أنه بعد ما أسلم لو خرج إلى دارنا وخلف ماله في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار كان جميع ذلك المال فيئاً إلا ما أودعه مسلماً أو معاهداً ولا سبيل له عليه قبل القسمة ولا بعدها .
لأن ذلك حكم يبتنى على إحراز المال بدار الإسلام ولم يوجد وهذا كله قياس قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأما على قول محمد رحمه الله تعالى كل ذلك مردود عليه قبل القسمة وبعدها إلا شيئاً غصبه منه حربي وجحده ومنعه منه بقوة سلطان أهل تلك البلاد فإن إحراز الحربي لذلك المال عليه يتم بقوة السلطان فيصير متملكاً له فأما ما سوى ذلك كله مال المسلم فهو مردود عليه سواء كان في يده أو في يد غاصبه المسلم أو في يد مودعه وهو حربي وقد تقدم بيان هذه المسألة .
والله أعلم .
باب الوكالة في الفداء في العبد المأسور
ولو أن المأسور منه العبد وكل رجلاً بأن يأخذه له بالثمن من يد المشتري من العدو فذلك جائز لأنه يملك أخذه بنفسهن فيملك إقامة الغير فيه مقامه وبعد ما قام مقامه كان له أن يخاصم فيه حتى يأخذه بالثمن .
فإذا أخذه كان الثمن على الوكيل للذي@(4/170)
اشتراه من أهل الحرب لأن حق قبض العبد إليه فيكون وجوب تسليم الفداء عليه أيضاً وهذا لأنه هو المباشر للعقد وحقوق العقد تتعلق بالعاقد والعاقد فيما هو من حقوق العقد بمنزلة العاقد لنفسه كما في الوكيل بالشراء ابتداء فإن قيل : هذا في الشراء يستقيم باعتبار أن الوكيل يباشر سبب ملك مبتدأ فيجعل كأن الملك ثبت له ابتداء أو ثبت للموكل على وجه الخلافة عليه بحكم عقده وهذا المعنى لا يوجد ها هنا لأن العبد يعود إلى قديم ملك المأسور منه فينبغي أن يجعل الوكيل ها هنا كالمعبر عنه فلا يتعلق به حقوق العقد قلنا : هذا في حق المأسور منه إعادة إلى قديم ملكه كما قلتم فأما في حق المشتري من العدو وفي حق الوكيل هذا بمنزلة الشراء ابتداء لأن الوكيل أضاف العقد إلى نفسه فإنه قال : أعطني هذا العبد بالثمن الذي اشتريته به أو قال : أعطني لفلان فلا يكون هو معبراً عنه في موضع يكون مستغنياً عن إضافة العقد إليه حتى لو أضاف العقد إليه بأن قال : أعط فلانا بالثمن الذي أخذته به نقول : بأن يكون المال على الآمر وحق قبض العبد إليه لأنه جعل نفسه معبراً عن العبد فيكون بمنزلة الرسول لا يلحقه العهدة ونظيره الوكيل بالصلح إذا قال : صالحني من دعواك الدار التي في يد فلان على كذا فإنه يكون المال على الموكل ليس على الوكيل منه شيء وكان المعنى فيه وهو أن هذا العقد أخذ شبهاً من أصلين من الشراء المبتدأ باعتبار أنه يستغني عن الإضافة إلى الغير وباعتبار أن المشتري من العدو يزيل ملكه بما يأخذه من العوض ابتداء وشبهاً من الخلع والصلح عن دم العمد فيوفر حظه على الشبهين فنقول : لشبهة بالشراء إذا أضاف العقد إلى نفسه كان
هو المطالب بالعوض وكان حق القبض إليه ولشبهه بالخلع والصلح عن دم العمد إذا أضاف العقد إلى المولى القديم كان هو معبراً عنه فيكون المطالب بالثمن هو الموكل وحق القبض إليه ليس على الوكيل من ذلك شيء .
فإن دفع الوكيل الثمن وقبض العبد فدفعه إلى الآمر ثم وجد به الآمر عيباً قد كان حدث بعدما أسر من يد مولاه فالذي يخاصم في العيب هو الوكيل لأن الرد بالعيب من حقوق العقد والوكيل في حقوق هذا العقد بمنزلة العاقد لنفسه والحاصل أنه جعل هذا بمنزلة الشراء ابتداء في حكم الرد بالعيب حتى لا يكون بين الآمر وبين المأخوذ منه خصومة سواء كان الوكيل حاضراً أو غائباً ولكن الوكيل هو الذي يخاصم ويرد بالعيب ويسترد الثمن .
فإذا ادعى@(4/171)
المأخوذ منه أن العيب حادث بعدما أخذ منه فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر شاهد له فإن الحادث يحال بحدوثه على أقرب الأوقات حتى يثبت دليل الإسناد فيه إلى وقت حادث .
وبعدما قبض الآمر العبد ليس للوكيل أن يخاصم في عيبه إلا بأمر الآمر لأنه يخاصم للرد وهو يحتاج في ذلك إلى إخراجه من يد الآمر فلا يملك ذلك إلا بأمره .
وإن كان العبد في يد الوكيل لم يدفعه إلى الآمر بعدما كان له أن يرده من غير أمر الآمر وبعدما رده ليس للآمر أن يأبى ذلك لأنه بمنزلة الوكيل بالشراء وهذا الحكم في الوكيل بالشراء وقد قررناه في البيوع من شرح المختصر .
فإن ادعى المأخوذ منه أن العيب كان عند الآمر قبل الأسر فالقول قول الوكيل مع يمينه لأن المأخوذ منه أدعى في العيب ها هنا تاريخاً سابقاً فلا يقبل قوله إلا بحجة فيكون القول قول المنكر لذلك مع يمينه .
فإذا حلف الوكيل رده بالعيب حضر الآمر أو لم يحضر إلا أن يقيم المأخوذ منه البينة على ما ادعى فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصمين وإنما على المأخوذ منه أن يعيده إلى قديم ملكه على الوجه الذي أخذ منه وقد وجد ذلك وإن لم يكن له بينة فاستحلف الوكيل فأبى أن يخلف لزم ذلك الآمر لأن الوكيل ملجأ إلى هذا فإنه لا يمكنه أن يحلف كاذباً إذا كان عالماً بأن العيب كان عند الآمر وإنما لحقته هذه الضرورة في عمل باشره لغيره فهو نظير الوكيل بالبيع يرد عليه بالعيب يأبى اليمين .
فإن أقر الوكيل أن العيب كان عند الآمر وجحد الآمر فللآمر أن يلزم الوكيل إن شاء لأنه غير ملجأ إلى هذا القرار لتمكنه من أن يسكت حتى يعرض عليه اليمين ويقضي بنكوله ونظيره الوكيل بالبيع إذا رد عليه بعيب يحدث مثله بإقراره .فإن أقام الوكيل البينة أن@(4/172)
العيب كان عند الآمر لزم العبد الآمر لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الآمر والوكيل خصم في إثبات ذلك لحاجته إلى أن يبرئ نفسه من العهدة .
ولو أن الوكيل أبرأ المأخوذ منه من العيب الحادث عنده صح إبراؤه في حقه لأنه كالعاقد لنفسه في الخصومة في هذا العيب فكذلك في الإبراء عنه إلا أن الآمر بالخيار إن شاء رضي بما رضي به الوكيل فيأخذ العبد وإن شاء ألزمه الوكيل لأن إسقاطه صحيح في حق من عامله ولا يصح في حق الموكل وهو في هذا الحكم نظير الوكيل بالشراء إذا رضي بالعيب بعد الشراء وأبى الموكل أن يرضى به وهذا لأنه يثبت للآمر حق الرد على الوكيل وللوكيل حق الرد على المشتري من العدو فإنما يعمل رضاء الوكيل في إسقاطه حقه لا في إسقاطه حق الآمر فإن قيل : كيف يملكه الوكيل بالثمن وحكم هذا العقد وعوده إلى قديم ملك المأسور منه لا ثبوت الملك فيه ابتداء لأحد قلنا : ما كان من حكم العقد فقد تم لأنه عاد إلى قديم ملك المولى إلا أنه بما حدث من إباء الآمر الرضاء بالعيب ورضاء الوكيل به يصير الآمر كأنه ملكه من الوكيل بما يغرمه من الثمن فلهذا كان الملك للآمر وفي الوكيل بالشراء هكذا يكون فإن الوكيل إنما يتملكه على الآمر على البائع .
ولو كان الآمر قبض العبد وغاب ثم جاء الوكيل به ليرده بالعيب فقال المأخوذ منه : لم يأمرك الآمر برده بالعيب وقال الوكيل : قد أمرني فالقول قول المأخوذ منه لأن أمره إياه بالرد عارض يدعيه الوكيل وخصمه منكر متمسك بما هو الأصل فالقول قول المنكر مع يمينه على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير .
وإن قال المأخوذ منه أريد يمين الوكيل أن الآمر قد أمره بالرد فلا يمين على الوكلي لأنه مدع فعليه البينة وإنما اليمين في جانب المنكر فلا يجوز تحويلها عن موضعها .
ولو ثبت الأمر فقال المأخوذ منه : قد رضي الآمر بالعيب وكذبه الوكيل فالقول قول الوكيل لأن المأخوذ منه ها هنا يدعي شيئاً عارضاً وهو رضاء الآمر بالعيب .
ولو ادعى الرضاء على الوكيل كان القول قول الوكيل لإنكاره فكذلك إذا ادعى الرضاء على الآمر لا@(4/173)
يمين على الوكيل في ذلك لأن الرضاء مدعى على غيره وهو الآمر .
فلو استحلف الوكيل كان على وجه النيابة ولا نيابة في اليمين لأن الآمر لا يحلف بهذه الدعوى لو كان حاضراً لأنه ما عامل المأخوذ منه بشيء حتى يحلف فإذا كان لا يحلف من ادعى الرضاء عليه فكيف يحلف غيره على ذلك ! وإن ادعى الرضى على الوكيل وأراد يمينه فله ذلك لأنه ادعى عليه ما لو أقر به لزمه وقد بينا أنه في هذا الخصومة كالعاقد لنفسه .
فإذا جحد الرضى بعدما ادعى عليه ذلك استحلف فإن نكل لزمه العبد ثم الآمر بالخيار لأنه بنكوله صار راضياً بالعيب إما بطريق البدل أو بطريق الإقرار به إن كان أقام المأخوذ منه البينة أن الآمر قد رضي بالعيب وهو غائب فقبلت بينته لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو باتفاق الخصمين فإن حضر الآمر وجحد الرضاء لم يلتفت إلى ذلك لأن الوكيل خصم عنه وبعدما ثبت رضاه بالبينة على خصمه لا يلتفت إلى جحوده .
ولو كان الوكيل عالماً بالعيب حين أخذه فهو لازم للآمر سواء كان العيب مستهلكاً للعبد كالعمى أو غير مستهلك للعبد في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن كان العيب غير مستهلك فكذلك الجواب وإن كان مستهلكاً للعبد لم يلزم الآمر إلا أن يشاء وهذا نظير الوكيل بالشراء إذا اشترى الأعمى بمثل ثمنه والخلاف فيه معروف إلا أن هناك شرط أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه أن يكون شراؤه بمثل ثمنه لأن تصرف الوكيل في الغبن الفاحش في الشراء لا يلزم الآمر وها هنا الثمن مسمى وهو ما أخذه به المشتري من العدو فيلزم الآمر إذا أخذه بذلك الثمن على كل حال وعندهما هناك العقد ينفذ على الوكيل إذا تعذر تنفيذه على الموكل وها هنا لا ينفذ على الوكيل لأنه يأخذه بغير رضى المشتري من العدو باعتبار قديم الملك وقديم الملك كان للآمر لا للوكيل فإذا تعذر تنفيذه على الآمر كان باطلاً بخلاف ما تقدم وهو إذا علم بالعيب فرضي الآمر به فإن هناك قد عاد إلى قديم ملكه وتم موجب ذلك العقد ثم الآمر يلزمه الوكيل باعتبار أنه لا يرضى بعيبه فيكون ذلك بمنزلة التمليك منه ابتداء بعوض .
ولو قال رجل للمشتر@(4/174)
من العدو إن مولاه وكلني بأخذه منك بالثمن فدفعه إليه بقضاء أو بغير قضاء ثم حضر المولى فجحد ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الآمر مدعى عليه وهو منكر فالقول قوله لإنكاره ولو أقر به لزمه أخذ الوكيل له فإذا أنكر استحلف عليه .
فإن حلف رجع العبد إلى المشتري وليس للوكيل أن يقول آخذه لنفسي لأنه ما أخذه ابتداء على وجه التملك بل على وجه الإعادة إلى قديم ملك المولى بالفداء فإذا تعذر ذلك بطل أخذه بخلاف مدعي الوكالة من جهة الشفيع بالأخذ له بالشفعة إذا أخذه ثم أنكر الشفيع الوكالة فإن المأخوذ يكون للوكيل بذلك الثمن لأنه أخذه على وجه التملك ابتداء بعوض فإن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء المبتدأ فإذا تعذر تنفيذه على الموكل بجحوده كان نافذاً على الوكيل .
وإن أقام الآخذ البينة أن المأسور منه وكله بأخذه كان الثابت من الآمر بالبينة كالثابت بإقرار الخصم فيكون العبد للآمر وحكم العهدة فيه كما بينا في الفصل الأول .
ولو أن أجنبياً وكل رجلاً بأن يشتري العبد المأسور من المشتري من العدو فاشتراه بثمن معلوم ثم حضر المولى فليس له أن ينقض البيع الثاني ولكن يأخذه بالثمن الثاني أو يدع لأن الشرع أثبت له حق الأخذ بالفداء من غير أن ينقض تصرفاً سبق أخذه كما قررنا .
فإن وجده في يد الوكيل بالشراء فله أن يأخذه منه بالثمن وإن كان الموكل غائباً لأن الوكيل ما دام العبد في يده في حكم المشتري لنفسه ثم البائع من الموكل ولهذا يحبسه عنه بالثمن إذا نقده من مال نفسه ويكون له أن يرده بالعيب من غير استطلاع رأي الموكل .
وإن كان الوكيل قد دفعه إلى الموكل فلا سبيل للمولى القديم عليه ولكنه يتبع الموكل فيأخذ منه العبد ويدفع إليه الثمن لأن حكم يد الوكيل قد انتهى بالتسليم إلى الآمر ولهذا لا يرده بالعيب إلا برضاء الآمر ولا يحبسه عنه بالثمن بعد ذلك وهو أنه يخاصم ذا اليد لأنه إنما يخاصم ليأخذه وإنما@(4/175)
يتمكن من الآخذ ممن في يده .
فإن حضر بعدما اشتراه الوكيل قبل أن يقبضه من المشتري من العدو فليس له أن ينقض شراء الوكيل قصداً ولكن يكون له أن يأخذه من يد المشتري من العدو بالثمن الذي اشتراه به الوكيل إن شاء لأنه صادفه في يده فيكون له أن يأخذه منه بمنزلة الشفيع يأخذ بالشفعة من يد البائع بالثمن قبل أن يسلمه إلى المشتري إلا أن هناك يشترط حضرة المشترى لأنه يتملكه بالأخذ ابتداء وهو ملك المشتري وههنا المولى لا يتملكه ابتداء ولكن يعيده إلى قديم ملكه فلا يشترط حضور غير ذي اليد لأخذه وإذا أخذه من يده كانت عهدته عليه لأن بأخذه فات القبض المستحق بالعقد الذي كان بينه وبين الوكيل فينتقض ذلك العقد من الأصل فيما بينهما حكماً لأخذه ويلتحق هذا بما لو أخذه قبل شراء الوكيل وهذا هو الحكم في الشفيع أيضاً إذا أخذه من يد البائع وإن كان الوكيل قد قبضه فأخذه من يده فعهدته عليه وكذلك إن كان سلمه إلى الموكل فأخذه من يده فعهدته عليه .
فإن وجد به عيباً كان حادثاً به بعدما أسر من يده فرده بقضاء قاض فإن كان رده على الموكل أو على الوكيل فهو على الموكل لأنه بهذا الرد انفسخ قبضه فيعود الحكم على ما كان قبل قبضه وإن كان أخذه من المشتري من العدو فإنه يعود بالرد إليه ولا سبيل للموكل ولا الوكيل عليه في أخذه لما بينا أن العقد الذي جرى بينهما قد انتقص بفوات القبض المستحق له فلا يعود إلا بالتجديد ونظيره الشفعة .
وإن كان رده على الوكيل بغير قضاء قاض فهو للوكيل لأن هذا بمنزلة الشراء المبتدأ في حق الموكل فلا يلزمه حكمه .
ولو كان المولى القديم وكل وكيلاً بأخذه من المشتري من العدو بالثمن فأخذه وهلك في يده قبل أن يسلمه إلى الموكل فهلاكه على الموكل لأن الوكيل يقبض له فيده كيده @(4/176)
ما لم يمنعه منه وإن هلك في يد المشتري من العدو قبل أن يقبضه الوكيل فقد انتقض حكم ذلك الأخذ ويرجع الوكيل بالثمن على المشتري من العدو فيدفعه إلى الآمر إن كان أعطاه من ماله ويسلم من ماله إن كان أعطاه من مال نفسه وإن توى الثمن على الذي أعطاه لم يكن له أن يرجع على الموكل بشيء .
لأنه في إعطاء الثمن من مال نفسه كان عاملاً له وإنما كان عاملاً لنفسه في إسقاط المطالبة عنه فإن المطالبة بالثمن توجهت عليه دون الآمر .
وبهذا كان له أن يحبسه من الآمر إذا قبضه حتى يستوفي منه الثمن لنفسه فإن هلك بعد الحبس هلك من مال الوكيل وبطل الثمن عن الوكيل لأنه حين منعه فكأنه هو الذي أعطاه إياه بالثمن وقد عرف هذا الحكم في الوكيل بالشراء فهذا قياسه .
وإن تعيب في يد الوكيل بعدما منعه فالمولى القديم بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ألزمه الوكيل بالثمن لأن الوكيل في حقه بعدما منعه قام مقام المشتري من العدو ولهذا استوى الحكم بين ما إذا تعيب بصنيع الوكيل وبين ما إذا تعيب بغير صنيعه كما يستوي في حق المشتري من العدو بخلاف الوكيل بالشراء في هذا الفصل فإنه إذا عيبه بعدما منعه سقطت حصة العيب من الثمن عن الموكل لأن الوكيل في هذا قائم مقام البائع ومعنى الفرق أن الموكل إنما يأخذه ها هنا بالفداء ليعيده إلى قديم ملكه .
فكان الفداء بمقابلة الأصل دون الوصف فسواء فات الوصف بصنع مكتسب أو لا بصنع أحد لا يسقط شيء من الفداء بخلاف الشراء المبتدأ فإن الوصف يأخذ حظاً من الثمن في الشراء إذا صار مقصوداً بالتناول .
ولو أن الوكيل أقام المشتري من العدو لم يجز ذلك على الموكل لأن بأخذه عاد إلى قديم ملك الموكل فليس للوكيل أن يخرجه عن ملكه بعقد ينشئه من غير رضاه والإقالة في حقه بمنزلة البيع المبتدأ .
ولو كان المشتري من العدو وكل رجلاً بأن يدفعه إلى مولاه بالثمن فهذا جائز ولا وكيل هو المؤاخذ بالعبد حتى يسلمه إليه وهو الذي يأخذ الثمن من المولى بمنزلة الوكيل بالبيع وهذا الحكم في الفصل أظهر لما بينا أن المشتري من العدو يزيل ملكه بعوض فهذا التصرف في حقه بمنزلة البيع المبتدأ وإن كان في حق المولى هو إعادة إلى قديم ملكه بالفداء .
ولو أن المشتري من العدو باع@(4/177)
العبد من إنسان بجارية ولم يتقابضا حتى حضر المولى القديم فله أن يأخذه ممن في يده بقيمة الجارية لأنه ليس له حق نقض التصرف فإنما يأخذه بمثل الثمن الثاني والجارية ليست من ذوات الأمثال فيأخذها بقيمتها كالشفيع ثم ينتقض البيع فيما بين البائع والمشتري الآخر لفوات القبض المستحق بالعقد فتبقى الجارية على ملك المشتري الآخر وقيمتها للمشتري من العدو وعهدة المولى على المشتري من العدو وإن كان حضر بعد التقابض أو بعد ما قبض العبد قبل أن يسلم الجارية أخذه بقيمتها من المشتري الآخر وعهدته عليه وكانت الجارية للمشتري من العدو لأن البيع بينهما باق قد انتهى بقبض العبد .
فإن وجد المشتري من العدو بالجارية عيباً ردهاً على المشتري الآخر وأخذ منه قيمة الجارية التي أخذها ليس له غير ذلك لأن حق المشتري من العدو في قيمة الجارية .
ألا ترى أنه لو أخذه المولى منه أخذه بقيمة الجارية ولو رد الجارية بالعيب قبل أن يأخذ العبد من المشتري الآخر واسترد العبد ثم حضر المولى كان له أن يأخذه بقيمة الجارية فإن مناقضتهما البيع لا يسقط حق المولى كان له أن يأخذه بقيمة الجارية إذا كان الرد بالعيب بغير قضاء القاضي فعرفنا أن حقه في قيمة الجارية والمشتري قادر على تسليم قيمة الجارية إليه فلا يلزمه شيء آخر .
ونظير هذا الشفعة وقد بينا هناك أن بدل الدار كانت جارية قبل أخذ الشفيع فيأخذه بتحويل إلى قيمة الجارية وكذلك بدل الجارية بعد أخذ الشفيع الدار قيمتها فكذلك في هذا الموضع .
وإن كان رد الجارية بقضاء القاضي قبل أن يأخذ المولى العبد واسترد العبد ثم حضر المولى فإنه يأخذه من المشتري من العدو بالثمن الأول لأن البيع الثاني حين انتقض بقضاء القاضي صار كأن لم يكن وهذا بخلاف الشفعة فإن هناك لو جعلنا الذي جرى بين البائع والمشتري كأن لم يكن بطل حق الشفيع وهما لا يملكان إبطال حق الشفيع بعدما ثبت حقه في الأخذ وها هنا حق المولى القديم لا يبطل وإن جعلنا البيع الثاني كأن لم يكن وكذلك لو كان المشتري الآخر هو الذي وجد العيب بالعبد فرده على التفصيل الذي قلنا .
ولو تقايلا أخذ المولى عبده بقيمة الجارية إن شاء لأن الإقالة في@(4/178)
حقه كالبيع المبتدأ وقد بينا أن حق الأخذ يثبت له من غير أن ينقض تصرفاً فإنما يأخذه بآخر الأثمان .
ولو كان المشتري الآخر قبض العبد ولم يره أو شرط الخيار لنفسه ثم حضر المولى فله أن يأخذه من يده بقيمة الجارية لأنه صادفه في يده فإن أخذه فالمشتري الآخر بالخيار إن شاء سلم الجارية للمشتري من العدو وكانت له القيمة التي أخذها من المولى وإن شاء سلم القيمة إليه وأخذ منه الجارية في خيار الشرط وفي خيار الرؤية الجارية تسلم للمشتري من العدو فيكون قيمتها للمشتري الآخر .
لأن في خيار الرؤية قد كان مالكاً راضياً بالعقد إلا أنه كان متمكناً من الرد للجهل بأوصاف المعقود عليه وقد تعذر رده حين أخذه المولى من يده فيسقط خياره وأما خيار الشرط فقد كان مانعاً خروج الجارية من ملكه لأن خياره فيها خيار البائع وأما خيار الشرط فقد كان مانعاً خروج الجارية من ملكه لأن خياره فيها خيار البائع فهو يعدم رضاه بتمليك الجارية عليه فبعدما أخذ العبد من يده يبقى هو على خياره فإن شاء أمضى العقد في الجارية وسلمها إليه وإن شاء فسخ العقد فيها ورد قيمة الجارية لما بينا أن بأخذ المولى القديم العبد تعين حق المشتري من العدو في قيمة الجارية .
وإن لم يختر شيئاً حتى مضت مدة الخيار فالجارية للمشتري من العدو لأن بمضي المدة سقط خياره ويتم البيع فيها فيلزمه تسليمها وتكون القيمة للمشتري الآخر .
ولو كانا تبايعا ولم يتقابضا حتى رد المشتري الآخر العبد بخيار الرؤية أو خيار الشرط أو خيار العيب ثم حضر المولى القديم فله أن يأخذه من المشتري من العدو بالثمن الأول الذي اشتراه به من العدو لأن بالرد بهذه الأسباب قد انتقض البيع الثاني من الأصل فصار كأن لم يكن .
ولو لم يفسخ المشتري الآخر العقد حتى حضر المولى القديم فأخذ العبد من المشتري من العدو بقيمة الجارية فإن القيمة تكون للمشتري من العدو عليه رد الجارية على المشتري الآخر إن كان قبضها منه لما بينا أن@(4/179)
العقد الثاني قد انتقض لفوات القبض المستحق به سواء كان فيه خيار أو لم يكن فإن قضى القاضي للمولى بالعبد بقيمة الجارية ثم رأى به عيباً حادثاً بعدما قبضه أو قبل أن يقبضه فرده فلا سبيل للمشتري الآخر على العبد لأن بنفس القضاء به للمولى بقيمة الجارية قد انتقض البيع الثاني فيما بينهما فلا يعود إلا بالتجديد وهو نظير الشفعة في هذا الفصل فإن قضاء القاضي للشفيع بالشفعة على البائع يتضمن نقض البيع فيما بين البائع والمشتري حتى لا يعود وإن رده الشفيع بالعيب .
ولو كان المولى القديم وكل رجلاً بأخذه من المشتري من العدو بالثمن فقال الوكيل للمشتري : أعطه فلاناً بالثمن وقال : قد فعلت فالثمن على الآمر ها هنا دون الوكيل لأنه جعل نفسه ها هنا سفيراً ولا عاقداً بخلاف ما لو قال : أعطنيه .
ولو قال : أعطه فلاناً بالثمن على أني ضامن لك الثمن أو أعطه إياه بثمنه من مالي فالثمن لازم للوكيل لأن إضافة العقد إلى مال نفسه أو اشتراط الضمان على نفسه بمنزلة إضافة العقد إلى نفسه أو أقوى منه أما بيان أنه بمنزلة إضافة العقد إلى نفسه في الوكيل بالصلح فإنه لو قال : صالح فلاناً من هذه الدار على ألف ردهم على أني لها ضامن أو على ألف ردهم من مالي كان المال على الوكيل دون الآمر بمنزلة ما لو قال : صالحني وأما بيان كونه أقوى ففي الوكيل بالخلع فإنه لو قال : اخلعها على ألف درهم من مالي أو على ألف على أني ضامن لها كان المال على الوكيل ومعلوم أن بإضافة العقد إلى الوكل ها هنا لا يجب المال عليه فعرفنا أن اشتراط الضمان أو إضافة العقد إلى ماله يكون أقوى من إضافة العقد إلى نفسه في وجوب البدل عليه وإذا وجب عليه لم يكن للمشتري من العدو على الآمر شيء وإذا أخذ العدو إبريق فضة لرجل وزنه مائتا درهم فاشتراه منهم مسلم بمائتين وخمسين لجودته وصناعته فلمالكه القديم أن يأخذه بمائتين وخمسين إن شاء لأن المشتري من العدو أعطى في فدائه هذا المقدار وقد بينا أن المولى القديم إنما يأخذه بما أعطى المشتري من العدو في فدائه فيكون هذا مستقيماً لأنه لا يتملكه ابتداء بعوض@(4/180)
وإنما يعيده إلى قديم ملكه بالفداء فلا يتمكن معنى الربا في هذه المعاملة .
وإذا ثبت أن له أن يأخذه بهذا المقدار ثبت أن له أن يوكل غيره ليأخذه به لأن الوكيل قام مقام الموكل وإن افترقا قبل التقابض لم ينتقض الأخذ وقد بينا هذا فيما سبق أنه فداء وليس بشراء مبتدأ فلا يشترط فيه القبض في المجلس .
فإن أعطى الوكيل الفداء من ماله وقبضه فله أن يمنعه من الموكل حتى يأخذ منه الفداء وإن هلك بعد المنع في يد الوكيل هلك بجميع الفداء لما بينا أن الوكيل بعدما منعه قام في ذلك مقام المشتري من العدو وأوضح هذا برجل وكل رجلاً بأن يشتري له أرضاً فيها نخل بكر من تمر فاشترى الوكيل ونقد الكر من ماله وقبضه ثم منعه من الآمر حتى يدفع إليه الكر فأثمرت في يد الوكيل كراً فإنه يكون للموكل أن يقبضه مع التمر بكر دفعه إليه ولا يتمكن معنى الربا بينهما بالزيادة التي حدثت في يده لأن الوكيل قام في ذلك مقام البائع ولو أثمرت كراً في يد البائع قبل القبض لم يبطل البيع فكذلك إذا أثمرت في يد الوكيل وكذلك إن كان الوكيل رأى بالمبيع عيباً فرضي به وأبى الموكل أن يرضى به فإن ذلك يلزم الوكيل بالكر ولا يتمكن فيه الربا لأن هذا ليس بمبايعة تجري بينهما ابتداء وإنما يتحقق الربا في المعاوضة على سبيل المقابلة .
ألا ترى أن الوكيل لو رأى العيب بالأرض فردها عليه كان قد رد أرضاً ونخلاً وكراً من تمر بكر من تمر فذلك جائز وهذا إنما يستقيم فيما إذا أثمرت في يد البائع قبل أن يقبضه الوكيل فأما إذا أثمرت بعد القبض فليس للوكيل حق الرد لأن الزيادة الحادثة بعد القبض تمنع الرد بالعيب .
وأوضح هذا أيضاً بما لو كان الوكيل اشترى للآمر عبداً بألف درهم وقيمته ألف وخمسمائة فقتله رجل خطأ في يد البائع أو في يد الوكيل فالجواب فيه على ما بينا في النخيل إذا أثمرت لأن في كل واحد من الموضعين لا يتمكن بسبب هذه الزيادة حقيقة الربا على الوجه الذي يتمكن في البيع المستقبل وعلى هذا أيضاً مسألة الإبريق لو رأى الوكيل العيب به فأبى المشتري من العدو ثم أبى الآمر أن يرضى به فالإبريق للوكيل بما أدى به من الفداء وإن كان أكثر@(4/181)
باب ما يكره إدخاله دار الحرب وما لا يكره
قال رضي الله تعالى عنه : لا بأس بأن يحمل المسلم إلى أهل الحرب ما شاء إلا الكراع والسلاح والسبي وألا يحمل إليهم شيئاً أحب إلي لأن المسلم مندوب أن يستبعد من المشركين قال صلى الله عليه وسلم : لا تستضيئوا بنار المشركين وقال : أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى نارهما وفي حمل الأمتعة إليهم للتجارة نوع مقاربة معهم فالأولى ألا يفعل ولأنهم يتقوون بما يحمل إليهم من متاع أو طعام وينتفعون بذلك .
والأولى للمسلم أن يحترز عن اكتساب سبب القوة لهم إلا أنه لا بأس بذلك في الطعام والثياب ونحو ذلك لما روي أن ثمامة بن أثال الحنفي أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقطع الميرة عن أهل مكة وكانوا يمتارون فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأذن له في حمل الطعام إليهم فأذن له في ذلك وأهل مكة يومئذ كانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا أنه لا بأس بذلك وهذا لأن المسلمين يحتاجون إلى بعض ما في ديارهم من الأدوية والأمتعة فإذا منعناهم ما في ديارنا فهم يمنعون أيضاً ما في ديارهم .
وإذا دخل التاجر إليهم ليأتي المسلمين بما ينتفعون به من ديارهم فإنه لا يجد بداً من أن يحمل إليهم بعض ما يوجد في ديارنا فلهذا رخصنا للمسلمين في ذلك إلا الكراع والسبي والسلاح فإنه لا يحمل إليهم شيء من ذلك منقول عن@(4/182)
إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم وهذا لأنهم يتقوون بالكراع والسلاح على قتال المسلمين وقد أمرنا بكسر شوكتهم وقتل مقاتلتهم لدفع فتنة محاربتهم كما قال الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } البقرة : فعرفنا أنه لا رخصة في تقويتهم على محاربة المسلمين .
وإذا ثبت هذا في الكراع والسلاح ثبت في السبي بطريق الأولى لأنه إما أن يقاتل بنفسه أو يكون منهم من يقاتل وتقويتهم بالمقاتل فوق تقويتهم بآلة القتال .
وكذلك الحديد الذي يصنع منه السلاح لأنه مخلوق لذلك في الأصل في قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } الحديد : 25 والمصنوع منه وغير المصنوع في كراهية الحمل إليهم سواء وهذا لأن الحديد أصل السلاح والحكم الثابت فيما يحصل من أصل يكون ثابتاً في الأصل وإن لم يوجد فيه ذلك المعنى ألا ترى أن المحرم إذا كسر بيض الصيد يلزمه الجزاء كما يلزمه بقتل الصيد .
واستدل عليه بحديث الحسن رضي الله تعالى عنه أنه كان يكره بيع السلاح في الفتن وهكذا نقول فإن بيع السلاح في أيام الفتنة اكتساب سبب تهييجها وقد أمرنا بتسكينها قال صلى الله عليه وسلم : الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها فإذا كان ذلك مكروهاً في زمان الفتنة ممن هو من أهل الفتنة فلأن يكره حمله إلى دار الحرب للبيع منهم كان أولى .
وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان لأن أموالهم لا تصير معصومة بدخوله إليهم بأمان ولكنه ضمن بعقد الأمان ألا يخونهم فعليه التحرز عن الخيانة وبأي سبب طيب أنفسهم حين أخذ المال فإنما أخذ المباح على وجه منعه عن الغدر فيكون ذلك طيباً له الأسير والمستأمن في ذلك سواء حتى لو باعهم درهماً بدرهمين@(4/183)
أو باعهم ميتة بدراهم أو أخذ مالاً منهم بطريق القمار فذلك كله طيب له وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما وقال سفيان الثوري : يجوز ذلك للأسير ولا يجوز للمستأمن وهو قول أبي يوسف رضي الله عنه ولكنا نقول : المستأمن إنما يفارق الأسير في الأخذ بغير طيب أنفسهم فأما في الأخذ بطيب أنفسهم فهو كالأسير لأن الواجب عليه ألا يغدر بهم ولا غدر في هذا .
ثم استدل عليه بحديث مخاطرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه مع أهل مكة في غلبة الرو مع أهل فارس حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : زده في الخطر وأبعد في الأجل فلو لم يكن ذلك جائزاً معهم لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما قمرهم أبو بكر رضي الله عنه وأخذ الخطر فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تصدق به فبظاهره يستدل سفيان فيقول : لو كان ذلك له طيباً لم يأمره بالتصدق ولكنا نقول : لو كان ذلك حراماً لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقامرهم عليه ولو لم يملكه بهذا الطريق ما أمره أن يتصدق به فعرفنا بهذا أن ذلك كان جائزاً ولكن ندبه إلى التصدق شكراً لله تعالى على ما أظهر من صدقه .
واستدل بمصارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ركانة حين كان بمكة ثلاث مرات في كل مرة بثلث غنمه ولو كان مكروهاً ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما صرعه في المرة الثالثة قال : ما وضع أحد جنبي قط وما أنت صرعتني فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم عليه فبظاهره يستدل سفيان فيقول : لو كان ذلك طيباً ما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ولكنا نقول : لو كان ذلك مكروهاً ما دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما رد الغنم عليه تطولاً منه عليه وكثيراً ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين يؤلفهم به حتى يؤمنوا .
واستدل عليه أيضاً بحديث بني قينقاع فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلاهم قالوا : إن لنا ديوناً لم تحل بعد فقال : تعجلوا أو ضعوا ولما أجلى بني النضير قالوا : إن لنا ديوناً على الناس فقال : ضعوا أو تعجلوا@(4/184)
ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين المسلمين فإن من كان له على غيره دين إلى أجل فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز كره ذلك عمر وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم ثم جوزه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقهم لأنهم كانوا أهل حرب في ذلك الوقت ولهذا أجلاهم فعرفنا أنه يجوز بين الحربي والمسلم ما لا يجوز بين المسلمين قال : فإن كان المسلمون في عسكرهم والمشركون كذلك فليس ينبغي أن يبايع بعضهم بعضاً إلا بما يجوز بين المسلمين وإنما يجوز ما ذكرنا إذا كانوا في دار الحرب أو في منعة المشركين فأما إذا كان أحدهما في منعة المسلمين فهذا وما لو كان في منعة المسلمين سواء وأكثر مشايخنا قالوا : هذا الجواب غلط فإن جواز الأخذ باعتبار أنه لا عصمة لما لهم وفي هذا لا فرق بين أن يكون المسلم في منعتهم وبين أن يكون هو في منعة المسلمين والحربي في منعة المشركين إلا أن محمداً رحمه الله تعالى اعتمد فيما أجاب به الموضع الذي تجري فيه المعاملة فقال : إن كانا جميعاً في موضع لا يجري فيه أحكام الإسلام يجوز هذه المعاملة وإن كان أحدهما في موضع يجري فيه أحكام المسلمين لا يجوز هذه المعاملة واستدل عليه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما فإن نوفل بن عبد الله لما قتل في الخندق سأل المشركون المسلمين جيفته بمال يعطونه المسلمين فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وكرهه .
وفي رواية قال : إنه خبيث الدية خبيث الجيفة فخلى بينهم وبينه وإنما كره هذا على ما ذهب إليه محمد رحمه الله لأن موضع الخندق كان في منعة المسلمين وعلى ما قال مشايخنا : رحمهم الله تعالى إنه إنما كره ذلك لأنه@(4/185)
رأى فيه كبتاً وغيظاً لهم إن لم تثبت الرواية الأخرى أنه خلى بينهم وبينه وإن ثبت ذلك فإنما كره ذلك على سبيل الإهانة والاستخفاف بهم أو لئلا ينسب إلى المسلمين ما لا يليق بمكارم الأخلاق فقد كان عليه السلام يقول : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وذكر حديث سعد بن عبادة أنه اشترى يوم خيبر تبراً بذهب فقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا لا يصلح فرده وبظاهره يستدل سفيان فيقول : إنما أمره بالرد لأنه لم يكن مثلاً بمثل ولكنا نقول : إنما كره ذلك لأنه اشتراه في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا أن من يكره هذا إنما يكرهه للمستأمن والمسلمون يوم الخندق ما كانوا في أمان من المشركين وسعد يوم خيبر ما كان في أمان من اليهود ولكن كان محارباً لهم فعرفنا أنه إنما كره ذلك لأن تلك المعاملة كانت في منعة المسلمين والله أعلم بالصواب .
باب من يكره قتله من أهل الحرب من النساء وغيرهم
قال : لا ينبغي أن يقتل النساء من أهل الحرب ولا الصبيان ولا المجانين ولا الشيخ الفاني لقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } البقرة : وهؤلاء لا يقاتلون وحين استعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء أشار إلى هذا بقوله : هاه ما كانت هذه تقاتل أدرك خالداً وقل له : لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً ولأن الكفر وإن كان من أعظم الجنايات فهو بين العبد وبين ربه جل وعلا وجزاء مثل هذه الجناية يؤخر إلى دار الجزاء فأما ما عجل في الدنيا فهو مشروع لمنفعة تعود إلى العباد وذلك دفع فتنة القتال وينعدم ذلك في حق من لا يقاتل بل منفعة المسلمين في إبقائهم ليكونوا أرقاء للمسلمين فإن قاتل واحد من هؤلاء فلا بأس بقتله لأنهم باشروا السبب الذي به وجب قتالهم وإذا كان يباح قتل من له بنية صالحة للمحاربة يتوهم القتال منه فلأن@(4/186)
يباح قتل من وجد منه حقيقة القتال كان أولى وإن قتل أحد منهم إنساناً ثم أخذه المسلمون فأما الصبي والمجنون فلا ينبغي أن يقتلوه لأن قتله إنما أبيح لدفع قتاله وقد اندفع حين وقع الظهور عليه وهذا لأنه ما كان مخاطباً فلا يكون فعله جناية يستوجب به العقوبة جزاء عليه بمنزلة البهيمة فإنها إذا صالت على إنسان يباح قتلها دفعاً ثم إذا أخذت واندفع قصدها لم يحل قتلها .
وأما المرأة والشيخ الفاني فلا بأس بقتلهما بعدما أخذا لأنهما مخاطبان من أجل أن يستوجب العقوبة جزاء على فعلهما وقد تحقق الفعل الموجب لعقوبة القتل منهما .
ألا ترى أنهما يقتلان قصاصاً فكذلك يقتلان جزاء على فعلهما .
ومن قتل أحداً من هؤلاء قبل وجود القتال منه فلا كفارة عليه ولا دية لأن وجوبهما باعتبار العصمة والتقوم في المحل وذلك بالدين أو بالدار ولم يوجد واحد منهما وإنما حرم قتلهم لتوفير المنفعة على المسلمين أو لانعدام العلة الموجبة للقتل وهي المحاربة لا لوجود عاصم أو مقوم في نفسه فلهذا لا يجب على القاتل الكفارة والدية وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بقوله : هم منهم يعني أن ذراري المشركين منهم في أنه لا عصمة لهم ولا قيمة لذمتهم .
قال : والعسيف الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله الأجير وهو بمنزلة الحراث يعني من لا يكون من همته القتال وإنما همته من القتال اكتساب المال فقط بإجارة النفس بخدمة الغير أو الاشتغال بالحراثة فإنه لا يقتل لانعدام القتال منه والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم فالمراد بالشيوخ البالغون وبالشرخ الصبيان@(4/187)
والمراد بالاستحياء الاسترقاق قال الله تعالى : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } البقرة : 49 فأما الشيخ الفاني الذي لا يكون منه القتال ولا يعين المقاتلين بالرأي ولا يرجى له نسل فإنه لا يقتل وبيانه في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقتل المرأة والصبي والشيخ الكبير فإن أعانت المرأة المقاتلين فلا بأس بقتلها هكذا نقل عن الحسن وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة فأنكر قتلها وقال : من قتلها فقال رجل : أنا يا رسول الله أردفتها خلفي فأرادت قتلي فقتلتها فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنت .
وكذل إن كانت تعلن شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بأس بقتلها لحديث أبي إسحاق الهمداني قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني سمعت امرء من يهود وهي تشتمك والله يا رسول الله إنها لمحسنة إلي فقتلتها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها واستدل بحديث عمير بن عدي فإنه لما سمع عصماء بنت مروان تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وتعيب الإسلام وتحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكر في ذلك شعراً وهو هذا : باست بني مالك والنبيت وعوف وباست بني الخزرج أطعتم أتاوي من غيركم فلا من مراد ولا من مذحج ترجونه بعد قتل الرءوس كما يرتجى مرق المنضج ألا أنف يبتغي عزة فيقطع من أمل المرتجي وذلك بعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر قال : اللهم إن لك علي نذراً إن @(4/188)
رددت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنها .
.
.
الحديث إلى أن قتلها ليلاً ثم أصبح وصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال : أقتلت ابنة مروان قال : نعم فهل علي في ذلك شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينتطح فيها عنزان ثم التفت إلى من حوله فقال : إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله فانظروا إلى عمير فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : انظروا إلى هذا الأعمى الذي أسرى في طاعة الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل الأعمى ولكنه البصير .
.
.
.
الحديث واستدل بحديث زيد بن حارثة حين قتل أم قرفة وهي كانت ممن تحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي أنها جهزت ثلاثين راكباً من ولدها ثم قالت : سيروا حتى تدخلوا المدينة فتقتلوا محمداً فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم أذقها ثكلهم فقتلها زيد ابن حارثة وبعث بدرعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنصب بين رمحين بالمدينة وروي أنه قتلها قيس ابن المسحر أسوأ قتلة علق في رجليها حبلين ثم ربطها ببعيرين فأرسلهما فشقاها شقاً حتى تقول العرب على سبيل المثل في ذلك : لو كنت أعز من أم قرفة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بقتل هند بنت عتبة لما كانت تفعل من التحريض على قتال المسلمين@(4/189)
حتى أسلمت واستثنى ممن أمنهم يوم فتح مكة قيساً وابن خطل وأمر بقتلهما لأنهما كانا يغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأمر يوم بني قريظة بقتل بناتة لأنها كانت قتلت خلاد ابن سويد أمرها بذلك زوجها حتى لا يترك بعده على ما روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخلت علي بناتة تسألني شيئاً وهي تضحك ظهراً لبطن وتقول : يقتل سراة بني قريظة إلى أن نوه إنسان باسمها فقالت : أنا والله أقتل وهي تضحك فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ويحك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل النساء قالت : نعم وإنما قتلت زوجي حين أمرني فدليت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته ثم أخرجت فقتلت .
وعن سعيد بن المسيب قال : لما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أهدت إليه زينب بنت أخ مرحب شاة مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الذراع وقال : إن هذه الذراع لتخبرني أنها مسمومة ثم دعا زينب وقال : ما حملك على ما صنعت فقالت : نلت من قومي ما نلت قتلت أبي وعمي وزوجي فقلت إن كان نبياً فستخبره الشاة بما صنعت وإن كان ملكاً استرحنا منه فمات بشر بن البراء مما أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أهل المغازي يختلفون فيه فذكر الواقدي في بعض الروايات أن@(4/190)
النبي صلى الله عليه وسلم قتلها وأظهر الروايات أنه عفا عنها كما ذكره محمد رحمه الله وإنما فعل ذلك لأن هذا كان بعد الصلح وبعدما أطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فلم يكن ذلك منها نقضاً للعهد ولا محاربة مع المسلمين فإن قيل : فلماذا لم يقتلها قصاصاً ببشر بن البراء على قول من يرى وجوب القصاص بالقتل بالسم قلنا : لأن من يوجب القصاص أو الدية في ذلك إنما يوجبه عند الاتحاد فإذا تناوله بنفسه فليس على من ناوله دية ولا قصاص وبشر بن البراء أكل ذلك بنفسه فلهذا لم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصاصاً ولا دية والله أعلم .
واستعانة المشركين بالمسلمين ولا بأس بأن يستعين المسلمون بأهل الشرك على أهل الشرك إذا كان حكم الإسلام هو الظاهر عليهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع على بني قريظة ولأن من لم يسلم من أهل مكة كانوا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركباناً ومشاة إلى خيبر ينظرون لمن يكون الدبرة فيصيبون من الغنائم حتى خرج أبو سفيان في إثر العسكر كلما مر بترس ساقط أو رمح أو متاع من متاع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله حتى أوقر جمله وخرج صفوان وهو مشرك ومعه امرأة مسلمة ولم يفرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وهو مشرك وإنما لم يفرق بينهما لأنهما كانا في أحكام المسلمين والموجب للفرقة تباين الدارين حقيقة وحكماً فعرفنا أنه لا بأس بالاستعانة بهم ما ذلك إلا نظير الاستعانة بالكلاب على قتال المشركين@(4/191)
وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم في الآخرة والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد رأى كتيبة حسناء قال : من هؤلاء فقيل : يهود بني فلان حلفاء ابن أبي فقال : إنا لا نستعين بمن ليس على ديننا تأويله أنهم كانوا أهل منعة وكانوا لا يقاتلون تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا إذا كانوا بهذه الصفة فإنه يكره الاستعانة بهم .
واختلفت الروايات في سبب رجوع ابن أبي يوم أحد فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يأخذ برأيه حين أشار إليه بألا يخرج من المدينة غاظه ذلك فانصرف وقال : أطاع الصبيان وخالفني فيما نصحت له وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رده حين عرض عليه أن يخرج فيقاتل معه فقال : لا إنا لا نستعين بمشرك وإنما كره ذلك لأنه كان معه سبعمائة من يهود بني قينقاع من حلفائه فخشي أن يكونوا على المسلمين إن أحسوا بهم زلة قدم فلهذا ردهم وعندنا إذا رأى الإمام الصواب في ألا يستعين بالمشركين لخوف الفتنة فله أن يردهم ثم ذكر حديث الزبير رضي الله تعالى عنه حين كان عند النجاشي فنزل به عدوه فأبلى يومئذ مع النجاشي بلاء حسناً فكان للزبير عند النجاشي بها منزلة حسنة فبظاهر هذا الحديث يستدل من يجوز قتال المسلمين مع المشركين تحت رايتهم ولكن تأويل هذا من وجهين عندنا أحدهما : أن@(4/192)
النجاشي كان مسلماً يومئذ كما روي فلهذا استحل الزبير القتال معه .
والثاني : أنه لم يكن للمسلمين يومئذ ملجأ غيره على ما روي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : لما اطمأننا بأرض الحبشة فكنا في خير دار عند خير جار نعبد ربنا إلى أن سار إلى النجاشي عدو له فما نزل بنا قط أمر عظيم منه قلنا : إن ظهر على النجاشي لم يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف فأخلصنا الدعاء إلى أن يمكن الله النجاشي ثم قلنا : من رجل يعلم لنا علم القوم فقال الزبير بن العوام : أنا فنفخ قربة ثم ركبها حتى عبر النهر والتقى القوم وحضر الزبير معهم وجعلنا نخلص الدعاء إلى أن طلع الزبير في النيل يليح بثوبه ألا أبشروا فإن الله تعالى قد أظهر النجاشي ومكن له في الأرض وأهلك عدوه قالت : فأقمنا عند خير جار فبهذا الحديث تبين صحة التأويل الذي قلنا والله أعلم .@(4/193)
باب ما يكره من الديباج والحرير
قال : وكره أبو حنيفة رحمة الله عليه الديباج والحرير المصمت في الحرب ولم ير أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بذلك بأساً في الحرب وقد بينا المسألة في شرح المختصر وروى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب فبظاهره أخذ وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : تأويله الملحم وهو ما يكون سداه غير حرير ولحمته حرير وهذا لا بأس بلبسه في الحرب وإن كان يكره لبسه في غير الحرب فأما ما يكون سداه حريراً ولحمته غير حرير فلا بأس بلبسه في الحرب وغير الحرب وعليه أيضاً يحمل حديث الزبير أنه كان يلمق الديباج يلبسه في دار الحرب فأما إذا كان حريراً مصمتاً فذلك مكروه على ما روي أن الوليد بن أبي هشام كتب إلى ابن محيريز يسأله عن يلامق الحرير والديباج في الحرب فكتب إليه أن كن أشد ما كنت في الحرب كراهية لما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند التعرض للشهادة .@(4/194)
باب المكره على شرب الخمر وأكل الخنزير
وذكر حديث عطاء في الرجل يكره على شرب الخمر أو لحم الخنزير قال : إن لم يفعل حتى يقتل أصاب خيراً وإن أكل وشرب فهو في عذر ولسنا نأخذ بهذا بل نقول : لا يحل له أن يدع الأكل والشرب عند خوف القتل وهو قول مسروق فإنه قال : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وأبو يوسف رحمة الله عليه في رواية عنه أخذ بقول عطاء وجعل ذلك قياس الإكراه على الشرك بالله تعالى ولكنا نقول : إن الحرمة تنكشف عند الضرورة فإن الله تعالى استثنى موضع الضرورة لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } الأنعام : والاستثناء من التحريم إباحة وبعدما انكشفت الحرمة التحق هذا بالطعام والشراب فإذا امتنع عن تناوله حتى يقتل كان آثماً بخلاف الكفر فإن الحرمة لا تنكشف ولكن يرخص له في إجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان فهو بالامتناع يكون متمسكاً بالعزيمة وفي الإجراء يكون مرخصاً بالرخصة والتمسك بالعزيمة أفضل إلا أن في الكتاب لم يطلق الجواب في تأثيمه ولكن قال : خفت أن يأثم لأن هذا المكره ليس في معنى المبتلى بالمخمصة من كل وجه فإن@(4/195)
هناك لا صنع لأحد من العباد فيما حل من العذر وها هنا خوف الهلاك إنما حصل بصنع العباد وفيما يكون من حق الله تعالى لا يستوي ما فيه صنع العباد بما لا صنع للعباد فيه ثم في الامتناع بعد إكراه المشركين إظهار للصلابة في الدين وما فيه مغايظة المشركين وذلك لا يوجد في صاحب المخمصمة فلهذا صح الجواب ها هنا بقوله : خفت أن يأثم والله الموفق .
باب من يكره قتله من أهل الحرب ومن لا يكره
قد بينا أنه إنما يقتل منهم من يقاتل دون من لا يقاتل فذكر في جملة من لا يقاتل أصحاب الصوامع والسياحين في الجبال الذين لا يخالطون الناس وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال : سألت أبا حنيفة عن قتل أصحاب الصوامع والرهبان فرأى قتلهم حسناً لأنهم فرغوا أنفسهم لنوع من أنواع الكفر فيفتتن الناس بهم فيدخلون تحت قوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } التوبة : 2 وتأويل تلك الرواية فيما إذا كانوا يخالطون الناس إما خروجاً إليهم أو إذناً لهم في الدخول عليهم وكانوا يحثونهم على قتال المسلمين والصبر على دينهم فأما إذا كانوا في دار أو كنيسة قد طينوا عليهم الباب وترهبوا فيه فإنهم لا يقتلون لوقوع الأمن من جانبهم فإنهم لا يقاتلون بنفس أو مال ولا رأي ولا يقتل منهم الأعمى والمقعد ولا يابس الشق ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ولا مقطوع اليد اليمنى خاصة لأنه وقع الأمن من قتالهم ومراده من هذا إذا كانوا لا يقاتلون بمال ولا برأي .
وقد بينا نظيره في الشيخ@(4/196)
الفاني إذا كان ذا رأي في الحرب فإنه يقتل دون أقطع اليد اليسرى أو أقطع أحد الرجلين فهو ممن يقاتل لأن مباشرة القتال في الغالب تكون باليد اليمنى فأما إذا كانت صحيحة منه فهو على وجه يمكنه المشي كان من جملة المقاتلة فيقتل .
والأخرس والأصم والذي يجن ويفيق في حال إفاقته يقتل لأنه ممن يقاتل وله بنية صالحة للقتال واعتقاده يحمله على القتال فيقتل دفعاً لشره .
ومن قتل أحداً منهم ممن لا يقاتل فليس عليه سوى الاستغفار لأنه غير معصوم وإن وقع اليأس من قتاله .
والقسيسون والشمامسة والسياحون الذين يخالطون الناس فلا بأس بقتلهم لأنهم من جملة المقاتلة إما برأيهم أو بنفسهم إن تمكنوا من ذلك فيجوز قتلهم وإن لم ير منهم القتال باعتبار أن حقيقة مباشرة القتال مما لا يطلع عليه كل أحد في كل وقت ومكان فالبنية الصالحة لذلك مع السبب الحامل عليه يقام مقامه ما لم يغلب عليه دليل ظاهر يمنعه منه ولا ينبغي للمسلمين إن كانت بهم قوة على أسرهم أن يدعو الصبيان والنساء حتى يخرجوهم إلى دارنا لما فيه من الكبت والغيظ للمشركين ولما فيه من المنفعة للمسلمين فإنهم يصيرون خولا للمسلمين ولما فيه من قطع منفعة المشركين عنهم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : واستحيوا شرخهم فأما الشيخ الفاني الذي لا يرجى له نسل ولا منفعة عنده سوى أن يفادى فإن شاءوا أخذوه وأسروه وإن شاءوا تركوه لأن المقصود بأسره ليس إلا تحصيل المال بالمفاداة وهم بالخيار فيما يتمكنون منه من الأموال إن شاءوا أخذوه وإن شاءوا تركوه وهذا لأن المستحق عليهم دفع فتنة الكفر فأما اكتساب المال فلا بأس به ولكنه غير مستحق شرعاً ولا ينبغي أن يتركوا المعتوه إذا قدروا على إخراجه لأنه يرجى إقامته ولأنه يولد له ويتركه عون للمشركين كما في ترك النساء والصبيان ولا يتعرض للذين لا يخالطون الناس من المترهبين لأنه لا يرجى لمثلهم نسل حتى يكون في ذلك عون للمشركين وذوو الآفات الذين لا يقتلون يؤسرون ويخرجون إلى ديارنا لأن في تركهم في دار الحرب قوة@(4/197)
للمشركين فإنهم يصيبون النساء فيلحقون ولا ينبغي أن يتركوا في دار الحرب إذا ظفروا بهم فكل من جاز قتله منهم فلا إشكال أنه يجوز أسره وإخراجه .
ثم بعد الإخراج للإمام فيهم رأي إن شاء استرقهم وإن شاء قتلهم وكل من لا يحل قتله إذا لم يقدروا على إخراجه بأن كانوا جريدة خيل فليدعوه ولا يعرضوا له لأن قتله محرم شرعاً لا لمنفعة أسره واسترقاقه فبالعجز عن الأسر لا يصير القتل الذي هو محرم مباحاً للمسلمين وما يقدرون على إخراجه من الكراع والسلاح فإنه يكره لهم تركه في دار الحرب بعد التمكن من إخراجه لأن هذا مما يتقوى به المشركون على قتال المسلمين فحكمه حكم بني آدم .
فأما البقر والغنم والمتاع فإن شاءوا أخرجوه وإن شاءوا تركوه لأنه مما لا يتقوى به على القتال عادة ألا ترى أن الكراع والسلاح يكره للمسلمين حملها إليهم للتجارة بخلاف سائر الأموال .
وإن المستأمن في دارنا إذا اكتسب شيئاً من ذلك يمنع من إدخاله دار الحرب مع نفسه بخلاف سائر الأموال فإذا ثبت هذا الخيار لهم في المال فكذلك في العجوز الكبيرة التي لا يرجى لها ولد لأنه لا منفعة فيها سوى الفداء بالمال ولهذا جاز للمسلمين إذا أسروها أو شيخاً فانياً أن يفادوهما بمال لأنه لا منفعة للمسلمين عندهما ولا مضرة على المسلمين في كونهما في دار الحرب وكل من ذكرنا أنه لا يقتل من ذوي الآفات وغيرهم إذا باشر القتال أو حرض على ذلك أو كان ممن يطاع فيهم فلا بأس بقتله فإن في قتله كسر شوكتهم وتفرق جمعهم وهو المقصود حتى إن ملك القوم لو كان صغيراً أو امرأة أو شيخاً فانياً فلا بأس بقتله لأن فيه معنى الكبت والغيظ لهم وفيه تفريق منعتهم@(4/198)
ولو أن راهباً أو سياحاً دل المشركين على عورات المسلمين فعلم به المسلمون فلا بأس بقتله لأنه أعان المشركين بما صنع فهو بمنزلة شيخ له رأي في القتال فلا بأس بقتل مثله على ما روي أن دريد بن الصمة قتل وكان شيخاً كبيراً لأنه كان ذا رأي في الحرب .
وإذا لقي المسلم أباه المشرك في القتال فإنه يكره له أن يقتله لقوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } لقمان : 15 وليس من المصاحبة بالمعروف القصد إلى قتله وإن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أبي استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما فنهاهما وقد كان أبو عامر مشركاً محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أبي منافقاً بين النفاق قد شهد الله تعالى بكفره فعرفنا أنه يكره للابن القصد إلى قتل أبيه المشرك وهذا لأن الأب كان سبباً لإيجاده فيكره له أن يكتسب سبب إعدامه وكان منعماً عليه في التربية فيكره له إظهار كفران النعمة بالقصد إلى قتله .
وبيان هذا فيما أخبر الله تعالى عن الخليل صلوات الله عليه حين قال له أبوه : { لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } مريم : 46 فأما إذا هم الأب بقتل ابنه وصار بحيث لا يتمكن من دفعه عن نفسه إلا بقتله فلا بأس بقتله لأن في هذا الوجه لا يقصد كفران النعمة وإنما يقصد إحياء نفسه بسبب دفع الهلاك عنها وذلك مأمور به وقد بينا في شرح الجامع الصغير الفرق بين الآباء والأمهات وغيرهم@(4/199)
من ذوي الرحم المحرم والفرق بين المشركين في ذلك وبين أهل البغي من المسلمين .
ولو ظفر المسلمون بالسبي والمعتق الذي كان يقاتل معهم وقد قتل بعضهم فإنه لا ينبغي لهم أن يقتلوهما بعد الأسر لأنه قد اندفع قتالهما بالأسر .
فإن كانوا لا يقدرون على إخراجهما وهم يخافون إن خلوا سبيلهما أن يعودا إلى قتال المسلمين فلا بأس بقتلهما لأنه لم يقع الأمن عن قتالهم .
وهما في ذلك كالجمل الصئول إذا أخذه رجل فمنعه من الصيال وهو يخاف إن خلى سبيله أن يعود لمثل ذلك فلا بأس بأن يقتله ويغرمه لصاحبه كما في حال صياله وهذا لأن ما يتوهم منه قد ظهر أثره فيما مضى فيتأيد هذا الظن بذلك الظاهر ويجعل كالقائم في الحال ألا ترى أن المراهق لو كان ملك القوم فظفروا به وعجزوا عن إخراجه فإنه لا بأس بقتله .
لأن في تركه خوف الهلاك على المسلمين باعتبار غالب الرأي وفيما لا يمكن الوقوف على حقيقته يبنى الحكم على غالب الرأي .
فإن كانوا يأمنونهما على أنفسهم ولكن لا يأمنونهما إن دخلت سرية غيرهم أن يقاتلا بهم أو يقتلا بعضهم خلوا سبيلهما لأنهم أمنوا جانبهما ودخول سرية أخرى بعدهم موهوم أنهم يدخلون من هذا الجانب أو من جانب آخر فلا ينبغي لهم أن يقدموا على قتل حرام باعتبار هذا الموهوم .
ولو أن راهباً نزل من صومعته إلى بعض مدائنهم فأصابه المسلمون في الطريق أو في المدينة فقالوا : إنما خرجت@(4/200)
هارباً منكم خوفاً على نفسي فلهم ألا يصدقوه ويقتلوه لأنهم وجدوه في موضع الاختلاط بالمقاتلة منهم وإنما لا يقتل من لا يخالط الناس فمن ظهر منهم خلاف ذلك فيهم فلا بأس بقتله وهو فيما يدعي من العذر لنفسه منهم فلا يصدق .
وإن وقع في قلب المسلمين أنه صادق فالمستحب لهم ألا يقتلوه ولكن يأخذونه أسيراً لأن غالب الرأي بمنزلة اليقين فيما بني أمره على الاحتياط والقتل مبني على ذلك فإنه إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والمقصود يحصل بأسره .
ومن وجدوه في كنيسة أو دير لم يطين الباب على نفسه فلا بأس بقتله لما بينا أن الناس إذا كانوا يدخلون عليهم ويصدرون عن رأيهم فهم من أئمة الكفر وفي قتلهم كسر شوكة المشركين .
ولو أن المسلمين أتوا راهباً في صومعته فسألوه عن الطريق أو عن أهل الحرب أين هم فقال : إني أعرف ذلك ولكني لا أخبركم لأني لا أخبر عنكم فليس ينبغي للمسلمين أن يتعرضوا له لأنه أظهر بعبارته ما لأجله وجب ترك التعرض له وهو انقطاعه بالكلية عن المخالطة مع الناس والنظر في أمورهم والميل إلى اكتساب مودتهم أو عداوتهم فإن دلهم على الطريق فوجدوه قد خانهم واستبان ذلك للمسلمين فلا بأس بقتله وأسره ولأنه بهذه الخيانة أظهر الميل إلى المشركين وأظهر العداوة مع المسلمين حيث دلهم على ما فيه هلاكهم بعدما طلبوا منه الدلالة على الطريق الذي يكون السلوك فيه سبباً لنجاتهم .
وإن رأى المسلمون راهباً في صومعته حبشياً والقوم روم فاستنكروه@(4/201)
فليسألوه عن أمره لأنه اشتبه عليهم حاله فطريق إزالة الاشتباه السؤال قال الله تعالى : { إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } النحل : 43 ثم فائدة السؤال قبول البيان من المسئول عنه إذا لم يظهر في كلامه تهمة وخيانة فإن قال : أنا رجل من نصارى الجيش ترهبت ها هنا صدقوه بقوله ولم يعرضوا له لأنه ما أخبرهم به محتمل .
وإن قال : كنت عبداً لرجل من المسلمين وكنت نصرانياً فترهبت ها هنا أخذوه فردوه على مولاه لأنه أقر بأنه عبد آبق ومن تمكن من رد الآبق على مولاه فعليه أن يفعل .
وإن قال : أسرني أهل الحرب فأعتقوني فترهبت فإنه لا يصدق ولكنه يؤخذ فيرد على مولاه لأنه أقر بالرق والملك لمولاه ثم ادعى ما يزيله فلا يصدق فيه إلا لحجة كالعبد يدعي العتق على مولاه وإن قال : كنت عبداً مسلماً فتنصرت وترهبت فقد أقر بالردة فيعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل وإن أسلم رد على مولاه وإذا اقتتل المسلمون والمشركون فانهزم المشركون ووجد المسلمون من المشركين قوماً جرحى فلا بأس بأن يجهزوا عليهم وإن كان يعلم أنهم لا يعيشون مع تلك الجراحات لأن هؤلاء مقاتلة وإنما أعجزهم إثخان الجراحات عن مباشرة القتال فلا بأس بقتلهم كالمأسورين المربوطين في أيدينا وإن شاءوا تركوهم حتى يذوقوا الموت كل ذلك واسع لأن في كل جانب للمسلمين نوع شفاء الصدور والأصل فيه حديث@(4/202)
محمد بن مسلمة فإنه بارز مرحباً يوم خيبر فضربه فقطع رجليه فقال مرحب : أجهز علي يا محمد فقال : لا حتى تذوق من الموت مثل ما ذاق أخي محمود ثم مر به علي رضي الله تعالى عنه فأجهز عليه وأخذ سلبه فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه محمد بن مسلمة ولو كان في حياة مرحب طمع لما قال له محمد : لا حتى تذوق من الموت مثل ما ذاق أخي محمود وما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه دون علي رضي الله تعالى عنه وقد أجهز علي رضي الله تعالى عنه وهو بهذه الحالة ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فامتنع محمد من الإجهاز عليه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً فعرفنا أن كل ذلك واسع .
توضيحه : أنه لا بأس بأسره وقسمته في جملة من يقسم ما لم يمت فعرفنا أنه بمنزلة الأسير وللإمام رأي في قتل الأسير وتركه فهذا مثله .
ولو وجدوا مريضاً في حصن من حصونهم فلا بأس بأن يقتلوه لأن المرض يعجزه عن القتال ولا يخرجه من أن يكون من المقاتلة ولأن المرض على شرف الزوال فلا يقع به اليأس عن قتاله مع المسلمين .
إلا أن يحيط العلم بأنه لا يعيش مع هذا المرض أو يكون عليه أكبر الرأي فحينئذ لا ينبغي أن يقتلوه لأنه وقع اليأس عن قتاله فحاله الآن كحال الشيخ الفاني .
وإن كان أهل العدل يقاتلون أهل البغي فظفروا منهم بجرحى فإن كان القوم فيه لا يلجئون إليه فلا بأس بأن يجهز على جريحهم لأن الجريح في هذه الحالة كالأسير ويقتل أسيرهم ويتبع مدبرهم إذا بقيت لهم فيه فكذلك يجهز على جريحهم .
إلا أن يكون الجريح ممن لا يطمع له في الحياة فحينئذ يكره قتله لأنه وقع اليأس عن قتاله فإنه ممن لا يخاف عليه أن يلجأ إلى فئة فيعين على أهل العدل أبداً فيكون الحال في حقه كالحال فيما إذا انهزموا ولم يبق لهم فئة يلجئون إليها وهناك لا يقتل أسيرهم ولا يتبع منهزمهم فكذلك لا يجهز على جريحهم والمعنى في الفرق بين أهل البغي وأهل الحرب في هذا أن السبب الداعي إلى المحاربة قائم في حق أهل البغي لا يوجد مثل ذلك الاعتقاد لأنهم من أهل@(4/203)
الإسلام وإنما يحملهم على القتال التقوي بالفئة والمنعة فإذا زال ذلك لم يحل قتلهم بعد ذلك .
وإن وجد المسلمون معتوهاً من أهل الحرب لا يعرف قتالاً ولا يدري ما يصنع به ولكن في يده سيف يضرب به من دنا إليه من المسلمين أو من غيرهم فإني أحب للمسلمين ألا يقتلوه ولكن يأخذونه أخذاً ليمنعوه من ذلك لأنه ليس به قصد إلى القتال وإنما يباح قتل من يكون به القصد إلى القتال أو يكون ممن يدعوه دينه إلى ذلك وهذا إذا كان بحيث يضرب من يدنو منه من المسلم والمشرك فعرفنا أن دينه لا يدعوه إلى ذلك فيكون حاله الآن كحال البهيمة والبهيمة إذا لم تقصد أحداً ولكنها تضرب كل من دنا منها لم يحل قتلها إلا أن تحمل على المسلم وتضطره إلى ذلك فحينئذ لا بأس بقتلها فهو الحكم في حق هذا المعتوه أيضاً .
إلا أن هناك يغرم قاتلها قيمتها للمسلم لبقاء المالية والتقوم فيها حقاً للمسلم وذلك لا يوجد في المعتوه الحربي ولو ظفروا برجل معه سيف يقاتل به فلما أحس بالمسلمين تجانن ورأى المسلمون أنه مجنون فإن هذا على ما يقع في قلوب المسلمين لأنه لما انقطع عنهم سائر الأدلة التي يقفون بها على حاله وجب المصير إلى أكبر الرأي بمنزلة التحري في أمر القبلة عند انقطاع الأدلة وقد بينا أن أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمنزلة الحقيقة .
فإن وقع عندهم أنه مجنون فأسروه ثم استبان لهم أنه صحيح فلا بأس بقتله لأن أسرهم إياه ليس بأمان له منهم ألا ترى أنه لو كان صحيحاً حين أسروه كان لهم رأي في قتله فكذلك إذا أسروه في حال اشتباه أمره .
ولو أخذوا غلاماً مراهقاً ولم يعلموا أنه بالغ أو غير بالغ فقد بينا أن بعض الناس يجعلون العلامة في ذلك نبات العانة استلالاً بحديث بني قريظة والمذهب عندنا أن ذلك لا يمكن تحكيمه لاختلاف أحوال الثاني في ذلك فلا ينبغي أن يقتلوه حتى يعلم أنه قد تمت له خمس عشرة سنة أو احتلم قبل ذلك واعتبر في هذا الموضع أن يعلموا ذلك من حاله دون غالب الرأي .
لأن صغره معلوم بيقين واليقين لا يزول إلا بيقين مثله فأما جنون الذي تجانن قبل أخذه لم@(4/204)
يكن معلوماً بيقين فلهذا اعتبر فيه أكبر الرأي .
وإن أخذوه وهو غير بالغ ثم طال مكثهم في دار الحرب حتى بلغ فصار رجلاً فإنه لا يحل لهم أن يقتلوه لأنهم أخذوه وهو ممن لا يجب عليه القتل فمعنى هذا الكلام أنه لم يكن من جملة المقاتلة في وقت من الأوقات لأنهم أخذوه وهو صبي والصبي ليس من المقاتلة .
وبعدما بلغ فهو فيء للمسلمين بمنزلة سائر عبيدهم فلا يكون مقاتلاً معهم بخلاف الذي تجانن إذا أخذ فاستبان أنه صحيح .
لأنه تبين أنه كان مقاتلاً قبل أن يأخذوا به احتال بتلك الحيلة لينجو من القتل حتى أنه لو كان معتوهاً وبرأ في أيديهم فإنه لا يحل لهم أن يقتلوه للمعنى الذي أشرنا إليه في اصبي وإن قتل هذا الصبي الذي بلغ أو برئ رجلاً من المسلمين قتله الإمام به قصاصاً .
لأنه صار مخاطباً بمنزلة غيره من عبيد المسلمين .
وإن كان قاتل المسلمين بعد بلوغه وبرئه قبل أن يؤخذ ثم أخذ فلا بأس بقتله وإن لم يقتل أحداً لأنه كان من جملة المقاتلة حين كان ممتنعاً من المسلمين فإن قاتل بعد ما بلغ في أيدي المسلمين ولكن لم يقتل أحداً فإنه يضرب ضرباً وجيعاً ولا يقتل بمنزلة غيره من عبيد المسلمين إذا هم بقتال المسلمين ولم يقتل أحداً منهم وكذلك لو فعل هذا بعض المأسورين من ذوي الآفات لأنه حين أدخل دار الإسلام وهو ممن لا يقاتل فحاله فيما يصنع كحال المستأمن من أهل الحرب يقاتل في دار الإسلام ولم يقتل أحداً .
وإن ظفر المسلمون بقوم من الحراثين فسبيهم أحب إلي من قتلهم لأنهم في القصد إلى القتال بمنزلة النساء فإنهم لا يقاتلون ولا يهتمون لذلك وفي سبيهم منفعة للمسلمين حتى يشتغلوا بإقامة عمل الحراثة للمسلمين .
ولكن مع هذا إن قتلوهم فلا بأس به لأنهم لهم بنية صالحة للمحاربة والحراثة ليست بلا ذمة وقد يتحول المرء عن الحراثة إلى المقاتلة بخلاف صفة الأنوثة .
وإن أصابوا قوماً سكارى فلا بأس بقتلهم في حال@(4/205)
سكرهم وإن كانوا ذاهبة عقولهم بسبب السكر لأن السكران في الحكم كالصاحي بدليل سائر تصرفاته وهو بسكره لم يخرج من أن يكون محارباً للمسلمين فلا بأس بقتله .
وإذا دخل المسلمون مدينة من مدائن المشركين عنوة فلا بأس بأن يقتلوا من لقوا من رجالهم لأنه موضع المقاتلة منهم فمن وجدوه في ذلك الموضع فالظاهر أنه مقاتل وإنما يبنى الحكم على الظاهر حتى يتبين خلافه .
إلا أن يروا رجلاً عليه سيماء المسلمين أو سيماء أهل الذمة للمسلمين فحينئذ يجب عليهم أن يثبتوا في أمره حتى يتبين لهم حاله لأن تحكيم السيماء أصل فيما لا يوقف على حقيقته قال الله تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } الفتح : 29 وقال تعالى : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } البقرة : وقال تعالى : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } الرحمن : 41 ومتى وقع الغلط في القتل لا يمكن تداركه وليس في تأخيره إلى أن يتبين الأمر تفويت شيء على المسلمين فلهذا ينبغي لهم أن يتثبتوا في أمره حتى يتبين لهم حاله وهذا لأن السماء في كونه محتملاً لا يكون دون خبر الفاسق وقد أمرنا بالتثبت هناك فها هنا أولى .
ولو لقوا في صف المشركين قوماً من المسلمين معهم الأسلحة فلا يدرون أمكرهون على ذلك أم غير مكرهين فإني أحب لهم ألا يعجلوا في قتالهم حتى يسألوهم إن قدروا على ذلك وإن لم يقدروا فليكفوا عنهم حتى يروهم يقاتلون أحداً منهم فحينئذ لا بأس بقتالهم وقتلهم لأن موافقتهم في الدين تمنعهم من محاربة المسلمين وهذا منهم معلوم للمسلمين .
فما لم يتبين خلافه لا يحل لهم أن يقتلوهم وبمجرد وقوفهم في صف المشركين لا يتبين خلاف ذلك لأن ذلك محتمل وقد يكون عن إكراه وقد يكون عن@(4/206)
طوع فالكف عن قتالهم أحسن حتى يتبين منهم القتال فحينئذ لا بأس بقتالهم لأن مباشرة القتال في منعة المشركين مبيح لدمهم وإن كانوا مسلمين ألا ترى أن أهل البغي يقاتلون دفعاً لقتالهم وإن كانوا مسلمين فبعد ما ظهر هذا السبب لا يمنع قتلهم لأن أكثر ما فيه أنهم مكرهون على ذلك والمكره على القتل يباح للمقصود بالقتل أن يقتله إذا هم بقتله .
ولو كانوا سلوا السيوف والمسلمون قليل يخافون إن تركوهم حتى يحملوا عليهم أول مرة أن يقتلوهم وإن كان أكبر الرأي من المسلمين أنهم غير مكرهين فلا بأس بقتالهم فحالهم الآن كحال من دخل على غيره ليلاً شاهراً سيفه واشتبه على صاحب الدار حاله واستدل عليه بحديث علي رضي الله عنه حين قاتل أهل البصرة فإنه قال : لا تبدءوهم بالقتال حتى يقاتلوكم ومقصوده من هذا الاستدلال أن ظهور القتال من بعضهم كظهوره من جماعتهم في حكم إباحة قتالهم ولو قتل مسلم رجلاً منهم بعدما ظهر منهم القتال ثم قامت البينة من المسلمين أن أهل الحرب أخرجوه مكرهاً فلا دية على عاقلته ولا كفارة لأنه قتل شخصاً كان قتله حلالاً مع العلم بحاله وإراقة الدم المباح لا توجب دية ولا كفارة وكذلك إن كان عليه السلاح وهو في صف المشركين ولكنه لم يقاتل أحداً من المسلمين لأن من كان مستعداً للقتال في صف المشركين فهو مباح الدم وإن كان يستحب التبين في أمره عند التمكن من ذلك .
ولو أحرقوا سفينة من سفائن المشركين أو أغرقوها وفيها ناس من المسلمين فليس على المسلمين في ذلك دية ولا كفارة لأنهم باشروا فعلاً هو حلال لهم@(4/207)
شرعاً مع العلم بحقيقة الأمر .
وكذلك لو تترسوا بأطفال المسلمين فأصابهم المسلمون بالرمي إلا أن المستحب لهم ألا يقصدوا المسلمين بذلك لأنهم لو قدروا على التحرز عن إصابة المسلمين فعلاً كان عليهم أن يتحرزوا عن ذلك وإذا عجزوا عن ذلك كان عليهم التحرز بالقصد والنية لأن ذلك في وسعهم .
ولو وجب الكف عنهم بهذا لم يتوصل إلى الظهور عليهم لأن كل أهل حصن منهم أو أهل سفينة يخافون على أنفسهم يجعلون معهم في ذلك الموضع أسيراً من أسر المسلمين فيتعذر عليهم لأجل ذلك قتالهم وهذا لا يجوز ألا ترى أنه لو كان معهم في السفينة نساؤهم وصبيانهم فلا بأس بأن تحرق أو تغرق وإن كان لا يحل القصد إلى قتل نسائهم وصبيانهم فكذلك إذا كان معهم في ذلك الموضع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة .
والله أعلم بالصواب وهو الموفق .
باب من يكره له أن يغزو ومن لا يكره له ذلك
قال : المدين إذا أراد الغزو وصاحب الدين غائب فإن كان عنده وفاء بما عليه من الدين فلا بأس بأن يغزو ويوصي إلى رجل ليقضي دينه من تركته إن حدث به حدث لأن حق صاحب الدين في جنس دينه من مال المدين لا في نفس المدين@(4/208)
بهذا الخروج لا يفوت شيء من حقه لأنه متى رجع أخذ دينه من المأمور على الوجه الذي يأخذه من المديون وإنما ذكر لفظة الإيصاء لأن الخارج للغزو يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ويتعرض للشهادة بخروجه في هذا الوجه .
ثم المال وإن كان ملكاً للمدين في الحقيقة فهو في الحكم كالمملوك لصاحب الدين فلهذا تجب الزكاة باعتباره على صاحب الدين دون المديون فيكون المديون في معنى المودع ومن في يده ودائع للناس فلا بأس بأن يوصي بها من يدفعها إلى أهلها ويغزو فكذلك الدين أرأيت لو استقرض مالاً وما كان في يده غير ذلك حتى بدا له أن يغزو لم يكن له أن يوصي إلى غيره أن يرده إلى صاحبه إذا حضر فيغزو فهذا لا بأس به فإن كان له أن يخرج لسفر التجارة والحج مع قيام الدين عليه إذا لم يكن في سفره تفويت حق رب الدين فكذلك له أن يغزو وإن لم يكن عنده وفاء بالدين فالأولى له أن يقيم فيتمحل لقضاء دينه لأن قضاء الدين مستحق عليه بعينه والغزو إذا لم يكن النفير عاماً غير مستحق عليه بعينه فالأولى له أن يشتغل باكتساب سبب الإسقاط فيما هو مستحق عليه بعينه وهذا للأصل المعروف أن عند اجتماع الحقوق يبدأ بالأهم .
وقضاء الدين أهم من الغزو على ما ورد في الحديث أنه مرتهن بدينه في قبره ما لم يقض عنه وقال لعلي رضي الله عنه حين تبرع بقضاء دين عن ميت : الآن بردت عليه جلدته فإن غزا@(4/209)
بغير إذن صاحبه فذلك مكروه له بمنزلة من خرج للحج ولم يدع لعياله ما يكفيهم إن ذلك مكروه له بل أولى لأن نفقة عياله تجب شيئاً فشيئاً وقضاء الدين واجب في الحال .
وإذا أذن له صاحب الدين في الغزو ولم يبرئه من المال فالمستحب له أيضاً أن يتمحل لقضاء الدين لأن بإذنه له في الخروج لم يسقط عنه شيء من الدين فالأولى له أنه ينظر لنفسه ويبدأ بما هو الأوجب .
وإن غزا في هذه الحالة لم يكن له بأس لأن المنع من الخروج كان لحق صاحب الدين وقد رضي بسقوط حقه فلا بأس بأن يخرج كالعبد يأذن له مولاه في الجمعة فلا بأس بأن يخرج لأدائها .
وكذلك إذا كان الدين مؤجلاً وهو يعلم بطريق الظاهر أنه يرجع قبل أن يحل الدين فالأفضل له أن يتمحل لقضاء الدين وإن خرج لم يكن به بأس لأنه ليس لصاحب الدين حق في منعه قبل حلول الأجل فإن ذلك يبتنى على توجيه المطالبة له بقضاء الدين وذلك لا يكون مع بقاء الأجل فهو والمأذون في الخروج سواء .
واستدل على أن المقام أفضل له بم قاله النبي صلى الله عليه وسلم في القتل في سبيل الله : إنه كفارة ثم قال : إلا الدين فإنه مأخوذ به كما قال جبرائيل عليه السلام وإن كان أحال غريمه على رجل آخر فإن كان للمحيل على المحتال عليه مثل ذلك المال فلا بأس بأن يغزو لأن ذمته برئت بالحوالة عن حق المحتال وليس للمحتال عليه إذا أدى حق الرجوع عليه بشيء .
وإن لم يكن للمحيل على المحتال عليه مال فالمستحب له ألا يخرج لأنه وإن برئ من دين المحتال فذمته@(4/210)
مشغولة بحق المحتال عليه على معنى أنه إذا أدى ثبت له حق الرجوع عليه .
فإن أذن له في الخروج المحتال عليه دون المحتال فلا بأس بأن يخرج لأنه برئ من حق المحتال وإنما بقي الشغل بينه وبين المحتال عليه ويعتبر إذنه في حقه .
وإن كان لم يحل غريمه ولكن ضمن عنه لغريمه رجل المال بغير أمره على إبراء غريمه المديون فلا بأس بأن يغزو ولا يستأمر واحداً منهما لأنه قد برئ من حق الطالب بالإبراء ولا رجوع للضامن عليه بشيء حين ضمن بغير أمره .
ولو كان كفل عنه بالدين كفيل بأمره فليس له أن يخرج حتى يستأمر الأصيل والكفيل جميعاً لأنه مطلوب من جهة كل واحد منهما فإن الأصيل يطالبه بالدين والكفيل يطالبه بأن يخلصه مما أدخله فيه من الضمان .
وإن كانت الكفالة بغير أمره فعليه أن يستأمر الطالب لبقاء حقه في المطالبة بالدين قبله وليس عليه أن يستأمر الكفيل لأنه لا رجوع للكفيل عليه بشيء ها هنا .
وكذلك الكفالة بالنفس في أمر باطل لأنه ادعى قبله فإن كفل بنفسه بأمره فليس ينبغي له أن يغزو إلا بأمر الكفيل لأنه مطلوب من جهته بالخصومة معه ليخلصه مما أدخله فيه .
وإن كان كفل بغير أمره فلا بأس بأن يخرج ولا يستأمره لأنه غير مطلوب من جهته بشيء .
وإن كان المديون مفلساً وهو لا يقدر أن يتحمل لدينه إلا بالخروج في التجارات مع الغزاة في دار الحرب فلا بأس بأن يخرج ولا يستأمر صاحبه لأن مقصوده هاهنا@(4/211)
التحمل لقضاء الدين وهو المستحق عليه بعينه .
وإن قال : أخرج للقتال لعلي أصيب ما أقضي به ديني من النفل أو السهام لم يعجبني أن يخرج إلا بإذن صاحب الدين لأن في القتال تعريضاً لنفسه وليس في الخروج للتجارة معنى تعريض النفس فالحاصل أنه إن منعه صاحب الدين فليس له أن يخرج وإن أذن له فلا بأس بأن يخرج وإن لم يشعر هو بذلك فالأولى ألا يخرج إذا كان يمكنه التحمل لقضاء الدين بطريق آخر وإن كان عاجزاً عن ذلك فلا بأس بأن يخرج لما روي أن رجلاً من المسلمين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله صداق امرأة تزوجها وأخبره أنه ليس عنده شيء فقال له : إني أريد أن أرسل أبا قتادة على سرية فاخرج معه لعل الله يغنمك صداق امرأتك فخرج معه إلى حي من بني غطفان فغنموا غنائم وأصاب الرجل ما جمع الله تعالى به إليه امرأته ولم يأمره في استئمارها في الخروج فعرفنا أن ذلك جائز له فإن كان النفير عاماً فلا بأس للمدين أن يخرج سواء كان عنده وفاء أو لم يكن أذن له صاحب الدين في ذلك أو منعه .
لأن الخروج ها هنا فرض عين على كل أحد ممن يقدر عليه وهو مما لا يحتمل التأخير وقضاء الدين يحتمل التأخير والضرر في ترك الخروج أعظم من الضرر في الامتناع من قضاء الدين لأن ذلك الضرر يرجع إلى كافة المسلمين فالواجب عليه أن يشتغل بدفع أعظم الضررين وليس لصاحب الدين حق المنع ها هنا فلا يكون على المدين استئماره أيضاً .
فإذا انتهى إلى الموضع الذي استنفر إليه المسلمون فإن كان يخاف على المسلمين فليقاتل وإن كان أمراً لا يخاف على المسلمين منه فلا ينبغي له أن يقاتل إلا بإذن غريمه لأن في القتال تعريضاً لنفسه وليس له وفاء بالدين فكأن في اشتغاله به تعريض حق صاحب الدين على الهلاك فلا يستحب له ذلك إلا بإذنه .
وإن كان الغريم مكتوب الاسم في الديوان فأمره قائده بالخروج إلى الغزو فليعلم القائد بما عليه من الدين حتى يعلم ذلك الإمام ثم ينبغي للإمام ألا يخرجه إذا كان بحيث يكفي ذلك المهم غيره وإن أبى إلا الخروج فليطع الإمام لأن طاعته في@(4/212)
مثل هذا واجبة عليه وبعدما أعلمه عذره إذا لم يعذره وأمره بالخروج فلا شيء أفضل له من طاعته وإن كان لا يقدر على استئذان الإمام ولكنه يخاف أن يحلف للتمحل أنه يذهب عطاؤه فلا بأس بأن يخرج بغير إذن صاحب الدين لأن خروجه هذا من التمحل لقضاء الدين .
فإن تمحل الجندي ومعيشته يكون بهذا فإذا انقطع ذلك عنه كان أعد له من قضاء دينه وإن لم يكن على الغازي دين وكان له والدان حيان أو أحدهما فنهياه عن الغزو فالمستحب له ألا يغزو إلا بإذنهما لما روي أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أتيتك لأجاهد معك وتركت أبوي يبكيان فقال : اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما وقال آخر : أردت الجهاد معك وإن أمي كرهت ذلك فقال : الزم أمك فإن الجنة عند رجليها وقد بينا جنس هذه المسائل فيما سبق .
وعند النفير العام لا بأس له أن يخرج وإن كره ذلك أبواه لأنه بالخروج يدفع عن نفسه وعنهما .
وإذا لم يكن النفير عاماً وأمره الإمام بالخروج فليخبره خبر أبويه فإن أمره بالخروج مع ذلك فليطعه قال : لأن الإمام أوجب عليه حقاً في مثل هذا من أبيه وأمه يعني أن من كان مكتوب الاسم في الديوان فعليه طاعة الإمام في الخروج على الوجه الذي يكون على المملوك لسيده .
ألا ترى أنه يجبره على الخروج شاء أو أبى وأنه يتبعه في السفر والإقامة كالعبد مع مولاه فكما أن على العبد طاعة مولاه في الخروج وإن كره ذلك أبواه فكذلك الجندي في طاعة الإمام .
والعبد لا يغزو بغير إذن مولاه إذا لم يكن النفير عاماً لأن خدمة المولى وطاعته فرض عليه بعينه .
وعند النفير العام لا بأس بأن يخرج إلى ذلك المكان بغير إذن مولاه لأنه@(4/213)
يدفع بخروجه عن نفسه وعن مولاه وعن سائر المسلمين وليس لمولاه أن يمنعه عند تحقق الضرورة من الخروج ولا من القتال ولا يكون عليه أن يستأمره أيضاً والمكاتب في الخروج للغزو كالعبد لأن هذا لا يدخل تحت الفك الثابت بالكتابة فإن ذلك مقصور على ما فيه اكتساب المال .
والحرة يجوز لها أن تخرج إلى الغزو مع المحرم فتداوي الجرحى وتقوم على المرضى ولا تخرج بغير إذن محرم عجوزاً كانت أو شابة إذا كان خروج المسلمين إلى مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها وإن كان خروجهم إلى أقل من ذلك فلا بأس بأن تخرج بغير محرم ولكن إن كان لها زوج فإنها لا تخرج إلا بإذن زوجها إلا إذا كان النفير عاماً وكان في خروجها قوة للمسلمين ولا ينبغي لها أن تلي القتال إذا كان هناك من الرجال من يكفيها لأنها عورة ولا يأمن أن ينكشف شيء منها في حال تشاغلها بالقتال ولأن في قتالها نوع شبهة للمسلمين فإن المشركين يقولون : انتهى ضعف حالهم إلى أن احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء في القتال وعند الحاجة لا بأس بذلك لما روي أن نسيبة بنت كعب قاتلت يوم أحد حين انهزم الناس عن رسول الله@(4/214)
صلى الله عليه وسلم فقال : لمقام نسيبة اليوم كان أفضل من مقام فلان وفلان فقد نوه بذكرها ومدحها على مباشرة القتال عند تحقق الحاجة فعرفنا أنه لا بأس بذلك وإن نهى الإمام الناس عن الغزو والخروج للقتال فليس ينبغي لهم أن يعصوه إلا أن يكون النفير عاماً لأن طاعة الأمير فيما ليس فيه ارتكاب المعصية واجب كطاعة السيد على عبده فكما أن هناك بعد نهي المولى لا يخرج إلا إذا كان النفير عاماً فكذلك ها هنا . والله أعلم .
باب ما يكره في دار الحرب وما لا يكره
قال : ولا بأس بأن يجرس في سبيل الله وعلى حصون المسلمين بالأجراس لأن هذا مما يقوى به المسلمون ويذهب عنهم النوم وقد بينا أن كراهية الجرس في استعماله على سبيل اللهو أو على ما يتضرر به المسلمون من دلالة المشركين أو اللصوص على المسلمين بصوته فإذا انعدم ذلك المعنى لم يكن باستعماله بأس عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وكذلك لا بأس بالأجراس التي تجعل على الخيل مع التجافيف في القتال لأن فيه ترهيب المشركين وهو من مكايدة الحرب .
وكذلك لا بأس بالطبول التي يضرب بها في الحرب لاجتماع الناس لأن هذه ليست بلهو وإنما المكروه@(4/215)
طبول اللهو بمنزلة الدفوف لا بأس بضربها في إعلان النكاح وإن كره ذلك للهو ولا ينبغي للمسمين أن يضربوا في حربهم لجمع الناس بناقوس ولا شبور لأن هذا من صنيع النصارى واليهود وقد نهينا عن التشبه بهم ولأن المقصود يحصل بغير ذلك فلا ينبغي أن نستعمل ما يستعمله المشركون مع إمكان تحصيل المقصود بغيره .
والصلاة في حصون المسلمين ومدائنهم أفضل من الحرس إذا كان هناك من يقوم بأمر الحرس لأنها أجمع في معنى العبادة وإن لم يكن هناك من يكفي الحرس فالحرس أفضل ولأن الحرس إنما يكون في هذا الموضع خاصة وهو متمكن من الصلاة النافلة في غير هذا الموضع فهو نظير الصلاة مع الطواف بمكة .
فإن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لهذا المعنى وإن أمكنه الجمع بين الحرس والصلاة فليجمع بينهما لأن الجمع بين العبارتين أفضل من أداء إحداهما والإعراض عن الأخرى كالجمع بين الصوم والاعتكاف وبين الطواف وقراءة القرآن .
فإن صلى إلى القبلة شغله ذلك عن الحرس فأراد أن يحرس ويصلي بغير القبلة فليس له ذلك لأن الصلاة لغير القبلة مع العلم لا تجوز إلا عند تحقق الضرورة ولا تتحقق الضرورة ها هنا لأن الحرس ليس بمستحق عليه عيناً .
وإن كان ينحرف عن القبلة قليلاً إلا أنه لا يصلي نحو المشرق ولا نحو المغرب ولا نحو دبر القبلة فإن كان ذلك على وجه لو صلى الفريضة كذلك متعمداً لزمه الإعادة فليس ينبغي له أن يصلي تطوعاً لأن المكتوبة والنافلة في وجوب استقبال القبلة فيهما سواء .
وإن كان ذلك على وجه لو فعله في المكتوبة متعمداً لم يلزمه الإعادة بأن@(4/216)
كان لا يصرف وجهه عن القبلة فلا بأس بهذا لما فيه من الجمع بين التقرب بالصلاة والحرس في سبيل الله والأفضل له ألا يطول الأركان حتى يصلي ركعتين ثم يحرس وهذا يحرس على رأس كل ركعتين وإن خاف أن يكون منه تفريط في الحرس وإن أخف الصلاة فليدع الصلاة بمنزلة ما لو كان بحيث لا يمكنه أن يصلي إلى القبلة لأنه إنما يجمع بين الأمرين إذا كان يأمن التفريط في أحدهما ولا بأس بأن يقلد الخيل أعناقها في الحرب وغير الحرب لأن ذلك من صنع المبارزين وغيرهم وممن يركب الخيل وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ولكن لا يعجبنا أن يقلدوها بالأوتار لما جاء في الحديث : قلدوا الخيل ولا تقلدوها بالأوتار وقيل في تأويل النهي : إنها ربما خنقت فقتلت فلهذا يكره تقليد الخيل بها .
قال : ويكره لبس الحرير الرقيق في الحرب وغير الحرب لأن ذلك لا يدفع به السلاح وإنما يلبس للتنعم .
فأما الثخين الذي ينتفع به في الحرب فقد بينا الخلاف فيه ويكره أن يكون في تجفاف فرس الغازي تمثال حيوان وكذلك في سرجه وترسه وما يلبسه من الثياب وإن كان في شيء من ذلك تمثال الأشجار فلا بأس به لما روي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترس فيه تمثال طائل فأصبح وقد محا ذلك التمثال قيل : فعل ذلك الملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل أن استعمال مثله مكروه وإنما يرخص في التماثيل في البساط والوسادة ونحو ذلك مما ينام ويجلس عليه لحديث جبرائيل عليه السلام حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إما@(4/217)
أن تقطع رءوسها أو تتخذ وسائد فتوطأ وهذا لأنه ليس في ذلك تعظيم الصورة والتشبه بمن يعبدها بخلاف ما ينصب أو يلبس أو ينظر فإن في ذلك معنى تعظيم الصورة والتشبه بمن يعبدها فكان مكروهاً وفي هذا دليل على أن البشتي الكبير من الوسائد الذي ينصب أمام البيت إذا كان عليه تمثال حيوان فذلك مكروه لأن ذلك ينصب ولا يوطأ وكذلك الستور والأزر إذا كان فيها تمثال حيوان فإن استعمال ذلك مكروه .
وكذلك يكره أن يكون في آنية البيت تماثيل لأن ذلك ليس مما يبسط ويجلس عليه .
قال : ولا بأس بلبس الجوشن أو البيضة من الذهب أو الفضة في الحرب وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فهو مكروه والاختلاف فيه كالاختلاف في لبس الديباج في الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في قوله : هذا حرامان لذكور أمتي حل لإناثها وبهذا يقع الفرق بين هذا وبين لبس المصور من الثياب لأن النهي عن ذلك عام في حق الرجال والنساء فعرفنا أن لا رخصة فيه في غير موضع الضرورة والحرير والذهب لما رخص فيهما للنساء لمنفعة الزينة فعرفنا أن فيهما رخصة لأجل المنفعة وإن لم يكن في موضع الضرورة .
قال : ولا بأس بلبس الثوب في غير الحرب إذا كان أزراره ديباجاً أو ذهباً لأنه قد جاء في الحرير رخصة في الإصبع والإصبعين والثلاثة .
وكذلك الذهب في الأزرار والكفاف ويكره للرجل أن يتختم بخاتم الذهب ولا بأس بأن يلبس خاتم فضة في فضة مسمار ذهب لأن ذلك قليل في حكم التبيع المستهلك كالأزرار فكذلك الكفاف والأزرار في الثوب .
وإن تحققت الحاجة له إلى استعمال السلاح الذي فيه تمثال فلا بأس باستعماله لأن مواضع الضرورة مستثناة من الحرمة كما في تناول الميتة وإن@(4/218)
كان التمثال مقطوع الرأس أو ممحو الوجه فهو ليس بتمثال لأن المكروه هو تمثال الحيوان ولا يكون ذلك بدون الرأس .
ويكوه أن يجعل على الكعبة ثوب فيه تمثال ذي روح لأن اتخاذ التمثال في سائر المساجد مكروه ففي الكعبة أولى .
وإن طينت رءوس التماثيل بالطين حتى محاها الطين فلم تستبن فلا بأس بذلك لأنها الآن ليست بتماثيل .
وكذلك لو كان التماثيل في بيت فأذهبت وجوهها بالطين أو الجص فإن الكراهة تزول به وإن كان بحيث لو شاء صاحبها نزع الطين لأن الكراهة لما فيه من معنى تعظيم الصورة والتشبه بمن يعبدها وذلك يزول به .
وكذلك إن كان ذلك على السلاح فجعل على وجوهها الغراء أو كان على الثياب فضرب عليها الخيوط حتى محاها أو خاط على وجهها خرقة .
فإن الكراهة تزول بجميع ذلك .
وكذلك يكره تماثيل ذي الروح في الرايات والألوية لأن ذلك مما ينصب نصباً .
ولا بأس بأن يجعل فيها تماثيل شجر ونحو ذلك لأن المكروه تماثيل ذي الروح على ما جاء في الحديث : أنه يكلف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح وهو ليس بنافخ ولا بأس بأن يستر حياطان البيت باللبود ونحوها للبرد أو بالخيش للحر إذا لم يكن فيها تماثيل لأن هذين للمنفعة لا للزينة وإنما يكره من ذلك ما يكون على قصد الزينة .
على ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمر بنزع ذلك ولما رآه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه في بيت قال : أمحموم بيتكم هذا أو تحولت الكعبة في كندة فعرفنا أن ذلك مكروه لما فيه من@(4/219)
تشبيه سائر البيوت بالكعبة ثم على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا بأس ببسط الحرير للجلوس والنوم عليه وكذلك لا بأس بالتوسد بالحرير وإنما يكره اللبس في ذلك وعلى قول محمد رحمه الله التوسد بالحرير والجلوس عليه مكروه كلبسه وذلك منقول عن عبيدة السلماني رحمه الله .
ولا خلاف أن الدثار إذا كان من الحرير فهو مكروه واستدل محمد رحمه الله بحديث علي رضي الله تعالى عنه أنه أدنيت إليه بالمدائن بغلة الدهقان ليركبها فوضع يده على قربوس السرج فزلت فقال : ما هذا قالوا ديباج فكره أن يركبها قال : ولو كان هذا لا بأس به أن يقعد عليه لم يكن بالقعود على سرير الذهب بأس .
لأن التسوية بينهما ثابتة في الأثر وإذا كان ذلك مكروهاً بالاتفاق فهذا مثله فكيف يرخص في سرير الذهب أن يجلس عليه ولا رخصة في آنية الذهب في استعمالها .
وإن كان في خاتمه فص فيه صورة ذي روح فلا بأس بلبسه لأن هذا يصغر عن البصر ولا يرى عند النظر إليه من بعيد وإنما يكره من ذلك ما يرى من بعيد .
ثم معنى التعظيم والتشبيه بمن يعبد الصورة لا يحصل في استعماله هذا وقد بلغنا أن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه كان على فص خاتمه كركيان بينهما شيء من ذكر الله تعالى وأبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه كان في خاتمه صورة أسد رابض .
ألا ترى أنه لا بأس بأن يحمل الرجل في حال الصلاة دراهم العجم وإن كان فيها تماثيل الملك على سريره وعليه تاج .
ولا بأس بأن يكون في بيت الرجل سرير من ذهب لا يقعد عليه وأواني من ذهب أو فضة لا يشرب فيها ولا يأكل ولكنها موضوعة يتجمل بها وقد روي أن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قد كان ذلك في بيته فلما قيل له في ذلك قال : هذا امرأة من قريش تزوجتها فجاءت به وما ذكر بعد هذا إلى آخر الباب وقد استقصينا شرحه في كتاب الكسب موصولاً بشرح المختصر والله أعلم .@(4/220)
باب قطع الماء عن أهل الحرب
قال : ولا بأس للمسلمين أن يحرقوا حصون المشركين بالنار أو يغرقوها بالماء وأن ينصبوا عليها المجانيق وأن يقطعوا عنهم الماء وأن يجعلوا في مائهم الدم والعذرة والسم حتى يفسدوه عليهم لأنا أمرنا بقهرهم وكسر شوكتهم وجميع ما ذكرنا من تدبير الحروب مما يحصل به كسر شوكتهم فكان راجعاً إلى الامتثال لا إلى خلاف المأمور ثم في هذا كله نيل من العدو وهو سبب اكتساب الثواب قال الله تعالى : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } ولا يمتنع شيء من ذلك ما يكون للمسلمين فيهم من أسرى أو مستأمنين صغاراً أو كباراً أو نساءً أو رجالاً وإن علمنا ذلك .
لأنه لا طريق للتحرز عن إصابتهم مع امتثال الأمر بقهر المشركين وما لا يستطاع الامتناع منه فهو عفو .
وإن هلك بعض من ذكرنا بشيء من هذه الأسباب فلا شيء على المسلمين في ذلك لأن فعلهم مباح مطلوب أو مأمور به وما لا يستطاع الامتناع منه فهو عفو في حقهم فلا يلزم به تبعة في الدنيا ولا في الآخرة .وأصل هذا@(4/221)
فيما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيقتل فيهم النساء والصبيان فقال : هم منهم وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يغير على أبنى صباحاً ثم يحرق وأشار سلمان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق على حصن الطائف فنصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عمر أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما وهو محاصر أهل تستر أن ينصب المنجنيق عليها فنصبها أبو موسى ونصب عمرو بن العاص المنجنيق على اسكندرية حين حاصرها وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء عن أهل حصن من حصون النطاة بخيبر حين أخبر أن لهم ذيولاً تحت الأرض يشربون منها عادية فقطعها عنهم حتى عطشوا فخرجوا وقاتلوا حتى ظفر الله ورسوله بهم وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : ركبنا البحر زمن معاوية رضي الله تعالى عنه ولقينا عدو فرميناهم بالمحرقات فعرفنا أنه لا بأس بذلك كله ما داموا ممتنعين وإنما يكره الإحراق بالنار بعد الأخذ للأسير على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرية وقال لهم : إن قدرتم على فلان فأحرقوه بالنار وكان نخس بزينب رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أزلقت ثم قال :@(4/222)
إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه فإنما يعذب الله تعالى بالنار ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إلى اليمن قال له : انظر فلاناً فإن أمكنك الله منه فأحرقه بالنار فلما ولى دعاه فقال : إني قلت لك ذلك وأنا غضبان فإنه ليس لأحد أن يعذب بعذاب الله تعالى ولكن إن أمكنك الله منه فاقتله فعرفنا أنه يكره إحراق المشركين بالنار بعدما يقدر عليهم فأما مع كونه ممتنعاً فلا بأس به قال : ولا بأس بالتكني عند الحرب والانتماء وإنشاد الشعر ما لم يكن في ذلك غضب من بعض المسلمين بأن يهجو بعضهم بعضاً أو يفخر
بعضهم على بعض فإن ذلك مما يحرض على القتال ويزيد في نشاط المبارزين فلا بأس به بشرط ألا يؤذي أحداً فإن أذى المسلم لا رخصة فيه والأصل فيه ما روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق كانوا يحفرون ويرتجزون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغضب اليوم أحد من شيء يرتجز به رجل لا يريد به بأساً ما لم يكن كعب بن مالك أو حسان بن ثابت فإنهما يجدان من ذلك قولاً كثيراً ونهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولا شيئاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الحفر بنفسه حتى باشر به الناس وهو يقول :@(4/223)
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وكان يحمل مكاتيل التراب يومئذ وهو يقول : هذي الجمال لا جمال خيبر هذه أبر بنا وأطهر فعرفنا أنه لا بأس بمثله مما يزيد في نشاط المجاهدين ولو رمى رجل من المسلمين رجلاً واقفاً في صف المشركين وهو مسلم قد جاء به المشركون مكرهاً والرامي لا يعلم أنه مسلم أو يعلم إلا أنه لم يتعمده بالرمية أو تعمده وهو لا يدري أنه مسلم فهذا كله سواء وليس على الرامي فيه دية ولا كفارة لأنه قد حل له الرمي إلى صف المشركين مطلقاً فلا يكون ذلك موجباً عليه تبعة .
إلا أن يعلم مسلماً بعينه قد جاء به العدو مكرهاً فتعمده بالرمي وهو يعلم حاله فحينئذ يلزمه القود في القياس لأنه عمد محض والعمد موجب للقود وهذا قياس يؤيده النص وهو قوله عليه السلام : العمد قود .
وفي الاستحسان لا قود عليه لأنه في صف المشركين والرمي إلى صفهم مباح فكونهم في موضع إباحة القتل يصير به شبهة في إسقاط القود لأنه عقوبة تندرئ بالشبهات .
ولكن عليه الدية في ماله لأن الدية تثبت مع الشبهات وقد أتلف نفساً متقومة .
ولا كفارة عليه لأن فعله عمد .
وإن انقطع وتر الرامي فرجع السهم@(4/224)
على رجل مسلم في صف المسلمين أو مالت الرمية فأصابت رجلاً من المسلمين وقد تقدم للقتال فعليه الدية على عاقلته والكفارة لأنه قتله خطأ وفي الخطأ الدية والكفارة بالنص ثم بين أنواع الخطأ .
فمن ذلك أن يتعمده بالرمية حين رآه في صف المشركين وهو يظنه من المشركين فإذا هو مسلم وهذا عمد في الحقيقة لأنه قصد شخصاً بعينه وأصابه فأما ظنه فليس بمتصل بفعله ولكنه خطأ شرعاً عرفناه بالسنة وهو ما روي أن سيوف المسلمين اختلفت على اليمان أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهما وهم يرون أنه من المشركين فقتلوه فجعل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية فترك ذلك لهم حذيفة .
فلو رموا أهل الحصن بالمنجنيق فأصابوا مسلماً في الحصن تاجراً أو أسيراً فلا شيء عليهم وإن أعلمهم المسلم أنه فيهم لما بينا أن الرمي مباح له على الإطلاق .
وكذلك لو دخنوا على مطمورة وفيها مسلم مع المشركين فمات المسلم فيمن مات فلا بأس عليهم لأن التدخين مباح لهم .
إلا أنهم لو قدروا على قتل المشركين الذين فيها بغير تدخين فالأولى أنهم لا يدخنون وإن لم يقدروا على ذلك إلا بالتدخين فلا بأس بذلك لأنهم لم يتعمدوا ذلك المسلمين إنما أرادوا به المشركين فيكون ذلك فعلاً مباحاً لهم على الإطلاق بخلاف فعل الخاطئ فإنه مباح بشرط أن يتحرز عن إصابة المسلم لأن ذلك مما يمكن التحرز عنه في الجملة .
ولو رجع حجر المنجنيق على قوم من المسلمين في عسكر المسلمين فقتلهم ففيه الدية والكفارة لأنه خطأ يمكن التحرز عنه في الجملة .
ويكون ذلك على الذين يمدون الحبال دون الذين يمسكون المنجنيق @(4/225)
والذي يمسلك الحجر ويسدده لهم لأن الرماة هم الذين يمدون الحبال فإن مضي الحجر يكون بقوتهم من أي وجه مضى لا بفعل المسدد للحجر وفعل الذي يمسك المنجنيق .
وإن وقع الحجر على الذين رموا بها فقتل رجلاً منهم فعليهم الدية على عواقلهم يرفع عنه حصة من ذلك حتى إذا كانوا عشرين رجلاً فعليهم الدية إلا نصف عشرها لأنه قتل نفسه معهم فبحصته يسقط وهو نصف عشر الدية بمنزلة رجل جرح نفسه وجرحه قوم .
وعلى كل رجل منهم كفارة كاملة لأن الكفارة جزاء الفعل ولأنه لا يحتمل الوصف بالتجزي بخلاف الدية ثم بين : أنهم إذا تترسوا بأطفال للمسلم فلا بأس للمسلم أن يرمي إليهم وإن أصاب الطفل فليس عليه في ذلك شيء لأنه لا يتعمد بالرمي المسلم وإنما يتعمد به العدو .
ولو كان المسلمون يغرمون في هذه الديات أو يكون عليهم فيها الكفارات ما أقدموا على القتال في هذا فكيف يقاتل من يجب عليه فيما أصاب الكفارة فإن لم يؤدها كان عاصياً وإن مات قبل أن يكفر لقي الله تعالى مذنباً مأخوذاً بذنبه إلا أن يعفو الله تعالى عنه وفي هذا تنصيص على أن المخطئ يكون آثماً بخلاف ما يقوله بعض أصحابنا أنه لا إثم على المخطئ استدلالاً بظاهر قوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } الأحزاب : 5 فإنا نقول في التنصيص على إيجاب الكفارة على المخطئ بيان ظاهر على أنه في فعله آثم والمراد بالنص الآخر رفع @(4/226)
الجناح عنه بعد التكفير وما شرعت الكفارة إلا ستارة للذنب وهذا لأن التحرز عن الخطأ في الجملة ممكن وكل هذا التقرير منا لبيان أن الفعل متى كان مباحاً مطلقاً لا يصير ذلك سبباً موجباً للدية ولا الكفارة ولا بأس بأن يجعل السم في السلاح لأن السلاح المسموم يكون أعمل في نفوسهم وأقتل لهم إذا وقع بهم فكان هذا من مكايدة الحرب وقد بينا أن ما يرجع إلى مكايدة الحرب فلا بأس به للمسلم .
وكذلك الأسنة يجعل في رءوسها المشاقة عليها النفط وفيها النيران ليطعن به المشركين حتى يحترقوا فإن هذا من مكايدة الحرب فلا بأس به ثم ذكر قطع الأشجار وتخريب الأبنية وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب والذي زاد ها هنا .
أنه يجوز لهم أن يفعلوا ذلك كله فيما يمرون به من الطريق وإن كانوا لا يحاصرون أحداً إلا في خصلة واحدة وهو أن يكون طريقاً معروفاً يمر به الغزاة كل سنة فحينئذ لا ينبغي لهم أن يغوروا ما كان فيه من المياه ولا يقطعوا ما كان فيه من الشجر المثمر لأنهم يحتاجون إلى ذلك في كل سنة فلو فعلوا ذلك أضر ذلك بهم أو بغيرهم من المسلمين ممن يمر بعدهم في هذا الطريق غازياً فللتحرز عن هذا الضرر يكره لهم ذلك فأما ما سواه مما فيه كبت وغيظ للمشركين فلا بأس بأن يفعلوا ذلك .
وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فليس ينبغي له أن يعمل لهم السلاح ولا التجافيف ولا غير ذلك مما يتقوون به على المسلم في الحرب لأن حمل ذلك إليهم من دار الإسلام مكروه للمسلمين أشد الكراهة فكذلك عمل ذلك لهم في دار الحرب .
ويستوي في ذلك المستأمن والأسير لأنهما مخاطبان بكسر شوكة المشركين@(4/227)
وممنوعان مما فيه تقوية المشركين على محاربة المسلمين .
فإن أكرهوهما على شيء من ذلك بحبس أو قيد فكذلك الجواب لأنهما لا يخافان التلف على أنفسهما والضرورة إنما تتحقق بالتهديد بما فيه خوف الهلاك .
وإن هددوهما بالقتل أو الضرب الذي يخاف منه التلف على النفس أو على عضو من الأعضاء فلا بأس بأن يفعلا لأن الضرورة قد تحققت وعند تحقق الضرورة يسع للمسلم ما هو أعظم من هذا وهو إجراء كلمة الشرك على اللسان فلأن يسع له عمل السلاح لهم كان أولى .
وإن أبى أن يفعل حتى يقتل كان ذلك أفضل له لأنه أظهر بفعله الصلابة في الدين ومباشرة ما فيه غيظ للمشركين والتحرز عن اكتساب ما فيه إدخال الوهن على المسلمين فيكون ذلك أعظم لثوابه كما إذا تحرز عن إجراء كلمة الشرك على اللسان حتى يقتل .
وإن كان المسلم مستأمناً فيهم فكان إذا عمل شيئاً من ذلك لم يمنعوه من إخراجه إلى دار الإسلام ولم يجبروه على أن يعطيهم ذلك بثمن ولا غير ثمن فلا بأس بأن يصنع ذلك في دار الحربن ثم يخرجه إلى دار الإسلام لأنه ليس في صنيعه هذا تقوية المشركين على المسلمين فأما إذا خاف أن يأخذوا ذلك منه لم يحل له أن يفعل .
ألا ترى أنه لا يحل له أن يدخل ذلك مع نفسه من دار الإسلام لتجر فيه ويحل له إدخال ذلك مع نفسه لينتفع به إذا علم أنهم لا يأخذونه منه فكذلك ما سبق .
ولو أصاب المستأمن معدن حديد في دار الحرب فإنه يكره له أن يعمل فيه ويستخرج من الحديد إذا كان ذلك يؤخذ منه بثمن أو بغير ثمن لأن الحديد أصل السلاح فالحكم فيه كالحكم في عمل السلاح .
وإن كان يعلم أنه لا يؤخذ منه بغير رضاه فلا بأس بأن يستخرجه ثم@(4/228)
يخرجه إلى دار الإسلام وإن كان يؤخذ منه البعض دون البعض فإنه يكره له أن يستخرجه إلا أن يكون بالمسلمين إلى ذلك ضرورة أو يكون في إخراج ما يخرج رفقاً بيناً للمسلمين فإن كان بهذه الصفة فهو إنما يقصد بفعله توفير المنفعة على المسلمين دون الإضرار بهم وهذا لا بأس به لو أصاب دواب فعجزوا عن إخراجها فقد بينا أنه ينبغي لهم أن يذبحوها ثم يحرقوها بالنار ولا ينبغي لهم أن يعقروا شيئاً منها عقراً وهم يقدرون على ذبحها من بقرة ولا رمكة ولا غير ذلك لأن ذلك مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولو بالكلب العقور .
إلا أن يعجزهم الثور أو الرمكة فحينئذ لا بأس بأن يعقروها بالرمي لأنه تحقق عجزهم عن ذبحها وفي تركها منفعة للمشركين فلهذا لا بأس بأن يعقروها .
والأصل فيه ما روي أن جعفراً الطيار رضي الله تعالى عنه يوم مؤته لما أيس من نفسه ترجل وعقر جواده وجعل يقاتل حتى قتل فبهذا تبين أنه لا بأس للمسلم أن يترجل فيقاتل ويستقتل لأنه بهذا الصنيع يرى المشركون أنه لا يريد الفرار منهم بحال وفي هذا كسر شوكتهم وهون مكايدة الحرب قد فعله غير واحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
منهم عاصم بن ثابت حمي الدبر رضي الله عنه حيث استقبل يوم الرجيع يوم بني لحيان وإنما سمي حمي الدبر لأنه لما أيقن أنهم قاتلوه قال : اللهم إني حميت دينك بجهدي فاحم لحمي فلما قتل أرسل الله الدبر حتى حمت لحمه فلم يستطع أحد من المشركين أن يقرب منه ليجز رأسه فقالوا : اصبروا حتى يدخل الليل فإن الدبر تذهب بالليل فلما دخل الليل طلبوه فلم يجدوه فسمي حمي الدبر لهذا والمنذر بن عمرو الساعدي رضي@(4/229)
الله عنه استقبل يوم بئر معونة حتى قتل فعرفنا أنه لا بأس للمسلم أن يترجل إذا أراد أن يستقتل ليقتل أو ليظفر بهم وأن يكسر جفن سيفه وأن يذبح فرسه إن أمكنه ذبحه فلا بأس بعقره ثم يمضي حتى يقتل أو يظفر .
لأن في هذا كله تحقيق تسليم المبيع على ما أشار الله تعالى إليه في قوله : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم } التوبة : ولو حاصر المسلمون أهل حصن وهو على طريقهم المعروف فلا بأس بأن يقطعوا أشجارهم ويغوروا مياههم وقد بينا أنهم إذا لم يكونوا محاصرين أحداً فالأولى لهم ألا يفعلوا ذلك في الطريق المعروفة لكيلا يتضرر به أمثالهم أو هم بعد هذا فأما إذا كانوا محاصرين للعدو فهذا الصنيع يكسر شوكتهم ويحملهم على أن يعطوا بأيديهم والمنفعة للمسلمين في هذا أكثر مما يخاف من الضرر في وقت آخر فلهذا لا بأس لهم أن يفعلوا ذلك .
ولو أخذ أهل الحرب أسيراً من المسلمين وهم محاصرون حصناً من حصون المسلمين فقالوا له : دلنا على موضع نفتح منه هذا الحصن وهو يعرف ذلك فليس يحل له أن يفعل هذا لما فيه من إعانة المشركين على المسلمين فإن هددوه بالقتل على ذلك فإن كان أكبر الرأي منه على أنه يفتح إن فعل ذلك وظفروا بالحصن فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فليس يسعه أن يدلهم .
لأن في فعله ذلك هلاك للمسلمين وليس للمسلم أن يجعل روح جماعة المسلمين وقاية لروحه .
ألا ترى أن المكره على القتل لا يحل له أن يقتل المقصود بالقتل وإن كان ذلك شخصاً واحداً فلأن لا يحل له أن يفعل ذلك وفيه هلاك جماعة المسلمين كان أولى .
ألا ترى أنهم لو جاءوا في طلب رجل من المسلمين يريدون قتله فقالوا : دلنا عليه وإلا قتلناك وأكبر الرأي منه على أنه إن دلهم عليه قتلوه فإنه لا يسعه أن يدلهم عليه قال : لأن في هذا مظلمة للمسلمين ولا يحل له أن يظلم مسلماً في بدنه بما يهلكه وإن كان يخاف التلف على نفسه ولكن إن علم أنهم لا يقتلونه ولكنهم يأسرونه فيتخدمونه أو يأخذون مالاً معه فحينئذ هو في سعة من أن يدلهم عليه إذا@(4/230)
خاف القتل على نفسه بمنزلة ما لو أكرهوه على إتلاف مال مسلم وإن أبى أن يفعل ذلك حتى يقتل فذلك أعظم لأجره لأنه تحرز عما فيه مظلمة المسلم وأظهر الصلابة في الدين وما يغيظ المشركين وذلك أعظم للأجر .
ولو أن المكره على الدلالة على طريق الحصن كان أكبر الرأي منه أنه إن دلهم على ذلك الطريق يكون فيه نوع وهن بشوكة المسلمين ولكن المسلمين ينتصفون منهم ويقاتلونهم فلا بأس بأن يدلهم إذا خاف التلف على نفسه لأنه ليس في هذه الدلالة هلاك المسلمين إنما فيه زيادة شغل أو هم يلحقهم بسبب دلالته فيكون هو في سعة من أن يفعله عند خوف الهلاك على نفسه وإن كان الامتناع منه أعظم للأجر بمنزلة ما لو قالوا له : دلنا على سلاح نقاتل به المسلمين وإلا قتلناك فإن كان أكبر الرأي منه أنه إذا فعل ذلك ظفروا بالمسلمين فليس يسعه أن يدلهم وإن كان أكبر الرأي منه أنهم يتقوون بهذا السلاح ولكن المسلمين قد ينتصفون منهم فلا بأس بأن يدلهم إذا خاف القتل على نفسه أو المثلة وإن كان لو صبر حتى يقتل كان أفضل له .
وإن قيل له : لنقتلنك أو لتسجدن للملك إذا رأيته فإن سجد كان في سعة وإن أبى حتى يقتل كان أعظم لأجره لأنه لا ينبغي لأحد أن يسجد إلا لله تعالى فإذا أمروه بالسجود على وجه العبادة له كان هذا بمنزلة ما لو أمروه بإجراء كلمة الشرك على اللسان أو السجود للصليب وقد بينا أن ذلك مما يرخص له فيه عند خوف الهلاك وإن كان لو امتنع كان أعظم لأجره لما فيه من إظهار الصلابة في الدين فإن أمروه بالسجود له على وجه التحية لا على وجه العبادة فأحب إلي أن يفعل ولا يعرض نفسه للقتل .
لأن هذا النوع من السجود قد كان مباحاً في شريعة من قبلنا قال الله تعالى : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا } يوسف : فيكون هذا بمنزلة ما لو أمروه بشرب الخمر .
وقد بينا أن هناك ينبغي له أن يفعل إذا@(4/231)
خاف الهلاك على نفسه فهذا مثله .
وإن كان الحصن الذي أكرهوه على الدلالة على طريق فتحه لم يكن فيه إلا النساء والصبيان وكان أكبر الرأي عنده أنهم يسبون ويسترقون لم يسعه أن يدلهم أيضاً لأن هذا من المظالم والسبي والاسترقاق إتلاف حكمي فيكون نظير القتل الذي هو إتلاف حقيقة .
وإن لم يكن في الحصن إلا الأموال فلا بأس بأن يدلهم على ذلك إذا خاف التلف بمنزلة ما لو أكرهوه على إتلاف المال وفي كل موضع يسعه الإقدام على ما طلب منه بالإكراه إنما يكون ذلك إذا أحضروه ليفعلوا به ما هددوه به فأما إذا لم يحضروه لذلك فليس يسعه أن يفعل شيئاً من ذلك لأنه آمن في الحال والرخصة في الإقدام على ما لا يحل بسبب الإكراه عند تحقق خوف الهلاك .
ثم أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف عليه بمنزلة الحقيقة وما يصير معلوماً للمكره بأكبر الرأي مما يخاف الهلاك على نفسه فذلك بمنزلة المتيقن به سواء هددوه بذلك أو لم يهددوه حتى إذا رآهم يقتلون غير واحد من الأسراء في مثل هذا وقد كانوا تقدموا إليه فيه فإنه يسعه الإقدام وإن لم يهددوه بالقتل نصاً لأن ذلك معلوم له بأكبر الرأي والسعيد من وعظ غيره .
قال : ولا بأس بالقوس الفارسية أن يتعلم بها الرجل الرمي لأن في ذلك كسر شوكة العدو وإدخال الوهن عليهم والمسلم مندوب إلى كل ما يكون فيه نكاية في العدو .
وكذلك الحسبان يتعلمه الرجل ليرمي به العدو وإنما أورد هذا لأن كثيراً من الناس من كره الرمي بالقوس الفارسية ورووا في ذلك حديثاً ولكنه شاذ فيما تعم به البلوى وهو مخالف للكتاب قال الله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم@(4/232)
مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } الأنفال : 60 ومن القوة الرومي بالقوس الفارسية فإن قال : إنما يكره ذلك لأنها من أمر العجم ينبغي للغازي أن يستعمل في القتال ما هو من أمر العرب قلنا : فالمنجنيق من أمر العجم وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف حين أشار عليه به سلمان رضي الله تعالى عنه واتخاذ الخندق من أمر العجم وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بإشارة سلمان رضي الله عنه فتبين أن ما يكون من مكايدة الحرب فلا بأس به سواء كان من أمر العجم مما لا يعرفه أو كانوا يعرفونه .
ومن قتل شهيداً وعليه الحرير أو الديباج قد كان لبسه للقتال على قول من يرخص في ذلك فإنه ينبغي أن ينزع ذلك عنه ولا يترك شيء منه في كفنه لأنا قد بينا أن الشهيد يدفن في ثيابه ولكن ينزع السلاح وهذا إنما لبسه ليكون سلاحاً له فإنه لا رخصة في لبسه إلا على وجه السلاح فكما ينزع عنه السلاح بعدما يستشهد فكذلك ينزع عنه الحرير والديباج والله أعلم بالصواب .
باب ما يحل في دار الحرب مما لا يجوز مثله في دار الإسلام
قد بينا أن للمستأمن في دار الحرب أن يأخذ ما لهم بأي وجه يقدر عليه بعد أن يتحرز عن الغدر وليس له أن يدلس لهم العيب فيما يبيعه منهم مما يجوز مثله في دار الإسلام أو لا يجوز لأن فيه معنى الغرور ولا بأس للأسير والمسلم من أهل الحرب أن يدلس لهم العيب فيما يبيعه منهم لأن لهما أن يأخذا أموالهم بغير طيبة أنفسهم .
ولو أن المستأمن فيهم باعهم درهماً بدرهمين إلى سنة ثم خرج إلى دارنا ثم رجع إليهم أو خرج من عامه ثم رجع إليهم فأخذ الدراهم بعد حلول الأجل لم يكن به بأس لأن@(4/233)
حالهما بعد الرجوع كحالهما عند ابتداء المعاملة .
ولو اختصما في ذلك في دارنا لم يقض القاضي بينهما بشيء لأن أصل المعاملة لم يكن في دارنا .
والذي خرج إلينا بأمان لم يلتزم حكم الإسلام مطلقاً فإن كان أسلم أو صار ذمة ثم اختصما أبطل القاضي ذلك البيع وأمر برد رأس المال على من أعطاه لأن إسلامه الطارئ بعد العقد قبل القبض في المنع من القبض بحكم العقد كالمقارن للعقد بمنزلة الذمي يبيع الخمر للذمي في دارنا ثم يسلم أحدهما قبل القبض أو المسلم يبيع للمسلم عصيراً فيتخمر قبل القبض والأصل فيه قوله تعالى : { وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ } البقرة : وقال تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } البقرة : فهو تنصيص على أن ما لم يقبض يجب تركه بعد الإسلام .
وكذلك لو أسلم أهل الدار قبل أن يقبض المسلم ما شرط له الحربي لأن البقعة صارت دار الإسلام قبل القبض بحكم عقد الربا فيجعل هذا وما لو كانت دار الإسلام عند العقد سواء بخلاف خروجها إلى دارنا فإن هناك لم يثبت حكم الإسلام في تلك المعاملة بدليل أن القاضي يسمع الخصومة فيها فيأمره بالرد فيما لم يتم القبض من الجانبين .
والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا يوضع هو ربا العباس بن عبد المطلب .
وإنما بدأ بعمه ليتبين أن أوامره ليست على نهج أوامر الملوك فإنهم في مثل هذا يتركون الأقارب ويخاطبون الأجانب .
وهو بدأ بمن هو أقرب إليه وهو عمه فمنعه من قبض ما لم يقبضه ولا يتعرض لما قبض بشيء .
وقد اختلف الناس في وقت إسلام العباس رضي الله تعالى عنه فقال بعضهم : كان أسلم قبل وقعة بدر وقال بعضهم : أخذ أسيراً يوم بدر فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة فأذن له فكان يربي بمكة إلى زمن@(4/234)
الفتح وقد نزلت حرمة الربا قبل ذلك ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسعيدين يوم خيبر : أربيتما فردا وقوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً } آل عمران : نزلت في وقعة أحد وكان ذلك قبل فتح مكة بسنتين ثم لم يبطل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح شيئاً من معاملاته إلا ما لم يتم بالقبض فتبين أنه يجوز عقد الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب وإن البقعة إذا صارت دار الإسلام قبل القبض فإنه يمتنع بحكم ذلك العقد ولو كان المسلم باع الحربي خمراً وسلمها إليه وقبض الثمن ثم أسلم أهل الدار فالثمن سالم للمسلم لأن حكم الإسلام ثبت في معاملاتهم بعد ما قبض الحرام وانتهى حكم العقد فيه ولو كان ذلك قبل قبض الخمر وجب على المسلم رد الثمن لأن الإسلام يرد والحرام غير مقبوض .
وكذلك لو كان قبض الخمر ولم يقبض المسلم الثمن حتى أسلم أهل الدار فليس للمسلم أن يطالبه بالثمن وهذا بخلاف ما إذا باع الذمي من ذمي خمراً وسلمها إليه ولم يقبض الثمن حتى أسلم لأن العقد هناك كان صحيحاً بينهما فكان الثمن ديناً مستحقاً صحيحاً فإنما كان هذا من المسلم أخذاً لمباح من مالهم بطيب أنفسهم وقد انعدم ذلك حين أسلم أهل الدار فلا يكون له أن يطالبه بشيء ولو كان قبض الثمن وأعطى بعض الخمر ثم أسلم أهل الدار فبحصة المقبوض من الخمر يسلم له من الثمن رد حصة ما لم يقبض من الخمر اعتباراً للبعض بالكل فكذلك لو كان أسلم إلى الحربي ألف درهم في مائة دينار إلى سنة فلما حل الأجل قبض النصف ثم أسلم أهل الدار فبحصة@(4/235)
المقبوض من رأس المال يكون سالماً له وعليه رد ما بقي من رأس المال لأنه يتعذر قبض ما بقي بحكم هذا العقد الفاسد فعليه رد حصته من رأس المال بمنزلة ما لو انقطع المسلم فيه من أيدي الناس .
ولو كانت هذه المعاملة بين مسلمين في دار الحرب مستأمنين أو أسيرين كان باطلاً مردوداً لأنهما يلتزمان أحكام الإسلام في كل مكان .
فإن جرى بين اللذين أسلما في دار الحرب فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله تعالى وفي قول أبي حنيفة رضي الله عنه : هذا وما يجري بين المسلم والحربي سواء إلا في حكم الكراهة لأن عصمة المال بنفس الإسلام تثبت في حق الآثار فأما في الأحكام يعتبر الإحراز بالدار ولم يوجد ولو أن مستأمنين من أهل الحرب في دارنا باشرا هذه المعاملة ثم اختصما إلى القاضي فإنه يبطل ذلك لأنهما بمنزلة أهل الذمة في المعاملات في دارنا والقاضي يبطل عقود الربا التي تجري بين أهل الذمة إذا اختصموا إليه فيها فكذلك يبطل عقود المستأمنين إلا أنه يجيز ما يكون بينهم من بيع الخمر والخنزير .
لأن ذلك مال متقوم في حقهم والمستأمنون وأهل الذمة في ذلك سواء .
ولو كان المسلم في منعة المسلمين فكلمه الحربي من حصنه وعامله بهذه المعاملات الفاسدة فيما بين المسلمين فإن ذلك لا يجوز لأن مراعاة جانب من هو في منعة المسلمين مفسد لهذا العقد والعقد إذا فسد من وجه واحد فذلك يكفي لإفساده .
وقد بينا أن كثيراً من مشايخنا يقولون بالجواز هاهنا لأن@(4/236)
مال الحربي مباح في حق المسلم ها هنا بمنزلة ما لو كان دخل إليهم بأمان إلا أن محمداً رحمه الله اعتبر المكان وجعل هذا بمنزلة ما لو خرج الحربي بأمان إلى عسكر المسلمين أو إلى دار الإسلام ثم عامل المسلم بذلك فكما أنه لا يجوز له هذه المعاملة إذا كانا في منعة المسلمين فكذلك إذا كان أحدهما في منعة المسلمين والفرق بين الفصلين على ما اختاره المشايخ واضح لأن الحربي حين خرج بأمان إلينا فقد صار ماله معصوماً محترماً بخلاف ما إذا كان في منعته فإنه لا حرمة لماله هناك ولو أن المشركين أسروا أمة مسلمة فأحرزوها ثم قدر هذا المستأمن منهم على أن يسرقها فيخرجها إلى دار الإسلام لا ينبغي له أن يفعل ذلك لأنهم ملكوها بالإحراز حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كانت مملوكة فهو في هذه السرقة يغدر بهم والغدر حرام .
ولو رغبوا في بيعها منه بخمر أو خنزير أو ميتة جاز له أن يفعل ذلك لأنه يأخذها منهم بطيب أنفسهم فلا يتمكن فيه معنى الغدر وإنما أورد هذا الفصل للاحتجاج به على أبي يوسف رحمة الله تعالى عليه فإنه إن يجوز هذا لم يجد بداً من أن يقول بالجواز أيضاً فيما سبق من العقود فإن قال : لا أجوز هذا وأكرهه للمسلم فهو بعيد من القول لأنه ترك مسلمة في يد حربي يواقعها حراماً مع تمكنه من أن يفديها بخمر وذلك مما لا يجوز القول به وبعدما يشتريها بخمر إذا أخرجها كانت مملوكة له حتى ينفذ عتقه فيها وإن @(4/237)
جاء صاحبها أخذها منه بقيمتها إن شاء لأنه تملكها بطيب أنفسهم لا بجهة البيع فيكون هذا بمنزلة ما لو وهبوها له فأخرجها .
وبهذا تبين الفرق بين ما يجري في دار الحرب وبين ما يجري في دار الإسلام فإن الحربي لو خرج إلينا بأمان ومعه تلك الجارية فليس للمسلم في دارنا أن يشتريها منه بخمر ولو فعل ذلك ثم رفع إلى القاضي أبطل ذلك البيع ورد الجارية على المستأمن ثم أجبره على بيعها من المسلمين لأنها مسلمة فلا يتركها في ملك الكافر ولا يتركه يعود بها إلى دار الحرب كما لو أسلمت أمته في دار الإسلام .
ولو أن عسكراً من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دار الإسلام ثم استأمن إليهم مسلم وعاملهم بهذه المعاملة التي لا تجوز فيما بين المسلمين فلا بأس بذلك لأن المعنى الذي لأجله جاز له ذلك في دارهم موجود في منعتهم في دار الإسلام وهو أن أموالهم مباحة الأخذ للمسلم وعليه التحرز عن غدر الأمان فهو بهذه المعاملة يكتسب سبب التحرز عن الغدر وبهذا القدر تبين أن الأصح ما ذهب إليه المشايخ لأن موضع نزولهم هاهنا لم يأخذ حكم دار الحرب ومع ذلك جاز للمسلم هذه المعاملة لبقاء الإباحة في مالهم فكذلك إذا كان الحربي في منعته والمسلم الذي عامله به في منعة المسلمين .
ولو أن أهل دار من أهل دار الحرب وادعوا أهل الإسلام فدخل إليهم مسلم وبايعهم الدرهم بدرهمين لم يكن بذلك بأس لأن بالموادعة لم تصر دارهم دار الإسلام وإنما يحرم على المسلمين أخذ مالهم بغير@(4/238)
طيب أنفسهم لما فيه من غدر الموادعة فإذا استرضاهم بهذه المعاملة فقد انعدم معنى الغدر لهذا طاب له ما أخذ .
ولو أن رجلاً من الموادعين دخل دار الإسلام بتلك الموادعة كان آمناً بها ثم إن عامل مسلماً بهذه المعاملة فإن القاضي يبطلها لأنه بمنزلة المستأمن في دارنا وقد بينا أن ما لا يجوز بين المسلمين وأهل الذمة في دارنا لا يجوز بين المسلم والمستأمن أيضاً .
ولو أن مسلماً دخل إلى هؤلاء الموادعين أو دخل دار الحرب بأمان وبايعهم متاعاً إلى أجل معلوم ثم صالحهم على أن يعجلوا له ويضع عنهم البعض فذلك جائز لأن حرمة هذا التصرف في دار الإسلام لمعنى الربا من حيث إن فيه مبادلة لأصل الدراهم وقد بينا أن الربا يجوز بين المسلم والحربي في دار الحرب فتجوز هذه المعاملة واستدل عليه بحديث بني النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن لنا ديونا على الناس لم تحل بعد فقال : ضعوا وتعجلوا وإنما جوز ذلك لأنهم كانوا أهل حرب فعرفنا أن مثل هذه المعاملة تجوز بين المسلم والحربي وإن كان لا يجوز بين المسلمين في دارنا .
فإن اصطلحوا على هذا ولم يقبض منهم ما عجلوا له حتى أسلم الذي عليه الدين أو أسلم أهل الدار فقد بطل هذا التصرف وكان المال كله عليه إلى أجله لما بينا لأن ما اعترض من الإسلام قبل تمام المقصود بالعقد يجعل كالمقرن بحالة العقد .
وإن كان شرط عليه أن يحط النصف على أن يجعل له النصف ثم أعطاه الحربي ثلث ماله وبقي السدس ثم أسلم الحربي فقد بطل الصلح كله وعلى المسلم رد ما قبض فيكون جميع ما له على الحربي إلى أجله بخلاف ما سبق من بيع الخمر لأن ذاك مبادلة ابتداء من الجانبين فينتهي حكمه@(4/239)
في مقدار ما وجد فيه التقابض وهذا الصلح ليس بمبادلة في الحقيقة ولكنه يعجل له نصف المال على أن يحط عنه النصف فلا يتم الصلح حتى يوجد كمال الشرط وهو قبض النصف الباقي بكماله فإذا لم يوجد ذلك حتى أسلم الحربي بطل الصلح كله ألا ترى أن المسلمين لو كان لأحدهما على صاحبه مال فاصطلحا على أن يحط عنه صاحب المال نصف المال على أن يعجل له ما بقي منه اليوم ثم عجل له اليوم بعض ما بقي دون البعض حتى مضى اليوم بطل الصلح كله وكان له أن يطالبه بجميع حقه .
لأن إبراءه إياه عن البعض كان بشرط تعجيل ما بقي منه في اليوم فإذا لم يتم الشرط بطل الإبراء وكان جميع ماله عليه بحاله باب ما يحل للمسلم الأسير في أيدي أهل الحرب أن يجيبهم إليه وإذا قرب الأسير للقتل فقيل له : مد عنقك فمد عنقه فلا بأس بذلك لأنه ليس في مد العنق إعانة منه لهم على نفسه ولا إذن منه لهم في قتله وهو يعلم أنهم يقتلونه على كل حال مد عنقه أو لم يمده وربما يكون امتثال أمرهم سبباً لعطف قلوبهم عليه حتى يحملهم ذلك على ترك قتله أو يكون ذلك أروح له وإن لم يفعل ذلك قتلوه قتلة أخبث من قتلهم إياه إذا مد عنقه فلهذه الوجوه جاز له أن يمد عنقه وإن كان يعلم أنهم لا يتركون قتله .
وإن لم يمد عنقه لم يزيدوا على أن يمدوا عنقه ثم يقتلونه فإنه يكره له أن يمد لهم عنقه لأن ذلك في صورة الإذن لهم في قتله ولا رخصة للمسلمين في ذلك فلا يسعه الإقدام عليه إلا عند غرض صحيح له فيه وهو إذا كان يطمع في عطف قلوبهم عليه بذلك أو كان يخاف أن يقتلوه قتلة هي أخبث منها إذا مد عنقه فحينئذ إن شاء مد عنقه وإن شاء لم يمد عنقه لأن ذلك مرخص له فيه@(4/240)
لغرض صحيح في ذلك فإن شاء ترخص بالرخصة وإن شاء تمسك بالعزيمة .
وعلى هذا لو أرادوا قطع عضو من أعضائه فناولهم ذلك العضو فإن ذلك يسعه إن كان يفعله لغرض صحيح وإن لم يكن له في ذلك غرض صحيح لم يسعه ذلك ألا ترى أنهم لو قالوا : البس ثيابك حتى نقتلك فلبس ثيابه يطلب بها الستر لم يكن به معيناً على نفسه لأن لبس الثياب ليس من القتل في شيء وله غرض صحيح فيما صنع وهو ألا تنكشف عورته إذا قتلوه .
قال : بلغنا أن سعيد بن المسيب رحمة الله عليه حين أبى أن يبايع ألبس ثياب شعر فلبسه فلما ضرب ولم يقتل قال : أما إني لو ظننت أنهم لا يريدون قتلي ما لبسته فقد لبسه بأمرهم حين ظن أنه يقتل فعرفنا أنه ليس في اللبس إعانة منه على نفسه وأنه لا بأس به وكذلك لو انتهوا إليه وهو في بيت لا يقدر على التخلص منهم فقالوا : اخرج إلينا حتى نضرب عنقك فلا بأس بأن يخرج إذا كان له في ذلك غرض صحيح وهو أنه يخاف إن لم يفعل أن يمثلوا به وهذا لأن الخروج إليهم ليس فيه من استهلاك النفس شيء وإنما يخرج فراراً عن المثلة وذلك لا بأس به .
وكذلك لو أرادوا صلبه فأمروه أن يصعد الخشبة فصعدها لأن له في ذلك غرضاً صحيحاً وهو دفع ألم الضربات المتواليات عن نفسه أو دفع ما يخافه من المثلة به أو أن يقتلوه قتلة هي أخبث من الصلب .
ولكن هذا إذا كانت الخشبة بحيث لا يخاف التلف من صعودها فأما إذا كان يخاف التلف من ذلك فليس له أن يصعدها لأنه@(4/241)
يصير قاتلاً نفسه بالصعود على مثل هذه الخشبة ولا رخصة له في قتل نفسه بحال قال الله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } النساء : 29 ولو أوقدوا ناراً فقالوا له : اطرح نفسك فيها وربما نجا منها وربما لم ينج لم يحل له أن يفعل لك لأنه يصير قاتلاً نفسه بالدخول فيها وليس له أن يقتل نفسه ولا أن يعين على قتل نفسه فتعين عليه جهة الامتناع حتى يصير مقتولاً بفعلهم إن قتلوه .
إلا أن يكونوا هددوه بنوع من القتل هو أعظم من طرح نفسه في النار فحينئذ يكون هو في سعة أن يطرح نفسه فيها لأنه يفعل ذلك لغرض صحيح وهو الفرار عن ألم السياط المتوالية أو عن المثلة فيرخص له في ذلك .
وكذلك لو أمروه بأن يغرق نفسه في ماء فهذا والأول سواء ولو قدم ليضرب عنقه فضربوه بسيف سوء فقال لهم : خذوا سيفي هذا فاقتلوني به لم يسعه ذلك وهو آثم في مقالته لأنه كما لا يحل له قتل نفسه بحال لا يحل له أن يأمر بقتل نفسه ولأن أمره غياهم بالقتل أمر بالمعصية ولا رخصة له في الأمر بالمعصية .
ولكن لو لم يقل اقتلوني به ولكن قال : سيفي أجود من هذا السيف وأمضى فيما تريدون ويريد بذلك الاستراحة رجوت أن يكون في سعة لأنه ما أمرهم بقتل نفسه نصاً وله فيما قال غرض صحيح وهو الاستراحة مما يلحقه إذا أبطأ عليه الموت ومع هذا لم يطلق الجواب فيه بل علقه بالرجاء لأن في مناولة السلاح إياهم نوع إعانة على قتل نفسه بخلاف ما سبق من مد العنق ولبس الثياب وصعود الخشبة .
وعلى هذا لو أرادوا شق بطنه فقال : لا تفعلوا ولكن اضربوا عنقي لم يسعه هذا لأنه تصريح بالأمر بالمعصية .
ولكن لو لم يقل : اضربوا ولكن قال : اتقوا الله ولا تشقوا بطني فإن هذا لا ينبغي لأن@(4/242)
ضرب العنق أوحى وأجمل لم يكن بذلك بأس لأنه صرح ها هنا بالنهي عن المعصية ولم يصرح بالأمر بضرب العنق إنما أخبرهم أن ذلك أفضل مما هموا به فلهذا كان في سعة من ذلك ألا ترى أنهم لو تركوه كان هو آثماً في قوله : اضربوا عنقي لما فيه من التصريح بالأمر بالمعصية ولم يكن هو آثماً في قوله : ضرب العنق أوحى وأجمل ألا ترى أنه لو قال : ضرب العنق أوحى وأجمل ولكن اتقوا الله ولا تصنعوا بي شيئاً من هذا فضربوا عنقه لم يكن عليه إثم في مقالته إن شاء الله تعالى .
وكذلك لو أن غير المقصود بالقتل من الأسراء هو الذي قال ذلك فإن قال : اتقوا الله ولا تمثلوا به فإن ضرب العنق يأتي على ما تريدون رجوت ألا يكون آثماً ولو قال : اضربوا عنقه كان آثماً والحاصل أن المقصود بالقتل وغيره سواء في جميع ما ذكرنا لأنه لا رخصة في التصريح بالأمر بالمعصية في حق نفسه ولا في حق غيره .
ألا ترى أنه لو قال : لا تفعلوا ذلك به يومكم هذا ولكن افعلوه غداً كان آثماً في قوله : افعلوه غداً أطاعوه في ذلك أو عصوه ولو قال : أخروه إلى الغد لم يكن آثماً في ذلك .
ولو أرادوا ضرب بطن الأسير بالسيف فقال : اتقوا الله ولا تضربوا موضع الطعام ولكن اضربوا العنق كان آثماً في قوله : اضربوا العنق ولو قال : القتل في غير موضع الطعام أجمل لم يكن آثماً ولو قال للضارب : ارفع يدك عن موضع الطعام أو سفل يدك عن موضع الطعام خفت أن يكون آثماً بخلاف قوله : لا تضرب موضع الطعام لأن صيغة ذلك الكلام نهي عن المعصية وصيغة هذا الكلام أمر بما هو معصية لأن معنى قوله : سفل يدك أو ارفع يدك اضربه أسفل من الطعام أو فوق الطعام ولا رخصة له في الأمر بالمعصية صورة ولا معنى وإن كان في ذلك نوع تخفيف عن المسلم وكان مقصود المتكلم ذلك التخفيف فبهذه الفصول تبين أنه ينبغي للمرء أن يراعي عبارته كما يراعي معنى كلامه والأصل فيه ما روي أن العباس رضي الله تعالى عنه@(4/243)
لما سئل فقيل : أنت أكبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر منك قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أسن منه وحكي أن هارون رأى في منامه أن أسنانه السفلى قد سقطت فسأل بعض المعبرين فقال : يموت أقاربك فكره ذلك وأمر بإخراجه ودعا معبراً آخر وسأله فقال : عمرك يكون أطول من عمر أقاربك فأحسن الثناء عليه وأعطاه الصلة وهما في المعنى سواء ليعلم أنه ينبغي للمرء أن يراعي عبارته .
وإذا أسر الأسير وابنه من المسلمين فأرادوا قتلهما فقال الأب : قدموا ابي بين يدي حتى احتسبه فهو آثم في مقالته فعلوا ذلك أو لم يفعلوا لأنه أمرهم بمعصية الله تعالى .
ولو قال : إني أريد أن أحتسب ابني فلا تقتلوني قبله رجوت ألا يأثم لأنه لم يصرح بالأمر بقتله ولا بقتل ابنه .
ولو كان الابن هو القائل : اقتلوني قبل قتل أبي كان آثماً : ولو قال : لا تقتلوا أبي قبلي فإني أخاف أني أجزع لم يكن عليه في هذا إثم وكذلك لو أرادوا ضربه أو ضرب ابنه بالسيف فقال : اشحذوا سيفكم لم يكن آثماً بذلك ولو قال : اشحذوه ثم اقتلوني به كان آثماً لأن الأمر بالشحذ ليس فيه من معني المعصية شيء لولا ما أرادوا من معنى المعصية وهو قتل المسلم وذلك في قصدهم لا في لفظه فأما في قوله : ثم اقتلوني بالأمر بالمعصية وذلك لا رخصة فيه والله أعلم .@(4/244)
.
باب الأسير المسلم ما يسعه أن يفعله لهم إذا أكرهوه وما لا يسعه
ولو قالوا لأسير مسلم : اقتل لنا هذا الأسير المسلم أو لنقتلنك لم يسعه أن يقتله لما جاء في الأثر ليس في القتل تقية ولأنهم أمروه بالمعصية ولا طاعة للمخلوق في معصية الخالق وهو بالإقدام على القتل يجعل روح من هو مثله في الحرمة وقاية لروحه ويقدم على ما هو من مظالم العباد ولا رخصة في ذلك .
وإن قالوا : اشحذ لنا هذا السيف حتى نقتل به هذا الرجل المسلم أو لم يذكروا هذه الزيادة فإن كان لا يخاف على نفسه لا ينبغي أن يعمل شيئاً من ذلك لأنهم إنما يأمرون به ليتقووا به على قتال المسلمين ولا رخصة له في إعانتهم على ذلك إلا أن يهددوه بالقتل إن لم يفعل فحينئذ لا بأس بأن يفعله لأنه ليس فيما أمروه به مظلمة للمسلم وفيه دفع شر القتل عن نفسه وهذا لأنه إن لم يفعل لهم ذلك تمكنوا من قتل الأسير بغير السيف .
وكذلك لو قالوا : انجز لنا هذه الخشبة حتى نصلب عليها هذا المسلم أو لنقتلنك يسعه ذلك .
لأنه ليس فيما أمروه به قتل المسلم فإنهم يتمكنون من قتله بوجه آخر .
إلا أنه مع هذا إن امتنع حتى يقتل كان مأجوراً لما في امتناعه من الكبت والغيظ لهم وكذلك لو قالوا : أمسك رأسه حتى نضرب عنقه وإلا قتلناك كان إن شاء الله تعالى في سعة من ذلك لأن إمساك الرأس ليس من قتل المسلم في شيء وإنما قيد الجواب بالاستثناء ها هنا لأن في فعله تعرضاً للمسلم بخلاف شحذ السيف ونجر الخشبة فليس هناك في فعله تعرض للمسلم .
وكذلك لو أمروه بربط يديه أو رجليه لأنه ليس في فعله تلف نفسه ألا ترى أنه لا بأس على المربوط منه لو لم يتعرضوا له بشيء آخر ولا يكون@(4/245)
أمرهم بهذا أعظم من أمرهم بالكفر وذلك يسعه في الإكراه وإن كان الامتناع منه أفضل فهذا مثله .
ولو كانت يد الذي يضرب بالسيف ضعيفة فقيل له : أمسك بيدك على يديه حتى نضربه وإلا قتلناك لم يسعه أن يفعل هذا لأن فيه إعانة على القتل بعينه ولا رخصة في الإعانة على قتل المسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أعان في دم امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً على عينيه أيس من رحمة الله تعالى .
ولو قالوا : دلنا على سيف نقتله به وإلا قتلناك لم يكن آثماً في الدلالة إن شاء الله تعالى لأن فعله ليس بقتل وهو لو لم يدلهم قدروا على قتله بحجر أو غير ذلك وإنما قيد بالاستثناء لأن الدلالة على القتل بمنزلة مباشرة القتل من وجه ألا ترى أن المحرم إذا دل على قتل صيد كان عليه من الجزاء ما على القاتل .
وإن لم يدلهم حتى يقتل كان مأجوراً إن شاء الله تعالى لأنه يمتنع من فعل هو بمنزلة القتل من وجه .
وعلى هذا لو طلبوا السيف منه ليقاتلوا به المسلمين فإن امتنع من ذلك كان مأجوراً وإن أعطاهم حين هددوه بالقتل لم يكن به بأس ألا ترى أنهم لو قالوا : إن أعطيتنا سيفك خلينا سبيل هذا الأسير المسلم فإنه يجوز له أن يعطيهم لما فيه من نجاة مسلم آخر فإذا كان فيه نجاته كان أولى .
قال : ألا ترى أنهم يردون عليهم أسراهم ويأخذون منهم أسراء من المسلمين وفي مفاداة الأسير بالأسير كلام نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وهو في ظاهر الرواية جائز ثم رد الأسير عليهم أمر على المسلمين من دفع السلاح إليهم فإذا كان يجوز رد الأسير عليهم لاستنقاذ المسلم فدفع السلاح إليهم بهذا يكون أجوز ولو هرب منهم أسير فقالوا لأسير آخر يعرف مكانه : دلنا عليه لنقتله وإلا قتلناك لم يسعه أن يدلهم عليه لأن الدلالة الممكنة من القتل بمنزلة مباشرة القتل@(4/246)
من وجه كما في حق الصيد ثم في هذا ظلم الأسير الهارب لأنهم لا يتمكنون منه إلا بدلالته فهو بهذه الدلالة يمكنهم من قتله ولا رخصة في ظلم المسلم بهذا الطريق .
ولو كانوا حاصروا حصناً للمسلمين فقالوا لأسير في أيديهم : دلنا على الموضع الذي يؤتى من قبله الحصن أو على مدخل الماء الذي يشربون منه أو لنقتلنك وهو يعلم أنه إن دل على ذلك ظفروا بالحصن وقتلوا من فيه أو كان على ذلك أكبر رأيه فليس ينبغي له أن يدلهم على ذلك لأنه يمكنهم بهذه الدلالة من قتل المسلمين واسترقاق ذراريهم وارتكاب الحرام من نسائهم ألا ترى أنه لو قيل له : لنقتلنك أو لتمكننا من فلانة نزني بها وهم لا يقدرون عليها إلا بدلالته أنه لا يسعه أن يدل عليها فكذلك ما سبق وأكبر الرأي كاليقين فيما لا يمكن معرفة حقيقته .
ولو أخذوا أسيراً فقالوا : إنا نريد أن ننصبه فنرميه فدلنا على قوس ونشاب نرميه بها حتى نقتله أو لنقتلنك فدلهم على ذلك فهذا له واسع إن شاء الله تعالى لأنه في أيديهم وهم يتمكنون من قتله بطريق آخر فلا يكون هو بدلالته ممكناً إياهم من قتله .
إلا أن يكون الأسير في موضع لا يقدرون عليه بشيء سوى النشاب فحينئذ لا يسعه أن يدلهم على القوس والنشاب لأنه يمكنهم من قتله بدلالته وأوضح هذه المسائل بالدلالة على قتل الصيد فإن من رأى صيداً في موضع لا يقدر عليه فدله محرم على الطريق إليه حتى ذهب فقتله كان على الدال الجزاء .
وكذلك إن كان لا يقدر عليه إلا أن يرميه بنشابة وليس معه ذلك فدله محرم على قوس ونشاب أو دفعه إليه فرماه فقتله به كان على المحرم الجزاء ولو أراد قتل صيد فقال المحرم : ناولني حربتي بعدما ركب فرسه فناوله لم يكن على المحرم شيء لأنه كان متمكناً من قتل الصيد بدون هذه المناولة ولكنه آثم فيما صنع لأن في فعله الإعانة على قتل الصيد ولا رخصة للمحرم في ذلك .
وكذلك لو استعار من محرم سكيناً فذبح الصيد به لأن الصيد في يده وهو متمكن من ذبحه بدون هذا السكين ولكنه آثم في صنعه لوجود صورة الإعانة منه على قتل الصيد والله أعلم بالصواب .@(4/247)
باب ما يسع الرجل أن يفعل أيهما شاء
وإذا أحرق المشركون سفينة من سفائن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما من في السفينة بالخيار إن شاء صبر على النار حتى يحترق وإن شاء ألقى نفسه في الماء حتى يغرق لأنه على يقين من هلاكه في الوجهين وله غرض في كل وجه والناء يكون أسرع لهلاكه ولكن فيه زيادة الألم من حيث تفريق الأعضاء والماء أبطأ لهلاكه ولكن فيه زيادة الغم وطبائع الناس في هذا مختلفة فمنهم من يختار ألم الجرح وسرعة الاستراحة على غم الماء وبطء الهلاك ومنهم من يختار غم الماء على ألم الجراحة فله أن يميل إلى أي الجانبين شاء .
وعلى قول محمد رحمة الله عليه هذا على وجوه إن كان يطمع في النجاة في كل واحد من الجانبين ويخاف الهلاك فله الخيار لأنه إن صبر فإنما يقصد به تحصيل النجاة التي يطمع فيها وكذلك إن ألقى نفسه في الماء فإنما يقصد تحصيل النجاة بفعله فله ذلك .
وإن كان على يقين من الهلاك في أحذ الوجهين وهو يرجو النجاة في الوجه الآخر فعليه أن يصنع ما يرجو فيه النجاة لأنه مأمور بدفع سبب الهلاك عن نفسه بحسب الوسع منهي عن قتل نفسه .
وإن كان على يقين من الهلاك فيهما فعليه أن يصبر وليس له أن يلقي نفسه في الماء لأنه إن ألقى نفسه في الماء صار هالكاً بفعل نفسه وإن صبر صار هالكاً بفعل غيره ولأن يهلك بفعل غيره أولى من أن يهلك بفعل نفسه .
ألا ترى أن ظالماً لو قال لإنسان : لتقتلن نفسك أو لأقتلنك لم يسعه أن يقتل نفسه لهذا المعنى وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول : الاستدامة فيما يستدام كالإنشاء فالمقام@(4/248)
في مكانه حتى تنتهي إليه النار من فعله كما أن إلقاء نفسه في الماء من فعله وليس هذا نظير مسألة الإكراه لأن تيقن فيما هدده به المكره ليس كتيقنه فيما يفعل بنفسه فقد يهدد المكره ثم لا يحقق وها هنا تيقنه في الهلاك في الجانبين بصفة واحدة .
واستشهد محمد رحمه الله برجل يدخل في بيت إلى جانبه بيت فوقع الحريق في البيتين وهو على يقين من الهلاك إن ثبت في البيت الذي هو فيه أو وثب إلى البيت الآخر فإنه يتعين عليه الثبات وليس له أن يتحول إلى البيت الآخر فمن أصحابنا من يقول : الخلاف في الفصلين واحد ومن عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام فالأصح أن هذا قولهم جميعاً والفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن جهة الهلاك ها هنا واحدة في البيتين ولا غرض له في التحول من أحدهما إلى الآخر وإنما يثبت الخيار للمرء بين الشيئين إذا كان مفيداً له فائدة فأما في مسألة السفينة فجهة الهلاك مختلفة لما بينا أن الماء ليس من جنس النار وفي إثبات الخيار له فائدة فأثبتناه .
ولو أن مشركاً طعن مسلماً برمح فأنفذه فأراد أن يمشي في الرمح إليه ليضربه بالسيف فإن كان يخاف الهلاك إن فعل ذلك ويرجو النجاة إن خرج من الرمح فعليه أن يخرج لأن المشي إليه في الرمح إعانة على قتل نفسه والواجب على كل أحد الدفع عن نفسه بجهده أولا ثم النيل من عدوه .
وإن استوى الجانبان عنده في التيقن بالهلاك فيهما أو رجاء النجاة فيهما من حيث إنه لا يزيد في جراحته فلا بأس بأن يمشي إليه في الرمح حتى يضربه بالسيف وإن شاء خرج من الرمح لأنه لا بد من أن يخرج من الرمح حتى يضربه بالسيف وإن شاء خرج من الرمح لأنه لا بد من أن يخرج من الرمح من أي الجانبين شاء وفرق محمد رحمه الله بين هذا وبين ما سبق وقال : ليس هناك في إلقاء نفسه معنى النيل من العدو وها هنا في المشي إليه في @(4/249)
الرمح معنى النيل من العدو والظفر به وهذا القصد يبيح له الإقدام وهذا كله إنما يمكن العمل فيه بغالب الرأي لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه وغالب الرأي كاليقين فيمثله .
ولو أن مسلماً حمل على ألف رجل وحده فإن كان يطمع أن يظفر بهم أو ينكأ فيهم فلا بأس بذلك لأنه يقصد بفعله النيل من العدو .
وقد فعل ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير واحد من الأصحاب يوم أحد ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر بعضهم بالشهادة حين استأذنه في ذلك وإن كان لم يطمع في نكاية فإنه يكره له هذا الصنيع لأنه يتلف نفسه من غير منفعة للمسلمين ولا نكاية فيه للمشركين .
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسعه الإقدام وإن كان يعلم أن القوم يقتلونه وأنه لا يتفرق جمعهم بسببه لأن القوم هناك مسلمون معتقدون لما يأمرهم به فلا بد من أن فعله ينكئ في قلوبهم وإن كانوا لا يظهرون ذلك وها هنا القوم كفار لا يعتقدون حقيقة الإسلام وفعله لا ينكئ في باطنهم فيشترط النكاية ظاهراً لإباحة الإقدام وإن كان لا يطمع في نكاية ولكنه يجرئ بذلك المسلمين عليهم حتى يظهر بفعل النكاية في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى لأنه لو كان على طمع من النكاية بفعله جاز له الإقدام فكذلك إذا كان يطمع في النكاية فيهم بفعل غيره .
وكذلك إن كان في إرهاب العدو وإدخال الوهن عليهم بفعله فلا بأس به لأن هذا أفضل وجوه النكاية@(4/250)
وفيه منفعة للمسلمين وكل واحد يبذل نفسه لهذا النوع من المنفعة ولو أن راكب السفينة حين انتهى النار إليه فوجد مسها وحرارتها لم يجد محيصاً إلا أن يرمي بنفسه في الماء فرمى بنفسه كان إن شاء الله في سعة لأن هذا الان مدفوع من إلقاء النار في السفينة والأول يكون ملقياً نفسه في الماء لا مدفوع غيره فإنه لا يتصور مدفوعاً قبل أن يتصل به فعل الدافع وهناك ما اتصل به فعل الدافع وها هنا قد اتصل به فعله .
ألا ترى أنه لو أوقدت له نار وقيل له : لنضربنك بالسياط حتى نقتلك أو تلقي نفسك في النار حتى تحترق لم يسعه إلقاء نفسه وإن كان ضربوه بالسياط فبلغ من جزعه واضطرابه أن يسقط في النار رجوت أن يكون في سعة لأنه مدفوع الضارب ها هنا ولأن ألم السوط قد أصابه وما أصابه ألم النار بعد فهو إنما يفر من ألم قد أصابه فأرجو أن يكون في سعة .
والأصل فيه حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه قال : لفتنة السوط أشد من فتنة السيف إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشبة يعني إذا أريد صلبه عليها والله الموفق .
باب قتال أهل الإسلام أهل الشرك مع أهل الشرك
قال : لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشرك لأن الفئتين حزب الشيطان وحزب الشيطان هم الخاسرون فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعاً عنهم وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر والمسلم إنما يقاتل لإظهار أهل الحق لا لإظهار حكم الشرك ولا ينبغي أن يقاتل أحد من أهل العدل أحداً من الخوارج مع قوم آخرين من الخوارج إذا كان حكم الخوارج هو الظاهر .
لأنه إباحة القتال مع الفئة الباغية من المسلمين إن رجعوا إلى أمر الله @(4/251)
لا يحصل هذا المقصود بهذا القتال إذا كان حكم الخوارج هو الظاهر .
ولا بأس بأن يقاتل المسلمون من أهل العدل مع الخوارج المشركين من أهل الحرب لأنهم يقاتلون الآن لدفع فتنة الكفر إظهار الإسلام فهذا قتال على الوجه المأمور به وهو إعلاء كلمة الله تعالى بخلاف ما سبق فالقتال هناك لإظهار ما هو مائل عن طريق الحق وها هنا لإثبات أصل الطريق .
ثم إنما يباح ذلك إذا لم يكن فيه نقض عهد منهم فأما إذا أمنوا قوماً ثم غدروا بهم فإنه لا يسع القتال معهم لأهل العدل لأن الوفاء بالأمان واجب فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب في كل عهد وفاء لا غدر فيه وإذا كان المنع لأهل العدل يختص بذلك المحل حتى يجوز أن يقاتل معهم قوماً آخرين من أهل الحرب ممن لم يؤمنوهم لأنه ليس في هذا القتال معنى الغدر بل فيه إظهار الإسلام .
ولو قال أهل الحرب لأسراء فيهم : قاتلوا معنا عدونا من المشركين وهم لا يخافونهم على أنفسهم إن لم يفعلوا فليس ينبغي أن يقاتلوهم معهم لأن في هذا القتال إظهار الشرك والمقاتل يخاطر بنفسه فلا رخصة في ذلك إلا على قصد إعزاز الدين أو الدفع عن نفسه .
فإذا كانوا يخافون أولئك الآخرين على أنفسهم فلا بأس بأن يقاتلوهم لأنهم يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم فإنهم يأمنون الذين هم في أيديهم على أنفسهم ولا يأمنون الآخرين إن وقعوا في أيديهم فحل لهم أن يقاتلوا دفعاً عن أنفسهم .
وإن قالوا لهم : قاتلوا معنا عدونا من المشركين وإلا قتلناكم فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم لأنهم يدفعون الآن أشر القتل عن أنفسهم .
وقتل أولئك المشركين لهم حلال ولا بأس بالإقدام على ما هو حلال عند تحقق الضرورة بسبب الإكراه وربما يجب ذلك@(4/252)
كما في تناوله الميتة وشرب الخمر وإن قالوا لهم قاتلوا معنا المسلمين وإلا قتلناكم لم يسعهم القتال مع المسلمين لأن ذلك حرام على المسلمين بعينه فلا يجوز الأقدام عليه بسبب التهديد بالقتل كما لو قال له : اقتل هذا المسلم وإلا قتلتك .
فإن هددوهم يقفوا معهم في صفهم ولا يقاتلوا المسلمين رجوت أن يكونوا في سعة لأنهم الآن لا يصنعون بالمسلمين شيئاً فهذا ليس من جملة المظالم أكبر ما فيه أن يلحق المسلمين هم لكثرة سواد المشركين في أعينهم فهو بمنزلة ما لو أكره على إتلاف مال المسلمين بوعيد متلف فإن كانوا لا يخافون المشركين على أنفسهم فليس لهم أن يقفوا معهم في صف وإن أمروهم بذلك لأن فيه إرهاب المسلمين وإلقاء الرعب والفشل فيهم وبدون تحقق الضرورة لا يسع المسلم الأقدام على شيء منه .
ولو قالوا للأسراء : قاتلوا معنا عدونا من أهل حرب آخرين على أن نخلي سبيلكم إذا انقضت حربنا لو وقع في قلوبهم أنهم صادقون فلا بأس بأن يقاتلوا معهم لأنهم يدفعون بهذا الأسر عن أنفسهم ولا يكون هذا دون ما إذا كانوا يخافون على أنفسهم من أولئك المشركين فكما يسعهم الإقدام هناك فكذلك يسعهم ها هنا فإن قيل : كيف يسعهم هذا وفيه قوة لهم على المسلمين لأنهم إذا ظفروا بعدوهم فأمنوا جانبهم أقبلوا على قتال المسمين وربما يأخذون منهم الكراع والسلاح فيتقوون بها على المسلمين قلنا : ذلك موهوم وما يحصل لهم الآن من النجاة عن أسر المشركين بهذا القتال معلوم فيترجح هذا الجانب ألا ترى أنهم لو طلبوا من إمام المسلمين أن يفاديهم بأعدادهم من المشركين أو بالكراع والسلاح جاز له أن يفعل لتخلصهم به من الأسر وإن كانوا يتقوون بما يأخذون على المسلمين .
ولو قالوا أعيوننا على المسلمين بقتال أو بتكثير سواد على أن نخلي سبيلكم لم يحل لهم هذا لأنه لا رخصة لهم في قتال المسلمين بحال ولا في إلقاء الرعب في قلوبهم ما لم تحقق الضرورة بخوف الهلاك على أنفسهم وذلك غير موجود ها هنا ولو قالوا : قاتلوا معنا عدونا من المشركين على أن نخليكم في بلادنا @(4/253)
ولا ندعكم ترجعون إلى أهليكم فليس ينبغي لهم أن يقاتلوا معهم لأنهم إن كانوا آمنين على أنفسهم لا يخافون من جانبهم تلف نفس أو عضو فلا فرق بين أن يكونوا محبوسين في بلادهم وبين أن يكونوا في سجونهم لأن في الوجهين يلحقهم هم بالانقطاع عن أهاليهم .
وعن إخوانهم من المؤمنين فلا ينبغي لهم أن يقاتلوا لإظهار حكم الشرك بدون منفعة ظاهرة لهم في ذلك .
وإن كانوا في ضر وبلاء يخافون على أنفسهم الهلاك فلا بأس بأن يقاتلوا معهم المشركين إذا قالوا : نخرجكم من ذلك لأن لهم في هذا القتال غرضاً صحيحاً وهو دفع البلاء والضر الذي نزل بهم .
ولو أنهم خلوا سبيلهم ليرجعوا إلى دار المسلمين فظفروا بمال من أموالهم فلا بأس بأن يأخذوها سراً منهم فيخرجوها إلى دار الإسلام لأنهم أسراء في أيديهم ما لم يخرجوا وإن خلوا سبيلهم فليس في أخذ أموالهم وقتل نفوسهم إن تمكنوا من ذلك غدر بأمان بينهم وبين أهل الحرب وإنما هو إصابة من الحلال فحالهم في ذلك كحال المتلصصين في دار الحرب .
حتى إذا أخرجوا ذلك فإن كانوا أهل منعة خمس والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأنهم إنما تم إحرازهم لذلك بالإخراج إلى دار الإسلام .
وكذلك إن كان هذا المال أصابوه من أهل الشرك الذين قاتلوا معهم وخفي على الذين كانوا أسراء في أيديهم أن يأخذوا ذلك منهم فيستوي إن كان ما أصابوه من المسلمين أو من أهل الحرب لأن ذلك كله كان للمشركين ولم يتم إحراز المسمين لها إلا بعد الإخراج إلى دار الإسلام .
فإن كانوا قد قالوا لهم : تقاتلون معنا عدونا على أن تسلموا الغنائم كلها لنا ولا تأخذوا منها شيئاً على أن نخلي سبيلكم فهذا والأول سواء لأن أكبر ما في الباب أن بهذا الشرط يلتحق المصاب بأموالهم .
وقد بينا أنه لا بأس بأن يأخذوا أموالهم إذا@(4/254)
تمكنوا من ذلك لأنه لا أمان بينهم وبين أهل الحرب وإنما يمتنع أخذ المال المباح إذا كان فيه غدر الأمان .
وإن كانوا قالوا لهم : نخلي سبيلكم إلى بلادكم على أن تأخذوا من أموالنا شيئاً فأجابوهم إلى ذلك فليس ينبغي لهم أن يأخذوا من أموالهم شيئاً لأنهم شرطوا ترك التعرض لهم في أموالهم والمسلمون عند شروطهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل : في المسألة الأولى شرطوا ذلك لهم أيضاً ثم قلتم : يسعهم إخفاء ما أخذوا من أهل الحرب الآخرين حتى يخرجوا إلى دار الإسلام قلنا : هناك إنما شرطوا عليهم أن يسلموا غنائمهم وإنما غنائمهم ما كانوا هم الذين أخذوه من العدو فأما ما أخذه الأسراء من العدو فليس من غنائم الذين قاتلوهم معهم .
لأن ثبوت الشركة في الغنائم من حكم الإسلام وذلك لا يثبت في منعة أهل الشرك وإنما الثابت في منعتهم أن من أخذ شيئاً فهو أحق به من غيره فعرفنا أنه ليس في هذا الإخفاء مخالفة شرط مفصح له ثم تبين أن مخالفة الشرط المفصح به لا يصح لهم .
وإن كانوا أسراء في أيديهم فقال : لو كانوا في سجن من سجونهم فقالوا : نؤمنكم على أن نخرجكم فتكونوا في بلادنا على ألا ندعكم ترجعون إلى بلادكم ولا تقتلوا منا أحداً ولا تأخذوا منا مالاً سراً ولا علانية فرضي الإسراء بذلك فينبغي لهم أن يفوا بهذا الشرط لأنهم فيما التزموا بالشرط نصاً بمنزلة المستأمنين فيهم .
ألا ترى أنهم آمنوا بقبول ذلك من القتل والحبس والعذاب .
فإن وجدوا بعد هذا عبداً أصابوه من المسلمين لم يسع لهم أن يأخذوه لأن ذلك مالهم لو أسلموا عليه كان لهم .
ولو وجدوا حرة مأسورة أو مدبرة لم أر بأساً أن يأخذوها فيخرجوها لأن أهل الحرب لم يملكوها وإنما شرطوا عليهم ترك التعرض لهم في أموالهم .
ولو وجدوا كراعاً أو سلاحاً أخذوه من المسلمين لم يسعهم أن يتعرضوا لشيء من ذلك لأن هذا من أموالهم .
ولو قالوا للأسراء :@(4/255)
اخرجوا إلى بلادكم فأنتم آمنون ولم يقل لهم الأسراء شيئاً فلا بأس بأن يقاتلهم الأسراء بعد هذا القول ويأخذوا أموالهم لأن الأسراء ما التزموا لهم شيئاً بالشرط واشتراط أهل الحرب عليهم لا يلزمهم شيئاً مما لم يلتزموه .
وهذا بخلاف ما إذا جاءهم قوم من المسلمين ليدخلوا دار الحرب فقال لهم أهل الحرب : ادخلوا وأنتم آمنون فدخلوا ولم يشترطوا لهم شيئاً لأن هناك مجيئهم على سبيل الاستئمان بمنزلة التصريح بالاشتراط على أنفسهم ألا يغدروا بهم ولا يوجد هذا المعنى في حق الأسراء لأنهم كانوا مقهورين في أيديهم لا مستأمنين .
ولو قال أهل الحرب للأسراء فيهم : قاتلوا معنا عدونا على أن نخلي سبيلكم لترجعوا إلى بلادكم وعلى أن ما أصبتم من شيء فهو لكم وما أصبنا نحن من شيء لم تعرضوا فيه لنا ثم تمكن الأسراء من أخذ ما أصابه أهل الحرب سراً فليس ينبغي لهم أن يأخذوه لأنهم شرطوا لهم ذلك والوفاء بالشرط واجب .
فإن سلم أهل الحرب للأسراء ما أصابوه فأخرجوه إلى دار الإسلام أو إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فهو لهم خاصة لا خمس فيه والفارس والراجل فيه سواء لأنهم أصابوه وحكم الشرك هو الظاهر عليهم فتم إحرازهم له في دار الشرك حين سلم لهم العدو ذلك ولأن ما أصابوا في منعة أهل الشرك فهو من وجه كان أهل الشرك هم الذين أصابوه ثم سلموه لهم بطيبة أنفسهم .
فيكون ذلك بمنزلة مال وهبوه لهم .
ولا يكون لذلك المال حكم الغنيمة لأنه صار لهم قبل أن يخرجوه إلى منعة المسلمين .
ولو كان المصيب بعضهم كان ذلك لمن أصابه خاصة لما بينا أنه لا تأثير للإحراز بمنعة المسلمين ها هنا وغير المصيب في هذا بالإحراز وسبب تمام الحق والإصابة مع تسليم المشركين ذلك للمصيب ولا شركة للآخرين في هذا السبب .
ولو كان المشركون@(4/256)
شرطوا أن ما أصابه إنسان من الأسراء فهو بين جميع الأسراء ورضي الأسراء بذلك فهذا المصاب بينهم بالسوية وإن أصابه بعضهم لأن أهل الحرب إنما سلموه لجماعتهم فكان هذا بمنزلة مال وهبوه لهم جميعاً من أموالهم وقبضه بعضهم برضاء الجماعة منهم ولو كانوا شرطوا عليهم أن ما أصبنا نحن وأنتم فلكم نصفه ولنا نصفه واقتسموا ما أصابوه نصفين ثم خرج الأسراء إلى دارنا فجميع ما أصابوه بينهم بالسوية ولا خمس فيه لأنهم تمكنوا من إخراجه بتسليم المشركين لهم وإنما الغنيمة اسم لمال مأخوذ على وجه القهر وذلك ينتفي إذا سلم المشركون لهم ذلك .
فأما ما أخرجته الأسراء هنا بغير طيب نفس أهل الحرب مما لو ظهر عليه أهل الحرب أخذوه منهم فإن ذلك يخمس والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن هذا مصاب بطريق القهر .
ول يتم سبب حقهم فيه قبل الإحراز بمنعة المسلمين .
إلا في خصلة واحدة وهي ما أخذ الأسراء بغير طيب أنفس أهل الحرب مما غدروا فيه فإن ذلك لا يخمس لأن الأخذ لم يكن حلالاً لهم وللإمام أن يأمرهم برده على سبيل الفتوى بمنزلة ما أخذه المستأمنون منهم على وجه التلصص .
ولو أن أهل الحرب أرسلوا الأسراء خاصة أن يقاتلوا أهل حرب آخرين وجعلوا الأمير من الأسراء وجعلوا له أن يحكم بحكم أهل الإسلام وسلموا لهم الغنائم يخرجونها إلى دار الإسلام فلا بأس بالقتال على هذا إذا خافوهم أو لم يخافوا لأنهم يقاتلون وحكم الإسلام هو الظاهر عليهم فيكون ذلك جهاداً منهم .
ثم يخمس ما أصابوا إذا أخرجوه إلى دار الإسلام ويقسم الباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن المصاب لما أخذ حكم الغنيمة ها هنا فتأكد الحق فيه يكون الإحراز بدار الإسلام@(4/257)
ألا ترى أن قوماً من أهل الحر موادعين لأهل الإسلام لو طلب إليهم المسلمون أن يدخلوا بلادهم جنداً ليغيروا على أهل حرب آخرين ففعلوا ذلك فإنه يخمس ما أصابوا ثم يقسم الباقي بينهم على سهام الغنيمة .
ولو كان أهل الحرب الذين بعثوا الأسراء لقتال عدوهم شرطوا أن المصاب لهم دون الأسراء أو نصف المصاب لهم والأسراء لا يخافونهم إن لم يفعلوا ذلك فليس ينبغي لهم أن يقاتلوا على هذا الشرط لأن فيه إعانتهم على المسلمين ألا ترى أنهم لو اصابوا كراعاً أو سلاحاً أخذوا منهم المشروط فتقووا به على قتال المسلمين إلا أن يكونوا شرطوا لهم أن يتركوهم فيخرجوا إلى دار الإسلام إذا فعلوا ذلك فحينئذ لا بأس بأن يفعلوا لأن هذا في المعنى بمنزلة مفاداتهم أنفسهم بما يعطونهم من السبي والكراع والسلاح .
ثم إذا خرجوا بالبقية إلى دار الإسلام خمس ذلك وقسم بينهم على سهام الغنيمة لأنهم أصابوه وحكم الإسلام هو الظاهر فيهم وبالإحرار بدار الإسلام يتأكد حقهم فيه لا بتسليم المشركين لهم ذلك لأن المشركين ما كانوا معهم حين اصابوا ذلك وكانت منعتهم حين اصابوا منعة المسلمين .
ولو كانوا شرطوا للأسراء الكراع والسلاح والسبي ولهم ما سوى ذلك لم يكن بقتال الأسراء على هذا بأس أيضاً بمنزلة مفاداتهم أنفسهم بالمال فإن كانوا قالوا لهم : ذلك لكم على ألا تخرجوه إلى دار الإسلام ولا تخرجوا أنتم أيضاً فحينئذ لا ينبغي لهم أن يقاتلوا على هذا إلا عند تحقق الضرورة بأن يخافوهم على أنفسهم لأن في هذا القتال تحصيل منفعة المال للمشركين وليس بمقابلته معنى الخلاص للمسلمين فلا ينفع القتال على هذا إلا عند تحقق الضرورة .@(4/258)
باب ما لا يكون لأهل الحرب من إحداث الكنائس والبيع وبيع الخمور
ذكر عن توبة بن تمر الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة وفيه لغتان خصاء وإخصاء والحديث مروي بكل واحد من اللفظين وفي تفسيره قولان أحدهما : النهي عن إخصاء بني آدم بصيغة النفي وهو أبلغ ما يكون من النهي وذلك حرام بالنص قال الله تعالى : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ } النساء : 119 قيل : هو إخصاء بني آدم وإنما يأمر الشيطان بما هو من الفحشاء والمنكر ثم هو مثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور وقيل : المراد به التبتل وهو أن يحرم الرجل غشيان النساء فيجعل نفسه بمنزلة الرهبان الذين يحرمون النساء وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك عثمان بن مظعون مع أصحابه حين هموا به والمراد بالكنيسة إحداث الكنائس في أمصار المسلمين فإن أهل الذمة يمنعون من ذلك وقد فسر ذلك ابن سماعة في نوادره عن محمد بن الحسن رحمه الله حين@(4/259)
روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : أمنع أهل الذمة من إحداث شيء من الكنائس في البلاد المفتوحة من خراسان وغيرها ولا أهدم شيئاً مما وجدته قديما في أيديهم ما لم أعلم أنهم أحدثوا ذلك بعدما صار ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين لأن تغيير ما وجد قديماً لا يجوز إلا بدليل موجب لذلك وتمكينهم من إحداث ذلك في موضع صار معداً لإقامة أعلام الإسلام فيه كتمكين المسلم من الثبات على الشرك بعد الردة وذلك لا يجوز بحال .
فإن طلب قوم من أهل الحرب أن يصيروا ذمة للمسلمين يجري عليهم أحكام الإسلام على أن يؤدوا عن رقابهم وأراضيهم شيئاً معلوماً فإنه يجب على الإمام أن يجيبهم إلى ذلك لأن عقد الذمة ينتهي به القتال كالإسلام فكما أنهم لو طلبوا عرض الإسلام عليهم يجب إجابتهم إلى ذلك فكذلك إذا طلبوا عقد الذمة وهذا لأنهم يلتزمون أحكام الإسلام بهذا الطريق فيما يرجع إلى المعاملات ثم ربما يرون محاسن الشريعة ويسلمون فكان هذا في معنى الدعاء إلى الدين بأرفق الطريقين .
وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران إلى هذا حين طلبوا منه فصالحهم على ألفي حلة في سنة أو على ألف ومائتي حلة فإن صولحوا على هذا وأراضيهم مثل أرض الشام مدائن وقرى فليس ينبغي للمسلمين أن يأخذوا شيئاً من دورهم وأراضيهم ولا أن ينزلوا عليهم منازلهم لأنهم أهل عهد وصلح وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لا أحل لكم شيئاً من دورهم من أموال المعاهدين ولأنهم قبلوا الذمة لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم .
فإن أراد المسلمون أن يتخذوا مصراً في الموات من تلك@(4/260)
الأراضي التي لا يملكها أحد فلا بأس بذلك لأنه ليس في هذا تعرض لشيء من أملاكهم وقد صارت ديارهم من جملة ديار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها فالرأي إلى الإمام في الموات من الأراضي في دار الإسلام .
قال صلى الله عليه وسلم : ألا إن عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني فإن كان قرب ذلك المصر الذي أتخذه المسلمون في الموات من الأراضي قرى لأهل الذمة فعظم المصر حتى جاوز تلك القرى فقد صارت من جملة المصر لإحاطة المصر بجوانبها فإن كان لهم في تلك القرى كنائس أو بيع أو بيوت نيران تركت على حالها لأنهم أهل صلح قد استحقوا به ترك التعرض لهم في ذلك الحكم بصيرورة ذلك الموضع مصراً .
ألا ترى أنه لا يجوز التعرض لهم في أخذ شيء من أملاكهم وإزعاجهم من ذلك الموضع لأنهم استحقوا ذلك بعقد الصلح .
ولكن إن أرادوا إحداث بيعة أو كنيسة في تلك الموضع لم يكن لهم ذلك لأنه صار من جملة أمصار المسلمين يصح فيه الجمع والأعياد وتقام فيه الحدود وفي تمكينهم من إحداث شيء من ذلك في مثل هذا الموضع إدخال الوهن على المسلمين أو تمكينهم من المعارضة مع المسلمين صورة وهذا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ولا كنيسة يوضحه : أن ما كانت لهم من الكنائس في هذا الموضع قد تأكد حقه فيها بالتقرير بعدما صار ذلك الموضع دار الإسلام فلا يتغير ذلك بما أحدث من الحال وهو تصيير ذلك الموضع مصراً للمسلمين بخلاف ما إذا أرادوا الإحداث وهو نظير حكم في حادثة أمضاه القاضي باجتهاد ثم تحول رأيه فإنه لا ينقض ذلك وإن كان يبنى مثل تلك الحادثة في المستقبل على ما ظهر له من الرأي فيه .
وكذلك إن كانوا يبيعون@(4/261)
الخمور والخنازير علانية في ذلك الموضع فإنهم يمنعون من ذلك بعدما صار ذلك الموضع مصراً لأن هذا تصرف ينشئونه وقد بينا في المبسوط أن أهل الذمة يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين ومن إدخال ذلك في الإمصار على وجه الشهرة والظهور .
هكذا نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما ولأن هذا فسق وفي إظهار الفسق في أمصار المسلمين استخفاف بالدين وما صالحناهم على أن يستخفوا بالمسلمين .
وكذلك إن حضر لهم عيد يخرجون فيه صليبهم فليفعلوا ذلك في كنائسهم القديمة فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهروه في المصر فليس لهم ذلك لما فيه من الاستخفاف بالمسلمين ولكن ليخرجوه خفياً من كنائسهم حتى إذا أخرجوه من المصر إلى غير المصر فليصنعوا من ذلك ما أحبوا يعني إذا جاوزوا أفنية المصر لأن فناء المصر كجوفه في حكم إقامة الجمعة فخرج مع الناس إلى بعض أفنية المصر فله أن يصلي الجمعة بهم وهم يمنعون من إظهار ذلك في الموضع الذي يظهر المسلمون فيه مثل ذلك لكيلا يؤدي إلى صورة المعارضة فعرفنا أن فناء المصر في هذا كجوف المصر .
وكذلك ضرب الناقوس لم يمنعوا منه إذا كانوا يضربونه في جوف كنائسهم القديمة فإن أرادوا الضرب بها خارجاً فليس ينبغي أن يتركوا ليفعلوا ذلك لما فيه من معارضة أذان المسلمين في الصورة فأما كل قرية أو موضع ليس بمصر من أمصار المسلمين فإنهم لا يمنعون من إحداث جميع ذلك فيها وإن كان فيها عدد من المسلمين نزول@(4/262)
لأن هذا ليس بموضع إعلام الدين من إقامة الجمعة والأعياد فيه وكثير من أئمة بلخ رحمهم الله تعالى قالوا : إنما أجابوا بهذا ها هنا وفي المبسوط بني على حال قراهم بالكوفة فإن عامة من يسكنها أهل الذمة والروافض فأما في ديارنا فهم يمنعون من ذلك في القرى كما يمنعون منه في الأمصار لأنها موضع جماعات المسلمين وجلوس الواعظين والمدرسين بمنزلة الأمصار واستدلوا بلفظ ذكره هنا فقال : فأما المصر الذي الغالب عليه أهل الذمة مثل الحيرة وغيرها ليست فيها جمعة ولا حدود تقام فإنهم لا يمنعون من إحداث ذلك فيها ومشايخ ديارنا يقولون : لا يمنعون من إحداث ذلك في القرى على كل حال واستدلوا بلفظ ذكره ها هنا فقال : القرى التي أهلها مسلمون إلا أنها ليست بأمصار فيها جمع وحدود إذا اشترى قوم من أهل الذمة فيها منازل واتخذوا فيها الكنائس والبيع وأعلنوا فيها بيع الخمر والخنزير لم يمنعوا من ذلك لأن المنع باعتبار أنه موضع إقامة معالم الدين فيه من الجمع والأعياد وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وفي مثل هذا دليل على أن تنفيذ الأحكام يختص بالأمصار دون القرى وهكذا أشار إليه في أدب القاضي بخلاف ما ذكر الخصاف : أن القرى في ذلك كالأمصار وقد بينا ذلك في شرح المختصر .
فالحاصل أنهم يمنعون من إحداث ذلك في المصر وما يكون من فناء المصر ولا يمنعون من ذلك في القرى التي يكون أكثر السكان بها من أهل الذمة فأما في القرى التي يسكنها المسلمون اختلاف بين المشايخ على ما بينا ولو شرط عليهم المسلمون في أصل الصلح أن يقاسموهم منازلهم في مدائنهم وأمصارهم فذلك جائز لأن اشتراط هذا الملك عليهم كاشتراط مال آخر فيجوز إذا كان معلوماً .
فإن نزل عليهم المسلمون في مدائنهم وقراهم وفيها@(4/263)
الكنائس وبيع الخمور والخنازير علانية وتزويج المحارم فكل موضع صار مصراً للمسلمين تجمع فيه الجمع وتقام فيه الحدود فإنهم يمنعون من إحداث الكنائس فيه وإظهار شيء مما كانوا يظهرونه قبل ذلك لأن هذا الموضع قد صار من أمصار المسلمين بما أحدثوا من السكنى فيه بعد الصلح فهو في الحكم نظير ما تقدم مما جعلوه مصراً بعد أن كان من قرى أهل الذمة فكل حكم ذكرناه هناك فهو كالحكم ها هنا .
فإن انهدمت كنيسة من كنائسهم القديمة فلهم أن يبنوها كما كانت لأن حقهم في هذه البقعة قد كان مقرراً لم كانوا أعدوه له فلا يتغير ذلك بانهدام البناء فإذا بنوه كما كان فالبناء الثاني مثل الأول .
وإن قالوا : نحوله من هذا الموضع إلى موضع آخر من المصر فليس لهم ذلك لأن الموضع الآخر قد صار معداً لأظهار أحكام الإسلام فيه فلا يمكنون من أن يجعلوه معداً بعد ذلك لإظهار حكم الشرك فيه وإن كان بعوض يجعلونه للمسلمين بمنزلة المرتد إذا طلب أن يمكن من الثبات على الردة بمال يعطى للمسمين فإنه لا يجاب إلى ذلك بحال .
أرأيت لو أرادوا أو يحولوه إلى موضع كان مسجداً للمسلمين في وقت من الأوقات على أن يبنوا في هذا الموضع للمسلمين مسجداً أجود مما كان منه وأوسع أكان يحل إجابتهم إلى ذلك لا يجوز بحال .
ولو ظهر الإمام على قوم من أهل الحرب وعلى أرضهم فرأى أن يجعلهم ذمة كما فعله عمر رضي الله عنه بأهل سواد الكوفة فهو جائز مستقيم لأنه فعله ذلك بعدما شاور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وحاجهم بدلالة النص من الكتاب وهو قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } الحشر : 10 @(4/264)
حتى أجمعوا على قوله إلا نفراً يسيراً منهم خالفوه ولم يحمدوا على ذلك حتى دعا عليهم على المنبر فقال : اللهم اكفني بلالاً وأصحابه فما حال الحول ومنهم عين تطرف ثم لا يمنعون بعد ذلك من بناء بيعة أو كنيسة ولا من إظهار بيع الخمور والخنازير في قراهم وأمصارهم لأن المنع من ذلك مختص بأمصار المسلمين التي تقام فيها الحدود والجمع وقد قررنا هذا في الأراضي التي وقع الصلح عليها قبل أن يظفر بهم فكذلك في هذه الراضي لأنها ليست بمواضع إقامة أعلام الدين والإسلام من الجمع والأعياد والحدود .
فإن مصر الإمام في أراضيهم مصراً للمسلمين كما مصر عمر رضي الله عنه البصرة والكوفة فاشترى بها أهل الذمة دوراً وسكنوا مع المسلمين لم يمنعوا من ذلك لأنا إنما قبلنا منهم عقد الذمة ليقفوا على محاسن الدين فعسى أن يؤمنوا واختلاطهم بالمسلمين في السكنى معهم يحقق هذا المعنى قال رضي الله عنه : وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول : هذا إذا قلوا وكان بحيث لا يتعطل بعض جماعات المسلمين ولا يتقلل الجماعة بسكناهم بهذه الصفة فأما إذا كثروا على وجه يؤدي إلى تعطيل بعض الجماعات أو تقليلها منعوا من ذلك وأمروا بأن يسكنوا ناحية ليس فيها للمسلمين جماعة وهذا محفوظ عن أبي يوسف رحمة الله تعالى عليه .
فإن اشتروا دوراً للسكنى فأرادوا أن يتخذوا داراً منها كنيسة أو بيعة أو بيت نار يجتمعون فيها لصلاتهم منعوا من ذلك لما في إحداث ذلك من صورة المعارضة للمسلمين في بناء المساجد للجماعات وفيه إزدراء بالدين واستخفاف بالمسلمين .
وكذلك يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير ونكاح ذوات المحارم في هذا المصر لأن في هذا الإظهار معنى الاستخفاف بالمسلمين ومقصودهم يحصل بدون الإظهار .
ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يؤاجرهم بيتاً لشيء من ذلك لما فيه من@(4/265)
صورة الإعانة إلى ما يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين فإن آجرهم فاظهروا شيئاً من ذلك في تلك الدار منعهم صاحب البيت وغيره من ذلك على سبيل النهي عن المنكر وهو في ذلك كغيره ولا يفسخ عقد الإجارة بهذا بمنزلة ما لو آجر بيته من مسلم فكان يجمع الناس فيه على الشراب أو يبيع المسكر فيه فإنه يمنعه من ذلك على سبيل النهي عن المنكر ولا تفسخ الإجارة لأجله لأن المنع من هذا ليس لمعنى يتصل بعقد الإجارة .
وإن اتخذ فيه مصلى لنفسه خاصة لم يمنع من ذلك لأن هذا من جملة السكنى وقد استحق ذلك بالإجارة وإنما يمنع مما فيه صورة المعارضة للمسلمين في إظهار أعلام الدين وذلك بأن يبنيه كنيسة يجتمعون فيها لصلاتهم .
فإن أراد أن يجعل هذا البيت صومعة يتخلى فيها أصحاب الصوامع منع من ذلك في أمصار المسلمين لأن هذا شيء يشتهر فهو بمنزلة اتخاذ الكنيسة لجماعتهم .
فإن صارت بلدة من هذه البلاد مصراً من أمصار المسلمين يجمع فيه الجمع ويقام فيه الحدود ولهم فيه كنيسة قديمة فإن الإمام يمنعهم من الصلاة فيها بخلاف ما تقدم من الأمصار التي صالح عليها أهلها قبل أن يقع الظهور عليهم فإن هناك تترك لهم الكنائس القديمة ويمنعون من إحداث الكنائس بعدما صارت مصراً من أمصار المسلمين وها هنا يمنعون من إحداث الكنائس ولا يترك له الكنائس القديمة أيضاً إذا وقع الظهور عليهم لأن الإمام لو قسمها بين الغانمين لم@(4/266)
يترك فيها شيئاً من الكنائس فكذلك إذا جعلهم ذمة وكان المعنى فيه أن سبب استحقاق إظهار أحكام المسلمين في كل موضع في هذا المصر قد تقرر حين فتح عنوة ويثبت حق المسلمين فيه فبعد ذلك الرأي إلى الإمام فيما يرجع إلى النظر للمسلمين لا في إبطال حقهم وفي الأول ما تقرر سبب الاستحقاق في تلك الأراضي للمسلمين وإنما أثبت الإمام ذلك بالصلح فيقتصر على ما تناوله عقد الصلح ألا ترى أن ها هنا يضع الجزية على جماعتهم والخراج على أراضيهم وهناك لا يلزمهم من المال عن نفوسهم وأراضيهم إلا مقدار ما وقع الصلح عليه .
توضيحه : أن هناك بالصلح تقرر حقهم الذي كان ثابتاً قبله وإنما يثبت حق المسلمين بناء على حقهم المتقرر فيصير الحق الثابت فيها للمسلمين مانعاً لهم من إحداث الكنائس والبيع ولا يصير موجباً للاعتراض عليهم فيما تقرر حقهم فيه وها هنا اعترض حقهم على الحق الثابت فيها للمسلمين باعتبار رأي رآه الإمام في المن عليهم وذلك الرأي مقيد بالنظر وفيما لا نظر فيه للمسلمين يعتبر تقدم حق المسلمين وكان هذا نظير المستأمن في دارنا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب وهؤلاء الذين جعلهم الإمام ذمة لا يمكنون الرجوع إلى دار الحرب بحال للمعنى الذي أشرنا إليه .
إلا أنه لا ينبغي للإمام أن يهدم أبنية الكنائس القديمة لهم ولكن يمنعهم من الصلاة فيها ويأمرهم بأن يجعلوها مساكن يسكنونها لأنها مملوكة لهم ولما جعلهم ذمة فقد أظهر الحرمة والعصمة لأملاكهم فلا يجوز له أن يتعرض لشيء من ذلك بالتخريب عليهم ولكن يمنعهم من أن يجتمعوا فيها لتعبدهم لما فيه من إظهار الشرك في موضع ثبت حق المسلمين في إظهار أحكام الإسلام فيه .
فإن عطل المسلمون هذا المصر حتى تركوا إقامة الحدود والجمع فيها فلأهل الذمة أن يتخذوا فيها ما أرادوا من الكنائس وأن يظهروا بيع الخمر والخنزير فيها لأن المنع من ذلك المعنى قد ارتفع ألا ترى أنه كانوا لا يمنعون فيه قبل أن يجعلها الإمام مصراً للمسلمين يقيم@(4/267)
فيها الجمع والأعياد فكذلك بعدما ترك ذلك لأن المانع صورة المعارضة .
قال : وليس ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار في شيء من الأمصار والقرى وكذلك لا ينبغي أن يظهر فيها بيع الخمر والخنزير بحال من الأحوال لأن هذا كله يبتني على سكنى أهل الذمة فيها وهم لا يمكنون من استدامة السكنى في أرض العرب كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه موضع ولادته ومنشئه وإلى ذلك اشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : لا يجتمع في أرض العرب دينان وقال : لئن بقيت لأخرجن بني نجران من جزيرة العرب ثم أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام وقد كان لهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أجلى يهود خيبر ويهود وادي القرى وغيرهم ممن كان يسكن أرض العرب من اليهود والنصارى حتى لحق بعضهم بالشام وبعضهم بالعراق فظهر بهذا أنهم يمنعون من استدامة السكنى لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاجة إلى ذلك في المنع من تلك الكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير فيها أظهر .
وإذا دخلها مشرك تاجراً على أن يتجر ويرجع إلى بلاده لم يمنع من ذلك وإنما يمنع من أن يطيل فيها المكث حتى يتخذ فيها مسكناً لأن حالهم في أرض العرب مع التزام الجزية كحالهم في المقام في دار الإسلام بغير التزام الجزية وهناك لا يمنعون من التجارة وإنما يمنعون من إطالة المقام فكذلك حالهم في أرض العرب حتى إذا أراد رجل من أهل الذمة أن ينزل أرض العرب مثل المدينة ومكة والطائف والربذة ووادي القرى فإنه يمنع من ذلك .
لأن هذا كله من أرض العرب وقد بينا أن أرض العرب من عذيب إلى مكة طولاً ومن عدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة عرضاً .
وكل مصر من أمصار المسلمين يجمع فيها الجمع فليس ينبغي لمسلم ولا كافر أن يدخل فيها خمراً ولا خنزيراً ظاهراً فإن فعل ذلك مسلم وقال : إنما مررت مجتازاً وأنا أريد أن أخلل الخمر أو قال : ليس هذا لي فإن كان رجلاً ديناً لا يتهم على ذلك خلي سبيله@(4/268)
لأن ظاهر حاله يشهد على صدقه في خبره والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه خصوصاً فيما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال .
وإن كان ممن يتهم بتناول ذلك أهريقت خمره وذبح خنزيره وأحرق بالنار لأن ظاهر حاله يدل على أن قصده كان ارتكاب الحرام وفعله الذي ظهر على قصد ارتكاب الحرام حرام فيمنعه من ذلك على سبيل النهي عن المنكر .
وإن رأى أن يؤدبه بأسواط ويحبسه حتى تظهر توبته فعل لأنه صار مستوجب التعزير بارتكاب ما لا يحل وهو إظهار الخمر والخنزير في مصر المسلمين .
ولا ينبغي له أن يتعرض للإناء بالكسر والتمزيق لأن هذا مال متقوم عند المسلمين فلا ينبغي أن يفسده على مالكه إذ التعزير بإيلام في البدن لا بإفساد في المال وقد بينا هذا في باب إحراق رحل الغال وإن فعل ذلك إنسان ضمن قيمة ما افسده لأنه أتلف مالاً متقوماً يمكن الانتفاع به بوجه حلال .
إلا أن يكون من رأي الإمام أن يفعل ذلك عقوبة لما صنع صاحبه فحينئذ لا ضمان عليه فيما صنع ولا على من أمره به لأن هذا منه حكم في موضع الاجتهاد وقد بينا اختلاف العلماء في إحراق رحل الغال وحكم الإمام في المجتهدات نافذ ومن أصحابنا من يقول : تأويل هذا في إناء يشرب فيه الخمر على وجه لا يمكن الانتفاع به بطريق آخر فإنه إذا كان بهذه الصفة يجوز إفساده على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان وشق الزقاق والأصح هو الأول فإنه إذا كان بهذه الصفة كان الإمام وغير الإمام في هذا سواء كما في إراقة الخمر وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيقاً للزجر عن العادة المألوفة فكذلك ها هنا إن رأى الإمام أن يأمر به على تحقيق معنى الزجر كان ذلك منه حكماً نافذاً .
فإن أخذ الزق والدابة التي كان عليها ذلك الشراب فباع ذلك كله@(4/269)
فبيعه باطل لأنه باع مال الغير بغير إذن صاحبه والإمام في هذا كغيره من الناس في أنه لا ولاية له في بيع المال على مالكه من غير حق مستحق عليه .
وإن كان الذي أدخله ذمياً فإن كان جاهلاً يرد عليه متاعه وتقدم إليه في ذلك فأخبره بأنه إن عاد أدبه لأن هذا مما قد يشتبه عليهم والجهل في مثله عذر مانع من التأديب .
فإن عاد بعدما تقدم إليه أو كان عالماً في الابتداء أن هذا لا ينبغي له لم ينبغ للإمام أن يريق خمره ولا يذبح خنزيره لأن ذلك مال متقوم في حقه وقد بينا أن التأديب ليس بإتلاف المال ولكنه يؤدبه على ذلك بالضرب والحبس .
وإن أتلف شيئاً من ذلك عليه ضمن قيمته إلا أن يرى الإمام أن يفعل ذلك به على وجه العقوبة والحاصل أن حقهم في الخمر والخنزير ها هنا كحق المسلمين في الأوانين فإن كل واحد منهما مال متقوم لصاحبه كما بينا .
ولو مر ذمي بخمر له في سفينة في مثل دجلة والفرات فمر بها في وسط بغداد أو واسط أو المدائن لم يمنع من ذلك لأن هذا الطريق الأعظم لا بد له من الممر فيه يعني أن ما لا يستطاع الامتناع منه فهو عفو ولأن المنع منه في موضع يقام في شيء من أعلام الإسلام كيلا يؤدي إلى الاستخفاف بالمسلمين وهو غير موجود في وسط الدجلة .
إلا أنه لا يترك أن يرد بها إلى شيء من قرى هذه الأمصار ظاهراً لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين وهذا غير موجود في وسط دجلة بمنزلة الأسواق والطرق@(4/270)
التي فيها مجمع المسلمين فإن فعل شيئاً من ذلك فالحكم في تأديبه كما بينا وكذلك لو أرادوا الممر بذلك في طريق الأمصار ولا ممر لهم غير ذلك لم يمنعوا منه لأن هذا مما لا يستطاع الامتناع منه .
فإن كان لهم طريق يأخذون فيه غير الأمصار منعوا من ذلك لأنه لا حاجة لهم الآن إلى ذلك .
وإن لم يكن لهم طريق سوى ذلك فينبغي لفمام أن يبعث معهم أميناً حتى يخرجهم من المصر نظراً منه لهم حتى لا يتعرض لهم أحد من المسلمين ونظراً منه للمسلمين حتى لا يخلو حالهم في معنى ذلك عن معنى الذل أو حتى لا يدخلوا ذلك بعض مساكن للمسلمين من المتهمين بشرب شيء من ذلك وكل قرية من قرى أهل الذمة أظهروا شيئاً من الفسق مما لم يصالحوا عليه مثل الزنا وإتيان الفواحش فإنهم يمنعون من ذلك كله لأن هذا ليس بديانة منهم ولكنه فسق في الديانة فإنهم يعتقدون الحرمة في ذلك كما يعتقده فيه المسلمون ثم المسلمون يمنعون من كله في القرى والأمصار فكذلك أهل الذمة .
والأصل فيه عقد الربا فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران بأن تدعوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله وكان ذلك لهذا المعنى أنه فسق منهم في الديانة فقد ثبت بالنص حرمة ذلك في دينهم قال الله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } النساء : وعلى هذا @(4/271)
إظهار بيع المزامير والطبول للهو وإظهار الغناء فإنهم يمنعون من ذلك كما يمنع منه المسلم ومن كسر شيئاً من ذلك عليهم لم يضمنه إلا كما يضمنه إذا كسره للمسلم لأن هذا لم يتناوله عقد الذمة في التقرير عليه إذ لم يثبت أنهم كانوا مقرين عليه في دينهم وإنما يثبت ذلك في الخمور والخنازير ونكاح المحارم وعبادة غير الله تعالى فلا يتعرض لهم في ذلك خاصة فأما فيما سوى ذلك فحالهم كحال المسلمين في المنع من ارتكاب الفواحش .
ولو طلب قوم من أهل الحرب الصلح على شرط أن المسلمين إن اتخذوا مصراً في أرضهم لم يمنعوهم من أن يحدثوا فيه بيعة أو كنيسة وأن يظهروا فيه بيع الخمر والخنزير فلا ينبغي للمسلمين أن يصالحوهم على ذلك لأن هذا في معنى إعطاء الدنية في الدين والتزام ما يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الحاجة والضرورة .
فإن أعطاهم الإمام على هذا عهداً فإنه لا ينبغي له أن يفي بهذا الشرط لأنه مخالف لحكم الشرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء منهم مسلماً ثم نسخ الله تعالى هذا الشرط بقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } الممتحنة : 10 فصار هذا أصلاً أن الصلح متى وقع على شروط منها الجائز الذي يمكن الوفاء به ومنها الفاسد الذي لا يمكن الوفاء به فإن الإمام ينظر إلى الجائز فيجيزه وإلى@(4/272)
الفاسد فيبطله .
ألا ترى أنهم لو شرطوا في الصلح إظهار الزنا واستئجار الزواني علانية لا يجوز الوفاء لهم بهذا الشرط بل يقام الحد على من يثبت عليه الزنا منهم فكذلك ما سبق .
ولو أن الذين صالحوا على أراضيهم أحدثوا كنائس في قراهم وأمصارهم بعدما صاروا ذمة ثم صار ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين يجمع فيها الجمع فليس ينبغي للمسلمين أن يهدموا شيئاً من ذلك لأنهم أحدثوه وما كانوا ممنوعين من إحداثه يومئذ فكان ذلك وكنائسهم القديمة التي وقع الصلح عليها سواء فيترك ذلك لهم .
ويمنعون من إحداث الكنائس بعدما صار مصراً من أمصار المسلمين فإن قيل : كيف يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير في هذا المصر ولا يمنعون من الصلاة في الكنيسة القديمة قلنا : لأن بيع الخمر والخنزير إنشاء تصرف منهم بعدما صار ذلك الموضع دار الإسلام فأما استدامة الكنيسة على ما كانت فليس بإنشاء التصرف وصلاتهم فيها وإن كان إنشاء التصرف فبعقد الذمة قد استحقوا ترك التعرض لهم في ذلك فكأن صلاتهم فيها بمنزلة شربهم الخمر وأكلهم الخنازير .
ولو أن مصراً من أمصار أهل الذمة صار مصراً للمسلمين يجمع فيها الجمع فمنعوا من إحداث كنيسة فيه ثم تحول المسلمون عنه فلم يبق فيه منهم إلا نفر يسير فقد بينا أنه يعود الحكم فيه على ما كان في الابتداء لا يمنعون من إحداث الكنائس فيه فإن بنوا فيها الكنائس ثم بدا للمسلمين فرجعوا إلى ذلك المصر لم يهدموا شيئاً مما أحدثوا من الكنائس قبل عود المسلمين إليهم لأنهم حين بنوا ما كانوا ممنوعين منه فكان هذا وما بنوه قبل أن يتخذ المسلمون ذلك الموضع مصراً لهم سواء وإن كان ذلك الموضع أخذ عنوة فقد بينا@(4/273)
أنهم يمنعون من الصلاة فيها كما يمنعون من ذلك في الكنائس القديمة .
فإن كانت لهم كنيسة قديمة في مصر من أمصار المسلمين فأراد المسلمون منعهم من الصلاة فيها فقالوا : نحن قوم من أهل الذمة صالحنا على بلادنا وقال المسلمون : بل أخذنا بلادكم عنوة ثم جعلتم ذمة وهو أمر قد تطاول فلم يدر كيف كان فإن الإمام ينظر في ذلك هل يجد فيه أثراً عند الفقهاء ويسأل أصحاب الأخبار كيف كان أصل هذه الأرض فإن وجد فيه أثراً عمل به لأن نقل الثقات الأخبار حجة شرعية في وجوب العمل بها ولأن هذا مما لا يمكن إثباته بالشهادة القاطعة لأنه لم يبق أحد ممن أدرك ذلك الوقت وما جرى الرسم بالإشهاد على الشهادة في مثل هذا فيكتفي فيه بما يوجد من الحجة في أيدي الفقهاء لأن الوسع معتبر في الحج ولهذا يكتفى بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ولأن هذا من أمر الدين وخبر الواحد حجة للعمل به في باب الدين فإن لم يوجد في يد الفقهاء أثر في ذلك أو كانت الآثار فيه مختلفة فإن الإمام يجعلها أرض صلح ويجعل القول فيها قول أهلها لأنها في أيديهم فهم متمسكون فيها بالأصل والمسلمون يريدون الاعتراض عليهم بالمنع والهدم فيكون القول في ذلك قول الذين يتمسكون بالأصل مع إيمانهم كيف وقد تأكد قولهم بما ظهر من الصلح بيننا وبينهم في الحال فإن الأصل أن الاشتباه متى تمكن فيما مضى يجب المصير إلى تحكيم الحال كما في جريان الماء في استئجار الرحى .
توضيحه : أنا تيقنا ثبوت حقهم فيها في الأصل ووقع الشك والتعارض في الأدلة المثبتة لحق المسلمين فيها واليقين لا يزول بالشك .
وعلى هذا لو جاء أثر أنهم أهل صلح وأثر أنهم أخذوا عنوة فإن القول فيه قولهم أيضاً لتعارض الآثار .
وهذا بخلاف ما إذا شهد شهود على شهادة شهود @(4/274)
أنهم صالحوا وشهد شهود على أنهم أخذوا عنوة فإنه يعمل بشهادة الفريق الثاني لأن الشهادة حجة قاطعة فيرجح بالأثبات والذين شهدوا أنهم صالحوا يبقون على ما كان ولا يثبتون شيئاً حادثاً والفريق الثاني يثبتون ذلك فأما الأثر فليس بشهادة قاطعة والعمل بها في النفي والإثبات وفي الإبقاء والإحداث بصفة واحدة فلتحقق المعارضة يصار إلى التمسك بالأصل وأشار إلى معنى آخر في الكتاب فقال : لما جعل القول قولهم قبل إقامة البينة كان المحتاج إلى البينة هم المسلمون دون أهل الذمة فتقبل بينتهم على ذلك بمنزلة بينة الخارج مع ذي اليد في دعوى الملك المطلق فإن قيل : كان ينبغي أن يترجح بينة أهل الذمة لما فيها من تقرير حرية الأصل ونفي سبب الاسترقاق بمنزلة مجهول الحال إذا ثبت حريته بالبينة في معارضة بينة مدعي الرق عليه قلنا : هذا معنى لا يمكن اعتباره ها هنا فالذين أخذوا عنوة إذا من الإمام عليهم كانوا أحرار الأصل بمنزلة الذين صالحوا على أراضيهم ورقابهم فبين الكل اتفاق على أنهم أحرار لم يملكوا قط وإنما الدعوى فيما في أيديهم من الكنائس فهو بمنزلة الدعوى بين الخارج وذي اليد في ملك ما في يده .
ولو جاء أثر أنهم أخذوا عنوة وجاءت الشهادة على شهادة أنهم صولحوا كان الشهادة أحق أن يؤخذ بها لأنها حجة قاطعة فلا يقابلها رواية الأثر لأن ذلك ليس بحجة في موضع المنازعة والخصومة .
ولكن يشترط أن يكون شهود الأصل والفرع من المسلمين لأن شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين ولو جاء أثر أنهم صالحوا وجاءت الشهادة أنهم أخذوا عنوة فإنه يؤخذ بالشهادة ويستوي في ذلك شهادة المسلمين وأهل الذمة لأنها تقوم عليهم الآن باستحقاق ما في أيديهم وشهادة أهل الذمة حجة عليهم والله أعلم بالصواب .@(4/275)
وما لا يحل قد بينا أنه لا بأس بتحريق حصونهم وتغريقها ما داموا ممتنعين فيها سواء كان فيها قوم من المسلمين أسراء أو مستأمنين أو لم يكونوا والأولى لهم إذا كانوا يتمكنون من الظفر بهم بوجه آخر ألا يقدموا على التغريق والتحريق لأن في ذلك إتلاف من فيها من المسلمين إن كانوا وإن لم يكونوا ففي ذلك إتلاف أطفالهم ونسائهم وذلك حرام شرعاً فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الضرورة والضرورة فيه ألا يكون لهم طريق آخر يتمكنون من الظفر بهم بذلك الطريق أو يلحقهم في الطريق الآخر حرج عظيم ومؤنة شديدة فحينئذ لدفع هذه المؤنة يباح لهم التحريق ومن ضرورة ثبوت الإباحة مطلقاً مع العلم بالحال ألا يلزمهم دية ولا كفارة لأن وجوب ذلك باعتبار قتل محظور وهذا قتال مأمور به فلا يكون موجباً دية ولا كفارة .
والسفينة في ذلك كله بمنزلة الحصن في جميع ما ذكرنا وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين أو منهم وفي الوجوه كلها ينبغي لهم أن يقصدوا بفعلهم المشركين من المقاتلين دون غيرهم لأنهم لو قدروا على التحرز عن إصابة الأطفال فعلاً كان عليهم التحرز عن ذلك فإذا عجزوا عن ذلك وقدروا على التحرز قصداً كان عليهم ذلك عملاً بقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقد بينا فيما سبق ما يتعلق به الدية والكفارة من هذا النوع من الفعل بأن يتحقق صفة الخطأ .
فإن اختلف الرامي وولي المقتول بالرمية من المسلمين@(4/276)
فقال الولي : أقصدته بعدما علمت أنه مكره من جهتهم في الوقوف في الصف وقال الرامي : إنما تعمت المشركين بالرمي فالقول قول الرامي مع يمينه لأن الرمي إلى صف المشركين مباح له وذلك غير موجب الضمان عليه باعتبار الأصل فيجب التمسك بذلك الأصل حتى يقوم الدليل بخلافه .
ثم الولي يدعي على الرامي سبب وجوب الضمان وهو تعمده إياه بالرمي مع العلم بالحال وهو منكر فكان القول قول المنكر مع يمينه ولأن الظاهر شاهد للرامي والمسلم لا يتعمد الرمي إلى المسلم ومطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعاً لأن دينه وعقله يحمله على ذلك ويمنعه عن ارتكاب ما لا يحل فلهذا جعلنا القول قول الرامي في ذلك .
إلا أنه يحلفه لأن الولي يدعي عليه ما لو أقر به ألزمه فإذا أنكر استحلف لرجاء نكوله فإذا سبى المسلمون المرأة مع ولدها الصغير فلم يقدروا على حملها فقد بينا أنه لا يحل لهم أن يقتلوهما لأن قتل النساء والولدان حرام بالنص .
ولكن يتركونهما في مضيعة لأن في تركهما في مضيعة امتناع من الإحسان إليهما بالنقل إلى موضع الأمن والامتناع من الإحسان لا يكون إساءة .
وإذا كان معهما أب الصبي فلا بأس بأن يقتلوه لأنه أسير مباح الدم .
ولو امتنع قتله لما فيه من ضياعهما لامتنع قتال المشركين أصلاً لأنه لا يقتل أحد منهم في الحرب إلا وفيه توهم ضياع عياله .
فإن قدروا على أن يحملوا المرأة دون الصبي وعلموا أن الصبي يموت إذا فرقوا بينهما أو كان ذلك أكبر ظنهم فلا بأس بأن يفعلوا ذلك لأنهم لو تركوهما كان فيه ضياع الصبي أيضاً ولأن تضييع أحدهما@(4/277)
دون الآخر فهو خير من تضييعهما ولأنهم يحملون المرأة دون الصبي يقصدون منفعة أنفسهم في استرقاقها وذلك حق مستحق للمسلمين .
ولا بأس بالتفريق بين الوالدة وولدها بسبب حق مستحق إلا أنه ينبغي لهم ألا يرموا بالصبي عن خيولهم رمياً ولكن يضعونه على الأرض وضعاً لأنهم إذا رموا به كان هالكاً بفعلهم وذلك بمنزلة القتل منهم له وإذا وضعوه لم يكونوا قاتلين له ألا ترى أن من وجد لقيطاً فرفعه ثم وضعه في مكانه لم يكن عليه في ذلك شيء ولو رمى فتلف كان ضامناً بدل نفسه فبهذا تبين الفرق بين الوضع والترك في موضع يعلم أنه يهلك فيه .
وكذلك إن كانوا يقدرون على حمل الصبي ولا يقدرون على حمل أمه فلا بأس بأن يحملوه ويتركوها إذا كانوا يطمعون في إخراجه صحيحاً بأن كانوا يقدرون على غذاء يغذونه به إذا فرقوا بينه وبين أمه فإن كانوا لا يقدرون على ذلك ولكنهم يتيقنون بأنه يموت في أيديهم إذا حملوه دون أمه فالأولى أن يتركوه مع أمه لأن هذا تفريق غير مفيد ولأنهم إذا تركوه مع أمه لا يكون هلاك الولد إلى فعلهم تسبيباً ولا مباشرة وإذا حملوه دون أمه كان هلاك الولد مضافاً إلى فعلهم تسبيباً من حيث التفريق بينه وبين ما يتغذى به من لبن أمه .
وإن كانوا يقدرون على حمل أحدهما أيهما شاءوا فينبغي أن يحملوا ما يكون منفعتهم فيه أكثر لأن باعتبار المنفعة يباح أصل الحمل في أحدهما دون الآخر فبزيادة المعنى في المنفعة يقع الترجيح أيضاً .
وإن كانت المنفعة واحدة فإن لم يطمعوا في أن يعيش الصبي إذا فصل من أمه فينبغي أن يحملوا الأم دون الصبي لأنه لا منفعة في حمل الصبي الآن .
وإن كانوا طمعوا أن يعيش الصبي معهم بما يغذونه به فالأولى أن@(4/278)
يحمل الصبي ويتركوا الأم لأن خوف الضياع والعجز عن الإحسان لنفسه في حق الصبي أظهر ولأن الأم كافرة مخاطبة فالامتناع من الإحسان إليها عند أصرارها على الكفر يكون أولى من الأمتناع من الإحسان إلى الرضيع .
وإن قدروا على حملها فلست أحب لهم أن يتركوا واحداً منهما لما فيه من ترك إيصال المنفعة إلى المسلمين مع التمكن من ذلك لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها وقال صلى الله عليه وسلم : من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ولأنهم نقلوهما إلى هذا المكان وفي ترك أحدهما في هذا المكان تضييع له فلا يجوز الإقدام عليه إلا عند العجز عن حملهما .
وبه فارق ما لو وجدوهما في هذا الموضع فإن هناك لا بأس بأن يأخذوا أحدهما أيهما شاءوا لأنهم ما نقلوهما إلى هذا الموضع ولهم أن يتركوهما في هذا الموضع مع القدرة على حملهما فيكون لهم أيضاً أن يتركوا أحدهما ويأخذوا الآخر لأنه تفريق بحق .
وهذا إذا طمعوا أن يعيش الصبي في أيديهم بما يغذونه به إذا أخذوه فإذا لم يطمعوا في ذلك فلا ينبغي لهم إلا أن يأخذوهما إن قدروا على ذلك أو يتركوهما لأن في أخذ الصبي وحده تفريق غير مفيد .
وإن لم يقدروا على أحدهما فليأخذوا الأم لأن فيه منفعة لهم .
ولا بأس بأن يأخذوها وإن كان أكبر الرأي منهم أن الصبي يموت لأنهم بأخذ الأم يقصدون تحصيل المنفعة لهم وأخذها ليس بقتل منهم للصبي بعينه .
وكذلك لو وجدوا مع الصبي أباه فلا بأس بأن يقتلوه أو يأسروه وإن كانوا يعلمون أن الصبي يموت بعده لأن هذا ليس بتعرض منهم للصبي بشيء .@(4/279)
وكذلك إن كان مع الصبي والداه فلا بأس بأن يوضع الصبي ناحية ويؤخذ أبواه فيؤسران إلا ترى أنه لا بأس بتحريق حصونهم وتغريقها وإن كان فيه هلاك الأطفال فلأن يجوز قتل المشرك وأسره وإن كان فيه هلاك الصغير كان أولى إلا أنه ينبغي لهم ألا يرموا بالصبي ولكنهم يضعونه في موضع من الأرض إن تمكنوا من ذلك فإن لم يتمكنوا بأن كان المشركون في أثرهم فخافوا أن ينزلوا فيضعوه على الأرض أن يلحقهم المشركون فلا بأس أن يرموا به عن يخولهم ولا يتعمدوا قتله .
لأن أمر أنفسهم أهم والتحرز عن وقوعهم في أيدي المشركين واجب عليهم بحسب الإمكان فكان حالهم الآن فيما ابتلوا به كحال تترس المشركين بالأطفال وقد بينا أن هناك لا بأس بالرمي إليهم بشرط ألا يتعمدوا قتل الصبيان فها هنا أيضاً لا بأس برمي الصبيان عن دوابهم إذا عجزوا عن حملهم وعن وضعهم على الأرض فإن قتلهم رميهم لهم فلا شيء عليهم من الكفارة ولا إثم إن شاء الله تعالى لأنهم فعلوا ما أمروا به ولكنه قيد بالاستثناء ها هنا وهذا ليس في معنى التترس من كل وجه فهناك لم يتصل منهم فعل بالأطفال قبل أن تترس بهم المشركون وفي هذا الموضع قد اتصل منهم فعل بالأطفال قبل أن يبتلوا برميهم وهو حملهم ونقلهم من موضع إلى موضع فلهذا قيد الجواب الاستثناء .
وكذلك إن كانوا في سفينة ومعهم فيها أطفال من أطفال المشركين فانتهوا إلى مكان من البحر أكبر الظن منهم إن لم يطرحوهم في الماء غرقت السفينة ومن فيها فلا بأس بأن يطرحوهم ولا يتعمدوا بذلك قتلهم لأنه تعين عليهم هذا الوجه لنجاتهم مما ابتلوا به فكانوا في سعة من الإقدام عليه .
ولو كان معهم أطفال المسلمين في الفصلين والمسألة بحالها فليس ينبغي لهم أن يطرحوهم ولا أن يرموا بهم لأن حرمة أطفال المسلمين كحرمة الكبار منهم .
وقد بينا أن المسلم لا يحل له أن يقي روحه بروح من هو مثله في الحرمة كما لو أكره بوعيد القتل على أن يقتل مسلماً ولأنهم يتعجلون في هذا قتل المسلمين والمسلمات ولا رخصة في ذلك لمن يخاف الهلاك على نفسه ألا ترى أنه لو ابتلي بمخمصة لم يحل له أن يتناول أحداً من أطفال المسلمين لدفع الهلاك عن نفسه@(4/280)
ولو كان معهم في سفينة قوم من أهل الذمة أو من أهل الحرب مستأمنين فهم في ذلك كالمسلمين لا يسعهم أن يطرحوهم في الماء وإن خافوا على أنفسهم لأنهم آمنون فيهم بسبب الذمة أو الأمان فكانوا كالآمنين بسبب الإيمان .
وحقيقة المعنى : في الفرق بين هؤلاء وبين أطفال أهل الحرب أنهم منعوا من قتل هؤلاء لوجود عاصم منهم .
ألا ترى أنهم لا يسترقونهم كما لا يقتلونهم وفي حق الأطفال المنع من القتل ليس بعاصم فيه بل لانعدام العلة الموجبة للقتل وهي المحاربة .
ولهذا جاز استرقاقهم مع أن في الاسترقاق إتلافاً من طريق الحكم فلضعف حالهم قلنا : عند تحقق الضرورة يرخص له في أن يجعلهم وقاية لنفسه وعلى هذا لو هدد ملكهم أسيراً من المسلمين بأن يقتل صبياً منهم أو امرأة وقال : إن لم تقتله قتلناك كان في سعة من أن يقتله وفي سعة من أن يمتنع منه حتى يقتل في دار الحرب ولا يثبت من ذلك من الترخص له إذا أكره على قتل مسلم أو ذمي .
ولو أن جريدة خيل من المسلمين أصابوا في دار الحرب أطفالاً من أطفال المسلمين فحملوهم على خيولهم ثم لحقهم العدو فإنه لا يسعهم أن يرموا بالأطفال ولكن إما أن يموتوا عن آخرهم أو ينقلبوا هم والأطفال للمساواة بينهم في الحرمة والعصمة وهذه المساواة إنما تتحقق بعدما أخذوهم والتزموا حملهم إلى دار الإسلام وإن كانوا لم يأخذوهم بعد وخافوا إن يأخذوهم أن يعجزوا عن حملهم وأن يدركهم المشركون فلا بأس بأن يتركوهم لأن في هذا منهم ترك الإحسان إلى الأطفال@(4/281)
لا الإساءة إليهم ولأنهم يمتنعون من التزام ما لا يقدرون على الوفاء به إذا التزموه فإن قاتلوا عنهم حتى يقتلوا أو يظفروا بالعدو فيخرجوهم فذلك أفضل .
لأن الدفع عن أطفال المسلمين عزيمة وترك ذلك عند الضرورة رخصة والتمسك بالعزيمة خير من الترخص بالرخصة .
وإن كان أكبر الرأي منهم أنهم يقوون على المشركين حتي يأخذوا منهم الأطفال لم يسعهم تركهم لأن الدفع عن أطفال المسلمين بحسب الإمكان هو العزيمة وعند النفير العام يفرض الخروج للقتال على كل من يقدر عليه عيناً للدفع عن أطفال المسلمين فكذلك في هذا الموضع والحاصل أنهم إذا كانوا يطمعون في أن ينجوا مع أطفال المسلمين إذا قاتلوا لم يسعهم إلا ذلك وإن كانوا لا يطمعون في ذلك فحينئذ يرخص لهم في البداية بأنفسهم في اكتساب سبب النجاة عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وعلى هذا لو ابتلوا بهذه الحادثة في أطفال من المشركين حملوهم بدون الآباء والأمهات حتى أخرجوهم إلى دار الإسلام ثم أدركهم المشركون لأن هؤلاء الأطفال صاروا مسلمين باعتبار دار الإسلام حين لم يكن معهم فيها أحد من آبائهم وأمهاتهم ألا ترى أن من مات منهم يصلى عليه فكانوا بمنزلة أطفال المسلمين في ذلك .
ولو كان أكبر الرأي من المسلمين أنهم إن رموا بهم لم يهلكوا ولكن المشركين يأخذونهم فيردونهم إلى بلادهم فلا بأس بأن يطرحوهم إذا لم يكن بهم قوة على أولئك المشركين لأنه ليس في هذا هلاك ولا قتل للأطفال وإنما الممنوع منه أن يجعل روح من هو مثله في الحرمة وقاية لروحه .
وكذلك لو كان معهم أطفال المسلمين أو نساء مسلمات فخافوا إن لم يطرحوهم أن يلحقهم المشركون فيقتلونهم ولم يكن لهم قوة على المشركين فلا بأس بأن يطرحوهم إذا علموا أن المشركين يأخذونهم ولا يقتلونهم لأنه ليس في هذا قتل ولا هلاك ألا ترى أنهم لو حاصروا حصناً من حصون المسلمين فيه النساء والأطفال ولم يكن للمسلمين قوة على قتال أهل الحرب كانوا في سعة من أن يخلوا@(4/282)
بينهم وبين الحصن لأنه ليس في فعلهم إتلاف النساء والأطفال من المسلمين .
وإن كانوا يقدرون على قتالهم أو كان أكبر الرأي على أنهم ينتصفون منهم فليس يسعهم أن يدعوهم لأن أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته كاليقين والدفع عن ذراري المسلمين فرض عين على كل مسلم عند التمكن منه .
ولو كانوا في سفينة فخافوا إن لم يرموا بالنساء والصبيان في الماء أن يأخذ المشركون من في السفينة لم يحل لهم أن يرموا بهم في الماء لأن أكبر الرأي في الماء أنه مهلك فكان في هذا إتلاف الذراري ولا رخصة للمسلمين في ذلك لتحصيل النجاة لأنفسهم بخلاف الأول فالرمي بهم عن الخيول هناك غير متلف لهم غالباً حتى أن في السفينة إذا كان أكبر الرأي منهم عند الرمي بالنساء والصبيان أنهم لا يهلكون ولكن يأخذهم المشركون فلا بأس بأن يفعلوا ذلك إذا كان أكبر الرأي منهم أن يهلكوا جميعاً إن لم يفعلوا ذلك .
ولو أخذت السرية أطفالاً من المشركين في دار الحرب فعجزوا عن حملهم ومروا بحصن من حصونهم فسألوهم أن يدفعوهم إليهم حتى يقوموا بتربيتهم فليس على المسلمين ذلك ولكنهم يضعونهم وضعاً فإن شاء أولئك نزلوا فأخذوهم وإن شاءوا تركوهم لأن الدفع إليهم للتربية من باب الإحسان وقد بينا أن ذلك ليس بواجب على المسلمين في أطفال المشركين إنما عليهم الامتناع من الإساءة ووضعهم إياهم على الأرض ليس من الإساءة في شيء فلهذا كان الرأي إليهم إن شاءوا وضعوهم على الأرض وإن شاءوا أسلموهم إليهم وما بعد هذا إلى أخر الباب فقد تقدم بيان شرحه والله الموفق .@(4/283)
باب ما يحل للمسلمين أن يدخلوه دار الحرب من التجارات
وقد بينا أنه لا يستحب للمسلمين أن يدخلوا دار الحرب شيئاً مما فيه منفعة أهل الحرب لأن ذلك يقويهم على عبادة غير الله تعالى .
فإن أدخلوا ذلك دارهم لم يمنعوا ما خلا الكراع والسلاح ونعني بالكراع : الخيل والبغال والحمير والإبل والدواب التي يحمل عليها المتاع ونعني بالسلاح : ما يكون معداً للقتال به وما يكون من جنس الحديد فإن ذلك يقويهم على قتالهم المسلمين وقد أمرنا بدفع قتالهم فمن ضرورة ذلك كراهة الاشتغال بما يقويهم على القتال .
وما سمينا من الدواب يحمل متاعهم ويقويهم على الحرب والفيلة كذلك لأنها يقاتل بها ويقاتل عليها وتحمل أثقالهم ويستوي في ذلك الصغير والكبير لأن الصغير يكبر فيحمل ويقاتل عليه فإن كان شيء من الدواب لا يصلح لذلك ولا يلقح أيضاً وإنما يشترونه للأكل خاصة فلا بأس بإدخالهم بلادهم بمنزلة سائر الأطعمة .
والسبي من النساء والرجال والصبيان لا ينبغي أن يدخل شيء منه من دار الحرب إن كان صغيراً طفلاً أو شيخاً فانياً سواء كانت عندهم منعة أو لم يكن لأنهم صاروا من أهل دار الإسلام فلا ينبغي أن يدخلوا@(4/284)
دار الحرب ليباعوا منهم بعدما صاروا من أهل دارنا .
وأجناس السلاح ما صغر منه وما كبر حتى الإبرة والمسلة في كراهة الحمل إليهم سواء لأن التقوي بهم على قتال المسلمين يحصل .
والحديد كذلك لأنه أصل ما يتخذ منه الأسلح .
والحرير والديباج كذلك لأنه يصنع منه الرايات .
والسلاح والقز الذي غير معمول كذلك لأنه يتخذ منه الخفتانات .
فإن كان خزاً من إبريسم أو ثياباً رقاقاً من القز فلا بأس بإدخالها إليهم لأن ذلك لا يتقوى به على القتال وإنما يستعمل في اللبس فهو نظير ما يستعمل للأكل .
والجعاب وجفون السيوف وغلفها يكره حمل شيء من ذلك إليهم لأن هذا يستعمل للتقوى به على القتال والحاصل أن ما ليس بسلاح بعينه فإن كان الغالب عليه أن يراد لغير السلاح وقد يراد للسلاح فلا بأس بإدخاله إليهم لأن الحكم للغالب والنادر لا يظهر في مقابلة الغالب .
فإن أدخل ذلك رجل من المسلمين أو من أهل الذمة فعلم به أدب بالضرب والحبس لأنه ارتكب ما هو حرام وقصد به الإضرار بالمسلمين إلا أن يكون جاهلاً فيعذر لجهله ويعلم ذلك لأن هذا حكم خفي يشتبه على أكثر الناس فالسبيل فيه الإنذار في المرة الأولى قال الله تعالى : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } ق : 28 فإن عاد فحينئذ يؤدب بالضرب والحبس ولا بأس بإدخال القطن والثياب إليهم لأن الغالب فيه الاستعمال للبس لا للقتال .
فإن كان الغالب عندهم أنهم يقاتلون بالخفتانات المحشوة بالقطن لم يحل إدخال شيء من@(4/285)
ذلك إليهم ولا بأس بإدخال الصفر والشبه والرصاص إليهم لأن هذا لا يستعمل للسلاح في الغالب .
فإن كانوا يجعلون عظم سلاحهم من ذلك لم يحل إدخال شيء من ذلك إليهم لأن المعتبر عادة كل قوم فيما يبتنى عليه مما يكره أو لا يكره .
والقنا والنشاب من القصب الغير المعمول لا يحل إدخال شيء من ذلك إليهم لأن الغالب عليه أن يتخذ منه السلاح .
ولا يحل إدخال النسور الحي والمذبوح منها وأجنحتها إليهم لأن الغالب عليه أن يدخل الريش النشاب والنبل .
وكذلك العقبان إذا كان يجعل من ريشها ذلك أيضاً وإن كانت إنما يدخل للصيد فلا بأس بإدخالها بمنزلة الغنم التي يحمل إليهم للأكل لأنه إنما يصطاد بما يؤكل والحكم في البزاة والصقور كذلك والتاجر من المسلمين إذا أراد أن يدخل إليهم بأمان على فرس ومعه سلاح وهو لا يريد بيعه منهم لم يمنع من ذلك لأن المسافر يحتاج إلى أن يستصحب هذه الأشياء لمنفعة نفسه فلا يكون ممنوعاً عنه في دار الحرب كما لا يكون ممنوعاً عنه في دار الإسلام .
ولكن هذا إن كان يعلم أن أهل الحرب لا يتعرضون له في ذلك وكذلك سائر الدواب لأنه يحتاج إلى أن يحمل عليها البز وغيره مما يريد التجارة فيه ولكن إن اتهم على شيء من ذلك يستحلف بالله ما يدخله للبيع ولا يبيعه في دار الحرب حتى@(4/286)
يخرجه إلا من ضرورة فإن حلف على ذلك فقد انتفت هذه التهمة فترك ليدخله دار الحرب وإن أبى أن يحلف لم يترك ليدخل دار الحرب شيئاً من ذلك وكذلك إذا أراد حمل الأمتعة إليهم في البحر في السفن لأن السفينة مركب يتقوون بها على حمل الأثقال وقد يستعملونها للقتال فيستحلف بالله ما يريد بيعها ولا يبيعها حتى يخرجها إلا من ضرورة .
وإن أدخل معه غلاماً أو غلامين لخدمته لم يمنع من ذلك للحاجة إليه فإنما يمنع من ذلك ما يريد التجارة فيه فإن اتهم استحلف فأما الذمي إذا أراد الدخول إليهم بأمان فإنه يمنع من أن يدخل فرساً معه أو برذوناً أو سلاحاً لأن الظاهر من حاله أنه يدخل ذلك إليهم للبيع فيهم بخلاف المسلم فإن دينه هناك يمنعه من ذلك وها هنا دينه لا يمنعه من ذلك بل يحمله عليه إلا أن يكون معروفاً بعداوتهم مأموناً على ذلك فحاله حينئذ كحال المسلم ولا يمنع من أن يدخل بتجارته على البغال والحمير والعجلة والسفن .
لأن الظاهر أن هذا لا يحمله إليهم لتقويتهم به على المسلمين بل لحاجته وكما يحتاج إليه فيه الإدخال يحتاج إليه في الإخراج لما يأتي به من السلع .
بخلاف السلاح والفرس فالظاهر هناك أنه يدخله للتجارة لا للحاجة لأنه يستغني في تحصيل حاجته عن ذلك ويستحلف أيضاً على ما يدخله إيهم من البغال والسفن والرقيق أنه لا يريد بهم البيع ولا يبيعهم حتى يخرجهم إلا من ضرورة لأن الواجب على المسلمين الأخذ بالاحتياط في هذا الباب على أقصى الوجوه الذي يقدرون عليه .
والحربي المستأمن في دارنا إذا أراد الرجوع إلى دار الحرب بشيء مما ذكرنا فإنه يمنع من ذلك لأنه من أهل تلك الدار وإنما يأتيهم ليقيم فيهم فيكون@(4/287)
محارباً للمسلمين كغيره فهو يتقوى بما يدخله من ذلك على قتال المسلمين فلهذا منع من جميع ذلك .
إلا أن يكون مكارياً سفناً أو دواب من مسلم أو ذمي فحينئذ حال المكاري في إدخال ذلك دار الحرب لمنفعة الحربي كحاله في إدخال ذلك لمنفعة نفسه والظاهر من حاله أنه قصد تحصيل الكراء لنفسه وأنه يرجع بما يدخل به فلهذا لا يمنع منه وإذا كان أهل الحرب إذا دخل عليهم التاجر بشيء من ذلك لم يدعوه يخرج به ولكنهم يعطونه ثمنه فإنه يمنع المسلم والذمي من إدخال الخيل والسلاح والرقيق إليهم ولا يمنع من إدخال البغال والحمير والثور والبعير إليهم لأن هذا مما لا بد له منه فقد لا يتقوى على المشي ولا يمكنه أن يحمل الأمتعة على عاتقه وحال تحقق الضرورة مستثنى من الخطر ولا تتحقق مثل هذه الضرورة في الخيل والسلاح لأن المقصود يحصل بدونه وإنما ينتفي به معنى التجمل والترفه أو زيادة الاحتياط .
ثم يمنع من إدخال دواب يحمل عليها أمتعة التجارة لأن ذلك لا يتحقق فيه الضرورة أيضاً إنما تتحقق الضرورة في دابته التي يركبها خاصة لأنه يضيع إن لم يركب فأما أمتعة التجارة فهو يتمكن من أن يحمل منها على دابته مع نفسه ما لا حمل له ولا مؤنة والمقصود من الإذن له في الدخول إليهم ما يخرجه لينتفع المسلمون لا ما يدخله مما ينتفع به أهل الحرب .
وكذلك لا يمنع من إدخال سفينة واحدة يركبها يكون فيها متاعه لأن ذلك لا بد له منه .
فإن أراد إدخال أخرى منع من ذلك لأن لا تتحقق الضرورة فيها@(4/288)
وهذا كله استحسان وفي القياس : يمنع من جميع ذلك لما فيها من قوة أهل الحرب على قتال المسلمين .
ولا رخصة فيه شرعاً ولا يمكن من أن يدخل إليهم خادماً في هذه الحالة مسلماً كان أو كافراً لأن الضرورة لا تتحقق فيه وإنما يراد به معنى التجمل والترفه ولأن المنع في حق من هو من أهل دار الإسلام أظهر من المنع في الفرس والسلاح .
ولو دخل الحربي إلينا بأمان ومعه كراع أو سلاح ورقيق لم يمنع من أن يرجع بما جاء به لأنا أعطيناه الأمان على نفسه وما معه فكما لا يمنع من الرجوع إلى دار الحرب للوفاء بالأمان فكذلك لا يمنع من أن يرجع بما جاء به فإن آلة القتال لا تكون أقوى من المقاتل فإن باع ذلك كله بدراهم ثم اشترى بها كراعاً أو سلاحاً أو رقيقاً مثل ما كان له أو أفضل مما كان له أو اشترى مما كان له فإنه لا يترك ليدخل شيئاً من ذلك دال الحرب ولكنه يجبر على بيعه لأنه ما استحق بالأمان إدخال هذه العين مع نفسه دار الحرب وما كان له من الحق في العين الأول فقد سقط حين أخرجه من ملكه بيعاً بالدراهم فكان هذا .
وما لو أدخل الدراهم دارنا واشترى بها هذه الأشياء سواء وكذلك لو اشترى شيئاً مما باعه بعينه أو استقال المشتري البيع فيه فأقاله قبل القبض أو بعده أو رده المشتري عليه بخيار رؤية أو بخيار شرط اشترطه المشتري لنفسه لأن خروجه من ملك الحربي قد تم في هذا الموضع وصار ملكاً للمسلم وصار المسلم@(4/289)
أحق بالتصرف فيه فيسقط حق الحربي في إعادته إلى دار الحرب والتحق بما كان مملوكاً للمسلم من الأصل فباعه من الحربي .
وإن كان الحربي يشترط الخيار لنفسه ثم نقض البيع بحكم يختاره فله أن يعود به إلى داره لأنه ما خرج عن ملكه بالبيع إذا شرط الخيار فيه لنفسه بل هو أحق بإمساكه والتصرف فيه فيبقى باعتبار حق الإعادة الذي كان ثابتاً له قبل البيع .
ولو كان باعه بيعاً فاسداً ثم نقض البيع قبل القبض فكذلك الجواب لأنه لم يخرج من ملكه لمجرد البيع الفاسد .
وإن كان المشتري قبض ذلك فإن كان ذلك بيعاً يملك المشتري المبيع به قبل القبض حتى أنه لو أعتقه ينفذ عتقه فيه لم يترك الحربي ليرجع به دار الحرب لأن المسلم قد ملكه عليه وذلك مسقط لحقه في إعادته إلى داره .
وإن كان بيعاً لا يملك به بعد القبض كالبيع بالدم والميتة فله أن يعيده إلى دار الحرب لبقاء حقه فيه ببقاء ملكه ولو استبدل الحربي بسيفه فرساً فإن أدخله إلى دار الحرب فالأصل في هذا الجنس أنه متى استبدل بسلاحه سلاحاً من غير ذلك الجنس لم يمكن من أن يرجع إلى دار الحرب ولكن يجبر على بيعه سواء كان ما حصله لنفسه خيراً مما أخرجه من ملكه أو شراً منه لأن هذا الجنس لم يثبت له فيه بعقد الأمان حق الإعادة إلى دار الحرب ويجبر على بيعه ولأنه قد يكون من الجنس الذي أخرجه مع نفسه في دارهم كثيراً ويعز فيهم الجنس الآخر ولا يوجد وهو يريد أن يحصل ذلك لهم ليتقووا به على قتال المسلمين .
فإن كان ما استبدل به من جنس ما@(4/290)
أدخله فإن كان مثل ما أدخله أو شراً مما أدخله لم يمنع من أن يرجع به إلى داره وإن كان خيراً مما أدخله منع من ذلك لأنه استحق بالأمان إعادة هذا الجنس مع نفسه إلى داره وإنما يعتبر العين إذا كان مفيداً فأما إذا لم يكن مفيداً كان المعتبر فيه الجنس وفيما يتبقى من هذا الجنس عين ما جاء به أو مثله سواء وكذلك في الضرر على المسلمين فأما إذا كان خيراً منها فهو يريد بهذا زيادة الإضرار للمسلمين فهو ممنوع عن ذلك فلا بد من أن يثبت حق المنع باعتبار هذه الزيادة وهي لا تنفصل عن الأصل فثبت المنع في الكل بمنزلة الموهوب إذا ازداد زيادة متصلة فإنه لا يرجع الواهب في الأصل كما لا يرجع في الزيادة فإن صار ممنوعاً من الرجوع به إلى دار الحرب كان مجبراً على بيعه .
وإن استبدل بها مثله ثم تقايلا البيع فله أن يعود بما رجع إليه إلى داره لأن سلاحه بعينه ولأنه مثل الأول الذي أخرجه بالإقالة من ملكه .
وإن استبدل به خيراً منه أو شراً منه ثم تقايلا البيع فيه لم يكن له أن يخرجه إلى داره في الوجهين أما إذا كان استبدل خيراً منه فلأن الإقالة كالبيع المبتدأ في حق غير المتعاقدين فيجعل في حق الشرع كأنه اشترى هذا السلاح ابتداء وهذا لأنه قد سقط حقه بالتصرف الأول وصار ممنوعاً من إدخال ما حصل له دار الحرب فلا يعود حقه بالإقالة .
وإن كان ما استبدل به شراً منه فهذه الإقالة في حق الشرع كالبيع المبتدأ وقد استبدل في هذه الإقالة بسلاحه الرديء سلاحاً جيداً فلا يمكن من إدخاله دار الحرب وحكم الاستبدال@(4/291)
بالكراع مثل حكم الاستبدال بالأسلحة في مراعاة الجنس والاختلاف في جميع ما ذكرنا فأما إذا استبدل بحماره أتاناً أو بفرسه الذكر فرساً أنثى منع من إدخاله دار الحرب وإن كان دون ما أدخله في القيمة لأن في هذا منفعة النسل وليس في الذي أعطاه منفعة النسل وربما يكون مقصوده من هذا الاستبدال تحصيل هذه المنفعة لهم فمنع منه كما يمنع عند اختلاف الجنس .
وإن استبدل ببغله الذكر بغلة أنثى مثله أو دونه لم يمنع من إدخاله دار الحرب لأن هذا مما لا يلقح وليس فيه معنى النسل أصلاً .
وإن استبدل بماذيانه فحلاً منع من إدخاله دار الحرب لأن ما أخذه مما تلقح وذلك معدوم فيما أعطى .
وإن استبدل بفرسه برذوناً أو ببرذونه فرساً منع من إدخاله دار الحرب لأن في كل واحد منهما نوع منفعة ليست في الآخر فإن البرذون ألين عطفاً وأصبر على القتال والفرس أقوى في حالة الطلب والهرب والظاهر أنه ما قصد بهذا الاستبدال تحصيل هذه المنفعة التي لم تكن حاصلة لهم .
وإن استبدل بفرسه الأنثى فرساً أنثى دونها في الجري ولكنها أثبت منها وأرجى للنسل منع من أن يدخلها دارهم لأن فيما أخذ نوع منفعة ليست فيما أعطى فصار الحاصل أن بعد الاستبدال هو مجبر على بيع ما أخذه إلا أن يعلم أنه مثل ما أعطى في جميع وجوه الانتفاع أو دونه فإن الاحتياط في هذا الباب واجب وتمام الاحتياط فيما قلنا .
فأما في الرقيق فسواء استبدلهم بجنس آخر أو بجنس ما هو عنده مما هو مثل ما عنده أو دونه أو أفضل منه فإنه يمنع من إدخاله دار الحرب ويجبر على بيعه لأن ما أخذه من الرقيق فهو من أهل دارنا مسلماً كان أو ذمياً والمستأمن ممنوع من استدامة الملك فيمن هو من أهل دارنا على كل حال@(4/292)
بخلاف ما سبق من الكراع والسلاح وكونه من أهل دارنا معنى يختص به بنو آدم دون الجمادات وسائر الحيوانات فلهذا بينا الجواب هناك على اعتبار زيادة المنفعة في المبيع .
ولو أن مستأمنين من الروم دخلا دارنا بأمان ومع أحدهما رقيق ومع الآخر سلاح فتبادلا الرقيق بالسلاح أو باع كل واحد منهما متاعه من صاحبه بدراهم لم يمنع كل واحد منهما من أن يدخل دار الحرب بما حصل لنفسه لأن المشتري فيما حصل له بهذا التصرف قام مقام البائع وقد كان البائع ممكناً من إعادته إلى دار الحرب فبتمكن المشتري أيضاً منه .
وإن اشترى أحدهما من صاحبه متاعه هو ومسلم أو معاهد لم يكن للحربي أن يدخل شيئاً من ذلك دار الحرب لأن شريكه فيه مسلم ولا يمكنه إدخال حصته دار الحرب حتى يدخل حصة المسلم وقد امتنع إدخال حصة المسلم من ذلك دار الحرب فمن ضرورته أن يمتنع الإدخال في حصة الحربي ايضاً فيجبر على بيع نصيبه من مسلم أو ذمي إلا أن يكون شيئاً من ذلك مما يقسم من سهام أو نشاب فحينئذ يكون للحربي أن يطالب شريكه بالقسمة وبعد القسمة يدخل نصيبه دار الحرب إما لأن القسمة في هذا بمنزلة ما يخص الحربي هو الذي يملكه بالعقد فيدخل دار الحرب كما لو اشتراه وحده أو في هذه القسمة معنى المعاوضة فكأن المسلم سلم له نصف ما يملك بمثله مما أخذه من نصيبه وقد بينا أن مثل هذا الاستبدال لا يمنعه من إدخال ما صار له دار الحرب .
وإن لم تستقم القسمة بينهما حتى زاد أحدهما صاحبه دراهم فإن كان المسلم هو الذي أعطى الحربي دراهم لم يمنع من أن يدخل ما صار له من ذلك دار الحرب لأن الحربي يصير بائعاً بعض نصيبه من شريكه بالدراهم وذلك لا يمنعه من إدخال ما بقي في ملكه دار الحرب .
وإن كان الحربي هو الذي أعطى الدراهم منع من ذلك لأنه صار مشترياً بعض ما صار للمسلم بما أعطاه من الدراهم ولأن الحربي إذا أعطي الدراهم فقد أخذ من السلاح خيراً مما كان له في ملكه بالشراء فكان هذا بمنزلة استبداله مع المسلم سلاحه بسلاح هو خير منه وإذا كان أخذ الدراهم فقد أخذ بهذا@(4/293)
الاستبدال سلاحاً هو شر من سلاحه مع اتفاق الجنس فلا يمنع من أن يدخل ذلك داره .
والكراع إذا كان مما يقسم بمنزلة السهام والنشاب لأنه يجري فيها قسمة الجزء .
ولو كان اشترى الحربي مع المسلم من الحربي رقيقاً ثم اقتسما فليس للحربي أن يدخل ما أصابه دار الحرب ها هنا في الوجوه كلها أما على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن الرقيق لا يقسم قسمة واحدة وعلى قولهما وإن كان يقسم قسمة واحدة فقبل القسمة صار كل واحد منهما مشتركاً بينهما نصفين فصار كل واحد منهما ذمياً باعتبار ملك المسلم أو المعاهد في نصفه وقد بينا أن الحربي لا يمكن من إدخال أحد ممن هو من أهل دارنا دار الحرب .
قال : ولو أن حربياً من الروم دخل إلينا بكراع أو سلاح أو رقيق فأراد أن يدخل ذلك أرض الترك أو الديلم أو غيرهم من أعداء المسلمين ليبيعه منهم منع من ذلك لأنه فيما يدخل دارهم من ذلك بمنزلة مسلم أو ذمي يريد إدخال شيء من ذلك دارهم وقد بينا أنه ممنوع من ذلك والحربي كذلك .
وهذا لأنه بعقد الأمان استحق التمكن من إعادة ذلك إلى داره إن شاء ففي هذا الحكم الواحد هو يفارق المسلم والمعاهد فأما في إدخال ذلك داراً أخرى فليس مما استحقه بعقد الأمان فيكون هو في ذلك كالمسلم أو المعاهد ولأنه إذا أدخل ذلك داراً أخرى فإنما يريد أن يحدث لهم بذلك قوة على قتالنا فيمنع منه وينعدم هذا المعنى فيما إذا عاد به إلى داره .
وكذلك لو أراد أن يدخل ذلك إلى دار حربهم موادعين للمسلمين لأنهم في حكم المحاربين وإن تركوا القتال بسبب الموادعة إلى مدة ألا ترى أنه لو أراد مسلم إدخال شيء من ذلك إليهم منع .
وإن أراد أن يدخل ذلك أرضاً أهلها ذمة للمسلمين لم@(4/294)
يمنع من ذلك لأن تلك الأرض من دار الإسلام والمستأمن في دارنا لا يمنع من أن يتجر في دار الإسلام في أي نواحيها شاء .
ولو كان أحد المستأمنين فينا من الروم والآخر من الترك ومع أحدهما رقيق ومع الآخر كراع أو سلاح فتبادلا أو اشترى كل واحد منهما متاع صاحبه بدراهم لم يترك واحد منهما ليخرج بما اشترى إلى داره لأن كل مشتر قام مقام بائعه فقد بينا أن كل واحد ممنوع من إدخال ذلك في الدار التي منها المشتري بخلاف ما إذا كانا من أهل دار واحدة وهذا لأن قصد كل واحد منهما بهذا التصرف أن يقوي أهل داره علينا بما يدخله فيهم من سلاح هو خلاف جنس ما خرج به وفي هذا المعنى لا فرق بين أن تكون مبادلتة من أهل دار واحدة وهذا لأن قصد كل واحد منهما مع المسلم أو المستأمن غير أهل داره .
وإن كانا تبادلا كراعاً بكراع من صنعه مثله أو سلاحاً بسلاح من صنعة مثله فلكل واحد منهما أن يدخل ما أخذ داره لأن هذه المبادلة لو كانت بينه وبين مسلم لم يمنع من إدخال ما حصل له داره .
فكذلك إن كان مع مستأمن وإن كان أحدهما أفضل من الآخر فللذي أخذ أخسهما أن يدخل بالذي أخذ دار الحرب وليس للذي أخذ أفضلهما ذلك ولكنه يجبر على بيعه بمنمزلة ما لو كانت هذه المبادلة بين المستأمن والمسلم وكذلك في حكم الرد بخيار الرؤية وخيار الشرط والعيب هذا بمنزلة ما لو كانت هذه المبادلة بينه وبين مسلم في جميع ما@(4/295)
ذكرنا بخلاف ما إذا تبادلا رقيقاً برقيق وهما سواء أو أحدهما أفضل من الآخر فإن هناك لا تجعل المبادلة بينهما بمنزلة المبادلة بين المسلم والمستأمن والمعاهد لأن هناك ما يخرج من ملك المسلم أو المعاهد كان من أهل دارنا وما يدخل في ملكه يصير من أهل دارنا وهاهنا ما يخرج من ملك أحدهما إلى ملك الآخر لم يكن من أهل دارنا فقلنا : عند تحقق المساواة لا يمنع كل واحد منهما من أ يدخل داره ما صار له وإن كان أحدهما أفضل من الآخر لم يمنع الذي أخذ أخسهما من أن يخرج به إلى داره ومنع الذي أخذ أفضلهما من ذلك لأجل الزيادة المتمكنة فيما صار له .
ولو كانا تبادلا عبداً بأمة لم يكن لكل واحد منهما أن يدخل ما أخذ داره لأن اختلاف الذكورة والأنوثة في بني آدم اختلاف جنس واحد ولهذا لو اشترى شخصاً على أنه عبد فإذا هي أمة كان البيع باطلاً ولأن في كل نوع منهما نوع منفعة غير منفعة صاحبه فالجارية تطلب للنسل والغلام يطلب للقتال فلهذا منع كل واحد منهما من أن يدخل داره ما حصل له بهذا التصرف والله تعالى أعلم .
باب من الفداء
قال : ولا بأس بأن يفادى أسراء المسلمين بأسراء مشركين الذين في أيدي المسلمين من الرجال والنساء وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهو أظهر الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعنه في رواية أخرى أنه قال : ولا تجوز مفاداة الأسير بالأسير وجه ظاهر الرواية أن تخليص أسراء المسلمين من أيدي المشركين واجب ولا يتوصل إلى ذلك إلا بطريق المفاداة وليس في هذا أكبر من ترك القتل لأسراء المشركين وذلك جائز لمنفعة المسلمين .
ألا ترى أن للإمام أن يسترقهم والمنفعة في تخليص أسارى المسلمين@(4/296)
من أيديهم أظهر وأيد ما قلنا حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل .
ووجه الرواية الأخرى عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } التوبة : 5 وفي المفاداة ترك القتل الذي هو فرض ولا يجوز ترك الفرض مع التمكن من إقامته بحال .
توضيحه : أن الأسراء صاروا مقهورين في أيدينا فكانوا من أهل دارنا فتكون المفاداة لهم لمنزلة المفاداة لأهل الذمة وذلك لا يجوز إذا لم يرض به أهل الذمة وليس في الامتناع من هذه المفاداة أكثر من الخوف على أسراء المسلمين ولأجله لا يجوز ترك قتل المشركين ولا يجوز إعادتهم ليصيروا حرباً لنا .
ألا ترى : أنه يفرض الجهاد على المسلمين ليتوصلوا به إلى قتل المشركين وإن كان فيه معنى الخوف على نفوس المسلمين وأموالهم .
فإن أسلم الأسراء قبل أن يفادى بهم فإنه لا يجوز المفاداة بهم بعد ذلك لأنهم صاروا كغيرهم من أهل الإسلام فلا يجوز تعريضهم للفتنة بطريق المفاداة .
وكذلك الصبيان من المشركين إذا سبوا وكان معهم الآباء والأمهات لأنهم تبع للأبوي فلا يصيرون مسلمين وإن حصلوا في دارنا .
فأما إذا سبي الصبي وحده وأخرج إلى دار الإسلام فإنه لا يجوز المفاداة به بعد ذلك لأنه صار محكوماً له بالإسلام تبعاً لداره .
وكذلك إن قسمت الغنيمة في دار الحرب فوقع في سهم رجل أو يبعث الغنائم فقد صار الصبي محكوماً له بالإسلام تبعاً لمن تعين ملكه فيه بالقسمة أو الشراء في دار الحرب حتى إذا مات يصلى عليه وفي هذا بيان أنه إذا كان بالغاً تجوز المفاداة به بعد القسمة والبيع وهو قول محمد رحمه الله تعالى وأما عند أبي@(4/297)
يوسف رحمه الله تعالى لا يجوز ذلك لأن حكم صيرورته من أهل دارنا قد استقر بالقسمة والبيع حين تعين الملك فيه للمسلم فكان بمنزلة الذمي في هذه الحالة لا يجوز المفاداة به ومحمد رحمه الله تعالى يقول : المعنى الذي لأجله جوزنا المفاداة به قبل القسمة والبيع موجود بعدهما وهو وجوب تخليص المسلمين من أيدي المشركين ثم بالقسمة والبيع يتعين معنى المالية فيهم وذلك علامة النقصان لا الزيادة .
ألا ترى : أن مفاداة أسراء المسلمين بالماء جائز فتعين صفة المالية في هؤلاء بالقسمة والبيع ولا يمتنع جواز المفاداة .
والأصل فيه حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم افتدى يوم المريسيع سبي بني المصطلق بعدما جرت فيهم السهمان فأما مفاداة الأسراء من المشركين بالمال فإنه لا يجوز في قول علمائنا رحمهم الله تعالى لأن قتل المشركين إلى أن يسلموا بعد التمكن منه فرض لقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ@(4/298)
الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5
وفي المفاداة بالمال ترك هذه الفريضة للطمع في عرض الدنيا وذلك لا يحل قال الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } الأنفال : 67 نزلت يوم بدر حين رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين أشار عليه بالمفاداة بالمال وقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يتأسف على ذلك على ما روي أنه أسر في عهده أسير من الروم فطلبوا المفاداة به فقال : اقتلوه فلقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا وفي رواية : لا تفادوا به وإن أعطيتم به مدين من ذهب ولأنا أمرنا بالجهاد لإعزاز الدين وفي مفاداة الأسير بالمال إظهار مناً للمشركين أنا نقاتلهم لتحصيل المال فأما قوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } محمد : 4 فقد بينا أن ذلك قد انتسخ بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5 وقوله تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ } الأنفال : 68 تفسيرها لولا أني كنت أحللت لكم الغنائم { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بدليل قوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا } الأنفال : 9 ولئن كان المراد تجويز المفاداة .
فقد انتسخ ذلك بنزول قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } لأن سورة براءة من آخر ما نزلت وهو تأويل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من المفاداة يوم بدر في النفوس بالنفوس عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما رواه الأعرج أن سعد بن النعمان خرج معتمراً من البقيع بعد وقعة بدر ومعه زوجته شيخان كبيران وهو لا يخشى الذي كان فحبسه أبو سفيان بمكة وقال : لا أرسله حتى يرسل محمد صلى الله عليه وسلم ابني عمرو بن أبي سفيان وكان أسر يوم بدر فمشى الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلموه في ذلك فأرسله ففدوا به سعد بن النعمان وكذلك فدى الأسارى يومئذ بالمال على ما روي أن الفداء يومئذ كان أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين بألف على قوم لا مال لهم من عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لما قدمت قريش في فداء أسرائها بعثت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفداء زوجها أبي العاص فكان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على زوجها فلما رأى@(4/299)
رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ورق لها ثم قال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم ففعلوا ذلك .
وصح أن العباس رضي الله تعالى عنه فدى نفسه يومئذ بمال وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى } الأنفال : 70 وأشار محمد رحمه الله إلى تأويل آخر فقال : قد كانوا يومئذ محتاجين إلى المال حاجة عظيمة لأجل الاستعداد للقتال وعند الضرورة لا بأس بالمفاداة بالمال وعليه يحمل أيضاً ما يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سبى الذراري والنساء من بني قريظة بعث بنصف السبي مع سعد بن زيد إلى نجد فباعهم من المشركين بالسلاح والحيوان وبالنصف الباقي مع سعد بن عبادة إلى الشام ليشتري بهم السلاح والكراع وإنما فعل ذلك لحاجتهم كانت إلى السلاح يومئذ وظاهر المذهب عندنا بأن المفاداة بالمال لا يجوز اليوم بحال وأن ما يروى في هذا الباب حكمه قد انتسخ وذكر تأويل المفاداة في سبي بني المصطلق فقال : إنما فعل ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ظهر على دارهم فافتدى بهم لئلا يجري عليهم الرق .
قال : ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بعدما افتديت لأن@(4/300)
القوم أسلموا ولولا ذلك من تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما المكروه عندنا مفاداة المشركين بالمال ليردوا إلى دار الحرب فيكونوا عوناً على المسلمين وذكر عن قبيصة بن ذؤيب قال : ليس يفدى العبد والذمي من بيت المال وبه نأخذ فإن العبد كان مملوكاً لمولاه وقد صار بالإحراز ملكاً لهم فإنما مولاه هو الذي يفديه بماله ليعيده إلى ملكه إلا أن يكون لمولاه مال فحينئذ ينبغي للإمام أن يفديه بمال بيت المال ثم لا سبيل لمولاه عليه بل يكون من عبيد بيت المال إلا أن يعطي مولاه ذلك الفداء وهو بمنزلة ما لو اشتراه مسلم منهم وأخرجه فأما الذمي فلا نصيب له في بيت المال ليفدى منه وإنما مال بيت المال معد لنوائب المسلمين فإنما يفدى أسراء المسلمين بمال بيت المال فإن طلبوا في مفاداة الأسير بالأسير أن نعطيهم بعض الصبيان الذين أسرناهم خاصة دون من أسرناهم معهم من الآباء والأمهات فلا بأس بذلك وإن كان في ذلك تفريق بينه وبين والديه لأن هذا التفريق بحق وحرمة المسلم الذي وجب تخليصه من المشركين أعظم من حرمة الصبي فلهذا جوزنا المفاداة به وإن كان بعد القسمة كما هو مذهب محمد رحمه الله تعالى .
واستدل عليه بحديث سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه هوازن فنفلني جارية فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هبها لي@(4/301)
فوهبتها له ففادى بها أسارى من المسلمين كانوا بمكة والملك في النفل قد تعين للمنفل له ثم جوز المفاداة به .
قال : وإذا جاء رسول ملكهم يطلب المفاداة بالأسارى والمسلمون بعد في دار الحرب قد جعلوا الأسارى في مكان حصين وأخذوا على المسلمين عهداً بأن يؤمنوهم على ما يأتون به من الأسارى حتى يفرغوا من أمر الفداء وإن لم يتفق رجعوا بمن معهم من أسارى المسلمين فإنه ينبغي للمسلمين أن يفوا لهم بعهدهم وأن يفادوهم كما شرطوا لهم مالاً أو غير ذلك من أسارى المسلمين إلا أنه إن لم يتفق بينهم التراضي على المفاداة وأرادوا الانصراف بأسراء المسلمين وللمسلمين عليهم قوة فإنه لا يسعهم أن يدعوهم حتى يردوا الأسراء إلى بلادهم لأن حبس أسراء المسلمين ظلم منهم ولا يحل إعطاء العهد على التقرير على الظلم فيحق عليهم ترك الوفاء بهذا الشرط ونزع الأسراء من أيديهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء سوى ذلك فإن قيل : أليس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرط لأهل مكة يوم الحديبية أن يرد عليهم من جاء منهم مسلماً ووفى بذلك الشرط فإنه رد أبا جندل بن سهيل بن عمرو على أبيه سهيل بن عمرو ورد أبا نصير على من جاء في طلبه حتى فعل ما فعل قلنا : نعم ولكن هذا حكم قد انتسخ بالكتاب قال الله تعالى : { فَلَا @(4/302)
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } الممتحنة : 10 وكان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خاصة وقد علم وجه المصلحة فيه بطريق الوحي فقال : لا يسألونني اليوم شيئاً إلا أعطيتهم إياه فأما اليوم فلا ينبغي أن نرد على المشركين مسلماً أو أن نترك أخذ المسلم من أيديهم إذا قدر المسلمون على ذلك بحال فإن أرادوا أخذهم فعرض لهم المشركون في ذلك فلينبذوا إليهم ثم ليقاتلوهم أشد القتال دون أسراء المسلمين حتى يستنقذوهم وإن كانوا شرطوا علينا أن نأتيهم بعدة من العلوج قد سموهم فلم نأتهم بهم أو أتيناهم ثم كان ترك المفاداة من قبلنا أو قبلهم فالجواب سواء ألا يكون بالمسلمين عليهم قوة فحينئذ يكونون في سعة من ترك قتالهم لأن عليهم حفظ قوة أنفسهم أولاً ثم العلو
والغلبة إن تمكنوا منه .
وإن لم يعلم أن أسراء المسلمين معهم بأن لم يعاينهم ولم يقروا بذلك إلا أنا نظن بذلك ظناً فليس ينبغي أن ينتقض العهد الذي بيننا وبينهم لأنه إنما حل ذلك لاسترداد الأسراء منهم وإذا لم يكن ذلك معلوماً فبنقض العهد لا يحصل هذا المقصود وإن استأمن إلينا مماليكهم ونحن في المفاداة لم ينقض العهد أيضاً ويرد عليهم مماليكهم لأنا آمناهم على ما جاءوا به من الأموال فلا ينبغي لنا أن نتعرض بشيء من أموالهم .
فإن أسلم المماليك لم نردهم عليهم بعد الإسلام ولكنا نبيعهم أثمانهم@(4/303)
بمنزلة المستأمن في دار الإسلام يسلم عبده ولكن يرد عليهم ما جاء المماليك به من أسلحتهم ودوابهم فإن قال المماليك : نكون ذمة لكم لم يلتفت إلى ذلك ونردهم عليهم مع دوابهم وأسلحتهم لأنهم مماليك من لهم أمان منا وهم تبع للمالك فلا يصح منه قبول الذمة ولا يصير به من أهل دارنا .
وإن كان الذين أتونا بعض أحرارهم أخذوا منهم الكراع والسلاح والمال ثم دخلوا إلينا بأمان لم نتعرض لهم في شيء مما جاءوا به لأن الأمان كان بيننا وبينهم ولم يكن فيما بينهم أمان لبعضهم من بعض فما أخذوا به من المال قد صار ملكاً لهم ولا ينبغي أن نتعرض لهم في شيء من ذلك سواء أسلموا أو صاروا ذمة أو دخلوا إلينا بأمان .
وهو نظير ما لو كان بيننا وبين قوم من أهل الحرب موادعة فأخذ بعضهم مال بعض ثم جاء به إلى دارنا مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً لم نتعرض لهم بأخذ شيء من ذلك من أيديهم .
ولو أن أسراء من المسلمين الذين جاءوا بهم للمفاداة هربوا إلينا قبل أن يقع الفداء فقالوا : ردوهم إلينا للعهد لم نردهم لأنا ما أعطيناهم العهد على حبس أسراء المسلمين فإن ذلك ظلم منهم وإنما أعطيناهم العهد على نفوسهم وأموالهم وما كانوا يملكون الأسراء .
ثم ليس علينا أن نفي لهم بالفداء لأنا إنما شرطنا لهم رد أسرائهم بالمفاداة وقد وقع الاستغناء عن ذلك وإن تم التراضي على المفاداة بعلوج بأعيانهم ثم هرب أسراء المسلمين منهم بعد ذلك فالأفضل أن يوفى لهم بما صالحوهم عليه ليطمئنوا إلى المسلمين في مثله بعد اليوم ولا ينسبوهم للغدر وإن لم يفعلوا فلا شيء عليهم لأن تمام المفاداة بالأخذ والإعطاء فإذا وقع الاستغناء عن ذلك قبل تمام المفاداة لم يكن علينا رد شيء عليهم بسبب تلك المراوضة من علوج المشركين والأموال .
ولو أن الأسراء هربوا منهم إلى بلاد المسلمين ولم يأتونا بعدما وقع الصلح أو قبل ذلك لم يكن عليه أن يعطيهم شيئاً بخلاف ما إذا @(4/304)
كانوا هربوا إلينا فللأفضل هناك أن نعطيهم ما شرطناهم لأنهم إذا خرجوا إلينا فنحن منعناهم فمن هذا الوجه يشبه هذا ما لو كانوا هم الذين أعطوهم إلينا فأما إذا خرجوا إلينا من جانب آخر إلى دار الإسلام فهم ليسوا في أيدينا فلا يلزمنا أن نفي لهم بالفداء الذي شرطنا إذا كانوا لا يرون علينا به شيئاً حقيقة أو حكماً بمنزلة ما لو مات الأسراء في أيديهم فكذلك إن هرب الأسراء أو كانوا أهل منعة فامتنعوا بأنفسهم .
لأنا لا نمنعهم الآن منهم لنفي لهم بما شرطنا .
وإذا هربوا إلينا ولا منعة لهم فنحن المانعون للأسراء منهم ألا ترى : أنهم لولا مكاننا أخذوا فلهذا ينبغي لنا أن نفي بما شرطنا لهم .
وإن أرادوا رد الأسراء فقاتلهم الأسراء واستغاثوا بالمسلمين فليس يحل للمسلمين أن يخذلوهم لما بينا أن حبسهم للأسراء ظلم وما أعطيناهم العهد على الظلم فلا يحل للمسلمين أن يذروا المشركين يقتلون إخوانهم ولا يمنعوهم من ذلك إذا كانوا يقرون علي المنع .
وكذلك لا بأس للأسراء أن يقاتلوهم حتى ينقلبوا منهم إن أمنوهم أو لم يؤمنوهم لأنهم ظالمون في حبسهم .
ولو كان الذين في أيديهم عبيداً وإماء من المسلمين إلا أنهم كانوا أحرزوهم في دارهم فإنا نفي بالمفاداة التي شرطنا فإن لم يتفق ذلك نأخذهم منهم بالقهر لأنهم مسلمون فلا يحل تركهم في دار المشركين ولكنا نبيعهم ونعطيهم أثمانهم .
لأنهم مماليكهم لو أسلموا كأموالهم وقد أعطيناهم الأمان على أموالهم .
فإن قاتلهم العبيد فأراد المشركون قتلهم قاتلناهم مع العبيد حتى نستنقذهم لأنهم إخواننا في الدين فيجب استنقاذهم من قهر المشركين .
إلا أن المشركين إن كانوا في مأمنهم فقد تم نبذ الأمان بيننا وبينهم ثم أخذنا منهم العبيد بعد ذلك فلا نعطيهم شيئاً بمقابلتهم وإن كانوا في غير مأمنهم بعناهم وأعطيناهم أثمانهم لأن حكم@(4/305)
الأمان بيننا وبينهم باق ما لم يصلوا إلى مأمنهم ومن لا يملك أهل الحرب من مدبر أو أم ولد أو مكاتب أو ذمي فهو بمنزلة الحر المسلم في جميع ما ذكرنا من الفصول ولو كان أسيراً في بعض حصونهم إذا أراد أن يشد على بعضهم فيقتله فإن كان يطمع في قتله أو في نكاية فيهم فلا بأس بأن يفعل ذلك وإن كان لا يطمع في ذلك فلا ينبغي له أن يفعله لأنه يلقي بيده إلى التهلكة من غير فائدة فإن الظاهر أنهم يقتلونه بعد هذا ويمثلون به .
وقد بينا هذا الحكم في حق من هو في الصف يقاتل وأنه قد فعل ذلك غير واحد من الصحابة منهم المنذر بن عمرو يوم بئر معونة ومنهم حمي الدبر عاصم بن ثابت يوم الرجيع يوم بني لحيان فإذا كان يجوز هذا للمقاتل إذا كان ينكر فعله فيهم فلأن يجوز للأسير كان أولى ولو خلوا سبيل الأسير وأعطوه الأمان على أن يكون في بلادهم فلا بأس للأسير أن يغتالهم ويقتل من قوي عليه سراً أو يأخذ ما شاء من أموالهم لأنه ما أعطاهم الأمان وإنما هم أعطوه الأمان وذلك لا يمنعه من أن يفعل بهم ما يقدر عليهم إلا أن يكون أعطاهم الأمان فحينئذ ينبغي لنا ألا نتعرض لهم بشيء من ذلك لأن ذلك يكون غدراً منه والغدر حرام .
ولكنه إن قدر على أن يخرج سراً إلى دار الإسلام فلا بأس بأن يخرج وإن كان أعطاهم الأمان من أن يفعل ذلك لأن حبسهم@(4/306)
إياه في دارهم ظلم منهم له فله أن يمتنع من الظلم .
فإن منعه إنسان من ذلك فلا بأس بأن يقاتله ويقتله لأنه ظالم له في هذا المنع .
وإن كان يستعملونه في الأعمال الشاقة فاشتد ذلك عليه فشد على بعضهم ليقتله فإن كان فعله ينكئ فيهم فلا بأس بذلك وإن كان يعلم أنه لا ينكئ فيهم فالأولى ألا يفعله إلا أن يكونوا كلفوه من العمل ما لا يطيق فظن أن له فيما يصنع نجاة أو ترفهاً فحينئذ لا بأس بذلك لطلب النجاة .
وكذلك إن شد على السجان ليقتله فهو على التقسيم الذي قلنا وإن أمر بالسجود لغير الله تعالى وضربه الذي يمسكه على ذلك فلا بأس بأن يقتل العلج ويأبى السجود وإن علم أنه يقتل لأن ضرب العلج وقتله إن تمكن منه يكون نكاية فيهم لا محالة وفي إبائه السجود لغير الله تعالى إعزاز الدين فلا بأس بأن يفعله ولا يكون به معيناً على نفسه .
ولو قال الأسير لهم : أنا أعلم الطب فسألوه أن يسقيهم الدواء فسقاهم السم فقتلهم فإن سقى الرجال منهم لم يكن به بأس لأن ذلك نكاية فيهم وأكره له أن يسقي الصبيان والنساء كما أكره له قتلهم .
إلا أن تكون امرأة منهم قد أضرت به وقصدت قتله فحينئذ لا بأس بأن يسقيها كما لا بأس بأن يقتلها إن تمكن من ذلك ولو أن أسيراً فيهم دلى نفسه من حصن أو سور مدينة ليهرب فسقط فمات فإن كان على طمع من أن ينجو حين فعل ذلك فلا بأس بما صنع لأن قصده السعي في نجاته والفرار بدينه كيلا يفتتن والمجاهد في كل ما يصنع على طمع من الظفر وخوف من الهلاك .
فإن كان هذا الفعل بتلك الصفة لم يكن به بأس وإن كان على يقين من الهلاك@(4/307)
أو كان أكبر الرأي أنه لا ينجو فإنه يكره له هذا الصنيع لأنه يقتل به نفسه .
وهو نظير ما سبق إذا دلى نفسه في قدر من بعض المطامير ليقاتل العدو فإن كان يطمع أن ينكئ فعله فيهم لم يكن بما صنع به بأس وإن كان أكبر رأيه أنه يقتل ولا ينكئ فعله لم يسعه أن يفعل ذلك وإذا أسر العلج أو امرأته وولده فلا ينبغي للأمير أن يفاديهم بالمال لما قلنا وكذلك لا يبيعهم من أهل الحرب قبل إخراجهم إلى دارنا ولا بعده لأن هذا في معنى المفاداة من حيث إنهم يفادون إلى أهل الحرب بعد التمكن منهم بمال يؤخذ منهم .
وكذلك إن وقعوا في سهم رجل فليس لذلك الرجل أن يبيعهم من أهل الحرب وإن فعل ذلك رد الإمام بيعه وأدبه على ما صنع إن علم أنه فعله عن بصيرة لأنه قصد تقوية المشركين على المسلمين .
ولو جاء مشرك مستأمناً وله عبيد مسلمون قد أسرهم وأحرزهم وطلب أن يبيع بهؤلاء الحربيين فلا بأس للأمير أن يشتريهم بأولئك الحربيين ثم يجعلهم فيئاً للمسلمين إن كان لم يقسمهم فإن كان قسمهم فلا بأس لمن وقعوا في سهمه أن يشتري بهم العبيد المسلمين لأن هذا بمنزلة مفاداة الأسير بالأسير وذلك جائز في ظاهر الرواية إذ المقصود تخليص المسلمين عن ذل الكفار .
ويستوي في هذا عبيد المسلمين وأحرارهم لأن جواز ذلك لحرمة الدين .
وإن جاء بالعبيد معه فإن الأمير لا يدعه يرجع بهم بمنزلة عبيد كفار أدخلهم مع نفسه فأسلموا أو اشترى في دار@(4/308)
الإسلام عبيداً مسلمين فإنهم مماليكه ثم يجبره الإمام على بيعهم كما يجبر أهل الذمة على ذلك فهذا مثله ولو كان دخل هذا المستأمن من عسكر المسلمين في دار الحرب أو دار الإسلام ومعه العبيد ثم طلب أن يبيعهم بأسراء المشركين فإن الأمير لا يمكنه من ذلك لأنه صار مجبراً على بيعهم بالدراهم والدنانير لما صار مقهوراً في أيدينا والعبيد معه فتمكينه من أن يبيعهم بأسراء المشركين بعد هذا يكون في معنى مفاداة الأسير بالمال بخلاف الأول فهناك قد جاء مستأمناً وليس العبيد معه فلم يصر هو مجبراً على بيعهم بالدراهم في الحكم .
توضيحه : أن جواز المفاداة بأسراء المشركين بطريق الضرورة وذلك عند تحقق الحاجة إلى تخليص المسلمين من أيديهم ولا ضرورة ها هنا لإمكان التخليص بطريق آخر وهو الإجبار على البيع بالدراهم وتتحقق الضرورة حين لم يأت بالعبيد معه .
ولو كان جاء ليدخل بأمان فسألهم قبل الدخول أن يبيعوه أسراء سماهم بعبيد في يده من عبيد المسلمين قد سماهم فلا بأس بأن يجيب المسلمون إلى ذلك لأن الضرورة قائمة ما لم تصل يدنا إلى عبيد المسلمين وبعد الإجابة عليهم وجب أن يفوا له بذلك لأن الشرط لما صح وجب الوفاء به شرعاً .
قال : ولو أن أسيراً في أيديهم أراد أن يقاتلهم وعنده أن فعله ينكئ فيهم ولكنه يقتل بعد ذلك فقد بينا أنه لا بأس بأن يفعل هذا لأنه داخل فيمن قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } البقرة : وإن كان يعلم أن فعله هذا يضر بغيره من الأسراء @(4/309)
في أيديهم فالأفضل ألا يفعل خصوصاً إذا كان نكايته فيهم لا تبلغ بعض ما يجب لأنه مندوب إلى النظر للمسلمين ودفع شر العدو عنهم ألا ترى أن المجاهد لهذا يقاتل المشركين فإن كان فعله هذا يصير سبب الإضرار بالمسلمين بأن يقتلوا أو يعذبوا فالأفضل له ألا يفعل ولو فعل لم يكن به بأس لأن مراعاة جانب غيره لا تكون أوجب عليه من مراعاة حق نفسه .
وإذا كان يجوز له هذا الصنيع مع علمه أنه يقتل إذا كان فعله ينكئ فيهم فلأن يجوز له ذلك وإن كان يخاف بسببه الإضرار بغيره من الأسراء كان أولى ولو أن سرية دخلت أرض العدو فكانوا بالقرب من عسكر عظيم من العدو لا يعلمون بهم فأراد رجل من المسلمين أن يحمل عليهم كرهت له ذلك لأن فعله هذا دلالة على المسلمين وليس بالمسلمين قوة على أن ينتصفوا منهم بعلمهم ولا رخصة في الدلالة على المسلمين ليقتلوا أو يؤسروا .
ولو كانوا علموا مكان المسلمين ولم يعرضوا لهم فلا بأس للمسلم أن يحمل عليهم إذا كان فعله ينكئ فيهم إلا أنه إذا خاف أن يقاتلوا المسلمين فيقتلوهم فالأفضل له ألا يفعل ذلك نظراً منه للمسلمين ألا ترى أن قوماً من المسلمين لو حاصرهم المشركون ولم يكن للمسلمين بهم طاقة فدعوهم إلى الصلح والأمان كان أفضل للمسلمين أن يصالحوهم ويقبلوا أمانهم وإن أبوا إلا قتالهم لم يكن به بأس كما فعله حمي الدبر حين عرضوا عليه الأمان فقال :@(4/310)
إني عاهدت الله قبل هذا ألا أقبل أماناً من المشركين فما زال يقاتلهم حتى قتل فعرفنا أنه لا بأس بذلك .
وإذا أسرت كتابية فوقعت في سهم رجل فدبرها أو استولدها وهي على دينها بعد ثم إن أهل الحرب أسروا منا رجلاً فأبوا أن يقبلوا منا الفداء إلا أن نفديه بتلك المرأة فإن رضي مولاها بذلك فلا بأس بالمفاداة بها كرهت هي ذلك أو رضيت به لأنها بهذه المفاداة لا تخرج من ملك مولاها فقد صارت بحيث لا يحتمل الانتقال من ملك إلى ملك لما ثبت فيها للمسلم من استحقاق الولاء .
وإنما ينقطع عن مولاها بهذه المفاداة خدمتها فكأنه جعل خدمتها فداء مسلم وذلك جائز لأن المنفعة بمنزلة المال فلا يكون حرمتها فوق حرمة المال .
ثم يجوز مفاداة الأسير للمسلم بالمال فبالخدمة أولى وأجوز وهذا لأنه لا يخاف على نفسها منهم فإنها على دينهم وإنما يرغبون في الفداء بها لإكرامها بسبب ثباتها على اعتقادها بيننا ولا معتبر لكراهتها ورضائها لأنها مملوكة ليس لها من أمر نفسها شيء .
فإن كره ذلك مولاها فليس ينبغي للأمير أن يفدي الأسير بها وإن كان يخاف القتل على الأسير منهم لأنها صارت بحيث لا تحتمل الإخراج من ملك مولاها بعوض ولا بغير عوض ومع بقاء ملك المولى فيها لا تجوز المفاداة بها بغير رضاء المولى فإن طلب المولى أن يعوض قيمتها على غير بيع من بيت المال فلا بأس للإمام أن يفعل ذلك لأنه عليه أن يفدي الأسير المسلم من بيت مال المسلمين وهذا في@(4/311)
معنى ذلك إذ لا فرق بين أن يعطي المال إليهم ليتخلص الأسير وبين أن يعطي إلى مولى هذه الجارية ليرضى بأن يفادي الأسير بها .
ثم هذا المال لا يكون عوضاً عن ملكه فيها لأنها لا تحتمل النقل من ملك إلى ملك ولكنه عوض عن خدمتها وللمولى أن يعتاض عن خدمة المدبرة وأم الولد بطريق الإجارة فإن أخذها المسلمون من أهل الحرب بعد ذلك ردوها عليه لأن ملكه كان قائماً فيها ويسلم له العوض الذي كان أخذ لأنه إنما أخذ العوض عن خدمتها في المدة التي كانت عند أهل الحرب ولم يعد إليه ذلك .
ولو أبى أن يعطيها المسلم إلا أن يشتريها منه شراء كرهت له ذلك لأنها صارت بحيث لا تحتمل المبيع لما ثبت فيها من حق العتق .
فإن أخذوها منه كرهاً وفادوا بها غرم الإمام له قيمتها من بيت المال وهذا في المدبرة قولهم جميعاً لبقاء المالية فيها حتى أنها تضمن بالغصب فكذلك إذا أخذها الإمام بغير رضى مولاها لمصلحة رآها في ذلك فأما في أم الولد فهذا قولهما جميعاً وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : أم الولد لا تضمن بالغصب فلا يعطيه الإمام قيمتها من بيت المال .
وقيل : بل هذا قولهم جميعاً لأنه إنما يعطيه قيمتها عوضاً عن خدمتها لا عن رقبتها كما لو رضي المولى بأن تؤخذ منه بقيمتها ولكن الأول أصح فقد ذكر بعد هذا أنها لو عادت إلى أيدي المسلمين ردوها عليه وأخذ الإمام منه القيمة التي كان أخذها فردها في بيت المال ولو كان ذلك عوضاً عن خدمتها لم يجب عليه ردها كما في الفصل الأول وكذلك قال : لا أحب للإمام أن يأخذها منه كرهاً ولو كان ما يعطيه عوضاً عن خدمتها في هذه الحالة لجاز له أن يفعله بغير رضى المولى لما يرى فيه من المصلحة .
ولو كانت الأمة قنة والمسألة بحالها فلا بأس للإمام أن يقومها قيمة عدل فيدفع إليه القيمة ويفادي به@(4/312)
المسلم لأن في امتناع المولى من المفاداة بها ضرار عظيم بالمسلمين .
وللإمام ولاية بيع المال على مالكه عند الضرر العظيم أما عندهما فظاهر فلأنه يحجر على المدين ويبيع عليه ماله دفعاً للضرر عن صاحب الدين وكذلك عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإنه يرى الحجر فيما يعظم فيه الضرر بالمسلمين وإذا ثبت للإمام ولاية البيع عليه فلا فرق بين أن يبيعها ويدفع إليه ثمنها وبين أن يقومها ويدفع إليه قيمتها ثم يفادي بها فإن فعلوا ذلك ثم وقعت في أيدي المسلمين فلا سبيل لمولاها عليها لأنها خرجت عن ملك مولاها حين باعها الإمام عليه ونفذ ذلك البيع فيها .
ولو كانت الأمة مكاتبة لم أحب للإمام أن يفادي بها إلا برضاها ورضى مولاها لأن ملك المولى قائم في رقبتها وقد صارت هي أحق بنفسها ومنافعها بسبب الكتابة فيعتبر رضاهما جميعاً في المفاداة بها .
وإن أخذها الإمام كرهاً ففادى بها فلا شيء للمولى على الإمام لأن المكاتبة لا تضمن بالغصب فإنها بمنزلة الحرة يداً ووجوب ضمان الغصب تفويت اليد .
ثم المولى ما كان له حق في كسبها ومنافعها وبهذا الأخذ ما فات ملك المولى فيها فمتى ما أخذها المسلمون ردوها عليه وكانت مكاتبة على حالها فإن كانت قد أدت بدل الكتابة فعتقت أو كان أعتقها مولاها ففي المفاداة بها يعتبر رضاها فقط لأنه لم يبق للمولى فيها ملك وهي بالعتق قد صارت حرة ذمية لكونها من أهل دار الإسلام .
فلا يجوز المفاداة بها إلا برضاها بمنزلة حرة أصلية من أهل الذمة أو حر منهم إذا طلبوا مفاداة الأسير به فإنه لا ينبغي للإمام أن يجيبهم إلى ذلك إلا برضاء الذمي فأما المسلم والمسلمة من الأحرار والمملوكين فإنه لا يجوز مفاداة الأسير بهم طابت أنفسهم بذلك أو لم تطب وطابت أنفس مواليهم أو لم تطب لأن خوف القتل على المسلم المدفوع إليهم كهو على المسلم المأخوذ منهم بخلاف الذمي فإنه يوافقهم في الاعتقاد والظاهر أنه لا يرضى بالمفاداة به إلا إذا كان آمناً على نفسه من جهتهم .
فإن دخل حربي منهم إلينا بأمان فطلبوا @(4/313)
مفاداة الأسير بذلك المستأمن وكره ذلك المستأمن وقال : إن دفعتموني إليهم قتلوني فليس ينبغي لنا أن ندفعه إليهم لأنه في أمان منا فيكون كالذمي إذا كره المفاداة به ولأنا نظلمه في التعريض بقتله بالرد عليهم والظلم حرام على المستأمن والذمي والمسلم ولكنا نقول له : ألحق ببلادك أو حيث شئت من الأرض إن رضي المشركون بهذا منا لأن للإمام هذه الولاية في حق المستأمن وإن كان لا يخاف القتل على الأسير المسلم ألا ترى أنه لو أطال المقام في دارنا يقدم إليه في الخروج فعند الخوف على الأسير المسلم أو عند مفاداة الأسير بهذه المقالة إذا رضوا بها أولى أن تثبت له الولاية .
وإن قال المشركون للمسلمين : ادفعوه إلينا وإلا قاتلناكم وليس بالمسلمين عليهم قوة فليس ينبغي للمسلمين أن يفعلوا ذلك لأنه غدر منا بأمانه وذلك لا رخصة فهو بمنزلة ما لو قالوا : إن دنيتم وإلا قاتلناكم ولكن أن يقولوا له : اخرج من بلاد المسلمين فاذهب حيث شئت من أرض الله تعالى فإن قالوا له : اخرج إلى كذا من المدة وإلا دفعناك إليهم فقال لهم : نعم .
ثم لم يخرج فإن طابت نفسه بالدفع إليهم@(4/314)
فلا بأس بأن ندفعه وإن كره ذلك لم ينبغ لنا أن ندفعه إليهم لأنه آمن فينا ما لم يبلغ مأمنه فإن قيل : مقامه فينا إلى مضي المدة دليل الرضاء بدفعه إليهم فينبغي أن نجعل ذلك كصريح الرضاء كما لو قال الأمير للمستأمن إن خرجت إلى وقت كذا وإلا جعلتك ذمة ثم لم يخرج فإنه يجعله ذمياً لوجود دلالة الرضاء منه بهذا الطريق .
قلنا : هو كذلك إلا أن هذا دليل محتمل فلا يجوز تعريضه للقتل بمثل هذا الدليل ما لم يصرح بالرضاء برده عليهم فأما صيرورته ذمياً فهو حكم ثبت مع الشبهة ويجوز اعتماد الدليل المحتمل في مثله .
وإن طلب رجل من المشركين وهو ممتنع في ملكهم في بعض حصونهم أن يصالحه على أن يصير ذمة لنا فقال المشركون : إن فعلتم ذلك قاتلناكم وقتلنا أسراءكم فإن كان بالمسلمين عليهم قوة فإن الإمام يجيبه إلى ذلك ولا يلتفت إلى ما قاله المشركون لأن الذمة خلف عن الإسلام في التزام أحكام الإسلام في الدنيا .
ولو رغب في الإسلام ولم يشكك أنه يقبل ذلك منه فكذلك إذا قبل عقد الذمة قلنا : يقبل منه وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة وخافوا على أنفسهم فلا بأس بألا يقبلوا ذلك منه ألا ترى أنه لو أسلم يجب علينا نصرته عند الخوف على المسلمين من العدو وإذا لم يكن بهم قوة عليهم فكذلك إذا طلب عقد الذمة وإن كان بالمسلمين عليهم قوة لأنهم يخافون على قتل أسرائهم فلا بأس بأن يقبلوا ذلك منه بمنزلة ما لو أسلم فإنه يجب القيام بنصرته وإن كان يخاف من ذلك على أسراء المسلمين ألا ترى أنه لا يترك القتال معهم لخوف القتل على أسراء المسلمين فكذلك لا يترك الإجابة إلى عقد الذمة لذلك .
فإن قالوا : ندفع إليكم أسراءكم على ألا تقبلوا منه أن يكون ذمة لكم فهذا ينبغي للإمام ألا يقبله منهم لأن تخليص المسلمين من المشركين ليكونوا مقاتلة يذبون عن@(4/315)
دار الإسلام خير من أني كون هذا ذمة للمسلمين .
فإن أجابهم الإمام إلى ذلك فخلوا سبيل الأسراء ثم لم يظفر المشركون بالمحصور فسأل المحصور أن يكون ذمة لنا أجبناه إلى ذلك لما بينا أن الذمة خلف عن الإسلام في التزام الأحكام به في الدنيا فإن قال المشركون : هذا منكم نقض للعهد الذي عاهدتمونا عليه فلم يلتفت إلى كلامهم لأنا لا نتعرض لنفوسهم ولا لما في أيديهم ولكن هذا المحصور ممتنع منهم فلا يلزمنا الامتناع عن قبول الذمة منه بالشرط .
فإن قال المحصور : لا أكون ذمة لكم ولكن أمنوني حتى أخرج إلى بلادكم فقال المشركون : إن فعلتم ذلك به قتلنا أسراءكم فإن الإمام ينظر إلى ذلك فإن كان ما سأل المحصور من ذلك خيراً للمسلمين أجابه إلى ذلك وإن لم يكن فيه منفعة للمسلمين لم يجبه إلى ذلك لأن الإمام نصب ناظراً وعقد الآمان في الأصل مشروع لمنفعة المسلمين ففي كل موضع يكون فيه ضرر على المسلمين فللإمام ألا يجيبه إلى ذلك .
ولو قال المحصور : أسلم وأنزل إليكم فقال المشركون للمسلمين : إن فعلتم ذلك قاتلناكم وقتلنا أسراءكم فعلى المسلمين إجابة المحصور إلى ذلك سواء كان بهم عليهم قوة أو لم يكن وأشار إلى الفرق بين هذا وبين ما إذا طلب أن يكون ذمة لنا ولا قوة بنا عليهم فأكثر أصحابنا قالوا : لا فرق في الحقيقة لأن في الموضعين إنما يلزمنا القيام بنصرته .
إذا كان بالمسلمين قوة على ذلك فأما إذا لم يكن فإنه لا يجب ذلك لأن حال هذا المحصور فيهم بعد ما أسلم لا يكون أقوى من حال أسير@(4/316)
مسلم فيهم وإنما يجب القيام بنصرة الأسير والقتال لاستنقاذه إذا كان بنا قوة على قتالهم فأما إذا لم يكن لا يجب ذلك فهذا مثله .
إلا أن إسلامه صحيح بنفسه وعقد الذمة لا يتم به وإنما يتم بالمسلمين فأما إذا لم يكن بهم قوة على أهل الحرب لا يجب إجابته إلى ذلك فأما محمد رحمه الله يشير إلى الفرق بما ذكرنا أن مفاداة الأسارى بالمسلمين لا يجوز بحال رضي المسلمون به أو كرهوا والمفاداة بأهل الذمة يجوز إذا رضوا به فكذلك في هذا الموضع يجوز ترك الإجابة إلى عقد الذمة إذا لم يكن بهم قوة على الدفع عن المسلمين ولا يجوز الامتناع من قبول الإسلام منه والقيام بنصرته لأجل ذلك .
والعجوز الكبيرة المأسورة من المشركين تجوز مفاداتها بالمال لأنه لا يرجى لها نسل ولا يخاف منها قتال فليس في مفاداتها بالمال معنى تقوية المشركين على قتال المسلمين في الحال ولا في الثاني .
وقد بينا أنه عند حاجة المسلمين إلى المال جوز محمد رحمه الله مفاداة أسراء المشركين بالمال لأن الحال حالة الضرورة .
ألا ترى أن عند تحقق الضرورة يجوز بيع السلاح منهم فكذلك يجوز المفاداة بأسرائهم وأكثر مشايخنا على أن ذلك لا يجوز للحاجة إلى المال فإن فيه ترك القتل المستحق حقاً لله بالمال وذلك لا يجوز كقتل المرتد ومن عليه الرجم ولأنه في هذا إظهار المسلمين وصبياناً فأدخلهم دار الإسلام ثم لحقهم آباؤهم وأبناؤهم بأمان فقالوا : نشتريهم منكم فليس ينبغي أن يباعوا منهم قبل القسمة ولا بعد القسمة إلا عند الحاجة الشديدة للمسلمين إلى المال في قول محمد رحمه الله وعلى ما قاله أكثر المشايخ لا يجوز ذلك بحال لأنه مبادلة السبي بالمال فطريق البيع فيه وطريق المفاداة سواء .
فإن قالوا : نشتريهم ونعتقهم ونتركهم في بلادكم فهذا لا بأس به لأن@(4/317)
المنع من إعادتهم إلى دار الحرب لما فيه من تقوية المشركين على قتال المسلمين بأعيانهم إذا كثروا أو بنسلهم وفي هذا الفصل لا يوجد هذا المعنى .
وإذا كان يجوز لمن وقعوا في سهمه أن يعتقهم فكذلك يجوز له أن يبيعهم ممن يعتقهم من أهل الذمة أو المستأمنين ولو جاء أهل الحرب بأسراء المسلمين وقالوا : نفاديهم بفلان وفلان ولم يكن الذين طلبوا بحضرة الأمير والمسلمين فأعطوهم عهداً إن دفعوا إليهم بهؤلاء الأسارى ليبعثن إليهم بالذين طلبوا من المشركين فاطمأنوا إلى المسلمين ودفعوا الأسارى إليهم فالمستحب للمسلمين أن يفوا بما شرطوا لهم إذا دخلوا دار الإسلام لأنهم التزموا ذلك والمؤمنون عند شروطهم ولأنهم لو تركوا الوفاء بالمشروط لم يطمئنوا إلى المسلمين في مثله بعد هذا فربما يتضرر به المسلمون .
وإن لم يفعلوا ذلك كانوا في سعة منه لأن المقصود تخليص المسلمين وقد حصل وحبسهم أسراء المسلمين ظلم منهم فإنما شرطوا لأنفسهم ما شرطوا بمقابلة ترك الظلم وذلك لا يتعلق به اللزوم .
ولكن إذا كان في أسراء المسلمين عبيد فبدا لهم في الوفاء بذلك الشرط فعليهم أن يبعثوا إليهم بقيم العبيد لأنهم كانوا محرزين مالكين لهم فلذلك الشرط أعطيناهم الأمان في أملاكهم الذين يسلمونه إلينا وقد تعذر ردهم عليهم لإسلام العبيد فيجب رد قيمتهم بخلاف الأحرار فإنهم لم يملكوهم بالأسر .
ثم إن جاء مولى العبيد وأراد أخذهم كان له ذلك بالقيمة التي بعث بها المسلمون إليهم فإن أبي كانوا عبيداً للمسلمين لأن قيمتهم أديت من بيت المال فكأن المسلمين اشتروهم بها لبيت المال .
وإن كان المسلمون إنما افتدوا عبداً أسلم من أهل الحرب فهو حر حين اشتروه وقبضوه في قول أبي حنيفة وقيمته للمشركين في بيت مالهم لأن العبد حين أسلم فقد أستحق إزالة ملك الحربي عنه .@(4/318)
وإذا تم ذلك كان زوالاً بحرية كما لو خرج إلى دارنا مراغماً إلا أن تمام ذلك بالشراء والقبض جميعاً لأن زوال يد الحربي ما يكون بالتسليم وهو نظير ما بينا في السير الصغير إذا أسلم عبد الحربي فباعه في دار الحرب من حربي آخر وهذا بخلاف العبد المأسور من دارنا لأن ما بقي فيه من حق المولى مرعي فلمراعاة حقه لا يحكم بعتقه ومثله لا يوجد في الذي أسلم من عبيدهم .
وفي قول محمد رحمه الله تعالى هما سواء لأن الشراء والقبض سبب لثبوت الملك فلا يجوز أن يكون مبطلاً للملك بخلاف خروجه إلينا على سبيل المراغمة لأنه سبب لملك نفسه بطريق القهر والمملوك إذ ملك نفسه على مولاه عتق ولهذا لو كان خروجه إلينا بأمان لم يعتق ولكنه يباع ويدفع ثمنه إلى مولاه إذا جاء يطلبه .
لأن خروجه لم يكن على قصد المراغمة فلا يتملك به نفسه على مولاه .
فإن كان الأسراء الذين كانوا عندهم من المسلمين أحراراً فأبى مواليهم الذين طلبوهم أن يبيعوهم فرأى الإمام أن يقومهم ويعطيهم قيمتهم من بيت المال ويجبرهم على ذلك فلا بأس به لما فيه من الحاجة إلى تخليص أسراء المسلمين من أيديهم ولما في امتناعهم من الضرر العام وقد بينا أن للإمام ولاية الحجر على صاحب المال في مثله .
فإن كانوا صاروا مدبرين أو أمهات أولاد فأبى مواليهم أن يفعلوا أو كانوا قد أسلموا فإن الإمام يخبر أهل الحرب الذين أخذ منهم الأسراء أنه : لا سبيل لدفع أصحابكم إليكم فإن شئتم دفعنا إليكم قيمتهم لأنه إنما شرط لهم إعطاء عبيد فأما ما كانوا عبيد المسلمين وقد تعذر إعطاؤهم فيعطيهم قيمتهم وإنما يعطيهم ذلك ليطمئنوا إلى المسلمين في المستقبل فيعلموا أنا نفي بالشرط وهذا المقصود إنما يحصل@(4/319)
عند رضائهم فلهذا قدم استرضاءهم في ذلك فإن رضوا أعطاهم ذلك وإلا فلا شيء لهم لأنه لو بعث ذلك المال إليهم من غير أن يرضوا به كان فيه تضييع لذلك المال فإن المقصود به لا يحصل .
ولو كان مسلم في دار الحرب من أهل العسكر قهر علجاً فأخذه فقال العلج : صالحني على أن أعطيك مائة دينار فأفتدي بها نفسي على أن تخلي سبيلي فليس ينبغي له أن يفعل به ذلك دون الأمير لأن المأخوذ صار أسيراً وللإمام رأي في الأسراء وليس لأحد من أهل العسكر أن يفتات على رأي الإمام .
فإن فعل المسلم ذلك به فأخرج له مائة دينار كانت معه فإنه ينبغي للمسلم أن يأخذ الدنانير ولا يخلي سبيله لأن الدنانير التي كانت معه صارت مأخوذة بأخذه فلا يجوز له أن يفادي بعض الغنيمة بالبعض ولكنه يأتى بذلك كله إلى الأمير .
وإن لم تكن الدنانير مع العلج ولكنه انتهى إلى حصن ممتنع فأخذ من أهله مائة دينار بطريق الاستقراض أو العطية فالأفضل بالمسلمين أن يردوا الدنانير على من أعطاها إياه سواء كانت من مال العلج أو من مال غيره لأن هذه الدنانير ما صارت مأخوذة بأخذ العلج لأنها لم تكن معه وإنما صارت في أيدي المسلمين بطريق الأمان بالصلح وقد بينا أنه لا ينبغي له أن يخلي سبيل العلج فيفتات على رأي الإمام في ذلك .
وإذا تعذر عليه المجيء بها جميعاً شرعاً كان عليه رد الدنانير والمجيء بالعلج إلى الأمير بخلاف الفصل الأول وهناك أخذهما جميعاً بالقهر فيتمكن شرعاً من المجيء بهما فإن أخذ الدنانير وأطلق العلج ثم جاء بها إلى الأمير وقص عليه القصة فإنه ينبغي للأمير أن يتقدم بالنهي إليه @(4/320)
عن مثل هذا الصنيع في المستقبل ولا يعاقبه في المرة الأولى لأن فعله عن جهل منه فيعذره عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ويأخذ الدنانير فيجعلها في غنيمة المسلمين لأنه توصل إليها بمنعة المسلمين وبسبب كان أصله قهراً فإن ظفر عسكر آخر من المسلمين بذلك العلج وأخرجوه إلى دار الإسلام بعد زمان وقال أهل العسكر الأول : نحن أحق به لأن صاحبنا كان أخذه ثم أطلقه لم يكن له ذلك لأن الحق في المأخوذ لا يتأكد قبل الإحراز والإحراز فيه وجد من العسكر الثاني دون الأول .
وإن قال العلج لأهل العسكر الثاني : لا سبيل لكم علي لأن صاحبكم فلاناً قد أمنني وأطلقني لم يلتفت إلى قوله لأنه بلغ مأمنه وانتهى ما كان له من الأمان من الذي كان أخذه أولاً .
ألا ترى أن الأمير نفسه لو كان فاداه أسراء من المسلمين ورأى أن يمن عليه أو أن يفديه بمال وخلى سبيله حتى عاد إلى مأمنه ثم أخذه المسلمون بعد ذلك كان فيئاً وهذا لأن الأمير إنما صالحه بالمفاداة على أن يكون آمناً حتى يصل إلى مأمنه لا على أن يكون آمناً في بلاده فما لم يصل إلى بلاده فهو في أمان من المسلمين أما بعد ما بلغ مأمنه فلا أمان له من المسلمين وإن كان أصابه المسلمون قبل أن يبلغ مأمنه فأخذوه فالأمير بالخيار إن شاء أجاز الصلح على مائة دينار وخلى سبيله وما أحب له أن يفعل ذلك لما فيه من مفاداة الأسير بالمال وإن شاء جعله فيئاً ورد الدنانير على أهل الحصن الذين أخذت منهم لأنه ما لم يبلغ مأمنه فحاله في معنى حاله في وقت الصلح ولو علم الإمام بحاله وقت الصلح كان له الخيار فيه كما بينا فهذا مثله واللهتعالي الموفق.@(4/321)
باب فداء الأسراء من الأحرار والمملوكين بالمال
وإذا أسر الحر من المسلمين أو من أهل الذمة فقال لمسلم أو ذمي مستأمن فيهم : افتدني من أهل الحرب أو اشترني منهم ففعل ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فهو حر لا سبيل عليه لأن فعل المأمور بأمره كفعل الآمر بنفسه وهذا لأن الحر لا يملك بالأسر ولا بالشراء والمال الذي فداه به المأمور دين له على الآمر لأنه أحياه بما أدى من المال حكماً فهو بمنزلة ما لو أمر من عليه القصاص رجلاً أن يصالح أولياء الدم على مال ويعطيه يوضحه : أن أمره بأداء الفداء محتمل يجوز أن يكون على سبيل التصدق به على الأسير ويجوز أن يكون على سبيل الإقراض للأسير فإنما يثبت به أدنى الأمرين عند الإطلاق ويجعل ذلك استقراضاً من الأسير فيرجع عليه بجميع ما أدى في فدائه إلى مقدار الدية دون الزيادة فإن كان فداه بأكثر من الدية فإنما يرجع على الأسير بقدر الدية دون الزيادة وقيل ينبغي على قياس قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه يرجع عليه بجميع ما أدى قل ذلك أو كثر لأنه يراعى مطلق الأمر في الوكالات والأصح أن هذا قولهم جميعاً لأن هذا ليس بتوكيل بالمبادلة من حيث@(4/322)
المعنى ومن حيث الصورة وإن كان فهو توكيل بالشراء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول في التوكيل بالشراء : لا يخالفهما أنه عند الإطلاق تنفيذ بالشراء بالقيمة وقيمة الحر قدر ديته فإنه يملك مطلق الأمر أن يلزمه بالفداء مقدار الدية دون الزيادة على ذلك فإذا فداه بأكثر من ذلك كان هو في الزيادة كالمتبرع بالفداء عنه بغير أمره فإنما يرجع عليه بقدر الدية دون الزيادة فإن قيل : إن كان هو في هذا العقد ممتثلاً لأمره فينبغي أن يرجع عليه بجميع ما فداه به وإن كان مخالفاً لأمره فينبغي ألا يرجع عليه بشيء كالوكيل بالشراء إذا خالف واشترى بأكثر من قيمة المبيع بغبن فاحش قلنا : هذا إنما يستقيم لو كان هذا العقد معاوضة على سبيل المبادلة وليس كذلك فالحر المسلم ليس بمحل لذلك وإنما كان الآمر مستقرضاً من المأمور
مقدار ديته أو دون ذلك وآمرا له أن يصرف ذلك في فدائه فهو في ذلك القدر يكون مقرضاً إياه وفيما زاد على ذلك يكون متبرعاً به فيرجع عليه بما أقرضه دون ما تبرع به .
وعلى هذا لو كان المأسور قال له : افتدني منهم بألف درهم فلم يتمكن المأمور من ذلك حتى زاد فإنما يرجع عليه بالألف خاصة لأن الرجوع بحكم الاستقراض وذلك في الألف خاصة وهذا بخلاف الشراء لأن الوكيل بالشراء بمنزلة المتملك ثم المملك من الآمر يرجع بما يملك به وعند الخلاف لا يتحقق التمليك منه في شيء فلهذا لا يرجع عليه بشيء من الثمن .
ولو كان المأسور قال للمأمور : افتدني منهم بما رأيت أو بما شئت أو أمرك جائز فيما تفتديني به فإنه يرجع عليه بما فداه به قل أو كثر لأنه صرح بالتعميم في التفويض فكان ممتثلاً أمره في جميع ما فداه به قل ذلك أو كثر .
فإن كان المأسور مكاتباً فيأمر المأمور بأن يفديه بمال فذلك جائز فيأخذ به المكاتب في الحال لأن في فدائه@(4/323)
بالمال إحياء له حكماً .
وله أن يلتزم المال فيمثله في الحال ألا ترى أنه إذا صالح عن قصاص عليه على مال أو أمر غيره به كان مأخوذاً به في الحال وهذا لأن المكاتب أحق بكسبه فيما يرجع إلى حاجته ويكون هو في ذلك كالحر كما في نفقته فإن عجز قبل أداء الفداء فرد في الرق بيع في ذلك الفداء لأنه دين ظهر وجوبه في حق مولاه فيباع فيه بعد العجز إلا أن يقضي المولى عنه الدين بعد العجز وقيمة المكاتب في هذا الفصل بمنزلة الدية في فصل الحر لأن بدل نفسه قيمته يظهر ذلك بالجناية عليه إلا أن فرق ما بينهما أن مقدار الدية معلوم بالنص فلا يلزمه زيادة على ذلك قلت الزيادة أو كثرت والقيمة تعرف بالحزر والظن فإن فداه بأكثر من قيمته بقدر ما يتغابن الناس في مثله رجع عليه بجميع ذلك لأنه لا يتيقن بالزيادة ها هنا بخلاف ما إذا كانت الزيادة بقدر ما لا يتغبن الناس فيه .
ولو كان المكاتب قال : افتدني منهم بخمسمائة وقيمته ألف درهم ففداه بألف درهم أو أكثر لم يرجع على المكاتب إلا بخمسمائة لأنه استقرض منه مالاً مسمى فإنما يكون هو مقرضاً في ذلك القدر فيكون متبرعاً في الزيادة على ذلك واعتبار القيمة عند عدم التصريح بمقدار ما استقرض منه فأما عند التصريح بذلك فلا معتبر بالقيمة .
ولو كان قال : افتدني منهم بخمسة آلاف وقيمته ألف ففي قياس قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ذلك كله لازم للمكاتب في مكاتبته وفي قول محمد رحمه الله تعالى إنما يرجع عليه قبل العتق بمقدار قيمته فقط وأما@(4/324)
الزيادة على ذلك فإنم يطالبه به بعد العتق وهذا بناء على أصل معروف أن المكاتب والمأذون عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في البيع والشراء بالغبن الفاحش بمنزلة الحر على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يملكان البيع والشراء بالغبن الفاحش فكذلك في الأمر بالمفاداة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه هو بمنزلة الحر فيرجع المأمور عليه بجميع المسمى لأنه يصير مستقرضاً منه ذلك القدر وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو لا يملك البيع بالمحاباة الفاحشة كما لا يملك الهبة فيكون أمره في مقدار قميته صحيحاً معتبراً في حالة الرق وما زاد على ذلك بمنزلة الهبة أو الكفالة منه والمكاتب لا يؤخذ بضمان الكفالة حتى يعتق فهاهنا لا يرجع عليه المأمور بالزيادة على مقدار قيمته حتى يعتق أيضاً ولو كان إنما فدى الحر أو المكاتب بغير أمرهما فكل واحد منهما على حاله كما كان فلا يرجع الفادي عليهما بشيء .
لأنهما لم يملكا بالأسر والفادي متطوع في الفداء .
وإن كان المأسور مدبراً أو أم ولد مأذون أو محجور فأمر رجلاً أن يفديه من العدو بمال ففداه بمثل قيمته أو أكثر فعليه رده على مولاه لأن المدبر وأم الولد لا يملكان بالأسر .
ثم لا يرجع عليهما بشيء من الفداء حتى يعتقا أما إذا كان محجوراً عليهما فغير مشكل لأنه لا معتبر بأمرهما في حق مولاهما .
وإن كانا مأذوناً لهما فقد بطل حكم ذلك الإذن بالخروج من يد مولاه إلى يد أخرى قاهرة كما يبطل بالإباق لأن فداء النفس بالمال بمنزلة الصلح عن القصاص على مال والمأذون في ذلك والمحجور سواء لا يؤخذ ببدل الصلح إلا بعد العتق فكذلك الفداء فإذا أعتق يرجع الفادي عليهما بما فداهما به إلا أن يكون فداهما بأكثر من قيمتهما بقدر ما لا يتغابن الناس فيه فحينئذ لا يرجع عليهما بالفضل .@(4/325)
لأن اعتبار أمرهما في حقهما كاعتبار أمر المكاتب وقد بينا أن ذلك عند الإطلاق يتقدر بالقيمة وهذا مثله .
ولو كان المولى هو الذي أمر هذا المستأمن أن يفديهما أو يشتريهما فقال : اشترهما أو افتدهما ولم يقل لي فإن افتداهما بمثل القيمة أو بزيادة يسيرة يرجع على المولى بجميع ذلك لأنهما باقيان على ملك المولى وأمر المولى إياه بأن يفدي ملكه يكون استقراضاً منه للمال بمنزلة أمر الحر في حق نفسه هذا لأن الفداء بعد الأسر بمنزلة الصلح عن القصاص وأمر المولى بذلك معتبر في حياة مدبره وأم ولده سواء أضاف ذلك إلى نفسه أو لم يضف فإن اختلف الآمر والمأمور في جميع هذه الفصول التي ذكرنا فقال الآمر : أمرتك أن تفديني بكذا وقال المأمور : بل أمرتني بكذا أكثر من ذلك فالقول قول الآمر مع يمينه لأن الأمر يستفاد من جهته ولو أنكره أصلاً كان القول قوله وكذلك إذا أقربه في مقدار دون مقدار .
ولو قال الآمر : قد أمرتك أن تفديني بما ذكرت ولكنك إنما فديتني بأقل من ذلك فالقول قول الآمر أيضاً لأنه مستقرض للمال من المأمور فإنما وقع الاختلاف بينهما في مقدار ما أقرضه إياه فالمقرض يدعي الزيادة عليه فعليه أن يثبته بالبينة والمستقرض منكر للزيادة فيكون القول قوله مع يمينه .
ولو أن مولى المكاتب المأسور قال لرجل : اشتره لي أو افتده لي بألف درهم أو قال : افتده بألف درهم من مالي ففعل ذلك يرجع بالفداء على الآمر ولم يكن له على المكاتب شيء لأنه لم يأمره المكاتب بشيء والآمر حين أضاف العقد أو المال إلى نفسه فقد جعل نفسه ضامناً لذلك المال بمنزلة الفضولي في الخلع والصلح عن القصاص على مال بالإضافة إلى نفسه يجعل ضامناً للمال فهذا مثله .
وإن لم يقل لي ولكن قال : بألف درهم فإن كان المأمور خليطاً للآمر في المعاملات فكذا الأمر لأن الخلطة القائمة بينهما بمنزلة الإضافة إلى نفسه أو أقوى منه في حصول@(4/326)
معنى الاستقراض به .
وإن لم يكن بينهما خلطة فهو متطوع في الفداء لأنه أشار إليه بأن يكتسب سبب اصطناع المعروف ولم يضمن له شيئاً ولا أشار عليه بشيء .
وكذلك إن كان المأسور حراً أو حرة والآمر زوجها أو بعض قرابتها أو أجنبي فعند إضافة العقد أو المال إلى نفسه يصير ضامناً للمال وعند عدم الإضافة إن كان المأسور خليطاً له فكذلك وإن لم يكن خليطاً له فهو مشير عليه بمشورة فلا يرجع عليه بشيء وإن كان المأسور صغيراً فقال أبوه لرجل : افتده لي أو من مالي رجع المأمور بالفداء على هذا الوالد لأنه ضمن له ذلك .
ثم لا يرجع به الوالد في مال الولد استحساناً وفي القياس يرجع لقيام ولايته عليه وهذا نظير القياس والاستحسان فيما إذا زوج الأب ابنه امرأة وضمن الصداق وأداه من ماله فإنه يرجع فيه على ولده في القياس وفي الاستحسان لا يرجع لأن العادة الظاهرة أن الآباء بمثل هذا يتبرعون وفي الرجوع لا يطمعون فكذلك في الفداء .
فإن لم يرده الوالد حتى يموت كان ذلك ديناً في تركته باعتبار ضمانه لذلك ولكن يرجع به الورثة في مال الولد على قياس الصداق إذا ضمنه فمات قبل أدائه فأخذ من تركته والمعنى فيهما أن هذا الضمان بطريق الصلة منه لولده وتمام الصلة بالقبض فإذا مات قبل الأداء لو نفينا معنى الصلة كان ذلك وصية ولا وصية للوارث .
وإن كان الوالد حين أداه في حياته أشهد أنه يؤديه ليرجع به على ابنه فكذلك له في الصداق وهذا لأن العرف إنما يعتبر عند عدم التصريح بخلافه .
وإن كان قال للمأمور : افتده ولم يقل : لي فإن كان المأمور خليطاً له فهذا والأول سواء لأن الخلطة القائمة@(4/327)
بينهما دليل الاستقراض بمنزلة إضافة العقد إلى نفسه .
وإن لم يكن خليطاً له كان ذلك جائزاً للذي فدى على الغلام ببيعه به ولا سبيل له على الأب لأن أمر الأب جائز على ابنه الصغير فكذلك مباشرة أمر المأسور بنفسه لو كان بالغاً ولا رجوع على الوالد لأنه كان معبراً عن الولد لا ضامناً شيئاً حين أطلق الأمر بالفداء وهو نظير النكاح إذا قبل الأب العقد على ولده الصغير فإن الصداق يجب على الولد دون الأب فهذا قياسه .
ولو كان المأسور وكل رجلاً بأن يأمر المستأمن حتى يفديه من العدو وقال الوكيل للمستأمن : افتده لي من العدو أو قال : من مالي ففعل ذلك كان الفداء للمأمور على الوكيل خاصة لأنه بإضافة العقد أو المال إلى نفسه صار ملتزماً المال للمأسور بمنزلة المستقرض منه فيكون رجوعه عليه ولا رجوع له على المأسور لأنه ما جرى بينهما معاملة ولكن الوكيل هو الذي يرجع على المأسور .
وكذلك إن لم يقل : لي ولكن المأمور كان خليطاً للوكيل لأن قيام الخلطة بينهما بمنزلة إضافة العقد أو المال نفسه وإن لم يكن بينهما خلطة فلا شيء للمأمور على الوكيل لأنه معبر عن الموكل بإضافة العقد إليه بقوله : افتده فلاناً .
والمعبر ليس عليه من المال شيء ولكن المال للمأمور على المأسور لأن عبارة وكيله قائمة مقام عبارته فكأنه أمره بذلك بنفسه وهذا لأن الوكيل متى كان عاقداً بالإضافة إلى نفسه لم يكن المأسور عاقداً مع المأمور متى كان الوكيل معبراً كان المأسور هو العاقد .
وإنما نظيره الوكيل بالخلع من جهة المرأة إذا ضمن المال فإن رجوع الزوج يكون على الوكيل خاصة دون المرأة وإذا لم يضمن المال كان رجوعه على رجوعه على المرأة دون الوكيل للمعنى الذي قلنا فإن كان المأسور عبداً أو أمة فأمر@(4/328)
مستأمناً فيهم أن يشتريه أو يفتديه منهم ففعل ذلك بمثل قيمته أو أقل أو أكثر فهو جائز وهو عبد لهذا المشتري لأنهم ملكوه بالإحراز .
ولو اشتراه منهم هذا الرجل بدون مشورة المملوك وكان مشترياً لنفسه فكذلك إذا اشتراه بعد مشورة المملوك لأن قوله : اشتر لي يعد مشورة .
ألا ترى أنه لو كان هذا في دار الإسلام فاشتراه من مولاه كان مشترياً لنفسه قبل هذه المشورة وبعدها .
فإذا أخرجه يخير مولاه فإن شاء أخذه بالثمن وإن شاء تركه وإن قال : اشتر لي لنفسي منهم أو افتدني لنفسي فإن اشتراه بقيمته أو بغبن يسير وأخبرهم أنه يشتري لنفسه فالعبد حر لا سبيل عليه لأنه قد جعل المأمور نائباً لنفسه .
ولو جعله إنسان آخر نائباً لنفسه في الشراء كان مشترياً للمنوب عنه وجعل المنوب عنه في حكم هذا العقد كأنه باشر العقد بنفسه فهاهنا يجعل العبد في حكم هذا العقد كأنه اشترى نفسه من مولاه فيعتق ثم للمأمور أن يرجع بالفداء على العبد لأن شراءه العبد كشرائه لأجنبي آخر بأمره وهناك إذا أدى الثمن من ماله رجع به على الآمر فهاهنا أيضاً يرجع على الآمر لأن أمره في حق نفسه صحيح وصار هو كالمستقرض لذلك المال منه .
فإن كان العبد مدبراً أو مكاتباً أو كانت أم ولد والمسألة بحالها لم يعتق لأنهم لم يملكوه بالإحراز بل هو باق على ملك مولاه ألا ترى : أن الحربي لو أعتقه لم ينفذ عتقه فيه ولو أسلم عليه وجب رده إلى مولاه بخلاف ما سبق فسواء قال : اشترني أو قال : اشترني لنفسي إذا أخرجه فهو مردود على مولاه بغير شيء .
لأن المشتري متبرع في فداه ملكه بغير أمره فلا يرجع عليه بشيء منه .
ولو كان العبد أو الأمة قال للمأمور : اشترني لنفسي فاشتراه ولم يخبر أهل@(4/329)
الحرب أنه يشتريه لنفسه فهو مملوك للذي اشتراه لأنه لم يمكن أن يجعل مشترياً للعبد حين لم يخبر مالكه به فإن بشرائه للعبد يكون استحقاق الولاء للمولى يثبت في دار الحرب كالنسب وشراؤه لنفسه يكون تملكاً فإذا لم يخبر مالكه فلم يوجد من المالك الرضاء بعتقه عليه ولزوم الولاء إياه ولا يجوز إلزام الولاء أحداً بغير رضاه بخلاف ما إذا أخبر مولاه بذلك وإن كان اشتراه بأكثر من قيمته مما لا يتغابن الناس فيه .
ولو أخبرهم أنه يشتريه له فهو مملوك للمشتري لأن مطلق الأمر بالشراء ينصرف إلى الشراء بالقيمة أو بزيادة يسيرة .
كما لو كان الآمر غيره فإذا اشترى بأكثر من ذلك صار مخالفاً له فكأنه اشتراه بغير أمره فكان مشترياً لنفسه .
وكذلك لو كان المملوك قال له : اشترني لنفسي بألف درهم فقال : بيعونيه لنفسه بألف درهم ففعلوا عتق العبد لأن هذا إعتاق يجعل كما لو كان العبد هو الذي يخاطبهم به فلا تقع الحاجة إلى قبوله ثانياً ولكنه يعتق وولاؤه لبائعه .
ولو قال : بعنيه بألف درهم ولم يقل لنفسه كان مملوكاً للمشتري يأخذه مولاه بالثمن إن شاء لأن الحربي لم يلتزم ولاءه حين لم يخبره أنه يشتريه له .
ولو قال : بعنيه بألف درهم لنفسه فباعه الحربي منه فلا بد من قبوله وبعد القبول يكون ملكاً له لأنه خالف ما أمره به نصاً فكأنه اشترى بغير أمره .
ولو كان قال له : اشترني لنفسي بما شئت فاشتراه وبين لأهل الحرب أنه يشتريه لنفسه عتق العبد بأي ثمن اشتراه لأنه فوض الأمر إلى الوكيل أمراً عاماً فيكون هو ممتثلاً أمره فيرجع بما أدى عليه من الفداء بالغاً ما بلغ .
فإن اختلفا فيما فداه به فقال العبد : فداني بخمسمائة وقيمته ألف وقال المأمور : فديته بألفين فالقول قول العبد مع يمينه إلا أن يقيم الآخر@(4/330)
البينة لأن المأمور يدعي لنفسه زيادة دين في ذمة العبد وهو منكر له فالقول قول المنكر مع يمينه .
وعلى المدعي للزيادة البينة فإن قيل : لم لا يصار إلى التحالف بينهما بمنزلة ما لو اختلف الموكل والوكيل في الثمن قلنا : أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن العبد قد عتق ومن أصله أنه لا يصار إلى التحالف بعد تغير السلعة ولكنه تعتبر فيه الدعوى والإنكار وأما عند محمد رحمه الله تعالى فلأن المصير إلى التحالف بعد تغير السلعة في موضع يمكن فيه فسخ العقد على القيمة وها هنا لا وجه لذلك لأن بالعتق لا يسلم للعبد مال من جهة المأمور حتى يقال : تلزمه القيمة باعتبار ذلك فهو بمنزلة الآجر والمستأجر يختلفان في مقدار الأجر بعد استيفاء المنفعة وهناك لا يصار إلى التحالف ولكن يجعل القول قول المنكر للزيادة مع يمينه .
ولو لم يقل المأمور لأهل الحرب : إني اشتريته لنفسه كان مملوكاً له إذا اشتراه لأن بائعه ما رضي بعتقه عليه وثبوت ولايته له .
فإذا أخرجه كان للمأمور منه أن يأخذه بما اشتراه به إن شاء فإن اختلفا في ذلك فالقول قول المشتري مع يمينه وكذلك إن اختلفا في جنس العقد بأن قال مولاه : وهبه لك أهل الحرب فأنا آخذه بقيمته وقال المشتري : اشترنيه منهم بألفي درهم فالقول قول المشتري وقد تقدم بيان هذا الفصل قبل إقامة البينة وبعد ذلك فيما اختلفوا فيه وفيما اتفقوا عليه وأنه بمنزلة الشفعة وإن لم ينص على قول أبي يوسف رحمه الله في هذا الموضع إذا أقاما البينة ولو كان مولى العبد المأسور قال للمستأمن : اشتره لي منهم أو اشتره من مالي فإن اشتراه بقيمة فالعبد للآمر لأنهم ملكوه بالإحراز فكان أمر المولى القديم بأن يشتريه له وأمر أجنبي آخر في أنه يتناول العقد بقيمته أو بغبن يسير سواء .
وإذا اشتراه بغبن فاحش كان مخالفاً مشترياً لنفسه ثم@(4/331)
يكون لمولاه القديم الخيار إن شاء أخذه منه بما اشتراه به وإن شاء تركه .
ولو كان قال له : اشتره ولم يقل : لي ولا من مالي فهذه مشورة أشار بها عليه فيكون المخاطب مشترياً لنفسه ينفذ فيه تصرفاته بمنزلة ما لو اشتراه قبل هذه المشورة وهو نظير رجل قال لغيره : اشتر عبد فلان ولم يقل : لي ولا من مالي فإن ذلك مشورة لا توكيل بخلاف قوله : اشتره لي بما شئت فقد فوض الأمر إليه عاماً فيكون مشترياً له بأي ثمن كان .
فإن اختلف الآمر والمأمور فيما اشتراه به تحالفا وترادا لأن الوكيل مع الموكل بمنزلة البائع مع المشتري في حكم التحالف عند الاختلاف في الثمن لأنه يحلف الآمر على العلم لأنه استحلاف على فعل الغير .
ويبدأ اليمين به لأنه بمنزلة المشتري والبداية بيمين المشتري في قول أبي يوسف رحمه الله والآخر وهو قول محمد رحمه الله تعالى وقد بيناه في كتاب البيوع .
فإن أقاما البينة فالبينة بينة المأمور لأنه يثبت الزيادة ببينة .
وإن كان الآمر أعتقه قبل اختلافهما فهو حر لأنه أعتق ملكه ثم إذا اختلفا بعد ذلك فالقول قول الآمر في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله يتحالفان بناء على اختلافهما في البائع والمشتري يختلفان في الثمن بعد تغير السلعة على وجه لا يحتمل العقد الفسخ فيه .
ولو كان المأسور حراً أو مكاتباً فأمر رجلاً يشتريهما فاشتراهما معاً بخمسة آلاف درهم كان الفداء عليهما جميعاً يقسم على الدية وعلى قيمة المكاتب لأن المعتبر في باب الحر في الفداء ديته وفي المكاتب قيمته بدليل ما سبق أنه إذا اشترى كل واحد منهما بذلك القدر أو أقل يرجع عليه بجميع ما اشتراه به فإذا أضاف الفداء إليهما مطلقاً يتوزع عليهما باعتبار بدل نفس كل واحد منهما وإن كان افتداهما بخمسة عشر ألفاً وقيمة المكاتب ألف@(4/332)
درهم فقد فدى كل واحد منهما بأكثر من بدل نفسه بما لا ينغابن الناس فيه وهو لا يستوجب الرجوع على كل واحد منهما إلا بقدر بدل نفسه فيرجع على الحر بعشرة آلاف درهم وعلى المكاتب بقيمته وزيادة بقدر ما يتغابن الناس فيه لما بينا أن طريق القيمة بقدر ما يتغابن الناس فيه يكون عفواً وإن كانا قالا له : افتدنا بما شئت ففداهما بعشرين ألفاً قسم ذلك كله على أحد عشر سهماً باعتبار مقدار الدية وقيمة المكاتب إن كانت ألف درهم وإن كانت ألفين قسم ذلك كله أسداساً باعتبار أنه يجعل كل ألفين بينهما فما أصاب الحر رجع المأمور به عليه ما أصاب المكاتب وهو السدس رجع به عليه في حالة الكتابة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله إنما يرجع عليه في مكاتبته بمقدار قيمته وزيادة ما يتغابن الناس فيه وما زاد على ذلك فإنما يرجع به عليه بعد العتق .
لأنه في التزام الزيادة متبرع بمنزلة التزامه بالكافلة وقد تقدم نظيره .
فإن قالا جميعاً للذي فداهما حين أخرجهما : ما فديتنا بشيء ولكنهم وهبونا أو أخرجنا بغير علمهم فالقول قولهما مع يمينهما على علمهما لأن المأمور يدعي عليهما ديناً في ذمتهما لنفسه بسبب هما ينكران ذلك السبب واليمين على العلم لأنهما يستحلفان على فعل المأمور فأيهما نكل عن اليمين لزمه حصته من الفداء لأن نكوله كإقراره وذلك صحيح في حقه لا في حق صاحبه فإن حلف الحر ونكل المكاتب أو أقر أنه فداه فإن على قول محمد رحمه الله يلزم المكاتب حصته من الفداء فإن مقدار قيمته يؤخذ به في مكاتبته وإن كان أكثر من ذلك فإنما يؤخذ بالفضل بعد العتق وفي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقضي عليه بحصته بالغاً ما بلغ فيكون ديناً عليه في حال كتابته إن صدقه مولاه في ذلك أو كذبه فإن عجز المكاتب نظر فإن كان المولى صدق الفادي بيع له المكاتب إلا أن يفديه مولاه لأن ذلك دين ظهر وجوبه في حق مولاه وإن كان كذبه في ذلك بطل ذلك عند العجز إن كان لم يؤد شيئاً منه وإن كان أدى بعضه جاز ما أدى وبطل ما بقي حتى لا يأخذ ديناً كان واجباً عليه بإقراره بسبب ليس من التجارة في شيء فلا يطالب به بعد العجز ما لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة ما لو أقر المكاتب بجناية خطأ على نفسه فقضي عليه بقيمته ثم عجز قبل الأداء أو كان عليه قصاص فصالح عنه على مال ثم عجز قبل الأداء فإنه لا يؤاخذ به حتى يعتق في قوله .
وفي قول محمد رحمه الله هناك يباع فيما توجهت المطالبة عليه في الكتابة بعد@(4/333)
العجز فكذلك ها هنا يباع في الفداء صدقه المولى في ذلك أو كذبه ولو كان مولى المدبر وأم الولد أمر المستأمن بفدائهما ثم اختلف الآمر والمأمور فيما فداهما به أو في أصل الفداء فالقول قول الآمر وعلى المأمور البينة لأن أهل الحرب ما ملكوهما بالإحراز فحاصل الاختلاف في الدين الواجب للمأمور على الآمر إما في أصل سببه أو في مقداره فيكون القول قول المنكر بخلاف العبد فهناك قد أحرزه أهل الحرب ثم عاد إلى ملك المولى بالعقد بالصفة المذكورة التي باشرها المأمور فإذا وقع الاختلاف بينهما في جنس ذلك العقد أو في مقدار البدل وجب المصير إلى التحالف .
ولو كان المأسور عبداً فقال أجنبي للمستأمن : اشتره لي منهم أو اشتره لي من مالي فالعبد للآمر لأن أهل الحرب ملكوه فهذا رجل وكل غيره بأن يشتري له عبداً من مولاه وقد اشتراه له فكان مطالباً بالثمن من جهته ويجعل هو في حق المولى القديم كأنه اشتراه بنفسه حتى يأخذه منه بالثمن إن شاء فإن وجده المولى القديم في يد المأمور كان هو خصماً له قبل أن يحضر الآمر لأن حق الأخذ بالثمن قد ثبت له بعقد المأمور فيتمكن من أخذه من ملكه قبل حضور الآمر بمنزلة الشفيع فإن كان الأجنبي قال للمستأمن : اشتره فقد بينا أن هذه مشورة وأن المخاطب يكون مشترياً لنفسه فلمولاه أن يأخذه من يده بالثمن .
ولو قال له : اشتره بهذه الألف ودفعها إليه أو لم يدفعها فهو للآمر لأن إضافة العقد إلى مال نفسه بالإشارة كإضافته إلى مال نفسه بالكتابة بأن قال : بألف درهم من مالي وإضافته إلى مال نفسه بمنزلة إضافته إلى نفسه وفي كل موضع كان شراؤه للآمر وأدى القيمة من مال نفسه فله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن كما هو الحكم في الوكيل مع الموكل وعلى هذا لو مات في يده قبل الحبس أو بعد الحبس فحاله كحال الوكيل بل هو ذلك بعينه .
ولو كان المأسور عبداً لمسلم واكتسب عندهم مالاً ثم خرج بماله إلى دارنا مراغماً لمولاه فأخذه المسلمون وما معه ثم حضر المأسور منه فإنه يأخذه بغير شيء ولا سبيل له على ماله@(4/334)
وإنما لا يعتق هذا العبد لمراعاة حق المأسور منه فقد كان له حق إعادته إلى قديم ملكه متى وجده في دار الإسلام خارجاً من ملك الأسير بخلاف عبد الحربي إذا خرج إلينا مراغماً لمولاه مسلماً فهناك لا حق فيه لغير الحربي وحقه فيه غير مرعي بعدما خرج إلى دارنا وها هنا فيه حق المأسور منه وحقه مرعي فلهذا لا يعتق ولكن يأخذه مولاه بغير شيء بمنزلة ما لو أخذه في الغنيمة قبل القسمة فأما ماله فلا حق فيه للمولى القديم لأنه ليس بمال اكتسبه على ملكه وإنما اكتسبه على ملك الحربي ومال الحربي متى وجد في دار الإسلام ولا أمان له فهو فيء لجماعة المسلمين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه كنفس الحربي وأما في قول محمد رحمه الله فالمال لمن أخذه من المسلمين ويخمس في هذه الراوية .
وقد بينا أن في الخمس روايتين عن محمد في نفس الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان فأخذه واحد فكذلك في ماله والباقي للآخذ يختص به وإن كان أخذه المولى القديم ففي قول محمد رحمه الله تعالى هذا وما سبق سواء كذلك في قول أبي حنيفة رضي الله عنه العبد له ولا خمس فيه .
لأنه أعاده إلى قديم ملكه وماله فيء للمسلمين لأن في حق المال هو كغيره في الأخذ .
ولو كان العبد جاء بذلك المال إلى دار الإسلام بأمان يتجر به لمولاه الحربي فلا سبيل للمولى القديم عليه لأن ملكه لم يزل عنه ولو كان هو الذي أخرجه بأمان لم يكن للمولى القديم عليه سبيل فكذلك إذا خرج العبد .
ولكن الإمام يبيعه لأنه مسلم فيتعذر تمكينه من الرجوع إلى دار الحرب ليستديم الحربي ملكه فيه فيبيعه الإمام ويقف ثمنه مع@(4/335)
المال الذي في يديه لمولاه الحربي ليجيء فيأخذه لأنه حكم الأمان قد ثبت في هذا المال للحربي .
فإن أراد المأسور منه حين باعه الإمام أن يأخذه من المشتري بالثمن لم يكن له ذلك لأنه حصل في دارنا ولا حق للمولى القديم في أخذه فلا يثبت حقه بعد ذلك بمنزلة ما لو أسلم مولاه أو صار ذمياً ثم باعه من آخر .
فإن كان العبد مدبراً والمسألة بحالها في الوجهين إن جاء مراغماً أو بأمان فهو وماله الذي اكتسبه كله مردود على المأسور منه لأنه لم يخرج من ملكه بإحراز المشركين وإنما اكتسب المال وهو مملوك له والكسب يملك بملك الأصل فلهذا قلنا : بأن ذلك كله مردود على مولاه بغير شيء .
فإن كان كسبه من تجارة أو هبة وهبوه له فلا خمس فيه لأنه حصل في يده لا على وجه القهر فلا يثبت فيه حكم الغنيمة .
وإن كان أخذه بغير طيب أنفسهم خمس ذلك المال لأنه أخذه بطريق القهر .
وقد بينا هذا الحكم في الحر المأسور إذا خرج بمال فكذلك في المدبر إلا أن هناك الباقي بعد الخمس للأسير وها هنا لمولاه لأن المدبر ليس من أهل الملك قال : ولو أن أمة مأسورة ولدت أولاداً من فجور أو زوج حربي ثم خرجت هي وأولادها مراغمين لمولاهم الحربي أو خرجت هي مراغمة ومعها ابن لها صغير فأخذها المسلمون فهي فيء وأولادها فإن أصابها مولاها قبل القسمة أخذها وأخذ أولادها بغير شيء أو بعد القسمة بقيمتهم يوم وقعوا في سهم الذين صاروا له لأن ولدها جزء منها والحق الذي كان ثابتاً للمولى القديم فيها يثبت في أولادها باعتبار@(4/336)
الجزئية ثم قيام حقه فيهم يمنع ثبوت الحرية لهم بالخروج على وجه المراغمة بخلاف الكسب فهو متولد من عينها فلا يثبت فيه حق المولى القديم بل هو مال الحربي فيكون فيئاً للمسلمين .
ولو كان هي دخلت وأولادها بأمان فلا سبيل للمولى القديم عليها ولا على أولادها صغاراً كانوا أو كباراً ولكن يبيعهم الإمام لأنهم مسلمون بإسلامهم فيبيعهم ويقف ثمنهم حتى يقدم الحربي فيأخذها باعتبار الأمان .
ولو كانت مدبرة للمولى القديم ردوا جميعاً عليه لأنها لم تخرج عن ملكه بالأسر وأولادها بمنزلتها لا يملكهم الحربي أيضاً لأن ولد المدبرة مدبر فلهذا ردوا على المولى سواء خرجوا مراغمين أو غير مراغمين بغير شيء والله الموفق والمسدد .
باب المفاداة بالأسراء وغيرهم من الأموال
قال : وإذا رغب أهل الحرب في مفاداة أسارى المسلمين بالمال فلا ينبغي للمسلمين أن يفادوهم بالأسراء ولا بالكراع والسلاح لأن منفعتهم في دفع المال إليهم دون منفعتهم في رد المقاتلة أو دفع آلة القتال إليهم ألا ترى أن حمل الأموال إليهم للتجارة جائز وحمل السبي والكراع والسلاح إليهم للتجارة حرام .
وإن كرهوا المفاداة بالمال ورغبوا فيه بالكراع والسلاح فلا ينبغي لهم أن يفادوهم بالأسراء لأن حكم دفع الكراع والسلاح إليهم أهون من حكم رد المقاتلة عليهم ألا ترى أنه يجب قتل المقاتلة منهم إذا تمكن المسلمون من ذلك ولا يجب إتلاف الكراع والسلاح عليهم .
فإن كرهوا ذلك أيضاً فحينئذ يجوز المفاداة بالأسراء ولو رغبوا في المفاداة بمال عظيم فيه@(4/337)
إجحاف بالمسلمين في بيت مالهم فإنه يجوز فماداتهم بالأسراء دون المال لأن هذه حالة الضرورة وعند الضرورة تجوز مفاداة الأسراء منهم بالمال على رواية الكتاب وفيه تحصيل منفعة المال للمسلمين فلأن يجوز مفاداة الأسراء بالأسراء لإبقاء المال الذي يحتاج المسلمون إليه في أيديهم كان أولى .
ولو أن أقواماً من أهل الحرب استأمنوا إلى عسكر المسلمين للفداء فقالوا : أمنونا على أنفسنا وأموالنا وما جئنا به من الأسراء ففعل المسلمون ذلك ثم لم يتفق الصلح والمفاداة فأرادوا الرجوع فإنهم لا يمكنون من أن يرجعوا إلى دارهم بأحد من المسلمين وقد بينا هذا الحكم فيما إذا استأمنوا إلى دار الإسلام فكذلك إذا استأمنوا إلى العسكر في دار الحرب ولكن يؤخذ الأحرار والحرائر من المسلمين أو من أهل الذمة منهم مجاناً شاءوا أو أبوا لأنه ظالمون في حبس الأحرار .
وكذلك كل من لم يملكوه بالأسر والإحراز فأما من ملكوه من العبيد والإماء فإنا نأخذهم منهم ونعطيهم قيمتهم لأنهم ملكوهم بالإحراز وقد أعطيناهم الأمان على أموالهم فللوفاء بالأمان يعطون قيمتهم بعد الأخذ منهم لتعذر تركهم حتى يرجعوا بالمسلمين إلى دار الحرب فيستخفوا بهم .
ثم إذا أخرجهم العسكر إلى دار الإسلام فإن شاء مواليهم أخذوهم بتلك القيمة لأن سلامتهم للجيش كان بما أدوا من القيمة .
بخلاف ما لو أخذوهم قهراً بغير أمان فإن هناك للموالي حق الأخذ مجاناً قبل القسمة وهذا بخلاف ما إذا استأمنوا إلى دارنا ومعهم العبيد فأجبروا على بيعهم فباعوهم ثم حضر الموالي لأن هناك حصلوا في دارنا وليس للموالي حق الأخذ فيهم@(4/338)
فبالانتقال من ملك إلى ملك لا يثبت لهم حق الأخذ وها هنا ما حصلوا في دارنا إلا وحق الأخذ للموالي ثابت فكان هذا وما لو دخل مسلم إليهم بأمان فاشتراه وأخرجهم سواء .
وإن خرجوا إلى العسكر وليس معهم الأسراء وقد كانوا خبئوهم في موضع إلا أنهم حيث لا يكونون ممتنعين منا في ذلك الموضع فهذا والأول سواء يؤخذ منهم العبيد والإماء ويعطون قيمتهم لأنهم ما لم يصلوا إلى مأمنهم فهم في أماننا وذلك يمنع أخذ ملكهم منهم مجاناً .
وإن كانوا خبئوهم في مأمنهم ومنعتهم والمسألة بحالها فبعثنا سرية فأصابتهم فلا سبيل لأهل الحرب عليهم في طلب العين ولا القيمة لأنهم لما وصلوا إلى مأمنهم فقد انتهى حكم الأمان بينا وبينهم ثم أصبنا ما أصبنا من قوم هم حرب لنا فكان هذا وما قبل مجيئهم بأمان في الحكم سواء .
وإذا خرجت العبيد والإماء إلى دار الإسلام أخذهم الموالى قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة إن أحبوا وإن وقع الصلح فيما بيننا وبينهم على المفاداة بالمال ثم أصابهم سرية من المسلمين في الموضع الذي خبئوهم فيه فإن كان ذلك الموضع بالقرب من عسكر المسلمين حيث لا يكون لهم فيه منعة فعلى الأمير أن يفي لهم بالصلح ويعطيهم المال وإن كانوا أصابوهم في منعتهم فقد انتقض الصلح وليس على المسلمين أن يعطوهم شيئاً من المال لأن حكم الأمان لم يتناول ما في منعة أهل الحرب وقد تناول ما في منعة المسلمين فحالهم إذا كانوا بالقرب من العسكر كحالهم إذا كانوا معهم في أيديهم وحالهم إذا كانوا في منعتهم كحالهم قبل أن يستأمنوا فإذا حصل مقصود المسلمين بطريق القهر المباح قلنا : ليس عليهم أداء شيء من المال لأنهم ما سلموا لنا بحكم الصلح شيئاً ولكن تحقق@(4/339)
عجزهم عن ذلك فينتقض الصلح .
وإن لم يعرف المسلمون أن الذين أخذوهم في غير منعة كانوا مع أهل الحرب الذين جاءوا للمفاداة أو لم يكونوا وقال أهل الحرب : نحن جئنا بهم فإنه لا يقبل قولهم في ذلك لأنهم يدعون أمراً خلاف الظاهر ويدعون على المسلمين وجوب تسليم المال إليهم فلا يقبل قولهم إلا بحجة .
فإن أقاموا البينة شاهدين مسلمين أو رجلاً وامرأتين على ذلك وجب تسليم المال إليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن كان الشاهدان من الأسراء قبلت شهادتهما لأنه لا تهمة في هذه الشهادة وإن لم يشهدوا بذلك ولكن قال بعض الأسراء : كنا معهم وهم جاءوا بنا وأنكر ذلك بعضهم ففي القياس لا شيء لأهل الحرب من الفداء لأن الذين أقروا من الأسراء يلتزمون بإقرارهم الأمير والمسلمين تسليم المال إليهم وإقرار المرء لا يكون حجة على غيره .
وفي الاستحسان إقرار من أقر منهم جائز على نفسه وهو غير جائز على أصحابه فيدفع لهم حصة المقرين مما وقع عليه الصلح من المال اعتباراً لإقرار بعضهم بإقرارهم جميعاً بذلك وهذا لأنه لا تهمة في هذا الإقرار فقد خرجوا من الأسر سواء جاءوا معهم أو جاءوا دونهم ثم هم يقرون بأنهم كانوا في أيديهم والإقرار باليد بمنزلة الإقرار بالرق ثم إقرار مجهول الحال بالرق على نفسه صحيح فكذلك إقرار مجهول الحال في حق اليد باليد على نفسه لغيره يكون صحيحاً .
وكذلك لو كان فيهم صغار يعبرون عن أنفسهم وليس معهم آباؤهم فإن إقرار هؤلاء بالرق على أنفسهم يصح فكذلك باليد فأما من كان معه أبواء فهو@(4/340)
غير مصدق إلا أن يصدقه أبواه لأنه في يد أبويه إذا كانا معه ولا قول له في الإقرار باليد على نفسه للمستأمن من أهل الحرب .
وإن أقر النساء والصبيان أن أهل الحرب هم جاءوا بهم وشهد شاهدان من الرجال أنهم لم يجيئوا بهم وإنما جاء بهم جميعاً قوم آخرون من أهل الحرب فالشهادة أولى بالعمل بها لأنها حجة حكمية متعدية إلى الناس كافة وحجة الإقرار لا تعدو المقر ولأنه وجب القضاء بالشهادة في حق غير المقرين وإذا قضي بذلك فقد صار المقر مكذباً في إقراره حكماً وبعد ما صار مكذباً لا يعتبر إقراره في حق نفسه فكيف يعتبر في حق وجوب تسليم فدائه على غيره .
ولو جاء بهم قوم من أهل الحرب سوى الذين صالحوا على الفداء فلما أصابهم المسلمون قالوا : قد كنا مع أصحاب الفداء وهم حلفونا لحفظهم لم يصدقوا على ذلك لأنهم يدعون أمراً خلاف ما يشهد به الظاهر يريدون أن يلزموا المسلمين تسليم الفداء إليهم فلا يقبل قولهم إلا بحجة وللمسلمين ما أصابوا منهم بغير فداء .
ولو بعث أهل الحرب إلى المسلمين إنا نريد أن نفاديكم بناس من المسلمين الرجال بالرجال والنساء بالنساء والصبيان بالصبيان فرضي المسلمون بذلك ثم جاءوا بالأسراء ممن لم يملكوهم فأراد الأمير أن يأخذهم ولا يعطيهم فداءهم فهذا واسع له أن يفعله لأن أهل الحرب لم يملكوهم وهم الظالمون في حبسهم وقد بينا أن إعطاء الأمان على التقرير على الظلم لا يجوز .
ألا ترى أنهم لو أسلموا أو صاروا ذمة أخذوا منهم شاءوا أو أبوا فكذلك إذا استأمنوا عليهم لأن مراعاة الأمان لا تكون أوجب من مراعاة حرمة الإسلام أو عقد الذمة .
وإن كانوا فادوهم بمال فالمستحب لهم الوفاء بما عاملوهم عليه لئلا ينسبوا إلى الغدر وليطمئنوا إليهم في مثل هذا في المستقبل بخلاف@(4/341)
الأسارى أو الكراع والسلاح إذا وقعت المفاداة بها لأن الامتناع من رد ذلك عليهم واجب شرعاً وللاستحباب لا يجوز ترك الواجب فأما الامتناع من دفع المال إليهم فليس بواجب شرعاً وقد بينا أنه يجوز دفع هذا المال إليهم فلاستحباب الوفاء بما وقع الصلح به عليه قلنا : ينبغي أن يدفع المال إليهم .
غير أن في الكراع والسلاح والرءوس إن رأى الإمام أن يعطيهم فيه ما شرطه لهم فعل ذلك كراهة أن ينسبوا إلى الغدر أو يحذروا المسلمين بعد ذلك في مثله عند حاجة المسلمين إليه فإن قيل : فعلى هذا ينبغي أن يفي الإمام لهم بما صالحهم من السلاح وغيره حتى يطمئنوا إليه في المستقبل قلنا : هذا ليس بشيء فإنهم وإن لم يطمئنوا إليه فذلك لا يضر المسلمين شيئاً لأن أشد ما بحضرتهم ألا يأتوا بالمسلمين بعد هذا حتى يأخذوا فداءهم وبهذا الموهوم لا يجوز للإمام رد المقاتلة أو آلة القتال عليهم ليتقووا به على المسلمين .
ولو كانوا جاءوا بعبيد وإماء والمسألة بحالها فإن الإمام يأخذ العبيد والإماء منهم إذا ظفر بهم لحرمة الإسلام ولا يعطيهم الفداء من الأسراء من أهل الحرب ولا من الكراع والسلاح ولكنه ينظر إلى قيمة ما كان شرطه لهم فيعطيهم ذلك وهذا مستحب في الفصل الأول واجب في هذا الفصل لأن أهل الحرب قد ملكوهم حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً لهم فلا يكون للإمام أن يأخذهم منهم مجاناً بخلاف الأول .
فإن كانوا فادوهم بالمال سلم المال إليهم وليس للموالي عليهم سبيل لأنهم حصلوا في دار الإسلام ولا حق للموالى في أخذهم فلا يثبت حقهم بعد ذلك .
وإن لم يظفر المسلمون بأسرائهم من الأحرار حتى فادوهم بأعدادهم من أسراء المشركين فأخذ المشركون أسراءهم وأعطوا@(4/342)
المسلمين أسراءهم فلا سبيل على أسراء المسلمين فيما فدوا به ولكنهم أحرار لا سبيل عليهم وإن كان فيهم أمهات أولاد أو مدبرون ردوا إلى مواليهم بغير شيء إلا أن يكونوا هم أمروا بالمفاداة بذلك لأن ذلك كان حقاً على المسلمين وقد أعطوه في الفداء لمنفعة رجعت إلى المأسورين .
فإن كان بغير أمر الموالي من المملوكين منهم فهم متبرعون في ذلك وإن كان بأمر الموالي يثبت حق الرجوع عليهم لأنهم التزموا ذلك للمسلمين حين أمروهم بالمفاداة بهم .
وإن كانوا عبيداً وكانت المفاداة بغير أمر الموالي فلا سبيل للموالي عليهم لأن الأمير صار كالمشتري لهم من الذين جاءوا بهم بما فاداهم به .
وإن كان بأمر الموالي رجع عليهم بقيمة ذلك شاءوا أو أبوا لأنه صار كالنائب عنهم في شرائهم ما فاداهم به ثم زاد في التفريع فذكر ما تقدم بيانه من المكاتب وغيره من المأسورين إذا فاداه الأمير بأمره أو بغير أمره وقد بينا هذا الحكم فيما إذا فاداه المستأمن من المسلمين في دار الحرب فكذلك إذا فاداه إمام المسلمين في دار الإسلام .
فإن كان في الأسراء رجل من أهل الذمة فليس على الإمام أن يفاديه من مال بيت المال لأنه مال للمسلمين فإنما يفادي به الأسراء من المسلمين دون أهل الذمة .
إلا أن يكون هذا مقاتلاً له جزاء وغناء أو كان دليلاً في أرض المشركين يدل على عوراتهم فرأى الإمام أن يفاديه من مال بيت المال فلا بأس بذلك لأن في تخليصه منفعة للمسلمين ومال بيت المال معد لذلك .
وكذلك إن رأى أن يفاديه بأسير قد وقع في سهم رجل ويعوضه قيمته من بيت المال فلا بأس بذلك لأن هذا منه على وجه النظر للمسلمين .
وإن كان الأسير من المسلمين فإنه يجب على@(4/343)
الإمام مفاداته بمال من بيت المال إذا لم يكن فيه إجحاف بالمسلمين فأما عند الإجحاف بهم لا يجب ذلك أرأيت لو طلبوا مائة ألف دينار في فداء أسير من المسلمين أكان يجب ذلك على الإمام هذا مما لا يقوله أحد فإن طلبوا فداءه بأسير من أهل الحرب قد وقع في سهم رجل وكره ذلك الرجل دفعه في الفداء فإن الإمام يأخذ منه شاء أو أبى ويعوضه قيمته من بيت المال لأن تخليص المسلم من الأسر فرض عليه وعلى كل مسلم بحسب القدرة والإمكان فإن امتنع منه ناب الأمير مقامه وعوضه قيمته من بيت المال بمنزلة ما لو استحق سهمه وهذا بناء على قول محمد رحمه الله في جواز المفاداة بالأسراء بعد القسمة .
ولو قال أهل الحرب : نعطيكم أسيراً بأسيرين أو بثلاثة من أسرائنا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن رأى المنفعة ظاهرة للمسلمين في ذلك بأن كان مبارزاً له جزاء وغناء فليفعل ذلك وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة للمسلمين في ذلك ولكن فيه بعض جرأتهم وتحكمهم علينا لم يجبهم إلى ذلك لأنه نصب ناظراً فلا يدع النظر للمسلمين فيما يفعله لهم بحال ألا ترى أنهم لو طلبوا بأسير واحد من المسلمين مائة من أسرائهم لم يجبهم إلى ذلك فهذا مثله .
ولو كان أخو ملكهم أو ابنه أسيراً في أيدينا وقد أسلم فقالوا : نعطيكم أسيركم المسلم على أن تردوا علينا أخا الملك لم يسعنا أن نرده عليهم لأنه مسلم ومفاداة المسلم بالمسلم لا تجوز لأن المقصود@(4/344)
بالمفاداة تخليص المسلم مما يخاف عليه من فتنتهم .
فإن طابت نفسه بذلك فقال : ردوني عليهم وخذوا أسيركم فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان مأموناً على إسلامه بأن حسن إسلامه فعل ذلك برضاه وإن كان غير مأمون على ذلك لم يفعله وإن رضي به لأنه إذا لم يكن مأموناً على ذلك فالظاهر أنه إنما رضي به ليرجع إلى ما كان عليه ولا يجوز تمكينه من ذلك بحال .
ألا ترى أنه لو كان ارتد فينا فقالوا لنا : خذوا أسيركم وأعطونا ذلك المرتد لم يسعنا أن نفعل ذلك ولكنا نعرض الإسلام على المرتد فإن أسلم وإلا قتلناه فكذلك إذا خيف عليه الردة بعد المفاداة به فأما إذا كان لا يخاف ذلك عليه فإنما لا يفادى به قبل رضاه لما فيه من تعريضه للقتل والظاهر أنه لا يرضى بذلك ما لم يكن منهم آمناً على نفسه فكان حاله الآن كحال المفاداة بالذمي أو بالمستأمن منهم في دارنا إذا رضي به وقد بينا أن ذلك جائز فهذا مثله .
ولو جاء مستأمن منهم بعشرة من أسراء المسلمين على أن يفادي بهم غيره وقد سماهم بأعيانهم فوجدهم قد قتلوا أو ماتوا ثم رجع فأراد أن يرجع بالأسراء الذين أخرجهم منع من ذلك فإن كانوا أحراراً أخلى الأمير سبيلهم وقال له : الحق ببلادك فلا شيء لك لأنه ما كان يملكهم .
وإن كانوا عبيداً أو إماء أجبره على بيعهم بمنزلة ما لو جاء بعبيد معه بأمان فأسلموا في@(4/345)
دارنا وإن كان شرط علينا في الأمان أن يشتري أولئك النفر ونسلمهم له فأبى مواليهم البيع فإنه ينبغي للأمير أن يفي لهم بالشرط إذا أخذ الأحرار منهم فيعطيهم قيمة الذين شرطهم له دنانير أو دراهم وإن باعهم مواليهم فينبغي للإمام أيضاً ألا يدعه يرجع بأحد منهم إلى دار الحرب إن كانوا أسلموا وهذا وما لو جاء بعبيد من المسلمين في الحكم سواء .
وإذا توادع أهل الإسلام وأهل الحرب على أن يتهادنوا سنة حتى ينظروا في أمورهم وأراد بعضهم من بعض أن يعطوهم رهناً بذلك على أن من غدر من الفريقين فدماء الرهن للآخرين حلال فلا بأس بإعطاء الرهن على هذا إذا رضي بذلك الرهن من المسلمين لأنه يؤمن على الرهن من المسلمين من الرجوع عن الإسلام والظاهر أنهم لا يرضون بذلك إذا كانوا يخافونهم على أنفسهم وقد بينا أنه يجوز المفاداة بالمسلم في مثل هذه الحالة فلأن يجوز تسليمه إليهم رهناً وفيه منفعة للمسلمين أولى .
ولا ينبغي أن يكره الإمام أحداً من المسلمين على ذلك إلا أن يكون للمشركين شوكة شديدة ويخاف الملمون على أنفسهم منهم فعند ذلك لا بأس بإكراه الرهن على ذلك لما فيه من المنفعة لعامة المسلمين وفي الامتناع من هذا الصلح خوف الهلاك لجماعة المسلمين وفي الإقدام عليه دفع هذا الخوف عن جماعة المسلمين فيثبت للإمام هذه الولاية وإن كان يخاف فيه على خاص من المسلمين وهم الرهن للأصل المعروف وهو أن من ابتلي@(4/346)
ببليتين فعليه أن يختار أهونهما فإن أخذ كل واحد من الفريقين من صاحبه رهناً فغدر المشركون وقتلوا الرهن الذي في أيديهم فليس يحل للمسلمين أن يقتلوا ما في أيديهم من الرهن ولا أن يسترقوهم لأنهم كانوا آمنين عندنا فلا يبطل حكم أمانهم بغدر المشركين لقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فاطر : 18 .
ولكن المسلمين لا يدعونهم يرجعون إلى بلادهم ويجعلونه ذمة لأنهم رضوا بالمقام في دارنا إلى أن يرد علينا رهننا وقد تعذر فكانوا محتبسين في دارنا على التأبيد برضاهم والكافر لا يتمكن من المقام في دارنا على التأبيد مصراً على كفره إلا بالجزية قال الشيخ الإمام رضي الله تعالى عنه وحكي أن الدوانقي كان جرى هذا الشرط بينه وبين قوم من أهل الحرب ثم إنهم غدروا فقتلوا رهن المسلمين فجمع علماء عصره وسألهم عما يصنع برهنهم فقالوا له : لك أن تقتلهم لمكان الشرط الذي شرطوا وفيهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ساكت فقال له : مالك لا تتكلم فقال : إن قالوا لك هذا عن رأي فقد أخطئوا وإن قالوا بناء على هواك فقد غشوك فليس لك أن تتعرض لأحد منهم بالقتل ولا بالسبي فقال : ولم وقد شرطوا ذلك قال : لأنهم قد شرطوا عليك ما لا يحل وشرطت عليهم ما لا يحل في الشرع وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل قال الله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فأغلظ القول عليه وقال : ما دعوتك لهم قط إلا جئتني بما أكره قوموا من عندي فخرجوا ثم جمعهم من الغد وقال : تبين لي أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم قال : سل العلماء فسألهم فقالوا : لا علم لنا بذلك فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : توضع عليهم الجزية .
قال : لم قال : لأنهم احتبسوا عندك برضاهم إلى رد الرهن وقد فات ذلك فاستحسن قوله وأثنى عليه ورده بجميل فإن قيل : فإذا كان هذا الشرط مما لا يحل فلماذا قال : لا بأس بإعطاء الرهن على هذا قلنا : لأن المسلمين احتاجوا إليه وليس في مجرد الشرط فوات شيء ولا إثبات شيء لا يمكن تداركه بخلاف قتل الرهن بذلك الشرط .
ولو أنهم حين أعطوا الرهن وأخذوا الرهن من المسلمين قدر المسلمون على أن يأخذوا منهم رهنهم@(4/347)
فلا بأس بأن يأخذوهم لما بينا أنهم ظالمون في حبس رهن المسلمين ولا يجوز إعطاء الأمان على التقرير على الظلم بعد التمكن من إزالته .
ثم لا يرد رهنهم حتى يأمنوا مما كانوا يخافون فإذا أمنوا ذلك ردوا عليهم رهنهم ولا يكون هذا غدراً من المسلمين وقد سبق نظير هذا فيما إذا خاف أمير العسكر من المستأمنين في المعسكر فإنه يجوز له أن يخرجهم معه إلى دار الإسلام شاءوا أو أبوا حتى يأمن مما كان يخاف ثم يردهم إلى دارهم فهذا قياسه لأنه رهنهم في أمان منا .
وإن أبى الذين في أيديهم الرهن أن يعطوا لرهن إلى المسلمين إلا بقتال فلا بأس بقتالهم وقتلهم على ذلك لأن الذين في أيديهم قوم من أحرار المسلمين يريدون أن يدخلوهم بلادهم بغير حق فلا يسع المسلمين إلا أن يقاتلوا لتخليصهم من أيدي الظالمين إذا قدروا على ذلك .
وإن كانوا قالوا للمسلمين : لا نقاتلكم أبداً ولكن لا نعطيكم الرهن حتى تردوا رهننا فإن كان المسلمون يخافونهم في الأمر الذي وادعوهم من أجله فلهم ألا يعطوهم رهنهم ولكن ببدء ونهم بالقتال لأخذ رهن المسلمين إذا قدروا على ذلك وإن كانوا قد أمنوا فليردوا إليهم رهنهم لأنه لا حاجة بهم إلى حبس الرهن الآن بخلاف الأول فهناك بهم حاجة إلى حبس الرهن لإزالة الخوف عن المسلمين فلا ينبغي أن يردوا عليهم رهنهم ولكن يقاتلونهم لاستنقاذ المسلمين من أيديهم .
وإن كان الذين أخذوا الرهن قد انتهوا بالرهن إلى منعتهم وقد وادعهم المسلمون فليس ينبغي للمسلمين أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم بخلاف ما قبل وصولهم إلى منعتهم لأن هناك إنما يقاتلونهم ليستردوا الرهن@(4/348)
لا لنقض الموادعة وبعدما وصلوا إلى منعتهم القتال لا يكون على الرهن بل على نقض الموادعة وقد صحت الموادعة فذلك يمنعنا من قتالهم حتى ننبذ إليهم .
قال : ولو جاءوا بأسراء المسلمين للمفاداة فنادوا بالفداء في موضع هم فيه ممتنعون ثم رجعوا بهم حين لم يتفق لهم المفاداة فتبعهم المسلمون وأخذوهم منهم وأسروهم وأخذوا أموالهم فلا بأس بذلك كله لأنهم ما كان لهم منا أمان قط ثم إن كان فيهم عبد وأمة أخذه مولاه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة لأنهم أصابوهم بطريق الاغتنام .
وهذا بخلاف ما إذا استأمنوا إلينا ثم انصرفوا بهم حين لم يتفق لهم المناداة وقد بينا أن هناك إذا أخذ منهم العبيد والإماء قبل أن يصلوا إلى منعتهم أعطوهم بمتهم لأنهم كانوا في أمان منا ولا بأس بأن نقاتلهم على ذلك لأن استنقاذ المسلمين من أيديهم واجب فإذا أبوا ذلك جاز قتالهم وإن أتى على أنفسهم ألا ترى أن مستأمناً في دار الإسلام لو أسلم عبده فامتنع من بيعه وأراد إدخاله في دار الحرب جاز قتاله على ذلك لأنه امتنع من حكم المسلمين بعدما التزمه فإن هذا الحكم من جملة ما يلتزمه المستأمن بعقد الأمان وما لم يبلغ مأمنه فهو في أمان من المسلمين فإذا امتنع من الانقياد للحكم الذي التزمه جاز قتاله على ذلك فكذلك ما سبق والله أعلم .
باب المفاداة بالصغير والكبير من السبي وغير ذلك
قال : ولا بأس لأمير السرية أن يفادي الأسراء بالأسراء إذا طلب ذلك أهل الحرب وطابت أنفس السرية بذلك الرجال من الأسارى والنساء والصبيان في ذلك@(4/349)
سواء ما لم يحكم بإسلامهم لأنه فوض إليه تدبير الحرب وتوفير المنفعة على المسلمين والمفاداة بالأسارى في دار الحرب من تدبير الحرب وفيه منفعة للمسلمين لأن المسلمين الذين يأخذونهم بالمفاداة أعظم غناء بالمسلمين مما يعطون إلا أنه يشترط رضاء أهل السرية في ذلك لثبوت حقهم في المأسورين فينبغي أن يسترضيهم في المفاداة لما فيها من إسقاط حقهم عما ثبت حقهم فيه .
وكذلك بعد الإخراج إلى دار الإسلام ما لم يحكم بإسلام الأسارى حتى أن الصبيان من السبي إذا كان معهم الآباء والأمهات لا يحكم لهم بالإسلام حتى يصفوا الإسلام بأنفسهم فتجوز المفاداة بهم وكذلك إن ماتت آباؤهم وأمهاتهم في دارنا لأن معنى التبعية بالموت لا ينقطع في حكم الدين .
ألا ترى أن أولاد أهل الذمة لا يحكم لهم بالإسلام وإن مات آباؤهم وأمهاتهم في دارنا وهم صغار وكذلك إن كان آباؤهم وأمهاتهم معهم فطلب المشركون المفاداة الصبيان خاصة فلا بأس بذلك وإن كان في ذلك تفريق بينهم وبين آبائهم لأن هذا التفريق بحق وتخليص المسلمين من أسراء المشركين أفضل وأعظم أجراً من ترك التفريق بحق وتخليص المسلمين من أسراء المشركين أفضل وأعظم أجراً من ترك التفريق بين الصبيان والآباء .
ولكن لا يجوز مفاداة صبيانهم بالمال كما لا يجوز مفاداة البالغين منهم لأن الصغير يكبر فيكون منه القتال ويكون له النسل بخلاف الشيخ والشيخة اللذين لا يرجى لهما نسل .
لأنه ليس في ردهما على المشركين من معنى التقوي على القتال بشيء وفي الصغار يتحقق ذلك المعنى .
ولو أبى أهل السرية أو العسكر المفاداة بالأسارى فليس لأميرهم أن يفادي بهم إلا أن يعوضهم من ذلك ما خلا خصلة واحدة الرجال من أهل الحرب الذين أسرهم المسلمون لا بأس بالمفاداة@(4/350)
بهم قبل القسمة وإن لم يرض به أهل العسكر والسرية لأن لأميرهم أن يقتل الرجال من الأسراء وفي القتل إبطال حق أهل العسكر منهم من غير منفعة تخليص المسلمين من المشركين فلأن يجوز المفاداة وفيه منفعة التخليص كان أولى بخلاف السبي من النساء والصبيان والأموال من الكراع والسلاح وغير ذلك فإنه ليس له أن يبطل حق الغانمين منهم إلا بعوض فكذلك لا يكون له أن يفادي الأسراء بهم إلا بطيب أنفس الغانمين أو بعوض إن أبوا ذلك وذلك العوض يكون من مال بيت المال وبعد القسمة ليس له أن يفادي بالرجال أيضاً إلا برضاء من وقع في سهمه لأنه حين قسمهم فقد حرم عليه قتلهم فكان حالهم بعد القسمة كحال النساء والصبيان .
فإن أبى من وقع في سهمه الرجال المفاداة بهم وأبى المشركون أن يردوا أسراء المسلمين إلا بأولئك فينبغي للإمام أن يشتريهم بمال بيت المال من مواليهم ثم يفادي بهم فإن أبوا أن يبيعوه قومهم قيمة علج ثم أخذهم بتلك القيمة شاء مواليهم أو أبوا لأن المفاداة بهم تستحق بعوض على الموالي يعطيهم الإمام من بيت المال فإذا أبوا ناب الإمام منابهم في ذلك كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه ناب الإمام منابه في ذلك لامتناعه مما هو مستحق .
وكذلك لو طلب المشركون المفاداة بعبيد كفار من أهل الذمة بقوم من أهل الذمة فإن الإمام يسترضيهم في ذلك لأن المفاداة بأحرار أهل الذمة يجوز برضائهم فبعبيدهم عند رضاء المولى أجوز .
ولا يعتبر فيه رضاء العبيد لأنهم مماليك ولا قول للمملوك في نقله من ملك إلى ملك في الرضاء والسخط وإن لم يرض الموالي بذلك اشتراهم منهم بمال بيت المال فإن أبوا أن يبيعوهم قومهم قيمة عدل لأنه لما ثبت له هذه الولاية في أملاك المسلمين لتخليص أسراء المسلمين به من ذل المشركين فلأن يثبت له هذه الولاية في ملك أهل الذمة كان أولى .
ولو أن أمير العسكر فادى الأسارى بقوم أحرار من المسلمين قبل البيع والقسمة فقال أهل العسكر : نحن نأخذ قيمتهم من@(4/351)
هؤلاء المسلمين لم يلتفت إلى قولهم لأنهم فودوا بغير أمرهم ولو فودوا بملك خاص للمسلمين بغير أمرهم لم يرجع عليهم بشيء من عوض ذلك فإذا فودوا بما هو من الغنيمة كان أولى فإن كانوا أسلوا الإمام أن يفاديهم به على أن يكون ذلك ديناً للغزاة عليهم فهو على ما شرطوا وكان عليهم قيمة ما فودوا به على أن يؤخذ ذلك منهم فيجعل في الغنيمة يقسم ويخمس ما بقي بين من أصابه لأن حكم البدل حكم المبدل .
ولو كان مكان الأحرار من أسراء المسلمين عبيد أو إماء والمسألة بحالها فإن ما يأخذه الأمير من العبيد والإماء يجعلهم في الغنيمة بمنزلة ما لو اشتراهم بما أعطي من الأسراء ثم يكون لمواليهم الخيار بين أن يأخذوهم بقمية الأسراء الذين فداهم الإمام بهم ثم يجعل ما يؤخذ منهم في الغنيمة وبين أن يتركوهم ويستوي إن كان قيمة أسراء المشركين مثل قيمة العبيد والإماء من المسلمين أو أقل أو أكثر مما يتغابن الناس فيه أو لا يتغابن لأنه قد كان له ولاية قتل أسراء المشركين وفيه إبطال حق الغانمين عنهم بغير عوض فلأن يكون ذلك له بعوض وهو أقل من قيمتهم كان أول .
ولو كانت هذه المفاداة بالنساء والصبيان فإن كانت القيمة متساوية أو كان التفاوت يسيراً فلا بأس به للأمير من غير رضى أهل العسكر بمنزلة بيعه الغنائم وإذا كان ما يعطي أكثر قيمة مما لا يتغابن الناس فيه فإنه لا يحل للإمام أن يفعل ذلك بغير رضاء أهل العسكر إلا أن يشاء أن يزيدهم من بيت مال المسلمين بقدر ما يفي من قيمة أسرائهم اعتباراً للبعض بالكل ثم يجمع ذلك فيرفع الخمس منه ويقسم الأربعة الأخماس بين من أصابه@(4/352)
وفكاك كل أسير من المسلمين على الأرض التي يقاتل من ورائها يؤخذ ذلك من خراجها فيفدي به الأسير المسلم الذي يقاتل عنها لأن التمكن من أخذ الخراج باعتبار الحماية وذلك بالمقاتلة الذين يقاتلون عن تلك الأراضي فإذا وقعت الحاجة إلى مفاداتهم كان ذلك الخراج متعيناً لمفاداتهم ليكون الغرم بمقابلة الغنم .
فإذا لم يكن لها خراج فذلك في خراج غيرها من أرض الإسلام لأنه إذا قاتل عن شيء من أرض المسلمين فهو يقاتل عنها كلها لأن أهل الحرب يقصدون الاستيلاء على جميع أرض الإسلام لو قدروا على ذلك فالذين يقاتلونهم من المسلمين يدفعونهم عن جميع أرض الإسلام ثم استدل على اعتبار رضاء المسمين في المفاداة بقصة سبي هوازن فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ستة آلاف من سبي هوازن حين أسلموا والقصة في ذلك أن وفدهم الذين جاءوا قالوا : يا رسول الله إن في هذه الحظائر بعض عماتك وخالاتك ولو كنا منحنا للنعمان بن المنذر أو غيره من ملوك العرب لكان يراعي ذلك لنا وأنت أبر الناس وأوصلهم وإنما قالوا ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسترضعاً فيهم فلما سمع ذلك رق لهم وقال : إذا صلينا الظهر فقوموا وأعيدوا مقالتكم هذه ففعلوا ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد كنت منتظراً لكم فأبطأتم المجيء حتى جرى في السبي سهام المسلمين فأما ما كانت لي ولقريش فقد سلمت لكم فلما سمع المسلمون ذلك قال المهاجرون والأنصار : وقد سلمنا ما كان لنا أيضاً فقال عيينة بن حصن : أما أنا وبنو فزارة فلا وقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم فلا فلما اختلفوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هؤلاء قوم قد جاءوا مسلمين فردوا عليهم سبيهم ومن أبى ذلك فله علينا مكان كل رأس ستة قلائص نعطيه من أول غنيمة نصيبها ألا ترى أنه لو طلب رضاءهم ومن أبى التزم له عوضاً حتى ردهم على قومهم فصار هذا أصلاً في الحكم الذي بيناه في الباب والله تعالى الموفق .@(4/353)
باب الموادعة
قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة لأن فيه ترك القتال المأمور به أو تأخيره وذلك مما لا ينبغي للأمير أن يفعله من غير حاجة قال الله - تعالى - : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الأنفال الاية 139 وإن لم يكن بالمسلمين قوة عليهم فلا بأس بالموادعة لأن الموادعة خير للمسلمين في هذه الحالة وقد قال عز وجل : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } الأنفال : 61 ولأن هذا من تدبير القتال فإن على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً ثم يطلب العلو والغلبة إذا تمكن من ذلك ألا ترى أن الصغير يمص اللبن ما لم تنبت أسنانه ثم يمضغ اللحم بعد نبات الأسنان فبهذا يتبين أن النظر في الموادعة عند ضعف حال المسلمين وفي الامتناع منها والاشتغال بالقتال عند قوة المسلمين واستدل على جواز الموادعة بمباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك والمسلمين بعده إلى يومنا هذا .
فقال قال محمد بن كعب القرظي : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة وادعته يهودها كلها وكتب بينه وبينها كتاباً وألحق كل قوم بحلفائهم وكان فيما شرط عليهم ألا يظاهروا عليه عدواً ثم لما قدم المدينة بعد وقعة بدر بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم من العهد فأرسل إليهم فجمعهم وقال : يا معشر يهود أسلموا تسلموا فو الله إنكم لتعلمون أني رسول الله وفي رواية@(5/3)
أسلموا قبل أن يوقع الله - تعالى - بينكم مثل وقعة قريش ببدر فصار هذا أصلاً بجوار الموادعة عند ضعف حال المسلمين والإقدام على المقاتلة عند قوتهم فإذا وادعهم وأخذ منهم على ذلك جعلاً فلا بأس به لأنه لما جاز أن يوادعهم بغير شيء يأخذه منهم فالموادعة بمال يأخذه منهم أجور وذلك المال بمنزلة الخراج لا يخمس ولكن يضعه موضع الخراج لأنه مال أهل الحرب حصل في أيدي المسلمين لا بإيجاف الخيل والركاب فلا يكون من الغنيمة في شيء كما أشار الله - تعالى - بقوله : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب : الحشر الآية 6 ولا بأس في هذه الحالة بموادعة المرتدين الذين غلبوا على دارهم لأنه لا قوة للمسلمين على قتالهم فكانت الموادعة خيراً لهم ولكن يكره أخذ الجعل منهم علىالموادعة بخلاف أهل الحرب لأن ما يؤخذ من الموادعة من المال بمنزلة الخراج ولا يحوز أخذ الخراج من المرتدين بعقلد الذمة فكذلك بالموادعة بخلاف أهل الحرب .
وإن أخذ الإمام ذلك منهم لم يرده عليهم لأنه لا أمان لهم من المسلمين في نفوسهم ولا في أموالهم وبعد ما غلبوا على دارهم فقد صارت دارهم دار الحرب حتى إذا وقع الظهور عليهم يكون مالهم غنيمة للمسلمين .
فكذلك ما يؤخذ منهم بالموادعة يكون سالماً للمسلمين لا يرد عليهم وإن أسلموا وكذلك لا بأس بموادعة أهل البغي لما بينا والحاجة إلى الموادعة في هذا الفصل أظهر لأنهم ربما يتأملون فيتوبون ويرجعون .
ولا ينبغي أني يؤخذ منهم على ذلك جعل لأنهم قوم مسلمون لا يجوز أخذ الخراج من رءوسهم والمال المأخوذ بالموادعة بهذه الصفة فإن أخذوه ردوه عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها لأنهم مسلمون لو أصيب منهم مال بالقتال وجب رده عليهم بعدما وضعت الحرب أوزارها فكذلك إذا أصيب منهم مال بالموادعة .
وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يوادعوهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالاً فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة@(5/4)
لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَيْسَ بِهِمْ قُوَّةُ دَفْعِ الْمُشْرِكِينَ ظَهَرُوا عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ جَمِيعًا ، فَهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ يَجْعَلُونَ أَمْوَالَهُمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : { اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك وَنَفْسَك دُونَ دِينِك } .
وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُدَارِي رَجُلًا فَقِيلَ لَهُ : إنَّك مُنَافِقٌ .
فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ .
فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَهَانَةِ .
3367 - 3367 - وَلَا بَأْسَ بِدَفْعِ بَعْضِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ عَنْ الْبَعْضِ إذَا خَافَ ذَهَابَ الْكُلِّ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُوَادَعَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
لِأَنَّ فِيهَا الْتِزَامُ الرِّيبَةِ ، وَالْتِزَامُ الذُّلِّ ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ وَقَدْ أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِصَّةِ الْأَحْزَابِ .
3368 - فَإِنَّهُ { حُصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى خَلَصَ إلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ الْكَرْبُ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَنْشُدُك عَهْدَك وَوَعْدَك ، اللَّهُمَّ إنَّك إنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ وَبَلَغَ مِنْ حَالِهِمْ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ .
وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا } ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ } ، فِي رِوَايَةٍ { أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلْتُ لَك ثُلُثَ ثِمَارِ الْأَنْصَارِ أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ وَتَخْذُلُ بَيْنَ الْأَحْزَابِ ؟ فَقَالَ : إنْ جَعَلْتَ لِي الشَّطْرَ فَعَلْتُ } 3369 - وَفِي رِوَايَةٍ { أَرْسَلَ عُيَيْنَةُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْطِينَا ثَمَرَ الْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ وَنَرْجِعُ(5/5)
عَنْك وَنُخَلِّي بَيْنَك وَبَيْنَ قَوْمِك فَتُقَاتِلُهُمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : لَا .
قَالَ : فَنِصْفُ الثَّمَرِ : فَقَالَ : نَعَمْ .
ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَهُمَا سَيِّدَا الْحَيَّيْنِ فَاسْتَشَارَهُمَا وَقَدْ حَضَرَ عُيَيْنَةُ وَقَالَ : اُكْتُبْ بَيْنَنَا كِتَابًا .
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِصَحِيفَةٍ وَدَوَاةٍ لِيَكْتُبَ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوحِيَ إلَيْك فِي
هَذَا ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَقُلْت : أَرُدُّهُمْ عَنْكُمْ .
فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاَللَّهِ إنَّهُمْ كَانُوا لَيَأْكُلُونَ الْعِلْهِزَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْجَهْدِ ، وَمَا طَمِعُوا مِنَّا قَطُّ أَنْ يَأْخُذُوا ثَمَرَةً إلَّا بُشْرَى ، أَوْ قِرًى فَحِينَ أَيَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِك وَأَكْرَمَنَا وَهَدَانَا بِك نُعْطَى الدَّنِيَّةَ ؟ ، لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ .
فَشَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيفَةَ وَقَالَ : اذْهَبُوا ، لَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ .
وَأَقْبَلَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَعُيَيْنَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَادًّا رِجْلَيْهِ .
فَقَالَ : يَا عُيَيْنَةُ الهجرس ، اقْبِضْ رِجْلَيْك ، أَتَمُدُّ رِجْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَاَللَّهِ لَوْلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَأُنْفِذَنَّ خُصْيَتَيْك بِالرُّمْحِ ، مَتَى طَمِعْت هَذَا مِنَّا ؟ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ عِنْدَ الضَّعْفِ لَا بَأْسَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ ، فَقَدْ رَغِبَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، حِينَ أَحَسَّ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفًا ، وَعِنْدَ الْقُوَّةِ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمُوَادَعَةُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَتْ الْأَنْصَارُ مَا قَالَتْ عَلِمَ رَسُولُ(5/6)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْقُوَّةَ فَشَقَّ الصَّحِيفَةَ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِذْلَالِ ، وَلِأَجْلِهِ كَرِهَتْ الْأَنْصَارُ دَفْعَ بَعْضِ الثِّمَارِ ، وَالِاسْتِذْلَالُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ
3370 - 3370 - قَالَ : وَإِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الْحَرْبِ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَلَيْسَ هَذَا بِنَقْضٍ مِنْهُ لِلْعَهْدِ .
لِأَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانَ آمِنًا لَا نَعْرِضُ لَهُ .
فَالْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا بِمِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ ، كَمَا لَا يَكُونُ بِهِ الذِّمِّيُّ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ ، وَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ بِهِ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ ، وَهَذَا لَا مَنْعَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ مُجَاهِرًا بِمَا يَصْنَعُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَقْضُ الْعَهْدِ عِنْدَ الْمُجَاهَرَةِ بِالْقِتَالِ .
3371 - وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ مِنْهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَهَذَا وَالْوَاحِدُ سَوَاءٌ .
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُمْتَنِعِينَ ، وَأَصْحَابُهُمْ بِصُنْعِ هَؤُلَاءِ غَيْرُ رَاضِينَ .
3372 - 3372 - فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَانِيَةً بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْ مَلِكِهِمْ وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ نَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ .
لِأَنَّهُ لَيْسَ فَائِدَةُ الْعَهْدِ إلَّا تَرْكُ الْقِتَالِ ، فَإِذَا جَاهَرُوا بِالْقِتَالِ مُتَقَرِّرَيْنِ بِمَنْعَتِهِمْ كَانُوا نَاقِضِينَ بِمُبَاشَرَتِهِمْ ضِدَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْمُوَادَعَةِ .
3373 - فَأَمَّا الْمَلِكُ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ فَهُمْ عَلَى مُوَادَعَتِهِمْ .
لِأَنَّهُمْ مَا بَاشَرُوا سَبَبَ نَقْضِهَا وَلَا رَضُوا بِصَنِيعِ هَؤُلَاءِ فَلَا يُؤْخَذُونَ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ .
3374 - وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا بِإِذْنِ مَلِيكِهِمْ فَقَدْ نَقَضُوا جَمِيعًا الْعَهْدَ ، فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ حَيْثُمَا وُجِدُوا .
لِأَنَّ فِعْلَهُمْ بِإِذْنِ الْمَلِكِ كَفِعْلِ الْمَلِكِ بِنَفْسِهِ .
وَأَهْلُ الْمَمْلَكَةِ تَبَعُ الْمَلِكِ فِي الْمُوَادَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ(5/7)
لِانْقِيَادِهِمْ لَهُ وَرِضَاهُمْ بِكَوْنِهِ رَأْسَهُمْ .
فَإِذَا صَارَ هُوَ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ صَارَ أَهْلُ الْمَمْلَكَةِ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ تَبَعًا لَهُ ، سَوَاءٌ عَلِمُوا بِمَا صَنَعَ مَلِكُهُمْ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ إلَى دَارِنَا قَبْلَ إذْنِ مَلِكِهِمْ فِي الَّذِي أَذِنَ فِيهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَدْ حَصَلَ آمِنًا فِينَا فَيَبْقَى آمِنًا مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْعَتِهِ .
3375 - وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الَّتِي خَرَجَتْ إلَى الْقِتَالِ خَرَجَتْ بِعِلْمِ مَلِكِهِمْ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُخْبِرْ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِهِمْ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ .
لِأَنَّهُمْ حَشَمُهُ يَنْقَادُونَ لَهُ ، وَالسَّفِيهُ إذَا لَمْ يُنْهَ مَأْمُورٌ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُوَادَعَةِ مَنْعُهُمْ إنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ إخْبَارُ الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِهِمْ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِذَا تَرَكَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُمْ بِالْقِتَالِ .
3376 - 3376 - قَالَ : وَلَوْ بَدَا لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ أَنَّ الْقِتَالَ خَيْرٌ فَبَعَثَ إلَى مَلِكِهِمْ يَنْبِذُ إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ نَقْضًا .
لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْحِرْزِ عَنْ الْغَدْرِ فَوْقَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ النَّبْذِ إلَى مَلِكِهِمْ وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى قِتَالِهِمْ .
3377 - وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِمْ حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَبْعَثُ الْمَلِكُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَنْ يُنْذِرُهُمْ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَهُمْ بَعْدَ مَا وَصَلَ الْخَبَرُ إلَيْهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيصَالِ ذَلِكَ إلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ إلَّا بِمُدَّةٍ فَلَا يَتِمُّ النَّبْذُ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى تَمْضِيَ تِلْكَ الْمُدَّةُ ، وَبَعْدَ الْمُضِيِّ لَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْخَبَرَ أَتَاهُمْ .
لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إعْلَامُهُمْ .
وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ إعْلَامُ مَلِكِهِمْ ، ثُمَّ عَلَى مَلِكِهِمْ إعْلَامُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ قِبَلِ مَلِكِهِمْ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ .
3378 - وَلَكِنْ إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ يَقِينًا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَأْتِهِمْ خَبَرٌ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُمْ أَلَّا يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْلِمُوهُمْ .
لِأَنَّ هَذَا شَبِيهٌ بِالْخَدِيعَةِ ، وَكَمَا(5/8)
يَحِقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْخَدِيعَةِ يَحِقُّ عَلَيْهِمْ التَّحَرُّزُ عَمَّا يُشْبِهُ الْخَدِيعَةَ .
3379 - وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِهِمْ ، إمَّا بِجُنْدٍ أَرْسَلُوهُمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ بِرَسُولٍ أَرْسَلُوهُ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ يَنْبِذُونَ إلَيْهِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَطْرَافِهِمْ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ .
لِأَنَّ هُنَاكَ النَّقْضُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِمْ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَدْ كَانَ عَلَى مَلِكِهِمْ أَلَّا يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى
يُخْبِرَ بِهِ أَطْرَافَ مَمْلَكَتِهِ ، يَقُولُ .
3380 - فَإِنْ أَحَاطَ الْعِلْمُ لِأَهْلِ نَاحِيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِ نَاحِيَتِهِمْ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ .
وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا الْحُكْمُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ عَلَيْهِمْ .
لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ نَقْضُ الْعَهْدِ بِمَا صَنَعَهُ مَلِكُهُمْ وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ هَا هُنَا .
3381 - بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ .
لِأَنَّهُ هُنَاكَ الْإِعْلَامُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ الْإِمْهَالُ بِقَدْرِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعْلَامُ .
وَإِذَا كَانَ النَّقْضُ مِنْ قِبَلِهِمْ فَالْإِعْلَامُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ الْمَلِكِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
لِأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا تَكُونُ دَارَ حَرْبٍ وَدَارَ ذِمَّةٍ وَدَارَ أَمَانٍ بِالْمَنَعَةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِسُلْطَانِهَا الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ ، فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ حَرْبِيًّا كَانَتْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ يَحِلُّ سَبْيُ مَنْ فِيهَا إلَّا مَنْ عُرِفَ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ الذِّمَّةِ .
3383 - 3383 - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ إلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ دَارِ غَيْرِ الْمُوَادِعِينَ إلَى دَارِ الْمُوَادِعِينَ بِأَمَانٍ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ .
لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ آمِنًا فِي(5/9)
دَارِ الْمُوَادَعَةِ فَقَدْ الْتَحَقَ بِأَهْلِهَا ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ يَكُونُ آمِنًا فِينَا ، وَإِنْ خَرَجَ بِغَيْرِ اسْتِئْمَانٍ جَدِيدٍ ، فَكَذَلِكَ مَنْ الْتَحَقَ بِهِمْ .
3384 - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهْلُ دَارِهِ مُوَادِعِينَ لِأَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا .
لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَادَعَةَ بَيْنَهُمْ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّا لَوْ دَخَلْنَا دَارَ مُوَادِعِينَا فَوَجَدْنَا فِيهِمْ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ لَنَا عَلَيْهِ سَبِيلٌ فَإِذَا كَانَ هُوَ آمِنًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا بِخُرُوجِهِ إلَى دَارِنَا .
3385 - 3385 - وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مِنْ دَارِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ مُوَادِعِينَا بِالْمُوَادَعَةِ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ دَارِهِ وَبَيْنَ مُوَادِعِينَا كَانَ فَيْئًا لَنَا .
لِأَنَّهُ لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّا لَوْ وَجَدْنَاهُ فِي دَارِهِ كَانَ فَيْئًا لَنَا وَأَنَّ لَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى أَهْلِ دَارِهِمْ وَنَأْسِرَهُمْ ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ هُوَ إلَيْنَا كَانَ فَيْئًا لَنَا وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمُوَادَعَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا .
3386 - 3386 - وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ مُوَادِعِينَا دَارَ الَّذِينَ وَادْعُوهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَقَاتَلْنَا أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ فَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا مِنْ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِيكُمْ دَخَلْت إلَى هَؤُلَاءِ لِمُوَادَعَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَانَ هُوَ آمِنًا ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْمُوَادَعَةَ كَدَعْوَاهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ .
3387 - وَلَوْ قَالَ : كُنْت ذِمِّيًّا دَخَلْت إلَى هَذِهِ الدَّارِ لِلتِّجَارَةِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ أَسْرُهُ وَقَتْلُهُ .
3388 - 3388 - وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ دَارِ مُوَادِعِينَا أَسَرَهُمْ أَهْلُ دَارٍ أُخْرَى فَأَدْخَلُوهُمْ دَارَهُمْ ، أَوْ أَخْرَجُوهُمْ عَلَى أَهْلِ دَارِهِمْ فَحَارَبُوهُمْ وَأُلْحِقُوا بِأَهْلِ دَارٍ أُخْرَى ثُمَّ ظَهْرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَانُوا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ .
لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى حِينَ الْتَحَقُوا بِهِمْ مُنَابِذِينَ أَهْلَ دَارِهِمْ مُحَارِبِينَ لَهُمْ فَلَا يَبْقَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ ؛(5/10)
لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ بِاعْتِبَارِ دَارِهِمْ .
3389 - وَكَذَلِكَ الْأُسَرَاءُ فَقَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ فِي يَدِ أَهْلِ دَارٍ أُخْرَى لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الدَّارِ الْأُخْرَى بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلُوا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ .
لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الَّتِي دَخَلُوهَا [ بِأَمَانٍ ] .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا إلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ عَلَى حَالِهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسَرْنَاهُمْ فَأَدْخَلْنَاهُمْ دَارَنَا ، أَوْ خَرَجُوا إلَيْنَا مُنَابِذِينَ لِأَهْلِ دَارِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا .
3390 - 3390 - وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَزَوَّجَتْ فِي أُولَئِكَ الْآخَرِينَ فَنَقَلُوهَا إلَيْهِمْ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ فَهِيَ وَأَوْلَادُهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ .
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا وَزَوْجُهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ .
أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ فِينَا مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا أَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا .
3391 - 3391 - وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا سَبِيلٌ .
لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ تَبَعًا لِزَوْجِهَا .
3392 - وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ جَارِيَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ خَرَجَتْ وَأَوْلَادُهَا بِغَيْرِ أَمَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى أَوْلَادِهَا سَبِيلٌ .
لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْمُوَادَعَةِ تَبَعًا لِزَوْجِهَا .
3393 - وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ جَارِيَةً مِنْ أَهْلِ الدَّارِ الْأُخْرَى فَهَذِهِ وَالْمَنْكُوحَةُ سَوَاءٌ .
لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا(5/11)
كَتَبَعِيَّةِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ
3394 - 3394 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ دَارِ الْمُوَادَعَةِ غَلَبُوا عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى فَصَارُوا عَبِيدًا لَهُمْ ، أَوْ جَعَلُوهُمْ ذِمَّةً لَهُمْ ، يُؤَدُّونَ إلَيْهِمْ الْخَرَاجَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ ، أَمَّا إذَا صَارُوا عَبِيدًا لَهُمْ فَلِأَنَّ الْأَمَانَ بِسَبَبِ الْمُوَادَعَةِ ثَبَتَ لِلْأَمْلَاكِ كَمَا يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ .
وَأَمَّا إذَا صَارُوا ذِمَّةً لَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِهِمْ مَقْهُورِينَ تَحْتَ أَيْدِيهمْ ، بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ دَارَ الذِّمَّةِ تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ لَا سَبِيلَ لَنَا عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ لَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هُمْ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى بِلَادِ الْمُوَادِعِينَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى الدَّارَيْنِ جَمِيعًا .
لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْهُورِينَ فِي الدَّارَيْنِ لِلْقَاهِرِينَ .
وَلَا مُوَادَعَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَاهِرِينَ .
وَهَذَا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الدَّارِ هُوَ السُّلْطَانُ فِي ظُهُورِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ الْمُوَادِعِينَ فَبِظُهُورِهِمْ عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى كَانَتْ الدَّارُ دَارَ الْمُوَادَعَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ سُلْطَانٍ آخَرَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ .
3395 - 3395 - قَالَ : وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَالًا عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَهَذَا الْمَالُ فَيْءٌ وَفِيهِ الْخُمْسُ .
لِأَنَّهُ مُصَابٌ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ .
3369 - بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلُوا إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْجَيْشُ بِسَاحَتِهِمْ فَوَادَعُوهُ مُدَّةً عَلَى مَالٍ يُعْطُونَهُ .
لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ غَيْرُ الْمُصَابِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ ، وَلَكِنْ بَذَلُوهُ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ فَأَخَذَهُ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ وَذُلِّ الْمُشْرِكِينَ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ .
3397 - 3397 - وَاَلَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا وَادَعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ يُعْطُونَهُ فَلَا(5/12)
بَأْسَ بِأَخْذِ ذَلِكَ الْمَالِ مِنْهُمْ .
لِأَنَّهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ صَارُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ .
3398 - بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْجُعَلِ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَهَذَا لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَقٌّ حَدًّا فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِخِلَافِ قَتْلِ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ هَؤُلَاءِ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ جَازَ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ ، وَأَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ ، فَكَذَلِكَ أَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ .
3399 - 3399 - وَإِنْ صَالِحَ الْإِمَامُ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ رِجَالِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ .
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمُوَادَعَةِ أَخْذُ مَالٍ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ بِحَالٍ ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ ، فَهَذَا إظْهَارُ دَلِيلٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِمْ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ .
وَإِنْ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِهَذَا أَيْضًا .
لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي نِسَائِهِمْ الْإِجْبَارُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي رِجَالِهِمْ الْقَتْلُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا ، فَبِهَذَا الصُّلْحِ يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِمْ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الصُّلْحِ اشْتِرَاطُ الْمَالِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرُّءُوسَ الَّتِي نَأْخُذهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ غَيْرُ مُعَيَّنِينَ ، وَبِالْمُوَادَعَةِ صَارُوا آمِنِينَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ .
3401 - وَلَكِنَّا نُجْبِرُ مَنْ أَخَذْنَا مِنْهُمْ بِحُكْمِ الشَّرْطِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَحْرَارًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالِحُوهُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ كُلَّ سَنَةِ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ .
لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ .
3402 - فَإِذَا أُخِذُوا كَانُوا عَبِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُسْتَرَقُّونَ بَعْدَ مَا صَارُوا مِنْ(5/13)
أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، فَاشْتِرَاطُ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ كَاشْتِرَاطِ مَالٍ آخَرَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، وَلَكِنْ إنْ أُخِذَ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ فَيْئًا فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ إنْ أُخِذُوا كَانُوا مَمَالِيكَ لِلْمُسْلِمِينَ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ بِأَعْيَانِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَمْ يُكْرَهُ ذَلِكَ .
لِأَنَّهُ
لَا رِقَّ عَلَى رِجَالِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ بِحَالٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ خَرَاجٍ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ ، سَوَاءٌ كَانُوا بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ .
3404 - 3404 - وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَطَلَبُوا إلَيْهِ الْمُوَادَعَةَ فَحَالُ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُوَادَعَةِ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .
لِأَنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ ، أَوْ الْإِسْلَامُ ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُرْتَدِّينَ .
3405 - إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِنَا فِي كُلِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ عَلَى هَذَا ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَأْخُذْ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ فَيَضَعُهَا مَوْضِعَ الْخَرَاجِ .
وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ الْمَالِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُوَادَعَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا ، وَفِي الْمُرْتَدِّينَ لَا يَتَعَيَّنُ الْمِائَةُ الرَّأْسِ مِنْ رِجَالِ عَبِيدِهِمْ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُقْتَلُونَ كَأَحْرَارِهِمْ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ عَبِيدِهِمْ ، وَعَبِيدِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَيْسُوا كَأَحْرَارِهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ ، فَإِنَّا إذَا ظَهْرنَا عَلَى عَبِيدِهِمْ لَا نَقْتُلهُمْ فَكَانَ فِي تَعْيِينِ مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ الْعَبِيدِ فَائِدَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ تَمَلُّكُ الْمُسَمَّى عَلَى وَجْهٍ يُسْتَدَامُ الْمِلْكُ فِيهِمْ ، وَعَبِيدُهُمْ مَحَلُّ ذَلِكَ دُونَ أَحْرَارِهِمْ .
وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ فِي الْفَرْقِ إلَى حَرْفٍ آخَرَ قَدْ طَوَّلَهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ رَاجِعٌ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَكَانَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا حَدًّا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ أَوْ رَسُولًا ، أَوْ غَيْرَ رَسُولٍ لَمْ نَدَعْهُ يَرْجِعُ إلَى(5/14)
دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَكِنْ نَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَقَّ قَتْلَهُ قِصَاصًا إذَا لَحِقَ
بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ، فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَصْلُ الْإِسْلَامِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ إلَيْنَا بِأَمَانٍ رَسُولًا أَوْ غَيْرَ رَسُولٍ مَكَّنَّاهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِهِ ، فَقَدْ { كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَمَانٍ فَيُؤَمِّنُهُمْ وَيَفِي لَهُمْ بِالْأَمَانِ } ، فَعَرَفْنَا أَنَّ قَتْلَهُمْ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ حَدًّا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الْجَبْرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا اُسْتُرِقُّوا ، وَأَنَّ مِنْ تَهَوَّدَ مِنْهُمْ ، أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَكْلُ ذَبِيحَتِهِ وَلَا وَطْءُ النِّسَاءِ مِنْهُمْ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، بِخِلَافِ الْعَرَبِ ، وَالْحُكْمُ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ يَكُونُونَ فَيْئًا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا اُسْتُرِقُّوا ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ وَيَحِلُّ وَطْءُ نِسَائِهِمْ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ قَتْلَهُمْ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ حَدًّا .
3406 - فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ رِجَالِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ قُلْنَا يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بَعْدَ الْأَمَانِ وَذَلِكَ عَبِيدُهُمْ دُونَ أَحْرَارِهِمْ ، يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ أَخَذْنَا مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ أَحْرَارِهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَقْتُلَهُمْ .
لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ ، وَبَعْدَ الْأَمَانِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُمْنَعُ قَتْلُهُمْ بِسَبَبِ الْأَمَانِ ، فَلِهَذَا نَأْخُذُ الْمِائَةَ الرَّأْسِ مِنْ أَحْرَارِهِمْ ثُمَّ نَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمُوا وَإِلَّا نَقْتُلُهُمْ .
3407 - 3407 - وَالْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ كَالْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ خَرَاجٌ .
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ طَلَبُوا أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا جَازَ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
{ وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ نَجْرَانَ ، وَهُمْ نَصَارَى مِنْ الْعَرَبِ ، عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ .
} وَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ وَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ فَقَالَ : هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ .
فَإِذَا تَبَيَّنَّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ جَوَازُ أَخْذِ الْخَرَاجِ مِنْهُمْ جَوَّزْنَا أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَادَعَةِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَرَاجِ .
وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُقَاتِلَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا نَقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُقَاتَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ(5/15)
أَبَوْا فَالْجِزْيَةُ .}
3408 - 3408 - فَإِنْ وَادَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، ثُمَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمِائَةَ الرَّأْسَ مِنْ أَرِقَّائِهِمْ لَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ .
لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ .
3409 - وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، وَإِنْ أَعْطَوْهُ قِيمَةَ الرُّءُوسِ مِنْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ .
3410 - 3410 - وَإِنْ عَزَلُوا فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَقَالُوا : آمِنُونَا عَلَى هَؤُلَاءِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ جَائِزٌ .
3411 - 3411 - وَكُلُّ مُوَادَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُوَادَعَاتِ لَمْ يَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهَا جُعْلًا فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا مَتَى شَاءَ إذَا رَأَى الْحَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ وَإِمْهَالٍ حَتَّى يَصِلَ الْخَبَرُ إلَى أَطْرَافِهِمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَادَعَةُ عَلَى جُعْلٍ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا مَتَى شَاءَ أَيْضًا .
وَلَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجُعْلِ .
حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَقَبَضَهَا كُلّهَا ثُمَّ أَرَادَ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بِمَدِّ سَنَةٍ فَعَلَيْهِ رَدُّ ثُلُثَيْ الْمَالِ .
أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ عَقِبَ الْمُوَادَعَةِ فِي النَّقْضِ لَزِمَهُ رَدُّ جَمِيعِ الْمَالِ ، فَكَذَلِكَ إذَا بَدَا لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ .
وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ انْتَهَتْ الْمُوَادَعَةُ وَحَلَّ قِتَالُهُمْ بِغَيْرِ نَبْذِ الْأَمَانِ ، إلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ آمِنٌ ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ حَتَّى يَعُودَ إلَى مَأْمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ آمِنًا فِي دَارِنَا فَمَا لَمْ يَبْلُغْ مَأْمَنَهُ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .(5/16)
161 - 161 - بَابُ الْمُوَادَعَةِ مِمَّا يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ فَيَسَعُهُمْ قِتَالُهُمْ بَعْدَهُ ، أَوْ لَا يَسَعُ 3412 - قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَوْ أَنَّ جُنْدًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَاصَرُوا بَعْضَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ فَخَافَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَقَالُوا لَهُمْ : نُعْطِيكُمْ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَنْصَرِفُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ فَرَضَوْا بِهِ وَقَبَضُوا الْجُعْلَ ، ثُمَّ إنَّ الْمُسْلِمِينَ رَأَوْا مِنْهُمْ عَوْرَةً قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ وَبَعْدَ مَا انْصَرَفُوا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهُوا إلَى بِلَادِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَغَرَّ مَا كَانُوا ، فَيَقْتُلُونَ وَيَسْبُونَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ .
لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا آمَنُوهُمْ وَإِنَّمَا فَدَوْا أَنْفُسَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحَاطَةِ بِهِمْ وَأَخْذِ مَالِهِمْ ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَصِفُوا مِنْهُمْ إذَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } .
وَقَالَ تَعَالَى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } .
ثُمَّ النَّبْذُ إلَيْهِمْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ ، وَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَالًا ، لَا إذَا أَعْطَوْهُمْ مَالًا رِشْوَةً عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ .
3413 - 3413 - وَلَوْ كَانُوا قَالُوا لَهُمْ : نُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَنْصَرِفُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ ، أَوْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ صَالِحُونَا عَلَى أَنْ تُعْطُونَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ نَنْصَرِفَ عَنْكُمْ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي(5/17)
لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ، أَوْ يَرْجِعَ الْقَوْمُ إلَى بِلَادِهِمْ لِلصُّلْحِ وَالْمُوَادَعَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ، فَإِنَّ قِتَالَهُمْ بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ يَكُونُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ .
وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ ، فَيَتَنَاوَلُ الْجَانِبَيْنِ ، سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ ، أَوْ الْمُشْرِكُونَ .
3414 - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ نُسَالِمُكُمْ ، أَوْ نُتَارِكُكُمْ ، أَوْ نُوَادِعُكُمْ ، أَوْ تُؤَمِّنُونَنَا وَنُؤَمِّنُكُمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَحِلَّ قِتَالُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ نَبْذٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِرَاطِهِ إذَا أَعْطَوْهُمْ مَالًا عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُوَادَعَةِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ إلَى أَنْ يَبْلُغُوا مَأْمَنَهُمْ فَإِذَا بَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا ، وَانْصِرَافُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَكُونُ بِوُصُولِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَمَأْمَنِهِمْ عَادَةً ، وَفِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَنْصَرِفُونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ .
3415 - وَإِنْ قَالُوا نُعْطِيكُمْ كَذَا عَلَى أَلَّا تُقَاتِلُونَا حَتَّى تَنْصَرِفُوا عَنَّا فَهَذَا وَذِكْرُ الْمُصَالَحَةِ وَالْمُوَادَعَةِ سَوَاءٌ .
لِأَنَّ الْمُقَاتَلَةَ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَفِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ اشْتِرَاطُ تَرْكِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُوَادَعَةَ ،
وَالتَّصْرِيحُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ كَالتَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ .
3416 - وَإِنْ قَالُوا نُعْطِيكُمْ كَذَا عَلَى أَلَّا تَقْتُلُوا مِنَّا أَحَدًا حَتَّى تَنْصَرِفُوا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا شَهْرًا .
لِأَنَّ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ ، الْمُسْلِمِينَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ أَمَانًا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً .
3417 - 3417 - وَلَوْ قَالُوا نُصَالِحُكُمْ ، أَوْ نُوَادِعُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كَذَا عَلَى أَنْ تَكُفُّوا عَنَّا شَهْرًا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ، أَوْ يَمْضِيَ الْوَقْتُ .
لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْمُدَّةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الْمُصَالَحَةِ(5/18)
وَالْمُوَادَعَةِ وَلَكِنَّ الْمُوَادَعَةَ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهَا حُرْمَةُ الْقِتَالِ ، وَالْحُرُمَاتُ تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَمَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ لَا يَنْتَهِي الْأَمَانُ .
ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا فِي غُرَّةِ الْهِلَالِ فَالْمُعْتَبَرُ شَهْرٌ بِالْهِلَالِ ، نَقَصَ ، أَوْ لَمْ يَنْقُصْ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا .
لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ فِي الشُّهُورِ أَصْلٌ ، وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ عَنْهُ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَالْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ لَا مَعَ قِيَامِهِ .
3419 - 3419 - وَإِنْ كَانُوا صَالَحُوهُمْ عَلَى سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غُرَّةِ الْهِلَالِ فَهُوَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ .
} وَإِنْ كَانَ [ ذَلِكَ ] فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَشَهْرٌ بِالْأَيَّامِ فَيُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ ثُمَّ يُحْسَبُ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ عَشَرَ تَمَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِهَذِهِ الْأَيَّامِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْتَبِرُ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِجَارَةِ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ ، فَهُمَا يَقُولَانِ إنَّمَا يُصَارُ إلَى الْبَدَلِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَوَاتِ الْأَصْلِ وَذَلِكَ شَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ ، فَيَكُونُ دُخُولُ الشَّهْرِ الثَّانِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ كَدُخُولِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، وَهَكَذَا كُلُّ شَهْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ لَهُمْ نُعْطِيكُمْ كُرَاعَنَا وَسِلَاحَنَا عَلَى أَنْ تُعْطُونَا أَلْفَ دِينَارٍ وَتَنْصَرِفُوا عَنَّا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ .
لِأَنَّ مَا ذَكَرُوا بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَرَى بَيْنَهُمَا .
وَالْبَيْعُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ أَمَانٍ بَيْنَ(5/19)
الْمُتَبَايِعَيْنِ ثُمَّ سَأَلُوهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ .
وَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ أَمَانٍ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
3421 - وَإِنْ كَانُوا قَالُوا نُصَالِحُكُمْ ، أَوْ نُتَارِكُكُمْ ، أَوْ نُسَالِمُكُمْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَنْ تُعْطُونَا أَلْفَ دِينَارٍ وَتَنْصَرِفُوا عَنَّا فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ، أَوْ يُبَلِّغُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ .
لِوُجُودِ لَفْظٍ هُوَ دَلِيلُ الْأَمَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَبِانْضِمَامِ الْبَيْعِ إلَى الْمُصَالَحَةِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْمُصَالَحَةِ .
3422 - فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ وَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ .
لِأَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا مِنْهُمْ مَالًا ، وَالْمُصَالَحَةُ إذَا كَانَ فِيهَا أَخْذُ مَالٍ فَالنَّبْذُ فِيهَا لَا يَتِمُّ بِدُونِ رَدِّ الْمَالِ إلَيْهِمْ .
وَلَكِنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَعْرِضُوا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَرُدُّوا مَا أَخَذُوا مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ ، وَيَرُدُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ ثُمَّ يُقَاتِلُونَهُمْ ، فَإِنْ رَضُوا بِذَلِكَ تَرَادُّوا ثُمَّ قَدْ تَمَّ النَّبْذُ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ ، وَإِنْ أَبِي الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَرُدُّوا مَا أَخَذُوا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ ثُمَّ يُقَاتِلُوهُمْ وَلَا يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذُوا .
لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ امْتَنَعُوا مِنْ رَدِّ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَقَدْ رَضُوا بِأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِمُقَابَلَتِهَا فَتَبْقَى الْمُصَالَحَةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُتَعَرِّيَةً عَنْ الْبَدَلِ ، وَالْقِتَالُ فِيهِ يَحِلُّ بَعْدَ النَّبْذِ مِنْ غَيْرِ رَدِّ شَيْءٍ .
3423 - 3423 - وَلَوْ صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَبَلَغُوا مَأْمَنَهُمْ ، ثُمَّ دَخَلَتْ سَرِيَّةٌ دَارَ الْحَرْبِ وَأَصَابُوا ذَلِكَ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ فَلَيْسَ لِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ سَوَاءٌ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، أَوْ بَعْدَهَا .
لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُمْ ذَلِكَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ مَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ ، وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيمَا يَجِدُهُ فِي الْغَنِيمَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا أَخْذَ مِنْهُ قَهَرَا لَا فِيمَا أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ طَوْعًا ؛ لِأَنَّ مَا أُخِذَ مِنْهُ قَهَرَا قَدْ صَارَ هُوَ فِيهِ مَظْلُومًا .
وَعَلَى الْغُزَاةِ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ ، وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِإِعَادَتِهِ إلَى يَدِهِ .
فَأَمَّا مَا أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِمَا أُخِذَ مِنْهُ قَهْرًا ، وَحَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
أَلَا تَرَى - أَنَّهُمْ لَوْ أَعْطَوْا فِي فِدَاءِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ أَمْتِعَتِهِمْ ثُمَّ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ .
وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الَّذِي يُقَالُ إنَّ سَبَبَ(5/20)
وُصُولِ هَذَا الْمَالِ إلَى أَيْدِيهمْ كَانَ ظُلْمًا مِنْهُمْ .
وَهُوَ مُحَاصَرَةُ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ هَذَا كَالْمَأْخُوذِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ قَهْرًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى مَوْجُودٌ فَقَدْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي حَبْسِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَادَاهُمْ الْمُسْلِمُونَ بِمَالٍ .
وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَدْخُلُوا بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ دَارَ الْحَرْبِ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ أَهْلُ السَّرِيَّةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ .
لِأَنَّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ صَارَ الْمَأْخُوذُ مَمْلُوكًا لَهُمْ إذَا الْمُلَّاكُ أَعْطَوْا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِثْلُ هَذَا السَّبَبِ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالتَّمَلُّكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ،
بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ هُوَ الْقَهْرُ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يُحْرِزُوهُ بِدَارِهِمْ .
ثُمَّ يَكُونُ هَذَا فَيْئًا لِأَهْلِ السَّرِيَّةِ يُخَمَّسُ .
لِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ مَنَعَةٍ فِي دَارِنَا فَلَا أَمَانَ لَهُمْ مِنَّا .
وَإِذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِي أَيْدِينَا .
3424 - 3424 - وَلَوْ كَانُوا صَالَحُوا رَجُلًا حَرْبِيًّا ، أَوْ قَوْمًا غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ مَتَاعًا فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى مِنْ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَدْ دَخَلُوا دَارَنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذُوهُمْ أَرِقَّاءَ - وَمَا مَعَهُمْ ، فَإِنَّ الْمَتَاعَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ مَنَعَةٍ .
لِأَنَّ حُكْمَ قَبْضَتِهِمْ إنَّمَا يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتْهُمْ ، وَذَلِكَ بِالْوُصُولِ إلَى دَارِهِمْ ، أَوْ بِأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُهُمْ ، بَلْ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الدَّافِعِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَهُ فِي فِدَاءِ أَسِيرٍ حُرٍّ ، وَالْأَسِيرُ الْحُرُّ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ ، فَلَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مُبَادَلَةً حَقِيقِيَّةً حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ بِأَدْنَى الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَازِ لِيَتِمَّ الْقَبْضُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ صَاحِبَ ذَلِكَ الْمَتَاعِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ مَا خَلَّوْا سَبِيلَ الْأَسِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِسَبَبٍ هُوَ ظُلْمٌ ، وَهُوَ حَبْسُ الْأَسِيرِ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ [ عَلَيْهِ ] .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى دَارِهِمْ أُمِرُوا بِرَدِّ ذَلِكَ إلَى أَهْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُؤْمَرُونَ بِرَدِّهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفَصْلَيْنِ .
3425 - وَلَوْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ ، كَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ إذَا(5/21)
أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا .
فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانُوا
أَهْلَ مَنَعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُونُوا فِيمَا أَخَذُوا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجْرِي فِي عَسْكَرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمِينَ لِذَلِكَ طَوْعًا ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَنَعَتْهُمْ ، فَلَا يُؤْثَرُ مَعْنَى الظُّلْمِ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِمْ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْقَهْرِ ، فَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُمْ بِالْقَبْضِ إذَا كَانُوا ظَالِمِينَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ أَعْطَى بِطِيبِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّشْوَةِ وَالْمَالِ الَّذِي يُعْطَى بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُصَانَعَةِ .
وَاَلَّذِي يُوضِحُ هَذَا أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ فَدَخَلَ مُسْلِمٌ عَسْكَرَهُمْ ، وَبَاعَهُمْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ كَانَ جَائِزًا .
وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، فَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْفَرْقِ .
3426 - 3426 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَنَعَةِ مِنْهُمْ أَخَذُوا قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا لَهُمْ : لَنَقْتُلَنَّكُمْ ، أَوْ تُعْطُونَا أَمْوَالَكُمْ ، أَوْ تَدُلُّونَا عَلَيْهَا فَفَعَلُوا ذَلِكَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْرِكُونَ ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَنْقَذُوا تِلْكَ الْأَمْوَالَ مِنْ أَيْدِيهمْ رَدُّوهَا عَلَى أَهْلِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ .
لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا الْمَالَ هَا هُنَا قَهْرًا ، فَإِنَّهُمْ حِينَ أَخَذُوا الْمُلَّاكَ وَقَهَرُوهُمْ فَقَدْ صَارُوا آخِذِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا مَعَهُمْ مِنْ الْمَالِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ، فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إذَا أَسْلَمُوا ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَدُّهُ إذَا أَصَابُوهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْمَالِ أَعْطَى الْمَالَ بِطِيبِ نَفْسِهِ فِي حَالِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُمْ بِالْقَبْضِ إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنَعَةِ ، لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ
3427 - 3427 - وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَحَاطَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا لَهُمْ : نَخْرُجُ عَنْكُمْ بِنِسَائِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَنُسَلِّمُ لَكُمْ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا ، فَخَرَجُوا عَلَى هَذَا ، أَوْ لَمْ يَخْرُجُوا ، أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ رَأَوْا عَوْرَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ(5/22)
وَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ .
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُمْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ وَيُسَلِّمُونَ الْمَدِينَةَ إلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَمَانٍ بَيْنَهُمْ ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْقَهْرِ ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ .
3428 - وَلَوْ قَالُوا نُصَالِحُكُمْ عَلَى أَنْ نَخْرُجَ عَنْكُمْ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ .
لِأَنَّ لَفْظَ الْمُصَالَحَةِ دَلِيلُ اشْتِرَاطِ الْأَمَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ .
3429 - فَإِنْ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ ، فَلَمَّا صَارُوا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ رَأَوْا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَوْرَةً فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَنْبِذُوا إلَيْهِمْ .
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ خُرُوجُهُمْ بِذَرَارِيِّهِمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ صُلْحٍ .
وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ إذَا رَجَعَ إلَى عُرْفِ النَّاسِ ، وَبِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ إلَى بَابِ الْمَدِينَةِ لَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا يَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمَانِ .
3430 - وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِحَيْثُ يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَوْلَا الصُّلْحُ فَأَمَّا إذَا وَصَلُوا إلَى مَوْضِعٍ لَا يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ وَالصَّيْرُورَةِ نَحْوِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ .
لِأَنَّ الْأَمَانَ الثَّابِتَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِذَلِكَ الصُّلْحِ قَدْ انْتَهَى
بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ الصُّلْحِ أَنْ يَتَمَيَّزَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرَ ، وَقَدْ حَصَلَ التَّمَيُّزُ حَقِيقَةً وَحُكْمُهَا بِهَذَا الْقَدْرِ .
3431 - 3431 - وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ فَأَحْدَقَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مَا فِي الْعَسْكَرِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ ، أَوْ يَرْتَحِلُوا فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ حَتَّى يَدْخُلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ .
؛ لِأَنَّ الِارْتِحَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِهِمْ ، وَبِوُصُولِ(5/23)
الْمُسْلِمِينَ إلَى مَأْمَنِهِمْ ، وَمَأْمَنُهُمْ دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَفِي الْأَوَّلِ أَهْلُ الْحَرْبِ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَارْتِحَالُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ إنَّمَا يَتِمُّ بِوُصُولِهِمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ [ عَنْ الْآخَرَ ] فَكَانَ قَوْلُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ تَرْجِعُوا عَنَّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ حَتَّى تَرْجِعُوا عَنَّا إلَى بِلَادِكُمْ - لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ .
3432 - 3432 - وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمَحْصُورُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَالَحُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ بِنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ حَتَّى يَبْلُغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ .
لِأَنَّ الشَّرْطَ هَكَذَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَالشَّرْطُ أَمْلَكُ .
3433 - فَإِنْ خَرَجُوا عَنْهُمْ إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ أَقَامَ [ الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ ] قَدْرَ الْمَسِيرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا شَرَطُوا لَهُمْ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ نَبْذٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
لِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ لَيْسَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمَكَانَ ، وَلَكِنَّ الْأَمَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِمْ فِي مُدَّةِ السَّيْرِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُبْتَنَى الْحُكْمُ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا .
فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَدْرُ الْمَسِيرِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَطْ .
3434 - قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ الْمَسِيرِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَمِقْدَارُ الِانْصِرَافِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمْ فِيهِ .
لِأَنَّ مَقْصُودَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي شَرْطِ الْأَمَانِ أَلَّا يَتَمَكَّنُوا مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ ، بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا بِمُدَّةٍ مَدِيدَةٍ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
فَإِنْ قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَرَطُوا الْخُرُوجَ عَنْهُمْ إلَى الْكُوفَةِ فَأَتَوْا الْبَصْرَةَ ، أَوْ مَكَّةَ ، أَوْ الشَّامَ ، وَذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِمْ فَيُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ نَبْذٍ .
وَفِي هَذَا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي اعْتِبَارِ عَيْنِ الْمَكَانِ الْمُسَمَّى .
وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُمْ فِي اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ ، ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ لَوْ
صَالَحُوهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ عَلَى أَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ شَهْرًا أَوْ عَلَى [ أَنْ يَذْهَبُوا ] فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ شَهْرًا فَلَمَّا كَانُوا عَلَى مَسِيرَةِ أَيَّامٍ أَقَامُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ شَهْرًا ، ثُمَّ أَغَارُوا عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمُضِيِّ(5/24)
الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَوْضِعٍ يَأْمَنُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرَ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَا لَوْ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ بَعْدُ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَرِهْنَا فِيهِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ ، فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ .
لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالصُّلْحِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ ، وَأَمَانُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ نَافِذٌ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ ذِمَّتِهِمْ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : { وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَازَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة أَنْ يَكُرُّوا عَلَيْهِمْ فَيُقَاتِلُوهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرَجِّعُ وَالْمَآبُ .
162 - 162 - بَابٌ مِنْ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِغَصْبِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا لَا يَكُونُ 3435 - وَإِذَا وَادَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَى الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ رَأْسٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا آمِنِينَ فِي دَارِهِمْ لَا يُجْرِي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ ، وَلَا يُغِيرُونَ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَادَعَةُ عَلَى هَذَا إلَّا لِخَوْفٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُوَادَعَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ بِأَرْفَقِ الطَّرِيقَيْنِ ، وَالْتِزَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إذَا شَرَطُوا أَنْ يَكُونُوا مُتَقَرِّرِينَ فِي(5/25)
دَارِهِمْ ، لَا يَجْرِي الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُمْ ، فَلَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ إلَى ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ .
3436 - وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمِائَةُ الرَّأْسِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْسَاطِ الرُّءُوسِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، إنْ أَتَوْا بِالرُّءُوسِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَجَبَ قَبُولُهَا مِنْهُمْ ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي اشْتِرَاطِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنْ أَعْطَوْا بِالرُّءُوسِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حِنْطَةً ، أَوْ كُرَاعًا ، أَوْ سِلَاحًا ، أَوْ بُرًّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ .
لِأَنَّ قَبُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُبَايَعَةِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الرِّضَاءَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الرُّءُوسِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ .
3437 - 3437 - وَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْذِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُوَادَعَةِ .
لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ الشِّرَاءِ وَهُوَ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى الْمُوَادَعَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْمُوَادَعَةِ أَصْلًا .
3438 - 3438 - قَالَ وَالرُّءُوسُ الْأَوْسَاطُ مِنْ رَقِيقِ أُولَئِكَ الْحَرْبِيِّينَ ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْطُوا الرُّءُوسَ مِنْ غَيْرِ رَقِيقِهِمْ .
؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْعُرْفِ ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَلْتَزِمُونَ تَسْلِيمَ الرُّءُوسِ مِنْ رَقِيقِهِمْ ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا آخَرَ مَعْرُوفًا ، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِهِ .
3439 - 3439 - فَإِنْ أَتَوْهُمْ بِمِائَةِ رَأْسٍ مِنْ أَبْنَائِهِمْ أَوْ نِسَائِهِمْ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ .
لِأَنَّ الْأَمَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ فَصَارُوا بِهِ مَعْصُومِينَ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ .
أَلَا تَرَى ) أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الْأَمَانِ لَمْ يَجُزْ هَذَا الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَمْلِكْهُ الْمُسْلِمُ ، لِأَجْلِ الْأَمَانِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُوَادَعَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُمْ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُمْ الْأَمَانُ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمَلِكُ قَاهِرًا لَهُمْ وَهُمْ جَمِيعًا مُقِرُّونَ لَهُ بِالْمُلْكِ يَبِيعُ وَيَهَبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، فَأَعْطَى الْمَلِكُ مِنْهُمْ مِائَةَ رَأْسٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُقِرُّونَ لَهُ(5/26)
بالعبودية وبهذا الإقرار صاروا عبيداً له ينفذ تصرفه فيهم بالبيع وغيره فلذلك يجوز أخذهم منه في الرءوس المشروطة عليهم في الموادعة ولو لم يكونوا له مقرين بالعبودية فجاء بمائة رأس وقال : هم عبيدي فخذوهم وقال القوم : بل نحن أحرار فإن كانت المائة الرأس مقهورين بحشم الملك في أيديهم حين أتونا بهم فلا بأس بأخذهم لأنهم إن كانوا عبيداً لهم فأخذهم حلال لنا وإن كانوا أحراراً فقد صار قاهراً لهم بقوة السلطنة وقوة الحشم فكانوا عبيداً له أيضاُ وهذا لأن ملكهم إذا كان هو الذي يفعل
بهم هذا وهذا عندهم جائز في حكمهم أن من قهر إنساناً فاستعبده كان عبداً له أجزنا عليهم من ذلك ما أجازوا على أنفسهم لأنهم شرطوا في أصل الموادعة أن أحكامنا لا تجري عليهم وبهذا الشرط كان الجاري عليهم أحكام الشرك فيجزي عليهم من ذلك ما أجازوا على أنفسهم وبهذا الطريق قال أيضاً وإن علمنا أن المائة الرأس من أحرارهم قهروهم في بلادهم واستعبدوهم ثم جاءونا بهم مقهورين فلا بأس بأخذهم لما قررنا ولو كانوا دخلوا جميعاً دارنا بغير أمان إلا بتلك الموادعة كانوا آمنين بها في دارهم فكذلك بعد خروجهم إلى دار الإسلام فإن قهروا منهم مائة رأس بعد ما خرجوا إلينا لم يسعنا أن نأخذ ذلك منهم ولكنا نمنعهم من قهرهم لأن حكم الإسلام ظاهر في دارنا ومن حكم الإسلام ألا يسترق من المستأمنين أحد وهذا لأن هذا القهر ظلم من القاهرين للمقهورين وعلينا دفع الظلم عن المستأمنين على الوجه الذي ندفع به عن المسلمين وأهل الذمة ألا ترى أنهم بعد هذا القهر والاستعباد في دارنا لو أسلموا أمرناهم بتخلية سبيل المقهورين ولو فعلوا ذلك في دارهم ثم أسلموا كانوا عبيداً لهم ومنعة المسلمين في دار الحرب في هذا الحكم بمنزلة دار الإسلام لأن معنى وجوب دفع الظلم موجود في الفصلين واستدل عليه بحديث طاوس قال في كتاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - : من استخمر قوماً أولهم أحرار أو جيران مستضعفون فإن كان قصرهم في بيته حتى يدخل الإسلام بيته فهم له عبيد ومن كان مهملاً يعطي الخراج فهو عتيق ومعنى قوله : استخمر استعبد فبهذا تبين أنه إذا تم قهره إياهم@(5/27)
قبل ظهور حكم الإسلام في دارهم فهم عبيده وإن كان بعده فهم أحرار فإن كان الموادعون خرجوا إلينا ومعهم مائة رأس لا يدري أمقهورون هم أم غير مقهورين وقالوا : هؤلاء عبيدنا جئناكم بهم لتأخذوهم في الفداء وقال القوم : كذبوا نحن أحرار مثلهم فالقول قول المائة الرأس لأن هذا الخلاف بينهم في دار الإسلام وحكم المسلمين ومن حكم
المسلمين أن من لا ندري كيف كانت حاله فالقول قوله في دعوى الحرية لنفسه حتى يقوم عليه حجة الرق فإن شهد شاهدان أنهم عبيد لهم قبلت الشهادة سواء كان الشهود من المسلمين أو من أهل الذمة أو أهل الحرب لأنها تقوم عليهم بالرق وهم أهل الحرب وشهادة أهل الحرب على أهل الحرب حجة إذا كانوا عدولاً في دينهم وإن قال الذين جاءوا بهم : كانوا أحراراً ولكنا قهرناهم بإذن ملكنا في دارنا حتى صاروا عبيداً لنا وقال القوم : ما قهرناهم ولا عرضوا لنا إلا عندكم فالقول أيضاً قولهم لأن قهرهم إياهم حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات ولأنهم يدعون عليهم سبب الرق وهم ينكرون ذلك ودعوى السبب كدعوى الحكم الثابت بالسبب لأن الأسباب تراد لأحكامها لا لأعيانها فلا يقضى برقهم حتى تقوم الحجة للمدعي كما في الفصل الأول وهذا كله بخلاف ما إذا ادّعى بعضهم على بعض ديناً أو عقداً جرى بينهم في دار الحرب وأقام البينة على ذلك فإنا لا نحكم بينهم في شيء من ذلك ما لم يسلموا أو يصيروا ذمة لأن هناك المنازعة بينهم في معاملة جرت حيث لم يكن حكمنا جارياً عليهم فلا يسمع القاضي الخصومة في ذلك ما لم يلتزموا أحكام الإسلام بأن يسلم الخصمان أو يصيرا ذمة فإن أسلم أحدهما أو صار ذمة لم تسمع فيه الخصومة أيضاً أما على الذي لم يسلم فلأنه غير ملتزم حكم الإسلام وأما على الذي أسلم فلوجوب التسوية بين الخصمين وقضية التسوية ألا يقضي عليه لخصمه في حال لا يقضى له على خصمه فأما في مسألة الرق فالمنازعة في سبب باشروه في دار الإسلام وهو قهر الذين جاءوا بهم وفي مثله القاضي يسمع الخصومة بينهم ألا ترى أن بعضهم لو أقر عند البعض أنه كان عبداً له في دار الشرك ثم أبى أن ينقاد له أجبرناه@(5/28)
على الانقياد له كما ينقاد العبد لمولاه لأنه زعم أنه عبد له في دار الإسلام وبمثله لو أقر أحدهم لصاحبه بدين كان عليه في دار الحرب ثم أبى أن يقضيه لم يقض القاضي في ذلك بشيء حتى يسلم الخصمان
أو يصيرا ذمة فبهذا يتضح الفرق ولو قبلنا قول الذين يدّعون الرق على المائة الرأس في دارنا أدى إلى تضاد الأحكام فإن المائة الرأس لو ادّعوا على أولئك القوم بل أنتم عبيد لنا فليس الرجوع إلى قول أحد الفريقين بأولى من الرجوع إلى قول الفريق الآخر فلو قال القوم : هذه المائة الرأس عبيد لنا وقالت المائة الرأس : بل نحن أحرار ولكنا نرضى أن تأخذونا في الفداء لم يسعنا أن نأخذهم لأنهم صاروا في دارنا آمنين والحر الآمن في دارنا لا يجوز استرقاقه بحال رضي بذلك أو لم يرض ألا ترى : أن الذين جاءوا بهم لو قالوا : هم أحرار مثلنا ولكن خذوهم فهم راضون بذلك لم يسعنا أخذهم لهذا المعنى فكذلك في الأول لأنهم في حكم المسلمين أحرار في الوجهين فلا يصيرون مماليك بمجرد دعوى الرق عليهم من غير حجة فإن قالوا حين رأوا المسلمين : لا يأخذونهم نحن عبيدهم كما قالوا وقد كذبنا في ادّعائنا الحرية يسع للمسلمين أن يأخذوهم لأنهم أقروا بعدما أنكروا دعوى الذين ادعوا عليهم الرق والإقرار بعد الإنكار صحيح بمنزلة مجهول الحال إذا ادّعى إنسان أنه عبد له فكذبه ثم صدقه كان عبداً له وإن قال الذين جاءوا بهم أول مرة : هم أحرار فخذوهم فهم راضون بذلك فلما رأوا أن المسلمين لا يأخذونهم قالوا : هم عبيد لنا وصدقهم المائة الرأس فليس يسع المسلمين أن يأخذوهم لأن حريتهم قد تأكدت في دارنا بتصادقهم علينا أولاً ولأنهم على أحد الوجهين إن كانوا عبيداً لهم فقد كانوا عتقوا بقولهم الأول إنهم أحرار وإن كانوا أحراراً فأبعد وإن@(5/29)
قالوا بعد قولهم هم أحرار : كذبنا هم عبيد للملك بعثهم معنا لندفعهم إليكم وصدقهم بذلك المائة الرأس وسع للمسلمين أن يأخذوهم بحقهم لأنهم أقروا بالرق على أنفسهم لغير من أقر بحريتهم وحرية مجهول الحال بإقرار المقر إنما تثبت في حقه خاصة لأن حجة الإقرار لا تعدو المقر فثبت الرق عليهم بإقرارهم به للملك فلهذا جاز أخذهم في الفداء فإن صالحوهم في
الموادعة على مائة رأس ولم يسموا ذكوراً ولا إناثاً وجب القبول منهم إن جاءوا بذكور أو إناث أو مختلطين لإطلاق التسمية عند الإيجاب فإن تقييد المطلق لا يجوز إلا بدليل ولأنه ليس في تسمية الرأس ما ينبىء عن وصف ليتوجه المطالبة عليهم بالأداء بذلك الوصف وهو نظير الرقبة في الكفارات فإن التكفير يحصل بتحرير رقبة ذكراً كان أو أنثى لهذا المعنى وإن جاءوا بصغار فإن كانوا صغاراً قد استغنوا عن الأمهات فاحتاجوا إلى الأب كان مقبولاً منهم وإن جاءوا بمراضع أو فطم لم يقبل منهم وهذا لأنه ليس في الاسم ما ينبىء عن صفة البلوغ فيستوي فيه البالغ وغير البالغ إلا أن المقصود باشتراط الرءوس عليهم من يكون صالحاً للاستخدام فإذا كان بحيث لا يأكل وحده ولا يلبس وحده ولا يتوضأ وحده فما هو المقصود لا يحصل ولا يتم بهم لأنهم يحتاجون إلى من يخدمهم ولا يقومون في الحال بخدمة غيرهم وأما إذا استغنوا عن الأمهات فالمقصود وهو الاستخدام يحصل بهم وكذلك من حيث المالية فإن انتقاص المالية بسبب الصغر إنما يكون قبل@(5/30)
استغناء الصغير عن الأم فأما بعد الاستغناء عن ذلك فالمالية لا تنقص بالصغر عادة فإذا جاءوا بهذا النوع من أوساط رقيقهم وجب القبول منهم ولا يمنع من القبول لمكان أمهاتهم في دار الحرب لأن التفريق بين الصغار والأمهات ها هنا ليس من جهة المسلمين وإنما فعل ذلك المشركون وهو نظير مستأمن في دارنا له جارية ولها ابن صغير فباع الأم دون الابن أو الابن دون الأم من المسلمين جاز الشراء منهم لأن الحربي هو الذي يفرق بينهما دون المسلم ولو لم يشتر أحدهما منه رجع بهما إلى دار الحرب فكان في ذلك عون للمشركين إما بهما أو بنسلهما ومراعاة هذا الجانب أولى من مراعاة جانب التفريق بين الأم والولد الصغير فكذلك ما سبق قال : وإذا شرطوا في الموادعة أن يعطوهم مائة رأس من رقيق المسلمين الذين عندهم فجاءوا برقيقهم أو بقيمة مائة رأس من رقيق المسلمين فللمسلمين
ألا يقبلوا ذلك منهم ولا يكون هذا الإباء نقضاً منهم للعهد لأن المنفعة المشروطة للمسلمين لا تتم بما جاءوا به فإنهم شرطوا ذلك لتخليص رقيق المسلمين من ذلهم وبما جاءوا به من القيمة أو من رقيقهم لا يحصل هذا المقصود وإن كانوا رهنوا عند المسلمين رهناً بذلك فهم في سعة من ألا يدفعوا إليهم رهنهم حتى يأتوا بما شرطوا بمنزلة ما لو شرطوا الجياد ثم جاءوا بالزيوف ففي هذا اللفظ إشارة إلى أن حكم الجنس يثبت في الرهن بالرءوس وهذا لأن الرءوس تثبت في الموادعة باعتبار المالية ديناً والرهن بمثله صحيح وإن كانوا بالغين فقد بينا أن مثله جائز فيما بين المسلمين وأهل الحرب في الأحرار ففي المماليك أولى فإن علم المسلمون أنه ليس عندهم مائة رأس من رقيق المسلمين فحينئذ يقبلون منهم قيمة مائة@(5/31)
رأس من رقيق المسلمين أوساط منهم لأن العجز عن تسليم المسمّى قد تحقق مع بقاء السبب الموجب للتسليم فيجب تسليم القيمة .
قال : ولو كانوا اشترطوا في الصلح مائة قوس أو مائة درع حديد أو مائة سيف فهذا واشتراط مائة رأس سواء في أنه يقبل منهم ما جاءوا به من غير المسمى أو قيمته وكذلك إن شرطوا ذلك من كراع المسلمين وسلاحهم بخلاف ما سبق فإن هناك إذا شرطوا ذلك من رقيق المسلمين لم تقبل القيمة لأن رقيق المسلمين من أهل دار الإسلام وفي اشتراطهم منفعة تخليصهم من أهل الحرب وهذا المقصود لا يحصل بالقيمة فأما الكراع والسلاح فليس من ذلك في شيء سواء شرطوه مطلقاً أو مما كان للمسلمين ألا ترى أن الحربي لو دخل إلينا بأمان ومعه كراع وسلاح وقد كان للمسلمين فأحرزوه لم يكن ممنوعاً من رده إلى دار الحرب ولو كان معه عبد مأسور من مسلم أو معاهد قد أحرزوه لم يكن له أن يرده وأجبر علي بيعه فبه يتضح الفرق بين الفصلين ولو كانوا شرطوا في الموادعة مائة ثوب في كل سنة أو مائة دابة كانت الموادعة فاسدة لأن الثياب أجناس مختلفة والدواب كذلك فالاسم حقيقة يتناول كل ما يدب على الأرض وحكماً يتناول الخيل والبغال والحمير ومع جهالة الجنس لا يصح التسمية في شيء من العقود بخلاف تسمية الرأس فالجنس هناك معلوم فإنما بقيت الجهالة في الصفة وهي لا تمنع صحة التسمية فيما بني أمره على التوسع كالنكاح وأخواتها فينبغي للمسلمين أن ينبذوا إليهم حتى يوادعوهم على أمر بين وإن لم يفعلوا ذلك حتى مضت السنة ووجب الفداء كان ذلك إلى المشركين يعطونهم من أي صنف شاءوا وسطاً من ذلك النوع لأن المال عليهم فيكون القول في بيان الجنس الواجب قولهم كمن أقر لإنسان بثوب كان بيان الجنس فيه إلى المقر ولو أوصى لإنسان بثوب كان بيان الجنس فيه إلى الوارث القائم مقام المورث وهذا لأن بعد مضي المدة يتعين منفعة المسلمين في الرجوع إلى بيانهم في الجنس إذ لو لم يرجع إلى ذلك واعتبرنا الجهالة لم يسلم للمسلمين شيء وبه فارق النكاح فإن هناك وإن دخل بها الزوج لا يرجع بشيء في بيان جنس الثوب إليه لأن هناك
قد وجب ما@(5/32)
هو البدل الأصلي المملوك بالنكاح وهو مهر المثل فاندفع الضرر عنها به فلا حاجة إلى الرجوع إلى بيان الزوج ولو كانت الموادعة على مائة رأس فأقر قوم من أهل الحرب من أحرارهم أنهم عبيد الملك فبعث بهم الملك إلى المسلمين لحقهم وقد علم المسلمون أنهم أحرار الأصل فإن كانوا أقروا بذلك في دار الإسلام لم يلتفت إلى إقرارهم لأنهم حصلوا آمنين في دارنا وقد تأكدت حريتهم المعلومة بذلك فلا يبطل ذلك بإقرارهم بالرق بخلاف ما إذا لم يعرف حالهم فإن هناك بدخولهم إلى دار الإسلام لا تتأكد حريتهم لأنها لم تكن معلومة ألا ترى : أن مجهول الحال في دار الإسلام إذا أقر بالرق على نفسه كان ذلك مقبولاً منه بخلاف ما إذا كان معلوم الحرية في الأصل فأقر على نفسه بالرق .
وإن كانوا أقروا بهذا في دار الحرب طوعاً فهذا والأول سواء إلا أن يكون في حكم المشركين أن من أقر منهم بالرق لإنسان فهو عبد له فإذا كان كذلك كانوا عبيداً يقبلهم في الفداء لأن حريتهم في دار الحرب ليست بحرية قوية ألا ترى : أنها تنتقض بالاسترقاق إذا لم يكن بيننا وبينهم موادعة وبعد الموادعة بيننا وبينهم لا موادعة فيما بينهم للبعض مع البعض فالمقر له يتم استرقاقه للمقرين بالرق إذا كان ذلك من حكمهم فصاروا عبيداً له ولا يتم استرقاقه لهم إذا لم يكن ذلك من حكمهم كما لا يتم ذلك في دار الإسلام لأنه ليس من حكم الإسلام استرقاق الحر ألا ترى : أنهم لو أسلموا بعد هذا الإقرار فإن كان من حكمهم الاسترقاق بسبب الإقرار كانوا عبيداً للمقر له وإذا لم يكن ذلك من حكمهم كانوا أحراراً على ما علم من أصلهم وأوضح هذا بقوم من حكم ملكهم أن السارق يجعل عبداً للمسروق منه فحكم بذلك بينهم ثم أسلموا فإنه يكون السارق عبداً على ما جرى الحكم به سواء كانوا موادعين لنا حين حكم بذلك أو لم يكونوا لأن حكم الإسلام كان لا يجري في ديارهم بالموادعة كما شرطوا ذلك والإقرار في حق المقر يلزم كقضاء القاضي وإذا كان هذا الحكم يثبت بقضاء قاضيهم فكذلك يثبت بإقرار المقر على نفسه بالرق وعلى@(5/33)
هذا لو كانت الموادعة بيننا وبين أهل الدارين من المشركين كل دار لها ملك على حدة ثم أغار بعضهم على بعض فجاءنا كل فريق بمائة رأس ممن أسروهم من الفريق الآخر فإنا نأخذ ذلك منهم لأنه لا موادعة فيما بين الدارين وإنما الموادعة بيننا وبينهم وهم فيما بينهم على ما كانوا عليه قبل الموادعة بينا وبينهم وهم فيما بينهم على ما كانوا عليه قبل الموادعة يملك بعضهم بعضاً بالأسر حتى لو أسلموا أو صاروا ذمة كان ذلك سالماً لهم ولو أرادوا بيعهم في دار الإسلام جاز الشراء منهم فكذلك يجوز أخذهم في الفداء وكذلك إن كانوا أهل دار واحدة وفي حكمهم أن من قهر صاحبه كان عبداً له على ما
هو المعروف بين الديلم فإنهم أهل دار واحدة ثم يغير بعضهم على بعض وهذا لأنه لا موادعة فيما بينهم للبعض مع البعض فالقاهر يملك المقهور إذا تم قهره باعتبار حكم ملكهم ويصير المقهور عبداً له وعلى هذا لو غصب بعضهم مالاً ثم أسلموا واختصموا في ذلك فإن القاضي ينظر في حكمهم قبل أن يسلموا فإن علم أن من حكمهم أن الغاصب يملك المغصوب بالغصب لم يأمر الغاصب برد شيء وإن علم أن ذلك ليس من حكمهم ولكنهم لم يأمروه بالرد لأنهم لم يعلموا به أو لأن المالك لم يخاصمه فإن القاضي يأمره بالرد لأن المباح يملك بالأحرار وإحراز الغاصب باعتبار يده يتم إذا كان من حكم ملكهم أن الغصب من أسباب الملك ولا يتم إحرازه إذا لم يكن ذلك من حكم ملكهم لتمكن المغصوب منه من أن يخاصمه إلى ملكهم ليسترده منه والإسلام بعد تمام الإحراز يقرر الملك وقبل ثبوت الملك لوجود سببه لا يوجب الملك ألا ترى أنهم لو أخذوا مالاً من المسلمين ثم أسلموا قبل الإحراز بدارهم أمروا برده بخلاف ما لو أسلموا بعد الإحراز بدارهم ولو كان استهلكه قبل@(5/34)
أن يسلموا ثم أسلموا لم يكن عليه في ذلك ضمان في الوجهين لأن وجوب الضمان باعتبار العصمة والتقوم في المحل وذلك لم يكن موجوداً فأما وجوب رد العين لا يستدعي العصمة والتقوم في المحل ألا ترى : أن مسلماً لو غصب من مسلم خمراً أمر بردها عليه إذا كانت قائمة بعينها ولو كان استهلكها لم يضمن له شيئاً من مثل أو قيمة فإن كان القوم لا موادعة بينهم وبين المسلمين فخرج الغاصب بالمغصوب إلى دارنا وهو مسلم أو ذمي ثم جاء صاحبه مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً فخاصمه في ذلك لم يكن له عليه سبيل في الوجهين لأنه وإن لم يكن من حكم ملكهم أن الغصب سبب الملك فمن حكم المسلمين أن إحراز مال أهل الحرب الذين لا موادعة لهم بدار الإسلام سبب تام للملك وإن كان القوم في موادعة من المسلمين والمسألة بحالها فإن كانا خرجا إلينا بتلك الموادعة أو خرج أحدهما بتلك
الموادعة وخرج الآخر مسلماً أو ذمياً لم يحكم القاضي بينهما بشيء لأنهما لم يلتزما حكم الإسلام وهذه معاملة كانت جرت بينهم في دار الحرب فهو بمنزلة المعاملة التي جرت بينهم في دار الحرب وإن خرجا مسلمين فحينئذ يأمر الغاصب بالرد لأنه لم يكن من حكم ملكهم أن الغصب من أسباب الملك فلم يتم إحرازه عند الأخذ .
وكذلك لا يتم إحرازه حين أخرجه إلى دارنا لأنه أخرج مال من هو أهل موادعينا وذلك غير موجب للملك فلهذا أمره بالرد قال : بلغنا أن أناساً من المسلمين استعاروا عواري من المشركين فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هموا ألا يردوا عليهم تلك العواري فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : العارية مؤداة والمنيحة مردودة والزعيم غارم فصار هذا أصلاً فيما ذكرنا أنه إذا لم يتم إحرازه قبل أن يصير ذلك الموضوع دار الإسلام فإنه يؤمر برده بعد ما صار ذلك الموضع دار الإسلام ولو أن المغصوب منه خاصم الغاصب إلى ملكهم فزعم@(5/35)
الغاصب أن العين له وأنه لم يغصبه إياه فأقرها ملكهم في يده وكلف المدّعي إقامة البينة فلم يأت ببينة حتى أسلم أهل الدار أو صاروا ذمة يسلم للغاصب ما كان غصبه من ذلك لأن إحرازه قد تم بتقرير ملكهم ليده في تلك العين فلا يبقى للمغصوب منه سبيل إلى العين ما لم يقم البينة ولا ندري أيقدر على ذلك أو لا يقدر وبعد إقامة البينة يعدل شهوده أو لا يعدلون فإن قال المغصوب منه بعدما أسلموا : أنا أقيم البينة على حقي من المسلمين لا يقبل ذلك منه لأنه لما تم إحراز الغاصب قبل الإسلام فملكه تقرر بالإسلام .
وهذا لفقه وهو أن منع ملكهم المغصوب منه من أخذ متاعه من يد الغاصب بمنزلة أخذه منه قهراً ودفعه إلى الغاصب ولو فعل ذلك لم يشكل أنه يتم إحراز الغاصب له لأنه إذا كان يتم إحرازه باعتبار حكم ملكهم فلأن يتم بقوته حين أخذه فدفعه إليه أو منعه منه كان أولى وكذلك لو كان الغاصب أخذ ابناً صغيراً لإنسان منهم لا يعبّر عن نفسه فقال : هو عبدي وقال الأب : هو ابني فهذا وفصل غصب المال سواء في جميع ما ذكرنا وكذلك لو كان ذو اليد يزعم أنه عبده وادّعى رجل أنه ابنه ورأى ملكهم أن يصدق مدّعي البنوة فأخذه ودفعه إليه حتى يأتي الآخر بالبينة أنه عبده ثم أسلموا أو صاروا ذمة فأقام المولى البينة أنه عبده فإن قاضي المسلمين يجعله حرباً ابناً للذي ادّعاه لأن حكم ملكهم قد أخرجه من يده وأبطل ملكه فيه وجعله حراً ابناً للآخر فلا يتمكن من أن يثبت بالبينة ملكاً قد أبطله حكمهم حين كانوا حراً لنا أو موادعين لا يجري عليهم أحكامنا وعلى هذا حكم الميراث فإنه لو مات منهم رجل@(5/36)
ومن حكم ملكهم توريث البنين دون البنات أو البنات دون البنين فحكم بذلك ثم أسلموا فجميع ما صنع ملكهم في ذلك ماض لأنهم كانوا ملتزمين لحكمه راضين به حين حكم بينهم بذلك وكان هو سلطاناً غالباً عليهم فتم ما صنعه بينهم فلا يشتغل بإبطال شيء منه بعد الإسلام وكذلك لو أخذه البنون بغير حكم من ملكهم إلا أن ذلك معلوم من حكمه فهذا وما لو أخذوه بحكمه سواء لأنهم لو خاصموا في ذلك عنده قرره في أيديهم فبمجرد الأخذ يتم إحرازهم لذلك باعتبار حكهمه وقوته ولو كان الآخذ استهلك المأخوذ من حكم ملكهم أنه لا حق له في ذلك فاختصموا عنده وقضي بقيمته للمدّعي فلم يدفعها إليه حتى أسلما فلا شيء له عليه لأن القيمة دين في الذمة ولا يتم الإحراز فيه قبل القبض باعتبار الحكم فكان وجود القضاء به وعدمه سواء ولو أسلموا بعد الاستهلاك قبل القضاء لم يقض القاضي على المستهلك بشيء لانعدام العصمة والتقوم
في المستهلك فكذلك ها هنا وإن كان المغصوب عبداً فأعتقه الغاصب حين سلمه له ملكهم وخلى سبيله ثم أقام المدّعي البينة على حقه فأخذه بقضاء ملكهم ثم أسلموا جميعاً كان عبداً للمدّعي وكان عتق المدّعي عليه باطلاً إما لأن إعتاق الحربي عبده في دار الحرب غير نافذ إذا كان من حكم ملكهم ألا يمنع المعتق من استرقاق المعتق أو لأنه صار مقهوراً لحكم ملكهم لكونه عبداً للمدّعي ولو كان حر الأصل فأخذه أحد وأقام البينة أنه عبد له فقضى به ملكهم له كان عبداً له فكذلك إذا كان معتقاً فقضى الملك بأنه عبد للمدّعي وسلمه إليه ولو أن حربياً من غير أهل الموادعة أسر عبداً من عبيد المسلمين وأحرزه بدارهم ثم غصبه منه غاصب@(5/37)
فقال : هو عبدي وأعتقه ثم أسلموا فأقام الذي أحرزه البينة على حقه ومن حكم ملكهم رده عليه فإن عتق الذي أعتقه باطل لأنه لم يملكه حين لم يتم الإحراز بخلاف ما إذا كان من حكم ملكهم أن يملكه الغاصب بالغصب فإن إعتاقه هناك نافذ لتمام إحرازه ثم لا يرد رقيعاً بعد ذلك لأن إحرازه قد تم حين أقره ملكهم في يده ومنع الآخر من أخذه منه .
فإن جاء الآخر بالبينة بعد ذلك فقضى به ملكهم له ودفعه إليه ثم أسلموا أو صاروا ذمة فهو حر بالبينة لأنه بعد ما نفذ العتق فيه فحكم ملكهم بالرق على المسلم باطل ولأن الحرية لما تأكدت بالإسلام لم يكن بمحل النقض فلا ينتقض بحكم ملكهم برقه بعد ذلك بخلاف ما سبق ولو كان الغاصب إنما أعتق المأسور قبل أن يقره ملكهم في يده والمسألة بحالها ثم أسلموا فالمأسور عبد لأن إعتاقه قبل أن يتم إحرازه كان باطلاً قال : ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان فغصبه حربي مالاً ثم أسلموا أو صاروا ذمة فإن كان من حكم ملكهم أن الغصب سبب التملك سواء كان المغصوب منه مستأمناً أو مسلماً أو حربياً فلا سبيل للمسلم على متاعه لأنه إحراز الغاصب قد تم باعتبار حكم ملكهم وسلطنته في دارهم فكان هذا والمال الذي يأخذه من المسلم في دار الإسلام فيحرزه بدار الحرب في الحكم سواء وإن كان من حكم ملكهم رد ذلك المال على صاحبه فلم يختصما حتى أسلم أهل الدار رد ذلك على المستأمن لأن إحراز الغاصب لم يتم فإنه مقهور ممنوع مما صنع لحكم ملكهم وفي الأول هو قاهر مقر على ما صنع بحكم ملكهم وإن لم يعلم كيف كان حكمهم في ذلك فالمال مردود على المسلم المستأمن لأن الملك له في الأصل معلوم وسبب التملك@(5/38)
عليه وهو الإحراز التام غير معلوم ولأنا نعلم أن الغصب ليس بموجب للملك بنفسه فما لم يعلم خلاف ذلك من قوم عل وجه يكون ذلك معتبراً بينهم يجب بناء الحكم على المعلوم فإن اختصما إلى ملكهم فجحد الغاصب وقال : هذا ملكي ما أخذته منه فاقره ملكهم في يده حتى يأتي المسلم بحجة ثم أسلموا فذلك سالم للغاصب لأن إحرازه فيه قد تم بتقرير ملكهم ليده في تلك العين وإن أقام المسلم البينة فأخذه حاكمهم من الغاصب ودفعه إليه كان له ولا خمس فيه لأنه أعاده إلى ملكه بحكمه وقد كان السبب لخروجه عن ملكه مثل هذا إذ الشيء ينفسخ بما هو مثله ولأن السلم صار محرزاً لذلك المال حين أخذه وتم إحرازه بقوة ملكهم
فكان ملكاً له ولهذا لا يجب الخمس فيه لأنه ما يملكه بسبب فيه إعزاز الدين وكذلك لو أدّعى المسلم المستأمن عبداً في يد بعضهم باطلاً وأقام بينة فأخذه ملكهم من الحربي ودفعه إليه ثم أسلم فهو له لتمام إحرازه بحكم ملكهم ولكن ينبغي له أن يرده على صاحبه لأن هذا غدر منه بمنزلة ما لو أخذ مال بعضهم سراً فأخرجه وهناك يفتي بالرد لأنه إنما غدر أمان نفسه فهذ مثله قال : وإن كان أهل تلك الدار موادعين للمسلمين أخذ حاكم المسلمين ذلك المال ورده على صاحبه لأنه غدر بأمان المسلمين وفي هذا الموضع يثبت ولاية الإجبار على الرد بخلاف الأول وعلى هذا لو غصب متاعاً من بعضهم فخاصمه إلى الحاكم فجحده وقال : الله ملكي فأقره حاكمهم في يده حتى يأتي الحربي بالبينة ثم أسلموا فيهو للمسلم ويفتي برده من غير أن يجبر عليه إذا لم@(5/39)
يكونوا موادعين وإن كانوا موادعين للمسلمين أخذوه منه فردوه على صاحبه لأن معنى الغدر منه ها هنا أظهر منه في الفصل الأول فإنه جابر بالغصب والأخذ من يده ولو أن حربياً من الموادعين أو غير الموادعين كاتب عبداً له ثم أسلموا كانت الكتابة جائزة لأن الكتابة بمنزلة البيع الشراء من حيث إنه تصرف يعتمد المراضاة فإن قهره بعدما كاتبه وأبطل مكاتبته ثم أسلموا فإن كان من حكم ملكهم أن من فعل هذا بمكاتبه بطلت مكاتبته قضى قاضي المسلمين بذلك لأن ملك اليد الثابت للمكاتب بعقد المكاتبة لا يكون فوق حقيقة الحرية التي ثبتت بالإعتاق وقد بينا أن هناك إذا استعبده بعد الإعتاق نظر إلى حكم ملكهم في ذلك فيبتنى الحكم على ذلك بعد ما أسلموا فكذلك في المكاتبة وإن كان حين أبطل مكاتبته وليس من حكم ملكهم إبطال ذلك أخرجه إلى دار الإسلام قاهراً له فإن كانوا موادعين للمسلمين منعه القاضي منه وإن كانوا غير موادعين للمسلمين فهو عبد له يصنع به ما أحب لأن إحرازه إياه بدار الإسلام يتم إذا لم يكونوا موادعين لنا ولا يتم موجباً ملكه إذا كانوا
موادعين لنا ولو كان عبده قد أسلم ثم أعتقه أو كاتبه ثم استعبده بعد ذلك لم تبطل كتابته وعتقه بإبطاله لأن الحرية ملك يد المكاتب قد تأكد بإسلامه فلا يتمكن الحربي من إبطال ذلك ولا ملكهم لما بينا أن حكمه على المسلم باطل فيما لا يحتمل الإبطال وهو نقض الحرية ولأن حكمه إنما ينفذ فيما يحتمل النقل من ملك إلى ملك والمعتق والمكاتب المسلم غير محتمل لذلك ولو كان دبر هذا العبد قبل أن يسلم العبد فتدبيره باطل لأن المدبر بالتدبير لا يخرج من يد مولاه بل هو في يده على حاله مقهور في حكم الإسلام بعد التدبير كما كان قبله بخلاف الإعتاق والمكاتبة فإنهما يسقطان يد المولى عن المملوك بحكم الإسلام وإذا لم يكن من حكم ملكهم تمكن العتق من استعباد المعتق فقد تم@(5/40)
خروجه من يده لهذا إذا أسلم بعد الإعتاق أو الكتابة كان على حاله وإذا أسلم بعد التدبير كان عبداً لمولاه يبيعه ويصنع به ما أحبه ولو كان دبره بعدما أسلم العبد كان مدبراً لأن حق الحرية قد تأكد بإسلام المملوك كما دبره ومن حكم الإسلام أن المدبر لا يحتمل التمليك فبإثبات اليد عليه بعدما صح التدبير واستحق به الولاء قلنا : بأنه لا يبطل تدبيره بخلاف ما سبق إلا أن المولى إذا صار ذمياً بعد ذلك فإن المدبر يستسعى في قيمته لأن إخراجه من ملكه مستحق وذلك بالبيع متعذر فيصار إلى إخراجه من ملكه بالاستسعاء ولو كان الحربي أخرج عبده مع نفسه بأمان إلى دارنا ثم دبره جاز تدبيره لأنه فعل ذلك حيث يجري عليه حكم المسلمين وقد التزم هذا الحكم حين خرج إلينا بأمان فلهذا لا يقدر على بيعه ولو عاد به إلى دار الحرب بطل تدبيره لأن حكم ذلك الأمان قد بطل فصار حاله وحال ما لو فعل ذلك في دار الحرب سواء وهذا بخلاف الاستيلاد فإنه إذا استولد أمته في دار الحرب أو في دارنا بعدما خرج بأمان فهي أم ولد على كل حال لأن الاستيلاد تبع لنسب والنسب يثبت في دار الحرب على الوجه الذي يثبت في دار الإسلام فكذلك
ما يبتنى عليه وهو الاستيلاد وكما لا ينبغي للمسلم أن يشتري منه ابنه بحال فكذلك لا ينبغي أن يشتري منه أم ولده بحال بخلاف التدبير على ما قررنا والله أعلم .@(5/41)
باب من الرهن يأخذه المسلمون والمشركون منهم
قال : وإذا طلب المشركون في الموادعة أن نعطيهم رهناً من رجال المسلمين على أن يعطوا من رجالهم رهناً مثل ذلك فهذا مكروه لا ينبغي للمسلمين أن يجيبوهم إليه بدون تحقق الضرورة لأنهم غير مأمونين على رجال المسلمين والظاهر أن مخالفتهم في الاعتقاد تحملهم على قتلهم ولا زاجر من حين الاعتقاد يزجرهم عن ذلك وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله فإن اصطلحوا على ذلك لأمر خافه المسلمون لم يجدوا منه بداً ثم ابتدأ المشركون فأعطوا المسلمين رهنهم فللمسلمين أن يمتنعوا من دفع رهنهم إليهم وذلك أفضل لهم لأن الضرورة قد اندفعت بوصول رهن المشركين إلى يد المسلمين وهم غير مأمونين على المسلمين فإن قيل : فهذا غدر من المسلمين أن يأخذوا الرهن ولا يعطوا الرهن كما شرطوا قلنا : لا كذلك ولكن كان جواز الشرط لمعنى الضرورة وقد ارتفعت ألا ترى أن في أصل الموادعة إذا زال المعنى الذي أحوج المسلمين إليها بأن مضي تلك المدة ولا يكون ذلك غدراً والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه وتلك الموادعة لا تكون أقوى من@(5/42)
اليمين فإن قالوا : فردوا علينا رهنا إن لم تعطونا رهنكم لم نردهم حتى نأمن مما كنا نخافه لأن في ردهم تقويتهم علينا وتمكينهم من استئصال بعض المسلمين وذلك لا يجوز فإذا وقع الأمن مما كنا نخاف فحينئذ نرد عليهم رهنهم لأنهم بمنزلة المستأمنين فينا فنحبسهم إلي أن نأمن مما نخافه منهم ثم نبلغهم مأمنهم فإن أسلم الرهن في أيدينا ثم طالب المشركون أن يأخذوهم فلا سبيل لهم عليهم والكفار غير مأمونين على المسلمين إلا أنهم إن
كانوا عبيداً للمشركين باعهم الإمام ودفع ثمنهم إلى مواليهم بمنزلة المستأمن في دارنا إذا أسلم عبده وكذل إن أعطوا الرهن من الجانبين ثم قدر المسلمون على أن يأخذوا منهم الرهن فلا بأس بأن يأخذوه منهم لأن الضرورة قد ارتفعت وباعتبارها كان لهم حق المنع فيكون لهم حق الأخذ أيضاً لأنه لا ينبغي للمسلمين أن يتركوا تخليص أحد من المسلمين وهو مقهور في يد المشركين إذا تمكنوا منه فإن امتنعوا منهم فلا بأس بقاتلهم عليهم إذا طلب ذلك رهن المسلمين لأنهم ظالمون في حبسهم ودفع الظلم واجب بحسب الإمكان ولكن إن قدروا على أخذهم بغير قتل فلا ينبغي أن يقتلوا أحداً منهم للموادعة التي بيننا وربينهم وإن قال رهن المشركين : نحن نكون لكم ذمة للمسلمين ولا نرجع إلى دار الحرب أجابهم الإمام إلى ذلك إذا كانوا أحراراً لأن الذمة خلف عن الإسلام في التزام أحكام الإسلام به في الدنيا وهو أحد ما ينتهي به القتال فكما أنهم لو طلبوا عرض الإسلام عليهم وجب إجابتهم إلى ذلك فكذا لو طلبوا إعطاء الذمة إلا أن يكونوا عبيداً للمشركين فإن العبد تبع لمولاه وقد صاروا مستأمنين فينا فباعتبار الأمان صار ملك الموالي فيهم محترماً وبدون إزالة الملك لا يمكن جعلهم ذمة للمسلمين فلهذا ردوا إلى مواليهم فإن اختلفوا فقال الرهن : نحن أحرار وقال المشركون هم عبيد لنا فالقول قول الرهن@(5/43)
لأنهم في أيدي أنفسهم فيكون الهم قول في حريتهم ما لم تقم البينة على رقهم ولا تقبل فيه شهادة أهل الحرب عليهم لأنهم صاروا ذمة لنا فما لم يشهد عليهم قوم من المسلمين أو من أهل الذمة لم يردوا إلى مواليهم وإن كانوا أسلموا فما لم يشهد عليهم بالرق شهود مسلمون لم يعطهم الإمام لهم لو كانوا شرطوا في أصل الموادعة أنهم إن غدروا فقتلوا رهن المسلمين فدماء رهنهم لنا حلال ثم قتلوا هم رهننا فإن دماء رهنهم لا تحل لنا لما رويّ أن هذه الحادثة وقعت في زمن معاوية - رضي الله تعالى عنه - فأجمع هو
والمسلمون معه على ألا يقتلوا رهن المشركين لأنهم مستأمنون فينا فلا تحل دماؤهم بجناية كانت من غيرهم والشرط الذي جرى مخالف لحكم الشرع فيكون باطلاً ولكن الإمام يجعلهم ذمة إن لم يسلموا فإن أسلموا فهم أحرار لا سبيل لهم عليهم كما لو كانوا أسلموا قبل أن يقتل المشركون رهننا فلو أن رهنهم حين أسلموا قال لهم المشركون : إن لم تردوا علينا رهننا قتلنا رهنكم أو جعلناهم عبيداً لنا فكره الرهن أن يردوهم عليهم فإنه لا يحل للإمام أن يردهم وإن علم أنهم يقتلون رهن المسلمين لأنه حرمة نفس هؤلاء كحرمة نفس أولئك فإن قتل أهل الحرب رهننا لم يكن الإمام شريكاً في ذلك الظلم ولو سلم إليهم رهنهم بعد ما أسلموا فقتلوهم كان شريكاً في الظلم معرضاً للمسلمين عن قتل المشركين رياهم وذلك لا رخصة فيه ألا ترى أن رهنهم لو ماتوا في أيدينا فقالوا : إن لم تعطونا بعددهم من المسلمين قتلنا رهنكم لم يسعنا أن نعطيهم ذلك فكذلك رهنهم إذا أسلموا وإن قال رهنهم بعد ما أسلموا : ادفعونا إليهم وخذوا رهنكم فإن كان أكبر الرأي من الإمام أنهم يقتلونهم لم يجز أن يدفعهم إليهم@(5/44)
أيضاً لأن إذن المرء غير معتبر في قتله في حكم الإباحة فكذلك في تعريضه للقتل وإن كنا لا ندري ما يصنعون بهم فلا بأس بدفعهم إليهم لأنه ليس في دفعهم برضاهم ظلم منا إياهم والدفع ليس بسبب لهلاكهم والظاهر أنهم لا يرضون بذلك إلا إذا كانوا آمنين على أنفسهم ولأنا قد وعدنا لأولئك المسلمين أن نخلصهم برد رهنهم عليهم فيترجح بد ذلك الوعد جانبهم من هذا الوجه وإن قال رهن المشركين : نكون ذمة لكم فقال المشركون : إن قبلتم ذلك منهم قتلنا رهنكم أو جعلناهم عبيداً لنا فإن الإمام لا يقبل هذا من رهنهم ولكن يردهم على المشركين ويأخذ المسلمين بخلاف ما إذا أسلموا لأن الإسلام يتم بهم فأما الذمة لا تتم إلا بالرضا من المسلمين فإذا كان فيها إتلاف المسلمين حقيقة أو حكماً فلا ينبغي للمسلمين أن يرضوا بها
لأن استنقاذ المسلمين من أيدي المشركين والوفاء لهم بالموعود خير لهم من أن يصير الرهن ذمة للمسلمين والإمام ناظر فيختار ما فيه الخيرية للمسلمين وإن كان يعلم أنه إذا قبل ذلك منهم خلى المشركون سبيل الرهن الذي عندهم فحينئذ يعطيهم الذمة ويضع عليهم الخراج كما لو سألوه لأنه ليس فيه إتلاف المسلمين وما لم يعلم ذلك لا ينبغي له أن يجعلهم ذمة لأن البناء على الظاهر واجب المدينة ما لم يعلم خلافه والظاهر أنهم لا يخلون سبيل المسلمين إذا صر رهنهم ذمة لنا فإن أعطاهم الذمة ثم طلب أخذ رهن المسلمين فأبوا ذلك حتى يرج عليهم رهنهم فليس ينبغي له أن يخف ذمته وينقض العهد الذي عاهد عليه الرهن في ردهم بغير رضاهم لأنهم لما صروا ذمة لنا فقد ثبت لنفوسهم من الحرمة ما لنفوس المسلمين فكان هذا وما لو أسلموا سواء فإن طابت@(5/45)
أنفس الرهن بالرد عليهم فلا بأس بذلك إلا أن يكون أكبر الرأي من الإمام أنهم يقتلونهم فحينئذ لا يدفعهم إليهم على قياس ما ذكرنا فيما إن أسلموا لأن هذا بمنزلة مفاداة المسلمين بأهل الذمة وقد بينا أن ذلك يجوز برضاء أهل الذمة ولا يجوز بغير رضاهم ألا ترى أنه لو مات رهنهم فقالوا : لا نرد عليهم رهنكم حتى تعطونا من أهل الذمة فلاناً وفلاناً فإن رضوا بذلك جاز دفعهم إليهم وإن لم يرضوا به لم يجز دفعهم إليهم وكذلك إن كان فيمن طلبوا نساء من نساء أهل الذمة لأن حال نسائهم كحال رجالهم في الحرمة بسبب عقد الذمة وتأثير الرضاء من النساء كتأثيره من الرجال ولو كان في الذين طلبوا صبياناً من أهل الذمة وطابت بذلك أنفسهم وأنفس والديهم فلا ينبغي للإمام أن يدفعهم إليهم لأن هذا مظلمة يظلم بها الصبي وإذنه في هذا الباب غير معتبر ورضاء أبويه فيما يضر بالصبي غير معتبر أيضاً فوجوده كعدمه أرأيت لو استعبده أهل الحرب أليس كان الإمام معيناً لهم على استعباد حر بغير حق وهذا لا رخصة فيه ولو كان الرهن الذين أسلموا من رهن المشركين فيهم نساء
وصبيان وطابت أنفس النساء والصبيان وآباؤهم بردهم عليهم ليس للإمام أن يردهم أما الصبيان فلما ذكرنا في حق أهل الذمة وأما النساء فلأن في ردهن تعريضهن على الحرام ولا إذن لهن في ذلك فلا وجه لرده امرأة مسلمة على المشركين يستحلون فرجها وهي لا تحل لهم بحال ولا يوجد مثل ذلك في حق أهل الذمة ألا ترى أن الذمية إذا تزوجها مستأمن في دارنا جاز النكاح وحلت له ولو أراد أن يتزوج مسلمة لم يتمكن من ذلك ولا يحل له بحال إلا أن تكون المرأة عجوزاً لا تشتهي ولا يخاف عليها أن ترجع عن دينها فحينئذ لا بأس إن طابت نفسها بالرد رجوت ألا تكون@(5/46)
بردها لأخذ رهن المسلمين بأس كما في حق الرجال ولكن بشرط أن يكون معها ذو محرم لها من المسلمين لأن المرأة ممنوعة من المسافرة إلى دار الحرب بغير محرم وإن كانت عجوزة ومع المحرم لا بأس به إذا كانت عجوزة لحاجة لها فكذلك هذا فإن لم يكن بالمسلمين قوة على المشركين وطلبوا منا في الموادعة أن نعطيهم رهناً فقال الرهن : لا نرضى بذلك لأنهم غير مأمونين علينا فلا بأس بأن يجبرهم الإمام على ذلك على وجه النظر للمسلمين لأن الخوف من جهتهم على جماعة من المسلمين ظاهر وعلى هؤلاء الرهن إذا دفعناهم إليهم ليس بظاهر بل الظاهر في الناس الوفاء بالمودعة وقد بينا أن الإمام إذا ابتليّ ببليتين فإنه يختار أهونهما ويدفع أعظم الضررين بأهون الضررين فإن كان أكبر الرأي عنده أنهم إذا خذوا الرهن قتلوهم فحينئذ لا يحل له أن يدفعهم إليهم لأنه إذا دفعهم كان شريكاً في دمائهم معيناً على هلاكهم وإذا لم يدفعهم فظفر المشركون بالمسلمين لم يكن الإمام شريكهم فيما يصنعون بالمسلمين وأكبر الرأي في هذا كاليقين ألا ترى أن الإمام لو احتاج إلى أن يرسل إليهم رسولاً في مهم للمسلمين فيه منفعة فأبى المسلمون أن يدخل إليهم رسولاً فإن للإمام أن يجبره على ذلك إلا أن يكون أكبر الرأي منه إن بعث إليهم رسولاً قتلوه فحينئذ لا ينبغي له أن
يبعث من المسلمين أحداً ولا يكرهه على ذلك فكذلك الرهن فإن جرت الموادعة على ثلاث سنين ثم ظهر للمسلمين قوة فأرادوا أن ينبذوا إليهم وقال المشركون لسنا ندع الموادعة ولا نرد عليكم رهنكم فإنه ينبغي للمسلمين ألا يبطلوا الموادعة لا لإباء المشركون ذلك ولكن لمكان الرهن في يد المشركين لأنهم إن فعلوا ذلك كان هذا منهم إجباراً للرهن وامتناعاً من الوفاء بالموعود لهم وذلك لا يحل فيوفون لهم بما أعطوهم حتى يستنقذوا الرهن منهم وكذلك إن@(5/47)
كانت الموادعة مؤيدة فليس ينبغ لهم أن يبطلوا الموادعة وإن قدروا على قتالهم حتى يستنقذوا الرهن أو يموت الرهن أجمعون أو يرضوا بذلك فحينئذ لا بأس بقتالهم لأن المانع من النبذ مراعاة حق الرهن ولوجود إحدى هذه الخصال يزول هذا المانع ولو مضت مدة الموادعة فقال المشركون : إن قاتلتمونا قتلنا رهنكم فلا بأس بقتالهم لأنه ليس في هذا أخبار للعهد بينهم وبين أهل الرهن فقد انتهى ذلك بمضي المدة فلا يتعذر علينا قتالهم بسبب الخوف على الرهن كما لو تترسوا بأطفال المسلمين لم يكن بقتالهم بأس وكذلك إن كان في أيديهم أسراء من المسلمين فقالوا : إن قاتلتمونا قتلنا الأساري فإنه لا بأس بقتالهم لهذا المعنى وكذلك إن أرسل إليهم رسلاً لحاجة برضاء الرسل أو بغير رضاهم فحبسوهم وقالوا للمسلمين : إن قاتلتمونا قتلنا رسلكم فلا بأس بقتالهم وهذا لأنه ليس في شيء من ذلك إخفار من الإمام لقوم من المسلمين إنما فيه مظلمة يظلم المشركون بها المسلمين وللخوف من ذلك لا يتعذر على المسلمين القتال معهم وقال : ولو طلب بعض مدائن الشرك أن يكون ذمة لهم فكره ذلك ملك الموادعين وقال : إن فعلتم ذلك قتلنا رهنكم أو استعبدناهم وإن لم تفعلوا رددنا عليكم رهنكم فإن الإمام والمسلمين ينظرون في ذلك فإن كل الاقتناع من إعطاء الذمة إلى أن يأخذوا رهنكم خيراً للمسلمين امتنعوا في ذلك وإن كان قبول الذمة من الذين طلبوا ذلك خيراً فعل ذلك الإمام
لأنه ناظر للمسلمين فيختار ما كانت المنفعة فيه أظهر وهذا لأنه لي في قبول الذمة من هؤلاء إخفار في حق الرهن لأن هذا لم يكن مما وقع عليه الرهن ولا كان وقوعه معلوماً عند ذلك بخلاف ما تقدم من النبذ إليهم قبل مضي المدة ولكن الأفضل أن يختار ما فيه استنقاذ المسلمين من أيدي المشركين ألا ترى أنه لو طلب أهل مدينة منهم أن يكونوا ذمة فقال ملك العدو : إن أبيتم عليهم ذلك خليت سبيل أسرائكم وإن قبلتم ذلك منهم قتلت أسراءكم فإنه يختار ما هو الأنفع@(5/48)
للمسلمين فإن كان استنقاذ الإسراء خيراً فعل ذلك وهو أولى الوجهين وإن كان قبول الذمة من أولئك خيراً لما يرى فيه من قوة المسلمين عليهم بشوكة هؤلاء الذين طلبوا الذمة فإن الإمام يقبل الذمة منهم ولا يلتفت إلى جانب الإسراء ألا ترى أنه لو حاصر أهل المدينة عظيمة وأشرف على فتحها فقال له ملك العدو : انصرفوا على أن نعطيكم أسراءكم الذين في أيدينا فإن الإمام ينظر في ذلك فيفعل الذي هو خير للمسلمين فكذلك ما سبق فإن غدر أهل المودعة فقتلوا رهن المسلمين وفي رهنهم صبيان ليس معهم آباؤهم ولا أمهاتهم فإنه لا يحكم بإسلامهم حتى يبلغوا فيصفوا الإسلام لأنهم كانوا في أيدي المسلمين وفي دار الإسلام كفاراً على دين آبائهم قبل أن يغدر المشركون بالرهن فلا يتحولون عن ذلك حتى يصفوا الإسلام وهذا لأنه ليس في غدرهم إلا أن رهنهم به قد صاروا فينا بمنزلة أهل الذمة وأولاد أهل الذمة وإن لم يكن معهم آباؤهم ولا أمهاتهم بأن كانوا ماتوا أو نقضوا العهد لا يحكم لهم بالإسلام ما لم يصفوا الإسلام قبل البلوغ أو بعده فحال هؤلاء كذلك فإذا كان في رهنهم مماليك ثم غدروا فقتلوا رهننا فإن الإمام لا يرد عليهم مماليكهم ببيعهم ويقف الثمن في بيت المال حتى يرضي المشركون المسلمين من رهنهم لأنهم احتسبوا عندنا ولكن لم تسقط حرمة ملك الملاك فيهم لأجل الأمان فالسبيل بيعهم ووقف ثمنهم كما لو أسلموا فإن قال المشركون
للمسلمين إنا قد أسأنا في قتل رهنكم فنحن نغرم لكم دياتهم فلا بأس بأن يقبل الإمام ذلك منهم لأنه وقع اليأس عن رد الرهن ورد القيمة عند تعذر رد العين كرد العين وقيمة النفس الدية فإذا فعلوا ذلك سلم الديات إلى ورثة المقتولين ورد عليهم ثمن لا عبيد وإن كان العبيد لم يباعوا وقالوا : ردوا علينا عبيدنا ونرد عليكم ديات رهنكم فإن الإمام لا يفعل هذا لأن عبيدهم قد احتبسوا عندنا فهذا إن فعله يكون في معنى مفاداة الأساري منهم بالمال وذلك لا يجوز ولأنهم لم يردوا رهننا@(5/49)
بأعيانهم فإذا كانوا يأخذون رجالهم بأعيانهم ويردون لعينا الديات كان فيه وهن شديد يدخل على المسلمين ولا ينبغي لإمام المسلمين أن يحبسهم إلى مثل هذا فأما بعد بيع العبيد لا يوجد مثل هذا الوهن في رد الأثمان عليهم لأنه يؤخذ منهم بدل الرهن مال ويرد عليهم بدل رهنهم مثل ذلك ألا ترى أن الإمام لو رأى الحظ للمسلمين في أن يأخذ منهم الديات ويرد عليهم عبيدهم فحينئذ ملا بأس بأن يفعل ذلك لمعنى النظر فإن كانوا قالوا للمسلمين ندفع إليكم الذين قتلوا رهنكم لتحكموا فيهم بما شئتم وتردوا علينا رهننا فإن الإمام يراعي في ذلك معنى النظر للمسلمين فإن لم ير في ذلك حظاً للمسلمين لم يقبل ذلك منهم رأيت لو كان رهننا خمسين رجلاً فقتلهم إنسان واحد أكن نأخذ منهم ذلك القاتل الواحد ونرد عليهم خمسين من أحبارهم وأي وهن يكون أشد من هذا وإن رأى الحظ للمسلمين في أين يقبل ذلك منهم قبله فأخذ القاتلين ورد عليهم رهنهم ثم هو بالخيار في القاتلين إن شاء قتلهم بهم لا بطريق القصاص فإن الحربي لا يستوجب القصاص بقتل المسلم في دار الحرب ولكن لأنهم إساري مقهورون في أيدينا لا أمان لهم وللإمام فيهم الخيار إن شاء قتلهم وإن شاء جعلهم عبيداً فإذا اختار بذلك أعطى وارث كل مقتول العبد الذي قتل مورثه لأنه أخذهم عوضاً عن الرهن المقتولين ولذلك رد عليهم رهنهم فإذا صاروا مملوكين كان حكمهم حكم
الديات ولأن الجناية على النفس إذا وجد ممن يحتمل التملك ولم يكن موجباً للقصاص كان موجبتا استحقاق نفس الجاني بالمجني عليه ملكاً ألا ترى أن العبد إذا قتل قتيلاً خطأ فإنه يجب دفع نفسه إلى ولي القتيل إلا@(5/50)
أن يختار المولى الفداء فهذا كذلك وإن قالوا للإمام : إن شئت أعطيناك ديات أصحابك وإن شئت أعطيناك الذين قتلوا أصحابكم فهذا إنصاف منهم لأنه ليس في وسعهم فوق هذا فيما يرجع إلى الوفاء بتلك المودعة ثم ينبغي للإمام أن يختار ما فيه الحظ للمسلمين فإن اختار أخذ الديات دفعها إلى الورثة وإن اختار أخذ القاتلين كان الرأي إليه في قتلهم كما بينا ولا يمتنع عليه قتلهم بعفو الورثة إن عفوا عنهم لما بينا أنه لا إليه في قتلهم كما بينا ولا يمتنع عليه قتلهم بعفو الورثة إن عفوا عنهم لما بينا أنه لا يقتلهم على وجه القصاص بل لأنهم محاربون والعفو في قتل المحاربين غير مؤثر لأن العفو إنما يسقط ما كان مستحقاً للعافي خاصة وإن كان الذي قتل رهن المسلمين رجال من غير أهل تلك الدار فإن كانوا دخلوا إليهم بأمان فهذا والأول سواء لأن من عندهم بأمان فهو في أيديهم وهو ممن يجري عليه حكم ملكهم فحالهم كحال أهل دارهم ألا ترى : أنه لو دخل من دارهم إلينا لم يحتج إلى استئمان جديد بمنزلة من كان من أهل دارهم وإن كانوا دخلوا دارهم مغيرين بغير أمان فقتلوا الرهن فإن ظفر بهم أهل دار المودعة ودفعوهم إلى المسلمين ليس عليهم غير ذلك ويأخذون رهنهم لأنه ليس في وسعهم فوق هذا فيما يرجع إلى الوفاء بالموادعة وإن كانوا ماتوا أو قتلوا في حربهم أو أخذهم ملك الموادعين فقتلهم بما فعلوا بالرهن أو هربوا فعلى المسلمين أن يردوا عليهم رهنهم لأن القاتلين ليسوا من أهل دار الموادعين فلا يجوز أن يأخذ أهل دار الموادعة بجناية من غيرهم فكان هذا في حقهم بمنزلة ما لو مات رهننا في دارهم فعلينا أن نرد عليهم رهنهم ولو كان الذين أصابوهم من أهل دارهم@(5/51)
فقتلهم ملكهم حين
قتلوا الرهن أو ماتوا حين أخذهم قبل أن يقتلهم فللإمام ألا يرد رهنهم حتى يعطوهم ديات رهن المسلمين لأن الجناية كانت منهم والظاهر أنهم ما تمكنوا من ذلك إلا بقوة ملكهم فيكون فعلهم ذلك كفعل ملكهم بنفسه ولو كان هو الذي قتل رهن المسلمين فأنكر ذلك أهل مملكته فقتلوه أو مات كان للمسلمين ألا يردوا عليهم رهنهم حتى يردوا ديات رهننا فكذلك ما سبق وإن أخذوا الملك فقالوا للمسلمين ندفعه إليكم بمن قتل من رهنكم وتردوا علينا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن رأى الحظ في أن يأبى ذلك حتى يأخذ ديات الرهن فعل ذلك وإن رأى الحظ في أن يأخذ الملك فيقتله أو يجعله عبداً لورثة الرهن فعل ذلك وإن كان الملك حين قتل الرهن هو الذي قال لإمام المسلمين : أعطيك ديات أصحابك لترد عليّ رهني فليس ينبغي للإمام أن يفعل ذلك لما فيه من الوهن على المسلمين ولا يلتفت إلى رضاء ورثة الرهن إن رضوا بذلك لأن مراعاة جانب دفع الوهن والذل على المسلمين أوجب وهذا ليس من حقهم في شيء حتى يعتبر فيه رضاهم إلا أن يرى الإمام الحظ في ذلك للمسلمين فحينئذ لا بأس بأن يفعله لتوفير المنفعة عليهم فإن غدر المشركون وقتلوا رهن المسلمين ثم قتل المسلمون رهنهم اعتماداً على ظاهر الشرط فقد أخطئوا في ذلك لأنهم كانوا مستأمنين فينا وينبغي لمن قتلهم أن يغرم دياتهم كما هو الحكم في المسلم يقتل المستأمن فإن قيل لك قد صاروا من أهل الذمة حين احتبسوا في دارنا فينبغي أن يجب القصاص@(5/52)
على من قتلهم لأن المسلم يقتل بالذمي عندنا قلنا : قبل أن يضع الإمام الخراج عليهم لا يكونون من أهل الذمة حتى لو أرضى المشركون المسلمين ردوا عليهم رهنهم وإن صاروا بمنزلة أهل الذمة فقد تمكن شبهة في هذا القتل وهو الاعتماد على ظاهر الشرط والمشروط في عقد صحيح وذلك يكفي لإسقاط القود ثم الديات تكون موقوفة في بيت المال فإن أعطى المشركون ديات رهن المسلمين قبل ذلك منهم الإمام ودفعها إلى ورثة المقتولين
وسلم إليهم ديات رهنهم لأن حكم البدل من الجانبين حكم المبدل ولو ردوا علينا رهننا رددنا عليهم رهنهم فكذلك إذا ردوا ديات رهننا رددنا عليهم مثل ذلك ولا ينبغي للإمام أن يأبى ذلك عليهم لأنه قد صار مالاً من الجانبين بخلاف ما قبل قتل رهنهم فإن للإمام هناك رأياً في أخذ الديات لما فيه من صورة الوهن بأن يقتلوا خيارنا وأشرافنا ثم يأخذوا رهنهم ويعطونا الديات فإن قالوا : نعطيكم الديات ونعطيكم مكان كل مسلم قتلناه منكم أسيراً مسلماً في أيدينا وتردون علينا رهننا فعلى الإمام أن يقبل ذلك منهم لأنهم ردوا بدل نفوس المقتولين وردوا مثل ما قتلوا من إساري المسلمين وليس في وسعهم فوق ذلك ثم يخلي سبيل الإسراء ويدفع الديات إلى ورثة المقتولين وإن قالوا ليس عندنا أسراء منكم ولكنا نعطيكم لكل قتيل من رهنكم ديتين أو ثلاث ديات وتردون رهننا فإن الإمام يرى في ذلك رأيه سواء رضي به ورثة الرهن أو لم يرضوا لأن المال وإن كثر لا يكون مثلاً للمسلمين فربما يكون في هذا معنى التوهين بشيء من أمر المسلمين فله ألا يقبله فإن رأى ذلك خيراً وقبله سلم الديات كلها لورثة المقتولين لأنه بدل نفوسهم بمنزلة مال وقع الصلح عليه من القصاص فإنه سالم لورثة المقتولين قلّ ذلك أو كثر ولو قالوا : لا نعطيكم الدية ولكن نعطيكم مكان كل مسلم قتلناه أسيراً أو أسيرين أو ثلاثة فأبى@(5/53)
أولياء الرهن المقتولين أن يقبلوا ذلك لم يلتفت الإمام إلى إبائهم ولكن ينظر إلى معنى الخيرية للمسلمين فإن رأى النظر في قبول ذلك أخذ الأسرى فخلى سبيلهم ورد عليهم رهنهم وعوض ورثة الرهن المقتولين دياتهم من بيت المال لأنه كان عليه أن يفدي الأساري من بيت المال فإذا توصل إلى تخليص الأساري المسلمين باعتبار دم المقتولين كان عليه أن يدفع إلى ورثتهم عوض ذلك وهو ديات المقتولين بمنزلة ما لو فادى الأساري ببعيد منهم بعد ما قسمهم بين الغانمين بغير رضاهم فإنه يعوض الملاك قيمتهم من بيت
المال وإن طابت أنفس ورثة الرهن بهذا وسألوا الإمام أن يقبل منهم أسراء المسلمين مكان الرهن المقتولين والمسألة بحالها ثم طلب ورثة الرهن ديات رهنهم لم يعطهم شيئاً لأنهم تطوعوا بحقهم على المسلمين فكأنهم تبرعوا بمفاداة الأساري بمالهم فلا يستوجبون الرجوع على أحد بشيء وإن لم يستأمرهم الإمام في ذلك حتى قبل من المشركين ما أعطوه ورد عليهم رهنهم فإنه ينبغي له أن يعوض ورثة الرهن المقتولين دياتهم من بيت المال لأن حقهم إنما يسقط إذا رضوا بذلك وتطوعوا بحقهم على المسلمين وهذا المعنى لا يتحقق إذا لم يعلموا به وإن لم يعط المشركون المسلمين شيئاً بعد قتل رهنهم فإنه لا ينبغي للإمام أن يعذب رهنهم بالضرب والحبس كما لا يقتلهم لأنهم مستأمنون فينا ولكنه يخلي عنهم في موضع من دارنا لا يقدرون فيه على الرجوع إلى بلادهم لأنهم احتبسوا في دارنا حين احتبسوا رهننا عندهم فإن أسلموا فهم أحرار وإن أبوا جعلهم الإمام ذمة لما بينا ولكن ينبغي أن يؤجل أهل@(5/54)
الحرب في أمرهم سنة فإن أرضونا وإلا جعلناهم ذمة ووضعنا عليهم الخراج فإذا مضت السنة أخذنا منهم الخراج لأن إرضاء المشركين المسلمين ببعض الوجوه الذي ذكرنا موهوم وبعد الإرضاء يجب رد رهنهم عليهم فلهذا يتأنى الإمام في ذلك والحول حسن لإبلاء العذر كما في أجل العتق وغيره وهو نظير المستأمن إذا أطال المقام في دارنا فلأن الإمام يتقدم إليه ويقول إن أقمت سنة من يومك هذا جعلتك ذمة ثم إن خرج قبل مضي السنة تركه وإن مضت السنة قبل أن يخرج أخذ منه الخراج ولم يمكنه من الرجوع بعد ذلك فكذلك حال الرهن فإن قالوا بعد مضي السنة : نحن نرضيكم بإعطاء الأساري والديات فردوا علينا رهننا فإن الإمام لا يردهم بالديات بعد ما صاروا ذمة لنا وبعد إعطاء الأساري إن كره الرهن ذلك لم يردهم وإن طابت نفوسهم بذلك ردهم على قياس ما ذكرنا في مفاداة الإسراء بأهل الذمة لأن هؤلاء صاروا من أهل الذمة وهو نظير ما لو أسر
الإمام القوم من المشركين وقسمهم ثم إن مواليهم أعتقهم فصاروا ذمة للمسلمين يؤدون الخراج ثم طلب المشركون أن يفادونا بأسراء المسلمين بهم فإن الإمام لا يفعل ذلك بغير طيبة نفس المعتقين فإن طابت نفوسهم بذلك فعلوه فكذلك ما سبق ولو قالوا : نعطيكم الديات ونعطيكم من قتل الرهن فليس ينبغي للإمام أن يرد عليهم رهنهم بعدما جعلهم ذمة لأن هذا بمنزلة مفاداة أهل الذمة بالمال وأهل الحرب منهم وهذا لا رخصة فيه إنما الذي يرخص فيه إعادة الذمّي إلى دار الحرب ليكون حرباً للمسلمين إذا كان فيه تخليص@(5/55)
المسلمين من أسر المشركين فقط فلو أعطى المسلمون المشركين رهناً من المسلمين وأعطاهم المشركون رهناً في جواهر أو ثياب ثم غدروا فقتلوا الرهن فإن الإمام يجعل رهنهم موقوفاً في بيت المال لا يعطي ورثة الرهن المقتولين شيئاً من ذلك لأن حقهم مقصور على بدل نفوس المقتلين وهذا ليس من بدل نفوسهم في شيء ولكنه مال أهل الحرب قد يثبت فيه حكم الإمام في ديارنا فيجعله الإمام موقوفا في بيت المال وإن خاف الفساد على شيء منه باعه ووقف ثمنه في بيت المال فإن قالوا للمسلمين : نعطيكم الدياات وتردواعلينا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كانت الديات مثل الرهن أو أكثر فلا بأس بأن يأخذ ذلك منهم لأن الكل مال وإنما يعتبر فيه المماثلة في صفة المالية لنعدم به معنى الرهن ثم يدفع الديات إلى ورثة الرهن وإن كانت الديات دون رهنهم في المالية منعهم الإمام ذلك أشد المنع لأن معنى الرهن يتحقق ها هنا من وجهين أحدهما من جهة قتلهم الرهن والآخر من جهة أنهم يأخذون من المال أكثر مما يعطون وإن قالوا : إن الرهن قتلوا بغير رضاء منا فنحن نعطيكم القاتلين وديات المقتولين وتردوا علينا رهننا أو قالوا : اختر إن شئت القاتلين ندفعهم إليك وإن شئت الديات فإن علمنا أنهم صدقوا فيما قالوا إنهم قتلوا بغير برضاء من جماعتهم فليس للإمام أن يأبى هذا عليهم لأنه ليس في وسعهم فوق ما
عرضوه عليه ولكنه يختار أفضلهما للمسلمين فيأخذه ويرد عليهم رهنهم وإن كان قتل برضاء من جماعتهم فللإمام ألا يقبل ذلك منهم باعتبار أن رضاء الجماعة بذلك كمعاشرتهم وفي قبول ذلك منهم@(5/56)
معنى الوهن ولو أنهم قتلوا رهن المسلمين ثم أسلموا وصاروا ذمة فليس عليهم غرم في ذلك لأنهم فعلوا ذلك وهم محاربون فكان هذا وما لو قتلوا المسلمين في القتال ثم أسلموا أو صاروا ذمة سواء ثم يرد عليهم رهنهم لأنه مال كان مملوكاً محترماً لهم في أيدينا فإذا أسلموا وجب رده عليهم عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام : من أسلم على مال فهو له وحالهم الآن كحال الخوارج إذا قاتلهم أهل العدل وأصاب كل فريق مالاً من الفريق الآخر ثم استهلك الخوارج أموال أهل العدل فإن أهل العدل لا ينبغي لهم أن يستهلكوا شيئاً من أموالهم ولكنهم يقفون ذلك إلى أن يتوب الخوارج فإذا تابوا يرد عليهم أموالهم ولم يغرموا شيئاً مما استهلكوا ولو لم يسلم أهل الدار بعد قتل الرهن ولكن ظهر المسلمون على أهل تلك الدار وقتلوا من فيها أو سبوهم كان رهنهم من الأموال فيئاً للمسلمين الذين ظهروا على تلك الدار لأنه قد سقطت حرمة نفوس الملاك بوقوع الظهور عليهم وهذا عين مال لهم بمنزلة ما في أيديهم فيكون فيئاً للغانمين وإن استهلك رجل من المسلمين رهنهم فإن الإمام يضمنه مثله لبقاء حكمم الأمان في ذلك المال في يد الإمام ثم حكم المثل المأخوذ في يد الإمام ما هو حكم الأصل ولا يشبه هذا في هذا الوجه ما أصاب المسلمون من أموال@(5/57)
الخوارج فإن من استهلك ذلك من أهل العدل لم يضمن شيئاً فإنه لا أمان للخوارج في ذلك منا ووجوب الضمان باعتبار الأمان فأما وجوب رد العين باعتبار بقائه على ملك صاحبه فلهذا قلنا يرد عليهم ما كان قائماً ولا يضمن المستهلك لهم شيئاً مما استهلكه بخلاف رهن أهل الحرب في أيدينا فإن حكم الأمان ثابت في ذلك المال فيغرم المستهلك قيمته ويجب رده عليهم إن أسلموا وإذا أخذوا الرهن من
الجانبيين في الموادعة واشترطوا فيها أن من غدر منهم فدماء رهنهم حلال ثم قطع المشركون أيد رهننا أو فقئوا أعينهم ثم قالوا للمسلمين : خذوا رهنكم فهو أحياء وأعطونا رهننا فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان الحظ في أخذهم ولم يكن فيه توهين بشيء من أمور المسلمين وأبرأهم الرهن مما صنعوا بهم وقالوا : خذونا منهم فعل الإمام ذلك وإن كان فيه توهين لأمر المسلمين لم يأخذ ذلك منهم لأنه نصب ناظراً وقد سلم إليهم قوماً أصحاء فله ألا يأخذ منهم قوماً عمياناً مقطوعين ويعطيهم رهنهم أصحاء وإن قال الرهن : الحق حقنا ونحن نرضى بذلك فخذونا منهم فإنا لا نأمن البلاء على أنفسنا لم يلتفت الإمام إلى مقالتهم لأن في هذا توهيناً للدين وخديعة من المشركين لأهل الإسلام وازدراء لهم والضرر في ذلك إلى جميع المسلمين فلا يترك الإمام@(5/58)
مراعاة هذا الجانب قول الرهن .
أرأيت لو كان الرهن بآخر الرمق مقطعي الأيدي والأرجل فقالوا : خذونا منهم أكان ينبغي للإمام أن يعطيهم رهنهم أصحاء سالمين ويأخذ المسلمين بآخر رمق لما صنعوا بهم هذا مما لا ينبغي أن يقول به أحد لأنه رضاء بالدنية في الدين ونعوذ بالله - تعالى - من أن نعطي الدنية في ديننا فإن الذليل يعطى ما سئل ولو جاز هذا الجاز أن يقال : إذا قتلوا رهننا ثم قال ورثتهم : قد عفونا عنهم فردوا عليهم رهنهم أن يردوهم عليهم لأن ورثة المقتولين يقومون مقامهم هذا ليس بشيء ولا ينظر إلى قول الرهن ولا إلى قول ورثته وإنما ينظر إلى توهين الدين المسلمون جرأة المشركين فإن لم يكن فيما سألوا توهين للدين أجابهم الإمام إلى ذلك وإن كان فيه توهين الدين وجرأة المشركين عليهم لم يقبل ذلك منهم .
ألا ترى : أن رهننا لو كانوا مائة فقتلوهم كلهم إلا رجلاً واحداً فقال ذلك الرجل : خذوني منهم وردوا عليهم رهنهم فإنهم قاتلي إن لم تفعلوا لم يلتفت الإمام إلى قوله لما في ذلك من معنى توهين الدين كما بينّا فإن كانوا حين فقئوا أعين الرهن قالوا للمسلمين : نرد عليكم رهنكم ونعطيكم الدية فيما صنعنا برهنكم فلا بأس بأن يقبل الإمام منهم هذا لأنه ليس فيه توهين الدين فإنهم يردون الرهن ويردون عوض ما أتلفوا منهم وليس في وسعهم فوق ذلك ولو قتلوا بعض رهننا وبقي البعض كان للإمام ألا يرد عليهم رهنهم حتى يردوا علينا الأحياء ويخيرون في القتلى بين الديات وبين دفع القاتلين إليه اعتباراً للبعض بالكل ولو أنهم ضربوا رهننا أو شجوهم فبرئوا على وجه لم يبق أثره فقالوا للإمام : أخرجنا من أيديهم وادفع إليهم رهنهم فلا بأس للإمام أن يفعل ذلك لأن المظلوم قد رضي بترك المطالبة لحقه وليس في أخذهم ورد الرهن عليهم معنى توهين الدين فلا بأس بأن يجيبهم الإمام إلى ذلك وكذلك إن مات الرهن في أيديهم من غير ذلك بعدما برءوا ذمته فقال ورثة الرهن قد تركناه لهم فردوا عليهم @(5/59)
رهنهم لأن الورثة بعد موت المورث يقومون مقامه فيما هو من حقه قال : فإذا أعطوا الرهن من الجانبين في الموادعة ولم يعطوا مع رهن المشركين نفقة لهم فنفقتهم ما داموا رهناً من بيت مال المسلمين وهذا من أعجب المسائل فإن نفقة المرهون تكون على الراهن دون المرتهن في الموضع الذي وجد فيه الرهن بصورته ومعناه وحكمه فكيف تجب النفقة على المرتهن في موضع وجد فيه الرهن صورة فكيف يجب نفقة أهل الحرب في بيت مال المسلمين وهم أهل حرب في أيدينا بمنزلة المستأمنين ولكنا نقول إن إقامتهم فينا لمنفعة المسلمين وقد بينا أنه لا يجوز الإجابة إلى هذه الموادعة إلا إذا كان فيها منفعة للمسلمين فلهذا تجب نفقتهم في مال المسلمين بمنزلة المستعار في يد المستعير لما كانت المنفعة له فيه كان نفقته عليه
بخلاف الرهن الذي هو حقيقة فالمنفعة هناك للراهن من حيث إن دينه يصير مقضياً بهلاك الرهن فإن قتلوا رهن المسلمين يلتزم الإمام رهنهم إلى سنة وينفق عليهم من بيت المال أيضاً لأنه ما لم تمض السنة فالحكم الذي كان ثابتاً فيهم بأمان باق فإن مضت السنة ولم يرضونا جعلهم ذمة ولم ينفق عليهم بعد ذلك من بيت المال شيئاً لأنه ما لم تمض السنة حالهم كحال غيرهم من أهل الذمة ولو لم يقتلوا رهننا وقد كانت الموادعة مؤقتة فانقضت المدة وطلب المسلمون من المشركين رد الرهن فأبوا فإن الإمام يقول لرهنهم : لا أردكم إلى بلادكم@(5/60)
حتى يردوا أصحابكم إليّ رهني وقد أجلتكم في ذلك حولاً فاكتبوا لهم فإن ردوا رهني وإلا جعلتكم ذمة ويكتب إليهم بنفسه أيضاً تحقيقاً لإبلاء العذر فإن لم يردوا الرهن حتى مضى الحول جعلهم ذمة ثم إن عرضوا رد الرهن بعد ذلك لم يرد عليهم رهنهم إلا برضاهم وقد بيّنا هذا والفقه في هذا الإنذار أنه لا يجوز للإمام أن يترك المشرك في دارنا مدة مديدة ليصنع ما يصنع من غير ذل الخراج فكان التقديم إليهم التأجيل بحول لهذا المعنى وإن أعطى المسلمون المشركين رهناً من الرجال الأحرار وأخذوا منهم رهناً من جوهر أو لؤلؤ أو عبيد فاشترطوا عليهم أنهم إن غدروا فما أخذ المسلمون منهم من مال فهو للمسلمين ثم غدروا فإن المال لا يكون للمسلمين ولكن يكون موقوفاً في بيت المال لهم إلى أن يسلموا أو يرضونا في رهننا بما نرضى به لأن هذا شرط باطل قد ثبت بطلانه بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لا يغلق الرهن فإن تفسير هذا اللفظ على ما نقل عن أئمة التابعين أن يقول الراهن للمرتهن : إن جئتك بمالك إلى وقت كذا وإلا فالرهن لك بمالك فإذا ثبت أن هذا لا يجوز في الموضع الذي يكون عوضاً عن مال ففي الموضع الذي يكون عوضاً عما ليس بمال أصلاً أحرى ألا يجوز وهذا لما فيه من تعليق سبب الملك بالخطر وأسباب ملك الأعيان لا يحتمل التعليق بالخطر فإذا تبين بطلان
هذا الشرط كان ذكره والسكوت عنه سواء والله الموفق@(5/61)
باب الشروط في الموادعة وغيرها
قال وإذا توادع المسلمون والمشركون ستين معلومة فإنه ينبغي لهم أن يكتبوا بذلك كتاباً لأن هذا عقد يمتد والكتاب في مثله مأمور به شرعاً قال الله - تعالى - : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } البقرة : 282 وأدنى درجات موجب الأمر الندب كيف وقد قال في آخر الآية : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } ففي هذا إشارة إلى أن ما يكون ممتداً يكون الجناح في ترك الكتاب فيه ثم الأصل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة عام الحديبية على أن وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين وأمر بأن يكتب بذلك نسختان إحداهما تكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخرى عند أهل مكة وكان عليّ - رضي الله عنه - هو الذي يكتب فلما كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : لا ندري ما الرحمن الرحيم ! اكتب : باسمك اللهم ثم كتب هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله قال سهيل بن عمرو : لو عرفناك رسول الله ما قاتلناك أو ترغب عن اسم@(5/62)
أبيك اكتب محمد بن عبد الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً - رضي الله تعالى عنه - أن يمحو ما كتب فأبى علي ذلك حتى محاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : أنا محمد بن عبد الله ورسوله اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على أهل مكة وأملى عليه الكتاب إلى آخره وأمره بأن يكتب بذلك نسختين فصار هذا أصلاً في هذا الباب ولأن كل واحد من الفريقين يحتاج إلى نسخة تكون في يده حتى إذا نازعه الفريق الآخر في شرط رجع إلى ما في يده واحتج به على الفريق الآخر ثم المقصود به التوثق والاحتياط فينبغي أن يكتب على أحوط الوجوه ويتحرز فيه من طعن كل طاعن إليه وقعت الإشارة في قوله - تعالى - : {
وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ } البقرة : 282 ومعلوم أن ما علمه الله يكون صوابا مجمعاً عليه فينبغي أن يكتب على وجه لا يكون لأحد فيه طعن ثم بدأ الكتاب فقال : هذا ما توادع عليه الخليفة فلان ومن معه من المؤمنين وفلان ومن معه من أهل مملكته وأبو زيد البغدادي قال في شروط : الاختيار عندي أن يكتب : هذا كتاب فيه ذكر ما توادع عليه ليكون صادقاً حقيقة فإن هذا إشارة إلى البياض والبياض لا يكون ما توادع عليه بل يكون فيه ذكر ما توادع عليه ولكن ما اختاره محمد - رحمه الله - موافق لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما روينا وكذلك في غير هذا الباب فإنه حين أمر بكتاب في شراء بعد كان صفته : هذا ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد بن هوذة وإشارة الكتاب تدل على هذا قال الله - تعالى - : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } ص : 3 والمراد الوعد للأبرار والوعيد للفجار ثم لم يقل هذا كتاب فيه ذكر ما توعدون ليوم الحساب ثم قال : توادعوا كذا وكذا سنة أولها شهر كذا من سنة كذا وآخرها شهر كذا من سنة كذا وإنما يبدأ بذكر التاريخ لأن موجب العقد الذي يجري حرمة القتال في مدة معلومة فلا بد من أن يكون أول تلك المدة وآخرها موجباً معلوماً وذلك ببيان التاريخ وإنما اختار لفظ الموادعة لأنه لا مسألة ولا مصالحة حقيقة بين المؤمنين والمشركين وإنما يكون بينهم@(5/63)
المعاهدة كما قال الله - تعالى - : { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 1 والموادعة هي المعاهدة ثم ذكر ما بالفريقين حاجة إلى ذكره في الكتاب إلى أن قال : وجعل كل فريق منهم لصاحبه بالوفاء بجميع ما في هذا الكتاب عهد الله - تعالى - وميثاقه وذمة الله وذمة رسوله وذمة المسيح عيسى بن مريم وهذا اللفظ يذكره في كل كتاب في هذا الباب لأنه إنما بني عليه على ما كان حال الخليفة في وقته وإنما كانوا يقاتلون
الروم في ذلك الوقت وأعظم الألفاظ في باب التزام العهد عندهم هذا فلهذا ذكره فإن قيل : كيف جوز كتابة هذا اللفظ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم كان أهون قلنا : ليس مراد محمد رحمه الله من اللفظ المذكور إعطاء ذمة الله وذمة الرسول فذلك منهي عنه كما ورد في الحديث ولكن المراد بهذا اللفظ تأكيد الموادعة بالقسم بعبارات مختلفة ألا ترى أنه قال : وأشد ما أخذ الله على النبيين والصديقين والصالحين من عهد أو ذمة أو ميثاق فالمراد مما وقعت الإشارة إليه في قوله : { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } آل عمران : 187 وفي قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } آل عمران : 81 والمراد الإلزام على أبلغ الوجوه فهذا مثله ألا ترى : أنه ذكر بعد هذا بيان وجوه الغدر فجميع هذه الإيمان عليه الله عليه بها راع كفيل والذمة منه بريئة فبهذا تبين أن مراده مما سبق ذكر القسم ثم ختم الكتاب بذكر التاريخ وقد تبيّن التاريخ في أول الكتاب وذلك كاف إلا أنه أعاده في آخر الكتاب للتأكيد فليس المقصود إلا حرمة القتال في مدة معلومة وابتداؤها من وقت تمام الكتاب والأشهاد فلو اكتفى بما ذكره في أول الكتاب ربما@(5/64)
يدعي أحد الفريقين مضي مدة بين أول الكتاب وآخره يعارض وقد يكون ذلك فلهذا ختم الكتاب بذكر التاريخ أيضاُ والأصل في التاريخ ما روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - كتب إلى عماله إذا كتبتم إليّ فاذكروا التاريخ في الكتاب ثم جمع الصحابة - رضوان الله عليهم - وشاورهم في ابتداء مدة التاريخ فقال بعضهم : يجعل التاريخ من وقت مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه كره ذلك لما فيه من بعض التشبه بالنصارى وقال بعضهم يجعل التاريخ من حين قبض رسول الله عليه وسلم فكأنه
كره ذلك لما فيه من معنى المصيبة للمسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لن تصابوا بمثلي فاتفقوا على أن جعلوا التاريخ من وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ظهور أعلام الدين كالجمع والأعياد وأمن المسلمين من أذى المشركين إنما كان من ذلك الوقت فجعلوا التاريخ من وقت الهجرة لهذا فإن أراد المسلمون أن يوادعوهم على ألا يردوا عليهم من خرج مسلما كتب الله ذلك عقيب ذكر الكف عن القتال وعلى أن من خرج من أهل مملكة فلان إلى دار الإسلام من رجل أو امرأة مسلماً أو معاهداً لم يكن على الخليفة ولا على أهل الإسلام رده على فلان وهذا حكم ثابت شرعاً من غير شرط ولكن القوم ينكرون هذا الحكم فبدون هذا الشرط يعدونه غدراً بناء على اعتقادهم وقد بيّنا أنه ينبغي أن يكتب الكتاب على وجه يكون حجة على الخصمين ولا يطعن فيه أحد من الطاعنين .
وبعد ذكر هذا الشرط إن خرجت امرأة ذات زوج فأراد زوجها ردها لم يكن له ذلك وهذا منصوص عليه في قوله - تعالى - : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } الممتحنة : 10 لا أن الرد كان مشروطاً@(5/65)
في الصلح الذي جرى عام الحديبية فلما انتسخ ذلك الحكم بنزول الآية أمر الله - تعالى - برد ما أعطاها الزوج كما قال الله - تعالى { وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا } الممتحنة : 10 للوفاء بسم الله الرحمن الرحيم ذلك الشرط فأما المشروط الآن لا يرد فلا يجب أيضاً رد شيء مما آتاها وإن لم يكن هذا مشروطاً أيضاً لا يجب رد شيء لأن هذا الحكم قد انتسخ بدليل الإجماع وإن خرج منهم عبد مسلم أو أمة مسلمة إلى دار الإسلام لم يعتق لأن الموادعين بمنزلة المستأمنين يجب مراعاة حرمة مالهم ألا ترى أن المسلمين لو استولوا على أموالهم لا يملكونها فكذلك المراغم منها لا يعتق ولكن يباع ويدفع ثمنه إلى مولاه بمنزلة المستأمن في دارنا إن أسلم عبده وقال : على أن من خرج من المسلمين أو من أهل ذمتهم إلى فلان الملك تاركاً لدين الإسلام أو لذمة المسلمين فعلى فلان وأهل مملكته رده على المسلمين حتى يرده إلى ما كان عليه وهذا شرط لا ينبغي أن يترك ذكره في الكتاب لأنه إذا أخرج إلينا منهم مسلم أو ذمي لا يجوز لنا أ نرده عليهم فالظاهر أنهم يطالبوننا بالمناصفة ويقولون : كما لا تردون أنتم فنحن لا نرد وبعد ذكر هذا الشرط تنقطع هذه المحاجة .
فإذا امتنعوا من الرد كان ذلك نقضاً منهم للعهد ويحل للمسلمين القتال معهم من غير نبذ ثم ذكر وثيقة الموادعة بعوض وهو على قياس ما تقدم وإنما زاد فيها ذكر البدل والحاصل فيه أنه ينبغي له أن يعلم البدل على وجه لا يبقى فيه منازعة في الثاني وذلك بأن يكتب على أن يؤدي فلان الملك وأهل مملكته إلى فلان الخليفة في كل سنة خراجاً معلوماً كذا وكذا ديناراً شامية ثقالاً وكذا وكذا رأساً جياداً ومن النساء البوالغ كذا ومن الرجال كذا ومن الوصائف اللاتي لم يبلغن@(5/66)
كذا ومن الوصفاء الذين لم يبلغوا كذا على أن يكون ذلك من ثياب البزيون في كل سنة كذا ثوباً جياداً جدداً طول كل ثوب منها كذا ذراعاً وعرض كل ثوب كذا ومنها كذا ثوب أحمر ومنها كذا أبيض ومنها كذا أصفر وعلى أن يؤدوا في كل سنة كذا برذوناً جياداً فرهة من الجذاع كذا ومن الشباب كذا وهذا لأن المال إنما يلتزمونه ها هنا عوضاً عما ليس بمال ومثله مبني على التوسع فلهذا اكتفي فيه ببيان الجنس والنوع ومن الأوصاف ما يمكن إعلامه من غير حرج فإن كان المال مؤجلاً منجماً فينبغي أن يبيّن في الكتاب عدد النجوم ومدة الأجل على ما هو الرسم في باب المدانيات ثم بين وثيقة الموادعة للرسل إذا أرادوا أن يدخلوا دار الإسلام والحاصل فيه أن الرسل آمنون وإن لم يستأمنوا بيانه فيما روي أن رسول قوم تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يكن له أن يتكلم به فقال : لولا أنك رسول لأمرت بقتلك وما زال الرسل آمنين حتى يبلغوا الرسالة في الجاهلية والإسلام لأن ما هو المقصود الفريقين من الصلح والقتال لا يتم إلا بالرسل وما لم يكونوا آمنين لا يتمكنون من أداء الرسالة على وجهها فكانوا آمنين من غير شرط ولكن إن شرط لهم ذلك وكتب به وثيقة فهو أحوط فإن كان مع الرسل أسراء جاءوا بهم للمفاداة فشرطوا على المسلمين أن يردوهم إن لم تتفق المفاداة فهذا مما لا ينبغي للمسلمين أن يصالحوهم عليه وأن يكتبوا به
وثيقة لأنهم ظالمون في حبس أحرار المسلمين ولا وجه لردهم إلى أهل الحرب بعد تمكننا من الانتزاع من أيديهم وما يتعذر الوفاء به شرعاً لا يجوز إعطاء العهد عليه فإن فعلوا ذلك فلينقضوا هذا العهد وليأخذوا منهم الأسراء على@(5/67)
كل حال سواء احتاجوا إلى قتال على ذلك أو لم يحتاجوا لأن هذا شرط مخالف لحكم الشرع وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وقال : ردوا الجهالات إلى السنة إلا أن الأسراء إن كان كانوا عبيداً فينبغي للمسلمين أن يبيعوهم ويردوا عليهم أثمانهم لأنهم ملكوهم بالإحراز وقد استفادوا الأمان بهذا الشرط في ماليتهم فيجب مراعاته بحسب الإمكان وذلك في رد المالية عليهم بطريق البيع لما تعذر رد العين عليهم فإن وجد المسلمون رجلاً من أهل الحرب في بلاد المسلمين فقال : أنا رسول الملك دخلت بغير أمان فإن كان معروفاً بالرسالة أو أخرج كتاب الملك معه إلى الخليفة فهو آمن لأن ما لا يمكن الوقوف فيه على الحقيقة يجب العمل فيه بغالب الرأي والذي يسبق إلى وهم كل واحد في هذه الحالة أنه رسول وتحكيم العلامة في مثل هذا أصل قال الله - تعالى { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } التوبة : 46 وقال الله - تعالى - { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } البقرة : 273 فإن لم يكن معه دليل على أنه رسول فهو فيء وقد بينا الخلاف في الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان فهذا قد ثبت فيه حق المسلمين أو حق الأخذ وهو بما يدعي يريد إبطال الحق الثابت فيه من غير حجة فلا يتمكن منه فإن كان معروفاً بالرسالة فمر على عاشر المسلمين فإنه يأخذ منه العشر بمنزلة النفير من المستأمنين والحاصل أن الأخذ منهم بطريق المجازاة على ما روي أن عمر - رضي الله عنه - لما أمر العشار بأخذ ربع العشر من تجار المسلمين ونصف العشر من تجار أهل الذمة قال : كم يأخذ أهل الحرب من تجارنا قالوا : العشر قال : فخذوا منهم العشر وإن لم يعلم كم
يأخذون من تجارنا فنحن نأخذ منهم العشر أيضاً لأن المستأمنين من أهل الذمة بمنزلة أهل الذمة من المسلمين فكما أنه يؤخذ من أهل الذمة ضعف ما يؤخذ@(5/68)
من المسلمين فكذلك يؤخذ من المستأمن ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة فإن كانوا لا يأخذون من تجارنا شيئاً لم نأخذ من تجارهم أيضاً شيئاً لأن الأخذ بطري المجازاة فإن شرطوا في أمان الرسل ألا يأخذ عاشر المسلمين منهم شيئاً فإن كانوا يعاملون رسلنا بمثل هذا فينبغي للمسلمين أن يشترطوا لهم ويوفوا به لأن هذا شرط موافق لحكم الشرع فيجب الوفاء به لرسلنا مثل هذا وإن كانوا يشترطون يفون به فينبغي لنا ألا نقبل هذا الشرط لرسلهم فإن قبلناه فينبغي لنا أن نيفي لهم بذلك لأنه لا رخصة في غدر الأمان وما يفعلونه برسلنا بعد الشرط غدر منهم وبغدرهم لا يباح لنا أن نعذرهم بمنزلة ما لو قتلوا رهننا فإنه لا يحل لنا أن نقتل رهنهم وقد قررنا هذا فإن حاصر المسلمون أهل الحصن فطلبوا الأمان على أن يكون للمسلمين الثلث مما في الحصن ولهم الثلثان سوى بني آدم فهذا جائز لأن إعطاء الأمان على بدل مسمى معلوم جائز فكذلك على جزء شائع من مال معلوم ببيان محله وهو ما في الحصن وما يحرز فإذا فتحوا الحصن على ذلك صار الثلث مما فيها مشاعاً للمسلمين فنبغي للإمام أن يقسم ما في الحصن بين المسلمين وبينهم فيجزىء ذلك ثلاثة أجزاء والحاصل فيه أن القسمة تبتني على التسوية قال صلى الله عليه وسلم : خير أمراء السرايا زيد بن حارثة أقسمه بالسوية وأعدله في الرعية فيعتبر فيها المعادلة في المنفعة والمالية فإن أمكن تحصيل ذلك بقسمة العين فهو الأصل فيها فإن تعذر ذلك بأن كان شيئاً لا@(5/69)
يمكن قسمته إما لقلته أو لاختلافه فينبغي أن يقوم قيمة عدل ثم يقول الإمام لأهل الحصن : إن شئتم فخذوه وأعطونا ثلث قيمته دنانير أو دراهم وإن شئتم أخذنا ذلك وأعطيناكم ثلثي قيمته والأصل فيه ما روي أن عبد الله بن رواحة كان يخرص النخيل بخيبر بأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم كان يقول لليهود : إن شئتم أخركم ولنا عندكم الشطر وإن شئتم أخذنا ولكم عندنا الشطر فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض أي بالعدل فعرفنا أن القسمة بهذه الصفة قسمة بالعدل ثم بعد قسمة العين ينبغي للإمام أن يسهم على الأجزاء هكذا كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم وكان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فصار هذا أصلاً أن في كل ما يجوز فعله بغير إقراع فالأولى للإمام أن يقرع تطييباً للقلوب ونقياً لتهمة الميل عن نفسه وإن اعتبر المعادلة بين الأعيان بالتقويم فذلك حسن أيضاً وهو أن يكون من جانب برذون ومن جانب لؤلؤة فيجعل مع البرذون من المتاع ما يساوي اللؤلؤة أو مع اللؤلؤة من المتاع ما يساوي البرذون إن كان أفضل فيستوي الأجزاء الثلاثة بهذه الصفة ثم يقرع بينهما فالجز الذي يخرج بالقرعة للمسلمين يأخذه ويسلم لهم ما بقي وإن@(5/70)
شرط لأحد الفريقين على الآخر دارهم أو دنانير بقدر ما يحصل به المعادلة فذلك جائز بتراضي الفريقين فأما بدون التراضي لا ينبغي له أن يفعل ذلك إلا عند تعذر قسمة العين .
لأن في هذه القسمة معنى البيع والتراضي معتبر في البيع وإن كانوا شرطوا في الصلح للمسلمين يثلث ما في الحصن لم يدخل في ذلك المنازل والدور لأن ما في الحصن غير الحصن والمنازل والدور من الحصن لا مما في الحصن أنفسهم وذراريهم وقد يتناولهم الأمان فلا يكون لنا أن نتملك من رقابهم الثلث بعد ما تناولهم الأمان ولأن صفة الرق والحرية لا تجتمع في شخص واحد لما بين الصفتين من التضاد ولكن إن أرادوا الصلح على سلب السبي مما في الحصن فليصالحوا على ذلك مقسوماً وذلك بأن يعزل الثلث منهم قبل الأمان ثم يقولوا : نصالحكم على هؤلاء وعلى ثلث ما في الحصن سوى السبي فيجوز حينئذ لأن الأمان لا يتناول السبي لما جعلوا بدلاً في الصلح وإن صولحوا على ثلث ما في الحصن من أرقائهم دون أحرارهم فهو جائز بمنزلة سائر الأموال سوى السبي وإن صولحوا على مائة رأس منهم فإن كانوا يعطون المائة الرأس من أرقائهم فذلك جائز وإن كانوا يعطون ذلك من أنفسهم وذراريهم فهذا لا يجوز لأنهم صاروا آمنين بالصلح وبالأمان تتأكد حريتهم@(5/71)
على وجه لا يحتمل الإبطال ولا وجه لتملكهم بعد هذا بالأخذ على وجه بدل الصلح فإن وقع الصلح على الثلث من السبي ودخل المسلمون الحصن على ذلك فليس ينبغي لهم أن يأخذوا منهم شيئاً لأن الأمان يتناول بعض كل واحد منهم والأمان لا يحتمل الوصف بالتحري في شخص واحد فإذا ثبت في البعض ثبت في الكل فلما تعذر عليهم الوفاء بالشرط وجب على المسلمين أن يخرجوا عنهم حتى يعودوا إلى منعتهم في حصنهم ثم ينبذوا إليهم لأنهم صاروا في أمان من المسلمين فلا يجوز قتلهم لا استرقاقهم قبل النبذ ولا يتحقق النبذ إلا بعد إعادتهم إلى ما كانوا عليه من العز والمنعة وكل هذا للتحرز عن الغدر وإن وقع الصلح على ثلث ما في الحصن من السبي وغيره من قليل أو كثير فإن رضي المسلمون بألا يعرضوا للسبي ويأخذوا الثلث من سائر الأموال فذلك جائز لأن هذه القسمة تجمع ما يصلح أو يكون
بدلاً وما لا يصلح والحكم في مثله ثبوت ما يصلح أن يكون بدلاً دون ما لا يصلح فإن قالوا : لا نرضى بهذا فلهم ذلك ولكن لا يحل لهم أن يردوا شيئاً مما في الحصن من أو سبي بل يخرجوا عنهم حتى يعودوا إلى منعتهم كما كانوا ثم ينبذ إليهم وإن قالوا : نأخذ الثلث سوى السبي ثم نبذ إليهم لم يكن لهم ذلك لأنهم إذا أخذوا المال تقرر به أمانيهم فلا يجوز النبذ إليهم بدون رد المال وقد تقدم نظائره ثم بين أنه كيف يكتب الوثيقة في ذلك فالحاصل أن الوثيقة إنما تكتب للاحتياط فينبغي أن يكتب على أحوط الوجوه وهي حكاية ما جرى فينبغي للكاتب أن يكتب ويبين ما جرى بين الفريقين على أبلغ الوجوه وبعد هذا الصلح إنما يسلم لهم حصتهم من الأموال التي هي في الحصن لم يحرزها المسلمون بالعسكر فأما ما أحرزوه قبل هذا فهو سالم للمسلمين لأن ذلك ليس من جملة ما في الحصن حين وقع الصلح@(5/72)
وإن وقع الاختلاف بين المسلمين والمشركين في شيء من الرقيق فقال أهل الحصن : هؤلاء أحرار من نسائنا وذرارينا قد تناولهم الاستثناء وقال المسلمون : هؤلاء من أحرار من نسائنا وذرارينا قد تناولهم الاستثناء وقال المسلمون : هؤلاء من أرقائكم فلنا منهم الثلث فالقول في ذلك قول المشركين لأنهم يتمسكون بالأصل والأصل في الناس الحرية ولأن اليد لهم فيما في حصنهم فالظاهر أنهم أعرف بحال ما في الحصن فإن أقام المسلمون بينة على رق أولئك من المسلمين أو من أهل الذمة أو من أهل الحرب فالثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصوم وهذه البينة تقوم عليهم فلهذا قبل شهادة أهل الحرب في ذلك فإن شهد الشهود بأنهم أرقاء لهذا الرجل بعينه فقال ذلك الرجل : ليسوا بأرقائي ولكنهم أحرار فقد عتقوا بقوله لأن الثلثين من كل واحد منهم مملوك له بزعم المسلمين فينفذ إقراره فيهم بالحرية ثم لا ضمان عليه للمسلمين ولا سعاية عليهم أيضاً لأن الثلث من كل واحد منهم فيء غير محرز بدار الإسلام والغنيمة قبل الأحراز لا تضمن
بالاستهلاك كائناً من كان المستهلك لها وكذلك لو قال المشهود عليه : هم أرقائي وقد أعتقتهم إلا أن للمسلمين الخيار إن شاءوا رضوا بأخذ الثلث مما سوى هؤلاء وإتمام الصلح وإن شاءوا أبوا ذلك وخرجوا عنهم ثم ينبذون إليهم لأنهم لم يسلم لهم جميع المشروط فإن أرادوا الرد فقال أهل الحصن : نحن نعطيكم قيمة ذلك الثلث فينبغي للمسلمين أن يفوا لهم بصلحهم لأن القيمة خلف عن العين وتسليمها عند تعذر رد العين كتسليم العين عند التمكن منه@(5/73)
وما يخص المسلمين من رقيق أهل الحصن من الرجال إذا أراد الأمير قتله لم يكن له ذلك بخلاف الأسراء من أهل الحرب فإنه للإمام أن يقتلهم لأن أولئك لم يجر فيهم القسمة وهؤلاء قد جرى فيهم القسمة بين المسلمين وأهل الحصن ولأنهم إنما يأخذون هؤلاء بطريق الصلح فبنفس الوصول إلى المسلمين وأهل الحصن ولأنهم إنما يأخذون هؤلاء بطريق الصلح فبنفس الوصول إلى المسلمين يستفيدون الأمن من القتل بمنزلة ما لو باع الإمام السبي في دار الحرب وإن طلب أهل الحصن الصلح على شيء معلوم على أن يخليهم من الحصن حتى يبلغوا أمنهم فذلك جائز لأن للإمام أن يفعل هذا بهم من غير عوض ينتفع به المسلمون فمع العوض أولى ثم بين أنه كيف يكتب وثيقة هذه الموادعة وهو قياس ما مسبق إنما يحتاج في هذه الوثيقة إلى كتابة هذا الشرط خاصة وكذلك في كل وثيقة فيها مقصود فلا بد من بيان ذلك المقصود قال : وينبغي للكاتب أن يكتب ابتداء على أشد ما يكون من الأشياء يعني على أحوط الوجوه فإن كره المسلمون من ذلك شيئاً ألقوه من الكتاب لأن إلقاء ما يريدون إلقاءه أهون عليهم من زيادة ما يريدون زيادته ولعل أهل الحرب لا يقبلون إلا الأشد فلهذا يكتب في الابتداء بهذه الصفة فإن قبلوا اليسير منه ألقى المسلمون منه ما أحبوا قال : وأكره للمسلمين أن يعطوا المشركين ذمة الله - تعالى - وذمة رسوله للحديث المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فإن أرادوكم أن
تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ذلك ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم أهون من أن تخفروا ذمة الله - تعالى - وذمة رسوله إلا أن بآخر الحديث تبين أن بآخر الحديث تبين أن النهي ليس لحرمة هذه الشرط شرعاً بل لأنه ربما يتعذر عليهم الوفاء به فكأنه بمنزلة النهي عن اليمين على أمر في المستقبل كما قال الله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُم } ْ البقرة : 224 وذلك ليس بحرام بل النهي رسوله فينبغي أن يعطيهم ذلك عند الحاجة ثم يفي لهم بذلك وإن دعت الضرورة إلى@(5/74)
النقض لم يكن به بأس أيضاً بمنزلة اليمين على ما قال صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وإن قال أهل الحصن : تؤمنون منا كذا وكذا إنساناً بما لهم من الأموال والأمتعة يختارهم البطريق فذلك جائز لأن عقد الأمان مبني على التوسع وفيما يبنى على الضيق يجوز شرط الخيار لإنسان بعينه باعتبار الحاجة إلى ذلك كالبيع ففيما هو مبني على التوسع أولى ثم بين وثيقة هذه الموادعة كيف تكتب فقال فيما بيّن على أن القول في ذلك قول فلان البطريق فإن اتهمه المسلمون على شيء من ذلك استحلفوه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من والعلانية يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام وجعله بشيراً ونذيراً وجعله وأمه آية للعالمين أن الأمر على ما قال وأنه لم يزدد شيئاً ولم يأخذ لنفسه شيئاً سوى المشروط أما الاستحلاف فلأنه متهم فيا يعين والمتهم وإن لم يكن أميناً شرعاً فالقول قوله مع اليمين فكذلك إذا صار أميناً شرعاً ثم المقصود بالاستحلاف النكول وإنما يحصل هذا المقصود إذا غلظ عليه اليمين ولا وجه للتغليط بالاستحلاف بغير الله - تعالى - فينبغي أن يغلظ في الاستحلاف بالله على الوجه الذي ذكره
ويكتب ذلك في الوثيقة حتى لا ينسب المسلمون إلى الغدر إذا عرضوا عليه اليمين بهذه الصفة فإن فتحوا الحصن على هذا ثم قال البطريق : أنا لا أختار أحداً منهم أولا أوثر بعضهم على بعض في ذلك أو مات البطريق أو هرب قبل أن يختار منهم أحداً فعلى المسلمين أن يخرجوا عنهم ثم ينبذوا إليهم لأن الأمان تناول@(5/75)
بعضهم بيقين ولا يعرفون بأعيانهم والأصل أنه متى اختلط المستأمن بغير المستأمن لم يحل التعرض لأحد منهم لاجتماع معنى الحظر والإباحة في كل واحد منهم وعند الاجتماع يغلب الحظر وإن حضر البطريق فإن اختار من المتاع شيئاً كثيراً فالقول فيه قوله مع يمينه إن اتهمه المسلمون وصفة اليمين كما شرط عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : الشرط أملك ثم إن وقع الصلح على أن الذين تناولهم الأمان ممن يعينهم البطريق مع أموالهم فالمال إسم لكل متمول مبتذل يتملك وذلك ما يدخر لوقت الحاجة إليه إلا أن يكون الشرط المال المعين وهذا يكون على جنس النقود المضروب والمصوغ في ذلك سواء إلا ما يكون الشرط المال المعين وهذا يكون على جنس النقود المضروب والمصوغ في ذلك سواء إلا ما يكون مموهاً بالذهب أو الفضة فإن التمويه لون الذهب والفضة لا عينهما وهو مستهلك لا يتخلص ولهذا لا يثبت باعتباره حكم الربا ولا تجب الزكاة فيه وكذلك إن شرطوا المال الصامت فهو واشتراط المال العين سواء وهذا بخلاف حكم الزكاة والصدقة فاسم المال عند ذكر الصدقة لا يتناول إلا مال الزكاة يعني إذا قال مالي صدقة وذلك استحسان أخذنا به للتنصيص على إيجاب الصدقة ولا يوجد مثله في الأمان فيؤخذ فيه بالقياس بمنزلة الوصية بثلث المال فإنه يدخل فيه كل متمول صفته ما ذكرنا قال : وإن كانوا اشترطوا المتاع والمتاع ما يستمتع به مع بقاء عينه من الثياب والأواني فلهذا لا يدخل في المتاع المكيل والموزون لأن الانتفاع به@(5/76)
يكون بعد استهلاك العين فلا يكون المتاع إلا أواني الذهب والفضة والسرير من الذهب
والفضة من جملة المتاع للمعنى الذي ذكرنا فأما الجواهر واللآلىء فليس بمتاع لأن هذا يتناوله اسم الحلي والحلي غير المتاع وكذلك ما يكون من الأسلحة فهو من المتاع لأنه يستمتع به مع بقاء العين وليس له اسم أخص من اسم المتاع فإن اسم السلاح ليس باسم العين ولكن التسمية به باعتبار صفة الاستعمال والخاتم ليس من المتاع لأنه من جملة الحلي فإن قيل : أليس أنه قال في الجامع الصغير خاتم الفضة ليس من الحلي قلنا : مراده في حكم الاستعمال أنه يحل للذكور لبسه فأما في الحقيقة يتناوله اسم الحلي كما يتناول خاتم الذهب واسم الحلي اسم العين وهو أخص من اسم المتاع وكل ما يتناوله هذا الاسم لا يكون داخلاً في اسم المتاع وإن كانوا شرطوا السلاح فالسلاح كل ما يقاتل به السيف والبيضة والدرع والترس والقوس والنشاب وما أشبه ذلك مما يكون الغالب عليه أنه يستعمل استعمال السلاح فأما السكين فهو من المتاع لا من السلاح لأن الغالب عليه أنه يستمتع به في الحوائج سوى القتال فأما الخنجر والنيزك فهو من السلاح لأنه لا يستعمل غالباً إلا في القتال والجباب والأقبية المحشوة وأقبية اللبود من المتاع لا من السلاح إلا أن يكون على وجه لا يستعمل إلا في الحرب في حينئذ يكون من السلاح بمنزلة الخفتانات وكذلك أقبية الديباج والحرير من المتاع لا من السلاح إلا أن يكون بحيث لا يلبس إلا في الحرب والأعلام والطرادات والجواش من السلاح والحاصل أنه يعتبر في كل موضع عرف أهل ذلك الموضع فيما يطلقون عليه من الاسم أصله ما روي أن رجلاً سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : إن صاحباً لنا أوجب بدنة أفتجزئه البقرة فقال : مم@(5/77)
صاحبكم فقال : من بني رباح فقال : ومتى اقتنت بنو رباح البقرة إنما وهم صاحبكم الإبل فإن اشترطوا الكراع مع السلاح فالكراع اسم الخيل والبغال والحمير فأما الإبل والبقر والغنم فليس من الكراع لأن الاسم لها الأنعام وقال - عز وجل - : { وَالأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ } النحل : 16 والفقه فيه أن الكراع ما يكون لمنفعة الركوب خاصة وذلك الخيل والبغال والحمير قال الله - تعالى - : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } فأما الأبل والبقر والغنم فقد تكون للركوب والحمل عليها وقد تكون للأكل قال الله - تعالى - : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فإن اشترطوا السلاح والخيل فاسم الخيل يتناول العراب والبراذين والإناث والذكور ولا يدخل فيه البغال والحمير قال الله - تعالى - : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } الأنفال : 60 وقد بينا أنه يسهم للعراب والبراذين في الغنيمة دون البغال والحمير استدلالاً بهذه الآية وإن اشترطوا الماشية لم يدخل في ذلك الخيل والبغال والحمير لأن اسم الماشية غير اسم القراع فإنما يتناول اسم الماشية ما لا يتناوله اسم الكراع من الإبل والبقر والغنم لأنها تسام غالباً وأصحاب السوائم يقال لهم أصحاب المواشي وإن اشترطوا السلاح فكان في بعض السلاح فضة أو ذهب أو جوهر فذلك تبع للسلاح فالتبع يستحق باستحقاق الأصل فأما السروج واللجم فهي من المتاع لا من السلاح لأنه يستمتع بها مع بقاء العين في غير الحرب عادة وكذلك الأكف والجلال وأما التجافيف فهي من جملة الأسلحة لا تستعمل إلا في حالة الحرب ولو صالحوا على أن يكون للمسلمين الصفراء والبيضاء والحلقة فاسم الصفراء والبيضاء يتناول الذهب والفضة التبر والمصوغ والمضروب في ذلك سواء بمنزلة اسم المال العين والصامت فإن كان مصوغاً قد ركب فيه جوهر فليس@(5/78)
للمسلمين ذلك الجوهر لأن اسم الصفراء والبيضاء لا يتناوله واستحقاقهم باعتبار هذا الاسم وإن كان قدحاً مضبباً بالذهب والفضة فللمسلمين ما فيه الذهب والفضة لأن ذلك من الصفراء والبيضاء وليس لهم أصل القدح فإن كان نزع ذلك لا يضر بالقدح نزع وإن كان يضر بالقدح فالخيار لهم إن شاءوا رضوا بالنزع وإن شاءوا أعطوا المسلمين قيمة الذهب مصوغاً من
الدراهم وقيمة الفضة مصوغة من الدنانير لأن الأصل لهم وخيار التملك عند الحاجة إلى دفع الضرر يثبت لصاحب الأصل إلا عند الحادة إلى التقويم يقوّم بخلاف الجنس لأنه لا قيمة للصنعة والجودة من الذهب والفضة عند المقابلة بالجنس فأما الحلقة فهي اسم للسلاح وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح بني النضير على أن يجليهم ولهم ما حملت الإبل سوى الحلقة ثم أخذ الأسلحة منهم بهذا الاستثناء .
وإن صالحوا على أن يترك لهم المسلمون متاع بيوتهم فهذا على الفراش والوسائد والسطور وغير ذلك مما يبتذل في البيوت من الأمتعة فأما ما كان من ثياب غير مقطعة فلا شيء لهم من ذلك لأن متاع البيت اسم خاص لما هو مبتذل في البيوت استعمالاً وذلك لا يوجد في الثياب التي هي غير مقطعة وملبوس بني آدم من الرجال والنساء ليس من متاع البيت في شيء وإن كان الصلح على أن يكون للمسلمين الثياب فذلك اسم لم بلوس بني آدم مما يكون من الكتان والقطن والصوف والقز والحرير ألا ترى : أن بائع هذا كله يسمى ثوباً فأما الستور والأنماط والحجال فهو من متاع البيت دون الثياب لأنها لا يلبسها@(5/79)
الناس عادة وإنما يستمتعون بها في البيوت قال : والبز والثياب المتخذة من الكتان والقطن خاصة وهذا بناءً على عادتهم بالكوفة فإن البزار فيهم من يبيع هذين النوعين خاصة فأما بائع الخز والمرعزي والصوف وغير ذلك لا يسمى بزازاً فأما في ديارنا فاسم البز يتناول الثياب المتخذة المدينة من الإبريسم لأن بائع ذلك يسمى بزازاً فينا وإليه أشار بقوله : إلا أن يكون من أهل بلاد البز عندهم الصوف أو غيره فيكون الصلح على ما هو عندهم وهذا الأصل الذي قلنا إنه يعتبر في كل موضع ما يتعارفه من أهل ذلك الموضع فإن شرط المحصورون في الموادعة الأمان للمقاتلة منهم لم يسلم لهم شيء من أموالهم ولا من ذراريهم ولا من نسائهم لأن المحصور مقهور فمقصوده من هذا الشرط تحصيل النجاة لنفسه وفي مثله لا يتبعه شيء من ماله إلا ثياب بدنه والطعام الذي يأكله في إحلال فإن ذلك يسلم له استحساناً لأنه لا يتحقق النجاة له إلا بهذا ثم المقاتلة كل من مبلغ مبلغ الرجال والبلوغ قد يكون بالعلامة كالاحتلام والإحبال وقد يكون بالسن وفيه خلاف معروف فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله - تعالى - : التقدير فيه بخمس عشرة سنة بحديث عبد الله بن عمر - رضيّ الله عنهما - على ما رواه في الكتاب وهو معروف فإذا علم أنه
لم يحتلم وهو ابن أقل من خمس عشرة سنة فهو من الذرية دون المقاتلة قاتل أو لم يقاتل وكذلك النساء لأن المقاتلة من له بنية صالحة للقتال إذا أراد القتال وليس للنساء والصغار بنية صالحة للقتال فلا يكونون من المقاتلة وإن باشروا قتالاً بخلاف العادة ألا ترى أن من لا يقاتل من الرجال البالغين فهو من جملة المقاتلة باعتبار أن له بنية صالحة للقتال وإن كان لا يباشر القتال لمعنى وذوو الأعذار من العميان والزمنى ومقطوعي الأيدي والأرجل إن كانوا يباشرون القتال فهم من جملة المقاتلة وإن كانوا لا يباشرون ذلك فليسوا من المقاتلة لأنه كانت لهم بنية صالحة للقتال وإنما خرجوا عن ذلك بحلول الآفة فإن لم تعجزهم الآفة عن@(5/80)
القتال كانوا مقاتلة باعتبار الأصل والمريض والمغمى عليه من جملة المقاتلة لأن له بنية صالحة للقتال وما حل عارض على شرف الزوال فلا يخرج به من أن يكون من المقاتلة وإن كان لا يقاتل في الحال بخلاف العميان فإن ما حل بهم ليس على شرف الزوال فإذا أعجزهم عن القتال خرجوا من أن يكونوا من جملة المقاتلة ومن كان في الحصن من الرجال الزارعين الذين لم يقاتلوا قط فهم من جملة المقاتلة لأن لهم بنية صالحة للقتال فإن قيل : فقد ذكرتم قبل هذا أن هؤلاء بمنزلة العسفاء لا يقتلون قلنا : قد بينا أن هناك لا يستحب قتلهم إذا كان يعلم أنه لا يهمهم أمر الحرب أصلاً ولكن مع هذا يجور قتلهم لكونهم من المقاتلة وتأويل هذا في قوم من الزاعين يكثرون سواد المقاتلين ولهذا كانوا معهم في الحصن فلهذا جعلهم من المقاتلة والشيخ الكبير الذي لا يطيق القتال ولا رأي له في الحرب فهو ليس من المقاتلة ولهذا لا يجوز قتله بمنزلة الأعمى والمقعد فإن كان أحد من هؤلاء رأس الحصن ويصدرون عن رأيه فهو من جملة المقاتلة وإن كان لا يباشر القتال ولهذا جاز قتله إذا أسر فيتناوله الأمان أيضاً وأما العبيد ففي القياس هم ليسوا من المقاتلة وهم فيء أجمعون إذا وقع الأمان
للمقاتلة لأنه لا يملك ما به يكون القتال من نفس أو مال ولكنه استحسن فقال : إن علم أنه كان يقاتل مع مولاه فهو من جملة المقاتلة وإن كان لا يقاتل مع ملاوه فهو ليس من المقاتلة فكان فيئاً وهو دليل لأبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - في الفرق بين المأذون في القتال@(5/81)
وغير المأذون في صحة الأمان منه إلا أن محمداً يقول : صحة الأمان لا يعتمد كونه من المقاتلة فإن أمان المرأة صحيح وكذلك أمان ذوي الآفات صحيح وليسوا من جملة المقاتلة ولكن وجه هذه المسألة أن المملوك له بنية صالحة للقتال إلا أنه وقعت الحيلولة بينه وبين القتال باعتبار الملك الثابت فيه لغيره فتنعدم هذه الحيلولة بوجود الإذن له في القتال حكماً فقلنا : إذا كان يقاتل مع مولاه فهو من المقاتلة باعتبار البنية الصاحبة للقتال وإذا كان ممن لا يقاتل مع مولاه فهو ليس من المقاتلة باعتبار الحيلولة وإن كان الذي يملك العبيد قد جعلهم في ذلك الموضع للقتال فهم من المقاتلة باعتبار الحيلولة وإن كان الذي يملك العبيد قد جعلهم في ذلك الموضع للقاتل فهم من المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا قال : ألا ترى أن عامة عجم أهل خراسان من أهل الحرب عبيد لملوكهم يبيعونهم ويحكمون فيهم ما شاءوا وبهم يقاتلون العدو فمن كان من العبيد بهذه المنزلة فهو من المقاتلة قائل أو لم يقاتل وإذا اختلف المسلمون والمشركون في بعض من في الحصن فقال المشركون : هم أحار وقال المسلمون : هم عبيد كانوا في خدمة الموالي فالقول قول المشركين لتمسكهم بالأصل فإن قيل : حاجتهم إلى إثبات الأمان لهم والتمسك بالأصل يصلح حجة لإبقاء ما كان على ما كان لا لإثبات استحقاق ما لم يعرف قلنا : التمسك بالأصل لا يثبت الأمان لهم وإنما يثبت كونهم من المقاتلة ثم ثبوت الأمان للمقاتلة بالنص لا بالظاهر@(5/82)
وإن اتفق القوم أنهم عبيد فقال المشركون : كانوا يقاتلون معنا وقال المسلمون : كانوا عبيداً في خدمة الموالي فالقول قول المسلمين
وهم فيء لأنه قد ثبت باتفاقهم ما يوجب الحيلولة بينهم وبين القتال وهو الرق فالظاهر بعد ذلك إنما يشهد للمسلمين فهم فيء إلا أن تقوم البينة على ما قال المشركون ولا يقبل في ذلك إلا شهادة المسلمين لأنها تقوم على المسلمين .
وإن كانوا أهل الحصن الغالب منهم أنهم عبيد للملك وهم الذين يلون القتال والمسألة بحالها ففي القياس القول قول المسلمين وهم فيء لما ذكرنا وفي الاستحسان هم من المقاتلة فيأمنون حتى تقوم البينة للمسلمين أنهم كانوا خدماً لمواليهم ويقبل في ذلك شهادة أهل الحرب لأنها تقوم على أهل الحرب في هذا لأن الظاهر أنهم في المقاتلة والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف فيه على الحقيقة فأما كل بلد مثل الروم وغيرهم مما يكون الغالب فيه أن الأحرار هم المقاتلة فعبيدهم ليسوا من المقاتلة حتى يعلم منهم القتال للبناء على الظاهر في كل فصل وإن وقع الصلح على الأمان للمقاتلة وذراريهم وأموالهم ثم قالت المقاتلة لجيد المتاع وخيار السبي : هذا متاعنا وهؤلاء ذرارينا فالقول في ذلك قولهم مع اليمين لأنه لا يمكن الوقوف على ذلك إلا من جهتهم ويتعذر عليهم إثبات ذلك بالبينة من المسلمين فيجب قبول قولهم في ذلك بمنزلة ما يخبر به المرء عن نفسه مما يكون في باطنه وفي أمان المقاتلة يدخل الجرحى وإن أصابتهم الجراحة في هذا القتال كيفما كانت الجراحات .
وإن كانت الجراحات إنما أصابتهم قبل ذلك فإن كانت تحتمل البرء من ذلك فهم من المقاتلة أيضاً بمنزلة المريض المشرف على الهلاك وإن كانت لا تحتمل البرء من ذلك نحو قطع اليدين والرجلين فهؤلاء ليسوا من المقاتلة وهم فيء إلا أن يكونوا أصحاب رأي يصدر أهل الحصن عن رأيهم في القتال فلهذا أحضروهم للبأس فيكونون من المقاتلة حينئذ وإن قال أهل الحصن : أمنونا على@(5/83)
أن نختار من السبي كذا وكذا رأساً فإذا ليس في الحصن سوى ذلك العدد فهم آمنون سواء قالوا في الصلح : ولكم ما بقي أو لم يقولوا لأن الأمان لهم بالتنصيص على العدد فكان حالهم كحال أصحاب الفرائض مع العصبات فإذا لم يبق شيء بعد حق أصحاب الفرائض فلا شيء للعصابات ثم ذكر أنهم مإذا اشترطوا الأمان لأهل بيوتهم وقد تقدم بيان هذا في أبواب الأمان إلا أنه قال : ها هنا أهل بيت الرجل من يعوله وينفق عليه في بيته ممن بينه وبينه قرابة وممن لا قرابة بينه وبينه وفيما سبق قال : أهل بيته قرابته من قبل الأب الذين يناسبونه إلى أقصى أب يعرفون به وقد ذكرنا ها هنا أيضاً هذا التفسير فالحاصل أنه إنا كان المراد بالبيت المذكور بيت السكنى فكل من يعوله في بيته فهو من أهل بيته وإن كان المراد منه بيت النسب فكل من يناسبه إلى أقصى أب فهو من أهل بيته فإذا لم يعلم مراده بذلك دخل الفريقان في الأمان لأن باب الأمان مبني على التوسع وكل من تردد حاله بين أن يكون آمناً أو لا يكون فهو آمن لتغليب الحظر على الإباحة بخلاف الوصية على ما عرف وإن وقع الصلح على الرجال وأهليهم فأهل الرجل من يعوله في بيته وهو استحسان وفي القياس أهله زوجته خاصة وقد بينا هذا إلا أن في اسم الأهل لا يدخل غير عياله بخلاف اسم أهل البيت ثم بين مفاداة الأسير بالأسير وطريق كتبه الوثيقة في ذلك وإذا وقوع الصلح على أن يعطيهم المسلمون مائة رأس ويعطي المشركون المسلمين مائة رأس أيضاً فإن نظر المسلمون إلى ما في أيدي المشركين من
الأسراء فإذا هم لا يتمون مائة رأس فإنه لا ينبغي للمسلمين أن ينقضوا الصلح ولكنهم يعطونهم من الأسراء بعدد ما في أيديهم قلوا أو كثروا لأن الشرط هكذا جرى والبعض معتبر بالكل ولا يستحب للمسلمين أن يدعوا أسيراً واحداً من المسلمين لا يفادونه وإن لم يجدوا غيره فإن خبأ المشركون @(5/84)
أقوياء الأسراء وأظهروا المشيخة وأهل الزمانة منهم فإنه لا ينبغي للمسلمين أن يمتنعوا من المفاداة بهم لأن حرمة هؤلاء كحرمة الأقوياء إذا ظهروا والمفاداة بهم لحرمة المسلمين إلا أن يرجو المسلمون أنهم إذا أبوا عليهم أن يفادوا المشيخة أظهروا ما كتموا من أسراء المسلمين فحينئذ لا بأس بأن يمتنعوا من المفاداة بما أظهروا لمعنى النظر وإن أبوا إظهار ذلك فعلى الإمام أن يفادي ما أظهروا إلا أن يكون في ذلك توهين بين لأمر المسلمين وجرأة عليهم فحينئذ للإمام ألا يفاديهم لدفع المذلة عن المسلمين ألا ترى أنهم لو قالوا لا نفادي رجلاً من المسلمين إلا بمائة رجل من المشركين فإنه يكون للإمام أن يمتنع من ذلك وإن كان الرجل الواحد من المسلمين خيراً من مائة رجل من المشركين ولكن لدفع التوهين كان له أن يمتنع من ذلك فكذلك ما سبق فإن طلب الرسل الأمان لأنفسهم على أهليهم وأموالهم على أن يمكنونا من الحصن فأمناهم على ذلك فإذا هم لا أهل لهم ولا مال فهم آمنون خاصة دون من سواهم لأن إعطاء الأمان يكون للموجود دون المعدوم فإذا لم يوجد في الحصن شيء لهم من الأموال والأهلين فالأمان في أنفسهم صادف الموجود وفيما سوى ذلك صادف المعدوم وإن ادّعوا جميع ما في الحصن من الأموال أنها لهم وحلفوا على ذلك فالقول لهم لما بينا أنه لا يمكن الوقوف على ذلك إلا من جهتهم وإن أومنوا على ذراريهم قد بينا فيما سبق أن اسم الذرية يتناول الأولاد وأولاد الأولاد وأولاد البنين وأولاد البنات في ذلك سواء ألا@(5/85)
ترى أن الله تعالى سمى عيسى بن مريم - صلوات الله عليهما - من ذرية آدم عليه السلام
واسم النساء لا يتناول إلا الأزواج خاصة قال الله تعالى : { يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ } المجادلة : 5 وقال - تعالى - { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } البقرة : 226 والمراد الأزواج خاصة والنسل بمنزلة الذرية فأما اسم الأولاد لا يتناول إلا أولاد الصلب في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأن الاسم لهم حقيقة ولأولاد الأولاد مجاز فإذا صارت الحقيقة مراداً لم يطلق على المجاز وإن لم يكن لبعض من صالح ولد لصلبه فولد بنيه يدخلون الآن لأنهم أولاده مجازاً ويجب العمل بالمجاز إذا تعذر العمل بالحقيقة فأما ولد البنات فليسوا من ولده وفي هذا الفصل روايتان أيضاً قد تقدم بيانه في أبواب الأمان واسم البنين في الأمان يتناول المختلطين في قول محمد - رحمه الله تعالى - قال : وفي قياس قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - كقول محمد - رحمه الله - في الأمان استحساناً لأنه مبني على التوسع وليس في إدخال الأنثى مع الذكر فيه بخس لحق الذكر بخلاف الوصية وفي اسم الولد يدخل البنون والبنات لأنه اسم لكل من ينسب إليه بالولادة وإذا دخل المسلمون أرض الحرب بغير أمان فمروا بكنيسة من كنائسهم فلا بأس بتخريبها وتحريقها وقضاء الحاجة فيها وكذلك وطء الجواري فيها لأن هذا بمنزلة غيره من مساكنهم بل هو أهون على المسلمين من المساكن لكثرة ما يعصى الله تعالى فيها وإنما أراد بهذا الفرق بين البيع والكنائس وبيوت النيران وبين المساجد فإن المسجد مصلى للمسلمين مبين لإقامة الطاعات فيه فكان محرزاً من حق العباد خالصاً لله تعالى قال الله تعالى : { وَأَنَّ@(5/86)
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } الجن : 18 بمنزلة الكعبة فلهذا لا ينبغي أن يدخله جنباً فيه أو بطأ الرجل فيه امرأته أو يقضي فيه حاجته من بول أو غائط فأما هذه المواضع فهي معدة لعبادة غير الله تعالى فيها فكان حكمها وحكم مساكنهم سواء فإن طلب حربي الأمان لأهله وولده ونفسه على أن يدل المسلمين
على أهل قرية فيها أهله وولده فذلك جائز وبين في الكتاب وثيقة هذه الموادعة قم قال : فإذا دلهم على قرية فيها سبي قليل أو كثير فقد وفى بما قال فهو آمن لأنه أتى بالمشروط وإن لم يكن في القرية غير أهله وولده فهو فيء وأهله وولده للمسلمين لأنه ضمن بالعقد الدلالة على قرية فيها سبي وأهله وولده فيهم وإنما علق المسلمون الأمان بذلك فإذا لم يوجد منه الدلالة على مثل هذا الموضع لم يستفد الأمان وكذلك إن كان فيهم واحد أو اثنان من غير أهله وولده لأن الشرط أن يكون في القرية سبي سوى أهله وولده والسبي اسم جمع وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة وإن قال : قد كان في هذه القرية سبي فذهبوا فلا أمان له لأن الأمان إنما علق بدلالته على قرية فيها سبي وهذه قرية لا سبي فيها الآن ولأن المقصود أن يتمكن المسلمون من أخذ السبي بدلالته وبالذين كانوا فيها فذهبوا قبل دلالته لا يحصل هذه المقصود وإن كانوا أمنوه حين دخل العسكر ثم قال بعد ذلك : تؤمنوني على نفسي وأهلي وولدي على أن أدلكم على أهل هذه القرية فإن لم أوف فلا أمان بيني وبينكم ثم دلهم على قرية ليس فيها غير أهله وولده فأهله وولده فيء وهو آمن لأن أمانة كان ثابتاً قبل هذا الشرط فأما أمان أهله وولده فإنما علقه المسلمون بدلالته ولم يوجد فلا أمان لهم وبقي أمانه على ما كان من قبل لأنه بعد ما ثبت الأمان له فما لم يبلغ مأمنه كان آمناً وبقوله فلا أمان بيني وبينكم لا يوجد تبليغه إلى مأمنه فلا يبطل ذلك الأمان بخلاف الأول فإن هناك الأمان له معلق بشرط الدلالة على قرية فيها سبي كما لأهله وولده فإذا لم يدل على ذلك لم يكن آمناً فإن كان@(5/87)
سمى للمسلمين عدداً من السبي يدلهم على ذلك على أن يؤمنوه على نفسه فإن وفى بذلك وإلا فلا أمان له ثم إن دلهم على أقل من ذلك العدد فهو فيء لأن الشرط الذي علق به أمانه لم يوجد وفي القياس للمسلمين أن يقتلوه كما قبل هذا الاستئمان وفي الاستحسان ليس لهم أن
يقتلوه لأنه وفى لهم ببعض المشروط ولو وفى بجميع المشروط كان آمناً من القتل والاسترقاق جميعاً فوفاؤه ببعض المشروط يورث شبهة والقتل يندرىء بالشبهات وهذا لأن فيما شرط عليه معنى العوض باعتبار المنفعة للمسلمين ومعنى الشرط باعتبار الظاهر فإن اعتبرنا معنى الشرط كان لهم أن يقتلوه لأن الشرط يقابل المشروط جملة وإن اعتبرنا معنى العوض كان هو آمناً ففيما يندرىء بالشبهات رجحنا معنى العوض وهو القتل وفيما يثبت مع الشبهات رجحنا اعتبار معنى الشرط فجاز استرقاقه ثم بين الوثيقة في الموادعة المشروطة فيها الرهن من الجانبين أو من أحد الجانبين وقد استقصينا بيان باب من نكاح أهل الحرب مما لا يجوز في دار الإسلام وإذا أسلم الحربي وعنده أختان فإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فنكاحهما باطل وإن كان تزوجهما في عقدتين فنكاح الأولى منهما صحيح ونكاح الثانية باطل إذا أسلمتا معه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى وهو قول إبراهيم وقتادة وعند محمد - رحمه الله تعالى - سواء تزوجهما في عقدة واحدة أو في عقدتين فإنه يخير فيختار أيهما شاء ويفارق الأخرى ولو كان الذي فعل ذلك ذمياً في@(5/88)
دار الإسلام ثم أسلم وأسلمتا معه فالجواب كما هو قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأن الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات وحرمة الجمع من حكم الإسلام فلم يقع أصل نكاحهما صحيحاً إذا كان المباشر ملتزماً لحكم الإسلام فأما أهل الحرب فهم غير ملتزمين حكم الإسلام وكان أصل النكاح منهما صحيحاً باعتبار قصور الخطاب بتحريم الجمع عنهم فإذا اعترضت الحرمة في البعض بعد صحة النكاح وجب التخيير لا التفريق بمنزلة المسلم يطلق إحدى نسائه الأربع ثلاثاً بغير عينها وعلى هذا قال محمد - رحمه الله تعالى - إذا تزوج الذمي امرأة بغير صداق ثم أسلما فلها مهر مثلها بخلاف الحربي وقد قرر هذا الكلام في الكتاب فقال : اختصاص الابتغاء بالمال من حكم الإسلام
ثابت في حق الأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة حرمة ما زاد على الأربع فإنه من حكم الإسلام ثابت في حق الأمة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يثبت أحد الحكمين في حق أهل الحرب فكذلك الحكم الآخر وأبو حنيفة وأبو يوسف - رضي الله تعالى عنهما - قالا : وجوب الاعتراض بعد الإسلام بسبب الجمع فالجمع حصل لهما جميعاً والاستدامة على ما استدام كالإنشاء فيجعل في الحكم كأن العقد إنما وجد منه بعد الإسلام فإن كان تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما وإن كان تزوجهما في عقدتين بطل نكاح الثانية وكذلك الحكم في الزيادة على الأربع ألا ترى أن في أهل الذمة أثبتنا الجزية بهذا الطريق وكما أن أهل الحرب غير ملتزمين لحرمة الجمع فأهل الذمة غير ملتزمين لذلك ولهذا لا يتعرض الإمام لهم إذا فعلوا ذلك قبل المرافعة إليه فلهذا سوى أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بين أهل الذمة وأهل الحرب في النكاح بغير صداق ثم استدل محمد - رحمه الله تعالى عليه - لإثبات مذهبه بآثار ذكرها في@(5/89)
الكتاب بالإسناد فمنها : حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أن غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال هل النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعاً فلما كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فدعاه عمر - رضي الله عنه - فقال : طلقت نساءك وقسمت مالك بين بنيك قال : نعم قال : إني لأرى الشيطان فيما يسترق من السمع سمع لموتك فقذفه في نفسك فلعلك ألا تمكث إلا قليلاً وايم الله تعالى إن لم تراجع نساءك وترجع في مالك ثم مت لأورثهن من مالك ثم لأمرت بقبرك أن يرجم كما يرجم قبر أبي رغال قال محمد - رحمه الله تعالى - : أظنه فعل هذا في مرضه وروي عن محمد بن عبد الله أنا أبا مسعود بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي أسلم وتحته ثمان نسوة فتخير منهمن أربعاً قال محمد : أخبرنا الثقة عن عبد الله بن لهيعة عن أبي
وهب الجيشاني أن الضحاك بن فيروز الديلمي يروي عن أبيه قال : أسلمت وعندي أختان فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفارق إحداهما قال محمد - رحمه الله تعالى - وفيروز الديلمي كان من أهل فارس الذين كانوا بصنعاء أسلم فحسن إسلامه قال الشيخ : وتأويل هذه الآثار عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - من وجهين أحدهما : أن أصل هذه الأنكحة كانت قبل نزول تحريم الجمع منهن ومثله لا يوجد في زماننا والثاني أنه أراد بقوله : اختر إحداهما أو اختر منهم أربعاً بتجديد العقد عليهن لا للإمساك لحكم ما تقدم من العقد وأبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - قائل بهذا ثم ذكر إسلام أحد الزوجين في دار الحرب فالحاصل فيه أنه إن أسلم الزوج والمرأة من أهل الكتاب فهي امرأته لأن ابتداء النكاح بينهما على هذه الصفة جائز فالبقاء أجوز فإن كانت من غير أهل الكتاب أو كانت المرأة هي التي أسلمت فإنه يتوقف وقوع الفرقة بينهما على انقضاء ثلاث حيض لأن بعد صحة النكاح لا بد من تقرير السبب الموجب للفرقة وإسلام من أسلم منهما لا يصلح@(5/90)
لذلك فهو سبب لتقرير الملك وكفر من أصر منهما كان موجوداً قبل هذا أولاً ولا أثر له في الفرقة وقد تعذر استدامة النكاح بينهما فقلنا : بأنه يتوقف وقوع الفرقة بينهما على انقضاء مدة العدة لأن لانقضاء مدة العدة تأثيراً في الفرقة بعد الطلاق الرجعي ولو كانا في دار الإسلام لكان يعرض الإسلام على المصر منهما ثلاث مرات ويفرق بينهما إن أبى الإسلام فإذا تعذر عرض الإسلام بسبب انقطاع ولاية الإمام عنها أقمنا ثلاث حيضات مقام ثلاث عرضات في ذلك فإن خرج الذي أسلم منهما إلى دار الإسلام قبل انقضاء ثلاث حيض فكذلك الجواب عند أهل الحجاز وعند أهل العراق تقع الفرقة بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكماً لأن من في دار الحرب من أهل الحرب في حق من هو من أهل دار الإسلام كالميت قال الله - تعالى - : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ }
الأنعام : 122 واختلفت الرواية في رد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ابنته زينب - رضي الله تعالى عنها - على أبي العاص فروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم ردها عليه بنكاح جديد وروى عامر الشعبي أنه ردها عليه بالنكاح الأول فإن كان الرد بنكاح جديد فهو حجة لنا وإن كان الرد بالنكاح الأول فتأويله ما قاله الزهري أن ذلك كان قبل نزول الفرائض وقال قتادة : كان ذلك قبل نزول سورة براءة وقال الشعبي : كان ذلك قبل نزول قوله تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } الممتحنة : 10 وفيما ذكر هؤلاء بيان أن هذا الحكم@(5/91)
منسوخ بنزول هذه الآيات وأنه لا عصمة بين الزوجين بعد تباين الدارين حقيقة وحكماً والذي يقوله الزهري : إن نساء من قريش أسلمن يوم الفتح وهرب أزواجهن ثم رجعوا إلى الإسلام فأقرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أزواجهن بذلك النكاح على ما يروى من حديث أم حكيم امرأة عكرمة ابن أبي جهل وحديث امرأة حكيم بن حزام فهؤلاء قوم قد هربوا إلى الساحل وهي من حدود مكة قد صارت مفتوحة بفتح مكة فلم يوجد تباين الدارين بينهن وبين أزواجهن والذي يروى أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران في معسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجته هند مشركة بمكة ثم أسلمت فردها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنكاح الأول فقد تكلم الناس أنه متى حسن إسلام أبي سفيان بعد اتفاقهم أنه لم يحسن إسلامه يومئذ وإنما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس - رضي الله عنه - أن أميمة بنت بشر فرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسلمة زوجها كافر مقيم بأرض الكفر فلما انقضت عدتها زوجها رسول@(5/92)
صلى الله عليه وآله وسلم سهيل بن حنيف ثم قدم زوجها بعد ذلك مسلماً فلم يرد إليه وفي هذا دليل أن الفرقة وقعت بينهما بتباين الدارين وبه يستدل محمد - رحمه الله تعالى - على وجوب العدة على المهاجرة وأبو حنيفة - رضي
الله تعالى عنه - لا يرى على المهاجرة العدة وجعلها في ذلك كالمسبية لأن وقع الفرقة في الموضعين كان بتباين الدارين حكماً وليس في الحديث أنها اعتدت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عن سعيد بن جبير قال : إذا لحقت المرأة بأرض الحرب فلا تعتد بها في نسائك وبه نأخذ فنقول : إذا لحقت مرتدة عن الإسلام أو كانت ذمية فلحقت ناقضة للعهد فقد بانت من زوجها لتباين الدارين حقيقة وحكماً حين صارت حربية ولكن لا عدة لها ها هنا لأن العدة من حكم الإسلام والحربية لا تخاطب بذلك بخلاف المهاجرة على قول محمد - رحمه الله عليه - وعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - هما سواء في حكم العدة إلا أن المهاجرة إذا كانت حاملاً فليس لها أن تتزوج ما لم تضع حملها لا لوجوب العدة عليها ولكن لأن في بطنها ولداً ثابت النسب بمنزلة أم الولد إذا حبلت من مولاها فقد روى الحسن عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنها : إن تزوجت جاز النكاح ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع حملها لكيلا يكون ساقياً ماؤه زرع غيره بمنزلة المسبية إذا كانت حاملاً فتزوجها مولاها وإذا تزوج الحربي في دار الحرب امرأة وابنتها في عقدة واحدة أو عقدتين ثم أسلموا قبل أن يمس واحدة منهما فعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - إن كان تزوجهما في عقدة واحدة فنكاحهما فاسد وإن كان تزوجهما في عقدتين فنكاح الثانية فاسد لأن@(5/93)
وجوب الاعتراض لمعنى الجمع ها هنا بمنزلة نكاح الأختين وعلى قول محمد - رحمه الله - نكاح الابنة صحيح في الوجهين ونكاح الأم فاسد لأن الحرمة بسبب الجمع لا تثبت في حقهم عنده قبل الإسلام كما في حق الأختين فكان نكاح البنت صحيحاً تقدم أو تأخر وبمجرد العقد الصحيح على الابنة تحرم الأم وبمجرد العقد على الأم لا تحرم الابنة فلهذا صح نكاح البنت في الوجهين وبطل نكاح الأم وهذا لأن حرمة المصاهرة نظير حرمة الرضاع والنسب و يثبت في دار الحرب عند تقرر سببه كما يثبت في دار
الإسلام فهذا مثله وإن كان دخل بهما فنكاحهما باطل على كل حال بالاتفاق لأن الدخول بكل واحدة منهما يحرم الأخرى بسبب المصاهرة على التأبيد وإن كان دخل بإحداهما دون الأخرى فعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - إن كان دخل بالأم بعد ما تزوج الابنة فنكاحهما باطل لأن العقد الصحيح على الابنة يوجب حرمة الأم والدخول بالأم يوجب حرمة البنت وإن كان دخل بالأم قبل أن يتزوج الابنة فنكاح الأم صحيح لأن الدخول بها يوجب حرمة الابنة ثم العقد على الابنة بعد ذلك غير صحيح والعقد الفاسد على الابنة لا يوجب حرمة الأم وإن كان دخل بالابنة فنكاحها صحيح لأنه لم يوجد في حق الأم إلا مجرد والعقد لا يوجب حرمة الابنة وعلى قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وأبي يوسف - رحمه الله تعالى - إن كان تزوجهما في عقدة فنكاحهما باطل ثم له أن يتزوج التي دخل بها أمّاً كانت أو بنتاً وليس له أن يتزوج الأخرى لأن الدخول بمن دخل بها محرم للأخرى أمّاً كانت أو ابنة وإن كان تزوجهما في عقدتين فإن كان تزوج الابنة أولاً ودخل بها فنكاحها صحيح@(5/94)
ونكاح الأم باطل لأجل المصاهرة وإن كان دخل بالأم فنكاحهما باطل لأن العقد على الابنة كان صحيحاً وذلك يوجب حرمة الأم وقد دخل بالأم وذلك يوجب حرمة الابنة وإن كان تزوج الأم أولاً فإن دخل بها فنكاحها صحيح وإن دخل بالابنة بطل نكاحهما جميعاً لأن العقد على الابنة لم يكن صحيحاً لمعنى الجمع والدخول بالابنة مبطل نكاح الأم ثم له أن يتزوج الابنة دون الأم لأن الموجود منه في حق الأم مجرد العقد والعقد على الأم لا يوجب حرمة الابنة فلهذا كان له أن يتزوجها قال : ولو تزوج الحربي أمة وحرة ثم أسلموا جاز نكاحهما في قول محمد - رحمه الله - لأن حرمة الجمع بين الأمة والحرة لم يكن ثابتاً في حقهما عنده وبعد الإسلام الحال حال استدامة النكاح واستدامة النكاح على الأمة والحرة من حكم الإسلام ولم يذكر قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى
عنه - في هذا الفصل وقيل : الجواب هكذا على قوله لأن حكم لخطاب إنما يثبت في حقهم بعد الإسلام وقيل : بل عنده يبطل نكاح الأمة ويجعل كالمجدد للعقد عليهما بعد الإسلام كما في حق الأختين قال : وإذا تزوج الحربي أربع نسوة في عقدة أو عقدتين ثم سبي وسبين معه فعلى قول محمد - رحمه الله تعالى - يختار اثنتين منهن لأن ما زاد علي الثنيتين في حق العبد بمنزلة الزيادة على الأربع في حق الحر وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - يبطل نكاحهن جميعاً هاهنا إما إنه إن تزوجهن في عقدة واحدة فهو غير مشكل لأنه@(5/95)
بمنزلة الحر يتزوج خمس نسوة في عقدة واحدة ثم يسلم ويسلمن معه وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة فالفرق بين هذا الفصل وبين ما إذا أسلم وأسلمن معه أن هناك نكاح ما زاد على الأربع ما وقع صحيحاً بحكم الإسلام فإذا وجب الاعتراض بحكم الإسلام يتعين الفساد ما لم يقع صحيحاً بحكم الإسلام وهاهنا نكاح الأربع وقع صحيحاً بحكم الإسلام لأنه كان حراً حين تزوجهن فلم يكن البعض بإفساد نكاحها بأولى من البعض فلهذا فرق بينه وبينهن ولو تزوج حربي رضيعتين ثم أرضعتهما امرأة ثم أسلموا فهذا وما لو كانتا أختين حين تزوجهما سواء على الخلاف الذي بيننا لأنهما صارتا أختين قبل الإسلام بالرضاع وإن كانت إنما أرضعتهما بعدما أسلموا فقد فسد نكاحهما جميعاً وبه استدل أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - على محمد - رحمه الله تعالى - إلا أن محمداً يقول : لما أسلموا قبل الإرضاع فحالهم وحال مال لو كانوا مسلمين حين تزجهما سواء والمسلم إذا تزوج رضيعتين ثم أرضعتهما امرأة وقعت الفرقة بينه وبينهما لأن المفسد وهي الأختية وجد فيهما جميعاً بخلاف ما سبق وكذلك إذا أسلم الزوج وهم من أهل الكتاب ثم أرضعتهما امرأة ولو كان تزوج الحربي كبيرة ورضيعة وللكبيرة لبن فأرضعت الصغيرة ثم أسلموا ففي قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - نكاحهما فاسد لأنه صار جامعاً
بينهما بعد ما صارتا أما وابنة فكأنه تزوجها ابتداء بعد الإرضاع وفي قول محمد - رحمه الله - نكاح الابنة جائز لأنه وجد العقد الصحيح على الابنة وذلك يوجب حرمة الأم ومجرد العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت ولو كان الإرضاع بعد الإسلام بطل نكاحهما بالاتفاق بمنزلة ما لو تزوجهما بعد الإسلام وكذلك لو أسلم الزوج ثم أرضعت الكبيرة الصغير فقد فسد نكاحهما لأن المخاطب بحرمة الجمع بين الأم والبنت الزوج ولو كانت الكبيرة أسلمت وحدها ثم أرضعت الصغيرة فعند محمد - رحمه الله - يفسد@(5/96)
نكاحها ويجوز نكاح البنت لأن الزوج حربي حين أرضعتها فكان هذا وما لو أرضعتها قبل إسلامها سواء ولو كان الذي أسلم أبو الصغيرة ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فقد فسد نكاحهما جميعاً أما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : لا إشكال وأما عند محمد - رحمه الله - فلأن الابنة صارت مسلمة بإسلام الأب فلا يجوز نكاحها مع أمها بحكم الإسلام فبطل نكاحها لهذا المعنى وقد بطل نكاح الأم بسبب العقد على الابنة فلهذا قال : يفسد نكاحهما جميعاً وأوضح هذا بما لو تزوج رضيعة ثم طلقها ثم تزوج كبيرة فأرضعت الصغيرة فإن الكبيرة تحرم عليه لأن الصغيرة صارت ابنة لها وقد كانت في نكاحه في وقت بعقد صحيح ومجرد العقد عل الابنة يوجب حرمة مؤبدة في حق الأم ولو أن زوجين مستأمنين في دار الإسلام وأسلم الزوج وهي من أهل الكتاب فأرادت الرجوع إلى دار الحرب لم يكن لها ذلك لأن بعد إسلام الزوج النكاح مستدام بينهما فهي مستأمنة تحت مسلم فتصير ذمية لأن المرأة في المقام تابعة لزوجها بمنزلة ما لو تزوجت بمسلم ابتداء وكذلك إذا صار الزوج ذمياً لأن الذمي من أهل دارنا كالمسلم فإن جحدت أن تكون امرأته فالقول قولها وعلى الزوج البينة ولا يقبل عليها بالنكاح شهادة أهل الحرب لأن في زعم الزوج والشهود أنها ذمية وشهادة أهل الحرب على الذمي لا تكون حجة ولو كانت أنكرت النكاح قبل أن يسلم الزوج أو يصير
ذمياً لم يقض القاضي عليهما بشيء وإن أقام بينة من المسلمين أنهما مستأمنان فلا يقضي القاضي بين المستأمنين بحقوق معاملة جرت في دار الحرب لأنهما لم يلتزما حكم الإسلام وهو إنما يزعم أن النكاح بينهما كان في دار الحرب فلهذا لا يقضي بينهما باعتبار زعمه ولو لم تكن المرأة كتابية فإن القاضي يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا فرق بينهما لأنهما تحت ولايته الآن فيمكن@(5/97)
من عرض الإسلام على الذي يأبى منهما وبناء التفريق عليه ثم يكون لها أن ترجع إلى دار الحرب بعد انقضاء عدتها لأن النكاح غير مستقر ها هنا بعد إسلام الزوج فإن ابتداء العقد بينهما على هذه الصفة لا يجوز فلا تصير ذمية إلا أن العدة تلزمها لحق الزوج المسلم فلا تتمكن من الخروج قبل انقضاء العدة لأني لا أدري لعلها حامل وولدها مسلم بإسلام أبيه فلهذا لا تتمكن من الرجوع إلى دار الحرب قبل انقضاء العدة ولو لم يسلم زوجها ولكنه صار ذمياً فليس لها أن ترجع إلى دار الحرب لأن الزوج في المقام لا يتبع امرأته قال : ولو ذهب إلى دار الحرب قبل عرض القاضي عليه الإسلام فقد وقعت الفرقة بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكماً وهذه فرقة بغير طلاق والمرتد ليس من أهل النكاح لأن النكاح يعتمد الملة ولا ملة للمرتد وقد قررنا هذا في شرح المختصر ثم فرع على فصل المهاجرة وقال : إذا طلقها زوجها وهو في دار الحرب لم يقع طلاقه عليها أما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فلأنه لا عدة عليها وأما عند محمد - رحمه الله تعالى - فلأنه حربي ولا عصمة بين الحربي والمسلم وفي الحكم بوقوع طلاقه عليها إثبات معنى العصمة بينهما ولهذا قال محمد - رحمه الله تعالى - ولو كان أسلم ثم طلقها وقع طلاقه عليها لأنها في عدته ويجوز الحكم بالعصمة بين المسلمين وإن كان أحدهما في دار الحرب وقاس هذا بالمرتد اللاحق بدار الحرب إذا طلق امرأته لم يقع طلاقه عليها وإن كانت في عدة منه@(5/98)
ولو رجع مسلماً أو أسلم في دار
الحرب ثم طلقها وقع طلاقه عليها لأنها في عدته ولو كان الحربي دخل إلينا بأمان ثم طلق المهاجرة التي تعتد منه لم يقع طلاقه عليها لأنه حربي بعد فكان حاله وحال ما لو كان في دار الحرب صورة سواء ألا ترى أن امرأة حرة لو كانت تحت عبد فاشترته بعد ما دخل بها فقد فسد النكاح وعليها العدة وإن طلقها وهو عبد لها لم يقع طلاقه عليها لأنه لا عصمة بسبب النكاح بين المملوك وبين المالكة وإن أعتقته أو باعته ثم طلقها وقع طلاقه عليها لأنها في عدته ولو كانت المهاجرة حاملاً فلزوجها في قول أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أن يتزوج أختها لأنه لا عدة عليها وإنما لا يجوز لها أن تتزوج بزوج آخر لأن في بطنها ولداً ثابت النسب فكان حالها كحال أم الولد إذا حبلت من مولاها وهناك للمولى أن يتزوج أختها ولكن لا يطؤها حتى تضع حملها كيلا يصير جامعاً ماءه في رحم أختين فهذا مثله وكذلك الحكم فيالمسبية ولو أسلم الزوج وخرج إلينا وترك زوجته في دار الحرب فقد وقعت الفرقة بينهما بتابين الدارين ولكن ليس لها أن تتزوج بزوج آخر إذا كانت حاملاً وهذه لا عدة عليها ولكن في بطنها ولد ثابت النسب إلا أن نسب ولدها لا يلزم الزوج إلا أن تأتي به لأقل من ستة أشهر لأنها بانت إلى عدة تباين الدارين فكان ذلك بمنزلة الطلاق قبل الدخول في الحكم ولو أسلمت المرأة في دار الحرب ثم وقعت الفرقة بينهما بمضي ثلاث حيض فهذا في حكم العدة وما لو وقعت الفرقة بينهما بخروجها إلى دار الإسلام سواء لأن في الموضعين قد وقعت الفرقة بينهما وهي حرة مسلمة مخاطبة بحكم الإسلام سواء كانت في دار الحرب أو في دار الإسلام@(5/99)
قال : حربية أسلمت في دار الحرب ثم خرجت وخرج زوجها معها بأمان فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض أو يعرض عليه السلطان الإسلام لأنه من وجه كالذمي فإن السلطان يتمكن من عرض الإسلام عليه وهو في الحقيقة حربي حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فلكونه حربياً قلنا : الفرقة تقع
بينهما بمضي ثلاث حيض ولكونه بمنزلة الذمي من وجه قلنا : يفرق بينهما بعد إباء الإسلام وبأي الوجهين وقعت الفرقة بينهما فعليها أن تعتد بثلاث حيض ولو طلقها في العدة وقع عليها طلاقه لأنه معها في دار الإسلام وقد بينا أنه كالذمي من وجه ألا ترى : أنه لو خلعها قبل أن يفرق بينهما السلطان ثم طلقها في العدة ثلاثاً أو طلقها قبل الخلع ثلاثاً وقع طلاق عليها فكذلك بعد التفريق بينهما لأن تلك فرقة بطلاق وهذا بخلاف ما لو خرجت وحدها ثم خرج الزوج بعدها مستأمناً فإنه لا يقع طلاقه عليها لأن هناك قد بقي الزوج في دار الحرب بعد خروجها فانقطعت العصمة به بينهما وصار بحال يقع طلاقه عليها فما لم يصر من أهل دارنا بعد ذلك لا يلحقها طلاقه وها هنا حين وقعت الفرقة كان هو معها في دار الإسلام فلم يكن في حالة من الحالات بحال لا يقع طلاقه عليها فلهذا قلنا ما دامت في العدة يقع طلاقه عليها والله أعلم بالصواب .
قال - رحمه الله - ويكره للمسلم أن يتزوج في دار الحرب كتابية منهم حرة كانت أو أمة هكذا نقل عن عليّ - رضي الله عنه - وهذا لأنه ربما يبقى له نسل في دار@(5/100)
الحرب وفيه تعريض ولده للرق فإنها لو سبيت وهي حبلى منه صار ما في بطنها رقيقاً وربما يتخلق أولاده بأخلاق الكفار إلا أن هذه الكراهة ليست لمعنى في عين النكاح في محله أو شرطه فلا يمنع صحة النكاح بعد أن كان بشهود مسلمين في قول محمد - رحمه الله - وفي قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يستوي إن كان الشهود مسلمين أو كفاراً وهي معروفة فإن كان يخشى العنت على نفسه فلا بأس بأن يتزوجها لأن التحرز عن الزنا فرض ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح وهو نظير ما لو تزوج أمة لمسلم أو ذمي في دار الإسلام فإن ذلك مكروه له إلا أن يخشى العنت على نفسه فهذا مثله ولو أسروا حرة مسلمة أو ذمية فلا بأس لهذا المسلم أن يتزوجها وإن لم يخف العنت على نفسه لأنها حرة من أهل دارنا ولم يملكوها بالاسترقاق فيجوز للمسلم أن يتزوجها برضاها في دارهم كما يجوز في دارنا فإن كانت أمة له فذلك مكروه له إلا يخشى العنت على نفسه لأنهم بالأحراز ملكوها حتى لو أسلموا كانت أمة لهم فولده منها يكون عبداً لهم وفرق بين هذا وبين ما إذا تزوج فيهم بغير شهود فإنه لا يجوز وإن كان يخشى العنت على نفسه وكذلك إذا لم يجد شهوداً مسلمين على قول محمد - رحمه الله تعالى - لأن المنع هناك لانعدام شرط الجواز وهو الشهود وذلك منع لمعنى في عين النكاح أو لمعنى في المحل بأن كان لا يجد إلا مجوسية أو وثنية وهناك لا يجوز له نكاحها سواء كان يخشى عليه العنت أو لا يخشى فأما ها هنا المنع لما فيه من تعريض ولده للرق وهو غير متصل بالنكاح شرطاً ولا محلاً فإذا ظهر ما هو الأولى بالاعتبار منه قلنا : يجوز النكاح من غير كراهة وإن كانوا أسروا مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد ثم زوجوها من هذا المسلم لم يجز ذلك لأنهم لم يملكوها بالإحراز ولا نكاح
إلا بولي وولي المكاتبة مولاها فإذا أذن لها مولاها في التزوج بكتاب كتبه من دار الإسلام فلا بأس بأن يتزوجها لأنها باقية على ملكه والكتاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا فإن دخل مولاها دارهم بأمان فلا بأس بأن يطأ مدبرته وأم ولده إذا خلا بها ولم يكن الحربي وطئها لأنها باقية على ملكه فإن وطئها الحربي فليس@(5/101)
لمولاها أن يطأها بعد ذلك لأن فيه اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد إلا أن يترك الحربي وطأها فحينئذ للمولى أن يطأها إذا استبرأ رحمها فأما المكاتبة فليس له أن يطأها كما لم يكن له ذلك قبل الأسر لأنها بالكتابة صارت كالخارجة عن ملكه وكذلك لو زوجها إياه الحربي لأنها باقية على ملكه حقيقة فلا يثبت النكاح بينه وبينها بخلاف المدبرة وأم الولج إذا زوجها الرحبي منه جاز له وطؤها لأنه إنما يطؤها بالملك لا بالنكاح ألا ترى أن قبل التزوج كان وطؤها حلالاً له ولو أسروا امرأته وهي حرة أو أمة ثم دخل إليهم بأمان فلا بأس بأن يطأها لبقاء النكاح بينهما فإن قيل : هذا في الحرة صحيح وأما في الأمة فهو غير صحيح لأنها صارت مملوكة لهم حتى لو أسلموا كانت لهم والمملوك تبع لمولاه فقد صارت بهذا الطريق من أهل دار الحرب وتباين الدارين حقيقة وحكماً موجب للفرقة بينهما قلنا : لا كذلك فإنها كانت من أهل دارنا لكونها مسلمة أو ذمية وذلك لا ينتقض بتملكهم إياها بالإحراز كما لا ينتقض بتملكهم إياها بالشراء والإدخال في دار الحرب فكما لا يفسد النكاح بينهما هناك لا يفسد هاهنا إلا أن يكون مولاها الحربي قد وطئها فحينئذ لا يحل للزوج أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة وإن كانت حرة فوطئها الحربي لم يكن لزوجها أن يطأها حتى تعتد بثلاث حيض لأن ما كان من الحربي في معنى الوطء بشبهة فالتأويل الباطل منهم معتبر بالتأويل الصحيح في الحكم وعلى هذا لو وطئها الحربي ثم جاءت بولد فإن جاءت به لأقٌل من سنيتين منذ وطئها الحربي فإن نسب الولد يثبت من الزوج وإن
جاءت به لأكثر من سنتين لم يثبت نسب الولد منه لأنها حرمت عليه @(5/102)
بوطء الحربي إياها فيجعل بمنزلة ما لو حرمت عليه بأن طلقها تطليقة بائنة ولو كانت المسبية أمة لمسلم ثم دخل مولاها إليهم بأمان فليس له أن يطأها لأنهم ملكوها بالإحراز فيكون هو واطئاً ملك غيره لو فعل ذلك وذلك لا رخصة فيه بحال بخلاف أم الولد والمدبرة فإن زوجها الحربي منه جاز النكاح وإن كان ذلك مكروهاً للمسلم بمنزلة ما لو زوجه أمة أخرى له مسلمة أو كتابية ولو أن حربياً في دار الحرب من المسلمين تزوج أمة من آبائهم فولدت له أولاداً ثم ظهر المسلمون على الذراري فالصغار من أولاده أحرار المسلمون بإسلام أبيهم لأنهم كانوا مملوكين لمولى الأم وقد قتل أو هرب حين ظهر المسلمون على الدار فصاروا محرزين أنفسهم بمنعة المسلمين والمملوك المسلم للحربي إذا أحرز نفسه بمنعة الجيش كان حراً كالمراغم وأما الكبار من أولاده فمرتدون لأنهم وصفوا بالكفر بعد البلوغ وقد كانوا مسلمين بإسلام الأب فصاروا مرتدين أرقاء لمن أحرزهم رجالهم أو نساءهم لأن مع ردتهم لا يتحقق إحراز أنفسهم علي الموالي فلا يعتقون ويجبرون على الإسلام ولا يقتلون لأنه ما وجد منهم الإسلام بعد كمال حالهم بالبلوغ ومن ثبت له حكم الإسلام تبعاُ للأبوين لا يقتل إذا بلغ مرتداً لمعنى الشبهة وأما أمهم فهي فيء لمن أخذها وإن كان في بطنها ولد فهو رقيق معها لأن ما في البطن جزء من أجزائها فيكون رقيقاً تبعاً لها وإن كان مسلماً تبعاً لأبيه ولأنه لا يتحقق منه إحراز نفسه ما دام مخفياً في بطنها ولو كان تزوج حرة منهم والمسألة بحالها فهذا والأول سواء إلا في فصل واحد وهو أن الكبار من أولاده ها هنا @(5/103)
أحرار بخلاف الأول لأنهم انفصلوا من حرة فكانوا أحراراً بحريتها ولكنهم مرتدون فمن كان منهم رجلاً فهو لا يصير رقيقاً بالسبي ومن كان منهم امرأة فقد صارت أمة بالسبي وتجبر على الإسلام كما هو الحكم في المرتدات ولا يكون تزوج
المسلم إياها أماناً لها لأنه في دار الحرب لو أمنها نصاً لم يصح منه فكذلك بالدلالة وليس للأولاد أن يوالوا أحداً ولا يعقل عنهم بيت المال إن لم يوالوا أحداً لأن لهم عشيرة وهم قوم أبيهم فيعقلون عنهم ويرثونهم ومن كان بهذه الصفة فليس له أن يوالي أحداً .
ولو كانوا سبوا من دار الإسلام حرة مسلمة أو ذمية ثم زوجوها من هذا الحربي فهذا وما سبق سواء إلا في خصلة واحدة لا تكون هي ولا ما في بطنها فيئاً لأنها حرة من أهل دارنا فلا تلمك بالسبي والأولى حرة حربية فملكت بالسبي وإن كانت أمة مسلمة أو ذمية مسلمة والمسألة بحالها فأولادها أرقاء ها هنا لا يعتقون بالسبي الصغار والكبار في ذلك سواء لأن حق المسلم المأسور منه قائم فيهم ويمنع ثبوت العتق لهم بطريق المراغمة فقلنا : إن وجدهم المأسور منه أخذهم قبل القسمة بغير شيء وإن وجدهم بعد القسمة أخذهم بالقيمة فإن كان المأسور منه ذمياً أجبر على بيعهم بعد ما يأخذهم لأن الصغار منهم مسلمون بإسلام أبيهم والذمي يجبر على بيع العبد المسلم إذا حصل في ملكه والكبار منهم مرتدون وللمرتد حكم الإسلام في هذا الفصل لكونه مجبراً على العود إلى الإسلام .
ولو كانت الأمة المأسورة من دار الإسلام لم يتزوجها المسلم ولكن مولاها الحربي وطئها فولدت له أولاداً ثم ظهر المسلمون على الدار فهي حرة لا سبيل عليها لأنها مسلمة أو ذمية@(5/104)
وقد صارت أم ولد للحربي فإذا سقط حق الحربي عنها كانت حرة .
وأولادها أحرار بمنزلتها إن كانت مسلمة أو ذمية لأنهم صاروا محرزين أنفسهم بمنعة المسلمين ولهم أن يوالوا من أحبوا لأن أباه لا ولاء له ولا عشيرة بخلاف ما سبق فإن كبروا كفاراً محاربين للمسلمين قلنا : إن كانت أمهم مسلمة فهم مرتدون لأنهم كانوا مسلمين تبعاً لها فإذا بلغوا مرتدين أجبروا على الإسلام وكانوا أحراراً وإن كانت أمهم ذمية فهم فيء أجمعون لأنهم كانوا من أهل الذمة تبعاً لها وقد صاروا ناقضين للعهد حين حاربوا المسلمين فإن قال المأسور منه : أنا أحق بالأمة لأنها أسرت من يدي وملكي لم يلتفت إلى قوله لأن الحربي كان ملكها حتى لو أسلم عليها كانت له وقد استولدها فلا يبقى للمالك القديم فيها حق الأخذ بحال ألا ترى : أن الحربي لو كان أعتقها نفذ عتقه فيها فكذلك إذا استولدها ولو كان مولاها القديم إنما زوجها من الحربي والمسألة بحالها فالأمة وأولادها للمأسور منه ها هنا لأنها إنما ولدت من زوج لا تصير به أو مولد وقيام حق المأسور منه فيها وفي أولادها يمنع ثبوت العتق لهم بطريق المراغمة والإحراز بمنعة المسلمين فلهذا كان له أن يأخذهم قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة ومن كبر من أولادها فكان على دين أبيه فإن كانت هي مسلمة فهي مجبرة على الإسلام لأنه كان مسلماً تبعاً لها فإذا بلغ كافراً كان بمنزلة المرتد وإن كانت ذمية لم يجبر هذا الولد على الإسلام لأنه مولود بين كافرين في دار الحرب ولو كانت المأسورة حرة والمسألة بحالها فهي وأولادها أحرار لا سبيل عليها لأنها حرة من أهل دارنا والأولاد يتبعون الأم في الرق والحرية وقد عرفت الجواب أن الولد يتبع خير الأبوين ديناً في حكم النكاح والذبيحة حتى إذا كان أحدهما من أهل الكتاب كان الولد مثله بمنزلة ما لو كان أحد الأبوين مسلماً كان الولد مسلماً تبعاً له ومن بلغ منهم كافراً فالحكم فيه ما هو الحكم فيما سبق من الفرق بينهما إذا كانت المرأة مسلمة أو ذمية والفرق بين
الرجال والنساء في حكم الاسترقاق كما هو الحكم في المرتدين والله الموفق .@(5/105)
باب إثبات النسب من أهل الحرب من السبايا
قال - رحمه الله - : ولو أن أهل الحرب سبوا مسلمة حرة أو مملوكة أو ذمية حرة أو مملوكة فاشتراها من السابي رجل منهم فاستولدها ثم أسلم أهل الدار أو صاروا ذمة فإن كانت مسلمة أو ذمية حرة في الأصل فهي حرة على حالها لأن الحرية المتأكدة في دارنا لا ناقض لها وأولادها أحرار بطريق التبعية لها والنسب ثابت من المشتري لأنه وطئها على وجه الملك بشبهة فتأويلهم الباطل بمنزلة التأويل الصحيح في الحكم ولا صداق عليه لها لأن المستوفى بالوطء في الحكم جزء منها وقد كان حربياً حين استوفى ذلك الجزء فكما لا يغرم شيئاً إذا استهلكها لا يغرم بوطئه إياها شيئاً أيضاً وإن كانت مدبرة أو أم ولد في الأصل فهي مردودة علي مولاها لأنهم لم يملكوها بالإحراز وأولادها أحرار لأنهم كانوا مسلمين تبعاً لها إن كانت مسلمة وذميين تبعاً لها إن كانت ذمية ولأن هذا بمنزلة ولد المغرور على ما بينا أن المشتري استولدها بتأويل الملك وولد المغرور حر ثابت النسب من أبيه إلا أنه ليس على الأب من قيمة الأولاد ها هنا شيء للطريق الذي قلنا في العقر في الفصل الأول فهذا لأن المشتري كان محارباً حين استولدها وذلك يمنع وجوب الضمان عليه باستهلاك جزء منها فكذلك إذا صار مستهلكاً للولد بحكم الغرور فإن قيل : المغرور إنما يضمن قيمة الولد وقت الخصومة وعند الخصومة القوم مسلمون أو أهل الذمة قلنا : نعم ولكن إنما يضمن وقت الخصومة بسبب الاستيلاد المتقدم وذلك السبب تحقق منه حين كان حربياً غير موجب للضمان عليه فلا يجب الضمان بعد ذلك وإن أسلموا وإن كانت مكاتبة فالجواب فيها وفي أولادها أنها ترد مكاتبة على حالها لأن المكاتبة لا تملك@(5/106)
بالأسر وأولادها أحرار بحكم الغرور وليس على الأب من العقر ولا من قيمة الأولاد شيء لما قلنا ولمعنى آخر وهو أنه لو غرم قيمة
الولد ها هنا إنما يغرم لها وهي إنما تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وأولادها ففي هذا تحصيل بعض مقصودها وإن كانت أمة والمسألة بحالها فهي أم الولد لمن استولدها وأولادها أحرار لأنهم ملكوها بالإحراز وقد ملكها المشتري منهم بالشراء فصح استيلاده ثم تقرر ملكه فيها بالإسلام فكانت أم ولد له وإن كان المستولد ذمة للمسلمين فكذلك الجواب إلا أنها تخرج إلى العتق بالسعاية لأنها مسلمة والمسلمة لا تترك في ملك الذمي وقد تعذر إخراجها من ملكه بالبيع لأجل الاستيلاد فيجب إخراجها من ملكه بطريق الاستسعاء في قيمتها والحكم في المرتدين إذا غلبوا على دارهم وفي أهل الذمة إذا نقضوا العهد وغلبوا على دارهم بمنزلة الحكم في أهل الحرب في جميع ما ذكرنا وكذلك الحكم في أهل البغي إذا كانوا سبوا من أهل العدل في جميع هذه الفصول على ما ذكرنا لأن التأويل الفاسد في حق أهل البغي إذا انضم إلى المنعة كان بمنزلة التأويل الصحيح في الحكم والأصل فيه حديث الزهري قال : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا متوافرين فاتفقوا على أنه لا قود في دم استحل بتأويل القرآن ولا حد في فرج استحل بتأويل القرآن ولا ضمان في مال استحل بتأويل القرآن إلا أن يوجد الشيء بعينه فيرد على أهله ولهذا قلنا ها هنا : إذا كانت المسبية أمة وجب ردها على مولاها إذا تاب أهل البغي بخلاف ما سبق لأنهم ما ملكوها ولم تصر هي أم ولد لمن استولدها وأهل الحرب ملكوها بالإحراز فصارت أم ولد لمن استولدها ولو أن قوماً@(5/107)
من لصوص المسلمين غير المتأولين أخذوا النساء والمسألة بحالها فنقول : لا حكم للمنعة إذا تجدرت عن التأويل كما لا حكم للتأويل إذا تجرد عن المنعة فالواطىء بهذا الطريق يكون زانياً مستوجباً للحدود ولا يثبت نسب الولد منه أصلاً بظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم الولد يكون تبعاً للأم على صفة أمه مملوكاً لمن هو مالك للأم
بخلاف جميع ما سبق وأوضح هذا الفرق بالاستهلاك قال : ألا ترى أنهم لو استهلكوا الأموال ها هنا كانوا ضامنين بخلاف ما سبق ذكره وقد ذكر بعد هذا باب قد استقصينا شرحه مما أمليناه من شرح الزيادات والله أعلم .
باب الحدود في دار الحرب
قال - رحمه الله تعالى - : قد بينا في المبسوط أن المسلم إذا ارتكب شيئاً من الأسباب الموجبة للعقوبة في دار الحرب فإنه لا يكون به مستوجباً للعقوبة لانعدام@(5/108)
المستوفي فإنه لم يكن تحت ولاية الإمام حين باشر ذلك ولو ارتكب ذلك في العسكر فليس لأمير السرية أن يقيم عليه الحد أيضاً لأنه لم يفوض إليه إقامة الحدود وإنما فوض إليه تدبير الحرب إلا أن يكون الخليفة غزا بنفسه أو أمير العراق فحينئذ له أن يقيم الحد في عسكره كما يقيم في دار الإسلام واستدل على أنه لا يقام الحد في دار الحرب بحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه كتب إلى عماله ألا يجلدن أمير الجيش ولا سرية أحداً حتى يخرج إلى الدرب قافلاً لئلا يلحقه حمية الشيطان فيلتحق بالكفار وهكذا نقل عن أبي الدرداء - رضي الله تعالى عنه - أنه كان ينهى أن تقام الحدود على المسلمين في أرض العدو مخافة أن تلحقهم الحمية فيلحقوا بالكفار فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا كان الله تعالى من ورائهم ثم ذكر عن عطية ابن قيس الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا هرب الرجل وقد قتل أو زنا أو سرق إلى العدو ثم أخذ أماناً على نفسه فإنه يقام عليه ما فر منه وإذا قتل في أرض العدو أو زنا أو سرق ثم أخذ أماناً لم يقم عليه شيء مما أحدث في أرض العدو فهو الأصل لعلمائنا - رحمهم الله تعالى - في اعتبار المواضع التي يرتكب فيها السبب الموجب للحد وقد بينا في المبسوط أن المستأمن في دارنا إذا ارتكب شيئاً من الأسباب الموجبة للعقوبة فإنه لا يقام عليه إلا ما فيه حق العباد من قصاص أو حد قذف وقول أبي يوسف - رحمه الله - في ذلك معروف أنه يقام ذلك كله عليه إلا حد
الخمر كما في حق أهل الذمة والله أعلم .@(5/109)
باب ما يجب من النصرة للمستأمنين وأهل الذمة
قال الشيخ الإمام : - رحمه الله تعالى - : الأصل أنه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا وأن ينصفهم ممن يظلمهم كما يجب عليه ذلك في حق أهل الذمة لأنهم تحت ولايته ما داموا في دار الإسلام فكان حكمهم كحكم أهل الذمة إلا أنه لا يجب القصاص على الذمي بقتل المستأمن ولا على المسلم لانعدام المساواة بينهما في حق صفة الحقن وعليه يبتنى حكم القصاص فأما المستأمن إذا قتل مستأمناً في دارنا فعليه القصاص ويستوفيه وارث المقتول إذا كان معه وكذلك إذا قطع طرفه فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في صفة الحقن .
فإن قيل : فقد بقي في دم المستأمن شبهة الإباحة لأنه محارب ممكن من الرجوع إلى دار الحرب وذلك مانع من وجوب القصاص عليه بقتله على كل حال قلنا : لا كذلك فإن هذه الشبهة إنما تظهر في حق من يعتقد ذلك لا في حق من لا يعتقده وكما أن معنى المحاربة مبيح فنفس الكفر مهدر بدليل أن النساء والصبيان من أهل الحرب لا يضمن قاتلهم شيئاً من كفارة ولا دية لوجود المهدر ثم الذمي إذا قتل ذمياً يلزمه القصاص بالاتفاق لأنه لا يعتقد كون كفره مهدراً فلم يورث ذلك شبهة في حقه فكذلك معنى المحاربة فيما بين المستأمنين لا يورث شبهة ولكن لتحقق المساواة بينهما في صفة الحقن يجب القصاص على بعضهم بقتل البعض سواء كانوا من أهل دار واحدة أو من أهل دارين لأن@(5/110)
وجوب القصاص باعتبار أن على إمام المسلمين نصرتهم ما داموا في دارنا وفي هذا لا فرق بين أن يكونوا من أهل دار واحدة أو من أهل دارين ولو كانوا أهل منعة دخلوا إلينا بأمان ليجتازوا إلى أرض أخرى فيقاتلوا أهلها ثم أغار عليهم في دار الإسلام أهل حرب آخرين فأسروهم فليس علينا نصرتهم وإن قدرنا على ذلك بخلاف أهل الذمة لأن أهل الذمة صاروا منا داراً وقد التزموا حكم الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيجب على الإمام نصرتهم كما يجب عليه نصرة المسلمين فأما المستأمنون فهم من أهل دار الحرب إلا أنهم للحال في دارنا بأمان وإنما يجب علينا نصرتهم ودفع ظلم من هو من أهل دارنا عنهم والذين ظلموهم هناك ليسوا من أهل دارنا ولا تحت ولايتنا فلا يجب علينا دفع ظلمهم عنهم وهذا لأن لدار الإسلام داراً معادية وهي دار الحرب فمن هو من أهل دار الإسلام إنما يتمكن من المقام فيها بدفع ظلم أهل دار المعادية عنه فأما من ليس من أهل دارنا فهو إنما دخل دارنا مجتازاً أو ليقضي حاجته ثم ليعود إلى داره ففي تحصيل هذا المقصود لا حاجة إلى دفع ظلم أهل دار المعادية عنه وإنما تتحقق الحاجة إلى دفع ظلم من في دارنا عنه وما يثبت من
الحكم باعتبار الحاجة فثبوته بحسب الحاجة والدليل على الفرق أن الذين ظهروا على المستأمنين فأحرزوهم بدارهم لو أسلموا كانوا عبيداً لهم والذين ظهروا على أهل الذمة وأحرزوهم لو أسلموا كانوا أحراراً وكذلك لو ظهرنا عليهم مما أخذوا من المستأمنين فيكون لنا تملكهم عليهم بالإحراز ولا يملك أهل الذمة عليهم بالإحراز بل يكونون أحراراً نرد عليهم أموالهم@(5/111)
قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة فعرفنا أن أهل الذمة في وجوب القيام بنصرتهم كالمسلمين بخلاف المستأمنين والذي يقرر ما قتلنا أن الذين ظهروا على أهل الذمة لو مروا بأهل منعة من المسلمين في دار الحرب كان عليهم أن يقوموا باستنقاذ أهل الذمة من أيديهم لا يسعهم إلا ذلك بمنزلة ما لو وقع الظهور على المسلمين ولو كانا إنما ظهروا على المستأمنين في دارنا ثم مروا بهم على قوم ممتنعين من المسلمين في دار الحرب لم يكن عليهم القيام باستنقاذهم من أيديهم ولو كانوا في أمان من أهل الحرب لم يكن لهم أن ينقضوا العهد لاستنقاذ المستأمنين من أيديهم بخلاف أهل الذمة فهناك عليهم أن ينقضوا العهد ويقاتلوا عن ذراري أهل الذمة كما يقاتلون عن ذراري المسلمين وإنما حال المستأمنين في دارنا كحال الموادعين ولو أن الإمام وادع أهل بلدة من أهل الحرب بمال أو بغير مال ثم قصدهم مسلم أو ذمي بظلم فعلى الإمام دفع ذلك عنهم ولو أغار عليهم قوم من أهل الحرب لم يكن على إيمان المسلمين أن يدفع ظلمهم عنهم فبه يتضح ما ذكرنا من الفرق بين الموادعين وبين المستأمنين في دارنا في فصل وهو أنه : لو قتل رجل من الموادعين رجلاً منهم في دار الموادعة لم يكن عليه القصاص ولو قتل المستأمن مستأمناً في دارنا يجب عليه القصاص لأن أهل دار الموادعة ما لزموا شيئاً من حكم الإسلام فإنهم وادعونا على ألا تجري عليهم أحكامنا فكانت دارهم@(5/112)
دار حرب على حالها والقتل في دار الحرب ليس بموجب للقصاص فأما المستأمنون فهم في دار الإسلام
وحكم الإسلام يجري عليهم ما داموا في دارنا فيما فيه حق العباد والقصاص بهذه الصفة قال : ولو أن قوماً من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمان فشرطوا علينا أن نمنعهم مما نمنع منه المسلمين وأهل الذمة فعلينا الوفاء لهم بهذا الشرط حتى إذا أغار عليهم أهل الحرب فعلينا القيام بدفع الظلم عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم : المؤمنون عند شروطهم وهذا لأن الالتزام بسبب الأمان التزام بالشرط فينظر إلى الشرط كيف كان وكذلك لو وادعونا على مال معلوم بهذا الشرط فعلى الإمام أن يفي لهم بالمشروط عليهم إن قجر على ذلك وإن لم يقدر عليه فليس له أن يطالبهم بشيء من مال المشروط عليهم لأنهم التزموا ذلك بمقابلة الحماية فإذا عجز عن حمايتهم لم يكن له أن يأخذ منهم شيئاً من المال كما لا يأخذ من أرباب المواشي من المسلمين الزكاة ولا يأخذ من أهل الذمة الجزية والخراج إذا كان عاجزاً عن حمايتهم بأن غلب عليهم أهل البغي ولو كان المستأمنون في دارنا قوماً لا منعة لهم والمسألة بحالها فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمة حتى إذا ظهر أهل الحرب عليهم ثم ظهر عليهم المسلمون ردوهم أحراراً وإن كانوا أخذوا أموالهم فوجدوا ذلك في الغنيمة قبل القسمة يأخذونه بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة بخلاف ما سبق لأن هؤلاء في منعة المسلمين والحرية المتأكدة بمنعة المسلمين لا تنتقض بالقهر وكذلك المال المأخوذ ممن منعة المسلمين لا يبطل حق المالك القديم عنه وفي الأول هم كانوا ممتنعين بمنعتهم لا@(5/113)
بمنعة المسلمين وقد بينا أنهم أهل حرب وإن كانوا في أمان منا فلم تكن حريتهم متأكدة بمنعة المسلمين فلهذا كان الحكم فيهم ما بينا ولو أن الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب في هذا الفصل مروا بهم على منعة للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتهم وتخليصهم من أيديهم كما في حق أهل الذمة بخلاف ما سبق والله أعلم .
باب : دخول الإمام دار الحرب مع العسكر
إذا دخل معه عسكر من أهل الحرب بأمان ولو أن الإمام دخل دار الحرب مع العسكر فدخل معه عسكر من أهل الحرب له منعة بأمان فإن كانوا دخلوا بغير أمر الإمام ثم قاتلهم قوم من المشركين فليس على الإمام ولا عليهم نصرتهم إلا أن يشاءوا ذلك لأن المسلمين بالأمان المطلق التزموا ترك التعرض لهم وما التزموا الدفع عنهم وإن كان الإمام أمرهم أن يدخلوا لمنفعة المسلمين من القتال معهم أو التجارة أو لمداواة الجرحى فعليهم نصرتهم لأنهم حين أمرهم@(5/114)
بالدخول لمنفعة المسلمين فقد التزم حفظهم على الوجه الذي يحفظ المسلمين وعليه القيام بنصرة المسلمين إذا قصدهم العدو وعلى هذا قال في الفصل الأول إذا أخذهم أهل الحرب فأحرزوهم ثم ظهر عليهم المسلمون كانوا فيئاً وفي الفصل الثاني كانوا أحراراً على حالهم وكذلك لو أحرزوا متاعهم ثم وقع في الغنيمة لم يرد عليهم في الفصل الأول ويرد عليهم في الفصل الثاني قبل القسمة بغير شيء فإن أسلم أهل الحرب الذين أسروهم كانوا عبيداً لهم في الفصلين وهذا مشكل في الفصل الثاني فإن المسلمين لو ظهروا عليهم كانوا أحراراً كما بينا فعلى هذا ينبغي إذا أسلم الذين أخذوهم أن يكونوا أحراراً أيضاً كما لو أسروا المسلمين أو أهل الذمة ثم أسلموا ولكن الجواب أن نقول : هذا حكم ثبت باعتبار التزام الإمام فإنما يظهر في حق الإمام وفي حق من كان تحت ولايته حين التزم والذين أسلموا ما كانوا تحت ولايته يومئذ وقد ملكوهم بالإحراز فإذا أسلموا كانوا عبيداً لهم لقوله صلى الله عليه وسلم : من أسلم على مال فهو له وإن لم يأمرهم الإمام بالدخول ولكنهم سألوه أن يدخلوا ليتجروا مع العسكر فحالهم كحال الفريق الأول لأنهم دخلوا لمنفعة أنفسهم والإمام بمجرد الإذن لا يكون ملتزماً نصرتهم كما لا يكون ملتزماً ذلك بمجرد الأمان والذي دخل من المسلمين دار الحرب بأمان فعليه ألا يغدر بهم وألا يأخذ شيئاً من أموالهم بغير رضاهم لأنه التزم الوفاء لهم بحسب
ما يفون له بخلاف الأسير فيهم ثم كما لا يجوز للمستأمن أن يقتلهم أو يأخذ مالهم بغير رضاهم لا يجوز له أن يأمر الأسير بذلك لأن فعل المأمور من وجه كأنه فعل الأمر وإن كان هذا المستأمن مفتياً فاستفتاه الأسير أيحل لي أن أقتلهم وآخر مالهم فله أن يفتيه بذلك لأن في الإفتاء بيان حكم@(5/115)
الشرع وليس فيه من معنى الأمر شيء وهو بعقد الأمام ما التزم الامتناع من بيان أحكام الشرع ألا تري أن المحرم ليس له أن يقتل الصيد ولا أن يأمر به الحلال ثم لو كان مفتياً فاستفتاه حلال من أيحل لي قتل الصيد مطلقاً مكان له أن يفتيه بذلك فعرفنا أن الإقتاء ليس بأمر ولو أن قوماً من أهل الحرب وادعوا المسلمين بخراج معلوم كل سنة على ألا يجري المسلمون عليهم أحكامهم وعلى أن يمتعوهم من عدوهم ثم ظهر عليهم قوم من أهل الحرب فسبوا نساءهم وذراريهم ثم استنقذهم المسلمون بعد ذلك فإن كان الاستنقاذ في سنى الموادعة ردوهم أحراراً كما كانوا وإن كان بعد انقضاء سنى الموادعة كانوا فيئاً للمسلمين لأنهم التزموا نصرتهم في سنى الموادعة لا بعدها وعليهم الوفاء بما التزموا خاصة وعلى هذا لو وقع الظهور على أموالهم ثم وقعت في الغنيمة فإن كان بعد انقاضاء سنى الموادعة لم يجب رد شيء من ذلك عليهم وإن كان في سنى الموادعة فإن وجدوها قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا كما هو الحكم في أموال أهل الذمة ولو أسلم أهل الحرب في سنى الموادعة أو بعدها لم يكن عليهم رد شيء من أموالهم ولا من بذراريهم لأن حكم التزام الأمان بالموادعة لم يثبت في حقهم إذا لم يكونوا تحت ولايته يؤمئذ ثم في@(5/116)
كل موضع ذكرنا لو أن العدو قاتلهم في سنى الموادعة وعجز الإمام عن نصرتهم فليس له أن يأخذ شيئاً من الخراج المشروط ولو كان أخذ كان عليه أن يرد عليهم ما أعطوه إلا إن استنقذ ذلك من أيديهم في سنى الموادعة فأما إذا أسلم الذين قهروهم فعلى الإمام رد ما أخذ
منهم أيضاً لما بينا أنه إنما أخذ الخراج على النصرة فإذا عجز عن النصرة حساً أو حكماً كان عليه رد ما أخذ منهم والله والموفق .
باب بيان الوقت الذي يتمكن المستأمن فيه من الرجوع إلى أهله والوقت الذي لا يتمكن فيه من الرجوع
قال - رضي الله عنه - : قد بينا أن المرأة تابعة للزوج في المقام والزوج لا يكون تابعاً لامرأته فإذا تزوجت المستأمنة في دارنا مسلماً أو ذمياً صارت ذمية لا نتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بخلاف المستأمن إذا تزوج ذمية وعلى هذا دخل رجل مع امرأته إلينا بأمان ثم صار الزوج ذمياً فليس لها أن ترجع إلى دار الحرب وكذلك لو أسلم وهي من أهل الكتاب لأن النكاح بينهما مستقر بعد إسلامه بخلاف ما إذا أسلم@(5/117)
وهي مجوسية فالنكاح هاهنا غير مستقر بينهما فأما إذا فرق بينهما بعد عرض الإسلام عليها أو بعد مضي ثلاث حيض كان لها أن ترجع إلى دار الحرب وبوقوع الفرقة هاهنا بمضي ثلاث حيض تبين أنها لم تصر ذمية لأنها لو صارت ذمية لم تقع الفرقة بإباء الإسلام بغير قضاء القاضي كما لو كانا ذميين في الابتداء وعلى هذا لو تزوج مستأمن مستأمنة في دارنا ثم صار الرجل ذمياً كانت ذمية مثله لأن النكاح الذي باشراه في دار الإسلام ليكون دون نكاح باشراه في دار الحرب وكذلك لو دخل أحد الزوجين إلينا بأمان ثم تبعه صاحبه بأمان لأن النكاح بينهما قائم فلم تتباين بهما الدار حكماً وإن دخل أحدهما قبل صاحبه بأمن فهذا وما لو دخلا معاً فيما ذكرنا من التفريع سواء فإن كانت المرأة هي التي أسلمت في جميع هذه الفصول فللزوج أن يرجع إلى دار الحرب إلا أنها إن طالبته بالصداق فإن كان تزوجها في دار الإسلام فلها أن تمنعه من الرجوع حتى يوفيها مهرها وإن كان تزوجها في دار الحرب فليس لها ذلك وهذا بناء على أصل معروف أن المستأمن لا يطالب بموجب المعاملة الموجودة منه في دار الحرب وهو مطالب بموجب المعاملة لموجودة منه في دار الإسلام ووجوب الصداق بعقد
النكاح فإذا كان أصل العقد في دار الحرب فليس لها أن تطالبه بموجبه في دار الإسلام لأنه مستأمن على حاله وإن كان أصل العقد في دار الإسلام كان لها أن@(5/118)
تطالبه بموجبه في دار الإسلام وتحبسه لأجله ولو أسلم الزوج وهي كتابية ثم أنكرت أصل النكاح بينهما فأقام الزوج بينة من المسلمين أو من أهل الذمة على أصل النكاح أو على إقرارها به في دار الحرب لم يلتفت إلى هذه البينة لأنها مستأمنة في الظاهر فإنها منكرة للنكاح والقول قول المنكر وباعتبار النكاح تصير ذمية فهذه بينة تقوم على مستأمنة لمعاملة كانت به في دار الحرب والقاضي لا يقبل البينة في ذلك عليها فإن قيل : الشهود يشهدون عليها أنها قد صارت ذمية لكونها تحت مسلم أو ذمي فينبغي أن يقبل القاضي البينة لإثبات هذا الحكم قلنا : هذا الحكم إنما يثبت ضمناً بثبوت الحكم المشهود به وهذه البينة ليست بحجة للقضاء بما هو الأصل وما يثبت ضمناً بثبوت الحكم المشهود به وهذه البينة ليست بحجة للقضاء بما هو الأصل وما يثبت ضمناً للشيء فثبوته بثبوت الأصل وهو نظير المشتري للجارية إذا ادّعى على البائع أنها منكوحة فلان الغائب وأراد إقامة البينة ليقضي القاضي عليه بالرد بالعيب لم يسمع القاضي منه هذه البينة قبل حضور الزوج لهذا المعنى وإن أقام الزوج عليها البينة أنها أقرت بالنكاح في دار الإسلام قبل القاضي بينته ومنعها من الرجوع إلى دار الحرب بمنزلة ما لو أقرت به بين يدي القاضي لأنهم يشهدون بإقرار كان منها في دار الإسلام فإن قيل : كان ينبغي ألا يقبل هذه البينة أيضاً لأن السبب الملزم هو العقد لا الإقرار وإنما كان ذلك في دار الحرب بمنزلة ما لو ادّعى مسلم عليها ديناً بسبب معاملة كانت في دار الحرب وأقام البينة على أنها أقرت في دار الإسلام بالمعاملة التي كانت بينهما في دار الحرب فإن القاضي لا يقبل هذه البينة قلنا : الفرق بينهما ظاهر فإن النكاح مستدام بين الزوجين ومن الأحكام ما يتعلق
باستدامته كالنفقة فإنها تجب شيئاً فشيئاً فإقرارها به في دار الإسلام يجعل بمنزلة ابتداء المعاملة في بعض الأحكام بخلاف المداينة ألا ترى أنها لو تزوجت بزوج آخر في دار الإسلام وأقام الزوج الأول البينة على إقرارها بالنكاح له في دار الإسلام قبل أن تتزوج بالزوج الثاني ألم يكن القاضي يفرق بينها وبين الثاني رأيت لو كانت المرأة هي التي خاصمت في النفقة أو زعمت أنه طلقها ثلاثاً وأقامت البينة عليه بذلك أما كان القاضي يقبل منها هذه البينة هذا كله لا بد من القول به للفقه الذي بينا وإذا أطال المستأمن المقام في دارنا يتقدم إليه الإمام في الخروج@(5/119)
وبوقت له في ذلك وقتاً ولا يرهقه على وجه يؤدي إلى الإضرار به لأنه ناظر من الجانبين فكما يمنعه من إطالة المقام بغير خراج نظراً منه للمسلمين لم يرهقه في التوقيت نظراً منه للمستأمن فإن اشترى أرضاً من أرض الخراج أو من أرض العشر فزرعها فوجب عليها فيها خراج أو عشر أخذ ذلك منه وأخذ منه خراج رأسه أيضاً وإنما يبني هذه الفصول على قول محمد - رحمه الله تعالى - فإن عنده إذا اشترى الكافر أرضاً عشرية بقيت عشرية على حالها ثم ظن بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - أنه إنما يصير ذمياً باعتبار ما باشر من الصنع وهو شراء الأرض الخراجية فإنه دلالة الرضاء بالتزام الخراج وليس كذلك فإن هذا الحكم في الإرث والشراء سواء وفي الميراث يدخل في ملكه بغير صنعه شاء أو أبى ولكن إنما يصير ذمياً إذا وجب عليه خراج أرضه بأن زرعها أو تمكن من الزراعة حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بعد شراء الأرض قبل التمكن من الانتفاع بها وكان المعنى فيه أن خراج الرأس في حكم التبع لخراج الأرض فإن ولاية المن للإمام بعد فتح البلدة عنوة باعتبار منفعة خراج الأرض لا باعتبار منفعة خراج الرأس لأن ذلك غير مستدام فإنه يسقط عن الذمي بموته وإسلامه فعرفنا أن الأصل خراجة الأرض وثبوت التبع بثبوت الأصل فإذا لزمه خراج الأرض
لزمه خراج الرأس تبعاً فإن استأجرها وأقام حتى زرعها فأخذ منه الخراج كان ذمياً أيضاً وهذا غلط بيّن فإن الخراج لا يجب على المستأجر وإنما يجب على الآجر إلا أن يكون مراده خراج المقاسمة وذلك جزء من الخراج بمنزلة العشر فيكون على المستأجر عند محمد - رحمه الله تعالى - كالعشر فأما خراج الوظيفة فدارهم في ذمة الآجر تجب باعتبار تمكنه من الانتفاع بالآجر .
قال : وكذلك لو استأجر أرضاً عشرية فأقام حتى زرعها وهذا مستقيم الله هاهنا فإن العشر على المستأجر عند محمد - رحمه الله تعالى - والعشر والخراج كل واحد منهما مئونة الأرض النامية فكما أن بوجوب الخراج عليه يصير ذمياً فكذلك بوجوب العشر عليه قلنا : يصير ذمياً ولو دخل حربي إلينا بأمان ومعه رقيق من أهل الحرب فأسلموا أجبر على بيعهم ولم يترك يخرج بهم لأن@(5/120)
حالهم في هذا لا يكون فوق حال الذمي ولا يصير هو ذمياً بإسلامهم لأن المالك لا يكون تبعاً للمملوك في المقام كما لا يكون الزوج تبعاً لامرأته فإن قالوا : نصير ذمة للمسلمين لم يلتفت إلى ذلك وهذا بخلاف المرأة فإن لها أن تصير ذمة للمسلمين بدون الزوج وفي الموضعين لا يحصل للمسلمين منفعة الخراج إذ لا جزية على المرأة كما لا جزية على العبد ولكن الفرق أن المرأة حرة تستبد بمباشرة العقود فتصح منها مباشرة عقد الذمة فأما العبد مملوك لا يقدر على شيء فلا يصح منه مباشرة عقد الذمة لأنه يعتمد المراضاة قال : ولو دخل حربي مع امرأته دارنا بأمان ومعهما أولاد صغار وكبار فأسلم أحدهما فالصغار من الأولاد صاروا مسلمين تبعاً للذي أسلم منهما وأما الكبار منهم لا يكونون مسلمين ولهم أن يرجعوا إلى دار الحرب ذكوراً كانوا أن إناثاً لأن معنى التبعية ينتهي بالبلوغ عن عقل ولا يكون للوالدين منعهم من الرجوع إلى دار الحرب كما لا يكون لهما منع سائر الرابات من ذلك ولو صار أحدهما ذمياً كان الصغار من الأولاد تبعاً له لأن عقد الذمة فيه التزام أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والصغير في مثل هذا تبع خير الوالدين ألا ترى أنهما لو كانا مجوسيين فتنصر أحدهما كان الصغير نصرانياً تؤكل ذبيحته تبعاً له فكذلك إذا قبل أحدهما الذمة كان الصغير ذمياً تبعاً له سواء كانت المرأة هي التي قبلت الذمة أو الرجل ألا ترى أنهما لو كان مسلمين فارتد الزوج ولحق بالصغير دار الحرب ثم سبي لم يكن فيئاً وجعل حراً
من أهل دارنا باعتبار حال أمه فهذا قياسه ولو أن غلاماً صغيراً خرج به أخوه أو عمه بأمان ثم أسلم الذي أخرجه أو صار ذمياً فالغلام لا يكون تبعاً له في ذلك ولكن يستأنى به حتى يبلغ فإن شاء رجع إلى دار الحرب وإن شاء التزم عقد الذمة فينا لأن الذمة خلف عن الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والصغير لا يتبع أخاه في الإسلام@(5/121)
فكذلك في حكم الذمة وإنما أدخله من أدخله بأمان وذلك يمنع صيرورته من أهل دارنا حتى يحكم له بالإسلام تبعاً للدار بخلاف الصغير إذا سبي وليس معه أحد أبويه ولو كان الذي أخرجه قال : أمنوني على أن أصير ذمة لكم أنا وهذا الغلام فأمنوه على ذلك صارا ذميين لأن لمن أخرجه ولاية حفظه فكان له ولاية عقد الذمة عليه أيضاً لما فيه من محض المنفعة للصغير وهو بمنزلة قبول الهبة والقبض في ذلك ولو أن جد الصبي أب أبيه أدخله إلينا بأمان ثم أسلم أو صار ذمياً فالجواب كذلك سواء كان أب الصغير حياً أو ميتاً وهذا بناء علي ما ذكر في ظاهر رواية الأصول أن الصغير لا يصير مسلماً بإسلام جده فأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصير مسلماً بإسلام جده كما يصير مسلماً بإسلام الأب وإنما يفارق الجد الأب في ظاهر الرواية في أربعة أحكام : حكم الإسلام وحكم صدقة الفطر وحكم الوصية لأقرباء فلان وحكم جر الولاء وفي رواية الحسن : الجد كالأب في الفصول كلها والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية فإن الصغير لو صار مسلماً بإسلام الجد الأدنى لصار مسلماً بإسلام الجد الأعلى فيؤدي إلى القول بلزوم حكم الردة لكل كافر لأنهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام فإن خرج بالصغير أحد أبويه مستأمناً بعد إسلام الجد أو خرج به أخوه كان له أن يرده وليس للجد أن يمنعه من ذلك لأنه لا ولاية للجد عليه باعتبار المخالفة في الدين فكان وجوده كعدمه وللأخ أن يرده إلى دار الحرب كما جاء به ولو جاء أخوه ليأخذه فيرده وأبوه حي لم يكن له عليه سبيل ومراده إذا كان
الأب حياً مستأمناً في دارنا لأنه لا ولاية للأخ مع قيام الأب وكذلك لو خرج عمه ليأخذه وأخوه حي فالعم في حكم الولاية كالأجنبي مع الأخ ولو خرجت أمه لتأخذه وأبوه حي أو قد مات وله أخ فإن كان الولد صغيراً لم يستغن عن أمه كان لها أن تأخذه لأنها أحق بالحضانة ما لم يستغن عنها ولا تتمكن من ذلك إلا بأن ترده إلى دار الحرب فإن كانت جارية فما لم@(5/122)
تحصن كانت الأم أحق بحضانتها فلها أن تردها وإن كان الغلام قد استغنى فليس لأمه أن تأخذه والأخ أحق به إذا كان الأب ميتاً لأن مدة الحضانة تنتهي في حق الغلام إذا أكل أو شرب وحده وكذلك إن حاضت الجارية فليس للأم أن ترجع بها ولكن الرأي إليها إن شاءت رجعت وإن شاءت صارت ذمية فإن كانت الأم قد تزوجت فليس لها أن ترجع بالصغير لأن هذا الحق كان لها بناء على حق الحضانة وليس لها ذلك بعد ما تزوجت وإن أسلمت الأم أو صارت ذمية فليس لأحد من أقرباء الصغير صار ملماًً أو ذمياً تبعاً لها فبوجود الزوج لها لا ينقطع معنى التبعية وهو نظير ما قال إذا سبوا جميعاً ثم أسلم أحد الأبوين فإن الصبي يصير مسلماً تبعاً له وإن كان الذي أسلم منهما مملوكاً ليس له من أمر الصغير شيء فكذلك إذا كانت الأم ذات زوج ولو أن قوماً من أهل الحرب دخلوا إلينا بأمان ثم أرادوا أن يخرجوا إلى دار حرب أخرى ليكونوا معهم يقاتلون أهل الإسلام فلا ينبغي للمسلمين أن يمكنوهم من ذلك لأنهم بالأمان التزموا ترك التعرض لهم وتمكينهم من الرجوع إلى دارهم ففيما وراء ذلك كان لهم حق المنع مما يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين ألا ترى أنهم لو جاءوا بأسلحة من دارهم فأرادوا إدخال ذلك دار حرب أخرى للبيع فيها كان لهم أن يمنعوا من ذلك وإن كانوا لا يمنعون من الرجوع بهم إلى دارهم فكذلك حال المقاتلة لأن آلة القتال في معنى الضرر دون المقاتل وكان المعنى فيه وهو أن بعض الأسلحة قد يكثر وجوده في دار الحرب ويعز وجوده في دار حرب أخرى فإذا حمل من دار
إلى دار حتى صار موجوداً في الدارين يقوى الفريقان به على المسلمين وفيه من الضرر ما لا يخفى بخلاف ما إذا رجعوا به إلى دارهم وإن كان الداخل واحداً أو اثنين لم يمنع من الرجوع إلى دار حرب أخرى للتجارة معهم لأن بهذا القدر لا تزداد قوة أهل هذه الدار على قتالنا بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة ولو أسلم المستأمن في دارنا وله أولاد صغار في دار حرب لم يكونوا@(5/123)
مسلمين بإسلامه لانقطاع العصمة بتباين الدار فإن دخل بهم عمهم بأمان صاروا مسلمين لأنهم حصلوا في دارنا بأمان ولهم أب مسلم فينا فكان هذا وما لو أسلم وهم معه سواء وليس للذي خرج بهم أن يردهم إلي دار الحرب بعد ما صاروا مسلمين لأنهم صاروا من أهل دارنا ولم يبق للذي أخرجهم عليهم ولاية ولو كان والدهم الذي أسلم مات ثم خرج العم بهم لزيارة قبره فله أن يردهم إلى دار الحرب لأن الأب إذا كان ميتاً حين خرج بهم فحكم الإسلام لا يلزمهم بطريق التبعية له فإن قيل : ألا ترى أنه لو مات أحد الأبوين في دارنا ثم إن الآخر لحق بالصغير دار الحرب مرتداً فسبي لم يكن فيئاً وجعل مسلماً من أهل دارنا تبعاً للأب الميت في دارنا فلماذا لا يجعل كذلك ها هنا قلنا : لأن الصغير كان محكوماً له بالإسلام هناك تبعاً له قبل موته فيبقى ذلك الحكم بعد موته وها هنا ما كان محكوماً بإسلامه قبل موته تبعاً له فلا يجوز أن يثبت له حكم الإسلام ابتداء بعد موته تبعاً له لأن الشيء إنما يقدر حكماً إذا كان يتصور حقيقة فأما إذا كان لا يتصور حقيقة فلا يجوز إثباته حكماً ولو كان الذي أخرجهم رجلاً لا قرابة بينه وبينهم فأخرجهم على أنهم عبيده قاهراً لهم وصار ذمة لنا فإن كان أبوهم حياً مسلماً عندنا أجبر على بيعهم لأنه صار مالكاً لهم بالإحراز ولكنهم صاروا مسلمين تبعاً لأبيهم فيجبر الذمي على بيعهم وإن كان الأب ميتاً حين أخرجهم لم يجبر على بيعهم وكذلك لو كان خرج إلينا بأمان إلا أن في هذا الفصل له أن يرجع بهم إلى
دار الحرب إن شاء وعلى هذا لو صار أحد الأبوين ذمياً فينا والصغير في دار الحرب لم يكن ذمياً تبعاً له كما لا يكون مسلماًً تبعاً له فإن خرج بالصغير عمه لزيارة أبيه لم@(5/124)
يكن له أني رجع به إلى دار الحرب إذا كان الأب حياً لأن الصغير صار ذمياً تبعاً له بمنزلة ما لو كان معه ألا ترى أنه لو كان مجوسياً فصار كتابياً ثم خرج العم بالصغير كان الصغير كتابياً تبعاً لأبيه فكذلك يصير من أهل دارنا تبعاً لأبيه هكذا ذكر في بعض النسخ وفي بعض النسخ قال : له أن يرجع به إلى دار الحرب وليس للأب منعه من ذلك لأن معنى التبعية يكون في حكم الدين فأما في حكم المقام في الدار يعتبر قيام ولايته عليه وإذا كان الصغير معه حين صار ذمياً فقد كانت ولايته قائمة فصار الصغير ذمياً تبعاً له فأما إذا كان الصغير في دار الحرب حين صار هو ذمياً فقد كانت ولايته قائمة فصار الصغير ذمياً تبعاً له فأما إذا كان الصغير في دار الحرب حين صار هو ذمياً فقد كان هو منه كالأجنبي في حكم الولاية فبعد ذلك لا يصير الصبي ذمياً تبعاً له لأنه لا ولاية له عليه ألا ترى أن الأم لو أسلمت ثم خرج الأب بالصغير إليها صار مسلماً تبعاً لها ولم يكن له أن يرده إلى دار الحرب ولو صارت الأم ذمية ثم خرج الأب بالصغير بأمان كان له أن يرده إلى دار الحرب وكان المعنى فيه ما بينا من اعتبار معنى الولاية في التبعية في الدار دون الدين قال : ولو خرج الأبوان إلينا ذميين ثم خرج العم بالصغير لزيارة الأبوين فله أن يرده إلى دار الحرب لما بينا أنه لا ولاية للأبوين عليه ها هنا حين صارا ذميين فكانا في حقه كسائر الأجانب وكذلك لو كان الصغير ممن يعبر عن نفسه فدخل إلينا بأمان لزيارة أبويه الذميين كان له أن يرجع إلى دار الحرب بخلاف ما إذا كانا مسلمين أو أحدهما فإن هناك يصير مسلماً تبعاً للمسلم منهما لأن الذي يعبر عن نفسه في حكم التبعية في الإسلام كالذي لا يعبر عن نفسه وبهذا تبين خطأ
من يقول من أصحابنا إن الذي يعبر عن نفسه لا يصير مسلماً تبعاً لأبيه فقد نص ها هنا على أنه يصير مسلماً ويمنع من الرجوع إلى دار الحرب ولو كان هذا الغلام إنما استأمن ليلحق بأبويه وهما ذميان كان ذمياً لأن في كلامه دلالة على الرضاء منه بأن يكون مثل أبويه وهما ذميان فكان هذا واستئمانه ليكون ذمياً سواء وهذا إذا كان عالماً بحالهما فإن لم يعلم أنهما صارا ذميين لم يكن ذمياً لأن دلالة الرضاء منه لا تتحقق إذا لم يكن عالماً@(5/125)
بصيرورتهما ذميين قال : ولو أسلم الحربي في دار الحرب وله أولاد صغار كانوا مسلمين بإسلامه فإن خرج إلينا وخلفهم كانوا مسلمين على حالهم لأن ما ثبت يكون باقياً ما لم يوجد الدليل المزيل فإن البقاء لا يستدعي دليلاً مبقياً إنما إثبات الشيء ابتداء يستدعي دليلاً مثبتاً ولو لم يسلم ولكنه بعث إلى الإمام إني ذمة لكم أقيم في دار الحرب وبعث بالخراج كل سنة فذلك جائز وولده الصغير يكون ذمياً بمنزلته لقيام ولايته عليه حيهن صار ذمياً فإن خرج إلى دار الإسلام وخلف ولده ثم استأمن عليهم مستأمن فأخرجهم قاهراً لهم أو غير قاهر فلا سبيل له عليهم فكان الأب أحق بهم لما بينا أن بقاء الشيء لا يستدعي دليلاً مبقياً وقد كان الولد ذمياً فلا يخرج من أن يكون ذمياً إلا بنقض العهد ولم يوجد ذلك منه والذمي لا يملك بالقهر فلهذا كان الأب أحق بولده في الوجهين جميعاً ولو أن الأب حين أسلم فينا رجع إلى دار الحرب فكان مع الصغار من أولاده حتى ظهر المسلمون على الدار كانوا مسلمين لا سبيل عليهم وكذلك إن صار ذمياً ثم رجع إلى دار الحرب لأنه لما حصل معهم في دار الحرب كان حاله كحال ما لو كان معهم حين أسلم أو صار ذمياً فإن الاستدامة فيما يستلم كالإنشاء قال : وإن وادع المسلمون أهل تلك الدار فدخل إليهم ليأخذ أولاده فمنعوه لم يكن الأولاد معاهدين ولا ذمة بأبيهم في هذا الفصل لأنه لم يثبت له عليهم ولاية بهذا الدخول فإن الموادعين
لا يجري عليهم أحكام الإسلام وقد حالوا بينه وبين الولد وذلك يمنع ثبوت ولايته عليهم فكان هذا وما لو لم يدخل إليهم سواء بخلاف ما إذا@(5/126)
لم يحولوا بينهم وبينه وهذا لأن دار الحرب ليست بدار أحكام فإنما يعتبر تمكنه من أخذهم حساً وذلك يوجد إذا لم يحولوا بينهم وبينه ينعدم إذا حالوا وها هنا قد حالوا بينه وبين الأولاد والله الموفق .
في دار الحرب ولو أن مستأمناً في دار الحرب اشترى من حربي عبداً بثمن معلوم وتقابضا ثم أسلموا أو صاروا ذمة ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فإن القاضي لا يسمع الخصومة في ذلك في الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب بعد تعذر الرد سواء كان المشتري هو المسلم أو الحربي لأن هذه خيانة وتدليس كانت في دار الحرب والإسلام يجبّ ما قبله إلا أنه إن كان المسلم هو الذي باع فإنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى بأن يطلب رضاء خصمه وإن كان الحربي هو الذي باع فليس عليه ذلك وهو نظير ما لو أخذ أحدهما مالاً من صاحبه بغير رضاه فاستهلكه أو لم يستهلكه أو أودع أحدهما صاحبه مالاً فأنفقه وهناك إن كان بجناية فإنه يفتى بطلب رضاء الخصم ولا يجبر عليه في الحكم لأنه غدر بأمان نفسه خاصة وإن كانت الجناية من الحربي لم يكن عليه ذلك لأنه لم يكن ملتزماً حكم الإسلام حين اكتسب سبب هذه الجناية وعلى هذا لو تبايعا عبداً بجارية وتقابضا ثم أقام أحد المملوكين البينة أنه حر مسلم بعد إسلام الحربي أو استحقه مسلم لإقامته البينة على أنه مدبره أو مكاتبه فإن الآخر لا يجبر على رد@(5/127)
المملوك الذي قبضه ولكن إن كان الآخر هو المسلم في الأصل يفتي بالرد وإن كان هو الحربي فليس عليه ذلك فإن لم يرده المسلم بعد ما أفتى به ولكنه أراد بيعه فإنه يكره للمسلمين أن يشتروا ذلك منه لأنه ملك خبيث له بمنزلة المشتري شراء فاسداً إذا أراد بيع المشتري بعد القبض يكره شراؤه منه وإن كان مالكاً ينفذ فيه بيعه وعتقه لأنه ملك حصل له بسبب حرام شرعاً ولو كان الذي عاملهم بهذا مسلماً كان أسيراً فيهم أو كان أسلم فيهم والمسألة بحالها يؤمر بالرد بطريق الفتوى لأنه لم يكن بينه وبينهم أمان خاص ولا عام حتى يكون هذا غدراً منه ولو كانت المبايعة بين مستأمن فيهم وحربي منهم بشرط الخيار لأحدهما ثلاثة أيام ثم اسلم الحربي قبل مضي مدة الخيار فلمن له الخيار أن ينقض البيع ويرج ما أخذ ويأخذ ما أعطى
لأن حالهما بعد إسلامه كحالهما قبله ومن له الخيار ينفرد بالفسخ كما ينفرد بالإجازة من غير أن يحتاج فيه إلى قضاء أو رضاء فكما أن إجارته بعد إسلامه يجعل كإجارته قبل إسلامه فكذلك فسخه وكذلك لو كان للمشتري منهما خيار رؤية لأنه ينفرد بالفسخ بحكم هذا الخيار ومن غير رضاء أو قضاء وكذلك لو وجد بالمشتري عيباً قبل أن يقبضه لأن قبل القبض المشتري ينفرد بالرد بالعيب من غير قضاء ولا رضاء لانعدام تمام الصفقة ثم بعد فسخ البيع قد بقي ملك أحدهما في يد صاحبه وقد كان سلمه إليه طوعاً فكان له أن يسترده بمنزلة ما لو أودع أحدهما صاحبه مالاً ثم أسلم الحربي والوديعة قائمة بعينها بخلاف ما سبق فإن الرد بالعيب بعد القبض لا يكون إلا برضاء أو قضاء لتمام الصفقة بالقبض والقاضي لا يقضي بشيء ها هنا بينهما لأن الخيانة التي جرت بينهما بمنزلة مال@(5/128)
استهلكه أحدهما على صاحبه قبل إسلام الحربي ولو لم يسلم الحربي ولكن خرج إلينا بأمان ثم اختصما فيما جرى بينهما فإن القاضي لا يقضي بينهما بشيء من نقض بيع ولا غيره لأن هذه معاملة جرت بينهما في دار الحرب والحربي ما التزم حكم الإسلام مطلقاً حين دخل إلينا بأمان وفي مثله القاضي لا يسمع الخصومة بخلاف ما إذا أسلم أو صار ذمياً لأنه التزم أحكام الإسلام في المعاملات مطلقاً وكذلك لو كانت هذه المعاملة بين الحربين ثم دخلا إلينا بأمان فخاصم فيه أحدهما صاحبه لم يسمع القاضي خصومته بخلاف ما إذا أسلما أو صارا ذمة وهو نظير ما لو أقرض أحدهما صاحبه مالاً أو دابة ثم خرجا إلينا بأمان فإن القاضي لا يسمع الخصومة بينهما في ذلك بخلاف ما إذا أسلما أو صارا ذمة إلا أن في جميع هذه الوجوه إذا لم يسمع القاضي الخصومة فيما كان مستهلكاً بعد الإسلام فإن كانت المعاملة بين حربيين لا يفتي الخائن منهما بطلب رضاء الخصم أيضاً فإن كانت بين مسلم وحربي أفتي المسلم فيما بينه وبين ربه بأن يرضي خصمه من غير أن يجبر عليه في
الحكم لأنه غدر بأمان نفسه قال : ولو كانا مسلمين في دار الحرب بأمان فعامل أحدهما صاحبه فهذا وما لو كانت المعاملة بينهما في دار الإسلام على السواء لأن المسلم ملتزم بحكم الإسلام@(5/129)
حيثما يكون ومال كل واحد منهما مال معصوم متقوم في حق صاحبه لبقاء الأحراز فيه حكماً وإن كان دخل إليهم بأمان فلهذا كان حالهما في دار الحرب كحالهما في دار الإسلام في كل معاملة تجري بينهما إلا في خصال ثلاث إن قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يجب على القاتل قصاص لقيام الشبهة بكونهما في دار الإباحة ولأنه يتمكن من استيفاء القصاص بقوت نفسه عادة والقاتل ليس في يد الإمام لنعينه على استيفاء القصاص فلا يجب القصاص ولكن تجب الدية في ماله وكذلك إن قتله خطأ لأن التعاقل باعتبار التناصر ولا تناصر بين من في دار الحرب وبين من في دار الإسلام فلهذا لا يكون على عاقلته من الدية شيء وكذلك إن ارتكب أحدهما شيئاً موجباً للحد لم يلزمه الحد لأنه لم يكن به ملتزماً الحد فأما فيما سوى هذه الثلاثة حال المستأمن في دار الحرب كحاله في دار الإسلام وفي الأسيرين كذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وفي وقل أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا تجب الدية على القاتل ها هنا وحال الأسيرين عنده كحال حربيين أسلما في دار الحرب ثم قتل أحدهما صاحبه قبل الخروج إلى دار الإسلام وقد بينا هذا في كتاب الديات في شرح المختصر وعلى هذا لو استهلك أحدهما مال صاحبه ففي اللذين أسلما في دار الحرب لا ضمان على المستهلك بالاتفاق وإن كان آثماً في الاستهلاك وفي المستأمن هو ضامن بالاتفاق وفي الأسيرين خلاف كما بينا وهذا لأن وجوب الضمان بالإحراز@(5/130)
والتقوم وذلك يكون بالدار لا بالدين فالعصمة بسب الدين إنما تثبت في حق من يعتقد لا في حق من لا يعتقد وتمام الإحراز يكون بما يظهر حساً في حق من يعتقد وفي حق من لا يعتقد وذلك إنما يكون بالدار فلهذا كان الحكم فيه على ما ذكرنا قال :
ولو غصب أحدهما من صاحبه مالاً ولم يستهلكه حتى خرجا إلينا فإن القاضي يقضي على الغاصب برد المغصوب سواء كانا مستأمنين أو أسيرين أو رجلين أسلما في دار الحر لأن صاحب المال وجد عين ماله في يد الآخر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : من وجد عين ماله فهو أحق به ولأن الغاصب منهما إنما أخذ مال صاحبه بطريق القهر ومال المسلم لا يكون غنيمة للمسلم وهو نظير أهل العدل مع أهل البغي إذا اقتتلوا ثم أخذ أحدهما مال صاحبه فإنه يجبر على الرد بعد ما وضعت الحرب أوزارها إذا كان المال قائماً بعينه وإذا كان مستهلكاً لم يكن المستهلك ضامناً له للمعنى الذي ذكرنا فهذا مثله وهو بخلاف المستأمن فيهم إذا غصب مالاً من حربي ثم أسلم الحربي ووجد ماله قائماً بعينه في يد المسلم فإن القاضي لا يجبره على الرد في الحكم ولكن يفتيه بذلك فيما بينه وبين الله - تعالى - ويقول : اتق الله تعالى ورد ما أخذت لأن مال الحربي هناك محل التملك بالقهر حين أخذه المسلم لكن كان عليه التحرز عن الغدر للأمان الذي بينه وبينهم فإنما غدر بأمان نفسه خاصة فلهذا يأمره بالرد على سبيل الفتوى ولا يجبره عليه في الحكم ولو أن حربياً أسلم في دار الحرب ثم باع من مسلم مستأمن عبداً أو اشترى منه عبداً بثمن معلوم وتقابضا ثم خرجا إلى دار الإسلام ثم وجد المشتري بالمشتري عيباً أو استحق من يده بجزية أو غيرها فإن القاضي يقضي على صاحبه برد الثمن إن كان قائماً بعينه في يده وإن استهلكه لم يضمنه شيئاً في الحكم وكذلك إن كانا تبايعا عرضاً بعرض فاستحق أحدهما والعرض@(5/131)
الآخر قائم بعينه فإن القاضي يقضي برده ولو كان مستهلكاً لم يضمن المستهلك شيئاً لأن هذه جناية مرت بينهما في دار الحرب وقد كانا مسلمين يومئذ إلا أن الذي أسلم منهما في دار الحرب كان ماله معصوماً في الأثام دون الأحكام فقلنا : فيما إذ كان قائماً بعينه القاضي يقضي بالرد وفيما كان مستهلكاً لا يقضي بشيء بمنزلة ما لو
كانا مسلمين تبايعا بعد ما أسلما قبل أن يخرجا إلى دار الإسلام وهذا لأنه لما ثبت هذا الحكم في حق الذي أسلم منهما ثبت في حق الآخر أيضاً لوجوب التسوية بين الخصمين شرعاً قال : ولو أن مسلماً مستأمناً فيهم اشترى مملوكاً منهم بقيمته فالبيع فاسد بجهالة الثمن كما لو كانت هذه المبايعة في دار الإسلام وهذا لأن المستأمن فيهم إنما يتمكن من أخذ مالهم بطيب أنفسهم وعليه يبني أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - حكم عقد الربا فيما بينه وبين الحربي وأما فيما سوى ذلك فالمعاملة في دار الحرب ودار الإسلام سواء في حق المسلم لأنه ملتزم حكم الإسلام حيثما يكون فإن قبض المشتري العبد وأعطى القيمة ثم خرج الحربي مسلماً أو ذمياً فأراد أحدهما نقض البيع فإن القاضي لا يسمع الخصومة في ذلك لأنهما تقابضا بالتراضي على وجه التمليك والتملك فتم الملك في البيع لكل واحد منهما بطريق التعاطي وإن كان أصل البيع فاسداً ولو كان المشتري منهما قبض المملوك ولم يدفع القيمة حتى أسلم الحربي فإن القاضي يقضي برد المملوك على البائع لأن المعاملة ما انتهت هاهنا بالتقابض والمشتري إنما أخذ العبد@(5/132)
على أن يعطي صاحبه ثمنه وهو لا يتمكن من ذلك للجهالة المتفاحشة في القيمة فكان عليه رد ما أخذ منه ولو دخل الحربي إلينا بأمان لم يسمع القاضي الخصومة في ذلك لأن أصل المعاملة كانت في دار الحرب والمستأمن مال التزم أحكام الإسلام مطلقاً بخلاف ما إذا أسلم أو صار ذمة وعلى هذا لو تبايعا عبداً بأرطال من خمر وتقابضا ثم أسلم الحربي فإن القاضي لا ينقض شيئاً من بيعهما لانتهاء المعاملة بالتقابض وتمام الملك في العبد المشتري للمشتري بالقبض وإن قبض المشتري العبد ولم يعط صاحبه الخمر حتى أسلم الحربي فإن القاضي ينقض البيع ويرد العبد إلى البائع لقيام حكم المعاملة بينهما وعجز المشتري عن تسليم الثمن بعد إسلام الحربي منهما والإجارة قياس البيع في ذلك حتى إذا استأجر أحدهما
صاحبه شهراً لعمل معلوم بأجر معلوم أو بخمر فإن عمل له ذلك ثم أسلم الحربي قبل إيفاء الأجر فعلى المستأجر أجر المثل للعامل فيما عمله له وإن كانا تقابضا لم يكن على المستأجر شيء للفقه الذي ذكرنا فإن كان المشتري هلك في يد المشتري أو استهلكه ثم أسلم الحربي قبل قبض الثمن فعلى المشتري قيمة المشتري للبائع لأنه أخذه على أن يعطيه ثمناً ولم يكن أخذه بطريق الغصب والخيانة فلهذا كان المقبوض مضموناً عليه بالقيمة عند تعذر رد العين بخلاف ما إذا اشتراه بميتة أو دم وقبض المشتري ولم يعطه ما شرط حتى أسلم الحربي فإن المشتري يسلم للقابض منهما ولا يلزمه رد شيء من عينه ولا قيمته لأن هذا لم يكن@(5/133)
بيعاً بينهما فالبيع يستدعي المالية في البدلين والميتة ليس فيها شبهة المالية وإنما ملك أحدهما صاحبه مالاً بغير عوض فكان هذا والموهوب سواء في الحكم ولو كانت المبايعة بين مسلم مستأمن فيهم وبين رجل أسلم من أهل الحرب والمسألة بحالها فإن أقاض ينقض ما بينهما من البيوع الفاسدة ويكون حالهما في ذلك كحال المستأمنين وهذا قول محمد - رحمه الله تعالى - فأما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فيما يجب فيه ضمان القيمة ينبغي أن يكون حالهما كحال ما لو جرت المعاملة بين المسلم والحربي بمنزلة عقد الربا إذا جرى بين هذين فإن الحكم فيه عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - كالحكم فيما إذا جرى بين المسلم والحربين ولو جرت هذه المعاملة بين الحربيين ثم أسلما أو صارا ذمة كان الحكم فيه كالحكم فيما إذا جرى بين مسلم وحربي لأنهما ما كانا ملتزمين حكم الإسلام حين جرت المعاملة بينهما قال : ولو دخل عسكر من المشركين دار الإسلام ثم دخل إليهم مسلم بأمان فعاملهم بهذه الصفة كان هذا وما لو كان مستأمناً في دار الحرب حين عاملهم سواء لأن العسكر إذا كانوا أهل منعة فحكم الإسلام لا يجري في معسكرهم كما لا يجري في دار الحرب وبناء هذه الأجوبة على الحكم فيما إذا كان
الحكم حكم الكفر في الموضع الذي جرت المعاملة فيه وإذا كان الحكم حكم المسلمين فإنه لا يجوز من المعاملة في ذلك الموضع إلا ما يجوز في دار الإسلام ألا تبرى أن عسكر المسلمين لو دخلوا دار الحرب ثم جرت هذه المعاملة في المعسكر فإن حكمها وحكم ما لو جرت في دار الإسلام سواء ألا ترى أنه لو قتل رجل رجلاً في المعسكر عمداً وجب عليه القصاص بمنزلة ما لو قتله في دار الإسلام فعرفنا أن المعتبر جريان الحكم في ذلك الموضع وإذا ظهر هذا في حكم القتل فكذلك في حق المعاملات والله الموفق .@(5/134)
باب من يجب على المسلمين نصرتهم وما لا يكون فيئاً
إذا أخذ من دارنا أو من غيرها ولو أن قوماً من أهل الحرب لا منعة لهم دخلوا إلينا بأمان فأغار أهل دار حرب أخرى على دار الإسلام وأصابوا أولئك المستأمنين فأحرزوهم بدارهم واستعبدوهم ثم ظفر المسلمون عليهم فعليهم تخلية سبيل المستأمنين لأنهم سبوا من دار الإسلام وقد كانوا في حكم أهل الإسلام حين سبوا والحرية لا تبطل بمثل هذا السبي ثم قد بينا أن المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحال أهل الذمة في وجوب نصرتهم على أمير المسلمين ودفع الظلم عنهم لأنهم تحت ولايته ألا ترى أنه كان يجب على الإمام والمسلمين اتباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونهم ومدائنهم كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين أو على أهل الذمة وبهذا تبين أيضاً وجوب تخلية سبيلهم إذا أصبناهم فهل رأيت قوماً يجب على المسلمين نصرتهم إذا أخذوهم كانوا فيئاً لهم هذا مما لا يجوز القول به وكذلك لو أن هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة دخلوا إلينا بتلك الموادعة لأن تلك الموادعة توجب الأمان لهم في دارنا فكانوا بمنزلة المستأمنين في وجوب نصرتهم وعلى هذا لو أسلم أهل الدار الذين أسروهم فإن الإمام يحكم عليهم بأن يخلوا سبيلهم فيكونوا أحراراً على ما كانوا عليه قبل أن يسبوا سواء كانت مدة الموادعة قائمة@(5/135)
أو قد انقضت لأنهم حين كانوا في دارنا بأمان ولا منعة لهم فحالهم كحال أهل الذمة في وجوب نصرتهم وأهل الحرب لا يملكونهم بالسبي لتأكد حريتهم بدار الإسلام فإذا أسلموا كان عليهم تخلية سبيلهم وكذلك لو لم يسلموا ولكن دخل إليهم مسلم بأمان فاشتراهم بمال أو فداهم كان هذا وما لو فدى الحر المسلم أو الذمي الأسير بماله في جميع ما ذكرنا سواء وكذلك لو أن الذين أسروهم خرجوا إلينا بأمان ومعهم بعض هؤلاء الأسراء فإنهم يؤخذون من مجاناً لأنه ظالم في حبسهم وحالهم في ذلك كحال أهل الذمة إذ لا يجوز إعطاء الأمان علي
التقرير على الظلم بحبس الحر المأسور ولو كان في المستأمنين المأسورين عبد مملوك والمسألة بحالها لم يجبر المستأمن الذي أسره على بيعه إذا دخل إلينا بأمان وهو معه بخلاف ما إذا كان العبد مسلماً أو ذمياً لأنه يملكه بالإحراز في الفصول كلها إلا أن المسلم والذمي لا يقر في ملك الحربي فكان مجبراً على بيعه لذلك فأما إذا كان العبد حربياً فالحربي يقر في ملك الحربي وقد تم ملكه بالإحراز فلهذا لا يجبر على بيعه توضيحه : أنه إنما يجبر على بيعه ليعود كما كان وها هنا كان حربياً قبل أن يؤسر ولو أجبر على بيعه في دار الإسلام باعه من المسلمين أو من أهل الذمة فلا يعود حربياً كما كان فهذا لا يجبر على بيعه قال : ولو أن الموادعين لم يخرجوا إلينا حتى أغار عليهم أهل حرب أخرى في دارهم فأسروا معهم أسيراً ثم ظهر المسلمون عليهم فاستنقذوهم من أيديهم كانوا عبيداً للمسلمين لأنهم ما كانوا أصابوهم من دار الإسلام فإن دار الموادعين دار الحرب لا@(5/136)
يجري فيها حكم المسلمين وإنما كانت الموادعة بيننا وبينهم ولم يكن فيما بينهم موادعة فتم إحراز القاهرين لهم ثم وقع الظهور عليهم فكانوا مماليك للمسلمين ثم قد بينا أنهم لو كانوا أهل منعة في دارنا بأمان فظهر عليهم أهل حرب آخرون وأحرزوهم كانوا مماليك لهم فإذا كانوا في دار الموادعة ومنعة أنفسهم حين وقع الظهور عليهم أولى وهذا لأنا إنما التزمنا للموادعين ترك التعرض لهم لا أن ننصرهم من عدوهم وهذا بخلاف ما إذا دخل بعضهم دارنا بحكم الموادعة لأن الداخلين لما لم يكونوا أهل منعة مفقد التزمنا نصرتهم بالأمان الثابت لهم في دارنا حكماً ولو كان الذين أغاروا على الموادعين قوماً من الخوارج ثم ظهر عليهم أهل العدل ردوهم إلى مأمنهم أحراراً لا سبيل عليهم أما إذا أغاروا عليهم في دار الإسلام فهو غير مشكل وأما إذا أغاروا عليهم في دار الموادعة فلأنا قد التزمنا لهم بالموادعة ترك التعرض وألا يظلمهم أحد من
المسلمين والخوارج منهم فكان على إمام أهل العدل دفع ظلمهم عن الموادعين إذا تمكن منهم كما عليه دفع ظلم أهل العدل عنهم إذا تمكن منهم بخلاف أهل الحرب فإنه ليس على إمام المسلمين دفع ظلم أهل الحرب عنهم بسبب الموادعة لأنه ما التزم ذلك لهم والذي يوضع الفرق أن أمان الخوارج يثبت في حق أهل العدل فكذلك أمان أهل العدل يثبت في حق الخوارج عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : يسعى بذمتهم أدناهم وإذا ظهر حكم أمانهم في حق الخوارج لم يملكوهم بالأسر فلهذا وجب ردهم أحراراً كما كانوا قال : ولو أن حربياً دخل إلينا بأمان ومعه عبد له فأسر عبده أهل حرب آخرون وأحرزوه ثم وقع العبد في الغنيمة ومولاه في دار الإسلام أو قد رجع إلى دار الحرب فإن حضر قبل القسمة@(5/137)
أخذه بغير شيء وإن حضر بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لأنه لما كان حاله كحال الذمي ما دام مستأمناً فينا في نفسه إذا صار مقهوراً فكذلك في ماله إذا وقع الظهور عليه فإن حكم الأمان يعم المال والنفس ثم إنما ينتهي حكم الأمان برجوعه إلى دار الحرب وفيما يرده مع نفسه فأما فيما لم يرده فحكم الأمان قائم كأنه لم يرجع إلى دار الحرب فلهذا كان الحكم فيه ما بينا وعلى هذا لو كان العبد دخل إلينا بأمان ولم يكن مولاه معه لأن حكم الأمان ثابت فيه ما لم يرجع إلى دار الحرب فإنا قد التزمنا تبليغه مأمنه وقد انعدم ذلك حين أحرزه أهل حرب آخرون ولهذا إذا وقع في الغنيمة وجب رده على مولاه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة وكذلك لو كان العبد من أهل دار الموادعين دخل إلينا بتلك الموادعة وحده أو مع مولاه ثم أسره أهل الحرب لأنه كان آمناً فينا بتلك الموادعة فهو في الحكم كالمستأمن فينا وكذلك لو دخل مسلم دار القاهرين بأمان فاشتراه منهم كان لمولاه أن يأخذه بالثمن إن شاء في جميع هذه الفصول لأنه الآن بمنزلة عبد المسلم أو الذمي وقد أصيب من دارنا وإنما الفرق بينهما في الحرف الذي قلنا أن
الأسير إذا دخل إلينا بأمان وهو معه لم يكن مجبراً على بيعه بخلاف ما إذا كان لمسلم أو ذمي بأمان فأما فيما سوى ذلك فالحكم سواء واللهأعلم @(5/138)
باب مواريث القتلى إذا لم يدر أيهم قتل أولاً وإذا قتل جماعة من المسلمين ذوي القرابة ولا يعلم أيهم قتل أولاً فإنه لا يرث بعضهم من بعض ولكن ميراث كل واحد منهم لورثته الأحياء لأن كل أمرين حدثا ولا يعرف التاريخ بينهما فإنه يجعل كأنهما حدثا معاً لفقه وهو أنه يحال بالحادث على أقرب الأوقات فإن التاريخ لا يثبت إلا بحجة ثم شرط التوريث بقاء الوارث حياً بعد موت لمورث فما لم يعلم هذا الشرط يقيناً لإنسان بعينه لا يجعل وارثاً إلا ترى أن المفقود لا يرث أحداً من أقاربه ما لم يعلم حياته بعينه بعد موت المورث والأصل فيه حديث خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - قال : أمرني أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بتوريث أهل طاعون عمواس كانت القبيلة تموت بأسرها فورثت الأحياء الأموات ولم أورث الأموات بعضهم بعضاً قال خارجة بن زيد : وأنا ورثت أهل الحرة فورثت الأحياء الأموات ولم أورث الأموات بعضهم بعضاً وذكر آثاراً في الكتاب بالإسناد عن الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم - لإثبات الأصل الذي قلنا قال : وكل@(5/139)
نسب ادّعاه السبي إذا تصادقوا عليه ولم يعرف إلا بقولهم فإنهم لا يتوارثون بذلك ما خلا الأبوة والنبوة إلا أن تقوم البينة من المسلمين على ذلك النسب فحينئذ يجري التوارث وهذا بناء على ما عرفناه في الدعوى أن إقرار الرجل يصح بأربعة نفر : بالأب والابن والزوجة والمولى وإقرار المرأة يصح بثلاثة نفر : بالأب والزوج والمولى ولا يصح إقرارها بالابن لأنها تحمل نسبه على غيرها وهو صاحب الفراش فأما الإقرار بما سوى ذلك من الرابات لا يصح من واحد منهما .
لإن المقر إنما يحمل النسب على غيره والأصل فيه ما روي أن امرأة سبيت ومعها صبي حاملته وكانت تقول : ابني فأعتقا وكبر الغلام فمات وترك مالاً فقيل لها : خذي ميراثك فتحرجت من ذلك وقالت : لم يكن ابني إنما كان ابن دهقان القرية وكنت ظئراً له فكتب في ذلك إلى عمر - رضي الله تعالى عنه - فكتب - رضي الله تعالى عنه - ألا يورث الحميل إلا ببينة فصار هذا أصلاً فيما قلنا لأن الحميل محمول النسب إلى الغير فعيل بمعنى المفعول أو حامل نسبه على غيره فعيل بمعنى فاعل وكل ذلك جائز وإذا مات الرجل في دار الحرب فقسم ميراثه على غير قسمة@(5/140)
ميراث أهل الإسلام بأن أعطى الذكور من الأولاد دون الإناث أو الولد دون الأبوين أو دون الزوجة ثم أسلموا بعد تمام القسمة فالقسمة ماضية على ما صنعوا ولو لم يقسموا حتى أسلموا فإنما يقسم الميراث بينهم على حكم الإسلام لأنهم بالإسلام يلتزمون أحكام المسلمين فذلك يلزمهم في تصرف يباشرونه في المستقبل دون ما باشروه قبل الإسلام بمنزلة المعاملة بالخمر والخنزير وغير ذلك والأصل فيه حديث عمرو بن دينار - رحمه الله تعالى - أن لنبي صلى الله عليه وسلم قال : إيما ميراث اقتسم في الجاهلية فهو على قسمة الجاهلية وما أدرك الإسلام فهو على قسمة الإسلام يعني : ما أدرك الإسلام بأن أسلم المستحقون قبل القسمة وهذا بخلاف ما إذا اقتسم أهل الذمة مواريثهم على غير قسمة المسلمين ثم اختصموا في ذلك فإن الإمام يبطل قسمتهم ويقسم الميراث بينهم على قسمة المسلمين لأن أهل الذمة قد التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فكان حكمهم كحكم المسلمين إلا ما صار مستثنى لمكان عقد الذمة كالتصرف في الخمر والخنزير ونكاح المحارم فأم أهل الحرب ما كانوا ملتزمين لحكم الإسلام قبل أن يسلموا فلهذا كان الحكم فيهم على ما بيننا ولا يتوارث أهل الحرب وأهل الذمة وإن دخلوا إلينا بأمان لأنهم أهل دارين مختلفين فإن المستأمن فيهما من أهل دار
الحرب وتباين الدار تأثيره في قطع العصمة والولاية فوق تأثير تباين الدين فكما لا يتوارث أهل ملتين فكذلك لا يتوارث أهل الدارين وعلى هذا أهل الحرب فإنهم لا يتوارثون فيما بينهم إذا كانوا أهل دور مختلفة لأن حكم اختلاف الدار فيهم باختلاف المنعة فإن دارهم ليست بدار أحكام حتى يجمعهم حكم بخلاف دار الإسلام فإما إذا صاروا أهل الذمة فإنهم يتوارثون بالقرابة لأنهم صاروا من أهل دار الإسلام وهم أهل ذمة واحدة فإن الكفر كله ملة واحدة فلهذا جرى التوارث فيما بينهم والله أعلم .
قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه - : اعلم بأن أكثر مشاكل هذا الباب قد بيناه في شرح المختصر في كتاب المفقود وإنما نذكرها هنا ما لم نبينه ثمة فمن ذلك : أن امرأة الأسير إذا ثبت عندها ارتداد زوجها إلى دين الكفر اعتدت بثلاث حيض وتزوجت@(5/141)
وإذا ثبت عندها موته اعتدت بأربعة أشهر وعشرا ثم تزوجت ولها الميراث في الوجهين لأن حاله بعد ما أسر وفقد كحاله إذا كان معها إلى أن ارتد أو مات فإن الأسر لا يؤثر في قطع عصمة النكاح إلا أن موت الزوج يثبت عندها بخبر الواحد إذا كان عدلاً فأما ردة الزوج لا تثبت عندها إلا بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين على رواية هذا الكتاب وعلى رواية كتاب الاستحسان سوى بين الفصلين وقال : يثبت ذلك بخبر الواحد إذا كان عدلاً لأنه بخبرها بأمر ديني فإن حل التزوج وحرمته أمر ديني ألا ترى أن ردة المرأة عند الزوج تثبت بخبر الواحد لهذا المعنى فأما في هذه الرواية نفرق فنقول : إن ردة الرجل يتعلق بها استحقاق القتل فكان حكمه أغلظ من حكم ردة المرأة فلهذا لا تثبت بخبر الواحد إلا أنها تثبت الآن بشهادة رجل وامرأتين وبالشهادة على الشهادة لأن المقصود هو القضاء بقسمة الميراث وذلك يثبت مع الشبهات فلهذا أثبتنا بحجة فيها شبهة ألا ترى أنهم لو شهدوا به عند القاضي قضى بقسمة ماله بين ورثته المسلمين فكذلك إذا شهدوا به عندها قلنا : يكون لها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها فإن رجع بعد ذلك مسلماً وقال : قد كذبت عليّ البينة ليقبل ذلك منه وكان ذلك بمنزلة إسلامه ابتداء فلا ترد عليه امرأته إلا بنكاح جديد سواء تزوجت أو لم تتزوج ولو شهد هذان الشاهدان بردته عند قوم ثم غابا أو ماتا فليس يسع أولئك القوم أن يشهدوا على ردته لأنهما لم يشهداهم على شهادتهما فإن أشهداهم على ذلك فحينئذ يسعهم أن يشهدوا على شهادتهما كما في سائر الأحكام فأما إذا أخبر بموته مسلم عدل فلا خلاف أنه يسعها أن تعتد وتتزوج لأنه لا يتعلق بما أخبر به
حق يطلب الرجل به بخلاف الردة إلا أن هذا الخبر إنما يعتمد إذا قال عانيته ميتاً أو شهدت جنازته فأما إذا قال : أخبرني به مخبر فإنه لا يعتمد على ذلك فأما إذا أخبر@(5/142)
قوماً عن معاينة يسعهم أن يشهدوا على موته عند القاضي إلا أنهم إذا بينوا للقاضي أنهم سمعوا ذلك من واحد فإن القاضي لا يقضي بشهادتهم كما لو جاء ذلك المخبر فأخبر القاضي به وهو بمنزلة الشهادة على الملك باعتبار اليد يجوز ولكن إذا أخبر القاضي أنه يشهد بالملك له لأنه رآه في يده لم يعتمد القاضي شهادته والذي يخبر عن موته معاينة إنما يعتمد خبره إذا لم يكن متهماً في ذلك الخبر فأما إذا كان متهماً بأن كان أحد ورثته أو موصى له بمال فإنه لا يعتمد خبره فإن يجر بذلك إلى نفسه مغنماً فيكون متهماً في خبره كالفاسق ثم القاضي يقضي لامرأة الأسير والمفقود بالنفقة في ماله إذا كان النكاح معلوماً له بينهما سواء كانت مسلمة أو كتابية وكذلك يقضي بنفقة الأبوين والولد بالنص فإن استوفوا النفقة زماناً ثم قامت البينة على قتل الأسير أو المفقود قبل النفقة عليهم فإن الإمام يضمنم ما أخذوا لأنه تبين أنهم أخذوا ذلك بغير حق ولا يمكن أن يحسب ذلك من ميراثهم إذ لا يجري التوارث مع اختلاف الملة فلهذا ضمنهم ذلك .
فكذلك إن قامت البينة على ردة الأسير في دار الحرب قبل النفقة لأن@(5/143)
ذلك كموته في حكم استحقاق النفقة فإن قالت الزوجة : حاسبوني بما أخذت من نفقتي لعدتي لم يلتفت إلى قولها لأنها إنما تستوجب نقفة العدة على المرتد ما دام في دار الإسلام فأما بعد اللحاق بدار الحرب فلا بمنزلة ما لو طلقها ثلاثاً ثم لحق بدار الحرب مرتداً فإنها لا تستوجب النفقة عليه بعد ذلك لأن لحوقه بدار الحرب مرتداً كموته وإذا كان للأسير مال وديعة في يد إنسان هو مقر به ومال دين على إنسان هو مقر به فإنما يفرض القاضي النفقة لزوجته وأولاده ووالديه في الوديعة دون الدين لأن الوديعة أمانه إن قال من في يده ضاعت صدق والدين مضمون في ذمة الغريم فكان النظر للأسير في أن يجعل النفقة في الوديعة ويشهد على إقرار المدين حتى يأمن فوات الدين بجحوده وإن رأى أن يأخذ الوديعة من يد من فيء يده وأني ضعها على يدي نفسه ويأمر بالإنفاق من الدين الغريم لم يكن له بأس أيضاً لأنه ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ثم لا يصدق المدين فيما يدّعي أنه أنفق من الموادعة مع يمينه لأن المدين إنما ينفق من ملك نفسه على أن يكون ذلك مضموناً له في ذمة صاحب الدين ثم يصير قصاصاً وهو لا يصدق فيما يدّعي من الدين لنفسه في ذمة غيره إلا بحجة فأما المودع أمين ينفق من ملك الغير بأمره أو بأمر من يقوم مقامه وهو القاضي والقول قول الأمين مع اليمين ألا ترى أن المدين لو أدّعى قضاء الدين لم يصدق إلا بحجة والمودع إذا ادّعى رد الموادعة مكان مصدقاً مع اليمين فإن جاء الأسير بعد ما@(5/144)
أنفق الغريم أو المودع بأمر القاضي فجحد نكاح المرأة ولم يكن لها على ذلك بينة وحلف الأسير ما هي له بامرأة على قول من يرى الاستحلاف في باب النكاح فله أن يرجع على الغريم والمودع بما له لأن ولاية الأمر للقاضي بالإنفاق كان بسبب النكاح نظراً منه للغائب ولم يثبت النكاح فتبين أنه أنفق ملكه على غيره بغير أمر صحيح شرعاً
فصار ضامناً له ذلك ويرجع بما يضمن على من أنفق عليه لأن أخذ المال منه لنفسه فكان ضامناً للمأخوذ فإن كان المنفق معسراً فأراد الأسير تضمين المرأة ماله فله ذلك في الموادعة دون الدين لأنها أخذت عين ماله من المودع وأنفقت على نفسها فكانت ضامنة له وإنما أخذت من المدين مال المدين فأما دين الأسير في ذمة المدين فلا سبيل له على تضمين المرأة وإنما يطالب الغريم بما له وفي الموادعة إذا اختار الأسير تضمينها ثم أراد الرجوع عن ذلك وتضمين المودع لم يكن له ذلك لأنها في حقه كالغاصب مع غاصب الغاصب فبعد ما اختار تضمين أحدهما لم يكن له أن يرجع عن ذلك ويضمن الآخر لأن اختياره تضمين أحدهما يكون إبراء منه للآخر ولو كان الأسير لم يجحد نكاح المرأة ولكنه أقام البينة أنه كان أعطاها النفقة لمدة معلومة قبل أن يؤسر أو كان طلقها وانقضت عدتها قبل أن يؤسر فلا ضمان له على الغريم المودع فيما أنفقا بأمر القاضي ولكنه يرجع على المرأة بما أخذت لأن في الفصل الأول وجوب الضمان عليهما كان باعتبار إقرارهما بأصل النكاح فإنهما لو أنكرا ذلك لم يأمرهما القاضي بإنفاق شيء عليها وقد ظهر الآن أنهما كذبا فيما أقرا به على الأسير فلهذا ضمن وها هنا لم يظهر كذبهما فيما أقرا به من أصل النكاح وإنما أثبت الزوج عارضاً مسقطاً للنفقة عنه هو نظير الشاهدين بالقتل خطأ إذا قضى القاضي بالدية بشهادتهما@(5/145)
واستوفى ثم جاء المشهود بقتله حياً كانا ضامنين للمال وبمثله لو أقام المشهود عليه البينة أنه كان المجروح عفا عن الجراحة وما يحدث منها قبل موته لم يكن على الشهود ضمان في ذلك فهذا قياسه فإن كان الغريم أو المستودع قال : إني قد شهدت نكاحها حين تزوجها ولست أدري أطلقها أو لم يطلقها فإن القاضي يأمره بالإنقاق لأن ما عرف بثبوته فالأصل بقاؤه حتى يوجد الدليل المزيل وكذلك لو قال : هي امرأته للحال فإن أقام الأسير البينة أنه كان طلقها ثلاثاً قبل أن يؤسر وانقضت
عدتها فلا ضمان له على الغريم والمستودع في الفصلين وليس له أن يحتج عليهما في الفصل الثاني فيقول : إنهما قد كذبا في إقرارهما أنها زوجته للحال فإنا أضمنتهما بهذا الإقرار من قبل أن هذا غير محتاج إليه فإنه بعد ما أقر بأصل النكح سواء هي امرأته في الحال أو قال لا أدري ما حالها الآن فإن القاضي يأمره بالإنفاق وما لا يكون محتاجاً إليه فالشهادة به وجوداً وعدماً بمنزلة واحدة وقد كانا في أصل الإقرار بالنكاح صادقين فلهذا لم يضمنا شيئاً وهذا نظير رجل مات فادّعت امرأة أنها امرأته وأقامت البينة فورثها القاضي ميراث النساء ثم قامت البينة أن الزوج كان طلقها ثلاثاً في صحته فليس للورثة تضمين الشهود شيئاً سواء شهدوا على أصل النكاح أو شهدوا على أنها امرأته يوم مات لأن المعتبر شهادتهما بأصل النكاح وقد كانا صادقين في تلك الشهادة وبمثله لو اسلم حربي ووالي رجلاً ثم مات فشهد شاهدان أن هذا الرجل مولاه ووارث@(5/146)
لا يعلمون له وراثً غيره وقضى القاضي له بالميراث ثم أقام رجل آخر البينة أنه كان ناقض الأول الولاء ووالى هذا الثاني وعاقده ثم مات وهو مولاه ووارث فإن القاضي يجعل الميراث للثاني دون الأول ويكون للثاني الخيار إن شاء ضمن الشاهدين الأولين وإن شاء ضمن القابض للمال لأنهما لو شهدا على أصل الولاء لم يقض القاضي بالميراث للأول ما لم يشهد على أنه مولاه ووارث يوم مات وقد تبين أنهما كذباً في هذه الشهادة فكانا ضامنين وهذا هو الحرف الذي يدور عليه الفصول أنه متى ظهر كذب الشاهد فيما كان الاستحقاق بعد بعينه كان ضامناً للمشهود به وإذا لم يظهر ؟؟؟
باب ميراث القاتل من أهل الحرب وأهل الإسلام
وإذا التقى الصفان من المسلمين والمشركين فرمى مشرك أخاه من المسلمين فأصابه ثم أسلم المشرك ثم مات المسلم ولا وارث للمقتول غير أخيه فميراثه لأخيه وكذلك لو كان المسلم هو الذي رمى المشرك ثم أسلم المجروح ثم مات أما في هذا الفصل@(5/147)
فلأنه قتله بحق والقتل بحق لا يوجب حرمان الميراث كما لو قتل مورثه قصاصاً أو رجماً وأما في الفصل الأول فلأنه قتله وهو محارب له وقد بينا أن التأويل الباطل ملحق بالتأويل الصحيح في الحكم وإن كان مخالفاً له في الأثم ألا ترى أن الكافر لا يستوجب قصاصاً ولا دية بقتل المسلم وإن أسلم بعد ذلك كما لا يستوجب المسلم ذلك وعلى هذا أهل البغي مع أهل العدل فإن العادل إذا قتل مورثه البغي لم يحرم الميراث بالاتفاق لأن قتله بحق والباغي إذا قتل مورثه العادل فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد - رضي الله تعالى عنه - لأن التأويل الفاسد إذا انضم إليه المنعة كان ملحقاً بالتأويل الصحيح إلا أن أبا يوسف - رحمه الله تعالى - يقول : ها هنا لا يرثه بخلاف الكافر لأن الباغي مسلم مخاطب بأحكام الإسلام فكان قتله العادل قتلاً محظوراً وحرمان الميراث جزاء القتل المحظور فأما الكافر غير مخاطب بأحكام الشرع فلا يتعلق حرمان الميراث بقتله لأن ذلك من أحكام الشرع ولكن ما قاله أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - أصح فإن القتل الموجود من الباغي كالموجود من الكافر في أنه لا يجب عليه به قصاص ولا دية لوجود التأويل والمنعة فكذلك في حكم الميراث بل أولى لأن حكم القصاص والدية ثابت بنص يتلى وحرمان الميراث بالقتل ثابت بخبر يروى ولا شك أن ما يثبت بنص التنزيل فهو أولى وهذا بخلاف ما إذا أسلم الأب والابن في دار الحرب فإن القاتل لا يرث من المقتول شيئاً وإن كان لا يتعلق بذلك القتل قصاص ولا دية وكذلك في الأسيرين على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأن امتناع وجود القاص والدية هناك ليس بتأويل تأوله القاتل بل لانعدام
الأحراز@(5/148)
الذي هو مقوم للدم وبه لا يخرج القتل من أن يكون محظوراً من كل وجه فأما ها هنا امتناع وجوب القاص والدية لاعتبار تأويل تأوله القاتل ولما جعل ذلك التأويل بمنزلة التأويل الصحيح في حكم القصاص والدية فكذلك في حكم حرمان الميراث ولو أن قوماً من اللصوص أو من أهل المعصية اقتتلوا مع قوم من أهل العدل فإن قتل العادل مورثه من اللصوص فإنه يرثه لأنه قتله بحق وإن قتل اللص مورثه من أهل العدل لم يرثه شيئاً لأن هذا القتل محظور من كل وجه حتى يتعلق به القاص إذا كان عمداً والدية والكفارة إذا كان خطأ ولو كان الفريقان من اللصوص فقصد كل فريق قتل الفريق الآخر لم يرث واحد منهما صاحبه إذا قتله شيئاً لأن هذا التقل محظور من كل وجه حتى يتعلق به القصاص إذا كان عمداً والكفارة إذا كان خطأ والحاصل أن الكفارة وحرمان الميراث كل واحد منهما جزاء القتل المحظور فيثبت أحدهما بثبوت الآخر وفي الأسيرين اللذين أسلما في دار الحرب القتل موجب للكفارة إذا كان خطأ فيكون موجباً حرمان الميراث أيضاً وأما القتل الموجود من الباغي لا يوجب عليه الكفارة فلا يوجب حرمان الميراث أيضاً والله أعلم .
باب المرتد في دار الحرب ومعه ولده
قال : وإذا ارتد الأب مع بعض أولاده ولحقا بدار الحرب فرفع ميراث المرتد إلى الإمام فإنه يقسم ميراثه بين ورثته المسلمين ولا شيء من ميراثه للذي ارتد من أولاده@(5/149)
لأن الإرث طريقه الولاية والمرتد لا يلي أحداً فلا يرث من أحد شيئاً وهذا لأن المرتد لا ملة له وفي الميراث يعتبر الملة ولهذا لا يجري التوارث عند اختلاف الملة فلهذا لا يرث المرتد أحداً شيئاً ويورث عنه ما اكتسبه في دار الإسلام حين كان مسلماً لأن القاضي حين قضى تلحقه بدار الحرب فقد قضى بموته لأن من هو من أهل دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت وإنما يستند حكم موته إلى وقت ردته لأنه بالردة يصير هالكاً حكماً فلهذا يرث المسلمون من ورثته ما اكتسبه في حال الإسلام وما اكتسبه بعد الردة قبل أن يلتحق بدار الحرب فكذلك الجواب فيه في قول محمد - رحمه الله تعالى - وفي قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - هو فيء لأنه لا يمكن إسناد التوريث فيه إلى وقت إسلامه إذا لم يكن موجوداً في ملكه يومئذ فلو قضى به لوارثه كان توريث المسلم من الكافر فأما ما اكتسبه في دار الحرب فهو لابنه الذي ارتد ولحق معه بدار الحرب إذا مات مرتداً لأنه اكتسب ذلك المال وهو من أهل دار الحرب وأهل الحرب يتوارثون فيما بينهم دون أهل الإسلام فإن لحق معه بدار الحرب أحد من أولاده مسلماً فإنه يرثه من كسب إسلامه ولا يرثه شيئاً مما اكتسبه بعد الردة لأن حاله في دار الحرب كحاله في دار الإسلام فالمسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون وعلى هذا لو نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب مع بعض أولاده فإن الذمي من أهل دارنا إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب مع بعض أولاده صار حربياً فكان الجواب فيه وفي المسلم الذي ارتد ولحق بدار الحرب سواء لأن اختلاف الدارين@(5/150)
يقطع التوريث كاختلاف الدينين قال ولو لحق المرتد بدار الحرب وله ها هنا امرأة مسلمة وأولاده بعضهم مسلم وبعضهم ذمي وبعضهم مرتد فلم يقض القاضي
بلحاقه حتى انقضت عدة امرأته وأسلم أولاده الكبار ومات بعض أولاده فإن القاضي يقضي بميراثه لامرأته المسلمة التي انقضت عدتها ولولده الذين كانوا مسلمين يوم لحق بدار الحرب وأما من أسلم من ولده بعد لحاقه فلا شيء له من ميراثه وهذا بناء على ما بينا في السير الصغير أن في ظاهر الرواية يعتبر من كان وراثً له يوم لحاقه وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يعتبر من كان وارثاً له يوم ردته لأن حكم التوريث يستند إلى ذلك الوقت حتى يتحقق توريث المسلم من المسلم وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يعتبر من كان وارثاً له يوم قضى القاضي بلحاقه بدار الحرب لأنه إنما يصير محكوماً بموته عند قضاء القاضي بلحاقه والتوريث يكون من الميت ولكن الأصح ما ذكرنا في ظاهر الرواية فإن أصل السبب ينعقد بردته ولكن تمامه يكون بلحاقه والموجود بعد انعقاد أصل السبب قبل تمامه يجعل كالموجود عند ابتداء السبب ألا ترى أن الزيادة المفصلة في المبيع بعد العقد قبل القبض تجعل كالموجود في وقت العقد في حكم انقسام الثمن فهذا مثله فأما ما يكون حادثاً بعد تمام السبب باللحاق وقبل قضاء القاضي به لا يجعل كالموجود عند ابتداء السبب وهو نظير المكاتب يموت عن مال كثير ثم يسلم ابن له كافر أو يعتق ابن له كان عبداً أو يموت ابن له ثم يؤدي بدل كتابته فإن ما يفضل من بدل الكتابة يكون ميراثاً لورثته الذين كانوا من أهل الإرث عند موته ولا ميراث لمن كان عبداً أو كافراً يومئذ ومعلوم أن قضاء القاضي بعتقه كان عند أداء بدل الكتابة ثم انظر في التوريث إلى وقت تمام السبب لا إلى وقت القضاء فكذلك في حق المرتد وإن لم يلتحق المرتد بدار الحرب حتى انقضت عدة امرأته بثلاث حيض ثم لحق بعد ذلك أو قتل فلا ميراث لها لأن المعتبر وقت لحاقه ولا سبب بينهما عند ذلك بخلاف الأول فقد كانت هناك في@(5/151)
عدته حين لحق بدار الحرب وهو بالردة صار في حكم الفار لأنه
تم منه اكتساب سبب الفرقة وهو مشرف على الهلاك والدة في حق امرأة الفار قائمة مقام أصل النكاح في حكم التوريث قال : وإن ارتدا معاً ثم أسلم الزوج بعد ذلك بانت المرأة منه بغير طلاق ولا يتوارثان لأنه يحال بالفرقة على إصرارها على الكفر بعد إسلام الزوج وهي ليست بمشرفة على الهلاك حتى يرث الزوج منها بسبب القرابة وهي لا ترثه إن مات لأن الفرقة كانت من قبلها وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فالفرقة تكون بغير طلاق أيضاً إلا في قول محمد - رحمه الله تعالى - وهي ترثه إذا مات قبل انقضاء عدتها لأن إصراره على الردة بعد إسلامها كإنشاء الردة منه قال : وإن ارتدا معاً ولحقا بابن صغير لهما في دار الحرب وكانت المرأة حاملاً فوضعت لأقل من ستة أشهر فميراثهما للمسلمين من ورثتهما ولا يرث هذان الصغيران منهما شيئاً لأنه حكم لهما بالردة تبعاً للأبوين حين كانا معهما في دار الحرب ألا ترى : أنهم يسبيان ويكونان فيئاً وقد بينا أن المرتد لا يرث أحداً واستدل على جواز سبيهما بما روي أن بني ناجية لما ارتدوا عن الإسلام سبي علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - ذريتهم ثم باعهم من مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم قال : ولو اكتسبا في دار الحرب مالاً ثم ماتا وأسلم أهل الدار فميراثهما لهذين الوالدين لأنهما صارا حربيين حكماً والحربي يرث الحربي ولو لم يقض القاضي بلحاقهما حتى أسلمت المرأة ورجعت بولدها الصغير@(5/152)
إلى دار الإسلام أو كانت حاملاً فوضعت لأقل من ستة أشهر ثم رفع الأمر إلى القاضي فإن القاضي يجعل ميراث المرتد لورثته المسلمين ولا يجعل لامرأته ولا لهذين الولدين من ذلك شيئاً لأن المعتبر وقت لحاقه والمرأة كانت مرتدة عند ذلك وكذلك ما في بطنها فإنه تبع لها والصغير الذي لحقا به دار الحرب كان في حكم المرتد أيضاً فلهذا لا يرثونه شيئاً مما اكتسبه في حالة الإسلام ولو لحق المرتد بدار الحرب وامرأته حبلى في دارنا مسلمة فإن جاءت بولد لأقل
من سنتين منذ ارتد الأب يثبت نسبه منه فكان من جملة ورثته لأن النكاح قد انقطع بينهما بالردة فهو كما لو انقطع بالطلاق البائن وفي مثله إنما يستند العلوق إلى أبعد أوقات الإمكان فلهذا يثبت النسب منه فيكون من جملة الورثة أيضاً وإن كانت ارتدت بعد ردة الزوج والمسألة بحالها فإن نسب الولد يثبت إذا جاءت بولد لأقل من سنتين ويرثه هذا الولد دون المرأة لأنها ارتدت قبل لحاقه وقد وجد اللحاق منه وهي مرتدة فلا ترثه شيئاً وأما الولد فهو محكون له بالإسلام تبعاً للدار بعد ارتداد الأبوين فلهذا كان هو من ورثته وإن كانت إنما ارتدت بعدما لحق الزوج بدار الحرب فهي من ورثته أيضاً لأن ردتها بعد لحاق الزوج بمنزلة موتها وذلك لا يسقط ميراثها عنه قال : ولو أن مسلماً تحته أمرأة نصرانية ارتد فبانت المرأة منه ثم جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت ردته فنسبه يثبت منه ويكون هو وارثاً له دون أمه لأنها بانت بردته فإنما يستند العلوق إلى أبعد الأوقات وظهر أنه كان محكوماً بإسلامه قبل ردة أبيه فيبقى مسلماً ما دام في دار الإسلام والأم نصرانية فهي لا ترث المرتد شيئاً لأن المرتد في حكم الميراث عنه كالمسلم ولو@(5/153)
كانت له جارية نصرانية فاستولدها بعد الردة لم يرث هذا الولد شيئاً منه لأنها نصرانية علقت به في حال ردة الأب فلم يكن محكوماً بالإسلام حتى يبلغ فيصف الإسلام والكافر لا يرث من المرتد شيئاً قال : وإذا ارتد الزوجان معاً ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ ارتدا فهذا الولد من جملة ورثة المرتد لأنا تيقنا أن العلوق حصل قبل ردتهما فيثبت له حكم الإسلام بذلك ولو جاءت به لستة أشهر فصاعدا لم يكن وراثً لأن العلوق حصل ها هنا بعد ردتهما فلا يكون الولد محكوماً له بالإسلام حتى إذا مات في صغره لم يصل عليه وإنما جعل الوقت ها هنا ستة أشهر لقيام النكاح بينهما فإنه إنما يسند العلوق إلى أبعد الأوقات عند الحاجة ولا حاجة إذا كان النكاح قائماً
بينهما وإن مات هذا الصغير عن مال فلا ميراث لأبويه منه لأنهما مرتدان والمرتد لا يرث أحداً ولكن ميراثه لإخوته المسلمين لأن الأبوين حين لم يرثاه كانا كميتين ولو هلك أحد أخويه المسلمين عن مال فليس للأبوين ولا للصغير من ميراثه شيء لأن محكوم بردته إذا جاءت به لستة أشهر بعد ردة الأبوين وإن كانت جاءت به لأقل من ستة أشهر فهو مسلم يرث أخاه مع إخوته المسلمين قال : ولو لحق الأبوان بدار الحرب ثم ولدته لأقل من ستة أشهر منذ ارتدا ثم مات الصغير عن مال ثم أسلم أهل الدار فميراثه للأبوين المرتدين دون إخوته المسلمين لأن الولد كان حربياً هنا ألا ترى أنها لو ولدته في دار الإسلام ثم حلقا بدار الحرب كان حربياً مرتداً مثلهما فإذا ولدته في دار الحرب أولى أن يكون حربياً وأهل الحرب يتوارثون إذا كانوا أهل دار واحدة وكذلك لو مات الأبوان عن كسب اكتسباه في دار الحرب ثم أسلم أهل الدار فذلك ميراث للمولود في دار الحرب دون إخوته المسلمين ألا ترى أنه لو وقع الظهور@(5/154)
على ذلك المال كان فيئاً وكل مال فيه عرضة أن يكوه فيئاً فإنه لا يكون فيه عرضة كونه ميراثاً للمسلمين فيكون ميراثاً لأهل الحرب من أولاده وأبويه إذا كانوا المدينة من أهل دار واحدة وإن كانوا من أهل دار أخرى فلا شيء لهما من ذلك لما بينا أن اختلاف الدارين فيما بين أهل الحرب يمنع التورث بمنزلة اختلاف الدينين وعلى هذا لو ارتد أهل دار وأظهروا أحكام الشرك في دارهم حتى صارت دار حرب ثم مات بعضهم عن مال كثير فميراثه لورثته الذين هم في مثل حاله لأنه كان حربياً إذ لا فرق بين هذه الدار إذا صارت دار حرب بين دار هي في الأصل دار حرب ألا ترى أنه لو وقع الظهور على هذا المال كان فيئاً فلهذا كان ميراثاً
باب ما يوقف من أمر المرتدين وما لا يوقف من ذلك
قال الشيخ - رضي الله تعالى عنه - : قد بينا في المبسوط أن تصرفات المرتد على أربعة أوجه : منها ما هو نافذ بالاتفاق كالاستيلاد ومنها ما هو باطل بالاتفاق كالنكاح ومنها ما هو موقوف بالاتفاق كالمفاوضة ومنها ما اختلفوا فيه كالبيع والهبة والعتق على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يقال : يكون موقوفاً لتوقف نسه وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - يكون نافذاً إلا أن عند أبي يوسف - رحمه@(5/155)
الله تعالى - ينفذ كما ينفذ من الصحيح وعند محمد - رحمه الله تعالى - ينفذ كما ينفذ من المريض حتى يعتبر برعايته من الثلث ولا يصح إقراره لوارثه كما لا يصح ذلك من المريض ألا ترى أن امرأته ترثه بحكم الفرار إذا مات وهي في العدة والتوريث بحكم الفرار لا يكون إلا من المريض وأما المرتدة ينفذ تصرفاتها في مالها بالاتفاق كما ينفذ من الصحيحة لأنه ما توقف نفسها بالردة فإنها لا تقبل كالحربية بخلاف الرجل .
وإن كان لو قتلها قاتل لم يغرم شيئاً حرة كانت أو أمة لأنها بمنزلة الحربية في ذلك ولهذا لو قاتلت مع المسلمين قتلت ولو لحق المرتد بدار الحرب فلم يقض القاضي بلحاقه حتى أعتق عبيده الذين في دار الإسلام أو باعهم من رجل مسلم كان معه في دار الحرب ثم رجع تائباً قبل أن يقضي بميراثه ولحاقه فماله مردود عليه كله وجميع ما صنع فيه باطل لأن اللحاق بدار الحرب زال ملكه وإنما توقف على قضاء القاضي دخول المال في ملك ورثته فتصرفه في المال بعد اللحاق صادف مالاً غير مملوك له فلا ينفذ وإن عاد إلى ملكه بعد ذلك كالبائع بشرط الخيار للمشتري إذا تصرف في المبيع ثم عاد إلى ملكه لفسخ المشتري البيع لا ينفذ تصرفه ولو أقر المرتد اللاحق بدار الحرب في عبيد خلفه في دار الإسلام أنه حر الأصل أو أنه عبد لفلان غصبته منه فذلك جائز إذا عاد مسلماً لأنه ليس بإنشاء تصرف منه بل هو إقرار والإقرار لازم في حق المقر لكونه مخاطباً سواء صادف ما يملكه أو ما لا يملكه إذا ملكه بعد ذلك ألا ترى أنه لو أقر بحرية عبد الغير أو بكونه مملوكاً لفلان ثم اشتراه من ذي اليد بعد ذلك الإقرار وجعل ذلك كالمجدد له بعد الشراء فهذا مثله ولو لم يثبت@(5/156)
حتى قضى القاضي بإلحاقه وجعل المال لورثته ثم جاء تائباً فإنه يعاد إليه ما كان قائماً بعينه من ماله في يد ورثته فإن كان الوارث باع هذا العبد الذي أقر المرتد بحريته كان بيعه نافذاً لمصادفته ملكه ولكنه متى عاد إلى ملك المرتد بسبب من الأسباب انفذ إقراره السابق فيه على اعتبار أنه كالمجدد لذلك الإقرار ولو كان القاضي قضى بلحاقه وقسم ماله أو لم يقسم حتى جاء مسلماً ثم أعتق بعض عبيده قبل قضاء القاضي برد المال عليه كان عتقه باطلاً لأن بقضاء القاضي بلحاقه صار المال ملكاً لورثته فلا يعود إلى ملكه إلا بقضاء القاضي له بذلك ألا ترى أن الوارث لو أعتق هذا العبد بعد رجوع المرتد قبل قضاء القاضي برد المال عليه نفذ عتقه ولم يكن
ضامناً للمرتد بمنزلة ما لو أعتقه قبل رجوع المرتد فعرفنا أنه باق على ملك الوارث وبهذا الفصل يستدل أيضاً على أنه لا ينفذ عتق المرتد فيه في هذه الحالة لأنه إذا كان بحيث يعتق كله بإعتاق الوارث إياه لا يجوز أن يعتق بإعتاق المرتد إياه فإن العتق يستدعي حقيقة الملك ولا يجوز أن يكون العبد الواحد في الوقت الواحد كله مملوكاً لزيد وكله مملوكاً لعمرو ولو كان الوارث أعتقه قبل أن يقضي القاضي بلحاق المرتد بعد رجوعه قبل قضاء القاضي له بذلك قلنا لا ينفذ عتقه لأنه سبق عتقه ولو بعث المرتد اللاحق بدار الحرب وكيلاً@(5/157)
ليبيع عبداً له في دار الإسلام أو يعتقه ففعل الوكيل ذلك ثم رفع إلى القاضي فإنه يبطل جميع ما صنعه الوكيل ويقضي به ميراثاً لورثة المرتد لأنه بعد اللحاق لا يملك إنشاء هذا التصرف فلا يملك التوكيل أيضاً ولأن وكيله قائم مقامه في التصرف وهو في هذه الحالة لو تصرف هو بنفسه بطل تصرفه سواء قضى القاضي بلحاقه أو رجع مسلماً قبل قضائه فكذلك إذا باشر وكيله كان باطلاً سواء قضى القاضي بلحاقه أو رجع مسلماً قبل قضائه ولو كان وكله بذلك في دار الإسلام قبل أن يرتد أو بعد ما ارتد قبل أن يلحق بدار الحرب والمسألة بحالها فإن قضى القاضي بلحاقه جعل ذلك العبد ميراثاً لورثته وإن لم يقض بلحاقه حتى رجع مسلماً فجميع ما صنع الوكيل من ذلك جائز في رواية هذا الكتاب وفي رواية كتاب الوكالة يقول : الوكالة تبطل بردة الموكل ولحاقه بدار الحرب لأن ذلك بمنزلة موته وموت الموكل مبطل للوكالة ولأنه حين لحق بدار الحرب فقد صار بحال لا يصح منه إنشاء التوكيل بهذا التصرف فلا يبقى الوكيل على وكالته أيضاً ووجه هذه الرواية أنه ليس في لحاقه بدار الحرب إلا زوال ملكه عن العبد وبعد صحة الوكالة لا يبطل بزوال ملكه ألا ترى أنه لو وكل بعتق عبده أو بيعه ثم وهبه لإنسان وسلم ثم رجع في الهبة كان الوكيل على وكالته فكذلك ها هنا قلنا : لا تبطل الوكالة وإن
زال ملكه باللحاق بدار الحرب لأنه زال زوالاً موقوفاً فيعود إليه إذا جاء مسلماً قبل قضاء القاضي بلحاقه وقد دخل في ملك الوارث إذا قضى القاضي بلحاقه فيتوقف تصرف الوكيل في هذه الحالة أيضاً لتوقف ملكه فإن قضى بالميراث للورثة فقد تم زوال الملك وتبين أن تصرف الوكيل لا يلاق ملك الموكل فكان باطلاً وإن عاد قبل قضاء القاضي تقرر ملكه ونفذ تصرف الوكيل له وهذا بخلاف ما إذا@(5/158)
تصرف الموكل بنفسه بعد اللحاق بدار الحرب فهناك إنما لا ينفذ تصرفه لتباين الدارين حقيقة وحكماً بين المتصرف والمتصرف ففيه وهذا غير موجود فيما إذا تصرف الوكيل وهو في دار الإسلام مع العبد وإن قضى القاضي به للوارث ثم جاء المرتد مسلماً وذلك العبد قائم في يد وارثه فرده القاضي عليه فإن كان الوكيل أعتقه أو دبره نفذ ذلك وإن كان باعه أو وهبه أو كاتبه لم ينفذ شيء من ذلك لأنه عاد إليه على تقديم ملكه وباعتبار ملكه ينفذ العتق والتدبير ألا ترى أنه لو رجع قبل قضاء القاضي بلحاقه نفذ العتق والتدبير فيما صرا مستحقاً من العتق والتدبير لا يحتمل الانتقاض بعد ذلك وقضاء القاضي به للوارث لا يكون مبطلاً لذلك التصرف بعد ذلك بخلاف البيع والهبة والكتابة فإن ذلك يحتمل النقض فيكون قضاء القاضي بالملك للوارث مبطلاً لهذه التصرفات وهي بعد ما بطلت لا تعود إلا بالتجديد وهذا لأن بالعتق والتدبير يستحق الولاء فيكون في معنى إنهاء الملك لا إبطاله وإذا عاد أصل ملكه في القائم بعد رجوعه مسلماً بقضاء القاضي يعود ما ينهيه فأما البيع والهبة قاطع للملك فعود الملك إليه بقضاء القاضي لا يتضمن عود ما هو قاطع للملك بعد ما بطل بقضاء القاضي به للوارث ولو كان الوارث أخرجه من ملكه حين قضى القاضي له به ثم جاء المرتد مسلماً فاشترى ذلك العبد ممن في يده فإنه ينفذ عتق الوكيل والتدبير الذي كان فعله بعد لحاقه وهذا مشكل فإن ها هنا لم يعد إليه ذلك الملك الذي وجد فيه التدبير والعتق وإنما
هذا ملك حادث له بسبب أحدثه فينبغي ألا ينفذ ذلك العتق والتدبير ولكنه قال هذا وإن كان ملكاً حادثاً من وجه فهو من وجه كأنه ذلك الملك وما يعطى يجعل بمنزلة الفداء لذلك الملك كمولى العبد المأسور إذا أخذه بالثمن من يد المشتري جعل معيداً له@(5/159)
إلى قديم ملكه وما أدّى يجعل في حكم الفداء فمن هذا الوجه يكون هذا وما لو كان في بد وارثه فرده القاضي عليه سواء ولأن الاستحقاق كان يثبت بالعتق والتدبير وذلك لا يحتمل النقض فظهر عند ظهور ملكه في المحل لقيام الاستحقاق كمن أقر بحرية عبد إنسان ثم اشتراه وهو نظير ما قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فيما إذا اعتقه المرتد بنفسه أو دبره ثم لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه فإنه يقضي به ميراثاً للوارث ثم إذا جاء المرتد مسلماً بعد ذلك فرجع العبد إلى ملكه فإنه يقضي به ميراثاً للوارث ثم إذا جاء المرتد مسلماً بعد ذلك فرجع العبد إلى ملكه بوجه من الوجوه إما من يد الوارث بالرد عليه أو من يد المشتري منه بشراء مستقبل فإنه ينفذ ذلك العتق والتدبير كذلك ها هنا وكذلك لو كاتب الوارث عبداً للمرتد بعد قضاء القاضي بلحاقه ثم جاء المرتد مسلماً فإن ذلك العبد يعاد إليه مكاتباً ويجعل في الحكم كأن الوارث كان كاتبه بأمره فيكون مكاتباً للذي جاء مسلماً وعاد المملوك إليه يجعل في الحكم كأن الزوال لم يكن من بده أصلا قال : ولو لحق المرتد بدار الحرب ثم وكل مسلماً بأن يأتي رقيقه الذين خلفهم في دار الإسلام فيعتقهم أو يدبرهم فلم يفعل الوكيل شيئاً من ذلك حتى رجع المرتد مسلماً ثم فعل الوكيل ذلك فهو باطل لأن أصل التوكيل ها هنا كان باطلاً منه فإنه وكله في حال لا يملك مباشرة التصرف فيه بنفسه أصلاً وبعد ما تعين جهة البطلان في الوكالة لا تنقلب صحيحة أبداً ولو كان وكله في جار الإسلام قبل الردة أو بعدها والمسألة بحالها نفذ تصرف الوكيل فيهم لأن أصل التوكيل كان صحيحاً ولم يبطل بمجرد لحاق الموكل
بدار الحرب فإذا عاد مسلماً قبل قضاء القاضي@(5/160)
صار كأن اللحاق لم يكن أصلاً ولو كان قضى القاضي بلحاقه وقسم ميراثه ثم جاء مسلماً فإن تصرف الوكيل في رقيقه قبل قضاء القاضي بردهم على المرتد كان تصرفه باطلاً وإن تصرف فيهم بعدما قضى القاضي بردهم على المرتد كان تصرفه نافذاً لأن الوكالة بعد صحتها لا تبطل بزوال الملك إلا أن الملك إنما يعود إليه بقضاء القاضي بالرد عليه فإذا سبق تصرف الوكيل قبل قضاء القاضي به لم ينفذ لأن لم يصادف محله ألا ترى أن الموكل لو باشره بنفسه لم ينفذ وإذا تصرف بعد قضاء القاضي بالرد عليه فقد صادف تصرفه محله فكان نافذاً وهو نظير رجل وكل رجلاً يبيع عبده أو يعتقه ثم باعه الموكل بنفسه ثم رده المشتري بخيار شرط أو رؤية أو عيب قبل القبض أو بعده بقضاء القاضي ثم تصرف الوكيل فيه نفذ تصرفه لبقاء الوكالة بعد زوال الملك ورجوع العبد إلى الموكل على الملك الأول .
بخلاف ما إذا رجع إليه بشراء جديد مستقبل فإن هذا ملك حادث من كل وجه وهذا لأنه إنما وكله بالتصرف في الملك الذي كان موجوداً في ذلك الوقت فلا يتصرف فيه في ملك حدث بعده ولو كان الوكيل تصرف فيه بعد ما باعه الموكل قبل أن يرده المشتري عليه بخياره لم ينفذ تصرفه لأنه تصرف وهو خارج عن ملك الموكل ألا ترى أن المشتري لو أعتقه في هذه الحالة عتق من جهته فيكف يمكن تنفيذ عتق وكيل البائع في حال لو أعتقه المشتري بعد العتق من جهته قال : ولو أن المرتد كان وكل بعتقه وكيلاً في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب فأعتقه الوكيل ثم رجع المرتد مسلماً فجميع ما صنع الوكيل من ذلك جائز لأن اللحاق بدار الحرب إذا لم يتصل به قضاء القاضي في حكم الغيبة وذلك يمنع نفوذ تصرف الوكيل فيه وهذا بخلاف بيع الموكل العبد بنفسه فإن هناك بعد البيع صار العبد مجال ينفذ العتق فيه من جهة غير الموكل فلا ينفذ عتق وكيل البائع في هذه الحالة فيه وأما ها هنا بمجرد اللحاق قبل قضاء القاضي ما صار العبد بحال ينفذ فيه عتق غيره فإن الوارث لو أعتقه في هذه الحالة لا ينفذ عتقه فلهذا نفذ عتق وكيل المرتد فيه إذا رجع المرتد مسلماً بخلاف ما بعد قضاء القاضي بلحاقه فقد صار هناك بحال ينفذ العتق@(5/161)
من الوراث فيه فلا ينفذ العتق من وكيل المرتد فيه في هذه الحالة .
قال : ولو أن مسلماً أو مرتداً في دار الإسلام أذن لعبده في التجارة ثم لحق بدار الحرب مرتداً فتصرف العبد فإن تصرفه موقوف فإن لم يقض القاضي بلحاقه حتى رجع مسلماً كان التصرف نافذاً وكان العبد مأذوناً على حاله وإن قضى القاضي بلحاقه بطل تصرف العبد وخرج من أن يكون مأذوناً لأن بلحوقه زال ملكه زوالاً موقوفاً والإذن بالتجارة يتوقف بحال قيام ملكه فإذا توقف زواله عن ملكه يتوقف الإذن للعبد أيضاً وتوقف تصرف العبد لتوقف حكم الإذن فإذا عاد مسلماً قبل قضاء القاضي فقد تقرر ملكه على ما كان فينفذ تصرف المأذون ويكون مأذوناً على حاله وإذا قضى القاضي بلحاقه فقد تقرر زوال ملكه فيتقرر حكم الحجر عليه أيضاً ثم إذا عاد مسلماً وعاد العبد إلى ملكه لم يكن مأذوناً إلا أن يأذن له إذناً مستقبلاً لأن هذا تصرف محتمل للنقض فينتقض بقضاء القاضي بلحاقه لما يعود إلا بالتجديد وإنما أورد هذا إيضاحاً لا سبق من الوكالة وعليه رتب فصل المضاربة أيضاً أنه إذا تصرف المضارب بعد لحاق رب المال ثم رجع مسلماً قبل قضاء القاضي بلحاقه نفذ التصرف على المضاربة وكان الربح بينهما على الشرط وأن قضى القاضي بلحاقه لم ينفذ شيء من تصرفه إلى المضاربة وكان متصرفاً لنفسه له الربح وعليه الوضيعة ويكون ضامناً لرأس المال ثم إذا جاء المرتد مسلماً بعد ذلك لا يتغير هذا الحكم لمجيئه لأن المضاربة بطلت بقضاء القاضي بلحاقه كما بينا ولو لم يقض القاضي بلحاقه حتى عاد@(5/162)
إلى دار الإسلام مرتداً على حاله فقد صار في الحكم كأن اللحوق بدار الحرب لم يوجد منه أصلاً وقبل لحاقه إذا تصرف المضارب نفذ على المضاربة في قول محمد - رحمه الله تعالى - وكان موقوفاً في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بناء على الخلاف الذي بينا في تصرفات المرتد بنفسه بعد الردة قبل لحاقه وإن كان القاضي قضى بلحاقه ثم رجع مرتداً فلا سبيل له علي ماله لأنه صار بقضاء القاضي كالميت حكماً وسبب ذلك
ردته فما بقي هذا السبب يبقى هو ميتاً حكماً وإن رجع إلى دارنا ولهذا كان المال لورثته على حاله لا سبيل للمرتد عليه ألا ترى أنه لو رجع مسلماً كان المال للوارث إلى أن يقضي القاضي يرده عليه فإذا رجع مرتداً أولى أن يكون المال باقياً على ملك الوارث ولا يقضي القاضي برده عليه فإذا رجع مرتداً أولى أن يكون المال باقياً على ملك الوارث ولا يقضي القاضي مبرده عليه ولكن يعرض عليه السلام فإن أبى قتله وإن قال : رد عليّ مالي واجعل لي في الإسلام أجلاً حتى أنظر في أمري فإن القاضي يؤجله في الإسلام ثلاثة أيام لا يزيده على ذلك شيئاً وقد بينا هذا فيما سبق وروينا فيه حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - حيث قال : هلا طينتم عليه الباب ثلاثة أيام وأعطيتموه كل يوم رغيفاً فلعله يراجع الحرق ولا يرد عليه ماله ما لم يسلم لما بينا أنه هالك بقضاء القاضي وحياته حكماً تكون بإسلامه فلما لم يظهر ذلك لم يرد عليه شيئاً من ماله والتأجيل عندنا مستحق وليس بلازم حتى أن للقاضي أن يقتله في الحال ولا يؤجله إن أبى أن يسلم بخلاف ما يقوله بعض الناس أن عليه أن يؤجله وقد بينا هذا فيما سبق ولو لحقت المرتدة بدار الحرب فقضى القاضي بميراثها لورثتها ثم جاءت مرتدة بأمان وطلبت مالها لم يرد عليها شيء من ذلك لأنها صارت هالكة بقضاء القاضي فما لم يظهر فيها سبب الحياة حكماً لا يرد عليها شيء من ذلك المال ولو جاءت مرتدة قبل@(5/163)
قضاء القاضي بلحاقها فإن جاءت بغير أمان كانت فيئاً للمسلمين لأنها باللحاق بدار الحرب صارت حربية والحربية إذا دخلت دارنا بغير أمان كانت فيئاً وقسمت ميراثها بين ورثتها لأنها صارت هالكة حكماً حين جعلت فيئاً فالرقيّة تلف والحرية حياة لأنها بالرق خرجت من أن تكون أهلاً لمالكية المال فلهذا كان المال لورثتها وإن جاءت بأمان صنعت في مالها ما أحبت وحبست وأجبرت على الإسلام لأنها إذا رجعت قبل قضاء القاضي بأمان فصار اللحاق كأن لم يكن وقبل
لحاقها بدار الحرب ينفذ تصرفها في مالها فكذلك بعدما رجعت إلا أن في الفصل الأول إنما كانت لا تسترق قبل اللحاق كونها من أهل دار الإسلام وهي ليست بدار الاسترقاق فإذا لحقت صارت من أهل دار الحرب فقلنا : بأنها تسترق إذا دخلت دارنا بغير أمان وإذا دخلت بأمان فإعطاء الأمان يمنع استرقاقها فقد عادت به كما كانت قبل اللحاق وإذا قال المسلم لعبده : إذا جاء يوم النحر فأنت حر وقال ذلك بعد ما ارتد ثم لحق بدار الحرب ولم يقض بميراثه للوارث حتى جاء يوم النحر فإن حكم العتق يكون موقوفاً لأن العتق لا ينفذ بدون قيام الملك في المحل عند وجود الشرط وقد بينا أن زوال ملكه قد توقف بلحاقه فكذلك يتوقف حكم العتق فإن جاء مسلماً قبل القضاء بلحاقه نفذ ذلك العتق وإن كان القاضي قضى بلحاقه قبل مجيء فجر يوم النحر ثم جاء يوم النحر فإن كان بعدما قضى القاضي برد العبد عليه عتق من جهته لأن التعليق كان صحيحاً وقد وجد .
فالعبد في ملك الوارث ثم عاد المرتد مسلماً لم ينفذ ذلك العتق وإن رد القاضي العبد عليه لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وقد بينا أنه لو نجز إعتاقه بعد ما قضى القاضي بلحاقه حن العتق باطلاً على كل حال فهذا مثله ولو رجع المرتد مسلماً قبل مجيء يوم النحر ثم جاء يوم النحر فإن كان بعد ما قضى القاضي برد العبد عليه عتق من جهته لأن التعليق كان صحيحاً وقد وجد الشرط@(5/164)
وهو مملوك له فإن جاء يوم النحر قبل أن يقضي القاضي برد العبد عليه لم يعتق العبد لأنه وجد الشرط والعبد ليس في ملكه فإن العبد لا يعود إليه إلا بقضاء القاضي فلهذا لا ينفذ ذلك العتق فلو جاء يوم النحر بعد لحاقه قبل قضاء القاضي به ثم قضي القاضي به لوارثه فإنه ينفذ تصرف الوراث فيه لما بينا أنه يقرر زوال ملكه بقضاء القاضي من وقت اللحاق وإنما وجد الشرط بعد ذلك فلهذا لا يعتق من جهته وكان مملوكاُ للوارث ينفذ تصرفه فيه فإن لم يتصرف فيه حتى رجع المرتد مسلماًً ورد عليه العبد فإن يعتق من جهته لأن الشرط وجد في حال توقف ملكه فإن تمام زال ملكه يكون بقضاء القاضي فثبت به استحقاق العتق في ملكه إذا رجع إليه وقد رجع إليه على ذلك الملك وكذلك لو كان له وارث كاتبه لأنه رجع إلى قديم ملكه بعد كتابة الوارث فينفذ ذلك العتق ويسقط بدل الكتابة لاستغنائه عنها ولو كان قال لأمته إذا جاء يوم النحر فأنت حرة ثم لحق بدار الحرب مرتداً فقضى القاضي بها للوارث فأعتقها الوارث ثم لحقت بدار الحرب مرتدة فسبيت كانت فيئاً وأجبرت على الإسلام بمنزلة الحرة الأصلية إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب فإن أسلمت ثم جاء المرتد مسلماً فاشتراها ثم جاء يوم النحر وهي في ملكه لم تعتق بخلاف جميع ما سبق لأن هذا العتق كان منهياً ملكه وقد بطل ذلك الملك أصلاً حتى ينفذ العتق من الوارث فيها فكان هذا ملكاً حادثاً من كل وجه وهذه زفرية وأصلها فيما إذا قال لأمته : إن دخلت الدار فأنت حرة ثم أعتقها
فارتدت بدار الحرب ثم سبيت فملكها ودخلت الدار لا تعتق إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى - والله الموفق@(5/165)
.
باب المرتدين كيف يحكم فيهم
قال - رحمه الله تعالى - المرتد يقتل إن لم يسلم حراً كان أو عبداً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم من يبدل دينه فاقتلوه وهو يعم الأحرار والعبيد ولمولى العبد أن يقتله بنفسه إن شاء فعل ذلك ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - بعبد له تنصر ولأنه بالردة صار كالحربي في حكم القتل ولكل مسلم قتل الحربي الذي لا أمان له إلا أن الأفضل له أن يرفعه إلى الإمام ليكون هو الذي يقتله لأن فيه معنى الحد واستيفاء الحدود إلى الإمام والمرتدة لا تقتل حرة كانت أو أمة ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام إن كانت حرة وإن كانت أمة وأهلها يحتاجون إلى خدمتها دفعت إليهم يستخدمونها ويجبرونها على الإسلام لأن حبسها لحق الله تعالى وحق المولى في خدمتها يقدم على حق الله تعالى في حبسها وإن استتيب المرتد فتاب ثم ارتد حتى فعل ذلك مراراً قبلت توبته أبداً وهو قول إبراهيم - رحمه الله تعالى - وكان عليّ وعمر - رضي الله تعالى عنهما - يقولان : يستتاب ثلاثاً فإن عاد يقتل لظاهر قوله - تعالى - { إِنَّ الَّذِينَ@(5/166)
آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } النساء : 137 ولأن لظاهر أنه مستهزىء غير تائب ولكنا نستدل بقوله تعالى : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } الأنفال : 28 ثم توبته بعد الثلاث تعرف بما يعرف به في المرة الأولى لأنه لا يمكن الوقوف على ضميره وإنما يعبر عما في قلبه لسانه ولا حجة لهم فيما استدلوا به لأنه قال : { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } النساء : 137 وإذا تاب فقد ازداد إيماناً لا كفراً وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يقتل غيلة ولا يستتاب إذا تكرر ذلك لأن الظاهر أنه مستهزىء وبناء الحكم على الظاهر جائز فيما لا يوقف على حقيقته قال : وامرأة المرتد تعتد بثلاث
حيض سواء قتل بعد الردة أو لم يقتل إلا على قول سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى - فإنه يقول : إذا قتل فعدتها أربعة أشهر وعشرا وهذا ليس بقوي لأن الفرقة وقعت بالردة ثم لا يتغير حكم تلك الفرقة بالقتل بعد الردة فلا تتغير العدة أيضاً بمنزلة ما لو أبان امرأته في صحته ثم مات أو قتل ولو أصاب مالاً أو قذف إنساناً قبل الردة أو بعدها ثم لحق بالدار ثم جاء تائباً أخذ بجميع ما صنع بخلاف ما إذا أصاب ذلك بعدما لحق بدار الحرب لأنه باللحاق صار حربياً والحربي إذا أصاب شيئاً من ذلك ثم أسلم لم يكن مؤاخذاً به والأول أصابه في حال هو من أهل دار الإسلام وهو مخاطب على حاله فيتقرر موجبه في ذمته إلا أن بلحاقه يتعذر إقامته لأن يد الإمام لا تصل إليه فإذا وصلت اليد إليه كان مؤاخذاً بجميع ذلك والله أعلم .@(5/167)
باب من ارتد من المسلمين أو نقض العهد من المعاهدين
قال : ولو أن أهل بلدة ارتدوا حتى صارت دراهم دار حرب ثم وقع الظهور عليهم فإنه يقتل رجالهم ويسبي نساؤهم ذراريهم كما فعله الصديق - رضي الله تعالى عنه - ببني حنيفة حين ارتدوا فإن قالت النساء حين ظفر المسلمون بهن : ما ارتددنا قط وإنا لمسلمات على ديننا فالقول قولهم لتمسكهن بما هو الأصل وهو الإسلام ولا يسبين وأولادهن الصغار بمنزلتهن@(5/168)
نقص في الصفحات 168-169
لأن أن يكون عليهن الماء المسلمات فقد بينا أن تحكيم السيماء أصل في باب الإسلام فإذا وقع في قلب المسلمين أنهن صادقات وجب تخلية سبيلهن وسبيل أولادهن فإن كان في حجر امرأة منهن صبي وقد قتل زوجها أو لا يعلم هل كانت ذات زوج أم لا فقالت : هذا ابني صدّقت في إسلام الولد وأنه لا يكون فيئاً لأن هذا أمر ديني فخبر الواحد في مثله مقبول رجلاً كان أو امرأة ولكن لا يتوارثان إلا بالبينة وهو الحميل الذي كتب فيه عمر - رضي الله تعالى عنه - إلى شريح - رحمه الله تعالى - أن لا يروث الحميل إلا بينة ولكن يجعل مسلماً لكونه في يد مسلم يحكم بإسلامه وكذلك لو قالت : هو ابن امرأة مسلمة أو دعتنيه وإن قالت : هو ابن امرأة كانت من أهل هذه الدار أو دعتنيه وماتت وهي حرة مسلمة لم تصدق على ذلك لأنه لم يعرف أصل الإسلام لتلك المرأة فلا يكون هذا منه إخباراً بإسلام الولد وحريته ولكنه يكون فيئا لكونه موجوداً في دار الحرب ثم بنى محمد - رحمه الله تعالى - مسائل على الأصل الذي بينا أن من وجد في جار الإسلام إذا زعم أنه من أهل الذمة فإنه يكون القول قوله ولا يتعرض له ومن وجد في دار الحرب لا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة @(5/169)
لأن دار الإسلام دار أمن فمن وجد فيها يكون آمناً باعتبار الظاهر فيكون مقبول القول بشهادة الظاهر له ودار الحرب دار سبي واسترقاق فمن وجد فيها يكون فيئاً إلا أن يثبت سبب الأمن والعصمة لنفسه بالبينة ولو أن أهل الدار نقضوا العهد وحاربوا فلما ظهر عليهم المسلمون قال رجل منهم : ما نقضا العهد فيمن نقض
فإن كان أصل العهد معلوماً لهم قبل النقض فالقول قولهم لأن ما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه حتى يعلم ما يزيله فإن شهد قوم من المسلمين أو من أهل الذمة بأنهم قاتلوا المسلمين فقد ثبت بالحجة سبب نقضهم العهد فإن قالوا : أكرهونا على ذلك لم يقبل ذلك منهم لأنهم يدّعون معنى خفياً ليغيروا به حكم ما ظهر بحجة فلا يقبل قولهم في ذلك إلا أن يقيموا عليه بينة من المسلمين فإن شهدوا أنهم قالوا : لنقتلنكم أو لتقاتلون معنا كانوا أحراراً لا سبيل عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فيخرج قتالهم به من أن يكون دليل الرضاء بنقض العهد وإن كان لا يحل لهم ما صنعوا بإكراه وإن شهدوا أنهم كانوا قالوا : هذا لهم في دارهم لا في دار الحرب وأنهم كانوا يقدرون في دار الحرب على أن ينصرفوا عنهم إلى المسلمين فالإكراه لا يثبت بمثل هذه الشهادة لأنهم شهدوا بذهاب الإكراه عنهم وإن لم يعلموا أصل الذمة للذين قالوا هذه المقالة كانوا فيئاً إلا أن يقيموا بينة على أصل الذمة لهم لأنهم وجدوا في دار الحرب وإن رآهم المسلمون في صف المشركين ومعهم السيوف قد شهروها إلا أنهم لم يقاتلوا أحداً فقالوا : أكرهونا على ذلك فالقول قولهم لأن ما ظهر للمسلمين منهم لا يكون نقضاً للعهد فإن مثله لو ظهر من المسلم لا يكون نقضاً لإيمانه فكذلك إذا@(5/170)
ظهر من المعاهد وإن قال : قد كنت نقضت العهد معهم ولكن كنت رجعت عن ذلك لم يقبل قوله إلا بحجة لأنه أقر بزوال ما عرف من أصل الذمة له ثم أدّعى أمراً حادثاً لا يعرف سببه فلا يقبل قوله إلا بحجة ولو أن المسلمين رأوا رجلاً من النصارى في دار الإسلام يتجر ولا يعرفون حاله ثم فتحوا مدينة من دار الحرب فوجدوه فيها فقال : أنا رجل من أهل الذمة أسر في أهل الحرب أو كنت تاجراً فيهم فالقول قوله لأنهم عرفوه من أهل دار الإسلام .
ألا ترى : أنه حين رأوه في دار الإسلام لو أرادوا التعرض له فقال : أنا ذمي كان القول قوله في ذلك فكذلك إذا وجدوه بعد ذلك في دار الحرب وهذا لأنه لو قال لهم : أنا ذمي قبل أن يأخذوه كان القول قوله في ذلك فكذلك لو قال لهم بعدما أخذوه وعلى هذا لو لم يكونوا رأوه قبل هذا إلا أنه شهد له شاهدان من المسلمين أنهما رأياه في دار الإسلام فهو ذمي لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك لو ادّعى أنه مسلم في جميع هذا فإن كان عليه سيماء المسلمين فلا إشكال في أن القول قوله وإن كان عليه سيماء أهل الكفر فقال : أكرهوني حتى تزينت بهذا الزي فالقول قوله أيضاً لأنه قد علم أصل الإسلام له أو الذمة باعتبار كونه في دار الإسلام ثم لا يرتفع ذلك بمجرد الزي لأن ما قاله محتمل بشهد له الظاهر فإن من بقي بين قوم يخالفونه في الطريق قد يتزي بزيهم تقية فلهذا كان القول قول ولو أن أهل الحرب صالحوا وصاروا ذمة وقع ذلك عليهم وعلى نسائهم لأن النساء تبع للرجال ولأنهم إنما يقبلون الذمة ليسكنوا في مساكنهم وسكناهم إنما تكون بالنساء@(5/171)
والذراري فإن قالوا للمسلمين : إنا نأخذ العهد لأنفسنا دون نسائنا كان نساؤهم فيئاً إلا من دخل منهن في العهد لأن الدليل إنما يعتبر إذا لم يوجد التصريح بخلافه فهذا يسترق النساء وأما الصغار من الأولاد فهم تبع للآباء الذين أخذوا العهد ولا سبيل عليهم ولو دخل حربي دارنا بأمان ثم غلب أهل الشرك على تلك الدار حتى صارت دار حرب ثم ظهر المسلمون عليهم فوجدوا ذلك فيهم فإن كان الذين غلبوا على هذه الدار من أهل الدار التي كان المستأمن منها فهو فيء للمسلمين لأن الأمان قد انتقض بينه وبين المسلمين حين حصل هو في دار الحرب وأهلها يوافقون ألا ترى : أنه لو كان رجع إلى داره لكان ينتهي به الأمان وقد صار هذا الموضع في حكم داره حين غلب عليه أهل الشرك وإن لم يكونوا من أهل دارنا بأن كان المستأمن من أهل الروم والذين ظهروا على
هذه الدار قوم من الترك فإن كانوا أسروه ومنعوه من الخروج فهو في ذمة المسلمين على حاله حتى إذا ظفر به المسلمون كان حراً لأنه ما وصل إلى مأمنه وإنما ينتهي الأمان بهذا ولأنه أسر فيهم فكأنهم أسروه من دار الإسلام وأحرزوه بدارهم فإن كان الذين غلبوا لم يمنعوه من الخروج إلى دار الإسلام فأقام بين أظهرهم اختياراً فهذا نقض منه للعهد لأنه رضي بالمقام في دار الحرب والراضي بالمقام في دار الحرب من أهل دار الحرب لا يكون في أمان من المسلمين إذا كانوا آمنوه في دار الإسلام .
ألا ترى أنه لو تزوج فيهم واشترى المسكن ثم وقع الظهور عليه كان فيئاً كغيره من أهل تلك الدار وكذلك لو أن مستأمناً من الروم في دارنا بدا له فخرج إلى الترك بأمان أو بغير أمان كان مبطلاً للأمان الذي كان بينه وبين المسلمين فكذلك ما سبق@(5/172)
إلا أن في هذا الفصل إن أسروه أو لم يأسروه فالجواب سواء لأنه دخل إليهم باختياره ولو أن رجلاً من الروم سأل المسلمين أن يدخل إليهم بأمان فيتجر ثم يخرج إلى الترك فيأتي بالأمتعة إلى دار الإسلام من ذلك الموضع ويتجر فيها فأعطوه الأمان على ذلك فهو آمن ما لم يدخل بلاد الترك فإذا دخلها فلا أمان له من المسلمين ما لم يرجع إلى دار الإسلام لأن المسلمين إنما أعطوه الأمان في دار الإسلام لا في دار الترك إلا أن يكونوا قالوا له : أنت آمن إذا دخلت دار الإسلام إلى أن تعود إليها وترجع إلى دارك فحينئذ هذا تصريح بإعطاء الأمان له في دار الترك ثم إن نبذ إليه المسلمون وهو في دار الترك فنبذهم باطل وهو آمن حتى يرجع إلى بلاده لأنهم إنما نبذوا إليه في دار هو مستأمن فيها فكان هذا ونبذهم إليه في دار الإسلام سواء وقد عرف أن النبذ لا يصح إلا بعد تبليغ المستأمن مأمنه وإعادته إلى ما كان عليه والله أعلم بالصواب .
باب أسر العبد وغيره ثم يرجع إلى مولاه أو لا يرجع
قال : العبد المأسور إذا مات مولاه ثم وقع في الغنيمة فحضر ورثته بعد ما وقع في الغنيمة فإن وجدوه قبل القسمة أخذوه بغير شيء وإن وجدوه بعد القسمة أخذوه بالقيمة لأنهم قائمون مقام مورثهم وهذا الأخذ إعادة إلى قديم الملك بطريق الفداء فيكون بمنزلة الفداء للعبد الجاني من الجناية والورثة يقومون في ذلك مقام المورث وهذا بخلاف الشفعة فإن الشفيع إذا مات لم يكن لورثته حق الأخذ بالشفعة ولا@(5/173)
يقومون في ذلك مقامه لأن حق الأخذ بالشفعة باعتبار الجوار والذي كان للمورث من الجوار قد زال بموته وجوار الوارث حادث فلا يكون له حق الأخذ .
فأما ها هنا حق الأخذ باعتبار الملك القديم ولا يتغير ذلك بموت المورث والورثة يخلفونه في ذلك الملك لو كان قائماُ فكذلك في حق ثابت باعتبار ذلك الملك وإن أراد ذلك بعضهم وكره بعضهم بعد القسمة فليس لهم إلا أن يأخذوا جميعاً أو يدعوا لأنهم بالأخذ يعيدونه إلى قديم ملك الميت حتى إذا ظهر عليه دين بيع فيه وهو في حياته لو أراد أن يأخذ البعض دون البعض لم يكن له ذلك فكذلك الورثة بعد موته وإن أبى بعضهم أن يفديه وقال بعضهم : نحن نفديه بالقيمة فلهم ذلك ولكنهم يكونون متطوعين في الفداء لأن العبد يعود إلى قديم ملك الميت فيكون ميراثاً بين ورثته وهم تبرعوا بالفداء في نصيب من أبى منهم إذ ليس لهم أن يلزموهم ديناً شاءوا أو أبوا فكان هذا نظير الفداء من الجناية وكذلك إن كان فيهم موصى له بالثلث لأنه شريك الورثة في التركة بماله من الوصية فهذا كأحد الورثة في حكم الفداء ومن حضر من موص أو وارث أو موصى له فأراد أن يفديه فله ذلك وإن غاب عامة الورثة لأن الحاضر خصم عن الميت وإنما يعيده بالأخذ إلى قديم ملك الميت والحاضر خصم في ذلك عن الميت كما في الفداء من الجناية وإن حضر الموصى له بالثلث خاصة فجحد الذي وقع العبد في سهمه أن يكون العبد للميت فأقام الموصى له البينة عليه بذلك قبلت بينته وكان خصماً له لأنه شريك الورثة في التركة فيكون خصماً عن الميت كأحدهم وإذا فداء بجميع القيمة وأخذه أعطاه القاضي الثلث من العبد وجعل الثلثين محبوساً للورثة إلى أن يحضروا فيأخذوا فإن حضروا وجحدوا وصية الموصى له لم@(5/174)
يلتفت القاضي إلى جحودهم لأن الذي وقع العبد في سهمه كان خصماً للموصى له عن الورثة في إثبات الوصية عليه فهو وما لو أثبته على الورثة سواء ولو كان الذي حضر غريم من غرماء الميت لم يكن خصماً لمن وقع العبد في سهمه لأنه يحتاج إلى إثبات دينه في ذمة الميت ومن وقع العبد في سهمه ليس بخصم في ذلك عن الميت فأما الموصى له يثبت الأخذ لنفسه
في العبد الذي وقع في يده بمنزلة الوارث فلهذا كان خصماً له وإن أقر الذي وقع العبد في سهمه أنه غريم الميت لم يأمره القاضي بدفع العبد إليه بقيمته لأن الدين بإقراره لا يثبت في ذمة الميت ولكن إن حضر وارث أو وصي فأبى أن يفدي فأراد للغريم حتى يثبت الدين عليه لأنه قائم مقام الميت في إثبات الدين بالبينة ثم كان للغريم أن يفديه حتى يباع له في الدين وإن كان الوصي حين حضر أقر له بالدين لم ينتفع الغريم بذلك وقيل له : هات بينة على دينك ولا يخرج الوصي من خصومته بإقراره بالدين لأنه قائم مقام الميت فيما يرجع إلى النظر والإقرار بالدين عليه ليس من ذلك في شيء فهو كالأجنبي في ذلك فإذا بطل إقراره بالدين صار كأنه لم يوجد أصلاً فإن كان المقر بالدين أحد الورثة كان للغريم أن يفديه بقيمته لأن الدين قد ثبت بإقراره في نصيبه ثم إذا أخذ العبد فإن القاضي يعزل نصيب سائر الورثة حتى يقدموا فيقروا أن ينكروا ويبيع حصة الوارث المقر للغريم في دينه لأن إقراره حجة في حقه والدين@(5/175)
الثابت بإقراره في حصته كالثابت بالبينة فإن حضر الموصى له بالثلث فأقر بالدين ووقع العبد في سهمه لوصيته فله أن يفديه بالقيمة .
لأن الثابت بالإقرار في حق المقر كالثابت بالبينة فإن حضر الورثة فجحدوا وصيته فالقول قولهم ويقال للورثة : أدّوا للموصى له ثلث الفداء وخذوا العبد لأنه في مقدار الثلث إنما أدّى الفداء على أن يفدي ملكه فلا يكون متطوعاً في ذلك فأما في الثلثين إنما أدّى الفداء على أنه يفدي ملك الورثة فكان متطوعاً في ذلك وكذلك لو ادّعى الوصية بالعبد له والمسألة بحالها فإن الورثة يأخذون العبد هناك إذا أعطوه جميع الفداء إن أحبوا ذلك لأنه في الكل ها هنا يفدي ملك نفسه فالعبد كله له وصية بزعمه إذا كان يخرج من ثلث ماله فلهذا لم يكن متطوعاً في شيء من الفداء وإن كان الوارث أو الموصى له إنما حضر قبل القسمة فليس له أن يأخذ حتى يقيم البينة على ذلك لأن الحق لعامة المسلمين فلا يثبت الاستحقاق عليهم إلا بحجة ثم إذا أقام البينة أخذه بغير شيء فعاد إلى قديم ملك المورث وكان ميراثاً عنه ولو وقع العبد في سهم رجل في مرض المأسور منه فسلمه له كان ذلك جائزاً سواء كان من وقع في سهمه وراث الميت أو أجنبياً وسواء كان فيه محاباة أو لم يكن وكذلك إن سلمه للمشتري من العدو فإن المحاباة لا تظهر في هذا الفصل لأنه بهذا التسليم لا يملكه شيئاً إنما يبطل حقاً ليس بمال ولا يجوز الاعتياض عنه بالمال بحال فكان هذا بمنزلة تسليم الشفعة وتسليم المريض شفعته بسبب من الأسباب يكون صحيحاً على الإطلاق فهذا مثله وكذلك لو ساومه بالعبد بيعاً مستقبلاً لأن@(5/176)
هذا دليل التسليم منه فيكون كالتصريح بالتسليم كما في الشفعة فإن قيل : قد قلتم إن الأخذ بالقيمة بمنزلة الفداء من الجناية فعلى هذا ينبغي ألا يصح ذلك من المريض في حق وارثه فلا تسلم له المحاباة التي تكون باعتباره قلنا : هذا إذا كان بتصرفه يملك الوارث مالاً وهو ها هنا ليس يملك الوراث شيئاً فقد ملك الوارث العبد بالشراء أو بوقوعه في سهمه فلهذا صح تسليمه في حق الوارث وهو نظير الإبراء عن الكفالة بالنفس والعفو عن
دم العبد فإن ذلك صحيح من المريض مع وارثه كما يصح مع الأجنبي والذي يوضح ما قلنا أن من وقع العبد في سهمه يتمكن من إسقاط حق الأخذ بالإعتاق والتدبير فلا يصير به ضامناً شيئاً فتبين به أن هذا الحق ضعيف وأي فرق بين أن يسقط الحق بتصرف من وقع في سهمه وبين أن يسقط بإسقاط المريض ولو مات المأسور منه ولا وارث له فميراثه لجماعة المسلمين والإمام نائب عنهم في ذلك فإن عرف حاله قبل القسمة أخذه لبيت المال بغير شيء وإن عرفه بعد القسمة فإن شاء أخذه لبيت المال بقيمته وإن شاء تركه وإن وجده في يد رجل اشتراه من العدو بخمسمائة وقيمته ألف فالأولى له أن يأخذه بالثمن لما فيه من الحظ للمسلمين فأما إذا وجده في يد من وقع في سهمه فحق الأخذ إنما يكون بقيمته وليس فيه منفعة ظاهرة للمسلمين لأن حقهم في المالية دون العين فلا يستقل بأخذه إلا أن يرى أن فيه حظاً للمسلمين ولو أن المأسور منه وجده في يد رجل اشتراه من العدو فلم يطلبه حتى مضى زمان ثم جاء يطلب أخذه بالثمن فله ذلك بخلاف الشفعة فإن الشفيع إذا لم يطلب بعد ما علم بالبيع تبطل شفعته لأن سكوت الشفيع إنما جعل تسليماً دفعاً للضرر عن المشتري فإن الشفيع يتمكن من نقض تصرف المشتري بالأخذ بالشفعة فلو لم يجعل سكوته تسليماً تعطل ملك المشتري وتعذر عليه التصرف فيه فلهذا جعلناه تسليماً وهذا المعنى لا يوجد @(5/177)
ها هنا فإن المأسور منه يأخذه ممن يجده في يده ولا ينقض شيئاً من التصرفات .
ألا ترى أنه لا ينقض القسمة ليأخذه مجاناً فلا حاجة ها هنا إلى أن يجعل سكوته تسليماً ولو كان العبد المأسور لصبي صغير له أب أو وصي فاشتراه رجل منه بخمسمائة وقيمته ألف فسلم الأب أو الوصي حق الصبي في ذلك جاز التسليم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي الله تعالى عنهما - ولم يجز في قول محمد وزفر - رحمهما الله تعالى - على قياس الشفعة فإن في الموضعين جميعاً بهذا التسليم لا يخرج من ملك الصبي شيئاً ولو كان المشتري من العدو اشتراه بألف درهم وقيمته خمسمائة فأراد الأب أو الوصي أن يأخذ ذلك للصبي بالثمن لم يكن لهما ذلك لما فيه من الغبن الشديد على الصبي بمنزلة ما لو اشترى له عبداً يساوي خمسمائة بألف درهم إلا أن هناك يكون مشترياً لنفسه وها هنا لا يكون آخذاً لنفسه لأنه غير مالك للأخذ لنفسه ها هنا بغير رضى المشتري من العدو فإنه بالأخذ يعيده إلى قديم الملك له ولم يكن له فيه الملك في الأصل وإنما كان ذلك للصبي فلهذا لا يجعل آخذاُ لنفسه وإن ظهر المشركون على الأرض من أراضي المسلمين فصارت دار شرك ثم غلب المسلمون عليها فمن حضر من أصحابها قبل القسمة أخذها بغير شيء ومن حضر بعد القسمة أخذها بقيمتها إن أحب لأن الأرض مال المسلم كسائر الأموال فإن بناها من وقعت في سهمه ثم حضر المالك القديم فليس له أن يأخذها لأن البناء استهلاك وليس له أن ينقض البناء ليأخذ كما لا يكون له أن ينقض سائر التصرفات بخلاف البيع وإنما هذا نظير موهوب له يبني في الأرض الموهوبة ثم يريد الواهب الرجوع فيها فهناك لا تمكن من ذلك لأن البناء استهلاك فهذا مثله وكذلك قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى @(5/178)
عنه - في مشتري الأرض بشراء فاسد إذا بناها فليس للبائع حق الاسترداد بعد ذلك ومعلوم أن حق البائع أوجب من حق المالك القديم ها هنا فإن لم يقض القاضي له بالأخذ لأجل البناء ثم هدم الباني بناءه حتى عاد كما كان فللمالك القديم أن يأخذها بالفداء ها هنا لأن
المانع كان هو البناء وقد زال المانع فيتمكن من الأخذ بمنزلة الواهب يريد الرجوع فيها بعد ما رفع الموهوب له البناء وكذلك لو كان إنما بنى فيها أهل الحرب حين أحرزوها لأن المالك القديم إنما يثبت له حق الأخذ فيما كان مملوكاً له وهذا البناء لم يكن مملوكاً له قط فلا يثبت له حق أخذ البناء ويتعذر عليه أخذ الأرض بدون البناء فإن هدم من وقع في سهمه البناء كان له أن يأخذ الأرض بقيمتها لزوال المانع ولو كانت الأرض مبنية حين أخذها المشركون فوقعت في سهم رجل من المسلمين كان لمالكها الأول أن يأخذها بقيمتها مبنية يوم وقعت في سهمه لأنها كانت له في الأصل بنائها فله أن يعيدها بالأخذ إلى ملكه كما كانت فإن لم يأخذها حتى جعلها من وقعت في سهمه مسجداً للمسلمين فصلوا فيها ولم يزد فيها بنياناً أو كانت أرضاً فجعلها صدقة موقوفة للمساكين أو جعلها مقبرة أو جعلها خاناً للمسلمين ثم جاء صاحبها الأول فليس له أن يأخذها لأنها تحرزت عن ملك العباد بما أحدث فيها من التصرف فكان هذا قياس العبد إذا أعتقه من وقع في سهمه وهذا لأن المالك القديم يأخذه من غير أن ينقض التصرف وبدون نقض التصرف ها هنا لا يتمكن من أخذها بالقيمة فإنها لم تصر في ملك أحد حتى يأخذها منه بالقيمة وبه فارق الشفعة فإن الشفيع يتمكن من نقض تصرف المشتري فإذا نقض تصرفه رجعت إلى ملكه كما@(5/179)
كانت فكان له أن يأخذها منه فإن خرب ما حول المسجد وانتقل عنه أهله فقد رجع إلى ملك صاحبه على أصل محمد - رحمه الله تعالى - لأنه يزول المانع فكان للمالك الأول أن يأخذها بالقيمة وكذلك لو كان المأسور فرساً فجعلها من وقع في سهمه حبيساً ثم حضر مالكه الأول فلا سبيل له عليه وهذا قول محمد - رحمه الله تعالى - فإنه يجوز الوقف في العقار والمنقول فيما فيه العادة فأما على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : الوقف لا يتعلق به اللزوم ولا يخرج العين من ملك صاحبه فكان للمالك الأول أن يأخذه
إلا في المسجد خاصة فإن ذلك يتعلق به اللزوم فيمنع المالك الأول من الأخذ باعتبار أنه لا يتمكن من نقض التصرف ولهذا لا ينقض القسمة ولا بيع من وقعت في سهمه وإن كان في ذلك منفعة لتفاوت يكون بين الثمن والقيمة إلا أن بعد البيع من غيره هو محتمل للنقل من ملك إلى ملك فكان حقه في الأخذ باقياً وبعد التصرفات التي بينا ليس بمحل للتملك بعوض ولا بغير عوض فلا يكون له أن يأخذ إلا أن يعود محلاً للملك ولا تملك بمنزلة العبد إذا كاتبه من وقع في سهمه فليس لمالكه أن يأخذه فإن عجز المكاتب كان لمالكه أن يأخذه بقيمته لزوال المانع وكذلك لو جعله من وقع في سهمه رهناً عند إنسان بدين له عليه فليس للمالك الأول أن يأخذه حتى يفتكه الراهن لأنه تعلق بالمرهون حق لازم للمرتهن فإن افتكه كان@(5/180)
له أن يأخذه منه بالقيمة لزوال المانع وإن قال الملك الأول : أنا أؤدي الدين وآخذه بالقيمة أجبر الراهن والمرتهن على ذلك لوصول كمال حق المرتهن إليه ويكون متطوعاً في أداء الدين لا يرجع على الراهن بشيء منه لأنه لم يكن مجبراً على أدائه ولا محتاجاً إليه فقد كان يتمكن من أن يصير إلى أن يفتكه الراهن ثم يأخذه فلو آجره من وقع في سهمه من رجل مدة معلومة وقبض الأجر ثم حضر المالك الأول فله أن ينقض الإجارة ويأخذه بالقيمة لأن الإجارة تنقض بالأعذار وثبوت حق المالك الأول في الأخذ عذر ينقض به الإجارة وإن كان لا ينقض به سائر التصرفات فإن ثبوت حق المشتري في الرد بالعيب يكون عذراً في نقض الإجارة دون سائر التصرفات بمنزلة حق البائع في الاسترداد بفساد البيع يكون عذراً في نقض الإجارة دون سائر التصرفات ولو كان الذي وقع عليه الظهور ناقة لمسلم فجعلها من وقعت في سهمه بدنة وقلدها وأشعرها أو جعلها أضحية ثم حضر المالك الأول فله أن يأخذها بالقيمة لأن ملك من وقعت في سهمه لم يزل بهذا التصرف .
ألا ترى أنه لو باعها جاز بيعه فيها بخلاف ما تقدم من الوقف والحبس فقد زال ملكه هناك وبهذا تبين خطأ من يجوز الاستبدال بالوقف بالقياس على الأضحية والبدنة فإذا أخذها بالقيمة اشترى الذي وقعت في سهمه بدنة فجعلها مكان الأولى لأن القيمة في حقه عوض عما أوجب فيه حق الله تعالى وحكم العوض حكم المعوض في الوقف بخلافه ولو كان المأسور عبداً فاشتراه رجل منهم بأقل من قيمته أو بأكثر فلما حرضه الموت أوصى به لرجل كان للمالك الأول أن يأخذه من الموصى له بالقيمة لأن الوصية تبرع بالعين بعد الوفاء فيكون قياس ما لو تبرع به في حياته بالهبة منه وهناك المالك الأول يأخذه من الموهوب له@(5/181)
بالقيمة فكذلك ها هنا ولو لم يوص به الآخذ كان له أن يأخذه من الوارث بالثمن الذي اشتراه به المورث لأن الوراثة خلافة والملك الثابت للوارث هو الملك الذي كان للمورث ولهذا يرد بالعيب على بائع مورثه ويصير مغروراً فيما اشتراه مورثه ثم كان له أن يأخذه من المورث بالثمن فكذلك من الوراث فأما الموصى له فإنما يتملك العين بسبب جديد ولهذا لا يرد على بائع الموصي بالعيب ولا يصير مغروراً فيما اشتراه الموصي .
قال : وإن كان الميت لم يوص برقبته لأحد ولكنه أوصى بخدمته أو بغلته لرجل فليس للمالك الأول أن يأخذه بالثمن ولا بالقيمة لأن للموصى له فيه حقاً لازماً ولهذا لا يملك الوارث بيعه ولا إبطال حقه فهو لا يتمكن من الأخذ من الوارث لقيام الحق للموصى له فيه ولا من الموصى له لأنه لا يملك العين وحق الأخذ بالبدل إنما يكون ممن يملك العين بخلاف الأول فالموصى له هناك مالك للعين فلذا أمكنه الأخذ بالقيمة فإن مات الموصى له بالغلة أو الخدمة كان له أن يأخذه من الوارث بالثمن لأن حق الموصى له قد بطل بالموت وزال المانع من الأخذ فكان له أن يأخذه ولو كان العبد المأسور مشتركاً بين رجلين فحضر أحدهما وغاب الآخر كان له أن يأخذه نصفه ممن وقع في سهمه بنصف قيمته لأن حق الأخذ باعتبار الملك القديم وقد كان كل واحد منهما مالكاً للنصف واعتبار الكل بالجزء اعتبار صحيح فإن حضرا فقال أحدهما : آخذ وقال الآخر : أسلم فللذي أراد الأخذ أن يأخذ نصفه لأن لكل واحد منهما رأياً في نصيبه فكما لا يملك الذي يريد الأخذ إبطال خيار شريكه لا يملك الذي يسلم إبطال خيار شريكه وليس للذي وقع في سهمه أن يقول : إنكم تفسدون عليّ العبد وتلحقون بي ضرر تبعيض الملك لأن وجوب دفع الضرر عن المالك الأول @(5/182)
مقدم على وجوب دفع الضرر عمن وقع في سهمه ولها يتمكن من أخذه منه شاء أو أبى وهذا بخلاف ما إذا كان المأسور منه واحداً ومات عن ابنين فإن هناك لا يملك أحدهما أخذ النصف بغير رضى من وقع في سهمه لأن أصل الملك هناك للمورث والورثة يقومون مقامه وهو في حال حياته كان لا يملك أخذ البعض دون البعض ولكن إما أن يأخذ الكل أو يسلم الكل فكذلك الورثة بعد موته فإن قيل : فعلى هذا ينبغي إذا سلم أحد الوارثين أن يكون ذلك تسليماً منهما كما لو كان المورث حياً فسلم النصف وسكت عن النصف الثاني قلنا : لا فرق فهناك لو قال المورث : أسلم النصف على أن آخذ النصف بنصف القيمة لم يكن ذلك
تسليماً منه كما لا يكون تسليم أحد الوارثين ها هنا تسليماً في حق الآخر ألا أن هناك المورث كان متمكناً من التسليم في الكل فيجعل تسليمه البعض مطلقاً كتسليم الكل كما في الشفعة وها هنا أحد الوارثين لا يملك التسليم في حق صاحبه فيكون هذا بمنزلة تسليم المورث النصف بشرط أن يأخذ النصف الباقي ولو غلب المشركون على دارهم ثم وقعت في سهم رجل من المسلمين فهدم بعض بنائها ثم حضر صاحبها الذي كانت له فأراد أخذها فإنه يأخذها ويأخذ البعض إن كان قائماً بعينه بقيمتها يوم وقعت في سهمه لأن البعض كان مملوكاً له كالأصل ألا ترى : أنه لو حضر قبل أن ينقض من وقعت في سهمه البناء كان له أن يأخذ الأصل والبناء جمعياً فهذا مثله ولا يسقط عنه شيء من القيمة بهدم من وقعت في سهمه لأن ما يعطيه من القيمة فداء لملكه والفداء يكون بمقابلة الأصل فلا يسقط منه شيء بنقصان يتمكن فيه بفعل مكتسب أو لا بفعل مكتسب وكذا لو استهلك من وقع في سهمه البعض لم ينتقض شيء من الفداء عن المالك الأول وهذا بخلاف الشفعة فإن المشتري إذا هدم البناء ثم حضر الشفيع فلا سبيل له على النقض وإنما يأخذ الأرض بحصتها من الثمن لأن حق الأخذ بالشفعة يختص بالعقار دون المنقول والنقض منقول .
ثم الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء لأن الشفيع@(5/183)
يتملك المأخوذ بالثمن ابتداء والبناء بمنزلة الوصف فإذا فات بصنع مكتسب بسقط حصته من الثمن عن الشفيع فأما المالك الأول ها هنا بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه بالفداء وقد بينا أن الفداء يقابل الأصل دون الوصف وعلى هذا لو كان مكان الدار أرض فيها نخل قائم ثم حضر المالك الأول فله أن يأخذ الكل بقيمة الأرض والنخل يوم وقعت في سهم الرجل فإن كان من وقعت في سهمه قد أكل الثمر أو باعه أو قلع النخل أو باعه على أن يقلع فكذلك الجواب لأن ما يعطيه من قيمة الأرض والنخل فداء بمقابلة الأصل فلا يسقط شيء منه بفوات الوصف والبيع ولكنه يأخذ النخل والثمر من المشتري إذا كان قائماً بعينه في يده بالثمن الذي اشتراه به إن شاء بخلاف الشفيع فالشفعة تختص بالعقار دون المنقول وللشفيع ولاية نقض تصرف المشتري ما بقي حقه فلهذا قلنا : إذا حضر قبل أن يقلع المشتري النخل كان له أن ينقض البيع ويأخذ الكل من المشتري الأول بالثمن إن شاء قال : ولو أن رجلاً اشترى عبداً فلم يقبضه حتى أسره العدو ثم وقع في سهم مسلم فحضر البائع والمشتري فالبائع أحق به أن يأخذه بالقيمة إن شاء لأنه قبل الأسر كانت اليد له وكان هو أحق بحبسه حتى يستوفي الثمن وهذا لأن المبيع قبل القبض في ضمان ملك البائع ولهذا لو هلك كان هالكاً على ملكه فإذا أخذه بالقيمة قلنا : هو لا يكون متبرعاً فيما أدّى من القيمة فإنه لا يتوصل إلى إحياء حقه إلا بذلك فيكون للمشتري الخيار إن شاء أخذه بالثمن الأول منه أو بالقيمة وإن شاء تركه وإنما يثبت له الخيار لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامها فإن أبى البائع أن يأخذه بالقيمة فللمشتري أن يأخذه بالقيمة إن شاء لأن الأسر@(5/184)
كان على ملكه فكان له أن يعيده بالأخذ إلى ملكه كما كان ثم عليه أن يؤدي الثمن إلى البائع لأن المبيع قد سلم له فإن قال البائع : أنا آخذ العبد منه حتى يؤدي الثمن لم يكن له ذلك لأنه
قد أسقط حقه في الحبس حين أبى أن يأخذه بالقيمة في الابتداء فكان هذا بمنزلة ما لو سلّم المبيع إلى المشتري ثم أراد أن يسترده ليحبسه بالثمن ولو مات المأسور منه العبد وترك ابناً صغيراً وأوصى إلى رجل ثم وقع العبد في الغنيمة فإن وجده الوصي قبل القسمة أخذه للصبي بغير شيء وإن وجده بعد القسمة يأخذه بالقيمة إن شاء لما بينا أن الوارث ها هنا بالأخذ يقوم مقام المورث وإن هذا الحق لا يسقط بموت المورّث بخلاف الشفعة ثم الوصي قائم مقام أب الصبي إن كان قائماً فإن أخذه بالقيمة وليس للميت مال وللصبي ورثه من أمه فالقيمة في مال الصبي لأن دين عليه فيؤدي من ماله ولا يكون على الوصي في ذلك عهدة كما لا يكون على الوكيل بالأخذ من جهة المالك القديم في هذا عهدة لأن هذا بمنزلة الفداء من الجناية وهناك يكون الوكيل نائباً محضاً فلا يلزمه العهدة فهذا مثله بخلاف الشفعة فالوصي أو الوكيل إذا أخذا بالشفعة بلزمها العهدة وتتوجه عليهما المطالبة بالثمن ثم يرجعان به لأن الأخذ بالشفعة تملك بطريق الشراء ابتداء في حق الشفيع فإن كان الوصي ضمن القيمة للذي موقع في سهمه كان مطالباً به بحكم الضمان وله أن يرجع به في مال الصبي لقيام ولايته عليه في إلزام الدين إياه بخلاف الوكيل بالأخذ إذا ضمن في مال الصبي لقيام ولايته عليه في إلزام الدين إياه بخلاف الوكيل بالأخذ إذا ضمن القيمة فإنه يكون متطوعاً في ذلك لا يرجع به على الموكل لأنه ليس له ولاية إلزام الدين لغير من تناوله الأمر فكيف يلزمه ديناً لنفسه إلا أن يكون أمره بالضمان فحينئذ@(5/185)
يرجع عليه الأمر فإن فدى الوصي العبد للصبي بالقيمة من مال الصبي ثم أقام رجل البينة على دين له على الميت محيط بمالية العبد فإنه يباع له العبد في دينه لأنه إعادة إلى قديم ملك المورث وحق الغريم فيه مقدم على حق الوراث ثم يكون الوصي متطوعاً في الفداء يغرم للصبي ما أداه من ماله لأنه تبين أنه ما أخذه للصبي ها هنا
فإن استغراق التركة بالدين يمنع ملك الوارث فلهذا كان ضامناً للصبي ما أدى من ماله وصار هذا بمنزلة الدين ظاهراً فأخذه الوصي وأدى الفداء من مال نفسه وهناك هو متطوع في الفداء ويباع العبد للغريم بدينه فكذلك ها هنا وشبه هذا بما لو جنى البعد جناية ففداه الوصي من مال الصغير بأن رأى فيه النظر له ثم ظهر على الميت دين والمعنى يجمع الفصلين فالحكم فيهما سواء كما بينا ثم لا يكون الوصي بالتطوع في الفداء نظير أجنبي آخر فهناك لمن وقع في سهمه أن يأبى ذلك عليه وها هنا ليس له ذلك لأن الوصي قائم مقام الموصي وهو قد كان مجبراً على التسليم إلى الموصي بقيمته فكذلك إلى وصيه بعد موته وإن لم يفد الوصي العبد للصبي حتى رفع ذلك إلى القاضي فأمره القاضي أن يفديه أو كان القاضي هو الذي فداه أو أمين من أمنائه بأمره ثم ظهر الدين فالغرماء بالخيار إن شاءوا أدوا القيمة إلى الصبي ثم يباع العبد لهم في دينهم فإن أبوا ذلك رد العبد إلى من وقع العبد في سهمه وأخذ منه القيمة فيرد على الصبي لأن المؤدي للفداء ها هنا لا يمكن أن يجعل متطوعاً من قبل أن هذا حكم حكم به القاضي للصغير فلا ينفذ حكمه إلا باعتبار النظر له وحكمه يمنع أن يكون المؤدي للفداء متطوعاً فيه بخلاف الأول فلو كان الوصي أخذه بالقيمة@(5/186)
للصبي بغير أمر القاضي ثم ظهر دين يكون مثل نصف قيمة العبد فإن العبد يباع فيستوفي الغريم دينه وما فضل من الثمن فهو للصبي إرث له من أبيه أو يكون الوصي متطوعاً فيما أعطى من القيمة لأن تصرفه هذا ليس فيه نظر للصبي فإنه يفدي جميع العبد بقيمته ولا يسلم للصبي منه إلا النصف وإذا لم ينفذ تصرفه على الصبي باعتبار هذا المعنى كان متطوعاً في الفداء فإن كان القاضي أمره بذلك والمسألة بحالها فإن القاضي يقول للغرماء : إن شئتم فالتزموا من الفداء بقدر حصصكم حتى أبيع العبد في دينكم وإلا رددت على من وقع في سهمه لأن الوصي هناك لا يمكن أن يجعل متطوعاً في
الفداء فإنه فدى بأمر القاضي وذلك حكم منه فإنما ينفذ في حق الصبي بشرط النظر له فإن قال الغرماء : لا نفدي فالعبد مردود على من وقع في سهمه إلا أن يرى القاضي النظر للصبي في أن يجعل الفداء من قبله بأن كان حدث في العبد زيادة في بدنه أو قيمته بعدما وقع في سهم الرجل فحينئذ يجعل الفداء من مال الصبي لتوفير المنفعة عليه وإن كان الذي فدى به القاضي العبد من مال الميت والدين يحيط بتركته فقالت الغرماء : لا نرضى أن نفدي العبد بذلك ولكنا نأخذ الفداء قضاء من ديننا كان لهم ذلك لأن الحق في التركة لهم خاصة وإنما أمضى الحكم على مرادهم سواء كان فيما اختاروا منفعة لهم أو ضرر عليهم وليس للوارث أن يفدي العبد ها هنا لأن استغراق التركة بالدين يمنع ملك الوارث .
قال : ولو أن المشركين أسروا العبد ممن وقع في سهمه ثم وقع في سهم مسلم فحضر مولاه الأول فليس له أن يأخذه لأن الأسر الثاني لم يكن على ملكه وإنما كان على ملك من وقع في سهمه فيكون حق الأخذ للمأسور منه خاصة وإنما يثبت حق الأول في ملك المأسور منه فيما إذا لم يفد ذلك الملك يأخذه قبل القسمة بغير شيء وبعده بالقيمة@(5/187)
ولا سبيل للمولى الأول على أخذه وإذا أخذه المأسور منه بالقيمة كان للمولى الأول أن يأخذه بقيمتين إن شاء لأن المأسور منه بما أدى من القيمة أحيي ملكه وكان محتاجاً إلى ذلك فلا يكون متبرعاً فيه فلهذا يأخذه المالك الأول بالقيمة الأولى وبما أدّاه الآن إن شاء وكذلك لو كان مكان الذي وقع في سهمه مشتر اشتراه من العدو ثم أسر منه ثانياً فهو نظير الأول في جميع ما ذكرنا لا يكون للمولى الأول أن يأخذه ما لم يأخذه المشتري الأول بالثمن الثاني ممن اشتراه من العدو وبعد ذلك يأخذ الثمن إن شاء أو يدع .
فإن طلب المالك القديم أخذه ممن وقع في سهمه بالقيمة أو من المشتري بالثمن فقضى له القاضي بذلك أو سلمه له بدون القضاء ثم قال : لا أعطيه حتى تعطيني ما وجب لي عليه فذلك له لأن ملكه حي فيه بما لزمه من الفداء له فيكون محبوساً عنده حتى يؤدي ذلك الفداء ولا يكون هذا دون رد الآبق وهو يستوجب الحبس بالجعل الواجب له فها هنا أولى .
فإن باعه المالك الأول فقبل أن يقبضه من إنسان آخر فبيعه باطل أما إذا لم يكن أدى الواجب عليه لإنه عاجز عن تسليمه وإن كان أدى الواجب عليه فلأن المبيع مضمون في يده من في يده بالفداء الذي يوجب له ألا ترى أنه لو هلك لزمه رد ذلك الفداء وكان هذا بمنزلة المبيع في يد البائع أو يد المشتري بعد فسخ البيع بحكم الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء أو بقضاء القاضي وهذا أقرب الأشياء فقد ذكرنا ها هنا أنه لو باعه ممن في يده يجوز فعرفنا أنه بمنزلة المبيع في يد المشتري بعد فسخ البيع فإنه مضمون بالثمن هناك في يده بعد ما عاد إلى أصل ملك البائع كما أن ها هنا مضمون بالفداء بعد ما عاد إلى قديم ملك المأسور منه ثم هناك يجوز بيعه ممن في يده ولا يجوز بيعه من غيره فكذلك ها هنا ولهذا لو وجد المأسور منه عيباً حادثاً كان له أن يرده قبل قبضه بقضاء أو بغير قضاء وبعد قبضه بقضاء القاضي بمنزلة البائع الأول إذا وجد به عيباً حادثاً بعد ما انفسخ البيع بينه وبين المشتري بالرد@(5/188)
بالعيب بقضاء القاضي ولو أن المأسور منه أخذه بالفداء ولم يكن رآه قبل ذلك قط فلما رآه لم يرض به لم يكن له أن يرده لأنه بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه وخيار الرؤية يختص بالشراء المبتدأ وهذا إذا لم يكن به تغير عن الحال الذي كان عليه في يده وإن كان تغير إلى نقصان فله أن يرده لأنه إنما رضي بالفداء ليعيده إلى قديم ملكه كما كان وبعد التغير يتمكن الخلل في مقصوده فكان له أن يرده لهذا ولو كان العبد المأسور يساوي ألف درهم فاشتراه رجل بمائة درهم فأخرجه وقد مات المأسور منه وترك ابناً صغيراً وعليه من الدين خمسمائة فحضر الغرماء والوصي فأبى الغرماء أن يفدوه فللوصي أن يفديه بالمائة من مال الصبي لأن فيه منفعة ظاهرة له فإنه يبيعه بالألف ويقضي دين الميت بخمسمائة فيبقى للصغير خمسمائة بالمائة التي أعطاها الوصي وفي الموضع الذي يتحقق النظر فيه للصبي لا يكون الوصي متطوعاً في
الفداء وهو قياس الفداء من الجناية فإن نقص سعر العبد بعد ما أخذه الوصي حتى صار يساوي خمسمائة فإنه يباع العبد للغرماء وليس على الوصي من ذلك شيء لأن معنى النظر للصبي كان ظاهراً يومئذ فنفذ تصرفه للصبي ثم لا يتغير ذلك بما حدث من نقصان السعر ألا ترى أنه لو مات العبد بعد ما أخذه الوصي لم يكن على الوصي من ذلك شيء فهذا مثله ولو كان مكان الغريم أخ للصبي غائب لم يعلم به الوصي حتى فداه بالمائة من مال الصبي ثم حضر الغائب فإن كان الوصي فداء بغير أمر القاضي فهو متطوع في نصف الفداء لأنه في النصف أحيا ملك الغائب بملك الصغير وكان متطوعاً فيه بخلاف الأول فهناك أحيا ملك الصغير في جميع العبد لأن الدين إذا لم يكن محيطاً فالتركة كلها تدخل في ملك الوارث ألا ترى أن للوارث أن يستخلص التركة لنفسه بقضاء الدين من موضع آخر وليس لأحد الوارثين أن يستخلص الملك لنفسه بأداء نصيب الشريك@(5/189)
من موضع آخر وإن كان الوصي فداه بأمر القاضي فإن القاضي يقول للغائب : إن شئت فادفع نصف الفداء ويكون العبد بينك وبين الصغير نصفين وإلا رددناه على المشتري من العدو لأن الوصي لا يكون متطوعاً فيما يؤدي من الفداء بأمر القاضي وهذا التصرف وإن كان فيه حظ للصبي فذلك لا يفوت عليه لأنه إذا كبر كان له أن يفديه بالمائة إن شاء فيكون متطوعاً في نصف الفداء عن أخيه قال : ولو أن المشتري من العدو اشتراه بمائتي درهم وعلى الميت دين تسعمائة فليس للوصي أن يأخذه للصبي بالمائتين لأنه لا يبقى للصبي بعد قضاء الدين من ثمنه إلا مائة درهم وفيه من الخسران على الصبي ما لا يخفى فإن فعل ذلك الوصي بغير أمر القاضي فهو متطوع في الفداء لما بينا أنه لا نظر للصبي في هذا التصرف فإن بيع العبد بضعف ثمنه كان ما بقي من الثمن بعد قضاء الدين للصبي وكان الوصي متطوعاً في الفداء لأن المعتبر وقت الأخذ ولم يكن هذا الأخذ بصفة النظر له يومئذ فلا يتغير حكمه بما يحدث من الزيادة بعد
ذلك وإن كان الوصي فداه بأمر القاضي بأن لم يكن الدين معلوماً للقاضي حين أمر به فالوصي ها هنا غير متطوع في الفداء ولكن القاضي يخير الغريم فإن شاء كان عليه من الفداء بقدر دينه وذلك تسعة أعشار الفداء وإلا رد العبد على المأخوذ منه فإن رضي الغريم بذلك يسلم الثمن للمشتري ويبيع العبد فأخذ الغريم دينه وكان ما بقي من الثمن للصغير فإن نقص العبد في دين أو سعر فلم يبع إلا بقدر الدين أو أقلّ@(5/190)
منه لم يرجع الصبي على الغريم بشيء من حصته من الفداء لأن المعتبر وقت الأخذ ثم لا يتغير الحكم بما ظهر من الزيادة أو النقصان بعد ذلك بمنزلة ما لو مات العبد بعد الفداء فإنه لا يرجع بعضهم على بعض بشيء وشبه هذا بما لو شج عبد من التركة رجلاً موضحة وفيها دين فحكم الفداء من الجناية كحكم فداء المأسور في جميع من ذكرنا والله أعلم .
قال محمد - رحمه الله تعالى - : إذا أسر المشركون عبداً لرجل من المسلمين فأحرزوه بدارهم ثم إن مولاه ارتد والعياذ بالله عن الإسلام ولحق بدار الحرب فأخذ المسلمون العبد المأسور من المشركين فهو فيء لمن أصابه قال الشيخ الإمام - رحمه الله تعالى - : قد بينا أن لحاق المرتد بدار الحرب إذا لم يتصل به قضاء القاضي في حكم الغيبة وإذا اتصل به بقضاء القاضي بحكم الغيبة فهو كالموت فكما أن بعد موت المأسور منه ورثته يخلفونه في أخذ العبد المأسور قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة فكذلك بعد قضاء القاضي بلحاقه ويستوي فيه إن أسر المشركون العبد قبل ردته أو بعد ردته قبل لحاقه أو بعد لحاقه قبل أن يقضي القاضي به ولو رجع المرتد مسلماً قبل أن@(5/191)
يقضي القاضي بلحاقه ثم وقع عبده في الغنيمة فإن وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة بمنزلة الغائب إذا رجع وإذا رجع المرتد مرتداً على حاله ثم لم يسلم حتى أسر العدو عبده ووقع في الغنيمة ففي القياس قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إن وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة لم يكن له أن يأخذه بالقيمة حتى ينظر أيسلم أم يقتل فإن أسلم كان له أني أخذه وإن قتل كان لورثته أن يأخذوه بالقيمة لأنه يقول : يتوقف تصرفات المرتد إلا أنه يصحح قبوله الهبة والأخذ قبل القسمة في معنى ذلك لأنه يعيده إلى ملكه مجاناً وفي قول محمد - رحمه الله تعالى - : له أن يأخذه بالقيمة بعد القسمة أيضاً فإنه يقول بنفوذ تصرفاته بعد الردة بعوض وبغير عوض وإن لم يأخذه بعد العلم به حتى قتل فلورثته أن يأخذوه لقيامهم مقامه بعد موته فإن رجع المرتد إلى دار الإسلام مرتداً بعد ما قضى القاضي بلحاقه فلم يسلم حتى وقع عبده المأسور في الغنيمة فلا سبيل له عليه لأنه ميت في قضاء القاضي ما لم يسلم فيكون حق الأخذ لورثته لا له حتى إذا وجدوه قبل القسمة أخذوه بغير شيء وبعدها بالقيمة
إن أحبوا فإن أدوا لا قيمة من مال ورثوه من المرتد ثم أسلم كان له أن يأخذ ما بقي في أيديهم من الميراث وكان له أن يأخذ العبد أيضاً ويعطيهم القيمة التي غرموا فيه لأنهم أعادوه بالأخذ إلى ملكه@(5/192)
الأول ولكنهم ما كانوا متبرعين فيما أدوا من الفداء لأنهم قصدوا به استخلاص الملك لأنفسهم فإن قال : إنما أعطوا القيمة من مالي فأنا لا أعطيهم ذلك لم يكن له ذلك لأن ما أعطوه مستهلك وحقه لا يعود في المستهلك فكان إعطاء ذلك من ماله أو من مال آخر لهم سواء .
ألا ترى : أنه لو اشترى العبد من العدو بعض الورثة وأدى الثمن من مال ورثه من المرتد ثم جاء المرتد بعد ذلك مسلماً فأراد أن يأخذ العبد بغير شيء لم يكن له ذلك ولكنه يأخذه بالثمن إن شاء أو يدع ولو سلم الورثة العبد لمن وقع في سهمه ثم جاء المرتد بعد ذلك مسلماً فأراد أن يأخذ العبد بغير شيء لم يكن له ذلك ولكنه يأخذه بالثمن إن شاء أو يدع ولو سلم الورثة العبد لمن وقع في سهمه ثم جاء المرتد بعد ذلك مسلماً فأراد الأخذ بالقيمة لم يكن له ذلك لأن الورثة صاروا كالمستهلكين لهذا الحق بالتسليم وفي المستهلك لا يعود حق المرتد ولأنه لم يرجع إلى الورثة على الميراث من المرتد .
ألا ترى : أن الورثة لو اشتروه من الذي وقع في سهمه ثم جاء المرتد مسلماً لم يكن له أن يأخذه منهم لأنهم أخذوه بملك مستقبل وكان ذلك دليل التسليم منهم فعند التصريح أولى ولو أن المسلمين أخذوا المرتد وعبده المأسور جميعاً قبل أن يقضي القاضي بلحاقه فأسلم المولى فلا سبيل له على العبد لأنه حين وقع في الغنيمة كان هو حربياً مأسوراً فلا يثبت له الأخذ في غنائم المسلمين ولا يثبت لورثته أيضاً لأن القاضي لم يقض بلحاقه بعد فينفذ ذلك وإن أسلم المولى لا يثبت له الحق فيه ألا ترى أنه لو لحق بعبد له إلى دار الشرط مرتداً مثله فأسرا جميعاً كان العبد فيئاً ولم يكن للمولى عليه سبيل فهذا أولى من ذلك فقد كان تملكه في دار الحرب ها والمأسور قبل لحاقه ما كان بملكه في دار الحرب وإن أراد الورثة أخذه ولم يجىء المرتد مسلماً حتى أخذ أسيراً فإن القاضي يقضي بلحاقه كما كان يقضي من قبل أن يؤسر لأن بالأسر لا يخرج هو من أن يكون حربياً وإنما يجعل كالميت عند قضاء القاضي باعتبار كونه حربياً فإذا قضى القاضي لهم بميراثه كان لهم أن يأخذوا العبد قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة وإن جاء المرتد@(5/193)
مسلماً قبل قضاء القاضي بميراثه أو بعبده فليس له ولا لورثته على أخذ العبد سبيل ها هنا أما له فلأنه كان حربياً حين وقع العبد في الغنيمة وأما لورثته فلأنهم إن أخذوه أعادوه إلى قديم ملكه فكان هو أحق به منهم وقد بينا أنه لا حق له ها هنا بخلاف ما إذا لم يأت هو مسلماً فإن الورثة هناك يأخذونه لأنفسهم وهم من أهل أن يثبت لهم الحق في الغنيمة ولو كانوا أخذوه قبل أن يجيء المرتد مسلماً ثم جاء هو مسلماً كان أحق به منهم لأنهم أعادوه إلى قديم ملكه فهذا مما هو قائم من تركته في أيديهم إلا أنه يعطيهم ما غرموا فيه من الغنيمة لأنهم ما كانوا متبرعين فيما أدوا وإن كان المرتد جاء مسلماً قبل وقوع العبد في الغنيمة ثم وقع في الغنيمة فهو أحق به قبل القسمة بغير
شيء وبعدها بالقيمة لأنه حين وقع في القسمة كان هو من أهل أن يثبت له الحق فيها فيمكن من إعادته إلى قديم ملكه بالأخذ ولو أخذ المولى مع العبد فحبسه الإمام حتى ينظر في أمره فجاء ورثته يطلبون العبد فإن كان الإمام قضى بلحاقه فلهم أن يأخذوه لأنه ميت بقضاء القاضي ما لم يسلم فإن أخذوه وباعوه ثم أسلم المرتد أو جاء مسلماً بعد هذا التصرف ليس له أن يأخذه من المشتري لأنهم صاروا مستهلكين بالبيع وقد بينا أن حق المرتد لا يعود في المستهلك ولو كان مكان المرتد مرتدة والمسألة بحالها لا سبيل لها على مالها ولا على عبدها المأسور إن كان أسر معها أو قبلها أو بعدها لأنها حين أسرت فقد صارت فيئاً وذلك بمنزلة موتها في حكم الملك أسلمت أو لم تسلم فكان حق الأخذ لورثتها فإن جاءت مسلمة ولم تؤسر فحالها كحال المرتد في جميع ما بينا لأنها بقيت حرة كما أن المرتد يبقى حراً سواء جاء مسلماً أو أسيراً فأسلم والله أعلم@(5/194)
.
باب شفعة المرتد
وإذا بيعت دار بجنب دار المرتد أو كان البيع قبل ردته ثم ارتد فلم يعلم بالبيع حتى لحق بدار الحرب ثم جاء مسلماً قبل أن يقضي القاضي بلحاقه فعلم بالبيع وطلب الشفعة فله أن يأخذها لأن اللحاق إذا لم يتصل به القضاء بمنزلة الغيبة والغائب على شفعته إذا حضر وإن قضى القاضي بلحاقه فلا شفعة لورثته لأن الشفعة لا تورث وإنما كان البيع قبل وجوب الحق لورثته ولا شفعة للمرتد إذا جاء مسلماً لأن القاضي حين قضى بلحاقه فقد جعل داره ملكاً لورثته وذلك يزيل جوازه فتبطل به شفعته .
قال : ولو كان المرتد لحق بدار الحرب قبل أن تباع الدار التي له فيها الشفعة ثم كان البيع بعد ذلك وجاء المرتد مسلماً قبل أن يقضي القاضي بلحاقه أو بعده فلا شفعة له لأن الدار يبعث وهو حربي لا أمان له ولا شفعة للحربي فيما يباع في دار الإسلام ألا ترى : أنه بعد اللحاق لو باع داره التي بها يطلب الشفعة أو وكل ببيعها لم يجز ذلك فيه تبين أنه صار حربياً وأنه لا يستحق الشفعة باعتبار هذا الملك فإن طلب ورثته أن يأخذوا بالشفعة فإن القاضي يقضي لهم بميراثه ويقضي لهم بالشفعة أيضاً لأن عند قضاء القاضي يثبت الملك لهم مستنداً إلى وقت لحاق المرتد بدار الحرب فظهر أن بيع الدار كان بعد ما وجب الحق لم فكان لهم الشفعة وهو نظير ما قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فيمن اشترى داراً بشرط الخيار ثم بيعت دار بجنب داره ثم أسقط خياره وعلم بالبيع فطلب الشفعة كان له ذلك فإن قيل : هناك المشتري كان متمكناً @(5/195)
من التصرف في المشتري وها هنا الورثة ما كانوا يتمكنون من التصرف في مال المرتد قبل قضاء القاضي بلحاقه قلنا : نعم ولكن استحقاق الشفعة باعتبار الملك لا باعتبار التمكن من التصرف وفي الموضعين الملك لم يكن موجوداً لمن يطلب الشفعة وقت البيع ولكن من سبب الملك كان تاماً وحق الغير كان منقطعاً ثم هناك استحقاق الشفعة بها إذا تم الملك له فيها فكذلك ها هنا ألا ترى : أن المكاتب لو مات عن وفاء وله ورثة أحرار ثم بيعت دار إلى جنب داره فلم يعلموا بالبيع حتى أديت المكاتبة ثم علموا به كان لهم الشفعة وإن لم يكونوا متمكنين من التصرف فيه عند البيع وإذا بيعت دار بجنب دار الحربي المستأمن في دارنا فله أن يأخذها بالشفعة لأنه ما دام في دارنا بأمان فهو في المعاملات كالذمي فإن لم يعلم بالبيع حتى رجع إلى داره ثم عاد مستأمناً فلا شفعة له لأنه لما رجع فقد صار كحربي لم يدخل في دارنا حتى الآن ولا شفعة للحربي في دار الإسلام ابتداء ولا بقاء
وكذلك لو بيعت الدار بعد ما رجع هو إلى دار الحرب فلا شفعة له لهذا المعنى قال : ولو بيعت دار بجنب دار المرتد قبل لحاقه بدار الحرب وطلب أخذها بالشفعة فله ذلك في وقل محمد - رحمه الله تعالى - وفي قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا شفعة له حتى يسلم بخلاف المرتدة وهذا بناء على تصرفات المرتد كما بينا ولو علم بالبيع في حال ردته فلم يسلم ولم يطلب عند ذلك الشفعة بطلت شفعته لترك الطلب بعد التمكن بأن يسلم والله أعلم .@(5/196)
باب من المرتدين وغيرهم من مشركي العرب في دار الحرب
وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب فحبلت منه هناك وولدت ثم ظهر المسلمون على الولد صغيراً فإنه فيء ويجبر على الإسلام لأنه قد كان أصل الإسلام لأبويه والولد تابع لأبويه في الإسلام ولو كان له أصل الإسلام بنفسه كان مجبراً على الإسلام إذا سبي فهذا مثله فإن ولد لولدهما ولد ثم ظهر المسلمون على ولد الولد كان فيئاً ولم يجبر على الإسلام لأن أصل الإسلام إنما كان لجده وقد بينا أن النافلة لا يكون مسلماً بإسلام الجد فلهذا لا يجبر على الإسلام ويكون حكمه كحكم سائر الكفار .
قال : وإذا لحق المرتد بماله ثم ظهرنا على ذلك المال فهو فيء ولا يكون للورثة لأن هذا مال حربي وحق الورثة إنما يثبت في المال الذي خلفه في دار الإسلام وأما ما لحق به معه في دار الحرب فلا يثبت فيه حق الورثة وإن كان لحق بدار الحرب ثم رجع فأخذ مالاً من ماله وأدخله دار الحرب ثم ظهر على ذلك المال رددناه إلى الورثة كما يرد على غيرهم في قول أبي حنفية - رضي الله تعالى عنه - وقال محمد - رحمه الله تعالى - : إن رجع قبل قضاء القاضي بلحاقه فلا سبيل للورثة على هذا المال وإن رجع بعد قضاء القاضي بلحاقه كان للورثة أن يأخذوه إذا وجدوه في الغنيمة قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة ولا خلاف بينهما في الحقيقة ولكن أطلق أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - الجواب وقسم محمد - رحمه الله تعالى - فإن كان عوده قبل قضاء القاضي بلحاقه فاللحاق الأول في حكم الغيبة@(5/197)
وإنما المعتبر اللحاق الثاني والمال فيه معه وكأنه لحق بدار الحرب بماله وأما إذا قضى القاضي بلحاقه فقد صار المال ميراثاً للورثة وهو حربي خرج فاستولى على مال الورثة وأحرزه ولو استولى غيره على هذا المال ثم وقع في الغنيمة كان لهم أن يأخذوه قبل القسمة بغير شيء وبعدها بالقيمة فهذا مثله والمكاتب المرتد اللاحق بدار الحرب إذا اكتسب مالاً ثم أخذ مع ماله فقتل فإنه يؤدي كتابته وما بقي ميراث لورثته بخلاف الحد لأنه في كسب المكاتب حق لمولاه وبعد لحاقه بدار الحرب الكتابة باقية فإذا كان الموت الحقيقي لا يبطل الكتابة فالموت الحكمي أولى وقيام حق المولى في كسبه يمنع كونه فيئاً فلهذا كان ما اكتسبه في دار الإسلام وفي دار الحرب سواء فأما الحربي فقد صار حربياً حين لحق بدار الحرب ولا حق لأحد من المسلمين فيما يكتسبه بعد ذلك فإذا وقع الظهور عليه كان فيئاً للمسلمين ولو أسلم عبد الحربي فقد بينا أنه إن رجع إلينا مراغماً أو أخذه المسلمون أسيراً فهو حر لإحرازه نفسه وإن خرج إلينا
بأمان في تجارة لمولاه لم يعتق لأنه ما قصد إحراز نفسه عن مولاه ولكنه لا يترك يرجع إلى دار الحرب لإسلامه بل يبيعه الإمام ويقف ثمنه حتى يجيء مولاه فيأخذه ولو لم يسلم العبد ولكن خرج مراغماً لمولاه ليكون ذمة لنا كان حراً لأنه يصير محرزاً لنفسه عن مولاه بهذا الطريق والذمة بمنزلة الإسلام في حصول الأحراز بها وإن خرج بأمان كان عبداً لمولاه لا يقبل منه الذمة ولكن يؤمر بالرجوع إلى دار الحرب للوفاء بالأمان وبعد ما قضى القاضي بلحاق المرتد يعتق أمهات أولاده ومدبره من ثلث ماله والمؤجل من الديون عليه يصير حالاً لأن ذلك بمنزلة موته فما يثبت من الحكم إذا مات حقيقة يثبت ها هنا وإذا لحق المرتد بدار الحرب ومعه عبد@(5/198)
مسلم أو أمة مسلمة فطاوعاه في الخروج أو أجبرهما لم يعتق واحد منهما فكانا مملوكين له وقيل : هذا قول محمد - رحمه الله - فأما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - ينبغي أن يحكم بحريتهما بمنزلة المستأمن في دارنا إذا اشترى عبداً مسلماً وأدخله دار الحرب لأن المرتد باللحاق صار حربياً لا أمان له وقيل : بل هذا قولهم جميعاً وأبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا يفرق ويقول : هناك المستأمن كان مجبراً على إزالة العبد المسلم عن ملكه ولكن كانت الإزالة بالبيع لحرمة الأمان فإذا زال ذلك بلحاقه تم الزوال الذي كان مستحقاً فأما هذا المرتد لم يكن مجبراً على إزالة هذا العبد عن ملكه قبل أن يلحق به دار الحرب فلا يزول ملكه أيضاً إذا أدخله دار الحرب لأنه صار حربياً وله عبد مسلم فهو بمنزلة الحربي إذا أسلم عبده فإن أخذ المرتد ومملوكه معه مسلم فالمملوك حر لأن إحرازه نفسه سبق إحراز المرتد المسلمين له كون يده في نفسه أقوى ولو كان مكان المرتد المرتدة فكذلك الجواب في الرقيق وإنما الفرق في نفسها المرتدة تكون فيئاً بخلاف المرتد ولو عاد المرتد مملوكه إلى الردة فأجابه إليها ثم وقع الظهور عليهما فالمملوك فيء لأنه صار محرزاً
نفسه ها هنا فإنه حربي ولكنه إن كان عبداً يقتل إن أبى الإسلام وإن كانت أمه لم تقتل ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام بمنزلة الحرة المرتدة .
ولو لحق المرتد بأم ولده أو مدبرته أو مكاتبة له مسلمة مكرهاً أو مطاوعة ثم ظهر المسلمون عليهم فهن حرائر على كل حال لأنه قد كان جرى فيهن العتق وقد بينا أن الأمة التي لم يجر فيها العتق إذا وقع الظهور عليها في هذه الحالة كانت حرة فالتي جرى فيها العتق أولى وإن كان حين أدخلهن دعاهن إلى دينه فارتددن والمسألة بحالها فهن فيء وما جرى فيهم من العتاق لا يبطل عنهن الفيء@(5/199)
لأن حالهم الآن لا يكون أعلى من حال الحرة المرتدة والحرة المرتدة تسبى ولو كان لحق معه مدبر أو مكاتب فارتدا معه أو بعدما أدخلهما ثم سبيا معه فإن المولى يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل وعتق مدبره لأن عتقه كان معلقاً بموته وقد وجد وعتق مكاتبه أيضاً لأن حق المولى قد سقط عن بدل الكتابة حين قتل ولم يصر ذلك فيئاً للغانمين لأنه دين في الذمة والدين لا يكون فيئاً فيسقط عن المكاتب أصلاً وبراءته عن بدل الكتابة توجب عتقه وإن أسلم المولى كان حراً ويعرض على المكاتب والمدبر الإسلام فإن أبيا قتلا وإن أسلما فهما على حالهما لمولاهما لأن التدبير والمكاتبة في المنع من التملك بالاسترقاق كالحرية ثم الحر المرتد لا يملك بالسبي فكذلك المكاتب والمدبر .
وإن كانا مسلمين على حالهما فهما حران حين وقع الظهور عليهما أسلم المولى أو قتل لأن العبد القن في مثل هذه الصورة يعتق فالمدبر والمكاتب أولى ولو لحقت المرتدة بمدبر أو مكاتب لها وهما مسلمان فالمولاة فيء إن أسلمت أو لم تسلم وهما حران لأنهم أحرزا أنفسهما عنها ولو كانا ارتدا معها فيهما حران أيضاً بخلاف ما سبق في المرتدة لأن المولاة هنا قد صارت أمة بالسبي فكأنها ماتت والمرتد لم يصر عبداً بالسبي فيكون عبيده على حالهم ووزان المرتدة المرتد إذا قتل وقد بينا أنهما يعتقان هناك ولو أن أهل بلدة ارتدوا وصارت دارهم دار حرب ثم ظهر المسلمون عليهم فأسلموا فالرجال أحرار والنساء من الحرائر وأمهات الأولاد والمكاتبات فيء للمسلمين أما عن حكم بحريتها فهي بمنزلة الحرة الأصلية فتكون فيئاً بالسبي بعد الردة وأما @(5/200)
المماليك الرجال المرتدون فهم على حالهم مدبرون ومكاتبون لأنهم ممن لا يجري عليهم السبي بخلاف العبيد والإماء وإن كان الرقيق لم يرتدوا فهم أحرار كلهم لأنهم صاروا محرزين أنفسهم على مواليهم فمن كان منهم عبداً أو أمة لم يجر فيه عتاق فله أن يوالي من شاء لأنه حر لا ولاء عليه وقد ثبت من أصلنا أن المراغم لا يكون عليه ولاء لأحد فأما المدبرون وأمهات الأولاد فولاؤهم لمواليهم لأنه قد جرى فيهم عتاقة وكانوا مستحقين للولاء بذلك والولاء كالنسب لا يحتمل الإبطال بعد ثبوته يوضحه : أن المرتدين بمنزلة مشركي العرب من حيث إنه لا يجري على رجالهم السبي وأنه لا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام وهذا الحكم ثبت في حق من أسلم من المدبرات وأمهات الأولاد والمكاتب كمشركي العرب ولو أن قوماً من المرتدين أو مشركي العرب سبوا جواري مسلمات من المسلمين فاقتسموهن ثم استولد كل واحد منهم جارية أو دبرها أو كاتبها ثم أسلموا كن إماء لهم على حالهن لأنهم ملكوهن بالإحراز فالجواري كلهن حرائر لأنهن أحرزن أنفسهن على مواليهن وقد كان الموالي أهل الحرب
فتملك أنفسهن بالإحراز وهذا لأنه ليس فيهن حق للمأسور منه بعد التدبير والاستيلاد والكتابة من الموالي فيتم إحرازهن لأنفسهن وكذلك لو كانوا مدبرين أو مكاتبين لنساء مرتدات .
لأن الموليات صرن فيئاً وذلك بمنزلة موتهن ولو كان الرقيق ارتدوا والمسألة بحالها فمن كان منهن أمة لرجل أو امرأة فهي فيء وتجبر على الإسلام ومن كان منهم عبداً فإن كان المرأة مرتدة أو مشركة عربية فهم أحرار يعرض عليهم السلام @(5/201)
فإن أسلموا وإلا قتلوا لأن المرتد منفي على حكم الإسلام ومن كان منهم عبداً لرجل مرتد عرض عليه الإسلام بعد ما يقتل مولاه فإن أسلم فهو حر وإن أبى قتل فإن أسلم المولى والعبد أيضاً وهو مدبر أو مكاتب فهو مملوك لمولاه على حاله وحالهم الآن كحال الذين ارتدوا مع الموالي في جميع ما بينا ولو اشترى المرتد أمة حربية فاستولدها ثم وقع الظهور عليها فهي تكون فيئاً لأن ما جرى فيها من العتاقة لا يقوى إذا كانت حربية ولا يكون حالها أقوى من حال حرية أصلية والحرة الأصلية تسترق إذا كانت حربية فأم الولد أولى فإن أسلمت قبل ظهور المسلمين عليهم فهي حرة حين ظهر المسلمون عليهم لأنها صارت محرزة نفسها على مولاها ولو تزوج مسلم أسر في دار الحرب أمة حربية وولد ابناً فهو مسلم عبد لمولى الأمة لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً ويتبع الأم في الرق والحرية .
فإن أسلم أهل الدار فلابن عبد لمولاه على حاله لأنه كان مالكاً له قبل الإسلام والإسلام سبب لتقرير ملكه وإن ظهر المسلمون على الدار فلابن حر من عشيرة أبيه لأنه صار محرزاً نفسه على مولاه بمنعة المسلمين فكان حراً ثم إن كان الأب عربياً فليس له أن يوالي أحداً وإن لم يكن عربياً فله أن يوالي من أحب ولو كان أبوه حربياً فأسره المسلمون وأعتقه من وقع في سهمه فإن ولاءه يتحول عنه وهذا بيانه في كتاب الولاء أو ولاء العتاقة أقوى من ولاء الموالاة وأن الأب يجر ولاء الولد إذا أعتق إلى مواليه إذا لم يكن على الولد ولاء عاقة مقصودة ثم استدل على أن المزاعم لا يكون عليه ولاء بحديث عبيد أهل الطائف فإنهم حين خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء مواليهم فطلبوا ردهم فقال رسول الله صلى الله عليه@(5/202)
وآل وسلم : أولئك عتقاء الله تعالى وهذا تنصيص على أنه لا ولاء عليهم لأحد والذي رويّ أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ولاءهم إلى مواليهم فالمراد ولاء الموالاة لهم أن يوالوا من أحبوا ويكون ولاؤهم لمواليهم الذين والوهم وإذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب ثم باعه من مسلم أو ذمي أو حربي وسلمه فهو حر في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وقد بينا هذه المسألة في السير الصغير إلا أن هناك أبهم الجواب وها هنا فسر فقال : بمجرد البيع لا يعتق ولكن إذا قبضه المشتري فحينئذ يعتق وهو الصحيح لأن المعتبر خروجه من يده ليعتق وإنما يتم ذلك بالتسليم لا بالعقد فإن العقد قبل التسليم حكمي ودار الحرب ليست بدار أحكام كدار الإسلام ثم هنا أشار إلى الفرق بين ما إذا كان المشتري مسلماً أو ذمياً وبين ما إذا كان حربياً فقال : المسلم والذمي من أهل دارنا فإذا أصاب العبد المسلم في يد من هو أهل دارنا فكأنه خرج إلى دار الإسلام فيكون حراً بمنزلة المزاعم وإذا كان المشتري حربياً فلو لم يصر في يد من هو من
أهل دار الإسلام فلا يعتق وأما على رواية السير الصغير لا فرق بينهما لأن العبد المسلم متى زال عن ملك مولاه الحربي يزول إلى الحرية وقد تم زواله عن ملكه بالبيع والتسليم في الفصلين والأصح ما ذكر ها هنا لأن المشتري إذا كان حربياً فهو بمنزلة البائع وقد كان هو مملوكاً في ملك البائع فكذلك في ملك المشتري ولو لحق المرتد بعبد ذمي له جائعاً أو كارهاًً فوقع الظهور عليهما فالعبد حر لا سبيل عليه لأن للذمي من الحرمة ما للمسلم وقد بينا أنه لو كان مسلماًً عتق بإحرازه نفسه فكذلك إذا كان ذمياً وإن نقض مع مولاه العهد كان هو فيئاً ملأنه صار حربياً لأنه لا أمان له في ملك الحربي فإذا وقع الظهور عليه كان فيئاً فإن كان مكان العبد مدبر أو مكاتب أو أم ولد فإن لم ينقضوا العهد حتى وقع الظهور عليهم فهؤلاء أحرار فإن نقضوا العهد فهم فيء لأنهم لما نقضوا العهد صاروا كأهل الحرب وهذا بخلاف ما إذا ارتدوا مع الموالي لأن المرتد لو كان حراً لا يكون فيئاً فكذلك إذا كان مدبراً أو مكاتباً والناقض للعهد من أهل الذمة لو كان فيئاً إذا وقع الظهور عليه بعد اللحاق بدار الحرب فكذلك إذا كان مدبراً أو مكاتباً ولو أن مدبراً أو@(5/203)
مكاتباً أو أم ولد لمسلم أبق إلى دار الحرب مرتداً أو مسلماً فاستعبدوه ثم ظهر المسلمون عليهم فهم رقيق لمولاهم على حالهم لأنهم ليسوا بعرضة للتملك بسائر الأسباب فكذلك بالقهر وإذا لم يملكهم المسلمون أيضاً فمن كان منهم رجلاً يعرض عليه السلام فإن أسلم دفع إلى مولاه وإلا قتل ومن كان منهم أنثى أجبروه على الإسلام ولم تقتل وإن كان الآبق عبداً ففيه خلاف معروف وإذا ارتد المسلم وارتد معه عبد له فلحقا جميعاً بدار الحرب ثم أعتق المرتد عبده هذا أو دبره أو كاتبه أو كاتب أمة فاستولدها ثم وقع الظهور عليهم فالمملوك فيء لمن أخذه لأنهما صارا حربيين وإعتاق الحربي عبده الحربي باطل إذا لم يخرجه من يده فكذلك التدبير والكتابة
والاستيلاد فيه لا يكون موجباً للعتق ولا يخرجه من أن يكون عرضة للتملك بالقهر ولو كان أهل الحرب أسروا عبداً فأحرزوه فصار لرجل منهم فأعتقه أو دبره أو كتابه ثم وقع الظهور عليه وحده أو مع مولاه كان حراً لا سبيل عليه لأنه مسلم أو ذمي على حاله بعد الأسر وقد صار محرزاً نفسه بمنعة المسلمين فكان حراً وإن لم يقع الظهور عليه حتى ارتد إلا أن ذلك بعد الموادعة أمضى فيه مولاه ما أمضاه فكذلك الجواب لأن إعتاق الحربي وتدبيره في عبده المسلم صحيح فإن المسلم ليس بمحل الاسترقاق بعد الحرية بخلاف الحربي فكان ما جرى فيه من العتاق في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء في منع جريان السبي عليه وإذا لم يجر عليه سبي كان حراً لا سبيل عليه إن سبي معه مولاه أو لم يسب فكأنه خرج مراغماً لمولاه فكان حراً ولو كان إنما أمضى فيه المولى ما أمضاه بعد ارتداد العبد فجميع ما أمضى فيه باطل وهو فيء يجبر على الإسلام لأنه بالردة صار حربياً وإعتاق الحربي عبده الحربي باطل والحاصل أنه إنما لا@(5/204)
يسترق من رجال المرتدين من له حرية الأصل فأما من لم يكن حر الأصل فهو محل للتملك بالقهر لأن حريتهم تتأكد بالإسلام وإنما لا ينقض بالاسترقاق الحرية المتأكدة بالإسلام أو بدار الإسلام ولو كان عبيد المرتدين قهروا مواليهم واستعبدوهم في دار الحرب ثم وقع الظهور عليهم فهم أحرار كلهم أما الموالي فلأنهم كانوا أحرار الأصل ولو سباهم غير عبيدهم فكذلك إذا أسرهم عبيدهم وأما العبيد فلأنهم حين قهروا مواليهم وغلبوا على الدار صاروا أحراراً بمنزلة المراغمين لمواليهم وهذا بخلاف أهل الحرب إذا قهرهم عبيدهم وغلبوا على دارهم لأن أهل الحرب عرضة التملك بالقهر إذا أسرهم غير عبيدهم فكذلك إذا أسرهم عبيدهم كانوا أرقاء لهم وكان العبيد أحراراً لقهرهم مواليهم وإحرازهم أنفسهم عليهم قال : ولو أسلم عبد الحربي ثم أرتد وكان أسره من المسلمين وهو مسلم ثم ارتد فأعتقه فإن عتقه باطل
لأنه بالردة صار حربياً فإن خلى سبيله حين اعتقه صار بعزل عن مولاه ومولاه غير قاهر له فهو حر الآن لأنه تم خروجه من مولاه وإنما كان لا يحكم بعتقه إذا لم يخرج من يده لكونه معتقاً له بلسانه مسترقاً بيده وقد زال هذبا المعنى فإن وقع الظهور عليهما فالمولى فيء لمن أخذه لأنه حربي محل للتملك بالقهر وأما العبد فهو حر لأنه قد نفذ العتق فيه وهو مرتد وللمرتد حكم المسلم في أنه لا يتملك بالقهر فإن أسلم كان حراً وإن أبى قتل ولو لم يخرجه المولى من يده حين أعتقه ثم وقع الظهور عليهما فالمولى فيء كما بينا وأما العبد فإن كان أسلم في دار الحرب فهو فيء أيضاً لأن حريته لم تثبت حين لم@(5/205)
يخرجه المولى من يده ويعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل وإن كان مأسوراً من دار الإسلام فإن وجده مولاه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعدها أخذه بقيمته إن أحب لأن إعتاق الحربي إياه بعد ردته كان باطلاً حين لم يخرجه من يده قال : وإن أعتق الحربي عبده الحربي وخلى سبيله ثم أسلم أهل الدار فهو حر لأنه تم خروجه من يده فصار حراً ثم يتأكد حريته بإسلامه وإن قهره مولاه بعد العتق فخاصمه العبد إلى ملكهم فحكم بعتقه ومنع مولاه منه فهو حر أيضاً وإن حكم برقه ورأى العتق باطلاً فهو عبد لمولاه لأنه إذا حكم ملكهم بعتقه فقد صار العبد محرزاً نفسه على مولاه بقوة ملكهم فيتأكد به عتقه ولو أن قوماً من أهل الحرب لهم عبيد مسلمون فارتدوا ثم هربوا منهم إلى دار حرب أخرى فكانوا فيها لا يقدر عليهم مواليهم فهم أحرار لأنهم صاروا كالمراغمين فإنه كما يتم إحراز العبد نفسه بدار الإسلام يتم إحرازه نفسه بدار حرب أخرى على ما بينا أن أهل الحرب أهل دور باختلاف المنعات لهم فإذا ظهر عليهم المسلمون كانوا أحراراً يعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا وإلا قتلوا لأن قبل هذا الأسر كانوا أحراراً والرجال من المرتدين الأحرار لا يجري عليهم سبي بقهر المسلمين إياهم ولو لم يخرجوا
إلى دار أخرى ولكن سباهم أهل تلك الدار وأحرزوهم ثم ظهر المسلمون عليهم كانوا فيئاً لأنهم كانوا مماليك قبل ظهور المسلمين عليهم فكذلك بعده وهذا لأنهم أهل حرب فلا يكونون محرزين أنفسهم بمنعة المسلمين ولو أعتق المسلم المستأمن فيهم عبداً حربياً فهو حر لا سبيل عليه لأن المسلم لا يكون مسترقاً لمعتقه وهذا بناء على قول محمد - رحمه الله تعالى - فأما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - كما لا ينفذ العتق من الحربي في عبده الحربي لا ينفذ من المسلم لأنه يعتبر@(5/206)
جانب المعتق ويقول : هو عرضة للتملك بالقهر في الوجهين فلا ينفذ فيه العتق .
وإن ظهر عليه المسلمون قلنا : إن كان العبد حربي الأصل فهو فيء لمن أخذه كغيره من أهل الحرب والولاء الثابت للمسلم عليه لا يمنع ثبوت الملك فيه للسابي لأن الولاء كالنسب وثبوت النسب من المسلم لا يمنع تملك الحربي بالقهر فالولاء أولى وإن كان العبد مرتداً في الأصل فهو حر لأن المرتد بعد ما نفذ فيه العتق لا يحتمل التملك بالقهر وإن أسلم أهل الدار فولاؤه لمولاه في قول محمد - رحمه الله تعالى - لأن العتق كان نافذاً فيه عنده والولاء لمن أعتق ثم يتأكد حكم ذلك الولاء بإسلامهم فلا يكون له أن يوالي أحداً وأما على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - كان عتق مولاه إياه باطلاً فإنما أعتق حين أسلم أهل الدار فله أن يوالي من أحب وهذا مشكل لأنه إن لم ينفذ فيه العتق عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فينبغي أن يكون عبداً لمولاه على حاله وإن نفذ فيه العتق فينبغي أن يكون ولاؤه لمولاه وقد ذكر الطحاوي - رحمه الله تعالى - أن الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في ثبوت الولاء بهذا العتق لا في أصل نفوذ العتق وقد بينا هذا في كتاب العتاق فأما الحربي إذا أعتق عبده الحربي في دار الحرب فذلك لا يكون موجباً للولاء له وله أن يوالي من شاء إذا أسلم خلافاً لما قاله أبو يوسف - رحمه الله - فإنه يجعل الولاء كالنسب وإذا كان النسب يثبت في دار الحرب فكذلك الولاء وهما يقولان الولاء بالعتق من حكم الإسلام وأحكام الإسلام لا تجري في دار الحرب فإن قيل : فقد جاء الإسلام وللناس موال أعتقوهم في الجاهلية وكانوا موالي لهم في الإسلام قلنا : أولئك عتقوا قبل تباين الدار وقبل أن يكون للمسلمين حكم غير حكم الكافرين فأما الآن فقد تفرقت الدار وصار لأهل كل دار حكم على حدة فما كان من حكم المسلمين وهو الولاء بالعتق لا يثبت فيما بين أهل الحرب قال : ولو كان للمسلم في دار الحرب مدبرة أو أم ولد حربية فظهر المسلمون عليهما لم تكن واحدة منهما
فيئاً لأن الرق فيهما باق@(5/207)
للمسلمين بخلاف ما إذا كان أعتقهما فإنه لم يبق فيهما رق لمسلم بعد الإعتاق وكانوا فيئا بمنزلة سائر الحرائر من أهل الحرب .
قال : ولو مات مسلم في دار الحرب وله مماليك مرتدون ثم ظهر عليهم المسلمون فمن كان منهم مدبراً فهو حر لا سبيل عليه لأنه عتق بموت المولى والمدبر بعد ما عتق لا يملكه المسلمون بالقهر وأما المدبرة وأم الولد فهما فيء لأنهما عتقتا بموته أيضاً فكان حالهما كحال الحرة المرتدة قال : وإذا لحق المرتد بدار الحرب ومعه عبد له مسلم ثم رجع العبد إلى دار الإسلام مراغماً لمولاه فهو حر لأن حق ورثته لم يثبت في هذا العبد وقد صار المولى حربياً وعبد الحربي إذا خرج مسلماً أو ذمياً مراغماً لمولاه كان حراً .
فإن خرج يتلصص في دار الإسلام فكذلك الجواب لأنه مراغم لمولاه غير محارب للمسلمين جهراً وإن كان خرج ليقاتل المسلمين فظهروا عليه فإن كان مسلماً فهو حر لأنه مراغم لمولاه .
ولو كان ذمياً فهو فيء لمن أخذه لأن قتاله المسلمين نقض منه للعهد وقد كان عتق بالمراغمة فهو حربي فيكون فيئاً لمن أخذه .
وإن لم يظفر بهما حتى رجعا إلى مولاهما ثم أسلم أهل الدار كانا عبيدين لمولاهما لأنهما ما كانا مراغمين له حين عادا إليه وإن خرجا بأمان إلى دار الإسلام فإنهما لا يتركان ليرجعا إلى مولاهما ولكنهما يباعان فيتوقف أثمانهما لأنهما ما خرجا مراغمين له ولأجل الأمان يجب مراعاة حرمة مالية الحربي فيهما وإذا خرج العبد الحربي بأمان مراغماً مولاه فقد عتق بالمراغمة وهو ذمة لنا لأنه قصد إحراز نفسه بدارنا وذلك دليل رضاه بأن يكون ذمة لنا وإن خرج لصاً أو مقاتلاً فظفرنا به فهو فيء لمن أخذه لأنه حربي لا أمان له فإذا حصل في دارنا فهو فيء لجماعة المسلمين في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وفي قول محمد - رحمه الله تعالى - هو فيء لمن أخذه والله أعلم .@(5/208)
باب ما تجوز عليه الشهادة بالردة وما لا تجوز
قال : - رضي الله عنه - : قد بينا أنه لا يقسم مال الأسير ولا تتزوج امرأته حتى يأتيهم بيان خبره لأنه بمنزلة المفقود وإذا كان لا يوقف على أثره فإن جاء ورثته بالبينة أنه ارتد في دار الحرب فإنه لا يقبل في ذلك إلا شهادة عدلين من المسلمين لأن إسلامه كان معلوماً وشهادة غير المسلم لا تكون حجة على المسلم بما هو دون الردة فبالردة أولى قال : فإذا شهد بذلك مسلمان قضى القاضي بوقوع الفرقة بينه وبين امرأته وقسم ماله بين ورثته لأنه كالميت حكماً عند قضاء القاضي فإن فعل ذلك ثم جاء الرجل مسلماً فأنكر ما شهد به عليه الشاهدان من الردة لم يبطل القاضي قضاءه بإنكاره لأنه قضى بالحجة على من هو خصم ولكنه يجعل إنكاره هذا إسلاماً مستقبلاً منه فلا يرد عليه امرأته ولا ماله إلا ما كان قائماً بعينه في يد وارثه كما هو الحكم في المرتد المعروف وكذلك لو كان مكان المسلم ذمي قامت البينة عليه بنقض العهد إلا أن شهادة أهل الذمة ها هنا مقبولة لأنها تقوم على الذمي بخلاف الأول وإن سمع القاضي الشهادة بردة الأسير فلم يقض بها حتى جاء مسلماً وجحد أن يكون ارتد فإنه يكون ماله له لأنه ما لم يتصل قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب لا يصير المال لورثته فإذا@(5/209)
جاء مسلماً كان المال على حاله إن كان ارتد أو لم يرتد ويسأل عن الشاهدين فإن عدلا أبان منه امرأته لأن ذلك حكم يثبت بنفس الردة ولا يحكم بعتق أمهات أولاده لأن ذلك لا يثبت بنفس الردة بل بالموت وإنما يكون للردة حكم الموت إذا اتصل بها قضاء القاضي فإن قيل : فإذا قضى القاضي بالفرقة ها هنا بينه وبين امرأته فقد قضى بردته في دار الحرب وذلك يوجب عتق أمهات أولاده قلنا : لا كذلك فالمرتد وإن لحق بدار الحرب لا يعتق أمهات أولاده ما لم يقض القاضي بلحاقه وها هنا القاضي لا يقضي إلا بالقدر المحتاج إليه وهو ما يقع به الفرقة بينه وبين امرأته وذلك لا يوجب عتق أمهات أولاده فأما الذمي إذا شهد عليه
الشهود بنقض العهد فرجع بغير استئمان جديد وقال : لم انقض العهد فإن ظهرت عدالة الشهود عند القاضي جعله فيئاً للمسلمين لأنه تبين امرأته بهذه الحجة لا محالة وذلك لا يكون إلا بعد نقضه العهد وتباين الدارين حقيقة أو حكماً فكان هذا منه نقضاً للعهد لا محالة ثم هو حربي في دارنا لا أمان له فيكون فيئاً وماله لورثته وإن كان دخل بأمان مستقبل فالقاضي يقضي بينه وبين امرأته لثبوت نقض العهد بالحجة عنده ولكن يرد ماله عليه بمنزلة ما لو كان نقض العهد منه معلوماً ثم عاد إلى ما كان عليه قبل أن يقسم القاضي ميراثه بين ورثته ولا يحكم ها هنا بعتق أمهات أولاده ومدبريه لأن بذلك لا يثبت بتباين الدارين بدون الموت بخلاف الفرقة بينه وبين امرأته قال : ولو شهد مسلمان على الأسير أنه طلق امرأته ثلاثاً فإن القاضي لا يقضي بشهادتهما لأنه غائب ولا يقضي على الغائب بالبينة بالطلاق والعتاق كما لا يقضى عليه بالمال ولكن يسع للمرأة فيما بينها وبين الله تعالى أن تعتد فتتزوج لأن هذه حجة يقضي القاضي بها بالفرقة لو كان الخصم حاضراً فيجوز لها أن تعتد بهذه الحجة فتتزوج بعد انقضاء عدتها فإن تزوجت ثم قدم الأسير فأنكر@(5/210)
الطلاق فإن أعادت البينة عليه بذلك انفذ القاضي عليه الطلاق وأجاز نكاحها وإلا ردها على الأسير وفرق بينها وبين الثاني لأنه لا يتمكن من القضاء بالفرقة تلك البينة قبل الإعادة فإنها قامت على غير خصم قال : ولو شهد الشاهدان بأنه مات أو قتل فإن القاضي يقضي بذلك لأن هذه البينة قامت على خصم فالورثة خصم ها هنا كما في فصل الردة بخلاف الطلاق وإن شهد عدل واحد بموته لم يقض القاضي بشهادته ولكن للمرأة أن تعتد وتتزوج ثم ذكر فصولاً فيما يجوز عليه الشهادة بالتسامع من الموت والنسب والنكاح وقد تقدم بيان هذه الفصول قال : ولو شهد على الأسير واحد أنه ارتد عن الإسلام نعوذ بالله منها فليس لامرأته أن تعتد وتتزوج على رواية هذا الكتاب بخلاف ما
ذكر في كتاب الاستحسان وقد بينا وجه الروايتين وإن شهد أنه طلقها ثلاثاً فكذلك الجواب في القياس لأن أصل النكاح لا يثبت إلا بشهادة الشاهدين فكذلك ما يزيله وفي الاستحسان هذا وشهادته بالموت سواء لأنه شهد بحل التزوج لها وذلك خبر ديني وقد بينا أن خبر مستنكر فأما الإخبار بالطلاق ليس بخبر مستنكر ولأن ردة الرجل يتعلق بها استحقاق القتل فلا يكون خبر الواحد حجة في أمر الدين ما لم يحضر خصم يجحده بخلاف الردة على هذه الرواية لأن ذلك خبر الواحد حجة فيها بخلاف الطلاق والأول أصح فقد ذكر أنه إذا شهد رجل وامرأتان عليه بالردة أو شهد شاهدان على شهادة شاهدين فإن القاضي يقضي به إلا في حكم استحلال القتل خاصة وكما أن بشهادة الواحد لا يثبت القتل فكذلك بالشهادة على الشهادة وبشهادة النساء مع الرجل وكذاك إن شهد رجل وامرأتان على الذمي بنقض العهد وهو يجحد أن يكون نقضه فإن الإمام لا يقتله بهذه الشهادة ولكنه يجعله ناقضاً للعهد فيما سوى@(5/211)
القتل من الأحكام حتى يجعله فيئاً لأن شهادة الرجال مع النساء حجة فيما يثبت مع الشبهات لا فيما يندرىء بالشبهات كما لو شهدوا بالسرقة وكذلك لو شهد رجل وامرأتان على نصراني أنه أسلم ثم ارتد وهو يجحد ذلك فإنه يجبر على الإسلام ولكن لا يقتل بتلك الشهادة لتمكن الشبهة في الحجة قال : ولو شهد ذميان على ذمي أنه أسلم ثم ارتد لم تقبل هذه الشهادة أصلاً لأن في زعم الشاهدين أنه مرتد والمرتد بمنزلة المسلم في أن شهادة غير المسلمين عليه لا تكون حجة وإذا كان في زعم الشاهدين أنه لا شهادة لهما عليه لم يجز القضاء بشهادتهما أصلاً والله أعلم .
باب المرتد يصيب الحد وغيره
قال الشيخ الإمام - رضي الله تعالى عنه - : الأصل أن ما لا ينافي الكفر وجوبه ابتداء لا ينافي بقاءه بطريق الأولى وما ينافي الكفر وجوبه ابتداء من العقوبات ينافي بقاءه لأن العقوبات تندرىء بالشبهات وأقوى الشبهة المنافي فكما أن اقترانه بالسبب الموجب ينافي وجوبه فاعتراضه بعد الوجوب قبل الاستيفاء ينافي نحو هذا وبعد انعدام التمكن من الاستيفاء لا يبقى واجباً إذا عرفنا هذا فنقول إذا أصاب المسلم مالاً أو شيئاً يجب به القصاص أو حداً أقر به ثم ارتد أو أصابه وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زماناً ثم جاء تائباً فهو مأخوذ بذلك كله لأن كونه محارباً للمسلمين لا ينافي وجوب هذه الحقوق عليه باكتساب أسبابها في دار الإسلام ألا ترى أن المستأمن إذا أصاب شيئاً من ذلك في دار الإسلام مكان مستوجباً هذه الحقوق لما فيها من حقوق العباد فكذلك المرتد إذا أصاب ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار@(5/212)
الحرب مرتداً ثم أسلم فذلك كله موضوع عنه لأنه أصابه وهو حربي في دار الحرب والحربي بعد الإسلام لا يؤاخذ بما كان أصابه حال كونه محارباً للمسلمين عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : الإسلام يجب ما قبله وقد بينا أن التأويل الباطل في حق أهل الحرب يلحق بالتأويل الصحيح في الأحكام فكما أن المسلم لا يستوجب شيئاً من ذلك بما يصيبه من أهل الحرب فكذلك الحربي لا يستوجب ذلك والمرتد بعد اللحاق حربي وما أصاب المسلم من حد لله في زنا أو سرقة أو قطع طريق ثم ارتد أو أصابه بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء تائباً فذلك كله موضوع عنه لأن كونه حربياً يمنع وجوب الحدود التي هي لله تعالى عليه بارتكاب سببها في دار الإسلام كما في حق المستأمن فيمنع البقاء إذا اعترض أيضاً إلا أنه يضمن المال في السرقة وإن أصاب دماً في قطع الطريق فعليه القصاص وحاله في ذلك كحال المستأمن لأن ما كان فيه حق العباد فهو مأخوذ به وما أصاب في قطع الطريق من
القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله إن أصابه بعد الردة لأن التعاقل باعتبار التناصر وأحد من المسلمين لا ينصر المرتد فإن التزم المسلم حد الخمر والسكر ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحاق بدار الحرب فإنه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب هذا الحد ابتداء ولهذا لا يجب على الذمي والمستأمن فكذلك اعتراضه بعد وجوبه يمنع البقاء وكذلك إن أصابه وهو مرتد محبوس في يد الإمام ثم تاب فإنه لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر لأنه أصابه وهو كافر وهذا لأن الكافر يعتقد إباحة الخمر والحدود شرعت زواجر عن ارتكاب أسبابها فلا بد أن يكون المرتكب معتقداً حرمة السبب حتى@(5/213)
تشرع الزواجر في حقه وهو مأخوذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى لاعتقاده حرمة سببه وتمكن الإمام من إقامته لكونه في يده وإن لم يكن في يد الإمام حين أصابه ثم أسلم قبل اللحاق بدار الحرب فذلك موضوع عنه أيضاً لأنه أصابه وهو محارب وهذا لأنه بنفس الردة يعتقد محاربة المسلمين إذا تمكن من ذلك إلا أنه ما دام محبوساً عند الإمام لا يتهيأ له المحاربة فلا يجعل حربياً فأما إذا كان بالبعد من الإمام بحيث لا تصل يده إليه فالمحاربة تتهيأ له وهو معتقد لذلك فكان محارباً حكماً كاللاحق بدار الحرب فإن التزام قصاصاً أو حد قذف ثم ارتد ولحق بدار الحرب ثم قال للمسلمين : أصالحكم على أن تؤمنوني على ما أصيب فليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يؤمنه على ذلك لأن هذا شرط مخالف لحكم الشرع قال صلى الله عليه وسلم : كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ولأن فيما لزمه حق العباد فالقصاص محض حق الولي ليس لغيره ولاية الإسقاط فيه وفي حد القذف حق المقذوف وإذا كان هو لا يملك إسقاطه عنه فكيف يملك غيره ذلك فظهر أن من يؤمنه على هذا فهو ملتزم ما لا يمكن الوفاء به فإن آمنه الإمام على هذا فليس ينبغي أن يفي له به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ردوا الجهالات إلى السنة وقد كان هذا جهلاً منه
حيث شرط أن يترك له ما هو من مظالم العباد فينبغي أن يقيم عليه ما لزمه إذا طلبه الخصم ولا يلتفت إلى هذا الشرط فإن قال : إن لم تفوا لي بما آمنتموني عليه فردوني إلى مأمني لم يفعل أيضاً لأنه مرتد تمكن منه الإمام فلا يجوز له أن يمكنه من أن يعود حرباً للمسلمين بحال وإن دعا إلى هذا الصلح وعلم المسلمون أنه لا يخرج إليهم إلا بالإجابة إلى ذلك فينبغي لهم أن يعاملوه على أمر لا يكذبون فيه وهو يرى أنهم قد أعطوه ما أراد@(5/214)
يعني ينبغي أن يستعملوا معاريض الكلام فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب وذلك جائز في حق المحاربين قال صلى الله عليه وسلم : الحرب خدعة وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ذلك يوم الخندق بقوله : فلعلنا أمرناهم بذلك وهذا لأن الكذب لا رخصة فيه فلا ينبغي للمسلم أن يتعمد الكذب بحال من الأحوال فإن أبى إلا أن يعطوه ذلك نصاً أعطوه ذلك وزادوا في الصلح كلمة تنقض الصلح على وجه لا يفطن المرتد بها فيحصل المقصود بهذا الطريق والأصل فيه ما روي أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : نؤمن بشرط ألا ننحني أي : لا نركع ولا نسجد فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وكتب في آخر كتاب الصلح على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ثم أمرهم بالصلاة ورأى هذه الكلمة ناقضة للكلام الأول فإن لم يقدروا على هذا أيضاً وأعطوه الصلح على ما أراد فليس ينبغي لهم أن يفوا بذلك أيضاً لأن ذلك حرام شرعاً وما تقدم منهم من الشرط كان حراماً أيضاً وارتكاب حرام لا يطرق إلى ارتكاب حرام آخر شرعاً وكذلك لو طلب قوم من المرتدين أن يؤمنوهم على أن يكونوا ذمة يؤدون الخراج فلا ينبغي أن يؤمنوهم على ذلك لأن قتل المرتد مستحق حداً ولا يجوز ترك إقامة الحد ولا تأخيره بمال ولأن المقصود من عقد الذمة مع أهل الحرب ليس هو المال بل التزام الحربي أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات وأحكام الإسلام
لازمة على المرتد فلا يكون في إعطاء الأمان له غرض سوى إظهار الرغبة في المال وذلك لا يجوز ردهم إلى مأمنهم بحال لأن القتل مستحق عيناً على المرتد إن لم يسلم قال صلى الله عليه وآله وسلم : من بدل دينه فاقتلوه وإن طلبوا الموادعة فقد تقدم بيان هذا@(5/215)
الفصل أنه ينبغي للإمام أن يوادعهم إلا عند الضرورة بأن كان لا يقوى على قتالهم وعند ذلك لا نأخذ منهم جعلاً على الموادعة لأن ذلك يشبه الخراج فإن أخذه منهم جعل ذلك في بيت المال لأنه مال المرتد وكل مال المرتدين هو فارغ عن حق ورثته فيصيبه بيت المال وهذا بخلاف الخوارج فإنه إذا أخذ منهم على الموادعة مالاً جعل ذلك المال محبوساً عنده حتى يتوبوا ثم يرد عليهم لأن مال الخوارج لا يكون غنيمة لأهل العدل بحال بخلاف أموال المرتدين بعدما صاروا محاربين وعلى هذا المستأمن في دارنا إذا التزم ذلك ثم رجع إلى دار الحرب وسأل المسلمين أن يؤمنوه على أن يسلم فلا يأخذه بذلك لأن هذا من مظالم العباد فالمستأمن فيه والمرتد سواء ولو أخذه المسلمون أسيراً بعد ما عاد إلى دار الحرب فقد بطل عنه كل شيء أصابه إلا القصاص في النفس لأنه صار رقيقاً والرق ينافي وجوب القصاص في الطرف ابتداء فينا في البقاء أيضاً بخلاف القصاص في النفس فالرق لا ينافي وجوبه ابتداء وأما ما كان أصاب من مال فالدين لا يجب في ذمة العبد إلا شاغلاً لمالية رقبته فلا يبقى إلا بهذه الصفة ولا وجه لشغل مالية رقبته بهذا الدين لأنه حادث للسابي بعد اكتساب سبب وجوب الدين فلهذا يسقط عنه وكذلك الخوارج إذا أصابوا شيئاً من ذلك قبل أن يكون لهم منعة ثم صاروا أهل منعة فسألوا الصلح على ألا يؤاخذا بشيء مما أصابوا فلا ينبغي أن@(5/216)
يصالحهم على شيء من ذلك إلا أن في هذا الموضع ما أصابوا من حد الخمر أو غيره من الحدود فذلك موضوع عنهم بعد ما صاروا محاربين إذا تابوا ولا بأس بأن يصالحهم الإمام على أن يضع ذلك عنهم لأنه شرط موافق لحكم الشرع وكذلك
ما أصابوه بعد ما ظهر لهم المنعة فذلك موضوع عنهم إذا تابوا إلا أنهم يطالبون برد ما كان قائماً بعينه في أيديهم من الأموال فإن طلبوا الصلح على أن يترك ذلك لهم فلا ينبغي للإمام أن يصالحهم على ذلك مولو فعل لم يفي لهم بهذا الشرط وأمرهم برد ما وجدوه قائماً بعينه في أيديهم من مال مسلم أو معاهد وإنما لا يؤاخذهم بالحدود التي هي لله تعالى لأن تقادم العهد يمنع إقامة هذه الحدود على ما أشار إليه عمر - رضي الله تعالى عنه - بقوله : أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن ومن أبين أسباب التطاول خروجه من حكم أهل العدل ولو كان المرتد إذا أصاب شيئاً مما فيه مظالم العباد في حصن من حصون أهل الحرب فطلب الأمان على أن يترك ذلك له ليفتح الحصن للمسلمين فهذا وما سبق سواء لأنه لا رأي للإمام في إسقاط ما هو من مظالم العباد ويستوي فيه حالة الحاجة وغيرها إلا أنه إن كان استهلك مالاً ولم يصب دماً فرأى الإمام النظر للمسلمين في أن يعطيه ذلك فلا بأس بإعطاء الأمان له على ذلك ثم يؤدي ذلك المال إلى صاحب الحق من غنيمة المسلمين لأن للإمام ولاية التخصيص بشيء من الغنيمة لمن يفتح الحصن للمسلم فكان له أن يفعل ذلك بالمرتد إذا وعد أن@(5/217)
يسلم أو يفتح الحصن للمسلمين بخلاف القصاص وحد القذف فإن الإمام لا يتمكن من إيفاء ذلك عنه من مظالم المسلمين لصاحب الحق فلا ينبغي له أن يعطيه الأمان على ذلك والله أعلم بالصوب .
باب ما يصدق فيه الرجل
قال : وإذا رجع الأسير إلى دار الإسلام فخاصمته زوجته إلى القاضي وقالت : إنه ارتد عن الإسلام فبنت منه وقال الأسير : أكرهني ملكهم وقال : لأقتلنك أو لتكفرن ففعلت ذلك مكرهاً فالقول في ذلك قول المرأة ولا يصدق الأسير إلا ببينة لأن السبب الموجب للفرقة وهو إجراء كلمة الشرك على اللسان قد ثبت بتصادقهما عليه ثم الأسير يدعي سبباً خفياً ليغير به حكم السبب الظاهر فلا يصدق على ذلك إلا بحجة يوضحه : أنه أضاف السبب الموجب للفرقة إلى حالة غير معهودة وهو الإكراه وفي مثله لا يقبل قوله إلى بحجة كما لو قال : كنت طلقتها ثلاثاً وأنا مجنون وهو لم يعرف جنونه في وقت قط لم يقبل قوله إلا بحجة فإن شهد الشهود أن الملك قال له : لأقتلنك أو لتكفرن ولا يدري أظفر عند ذلك أو لم يكفر وقال الأسير : فإني إنما أجريت@(5/218)
كلمة الكفر عند ذلك لا قلبه ولا بعده فالقول قول الأسير لأن بشهادة الشهود صارت تلك الحالة معهودة ومتى أضاف الزوج سبب الفرقة إلى حالة معهودة تمنع وقوع الفرقة كان القول قوله كما لو قال : طلقتها ثلاثاً وأنا صبي وهذا لأن الحالة إذا كانت معهودة فالظاهر يشهد له وهو في الحقيقة منكر للفرقة فالقول قول المنكر الذي يشهد له الظاهر وإن لم تكن الحالة معهودة فهو مدع للمانع وذلك حادث فلا يقبل قوله إلا بحجة وكذلك إن كان خاصمه في ذلك غير امرأته من المسلمين لأن هذه الحرمة حق الشرع فلكل مسلم أن يتكلم فيه على وجه الحسبة قال : ولو ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها ثلاثاً وقال الزوج أصابني برسام أو وجع أذهب عقلي أو جنون فكان ذلك مني في هذه الحالة فإن لم يعرف أن ذلك أصابه فالقول قولها وإن عرف أن ذلك أصابه فالقول قوله فإن شهد الشهود أنهم رأوه مجنوناً مرة فالقول قوله أيضاً لأن الجنون له صار معهوداًً بهذه الشهادة ومتى كانت الإضافة إلى حالة معهودة تنافي الفرقة كان مقبول القول في ذلك مع يمينه .
وكذلك لو قال : طلقتها وأنا نائم فالقول قوله ها هنا لأن حال النوم حال معهود لكل واحد كحالة الصغر فإضافته إلى تلك الحالة تكون إنكاراً معنى ألا ترى أنه لو قال : كنت طلقتها قبل أن أخلق أو قبل أن أتزوجها كان القول قوله وكان ذلك منه إنكاراً للطلاق فكذلك ما سبق ولو قال : شربت حتى سكرت فذهب عقلي فطلقتها أو ارتددت عن الإسلام ففي باب الطلاق هي بائن منه صدقته في ذلك أو كذبته لأن السكر لا يمنع وقوع الطلاق فالحالة التي أضاف الطلاق إليها غير مؤثرة في المنع من الفرقة بخلاف النوم وهذا لأن السكران عقله معه إلا أنه يغلب عليه السرور فيمنعه من استعمال عقله وذلك لا يخرجه من أن يكون عاقلاً بخلاف ما إذا@(5/219)
شرب البنج حتى ذهب عقله فإن ذلك يزيل عقله بخلاف النائم فإنه في حال نومه في حكم من لا يعقل شرعاً وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : رفع القلم عن ثلاثة .
الحديث وحال السكران كحال ابن السبيل المنقطع عن ماله فإن الزكاة تجب في ماله وإن كانت يده لا تصل إليه بخلاف من هلك ماله حقيقة أو حكماً بأن غصبه غاصب وجحده فأما في الردة فإن عرف منه السكر في وقت بهذه الصفة فالقول قوله وإن لم يعلم لا يقبل قوله في ذلك وحكم الردة يبتنى على الاعتقاد فالسكران لا يكون معتقداً لما يقول فمتى أضاف إلى حالة غير معهودة لم يقبل قوله ومتى أضاف إلى حالة معهدوة كان مقبول القول فيه ولا ينظر إلى تصديق المرأة وتكذيبها في ذلك لأن هذه الحرمة محض حق الشرع ولو أن امرأة قالت للقاضي : إني سمعت زوجي يقول : المسيح ابن الله وقال الزوج : إنما قلت ذلك حكاية عمن يقول هذا فإن أقر أنه لم يتكلم إلا بهذه الكلمة بانت منه امرأته لأن ما في الضمير لا يصلح أن يكون ناسخاً لحكم ما تكلم به فإن ما في ضميره دون ما تكلم به والشيء لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه ألا ترى أنه لو طلق امرأته ونوى الاستثناء بقلبه كان الطلاق واقعاً لهذا المعنى ويستوي إن صدقته المرأة فيما قال أو كذبته .
ولو قال : إني وصلت كلامي فقلت : النصارى يقولون : المسيح ابن الله أو قلت : المسيح ابن الله قول النصارى ولم تسمع المرأة إلا بعض كلامي وقالت المرأة : كذب فالقول قول الزوج مع يمينه بخلاف ما سبق لأن الزوج ها هنا ما أقر بالسبب الموجب للفرقة فإن عين هذه الكلمة ملا تكون موجبة للفرقة فيكون هو في الحقيقة منكراً لما تدعيه من السبب الموجب وهو نظير ما لو قال : كنت قلت لها : أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله وكذبته في الاستثناء فهنالك القول قول الزوج للمعنى الذي بينا فهذا مثله وكذلك لو قال : قد أظهرت قولي المسيح ابن الله وأخفيت ما سوى ذلك إلا أني تكلمت به موصولاً بكلامي فالقول قوله في ذلك @(5/220)
إلا إن شهد الشهود عليه أنهم سمعوه قال : المسيح ابن الله ولم يقل غير ذلك فحينئذ القاضي يبين منه امرأته ولا يصدق على ذلك في الحكم لأن الشهود أثبتوا السبب الموجب للفرقة وقوله غير مقبول فيما يبطل شهادة الشهود بخلاف الأول فهناك السبب للفرقة إنما ظهر بقوله وقد ظهر موصولاً بكلامه ما ينافي وقوع الفرقة فلهذا جعلنا القول قوله فإن قيل : كيف يقبل قول الشهود إنه لم يقل شيئاً غير ذلك وهذه شهادة منهم على النفي والشهادة على النفي لا تقبل قلنا : لأن وقوع الطلاق ليس بهذه الشهادة بل بما سبق مما هو إثبات وهو بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا أخ الميت ووارثه لا نعلم له وارثاً غيره .
يوضحه أن قولهم : لم يقل شيئاً غير ذلك فيه إثبات أن ما يدعي من الزيادة في ضميره لا في كلامه فذلك لا يصلح ناسخاً لموجب كلامه ولأنهم في شهادتهم أثبتوا سكوته بقولهم : لم يقل شيئاً غير هذا والسكوت له أمر مثبت معاين حتى لو قال الشهود : لا ندري أقال ذلك أو لم يقل إلا أنا لم نسمع منه غير قوله : المسيح ابن الله فالقول قوله : ولا يفرق بينه وبين امرأته لأن ها هنا الشهود ما أثبتوا أن الزيارة في ضميره لا في كلامه وإنما قالوا : لم نسمع وكما لم يسمعوا ذلك منه فالقاضي لم يسمع أيضاً وهم نسبوا أنفسهم إلى الغفلة وعدم السماع فكان قوله وعلى هذا لو ادعى التكلم بالاستثناء في الخلع أو التكلم بالشرط أو الاستثنناء في الطلاق موصولاً كان القول قوله فإن شهد الشهود عليه بخلع أو طلاق بغير ذكر الاستثناء نحو أن شهدوا وقالوا : خالع أو طلق بغير ذكر الاستثناء أو طلق ولم يستثن لم يقبل قوله في ذلك وإن قال الشهود : لم نسمع منه غير كلمة الطلاق أو الخلع فالقاضي لا يفرق بينهما وكان القول قوله في ذلك إلا أن يظهر منه ما يكون دليل صحة الخلع من قبض البدل أو سبب آخر فحينئذ لا يقبل قوله في ذلك وإنما تبتني هذه الفصول كلها على الحرف الذي بينا قال : ولو أن رجلاً عرف أنه جن مرة فقالت امرأته : إنه ارتد البارحة أو طلقني ثلاثاً فقال الرجل : عاودني الجنون البارحة فقلت ذلك وأنا مجنون@(5/221)
فالقول قوله مع يمينه لأن الجنون إذا وجد مرة فهو لازم أبداً ولهذا كان عيباً لازماً إذا وجد مرة في حالة الصغر أو الكبر ومن تأمل في حماليق عني الذي جن مرة تبين له بقاء أثر الجنون فيه فهو بهذه الدعوى إنما يضيف كلامه إلى حالة معهودة وإن لم يعرف بالجنون قط لم يقبل قوله لما قلنا فإن لم يفرق القاضي بينه وبين امرأته حتى جن ثم أفاق فقال : قد كنت هكذا قبل اليوم لم يصدق على ذلك وبانت منه امرأته لأن الجنون مما يحدث فحدوثه لا يكون دليلاً على أنه كان موجوداً فيما
مضى فأما بعدما علم وجوده فهو لا يزول على وجه لا يبقى له أثر فلهذا قبلنا قوله هناك ولم نقبله ها هنا وكذلك النوم ولو ادّعت أنه طلقها وقت العصر ثلاثاً فقال الزوج : كنت نائماً في تلك الحالة فالقول قوله لأن النوم يعتري المرء عادة في كل وقت وهو ما يذهب ويعود كالجنون فيكون به مضيفاً إلى حالة معهودة ولو علم أنه سكر منذ شهر حتى ذهب عقله فقالت المرأة : إنه ارتد البارحة وقال الزوج : قد سكرت البارحة كما سكرت منذ شهر فارتددت وأنا لا أعقل فإنها تبين منه ولا يصدق على ما قال لأن السكر لا يعود بعد زوال سببه إلا باكتساب سبب جديد لذلك واكتساب ذلك السبب منه البارحة غير معلوم فلا يقبل قوله إلا بحجة وعلى هذا لو علم أن المشركين أكرهوه على الكفر فكفر مرة ثم ادّعت عليه أنه كفر بعد ذلك فصدقها بالكفر الثاني وذكر أنهم أكرهوه ثانياً لا يقبل في ذلك قوله لأنه يدعي سبباً متجدداً غير معلوم وكذلك لو علم أنه كان مبرسماً منذ سنة ثم قال : أصابني ذلك مرة أخرى أو علم أنه شرب البنج منذ سنة ثم قال : قد شربته البارحة فذهب عقلي لم يصدق على ذلك@(5/222)
بحجة لأن هذا كله مما لا يعود إلا باكتساب سبب مستقل بخلاف الجنون ولأن هذا كله مما يزول على وجه لا يبقى له أثر وعلى وجه لا يعود قط بخلاف الجنون والنوم فبهذا الحرف تبين الفرق بين هذه الفصول والله أعلم .
قال : وإذا خلوا سبيل الأسير في دار الحرب على أن يعطيهم كفيلاً بنفسه على أن لا يخرج من بلادهم فكفل به مسلم أو ذمي أو حربي ثم قدر على الخروج فليس ينبغي له أن يخفر المسلم أو الذمي وله أن يخفر الحربي فيخرج لأنهم يقتلون الكفيل أو يعذبونه إذا خرج هو وقد كان له أن يقتل الحربي ويأخذ ماله فيخرج فيكون له أن يعرضه للقتل أيضاً بالخروج وما كان له أن يقتل المسلم والذمي لينجو بنفسه فكذلك لا يكون له أن يعرضهما للقتل بخروجه وإن كان الأسير مستأمناً فيهم فمنعه بعضهم من الخروج حتى أعطاه كفيلاً بهذه الصفة فليس ينبغي له أن يخفر كفيله حربياً كان أو غير حربي لأنه ليس للمستأمن أن يقتل الحربي ويأخذ ماله فيخرج فلا يكون له أن يعرضه للقتل أيضاً وهذا لأنه لا أمان بينهم وبين الأسير وقد ثبت بينهم وبين المستأمن الأمان فإنهم آمنوه وهو قد التزم لهم ألا يخونهم فكانوا في أمان منه أيضاً ولكن هذا الأمان مقصور عليه خاصة فلهذا لا يكون له أن يخفر كفيله وإن كان المسلم مظلوماً فيهم فكفل به مسلم أو ذمي أو حربي على أني حضره يوم كذا ليقتلوه فلا بأس بأن يخفر كفيله ويخرج سواء كان أمره بالكفالة أو لم يأمره بذلك لأنه في الحضور@(5/223)
يكون معيناً على نفسه ملقياً بيده إلى التهلكة ولا رخصة في ذلك وإذا خرج هو فقتلوا كفيله لم يكن هو معيناً على قتله فإن لم يخرج حتى يحضره الكفيل فيقتلوه كان معيناً على نفسه فلهذا كان له أن يخرج وأكثر ما فيه أنه قد تحقق خوف الهلاك على أحدهما والمسلم في هذا مأمور بأن يبدأ بدفع سبب الهلاك عن نفسه ولو قالوا : أعطنا كفيلاً بنفسك حتى نحضرك يوم كذا فنأخذ منك المال أو حبسناك أو قيدناك فأعطاهم كفيلاً مسلماً أو ذمياً على هذا الشرط فليس له أن يخفر كفيله ها هنا لأنه أدخله في هذه العهدة والتزم له الوفاء حين أمره بالكفالة عنه والمؤمنون عند شروطهم بخلاف ما سبق فهناك إنما يخاف على نفسه شيئاً لا يحل له أني أذن فيه بحال
وأن يباشره اختياراً بنفسه فلا يجوز له أن يعينهم على ذلك بترك الخروج بعد التمكن منه وها هنا إنما يخاف ما يجوز له أني أذن فيه من نفسه وأن يباشره من بذل مال أو رضاء بالحبس أو بالقيد فلهذا لا ينبغي له أن يغدر بكفيله وعلى هذا لو أن مسلمة فيهم أعطت كفيلاً مسلماً أو ذمياً على أن يحضرها غداً ليفجر بها رجل منهم أو يتزوجها وهي ذات زوج فلا بأس بأن تخفر كفيلها لأن ما تخاف منه أمر لا يجوز أن تأذن فيه بحال فكان هذا والقتل سواء وإن لم تكن ذات زوج فأرادوها على أن يتزوجها رجل منهم فإن كان ذلك الرجل مسلماً فليس لها أن تخفر كفيلها وإن كان ذلك الرجل كافراً فلها أن تخفر كفيلها لأن الزوج إذا كان مسلماًً فهذا العقد مما يجوز لها أن تباشره وأن تأذن فيه وإذا كان الزوج كافراً فليس لها أن تباشره ولا أن ترضى به بحال ولو أرادوا منه أن يكفر بالله أو يقتلوه فأعطاهم كفيلاً بنفسه على أن يوافي به غداً فلا بأس بأن@(5/224)
يخفر كفيله ها هنا لأن حرمة الكفر حرمة باتة مصمتة لا تنكشف بحال فهذا مما لا يحل أن يأذن فيه من نفسه ويرضى به بمنزلة القتل ألا ترى : أنه لو قيل له : لتكفرن بالله أو لنقتلن هذا الرجل لم يسعه أن يكفر بالله إذا خاف القتل على غيره وإنما يسعه إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان إذا خاف القتل على نفسه وكذلك ها هنا إنما يخاف لقتل على غيره فلا بأس بأن يهرب من الشرك ويدع كفيله ولو قالوا : اقتل هذا المسلم أو المعاهد أو لنقتلنك فأعطاهم كفيلاً بنفسه على أن يحضره غداً ليفعل به ذلك كان له أني خفر كفيله فهذا أولى لأن الإقدام على قتل المسلم لا يحل له أصلاً سواء كان يخاف الهلاك على نفسه أو على غيره ولو قالوا للأسير نخلي سبيلك على أن تؤمننا فلا تغتال أحداً منا ولا تأخذ لأحد منا مالاً ولا تخرج من بلادنا فحلف لهم على هذا وخلوا سبيله فلا بأس بأن يخرج ويكفر يمينه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : فليأت الذي هو خير
وليكفر يمينه إلا أنه لا ينبغي له أن يغتالهم فيقتل أحداً منهم أو يأخذ له مالاً لأنه حين أعطاهم العهد على هذا فقد صار بمنزلة المستأمن فيهم وقد بينا أن المستأمن لا يحل له أن يغتال أحداً منهم ولا أن يأخذ شيئاً من أموالهم ولكن يجوز له أن يخرج من دارهم بغير علمهم ورضائهم فكذلك الأسير إذا أعطاهم العهد على هذا فإن أعطى الأسير مسلماً أو ذمياً كفيلاً بنفسه على ألا يخرج ثم طاوعه الكفيل فخرجا جميعاً فلا بأس بهذا لأنه إنما كان ممنوعاً من الخروج لحق الكفيل فإنه غير ملتزم لأهل الحرب شيئاً فإذا ساعد الكفيل على الخروج فقد زال المانع فإن قيل : كيف يلزمه مراعاة حق الكفيل وقد كان أهل الحرب ظالمين في حبسه وللمظلوم أن يدفع الظلم عن نفسه بما يقدر عليه قلنا : نعم ولكن ليس للمظلوم أن يظلم غيره فإذا أخفر كفيله كان ظالماً فإنه اعتمد في الكفالة أمره ألا ترى أن مسلماً في دار الإسلام لو قصده ظالم بظلم فأعطاه كفيلاً بنفسه لم يحل له أن يخفر كفيله وإن كان يعلم أنه@(5/225)
مظلوم فهذا له ولو قالوا له : نخلي سبيلك ونؤمنك وتؤمنا على ألا تخرج من بلادنا فأعطاهم ذلك ثم قدر على الخروج فلا بأس بأن يخرج لأنه بمنزلة المستأمن فيهم الآن ولكن لو أعطاهم كفيلاً حربياً بنفسه لم يجز له أن يخفر كفيله بخلاف الأول لأنه ها هنا لا يسعه أن يقتل أحداً منهم ويأخذ ماله فلا يسعه إخفار كفيله أيضاً وإن ساعده الكفيل على الخروج معه فلا بأس بالخروج لأن المانع حقه لا حق أهل الحرب بدليل أنه لو لم يعطه كفيلاً كان له أن يخرج فإن خرج الكفيل معه بأمان ثم قال له : ارجع معي إلى دار الحرب فليس على الأسير ذلك لأن حكم ذلك الأمان قد انتهى بخروجه إلى دار الإسلام فكذلك حكم الكفالة ألا ترى أن هذا الحربي لو رجع إلى دار الحرب كان خارجاً من أمان الأسير وحل له أني قتله ولا بأس بأن يرشو الأسير المسلم بعض أهل الحرب ليتركه حتى يخرج إلى دار الإسلام لأنه يجعل ماله
وقاية لنفسه وبه أمر قال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه : اجعل مالك دون نفسك ونفسك دون دينك والأصل فيه حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - فإنه حبس بالحبشة فرشاهم دينارين حتى خلوا سبيله فعرفنا أن هذا ليس من جملة السحت في حق المعطي وإن كان من جملة السحت في حق الآكل وأنه غير داخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم : الراشي والمرتشي في النار إنما قال ذلك في حق المعطي إذا قصد به الظلم أو إلحاق الضرر بغيره فأما إذا قصد دفع الظلم عن نفسه أو تحصيل منفعة لنفسه من غير أن يلتحق الضرر بغيره فلا بأس به وكذلك الجواب في دار الإسلام إذا قصده ظالم فلا بأس بأن يعطي شيئاً من ماله إليه ليدفع الظلم عن نفسه قال : بلغنا عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال : ما وجدنا في زمن الحجاج شيئاً خيراً من رشى وفي وصفه ذلك بالخيرية دليل على أنه لا إثم على المعطي في الإعطاء وإن كان الآخذ آثماً في أخذه والله الموفق .@(5/226)
باب ما يبتلى به الأسير في دار الحرب
إذا استحلف ملكهم الأسير بالأيمان المغلظة ألا يخرج إلى بلاد المسلمين فحلف على ذلك فاليمين لازمة لأنه مخاطب وإن كان مقهوراً في أيديهم فالإكراه لا يمنع لزوم اليمين والأصل فيه حديث حذيفة - رضي الله تعالى عنه - فإن المشركين أخذوه وحلفوه ألا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فِ لهم بعهدهم ونحن نستعين الله تعالى عليهم فإن كان حلف ألا يخرج إلا بإذن الملك ثم خرج بإذنه لم يحنث لأن هذا الخروج بالصفة المستثناه وإن خرج بغير إذنه فهو حانث إلا أن يكون ذلك الملك قد مات فإن في لفظه ما يوجب توقيت اليمين بحياته وكذلك إن عزل ذلك الملك فإن اعتبار إذنه حال قيام سلطنته فتوقيت اليمين به إلا في قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وأصله في المدين إذا حلف ألا يخرج من البلدة إلا بإذن صاحب الدين أو المرأة إذا حلفت ألا تخرج إلا بإذن زوجها فإنه يتوقف اليمين بحال قيام الدين وحال قيام الدين حلفت ألا تخرج إلا بإذن زوجها فإنه يتوقف اليمين بحال قيام الدين وحال قيام النكاح وحال قيام النكاح إلا في رواية أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وكذلك إن أعيد على ملكه بعدما عزل لأن اليمين قد بطلت حين عزل ذلك الملك وهي بعدما بطلت لا تعود إلا بالتجديد .
ألا ترى أنه لو قال لجاريته عبدي حر إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فباعها ثم اشتراها ثم خرجت أو قال لزوجته فأبانها ثم تزوجها ثم خرجت لم يحنث لما قلنا وكذلك لو حلف السلطان رجلاً لترفعن إليّ كل داعر تعرفه في محلتك فعزل ثم أعيد على حاله فعلم بداعر فليس عليه أن يعرفه ولو كان علم به قبل عزله فلم يرفعه@(5/227)
إليه حتى عزله كان حانثاً في يمينه ولا ينفعه أن يرفعه إليه بعد العزل أو بعد الإعادة إلى السلطنة وهذه فصول ذكرناها في شرح الزيادات وإن كان حلف الأسير لهم ألا يخرج إلا بإذن ملكهم ولم يصمد بملك بعينه فعزل ذلك الملك وولّي غيره ثم خرج الأسير كان حانثاً لأن يمينه إنما وقعت ها هنا على استئذان أي ملك ولوه أمرهم فإن مات ملكهم أو عزل ولم يوالوا غيره حتى خرج الأسير فلا حنث عليه لأنه لا ملك عليهم الآن وهو بيمينه إنما استلزم استئذان الملك فإذا لم يكن عليهم ملك لا يكون هو بالخروج مرتكباً محظور اليمين فلا يحنث بهذا الطريق لأن يمينه انتهى بعزل الأول حتى لو لم يخرج حتى ولا غيره ثم خرج بغير إذنه كان حانثاً لأنه قد ارتكب محظور اليمين قال : ولو حلف ألا يخرج إلا بإذن الملك ولا نية له فيمينه على ذلك الملك خاصة لأنه أدخل الألف واللام في كلامه ها هنا وهو المعهود فإنما يتناول يمينه بالملك المعهود خاصة وصار تعينه بهذا الطريق كتعيينه بالإشارة إليه قال : وإذا أحرم اليسير في أيديهم وهو يرجو أن يبلغ المسلمين ذلك ويفدونه فلم يفعل المسلمون ذلك ومنعه العدو فهو بمنزلة المحصر لأنه تعذر عليه المضي لأداء النسك بعد صحة إحرامه فكان محصراً وقد بينا حكم المحصر في شرح المختصر وذكر هنا أنه إذا كان لا يقدر على هدي يبعثه لتحلل به فإن عطاء بن أبي رباح كان يقول : يتحلل بصوم عشرة أيام بالقياس على هدي المتعة وأهل المدينة كانوا يقولون يتحلل بغير شيء فأما المذهب عندنا أنه لا يتحلل إلا بالهدي لأن حكم المحصر منصوص عليه في القرآن وهو
التحلل بالهدي خاصة وكون الصوم بدلاً عن الهدي في المتعة والقرآن منصوص عليه هنا ولا يقاس المنصوص على المنصوص عندنا إنما يقاس على التنزيل وأما التنزيل لا يقاس بعينه بعضه @(5/228)
على بعض لأن الحكم المعلوم بالتنزيل مقصوع به وما ثبت بالرأي لا يكون مقطوعاً به وقد استقصينا هذا فيما أمليناه في تمهيد الفصول في الأصول والله الموفق .
باب العين يصيبه المسلمون
قال : وإذ وجد المسلمون رجلاً ممن يدعي الإسلام معيناً للمشركين على المسلمين يكتب إليهم بعوراتهم فأقر بذلك طوعاً فإنه لا يقتل ولكن الإمام يوجعه عقوبة وقد أشار في موضعين في كلامه إلى أن مثله لا يكون مسلماً حقيقة فإنه قال ممن يدعي الإسلام وقال : يوجع عقوبة ولم يقل : يعزر وقد بينا أنه في حق المسلمين يستعمل لفظ التعزير في هذا الموضع وإنما يستعمل هذا اللفظ في حق غير المسلمين إلا أنه قال : لا يقتل لأنه لم يترك ما به بإسلامه فلا نخرجه من الإسلام في الظاهر ما لم يترك ما به دخل في الإسلام ولأنه إنما حمله على ما صنع الطمع لا خبث الاعتقاد وهذا أحسن الوجهين وبه أمرنا قال الله تعالى : { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } الزمر : 18 وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تطلبن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً واستدل عليه بحديث حاطب بن أبي بلتعة فإنه كتب إلى قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مهلاً يا عمر فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فلو كان بهذا كافراً مستوجباً للقتل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدرياً كان أو غير بدري وكذلك لو لزمه القتل بهذا حداً ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقامته عليه وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } الممتحنة : فقد سماه مؤمناً وعليه دل قصة أبي لبابة حين استشاره بنو قريظة فأمر أصبعه على حلقه يخبرهم أنهم لو نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتلهم وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ }@(5/229)
الأنفال الآية 27 وكذلك لو فعل هذا ذمي فإنه يوجع عقوبة ويستودع السجن ولا يكون هذا نقضاً منه للعهد لأنه لو فعله مسلم لم يكن به ناقضاً أمانه فإذا فعله ذمي لا يكون ناقضاً
أمانه أيضاً ألا ترى : أنه لو قطع الطريق فقتل وأخذ المال لم يكن به ناقضاً لعهده وإن كان قطع الطريق محاربة مع الله ورسوله بالنص فهذا أولى وكذلك لو فعله مستأمن فينا فإن لا يصير ناقضاً لأمانه بمنزلة ما لو قطع الطريق إلا أنه يوجع عقوبة في جميع ذلك لأنه ارتكب ما لا يحل له وقصد بفعله إلحاق الضرر بالمسلمين فإن كان حين طلب الأمان قال له المسلمون : قد آمناك إن لم تكن عيناً للمشركين على المسلمين أو آمناك علي أنك إن أخبرت أهل الحرب بعورة المسلمين فلا أمان لك والمسألة بحالها فلا بأس بقتله لأن المعلق بالشرط يكون معدوماً قبل وجود الشرط فقد علق أمانه ها هنا بشرط ألا يكون عيناً فإذا ظهر أنه عين كان حربياً لا أمان له فلا بأس بقتله وإن رأي الإمام أن يصلبه حتى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك وإن رأى أن يجعله فيئاً فلا بأس به أيضاً كغيره من الأسرى إلا أن الأولى أن يقتله ها هنا ليعبر به غيره غيره فإن كان مكان الرجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضاً لأنها قصدت إلحاق الضرر بعامة المسلمين ولا بأس بقتل الحربية في هذه الحالة كما إذا قاتلت إلا أنه يكره صلبها لأنها عورة وستر العورة أولى وإن وجدوا غلاماً لم يبلغ بهذه الصفة فإنه يجعل فيئاً ولا يقتل لأنه غير مخاطب فلا يكون فعله خيانة يستوجب القتل بها بخلاف المرأة وهو نظير الصبي إذا قاتل فأخذ أسيراً لم يجز قتله بعد ذلك بخلاف المرأة إذا قاتلت فأخذت أسيراً فإنه يجوز قتلها والشيخ الذي لا قتال عنده ولكنه صحيح العقل بمنزلة المرأة في ذلك لكونه مخاطباً وإن جحد المستأمن أن يكون فعل ذلك وقال : الكتاب@(5/230)
الذي وجدوه معه إنما وجدته في الطريق وأخذته فليس ينبغي للمسلمين أن يقتلوه من غير حجة لأنه آمن باعتبار الظاهر فما لم يثبت عليه ما ينفي أمانه كان حرام القتل فإن هددوه بقيد أو ضرب أو حبس حتى أقر بأنه عين فإقراره هذا ليس بشيء لأنه مكره وإقرار المكره باطل سواء كان الإكراه بالحبس أو
القتل ولا يظهر كونه عيناً إلا بأن يقر به عن طوع أو شهد عليه شاهدان بذلك ويقبل عليه بذلك شهادة أهل الذمة وأهل الحرب لأنه حربي فينا وإن كان مستأمناً وشهادة أهل الحرب حجة على الحربي وإن وجد الإمام مع مسلم أو ذمي أو مستأمن كتاباً فيه خطه وهو معروف إلى ملك أهل الحرب يخبر فيه بعورات المسلمين فإن الإمام يحبسه ولا يضربه بهذا القدر لأن الكتاب محتمل فلعله مفتعل والخط يشبه الخط فلا يكون له أن يضر به بمثل هذا المحتمل ولكن يحبسه نظراً للمسلمين حتى يتبين له أمره فإن لم يتبين خلى سبيله ورد المستأمن إلى دار الحرب ولم يدعه ليقيم بعد هذا في دار الإسلام يوماً واحداً لأن الريبة في أمره قد تمكنت وتطهير دار الإسلام عن مثله من باب إماطة الأذى فهو أولى والله أعلم .@(5/231)
باب ما يختلف فيه أهل الحرب وأهل الذمة من الشهادات والوصايا
قد بينا شهادة أهل الحرب المستأمنين في دارنا بعضهم على بعض مقبولة إذا كانوا أهل منعة واحدة ولا تقبل عند اختلاف المنعة لأن المانع تباين الدارين لا اختلاف النحلة وتباين الدارين فيهم باختلاف المنعة وعلى هذا حكم التوارث بينهم وحال أهل الذمة مع المستأمنين كحال المسلمين مع أهل الذمة لأنهم من أهل دارنا بخلاف المستأمنين ولهذا لا يترك المملوك الذمي في ملك المستأمن مدة مقامه فينا ولكن يجبر على بيعه كما لا يترك المسلم في ملك الذمي ووصية المستأمن بجميع ماله لمسلم أو ذمي تكون صحيحة وليس لوارثه فيها حق الرد لأن حرمة ماله لحقه لا لحق وارثه الذي في دار الحرب ولأن بطلان الوصية فيما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة من حكم الإسلام والمستأمن غير ملتزم لذلك ولهذا يثبت هذا الحكم في حق الذمي لأنه ملتزم حكم الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات ووصية الذمي للحربي المستأمن بالثلث تكون صحيحة بمنزلة وصية المسلم للذمي ووصية المسلم أو الذمي لحربي في دار الحرب لا تكون صحيحة وإن أجازها الورثة إلا أن يشاءوا أن يهبوا له شيئاً من أموالهم فيجوز ذلك إذا قبض لأن من في دار الحرب في حق من هو في دالا الإسلام كالميت فإن كان وارث المستأمن معه بأمان فينا لم تجز وصيته فيما زاد على الثلث إلا بإجازة الوارث@(5/232)
لأن حق وارثه ها هنا مراعى بسبب الأمان كحقه فإن حضر له وارث آخر من دار الحرب شارك الذي كان حاضراً في ميراثه ولم يكن للموصى له إلا الثلث لأن وصيته فيما زاد على الثلث قد بطلت لعدم إجازة الورثة فيبقى ذلك موروثاُ عنه بين جميع ورثته ويستوي إن كان الحاضر معه زوجته أو ابنه لأن القاضي لا يجد بداً من أن يقضي بميراثهما في الزيادة على الثلث وإذا لم يجز قضاؤه بميراث بعض الورثة في مال يكون إبطالاً للوصية في ذلك المال ولو أن المستأمن فينا أوصى بجميع ماله لحربي في دار الحرب ثم جاء الموصى له وابن الميت فإن القاضي يقضي بالمال للموصى له
لأنه لا حرمة لوارثه الذي في دار الحرب وإنما كان المال محترماً لحق الميت فيكون مصروفاً إلى من وضعه الميت فيه ولو كان الموصى له من أهل دار غير داره فالوصية له باطلة لتباين الدار حقيقة وحكماً بمنزلة الذمي يوصي لحربي في دار الحرب بخلاف ما إذا كان الموصى له في دارنا بأمان لأن تباين الدار ها هنا غير موجود صورة وإن كان موجوداً حكماً وبخلاف ما إذا أوصى لمسلم أو ذمي هو في دار الحرب بأمان أو أسير لأن هناك لم يوجد تباين الدار حكماً فالمسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون وكذلك لو أوصى لحربي قد أسلم في دار الحرب لأن المسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون ألا ترى أن زوجته لو خرجت مسلمة بعد إسلامه لم تبن منه بخلاف ما إذا خرجت قبل إسلامه ولو كان أوصى له وهو حربي ثم أسلم قبل موت الموصي أو بعده فوصيته باطلة لأنها وقعت لإنسان بعينه فإنما يعتبر حاله يوم أوصى له وقد كان ميتاً عند ذلك حكماً فبطلت الوصية له والوصية الباطلة لا تنقلب صحيحة بإسلامه وكذلك إن أجازت الورثة وصيته لأن الإجازة إنما تلحق الموقوف لا الباطل وعلى هذا@(5/233)
لو قال : أوصيت لفلان ابن أخي فلان لأنه حين سماه بعينه فكأنه أشار إليه بخلاف ما إذا قال أوصيت لابن أخي بكذا ولم يسم الابن بعينه فأسلم الابن قبل موت فالوصية له جائزة لأنه لما لم يصمد لشخص بعينه كانت الوصية لمن هو موجود عند موت الموصي اعتباراً للموصى له بالموصي به ألا ترى : أنه لو لم يكن لأخيه ابن ثم ولد له قبل موت الموصي استحق ذلك الابن الوصية بهذا الطريق فكذلك إذا كان كافراً فأسلم قال : ولو وهب المستأمن في مرضه ماله كله لابنه الذي هو معه وسلمه إليه ثم جاء ابن آخر له من دار الحرب بعد موته أبيه وأراد نقض الهبة لم يكن له ذلك لأنه ما كان لهذا الابن الذي جاء حرمة عند موت أبيه فالوصية للوارث إنما لا تجوز لحق سائر الورثة فإذا انعدم ذلك الحق عند موت الموصي تمت الوصية له وليس لمن يحضر بعد
ذلك أن يبطله وإن كان مجيء هذا الابن قبل موت والده فله أن يبطل هبته لأنه كان مدعي الحق عند موت أبيه فكان تصرف الأب إيثاراً لبعض ورثته على البعض وذلك لا يجوز ثم إن جاء ابن آخر له بعد هذا شاركهما في الميراث لأن الهبة حين بطلت صار المال ميراثاً عن الميت ولو كان الابن الذي جاء قبل موت أبيه أجاز الهبة لأخيه بعد موت الأب قبل مجيء الآخر أو بعده جازت الهبة في نصيبه لأنه حين مات الأب قبل إجازته فقد صار المال ميراثاً بين البنين الثلاثة أثلاثاً ثم إنما تعمل إجازة المجيز في نصيبه لا في نصيب غيره وهو بمنزلة ما لو أخذ الابن الحاضر الميراث فاستهلكه بهبة أو غير ذلك ثم جاء الابن الآخر فإنه يكون له أن يأخذ نصيبه من الميراث وكذلك لو كان للمستأمن ها هنا ابنان فأوصى لهما بجميع المال أو وهب لكل واحد منهما نصف المال مقسوماً وقبضه ثم أجاز كل واحد منهما لصاحبه بعدد موت أبيه ثم جاء ابن آخر فله أن يأخذ ميراثه من النصيبين لأن الثلث من المال صار ميراثاً له بموت الموصي قبل إجازة الابنين فلا يبطل ذلك إلا بإجازتهما ولو كان معه ابن واحد فأوصى له بجميع ماله وأجاز الابن الوصية لنفسه بعد موت أبيه ثم جاء ابن آخر فله@(5/234)
أن يأخذ نصف المال بخلاف ما إذا كان وهب له وسلمه إليه لأن الهبة قد ملكها الموهوب له بالقبض في حياة أبيه ولم يكن للابن الآخر حق مرعي عند ذلك فلا يثبت فيه حكم الإرث عند موته فأما الوصية إنما تجب بالموت كالميراث وباعتبار المقارنة لا ينتفي الإرث لابن آخر فلهذا كان له نصف الميراث ولا تعمل إجازة المجيز في حقه ألا ترى أن الابن الموصى له لو أخذ المال بطريق الميراث بعد موت أبيه كان للابن الآخر أن يأخذ منه نصفه فكذلك إذا أخذ بطريق الوصية ولو أن حربياً في دار الحرب حضره الموت فوهب ماله لمسلم فيهم بأمان وسلمه فأبى وارثه بعد موته أن يجيز له فيما زاد على الثلث كان المستأمن في سعة من منع جميع المال منه إن أمكنه
ذلك لأن الميت ملكه بطيبة نفسه وبعد تمام الملك منه لا يثبت فيه حق ورثته ولا حق غرمائه بعد موته وإن أسلموا وإن كان الحربي أوصى له بماله كله والمسألة بحالها فإن كان من حكم أهل الحرب أن الموصى له أحق بالموصى به طاب له ذلك كله لأن الورثة والغرماء ملتزمون أحكام أهل الحرب وإن لم يكن ذلك من حكمهم لم يطب له إلا الثلث بعد الدين لأنه فيهم أمان فلا يحل له أن يأخذ مالهم أو مالاً لهم فيه حق إلا بطيبة أنفسهم ولو أن مستأمناً فينا وهب ماله لرجل أو أوصى له به ولا وارث له ثم جاء قوم بعد موته وأثبتوا ديناً على الميت أدانوه في دار الإسلام فإن القاضي يبدأ بحق الغرماء لأن من في يده المال خصم عن الميت فإثبات الدين عليه بالبينة كإثباته على الميت ومن حكم@(5/235)
الإسلام البداية بالدين قبل الهبة في المرض والوصية فإن جاء ابنه بعد هذا من دار الحرب وقال : أعطى ميراث أبي من الباقي لم يلتفت القاضي إلى ذلك لأنه لم يكن مرعي عند موت أبيه فلا تبطل الهبة والوصية لأجله وعلى هذا لو جاء الغرماء من دار الحرب فأثبتوا عليه ديناً أدانوه في دار الحرب لم يقض القاضي لهم بشيء وإن كانوا مسلمين أو أهل ذمة لأنهم لو جاءوا في حياته وأقاموا لابينة لم يقض لهم بشيء فإن المستأمن غير مطالب بموجب معاملة كانت معه في دار الحرب فكذلك إذا جاءوا بعد موته قال : ولو لم يكن أوصى بماله لأحد والمسألة بحالها بدأ بالدين الذي استدانه في دالا الإسلام ثم بالدين الذي استدانه في دار الحرب لأن ما استدانه في دار الإسلام أقوى فإنه مطلوب به قبل الإسلام وعبده وما استدانه في دار الحرب أضعف فإنه كان لا يطالب به ما لم يسلم وعند اجتماع الحقين يبدأ بأقواهما ثم ها هنا يقضي من تركته ما استدان في دار الحرب لأن ما يفضل من غرماء دار الإسلام موقوف على حق ورثته في دار الحرب وهو مطالب بما استدانه في دار الحرب في حقهم بخلاف الأول فالفضل هناك مستحق للموهوب له أو للموصى له في
دار الإسلام وذلك الدين ليس بمطلوب في دار الإسلام وإن مات المستأمن فينا وله مال فماله موقوف مفي يد من في يده وإن لم يكن في يد أحد جعله الإمام موقوفاً في بيت المال حتى يحضر وارثه وليس عليه أن يبعث به إليه ولكن كل من يأتي من ورثته يعطيه حصته ويقف الفضل حتى يأتي مستحقه فإن علم أنه لا وارث له قسم الإمام ذلك للمساكين ثم إن جاء وارث له أعطاه ذلك من الصدقات لأن حكم الأمان بقى في ماله بعد موته@(5/236)
فيفعل فيه ما يفعله في مال ذمي يموت ولا وارث له ولو جرح المستأمن رجلاً عمداً أو خطأ فعفا له عن الجراحة وما يحدث منها ثم جاء وارثه من دار الحرب بعد موته فلا سبيل له علىالقاتل لأن أكثر ما في الباب أنه موص لقاتله بالدية والوصية للقاتل كالوصية للوارث وقد بينا أن ما نفذ من ذلك في مرضه لا يبطل لحق الوارث الذي في دار الحرب فكذلك هذا ولو كان الوراث قدم في حياته لم تجز الوصية لقاتله إن كان أوصى له وإن كان عفا عن دم العمد وكان الواجب القصاص بأن كان القاتل مستأمناً مثله جاز العفو لأن إسقاط القود ليس من الوصية في شيء وإن كان خطأ جاز من الثلث لأن وصيته بالدية للعاقلة لا للقاتل ولو كان أوصى لقاتله بنصف ماله ولابنه الذي قدم قبل موته بنصف ماله فأجاز الابن للقاتل ثم قدم ابن آخر فله أن يأخذ ميراثه من الوصيتين لأن الوصية للقاتل ما كانت صحيحة قبل الإجازة كالوصية للورثة فصار الابن الآخر مستحقاً نصيبه من الميراث كله ثم إنما تعمل إجازة أحد الابنين في نصيبه لا في نصيب أخيه ولو كان وهب لقاتله في مرضه ولا وراث له ها هنا جازت الهبة في الكل لأن وارثه كان في دار الحرب عند موته وحقه غير مرعي ولو كان معه في دارالإسلام ذو قرابة له محجوب ممن هو أقرب منه في دار الحرب فقال هذا القريب : إن جعلتم الذي في دار الحرب كالميت فأنا أولى بماله آخذه بطريق الميراث لم يكن له ذلك لأنا إنا أبطلنا لاوصية والهبة فلا بد من أن نجعله ميراثاً عند
وإذا صار ميراثاً كان الأقرب الذي جاء من دار الحرب أولى به كما لو لم توجد الهبة والوصية أصلاً فباعتبار هذا المال يكون هذا إبطال هبته لحق وارثه الذي في دار الحرب عند موته وذلك لا يجوز .@(5/237)
من حاشية هذه المسألة إلى مسألة في باب متى يصير الحرب ذمياً ليس من إملاء شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله - بل من نسخة القاضي محمود الأورجندي - رحمه الله تعالى - وصورة تلك المسألة : لو أن حربياً مستأمناً اشترى أرضاً خراجية فجاء مستحق فاستحقها يحتمل أن شمس الأئمة ما أملاه لأنه وقع جزء من الرواية وأملاه ولكن وقع من يد من نقل كتبه إلى هذه المسألة فالأئمة من بعده شرحوا ما يرويه فما هو مكتوب ها هنا من شرح قاضي القضاة محمود الأوزجندي - رحمه الله عليه - .
قال : ولو أن حربياً في دار الحرب أوصى بوصية لمسلم ثم مات الحربي ثم أسلم أهل الدار قبل أن يقسم الميراث فإن كان المسلم الموصى له يوم الوصية في دار الإسلام فالوصية باطلة لتباين الدارين بينهما وتباين الدارين يمنع لاوصية كما لو أوصى المسلم لحربي في دار الحرب بوصيته لم يجز فإن اجازها الورث بعد ما أسلموا فهي باطلة إلا أن يدفعوها إليه ويسلموها فكانت بمنزلة الهبة منهم لأن الوصية خرجت باطلة والباطل لا يلحقه الإجازة وإن كان المسلم يوم أوصى له في دار الحرب ثم أسلم أهل الدار ولم يقسموا الميرث فإني أنفذ الوصية له من الثلث وأقسم ما بقى بين ورثته على فرائض الله - تعالى - أما الوصية فجائزة لأنهما كانا في دار الحرب وهي دار واحدة فجازت الوصية كالمسلم إذا أوصى لحربي مستأمن بوصية جازت الوصية ثم الوصية تنفذ من الثلث لأن الدار صارت دار الإسلام يجري فيها حكم المسلمين فيجري في هذا المال حكم المسلمين وفي حكم المسلمين جواز الوصية من الثلث وإن كانوا@(5/238)
اقتسموا الميراث وقبضوه فأبطلوا الوصية ثم أسلم بطلت الوصية لأنه جرى في هذا المال فلا نتعرض لما مضى فيه من حكمهم .
ألا ترى لو أنهم اقتسموا المواريث على خلاف قسمة المسلمين ثم أسلموا لا يتعرض لتلك القسمة فكذلك ها هنا والله الموفق .
باب ما يصدق فيه الأسير أنه ذمي وما لا يصدق فيه
وهذا الباب بهذا النظم قد مر في الزيادات وقد مرت مسائله فيما مضى من هذا الكتاب فلا نعيد والله الموفق .
باب ما يصدق فيه الرجل
إذا أقر أنه استهلك من مال أهل الحرب أو ما أقر به من الجناية عليه وإذا أسلم الرجل من أهل الحرب أو صار ذمة أو دخل إلينا بأمان فقال له رجل : قطعت يدك وأنت حربي في دار الحرب أو قال : أخذت منك هذه الألف وأنت حربي فهو لي أو قال : أخذت منك ألف درهم واستهلكتها أو قال : سبيت ابنك هذا في دار الحرب وقال الرجل المسلم : بل فعلت ذلك كله بي بعد ما أسلمت فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رضي الله تعالى عنهما - القول قول االمسلم والذمي في ذلك ولا@(5/239)
يصدق المقر فيضمنه المقر له قول المسلم والذمي في ذلك ولا يصدق المقر فيضمنه المقر له دية اليد ويأخذ ابنه والألف القائمة بعينها وقال محمد : - رحمه الله تعالى - : القول قول المقر ولا يضمن شيئاً واجمعوا أن المال في الألف قائماً فالقول قول المقر له يأخذه من يده ولا يصدق في الألف القائمة بعينها لأنه أقر أنها كانت له ثم يدعي التملك عليه فلا يصدق وأما في المستهلك فإنما قال محمد - رحمه الله تعالى - بأنه يصدق لأنه أضاف إقراره إلى حالة معهودة بنفي وجوب الضمان فكان منكراً لوجوب الضمان في الحقيقة فكان القول قوله فلا يلزمه شيء كما لو قال لامرأته طلقتها وأنا صبي أو نائم فإنه يصدق ويكون إنكاراً للطلاق وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله تعالى - قالا : إذا أقر بالجنياة ثم أدّعى سقوط حكمه بالملك فلا يصدق كما إذا قال أخذت منك ألف درهم لأنه كان لي عليك ألف درهم وأنكر الآخر فإنه يلزمه الألف لأنه أقر بالجناية وهو الأخذ ثم ادّعى سقوط حكمه بالملك فلا يصدق كذلك ها هنا ولهذا الباب فروع كثيرة مذكورة في الزيادات والله الموفق .
باب من أسلم على شيء فهو له ويكون محرزاً له
روى محمد - رحمه الله تعالى - بإسناده : عن طاوس عن أبيه أنه قال في كتاب معاذ : من استخمر يعني : من استعبد قوماً أولهم أحرار أو جيران مستضعفون فإن كان قهرهم في بيته حتى يدخل الإسلام في بيته فهم له عبيد ومن كان مهملاً يعطي الخراج@(5/240)
فهو عتيق اعلم أن قوله : استخمر معناه : استعبد كما فسره في الكتاب وهو نظير تفسير ذكره عبد الله بن المبارك - رحمه الله - في غريب الحديث لأبي عبيد وهي لغة اليمن هكذا قال محمد بن كثير : يقول الرجل الآخر : أخمرني كذا أي : ملكني إياه وأعطنيه هبة ثم الأمر على ما هو في كتاب معاذ لأنه إذا قصرهم في بيته وقهرهم فقد ملكهم وصاروا رقياً له فإذا أسلم فقد اسلم على ملك نفسه فيسلم له لقوله صلى الله عليه وسلم : من أسلم على مال فهو له فأما إذا كان مهملاً يؤدي الخراج فهو عتيق لأنه لم يوجد منه الملك إلا أن الاستيلاء بحق السلطنة ولم يوجد منهم إلا الانقياد والطاعة ونفس الطاعة لا تدل على الرق فإن كل مسلم مطيع سطلانه وتحت ولايته ولم يكونوا هم عبيداً له فكذلك ها هنا وكذلك أهل الرخج وزابلستان ودونهما قهرهم الترك فاستعبدوهم وصاروا مملوكين لهم يبيعون منهم من شاءوا فإذا أسلم أهل الترك وأسلم أهل البلد معهم فهم عبيد لهم يصنعون بهم ما شاءوا لما قلنا والرخج : اسم موضوع يقول فيه قائلهم : والرخجيون لا يوفون ما وعدوا والرخجيات ينجزن المواعيدا والله الموفق .
فيقيم في دار الإسلام ثم يترك لا يؤدي الخراج قال محمد - رحمه الله تعالى - : أخبرنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن يسار السلمي قال : سبي ناس من أشراف الروم فخرج معهم ناس من قراباتهم بأمان@(5/241)
فلما وقعوا بالشام تفرقوا مع قراباتهم فمكثوا على ذلك لا يؤدون الخراج فكتب إلى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله عليهما - فيهم فكتب أن أخبروهم فإن أحبوا أن يقيموا مع أهل ذمتنا بمثل ما يعطي مثلهم من الخراج فذلك لهم وإن أبو فسيروهم إلى بلادهم بأمان اعلم أن الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله عليهما - وهو أن الحربي إذا طال مقامه في دارنا فإن الإمام يقول له : إن أقمت سنة بعد يومك هذا أخذت منك الخراج فإن أقام من حين تقوم إليه جعل ذمة ومنع من الخروج ويؤخذ منه الخراج فإن خرج قبل ذلك لا يحول بينه وبين ذلك وإنما قدر ذلك بسنة لأن فيما دون السنة لا يجب جميع أحكام المسلمين من الصوم والزكاة وإذا تمت السنة يلزمه كل خطاب فصار ما دون السنة قليلاً والسنة كثير فإذا مكث سنة فقد طال مقامه في دارنا فصار من أهلها ذمياً فيؤخذ منه الخراج والله الموفق .
باب العقار يملك في دار الحرب
قال محمد - رحمه الله تعالى - : قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : إذا دخل الرجل المسلم دار الحرب بأمان فاكتسب مالاً واشترى وباع فملك خيلاً وسلاحاً ودوراً وغير ذلك ثم ظهر المسلمون على تلك الدار فله جميع ما اكتسب من ذلك إلا العقار@(5/242)
من الدور والأرضين فإن ذلك يكون فيئاً للمسلمين أما ما سوى العقار لا يكون فييئاً لأن ما سوى العقار من منقول هو في يده ويده غير مغنوم فما في يده كذلك وأما العقار فهو تحت يد ملكهم مغنوم فما في يده مغنوم وروي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في الرجل أسلم في دار الحرب وله عقار فظفر المسلمون على الدار : أن عقاره لا يكون فيئاً فعلى قياس تلك الرواية عقار هذا المسلم المستأمن لا يكون فيئاً كما لا يكون منقوله فيئاً وروي محمد - رحمه الله تعالى - في الكتاب عن عبد الله بن المبارك عن الوضين بن عبد الله الخولاني عن محمد بن الوليد الزهري عن ابن هشام عن سعيد بن المسيب - رحمه الله عليهم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من منحه المشركون أرضاً فلا أرض له وروي في رواية أخرى : من منحه المشركون داراً فله دار له ولم يرد بهذا أنه لا يملكه بالمنحة ولكن أراد به أنه لا يدوم ملكه فيها فإن المسلمين إذا ظهروا عليها تصير لهم والله الموفق .
في أهل مملكته ومن يكون له رقيقاً من أهل مملكته قال محمد بن الحسن - رحمهما الله تعالى - إذا غلب قوم من أهل الحرب على قوم آخرين من أهل الحرب فاتخذوهم عبيداً وإماء للمالك ثم إن الملك وأهل أرضه@(5/243)
أسلموا فمن كان من جنده الذين غلبهم وقاتل معهم فهم أحرار لا سبيل لأحد عليهم لأن هؤلاء ليسوا في قهر الملك إنما هم في طاعة الملك والمطيع للملك لا يكون عبداً له كالمسلم المطيع لسلطانه لا يكون رقيقاً له فهؤلاء أحرار قبل الإسلام فبقوا على الحرية بعد الإسلام وأما الذين غلبوا فاتخذهم الملك عبيداً فلهم عبيد له قبل الإسلام وبعده لأنهم صاروا في قهر الملك فالمقهور منهم يكون عبداً فهؤلاء عبيد للملك فإذا أسلم فقد أسلم على عبيد نفسه فيكونون له للحديث الذي روينا فإن حضر الملك الموت فورث ذلك بعض ورثته دون بعض وسلم ذلك إليه فإن كان صنع ذلك قبل أن يسلم أو يصير ذمة ثم أسلم ولده بعد ذلك جعل الأمر على ما صنعه الملك عليه لأنه حين صنع كان الحكم له وليس للمسلمين عليه حكم فلا يتعرض لحكمه بل يمضي وإن كان صنع بعد ما أسلم أو صار ذمة لم يجز ما صنع من ذلك وكان جميع ماله ميراثاً بين ورثته على فرائض الله تعالى لأنه صنع ذلك وحكم الإسلام جار عليه فلا يجوز منه إلا ما يوافق حكم المسلمين وهذا جور في حكم المسلمين فينقض حكمه وإن حضره الموت وله أولاد فقسم ملكه بينهم فجعل لكل ابن ناحية من ملكه وأرضه معلومة ملكه عليها وجعل ما فيها من عبيده وإمائه له خاصة وسلم ذلك له فإن فعل ذلك قبل أن يسلم فجميع ما صنع جائز وإن كان إنما صنع ذلك بعدما أسلم أو صار ذمة فما صنع باطل وجميع الإماء والعبيد رقيق ميراث بين ورثته لأن هذا إيثار بعضهم على بعض بعين من أعيان ماله وذلك باطل في حكم المسلمين وقوله : إن جميع@(5/244)
العبيد والإماء ميراث بين ورثته إخبار منه بأن المريض متى أعطى عيناً لبعض ورثته ليكون ذلك حقه من الميراث أو أوصى بأن يدفع ذلك إليه بحقه من
الميراث أن ذلك باطل لا يجوز البتة فإنه قال : فجميع العبيد والإماء ميراث بين ورثته وإن جعل كله لابن واحد من بنيه دون من سواه وهو يومئذ موادع فوثب له ابن آخر بعد موته على أخيه فقتله وظهر على ما في يده أو لم يقتله ولكن نفاه إلى أرض الإسلام ثم أسلمواجميعاً جاز للابن القاهر ما صنع وكانوا جميعاً عبيداً له خاصة لأن القهر في دار الحرب سبب ملك الحربي والابن القاهر ملك عبيد أخيه المقهور قبل الإسلام فبقوا على ملكه بعد الإسلام وإن كان الابن القاهر صنع ذلك وهما مسلمان رد ذلك كله عليه لأن المسلم لا يملك مال مسلم آخر بالقهر والغلبة فكيف يملك مال أخيه المسلم وإن كان الابن القاهر محارباً للمسلمين والابن المقهور مسلماً فجميع ما صنع من ذلك جائز له إن أسلم أو صار ذمة لأن الحربي يملك مال المسلم الأجنبي بالقهر والغلبة فكذلك مال أخيه المسلم في دار الحرب فإن ظهر المسلمون على شيء من أولئك العبيد فإن وجدهم الابن المقهور قبل القسمة أخذهم بغير شيء وإن وجدهم بعد القسمة أخذهم بالقيمة كما لو قهرهم أجنبي وأخذهم ثم ظهر المسلمون عليهم قال : وإن دخل تاجر من تجار المسلمين إلى هذا الابن القاهر فاشترى رقيقاً من أولئك العبيد فلا بأس بذلك لأن الابن القاهر ملكهم والتحقوا بسائر أملاكه فحل له الشراء منه فإن أخرجهم إلى دار الإسلام فالابن المقهور بالخيار إن شاء أخذهم بالثمن وإن شاء تركهم وإن كان الابن القاهر صنع ذلك وهو مسلم وأخوه المقهور مسلم أيضاً لا ينبغي للمسلمين أن يشتروا@(5/245)
منه من أولئك الرقيق شيئاً لأن الابن القاهر لم يملكهم بالقهر فهذا غصب في يده ولا يحل لأحد أن يشتري المال المغصوب من الغاصب فإن اشتراه وأخرجه إلى دار الإسلام رد إلى الابن المقهور بغير ثمن ولا قيمة لأنه عين ماله فيرد إليه فإن كان الابن القاهر مسلماً يوم فعل هذا بأخيه وأخوه مسلم أو ذمي فنفاه عن الدار ولم يحدث في الرقيق شيئاً ثم إن الابن القاهر ارتد
عن الإسلام ولحق بدار الحرب وقاتل المسلمين وغلب على الرقيق وأجرى حكم الشرك في داره ثم ظهر المسلمون على تلك الدار وأخذ من ذلك السبي شيئاً فإن وجده الابن المقهور قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة لأنه لما ارتد صار حربياً والدار صارت دار حرب فصار هذا مال مسلم في يد حربي محرزاً بدار الحرب فيملكه فإذا ظهر المسلمون عليه وقسموه صار غنيمة للمسلمين فيأخذه مالكه بالقيمة والله أعلم .
باب التفريق بين السبي
قال محمد - رحمه الله تعالى - : إذا سبي السبي من دار الحرب وكانوا كباراً كلهم فلا بأس بأن يفرق بينهم في البيع والقسمة وإن كان أخوة أو ولداً وأمهم أو مولداً وآباؤهم لأن القياس يأبى كراهية التفريق بين ذي الرحم المحرم لأنه منع المالك عن التصرف في ملكه وإنما عرفت الكراهة بالشرع والشرع إنما جاء بكراهة التفريق بينهما إذا كانا صغيرين أو كان أحدهما كبيراً والآخر صغيراً فأما إذا كانا كبيرين فلا@(5/246)
شرع فيه فبقى على أصل القياس وكان المعنى في ذلك وهو أنهما إذا كانا صغيرين فإن كل واحد منهما يأنس بصاحبه ويألف معه فإذا فرق بينهما أخذه خشية الوحشة بالوحدة وقلب الصغير لا يحتمل ذلك فيؤدي إلى هلاكه وهذا المعنى معدوم فيما إذا كانا كبيرين فأما إذا كانت والدة وولد صغير أو أخوان صغيران أو كبير وصغير أو غلام لم يدرك وعمته أو خالته صغيرة مثله أو كبيرة فليس ينبغي أن يفرق بينهم في قسمة ولا بيع لما روى محمد - رحمه الله تعالى - في الكتاب بإسناده عن حيي بن عبد الله المغافري وهو أبو قبيل عن أبي عبد الرحمن الجيلي قال : كنا مع أبي أيوب الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - في غزاة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ممن فرق بين الوالد وولده فرق الله - تعالى - بينه وبين أحبته يوم القيامة وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتي بسبي فقام فنظر إلى امرأة منهن تبكي فقال : ما يبكيك فقالت : ابني بيع في بني عبس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد الأنصاري : فرقت بينهما فلترجعن ولتأتين به فجرع فأتى به وروي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه كتب : ألا يفرق بين الأخوين وبين الأم وولدها يعني إذا كانا صغيرين أو كان أحدهما صغيراً والآخر كبيراً وإذا كانا غير ذي الرحم المحرم مثل بني العم أو بني الخال وهما صغيران أو أحدهما كبير والآخر صغير فلا بأس بأن يفرق بينهما في البيع والقسمة لأن هذه القرابة لا عبرة بها
في الأحكام بدليل جواز الجمع بينهما في النكاح وجواز المناكحة بينهما لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى ووجوب القطع علي كل واحد منهما بسرقة مال صاحبه فنزل منزلة الأجانب ولا بأس بالتفريق بين الأجانب قال : والمرأة وزوجها إذا سبياً جميعاً معاً فلا بأس بأن يفرق بينهما في البيع والقسمة صغيرين كانا أو كبيرين لأن الشرع يأبى كراهية التفريق لما قلنا إلا أنا كرهنا التفريق بالشرع والشرع جار بكراهة التفريق عند الوصلة بالنسب لا بالسبب فبقيت الوصلة بالسبب على أصل القياس يدل@(5/247)
عليه ما روي أن أبي الخير قال : كنا في المغازي لا نفرق بين الوالدة وولدها ونفرق بين المرأة وزوجها فإن فرق بينهما كانت امرأته حيث ما كانت لا تبين منه ببيع ولا قسمة ولأنهما سبياً معاً فلم تتباين بهما الدار فبقى النكاح بينهما فلا يبطله البيع والقسمة وإذا مات الزوج عن امرأته الحرة ولها ابنة صغيرة وعم كانت الأم أحق بابنتها ما لم تبلغ فإذا بلغت كان عمها أحق بها لأن العم بمنزلة الأب والأب أحق بها من أمها إذا بلغت فكذلك العم ولكن لا تمنع الأم من زيارة ابنتها لأن الزيارة لصلة الرحم وصلة الرحم واجبة واختلفوا في كم مدة تزور قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - : تزور في كل شهر مرة وقال محمد - رحمه الله - : تزور في كل شهر مرة أو مرتين وهكذا إذا زفت المرأة في بيت زوجها ولها أبوان فإن لزوجها أن يمنعها من زيارة أبويها ولكن أبواها يزورانها ثم عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يزورانها في كل شهر مرة وعند محمد - رحمه الله تعالى - : مرة أو مرتين وفيما زاد على هذا كان للزوج أن يمنعها ثم إذا زاراها فإنما يزورانها بحضرة الزوج ولا يزورانها في غيبته حتى لا يمكنهما التخليط في بالها فيؤدي إلى الفتنة والعداوة والله أعلم .
قد مر هذا الباب في الزيادات على هذا النظم والترتيب فلا نعيده والله الموفق .@(5/248)
باب الوصية في سبيل الله والمال يعطى
قال محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى - : وإذا قال الرجل في مرضه ثلث مالي في سبيل الله ثم توفي فهذا جائز لأنه أوصى بأن يصرف ثلثه إلى جهة القربة والطاعة لأن كل طاعة في سبيل الله على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة يعني من شاب شيبة في الإسلام يعني في طاعة الله تعالى فثبت أنه جعل ثلث ماله في جهة الطاعة والقربة وذلك جائز وإن لم يكن الموصى له معلوماً قال : ويعطي ثلثه للفقراء في سبيل الله يعني يعطي أهل الحاجة ممن يغزو لأن كل خير وطاعة وإن كان في سبيل الله ولكن مطلقه يستعمل قال : في الغزو والجهاد قال الله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } البقرة : 190 والمراد منه الجهاد فكان قصد الميت من هذا أن يصرف ثلث إلى جهة الغزو فيصرف إلى ما نواه وقصده ويكون ما يعطون من ذلك لهم حتى إن من مات منهم قبل أن يخرج في سبيل الله بعد ما دفع إليه كان ذلك ميراثاً لورثته إن شاءوا خرجوا وإن شاءوا لم يخرجوا ملأن هذا جعل ثلث ماله في سبيل الله على وجه الصدقة والصدقة تمليك من أهل الحاجة قال الله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء } إلى أن قال : { وَفِي سَبِيلِ اللّهِ } التوبة : 60 وتلك الصدقة شرط صحتها التمليك فكذلك الثلث إذا جعل في سبيل الله كانت صدقة تمليك والصدقة تملك بالقبض فإذا قبض صار له فإذا مات كان ميراثاً عنه ثم الورثة إن شاءوا خرجوا وإن شاءوا لم يخرجوا لأنه لما وجب التصدق بذلك المال على من يملك صار معنى الصرف إلى الغزو كالمشورة من الميت كرجل يعطي ماله في حياته إلى رجل ويقول : هو لك تحج به أو تغزو به كان ذلك مشورة منه وكذلك إذا أعطاه داراً وقال : هي لك تسكنها وكان قوله@(5/249)
تسكنها مشورة منه ولو أن يصرف المال إلى غير ما أمر المعطي فكذلك ها هنا لما تملكه بالقبض صار له ولوارثه أن يصرفه إلى ما شاء وإن كان يعطي منها
رجلاً فقيراً شيئاً فقضى ببعضه ديناً وترك بعضه نفقة لعياله وخرج ببعضه في سبيل الله فلا بأس بهذا لأن هذا كله من أمر الغزو فإنه لا يمكنه أن يخرج غازياً إلا بأن يخلف لعياله نفقته ويقضي بغريمه ديناً ويخرج ببعضه ليكون له نفقة في الطريق فهذا هو الغزو المعروف فلا يكون به بأس وإن أعطاها حاجاً منقطعاً على وجه الصدقة عليه فذلك جائز لأن الصدقة على الحاج المنقطع في سبيل الله لأنه طاعة الله وقد ذكرنا أنه يدخل تحت هذا اللفظ كل خير وطاعة يدل عليه ما روي عن ابن سيرين - رحمة الله عليه - أنه قال لابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - : رجل أوصى إليّ بوصية في سبيل الله أجعلها في الحج قال : الحج من سبيل الله وروي أن رجلاً جعل سيفاً في سبيل الله فأعطاه أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بعض الحاج ولكن الأفضل أن يعطي المحتاج الذي يخرج في سبيل الله لما بينا أن سبيل الله إذا أطلق يراد به الغزو والجهاد دون غيره فكان صرفه إليه أولى ونظيره ما قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى - في رجل أوصى بثلث ماله لفقراء مكة يجوز أن يصرف ثلثه إلى غير فقراء مكة ولكن الأفضل صرفه إلى فقراء مكة وذكر عن سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى أنه سئل عن الرجل يعطي الرجل الشيء في سبيل الله قال : إذا بلغ رأس مغزاة فهو له فالمغزاة أراد به الثغر الذي يكون بقرب من أرض العدو فقد شرط أنه إذا بلغ الثغر يصير ملكاً له وعندنا هو له قبل أن يبلغ رأس المغزاة لما قلنا إن هذه صدقة تمليك وصدقة التمليك تملك بالقبض ويحتمل أن يكون هذا الشرط من سعيد بن المسيب -@(5/250)
رحمه الله تعالى - ليس لوقوع الملك فيه للغازي ولكن كان للمنع من الصرف إلى حوائجه فإنه قبل أن يبلغ الثغر يمكنه أن يصرفه إلى حوائجه أو يخلفه لعياله فإذا بلغ الثغر لا يمكنه الصرف إلا على وجه الجهاد فإنما شرط هذا الشرط ليكون مانعاً له من التصرف إلا على وجه الجهاد وعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن
الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعل فرساً له في سبيل الله فضاع الفرس عند صاحبه فأراد عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يشتريه منه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ترجع في صدقتك فإن مثل الذي يرجع في صدقته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه معنى قوله ضاع الفرس عند صاحبه أي باعه صاحبه أو أخرجه من ملكه بوجه من الوجوه وقوله : جعل فرساً له في سبيل الله لم يرد به أنه جعل فرسه حبيساً ولكنه أراد به أنه تصدق بفرسه على رجل ليغزو به في سبيل الله إذ جعله حبيساً لكان لا يجوز بيعه ثم قوله : فأراد عمر - رضي الله تعالى عنه - أن يشتريه منه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ترجع في صدقتك هذا دليل لبعض الناس فإن المذهب عند بعضهم أن من تصدق بفرس على رجل ثم أراد أن يشتريه من المتصدق@(5/251)
عليه أو من غيره فإنه يكره له ذلك وهو مذهب ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - حتى قال : يكره له أن يشتريه وإن اشتراه بأضعاف قيمته واستدلوا بهذا الحديث فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عمر - رضي الله تعالى عنه - عن ذلك وجعل شراءه رجوعاً في الصدقة والرجوع في الصدقة حرام وعندنا لا يكره لأنه استبدال وليس برجوع وتأويل الحديث لاحتمال أنه نهى لمكان المحاباة أي : إذا علم المتصدق عليه أن المتصدق هو الذي يشتريه فربما يحابيه في الثمن فيصير قدر المحاباة يشبه الرجوع في الصدقة فيكره ذلك وأما إذا كان يعلم أنه لا يحابي المتصدق لمكان الصدقة لا يكون رجوعاً في الصدقة ولا يشبه الرجوع فلا يكره وعن ربيعة بن عبد الله بن الهذيل قال : كان عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إذا حمل على بعير في سبيل الله أو على شيء في سبيل الله قال : إذا جاوزت وادي القرى أو نحوها من طريق مصر فاصنع به ما بدا لك فقال بعضهم : هذا من عمر - رضي الله تعالى عنه - تمليك مؤقت أي : إذا بلغت وادي القرى وجاوزته فهو ملك لك كقول الرجل الآخر : إذا جاء غد
فهذه الدار صدقة لك وإذا كان تمليكاً بعد مجاوزة الوادي لا يملكه في الحال وقال بعضهم : كان ذلك من عمر - رضي الله تعالى عنه - تمليكاً في الحال إلا أن هذا الشرط منه للمنع عن الصرف إلى حوائجه والترغيب في الخروج به إلى الغزو فيكون@(5/252)
لهذا الشرط حكم المشورة وروي أيضاً في الكتاب عن عبيد الله بن عمر بإسناده عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما : إذا بلغت وادي القرى فشأنك وعن عاصم بن كليب الجرمي عن عطاء بن أبي رباح في رجل قال : ثلث مالي في سبيل الله قال عطاء طاعة الله كلها سبيله ولكن لو كان سمى غزواً كان كما قال قال محمد - رحمه الله تعالى - : أحب إلينا أن يعطي أهل الحاجة ممن يغزو به سبيل الله ولا يعطي الغني منه شيئاً لأن قوله : ثلثي مالي في سبيل الله عبارة عن التصدق فيكون موضعه الفقراء كما هو السبيل في سائر الصدقات وعن عثمان بن أبي سودة أن أخوين من القارة من كنانة توفي أحدهما وأوصى بدنانير في سبيل الله فلم يتهيأ لأخيه الغزو من عامه فحج به فلقي عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فذكر ذلك له فقال : أنفقها على نفسك فإنك لن تنفق على نفسك درهماً إلا كتب بكذا وكذا قال محمد - رحمه الله تعالى - : هذا إذا كان أخوه محتاجاً وليس بوارث فلا بأس أن ينفقها على نفسه لأنه كفقير أجنبي عنه فأما إذا كان غنياً لا ينبغي أن ينفقها على نفسه لأنها صدقة والصدقة محلها الفقراء دون الأغنياء وكذلك لو كان وارثاً فلا ينفقها على نفسه لأنها وصية وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : لا وصية لوارث والله الموفق .@(5/253)
باب الحبيس في سبيل الله
قال محمد - رحمه الله تعالى - : لا بأس بأن يحبس الرجل فرسه وسلاحه في سبيل الله فيقول : ذلك حبيس على من غزا ويدفعه إلى رجل يقوم بذلك ويعطيه من احتاج إليه وذلك لأن هذا من القرب ومن وقوف السلف من الصحابة نحو عمر وعلي وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - ومن التابعين إبراهيم النخعي وعامر الشعبي - رحمه الله عليهم - هؤلاء كلهم حبسوا في سبيله ثم هذا على قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يشكل فإن عنده وقف المنقول جائز سواء جرى العرف فيه أو لم يجر كوقف غير المنقول وكذلك جائز عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لأن عند أبي يوسف وقف المنقول باطل إلا ما جرى العرف فيه وهو قد جرى العرف من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم والتابعين - يحبس السلاح والكراع فيجوز عنده حبس الكراع والسلاح وما عدا ذلك لا يجوز وأما عند أبي حنيفة - رضي الله@(5/254)
تعالى عنه - الحبس ليس بشيء فإن فعل ذلك فإن ملكه لا يزول بالحبس حتى أن له أن يبيعه إن شاء وإن مات يورث عنه فيكون الحبس على معنى العارية وإباحة الانتفاع كسائر الوقوف على مذهبه ثم على قول محمد - رحمه الله تعالى - لا يصير حبساً إلا بالتسليم وهو إلى قيم إلى متولي الغزاة أو بنصب واحد يقوم به فيسلمه إلى رجل منهم بريد الغزو فيدفعه إليه أو إلى قيم الأوقاف فيزيل يده عنه لأن عنده التسليم شرط في الوقوف كما في سائر الأوقاف وعند أبي يوسف - رحمه الله - التسليم ليس بشرط لصحة الوقف ولكن الإشهاد يكفي فكذلك التسليم في الحبس ليس بشرط ثم إن فعل ذلك في صحته كان من جميع ماله لأن تبرعات الصحيح من جميع المال وإن فعل ذلك في مرضه أو أوصى بعد موته كان ذلك من ثلث ماله كسائر تبرعاته لأن التبرع في المرض وصية والوصية تعتبر من الثلث قال محمد - رحمه الله - : وإذا جعل الرجل حبيساً في سبيل الله فلا بأس بأن يسمه حبيساً لفلان ابن فلان حتى إن ضل أو سرقه سارق رد على صاحبه وروي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم مكان يسم إبل الصدقات بيده وروي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه وسم بيده حتى روي أنه حبس ثلاثين ألف بعير وثلاثمائة فرس موسوماً في أفخاذهن حبيس في سبيل الله وروي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - من عنده وقد وسمت في أفخاذهن@(5/255)
عدة الله ولأن السمة وإن كان فيها إيلام الحيوان ففيها منفعة للمسلمين لأنه إذا كان عليها سمة لا يقصد أحد غصبها ولا يرغب في سرقتها ولو ضلت عرفت بالسمة فترد على صاحبها ولا بأس بإيلام الحيوان لمنفعة المسلمين خصوصاً إذا كان أمراً من أمور الدين ومنهم من يقول : هذا على قولهما لأن عندهما الإشعار في باب المناسك لا يكره فكذلك السمة وأما على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - الإشعار يكره فكذلك السمة مكروهة لأنها مثلة ثم السمة وإن كانت في موضع تتمرغ بها الدابة فلا بأس بذلك لأن قصد صاحبها بالسمة الله المعرفة لا التهاون باسم الله تعالى فلم يكن به بأس وهذا يبين لك الجواب في مسألة أخرى وهو أن الرجل إذا كان له خاتم مكتوب عليه اسم من أسماء الله تعالى فإن جواب العلماء أنه يكره له أن يدخل الخلاء والخاتم في أصبعه أو أن يأتي أهله معه بل الواجب عليه أن ينزعه من أصبعه تعظيماً لاسم الله تعالى وفيما ذكر ها هنا دليل على أنه لا يكره أن يدخل الخلاء أو أن يأتي أهله وهو متختم بذلك بالخاتم ولكن جواب العلماء ما بيناه عن سليمان ابن يسار أنه كان لا يرى بالبدل بالحبيس بأساً ويكرهه من غير علة وعن الحسب البصري - رضي الله تعالى عنه - أنه كان لا يرى بالبدل بالحبيس بأساً ويكرهه من غير علة إذا مرض فأما إذا كان بغير علة فإنه يكره استبداله لأن الذي حبسه رضي بحبسه لا باستبداله وأما إذا كان بعلة فإن كانت العلة مما يتوهم زوالها نحو المرض فإنه يكره له أن يبدل عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا يكره لأن الحبس عند لازم حتى كان لصاحبه أن يبيعه
فلما كان لصاحبه أن يبيعه والرجوع فيه فكذلك الاستبدال وأما عندهما الحبس لازم ولو@(5/256)
شاء صاحبه أن يبيعه بعدما مرض لا يكون له ذلك فكذلك لا يكون لغيره وهكذا روي عن مكحول أنه قال : لا تبيعوا شيئاً من حبيس الدواب ولا تستبدلوها فلا يجوز استبدالها إلا إذا كانت العلة بحيث لا يتوهم زوالها بأن صار بحال لا يستطاع حبيساً مكانه إن قدر على ذلك وإن لم يقدر عليه يغزي بذلك الثمن عن صاحبه لأن مقصود صاحبه هو القتال عليه وإذا صار بحال لا يستطاع القتال عليه لو لم تجز المبادلة في هذه الحالة أدى إلى تفويت غرض صاحبه فلا يكون بالمبادلة بأس وروي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قال : لا بأس باستبدال الوقف لما روي عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه وقف على والديه الحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهما - فلما خرج إلى صفين قال : إن نأت بهم الدار بيعوه واقسموا ثمنه بينهم ولم يكن شر البيع في أصل الوقف ثم أمر بالبيع والله الموفق .
والحبس في الحياة والصحة قال محمد - رحمه الله تعالى - : إذا أوصى الرجل فقال : ثلث مالي وصية في سبيل الله ثم مات فثلث ماله في سبيل الله كما أوصى لأنه أوصى بثلث ماله في طاعة الله تعالى والوصية في طاعة الله جائزة ويعطي الثلث أهل الحاجة لأن المال في سبيل الله يكون صدقة الصدقة مصرفها الفقراء وأهل الحاجة ثم يعطي أهل الحاجة ممن يغزو في سبيل الله لما قلنا : إن عند الإطلاق في سبيل الله يراد به الجهاد فيصرف@(5/257)
إلى أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين ويعي كل رجل منهم ما يقويه لأن التصدق على المسكين إذا وجب فإنه لا ينقص من قوت اليوم لأن الغناء لا يقع بدونه ولهذا يجب في كفارة اليمين أن يطعم كل مسكين مقدار قوت يومه وذلك نصف صاع من الحنة فإن أحبوا زادوه على ذلك لأنه محل ينصرف الجميع إليه فيكون محلاً لصرف الزيادة ألا ترى : أنه لو أوصى بثلث ماله للفقراء فصرف الكل إلى فقير واحد جاز عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وعند محمد - رحمه الله تعالى - لا يجوز إلا أن يصرف إلى الاثنين ولو دفع زكاة المال كله إلى فقير واحد جزأه فثبت أن لواحد محل لصرف الكل إليه فكان محلاً لصرف الزيادة إليه فإن الزيادة على القوت يكون ما يأخذ له لأن الصدقة في سبيل الله تمليك ألا ترى أن الله تعالى جعل الصدقة المفروضة في سبيل الله وتلك الصدقة شر صحتها التمليك كذلك ها هنا والصدقة تملك بالقبض فإذا قبض صارت له فإن خلف لنفقة أهله من تلك الدراهم جاز وإن قضى بها حوائجه جاز لأنه تصرف في ملك نفسه لكن الأفضل أن يخرج بها في سبيل الله تحصيلاً لمراد الميت فإن خرج بها في سبيل الله ثم رجع وفي يده من المال شيء فهو له لأنه لو لم يخرج به إلى الجهاد كان له فإذا رجع وبقي فضل بعد رجوعه كان له لأنه فضل عن ملكه وإن مات يورث عنه قال : ولا ينبغي أن يعطي منه غنياً يغزو به في سبيل الله لما قلنا : إن الثلث في سبيل الله صدقة وصرف الصدقة محلها الفقراء دون
الأغنياء دليله الزكاة وسائر الصدقات قال : وكذلك الرجل إذا جعل في حياته وصحته ماله في سبيل الله فإنه ينبغي أن يتصدق بجميع ماله ويمسك ما بقوته فإذا أفاد مالاً تصدق بمثل ما كان أمسك وذكر في كتاب الهبة إذا قال الرجل : مالي في المساكين صدقة يلزمه التصدق بمال الزكاة من السوائم ومال التجارة ولا ينصرف إلى ما سواه من رقيقه وعقاره فمنهم من قال : ما ذكر ها هنا جواب القياس وما ذكر في الهبة جواب الاستحسان ومنهم@(5/258)
من قال : اختلاف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع مسألة الهبة أنه قال : مالي صدقة في المساكين فالصدقة كانت في لفظة نصاً وذكر المال عند إيجاب الصدقة يراد به مال الزكاة وقال الله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } التوبة : 103 والمراد منه مال الزكاة وموضوع المسألة ها هنا أنه قال : مالي في سبيل الله فليس في لفظه ذكر الصدقة نصاً وليس لهذا الإيجاب أصل في كتاب الله تعالى ليعتبر به فيصرف إلى كل ما يقع عليه اسم المال ومنهم من قال : بأن بين المسألتين اختلافاً في الرواية وهو أنه أضاف الإيجاب إلى ماله فينصرف إلى كل ما يقع عليه اسم المال واسم المال يقع على غير مال الزكاة من الرقيق والعقار قال صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك مالاً فلورثته ثم انصرف ذلك إلى أنواع مال الميت وكذلك لو قال : أوصيت بثلث مالي لفلان أو للمساكين كان له الثلث من كل مال فإذا كان اسم المال يقع عليه تناول الإيجاب فيلزمه التصدق بجميع ماله ووجه رواية كتاب الهبة وهو أن هذا الإيجاب إيجاب الصدقة بماله فيعتبر بإيجاب الله تعالى للصدقة في مال عباده وذلك ينصرف إلى مال الزكاة فكذلك ها هنا انصرف إلى مال الزكاة ثم في هذه الرواية يمسك ما يقوته لأنه لو لم يمسك قوته لاحتاج إلى السؤال وليس للإنسان أن يعرض نفسه للسؤال ولأنه إذا تصدق بجميع ماله يحل له التناول من مال غيره فلأن يتناول من مال نفسه كان أولى فإذا أفدا مالاً مثل ما كان
أمسك تصدق بذلك القدر لأن ذلك القدر صار مال الفقراء وكان الواجب عليه الصرف إليهم فإذا أتلفه صار ديناً عليه فيجب قضاؤه ثم المشايخ قالوا في قدر قوته الذي يمسك فإن كان الرجل زارعاً يمسك قوت سنة لأن الظاهر أن يده لا تصل إلى ما يقوته إلا بعد سنة وإن كان الرجل تاجراً يمسك قوت شهر لأن التاجر يأكل من ربحه ولا يربح في كل يوم ولكن في الغالب لا يمضي شهر إلا ويربح وإن كان الرجل معاملاً يمسك قوت ثلاثة أيام لأنه قد يستعمل في يوم وقد لا يستعمل في يوم ولكن في الظاهر لا يمضي أكثر من ثلاثة أيام إلا ويستعمل ولو قال : جميع ما أملك في المساكين صدقة ففيه روايتان في رواية@(5/259)
يجب عليه أن يتصدق بجميع ما كان يملك من ماله وفي رواية ينصرف إلى مال الزكاة وقد مر الوجه في رواية كتاب الهبة ثم يعطي ماله المحتاجين ممن يغزو في سبيل الله لما قلنا وإن أعطاه المساكين ممن لا يغزو أجزأ ذلك لأن الصدقة على المساكين الذين لا يغمزون طاعة وقد ذكرنا أن كل طاعة من سبيل الله وإن مات قبل أن ينفذ كان ميراثاً عنه وليس عليهم أن ينفذوا من ذلك شيئاً إلا أن يشاءوا ذلك لأن الصدقة المنذورة لا تكون أفضل من الصدقة المفروضة ولو مات وعليه زكاة تسقط بموته ولا تصير ديناً في التركة فهذا أولى والمعنى في ذلك أن الصدقة لا تصير ملكاً للفقراء إلا بالقبض فما لم يقبض وينفذ فهي باقية على ملك الميت فتصير ميراثاً عنه ثم الورثة ملكوا المال إرثاً فلا يجب عليهم التنفيذ من مالهم قال : ولو أن رجلاً أوصى عند موته فقال : غزوا عني غزوة أو قال : اغزوا عني بثلث مالي فإذا قال : اغزوا عني غزوة وأعطى رجلاً نفقة غزوة يغزو بها لا يملك الذي يغزو بها ذلك المال لأنه قال : اغزوا عني والغزو عنه إنما يكون إذا غزا بماله فينفق ماله في الغزو وليصل إليه ثواب النفقة في الغزو فلو ملك الغازي ذلك المال الغزو عن الغازي لا عن الآمر ألا ترى : أنه إذا قال : احجوا عني رجلاً حجة من
مالي فأعطي رجلاً نفقة الحج فإن الحاج لا يملك تلك النفقة ولكن يملك الإنفاق في طريق الحج لا غير حتى يقع الحج عن المحجوج عنه فكذلك ها هنا ولكن يعي أدنى ما يكون من نفقة الغزو فيغزو عنه لأن ذلك القدر متيقن والزيادة على ذلك ملك الورثة فلا يغزو من مال الورثة ألا ترى أن في الوصية بالحج يعطى الحاج أدن ما يكون من نفقة الحج كذا هذا يعطى أدنى ما يكون من نفقة الغزو ولا ينفق شيئاً من تلك النفقة على أهله ولا ينفقها إلا على نفسه لأنه لم يملك النفقة ليصرفها إلى حيث شاء وإنما أمره بالإنفاق في الغزو عنه فلا ينفقها في غير ما أمر كالحاج عن الغير لا ينفق المال إلا على نفسه في طريق@(5/260)
الحج فكذلك ها هنا قال : وله أن ينفق على نفسه راجعاً ألا ترى أن الحاج عن الغير ينفق ذاهباً وراجعاً فكذلك ها هنا فإن فضل شيء من النفقة رده على الورثة لأنه لم يملك المال بالقبض إنما كان له حق الصرف إلى نفقة الغزو وقد انقضى أمر الغزو فهذا فضل مال الميت فيرده إلى ورثته ألا ترى أن الحاج عن الغير يرد فضل النفقة إلى ورثة المحجوج عنه فكذلك ها هنا إلا أن يسلم له الورثة فحينئذ يكون له وإن قال : اغزوا عني بثلثي في سبيل الله أعطى ثلثه من يغزو في سبيل الله يعطون نفقاتهم ويشتري لهم الخيل لأنه أوصى بجميع ثلثه في نفقة الغزو فيصرف جميع ذلك إليه بخلاف الأول فإنه أوصى بغزوة واحده فلا يعي إلا نفقة غزوة واحدة ويشتري لهم الخيل لأن أمر الغزو يلتئم بالخيل .
ألا ترى أن في الوصية بالحج بثلث ماله يشتري للحاج بعيراً يركبه كما أن سفر الحج يقطع بالبعير فكذلك ها هنا ثم يعطون الثلث كله في سنة واحدة ليغزوا عنه لأن ذلك أسرع لتنفيذ وصيته وتحصيل مراده وهذا والحج سواء فإذا رجعوا ردوا ما في أيديهم حتى يبعث إلى قوم آخرين حتى لا يبقى من الثلث شيء لما قلنا : إن سبيل هذا الثلث أن ينفذ في أمر الغزو فيصرف الباقي إليه حتى يفنى كله في أمر الغزو فإن لم تبق نفقة وبقيت الخيل بيعت حتى يدعي أثمانها قوماً يغزون بها لأن تلك الخيل اشتريت من ثلث ماله فتصرف أثمانها إلى حيث يصرف الثلث فإن بقي في أيديهم من نفقاتهم شيء رد حتى يغزو بما بقي قال : وينبغي للرجل الذي يوصى إليه أني غزو عنه غزوة من منزل الرجل الموصي لأنه لو غزا بنفسه غزا من منزله فكذلك غيره إذا غزا عنه يغزو من منزله ألا ترى أن في باب الحج يحج من منزله فكذلك ها هنا فإن بقي من الثلث شيء لا يبلغ منفقة من يخرج من منزل الموصي دفع ذلك الوصي إلى رجل يغزو عنه من حيث يبلغ النفقة كما في الوصية بالحج سواء قال : وإن أوصى بثلثه في سبيل الله فليس ينبغي للوصي أن يعطي أحداً من الورثة من ذلك شيئاً وإن كان محتاجاً لأنه لو دفع إليه صارت@(5/261)
وصية له والوصية للوارث لا تجوز فإن كانت الورثة كلهم كباراً فأجازوا للوصي أن يعطيه المحتاجين من الورثة ففعل ذلك فلا بأس به لأن الوصية للوارث إنما لا تجوز لحق الورثة فإذا أجازوا فقد أبطلوا حق أنفسهم فتجوز الوصية وإن كان لوصي محتاجاً فأخذ لنفسه بعض الثلث ليغزو به في سبيل الله فلا بأس بذلك إذا لم يكن وارثاً لأن قول الموصي : أوصيت بثلثي في سبيل الله ليس فيه أمر بتمليك الغير فهو كقوله : ضعه حيث شئت ولو قال له : ضعه حيث شئت كان له أن يضعه في نفسه وفي غيره فكذلك ها هنا وإن كرهت الورثة ذلك فذلك لا يضر لأن الرأي والتدبير إلى الوصي لا إلى الورثة لأنه لا شيء لهم من الثلث فلا يعتبر رضاهم وكراهتهم
كما إذا كان الآخذ أجنبياً وكذلك إن أعطي ابنه أو أباه أو مكاتبه فهو جائز لأنه لو صرفه إلى نفسه جاز فكذلك إذا صرفه إلى هؤلاء أولى أن يجوز وإن أعطى عبده فإن كان لمولى محتاجاً جاز وإن أعطاه وهو غني لم يجز وضمن المال لأن الصرف إلى عبده كالصرف إلى نفسه لأن الملك يقع له لا للعبد ولو صرفه إلى نفسه وهو فقير جاز ولو كان غنياً لم يجز فكذلك ها هنا وإن أعطاه وهو لا يعلم أنه غني سأله فأعطاه أجزأه لأنه لو أعطاه زكاة ماله وهو لا يعلم أنه غني جاز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - وعند أبي يوسف - رحمه الله - لا يجوز فكذلك الصدقة فإن قيل : الوصي إنما يعطي عن أمر الميت والميت إنما أمره بالوضع في الفقراء فمتى وضعه في غيرهم صار واضعاً بغير أمره فينبغي ألا يجوز عن الميت والجواب عنه أن أمعن بن يزيد السلمي إنما أخذ الصدقة من وكيل أبيه وكان أبوه عنى غيره حيث قال : إياك ما أردت بها ومع ذلك أجاز له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال : يا يزيد لك ما نويت فثبت أن الوكيل وصاحب المال في ذلك سواء ولو أوصى الميت أن يغزو لي غزوة في سبيل الله فأراد بعض الورثة أن يكون هو الذي يغزو عنه فليس له ذلك إلا أن يجيز ذلك له الورثة لأن الوارث وإن كان لا يملك العين@(5/262)
يحصل له فيها منفعة والوارث محجور النفع عن مورثه في مرض موته فإن أجاز له الورثة أن يكون هو الذي يغزو عنه وهم كبار بعد وفاة الموصي يجوز له أن يغزو ويرد ما بقي من النفقة لأن المنع كان لحق الورثة ولم يبق لهم حق بعد الإجازة فيجوز له أن يغزو وإن كان الوارث غنياً بخلاف ما إذا قال : ثلثي وصية في سبيل الله فإنه لا يعطي الوارث إن كان غنياً وإن أجازه الورثة كلهم لأن ذلك المال إنما يدفع إليه بعد الإجازة على وجه الصدقة والصدقة محلها الفقراء دون الأغنياء فلا يصير الغني محلاً لها بإجازة الورثة فأما ها هنا المال ليس يدفع إليه على وجه التمليك وإنما يدفع إليه
على وجه الإباحة وما كان على وجه الإباحة يستوي فيه الغني والفقير دليله السقاية الموقوفة فإنه يجوز للغني أن يشرب من مائها كما يجوز للفقير ألا ترى أن في الفصل ما فضل من النفقة يرد إلى الورثة فكان دليلاً على ما قلنا فإن غزا بها الوارث قبل أن يجيز الورثة ثم علمت الورثة بعد ما غزا ورجع فأجازوا لم يجز ذلك وكان ضامناً لما أنفق حتى يغزو عنه غزوة أخرى لأن الإجازة ترد على الموقوف وبالغزوة قد نفذت عن الوارث ولم تتوقف فلا ترد عليها الإجازة وكذلك لو كان صغيراً فيهم لم تجز غزوته لأن الإجازة قد عدمت منه فإن كبر فأجاز لم تجز أيضاً لما قلنا : أن الغزوة لم تتوقف فلا ترد عليها الإجازة وكذلك إن أوصى بماله في سبيل الله لم يجز إن يعي أحد من الورثة حتى يجيزوا كلهم لأنه لو أعطى المال كان وصية للوارث وذلك لا يجوز إلا بإجازة الورثة ولو أوصى بأن يغزو عنه غزوة فغزا عنه الوصي وليس بوارث جاز ذلك ويرد فضل النفقة لأنه ليس في لفظه ما يدل على إخراج الوصي من الوصية فكان له أن يصرفه إلى نفسه كا لو قال ضعه حيث شئت قال : فإن أوصى أن يغزى عنه غزوة فاغزوا رجلاً يرابط عنه ولا يدخل أرض العدو فذلك جائز لأن الربا من الغزو فصار كأنه أغزى رجلاً دخل أرض العدو فإن قالت الورثة : يرابط يوماً@(5/263)
واحداً وقال الوصي : يرابط أربعين يوماً فإن القاضي يجيز من ذلك أدنى الرباط وذلك ثلاثة أيام لأن الواجب هو أقل الرباط لأن ما يبقى بعد رجوعه مع الغازي يصرف للورثة إرثاً بينهم فلا يقطع حقهم عن شيء من التركة إلا بيقين وأدنى الرباط ثلاثة أيام لأنه أقل المقادير التي وردت في الشريعة كما في مدة السفر ومدة الخيار ولأن الإنسان لا يسمى مرابطاً برباط ساعة أو ساعتين ويسمى مرابطاً إذا رابط أياماً فيجب أن يرابط عن الميت ما يقع عليه اسم الأيام وأقل ذلك ثلاثة أيام فيجب رباطه ثلاثة أيام لهذا المعنى لأن الآثار قد اختلفت في الرباط فإنه روي أنه صلى الله عليه
وسلم قال : من رابط يوماً في سبيل الله كان كصيام العمر وقيامه أو قال كلاماً هذا معناه ومن رابط أربعين يوماً كان له كذا وكذا ومن رابط ثلاثة أيام كان له كذا فإن اختلف الوارث والوصي يؤخذ بأوسط الأعداد وذلك ثلاثة أيام لأنه أقل من الأكثر وأكثر من الأقل فيقضى به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : خير الأمور أوساطها وإن كان الذي أوصى به منزله في الثغر الذي يرابط فيه فالقياس أنه إذا غزا عنه رجل يرابط في الثغر ولا يدخل أرض العدو جاز وفي الاستحسان لا يجوز حتى يغزى عنه رجلاً يدخل أرض العدو وجه القياس فيه ما قلنا : إن الرباط من الغزو فوجب أن يجوز إذا غزا رجل يرابط ولا يدخل أرض العدو دليله ما إذا كان منزل الموصي في غير موضع الرباط ووجه الاستحسان في ذلك أن الميت أوصى بأن يغزى عنه غزوة فكان عليهم أن يأتوا بما يستحق اسم الغزو والرجل متى رابط في مصر نفسه وفي موضعه لم يسم غازياً عند الناس وإنما يسمى إذا دخل أرض العدو فما لم يغز عنه رجل يدخل أرض العدو لا يثبت اسم الغزو عليه فلا يجوز فأما إذا سافر إلى مصر ورابط فيه يسمى غازياً عند الناس فإذا غزا عنه رجل خرج إلى الرباط فقد استحق اسم الغزو فيكفي ذلك ولأن الموصي إذا لم يكن منزله في موضع الرباط وهو في مصر من أمصار المسلمين فإنه يتخير على الرباط وعلى الدخول في أرض العدو وفي مجاهدة الكفار فانصرفت وصيته إلى النوعين من الغزو على الرباط والجهاد فمتى رابط عنه جاز ومتى دخل أرض العدو وجاهد جاز فأما إذا كان منزله في موضع الرباط فإن تحسره على ما فاته من الجهاد أكثر من تحسره على ما يفوته من الرباط فتعين الجهاد لوصيته دون الرباط فما لم يجاهد فيه لا يجوز نظيره أن@(5/264)
الطواف للآفاق بمكة أفضل من الصلاة لأن تحسره على ما يفوته من الطواف أكثر فإنه يمكنه أداء الصلاة بغير مكة ولا يمكنه الطواف إلا بمكة فكان أكبر همه هو الطواف فاشتغاله به أولى فإن المكي قلما يتحسر على ما
يفوته من الطواف فإن الطواف له ممكن في كل وقت والصلاة لها رفعة عظيمة فكانت الصلاة له أفضل كذلك ها هنا ولو كان أوصى بثلثه أن يغزو عنه فرأى الوصي أن يدفع إلى من يرابط أربعين ليلة أو أكثر أو إلى من يغزو إلى دار الحرب فذلك جائز عندنا على ما رأى الوصي وإن أبى ذلك الورثة لأن مصرف هذا كله إلى الغزو ولا يرجع إلى الورثة منه شيء فلم يكن منهم رأي ولا تدبير وكان للوصي أن يفعل ما يرى بخلاف ما إذا قال : اغز عني غزوة فإن الثلث كله لا يصرف إلى الجهاد ألا ترى : أن فضل النفقة يرد إلى الورثة فكان لهم رأي وتدبير حتى لا يقطع حقهم قال : الميراث وإذا أوصى الرجل بثلث ماله في سبيل الله يضعه حيث أحب فذلك إلى الوصي فإن جعله الوصي لنفسه وهو محتاج أو لابنه أو لغيرهم جاز ما صنع من ذلك لأن الميت لو لم يقل يضعه حيث أحب كان للوصي أني جعله لنفسه ولابنه فإذا قال : يضعه حيث أحب وقد فوض إليه الرأي على العموم أولى أن يكون له ذلك وإن جعله الوصي لرجل غني وهو يعرف لم يجز ذلك لما قلنا إن المال في سبيل الله يكون صدقة ومحل الصدقة الفقير دون الغنى وقيل للوصي ضعه فيمن أحببت من الفقراء لأن الدفع لم يصح كأنه لم يدفع ولو لم يدفع يصرفه إلى من شاء من الفقراء كذلك ها هنا فإن قالت الورثة : قد جعله الموصي في الأغنياء فبطلت فنأخذ الثلث@(5/265)
ميراثاً لم يكن لهم ذلك لأنه مخالف حين وضعه في الأغنياء وبالخلاف لم يخرج عن الوصاية ولا خرج المال عن الوصية فكان له أن يضعه بعد ذلك في الفقراء ولو جعله الوصي لبعض الورثة وهم أغنياء لم يجز ذلك وكان له أن يجعله لمن شاء من الفقراء إلا أن الوصي لو وضع فيه وهو أجنبي لم يجز لأنه لو كان غنياً أجنبياً فلا يجوز فإذا كان وارثاً غنياً أولى ألا يجوز ولو أن الوصي جعله لبعض الورثة وهم فقراء ليغزوا به في سبيل الله قيل للورثة : أتجيزون ما صنع الوصي فإن أجازوه جاز لأن الوارث إذا كان فقيراً فهو محل الصدقة إلا أنه
لم يجعل له لكونه وصية والوصية تجوز للوارث بإجازة الورثة وإن لم يجيزوه رجع إلى الميراث ولم يكن للوصي أن يجعله لغير الورثة بعد ذلك بخلاف الفصل الأول إذا جعله الموصي لغني كان له أن يجعله بعد ذلك للفقير ووجه الفرق في ذلك أن قول الميت ثلثي في سبيل الله يقتضي الوضع في أهل الحاجة فهو في الوضع في الأغنياء غير مأمور وفي الوضع في الفقراء مأمور فمتى وضعه في غني فإنما وضعه بغير أمر الميت صار مخالفاً وصار كأنه لم يضع فله أن يضعه فيمن أمر بالوضع فيه فأما إذا وضعه في وارث فقير فقد وضعه في محله فلم يصر مخالفاً لأمر الميت فصار دفعه ووضع الميت فيه سواء والميت لو وضعه فيه كانت وصية للوارث والوصية للوارث إذا لم يجزها الورثة تصير ميراثاً كذلك ها هنا وإذا أوصى الميت أني جعل فرسه حبيساً في سبيل الله أو سلاحه في سبيل الله أو يجعل مصحفه حبيساً يقرأ فيه القرآن أو دار يسكنها الغزاة أو يؤاجر فيكون أجرها في سبيل الله أو ارض تزرع فتكون غلتها في سبيل الله أو أوصى أن يجعل عبده وقفاً في سبيل الله أو يخدم الغزاة أو يؤاجر فتقسم غلته في سبيل الله أو غير ذلك مما يتقرب به العبد إلى ربه وكذا حبس الفأس والقدوم والمزاد@(5/266)
والطنجير والشفرة فهذا كله جائز عند محمد - رحمه الله - من الثلث وعند أبي يوسف رحمه الله ما كان من ذلك داراً أو عقاراً فحبس جائز وما كان من ذلك منقولاً فلا يجوز حبسه إلا الكراع والسلاح وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : الحبس باطل في المنقول وغير المنقول إلا الغلة فإنه جائز نحو إن أوصى بغلة عبد أو دار أو أرض في سبيل الله فإنه جائز وتعطى الغلة للفقراء في سبيل الله أما محمد - رحمه الله تعالى - فإنه يجيز الوقف في الحياة وبعد الممات لما فيه من القربة وكذلك الحبس في سبيل الله جائز لأن معنى القربة موجود فيه يدل عليه ما روي عن حفصة - رضي الله تعالى عنها - أنها سبلت مصحفاً لها وأما أبو يوسف - رحمه الله
تعالى - فلأن المذهب عنده أن وقف المنقول باطل فكذلك حبس المنقول في سبيل الله باطل وكان يقول : القياس ألا يجوز وقف الأراضي لما فيه من تعطيل الملك ولا تمليك ممن أحد إلا أن الشرع عطل ملكنا عن المساجد لقربة تعلقت بها عائد نفعها إلينا من حيث الثواب فجوزنا في مثله في وقف الأراضي لأنها من جنس المساجد فإنها تبقى وعائد نفعها كالمساجد فأما الأموال المنقولة ما وجدنا فيها قربة أوجبها الله تعالى إلا قربة تقع بتمليك الفقير فكذلك لا يجوز إيجاب القربة من العبد إلا على وجه التمليك إذ إيجاب العبد من القرب معتبر إيجاب الله تعالى فأما أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فإنه كان لا يجيز الوقف والحبس في حالة الحياة فلا يجوز عنده إذا أوصى بعد موته إلا ما كان له أصل في الشريعة والوصية بالغلة لها أصل في الشريعة فإنه لو أوصى بأن يصرف غلة بستانه على الفقير فذلك جائز لما يقع فيه من التمليك فكذلك حبس الأراضي والعبد والدار لتكون غلتها في سبيل الله يجوز لأن فيه معنى التمليك لأن الغلة يتصدق بها على أهل الحاجة ممن يغزو فتصير ملكاً لمن يأخذها يصنع بها ما شاء فأما ما ليس فيه معنى تمليك الشيء ولكن فيه انتفاع بالعين نحو سكنى الدار وركوب الفرس وقراءة المصحف ولبس السلاح وخدمة العبيد لا أصل في جوازه في الشرع إذا وقع لأقوام مجهولين فإنه لو أوصى بخدمة عبيده لقوم بغير أعيانهم لا يجوز ذلك وإذا كانوا معلومين جاز وها هنا وقع الحبس لأقوام مجهولين فلا يجوز والمعنى في ذلك أنه إذا لم يكن فيه تمليك العين لم يكن صدقة ألا ترى أنه يدخل فيه الغني والفقير فلا يجوز إذا وقع لقوم بغير أعيانهم ومن أخذ الفرس الحبيس@(5/267)
ليركبه في سبيل الله فنفقته عليه حتى يرده لأنه هو المنتفع به والنفقة على من يحصل له المنفعة ألا ترى أن العبد الموصى بخدمته نفقته على الموصى له بالخدمة ما دام يخدمه لأنه هو المنتفع به ولو استعار فرسه منه في حال حياته كانت
نفقته على المستعير فكذلك الغازي نفقته عليه وكذلك السلاح يكون وقفاً في سبيل الله من الثلث فمن أخذه كان عليه حفظه وإصلاحه حتى يرده لما قلنا : إنه هو المنتفع به ما لم يرده فإذا أخذه غيره كانت النفقة على الثاني فإن ركب الوصي الفرس وتسلح بالسلاح فلا بأس بذلك إذا كان الوصي غير وارث لأنه ليس في كلام الموصي ما يوجب خروج هذا الوصي عن الوصية فصار هذا وقوله : ضع فرسي وسلاحي في سبيل الله حيث شئت سواء ولا ينبغي أن يعطيه وارثاً للميت إلا أن يرضى جميع الورثة وهم كبار لأن فيه وصية بالمنفعة للوارث والوصية بالمنفعة للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة فإن أعطاه الوصي بعض الورثة بغير رضى بقيتهم فنفق الفرس تحته كان للورثة أن يضمنوا قيمة الفرس إن شاءوا الوصي الذي أعطى وإن شاءوا الوارث الذي يركب لأن الوصي متعد في الدفع والوراث متعد قال : يالقبض فيضمن كل واحد منهما لتعديه كما قلنا في الغاصب وغاصب الغاصب والمستعير من الغاصب فأيهما ضمنوه القيمة أمر القاضي فاشترى بالقيمة فرساً آخر فجعل حبيساً في سبيل الله لأن هذا بدل عن الفرس فيصرف إلى فرس آخر ليقوم مقامه حتى لا تنقطع الصدقة عن الواقف فإن ضمن الوارث القيمة فأراد أن يرجع بها على الوصي لم يكن له ذلك لأن الفرس نفق بفعله وجنايته فلا يرجع بما ضمن على غيره كغاصب الغاصب والمستعير من الغاصب إذا ضمن فلا يرجع به على أحد وإن ضمن الوصي فأراد أن يرجع بالقيمة على@(5/268)
الوارث كان له ذلك لأنه بالضمان ملك فيرجع عليه كما قلنا في الغاصب إذا ضمن ورجع به على غاصب الغاصب فإن قيل : لم لا يكون هذا بمنزلة الغاصب إذا وهب الغصب لرجل فأتلفه الموهوب له ثم ضمن الغاصب فإنه لا يرجع على الموهوب له بشيء فلم يرجع هنا قلنا : إذا غصب الغاصب أو أعار فقد قصد أن تكون الصلة منه لا من غيره فإذا ملك المال بالضمان فقد تمت الصلة منه فلا يرجع عليه بشيء وأما ها هنا إنما أعاره ليكون صلة من الميت لا منه
وبالضمان لم تتم الصلة فصار كأنه قبضه بغير حق وبغير إذنه فيرجع عليه ونظيره رجل أكره رجلاً على أن يهب مال رجل لأخر فوهب ثم إن المكره ضمن لصاحب المال فإنه يرجع بالمال الموهوب على الموهب له لما قلنا : إنه لم يقصد بأن تكون الصلة منه إنما قصد بأن تكون الصلة من صاحب المال فإذا ملكه رجع فكذلك ها هنا قال : وإذا أوصى بعبد له في سبيل الله تعالى من ثلث ماله يداوي الجرحي وكان طبيباً أو يسقى الماء للغزاة في سبيل الله أو يؤاجر فيصرف غلته في سبيل الله فهذا كله جائز عند محمد - رحمه الله تعالى - لما قلنا : أن هذا من القرب فأما الغلة في عطاها الغزاة لأن الغلة صدقة تمليك ومحل الصدقة الفقير دون الغني وأما الماء فيسقى الغزاة ومن استسقاه من الأغنياء والفقراء وكذلك يخدم الغزاة من استخدمه من غني أو فقير لأن هذا ليس بصدقة تمليك بل هي إباحة انتفاع وما كان طريقة الإباحة يستوي فيه الغني والفقير كالماء الموضوع على الطريق فإنه يباح شربه للغني والفقير جميعاً وكذلك الغني له أن يستقي الماء من نهر الغير ومن حوض الغير كالفقير سواء وأفضل ذلك أن يكون لأهل الحاجة لأن الغني يقع له الكفاية بدون ذلك بأن يشتري له عبداً فيخدمه والفقير لا يستغني عنه فكان المحتاج أولى بالخدمة له وإن جعل الميت الكراع أو السلاح أو غيره مما وصفت لك حبيساً في سبيل الله تعالى في حياته وصحته فإن ذلك باطل وإذا مات كان ميراثاً في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأن الوقف عنده باطل إلا أن يكون موصى به والموصى به هو الغلة وقد عدم ها هنا فبطل@(5/269)
وأما أبو يوسف - رحمه الله تعالى - لا يجيز وقف المنقول إلا في الكراع والسلاح والحبيس هناك كراع وسلاح فجاز عندهما إلا أن عند محمد - رحمه الله تعالى - الإخراج من يده شرط بأن يدفعه إلى غيره ليكون هو القيم عليه وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ليس بشرط ولكن الإشهاد يكفي فأبو يوسف - رحمه الله تعالى - يقول :
إن القيم إنما يقبضه بأمره فكان يد القيم كيد الواقف فإذا كانت يده كيده فلا فائدة في التسليم إليه ومحمد - رحمه الله تعالى - يقول : أجمعنا على أنه لو جعل داره مسجداً فإنه لا يصير مسجداً إلا أن يأذن للناس بالدخول والصلاة فيه فإذا أذن لهم بالصلاة فيه يصير مسجداً ولا يقال : إنهم يصلون بإذنه فيجعل كصلاته بنفسه بل لم يجعل هكذا فكذلك ها هنا ولأن الأموال لا تبقى محفوظة كما جعلت على أي وجه صارت ولا بأس بأن ينتفع بذلك كله القيم وولده ووالده لأنه لو فعل هذا في مرضه قد ذكرنا أن للقيم أن ينتفع به فإذا فعل في حياته وصحته أولى وكذلك لوارثه أن ينتفع به إذا سلم لهم ذلك القيم الذي ولاه لأن ما حبسه في حياته وصحته لم يكن وصية ألا ترى أنه لا يعتبر من الثلث ويبدأ به قبل الدين ولو أراد إبطاله في حياته لم ينفذ وما لم يكن وصية فالورثة وغيرهم فيه سواء وإن مات القيم في حياة الذي حبس ذلك أو بعد موته فالأمر فيه إلى من ولاه القيم ذلك لأنه هو القيم في حال حياته فالقائم مقامه يكون هو القيم بعدواته فالوصي إذا مات وأوصى إلى رجل فإن الوصي الثاني يكون هو ألوى من غير فكذلك ها هنا وهذا بخلاف القاضي إذا فوض القضاء إلى غيره ثم مات فإن الثاني لا يكون قاضياً وذلك لأن الإمام الذي ولي القاضي الأول كان له ولاية بعد توليه القضاء ولم يخرج الأمر من يده بدليل أن له أن يعزله في حال حياته ويولي غيره@(5/270)
فلما كانت ولايته باقية لم يجز متولية القاضي غيره إلا بإذن الإمام فأما ها هنا ليس للذي حبس ولاية بعدما أخرج من يده ألا ترى أنه لو أراد أن يعزله ويستبدل غيره لم يكن له ذلك فلما كانت الولاية للقيم دون الذي حبس كان له التفويض إلى غيره فإن مات من غير تولية منه لأحد فإن القاضي يجعل القيم في ذلك من أحب وليس للذي حبسه من ذلك شيء هكذا ذكر محمد وذكر الخصاف في كتابه وهلال أيضاً في كتابه أن الذي حبسه له أن يولي غيره فوجه تلك الرواية وهو أن
هذا القيم لو ولى غيره ثم مات جازت توليته وإنما ولاه لولاية مستفادة من جهة الذي حبس فلما جاز لغيره أن يولي غيره بولاية فلأن يجوز للذي حبس أني ولي غيره بولاية نفسه كان أولى والوجه لما ذكرنا ها هنا وهو أنه حبسه وسلمه إلى القيم فقد أخرج الحبيس عن ملكه ويده وصار هو وسائر الأجانب فيه سواء وكما أن التدبير ليس إلى سائر الأجانب فكذلك لا يكون التدبير إليه وإن جعله حبيساً واشترط في ذلك أنه هو القيم فيه فهذا باطل في الحكم لأنه لما شرط أن يكون هو القيم في ذلك فلم يوجد الإخراج من يده والتسليم إلى غيره وإن دفع ذلك إلى قيم يقوم به واشترط أنه مات قبل الذي حبس ذلك كان الأمر إلى الذي حبس ذلك يجعل فيه من أحب جاز ما اشترط من ذلك لأنه إنما أخرج عن يده بهذا الشرط فيراعي شرطه كما لو شرط شرطاً آخر لأن شروط الواقف تراعى ثم هذا الشرط لا يمنع جوازه عند محمد - رحمه الله تعالى - لأنه لما أخرجه من يده فقد تم الوقف والحبس فصار هو كواحد من الناس فكان العود إلى يده كالعود إلى يد غيره لا يبطل الحبس فالعود إلى يده مثله وكذلك إذا شرط قيماً بعد قيم فذلك إليه وليس للقيم الأول أن يجعلها إلى غير ما شرط الذي حبسها لأن شرطه كما روعي في حق القيم الأول فكذلك يراعى في حق القاني وقد وجد من وقوف السلف هكذا يدل عليه أن مثل هذا الشرط جائز في ولاية السلطنة والإمارة فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث سرية وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم قال : فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة وكان كما قال وحكي أن سليمان بن عبد الملك لما حضره الموت أوصى أن يكون الخليفة بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز فكرهت ذلك إخوته هشام بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك فقال سليمان : ثم بعده فلان ابن فلان ثم أنت يا هشام ثم قال : أرضيت يا أصلع فلما جاز مثل هذا الشرط في ولاية السلطنة فلأن يجوز في هذه الولاية أولى وإذا دفع الرجل
إلى رجل مالاً فقال : خذ هذا المال فجاهد به في سبيل الله أو قال : اغز به@(5/271)
في سبيل الله فأخذه الرجل فاشترى به متاعاً وكراعاً وسلاحاً ثم مات أحدهما فقال الذي أعطى المال إن كان حياً أو ورثته إن كان ميتاً إما أعطاه المال قرضاً ليجاهد به عن نفسه وقال المعطي أو ورثته : إما أعطاه إياه على وجه الصدقة في سبيل الله تعالى فالقول قول المعطي في ذلك أو ورثته لأن قوله فجاهد به في سبيل الله إضافة الجهاد إلي فعل المعطي لا إلى المال لأن هذا ليس بأمر بأن يأتي فعل الجهاد وإذا كان الجهاد مضافاً إلى فعله لا إلى المال لم يصر دافعاً للمال في سبيل الله ليصير صدقة فبقى قوله : خذ هذا المال مجرداً وهو كلام يحتمل القرض ويحتمل الصدقة فكل واحد منهما متبرع والقرض أقل التبرعين لأنه يوجب البدل والصلة لا توجب البدل فحمل على الأقل لأن الأقل تعين وهذا كرجل زوج ابنته وسلمها إلى الزوج مع جهازها ثم ماتت الابنة فقال الزوج : كان المال صلة لها فلي منه الميراث وقال الأب : لا بل مكنت أعرتها فالقول قول الأب لما أن العارية تبرع والهبة تبرع والعارية أقلهما فحمل على الأقل فكذلك ها هنا فإن كان المعطي حياً حلف البتة بالله ما أعطاه إلا على وجه القرض ثم أخذ ماله لأنه حلف على فعل نفسه فيحلف على التبعات وحلفت الورثة على علمهم ما يعلمون أن صاحبهم أعطاه إياه على وجه الصلة ثم يأخذون المال لأنهم حلفوا على فعل الغير ومن حلف على فعل الغير يحلف على العلم وإن تصادقا المعطي والمعطى له أن المعطي أعطاه إياه ولم ينو قرضاً ولا غيره فالمال قرض ولا يكون صلة لما قلنا أنه أقل التبرعين وكان على الأقل حتى يثبت الأكثر وهذا فصل ينبغي أن يحفظ فإنه لا رواية له إلا في هذا الموضع واستدل في الكتاب فقال : ألا @(5/272)
ترى أن رجلاً لو أعطى رجلاً مالاً فقال : حج به أو أنفقه على نفسك مع عيالك كان ذلك قرضاً إلا أن ينوي به الصلة كذلك ها هنا ولو قال له خذ هذا المال فهو
لك في سبيل الله ومات الذي أخذه قبل أن يشتري منه شيئاً فهو له وهو ميراث لورثته لأن قوله : هو لك تمليك منه لأن اللام للملك كما إذا قال داري لك تسكنها كان تمليكاً للرقبة وقوله : في سبيل الله عبارة عن الصدقة فكأنه قال : خذ هذا المال فهو لك صدقة ولا يكون قرضاً وكذلك لو قال : خذ هذا المال في الغزو في سبيل الله أو قال في الجهاد في سبيل الله كان المال صدقة لأنه أضاف الجهاد أو الغزو إلى المال وأمره أن يأخذ في هذا الوجه هذا رجل جعل ماله في سبيل الله فكان صدقة لأنه أمره بالأخذ لله والمال المأخوذ لله لا يكون إلا صدقة على عباده ولو كان قال : خذ هذا المال فاغز به عني في سبيل الله ثم مات أحدهما قبل أن يشتري به رد ذلك المال على المعطي أو على ورثته لأنه أمره بالغزو عنه والغزو عنه لا يكون إلا بعد أن تكون النفقة من ماله ويكون الغازي نائباً عنه في الإنفاق فبقى المال على ملكه إلا أنه لما مات انقطع أمره فيرد المال إلى ورثته فإن اشترى بذلك المال سلاحاً أو كراعاً ثم مات أحدهما أخذ جميع ما اشترى لأنه اشتراه بأمره لأن الأمر بالغزو أمر بشراء ما يحتاج إليه في الغزو والشراء وقع للآمر فيكون له ألا ترى أنه لو غزا وفضل من ذلك فضل رد إليه فدل على أن الشراء وقع له ولو اشترى به متاعاً أو سلاحاً ثم بدا للمعطي أن يأخذه ممن ويدفعه إلى غيره كان له ذلك لأن المشتري متملكه فله أن يأخذه ويعطيه غيره فإن قال المعطي : رد علي مالي ولك ما اشتريت فإنه لا حاجة لي فيه لم يكن له إلا ما اشترى لأن@(5/273)
المشتري وكيل له في الشراء فالمشتري وقع له ذلك فلم يكن له أن يمنع منه ولو قال المعطي أعطيك مالك ولي ما اشتريت لم يكن له ذلك ملأنه وكيل له بالشراء والوكيل بالشراء لا يحبس ما اشترى عن الموكل ولو قال له : خذ هذا المال فجاهد به أو اغز به فاشترى به المعطي متاعاً أو سلاحاً أو كراعاً ليغزو به فقال له صاحب المال : إنما أعطيتك لتغزو عني فرد
على المتاع وقال المعطي : أعطيته لنفسي صلة أو قرضاً فلا سبيل لك على المتاع فالقول قول رب المال وله أن يأخذ المتاع والسلاح والكراع لأن قوله : فجاهد به يحتمل معنى الجهاد عن المعطى ويحتمل الجهاد عن المعطي وهو المجمل فكان البيان إنه ولأن ما ادّعاه المعطي لا يوجب زوال المال عن ملكه وما ادّعاه المعطي يوجب زواله عن ملكه إلى بدل أو إلى غير بدل فهو يدّعي أكبر الأمرين فلا يصدق إلا ببينة وإذا حبس الرجل فرسه في سبيل الله فدفعه إلى رجل حبيساً في سبيل الله فهو جائز لو قال : إن استغنيت أو حضرتك الوفاة فادفعه إلى غيرك حبيساً في سبيل الله فهو جائز لأن المحبس هكذا شرط وشرطه معتبر ألا ترى أن الواقف إذا جعل وقفاً على قوم بأعيانهم على أنهم إن استغنوا عنه فيصرف إلى الفقراء جاز من الواقف هذا الشرط فكذلك ها هنا فإن مات صاحب الفرس الذي جعله حبيساً لم يكن ميراثاً لورثته وكان حبيساً في سبيل الله لأن الزوال قد تم فلا يصير ميراثاً فإن مات الذي أعطاه إياه صار حبيساً على من أعطاه الميت أو على من أوصى له به حبيساً ليس لصاحبه الذي حبس عليه سبيل لأن الشرط قد وجد فإن استغنى الذي جعله صاحبه حبيساً في يده أو ترك الجهاد فرجع إلى أهله لزمه أن يدفعه إلى غيره يكون حبيساً@(5/274)
للشرط الذي وجد من المحبس فإن دفعه إلى غيره ثم بدا للأول أني رجع إلى الجهاد فأراد أن يأخذ الحبيس فليس له ذلك لأن الأول إنما كان أولى به من الثاني لثبوت يده عليه ولما سلمه إلى الثاني فقد زالت يده وصار اليد للثاني فكان هو أولى بإمساكه من الأول فإن كان صاحب الفرس شرط للأول أنه إن جعله لغيره ثم احتاج إليه أو رجع إلى الغزو كان أحق به كان هذا الشرط جائزاً لأن صاحب الفرس هكذا شرط يراعى شرطه كما في الوقف إذا جعله على أولاد فلان فإن استغنوا فهو لفلان فإن احتاج الأولاد دخلوا في الوقف ثانياً جاز وكان على الشرط الذي شرطه كذلك ها هنا ولو أن رجلاً حبس فرساً أو
أرضاً أو جعلها وقفاً في سبيل الله عشرين سنة ثم هي مردودة على صاحبها الذي حبسها أو على ورثته إن هلك أو جعل حبيساً على قوم بأعيانهم على أنهم إن هلكوا رجع الحبيس على الذي حبسها كان هذا حبساً باطلاً له أن يأخذه إن شاء وإن مات كان ذلك ميراثاً لأنه لم يؤبد ما حبس والمذهب عند محمد - رحمه الله تعالى - أن التأبيد شرط لجواز الوقف وإنما كان التأبيد من شرطه لأنه صدقة موقوفة فيعتبر بالصدقة المملوكة والصدقة المملوكة لا يجوز توقيتها فكذلك الصدقة الموقوفة وعند أبي يوسف - رحمه الله - يجوز الوقف مؤقتاً ومؤبداً لأن في هذا تمليك المنافع وقد جاز مؤبداً فلأن يجوز مؤقتاً أولى ألا ترى أن الإجارة تجوز مؤقتة ولا تجوز مؤبدة ثم التأبيد لما لم يبطل الوقف فالتوقيت أولى ألا يبطلها ولو أن رجلاً حبس فرساً له في سبيل الله أبداً ودفعه إلى رجل حبسه عليه على أنه إن مات واستغنى عنه دفعه إلى غيره لا يرجع إلى صاحبه ولا إلى ورثته فهذا جائز مستقيم@(5/275)
لأنه أبده والحبس مؤبداً جائز فإذا أخذ صاحب الحبيس الفرس فلم يغز سنته تلك فدفعه إلى غيره يغزو عليه أعاره إياه فلا بأس بذلك لأنه استغنى حيث لم يغز تلك السنة فله أن يدفعه إلى غيره ولأنه قد ملك منافع الغرس في باب الغزو بدليل أنه ليس لصاحب الفرس أن يأخذ منه الفرس ما دام هو حياً يغزو فله أن يملك تلك المنافع غيره ألا ترى أن المحبس عليه لا يكون أقل حالاً من المستعير والمستعير للدابة إذا لم يشترط ركوب نفسه كان له أن يعير غيره فها هنا ألوى ولا ينبغي له أن يؤاجره لأن مقصود صاحب الفرس حصول الثواب له وإذا غزا الثاني ببدل لا يحصل للمحبس ثواب في الأجر ولأنه ملك منافع هذا الفرس بغير بدل فلا يقدر أن يملك غيره ببدل ألا ترى أن المستعير يملك أن يعير ولا يملك الإجارة فكذلك ها هنا فإن دفعه إلى غيره يغزو عليه بأجر فركبه الذي استأجره فعطب في يده من ركوبه أو من غير ذلك فرفع ذلك إلى القاضي فإن
القاضي له أن يضمن أيهما شاء إن شاء ضمن المؤاجر وإن شاء ضمن المستأجر لأن كل واحد منهما متعد في الفرس فإن ضمن المؤاجر لا يرجع على المستأجر لأن كل واحد منهما متعد في الفرس فإن ضمن المؤاجر لا يرجع على المستأجر بشيء لأنه بالضمان ملكه من الابتداء فصار كأنه آجر فرس نفسه ومن آجر فرس نفسه فعطب في يد المستأجر لم يضمن المستأجر كذلك ها هنا وإن ضمن المستأجر القيمة رجع المستأجر بالقيمة على المؤاجر لأنه مغرور من جهته والمغرور يرجع على الغر بما غره ثم يشتري القاضي بالقيمة فرساً آخر فيجعله حبيساً على الذي كان آجره لأن الفرس الثاني قائم مقام الأول والفرس الأول لو كان حياً كان حبيساً على الذي آجره فكذلك الثاني يكون حبيساً عليه ويتقدم إليه فيه ألا يؤاجره لأنه تعاطى ما لا يحل فللقاضي أن ينصحه في المستقبل وتكون الأجرة للمؤاجر على المستأجر لأنه هو العاقد والأجر يكون للعاقد ألا ترى أنه لا يكون أشقى حالاً من الغاصب والغاصب لو آجر المغصوب وسلم كان الأجر للغاصب كذا ها هنا ولا يعجبني@(5/276)
أن يأكله المؤاجر ولكنه يتصدق به لأنه استفاده من كسب خبيث فسبيله التصدق به كما في الغاصب ولو قتل الفرس غير الذي حبس عليه أو ركبه غيره بغير أمره فعطب تحته كان ضامناً بقيمته يأخذها الذي حبس عليه فيشتري بها فرساً آخر فيكون حبيساً في يده لأن الذي حبس عليه لا يكون أقل حالاً من المودع ولو كانت وديعة في يده فقتله غيره كان للمودع حق الخصومة وأخذ القيمة كذا ها هنا ولو أن رجلين في يد كل واحد منهما فرس حبيس على هذه الصفة دفع كل واحد منهما الفرس الذي في يده إلى صاحبه على أن يغزو عليه على أن يعطي الآخر فرسه كان هذا شرطاً فاسداً لا ينبغي لهما ذلك لأنهما لما شرطا ذلك شرطاً بينهما صارت مبادلة المنافع بالمنافع ومبادلة المنافع بالمنافع إجارة فسادة كبيع السكنى بالسكنى وليس للذي حبس عليه أن يؤاجره إجارة جائزة ولا فاسدة فإن عطب أحدهما ضمن
القيمة فكان الأمر فيه كما وصفنا لأن كل واحد منهما متعدّ وإن سلما كان لكل واحد منهما أجر مثل الفرس الذي أعطاه صاحبه لأن الإجارة فاسدة وفي الإجارة الفاسدة يجب أجر المثل ويتصدق كل واحد منهما بالأجر ولا يجبر عليه ولو كان كل واحد منهما دفع فرسه إلى صاحبه من غير شرط اشترطه كل واحد منهما على صاحبه فغزا كل واحد منهما على الفرس الذي أعطاه صاحبه فهذا لا بأس به لأنه إذا لم يجر بينهما شرط لم يصرمبادلة المنفعة بالمنفعة لتصير إجارة ولكنه يجعل محض إعارة وقد ذكرنا أن للذي حبس عليه أن يعيره ليغزو به ولو أن رجلاً جعل خيلاً له حبيساً في سبيل الله ودفعها إلى وكيل له يكون هو الذي يوزعها بن الغزاة إذا غزوا ولم يشترط ردها إليه فهذا جائز لأنه وجد@(5/277)
الإزلة من يده إلى يد قيم الحبس فيجوز كما لو وقف أرضاً أو داراً وأخرجها إلى قيم جاز ذلك لما أن التسليم قد وجد ولهذا قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - : إن التسليم ليس بشرط لأن الثاني وكيله ويتصرف فيه بأمره كما شرط هو فكانت يده كيده فلا فائدة في التسليم والجواب عنه ما قلنا ولا بأس بأن يوزعها بين الغزاة من الأغنياء والفقراء لأن هذا إباحة وليس بتمليك وكل قربة كانت على سبيل الإباحة استوى فيها الغني والفقير كالسقاية وكذلك لو جعل خاناُ لنزول الناس فيه أو مقبرة يقبر فيها موتى المسلمين فإنه يسكن خانة الغني والفقير ويقبر في مقبرته الغني والفقير فإن دفع الوكيل إلى رجل فرساً فقال : اركبه في سبيل الله فليس له أن يحمل عليه غيره لأنه إنما أعطاه لينتفع به في هذا الغرو ثم يرده على الوكيل فهو مستعير والمستعير إذا شرط ركوب نفسه ليس له أن يركب غيره كذلك ها هنا وإن اعطاه إياه فقال : خذه في سبيل الله ولم يشترط عليه أن يكون هو الذي يركبه فلا بأس بأن يحمل عليه غيره ممن يغزو في سبيل الله لأن الإباحة وقعت مطلقة فكان له أن يركبه بنفسه وأن يركب غيره كما في عارية الدابة إذا وقعت
مطلقة ولو أعطى رجلاً فرساً في سبيل الله وأعطى الآخر فرساً مله في سبيل الله فقال الرجلان كان واحد منهما لصاحبه : أعطيك فرس يتغزو عليه على أن تعطيني فرسك أغزو عليه فأخذاهما فغزوا عليهما فالقياس أن يكون باطلاً وإن عطب الفرسان يضمنان إلا أنه يجوز ذلك استحساناً ولا يضمنان شيئاًَ فوجه القياس له في ذلك أنهما لما شرطا ذلك الشرط فيما بينهما صارت مبادلة@(5/278)
المنفعة بالمنفعة فتصير في حكم الإجارة كما لو كان المحبس رجلين ووجه الاستحسان في ذلك وهو أنه اعتبر حال الذي حبس فلا يكون إجارة لأنه رجل واحد فكانت الأفراس كلها ملكاً له وإن لم يعتبر حاله لزوال الأفراس عن ملكه واعتبر حال لقيم فيها كان هو أيضاً واحداً فلا يقع فيه معنى الإجارة إذ الرجل لا يؤاجر بعض أفراسه ببعض فأما إذا كان الفرسان لرجلين فقد وجدت صورة الإجارة لأن منافع الفرسين لماكين مختلفين فكان له حكم الإجارة فلم يجز قال : ولو أنهما آجرا الفرسين بدراهم فآجر كل واحد منهما صاحبه فرسه بدارهم يغزو عليه كانا ضامنين لأن هذه الإجارة بأداء دراهم من مالهما وليست بمال صاحب الفرسين فقد وقعت إجارة ملك الغير بملك الغير فوجد معنى الإجارة فيه .
وليس للوكيل الأول الذي دفعت إليه الخيل أن يؤاجر شيئاً من هذه الخيول للغزو وإن أجرها كان ضامناً لما قلنا : إن الإجارة تبطل معنى الثواب والذي حبس قصد به الثواب فإن احتاجت إلى نفقة فرأى أن يؤاجرها لبعض منافع الناس غير الجهاد بمقدار نفقتها حتى يدفعها إلى من يغزو عليها فلا بأس بذلك لأن الحال حال الضرورة ومتفعة الأجرة ترجع إلى الدابة فكان هذا أرفق بالدابة فيجوز وهذا كما ذكر في كتاب الوقف إذا جعل الرجل خاناً وقفاً لمارة الطريق فاحتاج إلى المرمة فإنه لا بأس للقيم أني يؤجرها منازل الخان بمقدار ما يحتاج إلى المرمة فكذلك ها هنا ولا بأس بأن يأمر القاضي الوكيل بذلك لأن القاضي ولي كل مال أعدّ للمسلمين كما هو ليّ كل غائب ولا بأس بأن يفعل هذا الوكيل أيضاً بغير أمر القاضي لأن هذا مما يصلح الدابة وقد وجد الرضاء من المالك دلالة في كل ما يصلح الدابة لأنه لا يبقى حبيساً إلا بعد السعي في إصلاحه فإن كان الذي حبسها شرط له@(5/279)
حين وكله بها ودفعها إليه أن يؤاجرها في نفقتها فذلك جائز وأحرى أني جوز إجازة الوكيل لأنه وجد منه صريح الأمر بالإجارة والصريح أقوى من الدلالة وإن شاء آجرها بنفقتها ولا يستأمر في ذلك القاضي لما قلنا : إنه مأذون من جهة الذي حبس دلالة فلا يحتاج إلى استثمار القاضي وإذا أعطى الرجل فرساً يجعل حبيساً في سبيل الله فإن استغنى أو ما دفعه إلى غيره حتىي كون حبيساً أبداً فليس لصاحب الحبيس أن يركبه في حوائجه في المصرفي القياس وفي الاستحسان : له أن يركبه في حوائجه في المصر وما حول المصر من شهود الجنازة والتشييع ونحوه فوجه القياس فيه وهو أن المالك أذن له بالركوب في الحروب ولم يأذن له في الركوب في حوائجه فوجب ألا يجوز له الركوب في حوائجه إلا بإذنه كما لو ركبه وأراد به سفراً وكما لو أعار فرسه ليركبه في طريق كذلك ليس له أن يركبه في طريق آخر فكذلك ها هنا ووجه الاستحسان في ذلك وهو أن هذا القدر من
الركوب ينفع الفرس ولا يضره لأن رب فرس إذا ربط في المربط ولا يركب عليه يصيبه مرض ويفسد سيره وفي ركوبه في الأحايين منفعة له ورياضة والملك كان كالراضي في كل ما يرجع نفعه إلى الفرس ولأنا لو قلنا : بأنه لا يجوز له قليل الركوب في غير الغزو أدى إلى منع الناس عن قبول مثل هذه الأفراس إذ لا يرغبون إليها متى علموا أن النفقة واجبة عليهم وقليل الركوب وكثيره في غر الغزو حرام عليهم وما أدى إلى الضيف والحرج وتنفير الناس عنه كان حكمه ساقطاً ولأن المالك لما حبسه عليه مع علمه أن الذي حبسه عليه لا يجد بداً من قليل الركوب عليه في غير الغزو يكون كالراضي بركوبه ذلك القدر في غير الغزو وكان سبيله سبيل العبد المأذن من حيث إنه يملك التبرع بشيء يسير ولا يملك التبرع بالشيء الكثير وإن كان الملك ليس بثابت مله لما أنه لا بد للتجار من ذلك فصار كالمأذون من جهة المولى دلالة وإن لم يوجد منه الإذن إفصاحاً وصريحاً وذلك لأن هذا في حد الكثرة لأن له بداً من ذلك الركوب والقليل هو المستحسن دون الكثير فإن ركبه@(5/280)
ليسقيه أو ليشتري له علفاً أو حمل عليه علفاً له أو بعض المنافع للفرس فلا بأس بذلك في القياس والاستحسان لأن منفعة هذا الركوب ترجع إلى الدابة فلا يكون به بأس في القياس والاستحسان وكان هذا بمنزلة رجل اشترى فرساً فوجد به عيباً فركبه ليسقيه أو ليحمل طعامه لم يمنع ذلك من الرد بالعيب لما أن ذلك الركوب لمنفعة الدابة فكان ذلك من أسباب البر فكذلك ها هنا إلا أنه جعل مسألة الرج بالعيب في كتاب البيوع على القياس والاستحسان وقد جعل الجواب ها هنا جواباً واحداً في القياس والاستحسان جميعاً وإن كان يركبه ليرعب به العدو في المصر أو خارج المصر أو كان يرى أن لهم عيوناً في الثغر فركبه لذلك فهذا لا بأس به لأن هذا الركوب من الجهاد وكذلك السيف يجعل حبيساً في سبيل الله فإن كان تقلده إياه يفسد السيف أو يضربه أو يحمائله فلا يلبسه لأن لبسه
لمنفعة نفسه ليس من الجهاد في شيء وإن كان لبسه لا يضره فلا بأس بذلك لأنه قليل منفعة فلا بأس به كما قلنا في ركوب الفرس إذا كان قليلاً وإن كان يلبسه ليرهب به العدو فله ذلك لإن إرهاب العدو من أمر الجهاد واستعماله في أمر الجهاد لا بأس به وإن جعل نبلاً وقوساً حبيساً في سبيل الله لم يعجبني أن يرمي صاحبها بالنبل والقوس بين الغرضين وإن كان يتعلم بذلك الرمي وهو مما يتقوى به العدو لأن هذا مما يفسد النبل والقوس والرمي بين الغرضين ليس من الجهاد فلم يكن له إفساده في غير أمر الجهاد بخلاف ما إذا ركب الفرس والحبيس في حوائجه في المصر فإنه لا بأس به لأن ذلك الركوب مما لا يفسده بل@(5/281)
يصلحه حتى إذا كان ركوبه يفسده يمنع من ذلك كما لو ركبه لتعلم الفروسية أو ركبه يوماً أو أكثر في حوائجه وإن كان في يد رجل فرس في سبيل الله فسمع الرجل بعلف رخيص يباع في غير موضع المصر فإن كان ذلك الموضع في المصر أو قريباً منه في بعض قراه فلا بأس بهذا لأن هذا من منافع لادابة ولو ركبه في حاجته في المصر لا بأس به فما ظنك إذا كان ركوبه لمنفعة الدابة وإن كان موضعاً بعيداً يسافر عليه لم يعجبني أن يفعل ذلك لأن هذه المسافرة عليه من غير ضرورة فلا تجوز ألا ترى أنه لو جاز مثل هذا لجاز له أن يأتي به بعض الكور التي بينها وبين مصره عشرة أيام وأكثر وهذا أقبح وإن كان المسلمون في موضع لا يقدرون فيه على العلف إلا من مسيرة أيام فلا بأس بأن يركبه إلى ذلك الموضع ليحمل عليه علفه لأن هذا موضع الضرورة والضرورات تبيح المحظورات ولا بأس بأن يركبه أيضاً راجعاً مع العلف لأنه لما جاز له أن يركبه ذاهباً لما أنه يحتاج إلى حفظ الدابة فلأن يجوز له أن يركبه راجعاً أيضاً مع العلف فهو يحتاج إلى حفظ الدابة والحمل أولى ولكن لا ينبغي له أن يحمله من العلف ما لا يطيق إذا ركب عليه من ذلك لأن هذا استهلاك للدابة ألا ترى أنه لا يحل له مثل ذلك في دابة نفسه فففي دابة
الحبيس أولى وإذا أعطى الرجل سيفاً حبيساً في سبيل الله وعلى السيف حلية فليس ينبغي له أن يعرض للحلية لأن الحلية تبع للسيف والسيف حبيس غير مملوك فالحلية مثله فلا يتصرف فيه تصرف الملاك ولكن يستعمله في أمر الجهاد بحليته كما إذن له فإن احتاج السيف إلى مرمة فغن مرمته عليه ولا يعرض لحليته لأنه هو المنتفع به فكانت النفقة عليه كما قلنا في المستعير ألا ترى أن الفرس لو كان حبيساً في يده واحتاج إلى النفقة كانت نفقته عليه ولا يعرض للفرس بأجارته كذلك ها هنا فمرمة السيف عليه ولا يتعرض@(5/282)
للحلية فإن كان السيف إنما أعطاه وكيلاً له يدفعه إلى غيره ممن يغزو في سبيل الله ثم يرده على الوكيل فليس للوكيل أيضاً أن يعرض لحليته بصدقة ولا بغيرهأ لأنه فوض إليه الدفع إلى من يغزو ولم يفوض إليه التصدق فلا يتعدى أمرموكله فإن احتاج السيف إلى مرمة في إصلاحه وإصلاح جفنه فرأى الوكيل أن يصلحه من حليته فلا بأس بذلك فيأخذ من حليته بقدر ما يحتاج إليه من المرمة فيرمه بذلك ويدع ما بقي حتى يحتاج إلى مرمة أخرى لأن منفعة السيف ليست للوكيل ليكون إصلاحه من ماله فيكون إصلاحه من السيف كالفرس إذا احتاج إلى نفقة فإنه ينفق عليه من منافعه بأن يؤاجره فيصرف غلته إلى نفقته وكذلك الأراضي الموقوفة مرمتها في غلتها وليس هناك غلة سوى الحلية فيصلحه من الحلية فإن كان إذا نزع بعض الحلية انتزعت كلها وأجرى للمرمة بعضها رمم السيف بما يحتاج إليه ثم ليمسك الفضل عنده ولم يتصدق به حتى إذا احتاج إلى مرمة فيرمه بها لأن الحلية ما جعلت للصدقة وإنما جعلت في الغزو فلا تصرف إلا في أمر الغزو ولو أن رجلاً جعل فرساً له حبيساً في سبيل الله ودفعه إلى وكيل مله يدفعه إلى بعض من يخرج في سبيل الله فحطم الفرس أو أصابه عيب لا يقدر ان يغزو عليه ولكنه يصلح للركوب في المصر أو للعجلة فلا بأس بأن يبيعه الوكيل ويشتري بثمنه فرساً آخر يغزو عليه في سبيل الله لأنه لو لم يبعه
لهلك الفرس فانقطعت صدقة الذي حبس فكان له استبداله ليبقي صدقته فكان بمنزلة الوصي في ذلك فإن كان الثمن الذي يبيع به لا يبلغ ثمن فرس يغزوعليه في سبيل الله فإن@(5/283)
كان يطمع أن يصاب فرس وقف حتى يصاب فرس يغزى عليه في سبيل الله لأنه يمكن إدامة هذه الصدقة بشراء فرس آخر فيوقف ولا يعطل وإن كان يعلم أنه لا يصاب به فرس بأن قل ذلك جداً رد الفرس على صاحبه الذي كان حبسه في سبيل الله ولا يتصدق بذلك على المساكين لأنه جعله حبيساً ليغزى عليه لا للتمليك والصدقة وإذا صار بحال لا يغزى عليه عاد إلى ملك الذي حبس كالعواري وهذا علي قياس ما قال به محمد - رحمه الله تعالى - في رجل جعل في أرضه مسجداً وصلى فيه الناس ثم ضرب ما حوله واتخذت مرزارع وضرب المسجد فإن كان يطمع أن يعود إله أهله ويصلوا فيه فإنه لا يعود ملكاً لصاحبه وإن كان لا يطمع في ذلك عاد ملكاً عند محمد - رحمه الله تعالى - فلصاحبه أن يأخذه ويبيعه أو يجعله مزرعة وإن كان ميتاً فلورثته ذلك لما أنه جعله للصلاة لا للصدقة فإذا صار بحال لا يصلى فيه لا يتصدق به ولكن يعود ملكاً فكذلك أمر الفرس وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لا يرد الفرس إلى صاحبه ولكن يتصدق به كما لا يعود المسجد ملكاً إذا كان لا يصلى فيه والله أعلم .
باب العشور من أهل الحرب
روى محمد - رحمه الله تعالى - بإسناده عن أبي صخرة المحاربي عن زياد بن جرير قال : بعثه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - مصدقاً إلى عين النمر وأمره بأن يأخذ من المصلين يعني من المسلمين من أموالهم ربع العشر ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا بها للتجارة نصف العشر ومن أموال أهل الحرب العشر اعلم أنا @(5/284)
اتبعنا الأثر في هذا فقلنا يأخذ العاشر من المسلم الذي مر عليه ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر لأن عمر - رضي الله تعالى عنه - هكذا أمر عاشره بأخذ العشر وكان ذلك بمشهد من المهاجرين والأنصار ولم ينكر عليه أحد فحل محل الإجماع يدل عليه أنه روي في حديث آخر عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه بعث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - مصدقاً في العشور فقال أنس ابن مالك - رضي الله تعالى عنه - : يا أمير المؤمنين تقلدني المكس من عملك فقال له عمر - رضي الله تعالى عنه - قد قلدتك ما قلدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلدني أمور العشور أمرني أن آخذ من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر كله فقد روي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلينا اتباعه واعلم أن العاشر هو الذي أقامه عمر - رضي الله تعالى عنه - على الدرب الذي كان بين المسلمين والكفار وأمره أن يأخذه من كل من يمر عليه بماله ولم يؤد زكاته وجعل نفقته منه فإنما سماه عشراً لأن ما يؤخذ منهم مداره على العشر وإنما أثبت عمر - رضي الله تعالى عنه - حق الأخذ للعاشر لأن هذا المال في حماية الإمام ورعايته لأن أمن الطريق بالإمام فصار هذا المال مآمناً برعاية الإمام وحمايته فأثبت حق الأخذ للإمام كالسوائم التي تكون في المفاوز كان أخذ زكاتها إلى الإمام لما أنها في حماية الإمام ورعايته فكذلك ها هنا وإنما أمر عمر - رضي الله تعالى عنه - بأخذ ربع العشر من المسلمين لأن المأخوذ منهم زكاة على ما قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم : ليس في المال حق سوى الزكاة والزكاة لما تبين ربع العشر فأما الذمي فإنما أمر بأخذ نصف العشر منه وذلك لأن هذا حق يؤخذ من المسلم ويؤخذ من الكافر فوجب أن يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم كما في النصراني من بني تغلب فإنه يؤخذ منه الصدقة المضاعفة وأما الحرب فإنما أمر بأخذ العشر منه لأنهم يأخذون منا العشر فأمر بأخذ العشر منهم إذ الأمر بيننا وبين الكفار مبني على المجازاة حتى أنهم إن كانوا يأخذون منا الخمس أخذنا منهم الخمس وإن كانوا يأخذون منا نصف العشر أخذنا منهم نصف العشر وإن كانوا لا يأخذون منا شيئاً فنحن لا نأخذ منهم شيئاً الدليل عليه ما روي أن عاشر عمر - رضي الله@(5/285)
عنه كتب إلى عمر - رضي الله عنه - : كم نأخذ من تجار أهل الحرب فقال : كم يأخذون منا فقال : هم يأخذون منا العشر فقال : خذ منهم العشر فقد جعل الأمر بيننا وبينهم مبنياً على المجازاة وإن كنا لا نعلم كم يأخذون منا أو لا نعلم أياخذون منا أو لا يأخذون أخذنا منهم العشر أيضاً فإنه روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال لعشاره : خذوا منهم ما يأخذون منا فإن أعياكم ذلك فخذوا منهم العشر والمعنى في ذلك : وهو أن الحربي ينزل من الذمي منزلة الذمي من المسلم لأن شهادة الحربي عليه لا تقبل عليه وتقبل شهادة الذمي على الحربي كما أنه لا تقبل شهادة الذمي على المسلمين وتقبل شهادة المسلمين على الذمي ثم الذمي يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلم فكذلك الحربي يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من الذمي ويؤخذ من الذمي نصف العشر فيؤخذ من الحربي ضعف ذلك وهوالعشر قال محمد - رحمه الله تعالى - : عن جرير بن حازم قال : سمعت أنس بن سيرين يقول : أراد أنس بن مالك أن يستعملني على الأبلة فقلت : تقلدني على المكس من علملك فقال : أما ترضى من أمر الناس ما أمرني به عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من أمور الناس فقال : استعملني عمر - رضي الله تعالى عنه - فأمرني أن آخذ
من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ومن أهل العهد من كل عشرين درهماً درهماً ومن أهل الحرب من كل عشرة دراهم درهماً اعلم بأن المكس هو فعل العاشر والمكاس هوالعاشر وإنما سمي مكاساً لأنه ينقص أموال الناس بأخذ العشور منهم وهو مشتق من المماكسة والمكاس لا يأخذ من أحد منهم شيئاً من ذلك حتى يبلغ المال مائتي درهم ما يجب فيه الزكاة على المسلم أما المسلم فلا يؤخذ منه من أقل منه من أقل من مائتي درهم لأن المأخوذ منه وزكاة على ما قلنا ولا زكاة في أقل من مائتي درهم وأما الذميّ فكذلك لأن المأخوذ منه كان باسم الزكاة وإن لم يكن زكاة في الحقيقة فوجب أن يكون من شرطه النصاب .
دليله أخذ الصدقة من نسارى بني تغلب فإنه@(5/286)
لا يؤخذ الصدقة من مالهم إلا أن يكون النصاب كاملاً فكذلك ها هنا وأما الحربي فإنما لا يؤخذ منهم من أقل من مائتي درهم لأنهم لا يأخذون من تجار المسلمين من القليل فكذلك لا نأخذ منهم حتى أنهم إن كانوا يأخذون من تجارنا من قليل المال وكثيره فكذلك نأخذ منهم من قليل وكثيره والله الموفق .
باب الجزية
عن إبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - قال : إذا أسلم الرجل وأقام بأرضه فعليه الخراج وإذا لم يقم فليس عليه خراج أعلم بأنه إن كان بهذا الخراج الرأس فلسنا نقول به بل المذهب عندنا أن الكافر إذا أسلم وهو من دار الموادعة فإن خراج الرأس يسقط عنه سواء أقام بأرضه أو هاجر إلينا وقال بعض العلماء : بأن الخراج لا يسقط عنه وإن أسلم ما لم يهاجر إلينا وإن كان أراد به خراج الأرض فقد قلنا به فإنه إذا أسلم فأمسلم أرضه فإنه يؤدي عنها الخراج ولا يؤخذ منها العشر وإنما يؤخذ العشر إذا أسلم أهل بلده طوعاً وعند بعض الناس يؤدي العشر ولا يؤدي الخراج وإن خرج إلى دار الإسلام وترك أرضه لا يؤخذ منه شيء وعن عمر بن عبد العزيز أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : لم تفتح قرية بالمغرب على صلح إلا ثلاث قرى : الأسكندرية وكفرطيس وفلسطين وسلطاس وكان من أسلم من غير هذه الثلاث قرى أخذ ماله وخلي سبيله ومن أسلم من هذه الثلاث قرى خلي سبيله وماله له اعلم بأنا لا نأخذ بهذا الحديث بل نقول : كل من أسلم من أهل الذمة لا يؤخذ منه ماله ويترك في أرضه يؤدي عنها الخراج سواء أخذت القرية عنوة أو صلحاً فإن دهقانة نهر الملك أسلمت على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - فكتب في ذلك سعد وعمار إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهم - فكتب إليه عمر - رضي الله تعالى عنه - : أن ادفع إليها أرضها فتؤدي عنها الخراج وسواد الكوفة إنما أخذ عنوة نهر الملك وغيره والله الموفق .@(5/287)
باب عشور أهل الحرب والمسلمين وأهل الذمة
قال محمد - رحمه الله تعالى - : قال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : إذا مر الحربي المستأمن على عاشر المسلمين بمال يبلغ مائتي درهم فصاعداً أو بشيء قيمته ذلك أخذ منه عشر ما مر به لما روينا من الأثر فإن قال : علي دين أو قال : ليس هذا المال لي لم يصدق وأخذ منه العشر لأن الأمر بيننا وبينهم على المجازاة وهم لا يصدقون تجارنا في مثل هذا فنحن لا نصدق تجارهم بخلاف الذمي إذا مر على العاشر بمال وقال : ليس لي أو قال : علي دين لم يؤخذ منه شيء لأن الأمر بيننا وبينهم ليس على المجازاة ولكنه على حكم الشرع والإسلام ومن حكم الإسلام أن المسلم يصدق لما أنه ينكر وجوب الحق في ماله فكذلك الذي يصدق وكذلك إذا مر به مكاتب أو عبد بمال أخذ منه العشر لأنهم يأخذون من عبيدنا ومكاتبينا فنحن نأخذ من عبيدهم ومكاتبيهم فإن كانوا لا يأخذون من عبيدنا ومكاتبينا فلا نأخذ أيضاً من عبيدهم ومكاتبيهم وإن كانوا يأخذون من عبيدنا أو مكاتبينا نأخذ منهم أيضاً لأنه إنما يؤخذ لحفظ الطريق والمكاتب يحتاج إلىحفظ الطريق كالحر سواء ولأن المولى@(5/288)
قد رضي بأخذ العشر من عبده حيث بعثه إلينا للتجارة وإذا مر الحربي على العاشر برقيق فقال : هؤلاء أحرار أو مر بجوار فقال : هؤلاء أمهات أولادي صدق في ذلك ولم يؤخذ منه العشر لأنه إن كان صادقاً فهم أحرار ولا عشر في الأحرار وإن كان كاذباً فقد صاروا أحراراً بقوله لأن الحربي إذا أعتق عبداً كافراً في دار الإسلام يعتق بالإجماع لأنه ليس بدار قهر وإن مر الحربي بمال التجارة وقال : لا أريد به التجارة أو قال هو مال صبي فإن العاشر يعشره لأنهم لا يصدقوننا في ذلك فنحن لا نصدقهم بذلك وإن كانوا هم لا يأخذون من مثل هذا المال فلا نأخذ منهم أيضاً وإن كنا لا نعلم أنهم يأخذون أو لا يأخذون أخذنا منهم لأن الأصل هو الأخذ لأن النصاب كامل وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان تاجر فعشره عاشر المسلمين ثم مر على عاشر آخر
للمسلمين لم يعشره في تلك السنة حتى تمضي فإذا مضت تلك السنة عشرة مر أخرى لأنه ما دام يتردد في دار الإسلام فحكم ذلك الأمان باق ولم ينته حكم ذلك الخروج فصار كالذمي يتردد في دار الإسلام والذمي لا يعشره العاشر إلا مرة واحدة وإن مر عليه في تلك السنة مراراً فكذلك لا يؤخذ منه من الحرب يدل عليه ما روي أن رجلاً من الروم مر على عاشر عمر - رضي الله تعالى عنه - ومعه فرس قيمته عشرون ألفاً فطلب منه العشار أن يأخذه بثمانية عشر ألفاً فأبى فلم يأخذ الفرس وأخذ العشر ثم مر عليه راجعاً فأراد أن يأخذ العشر ثانياً فأبى فجاء متظلماً إلى عمر - رضي الله تعالى عنه - فوجده في المسجد فلم يدخل المسجد ووقف على@(5/289)
بابه وقال هو الشيخ النصراني وأضافه إلى نفسه فقال عمر - رضي الله تعالى عنه - وأتى الشيخ الحنيفي فقص عليه القصة فقال عمر - رضي الله تعالى عنه - كفيت فظن النصراني أنه لم يلتفت إلى كلامه فرجع كالآيس فلما أتى العاشر سبقه كتاب عمر - رضي الله تعالى عنه - ألا يأخذ منه شيئاً فأخبره العاشر بالكتاب ولم يأخذ منه شيئاً فتعجب النصراني من عدل عمر - رضي الله تعالى عنه - فأسلم ولو مر على عاشر المسلمين فعشره ثم دخل من يومه أو من الغد دار الحرب ثم رجع بماله ذلك مستأمناً عشرة العاشر مرة أخرى لأنه لما دخل دار الحرب فقد انقطع حكم ذلك الأمان وانتهى حكم ذلك الخروج فإنما دخل بأمان جديد فصار كأنه دخل أول مرة أو نزل منزلة حربي آخر فلهذا يعشره في كل مرة فإن كان أولئك الحربيون الذين استأمنوا لا يعشرون المسلمين إذا دخلوا إليهم إلا مرة واحدة في السنة وإن دخل وخرج مراراً لم يعشروا إلا مرة واحدة لما قلنا : إن الأمر بيننا وبينهم على المجازاة والمكافأة وإن خرج الحربي المستأمن إلى دار الإسلام بأمان ومعه خمر أو خنازير عشر الخمر لو لم يعشر الخنازير وأمره أن يعطي عشر الخمر دراهم يقوم قيمته ثم يعطيه قيمة العشر دراهم وإن لم يكن معه دراهم
أمره أن يبيع من الخمر ما يعطيه قيمة العشر دراهم وهذا عندنا وقال زفر - رحمه الله تعالى - : لا يعشر الخمر ولا الخنازير وذهب في ذلك إلى أن الخمر ليس بمال في حق المسلم والعاشر مسلم فصار كأنه مر عليه بما ليس بمال وكما إذا مر بخنزير ونزل الذمي في ذلك منزلة المسلم مر على العاشر تجمد ولأن الخمر والخنزير يجريان مجرى واحداً في حق المسلم ثم أجمعنا أنه لا يعشر الخنزير فكذلك@(5/290)
لا يعشر الخمر والحجة لنا في ذلك ما روي أن عمر - رضي الله تعالى عنه - جميع عماله بالموسم وقال لهم : ماذا تأخذون من أهل الذمة مما يمرون به عليكم من الخمر فقالوا : نصف العشر فقال عمر - رضي الله تعالى عنه - : ولو هم بيعها وخذوا نصف العشر من أثمانها ولأن الخمر أقرب إلى المالية من الخنزير لأنه كان مالاً لنا في الابتداء حين كان عصيراً ويصير مالاً في الانتهاء وإذا كان كذلك كان حرمة الخمر أخف فجاز أن يؤخذ العشر من الخمر ولا يؤخذ من الخنزير ولأن العاشر إنما يأخذ قيمة الخمر والمسلمون يعرفون قيمة الخمر لأن كل واحد من المسلمين يمسكها الصالح منهم والطالح فأما الصالح فيمسكها للتخليل وأما الطالح للشرب فإن كان يعرف قيمتها فيؤخذ عشر قيمتها لقول المسلمين فأما الخنزير لا يمسكه أحد من المسلمين فلا يعرف المسلمون قيمتها وإنما يعرف الكفار وقول الكفار على المسلمين غير مقبول فلا يؤخذ بقولهم ولأن الخمر مثلى فكان ينبغي أن يؤخذ مثله إلا أن المسلم ممنوع عن تملك الخمر فإذا أخذ القيمة فقد أعرض عن الخمر فيجوز وأما الخنزير ليس من ذوات الأمثال فمثله قيمته فإذا أخذ القيمة صار كأنه أخذ العين والمسلم لا يحل له أن يتملك الخنزير ولا بدله ولأن الخمر مال فيما بين أهل الذمة وللإمام فيها حماية معتبرة لأن للمسلم عليها يداً معتبرة فصارت في يد الإمام وحمايته فأشبهت سائر الأموال فأما الخنزير فليس للإمام فيه حماية معتبرة لأن المسلم لا يثبت له يد معتبرة على
الخنزير ألا ترى أن الخنزير لا تورث وإذا لم يكن للمسلم عليه يد معتبرة لم يثبت للإمام عليه يد معتبرة ولا يصير في حمايته فلا يؤخذ مه للعشر بغير حماية وإن كان أهل الحرب لا يعشرون أهل ذمتنا إبذا دخلوا عليهم بالخمر والخنازير لم نعشرهم فيما أدخلوا من ذلك لأن الخمر والخنزير ليس بمال لأحد من أهل دار الإسلام إلا لأهل الذمة فإذا لم يعشروا أهل ذمتنا من ذلك فقد عفوا عمن في دار الإسلام من هذا النوع من المال فنعفو عنهم أيضاً عشر هذا النوع إذ عشرهم عشر مجازاة فإن كانوا لا يعشرون المسلمين فيما دخلوا به من مال ويعشرون أهل الذمة عشرناهم كما يعشرون أهل الذمة وإن كانوا يعشرون المسلمين ولا يعشرون أهل الذمة عشرناهم أيضاً لأنهم لم يعفوا عن مال دون مال فإن كل مال يمر الواحد منا به على عاشرهم فإنهم يعشرون ذلك المال متى مر به أهل ديننا على عاشرهم إلا أنهم@(5/291)
عفوا عن طائفة من أهل دار السلام دون الطائفة الأخرى وهم طائفة واحدة ولم يوجد منهم طائفة أخرى حتى لا نعشرهم مثل ما وجدوا منا فعشرناهم جميعاً حتى إذا وجدنا طائفتين ووجدوا منا طائفتين فعشروا إحدى الطائفتين دون الأخرى عشرنا أيضاً تلك الطائفة منهم دون الأخرى نحو أن عشروا رجالنا ولم يعشروا نساءنا فكذلك نحن نعشر رجالهم ولا نعشر نساءهم .
وكل ما يؤخذ من الحربي من العشر فإنه يوضع موضع الخراج للمقاتلة دون موضع الصدقات والمعنى في ذلك وهو أن الصدقة طهرة لصاحبها والكافر ليس من أهل الطهرة فيوضع عشره موضع مال الصدقة قال : وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان ومعه مال يتجر به أو ليس معه مال فاتجر في دار الحرب فأصاب مالاً فحال عليه الحول في دار الحرب ثم أخرجه إلى دار الإسلام ومر على عاشر المسلمين لم يأخذ العشار شيئاً لأن العاشر إنما يجبي صدقة مال كان في حماية الإمام ورعايته حتى تكون الجباية بإذاء الحماية ألا ترى أنه يعشر الدراهم والدنانير التي يمر بها على العاشر لحاجتها إلى الحفظ والحماية ولا يعشرها من اتجر في مصره لاستغنائه عن حفظه وليس للإمام حماية ولا رعاية في دار الحرب فلا يعشر الأموال التي لا حماية ولا رعاية له فيها ألا ترى أنه لو كان في عسكر أهل البغي فحال الحول عل ماله ثم خرج إلى عسكر أهل العدل فإنه لا يؤاخذ بزكاة ما مضى لما أنه لما لم يكن ذلك المال في حماية الإمام ولا رعايته فلم يؤخذ منه فكذلك ها هنا ولأن الزكاة حق الله - تعالى - ففي موضع لا يجري فيه حكم إمام المسلمين فلا يأخذ الإمام بذلك كما لا يأخذ بسائر حقوق الله - تعالى - التي لزمه في دار الحرب نحو حد الزنا وحد السرقة وحد قطاع الطريق وحد الشرب إلا أن المسلم يؤمر بأن يؤدي زكاة ماله فيما بينه وبين ربه ولا يجبر وإن لم يؤد فهو آثم لأنه حال الحول على مال مسلم فيجب فيه الزكاة ومتى وجب يؤمر بالأداء كالصلاة والصوم وكالباغي إذا خرج إلى أهل العدل فإنه يفتي بأن يزكي ماله فيما مضى فكذلك ها هنا وما عرفت من الجواب في المستأمن في دار الحرب فهو جوابك في الأسير إذا اتجر@(5/292)
فأصاب مالاً في دار الحرب وحال الحول على ماله ثم مر على عاشر المسلمين فإنه لا يعشر ولكنه يفتي بأن يؤدي زكاة ماله فيما بينه وبين ربه وكذلك الجواب الذي أسلم في دار الحرب وحال الحول على ماله في دار الحرب ثم أخرجه
إلى دار الإسلام فإن العاشر لا يعشره إلا أنه إن علم في دار الحرب أن عليه زكاة ماله وحال الحول على ماله بعد العلم لزمه أن يؤدي زكاة ماله فيما بينه وبين ربه وإن لم يعلم أن عليه زكاة في ماله فإنه لا يلزمه أداء شيء من الزكاة حتى يحول عليه الحول بعد العلم لأن الزكاة من الشرائع لا تلزم إلا بعد السماع ولم يبلغ الخطاب سمعه فلا شيء عليه ولو أن رجلاً من أهل الحرب أسلم وله مال كثير من أموال التجارة ومال السائمة فعلم أن الزكاة تجب في المال فمكث ستة أشهر في دار الحرب أو أقل أو أكثر ثم خرج بماله إلى دار الإسلام فحال عليه الحول وهو في دار الإسلام ثم مر على العاشر فإن العاشر يعشر ماله والمصدق يأخذ صدقة سوائمه لأن الحول انعقد على ماله في دار الحرب فإن الزكاة تجب عليه في ماله في دار الحرب ألا ترى أنه يؤمر بالأداء ويصير آثماً إذا لم يؤد فحسب الوجوب قد وجد في دار الحرب والوجوب وجد في دار الإسلام والعبرة بحال الوجوب وفي حال الوجوب المال في حماية الإمام ورعايته في موضع يجري حكم إمام المسلمين فيه فيأخذ منه العشر ألا ترى أن الحول إذا انعقد على النصاب ثم انتقص ثم تم في آخر الحول فإنه تجب الزكاة واعتبر فيه حال تمام الحول التي هي حال الوجوب ولم يعتبر النقصان الذي كان في أثناء الحول فكذلك لا يعتبر كينونة المال في دار الحرب في أثناء الحول ويعتبر حال تمام الحول وهكذا الجواب في الأسير أو المستأمن إذا خرج بماله إلى دار الإسلام وتم الحول عليه في دار الإسلام فإنه يؤخذ منه زكاة ذلك الحول ولو أن رجلاً مسلماً أو ذمياً مر على عاشر المسلمين بماله من دراهم أو دنانير يريد أن يدخل به أرض الحرب للتجارة فقال للعاشر : إنما أصبته منذ أشهر ولم يحل عليه الحول صدقه على ذلك@(5/293)
ولم يأخذ منه عشراً لأنه أنكر وجوب الحق في ماله فكان القول قوله فإن دخل دار الحرب فاشترى به وباع حتى تم الحول على ملكه وهو في دار الحرب ثم خرج به إلى
دار الإسلام فمر به على العاشر فإنه لا يأخذ منه العشر لما مضى لأن الحول حال والمال في دار الحرب ووقت الوجوب وقت تمام الحول فإذا لم يكن المال وقت الوجوب في موضع يجري فيه حكم المسلمين لا يأخذه الإمام وإن كان أقام في دار الحرب تمام الحول منذ ملكه في دار الإسلام إلا يوماً أو يومين ثم خرج إلى دار الإسلام فتم الحول في دار الإسلام ثم مر به على العاشر عشره لأن المال وقت وجوب الحق في حماية الإمام وفي موضع يجري فيه حكم إمام المسلمين فكان له حق الأخذ ولو أن حربياً مستأمناً في دار الإسلام أو ذمياً أو مسلماً مر على عاشر بمال فكتمه إياه وقد حال الحول الأول ثم مر به على العاشر أيضاً فكتمه إياه وقد حال الحول الثاني ثم مر به على العاشر بعدما حال الحول الثالث فعلم به العاشر وعلم بما كان صنع قال : بتلك الأحوال فإن العاشر يعشر الأموال في الأحوال الثلاثة كلها لأنه يثبت حق الأخذ للعاشر في كل مرة لأن الزكاة وجبت في المال في دار الإسلام والحق متى ثبت لا يبطل بالتأخير ولا بالكتمان فإن كان الحرب يدخل في هذه الأحوال الثلاثة في كل مرة في دار الحرب قبل أن يعشره ثم يخرج فليس ينبغي للعاشر أن@(5/294)
يعشره إلا بهذه المرة الأخيرة لهذا الحول الثالث لأنه لما دخل دار الحرب في كل مرة فقد بطلت عنه أحكام المسلمين وارتفع ذلك الأمان وصار كحربي آخر حين خرج في المرة الثانية والثالثة ألا ترى أن العاشر لو عشره ثم دخل دار الحرب ثم خرج من يومه ذلك ومر على العاشر فإنه يعشره ثانياً فكما أبطل دخوله دار الحرب العشر الذي كان له عند المسلمين وصار في الحكم كحربي آخر خرج فكذلك يبطل دخوله دار الحرب ما كان للمسلمين عنده ويصير كحربي آخر خرج في كل مرة ولو أن الحربي والمستأمن والمسلم والذمي مكثوا يتجرون في دار الإسلام ثلاثة أحوال لا يمرون علي عاشر المسلمين ثم مروا على عاشر المسلمين بعد الحول الثالث فأخبروه أنهم لم يعشروا منذ ثلاثة أحوال
وأخبر المسلم أنه لم يؤد زكاة ماله منذ ثلاثة أحوال فإن العاشر يأخذ منه زكاة هذا الحول الثالث ولا يأخذ منه زكاة الحولين الماضيين وذلك لأن العاشر إنما يعشر المال الذي في دار الإسلام إذا كان في حمايته في الحول الثالث لا في الحولين الماضيين فلهذا لا يأخذ لما مضى من الحولين بخلاف ما إذا حال الحول والمال في دار الحرب ووقت الأخذ باق ما لم يجب الحق في المال ثانياً فقد مضى وقت أخذ الواجب الأول وجاء وقت أخذ الواجب الثاني فمتى مر عليه بعدما حال الحول الأول قبل أن يتم الحول الثاني فوقت الأخذ باق فعشره ومتى تم الحول والمال في دار@(5/295)
الحرب فإن العاشر لا يعشر هذا المال وإن مر به صاحبه عليه قبل أن يتم الحول الثاني لأن الحول حال هناك والمال في موضع ليس يجري فيه حكم إمام المسلمين فلم يثبت له حق الأخذ أبداً وأما المال الذي في دار الإسلام فإنه في موضع يجري فيه حكم الإمام فله حق أن يعشره متى مر به صاحبه قبل أن يمضي وقت الوجوب للحول الثاني فأما السائمة من الصدقات فليس على الحربي ولا على الذمي فيها صدقة لأن الصدقة عبادة فلا تجب على الكافر فأما سائمة المسلم إذا لم يأخذ صدقتها سنين ثم اطلع على ذلك أخذت منه زكاتها للسنين الماضية لأن أخذها إلى السلطان لما كان فيها من الحماية فيأخذ زكاة ما مضى وهذا بخلاف العاشر فإنه لا يأخذ العشر إلا للحول الآخر لأن العاشر إنما يأخذ من المال الذي يمر به عليه صاحبه والمرور عليه بالمال لم يؤخذ إلا في السنة الرابعة فلا يأخذ إلا للسنة الثالثة وأما المصدق ليس يأخذ الصدقات لحق المرور عليه بل في سائمة كل إنسان فيأخذ منها الصدقة فإنما يأخذ الصدقة باعتبار حولان الحول على السائمة وقد حال على السائمة ثلاثة أحوال فيأخذ صدقة كل حول فإن قال المسلم صاحب السائمة : قد أديت صدقتها إلى المساكين لهذه السنين لم يلتفت إلى قوله ويؤخذ منه الصدقة لثلاث سنين وهذا عندنا وقال الشافعي - رحمه الله
تعالى - : لا يأخذ واحتج وقال : إن الصدقة حق الفقراء فلما دفعها إلى الفقراء فقد أوصل الحق إلى مستحقه فيبدأ كما لو دفع زكاة التجارة إلى الفقراء إلا أنا نقول إن حق الأخذ إلى المصدق فلا يبرأ بالدفع إلى الفقراء كالغريم إذا دفع الدين لا يبرأ لما أن حق الأخذ للوصي كذا هنا فإن كان الإمام لم يبعث إليهم@(5/296)
مصدقاً في تلك السنين بأن شغل عن ذلك لحرب أو غيرها فأدوها لما مضى وقالوا : قد أديناها حيث لم يبعث إلينا مصدقاً فالقول قولهم ولا صدقة عليهم في ذلك لأن الإمام إذا لم يبعث إليهم مصدقاً في تلك السنين فلم يوجد الطلب من الإمام فلم يجب عليهم الدفع إلى الإمام فإذا أدى بنفسه يبرأ كزكاة المال إذا أداها المالك قال : والحربي والمستأمن والذمي والمسلم إذا مروا بعاشر من عاشر المسلمين فقالوا : قد عشرنا غيرك في هذه السنة وجاءوا بالبراءة وحلفوا له على ذلك إن تهمهم فليس ينبغي أن يأخذ منهم شيئاً لأن الزكاة حق الله - تعالى - أمانة عند المالك والأمين متى أخبر بأداء الأمانة صدق ثم هذا في المسلم والذمي ظاهر لأنهما لو قالا : علينا دين يصدقان وأما الحربي لو قال : علي دين لا يصدق وإذا قال : عشرني عاشر غيرك صدق لأنه تأيد قوله ها هنا بالبراءة فجاز أن يصدق فأما في مسألة الدين لم ينضم إلى قولهم ما يصدقه فجاز ألا يصدق والدليل على ذلك حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - حيث أتاه ذلك الشيخ النصراني وقال : إن عمالك عشروني في السنة مرتين قال : - رضي الله تعالى عنه - إلى عماله لا تعشروا في السنة إلا مرة أليس عمر - رضي الله تعالى عنه - قد صدقه في ذلك حيث كتب إلى عماله ألا تعشروا إلا مرة وإذا كان للرجل المسلم أو الذمي مال للتجارة فحال عليه حول في دار الإسلام ثم أدخله دار الحرب بأمان فاتجر فيه حولاً آخر ثم أخرجه من دار الحرب فمر به على عاشر المسلمين لم يعشره للسنة الأولى ولا للسنة الثانية أما السنة الأولى فلأنه لم يمر@(5/297)
بماله في
وقت الأخذ فلا يأخذ وأما السنة الثانية فلأن الحول قد حال على المال والمال في دار الحرب وقد ذكرنا أن العاشر لا يعشر المال الذي قد حال عليه الحول في دار الحرب فإن مر به بعد الحول الأول على العاشر في دار الإسلام فكتمه المال ثم أدخله دار الحرب فمكث حولاً في دار الحرب ثم أخرجه فمر به على عاشره وأخبره خبره فإنه يعشر للحول الأول ولا يعشر للحول الثاني أما ما يعشره للسنة الأولى فلأنه قد مر بعد وجوب الحق بالتأخير ووجوب الحق لا يفوت بالتأخير وأما الحول الثاني حال والمال في دار الحرب فلا يعشره وكذلك سائمة الرجل المسلم إذا أدخلها دار الحرب بعدما حال عليها الحول أما للحول الأول فلأنه قد مر بعد وجوب الحق في المال ووقت الأخذ باق فثبت له حق الأخذ فلا يسقط ذلك الحق بالتأخير ولم يؤد زكاتها لحال عليها الحول الآخر في دار الحرب ثم أخرجها إلى دار الإسلام فإن المصدق يصدقها للسنة الأولى لأن حق الأخذ يثبت للمصدق باعتبار حولان الحل في دار الإسلام لا بحق المرور عليه فقد حال الحول الأول على المال في دار الإسلام فثبت له حق أخذ صدقة تلك السنة ولا يأخذ للسن الثانية شيئاً لأنه حال والمال في دار الحرب فلا يجب له حق الأخذ ولو أن حربياً مستأمناً في دار الإسلام حال الحول على ماله أو حولان في دار الإسلام فمر بعاشر المسلمين ومعه مال فكتمه ذلك ثم إن العاشر ظفر به وأخرجه فإنه يعشره لما مضى فإن لم يضفر به العاشر حتى دخل دار الحرب ثم خرج فأخبره ومعه ماله ذلك بطل كل عشر كان وجب عليه لما مضى من السنين وعشره@(5/298)
لخروجه من دار الحرب هذه المرة وأبطل عنه ما مضى لأنه حين دخل دار الحرب بطلت عنه أحكام المسلمين وحق الأخذ للإمام بالحكم فإذا لم يكن للمسلمين عليه حكم لم يكن للإمام حق الأخذ ولو كان وجب ذلك عليه فلم يدخل دار الحرب التي هو من أهلها ولكنه دخل دار حرب أخرى من دار الإسلام بأمان ليتجر فيها فإن كان استأمن المسلمين حين دخل
أرض الإسلام ولم يذكر لهم دخول تلك الأراض فإنه يبطل ما كان وجب عليه من العشور لأنه دخل داراً لا يجري فيها حكم المسلمين فصار كما لو دخل دار نفسه ثم خرج ولو كان كذلك بطل عنه ما وجب من العشور فكذلك ها هنا ولو كان استأمن لينفذ إلى تلك الدار ويرجع إليهم فآمنوه على ذلك فهذا أيضاً والأول سواء ويبطل عنه كل عشر وجب عليه وهكذا لو استأمن على أن ينفذ إلى تلك الدار ويكون آمناً فيها من المسلمين ثم يخرج إلى دار الإسلام آمناً حتى يرجع إلى داره فآمنوه على ذلك فدخل إليهم بعد ما وجب عليه العشور ثم خرج لأنه لا يعشر لما مضى ويعشره المسلمون إذا خرج من تلك الدار إلى دار الإسلام لأن حكم المسلمين غير جار في دار الحرب التي خرج المستأمن إليها وإن كان هو آمناً من المسلمين فخروجه إلى موضع لا يجري فيه أحكام المسلمين يبطل اعتبار ما وجب عليه ويبطل أيضاً اعتبار ما@(5/299)
أخذ منه حتى ولو عشره المسلمون حين خرج من داره إلى دار الإسلام فمكث أياماً ثم دخل تلك الدار الأخرى ثم خرج منها وبين ذلك أيام عشره العاشر مرة أخرى لأنه حين دخل تلك الدار خرج من أحكام المسلمين فإذا رجع أخذ منه العشر وصار سبيله سبيل دار الموادعة إذا خرج واحد منهم إلى دار الإسلام بتلك الموادعة فيعشره العاشر ثم خرج في تلك السنة إلى دار الإسلام بتلك الموادعة فإن العاشر يعشر ماله ثانياً لما أنه لما عاد إلى داره فقد خرج عن حكم المسلمين وإن كان هو آمناً في تلك الدار فأبطل اعتبار ما أخذ منه فكذلك ها هنا ولو أن أهل الحرب وادعوا المسلمين على أن يؤدوا إلى المسلمين كل سنة خراجاً معلوماً على ألا يجري المسلمون أحكامهم ولا يكونوا ذمة لهم ثم إن رجلاً منهم خرج إلى دار الإسلام بأموال كثيرة على تلك الموادعة فهو آمن ويؤخذ منه عشر ما أمر به كاملاً لأنه حربي على حاله إلا أنه آمن ولم يصر ذمياً لأن حكم المسلمين غير جار عليهم فصار كما لو خرج من غير دار الموادعة بأمان فيؤخذ
منه العشر ولو وجب عليه عشور في دار الإسلام ثم دخل دار الموادعة ثم خرج فإنه لا يعشره العاشر لما مضى لما بينا أن هذه الدار والدار التي لا موادعة بينها وبين المسلمين سواء ودخول المسلم والذمي دار الموادعة بمنزلة دخولهما دار الحرب ليس بين أهلها وبين المسلمين موادعة سواء لأنه لم تصر دار الإسلام بتلك الموادعة لعدم جريان حكم الإسلام والله الموفق .@(5/300)
باب من الخمس في المعدن والركاز يصاب في دار الحرب ودار الموادعة وما يلحق الذمي من ذلك والعبد والمستأمن
قال محمد - رحمه الله - : إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وأصاب ركازاً من ذهب أو فضة أو جوهر فإن كان أصابه في دار إنسان منه يرده إليه ولا يغدر به لأن هذا مال صاحب الدار فلو لم يرده كان خيانة منه وغدراً وهو قد ضمن ألا يخونهم ولا يغدر بهم في أنفسهم وأموالهم وإن كان أصابه في صحراء أو في موضع ليس بملك لأحد من أهل دار الحرب فهو له بمنزلة الصيد الذي يصطاده المستأمن في دار الحرب وذلك الصيد يكون له فكذلك هذا الركاز يكون له ولا خمس فيه إذاً أخرجه إلى دار الإسلام لأن لم يصبه على وجه إعزاز الدين وأعلاء كلمة الله - عز وجل - ولا بإيجاف الخيل والركاب فصار بمنزلة المتلصص والمال الذي أخرجه المتلصص لا خمس فيه فكذلك هاهنا ولا عشر فيه إن مر به على عاشر المسلمين لأن هذا مال أصابه في دار الحرب ولم يوجد من الإمام رعاية ولا حماية في أرض الحرب فلا يعشره ألا ترى أن المستأمن لو أدخل دار الحرب مالاً له ثم أخرجه إلى دار الإسلام بعدما حال الحول عليه في دار الحرب فإنه لا يعشر ذلك المال فالمال الذي أصابه في دار الحرب وأخرجه إلى دار الإسلام أولى ألا يعشره وهكذا الجواب إذا أصاب المستأمن@(5/301)
معدن ذهب أو فضة أو حديد في أرض الحرب أو أصاب عنبراً أو لؤلؤاً في البحر فهو له لأن هذا ليس بملك لأحد فصار كالركاز الذي وجده في الصحراء ولا خمس فيه ولا عشر إذا أخرجه إلى دار الإسلام فإن وجد المعدن في ملك إنسان منهم فليرده على صاحبه والرجل الذي يسلم من أهل الحرب والأسير من المسلمين في ذلك سواء إلا في خصلة واحدة ما أصاب الأسير والرجل المسلم من أهل الحرب في دار رجل منهم فهو له أيضاً ولا خمس فيه ولا عشر لأنه لا أمان لهم ولو قدر على قتلهم وأخذ أموالهم فعل ذلك فإذا أصاب ركازاً أولى أن يكون له وكذلك ما أصابا من لقطة فهي لهما ولا خمس ولا عشر فيها إذا خرجا على العاشر في دار الإسلام لأن الظاهر أن هذا مال أهل الحرب ولو وجدا مالاً في دار
واحد منهم كان لهما ولا خمس فيه ولا عشر فاللقطة أولى أن تكون لهما فأما المستأمن فما وجد من لقطة في دار الحرب فيبغي له أن يعرفها ما يعرف اللقطة في دار الإسلام لأنه لا يحل له أخذ أموالهم كما لا يحل له أخذ مال المسلمين فإن عرفها حولاً فإن جاء صاحبها وإلا يتصدق بها كما في دار الإسلام إذا عرفها حولاً ولم يجيء صاحبها يتصدق بها وأحب إلي أن يتصدق بها على فقراء المسلمين الذين في دار الحرب فإن لم يجد فعلى فقراء أهل الذمة لأنه لو صرفها في دار الإسلام إلى فقراء أهل الذمة يجوز فكذا في دار الحرب فإن@(5/302)
لم يجدهم ففقراء أهل الحرب لأن هذا مال وجد من أهل الحرب فيجوز الصرف إلى فقراء أهل الحرب بخلاف اللقطة في دار الإسلام فإنها لا تصرف إلى فقراء أهل الحرب لأن تلك اللقطة مال المسلم فلا تصرف إلى الفقراء والذين ليسوا من أهل دار الإسلام وإن كان فقيراً فأكلها فلا بأس بذلك لأن المسلم الملتقط في دار الإسلام إذا كان محتاجاً فلا بأس بأكلها فهاهنا أولى فإن كان غنياً عندنا لا يحل له أن يتناول وعند الشافعي - رحمة الله عليه - يحل له فإن أكلها أو تصدق بها ثم جاء صاحبها فإن عرفها فإني أحب له أن يغرمها له ولا يجبر على ذلك في حكم الإسلام إن اختصما إلى إمام المسلمين بعدما أسلم صاحبها لأن استهلكها في أرض الحرب ولو غصبها فأخفر الذمة فإنه لا يضمن في الحكم ولكن المستحب له أن يضمن له فكذلك إذا استهلك اللقطة لا يضمن في الحكم ولكن المستحب له أن يغرمها له وإذا دخل الحربي في دار الإسلام بأمان فأصاب ركازاً أو معدناً فاستخرج منه ذهباً أو ورقاً أو حديداً فإن إمام المسلمين يأخذه منه كله ولا يكون له منه شيء لأن هذا غنيمة فإن المسلمين أوجفوا عليها الخيل .
ألا ترى أن المسلم لو كان هو الذي أصاب بخمس والباقي له ولو لم يكن غنيمة لكان لا خمس فيه والحربي لا حق له في غنائم المسلمين .
ألا ترى أن الحربي المستأمن لو خرج بغير إذن الإمام مع عسكر المسلمين وقاتل المشركين فأصابوا غنائم فإنه لا يعطى له شيء من الغنيمة فكذلك لا حق له في هذه الغنيمة فإن كان الحربي المستأمن استأذن إمام المسلمين في طلب ذلك والعمل فيه حتى يستخرجه فأذن له في ذلك فعمل فأصاب شيئاً خمس ما أصاب وكان ما بقي للحربي المستأمن لأن@(5/303)
الحربي المستأمن لو قاتل المشركين بإذن الإمام صار له في الغنيمة نصيب حتى أنه يرضخ له كما يرضخ للذمي فكذلك إذا عالج المعادن بإذن الإمام يصير له فيها نصيب فيؤخذ منه الخمس والباقي له ولو أن الحربي المستأمن أصاب من بحر المسلمين لؤلؤاً كثيراً أو عنبراً أو أصاب معدن جوهر أو فيروزجاً فأصاب منه شيئاً كثيراً وذلك بغير إذن الإمام فهو له ولا خمس فيه أما اللؤلؤ والعنبر فلأنه يستخرج من البحر وما في البحر لا يكون غنيمة إنما الغنيمة ما يكون في البر ألا ترى أن المسلم لو أصاب ذلك لا خمس فيه فإذا لم يكن غنيمة كان بمنزلة السمك والصيد وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رضي الله تعالى عنهما - لأنه لا خمس في اللؤلؤ والعنبر وأما عند أبي يوسف - رحمة الله عليه - لو أصابه المسلم بخمس فكان في حكم الغنيمة فيؤخذ كله من الحربي وأما الفيروزج فجزء من الأرض ألا ترى أنه لا ينطبع بالنار فكان بمنزلة الحجر ولا خمس في الحجر وإذا لم يكن فيه خمس لا يكون غنيمة فيكون كله للحربي المستأمن كالصيد الذي يصيبه في دار الإسلام وما أصاب الذمي من ركاز في دار الحرب أو معدن وهو فيها بأمان أو أسير فهو فيه بمنزلة المسلم لأنه من أهل دارنا فكان حكمه في ذلك وحكم المسلم سواء وما أصاب الذمي من ركاز في دار الإسلام أو معدن ذهب أو فضة أو رصاص أو زئبق فهو والمسلم فيه سواء بخمس ما أصاب وما بقي فهو له سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام لأنه من أهل دارنا ويجري عليه حكمنا فكان بمنزلة المسلم روى محمد - رحمة الله عليه - حديثاً@(5/304)
في العنبر عن
عمرو بن دينار عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه سئل عن العنبر هل فيه خمس فقال : إنما هو شيء دسره البحر وما وجد العبد من ركاز أو معدن في دار الإسلام خمس وكان ما بقي لمولى العبد لأنه غنيمة والعبد من أهل استحقاق الغنيمة ألا ترى أنه لو أعان المسلمين في قتال المشركين في قتال المشركين يرضخ له من الغنيمة فلما كان هو أهلاً لاستحقاق تلك الغنيمة فكذلك استحق هذه الغنيمة فيخمس والباقي يكون لمولى العبد لأن مال العبد يكون لمولاه وكذلك المكاتب إذا أصاب ذلك فإنه يخمس والباقي يكون له دون مولاه لأن هذه من كسبه والمكاتب أحق بكسبه من مولاه وكذلك الصبي إذا أصاب ذلك في دار الإسلام يخمس والباقي يكون له لأنه يرضخ له من الغنيمة إذا قاتل فكذلك ما استخرج من المعدن يكون له بعد الخمس وإذا كانت دار من دور أهل الحرب قد وادع المسلمون أهلها على أن يؤدوا إلى المسلمين شيئاً معلوماً في كل سنة على ألا يجري عليهم المسلمون أحكامهم فهذه دار الحرب لأن الدار إنما تصير دار الإسلام بإجراء حكم المسلمين فيها وحكم المسلمين غير جار فكانت هذه دار حرب فمن دخل من المسلمين هذه الدار بتلك الموادعة فأصاب ركازاً فإن وجده في الصحراء كان له ذلك وإن وجده في@(5/305)
دار واحد منهم رده عليه وإن طلبوا أن يكونوا ذمة لهم يجري عليهم حكمهم ويأخذون منهم في السنة خراجاً معلوماً ولم يكن المسلمون ظهروا عليهم قبل ذلك فهذه دار الإسلام لأن أحكام المسلمين جرت فيها فما أصيب فيها من ركاز أو معدن ذهب أو فضة فإنه يخمس والباقي للذي أصابه كما إذا أصيب ذلك في دار الإسلام فإن وجده في ملك إنسان منهم فإنه يخمس والباقي لصاحب ذلك الموضع عند أبي حنيفة ومحمد - رضي الله تعالى عنهما - وعلى قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - الباقي للواجد كما لو وجده في دار الإسلام في ملك واحد من المسلمين فأبو يوسف - رحمه الله تعالى - يقول : إن هذا مال مباح فيكون لمن سبقت
يده إليه وأبو حنيفة ومحمد - رضي الله تعالى عنهما - يقولان : صاحب الخطة ملك ذلك الموضع بالإحراز فيملك ظاهر الأرض وباطنها والدليل عليه حديث علي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال : إذا أصيب في قرية يؤدي عنها قوم الخراج فهو لهم وإن كان أصيب في قرية لا يؤدي عنها أحد الخراج فهو لمن أصابه وفيه الخمس وقال محمد - رحمة الله عليه - في قبرس وهي جزيرة من جزائر البحر أهلها نصارى يؤدون إلى العرب شيئاً وإلى الروم شيئاً كل سنة وهم صلح للمسلمين وصلح للروم إلا أن أحكام المسلمين لا تجري عليهم لو أصاب رجل من المسلمين فيها ركازاً أو معدناً فإن كان أصابه في ملك إنسان يرده عليه وإن أصابه في صحراء فهو له ولا خمس فيه لأن هذه دار حرب لأن حكم المسلمين فيها غير ظاهر وقد ذكرنا أن الجواب على هذا إذا أصيب ذلك في دار الحرب فكذلك هاهنا والله أعلم .
ولو أن عسكراً من المسلمين لهم منعة وعزة دخلوا أرض الحرب فأقاموا فيها حيناً حتى زرع منهم ناس@(5/306)
زروعاً فأدركت زروعهم فحصدوها وأخرجوها إلى دار الإسلام فإن كان البذر الذي بذروه من بذر لهم أدخلوه من أرض الإسلام فذلك الزرع كله لهم لأن هذه نماء ملكهم ونماء الملك لمالكه حتى يستحق بحق ولا خمس فيه لأنه ليس بغنيمة ولا عشر فيه ولا خراج لأن العشر والخراج إنما يجب في أراضي المسلمين وهذه أراضي أهل الحرب وأراضي أهل الحرب ليست بعشرية ولا خراجية وإن كان البذر الذي بذر في الأرض من حنطة أصلها من أرض العدو فأقام على ذلك حصده ودراسه وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه يؤخذ منه مقدار البذر الذي كان من طعامه هذا فيجعل في الغنيمة والباقي يكون له ولا يكون الكل غنيمة وإن خرج من بذر الغنيمة لأن هذا الرجل لا يكون أشقى حالاً من الغاصب ومن غصب بذر إنسان فبذره في أرض نفسه فخرج زرع كثير فإنه يضمن مقدار البذر للمغصوب منه والباقي يكون للغاصب فهاهنا أولى فإن قيل : لم يؤخذ منه مقدار البذر وهذا الرجل قد استهلك طعام الغنيمة ومن استهلك طعام الغنيمة في دار الحرب لا شيء عليه قلنا : بذر الطعام في الأرض هذا ليس باستهلاك حقيقة لأنه بذر يتطلب منه النماء ألا ترى أن الأب والوصي يملكان بذر طعام الصبي في الأرض ولو كان استهلاكاً لكان لا يملكان ذلك وهو قياس الخلنج إذا أصابه واحد من الغانمين فجعله قصاعاً في دار الحرب وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه يقوم الخلنج معمولاً وغير معمول فما كان من قيمته غير معمول يطرح في الغنيمة والباقي يكون له وكذلك إذا أصاب جلد سمور فدبغه يقوم مدبوغاً وغير مدبوغ فما كان من قيمته غير مدبوغ يطرح في الغنيمة والباقي يكون له فكذلك هاهنا قال : وإن أصاب الذمي أو العبد أو المكاتب أو الصبي أو المرأة معدناً في دار الإسلام أو ركازاً خمس ما أصاب وكانت البقية لمن أصابه وإن كان ذلك بغير إذن الإمام@(5/307)
لأن هؤلاء يثبت لهم في
الغنيمة حق وإن أصابوها بغير إذن الإمام فإنهم لو غزوا مع عسكر من المسلمين بغير إذن الإمام رضخ لهم من الغنيمة فكذلك ثبت لهم حق فيما أصابوا في دار الإسلام فإن قيل : هؤلاء يرضخ لهم الغنيمة ولا يضرب لهم بسهم مقدر فهلا يرضخ لهم في الغنيمة فيما أصابوا في دار الإسلام من الركاز والمعدن دون ما يعطى البالغ قيل له : لما وجب لهم في الغنيمة الرضخ فقد وجب لهم في الغنيمة حق ونصيب والحقوق في الغنيمة متفاوتة فكل شيء قدره الإمام صار كالذي ظهر تقديره بالشريعة وتفاوت المقادير من حيث الشريعة في الغنيمة لا يمنع استحقاق جميع من أصاب من الركاز والمعدن ألا ترى أنه يستوي فيه الراجل والفارس في إصابة المعدن وإن كانت حقوقها متفاوتة في الغنيمة فكذلك الحر والعبد يستويان في إصابة الركاز والمعدن ولأن الذي يجد المعدن يتفرد باستخراجه فهو كقوم ممتنعين من بعض هؤلاء الأصناف لو غزوا فأصابوا غنائم وأخرجوها إلى دار الإسلام فهذه الغنيمة تقسم بينهم على سهام الخيل والرجالة بعد الخمس كما يفعل ذلك للمقاتلة من المسلمين فالذي يستخرج المعدن والركاز مثله قال : ولو أن الحربي المستأمن استأذن الإمام في طلب الكنوز والمعادن فأذن له الإمام على أن للمسلمين مما يصيب النصف وله النصف فعمل على هذا فأصاب ركازاً أو معدناً فإن الإمام يأخذ نصف ما أصاب والحربي نصفه وذلك لأن الحربي المستأمن إنما يستحق من الركاز الذي أصابه في دار الإسلام ما استحقه بشرط إذن الإمام فإنه لو أصابه بعد إذن الإمام بعد إذن الإمام أخذ منه وإذا كان@(5/308)
استحقاه بالشرط فإنما يستحق ما شرط له الإمام والإمام شرط له النصف فلا يستحق أكثر من النصف ثم الإمام يأخذ خمس جميع ما أصاب الحربي من هذا النصف الذي أخذه من الحربي فيجعله للفقراء ويجعل النصف للمقاتلة وذلك لأن إذن الإمام يصير ما أصابه الحربي غنيمة يجب فيها الخمس فقد أوجب له إذنه حقاً في جميع المصاب بعد الخمس وليس للإمام أن
يصرف ذلك عنهم إلى غيرهم أبداً فيجعل خمس النصفين للفقراء ويجعل الباقي للمقاتلة وقال : ولو أن مسلماً أو عبداً أو مكاتباً أو ذمياً أو صبياً طلب الكنوز والمعادن بإذن الإمام فأذن له في ذلك على أن له النصف وللمسلمين النصف فأصاب كنزاً أو أموالاً من المعادن فإن الإمام يأخذ منه الخمس وما بقي فهو لمن أصابه وذلك لأن المسلم ما يستحق من الركاز والمعدن والكنور وغير ذلك فإنما يستحقه بالإصابة لا بالشرط من الإمام لأنه شرط لا يقتضيه الشرع فإن القياس أن يكون كله للواجد لأن هذا مال مباح فيكون لمن أصابه إلا أنا أوجبنا الخمس بالشرع وما زاد على ذلك لا شرع فيه فهو باق على أصل القياس بخلاف الحرب المستأمن إذا أصابه على هذا الشرط لأن استحقاقه بشرط الإمام على ما قلنا فلا يستحق أكثر من المشروط واستدل في الكتاب بفصل وقال : ألا ترى لو أن الإمام أرسل جنداً من المسلمين إلى دار الحرب وشرط لهم النصف مما أصابوا والنصف الآخر لجماعة المسلمين فأصابوا غنائم خمس ما أصابوا والباقي كله لهم وكان شرط الإمام باطلاً لأن استحقاقهم لا بشرط الإمام وشرط الإمام شرط لا يقتضيه الشرع لما أنه يجعل الغنيمة لمن لم يوجد منهم قتال فنفى شرطه وبمثله لو أن قوماً من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام بأمان على أن يجتازوا من دار الإسلام إلى دار حرب أخرى لم يكونوا يظفرون بقتالهم إلا بالممر من@(5/309)
دار الإسلام لو كانوا يظفرون به فأحبوا أن يكون ذلك من دار الإسلام ليكون أرعب للعدو فأذن لهم الإمام على أن للمسلمين النصف مما أصابوا ولهم النصف فأصابوا غنائم فإن الإمام يأخذ النصف وما بقي فهو لهم لما أنهم متى خرجوا إلى دار الإسلام سرية فإنما يستحقون ما يستحقون بالشرط فكان شرط الإمام معتبراً فلا يستحقون أكثر مما اشترط لهم فكذلك ها هنا ولو أن حربياً مستأمناً من الروم في دار الإسلام وجد حربياً تركياً في دار الإسلام دخل بغير أمان لم يكن له شيء منه في قولهم
جميعاً أما على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فلأنه لما دخل دارنا صار فيئاً لجماعة المسلمين حتى لو أخذه منه مسلم لا يسلم له ولكنه يؤخذ منه فيوضع في بيت مال المسلمين فالحربي إذا أخذه أولى ألا يسلم له وأما عند محمد - رحمة الله عليه - فلأنه لو أخذه مسلم كان غنيمة في الراوية التي توجب فيه الخمس ولما كان غنيمة عند أخذ المسلم فكذلك يكون غنيمة عند أخذ الحربي ولا حق للحربي في الغنيمة فيؤخذ منه كله وصار هذا والركاز الذي وجده في دار الإسلام سواء ولو كان الإمام أذن له في طلب ذلك فوجد قوماً من أهل الحرب من أهل داره أو من غيرها دخلوا بغير أمان فعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فكذلك لا يكون له منه شيء لأنه بالدخول في دار الإسلام صار حقاً لجماعة المسلمين فيوضع في بيت المال إذا أخذه من الحربي وأما عند محمد - رحمة الله عليه - يخمس ما أصاب منهم والباقي يكون له لأنه غنيمة الحربي يثبت له الحق في الغنيمة إذا كان الأخذ بإذن الإمام وهذا كالركاز المعدن إذا أصابه بإذن الإمام يخمس والباقي له فكذلك ها هنا ولو أن مسلماً حراً أو عبداً أو مكاتباً أو امرأة أذن له الإمام في طلب الكنوز والمعادن من الذهب والفضة وغير ذلك@(5/310)
على أن ما أصاب من ذلك فهو له لا خمس فيه فأصاب مالاً كثيراً من المعادن فليس ينبغي للإمام أن يسلم ذلك له إن كان موسراً لأن ما يصاب من الركاز والمعدن هو غنيمة والخمس حق الفقراء في الغنيمة ولا يجوز له أن يبطل حق الفقراء فإن كان الذي أصابه محتاجاً عليه دين كثير لا يصير غنياً بالأربعة الأخماس فرأى الإمام أن يسلم ذلك الخمس له جاز لأن الخمس حق الفقراء وهذا الذي أصابه فقير فقد صرف الحق إلى مستحقه فيجوز والدليل عليه ما روي عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال لذلك الرجل الذي أصاب الركاز إن وجدتها في أرض خربة فالخمس لنا وأربعة أخماسه لك ثم قال : وسنتمها لك وإنما قال ذلك لأنه رآه أهلاً للصدقة
فإن قال مثل هذا لحربي مستأمن أو لذمي وأذن له في مثل ما أذن للمسلمين فأصاب كنزاً أو معدناً خمس ما أصاب وكان ما بقي للحربي أو الذمي ولا ينبغي للإمام أن يعطي الخمس للكافر غنياً كان أو فقيراً معدماً لأن الخمس حق أوجبه الله - تعالى - بنص القرآن للفقراء فلا يجوز صرفه إلى الكفار كالزكاة ولو أن الإمام أرسل جنداً من أهل الذمة أو من أهل الحرب المستأمنين أو الموادعين يقاتلون له مع أهل حرب آخرين وأمر عليهم أميراً من أمراء المسلمين وأمره أن يحكم فيهم بحكم المسلمين فدخلوا دار الحرب فأصابوا غنائم فإنه بخمس ما أصابوا وما بقي فهو لهم على سهام الغنيمة للفارس منهم ما للفارس وللراجل منهم ما للراجل لأن حكم المسلمين هو الظاهر@(5/311)
فيهم والمأخوذ منه يكون على وجه إعزاز الدين وعلى حكم الإسلام فيكون غنيمة وأهل الذمة هم المقصودون فيه ليسوا بتبع للمسلمين فيكون غنيمة بينهم على سهام الخيل والرجالة ألا ترى أن أهل الذمة لو دخلوا بغير إذن الإمام كان الحكم كذلك وإن لم يكن معهم أحد من المسلمين فالمستأمنون إذا أذن لهم الإمام صاروا بمنزلة أهل الذمة فإن دخل معهم قوم مسلمون يقاتلون معهم فقال المسلمون : نرضخ لأهل الذمة والحربيين ولا نسهم لهم ونحن نأخذ السهام نظر في المسلمين فإن كانوا أهل منعة بأن كانوا وحدهم يستغنون عن أهل الذمة إلا أن كينونتهم معهم أفضل فإن السهم للمسلمين ويرضخ لأهل الذمة والحربيين لأن المسلمين إذا كانوا أهل منعة وأهل الذمة تبع لهم فليس لهم إلا الرضخ وإن كان لا منعة لهم إلا بمن معهم من أهل الذمة فأهل الذمة والحربيون شركاء في الغنيمة يقسم بينهم وبين المسلمين على سهام الخيل والرجالة لأن المال لم يصر غنيمة للمسلمين إنما صار غنيمة بأهل الذمة لولاهم لكانوا متلصصين غير غزاة فإذا صار المال غنيمة بأهل الذمة ساووا المسلمين وإن أصابوا الغنيمة في دار الحرب والمسلمون لا منعة لهم ولم تقسم الغنائم ولم تخرج إلى
دار الإسلام حتى لحقهم جند من المسلمين مدوا لهم فصار المسلمون بجملتهم أهل منعة كانت السهام للمسلمين ويرضخ لأهل الذمة لأن المدد إذا لحقوهم في دار الحرب صاروا كأنهم دخلوا معهم .
ألا ترى أنهم يشاركونهم في الغنيمة ولو دخلوا معهم وهم أهل منعة يرضخ لأهل الذمة فكذلك ها هنا وإن كان@(5/312)
أهل الذمة إذا انفردوا لا منعة لهم والمسلمون إذا انفردوا لا منعة لهم فإذا اجتمعوا كانت لهم منعة فاجتمعوا فأصابوا غنائم فإنه يسهم لأهل الذمة كما يسهم للمسلمين لأن المال إنما صار غنيمة بهم جميعاً ليس لأحد الفريقين فضل على الآخر فاستووا جميعاً في الغنيمة وكذلك إن كان لكل فريق منعة كانت الغنيمة بينهم على سهام الخيل والرجالة لأنه ليس لأحد الفريقين فضل على الآخر فلم يكن بعضهم تبعاً للبعض فاستووا في الغنيمة وهكذا الجواب في السرية إذا كانوا كلهم عبيداً أو مكاتبين دخلوا بإذن الإمام فأصابوا غنائم فإن الغنيمة بينهم على سهام الخيل والرجالة وإن كان معهم أحرار فهو على التفصيل الذي قلنا لأن العبيد أهل رضخ فلا يسهم لهم إلا أن يكون لهم منعة فيساووا الأحرار في الغنيمة ولو أن رجلاً أو رجلين أو ثلاثة أو من منعة له من المسلمين أو من أهل الذمة دخلوا دار الحرب بغير إذن الإمام فأصابوا غنائم فأخرجوها إلى دار الإسلام كان ذلك لهم ولا خمس فيه لأنهم متلصصون والمصاب على وجه التلصص لا يكون غينمة ولا يجب فيه الخمس وإن دخلوا بإذن الإمام خمس ما أصابوا لأن الإمام لا يمنعهم إلا لمصلحة فيها إعزاز الدين فنزلوا منزلة سرية وجههم الإمام فكان المصاب على وجه إعزاز الدين فيكون غنيمة وفي الغنيمة الخمس فإن قال لهم الإمام أذنت لكم على أن لكم النصف مما تصيبون ولجماعة المسلمين النصف فرضوا بذلك فأصابوا غنائم لم يكن الأمر على ما قال@(5/313)
ولكن يخمس ما أصابوا والباقي لهم لأن إذن الإمام جعلهم أهل منعة وجعل المصاب غنيمة ولو كانوا أهل منعة شرط عليهم الإمام هذا
الشرط لم يصح الشرط لأنه شكر لا يقتضيه الشرع فكذلك ها هنا لا يصح هذا الشرط فإذا بطل الشرط كان فيه الخمس والباقي للغانمين كما هو الحكم في الغنائم فإن كان الإمام قال هلم لكم ما أصبتم كله فاجهزوا فخرجوا وغنموا كان ما أصابوا كله لهم ولا خمس فيه لأنه لا حكم لهذا الإذن فإنه لولا الإذن لكان الكل هلم قلنا : هذا الإذن فصار كأنهم دخلوا بغير إذن الإمام ولو دخلوا بغير إذن الإمام لم يخمس ما أصابوا فكذلك ها هنا قال : ولو أن الإمام قال لسرية أرسلها من دار الإسلام إلى دار الحرب وقال لهم : ما أصاب إنسان منكم من ركاز أو معدن فأخذ منه شيئاً فهو له فأصاب رجل منهم ركازاً فهو له ولا خمس فيه بخلاف ما إذا قال لهم في دار الإسلام : من أصاب ركازاً أو معدناً فهو له ولا خمس فيه فأصاب رجل شيئاً من ذلك في دار الإسلام خمس ما أصاب والباقي له والفرق بينهما هو أن الركاز إذا كان في دار الحرب فالمسلمون لم يوجفوا عليه ولم يصر غنيمة بعد ولا يثبت فيه الخمس الذيب هو حق الفقراء فهذا تنفيل من الإمام قبل إحراز الغنيمة فيجوز وأما الركاز في دار الإسلام فقد أوجف عليه المسلمون وصار غنيمة ووجب فيه الخمس للفقراء فلم يكن هذا تنفيلاً من الإمام بل هو إبطال الخمس الذي هو حق الفقراء فلا يجوز هذا الشرط والله الموفق .@(5/314)
باب من له من الأمراء أن يقبل وأن يقسم وأن يجعل الأرض أرض خراج
وأن يقبل الخراج قال محمد - رحمه الله تعالى عليه - : وإذا بعث الخليفة أميراً على جند من الجنود فدعا قوماً من المشركين إلى الإسلام فأسلموا فهم أحرار لا سبيل عليهم ومالهم وأرضهم ورقيقهم لهم وتكون أرضهم أرض عشر كأرض المهاجرين والأنصار لأن التأمير يقتضي أن يكون فعل الأمير كفعل المأمور والمؤمر وهو الخليفة إذا دعاهم فأسلموا فهم أحرار وأرضهم أرض عشر فكذلك ها هنا والمعنى في ذلك وهو أن الأرض إنما تصير خراجية إذا فتحت عنوة وثبت فيها حق المقاتلة ثم لم تقسم بينهم وتركت على أربابها وقطع حق المقاتلة عنها فتجعل خراجية لكون الخراج للمقاتلة ولمصالح المسلمين وهذا المعنى معدوم فيما إذا سلم أهلها طوعاً فإنه لم يثبت فيها حق المقاتلة فلا يثبت لهم حق في أرضها فجعلت عشرية غير خراجية وإن أبوا أن يسلموا فعرض عليهم الأمير أن يصيروا ذمة ففعلوا فإنهم يكونون ذمة فإن كان الخليفة لم يأمره من ذلك بشيء فكذلك الجواب لأن الخليفة لما فوض إليه أمر الحرب صار مفوضاً إليه ما كان من أسبابه وتوابعه وما هو متعلق به والذمة من توابع الحرب لأنه كما يحارب المشركين ليسلموا فكذلك يجب مقاتلتهم ليقبلوا الذمة قال@(5/315)
الله - تعالى - : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه } إلى أن قال { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 39 وكما قال الله - تعالى - : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } الفتح : 16 وروينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أوصى صاحبهم بتقوى الله وكان يأمرهم بالدعاء إلى الإسلام فإن أبوا فإلى قبول الذمة فكان الدعاء إلى الذمة من توابع الحرب فيصير مفوضاً إلى الأمير وكذلك لو بعث أمير الجند قائداً من قواده فدعاهم إلى مثل هذا فأجابوه كان في ذلك بمنزلة الأمير الأعظم لأن الأمير أقام قائده مقام نفسه في أمر الحرب وهذا من توابع الحرب ولو دعاهم الأمير إلى الذمة فقبلوا الذمة
جاز فكذلك إذا دعاهم القائد يجوز فإن صالحهم الأمير على صلح في كل سنة من رقابهم وأراضيهم فذلك جائز لأن هذا نوع من إعطاء الذمة وقبول الجزية لأن إعطاء الذمة على نوعين إما أن يصالحهم الأمير على إعطاء الجزية المقدرة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره أو يكون الصلح واقعاً على مال مجمل مقدر يؤدون كل سنة فبعض ذلك المال على رقابهم وبعضه في أرضهم كما صالح رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أهل نجران على ألفي حلة كل سنة يؤدونها إليه وكما فعل بأهل طيء وشرج وإن كان الخليفة نهاه عن ذلك لم يجز له ما صنع من ذلك حتى يكون الخليفة هو الذي يقطع ذلك لأنا إنما جعلنا مأذوناً بالصلح والأقطاع على وجه الدلالة فإذا جاء النهي مفصحاً به كان الحكم للأفصاح لا للدلالة إلا أن يكون الخليفة هو الذي يقطع بذلك فيما بينه وبينهم فإن رضوا بما صنع الخليفة وإلا أبلغوا مأمنهم إن أبى الخليفة أن يجيز ما رضوا به من مقاطعة الأمير لأن مقاطعة الأمير وإن لم تجز فتلك المقاطعة تضمنت أماناً لهم فإذا لم يرضوا بمقاطعة الخليفة كان إخفاراً للذمة ونقضاً للعهد فإن أبوا أن يسلموا أو يصيروا ذمة قاتلهم المسلمون فإن قاتلوهم وظفروا عليهم وعلى أرضهم وما فيها فليس لأحد@(5/316)
من الناس أن يعرض لشيء من هذه الغنيمة أو غيرها حتى يستطلع في ذلك رأي الخليفة فإن شاء الخليفة قسم ذلك كله فأخذ الخمس لليتامى والمساكين وجعل الأربعة الأخماس للغانمين وإن شاء من عليهم وجعلهم أحرار يؤدون الجزية عن رقابهم والخراج عن أراضيهم لأن الأمير له ولاية على جنده وليس له ولاية على جماعة المسلمين وفي الغنيمة أو المن حق لجماعة المسلمين لأنه إن قسمها بينهم صارت الأرض عشرية والعشر حق الفقراء إلى قيام الساعة وإن منّ عليهم صارت الأرض خراجية والخراج للمقاتلة ولمصالح المسلمين إلى يوم القيامة فثبت أن القسمة أو المن تصرف على جماعة المسلمين فكان الذي يلي ذلك هو الخليفة دون الأمير وكذلك
ليس لمن دون الخليفة من الأمراء بعد ما يظهر عليهم أن يقتل مقاتلتهم إذا كان غلبهم وأسرهم وظهر عليهم لأن القتل نوع من المن لما فيه من إبطال حق الغانمين وقد ذكرنا أنه ليس له أن يمن قبل استطلاع رأي الخليفة فكذلك ليس له أن يقتل إذ يكون القتل معتبراً بالقسمة وليس له ولاية القسمة فلم يكن له ولاية القتل وهذا إذا كان الأمير لا يخافهم على المسلمين فأما إذا كان يخاف على المسلمين من جانبهم أو يخاف أن يأتيه جند من المشركين فيكون الأسرى عوناً عليهم فلا بأس بأن يقتل رجالهم بغير إذن الخليفة لأنه إذا كان يخافهم فقتلهم من المحاربة فكان قتلهم في هذه الحالة وفي حالة الحرب سواء ونظيره ما قلنا إذا أسر أهل العدل أسراء من الخوارج فإنه لا يقتلهم أهل العدل إذا أمنوا@(5/317)
جانبهم فإذا لم يأمنوهم وخافوا أن ينحازوا إلى فئة قوم فإنه يدفف على جريحهم ويقت أسراءهم فكذلك ها هنا ولو أن الخليفة وجه رجلاً على جند إلى المشركين فظهر على الرجال والنساء والأموال في دار الحرب ولم يظهر على الدار فأخرجهم إلى دار الإسلام فلا بأس بأن يقسمهم فيخرج الخمس للفقراء ويقسم أربعة أخماسها بين الغانمين ولا ينتظر في ذلك إذن الخليفة لأنه إذا لم يظهر على الدار فليس للخليفة حق المن بأن يرد المال على أربابه بل عليه أن يعزل الخمس ويقسم الأربعة الأخماس بين الغانمين فليس في الأربعة الأخماس إلا حق المقاتلة وحق أصحاب الخمس تبع لحق المقاتلة فكذلك من كان له ولاية على الجند كان له ولاية على أصحاب الخمس فتصرف هذا الأمير ليس يقع إلا على من له الولاية عليه فجاز أن يشتغل بذلك بخلاف ما إذا ظهر الأمير على الدار لأن الخليفة له حق المن وذلك حق لجماعة المسلمين فتصرف هذا الأمير يتعدى إلى جنده وإلى جماعة المسلمين فليس له الاشتعال بذلك فإن نهاه عن القسمة فليس له أن يقسم لأن الإذن ثبت له دلالة وقد جاء النهي عنه إفصاحاً ولا قوام للدلالة مع النص ولو كان الخليفة
بعث على الجند أميراً وعلى المقاسم غيره كانت المقاسم إلى الذي بعث على المقاسم دون الأمير إلا أنه لو نعاه عن القسمة عمل نهيه فإذا فوض أمر القسمة إلى غيره علم تفويضه هذا لأن أمر القسمة يحتاج إلى الحفظ والأمانة وأمر الجهاد يحتاج إلى الجرأة والشجاعة فله أن يفرق الولاية فيجعل أمر القسمة إلى أحسنهم وأحفظهم للمغنم وأمر الجهاد إلى أجرئهم وأشجعهم إلا أن يشركه الخليفة في ذلك فيحنئذ القسمة إليهما جميعاً لأنه خص الأمير بأمر الحرب معهما في أمر القسمة فيراعي تفويضه الخليفة في كل شيء ومن كان@(5/318)
إليه القسمة فرأى أن يبيع قبل أن يقسم فبيعه جائز لأنه ربما لا يتهيأ قسمة العين لتعذر التعديل بين الأنصباء فتمس الحاجة إلى بيعها وقسمة أثمانها فصار البيع من توابع القسمة فكل من فوض إليه القسمة على الإطلاق صار البيع الذي هو تبع القسمة مفوضاً إليه كما أنه إذا فوض إليه أمر الحرب على الإجمال صار أسبابه وتوابعه مفوضاً إليه كما أنه إذا فوض أمر الحرب على الإجمال صار أسبابه وتوابعه مفوضاً إليه وإن كان أمر القسمة إلى الأمير فرأى أن يقتل المقاتلة ولا يقسمهم وكان يرى ذلك خيراً للمسلمين فلا بأس بقتلهم في دار الحرب وبعدما يخرجهم لأنه لما ملك التصرف من حيث البيع والقسمة فكذلك من حيث القتل أيضاً ما لم يأت بهم الخليفة لأنه إذا أتى بهم الخليفة فقد خرج من الإمرة لأن إمارته مؤقتة ما دام مفارقاً عن الخليفة فإذا اتصل بالخليفة فقد انتهت إمارته فلا يجوز له التصرف بعد ذلك فهذا كأمير الجند إذا بعث سرية في دار الحرب فكان لأسير السرية أن يتصرف في السرية ما دام مفارقاً لأمير الجند فإذا عاد واتصل بالجند لم يبق له تصرف في أمر السرية فكذلك ها هنا وكذلك الوكيل بالشراء يملك الرد بالعيب ما دام المشتري في يده فإذا سلمه إلى الموكل لم يبق له حق الرد لما أن وكالته قد انتهت فكذلك ها هنا وإن كان الذي إليه المقاسم غير أمير الجند فليس للذي إليه
المقاسم أن يقتل المقاتلة لأنه فوض إليه أمر المقاسم ولم يفوض إليه أمر القتال والقتل من القتال فلا يملكه صاحب المقاسم فلو كانت المقاسم إلى غير أمير الجند فأصاب المسلمون غنائم فيها ناس من المقاتلة فأراد الأمير قتلهم فإن كان المسلمون في القتال على حالهم فلا بأس بأن يقتلهم الأمير لأن قتل الأسراء في تلك الحال من القتال وقد فوض إليه أمر القتال وإن انهزم المشركون وبقيت الأسراء في أيدي المسلمين فإن كان المسلمون يخافونهم أو يخاف المسلمون أن يأتيهم العدو فيكون الأسراء معهم فله أن يقتلهم لأن الحرب ما دام باقياً@(5/319)
يجعل كأن القتال باق وله أن يقتلهم في حالة المقاتلة فكذلك ها هنا وإن كان المسلمون لا يخافونهم فليس ينبغي للأمير أن يقتلهم لأنهم قد صاروا فيئاً للمسلمين وثبت حق القسمة لصاحب المقاسم فليس للأمير قتلهم وإن قتلهم الأمير فلا شيء عليه لأنهم أهل حرب لا أمان لهم ولو قتلهم غير الأمير فلا شيء عليه فالأمير أولى أن لا شيء عليه إلا أنه مسيء في ذلك لأنه قتل والقتل غير حلال له وإن كان إليه القسمة فله أن يقتلهم لأنه ليس لغيره فيه تدبير من أمر القسمة فكان له أن يقتل كما يكون الخليفة يدل عليه ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه أوتى بأسراء فعفا عنهم إلا واحداً أخبر أنه أثخن في المسلمين فقتله قال : ولو أن والياً على ثغر من الثغور وجه سرية إلى دار الحرب فأصابوا غنائم فيها مقاتلة فأخرجوها إلى دار الإسلام فليس لأمير السرية من القسمة شيء بعد ما يخرج إلى دار الإسلام لأن إمارته كانت مؤقته وهو أن يكون مفارقاً عن الأمير فإذا اتصل بأمير الثغر مفقد انتهت إمارته فلا يتصرف بعد ذلك وهذا كأمير الجند الذي بعثه الخليفة على الجند إذا انتهى إلى الخليفة لم يكن له من أمر القسمة شيء بعد ذلك فكذلك ها هنا ثم أمير الثغر إن شاء قتل المقاتلة وقسم الباقي وإن شاء ترك القتل وقسم الكل وإن كان أمير الثغر لم ينه صاحب السرية حين
أرسله إلى دار الشرك عن القسمة فرأى أن يقسم ما أصاب في دار الحرب فقسمه وعزل الخمس فذلك جائز لأنه وال ما دام في دار الحرب وليس لغير السرية فيما أصابوا حق فجاز له القسمة وإن رأى أن يقتل المقاتلة قبل أن يخرجهم فلا بأس بقتلهم لأن القسمة إليه فكان القتل إليه فإن نهاه أمير الثغر عن القسمة فليس له أن يقسم وليس@(5/320)
له أن يقتل من المقاتلة أحداً لأنه مأمور من جهة الوالي فلا يتعدى أمره إلا أن يخاف الأسراء فحينئذ له أن يقتلهم كما يقتلهم في حالة المحاربة ولو أن جنداً دخل أرض الحرب عليهم أمير من قبل الخليفة فوجه السرايا حين دخل أرض الحرب ولم ينفلهم شيئاً فأصابت السرايا غنائم فليس ينبغي لأحد من أمراء السرايا أن يقسموا شيئاً من تلك الغنائم حتى يأتوا بها إلى العسكر لأن العسكر ردء للسرية فلهم شركتهم فيما يصيبون وأمير السرية له ولاية على السرية وليس له ولاية على الجند فلو جاز قسمة أمير السرية كان فيه إبطال حق العسكر من غير ولاية له عليهم وذلك لا يجوز بخلاف السرية التي تدخل أرض الإسلام إذا أصابوا فتصرف الأمير لا يعدو السرية إلى غيرهم وله ولاية على السرية فجازت قسمته فيما بينهم فإن كان أمير العسكر أمر أمير السرية أن يبيع ما أصابوا ويقسم بين السرية ما أصابوا ففعل ذلك جاز ولم يكن لأهل العسكر إذا قسموا فيه نصيب وذلك لأنه لما أمره بالقسمة فقد جعل ما أصابوا للسرية خاصة وقطع حق العسكر عما أصابوا ثم هذا منه وإن كان جعلاً فإنه فصل يسع فيه اجتهاد الرأي فإن ظاهر قول عمر - رضي الله تعالى عنه - : الغنيمة لمن شهد الوقعة يوجب أن يكون المصاب للسرية خاصة فالأمير حيث أمر بالقسمة فإنما أمر متأولاً لهذا الحديث وأمر الأمير متى صادف فصلاً مجتهداً فيه نفذ أمره وإن قطع حق العسكر عما أصابوا إذ له ولاية عليهم فجاز قسمة أمير السرية فيما بينهم ولو أن أمير العسكر بعث سرايا ونفلهم أنفالاً فقال لسرية منهم : من أصاب رأساً فهو له
وقال لسرية أخرى : لكم الربع بعد الخمس مما أصبتم وقال لسرية أخرى : من أصاب منكم@(5/321)
رأساً فله نصفه فخرجوا فأصابوا غنائم فيها مقاتلة فليس ينبغي لأمير السرية أن يقتل منهم أحداً لأنه لو لم يكن فيما أصابوا نفل لم يكن لأمير السرية أن يقتل أحداً من المقاتلة فإذا كان فيه نفل أولى ألا يقتل أحداً منهم فإذا انتهوا بهم إلى لعسكر فليس ينبغي لأمير العسكر أن يقتل منهم أحداً لأنه بنفس الإصابة قد ثبت فيه النفل لأصحاب النفل والنفل حق خاص لأهله لا يشاركهم فيه غيرهم فصار النفل كحق الغانمين في الغنيمة بعد القسمة وليس للأمير أن يقتل أحداً من المقاتلة بعد القسمة فكذلك ها هنا لا يقتل أحداً منهم لحق النفل .
إلا أن يخافهم على المسلمين أو نظر الجند قد أقبل يريده من المشركين فيخاف أنه إن أتاه ذلك الجند كان الأسراء عوناً عليه فلا بأس بقتلهم لأن في هذا مصلحة ونظراً للمسلمين فكانت هذه الحالة وحالة المحاربة سواء ولو أن جنداً من المسلمين دخلوا دار الحرب وعليهم أمير من قبل الخليفة فدخلوا دار الحرب وخلفوا مدائن كثيرة من مدائن المشركين فنزلوا على مدينة من مدائنهم فدعاهم المسلمون إلى الإسلام فأجابوهم إليه فإن المسلمين يقبلون ذلك منهم إذا أسلموا لأن القتال إنما شرع لقبول الإسلام قال الله - تعالى - : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } الفتح : 16 فإذا أسلموا يجب القبول منهم ثم الأمير يدعهم في أرضهم ويستعمل عليهم أميراً من المسلمين يحكم بحكم أهل الإسلام لأن المدينة صارت دار الإسلام فلا بد من أمير بينهم يجري فيهم حكم المسلمين فإن كان القوم إذا انصرف عنهم ذلك الجند من المسلمين لم يقدروا على أن يمتنعوا من أهل الحرب وأبوا أن يتحولوا إلى دار الإسلام فإن الأمير يدعهم وما اختاروا لأنفسهم لأنهم أساءوا في الاختيار فيتركهم وسوء اختيارهم ولا يجبرون على التحويل لأنهم أحرار مسلمون في مدينة الإسلام فلا يجبرون على التحويل ولا يدع عندهم أحداً من المسلمين مخافة عليه@(5/322)
ألا تطيب نفسه لأن فيه تعريضاً على التلف ولا يجوز تعريضه على التلف إلا برضاه فإن أبوا الإسلام فدعاهم المسلمون إلى إعطاء الجزية فأجابوا إلى ذلك وأبوا التحول من دارهم وقالوا : اعطونا العهد على أن نكون في موضعنا لا نبرح فإن كان المسلمون إذا أقاموا معهم يقوون على أهل الحرب وكانوا ممتنعين منهم فلا بأس بأن يجعلهم الأمير ذمة ويجعل عليهم أميراً من المسلمين يحكم بحكم المسلمين ويجعل مع الأمير من المسلمين من يقوى على المقام معهم في دارهم لأن قبول الفرقة واجب قال الله تعالى : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 29 وهذه ذمة
منهم لأن الأمير يجري عليهم حكم المسلمين وبإجراء الحكم عليهم يصيرون ذمة ومدينتهم تصير مدينة الإسلام فيقبل ذلك منهم .
وإن كان هذا الموضع لم يقو من ترك فيها من المسلمين على أهل الحرب ولم يقدروا على أن يحكموا فيها بحكم الإسلام لم يسع للمسلمين أن يجيبوهم إلى هذا ولكنهم يجعلونهم ذمة إذا خرجوا بعيالاتهم إلى أرض الإسلام لأن دار الشرك إنما تصير دار الإسلام بإجراء حكم المسلمين فيها وأهل الشرك إنما يصيرون أهل الذمة بإجراء حكم المسلمين عليهم وقد عجز الأمير عن إجراء حكم المسلمين عليهم فكانوا في هذه الحالة بمنزلة الموادعين للمسلمين وأهل الحرب متى طلبوا موادعتهم من المسلمين لم يجب على المسلمين موادعتهم إلا أن يكون فيها خير للمسلمين ظاهراً فكذلك هاهنا لا يجب قبول هذه الذمة منهم بخلاف ما إذا أسلموا لأن الإسلام يصح من غير قبول من الإمام فإذا أسلموا صاروا مسلمين فلا يتعرض لهم الأمير بعد الإسلام ولكن يخلف فيهم رجلاً يجري فيهم حكم المسلمين إن قدروا وإلا يتركهم على ذلك وقد أسلم أهل نجران وأهل اليمامة وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم كثير من المشركين فتركهم على ذلك فإن@(5/323)
أجابوا إلى التحول إلى دار الإسلام فليس ينبغي للمسلمين أن يأبوا عليهم وإن علموا أنهم يظفرون بهم لأنهم في الحال ممتنعون فلم يصيروا فيئاً للمسلمين فيجب قبول ذلك منهم والكف عنهم فإن كان المسلمون تركوا فيها قوماً من المسلمين قووا على المشركين من أهل الحرب إذا أعانهم أهل الذمة فقال أهل المدينة : نكون ذمة لكم وتخلفون قوماً نقاتل معهم فليس ينبغي للأمير أن يفعل هذا لوجهين أحدهما : أن في هذا تعريضاً للمسلمين على الهلاك إذ أهل الذمة كفار فلا يؤمن أن يغدروا بهم ويقتلوهم ولأن المسلمين إذا لم يقدروا على إجراء حكم المسلمين إلا برضاء أهل الذمة كان أهل الذمة هم الذين يجرون أحكام المسلمين وأحكام المسلمين لا يجربها إلا المسلمون فإن
طلب أهل الردة الموادعة من المسلمين حتى ينظروا في أمرهم فلا بأس للمسلمين أن يوادعوهم لحديث عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال : هلا حبستموه في بيت وطينتم عليه باباً واستتبتموه ثلاثة أيام فإذا ثبت في الواحد ثبت في الجماعة وأهل البغي من المسلمين مثل الخوارج وغيرهم إذا طلبوا إلى المسلمين الموادعة من أهل العدل حتى ينظروا في أمرهم فلا بأس أن يوادعهم أهل العدل لأنهم@(5/324)
مسلمون فهم أولى بالموادعة من المرتدين ولكن لا ينبغي لأهل العدل أن يأخذوا على ذلك خراجاً لأن الخراج يشبه الجزية وهم مسلمون فلا يؤخذ منهم خراج فإن أخذوا منهم الخراج يوقف ذلك حتى إذا تابوا رد عليهم لأن مال أهل البغي لا يغنم فيرد عليهم ألا ترى أن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - رد على أهل البغي ما لهم حتى يلغه الكلب فإن قتلوا رد إلى ورثتهم فإن لم يعرفوا كان بمنزلة اللقطة في يد إمام المسلمين فإن لم يرجع أهل البغي ولم يتوبوا حتى استهلك رجل من المسلمين بعض تلك الأموال التي أخذ منهم المسلمون فهو ضامن لأن أهل البغي موادعون فمالهم في أمان من المسلمين ولو كان الكفار موادعين فأتلف واحد من المسلمين مال واحد منهم ضمن فهاهنا أولى أن يضمن ولو لم يكونوا موادعين فأخذ رجل من أهل العدل شيئاً من أموالهم فإنه إذا وضعت الحرب أوزارها يرد عليهم فإن استهلكه مستهلك وهم على حربهم لم يضمن لأنه لو أتلف نفسه لا يضمن فكذلك إذا أتلف ماله لا يضمن فإن لم يستهلكه حتى وضعت الحرب أوزارها فتفرقوا ثم تابوا ثم استهلكه ضمن للمالك أو للورثة لأنه مال مسلم غير محارب في حالة الاستهلاك فيضمن بالاستهلاك كما في سائر أحوال المسلمين والله أعلم ولو أن أمير الجند من المسلمين افتتحوا حصناً من حصون المشركين من أهل الحرب فكان في ذلك الحصن مطمورة فيها قوم يقاتلون فأسلموا فإن كان المسلمون قاهرين لهم فهم فيء@(5/325)
بين من أصابهم يخمسون وما بقي فهو فيء لمن أصابهم
لأنهم إذا كانوا غير ممتنعين مقهورين فقد صاروا في أيدي المسلمين قبل إسلامهم فإسلامهم لا يبطل حق المسلمين فلا يقتلون لأنهم مسلمون والإسلام يحرزهم عن القتل ولا يحرزهم عن الاسترقاق فإن كانوا ممتنعين في المطمورة ولا يصل إليهم إلا بالقتال وأكبر الرأي من المسلمين أنهم سيظفرون بهم فأسلموا فهم أحرار لا سبيل عليهم لأنهم إذا كانوا ممتنعين فلم يصيروا في أيدي المسلمين فهؤلاء أسلموا قبل ثبوت أيدي المسلمين عليهم فكانوا أحراراً لأن المسلم لا يسترق وصار هذا بمنزلة أهل الحصن حوصروا فأسلموا وهم محصورون فهم أحرار لا سبيل عليهم فكذلك هاهنا وكذلك أهل المطمورة إذا دعوا المسلمين أن يكونوا ذمة لهم يخرجون معهم إلى بلاد المسلمين فإن كانوا غير ممتنعين وسع المسلمين ألا يعطوهم ذمة لأنهم صاروا في أيدي المسلمين وجرى عليهم السبي ومن طلب الذمة بعدما جرى عليه السبي فإنه لا يجاب إلى ذلك ولكن المسلمين إن شاءوا أن يجعلوهم فيئاً وإن شاءوا قتلوا المقاتلة وسبوا الذراري وإن كانوا ممتنعين ويرى المسلمون أنهم سيظفرون بهم لا ينبغي لأمير المسلمين أن يمنعهم عن ذلك بل يجعلهم أحراراً ذمة لأنهم لو سألوا الذمة قبل الاستغنام لم يمنعوا لما أن الذمة خلف عن الإسلام في أحكام الدنيا قال : وإن حاصر أمير العسكر أهل مدينة من مدائن العدو فقال : بعضهم نسلم وقال بعضهم : نصير ذمة ولا نبرح منازلنا فإن كان@(5/326)
المسلمون يقوون على أن يجعلوا معهم من المسلمين من يقوى على قتال من يحضر بهم من أهل الحرب ويحكم فيهم بحكم الإسلام فعل ذلك الأمير لأن إجراء أحكام المسلمين في دارهم ممكن والدار تصير دار المسلمين بإجراء أحكام المسلمين فيجعلها الإمام دار إسلام ويجعل القوم أهل ذمة فإن كان المسلمون لا يقوون على أن يجعلوا في دارهم من المسلمين من يقاتل مع أهل الحرب لم يجيبوا الذميين إلى شيء من ذلك إلا أن يخرجوا عن تلك الدار إلى دار الإسلام لما قلنا أن هذا ليس
بذمة منهم إما هذا طلب الموادعة وليس على المسلمين أن يوادعوهم وأما الذين أسلموا معهم فهم أحرار ولا يمنعون من المقام ببلادهم لأن الحر المسلم لا يجبر على التحول من دار إلى دارغيره فإن قال المسلمون : دعوا معنا قوماً من المسلمين يكونون قوة لنا على أهل الحرب فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان من يترك معهم في دار الحرب يقوون على أهل الحرب له أن يفعل فعل ذلك لأنه يمكنه أن يجعله دار الإسلام من غير ضرر على المسلمين فكان عليه أن يفعل ذلك وإن كان من يترك من المسلمين لا يقوون إلا بمن أسلم من أهل الحرب فإن خاف على المسلمين من الذين أسلموا منهم أن يرتدوا فيقتلوا المسلمين فإنه لا ينبغي له أن يخلف أحد من المسلمين لأن فيه إتلاف عدة من المسلمين وإن علم حقيقة إسلام الذين أسلموا من أهل الحرب وأنهم مناصرون لأهل الإسلام لم أر بأساً أن يجعل معهم من المسلمين نم يقوى بهم ويقوون به ويؤمر عليهم أميراً يحكم بحكم أهل الإسلام في تلك المدينة لما قلنا إن الإمام متى أمكنه أن يجعل المدينة داراً للإسلام من غير ضرر على المسلمين فعل وقد أمكنه ذلك فإذا فعل هذا فلا@(5/327)
بأس بأن يقبل بعد ذلك من أهل الحرب أن يكون ذمة ممن يقوم ببلاده لأن المدينة صارت داراً للإسلام ومن سأل الذمة في دار الإسلام وحكم المسلمين وجبت إجابته إليه وإن رأى الإمام في جميع ما سألوا أن يقبل منهم أن يكونوا ذمة فإن طابت أنفسهم بالخروج معهم إلى دار الإسلام فرأى قتالهم حتى يسلموا أو يظفروا بهم فقاتلهم وظفر بهم فخمسهم وقسم ما بقي منهم عل سهام الغنيمة جاز ذلك لأنه قاتلهم وهم أهل حرب لا أمان لهم ولكن الأمير أخطأ حين لم يقبل الذمة لأن قبول الذمة واجب فقد ترك ما هو واجب فيكون مخطئاً في ذلك وإذا دعوا إلى أن يسلموا فهذا لا يحل لأحد أن يأبى عليهم لأن القتال شرع لأجل الإسلام فلا معنى لرد الإسلام والقتال شرع لأجله فإن أباه عليهم فأسلموا ثم قاتلوا وظفر عليهم خلى
سبيلهم وسلمت لهم أموالهم وبطل ما كان حكم فيهم من سبي أو قسمة لأنهم لما أسلموا صح إسلامهم لأنه لا يحتاج فيه إلى رأي الإمام فقد قاتلوهم وهم مسلمون في دار الإسلام والمسلم لا يسترق ولا يستغنم ماله فيضمنون ما أتلفوا من أموالهم وما أراقوا من دمائهم وإن كانوا دعوا إلى أن يسلموا ويكف عنهم فأبى الأمير أن يجيبهم إلى ذلك فقاتلهم ولم يسلموا فأصابهم فقد أخطأ فيما صنع لما قلنا : أنهم لو طلبوا الذمة وجب الكف عنهم فإذا طلبوا الإسلام أولى أن يكف عنهم ومن قتل منهم فدمه موضوع وما استهلك من أموالهم فلا ضمان فيه لأن المسلمين أصابوا ذلك منهم هم كفار لأنه لم يوجد منهم إلا إرادة الإسلام وبالإرادة لا يصير مسلماً فدم الكافر وضمان ماله موضوع وأما ما بقي منهم ومن أموالهم فإن أسلموا رد ذلك كله إليهم وكانوا أحراراً لا سبيل عليهم لأنهم لما@(5/328)
سألوا أن يسلموا ويكف عنهم فقد حرم على المسلمين مقاتلتهم وأسرهم فلما حرم عليهم أسرهم لم يملكوهم بالأسر فبقوا أحراراً لا سبيل عليهم بخلاف ما إذا طلبوا الذمة من المسلمين وقاتلهم الإمام وظهر عليهم وقسمهم فإنهم لا يردون أحراراً توضع عليهم الجزية لأن هناك سألوا البقاء على الكفر والكفر سبب لإباحة القتل والسبي في الأصل فالإمام إنما سباهم ومنعهم الذمة في موضع يسع فيه اجتهاد الرأي فينفذ حكمه وجاز سببه فلا يرد فأما هاهنا سألوا من الإمام الكف عنهم ليسلموا الإسلام عاصم فحرمة السبي هاهنا أقوى وآكد فلا يسع فيه اجتهاد الرأي فإذا أسلموا فقد ظهر خطأ الإمام بيقين فعليه أن يمنع عن خطئه ويردهم أحراراً يدل عليه أن القصد إلى الإسلام معتبر بحقيقة الإسلام والمسلم حقيقة إن حارب المسلم لا يسبى فكذلك إذا قصد الإسلام وأما القصد إلى الذمة معتبر بحقيقة الذمة والذمي حقيقة إذا حاربه المسلم في فئة ممتنعة يسبى ويسترق فكذلك إذا اعتبر القصد بالحقيقة والله الموفق وهو أعلم بالصواب .
باب ما يصدق فيه المسلم على إسلام الكافر
قال محمد - رحمة الله عليه - : إذا سبى المسلمون سبياً من الروم فشهد رجل من المسلمين حراً وعبداً ومحدوداً في قذف أو امرأة من المسلمين حرة أو أمة بعد أن يكون الشاهد رضا من المسلمين أن هذا الأسير من المشركين أسلم قبل أن يموت ووصف الشاهد إسلامه صلى عليه المسلمون واستغفروا له لأن الصلاة على الميت أمر من أمور الدين وقول الواحد العدل في أمور الدين مقبول كما يقبل في الأخبار عن طهارة الماء ونجاسته وكما يقبل في هلال رمضان وكما يقبل في رواية الأخبار عن رسول@(5/329)
الله صلى الله عليه وآله وسلم يدل عليه ما روي عن سعيد بن ذي لقوة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استغفر للنجاشي ثلاث مرات حين أتاه جعفر بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وأخبره بأنه قد صدق به ثم قال في الكتاب : ووصف الشاهد إسلامه قال : هذا على وجهين إن كان الشاهد فقيهاً لا يستفسر بل يجري على إبهامه أنه أسلم قبل أن يموت وأما إذا كان الشاهد جاهلاً فإنه ينبغي أن يستفسر فإن فسر الشاهد ووصف إسلامه على المقدار المفروض جازت شهادته ولو كان حياً فشهد له شاهد أنه أسلم قبل أن يؤسر لم يكن حراً بشهادة الواحد حتى يشهد مسلمان ممن تجوز شهادتهما في الحقوق وذكر في الباب الذي يليه أن الإمام إذا فتح حصناً فشهد رجل مسلم عدل لواحد أنه كان حربياً فأسلم قبل أن يؤسر قال : إن شهد قبل أن يقسم أو يباع تقبل شهادته وإن شهد بعد ما قسم أو بيع لا تقبل شهادته فقد قسم الجواب ثمة وأطلق الجواب هاهنا فمنهم من قال : ما ذكر هاهنا محمول على أنه شهد بعد القسمة والبيع فلا تقبل شهادته أما إذا أشهد قبل القسمة أو قبل البيع تقبل شهادته فإذا حمل على هذا صارت المسألتان على رواية واحدة والثانية تكون تفسيراً للأولى وكان أبو بكر الأعمش يقول في المسألة اختلاف روايتين في هذا الباب إذا شهد واحد على أنه أسلم قبل القسمة لا تقبل شهادته وفي
الباب الثاني : إذا شهد واحد تقبل فالوجه لما ذكر هاهنا وهو أنه بالأسر ثبت فيه حق الغانمين وفي قبول شهادته إبطال حق الغانمين فلا يبطل إلا بالشهادة التي تبطل بها الحقوق في الأحكام كما أنه لا تقبل شهادته بعد البيع والقسمة ولم يبطل به ملك المشتري ولا الذي وقع سهمه وهذا كما يقال في@(5/330)
الشهادة القائمة على استهلال الصبي أنها مقبولة في حق الصلاة على الصبي في قولهم جميعاً غير مقبولة في حق التوريث عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وكذلك هاهنا يقبل قول الواحد في حق الصلاة على الميت ولا يقبل في إبطال الأسر والوجه للرواية الأخرى أنه وإن ثبت فيه حق المسلمين بالأسر فإنه ليس يحق لرجل خاص بل الحق فيه لجماعة المسلمين فهو بشهادته ليس يبطل حقاً خاصاً لرجل معين فجعل بمنزلة الشهادة في أمر من أمور الدين فيقبل إذ حرمة الاسترقاق من أمور الدين بخلاف ما بعد القسمة لأنه يبطل ملكاً خالصاً لرجل معين فلا يقبل في ذلك إلا ما يقبل في الأحكام من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن قول هذا الرجل لا يكون أقل حالاً من السيماء ولو كان عليه سيماء المسلمين فإنه لا يجعل فيئاً فبقول المسلم العدل أولى فأما الفاسق من المسلمين فلا تقبل شهادته في مثل هذا ولا يصلى عليه ولا يستغفر له بشهادته لأن الفاسق يتبين في نبئه وإن كان في أمر من أمور الدين وهذا فصل ينبغي أن يحفظ فإنه ذكر الطحاوي في مختصره أن الواحد إذا شهد برؤية هلال رمضان تقبل شهادته وعليه أن يصوم وإن كان فاسقاً لأن له حظاً من هذه الشهادة فلا يكون متهماً فيقبل وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - لو أن رجلاً أسلم في أرض الحرب ولا يعلم أن عليه الصوم والصلاة فأخبره مسلم أن عليك الصوم والصلاة كان عليه أن يصوم وإن كان المخبر فاسقاً والله تعالى الموفق .
قال محمد بن الحسن - رحمه الله تعالى - : وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو كان فيهم أسيراً أو أسلم في دار الحرب وقد كان من أهل الحرب فوجده المسلمون في دار الحرب ومعه رجال ونساء فقال : هؤلاء عبيدي وإمائي اشتريتهم من أهل الحرب ولا يعلم ذلك إلا بقوله فإن صدقه الرجال والنساء بما قال فهم رقيقه كما قال وذلك لأن@(5/331)
الأمان بالإيمان أعلى حالاً من الأمان بالاستئمان ولو أن واحداً من أهل الحصن أمنه الإمام على نفسه وماله ثم فتح المسلمون الحصن فقال الذي أومن : هؤلاء عبيدي وإمائي وصدقوه بذلك كان آمناً بجميع ما قال فها هنا أولى والمعنى فيه أنهم لما صدقوه فقد ظهر له اليد فيهم لأن أقصى ما يظهر من ثبوت اليد على العبد والأمة أن يكون بحضرته يخدمانه وثران له باليد وقد وجد هذه الصفة هاهنا فصاروا في يده واليد تدل على الملك فكانوا ملكاً له وملك المسلم لا يسبى ولا يستغنم وإن كذبوه بما قال فهم فيء أجمعون لأنهم لما جحدوا دعواه لم يصيروا في يده فقد ادّعى شيئاً لا دليل له عليه من يد أو غيرها فلم يصدق وإذا لم يصدق فهؤلاء أحرار حربيون ولا أمان لهم فيسبون ولا شيء لهذا المستأمن أو المسلم معهم ولكنهم يخمسون وما بقى فهو للمسلمين الذين أصابوا ذلك على سهام الغنيمة لأن هذا المستأمن أو المسلم لم يدخل مع المسلمين دار الحرب للغزو وإنما هو لاحق بهم وقد ذكرنا أن الأسير أو المستأمن إذا لحق بالجند فإنه لا حق له فيما كانوا أصابوا من الغنائم من قبل إلا أن يلقوا قتالاً فحينئذ يصير شريكهم فيما أصابوا فكذلك هاهنا وإن صدقه بعضهم وكذبه بعضهم فالذين صدقوه عبيد له وأما الذين كذبوه فهم فيء لأن البعض معتبر بالكل والكل لو صدقوه كانوا عبيداً له ولو كذبوه جميعاً كانوا فيئاً كلهم فإذا وجد التصديق من البعض والتكذيب من البعض رد كل واحد من ذلك إلى أصله وكذلك ما وجد في يده من مال دراهم أو دنانير أو ثياب أو بقر فقال : هذا لي اتجرت في هذه
البلاد فأصبته فالقول فيه قوله وهو له لما قلنا : إن اليد دليل على الملك في الحربي أو من على ماله فهذا أولى فلأن يكون للمسلم دليلاً على ملكه أولى ولو وجد المسلمون في@(5/332)
دار الحرب أسيراً مسلماً أو مسلماً مستأمناً أو مسلماً قد أسلم من أهل الحرب وقد وجد معه من الدراهم والدنانير وسبى من الرجال والنساء وذلك ليس في يده أو لا يدري أفي يده ذلك أم لا فادعى أنه له وصدقه بذلك الرجال والنساء فإنه لا يصدق على شيء من هذا وذلك جميعاً فيء للمسلمين الذين أصابوه لأن المسلمين لما وجدوهم فقد صاروا فيئاً لهم في الظاهر فلا يصدق المدعي على ما ادعى بغير دليل فإذا كانوا عنه غائبين ليسوا في يده أو لم يدر أنهم في يده أولاً ولم يوجد دليل يدل على الملك فلم يصدق فإن أقام البينة على أن ذلك له أو أقام البينة على أن ذلك في يده يوم افتتح الحصن أو أقام البينة على أن المنزل الذي وجد ذلك فيه منزلة قبلت شهادة شهودة في ذلك ورد ذلك كله إليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو كان المال في يده معاينة أو الرجال والنساء في يده معاينة وصدقوه بذلك كان القول قوله ولم يصر شيء من ذلك فيئاً فكذلك إذا أثبت ذلك بالبينة ثم هذا الجواب يستقم في المستأمن والأسير على قول الكل فأما في الذي أسلم في دار الحرب فإن شهدوا أن ذلك كان في يده يوم فتح الحصن فكذلك يستقيم الجواب على قول الكل أنه يرد إليه المال فأما إذا شهدوا أنه له فإن الجواب الذي ذكر أنه يرد إليه مستقيم على قول محمد - رحمة الله عليه - فأما على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لا يستقيم هذا الجواب ويكون فيئاً لأن المذهب عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أن كل ما كان ملكاً له وهو في يد غيره من أهل الحرب أو لم يعرف أنه في يد المسلم يكون فيئاً وعند محمد - رحمة الله عليه - لا يكون فيئاً فيكون كمال الحربي المستأمن وهنا هنا لم نعرف أنه في يد هذا المسلم وإن عرف أنه ملكه
بالبينة فيكون فيئاً عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وعند محمد - رحمه الله - لا يكون فيئاً فإن شهدوا أن هؤلاء الرجال والنساء كانوا في يده حين افتتح الحصن أو في منزله ولم يشهدوا أنهم عبيده وإماؤه وهم ينكرون أن@(5/333)
يكونوا عبيداً له وإماءه وقالوا : إنا كنا أحراراً لم ينتفعوا بذلك وكانوا فيئاً للمسلمين لأنهم لم يثبتوا للمدعي إلا مجرد اليد واليد في بني آدم لا تدل على أنه مملوك وهي دالة على الملك لذي اليد بعدما ثبت كونه مملوكاً فإنه ذكر في الجامع الصغير إذا كان في يد رجل صبي صغير يعبر عن نفسه أو رجل بالغ فزعم ذو اليد أنه عبده وقال الصبي : لا بل أنا حر الأصل فالقول قول الصبي أنّه حر ولو أنه أقر أنه عبد ولكنه قال : أنا عبد فلان لرجل آخر غير ذي اليد وفلان يدعي فالقول قول الذي العبد في يده وكذلك ذكر عقيبه كل شيء رأيته في يد غيرك وسعك أن تشهد بالملك له ما خلا العبد والأمة فإذا لم تدل اليد على الملك كان القول قولهم أنا أحرار وصاروا فيئاً للمسلمين قال : ولا يقبل في هذا إلا شهادة العدول من المسلمين لأن هذه الشهادة تبطل حق الاستغنام على المسلمين فلا يقبل على إبطال حق المسلمين إلا شهادة المسلمين وكذلك الذمي يوجد في دار الحرب مستأمناً أو أسيراً فيدعي مثل ما يدعي المسلم فهو بمنزلة المسلم في جميع ما وصفت لك ما صدق فيه المسلم صدق فيه الذمي وما لا فلا لأن مال الذمي معصوم عن الاستغنام كمال المسلم فيستوي الجواب في الذمي والمسلم جميعاً ولو أن المسلم أو الذمي وجد المسلمون معه امرأة في دار الحرب فسألوه عنها فقال : هذه امرأتي تزوجتها في دار الحرب وصدقته المرأة في ذلك فهي امرأته لأنهما تصادقا على النكاح والنكاح يثبت بالتصادق والمرأة فيء صدقته على النكاح أو كذبته لأن تزويجه لو كان ظاهراً عياناً لم يخلصها من السبي فإذا لم يكن ظاهراً أولى قال : ولا تزويجه إياها أماناً لها لأنه تروجها في دار الحرب ولو
أفصح لها بالأمان في دار الحرب لم يجز أماه على المسلمين كذا هاهنا لا تصير بالتزويج آمنة في حق المسلمين أولى فإن كان معها أولاد صغار فقال : هؤلاء أولادي@(5/334)
منها وصدقته المرأة بذلك فالأولاد أحرار لا سبيل عليهم فإن كان الأب مسلماً فهم مسلمون بإسلامه وإن كان الأب ذميّاً فهم ذميون بذمته لأن الأولاد في يدها فلما صدقته على دعواه فقد صارت هي والأولاد الذين في يدها في يد الزوج وإذا أثبت اليد للزوج كان القول قوله فيما في يده فيكون حراً لأنه ولد بين أبوين حرين لأن الأب حر مسلم أو ذمي والمرأة وإن كانت حربية فهي حرة إلى أن ظهر المسلمون عليها وإذا ولدت حرة كان هذا الولد حراً مسلماً أو ذميّاً تبعاً لأبيه والحر المسلم أو الذمي لا يسترق وإن كانت حبلى فهي وما في بطنها فيء للمسلمين الذين أصابوها لأن الولد ما دام في بطنها فهو جزء من أجزائها وبعض من أبعاضها يفصل عنها المقراض ثم هي إذا صارت فيئاً فالولد الذي هو بعضها يصير فيئاً تبعاً لها فإذا ولد فإن كان أبوه مسلماً كان مسلماً لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً لأن الإسلام لا ينافي الرق والسبي فيكون عبداً لمن أصابه وإن كان ذمياً فهو ذمي أيضاً وإن كانت المرأة معروفة أنها في يد المسلم أو الذمي أو وجدها المسلمون أمة ومعها أولادها صغار فقال المسلم والذمي : هو امرأتي وهؤلاء ولدي وكذبتهما بما قالا وقالت : هؤلاء ولدي ولست لهذا المدعي بزوجة ولا هؤلاء أولاد له فإن النكاح لا يثبت لتكذيبها ثم القياس أن الأولاد فيء معها للمسلمين وفي الاستحسان الأولاد أولاد المسلم والذمي أحرار لا سبيل عليهم والمرأة فيء فوجه القياس في ذلك أن الأولاد في حجرها وفي يدها وإذا لم يثبت النكاح بينهما لم يثبت للمسلم عليها يد فلا يثبت له يد على الأولاد الذين في يدها فقد ادعى الأولاد وليس له عليهم يد فلا يصدق ووجه الاستحسان في ذلك وهو أنه عرف كون المرأة في يده وكونها في يده يوجب كون الأولاد
في يده وإذا صاروا في يده كان القول قوله في حرية الأولاد والنسب فكان تكذيبها بمنزلة تصديقها إذ أمر الحرية@(5/335)
أوسع وأسهل ألا ترى أن العبد المأذون له في التجارة إذا كان في يده صبي صغير فقال : هذا لقيط التقطته قبل قبوله وكان حراً وإن كان العبد لا يملك تحريره وإعتاقه وما ذلك إلا لسعة أمر الحرية ولو ادّعى أنها أم ولده وأن هؤلاء ولده منها وهي معروفة أنها في يد المسلم وأنكرت ذلك فإنها فيء للمسلمين لما قلنا : إن اليد فيها غير دالة على الرق فكان القول قولها ألا ترى أنه لو ادّعى أنها أمته وأنكرت هي كان القول قولها أنها حرة فكانت فيئاً وكذلك إذا أنكرت أمومية الولد فالأولاد أولاده أحرار لا سبيل عليهم في الاستحسان لما قلنا : إنه عرف له يد فيها فكن يثبت بذلك يده على الأولاد الذين في يدها فكان القول قوله فيها وإن صدقته أنها أم ولد له فإن القول قول المسلم ولا تكون فيئاً والأولاد أحرار لأنه لو ادّعى بعد ظهور يده فيها أنها أمته وصدقته في ذلك كان القول قوله ولم تكن فيئاً فلأن يصدق على أنها أم ولده أولى فإن لم تكن في يد المسلم أو الذمي أو لا يدري أكانت في يده أو لم تكن فقال : هذه زوجتي أو أم ولدي وهذه الولد الذين في يدها ولدي فإن أقرت بذلك كانوا ولده وثبت نسب الولد وكانوا أحراراً لا سبيل عليهم لأن الأولاد يحتاجون إلى ثبوت نسب ويثبت النسب بتصديق ذي اليد وإذا ثبت النسب فهم ذميون أو مسلمون فلا يسترقون وأما المرأة فإن ادّعى النكاح كانت فيئاً لأن النكاح الظاهر لا يمنع السبي والاسترقاق فهاهنا أولى ألا يمنع وإن أقرت أنها أم ولد له كانت أم ولد له لا سبيل عليها في الاستحسان لأن أمومية الولد تثبت تبعاً للنسب والنسب قد ثبت فثبتت أمومية الولد تبعاً له وأم الولدلا تسبى وإن كذبته بما قال كانت المرأة وولدها فيئاً للمسلمين ولا يصدق على ما ادّعى من ذلك لأنه ادّعى وليس له فيها وفي أولادها يد ظاهرة وذو اليد كذبه في
ذلك فلا تقبل دعواه بغير دليل كما لا تقبل متى وقعت الدعوى بهذه الصفة في دار الإسلام إلا أن@(5/336)
يقيم البينة على ما ادّعى من ذلك فالأولاد أحرار وكانت الجارية أم ولد له وتكون الزوجة فيئاً لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فإن أقام البينة أن ذلك كان في يده أو في منزله يوم ظهر عليه كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا عرف أنها في يده بغير بينة سواء فإن صدقته صارت أم ولد له والأولاد ثابتو النسب منه أحرار لا سبيل عليهم وأما الزوجة تكون فيئاً وإن كذبته فالأولاد أحرار وهي فيء لا تصير أم ولد لأن الرق لا يثبت بمجرد اليد مع الإنكار والله أعلم .
وقال : وإذا وجد في يد المسلم الذي وصفت لك رجل أو امرأة فقال : هذا عبدي أو أمتي جئت بها من دار الإسلام وصدقته بذلك العبد أو الأمة فهو مصدق على ما قال من ذلك لأنه لو قال : اشتريتهم من دار الحرب وصدقوه في ذلك صدق فلأن يصدق هاهنا أولى وكذلك الذمي يصدق في ذلك لأنه يساوي المسلم في عصمة ماله فكذلك يساويه في حكمه فإن كان في يد أحدهما امرأة كبيرة فقال : هذه امرأتي جئت بها معي من دار الإسلام وصدقته المرأة بذلك فهو مصدق في ذلك لا سبيل عليها لأن إقرار الرجل جائز بأربع : بالمرأة والأب والابن ومولى العتاقة فعمل إقراره بأنها امرأتي ويثبت النكاح بينهما بتصادقهما وإذا ثبت النكاح بقيت على الحرية ضمناً تبعاً لها كما لو كانت معروفة بأنها امرأته وكذلك لو كان مع أحدهما امرأة كبيرة فقال : هذه ابنتي أو أختي أو أمي أو عمتي أو ذات رحم محرم مني وصدقته بذلك فهي حرة لا سبيل عليها إما إذا قال : هذه ابنتي فلأن النسب قد يثبت@(5/337)
فصارت كالابنة المعروفة وأما في ذوات الرحم المحرم فالقرابة التي تدعى لا تثبت لو كانت الدعوى في دار الإسلام فكذلك لا تثبت إذا كانت الدعوى في دار الحرب إلا أنه إنما يقبل قوله فيهن لأن الحربي لو استأمن على نفسه وماله فخرج إلى دار الإسلام فقال : هذه أخواتي وعماتي وخالاتي قبل قوله فيهن وصرن آمنات تبعاً له لما أن الظاهر أنهن لا يخرجن إلى دار الإسلام إلا بمحرم وكذلك يقبل قول الذمي والمسلم فيهن في دار الحرب ويجعلن تبعاً له في الخروج إلى دار الإسلام لأن الظاهر أنهن لا يخرجن بأنفسهن فإذا كان مع أحدهما رجل كبير فقال : هذا ابني أو شيخ فقال : هذا أبي فصدقه الرجل بذلك فهو حر لا سبيل عليه لأن الأبوة والبنوة تثبت بتصادقهما لما قلنا : إن إقرار الرجل بالابن والأب جائز في دار الإسلام فكذلك جائز في دار الحرب وإذا ثبت النسب ثبتت الحرية تبعاً له فلا يسترق لما مر فإن قال : هذا أخي أو عمي أو خالي أو رجل من
المسلمين دخل معي أو كانت معه امرأة فقال : هذه امرأة من المسلمين أو من أهل الذمة دخلت معي فإن كان مسلماً صدق على ذلك كله إذا صدقه بذلك الذي معه وإن كان الرجل الذي يقول هذا للمسلمين ذميّاً لم يصدق لأن الذمي المستأمن لو خرج برجال إلى دار الحرب فقال : هؤلاء إخواني وأعمامي لم يقبل قوله ولم يكونوا تعباً له في الأمان فكذلك قول الذمي لا يقبل فيهم في دار الحرب ولا يكونون تبعاً له ولا يقبل قوله أيضاً من حيث الشهادة لأنها شهادة في أمر من أمور الدين ولا شهادة لأهل الذمة في أمور ديننا ألا ترى أنه لو أخبر@(5/338)
بنجاسة الماء لم يقبل خبره فكذلك هاهنا فأما قول المسلم : إنه عمي أو رجل من المسلمين دخل معي شهادة منه في أمر من أمور الدين وقول الواحد في أمور الدين مقبول فإن كان الرجل الذي مع الذمي يدعي الإسلام وعليه سيماء المسلمين في لباسه وهيئته صدق أنه مسلم ولم يكن فيئاً لأنه يقبل قول الرجل : إنه مسلم إذا كان عليه علامة الإسلام ووقع في القلب أنه مسلم فإذا كان مع السيماء قولا ذمي أولى أن يصدق وإن كان الذي مع الذمي لم يدع أنه مسلم ولكن ادعى أنه ذمة للمسلمين وصدقه الذمي بما قال لم يصدق الذمي لما قلنا : إن قول الذمي في أمر من أمور الدين لا يقبل وإن كان عدلاً إلا أن يكون لأهل الذمة زي ولباس غير زي أهل الحرب ولباسهم وأنهم يعرفون به أنهم ليسوا على ما عليه أهل الحرب من ذلك وكان أكبر الرأي والظن أنه من أهل الذمة خلي سبيله ولم يجعل فيئاً لما قلنا : إن هذا أمر من أمور الدين وكذلك العبد المسلم إذا كان عدلاً قبلت شهادته فيها لأن هذا من أمور الدين وما هو من أمور الدين فقول العبد فيه مقبول كما يقبل في هلال رمضان وفي رواية الأخبار وكذلك لو أن جلاً مسلماً عدلاً شهد لبعضهم أنه كان حربياً فأسلم وادعى الحربي ذلك ولم يكن عليه سيماء المسلمين صدق المسلم على ذلك وخلي سبيل الأسير إذا لم يجر فيه قسمة ولا بيع فأما إذا جرى
فيه قسمة أو بيع لم يصدق على ذلك لأن قبل القسمة هي شهادة على أمر من أمور الدين فيقبل قوله وبعد القسمة فيه إبطال ملك المسلم فلا يبطل ملكه إلا بشهادة رجلين قال : ولك شيء صدق فيه المسلم المعروف أو الذمي المعروف فالرجل إذا كان عليه سيماء المسلمين ولا@(5/339)
يعرف أنه مسلم يصدق فيه يعني فيما في يده من الأموال والرقيق لأنه إذا حكم بإسلامه بالسيماء صار بمنزلة المسلم المعروف ألا ترى أنه يصلى عليه إذا مات ولا يجري عليه سبي كالمسلم فكذلك هاهنا يجعل كالمسلم المعروف وكل شيء صدق فيه الذمي المعروف فالمسلم المعروف مصدق فيه وإن كان غير عدل لأن الذمي العدل لا يكون أعلى حالاً من المسلم الذي ليس بعدل ألا ترى أن الذمي العدل لو أخبر بنجاسة الماء لا يقبل قوله كما لا يقبل قول الفاسق ثم لما صدق فيه الذمي العدل فلأن يصدق المسلم الذي ليس بعدل أولى وكل شيء مما وصفت لك لا يصدق فيه المسلم إلا أن يكون عدلاً فإن الذمي لا يصدق فيه وإن كان عدلاً حتى لو شهد الفاسق أن هذا الحربي أسلم قبل أن يؤسر لم يصدق فيه والذمي وإن كان عدلاً لا يصدق فيه لأن المسلم الفاسق أعلى حالاً من الذمي العدل فلما لم يقبل قوله في ذلك فلأن لا يقبل قول الذمي أولى وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو كان أسيراً فيهم أو أسلم رجل منهم فظهر المسلمون على بعض تلك الحصون وفي يده رجال ونساء فقال : هؤلاء بني وبناتي وعماتي وخالاتي وقال : إني وجدتهم في دار الحرب ولم يسلموا فهم فيء ولا يكون ضمه إياهم إليه أماناً لهم لأن هؤلاء ليسوا بتبع له في الإسلام فلم يصيروا مسلمين بإسلامه فبقوا كأهل الحرب لا أمان لهم ولو ثبت لهم الأمان ثبت بالضم إلى نفسه ولو صرح لهم بالأمان لا يجوز أمانه على المسلمين فالضم إلى نفسه أولى ألا يوجب لهم أماناً في حق المسلمين فأما ولده الصغير فإن كان مسلماً فهو مسلم مثله لا يجري عليه شسبييء وإن كان ذميّاً فهو ذمي مثله لا يجري عليه سبي لأنه
بالضم إلى نفسه صار تبعّا له وبالتبعية ثبت الإسلام والذمة فلا يسبون فإن قال@(5/340)
المسلم : وجدتهم أسراء في أيدي أهل الحرب وهم مسلمون وليس عليهم سيماء المسلمين فإن كان المسلم عدلاً حراً أو عبداً فهو مصدق وإن كان غير عدل من المسلمين أو كان ذميّاً عدلاً لم يصدقا على شيء من ذلك بخلاف ما إذا قال : وجدتهم أسراء في أيدي المشركين فقد أقر أن أهل الحرب جعلوهم تبعاً لأنفسهم عبيداً وهذا منه شهادة لهم بمنزلة ما لو شهد أنهم كانوا حربيين وأسلموا قبل أن يؤسروا وهي شهادة على أمر من أمور الدين فتقبل إذا كان عدلاً ولا تقبل إذا كان فاسقاً أو ذميّاً وهذا المعنى معدوم فيما إذا قال جئت بهم من دار الإسلام فيصدق ليه عدلاً كان أو فاسقاً ذميّاً كان أو مسلماً للمعنى الذي بينا وأما أولاده الصغار فلا يكونون فيئاً لأن الولد الصغير صار في يده تبعاً فيصير مسلماً بإسلامه أو يكون عليهم سيماء المسلمين فيكونون أحراراً بحكم السيماء لا بقول الفاسق المسلم والذمي ولو أخذهم المسلمون وليس عليهم سيماء يعرفون بها من لباس ولا خضاب ولا قراءة قرآن فشهد لهم بما ادعوا من ذلك أهل الحرب الذين كانوا معهم أو قوم من أهل الذمة أو قوم مستأمنون من أهل الحرب وكتب بذلك أهل الحرب إلى إمام المسلمين لم يقبل شيء من ذلك وكانوا فيئاً لأن هذه شهادة منهم على أمر من أمور الدين وفيه إبطال حق المسلمين وكل ذلك شهادة مردودة فإن جاء من ذلك أمر مشهود معروف يشهد عليه العوام من أهل الحرب فيقع في قلوب المسلمين أنه حق فالقوم أحرار لا سبيل عليهم لأن الإشهاد بخبر العوام يوجب من العلم أكثر مما توجبه السيماء والعلامة لأن العوام منهم لا يتواطئون على الكذب والسيماء قد تختلف ثم بالسيماء يحكم بكونهم مسلمين فبالشهرة الأولى ألا ترى أن مسلماً غريباً لو نزل في قوم مسلمين وأخبرهم أنه فلان ابن فلان الفلاني لم يسع لأحد من القوم أن يشهد له على نسبه بقوله فإن كان معارفه قوم
من أهل الذمة فأخبروا بذلك أهل محلته حتى صار معروفاً مشهوراً ووقع في قلوب أهل المحلة أنه صادق وسع لأهل المحلة أن يشهدوا على نسبه لاشتهار وقع بخبر أهل الذمة@(5/341)
فكذلك الإسلام إذا اشتهر بقولهم حكم بإسلامه ولو أن قوماً من أهل الحرب أسرهم المسلمون وليس عليهم سيماء أهل الإسلام ولا أهل الذمة فادعوا أنهم مسلمون أو أهل ذمة فلم يصدقوا بذلك لم يدعوا ذلك حتى أخرجهم الإمام إلى دار الإسلام فلم يقسمهم ولم يبعهم حتى شهد رجل من المسلمين عدل على بعضهم أنه مسلم أو أنه رجل من أهل الذمة صدق بشهادته وخلي سبيله وشهادته بذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب سواء لأن نفس الإخراج إلى دار الإسلام لا يجعله ملكاً لرجل خاص فلم يتأكد ذلك الحق الثابت العام فالشهادة وقعت على إسلامه والحق فيه للجماعة فتقبل كما تقبل إذا وقعت في دار الحرب فإن باعهم أو قسمهم ثم إن رجلاً من المسلمين شهد لبعضهم أنه مسلم أو ذمي لم تقبل شهادته لأنه صار ملكاً خاصاً لرجل منهم فلا يبطل ملكه إلا بشهادة رجلين وقد ذكرنا في الباب الذي قبله أن في المسألة اختلاف الروايتين وإذا شهدوا بعد البيع أو بعد القسمة يبطل البيع والقسمة لأنه ظهر أن البيع والقسمة جرى فيهوهو حر فكان باطلاً فإن تفرق المسلمون عوض ذلك الذي وقع في سهمه قيمته من بيت المال وعوض المشتري مثل الثمن من بيت المال لأنه استحق نصيبه ولا يقبل في هذا شهادة أهل الذمة وإن كان الذي اشتراه ذميّاً لأن هذه الشهادة وقعت على المسلمين .
ألا ترى أنها لو قبلت يرجع المشتري على المسلمين في بيت مالهم بالثمن ولو أن رجلاً أخذه المسلمون وهو من أهل الحرب فادعى أن رجلاً من المسلمين أمنه وهو في الحصن قبل أن يؤخذ فسئل ذلك المسلم عما ادعى من الأمان فأقر@(5/342)
أنه أمنه لم يصدق على ذلك حتى يشهد رجلان مسلمان غير الذي أمنه على الأمان لأن الذي أمنه يشهد على فعل نفسه وهو العقد الذي عقده فقوله مردود ويبقى بعد مجرد دعوى الحربي من غير دليل فلا يصدق وهذا بخلاف ما إذا شهد مسلم أنه أسلم قبل أن يؤسر فإن شهادته تقبل ويخلى سبيله وهاهنا إذا شهد رجل مسلم عدل غير الذي أمنه على الأمان فإنه لا تقبل شهادته حتى يشهد رجلان عدلان ووجه الفرق في ذلك وهو أن الأمان لا يخرجه من أن يكون حربياً فإن الحربي وإن أومن فهو حربي من أهل الحرب إلا أنه اعترض عارض يمنع حكم هذا السبب ويبطله فلا يبطل حكم السبب إلا شهادة رجلين فأما الإسلام يخرجه من أن يكون من أهل الحرب فلما ادعى أنه مسلم فقد أنكر سبب قيام الرق فيه وكونه من أهل دار الحرب فشهادة المسلم أنه من أهل دار الإسلام شهادة علي أمر من أمور الدين فيقبل فيه قول الواحد فإن شهد جماعة كثيرة وهم عبيد أو محدودون في قذف وهم عدول غير فساق أمضيت شهادتهم لأن الجماعة الكثيرة لا يتوهم فيهم تواطؤهم على الكذب لأنهم لو اجتمعوا على ذلك لفشا سرهم فقول الجماعة يوجب العلم في قلوب الناس فيحكم به كما يحكم بالسيماء التي توجب العلم أنه مسلم فإذا قسم أو بيع فإذا وجب فيه ملك لرجل مسلم أو معاهد لم تقبل إلا شهادة رجلين مسلمين عدلين لما مر وإذا وجد المسلمون رجلاً من أهل الحرب في دار الحرب ليس عليه سيماء المسلمين ولا سيما أهل الذمة فقال : أنا رجل ذمي وشهد له رجل مسلم عدل أنه مسلم كان الرجل المأخوذ فيئاً ولم يكن مسلماً ولا ذميّاً لأن ما ادعاه المأخوذ لم يشهد به الشاهد والذي شهد به الشاهد فقد كذبه فيه المأخوذ فلم يثبت لا الإسلام ولا الذمة فبقي
حربياً يسترق ولو شهد@(5/343)
له المسلم العدل أنه ذمي وقال المأخوذ : أنا رجل مسلم ولست كما قال الشاهد فالقياس في هذا أنه فيء للمسلمين ولكن في الاستحسان أجعله مسلماً ولا أسبيه فوجه القياس فيه أنهما اختلفا في السبب فلما ادعاه المأخوذ لم يشهد له الشاهد فلم يثبت وما شهد له به الشاهد لم يدعه المأخوذ فلم يثبت واحد منهما فيكون فيئاً دليله الفصل الأول ووجه الاستحسان في ذلك وهو أن التوفيق ممكن بين الدعوى والشهادة لأن الذمي قد يسلم بعد الذمة فيجعل كأنه كان ذمياً كما شهد به الشاهد ثم أسلم في الحال فلما كان التوفيق ممكناً يوفق فأما في الفصل الأول التوفيق غير ممكن لأن بعد الإسلام لا يكون ذمة فاعتبر التكاذب في السبب ولأن في الإسلام ذمة وزيادة لأن الذمة هي العهد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " من أخفر ذمة مسلم كان عليه كذا وكذا " غير أن الإسلام أعلى الذمتين فإن شاهده قد شهد ببعض ما ادعاه المدعي والشاهد إذا شهد ببعض ما ادعاه المدعي تقبل شهادته بمقدار ما شهد فكذلك هاهنا ثبت بشهادته الذمة فبعد ذلك حكم بإسلامه بعد ثبوت الذمة إذ الذمي قد يسلم بعد الذمة فلهذا قبلت شهادته استحساناً ولو قال : أنا ذمي ولست بمسلم فشهد شاهدان عدلان مسلمان أنه مسلم جعلته مسلماً لأنه يثبت الإسلام بشهادة الشهود فجحوده بعدما ثبت الإسلام بشهادة الشهود ردة منه فيجعل كأنه كان مسلماً ثم ارتد والعياذ بالله فيقاس بسائر المرتدين فإن أسلم فهو حر وإن لم يرجع إلى الإسلام قتل .
قال : ولو أن رجلاً من المسلمين أخذ في دار الحرب ومعه بقر وغنم ورمك يسوقها قوم فقال : هذا كله لي وهؤلاء أجرائي قوم من أهل الذمة دخلوا معي من دار الإسلام وصدقوه بما قال فالقوم قولهم ولا سبيل عليهم لأن هذه السائمة في أيدي القوم والقوم لما صدقوه فقد أقروا أنهم في يد هذا المسلم وأن ما@(5/344)
في أيديهم من السائمة في يده وقد ذكرنا أن المسلم المستأمن إذا ادعى أن ما في يده له صدق في ذلك وإن كذبه الذين ذلك في أيديهم فقالوا : نحن ذمة كما قال وجميع ما في أيدينا لنا فالقول قولهم وهم ذمة وذلك لأن المسلم قد شهد لهم بالذمة فتثبت الذمة بشهادته وإن أثبتت الذمة وقد أنكروا الإجازة لم يصر ما في أيديهم من السائمة في يد المسلم فتكون السائمة لهم ولو قال المسلم المعروف : هؤلاء الذين يسوقون السائمة قوم من أهل الحرب استأجرتهم ليسوقوها وهي كلها لي وصدقه بذلك الذين معهم ولا يعرف أن ذلك في يده إلا بقولهم فجميع البقر والغنم فيء ولا يصدق على شيء من ذلك لأن الأجراء لا يصيرون آمنين بعقد الإجارة لأن الأمان لا يثبت لهم ولو صرح لهم بالأمان في دار الحرب فبعقد الإجارة أولى لا يثبت لهم الأمان فإذا لم يثبت لهم الأمان صاروا فيئاً للمسلمين والسائمة التي في أيديهم تصير فيئاً معهم فإن كان يعلم أن ذلك كان في يديه فدفعه إليهم بشهادة رجلين فهو له لأنه إذا عرف ذلك كانت يدهم يد هذا المسلم فصار كأنه في يد هذا المسلم والمسلم لا يغنم ما في يده أيضاً والذين يسوقون ذلك فيء للمسلمين وإن علم أنهم أجراء له لأن عقد الإجازة يتضمن لهم الأمان والأمان لا يثبت لهم في دار الحرب فإن أخرجهم المسلم إلى دار الإسلام صاروا آمنين لأن صريح الأمان يصح من المسلم في دار الإسلام فكذلك يثبت بعقد الإجارة والله الموفق .@(5/345)
باب الدعاء إلى الإسلام
لم يذكر هذا الباب في عامة النسخ قال محمد - رحمة الله عليه - : ولو أن قوماً من أهل الحرب بلغهم الإسلام ولم يدروا كيف هو فغزاهم المسلمون فدعوا إلى أن يسلموا فأبى الأمير الذي على المسلمين أن يجيبهم إلى ذلك حتى قاتلهم وظهر عليهم فإنه ينبغي أن يعرض عليهم الإسلام فإذا أسلموا خلى سبيلهم وسلم لهم أموالهم وذراريهم وأراضيهم لأن القتال شرع لأجل الإسلام على ما قال صلى لاله عليه وآله وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله " وهؤلاء لما سألوا الإسلام فقد رغبوا فيه فكان يجب على الإمام أن يصف لهم الإسلام قبل المقاتلة حتى يسلموا فإذا قاتلهم ولم يصف لهم الإسلام فقد أخطأ فيه فعليه أن يرجع عن خطئه@(5/346)
فيعرض عليهم الإسلام بعد الظهور عليهم فإن أسلموا صاروا كأنهم أسلموا قبل الظهور عليهم فبقوا أحراراً كما كانوا وإن أبوا أن يسلموا جعلوا ذمة لأنهم وقعوا في أيدي المسلمين آمنين لأن قتالهم حرام على الإمام لما دعوا إلى الإسلام فلا يجعلون فيئاً ولكن يجعلون ذمة فإن أخطأ الإمام فسباهم وخمسهم وقسمهم أولم يفعل فإنه ينبغي له أن يرجع عن خطئه فيعرض عليهم الإسلام لما قلنا : إنه أخطأ حيث سباهم وهم راغبون في الإسلام والخطأ لا يستدام ولكنه يرجع عنه فإن أسلموا خلى سبيلهم وأبطل القسمة فيهم ورد عليهم أموالهم وإن أبو الإسلام جازت قسمتهم ولا يجعلهم ذمة بعد ذلك لأن الأمان لم يثبت لهم صريحاً ليمنعهم الأمان من القسمة إنما يثبت الأمان حكماً بطلبهم الإسلام ولما أبوا الإسلام فقد ظهر أن طلبهم لم يكن طلب رغبة في الإسلام وإنما كان طلبهم دفع القتال عن أنفسهم فنزلوا منزلة قوم لم تبلغهم الدعوة غزاهم المسلمون ولم يطلبوا منا الإسلام فيعرض الإسلام عليهم فإن أسلموا فهم أحرار وإن أبو الإسلام جعلوا ذمة فإن قسمهم الإمام جازت قسمة الإمام لما أن الموضع موضع الاجتهاد فإنهم أهل حرب ليس لهم صريح الأمان فنفذ حكم الإمام للاجتهاد
فكذلك هاهنا فإن جهل الإمام فقتل مقاتلتهم قبل أن يعرض عليهم الإسلام فلا شيء عليه في ذلك لأن قتلهم وهم أهل حرب لا أمان لهم فلا يكون في قتلهم شيء كما لو أسر المسلون قوماً من المشركين فأراد الإمام قتلهم فقالوا : نحن نسلم لم يكن للإمام أن يقتلهم حتى يعرض عليهم الإسلام فإن قتلهم قبل أن يعرض عليهم الإسلام لم يكن عليه شيء في قتلهم إلا أنه قد أساء فيما صنع فكذلك ها هنا ولو قتلهم بعد ما أسلموا فإن كان قتلهم بعد ما أخرجهم إلى دار الإسلام ضمن قيمتهم فيكونون فيئاً لمن أصابهم لأنه يقوم بالإحراز بدار الإسلام إلا أنه يسقط القصاص لأجل الشبهة لأنه قتل عن رأي واجتهاد ولم يقتل جزافاً فإن قتلهم في دار الحرب لم يكن عليه ضمان قتلهم للمسلمين لأن التقوم بالإحراز بدار الإسلام فأجابهم الإمام إلى ذلك فقالوا : أنظرونا يوماً أو يومين أو ثلاثة فذلك إلى الإمام إن شاء أنظرهم وإن شاء لم ينظرهم لأن@(5/347)
المرتد لو استنظر الإمام أنظره الإمام إن شاء فها هنا أولى فإن لم ينظرهم حتى قاتلهم فظهر عليهم وسباهم وخمسهم وقسمهم فذلك له جائز لأن الإمام لما أجابهم إلى أن يصف لهم الإيمان فقد فعل ما عليه فلما استمهلوا بعد إجابة الإمام لهم فالتفريط جاء من قبلهم فلا يمنع الإمام تفريطهم من مقاتلتهم فجاز للإمام قتالهم فإذا ظهر عليهم جاز لهم قسمتهم لأنهم وقعوا في أيدينا وقتالهم للمسلمين حلال فلم يثبت لهم حكم الأمان فحل له القسمة بخلاف الفصل الأول فإنهم طلبوا منا ما به حقن دمائهم وأموالهم في الحال من غير استمهال فإذا لم يجبهم الإمام إلى ذلك فالنقص جاء من قبل الإمام فعلى الإمام أن يرجع عما قضى ويردهم أحراراً إن أسلموا وإلا جعلهم ذمة فإن كان القوم قد عرض ذلك الأمر عليهم وعرفوا إلى ما يدعون فلما أتاهم المسلمون وحاصروهم قالوا لهم : نحن نسلم فاعرضوا علينا الإسلام حتى نجيبكم إليه فإن الإمام ينبغي له أن يفعل ذلك لأنهم ربما يسلمون فيكفيه مؤنة
القتال فإن أبى المسلمون وأميرهم أن يفعلوا ذلك وقاتلوهم وأسروهم قبل أن يسلموا فهذا جائز لهم لأنهم قد عرفوا الإمام من قبل فأمكنهم أن يسلموا في الحال قبل العرض عليهم فإذا لم يسلموا فالتقصير جاء من قبلهم فلم يحرم قتلهم وسبيهم لتقصير من جهتهم بخلاف ما تقدم لأنهم لم يعرفوا الإسلام من قبل ولا يمكنهم أن يسلموا من غير عرض فالتقصير وجد من جهة المسلمين فلهذا حرم قتلهم وسبيهم ولو أن قوماً من المشركين كانوا في قاصية من الأرض لم يبلغهم الإسلام ولم يدعوا إليه أتاهم المسلمون لم يسع المسلمين أن يقاتلوهم حتى يدعوهم إلى الإسلام لما روينا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم @(5/348)
كان إذا بعث سرية قال لهم : إذا حاصرتم حصناً أو مدينة فادعوهم إلى الإسلام ولأنهم لا يدرون لماذا يقاتلون ولو علموا أنهم يقاتلون لأجل الإسلام ريما ينقادون للإسلام ولا يحتاج المسلمون إلى القتال فإن قاتل المسلمون المشركين الذين لم تبلغهم الدعوة قبل أن يدعوهم فظهروا عليهم فقد أخطأ المسلمون في ذلك لما قلنا : إن الواجب عليهم الدعاء إلى الإسلام فينبغي للإمام أن يعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا خلى سبيلهم لأنهم غير راغبين عن الإسلام فصاروا كأنهم وقعوا في أيدي المسلمين بعد ما أسلموا فيجب تخلية سبيلهم ورد أموالهم وأراضيهم فإن أبوا الإسلام جعلهم ذمة يؤدون الخراج ولم يردهم حرباً بعدما ظفر بهم لما قلنا : إن الإمام قاتلهم والقتال حرام عليهم فصاروا في عصمة وأمان فلا يغنمون فإن رأى الإمام قسمتهم أو قتل مقاتلتهم ففعل ذلك ثم رفع ذلك إلى حاكم آخر يرى ما صنع باطل أجاز ما صنع من ذلك لأن الإمام حكم فيهم بالقسمة في موضع الاجتهاد ولأنهم أهل الحرب وكونهم من أهل الحرب سبب يحل لحل قتالهم وسبيهم إلا بعارض وذلك العارض هو الاستخبار والاستفهام وهذا العارض معدوم فقد استحل قتالهم وسبب الاستحلال قائم فكان هذا موضع الاجتهاد فينفذ حكمه فلا ينقض بعد ذل ثم
لا يجب ضمان من قتل منهم عندنا وعند الشافعي - رحمة الله@(5/349)
عليه - يضمن ديات القتلى قبل الدعوة لأنهم متمسكون بدين نبي من الأنبياء - صلوات الله عليهم - فيضمن الدية إلا أنا نقول بأنهم اعتقدوا ديناً باطلاً واعتقاد الدين الباطل كفر فكان كافراً فلا يجب بقتله شيء ثم عند الشافعي - رحمة الله عليه - يجب على القاتل مثل دية المسلم في قول بعضهم وقال بعضهم : مثل دية الكتابي وقال بعضهم : يجب مثل دية المجوس لأنه أقل الديات في دار الحرب فصار الحربي على ثلاثة أصناف : صنف لم تبلغهم الدعوة ولم يسلموا أي لم يعلموا حتى يجيبوا فهؤلاء ينبغي للإمام أن يبلغهم الدعوة فإن قتلهم وسباهم قبل الدعوة ورأى ذلك صواباً فإن ذلك لا يرد وإن أسلموا وقوم لم تبلغهم الدعوة أو بلغتهم الدعوة ولم يعرفوا ما تفسيره فسألوا المسلمين أن يخبروهم بدينهم فيتابعوهم عليه فهؤلاء لا ينبغي للإمام أن يقتلهم ويأسرهم حتى يفهمهم فإن أسرهم ثم عرض عليه الإسلام فأسلموا فإنه يرد تلك القسمة وقوم قد دعوا إلى الإسلام غير مرة وعلموا ما يدعون إليه فسألوا المسلمين حتى يجيبوهم فالأفضل للمسلمين أن يدعوهم فإن لم يفعلوا ذلك حتى قاتلوهم وأسروهم جاز ذلك للمسلمين ولا يردون أحراراً بعد ذلك لأن التفريط من جهتهم وإن أسلموا قال : ولو أن قوماً من أهل الحرب الذين لم تبلغهم الإسلام ولا الدعوة أتوا المسلمين في دارهم يقاتلهم المسلمون بغير دعوة ليدفعوا عن أنفسهم فقتلوا منهم وسبوا وأخذوا أموالهم فهذا جائز يخمس ذلك ويقسم ما بقي بين من أصابه لأن المسلم لو شهر سيفه على مسلم حل للمشهور عليه سيفه قتله للدفع عن نفسه فها هنا أولى والمعنى في ذلك أنهم لو اشتغلوا بالدعوة إلى الإسلام فربما يأتي السبي والقتل على حرم المسلمين وأموالهم وأنفسهم فلا يجب الدعاء بخلاف ما إذا كانوا يغزون في بلادهم فإنه لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوهم حتى يدعوهم لأنهم لا يقاتلون دفعاً وإنما يقاتلون لأجل
الإسلام فلا بد من الدعاء إلى الإسلام ولو أن قوماً من مشركي العرب من عبدة الأوثان لم تبلغهم دعوة الإسلام إلا أنهم قد سمعوا بالإسلام ولم يدروا ما هو فأغار عليهم المسلمون فظفروا عليهم فينبغي للإمام أن يعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا خلى سبيلهم لأنهم وقعوا في أيدينا بغير قتال ولا محاربة ولم يوجد منهم إباء الإسلام أيضاً فإن أبو أن يسلموا حبسوا في السجن إلى أن يسلموا@(5/350)
ولا يقتلون لأنه لا وجه بأن يضرب عليهم الجزية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا يجتمع في جزيرة العرب دينان " ولا وجه إلى أن يقتلوا لأنهم وقعوا في أيدينا لا على وجه المحاربة فكانوا بمنزلة المستأمنين فلم يبق وجه إلا الحبس فإن ماتوا على الكفر لم يجر على ذراريهم سبي وصارت أموالهم مواريث لورثتهم لأنهم في حكم المستأمنين وأموال المستأمنين وذراريهم لا تستغنم فإن رأى الإمام رأى الإمام حين أبوا الإسلام أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية ويقسم الأرضين والأموال ففعل جاز ما صنع من ذلك لأنهم وقعوا في أيدي المسلمين وهم أهل حرب ولا أمان لهم قصداً فكان هذا موضع اجتهاد في قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم فإن فعل ذلك عن رأي واجتهاد جاز وكذلك قوم من المرتدين لحقوا بنساء مرتدات فولد لهم أولاد ثم مات المرتدون وبقي أولادهم على دينهم لا يعرفون الإسلام لم يسع المسلمين أن يقاتلوهم حتى يدعوهم إلى الإسلام لأنه لم يظهر منهم إباء الإسلام فإن قاتلوهم بغير دعوة وظهروا عليهم عرض عليهم الإسلام فإن أسلموا سلمت لهم أموالهم وذراريهم لأنهم غير راغبين عن الإسلام فصاروا كما لو أسلموا قبل السبي والأخذ فإن أبو حبسوا لأنه لا وجه لجعلهم ذمة لأنهم مرتدون والمرتدون لا يضرب عليهم الجزية ولا يقتلون لأنهم لم يصفوا الإسلام بأنفسهم فلا يقتلون على ردتهم وإن رأى الإمام قتلهم وسبي ذراريهم وقسمة مالهم ففعل ذلك جاز لأن الموضع موضع الاجتهاد على ما قلنا أنهم أهل@(5/351)
الحرب ولا أمان لهم
صريحاً وكذلك قوم من مشركي العرب من عبدة الأوثان دعاهم المسلمون إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا إليه فقاتلوهم وحصروهم فقالوا للمسلمين : ننزل على حكم الله - تعالى - فقالوا لهم : انزلوا فنزلوا فإن المسلمين يعرضون عليهم الإسلام فإن أسلموا فلا سبيل عليهم لما قلنا وإن أبو أن يسلموا أجبروا على الإسلام وحبسوا حتى يسلموا لأنه لا وجه للقتل لأنهم خرجوا على أمان ولا وجه لضرب الجزية عليهم لأنهم من مشركي العرب ولا وجه لردهم إلى حصنهم لأنه ليس من حكم الله - تعالى - أن يتركوا ليعودوا إلى دار الحرب فيكونوا حرباً لنا فلم يبق وجه إلا الحبس فمن مات منهم ورث ماله ورثته لأنهم في حكم المستأمنين وإن رأى إمام من أئمة المسلمين أن يقبل من مشركي العرب الجزية جاز ذلك وإن كان هذا خطأ لأن للاجتهاد فيه مدخلاً قال الله - تعالى - : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه } إلى أن قال : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 29 وليس فيه تخصيص ولأن مشركي العرب والعجم أهل دين واحد وإن اختلفت آراؤهم ونحلهم وكذلك أولاد المرتدين إن رأى الإمام أن يجعلهم ذمة جاز ذلك لأن الموضع موضع الاجتهاد وكذلك لو أن الإمام رأى سبي مشركي العرب فخمسهم وقسمهم جاز ذلك وليس لوال آخر أن يبطل ما وضع لأن هذا موضع اجتهاد فإنهم أهل حرب ولأن المذهب عن الشافعي - رحمة الله عليه - أن يجوز استرقاق مشركي العرب وكذلك إن نزلوا على حكم الله فرأى الإمام أن يخمسهم ويقسمهم ففعل جاز ذلك وليس لوال آخر أن يبطله لما قلنا أن هذا مما يسع فيه اجتهاد الرأي والله تعالى أعلم .@(5/352)
باب : ما ينبغي للمسلمين نصرته وبمن يبدءون
وقال محمد - رحمة الله عليه - إذا دخل العسكر من المسلمين أرض الحرب فأخبروا أن المشركين قد أتوا بعض أرض المسلمين أو بعض ثغورهم فإن خاف أهل العسكر على أهل الثغر ألا يطيقوا العدو الذي أتاهم فالواجب عليهم أن ينفروا إليهم ويدعوا غزوهم لأنهم إذا خافوا على أهل الثغر فإنه يفرض على كل مسلم أن ينفر إليهم وينصرهم ودخولهم دار الحرب للعدو نافلة لهم أو من فروض الكفاية وفرض العين لا يترك بالنافلة أو بما هو من فروض الكفاية ولأنهم لو نفروا إلى أهل الثغر يحصل فيه شيئان اثنان قتال المشركين ونجاة المسلمين ولو مضوا على غزوهم لا يحصل فيه إلا قتال المشركين فكان الاشتغال يما يحصل فيه نجاة المسلمين مع قتال المشركين أولى وإن كانوا لا يخافون على أهل الثغر أو كان أكبر الرأي منهم أن القوم ينتصفون منهم فلا بأس بأن يمضوا على غزوهم ويدعوهم لأن ما من عسكر يخرجون إلى أرض الحرب إلا ويتوهم أن العدو يميلون إلى بعض ثغور المسلمين ومع هذا لا يمنعون عن الخروج فكذلك لا يميلون عن المضي فيه إذ لو لم يمضوا لهذا المعنى يؤدي إلى ترك الجهاد أصلاً ولأنهم لو مضوا في وجههم تحصل النكاية على العدو من وجهين فإن أهل الثغور ربما يظفرون بمن أتاهم والعسكر كذلك بالذين قصدوهم وكلما كانت النكاية بالعدو أكثر كان ذلك أحسن وإن كانوا يخافون على أهل الثغر إن لم يمنعهم المسلمون وكان قربهم من المسلمين إن أعانوهم ينتصفون من العدو أو كان أكبر الرأي أن أولئك المسلمين يقصدونهم كانوا في سعة من المضي إلى غزوهم لما قلنا :@(5/353)
إن فيه النكاية بهم من وجهين وإن كان أكبر الرأي منهم أن أولئك المسلمين لا ينصرونهم فالواجب عليهم أن يرجعوا عن غزوهم لما قلنا وإنما يعمل بأكبر الرأي هاهنا لأن القلب حكم فيما ليس فيه دليل ظاهر يوجب العمل بالظاهر والدليل الظاهر معدوم هاهنا فكان القلب حكما فيه ولو أن عسكرين من المسلمين دخلوا أرض الحرب متفرقين كل عسكر من ناحية فبلغ أحد
العسكرين أن العدو تفرقوا فرقتين فأتى فريق منهم ثغراً من ثغور الذين خرجوا منه أو غيره وأتى فريق منهم العسكر الآخر للذين دخلوا معهم وخافوا علي الفريقين جميعاً إن لم يعينوهم فإنه ينظر إن كان هذا العسكر بحال لو تفرقوا فرقتين فتذهب فرقة إلى العسكر الآخر وفرقة إلى الثغر فظنوا أنهم ينتصفون من عدوهم تفرقوا فرقتين فيأتي كل فريق منهم إحدى الطائفتين حتى يعينوهم على عدوهم لأن فيه النكاية لكل عدو ولا نجاة لكل فريق من المؤمنين فكان عليهم أن يفعلوا ذلك وإن كانوا لو تفرقوا فريقين لم يغنوا شيئاً فيما يظنون فإنهم لا يتفرقون ولكن يأتون أهل العسكر الذين في دار الحرب فيعينوهم ويدعون أهل الثغر لأن الخوف عليهم أشد وهم من المدد أبعد فإن أهل الثغر ربما يعينهم المسلمون أو ينحازون إلى المسلمين والعسكر الذين أتاهم العدو في دار الحرب لا يعينهم المسلمون ولا يجدون ملجأ ينحازون إليه فكان العسكر الآخر أولى بالإعانة لهم من أهل الثغر وإن كان أكبر الرأي من أهل العسكر الذين في دار الحرب أنهم لا ينتصفون من عدوهم أتوا أهل الثغر وتركوهم لأن أهل العسكر لا يحتاجون إلى إعانتهم وأهل@(5/354)
الثغر يحتاجون إلى الإعانة والنصرة فالميل إليهم أولى وإن كان أكبر الرأي من أهل هذا العسكر أن الفريقين جميعاً لا ينتصفون من عدوهم إلا أن أهل العسكر الآخر إلى أرض المسلمين أقرب والمسلمون الذين يعينونهم أقرب إليهم وأهل الثغر أبعد من أرض المسلمين وجب على أهل هذا العسكر أن يعينوا أهل الثغر لأن الخوف على أهل الثغر أشد والمدد منهم أبعد فإعانتهم أوجب عليهم وإن كان الأمر أن قد استويا في الفريقين يعني الخوف عليهما والرجاء لهما على السواء فالواجب على أهل هذا العسكر أن يعينوا أقرب الفريقين منهم على عدوهم لأن عدوهم أقرب العدوين من هذا العسكر والله - تعالى - أمر بقتال الأقرب من العدو وقال الله - تعالى - : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ
الْكُفَّارِ } ولأنهم لو أتوا أقرب الفريقين ربما يهزمون ذلك العدو ثم يذهبون إلى الفريق الآخر فينصرونهم فيكون فيه النكاية بالعدوين جميعاً وإن كان الأبعدون الخوف عليهم أشد كانوا أولى بالنصرة من الأقربين وإن كانوا في القرب منهم على السواء والخوف عليهم سواء أتوا أهل الثغر لأن الضرر على المسلمين في هلاك أهل الثغر أكثر فكان الذب عن حرم المسلمين وما فيه إعزاز لجميع المسلمين أولى ولو أن عساكر ثلاثة من المسلمين دخلوا أرض العدو ودخل كل فريق منهم ناحية من النواحي فأتى العدو عسكرين من تلك العساكر وتركوا العسكر الثالث فأخبر العسكر الثالث بكثرة العدو فإن كان الرأي من أهل العسكر الثالث أن أهل العسكرين ينتصفون من العدو مضوا على غزوهم لأن العسكرين الآخرين لا@(5/355)
يحتاجان إلى إعانتهما وإن كان أكبر الرأي منهم أن أحد الفريقين ينتصف والآخر لا ينتصف أتوا الفريق الآخر الذي لا ينتصف لما قلنا : إن فيه نكاية للعدو ونجاة المسلمين وإن كان أكبر الرأي منهم أن الفريقين لا ينتصفون ممن أتاهم وإن تفرقوا لم يغنوا شيئاً فإن كان أحد العسكرين أقرب إلى دار الإسلام أتوا العسكر الآخر وتركوهم لما قلنا : إن الخوف عليهم أكبر وإذا كان حال العسكرين حالاً واحدة أتوا أقرب العسكرين منهم وإن كان العسكر الآخر يهلك لأن عدو ذلك العسكر أقرب منهم فإن كان الذين يلونهم قليلاً والآخرون كثيراً بدئ بالأقرب فالأقرب ولم ينظر القليل والكثير لأن حق الأقرب أوجب إلا أن كان هذا يضر بالمسلمين إضراراً شديداً ويخافون أن يهلك المسلمون به ويذلون فإذا كان الأمر هكذا أتوا الكثير لأن المصلحة للمسلمين في هذا أكثر وأعم وإن كان الذين يلونهم أكثر والأبعدون أقل لا يكون الأبعد أولى بالنصرة ولكن الأقربين أولى لأن رب قليل ينتصفون من كثير ورب كثير لا ينتصفون من قليل فحق النصرة لا يتعلق بالقلة والكثرة إنما يتعلق بالقرب والبعد والله تعالى الموفق
باب متى يصير الحربي ذميّاً
قال محمد - رحمة الله عليه - إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان فاشترى أرض خرج فوضع عليه الخراج فيها كان ذميّاً اعلم بأن الحربي المستأمن إذا اشترى@(5/356)
في دار الإسلام أرض عشر أو خراج فإنه لا يصير ذميّاً حتى يزرعها فيؤخذ منه عشر أو خراج وقال بعض الناس بنفس الشراء يصير ذميّاً وذهبوا في ذلك إلى أن شراء الأرض للقرار فصار بالشراء راضياً بالمقام في دارنا فصار ذميّاً إلا أنا نقول : لا يصير ذميّاً لأن الشراء قد يكون للتجارة وقد يكون للزراعة فلا يصير راضياً بالمقام في دارنا ما لم يزرع فيؤخذ منه الخراج ألا ترى أنه لو تزوج ذمية في دارنا لا يصير ذمياً والتزوج للقرار فلأن يكون ذميّاً بشراء الأرض كان أولى فإذا أخذ منه خراج أرض صار ذميّاً يوضع عليه خراج رأسه ولم يترك أن يخرج إلى داره لأن خراج الأرض لا يجب إلا على من هو أهل دار الإسلام لأنه حكم من أحكام المسلمين وحكم المسلمين لا يجري إلى على من هو من أهل دار الإسلام وإذا صار من أهل دار الإسلام كان ذميّاً ولأن الخراج في الأعم الأغلب إنما يوضع على أهل الذمة وإن كان قد استأنف على المسلمين في بعض الأحوال ألا ترى أن المسلم متى اتخذ داره مزرعة وجب عليه فيها العشر والذمي لو اتخذ داره بستاناً يجب عليه الخراج فلما وضع على هذا المستأمن خراج أرضه فقد وضع عليه ما يوضع على أهل الذمة في الأعم الأغلب فصار بذلك ذميّاً ثم قوله في الكتاب إذا وضع عليه الخراج كان ذميّاً قال بعضهم : إذا نبه على ذلك وبني له أنا نأخذ منك خرج أرضك إن لم تبعها ولم ترجع إلى بلادك لأنه لا يجعل ذميّاً إلا برضاء منه فإذا لم يزل الأرض عن ملكه بعدما بين له صار ذلك دليل الرضاء منه بكونه ذميّاً ومنهم من قال : معنى إذا وضع عليه الخراج كان ذميّاً إذا وجب عليه الخراج حينئذ يصير ذميّاً لأن كونه ذميّاً إنما يتفرع عن خراج أرضه فما لم يجب الحق في أرض لم يتفرع عن صيرورته ذمياً
ولو أن حربيّاً دخل@(5/357)
دار الإسلام بأمان فاشترى أرضاً من أرض الخراج فباعها قبل أن يجب خراجها لم يكن بشراء الأرض ذميّاً لأنه إنما يصير ذميّاً من أهل دارنا بوجوب الخراج عليه والخراج لم يجب بعد فلا يصير بنفس الشراء ذمياً ولو أن حربيّاً دخل دار الإسلام بأمان فاستأجر أرضاً من أرض الخراج فزرعها فخراج الأرض على صاحبها وليس على الزارع من الخراج شيء لأن الخراج يجب بإزاء المنفعة والمنفعة في الحقيقة حصلت لرب الأرض لأن البدل حصل له فكان الخراج عليه فإن زرعها الحربي وأدى أجرها إلى الذي استأجرها منه وأخذ الخراج من صاحبها لم يكن الحربي ذميّاً بالزراعة لأنه لم يؤخذ منه الخراج ولكن الإمام لا يدعه في دار الإسلام حتى يزرع لأن الاشتغال بالزراعة مكث ومقام في دارنا والحربي يمتنع أن يطيل السفر في دار الإسلام ولكنه إذا قضى حاجته في دار الإسلام تأمره بالرجعة إلى بلاده فإن أطال المكث بها والإمام لا يعلم ثم علم فإنه ينبغي للإمام أن يتقدم إليه ويخبره أنه إن أقام سنة من يوم يقدم إليه أخذ من الخراج فإن رجع قبل تمام السنة فلا شيء عليه وإن أقام حتى تمت السنة أخذ الإمام منه خراج رأسه وجعله ذميّاً ولا يدعه حتى يرجع إلى بلاده وقد تم الكلام فيه من قبل ولو أن حربيّاً مستأمناً في دار الإسلام استأجر من رجل أرضاً خراجها مقاسمة نصف ما يخرج فزرعها الحربي ببذره فإن على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - خراج الأرض يجب على رب الأرض وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهما - يجب على المزارع في الخارج لأن خراج المقاسمة بمنزلة العشر@(5/358)
ومن استأجر أرضاً من أرض عشر وزرعها فإن العشر على رب الأرض في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهما - يجب على الزراع في الخارج فإن أخذ الإمام خراجها مما أخرجت وحكم بذلك عليه فكان ذلك من رأيه فإنه يصير ذميّاً بالاتفاق أما على قول أبي يوسف ومحمد - رحمة
الله عليهما - فلا إشكال فإن الخراج عندهما يجب على المستأجر والحربي هو المستأجر فقد جرى عليه حكم من أحكام المسلمين حين أخذ الإمام منه الخراج فصار من أهل دارنا فيصير ذميّاً وأما عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فلأن الخارج وإن كان يجب على رب الأرض ولكن لما حكم به الإمام على المستأجر وأخذ من الخارج فقد قضى في موضع مجتهد فيه فينفذ قضاؤه وصار الحق عليه فصار ذميّاً بالاتفاق ولو اشترى الحربي المستأمن أرضاً من أرض الخراج وخراجها مقاسمة النصف مما يخرج أو الثلث فآجرها من رجل من المسلمين أو من أهل الذمة ليزرعها ببذرة فأخرجت طعاماً فأخذ الإمام من المستأجر نصف ما أخرجت ورأى الإمام أن ذلك على المزراع فيما أخرجت الأرض فإن الحربي لا يصير ذميّاً لأن الخراج لم يجب عليه في أرضه إنما أخذه من غيره وإنما ينظر في هذا إلى من يجب عليه الحق لا إلى ملك الأرض لأن الذي وجب عليه الحق وأخذ منه هو الذي جرى عليه الحكم فيصير بالحكم ذمياً سواء كان هو المالك للأرض أو غيره ولو كان الذي استأجرها منه حربيّاً مستأمناً صار المستأجر ذميّاً لأنه جرى عليه الحكم في زرعه ولو لم يؤاجرها الحربي ولكنه أعارها عارية فإن كان الخراج خراج مقاسمة كان الخراج في الزرع في@(5/359)
قولهم جميعاً ولو غصبها إياه غاصب فزرعها وخراجها المقاسمة فأخرجت زرعاً كثيراً فإن كانت الأرض لم تنقص شيئاً فالخراج يؤخذ من الخارج في قولهم جميعاً لأن خراج المقاسمة بمنزلة العشر والعشر على الغاصب لأن المنعة حصلت له فكذلك الخراج ولا يصير صاحبها المستأمن ذميّاً لأن الحق لم يجب عليه في أرضه إنما وجب عليه غيره وإن كانت الزراعة نقصت الأرض فإن على قول محمد - رحمة الله عليه - الخراج يؤخذ من الخارج والنقصان لرب الأرض والأجرة فكذلك إذا كان غصبها كان الخراج في الخارج والنقصان لرب الأرض وعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى - نقصان الأرض بمنزلة الأجرة فكذلك إذا كان غصبها كان
الخراج في الخارج والنقصان لرب الأرض وعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى - نقصان الأرض بمنزلة الأجرة للأرض على ما يذكر فيما إذا كان الخراج خراج وظيفة فيكون الخراج على رب الأرض فيصير صاحبها المستأمن ذميّاً عند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وعند محمد - رحمة الله عليه - لا يصير ذميّاً وإن كان خراجها دراهم فاغتصبها مغتصب فزرعها فلم ينقصها الزرع شيئاً فخراجها على الغاصب لأن الحربي لم يستفد منفعة من الزراعة ولم يرض أيضاً بتعطيل منافع الأرض فإن الأرض أخذت منه غصباً فلا يجب عليه الخراج كما لا يجب إذا غرقت الأرض بالماء وعجز عن زراعتها ثم إذا أخذ الغاصب بخراجها لم يصر صاحبها المستأمن ذميّاً وإن أخذ خراج أرضه لأنه لم يؤخذ منه إنما أخذ من غيره ولم يجر عليه حكم المسلمين فلا يصير به ذميّاً فإن كان الزارع نقصها شيئاً ينظر فإن كان النقصان مثل الخراج أو أكثر فإن المستأمن يأخذ ذلك النقصان ويؤدي منه الخراج ويكون الفضل له إن كان لأنه وصل إليه النفع من جهة الزراعة فصار كما@(5/360)
لو زرعها بنفسه أو آجرها من غيره ويصير صاحبها المستأمن ذميّاً لأن خراج أرضه أخذ منه وإن كان النقصان أقل من الخراج كان قدر النقصان من الخراج على المستأمن وفضل الخراج على الغاصب لأن الخراج إنما يجب على المغتصب منه حكماً لما يرجع إليه من النفع بدليل أنه لو لم يرجع إليه شيء لم يؤخذ منه شيء من الخراج وحين رجع إليه مثل الخراج أو أكثر أخذ منه الخراج كله فإذا رجع إليه من النفع مثل بعض الخارج أخذ منه بقدره وكان الفضل على الغاصب وذكر أبو يوسف - رحمة الله عليه - في المزارعة الكبيرة على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - يؤخذ الخراج كله من المغتصب منه قل النقصان أو كثر وذكر في المزارعة الصغيرة الجواب أن على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - الخراج كله على رب الأرض لأنه أخذ من منافع أرضه بدلاً فصار كأنه آجر أرضه بما أخذ ولو آجر أرضه
كان الخراج عليه وفي الأجر بالخراج لو لم يف فكذلك ما هاهنا ثم إذا أخذ جميع الخراج من الحربي المغصوب منه أو بعضه يصير ذميّاً لأنه جرى عليه حكم المسلمين بأخذ بعضه كما يجري عليه بأخذ كله ولو زرعها الحربي المستأمن أو الغاصب أو المستأجر أو المستعير فأصاب زرعها آفة فاصطلمته من غرق أو غيره لم يكن في الأرض خراج تلك السنة ولم يصر المستأمن صاحب الأرض ذميّاً لأنه لم يؤخذ منه الخراج فلم يصر من أهل دارنا فلا يصير ذميّاً وإذا اشترى المستأمن أرضاً من أرض الخراج فزرعها أو مكث في يده سنة أو أقل فوجب فيها الخراج فقد صار المستأمن ذميّاً حين وجب في أرضه الخراج وهو لزمه وأخذ لأنه إنما يصير من أهل دارنا بحكم الإمام@(5/361)
عليه والحكم بالأخذ فيما لم يؤخذ منه لا يصير ذميّاً ثم إذا أخذ منه الخراج يؤخذ منه خراج رأسه بعد سنة مستقبلة من يوم أخذ منه الخراج ولا يحتسب عليه في خرج رأسه لما مضى من الشهور والأرض في يده وهذا بخلاف التقديم إليه لو أطال المكث بأرض الإسلام فقال له الإمام : ارجع إلى بلادك فإنك إن أقمت سنة بعد يومك هذا أخذت منك الخراج فأقام سنة صار ذميّاً وأخذ منه الخراج في تمام تلك السنة ووجه الفرق في ذلك وهو أن في فصل التقدم إنما يأخذ الإمام منه خراج رأسه من جهة الشرط فإذا شرط أن يأخذ منه الخراج إن لم يرجع إلى سنة أخذ منه كما شرط ويصير ما شرط عليه كما صالحه الإمام عليه على مقامه في دارنا في تلك السنة وللإمام ذلك فإن له في الابتداء ألا يؤمنه وألا يدعه يخرج إلى الإسلام إلا بمال يأخذه منه فلهذا يأخذ منه الخراج عند تمام السنة وأما صيرورته ذميّاً من جهة خراج أرضه لا من جهة الشرط ولكن يثبت حكماً ولو لم يجب في أرضه لا يصير ذميّاً فإنما يأخذ منه خراج رأسه إذا مضت سنة من يوم يصير ذميّاً يأخذ منه الخراج فما لم يمض سنة كاملة على ذمته بعد ذلك لا يؤخذ منه الخراج ولو قال له الإمام : إن أقمت سنة بعد يومك هذا أخذت
منك مائة درهم ثم جعلتك بعد ذلك ذميّاً آخذ منك في رأس كل سنة اثني عشر درهماً فأن أقام سنة بعد التقدم إليه أخذ منه مائة درهم لما قلنا : إن ما يأخذ منه الإمام في التقدم إليه إنما يأخذ من جهة الشرط والصلح هكذا جرى فيما بينهما وهو راض به حين أقام سنة بعد الصلح فيؤخذ منه بحكم الصلح ويصير ما يؤخذ منه عند تمام الصلح أجرة لسكناه في دارنا في تلك السنة ونظير ذلك رجل أجر داراً له شهراً فقال له قبل مضي الشهر : لا تقم في داري من الشهر الداخل شيئاً وأشهد على ذلك أنه إن أقام الشهر الداخل فأجر الدار عليه عشرون درهماً لما أن@(5/362)
الأجرة تجب بالشروط والمشروط للشهر الداخل عشرون درهماً وقد رضي بهذا المشروط حيث أقام فيها في الشهر الداخل فكان الحكم كما شرط فكذلك خراج الرأس في التقديم إليه يجب بالشرط وقد رضي بالمشروط حيث أقام سنة فكان الحكم كما شرط وقد انتزع أصحابنا من هذه المسألة مسألة أخرى قالوا جميعاً : لو أن رجلاً غصب داراً من رجل فأراد المغصوب منه تخويف الغاصب حتى يرد إليه الدار فإنه يأتي برجلين عدلين إلى الغاصب فيشهدهما على الغاصب فيقول له : إن رددت الدار إلي وإلا أخذت منك كل شهر ألف درهم مثلاً فإن الإشهاد صحيح وإن أقام الغاصب بعد هذا التقدم إليه المغصوب منه يستوجب هذا الأجر المسمى على الغاصب ولو كان الإمام حين تقدم إليه قال له : إن أقمت سنة بعد يومك هذا كنت ذميّاً وآخذ منك الخراج بعد سنة أخرى مستقبلة فأقام تلك السنة كان الأمر على ما تقدم إليه ولم يجب عليه خراج حتى تمضي سنة بعد هذه السنة الأولى لأن الشرط هكذا جرى من الإمام فيكون الحكم لما شرط والمتقدم المعروف هذا ولو أن حربيّاً مستأمناً اشترى فينا أرضاً خراجية فجاء مستحق واستحقها لنفسه وأدى خراجها سنة أو سنتين ثم وجد القاضي الشهود عبيداً ورد الأرض على المستأمن لم يكن هو ذميّاً لأنه إنما يصير المستأمن ذميّاً إذا وجب عليه الخراج لا بمجرد شراء
الأرض الخراجية وهاهنا قد كان هو ممنوعاً من الانتفاع بهذه الأرض فلم يلزمه الخراج لأن وجوب الخراج باعتبار التمكن من الانتفاع وكذلك لو غصبها منه سلطان لا يقاومه المستأمن ولو غصبها من يتمكن المستأمن من إثبات حقه عليه بالحجة فلم يفعل فإن كان الغاصب زرعها فالمستأمن لا يكون ذميّاً@(5/363)
أيضاً لأن الخراج على الغاصب إذا زرعها باعتبار انتفاعه بالأرض فلا يكون على المستأمن شيء من خراجها وإن كان الغاصب لم يزرعها فقد صار المستأمن ذميّاً لأنه قد لزمه خراجها فإنه قد كان متمكناً من استردادها والانتفاع بها وإذا لزمه خراجها كان ذمياً وهو بمنزلة ما لو غرقها ماء وقد كان المستأمن متمكناً من أن يحتال بذلك بمسناة فلم يفعل حتى مضت السنة فعليه خراجها وكان ذميّاً للمعنى الذي قلنا وهذا إذا لم يتمكن في الأرض نقصان بزراعة الغاصب فإن كانت الزراعة نقصتها كان المستأمن ذميّاً لأنه قد لزمه النقصان للمستأمن وحكم الخارج أنه إن كان النقصان أكثر فالخراج على المستأمن وإن كان النقصان أقل فعلى الغاصب الخراج دون النقصان على أن يكون مقدار النقصان من ذلك الخراج على رب الأرض والفضل على الغاصب ففي الوجهين قد لزم المستأمن بعض الخراج وبه يصير المستأمن ذميّاً ولو أن رجلاً سقى في هذه الأرضين ماءً فغرقها حتى لم يستطع الحربي زراعتها ونقص الماء الأرض كان للحربي أن يضمن الذي سقى الماء النقصان المتمكن بفعله ولا يكون الحربي ذميّاً هاهنا لأنه لا خراج في هذه الأراضي لأحد هاهنا فما كان أحد يتمكن من الزراعة فيها وعلى هذا لو لم يزرع الغاصب الأرض أيضاً حتى ردها بعد مضي السنة لم يكن الحربي ذميّاً لأنه لم يلزمه خراجها ولو كان الغاصب حربيّاً مثل صاحب الأرض فزرعها ونقصتها الزراعة فالغاصب ضامن لنقصان الأرض ثم إن كان الخراج مثل النقصان أو أقل فصاحب الأرض يصير ذميّاً دون الزارع لأن الخراج على صاحب الأرض هاهنا وإن كان النقصان أقل من الخراج فقد صارا
ذميين لأن بقدر النقصان من الخراج على @(5/364)
رب الأرض والفضل على الزارع فقد وجب على كل واحد منهما بعض الخراج ولو كانت الأرض لم تنقصها الزراعة فالغاصب يصير ذميّاً دون صاحب الأرض لأن الخراج هاهنا على الغاصب كله ولو عطلها الغاصب فلم يزرعها فإن كان صاحب الأرض يتمكن من استردادها بالحجة فلم يفعل كان الخراج عليه وصار ذميّاً وإن كان لا يتمكن من ذلك فلا خراج على واحد منهما وهما حربيان في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - على حالهما ولو كان المستأمن اشترى أرضاً عشرية فقد صارت خراجية في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وفي قول أبي يوسف - رحمة الله عليه - يؤخذ منه العشر مضاعفاً وفي قول محمد - رحمة الله عليه - هي عشرية على حالها فإذا زرعها أو تمكن من زراعتها كان ذميّاً في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - لأنه لزمه الخراج في الوجهين وفي قول محمد - رحمة الله عليه - إن زرعها كان ذميّاً لأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج ولكن لا يجب إلا بحصول الخارج حقيقة وما لم يلزمه ما يجب في الأراضي في دار الإسلام لا يصير ذميّاً وإن باعها الحربي قبل أن يجب فيها الخراج كانت أرض خراج لا تتحول عن ذلك هكذا ذكرها هنا وقال في رواية أخرى كان على المشتري العشر دون الخراج فالوجه لهذه الرواية وهو أن ملك الكافر هو الذي يجعل الأرض خراجية وحين اشتراها فقد ملكها فصارت خراجية بملكه إياها فقد باعها وهي خراجية والمسلم متى اشترى من كافر أرضاً خراجية بقيت خراجية ووجه الرواية الأخرى وهو أنه لما باعها قبل وجوب الخراج فيها لم يؤخذ من الأرض حق غير العشر فدامت عشرية كما كانت ولا يعتبر ما اعترض فيها من ملك الكافر والحربي لا يكون ذميّاً لأن الأرض وإن صارت خراجية فلم يؤخذ من صاحبها الخراج فلم يجر عليه حكم المسلمين فلا يصير ذميّ@(5/365)
اً فكان بمنزلة حربي في دار الحرب وكّل مسلماً أن يشتري له أرضاً في أرض العشر في دار الإسلام فاشتراها
صارت خراجية في قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - ولم يصر صاحبها في دار الحرب ذميّاً وإن صارت الأرض خراجية لما أنه لم يجر على صاحبها حكم من أحكام المسلمين كذلك هاهنا ولو أن هذا المستأمن اشترى أرضاً عشرية آجرها فعند أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - صارت الأرض خراجية والخراج يجب على صاحب الأرض فيصير به ذميّاً وفي قول محمد - رحمة الله عليه - العشر في الخارج على المستأجر فلا يصير صاحب الأرض ذميّاً وإن كان المستأجر حربيّاً فالمستأجر عنده يصير ذميّاً لأنه قد لزمه عشرها ثم فرق محمد - رحمة الله عليه - بين العشر الذي يجب على المستأمن في الخارج من أرضه وبين العشر الذي يأخذه العاشر من الحربي المستأمن فقال : باعتبار ذلك العشر لا يصير ذميّاً وإذا أخذ العشر من أرضه يصير ذميّاً ووجه الفرق بينهما وهو أن الحربي إذا مر على العاشر فإن العاشر يأخذ منه عشر ما مر به ويأخذ من الذمي نصف العشر ومن المسلم ربع العشر فإذا لم يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من المسلم لم يصر هو من أهل دار الإسلام ألا ترى أنه يؤخذ منه مراراً في يوم واحد متى عاد في كل مرة إلى داره ثم رجع إلى دار الإسلام فإذا لم يصر بمنزلة من هو أهل دار الإسلام لم يصر ذميّاً وأما هاهنا يؤخذ من طعامه من العشر مثل ما يؤخذ من طعام المسلم ولا يؤخذ منه إلا مرة واحدة كما لا يؤخذ من المسلم إلا مرة واحدة فينزل بأخذ هذا العشر منزلة الذي هو من أهل دارنا فيصير ذميّاً يوضحه أن ذلك العشر مأخوذ من الحربي بطريق المجازاة ولهذا لو لم يأخذوا من تجارنا شيئاً لا نأخذ من تجارهم شيئاً وهذا العشر مأخوذ بطريق مؤنة الأرض النامية في دار الإسلام فكان كالخراج ولو أعارها حربيّاً مثله كان العشر في @(5/366)
الزرع وصار الحربي المستعير به ذميّاً في قولهم لأن الحق أخذ من طعامه ولو أن حربيّاً مستأمناً استأجر أرضاً عشرية من مسلم فزرعها فإن على قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - عشر ما
أخرجت الأرض على المسلم ولا يصير المستأجر ذميّاً لأن العشر لم يجب في طعامه وفي قول محمد - رحمة الله عليه - العشر يجب في الخارج فيصير المستأجر ذميّاً لأن الحق وجب في طعامه وفي العارية العشر في الطعام في قولهم جميعاً فيصير المستعير ذميّاً وهكذا الحكم في خراج المقاسمة في جميع ما ذكرنا لأنه جزء من الخارج كالعشر .
والله تعالى أعلم .
باب ما يكون الرجل به مسلماً يدرأ عنه القتل والسبي
قد ثبت فيما تقدم أن الكافر متى أظهر بخلاف ما كان يعتقده فإنه يحكم بإسلامه والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وقد كان يقاتل عبدة الأوثان وهم كانوا لا يقولون ذلك كما قال الله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } فجعل ذلك علامة إيمانهم ثم حين دعا اليهود بالمدينة إلى الإسلام جعل علامة إيمانهم الإقرار برسالته حتى قال لليهودي الذي دخل عليه يعوده : اشهد أني رسول الله فلما شهد ومات قال : الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار لأنهم كانوا لا يقرون برسالته فجعل ذلك علامة إيمانهم وإذا@(5/367)
عرفنا هذا فنقول : إذا حمل مسلم على مشرك ليقتله فلما أرهقه قال : اشهد أن لا اله إلا الله فان كان الكافر من قوم لا يقولون هذا فعلا المسلم أن يكف عنه فإن أخذه وجاء به إلى الإمام فهو حر مسلم إن كان تكلم بكلمة التوحيد قبل ان يقهره المسلم وإن قال بعدما قهره فهو فيء لأن الإسلام يعصمه من القتل لا من الاسترقاق بعد القهر فإن قال : ما أدرت الإسلام بما قلت إنما أردت الدخول في اليهودية أو أردت التعوذ لئلا يقتلني لم يلتفت إلى قوله لأن الظاهر أنه إنما قصد إجابته إلى ما طلب منه والمسلم إنما طلب منه الإسلام لا الدخول في اليهودية وقوله : لا إله إلا الله دليل على إسلامه وإن لم يكن هو يقر بالإسلام كله فيلزمه حكم الإسلام بمنزلة ما لو صلى في الجماعة مع المسلمين فإن ذلك يكون دليلاً على إسلامه وإن لم يكن إسلاماً بعينه فإذا امتنع من الإسلام بعد ذلك كان مرتداً فيقتل قال في الكتاب : ومن أنكر شيئاً من شرائع الإسلام فقد أبطل لا إله إلا الله معناه أنه يصير مرتداً فيقتل إن لم يسلم وبهذا اللفظ تبين خطأ من يقول من المتأخرين من أصحابنا : إن من أنكر شيئاً من الشرائع فهو كافر فيما أنكره مسلم فيما سوى ذلك وعليه ابتنى في تصنيف
له حال مانعي الزكاة في عهد أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - وهو مخالف للرواية نزع إلى قول أهل الضلالة فإنهم يقولون : إن مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان غير داخل في الكفر فله منزلة بين المنزلتين فهذا قريب من ذلك ولو كان حين قال : لا إله إلا الله كف عنه فأفلت ولحق بالمشركين ثم عاد يقاتل فحمل عليه@(5/368)
الرجل فلما رهقه قال : لا إله إلا الله فإن كانت له فئة يلجأ إليها فلا بأس بأن يقتله لأنه الآن بمنزلة المسلم الباغي المقاتل مع المسلمين في فئة ومثله يقتل وإن كان مسلماً وإن لم تكن له فئة بأن كان تفرق جمعهم فلا ينبغي له أن يقتله وكذلك إن كان أسره فإن كانت الفئة على حالها فلا بأس بقتله وإن تفرقت الفئة فليس له أن يقتله ولكن يؤدبه لما صنع واستدل بما روي أن رجلاً من المسلمين حمل على رجل من المشركين فقال : لا إله إلا الله فخلى سبيله ثم عاد فقاتل المسلمين فلما كر عليه قال : لا إله إلا الله حتى فعل ذلك مراراً فقتله في آخره مرة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " فكيف لك بلا إله إلا الله " ولم يذكر اسم هذا الرجل وفي المغازي ذكر أنه أسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " اقتلت رجلاً قال : لا إله إلا الله فقال : إنما قال تعوذاً قال : فهلا شققت عن قلبه فقال : لو شققت عن قلبه ما رأيت أبين لي يا رسول الله قال : فإنما كان يعبر عما في قلبه لسانه وإنما نضع هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنه ما كان يلجأ إلى فئة في آخر مرة فلهذا عاتبه على قتله ولو كان حين خلى سبيله فعاد إلى صف المشركين فقال : إني بريء عن دينكم وأنا على ديني الأول ثم حمل عليه المسلم مرة أخرى فقال : لا إله إلا الله فهذا والأول سواء لأنه بمنزلة المرتد لما سبق منه والمرتد كالحربي فإذا قال : لا إله إلا الله يجب الكف عنه إلا أنه إذا كانت له فئة فهو بمنزلة الباغي فلا بأس بقتله لهذا
وكذلك إن كان قتل قوماً من المسلمين بعد الإسلام الأول قبل الإسلام الثاني لأنه حين ارتد وهو في صف المشركين كان حربيّاً والحربي لا يستوجب القصاص بقتله المسلم ولو كان الرجل ممن يقول : لا إله إلا الله والمسألة@(5/369)
بحالها فلا بأس بأن يقتله وإن تكلم بهذه الكلمة لأن هذا ليس بدليل الإسلام في حقه فإن قال : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وهو من قوم لا يقولون ذلك فهذا الآن دليل إسلامه فعليه أن يكف عنه وهو في الفريع نظير ما بينا في الفصل الأول وكذلك إن قال حين رهقه : محمد رسول الله أو قال : قد دخلت في دين الإسلام حتى لو مات بعدما قال هذه المقالة فإنه يصلى عليه ويستغفر له وهذا لأن ما ظهر منه فوق السيماء وقد بينا أن بمجرد سيماء المسلمين يحكم بإسلامه في حق الصلاة عليه فهذا أولى قال : وأما اليهود والنصارى اليوم بين ظهراني المسلمين إذا قال واحد منهم : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فإنه لا يكون مسلماً بهذا لأنهم جميعاً يقولون هذا ليس من نصراني ولا يهودي عندنا نسأله إلا قال هذه الكلمة فإذا استفسرته قال : رسول الله إليكم لا إلى بني إسرائيل ويستدلون بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ } الجمعة : 2 والمراد بالأميين غير أهل الكتاب فعرفنا أن هذا لا يكون دليل إسلامه حتى يضم إليه التبري فإن كان نصرانياً قال : فأبرأ من النصرانية وإن كان يهودياً قال : وأبرأ من اليهودية فحينئذ يكون مسلماً لإظهار ما هو مخالف لاعتقاده وإن قال النصراني : أشهد أن لا إله إلا الله وأبرأ من النصرانية لم يكن مسلماً بهذا اللفظ لأن كلامه محتمل فلعله دخل في اليهودية بهذا فإن الذي ذكره قول اليهود بعينه فإنهم يقولون : لا إله إلا الله ويبرءون من النصرانية كما أخر الله - تعالى - عنهم في قوله تعالى : { وَقَالَتِ @(5/370)
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ
وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } فإن قال : مع هذا وأدخل في الإسلام فقد انقطع منه الاحتمال وكان ذلك منه دليل الإسلام ولو قال أنا مسلم لم يكن مسلماً بهذا اللفظ لأن كل فريق يدعي ذلك لنفسه فالمسلم هو المستسلم للحق وكل ذي دين يدعي أنه منقاد للحق وأن الحق ما هو عليه قال - رضي الله تعالى عنه - : وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة عبد العزيز الحلواني - رحمه الله تعالى - يقول : إلا المجوس في ديارنا فإن من يقول منهم : أنا مسلم يصير مسلماً لأنهم يأبون هذه الصفة لأنفسهم ويسبون أولادهم ويقولون : يا مسلمان قال : ولو كان هذا من عبدة الأوثان ممن يقول : لا إله إلا الله فلما رهقه قال : أشهد أن محمداً رسول الله فهو مسلم بمنزلة ما لو قال : أشهد أن لا إله إلا الله لأنه منكر للأمرين فبأيهما شهد كان دليل إسلامه وكذلك لو قال : إنه مسلم فإن عبدة الأوثان لا يدعون هذا الوصف لأنفسهم بل يتبرءون منه على قصد المعايرة للمسلمين وقد علم ذلك من حال أهل مكة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلهذا كان دليل الإسلام منه وكذلك لو قال : أنا على دين محمد أو على الحنيفية أو على الإسلام فإن هذا كله لا بد@(5/371)
باب من إسلام الصبي والصبية المأسورين
قال - رضي الله تعالى عنه - : قد بينا أن الصبي يتبع خير الأبوين ديناً فإذا سبي ومعه أحد أبويه لم يحكم له بالإسلام حتى يصف الإسلام بنفسه أو يسلم من معه من الأبوين وإن سبي وليس معه أحد الأبوين فإنه لا يحكم بإسلامه أيضاً حتى يخرج إلى دار الإسلام فيصير مسلماً تبعاً للدار أو يقسم الإمام الغنائم أو يبيعها في دار الحرب فيصير مسلماً حينئذ أما إذا كان من وقع في سهمه أو اشتراه مسلم فلا إشكال فيه لأن تأثير التبعية للمالك فوق تأثير التبعية للدار وأما إذا كان المشتري ذمياً أو كان أعطاه الذمي بطريق الرضخ من الغنيمة فكذلك الجواب في أنه يكون محكوماً بإسلامه حتى إذا مات يصلى عليه ويجبر الذمي على بيعه لأنه صار محرزاً بقوة المسلمين فالذمي إنما يملكه في هذا الموضع بإحراز المسلمين إياه فصار تمام الإحراز بالقسمة والبيع نظير تمام الإحراز بالإخراج إلى دار الإسلام ولو سبي معه أبواه فماتا ثم أخرج إلى دار الإسلام وليس معه أحد أبويه فهو مسلم لأن أبويه حين مات في دار الحرب فقد خرج هو من أن يكون تبعاً لهما بمنزلة ما لو بقيا في دار الحرب وإنما حصل هو وحده في دار الإسلام بخلاف ما إذا خرج إلى دار الإسلام أو قسم أو بيع ثم مات من معه من الأبوين فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يصف الإسلام بنفسه لأن أوان الحكم بإسلامه @(5/372)
وقت الإحراز فوجود أحد الأبوين معه في ذلك الوقت منه الحكم بإسلامه ثم بموته بعد ذلك لا يتغير هذا الحكم بمنزلة ولد الذمي إذا مات أبواه وبقي وحده صغيراً في دار الإسلام فإنه لا يحكم بإسلامه قال : ولو أن ذمياً دخل دار الحرب متلصصاً فأخرج صغيراً إلى دار الإسلام فهو مسلم يجبر الذمي على بيعه لأنه إنما ملكه بالإحراز بدار الإسلام فيكون محكوماً بإسلامه بمنزلة المنفل فإن الأمير لو قال في دار الحرب : من أصاب رأساً فهو له فأصاب الذمي صغيراً ليس معه أحد أبويه فإنه يكون مسلماً لأنه إنما ملكه باعتبار منعة المسلمين وإنما
صار محرزاً بذلك بخلاف ما إذا دخل الذمي دار الحرب بأمان واشترى صغيراً من مماليكهم فإنه لا يكون مسلماً وإن قبضة الذمي لأنه يملكه بالنقد هاهنا لا باعتبار منعة المسلمين فإن أخرجه إلى دار الإسلام لم يكن مسلماً أيضاً لأنه لم يصر محرزاً له بمنعة المسلمين ولا بحكمهم وهذا بخلاف ما إذا كان المشتري مسلماً فدخل إليهم بأمان أو كان أسيراً فيهم أو كان رجلاً أسلم منهم فإنه إذا أخرجه إلى دار الإسلام وحده كان مسلماً بإسلامه وتبعية المالك إنما تظهر في هذا الفصل فإذا كان المالك مسلماً كان المملوك مثله تبعاً له وإذا كان المالك ذميّاً كان المملوك مثله تبعاً له فإذا خرج معه أبواه أو أحدهما عبداً لمولاه أو حراً معاهداً فالصبي على دين أبيه لأنه ما حصل في دارنا إلا مع أب هو من أهل دارنا وتبعية الأبوين في الدين هي الأصل فلا تظهر تبعية المالك إلا عند عدم تبعية الأبوين فإن كان خرج معه أحد الأبوين بأمان فالصبي مسلم لأن المستأمن من أهل دار الحرب وإن كان في دارنا صورة فلا يعتد بخروجه معه والصغير هو المختص بأنه صار هو من أهل دار الإسلام فيحكم بإسلامه تبعاً للمالك فإن بدا للمستأمن فصار ذمياً بعد ذلك كان الصبي مسلماً لأنه صار محكوماً بإسلامه كما إذا@(5/373)
أخرجه المالك المسلم فلا يتغير ذلك بمنزلة ما لو أسر وأخرج إلى دار الإسلام ثم أسر أبواه بعد ذلك فإن كان الذمي الذي اشتراه فأخرجه من أهل الكتاب والصبي كان من المجوس أو عبدة الأوثان فهو بمنزلة أهل الكتاب تؤكل ذبيحته ويحل وطؤها إن كانت جارية بمنزلة ما لو كان أحد أبويه كتابيّاً والآخر مجوسيّاً وهذا لأن تبعية المالك بمنزلة تبعية الأبوين وكما أنه إذا كان أحد أبويه كتابيّاً كان هو تبعاً له فكذلك إذا كان مالكه الذي أخرجه كتابيّاً وإن كان الصغير في الأصل كتابيّاً والذي أخرجه مجوسي فكذلك الجواب لأنه قد جرى الحكم بكونه كتابياً باعتبار الأصل فلا يتحول عن ذلك باعتبار تبعية
المالك ألا ترى أنه لو كان مسلماً مملوكاً فاشتراه المجوسي لم يخرج به من أن يكون مسلماً فكذلك إذ كان كتابيّاً فإن كان القوم من أهل الحرب مماليك فأسلم أهل الدار جميعاً غير مماليكهم فمن كان صغيراً من مماليكهم فهو مسلم إن لم يكن معه أحد أبويه كافراً لحصوله في دار الإسلام ولكون مولاه مسلماً وأحد هذين المعنيين يكفي للحكم بإسلامه فإن صاروا ذمة فرقيقهم كفار على دينهم الصغار والكبار في ذلك سواء لأن مماليكهم كفار قد صالحوا المسلمين وإنما صارت دارهم دار الإسلام بطريق الصلح لا بإسلام أهلها وذلك لا يوجب الحكم بإسلام المملوك بمنزلة الذمي يشتري صغيراً في دار الحرب ويخرجه إلى دار الإسلام وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان ومعه عبد صغير فهو على دينه يرده إلى دار الحرب إن شاء لأنه حصل في دارنا بطريق المراضاة فيكون حكمه حكم مولاه ومولاه من أهل دار الحرب فإن أسلم مولاه في دار الإسلام أو باعه من مسلم أو مات مولاه فباعه الإمام فأوقف ثمنه@(5/374)
لورثته فهو كافر على دين أبويه لأنه حصل في دارنا كافراً بأمان فلا يصير مسلماً بعد ذلك ما لم يصف الإسلام بمنزلة الذمي يموت في دارنا وله ولد صغير فإن سبي أحد أبوي وأسلم كن الصغير مسلماً بإسلامه لأن إسلام أحد الأبوين في حقه كإسلامه بنفسه إذا كن يعقل فلهذا حكم بإسلامه بذلك فإن سبي الصغير مع أبيه ثم أخرج الصغير قبل أبيه إلى دار الإسلام فإنه لا يحكم بإسلامه لأنه أخرج إلى دارنا وأبوه في يد المسلم وفي منعتهم فكونه في يد المسلم ككونه في دار الإسلام معه فيكون الصبي تبعاً له .
ألا ترى أن في حق المراغم والمهاجرة جعل منعة الجيش في دار الحرب كمنعة الدار فكذلك في حكم التبعية فإن قتل أبوه - أو هرب قبل الإخراج إلى دار الإسلام - لم يكن مسلماً أيضاً لأنه حصل في دار الإسلام كافراً فلا يتحول مسلماً بعد ذلك ما لم يصف الإسلام أو يسلم أحد أبويه فيكون مسلماً تبعاً له فإن أسلم المستأمن في دارنا وولده الصغير في دار الحرب ثم أسره المسلمون فأخرجوه أو لم يخرجوه كان الذمي مسلماً تبعاً لأبيه المسلم عندنا أما إذا كان الأب مع العسكر فغير مشكل وأما إذا كان في دار الإسلام فقد بينا أن منعة الجيش كمنعة الدار في حكم التبعية فكان حصول الاتباع في منعة الجيش كحصوله في دار الإسلام وكذلك إن كان الأب في دار حرب أخرى دخلها تاجراً لأن المسلم من أهل دار الإسلام حيثما يكون فيصير الصبي مسلماً تبعاً وإن كان هو في دار الحرب صورة ولو مات أبوه مسلماً في دار الإسلام ثم أسر هو فإنه لا يكون مسلماً ما دام في دار الحرب حتى يقسم أو يباع أو يخرج إلى دار الإسلام لأن الأب ميت في دارنا وتبعية الميت@(5/375)
لا تعتبر في ابتداء الإسلام وإن كان معتبراً في البقاء .
ألا ترى أن الأم لو سبيت معه لم يحكم بإسلامه فكذلك إذا سبي وحده قلنا : لا يحكم بإسلامه ما دام في دار الحرب وإن سبيت الأم معه والأب حر مسلم فينا كان الصغير مسلماً تبعاً لأبيه ولو دخل الحربي إلينا بأمان ثم صار ذمياً أو سباه المسلمون كافراً فأعتقوه وهو كافر على حاله أو لم يعتقوه ثم سبوا ولده الصغير فأخرجوه إلى دار الإسلام لم يكن مسلماً لأن أباه كافر في دار الإسلام والصغير ما حصل في دارنا إلا ومعه أب كافر يجري عليه حكم المسلمين فيكون تبعاً له في الدين فإن مات الأب كافراً قبل أن يسبى الصغير والمسألة بحالها كان مسلماً إذا خرج إلى دار الإسلام لأن الأب الميت لما يعتبر في الحكم بإسلامه ابتداء تبعاً له فلأن لا يعتبر في المنع من الحكم بإسلامه إذا خرج إلى دار الإسلام كان أولى قال : ولو أن عسكراً من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دار الإسلام ومعهم صبيان لهم فظفر بهم المسلمون وأسروا صبيانهم فهم مسلمون كما أخذوا إذا لم يؤسر معهم آباؤهم ولا أمهاتهم لأن بنفس الأخذ صاروا محرزين بدار الإسلام فإن أسر الآباء والأمهات بعد ذلك بساعة كان الأولاد مسلمين لأنه حكم بإسلامهم كما أخذوا قبل الآباء فلا يتغير ذلك الحكم بسبي الآباء والأمهات بعد ذلك بخلاف ما إذا كانت هذه الحادثة في دار الحرب فهناك بنفس الأخذ لم يصر الصغير مسلماً قبل الإخراج فإذا أسر أبوه بعد ذلك بيوم أو أكثر فأخرجا معاً كان هذا وما لو أسرا معاً سواء فأما إذا كان القتال في دار الإسلام فإن أسرا معاً أو أسر الأب@(5/376)
ثم الصغير فكذلك الجواب لأنه ما ثبتت يدنا عليه إلا مع أب كافر فإذا أسر الصبي أولاً فقد صار محكوماً بإسلامه ثم لا يتغير ذلك الحكم وإن أسر الأب بعده بساعة وكذلك لو دخل الصبي وحده دارنا بغير أمان فأخذه مسلم فهو مسلم حين أخذ فأما على قياس قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - فهو فيء لجماعة المسلمين وأما عند محمد - رحمة الله عليه - هو فيء للآخذ ولا
يكون حراً بإسلامه لأنه إنما صار مسلماً بعدما أخذ وإنما يتأكد بالإسلام حرية من كان مسلماً قبل أن يؤسر فأما من يصير مسلماً بعد الأسر فإنه يكون قناً والله تعالى الموفق .
باب الاستبراء
قد بينا في المبسوط أن سبي أحد الزوجين موجب للفرقة لا لعينه بل لتباين الدارين حقيقة أو حكماً بين الزوجين ولهذا لم تقع الفرقة إذا سبيا معاً فنقول إذا سبيت المرأة وأخرجت إلى دار الإسلام فلمن وقعت في سهمه أن يطأها بعدما يستبرئها بحيضة إن لم تكن حاملاً وبوضع الحمل إن كانت حاملاً واستدل على ذلك في الكتاب بآثار رواها بالإسناد فإن حاضت المسبية في دار الحرب حيضة أو أكثر منها ثم سبي زوجها فأخرجا إلى دار الإسلام فهما على تزوجهما لانعدام السبب الموجب للفرقة وهو تباين الدارين وإن أخرجت وحدها فوقعت في سهم رجل فليس له أن يجتزئ بتلك الحيضة من الاستبراء وكذلك إن كانت حاضت في دار الإسلام حيضة قبل القسمة@(5/377)
أو بعد القسمة بن العرفاء قبل القسمة بين الأشخاص لأنها وجت قبل وقوع الملك في المحل لمن وقعت في سهمه وكذلك لو وقعت في سهم رجل فلم يقبضها حتى حاضت حيضة لأن الملك للغازي في الغنيمة إنما يثبت بطريق الصلة وهذا النوع من الملك لا يتم إلا بالقبض وإن ثبت له ملك العين بالقسمة فملك التصرف لا يثبت إلا بالقبض والوطء تصرف وإنما يجتزئ بالحيضة من الاستبراء بعد ملك الوطء ولهذا قلنا : إذا حاضت المبيعة في يد البائع فليس للمشتري أن يجتزئ بتلك الحيضة من الاستبراء فإن كانت المسبية حاملاً فوضعت حملها بعدما قبضها ووقعت في سهمه فلا بأس بأن يطأها بعدما طهرت من نفاسها ولا بأس بأن يقبلها ويستمتع بها بما فوق الإزار في مدة نفاسها ولو كانت وضعت حملها قبل القبض ثم قبضها فليس له أن يستمتع بها فوق الإزار في مدة النفاس ولا بعدها حتى تحيض حيضة مستقبلة لأنها صارت مستبرأة بوضع الحمل بعد القبض فحرمة الغشيان بعد ذلك في مدة النفاس لمعنى الأذى فكان حالها
كحال المنكوحة إذا كانت حائضاً في الاستمتاع بها فأما إذا وضعت قبل القبض ثم قبضها فعليه أن يستبرئها بحيضة مستقبلة وهي في مدة النفاس هاهنا غير مستبرأة في يده وفي مدة الاستبراء كما يحرم الغشيان يحرم اللمس والتقبيل بشهوة فإن أسلمت المسبية قبل الإخراج إلى دار الإسلام وزوجها كافر في دار الحرب فقد بانت منه لأنها محرزة بمنعة الجيش والإحراز بمنعة الجيش في حق المسلمة كالإحراز بمنعة الدار .
ألا ترى أن المهاجرة إذا أحرزت نفسها بمنعة الجيش بانت من زوجها فكذلك المسبية ثم لا عدة عليها هاهنا بالاتفاق وقد بينا الخلاف في المهاجرة فإن قسم الإمام الغنائم في دار الحرب فوقعت في سهم رجل أو باعها وسلمها إلى المشتري فاستبرأها بحيضة كان@(5/378)
له أن يطأها بعد ذلك لأنه لم يبق بينها وبين الزوج النكاح ولاحقه فكان حالها كحال ما لو لم تكن ذات زوج سبيت سواء وبالقسمة في دار الحرب أو البيع يتغير الملك كما يتغير الملك بالقسمة في دار الإسلام .
ألا ترى أنه لو لحقهم مدد بعد ذلك لم يكن لهم شركة مع الجيش في المصاب ولا في الثمن إن كان الإمام باع الغنائم ولو أن الإمام نفل قوماً في دار الحرب فقال : من أصاب جارية فهي له رجل منهم جارية واستبرأها بحيضة وهو في دار الحرب فعلى قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - ليس له أن يطأها حتى يخرجها إلى دار الإسلام وهو قول أبي يوسف - رحمة الله عليه - وعلى قول محمد - رحمة الله عليه - له أن يطأها لأنه اختص بملكها على وجه لا شركة لأحد فيها فكانت هذه والتي اشتراها أو وقعت في سهمه بالقسمة سواء وأبو حنيفة وأبو يوسف - رضي الله تعالى عنهما - قالا : الملك في المنفل إنما يثبت للمنفل له بالأخذ فلا يتم هذا الملك قبل الإحراز بدار الإسلام بمنزلة الذي يثبت للمتلصص في دار الحرب بخلاف الملك الذي يثبت بالقسمة والشراء والذي يوضح الفرق أن بعد القسمة والبيع لا يبقى لهم حق التناول من الطعام والعلف من غير ضرورة وبعد التنفيل يبقى ذلك الحق فإن أسر زوجها بعدما أخذها المنفل له فلا نكاح بينه وبينها قيل هذا قول محمد - رحمة الله عليه - فأما على قياس قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - ينبغي ألا ينقطع النكاح هاهنا بمجرد الأخذ قبل الإحراز بدار الإسلام والأصح أنه قولهم جميعاً فإن أصل الملك يثبت للمنفل له بالأخذ وإن كان لا يتأكد قبل الإحراز بدار الإسلام وبثبوت أصل الملك للمسلم فيها يصير من أهل دار الإسلام فتقع الفرقة بينهما وبين زوجها .
ألا ترى أنها لو كانت صغيرة فإنه يحكم بإسلامها حين صارت للمنفل له بمنزلة ما لو أخرجت إلى دار الإسلام وكذا إن استبرأها المنفل له بحيضة ثم أخرجها إلى دار الإسلام كان له أن يجترىء بتلك الحيضة من الاستبراء بخلاف@(5/379)
المتلصص وهذا لأن الملك للمتلصص لا يثبت قبل الإحراز .
ألا ترى أنه إذا لحقه مدد شاركوه في المصاب والملك للمنفل له يثبت بالإصابة حتى لا يشركه المدد في ذلك وهذا لأن التنفيل من الإمام في معنى القسمة ولكنها قسمة قبل الإصابة جعلها الإمام في معنى الوقوف على الإصابة فباعتبار معنى القسمة أثبتنا هذا الحكم في المنفل وفرقنا بينه وبين المتلصص وباعتبار أن سبب الملك هو الأخذ احتاط أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - في الوطء فقال : ليس له أن يطأها حتى يخرجها إلى دار الإسلام وكم من حكم متردد بين أصلين متوفر حظه عليهما والله تعالى الموفق .
باب ما يباع من السبي من أهل الذمة
وإذا سبي المسلمون السبي فاقتسموه وأخرجوه إلى دار الإسلام فلا بأس بيع الرقيق من أهل الذمة لأنهم مشركون وإن صاروا من أهل دارنا بالإحراز فكانوا بمنزلة أهل الذمة فلا بأس ببيع العبد الذمي من أهل الذمة إلا في فصل واحد وهو إن سبي صغيراً ليس معه واحد من أبويه فهذا لا ينبغي أن يباع من أهل الذمة لأنه صار مسلماً بالإخراج إلى دار الإسلام أو القسمة في دار الحرب باعتبار أن الإحراز فيه يتم بالقسمة كما يتم بالإخراج ولهذا لو مات يصلى عليه ولو كانت كتابية فاشتراها من وقعت في سهمه كان له أن يطأها وإذا ظهر أنها محكومة بإسلامها قلنا : لا يحل للمسلم أن يبيعها من أهل الذمة وإن كان لو باعها نفذ البيع فإن كان سبي معها أحد أبويها فلا بأس ببيعها من أهل الذمة لأنه لم يحكم بإسلامها هاهنا ويستوي إن وقع كل واحد منهما في سهم رجل أو وقعا في سهم رجل واحد لأن الصغيرة ما حصلت@(5/380)
في دارنا إلا ومعها أب هو من أهل دارنا وذلك يمنع الحكم بإسلامها ولا ينبغي أن يباع شيء من السبي من المستأمن في دار الإسلام لأنه صار من أهل دارنا والمستأمن في دارنا يمنع من شراء مملوك هو من أهل دارنا ويجبر على بيعه إذا اشتراه للأصل الذي بينا أن الذمي في حق المستأمن بمنزلة المسلم في حق الذمي في حق أحكام الدنيا فإن اشترى المستأمن أمة ذمية فدبرها أو استولدها نفذ ذلك منه لمصادفته ملكه ولكنه يمنع من وطئها واستخدامها وتخرج إلى الحرية عن ملكه بطريق الاستسعاء في قيمتها وقد بينا هذا الحكم في حق الذمي إذا دبر أمته المسلمة أو استولدها فكذلك الحكم في المستأمن إذا فعل ذلك بأمته الذمية وإذا سبيت المرأة من أهل الكتاب مع أولادها فوقعوا في سهم رجل ثم أسلم بعض ولدها وهو صغير فليس له أن يبيعهم من كافر لأنه إن باعهم جميعاً فقد باع المملوك المسلم من الكافر وذلك لا يحل وإن باع بعضهم فقد فرق بين الوالدة وولدها الصغير بعدما اجتمعا في ملكه وذلك لا يحل ولو أن ذمياً
أو حربيّاً مستأمناً اشترى أمة مرتدة جاز الشراء وأجبر على بيعها صغيرة كانت أو كبيرة لأن المرتدة تجبر على العود إلى الإسلام فكان حكمها حكم المسلمة ولا يترك الأمة المسلمة في ملك الكفار صغيرة كانت أو كبيرة فكذلك المرتدة قال : ألا ترى أنها لو ارتدت إلى اليهودية أو النصرانية لا تؤكل ذبيحتها ولا يجوز مناكحتها ومعنى هذا الاستشهاد أنه لما لم يجعل حالها كحال يهودية الأصل عرفنا أنه لا يعتبر ما اعتقدت في حقها فيما يرجع إلى الأحكام لكونها مجبرة على ترك ذلك والرجوع إلى الإسلام فلهذا كانت كالمسلمة في أنه يجبر الكافر على بيعها من المسلم وإذا سببت المرأة مع أولادها الصغار فأسلم بعض أولادها ثم باعهم من كافر جاز البيع وأجبر الذي اشتراهم@(5/381)