فضيلة الرباط
عن سلمان الفارسي أنه قال : من رابط يوماً في سبيل الله تعلى كان له كصيام شهر وقيامه .
ومن قبض مرابطاً في سبيل الله تعالى أجير من فتنة القبر وأجري عليه عمله إلى يوم القيامة .
وهذا الحديث وإن كان موقوفاُ على سلمان فهو كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقادير أجزية الأعمال لا تعرف بالرأي بل طريق معرفتها التوقيف .
وقد ذكر بعد هذا : عن مكحول أن سلمان الفارسي مر بشر حبيل بن السمط وهو مرابط قلعة بأرض فارس فقال : ألا أحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون لك عوناً على منزلك هذا قال : بلى .
قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لرباط يوم خير من صيام شهر وقيامه .
ومن مات وهو مرابط أجير من فتنة القبر ونمي له عمله كأحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة " .
فتبين بهذا أن من كان عنده حديث منهم فتارة كان يرويه وتارة كان يفتي به من غير أن يروي فكل ذلك جائز والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر العدو لإعزاز الدين ودفع شر المشركين عن المسلمين .
وأصل الكلمة@(1/6)
من ربط الخيل .
قال الله تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } الأنفال : 6 " فالمسلم يربط خيله حيث يسكن من الثغر ليرهب العدو به وكذلك يفعل عدوه .
ولهذا سمي مرابطة لأن ما كان على ميزان المفاعلة يجري بين اثنين غالباً ومنه سمي الرباط رباطاً للموضع المبني في المفازة ليسكنه الناس ليأمن المارة بهم من شر اللصوص .
وجعل رباط يوم في هذا الحديث كصيام شهر وقيامه .
وقد روي بعد هذا أكثر من هذا القدر فإنه روي عن مكحول أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني وجدت غاراً في الجبل فأعجبني أن أتعبد فيه وأصلي حتى يأتيني قدري .
فقال عليه السلام : لمقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته ستين سنة في أهله " .
وهذا التفاوت إما بحسب التفاوت في الأمن والخوف من العدو .
فكلما كان الخوف أكثر كان الثواب في المقام أكثر .
أو بحسب تفاوت منفعة المسلم بمقامه .
فإن اصل هذا الثواب لإعزاز الدين وتحصيل المنفعة للمسلمين بعمله قال عليه السلام : " خير الناس من ينفع الناس " أو بحسب تفاوت الأوقات في الفضيلة وبيانه في حديث رواه مكحول عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لرباط يوم في سبيل الله صابراً محتسباً من وراء عورة المسلمين في شهر رمضان أفضل عند الله تعالى من عبادة ألف سنة صيام نهارها وقيام ليلها .
ولرباط يوم في سبيل الله صابراً محتسباً من وراء عورة المسلمين في شهر رمضان أفضل عند الله تعالى من عبادة ألف ومن قتل مجاهداً ومات مرابطاً فحرام على الأرض أن تأكل لحمه ودمه ولم يخرج من الدنيا حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وحتى يرى مقعده من الجنة وزوجته من الحور العين وحتى يشفع في سبعين من أهل بيته ويجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة .
وفي قوله : " أجير من فتنة القبر " دليل لأهل السنة والجماعة على أن عذاب القبر حق .
فإن الفتنة هنا بمعنى العذاب .
قال الله تعالى : { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } الذاريات : 14 وكقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } البروج : 10 أي عذبوا وأصل الفتنة الاختبار يقول الرجل : فتنت الذهب إذا أدخله النار ليختبره ومنه قوله تعالى : { وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } العنكبوت : 2 أي لا يبتلون وقوله تعال : @(1/7)
{ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } طه : 40 وقوله تعال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } الأعراف : 155 .
بمعنى الابتلاء أيضاً .
ومنه يقال : فتانا القبر لمنكر ونكير فإنهما يختبران صاحب القبر بالسؤال عن إيمانه .
وقيل معنى قوله : أجير من فتنة القبر أي من ضغطة القبر .
فكل أحد يبتلى بهذا إلا من عصمه الله تعالى منه على ما روي أنه لما سوي التراب على سعد بن معاذ رضي الله عنه تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الله أكبر الله أكبر ! فارتج البقيع بالتكبير .
فقيل له في ذلك فقال : : إنه ضغطه القبر ضغطة اختلفت منها أضلاعه ثم فرج الله عنه .
ولو نجا أحد من ضغطه القبر لنجا هذا العبد الصالح .
ولكن في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " تلك الضغطة للمؤمن بمنزلة الوالدة الشفيقة يشكو إليها ابنها البار بها الصداع فتضع يدها على رأسه تغمزه وهي للمنافق بمنزلة البيضة تحت الصخرة " .
ومعنى هذا الوعد في حق من مات مرابطاً والله أعلم أنه في حياته كان يؤمن المسلمين بعمله فيجازى في قبره بالأمن مما يخاف منه .
أو لما اختار في حياته المقام في أرض الخوف والوحشة لإعزاز الدين يجازى بدفع الخوف والوحشة عنه في القبر كما روي أن الصائمين إذا خرجوا من قبورهم يوم القيامة يؤتون بالموائد يأكلون ويشربون والناس جياع عطاش في القيامة لأنهم اختاروا الجوع والعطش في الدنيا فجازاهم الله بإعطاء الموائد في الآخرة .
وقوله : " وأجري عليه عمله ونمي له عمله " فذلك في كتاب الله عز وجل قال الله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } النساء : 100 وقال عليه السلام : من مات في طريق الحج كتب الله له حجة مبرورة في كل سنة فهذا هو المراد أيضاً في حق كل من مات مرابطاً لأنه يجعل بمنزلة المرابط إلى فناء الدنيا فيما يجري له مني الثواب والمعنى في ذلك أنه من كان بنيته استدامة الرباط لو بقي حياً إلى فناء الدنيا والثواب بحسب النية قال عليه السلام : " الأعمال بالنيات " .
وروى محمد بإسناده@(1/8)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ألا أنبئكم بليلة هي أفضل من ليلة القدر ! حارس يحرس في سبيل الله في أرض خوف لعله لا يئوب إلى أهله أو رحله في الحديث حث على الحراسة للغزاة في أرض الحرب فقد جعل ليلة الحارس أفضل من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وكان المعنى فيه أن الحارس أفضل من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وكان المعنى فيه أن الحارس يسعى لإزالة الخوف عن المسلمين والذي يحيي ليلة القدر يسعى في فكاك نفسه وقد روي هذا مرفوعاً في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لمقام ساعة في سبيل الله تعالى أفضل من إحياء ليلة القدر عند الحجر الأسود وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة أعين لا تمسها نار جهنم : عين فقئت في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله " وقوله : " لا يئوب إلى أهله " أي يستشهد في وجهه فلا يرجع إلى أهله وفيه إشارة إلى أن الحارس في أرض الحرب يعرض نفسه لدرجة الشهادة لأنه سلم ما باع من الله تعالى على ما قال الله تعالى : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } التوبة : 111 .
قال محمد رحمه الله : أخبرنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال : من صام يوماً في سبيل الله بعدت منه جهنم مسيرة خمسين عاماً للراكب المجد لا يفتر ولا يعرس لا يفتر أي لا يضعف ولا يعرس أي لا ينزل في آخر الليل وهو التعريس والمراد من الحديث أن يجمع بين الصوم والجهاد فالطاعات كلها سبيل الله تعالى لأنه يبتغي بها رضاء الله تعالى غير أن عند الإطلاق يفهم منه الجهاد والجمع بينهما أشد على النفس فيكون أفضل على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال قال : " أحمزها " أي أشقها على البدن وهذا أبلغ في قهر النفس الأمارة وما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كره الجمع بين الصوم والمشي في طريق مكة@(1/9)
فذلك للتحرز عن الجدال في الحج وإليه أشار أبو حنيفة رحمه الله فقال : إذا جمع بينهما ساء خلقه وجادل رفيقه والجدال في الحج منهي عنه وأما إذا أمن ذلك فهو أفضل .
ثم بين مسافة تبعيد جهنم خمسين عاماً .
وذكر بعد هذا عن عمرو بن عنبسة السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام يوماً في سبيل الله تعالى بوعد من النار مسيرة مائة عام " وفي هذا اللفظ للعلماء قولان : أحدهما الإجراء على ظاهرة أن جهنم تبعد منه ويؤيد هذا بقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } الأنبياء : 101 - 102 لأن المراد من التبعيد الأمن منه لأن من كان أبعد عن جهنم كان آمنا منها والتفاوت بين الحديثين في التقدير بحسب التفاوت في نية المجاهد أو يكون المراد هو المبالغة في بيان تبعيد جهنم منه لا حقيقة المسافة وذكر السبعين والخمسين والمائة للمبالغة في لسان العرب وأيد هذا قوله تعالى { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } التوبة : 80 وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يهتف بأهل مكة فيقول : يا أهل مكة يا أهل البلدة ألا التمسوا الأضعاف المضاعفة في الجنود المجندة والجيوش السائرة ألا وإن لكم العشر ولهم الأضعاف المضاعفة وهذه خطبة الاستنفار لتحريض الناس على الجهاد وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } الأنفال : 65 ثم اقتدى به عمر رضي الله عنه في تحريض أهل مكة حين تقاعدوا عن الجهاد وفي الحديث دليل على أن المجاورة بمكة مشروع ينال بها الثواب أشار إليه عمر رضي الله عنه في قوله : ألا إن لكم العشر ولكن الثواب في الجهاد في سبيل الله أعظم فحثهم على الجهاد ببيان تحصيل أعلى الدرجات لكي لا يتخلفوا عن الجهاد معتمدين على أنهم جيران بيت الله وسكان حرمه واعتمد فيما ذكر من الأضعاف المضاعفة على قوله : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي@(1/10)
سَبِيلِ اللّهِ } إلى قوله { وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء } البقرة : 261 فإذا كان هذا موعوداً لمن ينفق المال في سبيل الله فمن يبذل نفسه في سبيل الله فهو أولى
والذي يروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره المجاورة بمكة فتأويله معنيان : أحدهما أنه من كثر مقامه بمكة يهون البيت في عينه لكثرة ما يراه أو لكي لا يبتلى في الحرم بارتكاب الذنوب قال الله تعالى { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الحج : 25 .
وذكر بعد هذل عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تزال هذه الأمة على شرعة من الإسلام حسنة وفي رواية : شريعة من الإسلام هم فيها لعدوهم قاهرون وعليهم ظاهرون ما لم يصبغوا الشعر ويلبسوا المعصفر ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم فإذا فعلوا ذلك كانوا قمناً أن ينتصف منهم عدوهم في الحديث بيان النصرة لهذه الأمة ما داموا مشتغلين بالجهاد .
قال الله تعالى : { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ } محمد : 7 وفيه بيان أنهم إذا اشتغلوا بالدنيا واتبعوا اللذات والشهوات وأعرضوا عن الجهاد يظفر عليهم عدوهم ومعنى قوله : " كانوا قمناً " أي خليقاً وجديراً ثم كنى عن اتباع الشهوات بأن يصبغوا الشعر يريد به الخضاب لترغيب النساء فيهم فأما نفس الخضاب فغير مذموم بل هو من سيماء المسلمين قال عليه السلام : " غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود " وقال الراوي : رأيت أبا بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته كأنها ضرام عرفج بنصب العين ورفعه مرويان يريد به أنه كان مخضوب اللحية فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين الأعداء كان ذلك محموداً منه .
فإما إذا فعل ذلك في حق النساء فعامة المشايخ على الكراهة وبعضهم جوز ذلك وقد روي عن أبي يوسف أنه قال : كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها .
وقوله : ويلبسوا المعصفر فيه دليل على أن لبس الثوب الأحمر مكروه وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر وعن القراءة في الركوع وقال عليه السلام : إياكم@(1/11)
والحمرة فإنها زي الشيطان " وفي حديث سعد : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ملحفة حمراء فأعرض عني بوجه فذهبت وأحرقتها ثم رآني فقال : " ما فعلت بالملحفة قلت : أحرقتها حين رأيتك أعرضت عني فقال : هلا أعطيتها بعض أهلك " وما روي بعد هذا من حديث البراء ابن عازب رضي الله عنه أنه قال : ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما كان ذلك في الابتداء ثم كره استعمالها للرجال بعد ذلك وما روي عن الشعبي أنه كان يلبس المعصفر فإنما فعل ذلك فراراً من القضاء فإنهم أرادوه للقضاء مراراً فلبس المعصفر ولعب الشطرنج وكان يخرج مع الصبيان لنظر الفيل حتى رأوا ذلك منه فتركوه وقوله : " ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم " أي التزموا الخراج واشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد فظاهر هذا اللفظ حجة لمن كره الاشتغال بالزراعة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى شيئاً من آلات الحراثة في بيت قوم فقال : " ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا حتى كر عليهم عدوهم " ولكن تأويله عندنا إذا أعرضوا عن الجهاد فأما بدون ذلك فلا بأس بالاشتغال بالزراعة فأن النبي صلى الله عليه وسلم ازدرع بالجرف وهو اسم موضع ولا بأس بالتزام الخراج وتملك الأراضي الخراجية فإن الصغار في خراج الرؤوس لا في خراج الأراضي فإن ابن مسعود والحسن بن علي وأبا هريرة كانت لهم أراض خراجية بسواد العراق وكانوا يؤدون الخراج منها .
وذكر محمد رحمه الله بعد هذا عن عثمان رضي الله عنه أنه قام في أهل المدينة فقال : يا أهل المدينة ! خذوا بحظكم من الجهاد في سبيل الله ألا ترون إلى إخوانكم من أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق فوالله ليوم يعمله أحدكم في سبيل الله تعالى خير له من ألف يوم يعمله في بيته صائماً قائماً لا يفطر ولا يفتر ومعنى قوله : قام في أهل المدينة أي قام خطيباً هذه أيضاً كانت خطبة استنفار لأهل المدينة كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل مكة وفيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف صادقاً بالله وإن لم يكن له حاجة إلى ذلك فإن عثمان رضي الله عنه حلف على ما ذكر من الوعد للمجاهد في سبيل الله وكان مستغنياً عن ذلك@(1/12)
ثم عيرهم عثمان بإخوانهم من أهل الشام ومصر والعراق فإنهم لم يتقاعدوا عن الجهاد تحريضاً لهم على الجهاد ومعنى هذا التفصيل ما بينا أن في الجهاد إعزاز الدين وقهر المشركين ودفع شرهم عن المسلمين وذلك غير ظاهر في عمل من يقيم في أهله بالمدينة .
وذكر بعد هذا عن طاوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى بعثني بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت رمحي أو ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم والمراد بقوله : بعثني بالسيف أي بعثني بالقتال في سبيل الله كما قال عليه السلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني ماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولأن القتال في حق غيره من الأنبياء لم يكن مأموراً به وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وصفته في التوارة : نبي الملحمة عيناه حمراوان من شدة القتال وفي صفة أمته : أنا جيلهم في صدورهم وسيوفهم على عواتقهم وإليه أشار في قوله عليه السلام : السيوف أردية الغزاة وفي حديث سفيان بن عيينة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف : سيف لقتال المشركين باشر به القتال بنفسه وسيف لقتال أهل الردة كما قال تعالى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } الفتح : 16 فقاتل أبو بكر رضي الله عنه بعده في حق ما نعي الزكاة وسيف لقتال أهل الكتاب والمجوس كما قال تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } إلى ان قال : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 29 فقاتل به عمر رضي الله عنه وسيف لقتال المارقين كما قال تعالى : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الحجرات : 9 فقاتل به علي رضي الله عنه على ما روي عنه أنه قال : أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين .
وقوله : بين يدي الساعة أي بالقرب من القيامة .
قال الله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } القمر : @(1/13)
1 وقيل في تفسير قوله : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } النازعات : 43 : فيم السؤال عن الساعة وأنت من أشراطها ومعنى قوله : وجعل رزقي تحت رمحي أو ظل رمحي قيل : هذا كان في ابتداء الإسلام كان الغازي إذا جنه الليل فركز رمحه عند قوم فعليهم أن يضيفوه فإن لم يفعلوا ذلك حتى أصبح كان متمكناً من أن يغرمهم ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام : " لا يحل ما لامرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه " وقيل المراد به حل الغنائم لهذه الأمة فإنها ما كانت تحل لأحد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ذلك في قوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً } الأنفال : 69 وقال صلى الله عليه وسلم : خصصت بخمس وذكر من جملتها حل الغنائم ولم يرد بالظل حقيقة الظل لكن أراد به الأمان ومنه قوله : السلطان ظل الله في الأرض يريد به الأمان ومعنى قوله : وجعل الذل والصغار على من خالفني أي ذل الشرك لقوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } المنافقون : 8 فهذا بيان الذل على المشركين وقيل : المراد من الصغار صغار الجزيرة على ما قال تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 29 وقوله : من تشبه بقوم فهو منهم أي تشبه بالمجاهدين في الخروج معهم والسعي في بعض حوائجهم وتكثير سوادهم فيكون منهم في استحقاق الغنيمة في الدنيا والثواب في الآخرة وفي مثل هذا قال عليه السلام : هم القوم لا يشقى جليسهم في حق العلماء .
وذكر عن مكحول قال : لما قتل ابن رواحة قال عليه السلام : كان أولنا فصولاً وآخرنا قفولاً وكان يصلي الصلاة لوقتها في الحديث دليل على أنه لا بأس بالثناء على الميت بما هو فيه وإنما يكره مجاوزة الحد بذكر ما لم يكن فيه ومعنى قوله : أولنا فصولاً أي من الصف بالخروج إلى المبارزة وآخرنا قفولاً أي رجوعاً عن القتال فبين شدة رغبته في الجهاد وهو مندوب إليه قال تعالى : { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } البقرة : 148 وقوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } آل عمران 133 وبين شدة صبره على القتال حيث كان آخرهم رجوعاً وهو صفة@(1/14)
مدح قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } آل عمران : 200 ثم بين أنه كان يصلي الصلاة لوقتها أي مع حرصه على القتال كان يحفظ الصلاة لوقتها وهو أشق ما يكون على المجاهد وهو صفة مدح قال الله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } البقرة : 238 وجاء في تأويل قوله تعالى : { إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } مريم : 87 أنه المحافظة على الصلوات في وقتها والحديث حجة على الشافعي فإنه يجيز الجمع بين الصلاتين في السفر والجهاد أبداً يكون في حال ما يكون مسافراً ومع هذا مدحه على محافظة الصلوات في وقتها ولو كان الجمع جائزاً لما استقام ذلك .
وذكر بعد هذا عن معبد قال : إذا زرعت هذه الأمة نزع منهم النصر وقذف في قلوبهم الرعب وروى بعده عن محمد بن كعب قال : قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى { إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } آل عمران : 149 أهو التعرب قال : لا ولكنه الزرع وتأويل الحديثين واحد فتأويل الأول : إذا زرعت هذه الأمة يعني إذا اشتغلوا بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد أصلاً نزع منهم النصر فأما إذا اشتغل البعض بالزراعة والبعض بالجهاد فلا بأس به وينبغي أن يكون كذلك حتى يتقوى المقاتل بما يكتسبه الزارع ويأمن الزراع بما يذب المقاتل عنه .
قال عليه السلام : المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً وهذا لأن الكل إذا اشتغلوا بالجهاد لا يتفرغون للكسب فيحتاجون إلى ما يأكلون ويعلفون دوابهم فلا يجدون فيعجزون عن الجهاد فيعود على موضوعه بالنقص ثم فهموا من معنى الآية التعرب وهو المقام بالبادية وترك الهجرة للقتال وكأنهم اعتمدوا في ذلك ظاهر قوله تعالى : { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } التوبة : 97 فبين لهم علي رضي الله عنه أن المراد هو الإعراض عن الجهاد بالاشتغال بالزراعة وأيد هذا التأويل قوله تعالى : { إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ } آل عمران : 149 وهذا لأن طاعة الكفار فيما يطلبون منا وهم يطلبون منا الإعراض عن الجهاد لا نفس الزراعة .
وذكر عن الحسن البصري أن رجلاً وضع قرناً@(1/15)
له أي جعبة وقام يصلي فاحتمل رجل قرنه فلما انصرف نظر فلم ير قرنه فأفزعه ذلك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا يحل لامرئ مسلم أن يروع أخاه المسلم منهم من يروي : فاحتل أي حله ليخرج بعض ما فيه ومنهم من يروي : فاحتل بمعنى احتال والأصح الأول والمعنى أنه رفعه على وجه لم يشعر به أحد وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله على وجه المزاح لا على قصد السرقة ولكن مع هذا قال ذلك لأنه حين لم ير قرنه أفزعه ذلك والذي مازحه هو الذي أفزعه فقال : لا يحل لامرئ مسلم أن يروع أخاه المسلم فيه بيان عظم حرمة المؤمنين وعظم حرمة المجاهدين في سبيل الله تعالى وقد ورد في نظيره آثار مشهورة : عن الحسن أن رجلاً سل سيفه على رجل فجعل يفرقه فبلغ ذلك الأشعري فقال : لا زالت الملائكة تلعنه حتى غمده وفي رواية : أغمده يحتمل أنه أراد به أبا مالك الأشعري والأصح أنه أراد أبا موسى الأشعري وهو كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هذا ليس من باب ما يعرف بالرأي وفيه دليل على عظم وزر من روع مسلماً بأن شهر عليه سلاحه وإن لم يكن من قصده أن يضربه وجاء في الحديث : من شهر سلاحاً على مسلم فقد أطل دمه أي أهدره وفي قوله : مازالت الملائكة تلعنه إشارة إلى هذا فإن الملائكة يستغفرون للمؤمن وإنما يلعنونه إذا تبدلت صفته فإنما يحمل على من يفعل ذلك مستحلاً قتل المسلم فيصير كافراً أو قاصداً قتله لإيمانه .
قال : وذكر عن سليمان بن بريدة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ما من رجل يخالف إلى امرأة رجل من المجاهدين إلا وقد وقف يوم القيامة فيقال له : هذا خانك في أهلك فخذ من عمله ما شئت فما ظنكم فيه بيان عظيم حرمة المجاهدين لأن زيادة حرمة النساء لزيادة حرمة الأزواج وإليه أشار الله تعالى في قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } الأحزاب : 6 وفي قوله تعالى : { صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا@(1/16)
مَرَّتَيْنِ } الأحزاب : 31 ثم إنما استحق هذا الوعيد لأن المجاهد خرج من بيته وجعل أهله أمانة عند القاعد وعند الله تعالى فإذا خان في أهله فقد خان في أمانة الله تعالى ولأنه سعى إلى قطع الجهاد لأن المجاهد إذا علم أن غيره يخونه في أهله لا يخرج ولا يحل له الخروج من غير ضرورة لأن حفظ أهله واجب عليه عيناً والقتال ليس بواجب عليه عيناً ومتى لم يخرج ينقطع الجهاد فيكون هو ساعياً في قطع الجهاد وتقوية المشركين على المسلمين فلهذا قال إنه يحكم يوم القيامة في عمله يأخذ منه ما شاء ثم قال : ما ظنكم يعني : أتظنون أنه يبقي له شيئاً من عمله مع حاجته إليه في ذلك الوقت وبيان هذا في حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتؤذوا المجاهدين فإن الله تعالى يغضب لهم كما يغضب للمرسلين ويستجيب لهم كما يستجيب للمرسلين ومن آذى مجاهداً في أهله فمأواه النار ولا يخرجه منها إلا شفاعة المجاهد له إن فعل ذلك .
قال : وذكر بعد ذلك عن معاوية بن قرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في كل أمة رهبانية ورهبانية أمتي الجهاد ومعنى الرهبانية هو التفرغ للعبادة وترك الاشتغال بعمل الدنيا وكان ذلك في الأمم الماضية بالاعتزال عن الناس والمقام في الصوامع فقد كانت العزلة فيهم أفضل من العشرة ثم نفى ذلك رسول الله عليه السلام بقوله : لا رهبانية في الإسلام وبين طريق الرهبانية لهذه الأمة في الجهاد لأن فيه العشرة مع الناس والتفرغ عن عمل الدنيا والاشتغال بما هو سنام الدين فقد سمى رسول الله عليه السلام الجهاد سنام الدين وفيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وهو صفة هذه الأمة وفيه تعرض لأعلى الدرجات وهو الشهادة فكان أقوى وجوه الرهبانية .
وذكر بعد هذا عن أبي قتادة أن رسول الله قام يخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر الجهاد فلم يدع شيئاَ أفضل من الجهاد إلا الفرائض يريد به الفرائض التي يثبت فرضها عيناً وهي الأركان@(1/17)
الخمسة والجهاد فرض أيضاً لكنه فرض كفاية والثواب بحسب وكادة الفريضة فما يكون فرضاً عيناً فهو أقوى فلهذا استثنى الفرائض من جملة ما فضل رسول الله عليه السلام الجهاد عليه .
قال : فقام رجل فقال : يا رسول الله ! أرأيت من قتل في سبيل الله هل ذاك مكفر عنه خطاياه قال : فسكت ساعة حتى ظننا أنه قد أوحي إليه ثم قال : نعم إذا قتل محتسباً صابراً مقبلاً غير مدبر إلا الدين فإنه مأخوذ به كما زعم جبريل عليه السلام فيه بيان علو درجة الشهداء والشهادة حيث جعل الله الشهادة سبباً لتمحيص الخطايا وقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال : من استشهد في سبيل الله فأول قطرة تقطر من دمه تغفر له جميع ذنوبه وبالقطرة الثانية يكسى حلة الكرامة وبالقطرة الثالثة يزوج الحور العين وهو معنى الحديث المعروف : السيف محاء الذنوب إلا الدين ومن علو حال الشهداء ما قال رسول الله عليه السلام يوم أحد : إن الله جعل أرواح من استشهد من إخوانكم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ثم تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش فلما أصابوا طيب مأكلهم ومشربهم قالوا : ليت إخواننا يعلمون ما نحن فيه فيجدون في الجهاد فيقول الله تعالى : إني مبلغهم عنكم وهو تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا } آل عمران : 169 ثم هذه الدرجة للشهيد إذا كان راغباً فيها وذلك بأن يكون محتسباً صابراً مقبلاً ثم في الحديث بيان شدة الأمر في مظالم العباد فإنه مع هذه الدرجة للشهيد بين أنه مطالب بالدين وأنه قال ذلك عن وحي فإنه قال : كما زعم جبريل عليه السلام ليعلم كل أحد أنه@(1/18)
لا بد من طلب رضا الخصم وقيل هذا كان في الابتداء حين نهى رسول الله عليه السلام عن الاستدانة لقلة ذات يدهم لعجزهم عن قضائه ولهذا كان لا يصلي على ميت مديون لم يخلف مالاً يقضي به دينه ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام : " من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كلاً أو عيالاً فهو علي " وقد ورد نظير هذا في الحج أن النبي عليه السلام دعا لأمته بعرفات فاستجيب له إلا المظالم فيما بينهم ثم دعا بالمشعر الحرام صبيحة الجمع
فاستجيب له حتى المظالم ونزل جبريل عليه السلام يخبره أن الله تعالى يقضي عن بعضهم حق بعض فلا يبعد مثل ذلك في حق الشهيد المديون فهذا معنى قولنا : إنه دخل فيه بعض اليسر .
وذكر بعد هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي عليه السلام فقال : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يريد عرض الدنيا فقال عليه السلام : " لا أجر له " فأعظم الناس ذلك فقالوا للرجل : عد لرسول الله لعلك لم تفقهه أي لم تفهمه فقال : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرض الدنيا فقال : لا أجر له ثم أعاد الثالثة فقال : لا أجر له فيه دليل على أنه لا بأس للسائل أن يكرر السؤال وأنه لا ينبغي للمجيب أن يضجر من ذلك فرسول الله عليه السلام لم ينكر عليه تكرار السؤال والصحابة أمروه بالإعادة مع أنهم كانوا معظمين له وكانوا لا يمكنون أحداً في ترك تعظيمه فعرفنا أنه ليس في إعادة السؤال ترك التعظيم .@(1/19)
ثم تأويل الحديث من وجهين : أحدهما أن يري الخارج من نفسه أنه يريد الجهاد ومراده في الحقيقة إصابة المال فهذا حال المنافقين في ذلك الوقت وهذا لا أجر له أو يكون المراد أن يخرج على قصد الجهاد ويكون معظم مقصوده تحصيل المال في الدينا لا نيل الثواب في الآخرة وفي حال مثله قال عليه السلام : ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو إلي امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه وقال للذي استؤجر على الجهاد بدينارين إنما لك دينارك في الدنيا والآخرة فأما إذا كان معظم مقصوده الجهاد وهو يرغب في ذلك في الغنيمة فهو داخل في جملة ما قال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } البقرة : 198 يعني التجارة في طريق الحج فكما أن هناك لا يحرم ثواب الحج فهاهنا لا يحرم ثواب الجهاد .
وقال : وعن خيثمة قال : أتيت أبا الدرداء رضي الله عنه فقلت : رجل أوصى إلي فأمرني أن أضع وصيته حيث تأمرني فقال : لو كنت أنا لكنت أضعها في المجاهدين في سبيل الله فهو أحب إلي من أن أضعها في الفقراء والمساكين وإنما مثل الذي ينفق عند الموت كمثل الذي يهدي إذا شبع فيه دليل أن الوصية بهذه الصفة صحيحة بأن تقول للوصي : ضع ثلث مالي حيث أحببت أو حيث أحبه فلان وفيه دليل أن الصرف إلى فقراء المجاهدين أولى من الصرف إلى غيرهم لأن فيه معنى الصدقة والجهاد بالمال وإيصال منفعة ذلك إلى جميع المسلمين بدفع أذى المشركين عنهم بقوته ثم بين أن مع هذا كله لا ينال هذا الموصي من الثواب ما كان يناله إن لو فعل بنفسه في حياته لأن في حياته كان ينفق المال في سبيل الله تعلى مع حاجته إليه وقد زالت حاجته بموته فهو كالذي يهدي إذا شبع وفي نظيره قال عليه السلام : أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر لا حتى إذا بلغت هذه وأشار إلى التراقي قلت : لفلان كذا ولفلان كذا لقد كان ذلك وإن@(1/20)
لم تقل .
وذكر بعد هذا عن مكحول أنه بلغه أن من لم يجاهد أو لم يعن مجاهداً أو لم يخلفه في أهله بخير أصابته قارعة قبل يوم القيامة والقارعة هي الداهية التي لا يحتملها المرء ولا يتمكن من ردها قال الله تعلى : { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } الرعد : 31 وفي هذا بيان فضيلة الجهاد ونيل الثواب بالإعانة للمجاهد وعظم وزر من خان المجاهد في أهله وكأن هذه الخصال الثلاثة يعني ترك الجهاد وترك إعانة المجاهدين والخيانة للمجاهد في أهله لا تجتمع إلا في منافق والوعيد المذكور لائق بحق المنافقين .
قال : وذكر عن الحسن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال ربكم : من خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي فأنا عليه ضامن أو هو علي ضامن إن قبضته أدخلته الجنة وإن رجعته رجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة " وفي الحديث بيان ما وعد الله تعالى للمجاهد في سبيله من الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة ولفظ الضمان المذكور في الحديث لبيان الموعود على سبيل المجاز والتوسع في العبارة ولا يجب لأحد على الله تعالى ضمان في الحقيقة فيكون دليلاً على أنه لا بأس بالتوسع بمثل هذه العبارة فيقال : إن الله ضمن الرزق لعباده أو يقال : رزق العباد على الله تعالى ويكون المراد به أنه وعد لهم ذلك وهو لا يخلف الميعاد .
قال : وذكر عن الحسن قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من المسلمين فقال : ضعفت عن الجهاد ولي مال فمرني بعمل إذا عملته كنت بمنزلة@(1/21)
المرابط قال : مر بالمعروف وانه عن المنكر وأعن الضعيف وأرشد الأخرق فإذا فعلت ذلك كنت بمنزلة المرابط في الحديث بيان علو درجة المرابط فإن الرجل إذا عجز عن ذلك طلب من رسول الله عليه السلام أن يرشده إلى ما يقوم مقام المرابط في الثواب وقد أرشده رسول اله عليه السلام إلى ذلك فيما قال لأن الجهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وهو الشرك وإعانة الضعيف من المسلمين بدفع أذى المشركين عنهم وإرشاد الأخرق وهو المشرك فمن فعل ذلك بحسب ما يقدر عليه بنفسه أو بماله فهو بمنزلة المرابط .
قال : وذكر بعد هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إذا تبايعتم العين واتبعتم أذناب البقر وكرهتم الجهاد ذللتم حتى يطمع فيكم عدوكم العين جمع عينة وهو نوع بيع أحدثه البخلاء من أكله الربا للتحرز عن محض الربا وقد بينا صورته في الجامع الصغير وإنما كره ابن عمر رضي الله عنهما لأن فيه إظهار البخل وترك الانتداب إلى ما ندب إليه الشرع من إقراض المحتاج وقوله : " واتبعتم أذناب البقر " أي اشتغلتم بالزراعة وتركتم الجهاد أصلاً وقد بينا أن ذلك سبب لطمع العدو في المسلمين وكرتهم عليهم فيذلون بذلك .
وذكر بعد هذا عن ضمرة ابن حبيب أن النبي عليه السلام قال : أعظم القوم أجراً خادمهم وفي الحديث حث على الرغبة في خدمة المجاهدين وتعهد دوابهم فمن فعل ذلك كان له مثل أجر المجاهدين مع استحقاق صفة السيادة في الدنيا قال عليه السلام : سيد القوم خادمهم هذا لأن المجاهد لا يتفرغ للجهاد إلا إذا كان له من يطبخ ويربط دابته فأما إذا لم يكن احتاج إلى أن يفعل بنفسه فيتقاعد عن الجهاد فكان الخادم سبباً للجهاد .
وذكر بعد هذا عن مجاهد قال : أردت الجهاد فأخذ ابن عمر بركابي فأبيت ذلك عليهن فقال :@(1/22)
أتكره لي الأجر فقد بلغنا أن خادم المجاهدين في أهل الدنيا بمنزلة جبريل في أهل السماء وذكر بعد هذا عن مجاهد عن تبيع وهو ابن امرأة كعب عن كعب قال : إذا وضع الرجل رجله في السفينة خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه المائد فيه كالمتشحط في دمه في سبيل الله والغريق فيه له مثل أجر شهيدين والصابر فيه كالملك على رأسه التاج قال محمد رحمه الله : وبه نأخذ فنقول : لا بأس بغزو البحر وهو أعظم أجراً من غيره ففي هذا دليل علي ان مراد كعب : إذا ركب السفينة على قصد الجهاد وما يقوله كعب فإما أن يقوله من الكتب المنزلة مما لم يظهر ناسخه في شريعتنا أو يقوله سماعاً ممن روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركوب السفينة على قصد الجهاد إنما كان أفضل لأنه أشد وأخوف وفيه تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله فينال به درجة الشهيد في تمحيص الخطايا وقوله : المائد فيه يعني المائل لميل السفينة عند تلاطم الأمواج فهذا كالمتشحط في دمه بعد ما استشهد في سبيل الله لأنه معاين سبب الهلاك آيس من نفسه على هذه الحالة والغريق فيه له مثل أجر شهيدين لأنه باذل نفسه مرتين حين ركب السفينة وحين غرقت وكل ذلك منه لابتغاء مرضاة الله والصابر فيه كالملك على رأسه التاج يعني إذا لم يندم على ما صنع مع ما عاين من سبب الغرق فقد تحقق فيه تسليم النفس فهو في الجنة كالملك وإنما شبهه بالملك لأن الملك ينال بعض شهواته والشهيد في الجنة ينال كل شهواته قال الله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } الزخرف : 71 وإذا ثبت جواز ركوب السفينة للجهاد ثبت ركوبها للحج بالطريق الأولى لأن فريضة الحج أقوى وكذلك لا بأس بركوبها على قصد التجارة إذا كان الغالب السلامة وهولا يمنع حق الله تعالى الذي يلزمه فيما يستفيد من المال .
قال : وذكر بعد هذا عن سهل بن@(1/23)
معاذ قال : عزوت مع عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولاية عبد الملك الصائفة والصائفة اسم للجيش العظيم الذين يجتمعون في الصيف ثم يغزون إذا دخل الخريف وطاب الهواء قال : فنزلنا على حصن سنان فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق فقال رجل : إني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً في الناس : " ألا من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له " معنى تضييق المنزل أن ينزل بالقرب من موضع نزول أخيه المسلم بحيث لا يبقى له المربط والمطبخ وموضع قضاء الحاجة وهذا منهي عنه لأن كل من نزل بموضع فهو أحق به على ما قال عليه السلام : " منى مناخ " من سبق فلا يتمكن من المقام في منزله إلا بما حوله من مواضع قضاء حاجتة فيكون ذلك حريماً لمنزله وكما لا يكون لغيره أن يزعجه عن منزله لا يكون له أن يقطع عنه مرافق منزله بالتضييق عليه ومعنى قطع الطريق أن ينزل على الممر أو بالقرب منه على وجه يتأذى به المارة ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزجر عن هاتين الخصلتين في الوعيد ما قال : إنه لا جهاد له أي لا ينال من ثواب المجاهدين ما يناله من يتحرز عن ذلك وهذا لأن الجهاد شرع لدفع الأذى عن المسلمين وهذا الحال مؤذ للمسلمين بفعله .
وذكر بعد هذا عن رجل من الكلاعيين اسم قبيلة من أصحاب معاذ بن جبل قال : إياكم وهذه السرابا فإنهم يجبنون ويغلون وعليكم بفسطاط المؤمنين وجماعتهم السرية اسم لعدد قليل يدخلون أرض الحرب سموا سرية لأنهم يسرون بالليل ويكمنون بالنهار@(1/24)
فكره الخروج معهم في الجهاد وبين أنهم يجبنون فيفرون لقلة عددهم إذا حزبهم أمر ويغلون إذا أصابوا شيئاً لأنهم لا يصدرون عن رأي أمير مطاع فيهم وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال : لا ينزلن في الخيل النفل يروى مخففا ومشدداً فإنهم إن يغنموا يغلوا وإن يقاتلوا يفروا .
والمراد العدد القليل الذين يخرجون من دار الإسلام متلصصين من غير أمر الأمير سماهم نفلاً لأن مقصودهم النفل وهو الغنيمة أو لأنهم يتنفلون في الخروج فإن الخروج إنما يلزمهم بأمر الإمام وأما الفسطاط المذكور في حديث معاذ فالمراد به الجيش العظيم سمي فسطاطاً وعسكراً لكثرة ما يستصحبونه من الفساطيط وفيه دليل على أنه ينبغي للغازي أن يختار الخروج مع هؤلاء لا مع أصحاب السرايا لقوله عليه السلام : " يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ في النار " .
وذكر بعده حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على الجهاد وبيان درجة الخارج للمبارزة بين الصفين وقد قدمنا في هذا الباب ما فيه كفاية .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا " .
كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : أشهد الله أنه قال ثلاثاً أشهد الله أي : بالله فيه بيان درجة الشهادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم تمناها لنفسه مع علو درجته وتمنى تكرار ذلك لنفسه مرة بعد أخرى ليتبين بذلك ما للشهيد عند الله من الدرجات وبيان ذلك في حديث أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يموت وله عند الله خير فيتمنى الرجوع إلى الدنيا وله الدنيا بما فيها إلا الشهيد " فإنه يتمنى الرجوع ليستشهد ثانياً من عظم ما ينال من@(1/25)
الدرجة وفي حديث جابر رضي الله عنه قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتماً فقال : مالك فقلت : استشهد أبي وترك ديناً وعيالاً فقال : " ألا أبشرك يا جابر ! إن الله تعالى كلم أباك كفاحاً أي شفاهاً فقال : تمن يا عبد الله فقال : أتمنى أن أحيا لأقاتل في سبيلك ثانياً فأقتل فقال : قد سبق مني القضاء بأنهم إليها لا يرجعون ولكني أبلغك الدرجة التي لأجلها تتمنى ما تتمنى " .
وذكر عن الحسن رحمه الله : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وفيهم ابن رواحة فغذا الجيش وأقام ابن رواحة ليشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته رآه فقال : يا ابن رواحة ألم تكن في الجيش قال : بلى ولكني أحببت أن أشهد معك الصلاة وقد علمت منزلهم فأروح فأدركهم فقال : والذي نفس محمد بيده لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم " وفيه حث على الجهاد والتبكير للخروج إلى الجهاد وأن من كان على عزم الخروج فلا ينبغي أن يتخلف عن أصحابه لأداء الصلاة بالجماعة ألا ترى أن النبي عليه السلام قال في حق ابن رواحة ما قال مع أن الصلاة خلف رسول الله أفضل وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " فهذا يؤيد ما قلنا .
وعن الحسن قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب فقال : يا خير@(1/26)
الناس فلم يفهم عمر رضي الله عنه ذلك فقال : ما تقول فقالوا له : يقول : يا خير الناس فقال له عمر : ادن إلي لست بخير الناس ألا أنبئك بخير الناس قال : من هو يا أمير المؤميني قال عمر رضي الله عنه : هو رجل من أهل البادية صاحب صرمة إبل أوغنم قدم بإبله أو غنمه إلى مصر من الأمصار فباعها ثم أنفقها في سبيل الله فكان مسلحة بين المسلمين وبين عدوهم فذاك خير الناس والصرمة هي القطعة المسلحة هي الثغر الذي يوضع فيه السلاح أو من يحمل السلاح ومنه سمي الرجل الذي يحمل السلاح بين يدي السلطان مسلحة وإنما قال عمر : لست بخير الناس إظهارً للتواضع فقد كان هو خير الناس في أيام خلافته بعد وفاة الصديق رضي الله عنه وهو نظير ما يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول في حال خلافته : أقيلوني فلست بخيركم وقد كان خير الناس بعد النبيين والمرسلين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما جعل عمر رضي الله عنه صاحب الصرمة خير الناس لأنه بذل من نفسه وماله لمنفعة المسلمين وخير الناس من نفع الناس وقد قال عيه السلام : " خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها " .
ثم قال الرجل : يا أمير المؤمنين إني رجل من أهل البادية وإني أجفو عن أشياء من العلم فعلمني مما علمك رسول الله فقال عمر :@(1/27)
أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال : بلى قال : وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال : بلى قال : عليك بالعلانية وإياك والسر عليك بكل عمل إذا اطلع عليه منك لم يفضحك وإياك وكل عمل إذا اطلع عليه منك شانك وفضحك قوله : أجفو عن أشياء أي أجهل ولهذا سمي الذين يسكنون القرى والمفاوز أهل الجفاء لغلبة الجهل عليهم فبين له عمر رضي الله عنه بما ذكره أنه عالم وليس بجاهل فكأنه اعتمد قوله تعالى : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } آل عمران : 18 والمراد المؤمنون ومعنى قوله : " عليك بالعلانية " أي بسلوك الطريق الجادة وهو ما عليه جماعة المسلمين والتجنب عن المذاهب الباطلة وهو معنى قوله عليه السلام : عليكم بدين العجائز والسر : ما لا يعرفه جماعة المسلمين وقيل : معناه عليك في الصحبة مع الناس باتباع العلانية والاكتفاء بما يظهر لك من حالهم وعليك في معاملة نفسك بكل عمل إذا اطلع عليه منك لم يشنك يعني لا تكون سريرتك مخالفة لعلانيتك وما كنت تمتنع منه إذا كنت مع الناس استحياء منهم فامتنع منه إذا خلوت استحياء من الله تعالى ومن لم يفعل ذلك شانه الله وفضحه .
ختم محمد رحمه الله الباب بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من مات مرابطاً مات شهيداً يعني له من الثواب ما للشهيد لأنه بذل نفسه لابتغاء مرضاة الله تعالى صابراً على المرابطة حتى أتاه اليقين والله المعين .@(1/28)
باب وصايا الأمراء
روي حديث ابن بريدة عن أبيه برواية أبي حنيفة رحمه الله أن النبي عليه السلام كان إذا بعث جيشاً أو سرية قال لهم : " اغزوا باسم الله " وقد بدأ محمد رحمه الله السير الصغير بهذا الحديث .
وقد بينا فوائد الحديث هناك ثم بين معنا قوله عليه السلام في آخر هذا الحديث : " وإن أرادوكم ن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم " أنه إنما كره ذلك لا على وجه التحريم بل للتحرز عن الإخفار عند الحاجة إلى ذلك فكان الأوزاعي يقول : لا يجوز إعطاء ذمة الله للكفار ويتمسك بظاهر هذا الحديث فمقتضى مطلق النهي حرمة النهي عنه وذكر هذا اللفظ في حديث يرويه علي رضي الله عنه بطريق أهل البيت أنه قال : لا تعطوهم ذمة الله ولا ذمتي فذمتي ذمة الله وإنما كره لهم عندنا لمعنى في غير المنهي عنه وهو أنهم قد يحتاجون إلى النقض لمصلحة يرونها في ذلك وأن ينقضوا عهودهم فهو أهون من أن ينقضوا عهد الله وعهد رسوله وقد أشار إلى ذلك في آخر الحديث فقال : فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير من أن تخفروا ذمة الله تعالى والذمة هي العهد قال الله تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } التوبة : 10 ومنه سميت الذمة للآدمي فإنه محل الالتزام بالعهد والمراد بذممهم وذمم آبائهم الحلف والمحالفة التي@(1/29)
كانت بينهم في الجاهلية ومعنى الإخفاء رهو نقض العهد يقال : خفروا إذا عاهدوا وأخفروا إذا نقضوا العهد وذلك لا بأس به عند الحاجة إليه قال الله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } الأنفال : 58 منكم ومنهم في العلم وذلك للتحرز عن الغدر وفي قوله : { بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 1 ما يدل على ذلك وأيد ما قلنا قوله عليه السلام : ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته وقال في تلك الجملة : رجل أعطى ذمتي ثم خفر ورجل باع حراً وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً ولم يعطه أجره ففيه بيان أنه لا بأس بإعطاء ذمته ولكن يحرم الغدر وأمراء الجيوش كانوا يعطون الأمان بالله ورسوله ولم ينكر عليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فدل أنه لا بأس به .
ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان على جيش فخرج معه يمشي وهو يوصيه فقال : يا خليفة رسول الله أنا الراكب وأنت الماشي فأما أن تركب وإما أن أنزل فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما أنا بالذي أركب ولا أنت بالذي تنزل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله الحديث فيه دليل على أنه ينبغي للمرء أن يغتنم المشي في تشييع الغزاة على أي صفة كان كما فعله الصديق رضي الله عنه وروي أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من اغبرت قدماه في سبيل الله وجبت له الجنة وفي حديث أنس رضي الله عنه : ما اجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف مسلم .
وذكر محمد بعد هذا حديث أبي بكر رضي الله عنه@(1/30)
بطريق آخر أنه أتي براحلته ليركب فقال : بل أمشي فقادوا راحلته وهو يمشي وخلع نعليه وأمسكهما بإصبعيه رغبة أن تغبر قدماه في سبيل الله وإنما فعل ذلك أبو بكر رضي الله عنه هذا اقتداء برسول الله عليه السلام فإنه حين بعث معاذاً إلى اليمن شيعه ومشى معه ميلاً أو ميلين أو ثلاثة أميال ونظير هذا ما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه كان يمشي في طريق الحج ونجائبه تقاد إلى جنبه فقيل له : ألا تركب يا ابن رسول الله عليه السلام فقال : لا إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسهما نار جهنم " فالمستحب لمن يشيع الحاج أو الغزاة أن يفعل كما فعله أبو بكر رضي الله عنه .
ثم قال : إني موصيك بعشر فاحفظهن : إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع فذرهم وما فرغوا له أنفسهم وبه يستدل أبو يوسف ومحمد رضي الله عنهما في أن أصحاب الصوامع لا يقتلون وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً و عن أبي يوسف رحمه الله قال : سألت أبا حنيفة عن قتل أصحاب الصوامع فرأى قتلهم حسناً والحاصل أن هذا إذا كانوا ينزلون إلى الناس ويصعد الناس إليهم فيصدرون عن رأيهم في القتال يقتلون فإما إذا أغلقوا أبواب الصوامع على أنفسهم فإنهم لا يقتلون وهو المراد في حديث أبي بكر رضي الله عنه لتركهم القتال أصلاً وهذا لأن المبيح للقتل شرهم من حيث المحاربة فإذا أغلقوا الباب على أنفسهم اندفع شرهم مباشرة وتسبيباً فإما إذا كان لهم رأي في الحرب وهم يصدرون عن رأيهم فهم محاربون تسبيباً فيقتلون .
قال : وستلقى أقواماً قد حلقوا أوساط رءوسهم فافلقوها بالسيف والمراد : الشمامسة وهم بمنزلة العلوية فينا وهم أولاد هارون عليه السلام فقد أشار@(1/31)
في هذا الحديث بطريق آخر : وتركوا شعوراً كالعصائب يصدر الناس عن رأيهم في القتال ويحثونهم على ذلك فهم أئمة الكفر قتلهم أولى من قتل غيرهم وإليه أشار في هذا الحديث بطريق آخر فقال : فاضربوا مقاعد الشياطين منها بالسيوف أي في أوساط رءوسهم المحلوقة والله لأن أقتل رجلاً منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم قال الله تعلى : { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } التوبة : 12 والمراد بمقاعد الشياطين شعر رءوسهم وذلك يكون في الرأس كما قال أبو بكر رضي الله عنه في إقامة الحد : اضربوا الرأس فإن الشيطان في الرأس .
قال : ولا تقتلن مولوداً وما من أحد إلا وهو مولود لكن المراد هو الصبي سماه مولوداً لقرب عهده بالولادة والمراد به إذا كان لا يقاتل فسره في الطريق الآخر فقال : لا تقتلن صغيراً ضرعاً .
قال : ولا امرأة والمراد به إذا كانت لا تقاتل على ما روي أن النبي عليه السلام مر بامرأة مقتولة فقال : " هاه ما كانت هذه تقاتل أدرك خالداً فقل له : لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً " .
قال : ولا شيخاً كبيراً وفي رواية : فانياً يعني إذا كان لا يقاتل ولا رأي له في ذلك فأما إذا كان يقاتل أو يكون له رأي في ذلك فإنه يقتل على ما روي أن النبي عليه السلام أمر بقتل دريد بن الصمة وكان ذا رأي في الحرب فأشار عليهم أن يرفعوا الظعن إلى علياء بلادهم وأن يلقى الرجال العدو بسيوفهم على متون الخيل فلم يقبلوا رأيه وقاتلوا مع أهاليهم وكان ذلك سبب انهزامهم وفيه يقول دريد بن الصمة .
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد فلما كان ذا الرأي في الحرب قتله النبي عليه السلام .
قال : ولا تعقرن شجراً بدا ثمره ولا تحرقن نخلاً ولا تقطعن كرماً وبظاهر الحديث استدل الأوزاعي فقال : لا يحل للمسلمين أن يفعلوا شيئاً مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب لأن ذلك فساد والله لا يحب الفساد واستدل بقوله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ@(1/32)
لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } البقرة : 205 ولما روي في حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذا في وصاياه لأمراء السرايا ذكر أبو الحسن الكرخي الحديث بطوله وقال فيه : إلا شجراً يضركم أي يحول بينكم وبين قتال العدو واستدل أيضاً بما روي في الحديث : " أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائه : من أراد أن يعتبر بملكوت الأرض فلينظر إلي ملك آل داود وأهل فارس فقال ذلك النبي : أما أهل داود فهم أهل لما أكرمتهم به فمن أهل فارس فقال : : إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وإذا تبين أن السعي في العمارة محمود تبين أن السعي في التخريب مذموم ولكنا نقول : لما جاز قتل النفوس وهو أعظم حرمة من هذه الأشياء لكسر شوكتهم فما دونه من تخريب البنيان وقطع الأشجار لأن يجوز أولى .
وبيان هذا في قوله تعالى : { وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } التوبة : 120 وتأويل حديث أبي بكر ما أشار إليه محمد رحمه الله في الكتاب بعد هذا .
أنه علم بإخبار النبي عليه السلام أن الشام تفتح وتصير للمسلمين فنهاهم عن التخريب وقطع الأشجار على ما بينه بعد هذا وهو تأويل الحديث المروي عن النبي عليه السلام أيضاً ألا ترى أنه نصب المنجنيق على حصن ثقيف وفيه من التخريب ما لا يخفى .
قال : ولا تذبحن بقرة ولا شاة ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكل لما روي أن النبي عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله وفي الحديث دليل على أنه يجوز للغانمين تناول الطعام والعلف في دار الحرب وأن ذبح المأكول للأكل من هذه الجملة .
ثم محمد رحمه الله أعاد هذا الحديث بطريق آخر وزاد في آخره : ولا تغلن وفيه بيان حرمة الغلول وهو اسم@(1/33)
لأخذ بعض الغانمين شيئاً من الغنيمة سراً لنفسه سوى الطعام والعلف وذلك حرام قال الله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } آل عمران : 168 وقال عليه السلام : " الغلول من جمر جهنم " .
قال : ولا تجبنن وهذا لقوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا } آل عمران : 139 أي : ولا تضعفوا عن القتال وإظهار الغزاة الجبن لضعفهم عن القتال .
قال : ولا تفسدن ولا تعصين قيل : معناه : ولا تعصيني فيما أمرتك به ففائدة الوصية إنما تظهر بالطاعة وقيل : معناه : إن كنت تطلب النصرة من الله تعالى فلا تعصه .
ثم أعاد محمد رحمه الله الحديث بطريق ثالث برواية عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي قال : لما جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جيوش على بعضها أمر شرحبيل بن حسنة وعلى بعضها يزيد بن أبي سفيان وعلي بعضها عمرو بن العاص رضوان الله عليهم وأمرهم بأن يخرجوا ويجتمعوا في بيار بني شرحبيل وهي على ستة أميال من المدينة وفيه دليل على أن الإمام إذا أراد أن يجهز جيشاً ينبغي له أن يأمرهم بأن يعسكروا خارجاً من البلدة في موضع معلوم ليجتمعوا فيه لأن ارتحالهم من ذلك الموضع بعدما اجتمعوا فيه أيسر من ارتحالهم من بيوتهم جملة .
ثم أتاهم أبو بكر رضي الله عنه وصلى بهم الظهر ثم قام فيهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : إنكم تنطلقون إلى أرض الشام وهي أرض سبعة بالسين وفسروه بكثرة السباع المؤذية فيها وهو تصحيف@(1/34)
شبعة أي : كثيرة النعم بها يشبع المرء من كثرة ما يرى من النعم فكأنه رغبهم في التوجه إليها فقال : إنكم تنتقلون من الجوع واللأواء بالمدينة إلى مثل هذه الأرض المخصبة .
قال : وإن الله ناصركم وممكن لكم حتى تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم الله أنكم إنما تأتونها تلهياً وإنما قال ذلك سماعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد جاء في حديث معروف عن النبي عليه السلام قال : " إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر وبهذا يتبين أنه إنما نهاهم عن التخريب وقطع الأشجار لعلمه أن ذلك كله يصير للمسلمين وإنما كره لهم أن يأتوها تلهياً لأنهم خرجوا للجهاد والجهاد من الدين قال الله تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا } الأنعام : 70 .
قال : وإياكم والأشر ورب الكعبة لتأشرن والأشر : نوع طغيان يظهر لمن استغنى قال الله تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } العلق : 6، 7 فلهذا أقسم أبو بكر رضي الله عنه أنهم يبتلون بذلك لكثرة ما يصيبون من الأموال مع نهيه إياهم عن ذلك ثم الحديث إلى أخره مذكور في الأصل إلى أن قال : ثم إذا أنا انصرفت من مقامي هذا فاركبوا ظهروركم ثم صفوا إلي صفاً واحداً حتى آتيكم وهكذا ينبغي للإمام أن يفعل إذا عرض الجيش .
قال : فمر على أولهم حتى أتى على آخرهم يسلم عليهم ويقول : اللهم اقبضهم بما قبضت به بني إسرائيل بالطعن والطاعون انطلقوا موعدكم الله وتأويل قوله هذا أنه حثهم على أن يخرجوا لا على قصد الرجوع فإن تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله به يتم ودعا لهم بالشهادة في قوله : اللهم اقبضهم بما قبضت به بني إسرائيل وقيل : مراده ما قال رسول الله عليه السلام : " فناء أمتي@(1/35)
بالطعن والطاعون وقد كان يكثر ذلك بالشام فسأل أبو بكر رضي الله عنه لهم درجة الشهادة إن ابتلوا بذلك فيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يدعو لغيره بالشهادة لأنه وإن كان دعاء بالموت صورة فهم دعاء بالحياة معنى .
وبين أبو بكر أن هذا آخر العهد بلقائهم فأما إن كان مراده الإخبار بقرب أجله أو الإخبار بأنهم لا يرجعون إليه فإنه لا يلقاهم قبل القيامة .
قال : فانطلقوا حتى نزلوا بالشام وجمعت لهم الروم جموعاً عظيمة من مدائن الشام فحدث بذلك أبو بكر رضي الله عنه فأرسل إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق أن اصرف بثلاثة آلاف فارس فأمد بهم إخوانك بالشام ثم قال : العجل العجل فوالله لقرية من قرى الشام أحب إلي من رستاق عظيم من العراق وهكذا ينبغي للإمام أنه إذا بلغه كثرة جمع الأعداء على جيش من المسلمين أن يمدهم ليتقووا به وأن يحث المدد على التعجيل ليحصل المقصود بوصولهم إليهم قبل أن ينهزموا فالمنهزم لا يرده شيء وإنما قدم أبو بكر الشام على العراق لأن الشام بلدة مباركة لأنه موضع المرسلين .
قال : فأقبل خالد مغذاً جواداً بمن معه يريد بقوله : مغذاً أي مسرعاً لما أتى من أمر الخليفة يقال أغذ القوم إذا أسرعوا السير .
ثم شق الأرض حتى خرج إلى ضمير وذنبه فوجد المسلمين معسكرين بالجابية قال : فتسامع بخالد أعراب العرب الذين كانوا في مملكة الروم ففزعوا له لأنه كان مشهوراً بالجلادة وقد سماه النبي عليه السلام " سيف الله " وفي ذلك يقول قائلهم : شعر .
آلا فأصبحينا قبل خيل أبي بكر لعل منايانا قريب وما ندري@(1/36)
وقصة هذا مذكورة في المغازي أن قائل هذا البيت كان رجلاً من عظماء المرتدين أتته مجاريته بقصعة فيها شراب فأسند ظهره إلى حائط وذكر هذا البيت ثم جعل يشرب فاتفق أن رجلاً من أصحاب خالد تسور الحائط فلما سمع ضرب على عاتقه ضربة ندر منها رأسه في القصعة .
قال : فنزل خالد بن الوليد على الأمراء الثلاثة وسارت الروم من أنطاكية وحلب وقنسرين وحمص وحماة وخرج هرقل كارهاً لمسيرهم متوجهاً نحو أرض الروم وسار باهان في الهرمينية إلى الناس بمن كان معه وهرقل ملك الروم وباهان صاحب جيشه فتبين أنهم اجتمعوا عن آخرهم .
واجتمع أمراء المسلمين في خباء يبرمون أمر الحرب بينهم وعندهم رجل يقال له : قضاعة قد بعثوه فاجتس لهم أمر القوم ثم جاءهم فخلوا به أي بعثوه جاسوساً وهكذا ينبغي لأمير الجيش أن يبعث جاسوساً يأتيه بم يعزم عليه العدو من الرأي وأن يخلو به إذا رجع لكيلا يشتهر هو ولكيلا يقف جميع الجيش على ما قصده العدو فلا يصير ذلك سبباً لجبنهم .
قال : فأقبل أبو سفيان يتوكأ على عصاة فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليك السلام لا تقربنا وإنما قالوا ذلك لأنهم يتهمونه بأنه لم يحسن إسلامه .
فقال أبو سفيان : ما كنت أرى أن أعيش حتى أكون بحضرة قوم من قريش يبرمون أمر حربهم وأنا بينهم ولا يحضروني أمرهم وإنما قال هذا لأنه كان مشهوراً بينهم بالرأي في الحرب فقال بعضهم : هل لكم في رأي شيخكم فإن له رأياً في الحرب قالوا : نعم فدعوه@(1/37)
فدخل فقالوا : أشر علينا فقال : أبو سفيان : أنتم الأمراء فقالوا : ما بنا غنى عن رأيك فقال أبو سفيان : كأني أرى في المرج تلاً عظيماً قالوا : بلى قال : فإني أرى أن ترتحلوا حتى تجعلوا ذلك التل خلف ظهوركم ثم تؤمروا عكرمة بن أبي جهل على خيل وتجعلوا معه كل نابض بوتر أي رام عن قوس فإن لي به خبراً أي علماً بأنه يصلح لذلك فإذا نادى بلال النداء الأول لصلاة الغداة فليخرج عكرمة وتلك الرماة معه فليصف أولئك الرماة عند صدور خيولهم فإن هاجهم هيج من الليل كانوا مستعدين بإذن الله تعالى وهذا رأي حسن أشار به عليهم وقد كان فعله رسول الله عليه السلام يوم أحد وكان سبباً لانهزام المشركين لولا ما ظهر من عصيان الرماة وهو طلبهم الغنيمة على ما قال الله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } آل عمران : 152 .
قال : فقبلوا ذلك من رأي أبي سفيان لعلهم بأنه قد نصحهم وأقبلت خيل من الروم عظيمة تريد بياتهم فسمعوا رغاء الإبل فلم يشكوا أن العرب قد هربت وأقبلوا عباديد أي متفرقين يقال : طير عباديد إذا كانوا متفرقين .
وسابق بعضهم بعضاً من غير تعبية فوجدوا خيل عكرمة والرماة مستعدين لم تعلم الروم بهم فحملوا في وجوه القوم فلم يزل الله ينصرهم بقتلهم@(1/38)
حتى إذا كادت الشمس تطلع ولوا هاربين إلى عسكرهم عند الواقوصة وانصرف عكرمة وأصحابه إلى عسكر المسلمين فكان ذلك أول الفتح ثم قاتلوهم بعد ذلك فأرسل باهان إلى خالد بن الوليد أن اخرج إلي حتى أكلمك فبرز خالد وبينهما ترجمان فقال باهان لخالد : هلم إلى أمر نعوضه عليكم تنصرفون ونحمل من كان منكم راجلاً ونوقر لكم ظهوركم وفي رواية : ونوقر لكم طعاماً وإداماً والأول أصبح ونأمر لكم بدنانير خمسة خمسة فإنا نعلم أنكم في أرض قليلة الخير وإنما حملكم على المسير ذلك فقال له خالد : ما حملنا على المسير ما ذكرت من شدة العيش في بلادنا ولكن قاتلنا من وراءنا في الأمم فشربنا دماءهم فحدثنا أنه ليس من قوم أحلى دماً من الروم فأقبلنا إليكم لنشرب دماءكم فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : حق والله ما حدثنا عنهم يعنون ما أخبرنا به أنهم لا ينصرفون إلا بقبول الدين أو الجزية أو الانقياد لهم شئنا أو أبينا ثم استدل محمد رحمه الله على جواز قطع النخيل وتخريب@(1/39)
البيوت في دار الحرب بقوله تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } الحشر : 5 قال الزهري : هو جمع أنواع النخل ما خلا العجوة وقال الضحاك : اللينة : النخلة الكريمة والشجرة التي هي طيبة الثمرة ونزول الآية في قصة بني النضير فإن النبي عليه السلام حين قدم المدينة صالحهم على أن لا يكونوا عليه ولا له ثم خرج إليهم يستعين بهم في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري ومعه أبو بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم فقالوا : اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما تريد ثم خلا بهم حيي بن أخطب فقال : لا تقدرون على قتله في وقت يكون عليكم أهون منه الآن فهموا بقتل رسول الله عليه السلام وجاء جبريل عليه السلام فأخبر بذلك رسول الله عليه السلام فقام متوجهاً إلى
المدينة وفي ذلك نزل قوله تعالى : { إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } المائدة : 11 ثم سار إليهم فحاصرهم وقال : اخرجوا من جواري على أن تأتوا كل عام فتجدوا ثماركم فقالوا : لا نفعل فحاصرهم خمس عشرة ليلة وكانوا قد سدوا دروب أزقتهم وجعلوا يقاتلون المسلمين من وراء الجدر كما قال الله تعالى : { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } الحشر : 14 فجعل المسلمون يخربون بيوتهم ليتمكنوا من الحرب .
وكلما نقبوا جدار بيت من جانب ليدخلوا نقبوا هم من الجانب الأخر ليخرجوا إلى بيت آخر كما قال الله تعالى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } الحشر : 2 فلما لحقهم من العسر ما لحقهم ولم يأتهم أحد من المنافقين وقد كانوا وعدوا لهم ذلك أي المنافقين وعدوا بني النضير النصرة كما قال الله تعالى حكاية عنهم : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } الحشر : 11 وقد كان أمر رسول الله بقطع النخيل فقطعت وكان العذق أحب إلى أحدهم من الوصيف فقال بعضهم لبعض : ليس لنا مقام بعد النخيل فنادوه : يا أبا القاسم قد كنت تنهى عن الفساد فما للنخيل تقطع وتحرق أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة يعني السلاح قال : نعم ففتحوا الحصون وأجلاهم على ما وقع الصلح عليه وفي رواية استعمل رسول الله عليه السلام أبا ليلى@(1/40)
المازني وعبد الله بن سلام أبا لبابة على قطع نخيلهم وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبد الله يقطع اللون فقيل لأبي ليلى : لم قطعت العجوة : قال : لأنها كانت أغيظ لهم وقيل لابن سلام : لم قطعت اللون قال : علمت أن الله مظهر نبيه ومغنمه أموالهم فأحببت إبقاء العجوة وهي خيار أموالهم ففي ذلك نزل قوله تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } الآية وفي رواية : نادى اليهود من فوق الحصون : تزعمون أنكم مسلمون لا تفسدون وأنتم تعقرون النخل والله ما أمر بهذا فاتركوها لمن يغلب من الفريقين فقال بعض المسلمين : صدقوا وقال بعضهم : بل نعقرها كبتاً وغيظاً لهم فأنزل الله تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } رضاء بما قال الفريقان .
واستدل بحديث أسامة بن زيد أن النبي عليه السلام كان عهد أن يغير على أبنى صباحاً ثم يحرق وفي رواية : أبيات صباحاً وهو اسم موضع كان قتل أبوه زيد بن حارثة في ذلك الموضع ووجد رسول الله عليه السلام موجدة شديدة على ذلك وأمره على ثلاثة آلاف رجل وأمره أن يذهب بهم إلى ذلك الموضع ويشن الغارة عليهم ثم يحرق وقبض رسول الله عليه السلام .
قبل خروجه ونفذ أبو بكر رضي الله عنه جيشه كما أمر رسول الله عليه السلام .
وعن الزهري أن النبي عليه السلام لما مر من أوطاس يريد الطائف بدا له قصر مالك بن عوف النصري فأمر به أن يحرق وفي ذلك قال حسان : وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير قال محمد رحمه الله : فقد أمر بتحريق قصره وليس بمحاصر له وإنما أمر به لأن فيه كبتاً وغيظاً له فقد كان هو أمير الجيش في حصن الطائف فعرفنا أنه لا بأس به@(1/41)
ثم قال : ثم انتهى رسول الله عليه السلام إلى الطائف فأمر بكرومهم أن تقطع وفي ذلك قصة قد ذكرت في المغازي أنهم عجبوا من ذلك وقالوا : النخلة لا تثمر إلا بعد عشر سنين وكيف العيش بعد قطعها ثم أظهر بعضهم الجلادة فنادوا من فوق الحصن : لنا في الماء والتراب والشمس خلف مما تقطعون فقال بعضهم : هذا إن لو تمكنت من الخروج في جحرك وأمر رسول الله عليه السلام بقطع نخيل خيبر حتى مر عمر رضي الله عنه بالذين يقطعون فهم أن يمنعهم فقالوا أمر به رسول الله عليه السلام فأتاه عمر رضي الله عنه فقال : أنت أمرت بقطع النخيل قال : نعم قال : أليس وعدك الله خيبر قال : بلى فقال عمر : إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك فإمر منادياً ينادي فيهم بالنهي عن قطع النخيل قال الراوي : فإخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم : هذا مما قطع رسول الله عليه السلام والنطاة : اسم حصن من حصون خيبر وقد كانت لهم ستة حصون : الشق والنطاق والقموص والكتيبة والسلالم والوطيحة .
قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى خليفته بالشام : انظر من قبلك فمرهم فلينتعلوا وليحتفوا أي يمشوا أحياناً بغير نعل وأحياناً في النعال ليتعودوا ذلك كله وفي رواية : فليتنعلوا وهو الصحيح جاء في الحديث : كان رسول الله عليه السلام يحب التيامن حتى في تنعله وترجله يعني : ترجيل الشعر أو المراد بالترجل النزول عن الدابة وإنما أمرهم بهذا للإشفاق عليهم حتى إذا ابتلوا بالمشي حفاة في دار الحرب لا يشق عليهم وفي قصة الغار قال أبو بكر رضي الله عنه : فنظرت إلى بطن قدم رسول الله عليه السلام حين دخل الغار وهو يقطر دما لأنه لم يتعود الحفية ولهذا استحبوا الاحتفاء في المشي بين الفرضين .
قال : وليأتزروا وليرتدوا أي لا يخرجوا للصلاة وللناس إلا في إزار ورداء@(1/42)
فالصلاة إن كانت تجري في ثوب واحد إذا توشح به فالمستحب أن يصلي في إزار ورداء وإنما أمر بالرداء لأنه زي العرب .
قال : وليؤدبوا الخيل والمراد به رياضة الخيل لتكون ألين عطفاً عند الحاجة أو ليؤدبوا الخيل على النفار على ما جاء في الحديث : تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار لأن العثار قد يكون من سوء إمساك الراكب للجام والنفار من سواء خلق الدابة فتؤدب على ذلك .
قال ولا يظهر لهم صليب معناه : لا تمكنوا أهل الذمة من إظهار الصليب في أمصار المسلمين والمرور به في الطرق لأن ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناهم الذمة على أن يستخفوا بالمسلمين .
قال : ولا يجاورنهم الخنازير ومعناه أنهم يمنعون أهل الذمة من إظهار الخمور والخنازير وبيعها في أمصار المسلمين لأن ذلك معصية ولا يتمكنون من إظهارها ولكنهم لا يمنعون من أن يفعلوا ذلك في بيوتهم وكنائسهم التي وقع الصلح عليها لأن هذا ليس بأشد من شركهم وعبادتهم غير الله ولا يمنعون من ذلك في بيوتهم .
قال : ولا يقعدون على مائدة يشرب عليها الخمر وهكذا ينبغي للمسلم أن لا يقعد على مثل هذه المائدة ولكنه يمنع من شرب الخمر على وجه النهي عن المنكر إن أمكن من ذلك وأن لا يجوز من ذلك الموضع فإن اللعنة تنزل عليهم كما قال عليه السلام في أشراط الساعة : تدار الكأس على موائدهم واللعنة تنزل عليهم .
قال : ولا يدخلن الحمام إلا بإزار لأن ستر العورة فريضة وفي الحديث : " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار ولا يدخل حليلته الحمام " .
قال : وإياكم وأخلاق الأعاجم يعني في التنعم وإظهار التجبر ومما يكون مخالفاً لأخلاق المسلمين من أخلاق الأعاجم وهم المجوس فقد علمنا أنه لم يرد النهي عما هو من أخلاق المسلمين ثم بين محمد رحمه الله تفسير الحديث على ما بينا وقال في آخره : فإن أرادوا إظهار شيء مما ذكرنا فليفعلوه خارجاً من أمصار المسلمين يعني في القرى لأن المصر موضع@(1/43)
أعلام الدين ففي إظهار ذلك فيها استخفاف بالمسلمين وذلك ينعدم في القرى فأهل القرى كما وصفهم به رسول الله عليه السلام فقال : " هم أهل الكفور هم أهل القبور " يشير إلى جهلهم وقلة تعاهدهم لأمر الدين قال الشيخ الإمام شمس الأئمة رحمه الله : والصحيح عندي أن مراد محمد بهذا الجواب قرى الكوفة فإن عامة أهلها أهل الذمة والروافض فأما في ديارنا يمنعون من إظهار ذلك في القرى التي يسكنها المسلمون كما يمنعون في الأمصار فإن القرى في ديارنا لا تخلو عن مساجد الجماعة وعن واعظ يعظهم عادة وذلك من أعلام الدين أيضاً .
وذكر عن أبي أسيد الساعدي أن النبي عليه السلام قال يوم بدر : إذا كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم وممنى قوله : كثبوكم قربوا منكم وازدحموا عليكم وهو أدب حسن أمرهم بأن يدفعوا العدو عن أنفسهم بالرمي عند الحاجة وهذا حين كان نهاهم عن القتال على ما روي في القصة أنه حين دخل العريش مع أبي بكر رضي الله عنه للمناجاة نهى الناس عن القتال وقال هذه المقالة وفي قوله : ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم بيان أنه لا ينبغي للغازي أن يسل سيفه حتى يصير من العدو بحيث تصل إليه ضربته لا أن ذلك مكروه في الدين ولكنه من مكايدة العدو فبريق السيف مخوف للعدو في أول ما يقع بصره عليه وقيل : إن سل السيف قبل أن يقرب من العدو فشل .
قال الله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } الأنفال : 46 .@(1/44)
M0ا الإمارة قال : ينبغي للإمام إذا بعث سرية قلت أو كثرت أن لا يبعثهم حتى يؤمر عليهم بعضهم وإنما يجب هذا اقتداء برسول الله عليه السلام فإنه داوم على بعث السرايا وأمر عليهم في كل مرة ولو جاز تركه لفعله مرة تعليماً للجواز ولأنهم يحتاجون إلى اجتماع الرأي والكلمة وإنما يحصل ذلك إذا أمر عليهم بعضهم حتى إذا أمرهم بشيء أطاعوه في ذلك فالطاعة في الحرب أنفع من بعض القتال ولا تظهر فائدة الإمارة بدون الطاعة قال عليه السلام : " من أطاعني فليطع أميري ومن عصى أميري فقد عصاني " .
ثم استدل محمد رحمه الله على ما قلنا بحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : " إذا اجتمع ثلاثة نفر فليؤمهم أكثرهم قرآنا وإن كان أصغرهم وإنما قدمه لأنه أفضلهم ثم قال إذا أمهم فهو أميرهم فذلك أمير أمره رسول الله عليه السلام وبنحو هذا الحديث استدل الصحابة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقالوا : قد اختاره رسول الله لأمر دينكم فكيف لا ترضون به لأمر دنياكم ! وكذلك إن كانا رجلين ليس معهما غيرهما فالأفضل أن يؤمر أحدهما على صاحبه لأن ذلك أحرى أن يتطاوعا ولا يختلفا .
وذكر محمد رحمه الله في الكتاب حديث سلمان بن عامر : أن النبي عليه السلام كان في@(1/45)
بعض أسفاره فأسرى من تحت الليل إي سار فتقطع الناس أي تفرقوا في غلبة النوم فمالت راحلتا أبي بكر وأبي عبيدة رضي الله عنهما بهما إلى شجرة فجعلتا تصيبان منها وهما نائمان فاستيقظا وقد مضى النبي عليه السلام وأصحابه ونزلوا فلما كانا بحيث يسمعهما النبي عليه السلام ناداهما : ألا هل أمرتما قالا : بلى يا رسول الله فقال : ألا رشدتما أي أصبتما الصواب وكذلك المسافرون إذا خافوا اللصوص فينبغي لهم أن يؤمروا عليهم أميراً ليطيعوه ويصدروا عن رأيه عند الحاجة إلى القتال فإما إذا لم يخافوا ذلك فلا بأس بأن لا يؤمروا أحداً قال : وينبغي أن يستعمل على ذلك البصير بأمر الحرب الحسن التدبير لذلك ليس ممن يقحم بهم في المهالك ولا ممن يمنعهم عن الفرصة إذا رأوها لأن الإمام ناظر لهم وتمام النظر أن يؤمر عليهم من جربه بهذه الخصال فإنه إذا كان يمنعهم من الفرصة يفوتهم ما لا يقدرون على إدراكه على ما قيل : الفرصة خلسة وإذا اقتحم في المهالك من جرأته لم يجدوا بداً من متابعته ثم يخرج هو بقوته وربما لا يقدرون على مثل ما قدر هو فيهلكون وروي في تأييد هذا@(1/46)
حديث عمر رضي الله عنه فإنه كان يكتب إلى عماله لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين فإنه هلكة من الهلك يقدم بهم والبراء أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما كان من جملة كبار صحابة رسول الله في الزهد وفي درجته ما قال رسول الله عليه السلام : " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على اله لأبره منهم البراء بن مالك " وقد روي أن الأمر اشتد على المسلمين في بعض الغزوات فقيل البراء بن مالك : ألا تدعو وقد قال رسول الله عليه السلام ما قال فرفع يديه وقال : اللهم امنحنا أكتافهم فولوا منهزمين في الحال ومع هذا نهى عمر رضي الله عنه عن تأميره لجرأته فإنه كان يقتحم المهالك ولا يبالي به .
ويحكى عن نصر بن سيار مقرب البرامكة الذي أخرجه أبو مسلم عن مرو أنه قال : اجتمع عظماء العجم على أن من كان صاحب جيش فينبغي أن يكون فيه عشر خصال من خصال البهائم : شجاعة كشجاعة الديك وتحنن كتحنن الدجاجة يعني الشفقة وقلب كقلب الأسد وغارة كغار الذئب وحملة كحملة الخنزير وصبر كصبر الكلب أي على الجراحة وحرص كحرص الكركي وروغان كروغان الثعلب أي الحيل وحذر كحذر الغراب وسمن كسمن الدابة التي لا ترى مهزولة أبداً وهي تكون بخراسان .
قال محمد رحمه الله : فإن كان الأمير لا بصر له بذلك فليجعل معه وزيراً يبصره ذلك قال الله تعالى : { وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } طه : 29 30 31 فإن لم يجعل معه وزيراً فليدع الأمير قوماً من السرية يبصرون ذلك فيشاورهم فيأخذوا بقوله لأن النبي عليه السلام كان يشاور الصحابة حتى في قوت أهله وإدامهم وبذلك أمر قال الله تعالى :@(1/47)
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } آل عمران : 159 وقال النبي عليه السلام " ما هلك قوم عن مشورة قال : ثم يأمر الناس بذلك فيطيعونه ولا يخالفونه لقوله عليه السلام : " لا تحل الجنة لعاص " أمر بأن ينادى به يوم خيبر حين نهاهم عن القتال فقيل له استشهد فلان فقال عليه السلام : أبعد ما نهيت عن القتال قالوا : نعم فقال : لا تحل الجنة لعاص فمع درجة الشهادة قال في حقه ما قال ليبين أن العصيان فيما لا يتيقن فيه الخطأ من الأمير لا يحل بحال .
ذكر محمد رحمه الله حديث صخر الغامدي أن النبي عليه السلام قال : اللهم بارك لأمتي في بكورهم وكان إذا أراد أن يبعث سرية بعثهم أول النهار فيه دليل على أن صاحب الحاجة ينبغي له أن يبتكر للسعي في حاجته فذلك أقرب إلى تحصيل@(1/48)
مراده ببركة دعاء رسول الله عليه السلام وكان رسول الله يقول : " البكرة رباح أو نجاح " ولأجل هذا استحبوا الابتكار لطلب العلم وقيل إنما ينال العلم ببكور كبكور الغراب وفيه دليل على أن الإمام إذا أراد أن يبعث سرية يندب إلى أن يبعثهم أول النهار وقد قيل : ينبغي أن يختار لذلك الخميس والسبت لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : " اللهم بارك لأمتي في بكورها سبتها وخميسها " .
وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً قد عقل راحلته فقال : ما يحبسك قال : الجمعة يا أمير المؤمنين قال : الجمعة لا تحبس مسافراً فأذهب ففيه دليل على أنه لا بأس بالخروج يوم الجمعة للغزو أو للحج أو لسفر آخر بخلاف ما يقوله بعض الناس من المتقشفة : أنه يكره الخروج يوم الجمعة للسفر لما فيه من شبهة الفرار عن أداء الجمعة لكنا نقول : الخروج في سائر الأيام جائز من غير كراهة وليس فيه فرار عن شطر الصلاة والخروج في رمضان جائز فقد خرج رسول الله من المدينة إلى مكة لليلتين خلتا من رمضان ولم يكن فيه شبهة الفرار عن أداء الصوم ثم لا شك أن الجمعة غير واجبة عليه قبل الزوال وهو مسافر بعد الزوال ولا جمعة على المسافر فكيف يكون سفره فراراً عن واجب عليه وكما يباح له الخروج قبل الزوال يباح له الخروج بعد الزوال عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله فإنه يعتبر في وجوب أداء العبادات المؤقته أول الوقت وإذا كان هو مقيماً في أول الوقت وجب عليه أداء الجمعة على وجه لا يتغير بالسفر عنده كما يجب أداء الظهر في سائر الأيام على وجه لا يتغير بالسفر عنده فأما عندنا المعتبر آخر الوقت في حكم وجوب الأداء لا على وجه لا يتغير ولهذا لو كان مسافراً في آخر الوقت في سائر الأيام يلزمه صلاة السفر ففي هذا اليوم إذا كان يخرج من عمران مصره قبل خروج وقت الظهر بل يجب عليه الجمعة ولا بأس له بالمسافرة لما قبل الزوال وإن كان يعلم أنه لا يخرج من مصره حتى يمضي وقت الظهر فليشهد الجمعة لأنها تلزم إذا كان في المصر في آخر الوقت وليس له أن يخرج قبل أدائها وفي الكتاب يقول : لأنها فريضة عليه وهذا التعليل على أصل محمد فأصل الفرض عنده في حق المقيم الجمعة وقد بينا الاختلاف هذا في كتاب الصلاة وزفر رحمه الله لا يعتبر آخر الوقت وإنما يعتبر حال يضيق@(1/49)
الوقت بحيث لا يسع لأداء الجمعة بناء على أصله أن السببية للوجوب تتعين في ذلك الجزء حتى لا تسع التأخير
عنه ولهذا قال : لا تسقط الصلاة باعتراض الحيض بعد ذلك وكذلك إذا كان لا يخرج من مصره حتى يضيق الوقت فينبغي له أن يشهد الجمعة .
قال : وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة يقول : عندي في هذه المسألة نوع إشكال وهو أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه وهو سائر الصلوات فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها بل مع الإمام والناس فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس الجمعة ينبغي أن يلزمه شهود الجمعة وهذه الشبهة تتقرر على اصل زفر رحمه الله فإنه يعتبر التمكن من الأداء ولهذا يعين السببية في الجزء الذي يتضيق عقيبه وقت الأداء فأما عندنا إنما تتعين السببية في آخر جزء من أجزاء الوقت .
قال : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول اله عليه السلام : " خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة إذا كانت كلمتهم واحدة قيل : معنى قوله : " خير الأصحاب أربعة " يعني خير أصحابي فيكون إشارة إلى الخلفاء الراشدين أنهم خير أصحابه وقيل : بل المراد ما هو الظاهر وهو دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمه الله أن الجمعة تتأدى بثلاثة نفر سوى الإمام لأن خير الأصحاب ما يتأدى الفرض بمعاونتهم وفيه دليل على أن السرية أقل من الجيش وإنما سموا سرية لأنهم يسرون بالليل ويكمنون بالنهار لقلة عددهم وسمي الجيش جيشاً لأنه يجيش بعضه في بعض لكثرة عددهم ولم يرد به أن ما دون الأربع مائة لا يكون سرية وإنما مراده أنهم إذا بلغوا أربع مائة فالظاهر من حالهم أنهم لا وقوله : " ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة دليل على أنه لا يحل للغزاة أن ينهزموا وإن كثر العدو وإذا بلغوا هذا المبلغ لأن من لا يغلب فهو غالب ولكن هذا إذا كانت@(1/50)
كلمتهم واحدة فقد كان المسلمون يوم حنين اثني عشر ألفاً ثم ولوا منهزمين كما قال الله تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } التوبة : 25 ولكن لم تكن كلمتهم واحدة لاختلاط المنافقين والذين أظهروا الإسلام من أهل مكة بهم يومئذ ولم يحسن إسلامهم بعد فإما عند اتحاد الكلمة فلا يحل لهم الفرار لأنهم ثلاثة جيوش : أربعة آلاف على الميمنة وهم خير الجيوش ومثل ذلك في الميسرة ومثل ذلك في القلب وأدنى الجمع المتفق عليه يساوي أكثر الجمع في الحكم .
وذكر عن رسول الله عليه السلام أنه قال : خير أمراء السرايا زيد بن حارثة أقسمه بالسوية وأعدله في الرعية وزيد هذا مولى رسول الله عليه السلام فقد كان لخديجة وهبته لرسول الله عليه السلام فأعتقه وتبناه إلى أن انتسخ حكم التبني فهو مولاه وفيه نزل قوله تعالى { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } الأحزاب : 37 أي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق ثم أمره رسول الله عليه السلام على ثماني سرايا إلى أن قتل يوم مؤتة فأثنى عليه أنه خير الأمراء وعين لتحقيق صفة الخيرية هاتين الخصلتين لأن أمير السرية يحتاج إليهما وهو أن يعتبر المعادلة في القسمة بينهم فيما ينالونه وينصف بعضهم من بعض فيما يرجعون إليه فقد فوض ذلك إليه وبعض الناس عابوا على محمد رحمه الله في رواية هذا اللفظ فإن من حق الكلام أن يقول : أقسمهم بالسوية وأعدلهم بالرعية ولكنا نقول : روى محمد رحمه الله الخبر بهذا اللفظ فدل على صحة استعماله .
قال : ولا بأس للإمام أن يبعث الرجل الواحد سرية أو الاثنين أو الثلاثة إذا كان محتملاً لذلك لما روي أن النبي عليه السلام بعث حذيفة بن اليمان في بعض أيام الخندق سرية وحده وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده وبعث دحية الكلبي سرية وحده وبعث ابن مسعود وخبابا سرية@(1/51)
والذي روي أن النبي عليه السلام نهى أن تبعث سرية دون ثلاثة نفر تأويله من وجهين : إما أن يكون ذلك على وجه الإشفاق بالمسلمين من غير أن يكون ذلك مكروهاً في الدين أو يكون المراد بيان الأفضل أن لا يخرج أقل من ثلاثة ليتمكنوا من أداء الصلاة بالجماعة على هيأتها بأن يتقدم أحدهم ويصطف الاثنان خلفه وهذا معنى ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : " الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب " ومن حيث المعنى نقول : ليس المقصود من بعث السرايا القتال فقط بل تارة يكون المقصود أن يتحسس خبر الأعداء فيأتيه بما عزموا عليه من السر وتمكن الواحد من الدخول بينهم لتحصيل هذا المقصود هذا المقصود أظهر من تمكن الثلاثة وقد يكون المقصود أن يأتيه أحدهما بالخبر ويمكث الآخر بين الأعداء ليقف على ما يتجدد لهم من الرأي بعد ما ينفصل عنهم الواحد وهذا يتم بالمثنى وقد يكون المقصود القتال أو التوصل إلى قتل بعض المبارزين منهم غيلة وبالثلاثة فصاعداً يحصل هذا المقصود ولهذا كان الرأي فيه إلى الأمير يعمل بما فيه نظر للمسلمين .
باب الرايات الألوية
قال : وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاً والرايات سوداً على هذا جاءت الأخبار وقد روي عن راشد بن سعد رضي الله عنه قال : كانت راية رسول الله@(1/52)
سوداء ولواؤه أبيض وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما : كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة يدعى العقاب وهو اسم رايته كما سمى عمامته السحاب وفرسه السكب وبغلته الدلدل ثم اللواء اسم لما يكون للسلطان والراية اسم لما يكون لكل قائد تجتمع جماعة تحت رايته .
واختلفت الروايات في أن النبي صلى الله عليه وسلم متى اتخذ الرايات فذكر الزهري قال : ما كانت راية قط حتى كانت يوم خيبر إنما كانت الألوية وذكر غيره أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانت سوداء ففي هذا بيان أن الراية كانت قبل خيبر وإنما استحب في الرايات السود لأنه علم لأصحاب القتال وكل قوم يقاتلون عند رايتهم وإذا تفرقوا في حال القتال يتمكنون من الرجوع إلى رايتهم والسواد في ضوء النهار أبين وأشهر من غيره خصوصاً في الغبار فلهذا استحب ذلك فأما من حيث الشرع فلا بأس بأن تجعل الرايات بيضاً أو صفراً أو حمراً وإنما يختار الأبيض في اللواء لقوله عليه السلام : " إن أحب الثياب عند الله تعالى البيض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم " واللواء لا يكون إلا واحد في كل جيش ورجوعهم إليه عند حاجتهم إلى رفع أمورهم إلى السلطان فيختار الأبيض لذلك ليكون مميزاً من الرايات السود التي هي للقواد .
وذكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : والله لقد رأيتني وإني لأعدو في إثر علي رضي الله عنه فما أدركته حتى انتهى إلى الحصن يوم خيبر فخرجت غادية اليهود يعني الذين يغدون من العمال ومنهم@(1/53)
من يروي : عادية اليهود والمراد به الأكابر من المبارزين قال : ففتحوا بابهم الذي يلي المسلمين وكانت لهم حصون من ورائها جدر ثلاثة يخافون البيات بالنطاة عملها أكابر اليهود ولا تطيقها الخيل فخرجوا من حصنهم ذلك وتلك الجدر حتى أصحروا للمسلمين أي خرجوا إلى الصحراء فخرج مرحب وهو يرتجز ويقول : قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أضرب أحياناً وحينا أضرب أكفي إذا أشهد من يغيب ومرحب الشاعر هذا قتله علي رضي الله عنه والقصة معروفة في المغازي ومقصودة ما ذكر في آخر الحديث .
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق الرايات وإنما كانت الألوية قبل ذلك فجعل الرايات يومئذ .
قال محمد رحمه الله : وينبغي أن يتخذ كل قوم شعاراً إذا خرجوا في مغازيهم حتى إن ضل رجل عن أصحابه نادى بشعارهم وكذلك ينبغي أن يكون لأهل كل راية شعار معروف حتى إن ضل رجل عن أهل رايته نادى بشعاره فيتمكن من الرجوع إليهم وليس ذلك بواجب في الدين حتى لو لم يفعلوا لم يأثموا ولكنه أفضل وأقوى على الحرب وأقرب إلى موافقة ما جاءت به الآثار على ما روي عن سنان بن وبرة الجهني قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزاة بني @(1/54)
المصطلق وكان شعارنا : يا منصور أمت معناه : قد ظفرت بالعدو فاقتل من شئت منهم وهذا كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وكان شعاره يوم أحد : أمت أمت .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين : يا بني عبد الرحمن والخزرج : يا بني عبد الله والأوس : يا بني عبيد الله وقال لهم رسول الله ليلة في حرب الأحزاب : " إن بيتم الليلة فشعاركم : حم لا ينصرون وهو قسم للتأكيد أن الأعداء لا ينصرون " وكان شعارهم يوم حنين : يا أصحاب سورة البقرة ! إلي أنا عبد الله ورسوله سائر اليوم وجعل يتقدم في نحر العدو فرجع إليه المسلمون حين سمعوا صوته وفي رواية : كان شعارهم يومئذ : حم لا ينصرون فلما ثاب المسلمون أي رجعوا إليه تولى المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنهزموا وياسين " وهذا قسم أكد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فالحاصل أن الشعار هو العلامة فالخيار في ذلك إلى إمام المسلمين إلا أنه ينبغي له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم على العدو بطريق التفاؤل فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن .@(1/55)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=4 - TOP#TOPباب الدعاء عند القتال
ذكر عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقي العدو قبل أن يواقعهم قال : " اللهم إنا عبادك وهم عبادك نواصينا ونواصيهم بيدك اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم " وفيه دليل على أنه ينبغي لكل غاز أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء عند القتال وهذا لأن المؤمن بالدعاء يستنزل الرزق والنصر ويدفع أنواع البلاء وشر الأعداء وبذلك أمرنا قال تعالى : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } البقرة : 186 وقال : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } الأعراف : 55 وأخبر عن الرسل أنهم دعوا على الأعداء كما أخبر به عن نوح قال : { نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } نوح : 26 وعن موسى وهارون والخليل - صلوات الله عليهم كذلك .
قال : وإذا لقي المسلمون المشركين فإن كانوا قوماً لم يبلغهم الإسلام فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم لقوله تعلى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } الإسراء : 15 وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش فقال : " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ولأنهم ربما يظنون أننا نقاتلهم طمعاً في أموالهم وسبي ذراريهم ولو علموا أنا نقاتلهم على الدين ربما أجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال وفي تقدم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله تعالى : بالحكمة والموعظة الحسنة فيجب البداية به .
فإن كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل@(1/56)
منهم الجزية فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش وهو آخر ما ينتهي به القتال قال الله تعالى : { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 9 وفيه التزام بعض أحكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا به .
إلا أن يكونوا قوماً لا يقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف قال الله تعالى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } الفتح : 16 فإذا أبوا الإسلام قوتلوا غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية وإن قاتلوهم قبل الدعوة فقتلوهم فلا شيء على المسلمين من دية ولا كفارة لأن وجوب ذلك يعتمد الإحراز وذلك بدار الإسلام أو الدين على حسب ما اختلفوا فيه فأما مجرد النهي عن القتل بدون الإحراز لا يوجب الدية والكفارة كما في نساء أهل الحرب وذراريهم وهذا لأن موجب النهي الانتهاء لا غير ويقوم المحل حكم وراء ذلك .
فإن بلغهم الدعوة فإن شاء المسلمون دعوهم دعاء مستقبلاً على سبيل الإعذار والإنذار وإن شاءوا قاتلوهم بغير دعوة لعلهم بما يطلب منهم وربما يكون في تقديم الدعاء ضرر بالمسلمين فلا بأس بأن يقاتلوهم من غير دعوة والذي روي عن ابن عباس رضي الله @(1/57)
عنهما أن قال : ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً حتى يدعوهم عن طلحة رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل المشركين حتى يدعوهم فتأويله ما قال محمد رحمه الله في كتابه .
إن النبي صلى الله عليه وسلم أول من جاءهم بالإسلام في ذلك الوقت وما كان أكثرهم يعلم أنه إلى ما ذا يدعوهم فلهذا كان تقديم الدعاء وهكذا نقل عن إبراهيم أنه سئل عن دعاء الديلم فقال : قد علموا الدعاء يريد به أن زماننا مخالف لزمان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم أو كان ذلك عن رسول الله على وجه التألف لهم رجاء أن يتوبوا من غير أن يكون ذلك واجباً ألا ترى إلى ما روي أنه كان يقاتل المشركين فتحضر الصلاة فيصلي بأصحابه ثم يعود إلى وضعه فيدعوهم ومعلوم أن هذا لم يكن إلا على وجه التألف .
وعن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً رضي الله عنه مبعثاً فقال له : امض ولا تلتفت أي لا تدع شيئاً مما أمرك به قال : يا رسول الله ! كيف أصنع بهم قال : إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه ثم تقول لهم : هل لكم إلى أن تقولوا : لا إله إلا الله فإن قالوا : نعم فقل لهم : هل لكم أن تصلوا فإن قالوا : نعم فقل لهم : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة فإن قالوا : نعم فلا تبغ منهم غير ذلك والله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما@(1/58)
طلعت عليه الشمس وغربت ومعلوم أن هذا كله مما لا يشكل أنه ذكر على وجه التألف من غير أن يكون واجباً .
وعن عبد الرحمن بن عائذ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعثاً قال : تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل بيت من مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من ن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم وعن أبي عثمان النهدي قال : كنا ندعو وندع أي ندعو تارة وندع الدعاء تارة نغير عليهم فدل أن كل ذلك حسن يدعون مرة بعد مرة إذا كان يطمع في إيمانهم فأما إذا كان لا يطمع في ذلك فلا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة بيانه في الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث أبا قتادة بن ربعي في أربعة عشر رجلاً إلى غطفان فقال : شنوا الغارة عليهم ولا تقتلوا النسوان والصبيان .
ثم ذكر الراوي حسن تدبير أبي قتادة قال : لما هجمنا على حاضر منهم عظيم ليلا معنى قوله : " حاضر منهم " أي حي منهم وهو القبيلة خطبنا وأوصانا فقال : إذا كبرت فكبروا وإذا حملت فاحملوا ن ولا تمعنوا في الطلب أي لا تبعدوا في الذهاب في الغنيمة وألف بين كل رجلين وقال : لا يفارق رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلي فيخبرني خبره ولا يأتيني رجل فأسأله عن صاحبه فيقول : لا علم لي به .
قال : فأحطنا بالحاضر فسمعت رجلاً يصرخ : يا خضراء ! فتفاءلت وقلت : لأصيبن خيراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل بمثل هذا فإنه لما خرج من الغار مع أبي بكر رضي الله عنه يريد المدينة مر على بريدة الأسلمي فأمر أبا بكر أن يسأله عن اسمه فلما قال : بريدة قال : برد لنا الأمر فلما قال : من أسلم قال سلمنا .
فعرفنا أنه لا بأس بالتفاؤل على هذه الصفة وحين عبر جيش المسلمين جيحون سمعوا رجلاً ينادي غلامه : يا ظفر ! فقالوا : قد ظفرنا وآخر ينادي غلامه : يا علوان ! فقالوا : قد علونا ثم روي نحو هذا عن زيد بن حارثة رضي الله عنه أنه فعله في سرية كان@(1/59)
هو أميرهم وقال : حين انتهينا إلى الحاضر في غبش الصبح يعني حين اختلط الظلام بالضوء وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ونعمهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذريتهم وكان في ذلك السبي جويرية بنت الحارث وعهد إلى أسامة أن يغير على أبنى صباحاً ثم يحرق والغارة لا تكون بدعوة .
وذكر عن الحسن قال : ليس للوم دعوة فقد دعوا في آباد الدهر أي قد بلغتهم الدعوة قبل زماننا أو مراده قد بشر عيسى عليه السلام إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يؤمنوا به إذا بعث كما قال الله تعالى : { وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } الصف : 6 وبالله التوفيق .
M0ا البركة في الخيل وما يصلح منها ذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة يعني الجهاد وإرهاب العدو كما قال الله تعلى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } الأنفال : 60 فأراد به الأجر لصاحبها كما قال في حديث آخر : " الخيل لثلاثة لرجل أجر وهو أن يمسكها في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها " وأراد بالخير استحقاق سهم من الغنيمة بالخيل وقد سمى الله تعالى خيراً في قوله تعالى { إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } البقرة : 180 والغنيمة خير لأنه مال مصاب بأشرف الجهات فيطلق عليه اسم الخير .
وعن صالح@(1/60)
بن كيسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير الخيل الشقر وهذه الصفة في الخيل تبين بالعرف والذنب فإن كانا أحمرين فهو أشقر وإن كانا أسودين فهو كميت .
وعن عبد الله بن أبي نجيح الثقفي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اليمن في الخيل في كل أقرح أدهم أرثم محجل الثلاثة طلق اليمنى فإن لم يكن فكميت بهذه الصفة " فالأقرح : هو الذي يكون في جبهته بياض بقدر الدرهم أو دون ذلك فإن كان البياض فوق ذلك فهو أغر .
والأدهم : اسم الأسود منه والأرثم : هو الذي يكون البياض في شفته العليا فوق الجحفلة ومحجل الثلاث طلق اليمنى : هو الذي يكون البياض في قوائمه الثلاث سوى اليمنى وهو ضد الأرجل والأرجل : ما يكون البياض في اليمنى من قوائمه خاصة وهذا يتشاءم به والأول يرغب فيه وهذا كان معروفاً بينهم في الجاهلية فقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وبين أن البركة فيما يكون بهذه الصفة من الخيل كما هو عند العوام من الناس .
وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : لا تخصين فرساً ولا تجرين فرساً فوق الميلين فمن الناس من أخذ بظاهر الحديث وكره خصاء الفرس لما روي أن علياً رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : إنما يفعل ذلك من لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب لهم في الآخرة وتأولوا فيه قوله تعالى : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ } النساء : 119 وجاء في التفسير أن المراد خصاء الدواب والمذهب عندنا أنه لا بأس بذلك فقد تعارفوا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا منازع بالاتفاق لا بأس بشراء الفرس الخصي وركوبه وقد كان فرس@(1/61)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة ولو كان هذا الصنيع مكروهاً لكن يكره شراؤه وركوبه ليكون زجراً للناس عن ذلك الفعل .
وتأويل النهي في حديث عمر رضي الله عنه ما ذكر محمد رحمه الله في الكتاب : أن صهيل الخيل يرهب العدو والخصاء يذهب صهيله فكره الخصاء لذلك لا لأنه حرام في الدين والمراد من اللفظ الثاني النهي عن إجراء الفرس فوق ما يحتمله أو على وجه التلهي به فإما إذا كانت المسابقة بالأفراس للرياضة فهو حسن لا بأس به .
وذكر عن عامر الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجرى وسبق يروى سبق بالتشديد والتخفيف فمعنى الرواية بالتخفيف أنه سبق صاحبه ومعنى الرواية بالتشديد أنه التزم على السبق صلة ولا بأس بالمسابقة بالأفراس ما لم تبلغ غاية لا تحتملها جاء في الحديث : تسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر رضي الله عنهما معنى قوله : صلى أي كان رأس دابته عند صلاء دابة رسول الله عليه السلام وهو الذنب .
وفي حديث مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحضر الملائكة شيئاً من الملاهي سوى النضال والرهان يعني الرمي والمسابقة " .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر " المراد بالحافر الفرس وبالخف الإبل وبالنضل الرمي .
وفي الحديث أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبق فشق ذلك على المسلمين فقال عليه السلام : ما رفع الله تعالى في الدنيا شيئاً إلا وضعه لذلك المسابقة على الأقدام لا بأس بها لحديث@(1/62)
الزهري قال : كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والركاب والأرجل لأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة أنفسهم حتى إذا ابتلوا بالطلب والهرب وهم رجالة لا يشق عليهم العدو لما يحتاجون إلى ذلك في رياضة الدواب .
فإن شرطوا جعلا نظر فإن كان الجعل من أحد الجانبين خاصة بأن قال لصاحبه : إن سبقتني أعطيتك كذا وإن سبقتك لم آخذ منك شيئاً فهو جائز على ما شرطا استحساناً لقوله عيه السلام : " المؤمنون عند شروطهم " وفي القياس لا يجوز لأنه تعليق المال بالخطر وأما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين فهو القمار بعينه والقمار حرام إلا أن يكون بينهما محلل وصورة المحلل أن يكون معهما ثالث والشرط أن الثالث إذا سبقهما أخذ منهما وإن سبقاه لم يعطهما شيئاً فهو فيما بينهما أيهما سبق أخذ الجعل من صاحبه فهذا جائز وهو مروي عن سعيد بن المسيب وهذا إذا كان المحلل على دابة يتوهم أن يسبق فإن كان لا يتوهم ذلك فلا فائدة في إدخاله بينهما ولا يخرج به شرطهما من أن يكون قماراً قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة رحمه الله يقول : على قياس هذا بالجري بين طلبة العلم يفتي فيه بالجواز أيضاً وهو إذا وقع الاختلاف بين اثنين في مسألة وأراد الرجوع إلا الأستاذ وشرط أحدهما لصاحبه أنه إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا وإن كان كما قلت لا آخذ منك شيئاً فهذا جائز وإن كان شرط من الجانبين فهو القمار وهذا لأن في الأفراس إنما جوز ذلك لمعنى يرجع إلى الجهاد فيجوز هنا أيضاً للحث على الجهاد في التعلم .
وذكر عن صفوان بن عمرو السكسكي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أصحاب السكسك ينهاهم عن الركض والمراد النخاسون وإنما نهاهم عن ركض يتعب الدابة من غير حاجة إلى ذلك أو@(1/63)
ركض يكون بتكلف لأن ذلك يغرر المشتري والغرور حرام والمراد الركض للتلهي من غير غرض وقد أمرنا بالإحسان إلى الخيول لإرهاب العدو بها ولا يجوز إتعابها بالركض تلهياً .
قال : ونهاهم أن يتركوا أحداً أن يركب بمبزع في سوطه يبزع به دابته أي بحديدة كما يفعله بعض النخاسين لنخس الدابة عند الركض وذلك يجرح الدابة من غير غرض فيه وربا يسري فلهذا نهاهم عن ذلك كما هو عادة العرب من اتخاذ حديدة في ظاهر الخف عند العقب لنخس الفرس به فإنه منهي عنه كما قلنا وكان عمر بن عبد العزيز ينهى عن ركض الفرس إلا في حق أي عند غرض صحيح في الجهاد أو غيره .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=4 - TOP#TOPباب كراهية الجرس
ذكر عن كعب قال : ما استنفر جيش من المسلمين إلا بعث الله ملكاً ينادي في ظهورهم : اللهم اجعل ظهورها شديداً وحوافرها حديداً إلا ذات الجرس وعن خالد بن معدان قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم راحلة عليها جرس فقال : تلك مطي الشيطان وعن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العير التي فيها جرس لا تصحبها الملائكة " فمن العلماء من أخذ بظاهر هذه الآثار وكرهوا اتخاذ الجرس على الراحلة في الأسفار في الغزو وغير ذلك .
وكرهوا أيضاً اتخاذ الجلاجل في رجل الصغير على ما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت امرأة معها صبي وفي رجله جلاجل فجعلت@(1/64)
تقول : نحي عنه ما ينفر الملائكة .
وتأويل هذه الآثار عندنا أنه كره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب فإنهم إذا قصدوا أن يبيتوا العدو علم بهم العدو بصوت الجرس فيبدرون بهم فإذا كانوا سرية علم بهم العدو فأتوهم فقتلوهم فالجرس في بهذه الحالة يدل المشركين على المسلمين فهو مكروه وأما ما كان في دار الإسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به يعني قد ينتفع المسلمون في أسفارهم بصوت الجرس يدفعون به النوم عن أنفسهم ومن يضل عن الطريق يتمكن من اللحوق بهم بصوت الجرس فلا يضل ومن الدواب ما ينشط في السير بصوت الجرس فإذا أمنوا اللصوص وكان في الجرس منفعة لهم بهذه الصفة فلا بأس باتخاذه وهو نظير الحداء وذلك معروف في العرب وقد أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكن يسير بالليل والحادي يحدي بين يديه فعرفنا أنه لا بأس بمثله وما يكون في أرجل الصبيان على سبيل اللهو من غير منفعة فلا يستحب أيضاً وإن كان فيه منفعة فلا بأس .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=4 - TOP#TOPباب رفع الصوت
قال : ولا يستحب رفع الصوت في الحرب من غير أن يكون ذلك مكروهاً من وجه الدين ولكنه فشل فإن كان فيه تحريض ومنفعة للمسلمين فلا بأس به يعني أن المبارزين يزدادون نشاطاً برفع الصوت وربما يكون فيه إرهاب للعدو على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : صوت أبي دجانة في الحرب فئة فأما إذا لم يكن فيه منفعة فهو فشل وربما يدل على الجيش فلهذا لا يستحب .
وذكر عن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله@(1/65)
صلى الله عليه وسلم كان يكره رفع الصوت عند ثلاثة : عند قراءة القرآن وعند الجنائز وعند الزحف أي القتال .
وعن قيس بن عباد قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند الثلاثة : الجنائز والقتال والذكر والمراد بالذكر الوعظ ففي الحديثين كراهة رفع الصوت عند سماع القرآن والوعظ فتبين به أن ما يفعله الذين يدعون الوجد والمحبة مكروه ولا أصل له في الدين ويستبين به أنه تمنع الصوفية مما يعتادونه من رفع الصوت وتخريق الثياب عند السماع فإن ذلك مكروه في الدين عند سماع القرآن والوعظ فما ظنك عند سماع الغناء ! فأما رفع الصوت عند الجنائز فالمراد به النوح وتمزيق الثياب وخمش الوجه فذلك حرام والمراد ما كان عليه أهل الجاهلية من الإفراط في مدح الميت عند جنازته حتى كانوا يذكرون في ذلك ما هو شبه المحال وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا " أراد به والله أعلم أن امنعوه عن ذلك ولا تذكروه بسوء .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=4 - TOP#TOPباب العمائم في الحرب
قال : ولبس العمائم في الحرب وغيرها حسن من أمر المسلمين فإن العمائم تيجان العرب وقال صلى الله عليه وسلم : " تعمموا تزدادوا حلماً " .
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء فعرفنا أن ذلك حسن .
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما@(1/66)
قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال : تجهز فإني باعثك في السرية الحديث إلى أن قال : وعلى عبد الرحمن عمامة قد لفها على رأسه فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه ونقض عمامته بيديه ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه شيئاً منها ثم قال : هكذا فاعتم يا ابن عوف وإنما فعل ذلك إكراماً له خصه بهذه الكرامة من بين الصحابة رضي الله عنهم وفيه دليل على أن المستحب إرخاء ذنب العمامة بين الكتفين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من قدر ذلك بشبر ومنهم من قال : إلى وسط الظهر ومنهم من قال : إلى موضع الجلوس وفي هذا دليل على أن يجدد اللف لعمامته لا ينبغي أن يرفعها من رأسه دفعة واحدة لكن ينقضها كما لفها فقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا بعمامة ابن عوف وذلك بمنزلة النشر غب الطي فيكون أولى من النشر والإلقاء على الأرض دفعة واحدة .
باب القتال في الأشهر الحرم
ذكر عن سليمان بن يسار أنه سئل : هل يصلح للمسلم أن يقاتل الكفار في الأشهر الحرم قال : نعم وبه نأخذ وكان عطاء يقول : لا يحل القتال في الأشهر الحرم لقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5 ولكنا نقول : هذا@(1/67)
منسوخ ناسخه قول الله تعالى { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } التوبة : 5 يفيد إباحة قتلهم في كل وقت ومكان والمراد بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } مضى مدة العهد الذي كان لبعضهم لا بيان حرمة القتال في الأشهر الحرم ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا الطائف لست مضين من المحرم ونصب المنجنيق عليها وافتتحها في صفر ونسخ الكتاب بالسنة المشهورة التي تلقاها العلماء بالقبول جائز .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب هجرة الأعراب
وعن الحسن رضي الله عنه قال : هجرة الأعراب إذا ضمهم ديوانهم وقد كانت الهجرة فريضة في الابتداء قال الله تعالى : { وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } الأنفال : 72 وقال صلى الله عليه وسلم : " ثم ادعوهم إلى التحول إلى دار المهاجرين فإن أبوأ فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الفيء ولا في الغنيمة نصيب@(1/68)
ومن مذهب الحسن أنه لم ينسخ هذا الحكم وأن من أسلم من الأعراب فعليه أن يثبت اسمه في ديوان الغزاة ليكون مهاجراً فقد كان المقصود بالهجرة في ذلك الوقت القتال وعلى قول أكثر العلماء رضي الله عنهم فرضية الهجرة انتسخت يوم فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح إنما هو جهاد ونية " وقال : المهاجر من أمتي من هجر السوء أو قال : ما نهى الله عنه .
وإليه أشار محمد رحمه الله فقال : إذا وطن الأعرابي مصراً من أمصار المسلمين فقد خرج من الأعرابية وصار من أهل الأمصار التحق في الديوان أو لم يلحق وإنما شرط أن يتوطن مصراً ليتعلم شرائع الدين فإن تمكن من ذلك في قبيلتة فلا حاجة إلى توطن المصر ولكن إذا تعلم ما يحتاج إليه فقد خرج من الأعرابية يعني ما وصف الله به الأعراب في قوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ
حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ } التوبة : 97 .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب صلة المشرك
وذكر عن أبي مروان الخزاعي قال : قلت لمجاهد : رجل من أهل الشرك بيني وبينه قرابة ولي عليه مال أدعه له قال : نعم وصله وبه نأخذ فنقول : لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريباً كان أو بعيداً محارباً كان أو ذمياً لحديث سلمة بن الأكوع قال : صليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت مس كف بين كتفي فالتفت فإذا رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال : هل أنت واهب لي ابنة أم قرفة قلت : نعم فوهبتها له فبعث بها@(1/69)
إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرك وهي مشركة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة دينار إلى مكة حين قحطوا وأمر بدفع ذلك إلى أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقا على فقراء أهل مكة فقبل ذلك أبو سفيان وأبي صفوان وقال : ما يريد محمد بهذا إلا أن يخدع شبابنا ولأن صلة الرحم محمود عند كل عاقل وفي كل دين والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق وقال صلى الله عليه وسلم : " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعاً .
ثم ذكر عن كعب بن مالك قال : قدم عامر بن مالك أخو البراء وهو مشرك فأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرسين وحلتين فقال عليه السلام : " لا أقبل هيدية مشرك " وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا المشركين وأنه أهدى مع عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان تمر عجوة واستهداه أدماً فقبل هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له الأدم وأن نصرانياً أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً يتلألأ فقبل هديته وأن عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أسلمت يا عياض فقال : لا قال عليه السلام : " إن الله تعالى نهاني أن أقبل زبد المشركين " أي : عطاياهم وذكر الزهري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زبد المشركين أي : عن قبول هديتهم فتأويل ما روي أنه لم يقبل من وجوه : أحدها أنه لم يقبل ممن كان يطمع في إيمانه إذا رد هديته ليحمله ذلك على أن يؤمن ثم يقبل هديته أو لم يقبل لأنه كان فيهم من يطالب بالعوض ولا يرضى بالمكافأة بمثل ما أهدى وبيان هذا في قوله صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن لا أقبل هدية الأعراب وفي رواية : " لا أقبل الهدية إلا من قرشي أو ثقفي " وأيد هذا ما@(1/70)
روي أن عامر بن مالك كان أهدى إليه فرسين قد كان أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أيديهم في بعض الحروب فعوضه رسول الله فوق هديته فجعل يطلب الزيادة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته : " ما بال أقوام يهدون ما نعرفه أنه لنا ثم لا يرضون بالمكافأة بالمثل " وإنما لم يقبل هدية عامر لأن أباه كان أجار سبعين نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قتلهم قومه وهم أصحاب بئر معونة وفي هذا قصة
معوفة فلهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته .
ثم قال محمد رحمه الله : يكره لأمير الجيش أن يقبل هداياهم فإن قبلها فليجعلها فيئاً للمسلمين وتكلموا في معنى هذا اللفظ فقيل : هذا ليس بكراهة التحريم ولكن مراده التنزيه لأنه إذا قبل هداياهم لا يأمن أن يتألفهم على ما جاء في الحديث : " الهدية تذهب وحر الصدر " وقد أمرنا بالغلظة عليهم قال الله تعالى { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } التوبة : 123 وقيل : المراد به لا يحل له أن يقبلها على أن يختص بها ولكنه يقبلها على أن يجعلها في فيء المسلمين لأنهم أهدوا إليه لمنعته ومنعته بالمسلمين لا بنفسه وكذلك إذا أهدوا إلى قائد من قواد المسلمين بخلاف ما إذا أهدوا إلى مبارز فإن عزته بقوة في نفسه فتسلم له الهدية وأما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت الهدية له فإن عزته تومنعته لم تكن بالمسلمين قال الله تعالى : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } المائدة : 67 وما كان في حقه توهم الركون بقلبه إذا قبل هداياهم فلهذا قبلها في بعض الأوقات واختلفت الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يقبلان هدية المختار وهكذا نقل عن إبراهيم النخعي وكان أبو ذر وأبو الدراداء رضي الله عنه مائة دينار فجعل يقول : هل أهدي إلى كل مسلم مثل هذا فقيل : لا فردها وقال : { كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } المعارج : 15 16 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : للسلطان نصيب من الحلال والحرام فإذا أعطاك شيئاً فخذه فإن ما@(1/71)
يعطيه حلال لك وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال وإن كان صاحب تجارة أو زرع أكثر ماله من ذلك فلا بأس بقبول الجائزة منه
ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حرام وفي قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض المشركين دليل على ما ذكرنا .
وبالله التوفيق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب المبارزة
ذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو يتغنى فقال : أتتغنى فقال : أخشى أن أموت على فراشي وقد قتلت سبعة وسبعين من المشركين بيدي سوى ما شاركت فيه بالمسلمين وفيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يتغنى إذا كان وحده ليدفع به الوحشة عن نفسه فإن البراء بن مالك رضي الله عنه كان من زهاد الصحابة رضي الله عنهم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أقسم على الله لأبره " ثم كان يتغنى في مرضه حين بقي وحده واستبعد ذلك منه أنس فبين أنه لا يفعل هذا تلهياً ولكن يدفع الوسواس عن نفسه فإنه كان يطمع في الشهادة وخشي أن يموت في مرضه فاستوحش من ذلك وجعل يتغنى فعرفنا أن هذا القدر لا بأس به إنما المكروه ما يكون على سبيل اللهو على ما قال صلى الله عليه وسلم : " أنهاكم عن صوتين أحمقين فاجرين صوت الغناء فإنه مزمار الشيطان وخمش الوجوه وشق الجيوب رنة الشيطان " يعني رفع الصوت عند المصيبة ثم صح أن البراء رضي الله عنه برأ من مرضه ثم استشهد كما كان يطمع .@(1/72)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب من قاتل فأصاب بنفسه
وذكر عن مكحول أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول رجلاً من العدو ليضربه فأخطأ فأصاب رجله فنزف حتى مات فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحابه رضي الله عنهم أشهيد هو قال : نعم وأنا عليه شهيد وتأويل الحديث أنه شهيد فيما تناول من الثواب في الآخرة فأما من ابتلي بهذا في الدنيا يغسل ويكفن ويصلى عليه لأن الشهيد الذي لا يغسل من يصير مقتولاً بفعل مضاف إلى العدو وهذا صار مقتولاً بفعل نفسه ولكنه معذور في ذلك لأنه قصد العدو لا نفسه فيكون شهيداً في حكم الآخرة ويصنع به ما يصنع بالميت في الدنيا وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " المبطون شهيد والنفساء شهيد المرأة التي تموت بجمع لم تطمث شهيد " يعنى في أحكام الآخرة لا في أحكام الدنيا ثم اختلفت مشايخنا فيمن تعمد قتل نفسه بحدية أنه هل يصلى عليه فمنهم من قال : لا يصلي عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل نفسه بحديدة فحديته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً ومن تردى من موضع فهو يتردى في نار جهنم قال رضي الله عنه وكان شيخنا الإمام يقول : الأصح عندي أن يصلى عليه وأن تقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى : " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وتأويل الحديث@(1/73)
فيمن استحل ذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " قال رضي الله عنه وسمعت القاضي الإمام علي السغدي يقول : الأصح وذكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ! زعم أسيد بن حضير أن عامر بن سنان بن الأكوع حبط عمله وكان ضرب يهودياً فقطع رجله ورجع السيف على عامر بن سنان بن الأكوع حبط عمله وكان ضرب يهودياً فقطع رجله ورجع السيف على عامر فعقره فمات منها فقال : كذب من قال ذلك إن له لأجرين إنه جاهد مجاهد وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص وبه نقول إنه معذور فيما أصيب به مثاب
على ما صنع فإنه جاهد في قتل الكافر مبالغ في ذلك مصاب حين رجع إليه السيف فعقره وصبر على ذلك إلى أن مات فهو مجاهد صابر و { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر : 10 فهذا مجاهد صابر و { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر : 10 فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن له لأجرين " .
قال : وإذا التقت السريتان ليلاً من المسلمين وكل واحد ترى أن صاحبتها من المشركين فاقتتلوا فأجلوا عن قتلى ثم علموا فلا شيء عليهم من دية ولا كفارة لأن كل واحدة من السريتين باشرت دفعاً مباحاً فقد قصدت كل سرية إلى الأخرى وإنما قتلتها الأخرى دفعاً عن أنفسهم وذلك دفع مأمور به شرعاً فلا يكون موجباً دية ولا كفارة .
والأصل فيه ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : خرجت طليعتان@(1/74)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ليلاً فالتقتا تحت الليل ولا يشعر بعضهم ببعض ويظنون أنهم العدو فكانت بينهم جراحات وقتلى ثم تنادوا بشعار الإسلام فكف بعضهم عن بعض وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جراحاتكم في سبيل الله ومن قتل منكم فهو شهيد إذا كان القوم من المسلمين يقاتلون المشركين فقتل مسلم مسلماً ظن أنه مشرك أو رمى إلى مشرك فرجع السهم فأصاب مسلماً فقتله فعليه الدية والكفارة لأن هذا صورة الخطأ والدية والكفارة في قتل الخطأ واجب بالنص .
والأصل في هذا ما روي أن سيوف المسلمين اختلفت يوم أحد على اليمان أبي حذيفة فقتلوه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الدية فوهبها لهم حذيفة وكان المعنى في الفرق بين هذا والأول أن المقتول هاهنا ما كان قاصداً قتل صاحبه الذي قتله وكانت حرمة نفسه باقية في نفسه فيجب الدية صيانة لدمه عن الهدر وفي الأول المقتول كان قاصداً إلى قتل صاحبه وذلك يسقط حرمة نفسه في حقه فإنما قتله بدفع مباح .@(1/75)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب قتل ذي الرحم المحرم
قال : ولا بأس بأن يقتل الرجل من المسلمين كل ذي رحم محرم منه من المشركين يبتدئ به إلا الوالد خاصة فإنه يكره له أن يبتدئ والده بذلك وكذلك جده من قبل أبيه أو من قبل أمه وإن بعد إلا أن يضطره إلى ذلك لقوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }
لقمان : 15 فالمراد الأبوان إذا كانا مشركين بدليل قوله تعالى { وَإِن جَاهَدَاكَ } الآية لقمان : 15 وليس من المصاحبة بالمعروف البداية بالقتل وأما إذا اضطره إلى ذلك فهو يدفع عنه نفسه وهو مأمور بالبداية بنفسه في الإحسان إليها ودفع شر القتل عنها أبلغ جهات الإحسان ثم الأب كان سبباً لإيجاد الولد فلا يجوز للولد أن يجعل نفسه سبب إعدامه بالقصد إلى قتله إلا أن يضطره إلى ذلك فحينئذ يكون الأب هو المكتسب لذلك السبب بمنزلة الجاني على نفسه على ما هو الأصل أن الملجأ بمنزلة الآلة للملجئ ولهذا لا يحبس الأب بدين الولد ويحبس بنفقته لأنه إذا منع نفقته فقد قصد إتلافه ثم استدل محمد رحمه الله في الكتاب بما روى : أن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنهما أستاذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما فنهاهما عن ذلك وعن عمير ابن مالك رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ! إني لقيت أبي في العدو فسمعت منه مقالة لك سيئة فقتلته فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا دليل على أنه لا@(1/76)
يستوجب بقتله شيئاً إذا قتله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بشيء والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه لا يجوز وأول الوجوه أن لا يقصده بالقتل ولا يمكنه من الرجوع إذا تمكن منه في الصف ولكنه يلجئه إلى موضع ويستمسك به حتى يجيء غيره فيقتله روي في الكتاب حديثاً بهذه الصفة قال : فهو أحب إلينا فإما إباحة قتل غير الوالدين والمولودين من ذي الرحم المحرم من المشركين فقد بيناه في الجامع الصغير وبالله التوفيق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب البكاء على القتلى
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببني عبد الأشهل وهم يندبون قتلاهم يوم أحد فقال : لكن حمزة لا بواكي له قالت المرأة التي روت : فخرجنا حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فندبنا حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت حتى سمعنا نشيجه في البيت فأرسل إلينا أن قد أصبتم أو قد أحسنتم وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن حمزة كان سيد الشهداء يومئذ لكنه كان غريباً بالمدينة فندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وذكر في المغازي : أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء قومه وكذلك سعد بن عبادة وكذلك معاذ بن جبل فجاء كل فريق إلى باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يندبون حمزة رضي الله عنه فاستأنس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكائهم حتى نام .
ومن ذلك الوقت جرى الرسم بالمدينة أنه إذا مات منهم ميت يبدءون بالبكاء لحمزة رضي الله عنه@(1/77)
والرجال في تعزية بعضهم بعضاً يقولون : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون على ذلك .
ثم أعاد الحديث بطريق ابن عمر رضي الله عنهما وزاد في آخره : فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يبكين فقال : يا ويحهن ! إنهن لها هنا منذ اليوم فليرجعن ولا يبكين علي هالك بعد اليوم فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث وقال : هذه رخصة كانت يومئذ وقد انتسخت بما ذكر في آخر الحديث وأكثرهم على أن رفع الصوت بالبكاء والنوح قد انتسخ ولا رخصة فيه على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : النائحة ومن حولها من مستمعيها عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
وأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به لما روي أنه لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : أليس قد نهيتنا عن البكاء فقال : " إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين وأما هذه رحمة يجعلها الله تعالى في قلوب الرحماء العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يسخط الرب " .
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع امرأة وهي تبكي على ولدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعها يا عمر فإن القلب حزين والنفس مصابة والعهد قريب " ولكن مع هذا الصبر أفضل على ما قال الله تعالى : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } البقرة : 156 .@(1/78)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب حمل الرءوس إلى الولاة
وذكر عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس يناق البطريق فأنكر ذلك فقيل له : يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون ذلك بنا قال : فاستنان بفارس والروم لا يحمل إلي راس إنما يكفي الكتاب والخبر فبظاهر الحديث أخذ بعض العلماء وقال : لا يحل حمل الرءوس إلى الولاة لأنها جيفة فالسبيل دفنها لإماطة الأذى ولن إبانة الرأس مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور وقد بين أبو بكر رضي الله عنه أن هذا من فعل أهل الجاهلية وغيظ للمشركين أو فراغ قلب للمسلمين بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك .
ألا ترى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم بدر حتى ألقاه بين يديه فقال : هذا رأس عدوك أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى ألقاه بين يديه فقال : هذا رأس عدوك أبي جهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ! هذا فرعوني وفرعون أمتي وكان شره علي أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته " وما منعه ولم ينكر عليه ذلك .
وهو معنى ما رواه عن الزهري رحمه الله قال : لم يحمل إلى رسول@(1/79)
الله صلى الله عليه وسلم رأس إلا يوم بدر .
وحمل إلى أبي بكر رضي الله عنه فأنكره وأول من حملت إليه الرءوس ابن الزبير رضي الله عنه ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن عبد الله قال عبد الله : فضربت عنقه وأخذت برأسه فصعدت إلى جبل فاختبأت فيه حتى إذا رجع الطلب وجهت برأسه حتى جئت به النبي صلى الله عليه وسلم وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه بقتل كعب بن الأشرف جاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك فتبين بهذه الآثار أنه لا بأس بذلك والله الموفق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب السلاح والفروسية
ذكر عن عتبة بن أبي حكيم رضي الله عنه قال : ذكرت القوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما سبقها سلاح قط إلى خير " يعني أنه أقوى آلات الجهاد فيه حث للغزاة على تعلم الرمي وفي ذلك آثار منها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } الأنفال : 60 " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً وفي حديثه أيضاً " إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة : صانعه الذي يحتسب به ومنبله والرامي به " وقال : " كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاثة : تأديبه فرسه وملاعبته أهله ورميه@(1/80)
عن قوسه وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد بين أبويه إلا لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم أحد فقال : " ارم فداك أبي وأمي " .
وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب أن وفروا الأظافير في أرض العدو فإنها سلاح وهذا مندوب إليه للمجاهدين في دار الحرب وإن كان قص الأظافير من الفطرة لأنه إذا سقط السلاح من يده وقرب العدو منه ربما يتمكن من دفعه بأظافيره وهو نظير قص الشوارب فإنه سنة ثم الغزي في دار الحرب مندوب إلى أن يوفر شاربه ليكون أهيب في عين العدو فيحصل به الإرهاب .
وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال : علموا أولادكم السباحة والفروسية ومروهم بالاحتفاء بن الأغراض وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في حديثه " علموا أولادكم السباحة والرمي والمرأة الغزل " وقال : " اركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا " والحاصل أن ما يعينه على الجهاد فهو مندوب إلى تعلمه وإلى أن يعود نفسه ذلك لما فيه من إعزاز الدين وقهر المشركين .
وعن عبيد بين عمير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوم فتح مكة : أفطروا فإنه يوم قتال وفيه دليل على أنه فتحت عنوة بالقتال وأن الأفضل للغازي إذا كان يقاتل العدو في شهر رمضان أن يفطر فإن الصوم ربما@(1/81)
يضعفه عن شيء من القتال والخلل الذي يتمكن بذلك لا يمكنه تداركه في غير هذا الوقت وهو يتمكن من أداء الصوم في عدة من أيام أخر ولهذا كان الفطر أفضل للمريض والمسافر إذا كان يجهده الصوم فلأن يكون أفضل للمسافر المقاتل كان أولى .
وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم يعني يوم فتح مكة ورأيت بلالاً رضي الله عنه أدخل وضوءه إليه ثم أخرجه يهريقه فرأيت الناس يبتدرونه فمن أصاب منه شيئاً تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل يد صاحبه فتمسح به وبه يستدل محمد رحمه الله على طهارة الماء المستعمل لأنهم كانوا يتبركون بذلك ولا يتبرك بما هو نجس فلو كان نجساً لأنكر عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حنيفة يعتذر ويقول : لم ينقل أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يستقيم الاحتجاج به أن لو بلغه فلم ينكر عليهم .
قال : ثم رأيت بلالاً رضي الله عنه أخرج عنزة فركزها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء متشمراً فصلى إلى العنزة بالناس ركعتين ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه العنزة : شبه الحربة كانت تحمل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره لتركز بين يديه إذا صلى .
ومنه عادة الأمراء في حمل السلاح أمامهم وفيه دليل أنه لا بأس بلبس بالثوب الأحمر وأن المصلي في الصحراء ينبغي أن يتخذ السترة بين يديه وأنه إذا كانت السترة بين يدي الإمام خاصة فذلك يكفي ولا تشترط السترة بين يدي القوم لأن الإمام بمنزلة السترة للصف الأول والصف الأول للثاني وأنه لا يمنع أحد من المرور وراء السترة لأن السترة تحول بينه وبين المصلي بمنزلة الحائط .
والمقصود من السترة ان يعلم به من يكون بالبعد منه فلا يمر بينه وبين السترة ولا يمتنع من المرور وراءه ولا يحصل ذلك إلا إذا كان طويلاً غليظاً فقيل : ينبغي أن يكون طوله دراعاص وغلظته بقدر الأصبع لما قال : بلغين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يجزئ من السترة السهم " والله المعين .@(1/82)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=5 - TOP#TOPباب الحرب كيف يعبأ له
وفي نسخة : كيف تغشاه ذكر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث رحمه الله قال : لما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين وهو واد حدور ذو شعاب ومضايق وفرق الناس فيه وأوعز إلى الناس أن يحملوا على محمد وأصحابه حملة واحدة أي أمرهم بذلك وتقدم إليهم فيه ومالك هذا كان صاحب الجيش يوم حنين فكان أمرهم أن يستصحبوا أهاليهم وأموالهم ليقاتلوا عنهم إن لم يقاتلوا عن دينهم فخطأه دريد بن الصمة في هذا الرأي وقال له : راعي الضأن ماله وللحرب وهل يرد المنهزم شيء هذا الذي تسوقونه كله غنائم محمد وأصحابه قيل : فما الرأي قال : أن تحملوا الظعن إلى علياء بلادكم وأن يلقى الرجال بالسيوف على متون الخيل عدوهم فقال مالك : لا أغير ما صنعت فهل غير هذا قال : نعم اجعل الناس فريقين : يمنة ويسرة ليكمنوا في هذه الشعاب والمضايق حتى إذا دخلها العدو خرجوا من الجانبين فحملوا عليهم حملة واحدة فقال : أما هذه فنعم وفعل ذلك برأيه عبى@(1/83)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فصفهم صفوفاً في السحر ووضع الألوية في أهلها الحديث إلى أن قال : فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي حنين انحداراً وهو واد حدور ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء بدلدل واستقبل الصفوف فطاف عليهم يحثهم على القتال ويبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا وهكذا ينبغي للإمام أن يفعله في موضع الخوف وبالليل إذا كانوا بالقرب من العدو .
قال : فبيانهم على ذلك ينحدرون في غبش الصبح إذا حمل المشركون عليهم حملة واحدة من تلك الشعاب والمضايق فانكشف أو الخيول خيل بني سليم مولية يعني انهزمت راجعة ثم تبعهم أهل مكة وتبعهم الناس مدبرين فلا يلوي أحد على أحد وفي المغازي أن إبليس عليه اللعنة نادى : ألا إن محمداً قد قتل فليرجع كل ذي دين دينه فلهذا انهزموا كما قال تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } التوبة : 25 وأمعن بعضهم في الانهزام حتى انتهى إلى مكة وسمع صفوان بن أمية واحداً من المنافقين يقول : قتل محمد واستراح الناس منه وكان صفوان يومئذ مشركاً فقال : بفيك الأثلب لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازان إذا كنت مربوباً .
قال : فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابته حتى رأى المسلمين ولوا مدبرين فثبت قائماً وجرد سيفه وطرح غمده فجعل يتقدم في نحر العدو وهو يصيح بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة يوم الحديبية الله الله ! الكرة على نبيكم وذكر في المغازي أنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه العباس@(1/84)
رضي الله عنه على يمينه وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهما على يساره وما كان كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم يوم فتح مكة إلى هذا الوقت لكثرة ما كان آذاه بهجائه فحين رأى ذلك الجد منه كلمه وعانقه وبلغ الله صوت رسول إلى المهاجرين والأنصار فكبروا بأجمعهم وحملوا على العدو حملة واحدة فانهزم العدو قبل أن يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف كما قال الله تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } التوبة : 26 .
ذكر عن سعيد بن ذي حدان قال : أخبرني من سمع علياً رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحرب خدعة أو خدعة بالنصب " وكلاهما لغة وفيه دليل على أنه لا بأس للمجاهد أن يخادع قرنه في حالة القتال وأن ذلك لا يكون غدراً منه وأخذ بعض العلماء بالظاهر فقالوا : يرخص في الكذب في هذه الحالة واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يصلح الكذب إلا في ثلاث : في الصلح بين اثنين وفي القتال وفي إرضاء الرجل أهله والمذهب عندنا أنه ليس المراد الكذب المحض فإن ذلك لا رخصة فيه وإنما المراد استعمال المعاريض وهو نظير ما روي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كذب ثلاث كذبات والمراد : أنه تلكم بالمعاريض إذ الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه معصومون عن الكذب المحض .
وقال عمر : إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب@(1/85)
وتفسير هذا ما ذكره محمد رحمه الله في الكتاب : وهو أن يكلم من يبارزه بشيء وليس المر كما قال : ولكنه يضمر خلاف ما يظهره له كما فعل علي رضي الله عنه يوم الخندق حين بارزه عمرو بن ورد قال : أليس قد ضمنت لي أن لا تستعين علي بغيرك فمن هؤلاء الذين دعوتهم فالتفت كالمستبعد لذلك فضرب على ساقيه ضربة قطع رجليه وكان من الخدعة أن يقول لأصحابه قولاً ليري من سمعه أن فيه ظفراً أو أن فيه أمراً يقوي أصحابه وليس الأمر كذلك حقيقة ولكن يتكلم على وجه لا يكون كاذباً فيه ظاهراً على ما روي أن علياً رضي الله عنه في حروبه كان ينظر إلى الأرض ثم يرفع رأسه إلى السماء يقول : ما كذبت ولا كذبت يري من حضره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما ابتلي به وأمره في ذلك بما أمر به أصحابه ولعله لا يكون كذلك فهذا ونحوه لا بأس به وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجنة لا يدخلها العجائز " فلما سمعت العجوز ذلك جعلت تبكي حتى بين لها صفة أهل الجنة حين يدخلونها ومن هذا النوع أن يقيد كلامه بلعل وعسى فإن ذلك بمنزلة الاستثناء يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة على ما قال : بلغنا أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق واسم هذا@(1/86)
الرجل مذكور في المغازي نعيم بن مسعود الثقفي فقال : يا رسول الله إن بني قريظة قد غدرت وبايعت أبا سفيان وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلعلنا نحن أمرناهم بهذا فرجع إلى أبي سفيان وقال : زعم محمد أنه أمر بني قريظة بهذا فقال : أنت سمعته يقول هذا قال : نعم قال : فو الله ما كذب وتمام هذه القصة ذكر في المغازي من وجهين : أحدهما : أن بني قريظة كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن جاء الأحزاب ومعهم حيي بن أخطب رأس بني النضير فما زال بكعب بن الأشرف وبني قريظة حتى نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
بايعوا أبا سفيان على أن يغيروهم على المدينة والأحزاب يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاشتد الأمر على المسلمين لذلك كما قال الله تعالى : { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } الأحزاب : 10 فجاء نعيم بن مسعود يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المبالغة وهو كان مشركاً يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلعلنا أمرناهم بذلك " يريد أن هذا من مواطأة بيننا وبينهم حتى نحيط بالأحزاب من كل جانب فلما خرج من عنده قال له عمر : يا رسول الله أمر بني قريظة أهون من أن يؤثر عنك شيء من أجل صنيعهم فقال صلى الله عليه وسلم : " الحرب خدعة يا عمر " فكانت تلك الكلمة سبب تفرقهم وتفرق كلمتهم وانهزامهم والوجه الآخر : أنهم بعد هذه المبايعة قالوا لحيي بن أخطب : لا نأمن أن يطول الأمر وتذهب الأحزاب ونبقى مع محمد فيحاصرنا ويخرجنا من ديارنا كما فعل بك وبأصحابك فقال حيي بن أخطب : أنا أطلب منهم أن يبعثوا سبعين من أبناء كبرائهم إليكم ليكونوا رهناً في حصنكم وكان نعيم بن مسعود عندهم حين جرت هذه المحاورة فحثهم على ذلك فقالوا : هو الرأي ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما جرى فقال صلى الله عليه وسلم : " فلعلنا أمرناهم بذلك " فجاء إلى أبي سفيان فوجد عنده رسول بني قريظة يسأله الرهن فقال له : هل علمت أن محمداً لم يكذب قط قال : نعم فقال : إني سمعته الآن يقول كذا وهذا مواطأة بينه وبين بني قريظة ليأخذوا@(1/87)
سبعين منكم فيدفعوهم إليه ليقتلهم وقد ضمن لهم على ذلك إصلاح جناحهم يعني رد بني النضير إلى دارهم فقالوا : هو كما قلت واللات والعزى وكان ذلك يوم الجمعة فبعث إلى بني قريظة أن اخرجوا على تلك المبايعة التي بيننا فقد طال الأمر فقالوا : غداً يوم السبت ونحن لا نكسر السبت ومع ذلك لا نخرج حتى تعطونا الرهن فقال أبو سفيان : هو كما أخبرنا به نعيم وقذف الله الرعب في قلوبهم
فانهزموا في تلك الليلة وكفى الله المؤمنين القتال .
قال محمد ابن الحسن رحمه الله فهذا ونحوه من مكائد الحرب فلا بأس به .
باب : الفرار من الزحف
قال محمد رحمه الله : لا أحب لرجل من المسلمين به قوة أن يفر من رجلين من المشركين وهذا لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } الأنفال : 16 وفيها تقديم وتأخير معناه : ومن يولهم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة أي سرية للقتال بالكرة على العدو من جانب آخر أو متحيزاً إلى فئة : أي ينحاز فيتوجه إليهم يقال : تحوز وتحيز@(1/88)
إلى فلان : أي انضم إليه والفئة : القوة والجماعة .
واختلف أه التفسير فقال قتادة والضحاك : كان هذا يوم بدر خاصة إذ لم يكن للمسلمين فئة ينحازون إليها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معهم وأكثرهم على أنه لم ينسخ هذا الحكم والفرار من الزحف من الكبائر على ما قال صلى الله عليه وسلم : " خمس من الكبائر لا كفارة فيهن " وذكر في الجملة الفرار من الزحف وقال : " إن من أعظم الموبقات الشرك بالله وأكل ما ل اليتيم والتولي يوم القتال وقذف المحصنات " ثم إن كان عدد المسلمين مثل نصف عدد المشركين لا يحل لهم الفرار منهم وكان الحكم في الابتداء أنهم إذا كانوا مثل عشر المشركين لا يحل لهم أن يفروا كما قال الله تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } الأنفال : 62 ومن خبر الله أنه غالب فليس له أن يفر ثم خفف الأمر فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ } إلى قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } الأنفال : 66 وهذا إذا كان بهم قوة القتال بأن كانت معهم الأسلحة فأما من لا سلاح له فلا بأس بأن يفر ممن معه السلاح وكذلك لا بأس بأن يفر ممن يرمي إذا لم يكن معه آلة الرمي ألا ترى أن له أن يفر من باب الحصن ومن الموضع الذي يرمى فيه بالمنجنيق لعجزه عن المقام في ذلك عشر ألفاً كلمتهم واحدة فحينئذ لا يجوز لهم أن يفروا من العدو وإن كثروا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لن يغلب اثنا عشر ألفاً عن قلة " ومن كان غالباً فليس له أن يفر .
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد وأنا فيهم فحاص المسلمون حيصة يعين انهزموا من العدو فلما قدمنا المدينة قلنا : نحن الفرارون فقال : صلى الله عليه وسلم : " بل@(1/89)
أنتم المكارون في سبيل الله أنا لكم فئة " لترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله " والمراد بالعكار الراجع إلى القتال في سبيل الله يعني : كان هذا منكم تحيزاً إلي أنا لكم فئة لترجعوا معي إلى الجهاد في سبيل الله .
قال محمد رحمه الله : قتل أبو عبيد الثقفين وهو أبو المختار يوم قس الناطف اسم موضع وأبي أن يرجع حتى قتل فقال عمر رضي الله عنه : يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي كنت له فئة ففي هذا بيان أنه لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلمين من العدو ما لا يطيقهم ولا بأس بالصبر أيضاً بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء النفس في التهلكة بل في هذا تحقيق بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم منهم عاصم بن ثابت حمي الدبر وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فعرفنا أنه لا بأس به والله الموفق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=6 - TOP#TOPباب من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا
قال : وإذ أسلم رجل من أهل الحرب فقتله رجل من المسلمين قبل أن يخرج إلى دار الإسلام خطأ فعليه الكفارة ولا دية عليه وفي الإملاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا كفارة عليه أيضاً لأن وجوبها باعتبار تقوم الدم لا باعتبار حرمة القتل فقط ألا ترى@(1/90)
أنها لا تجب بقتل نساء أهل الحرب وتقوم الدم يكون بالإحراز بدار الإسلام والدليل على وجوب الكفارة قوله تعلى : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } النساء : 92 جاء في التفسير عن عطاء ومجاهد رحمهما الله : أنه الرجل يسلم فيقتل خطأ قبل أن يأتي المسلمين وقبل نزول الآية في رجل يقال له مرداس كان أسلم فقتله أسامة بن زيد رضي الله عنهما قبل أن يأتي المسلمين وهو لا يعلم بإسلامه فأوجب الله الكفارة دون الدية .
ثم الدية تجب حقاً لله تعالى والإحراز بالدين يثبت في حق الله تعالى وإنما الحاجة إلى الإحراز بالدار فيما يجب من الضمان لحق العباد وقد قررنا هذا في السير الصغير والله الموفق وبه العون .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=6 - TOP#TOPباب دواء الجراحة
روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم شج في وجهه يوم أحد حتى سال الدم على خده وقال : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بدمه وهو يدعوهم إلى الله فنزل قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ
مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } آل عمران : 128 ثم داوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه فروي أنه أحرق قطعة من حصير فداوى به وجهه وروي أنه داواه بعظم بال وعصب عليه@(1/91)
وكان يمسح على الجبائر أياماً وفيه دليل جواز الاشتغال بالمداواة للجراحات .
وقد كرهه بعض الناس لآثار جاءت في النهي منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب قيل : من هم يا رسول الله قال : الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون واعتمادنا في جواز المداواة على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء إلا السام والهرم وما رووا قد انتسخ بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ رضي الله عنه بمشقص حين رمي يوم الخندق فقطع أكحله وروي أنه كوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه ثم وجه التوفيق بين بالخبرين : إنه إذا كان يعتقد أن الدواء هو الذي يشفيه فلا يحل له أن يشتغل بالتداوي وفيه دليل جواز المداواة بعظم بال وهذا لأن العظم لا يتنجس بالموت على أصلنا لأنه لا حياة فيه إلا أن يكون عظم الإنسان أو عظم خنزير فإنه يكره التداوي به لأن الخنزير نجس العين فعظمه نجس كلحمه لا يجوز الانتفاع به بحال ما والآدمي محترم بعد موته على ما كان عليه في حياته فكما يحرم التداوي بشيء من الآدمي الحي إكراماً له فكذلك لا يجوز التداوي بعظم الميت قال صلى الله عليه وسلم : " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي " .
وذكر عن الزهري قال : قضت السنة@(1/92)
أن لا يسترق كافر مسلماً قال : وبه نأخذ إذا أسلم عبد الكافر لم يترك يسترقه ويجبر على بيعه حمل الحديث على استدامة الملك والاستخدام قهراً بملك اليمين لأن الاسترقاق مستدام والاستدامة فيما يستدام كالإنشاء وقيل : المراد ابتداء الاسترقاق في الحر المسلم فإن ذلك لا يثبت للكافر عليه وإن أخذه واستعبده وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام يعلو ولا يعلى " والمراد به الحكم دون الإخبار عن الحسن فإن ذلك يتحقق ولا يجوز الخلف فيما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المسلم مصون عن إذلال الكافر إياه شرعاً وفي تبديل صفة المالكية بالمملوكية إذلال وفي الاستخدام قهر واستدامة الملك فيه إذلال أيضاً فيصان المسلم عن ذلك بأن يجبر الكافر على بيعه ولا يعتق عليه لأن ماليته فيه مصونة عن الإتلاف بعقد الذمة والسبب الذي اعترض بينهما غير مؤثر في إيجاب الصلة له عليه ولهذا لا يعتق بخلاف القريب فإنه يعتق على قريبه إذا ملكه لأن للقرابة تأثيراً في استحقاق الصلة .
قال : وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل عن الجنابة لأن المشركين لا يغتسلون عن الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في ذلك وفي هذا بيان أن صفة الجنابة تتحقق في الكافر بمنزلة الحدث إذا وجد سببه ولكن اختلف مشايخنا في أن الغسل متى يلزمه فمن يقول : يخاطبون بالشرائع يقول : الغسل واجب عليه في حال كفره ولهذا لو أتى به صح ومن يقول : لا يخاطبون بالشرائع فيقول : إنما يلزمه الاغتسال بعد الإسلام لأن صفة الجنابة مستدامة بعد الإسلام كإنشائه وصحة الاغتسال منه قبل الإسلام لوجود سببه ولهذا لو انقطع دم الحائض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال به لأنه لا استدامة للانقطاع فإذا لم يوجد السبب بعد الإسلام حقيقة وحكماً لا يلزمها الاغتسال ومعنى قوله : إنهم لا يدرون كيف الغسل : أنهم لا يأتون بالمضمضة والاستنشاق في الاغتسال من الجنابة وهما فرضان فلهذا يؤمر إذا أسلم بالاغتسال من الجنابة .
واستدل عليه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال الحنفي لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل@(1/93)
قال ابن عمر رضي الله عنهما : زعموا أنه صلى ركعتين فقال صلى الله عليه وسلم : " قد حسن إسلام صاحبكم " وعن كليب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه فقال : " احلق عنك شعر الكفر " فحلق رأسه قال محمد رحمه الله : ولا نرى هذا من الواجب على الناس ألا ترى أنه لم يأمر به أكثر أصحابه ولعله رأى كليباً معجباً بشعره فأمره بأن يزيل ذلك عن نفسه لدفع الإعجاب عنه أو استحب له زيادة التطهير بأن يزيل عن نفسه ما كان نابتاً من شعر رأسه في حال الكفر بخلاف ما تقدم من الاغتسال فإن الأمر به كان على سبيل الإيجاب لتقرر سببه .
وذكر عن عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب وبهذا يأخذ محمد رحمه الله فيقول : لا بأس بذلك وكذلك إذا سقط سنة فلا بأس أن يتخذ سناً من@(1/94)
ذهب أو يضبب أسنانه من ذهب وهو مروي عن إبراهيم وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول : يكره ذلك ولا يرى بأساً بأن يتخذه من الفضة لأن استعمال الفضة للانتفاع جائز للرجل دون استعمال الذهب بدليل اتخاذ الخاتم وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم خص عرفجة بهذه الرخصة ثم من اصل أبي حنيفة رضي الله عنه أن العام المتفق على قبوله يترجح على الخاص فرجح الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الذهب بيمينه والحرير بشماله وقال : " هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم " والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=6 - TOP#TOPباب أموال المعاهدين
قال : وإذا أودع المسلمون قوماً من المشركين فليس يحل لهم أن يأخذوا شيئاً من أموالهم إلا بطيب أنفسهم للعهد الذي جرى بيننا وبينهم فإن ذلك العهد في حرمة التعرض للأموال والنفوس بمنزلة الإسلام فكما لا يحل شيء من أموال المسلمين إلا بطيب أنفسهم فكذلك لا يحل شيء من أموال المعاهدين وهذا لأن في الأخذ@(1/95)
بغير طيب أنفسهم معنى الغدر وترك الوفاء بالعهد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : في العهود وفاء لا غدر فيه .
ثم استدل عليه بحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن ناساً من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام العهود فقالوا : إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك فأخذوا منها بقلاً أو ثوماً فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فنادى في الناس : إن رسول الله يقول : لا أحل لكم شيئاً من أموال المعاهدين إلى بحق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=6 - TOP#TOPباب دخول المشركين المسجد
وذكر عن الزهري أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } التوبة : 28 والمراد بالهدنة الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد ما@(1/96)
نقضوا هم العهود وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد ولذلك قصة فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول : لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئاً في المساجد والدليل على ذلك أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل : هم أنجاس فقال : " ليس على الأرض من نجاستهم شيء " ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال : يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية .
فأما عندنا فلا يمنعون عن ذلك كما لا يمنعون من دخول سائر المساجد ويستوي في ذلك الحربي والذمي وتأويل الآية : الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية على ما روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة .
والمراد القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام وبه نقول إن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=6 - TOP#TOPباب دخول النساء الحمام وركوبهن السروج
وذكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب أن لا يدخل الحمام إلا امرأة نفساء أو مريضة وبهذا يأخذ من يكره للنساء دخول الحمامات ويستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة وضعت جلبابها في غير بيت زوجها فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " ولما دخلت نساء حمص على عائشة رضي الله عنهما قالت : أنتن من اللاتي تدخلن الحمامات فقلن : نعم فأمرت بإخراجهن وغسل موضع جلوسهن فأما عندنا : لا بأس للمرأة أن تدخل الحمام إذا خرجت متعففة واتزرت حين دخلت الحمام لأن دخول الحمام بمعنى الزين وهي للنساء أليق منها بالرجال أو للحاجة إلى الاغتسال وأسباب وجوب الاغتسال في حق النساء أكثر والرجل يتمكن@(1/97)
من الاغتسال بالحياض والأنهار والمرأة لا تتمكن من ذلك وتأويل الحديث أنه إنما كره للمرأة الخروج بغير إذن زوجها وقد أمرن بالقرار في البيوت قال الله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } الأحزاب : 33 .
قال : ولا تركب امرأة مسلمة على سرج وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الفروج على السروج " ثم المراد إذا ركبت متلهية أو ركبت متزينة لتعرض نفسها على الرجال فإما إذا ركبت لحاجتها إلى ذلك بأن كانت ممن يجاهد أو يخرج للحج مع زوجها فركبت متسترة فلا بأس بذلك .
قال : ولا يترك أه الكتاب يركبون على السروج ولكن على الأكف ويؤمرون بأن يتنطقوا حتى يعرفوا أي يتخذوا الزنانير فوق ثيابهم ويكركبون على السروج التي على هيئة الأكف وهو الذي يكون في قربوسه شبه الرمانة وهذا لأنهم يمنعون من التشبه بالمسلمين فيما يكون فيه معنى العز قال صلى الله عليه وسلم : " أذلوهم ولا تظلموهم " وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صالحهم على أن يشدوا على أوساطهم الزنانير وكتب إلى عماله : مروا أهل الذمة بأن يختموا رقابهم بالرصاص وأن يتنطقوا ولا يتشبهوا بالمسلمين وتمام بيان هذا الفصل يأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والله الموفق .
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : تكره الجعائل ما دام للمسلمين قوة فإذا لم يكن فلا بأس أن يقوي بعضهم بعضاً لقوله تعالى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } الحج : 78 وحق الجهاد أن يجاهد بالمال أو النفس فإذا كان الذي يخرج صاحب مال ينبغي له أن يجاهد بماله ونفسه ولا يأخذ من غيره جعلاً في عمله لله تعالى@(1/98)
وإذا لم يكن مال فلا بأس بأن يأخذ من غيره بطيب نفسه ما يتقوى به على الجهاد ليكون هو مجاهداً بنفسه وصاحب المال مجاهداً بماله .
كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يغزي العزب عن ذي الحليلة وكان يعطي للغازي فرس القاعد وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الجعائل فقال : من جعله في كراع أو سلاح فلا بأس به وهذا لأن صاحب المال إنما أعطي المال ليتقوى به على الجهاد حتى يكون هو مجاهداً بماله فيكره له أن لا يستعين به على العدو ويتفضل لنفسه .
كما روي أنه سئل عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه عن الرجل يجعل الجعل ثم يبدو له فيجعل أقل مما اجتعل قال : إذا لم يكن أراد الفضل فلا بأس به يعني إذا لم يكن قصده أن يحبس الفضل ليصرفه على حوائج نفسه فلا بأس به فيرد ما فضل على المأخوذ منه إذا رجع بمنزلة من يحج عن غيره إذا رجع بفضل نفقته يلزمه أن يرده وهذا لأنه لو لم يرد الفضل كان ذلك في معنى الأجرة له على عمله والاستئجار على الجهاد باطل .
وعلى هذا لو أراد الإمام أن يجهز جيشاً فإن كان في بيت المال سعة فينبغي له أن يجهزهم بمال بيت المال ولا يأخذ من الناس شيئاً وإن لم يكن في بيت المال سعة كن له أن يتحكم على الناس بما يتقوى به الذين يخرجون إلى الجهاد لأنه نصب ناظراً لهم وتمام النظر في ذلك على ما روي أن معاوية رضي الله عنه@(1/99)
ضرب بعثاً على أهل الكوفة فرفع عن جرير بن عبد الله وعن ولده فقالا : لا نقبل ذلك ولكن نجعل من أموالنا للغازي .
وذكر عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها يعني أن الغزاة يعملون لأنفسهم قال الله تعالى { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ } الإسراء : 7 ثم يأخذون الجعل من إخوانهم من المؤمنين ليتقووا به على عدوهم وذلك لهم حلال كما أن أم موسى كانت تعمل لنفسها في إرضاع ولدها وتأخذ الأجرة من فرعون تتقوى به على الإرضاع وكان ذلك حلالاً لها .
قال : وإذا أعطى الرجل رجلاً جعلاً على أن يسلم فأسلم فهو مسلم لأنه وجد منه حقيقة الإسلام وهو التصديق والإقرار وباشتراط الجعل لا يتمكن خلل في ذلك فيحكم بإسلامه سلم له الجعل أو لم يسلم لأن أكثر ما فيه أنه لا يتم رضاه بدول سلامة الجعل له وذلك لا يمنع صحة الإسلام كمن أسلم مكرهاً وللذي شرط الجعل أن يمنعه ذلك إن شاء وإن أعطاه فهو أفضل لأنه وعد له ذلك والوفاء بالعهد من أخلاق المؤمنين وخلف الوعد من أخلاق المنافقين إلا أن الذي أسلم عامل لنفسه فلا يستوجب الجعل به على غيره لأنه إنما استوجب الجعل عليه عوض عمله له والمال لا يكون عوضاً عن الإسلام وهو ليس بعامل له ليستوجب عليه العوض فما وعد له إما أن يكون رشوة أو صلة لتزداد به رغبته في الإسلام وواحد منهما لا يتعلق به الاستحقاق قبل التسليم فإذا أبى أن يعطيه الجعل فرجع عن الإسلام فهو مربد إن لم يرجع إلى الإسلام ضربت عنقه لقوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه وهذا بخلاف المكره على الإسلام إذا ارتد عن الإسلام فإنه لا يقتل استحساناً لأن قيام السيف على رأسه دليل على أنه غير معتقد بما أقربه فيصير ذلك شبهة يندرئ بها القتل فإما اشتراط الجعل فلا يكون دليلاً على أنه غير معتقد فيتم إسلامه بلا شبهة فإذا ارتد بعد ذلك قتل .
وذكر عن غالب بن خطاف قال : كنا قعوداً بباب الحسن فأتانا شيخ فسلم علينا@(1/100)
وقعد ثم قال : حدثني أبي عن جدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يسلم على قوم إلا فضلهم بعشر حسنات وإن ردوا وفيه دليل على أن البداية بالسلام أفضل وأن ثواب المبتدئ به أكثر لأن الجواب يبتنى على السلام والبادئ بالسلام هو المسبب للجواب وهو البادئ بالإحسان والراد يجازى إحسانه بالإحسان .
ثم قال : حدثني أبي عن جدي : أنه جعل للقوم مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا فبعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبره بذلك وأسال له العرافة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أبي يقرأ عليك السلام فقال : عليه وعليك فهذا دليل على أن من بغل غيره سلاماً من غائب ينبغي له أن يرد عليهما السلام لأن الغائب محسن إليه بالسلام والرسول بالإيصال فينبغي له أن يجازيهما .
قال : فقلت : وإنه جعل للقوم مائة من الإبل على أن يسلموا فقد أسلموا وحسن أسلامهم أفله أن يرجع فيما أعطاهم قال : إن شاء فإن ثبتوا على إسلامهم فذلك وإلا بعثنا إليهم الخيل وفي هذا دليل على أن المال الذي شرطه لهم صلة مبتدأة وأن للواهب أن يرجع في الهبة ما لم يعوض منها وأنه لا بأس بأن يرغب غيره في الإسلام بهذا الطريق ألا ترى أن سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات منصوص عليه وقد كانوا يعطون ذلك للتأليف بالثبات على الإسلام عند بعض المفسرين والترغيب في الإسلام بعدما وعدوا أن يؤمنوا عند بعضهم وفيه دليل على أنهم إذا ارتدوا بعدما أسلموا على شرط الجعل فإنهم يقتلون لأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : " بعثنا إليهم الخيل " أي للقتال .
قال : وأمرني أن أسألك له العرافة قال : إن شاء ولكن العرفاء في النار أي : لا أمنعه ما سأل ولكن أخبره أنه لا خير له فيما سأل@(1/101)
والعرافة : هي الرئاسة والعريف : هو الوازع قال صلى الله عليه وسلم : " لا بد للناس من وازع والوازع في النار " يعني أنه يظلمهم ويتكبر عليهم إذا ترأس غالباً ومأوى الظالمين والمتكبرين النار ففيه بيان أن التحرز عن طلب الرياسة أفضل لأنه أسلم .
قال : وإن أعطى رجل مسلم مسلماً مالاً على قتل حربي فقتله فلا بأس بذلك وأحب للذي أعطاه أن يفي له بذلك ولا يجبرعليه لأن قتل الحربي جهاد فمن يباشره يكون عاملاً لنفسه أو عاملاً لله تعالى في إعزاز الدين أو الجماعة المسلمين في دفع فتنة المحارب عنهم فلا يستوجب الأجر على الذي وعد له المال لما لم يكن عمله له على الخلوص ولكن إن وفى بما وعد له على الخلوص فهو أفضل .
وإن أبى لم يجبر عليه في الحكم ثم روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين بن وهب بعدما أسلم : ألا ترى إلى ما هم به ابن عمك من قتلي فقال : أنا أكفيك يا رسول الله فاستأجر رجلاً من العرب وجل له عشر دنانير على أن يقتله وفي رواية : جعل له خمسة أوساق من تمر على أن يقتله وهذا المقتول عمرو بن جحاش وفيه دليل أنه لا بأس بذلك فإن ما أعطاه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة .
قال : وإن كان الإمام أعطاه ذلك من مال بيت مال المسلمين فينبغي له أن يفي به له لأن مال بيت المال معد لحوائج المسلمين وهذا القاتل من وجه عامل للمسلمين فينبغي للإمام أن يفي له بما وعد أن يعطيه من مال بيت مال المسلمين .@(1/102)
قال : لا بأس بأن يؤكل ويشرب في آنية المشركين ولكن لتغسل بالماء قبل أن يؤكل فيها لأن الأواني لا يلحقها نجاسة الكفر وإنما يلحقها النجاسة العينية وذلك يزول بالغسل فيستوي في هذا الحكم أواني المسلمين والمشركين إلا أن المشركين لا ينعمون غسل الأواني فينبغي للمسلم أن يعيد الغسل ولا يؤتمن المشرك على ذلك .
وإن لم يفعل وأخذ بالظاهر فلا بأس به لأن الأصل في الأواني الطهارة ولكن الغسل أقرب إلى الاحتياط لما روي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله غنا نأتي أرض المشركين أفنأكل في آنيتهم قال : فإن لم تجدوا منها بداً فاغسلوها ثم كلوا فيها " وباقي الحديث قد بيناه في كتاب الصيد وسئل الحسن رحمه الله عن آنية المجوس وصحافهم وبرمهم هل يطبخ فيها ويؤتدم فيها فقال للسائل : انقها غسلاً ثم اطبخ فيها وائتدم وعن ابن سيرين رحمه الله : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يظهرون على المشركين فيأكلون في آنيتهم ويشربون .
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه أتي بباطية قد شرب فيها خمر فأمر بها فغسلت ثم شرب فيهان فهذه الآثار تدل على صحة ما ذكرنا .
قال : ولا بأس بطعام النصارى واليهود من الذبائح وغيرها لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة لقوله صلى الله عليه وسلم : " سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب @(1/103)
غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم وهذا لأن المجوس يدعون الهين فلا يصح منهم تسمية الله على الخلوص وهو شرط حل الذبيحة وأهل الكتاب يظهرون التوحيد وإن كانوا يضمرون في ذلك شركاً .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لا بأس بطعام المجوس إلا الذبيحة وعن سويد غلام سلمان قال : أتيت سلمان رضي الله عنه يوم هزم الله أهل فارس بسلة وجد فيها خبز وجبن وسكين فجعل يطرح لأصحابه من الخبز ويقطع لهم من الجبن فيأكلون وهم مجوس فعرفنا أنه لا بأس بطعامهم ما خلا الذبيحة وفيه دليل أنه لا بأس للغانمين أن يتناولوا من طعام الغنيم قبل القسمة .
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنهما أنه سئل عن شواريز المجوس وكوامخهم فقال : لا بأس به وهذا لأنه لا يستعمل فيه شيء من الذبيحة وهم في إصلاح الأطعمة فيما سوى الذبيحة كالمسلمين .
وسئل الشعبي عن الأكل مع مجوسي وهو يزمزم فقال : كل من طعام المجوس ولم يتعرض لما سأله السائل وهذا للأثر المروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله : يأمرهم أن يمنعوا المجوس من الزمزمة إذا أكلوا ولكنه أثر شاذ لأجل عقد الذمة نتركهم فيما هو أعظم من ذلك من شرب الخمور وتناول الخنازير فلهذا لم يتعرض الشعبي لهذا الجانب وأفتى له تناول طعام المجوس يعني ما خلا الذبيحة .
وعن إبراهيم رحمه الله قال : لما فتح أصحابنا السواد أكلوا من خبزهم وقد ذكر الواقدي في المغازي : أنهم ظفروا بمطبخ كسرى وقد أدركت القدور وظنوا أن ذلك صبغ فجعلوا يلطخون لحيتهم بذلك فقيل : إنه مأكول فأكلوا من ذلك حتى أتخموا ولكن الظاهر أن قدوره كانت لا تخلو عن اللحم فإنما يحمل على أنه إنما تناول من ذلك بعض الأعراب الذين لا معرفة لهم بالأحكام@(1/104)
ولا يستدل بفعل أمثالهم على الجواز .
ثم ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن ذبائح النصارى من أهل الحرب فلم ير بها بأساً وكره تزويج نسائهم وإنما كره ذلك مخافة أن يبقى له نسل في دار الحرب فأما أن يكون حراماً عنده فلا واستدل على هذا بحديث علي رضي الله عنه أن رسول الله كتب إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية وأن لا يؤكل لهم ذبيحة ولا ينكح لهم امرأة فكأنه استدل بتخصيص رسول لله صلى الله عليه وسلم المجوس بذلك على أنه لا بأس بنكاح نساء أهل الكتاب فإنه بنى هذا الكتاب على أن المفهوم حجة ويأتي بيان ذلك في موضعه .
ثم بين أنه كما لا يحل له أن يطأ المجوسية بالنكاح ولا يحل له أن يطأها بملك اليمين لأن حل الوطء يبتنى على ملك المتعة وذلك لا يثبت للمسلم على المجوسية بسبب ملك اليمين كما لا يثبت بسبب بالنكاح فأما الصابئون على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فيحل أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم ولا يكره ذلك وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يحل ذلك وهم بمنزلة المجوس وهذا الاختلاف في أن الصابئين منهم فوقع عند أبي حنيفة أنهم صنف من النصارى يقرءون الزبور وهذا هو الذي يظهرونه من اعتقادهم ووقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهم يعبدون الكواكب ويعتقدون في أن الكواكب آلهة وهذا هو الذي يضمرونه من اعتقادهم ولكنهم لا يستجيزون إظهار ما يعتقدون قط بمنزلة الباطنية فبنى أبو حنيفة الجواب على ما يظهرون وهما بنيا على ما يضمرون وعلى ذلك هم بمنزلة المجوس أو شر منهم والله الموفق .@(1/105)
باب الإسلام
ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله فمن قال منهم : لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال الله تعلى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } الزخرف : 78 .
ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعلى { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } الصافات : 35 وقال فيما أخبر عنهم { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } فمن قال منهم : لا إله إلا الله فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله " وعلى هذا المانوية وكل من يدعي إلا هين إذا قال واحد منهم : لا إله إلا الله فذلك دليل إسلامه فإما اليهود والنصارى فهم يقولون : لا إله إلا الله فلا تكون هذه الكلمة@(1/106)
دليل إسلامهم وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمداً رسول الله على ما روي عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال : اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر الرجل إلى أبيه فقال له : أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار " ثم قال لأصحابه : " لو أخاكم " قال : فأما اليوم ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسو ل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعلى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ } الجمعة : 3 فمن يقر منهم بأن محمداً رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني : أنال مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون ذلك فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك .
كذلك لو قال : برئت من اليهودية ولم يقل مع ذلك : دخلت في الإسلام فإنه لا يحكم بإسلامه لأنه يحتمل أن يكون تبرأ من اليهودية ودخل في النصرانية فإن قال مع ذلك ودخلت في الإسلام@(1/107)
فحينئذ يزول هذا الاحتمال وقال بعض مشايخنا : إذا قال : دخلت في الإسلام يحكم بإسلامه وإن لم يتبرأ مما كان عليه لأن في لفظه ما يدل على دخول حادث منه في الإسلام وذلك غير ما كان عليه فتضمن هذا اللفظ التبري مما كان عليه ولو قال المجوسي : أسلمت أو أنا مسلم يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون هذا الوصف لأنفسهم ويعدونه شتيمة بينهم يشتم الواحد منهم به ولده فيكون ذلك دليل الإسلام في حقه .
وذكر عن الحسن أن رجلاً سأله فقال : يا أبا سعيد قدمت سفينة من الهند فاشتريت منها علجة مسبية فجئت بها إلى منزلي فماتت أفأنبذها أم أغسلها وأصلي عليها فقال : سبحان الله لا بل اغسلها ثم كفنها ثم صلي عليها فإنها دخلت في الإسلام وتأويله في الصغيرة فإنها إذا سببت وليس معها واحد من أبويها فإنه يحكم بإسلامها تبعاً لدار الإٍسلام إذا دخلت فيها فأما الكبيرة التي قد عقلت الكفر فلا يحكم بإسلامها فلا يصلى عليها إذا ماتت قبل أن تضف الإسلام لأن الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم لأجل إيمانه ولكن يصنع بها ما سوى الصلاة من الغسل والتكفين والدفن فإن ذلك سنة الموتى من بني آدم .
ألا ترى إلى ما روي أن علياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات أبو طالب فقال : إن عمك الضال قد توفي فقال : اذهب فاغسله وكفنه وواره .
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : ماتت أمي وهي نصرانية أأتبع جنازتها قال : اتبع جنازتها وادفنها ولا تصل عليها وبه نقول : إذا لم يكن لها ولد كافر يقوم بدفنا فإنه ينبغي للولد المسلم أن يقوم@(1/108)
بذلك ولا يتركها جزراً للسباع فقد أمر بالإحسان إلى والديه وإن كانا مشركين وبالمصاحبة معهما بالمعروف لقوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } لقمان : 15 وليس من الإحسان والمعروف أن يتركهما بعد الموت جزراً للسباع فأما إذا كان عناك من يقوم بذلك من أقاربهما المشركين فالأولى للمسلم أن يدع ذلك لهم ولكن يتبع الجنازة إن شاء على ما روي أن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه إذا كان مع الجنازة قوم من أهل دينها فينبغي للمسلم أن يمشي ناحية منهم ولا يخالطهم فيكون مكثراً سواد المشركين أو يمشي أمام الجنازة ليكون معتزلاً عنهم وذكر عن إبراهيم رحمه الله في السبي إذا أقر بالإسلام وأسلم ثم مات قبل أن يصلي قال : يصلي عليه وبه نقول فإنه قبل أن يصلي تم إسلامه لأن الصلاة من شرائع الإسلام لا من نفس الإسلام وعن سلمة قال : سألت الشعبي عن السبي متى يصلى عليه قال : إذا صلى فصلوا عليه وتأويل هذا فيما إذا لم يسمع منه الإقرار بالإسلام ولكنه صلى مع المسلمين بالجماعة فإن ذلك يوجب الحكم بإسلامه عندنا لأن المشركين لا يصلون بالجماعة على هيئة جماعة المسلمين وإظهار ما يختص به المسلمون فعلاً يكون بمنزلة إظهار ما يختص به المسلمون قولاً فيصير به مسلماً حتى إذا رجع عن الإسلام ضربت عنقه إن كان رجلاً وأما إذا صلى وحده لم يحكم بإسلامه إلا في رواية رواها داود بن رشيد عن محمد أنه إذا صلى إلى قبلة المسلمين@(1/109)
يحكم بإسلامه لقوله صلى الله عليه وسلم : " من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا فأما إذا صام أو أدى الزكاة أوحج لم يحكم
بإسلامه في ظاهر الرواية وفي رواية داود بن رشيد عن محمد قال : إذا حج البيت على الوجه الذي يفعله المسلمون يحكم بإسلامه لأنه ظهر منه فعل ما يختص به المسلمون فيجعل ذلك دليلاً على إسلامه والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=7 - TOP#TOPباب الجهاد مع الأمراء
ذكر عن مكحول رحمه الله أنه قال في مرضه الذي مات فيه : حديث كنت أكتمكموه لو لا ما حضرني من أمر الله ما حدثتكم به أي لولا ما أخاف من وعيد كتمان العلم على ما قال صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً عنده ألجم يوم القيامة بلجام من نار " وقال تعالى : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } آل عمران : 187 .
ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكفروا أهل ملتكم وإن عملوا الكبائر الصلاة مع كل إمام الصلاة على كل ميت الجهاد مع كل أمير " وهو دليل لأهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر بارتكابه الكبائر ولا يخرج من الإيمان قال الله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } النور : 31 .
ولا شك أن مرتكب الكبائر داخل في جملة من دعاهم الله إلى التوبة في هذه الآية وقد سماهم مؤمنين وهو دليلنا على مالك في جواز الاقتداء بالفاسق فإن قوله : " مع كل إمام " أي فاسقاً كان أو@(1/110)
عدلا كما قال في حديث آخر : " صلوا خلف كل بر وفاجر " وكذلك الصلاة على كل ميت أي فاسقاً كان أو عدلاً بعد أن يكون مؤمناً غير باغ وكذلك قوله : " الجهاد مع كل أمير " .
أي عادلاً كان أو جائراً فلا ينبغي للغازي أن يمتنع من الجهاد معه ويجور الأمير لا ينقطع طمع الغزاة في النصرة جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعاً " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفار " .
قال مكحول : وخصلتان من رأيي لم أسمع فيهما من رسول الله شيئاً : علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان لا تذكروهما إلا بخير { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } البقرة : 134 والحديث في الكف عن الصحابة إلا بخير مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً فمن أحبهم فقد أحبني ومن آذاهم فقد آذاني وخص مكحول الختنين بالذكر لأنه كان يسمع من بعض أهل الشام فيهما ما يكرهه فلهذا خصهما بالذكر في وصيته ثم سمى علياً أولاً وهكذا فيما رواه نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه قال : سألته عن مذهب أهل السنة فقال : أن تفضل أبا بكر وعمر وتحب علياً وعثمان وترى المسح على الخفين ولا تكفر أحداً من أهل القبلة وتؤمن بالقدر ولا تنطق في الله بشيء ومن الناس من يقول : قبل الخلافة كان علي مقدما على عثمان وبعد الخلافة عثمان أفضل من علي فأما المذهب عندنا : أن عثمان أفضل من علي رضوان الله عليهما قبل الخلافة وبعدها كما روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أبو بكر خليفتي بعدي في أمتي وعمر حبيبي وعثمان مني وعلي أخي وصاحب لوائي فنفضلهم على الترتيب الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد أبو حنيفة رضي الله عنه بما ذكر تقديم علي على عثمان ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة فالواو عنده لا يوجب الترتيب وإنما ذكر مكحول علياً رضي الله عنه أولاً لأنه كان إمام أهل الشام وأهل الشام في ذلك الوقت كان يقع بعضهم@(1/111)
في علي رضي الله عنه فلهذا قدمه في الذكر حتى يزجرهم عن ذلك .
وعن مجاهد قال : قلت لابن عمر رضي الله عنهما : ما تقول في الغزو فقد صنع الأمراء ما قد رأيت قال : أرى أن تغزو فإنه ليس عليك مما أحدثوا شيء يعني : ما أحدثوا مما تكرهه وقد روي أنه لما ولي يزيد بن معاوية قال ابن عمر : إن يكن خيراً شكرنا وإن يكن بلاء صبرنا ثم قرأ قوله تعالى { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } النور : 54 وعن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا : إذا عدل السلطان فعلى الرعية الشكر وللسلطان الأجر وإذا جار فعلى الرعية الصبر وعلى السلطان الوزر فهذا كله لبيان أنه لا ينبغي أن يترك الجهاد بما يصنعه الأمراء من الجور والغلول .
قال فإذا أردت ذلك فاجعل طريقك علي فمررت بالمدينة فقال : إني أحب أن أعينك في وجهك هذا بطائفة من مالي قلت : إذا لا أقبل إني رجل قد وسع الله علي قال : إن غناك لك إني أحب أن تكون طائفة أن لا أقضيكم ثم كتب إلى قيم له بالشام أن يدفع إلي دنانير قد سماها أستعين بها على وجهي وفيه دليل على أنه لا ينبغي للغازي وإن كان غنياً أن يمتنع من قبول المال إذا علم أن المعطي يعطيه من حلال على وجه الرغبة في الجهاد بالمال لأن الامتناع عن قبول ذلك في صورة المنع مما هو طاعة وذلك لا يحل قال : فانطلقت فلم أزل مرابطاً في جزيرة من البحر سنين ثم بدا لبعض أمراء المؤمنين أن يخرب تلك الجزيرة ويخرج أهلها منها فوالله لكأنما جيء بي سبياً حيث رجعت إلى أهلي وإنما شق عليه ذلك لأنه انقطع عن ثواب@(1/112)
المرابطين حين رجع إلى أهله وهكذا ينبغي أن يكون تأسف المؤمن على ما ينقطع عنه من الثواب .
ثم استدل على أنه لا يترك الجهاد بجور الأمراء بقوله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال لا يصده جور جائر ولا عدل عادل " ولحديث سليمان بن قيس حيث قال : لجابر أرأيت إن كان علي إمام جائر أأقاتل معه أهل الضلالة والشرك قال : نعم { عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } النور : 54 ولحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصل الإسلام ثلاثة : الكف عمن قال : لا إله إلا الله أن تكفروه بذنب ولا تخرجوه من الإسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال والإيمان بالأقدار كلها " يعني : ما ذكره في الحديث المشهور حين سأله جبريل عليه السلام : ما الإيمان إلى أن قال : والقدر خيره وشره من الله وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومع كل واحد منهما فئام من الناس فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليهما السلام ثم قيل : يا رسول الله إنهما تكلما في القدر فقال أبو بكر رضي الله عنه : الحسنات من الله والسيئات منا وقال عمر : الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى فاتبع من الناس أبا بكر وطائفة عمر فقال والسيئات كلها من الله تعالى فاتبع طائفة من الناس أبا بكر وطائفة عمر فقال@(1/113)
رسول الله صلى الله عليه وسلم " سأقضي بينكما بما قضى به إسرافيل بين جبرائيل وميكائيل فإن جبرائيل قال : مثل ما قلت يا عمر وميكائيل قال مثل ما قلت يا أبا بكر ثم قالا : إنا إذا اختلفنا اختلف أهل السماء وإذا اختلف أهل أسماء اختلف أهل الأرض فلنتحاكم إلى إسرافيل فقضى بينهما بأن القدر خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما يا أبا بكر لو شاء الله أن لا يعصى ما خلق إبليس فهذا هو الأصل لأهل السنة في الإيمان
بالقدر ولا يظن بميكائيل وأبي بكر بما نفيا تقدير الشر من الله إلا خيراً لأن طالب الصواب قبل أن يستقر رأيه جاهد في الله حق جهاده .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=7 - TOP#TOPباب من يحل له الخمس والصدقة
وذكر عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : الغازي في سبيل الله أو العامل عليها أو الغارم أو رجل اشتراها بماله أو رجل له جار مسكين تصدق على هذا المسكين فأهدى إلى الغني وأخذ أهل المدينة بظاهر الحديث وقالوا : تحل الصدقة للغازي وإن كن غنياً وللغارم إذا كان غرمه لإصلاح ذات البين وإن كان غنياً ولكن تأويل الحديث عندنا : إذا كان الغازي غنياً في أهله وليس بيده مال حيث هو فحينئذ لا بأس له أن يأخذ من الصدقة ما يتقوى به وكذلك الغارم إذا كان ماله غائباً عنه أوديناً على ظهور الرجال لا يقدر على أخذه فهما حينئذ بمنزلة ابن السبيل فأما من يكون ماله بحضرته وذلك فوق ما عليه من الدين بقدر نصاب لا يحل له أخذ الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني " وأما العامل فما يأخذه عمالة وليس بصدقة في حقه فغناه لا يمنعه من أخذه والمشتري من الفقير إنما يأخذه@(1/114)
مبيعاً عوضاً عن ماله .
والذي أهدى إليه المسكين إنما يأخذه هديه لا صدقة على ما قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة رضي الله عنهما : " هي لها صدقة ولنا هدية " .
وذكر عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلاً سأله عن التهلكة أهو الرجل إذا ما التقى الجمعان حمل فقاتل حتى يقتل فقال : لا ولكنه الرجل يذنب ثم لا يتوب وهو المراد بمعنى قوله تعالى { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } البقرة : 195 فوقع عند السائل أن من حمل على جماعة من الأعداء يكون ملقياً نفسه في التهلكة فبين له البراء بن عازب ن الملقي نفسه في التهلكة من يذنب ثم لا يتوب فإنه يصير مرتهناً بصنيعه فأما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية كيف يكون ملقياً نفسه في التهلكة ثم بين المذهب فقال : لا بأس بأن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً يقتل أو يجرح أو يهزم فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك وقيل لأبي هريرة : ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل وألقى بيده إلى التهلكة فقال : كلا ولكنه تأول آية من كتاب الله وهو قوله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ } البقرة : 207 فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم لأنه لا يحصل بحملته شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين ولكنه يقتل فقط وقد قال الله تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } النساء : 29 وهذا بخلاف ما إذا أراد أن ينهى قوماً من فساق المسلمين عن منكر وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهيه وأنهم يقتلونه فإنه لا بأس له بالإقدام على ذلك وهو العزيمة وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت لأن القوم@(1/115)
هناك يعتقدون ما يأمرهم به فلا بد من أن يكون فعله مؤثراً في باطنهم فإما الكفار غير معتقدين لما يدعوهم إليه فالشرط أن تكون حملته بحيث تنكي فيهم ظاهراً فإذا كان لا ينكي لا يكون مفيداً فيما هو المقصود فلا يسعه الإقدام عليه والله الموفق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=7 - TOP#TOPباب ما يجب من طاعة الوالي وما لا يجب
قال : وإذا دخل العسكر دار الحرب للقتال بتوفيق الله عز وجل فأمرهم أميرهم بشيء من أمر الحرب فإن كان فيما أمرهم به منفعة لهم فعليهم أن يطيعوه لقوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } النساء : 59 والمراد الأمراء عند بعض المفسرين والعلماء عند بعضهم وإنما تجب طاعة العلماء فيما يأمرون به لأنهم يأمرونهم بما فيه منفعة للناس في أمر دينهم وكذلك إن أمروهم بشيء لا يدرون أينتفعون به أم لا فعليهم أن يطيعوه لأن فريضة الطاعة ثابتة بنص مقطوع به وما تردد لهم من الرأي في أن ما أمر به منتفع أو غير منتفع به لا يصلح معارضاً للنص المقطوع .
وقد تكون طاعة الأمير في الكف عن القتال خيراً من كثير من القتال وقد يكون الظاهر الذي يعتمده الجند يدلهم على شيء والأمر في الحقيقة بخلاف ذلك عند الأمير ولا يرى الصواب في أن يطلع على ما هو الحقيقة عامة الجند فلهذا كان@(1/116)
عليهم الطاعة ما لم يأمرهم بأمر يخافون فيه الهلكة وعلى ذلك أكثر رأي جماعتهم لا يشكون في ذلك فإذا كن هكذا فلا طاعة له عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وفي حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم أميراً فغضب عليهم أميرهم فأجج ناراً وقال : قد أمرتم بطاعتي فاقتحموها فمنهم من قال : ندخلها ومنهم من قال : لا ندخلها فإنا أسلمنا فراراً من النار فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك فقال : " لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً إنما الطاعة في المعروف لا في المنكر " ومعنى قوله : " ما خرجوا منها " أي : ينقلون منها إلى نار جهنم ثم أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمنزلة الحقيقة .
فإذا كن عندهم أنهم لو أطاعوه هلكوا كن أمره إياهم بذلك قصداً منه إهلاكهم واستخفافاً بهم وقد ذم الله تعلى الطاعة في ذلك فقال : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } الزخرف : 54 وإن كان الناس في ذلك الأمر مختلفين فمنهم من يقول فيه الهلكة و منهم من يقول فيه النجاة فليطيعوا الأمير في ذلك لأن الاجتهاد لا يعارض النص ولأن الامتناع من الطاعة فتح لسان اللائمة عليهم وفي إظهار الطاعة قطع ذلك عنهم فعليهم أن يطيعوه .
إلا أن يأمرهم بأمر ظاهر لا يكاد يخفى على أحد أنه هلكة أو أمرهم بمعصية فحينئذ لا طاعة عليهم@(1/117)
في ذلك ولكن ينبغي أن يصبروا ولا يخرجوا على أميرهم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر فإن من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات ما ت ميتة الجاهلية .
واستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة بعث خالداً إلى بني جذيمة فقاتلهم بعد ما سمع الأذان منهم وبعد ما وضعوا السلاح فأمر بهم فأسروا ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره فأما بنو سليم ففعلوا ذلك وأما المهاجرون والأنصار فخلوا أسراهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات ثم أرسل علياً رضي الله عنه فودى لهم ما أصابه خالد من قليل أو كثير وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار على ما صنعوا من تخلية سبيل الأسرى فعرفنا أنه لا طاعة للأمير على جنده فيما هو معصية ولا فيما كان وجه الخطأ فيه بيناً فإما فيما سوى ذلك فينبغي لهم أن يطيعوه لئلا يفشلوا ولا يتنازعوا كما قال الله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } الأنفال : 46 .
قال : وينبغي أن يؤمر على الجند العاقل الفاضل العالم بالحرب الرفيق وقد بينا هذا فيما تقدم نقول : من يكون هكذا فهو موضع للإمارة عربياً كان أو مولى أو@(1/118)
غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ول أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله عزوجل وفيه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالسمع والطاعة لكل من يؤمر عليكم ما لم يأمركم بالمنكر ففي المنكر لا سمع ولا طاعة .
قال : وإذا نادى الأمير أن يكون فلان وجنده في الميمنة وفلان وجنده في المقدمة وفلان وجنده في الميسرة وفلان وجنده في الساقة فلا ينبغي لأحد أن يترك الموضع الذي أمره بالكون فيه لأن هذا من التدبير الحسن في أمر الحرب فإنما تظهر فائدته بالطاعة .
فإن عصاه عاص فليتقدم إليه الأمير يعني : لا ينبغي له أن يعاقبه في المرة الأولى لأن هذه عثرة منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ولكن يتقدم إليه وإلى الجند جميعاً أنه يؤدب من خالف أمره بعد ذلك فيكون ذلك إنذاراً منه قال صلى الله عليه وسلم : " قد أعذر من أنذر وبيان هذا في قوله تعالى : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } ق : 28 فإن عصاه عاص بعد ذلك من غير عذر فما أحسن أدبه في ذلك ليكون ذلك فطاماً له وزجراً لغيره عن إساءة الأدب لمخالفة أمره فإن امتناع الناس مما لا يحل لمخافة العقوبة أكثر من امتناعهم خوفاً من الله تعالى وبه ورد الأثر " إن الله يزع بالسلطان فوق ما يزع بالقرآن " .
وإن ادعى عذراً يعتذر به وحلف على ذلك فلا سبيل له عليه لأنه أخبر بخبر محتمل للصدق وأكد ذلك بيمينه فينبغي أن يكف عنه إذ ليس هاهنا خصم ينازعه في ذلك وإنما لا يجعل@(1/119)
اليمين في جانب المدعي في الخصومات لأن الخصم ينازعه في ذلك والشرع جعل اليمين في جانب المنكر دون المدعي .
وإذا نادى منادي الأمير أن الساقة غداً على أهل الكوفة فلا يتخلفن رجل من أهل الديوان ولا من المطوعة لأنهم جميعاً رعيته حين خرجوا للجهاد تحت رعيته فعليهم طاعته فعليهم طاعته إلا أن يكون الأمر المشهور أنه إذا نادى بهذا يريد به أهل الديوان خاصة فحينئذ الثابت بالعرف كالثابت بالنص وإن كان رجل من أهل الكوفة ديوانه مع أهل البصرة فهو مع أهل ديوانه وليس مع أهل بلده لأن أمره راجع إلى الجهاد وفي الجهاد إنما يجمعهم الديوان لا البلدة ولأن مراده من هذا الأمر أن ينضم بعضهم إلى بعض في التناصر وتناصر أهل الديوان بالديوان ولهذا يتعاقلون به .
ولو نادى المنادي : الساقة غداً على أصحاب الخيل فهو على نحو ما ذكرنا وينبغي لأصحاب البراذين أن يكونوا مع أصحاب العراب في ذلك لأن كلها من الخيل قال الله تعالى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } النحل : 8 وقال تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } الأنفال : 60 ولما سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين قال : أو في الخيل صدقة فأصحاب البراذين في ذلك مع أصحاب العراب .
إلا أن يكون المعروف من ذلك أنهم إذا نادوا بذلك يريدون أصحاب العراب خاصة لأنها أسرع في الطلب والحرب فحينئذ يكون الأمر على ما أراد لأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص وإن قال : الميمنة غداً على أهل المصيصة فكان رجل من أهل الكوفة سكن المصيصة فإن كان اتخذها منزلاً فهو من المصيصة لقوله صلى الله عليه وسلم : " من تأهل ببلدة فهو من أهلها " ولأن من يكون ساكناً في بلدة مقيماً بها في الناس من أهلها ألا ترى أنا إذا عددنا@(1/120)
فقهاء الكوفة ذكرنا في جملتهم النخعي والشعبي وأبا حنيفة رضي الله عنهم وهم ما كانوا من الكوفة في الأصل ولكنهم سكنوها .
وإن كان لم يتخذ المصيصة مسكناً فلا يدخل في هذا النداء إلا أن يكون ديوانه مع أهل المصيصة فحينئذ يتناوله النداء باعتبار انضمامه إلى أهل المصيصة في الديوان .
فإن كان شد العدو إلى الساقة فلا بأس بأن يعينهم أهل الميمنة والميسرة إذا خافوا عليهم لأنهم تواعدوا النصرة حين اجتمعوا على محاربة المشركين ومن لا يعين غيره لا يعينه غيره عند حاجته وفي ترك التعاون ظهور العدو عليهم .
فإذا ظهر العدو على الساقة يقصدون أهل الميمنة والميسرة من ذلك الجانب فعليهم أن يدفعوا عن أنفسهم بالدفع عن إخوانهم قال : فإن كان ذلك يخل بمراكزهم فلا ينبغي لهم أن يفعلوا لأن الإمام فوض إليهم حفظ ذلك عيناً فيحرم عليهم تضييع ذلك والاشتغال بحفظ ما هو مفوض إلى غيرهم .
وإن أمرهم الإمام أن لا يبرحوا من مراكزهم ونهى عن أن يعين بعضهم بعضاً فلا ينبغي لهم أن يعصوه وإن أمنوا من ناحيتهم وخافوا على غيرهم لأن طاعة الإمام فرض عليهم بدليل مقطوع به وما يخافونه موهوم على ما قيل : أكثر ما يخاف لا يكون .
والأصل فيه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة يوم أحد أن يقوموا بموضع ولا يبرحوا من مراكزهم فلما نظروا إلى المشركين وقد انهزموا ذهبوا يطلبون الغنيمة فكانت هزيمة المسلمين في ناحيتهم كما قال الله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي@(1/121)
الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } آل عمران : 152 .
قال : وإن خرج علج من المشركين بين الصفين يدعو إلى البراز فلا بأس بأن يخرج إليه رجل من المسلمين من غير أن يستأذن من الإمام في ذلك لأن دلالة الإذن في المبارزة كصريح الإذن وتسوية الصفوف كان للقتال فذلك دلالة الإذن في المبارزة .
ما لم ينههم فإن نهاهم فليس ينبغي لهم أن يخرجوا لأن الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها كمقدم المائدة بين يدي الغير إذا نهاه عن الأكل وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر فقاتل رجل فقتل فقال صلى الله عليه وسلم " لا تحل الجنة لعاص " .
وكذلك إن نهى إنساناً بعينه فلا ينبغي له أن يخرج لاحتمال النظر في نهي الإمام له ولا بأس بأن يخرج غيره لبقاء دليل الإذن في حقه والأصل فيه ما روي أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة خرجوا يوم بدر يدعون إلى البراز فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار فقالوا لهم : انتسبوا فقالوا : أنتم أبناء قوم كرام ولكنا نريد أكفاءنا من قريش فارجعوا إلى محمد وقولوا له : أخرج إلينا أكفاءنا هكذا ذكر في المغازي وهو دليل على أنه لا بأس بالخروج قبل نهي الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك وروى محمد رحمه الله هذه القصة من وجه آخر : فقال : فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا وأحب أن يكون أول القتال من أهل بيته وأمر حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فخرجوا إليهم ذلك@(1/122)
نزل في قوله تعالى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } الحج : 19 فإذا تبارز المسلم والمشرك فلا بأس بأن يعين المسلمون صاحبهم إن قدروا على ذلك لأن المشرك قاصد إلى قتلهم كما هو قاصد إلى قتل صاحبهم لو تمكن من ذلك فلهم أن يدفعوا شره لو لم يكن قاصداً إليهم كان لهم أن يقتلوه لكونه مشركاً محارباً .
وفي قصة المبارزين يوم بدر ذكر أن علياً رضي الله عنه قتل الوليد وحمزة قتل عتبة واختلف عبيدة وشيبة ضربتين فأعان علي وحمزة رضي الله عنهما عبيدة على شيبة حتى قتلاه فعرفنا أنه لا بأس به ولا بأس بأن تخرج الجماعة الممتنعة إلى العلافة بغير إذن الوالي فيتعلفون ثم يرجعون به لوجود دلالة الإذن فإن الإمام جرهم إلى ذلك الموضع مع علمه أنهم يحتاجون إلى العلف وأنه يشق عليهم استصحاب العلف من دار الإسلام ولا يجدون في دار الحرب من يشترونه منه ولأنه أذن لهم فيما فيه كبت وغيظ للعدو وفي أخذ العلوفة منهم تحقيق هذا المعنى .
إلا أنهم لا يتمكنون من ذلك إلا بمنعة فلا بأس بأن يخرجوا إذا كانوا أهل منعة ولا يتفرقون إلا بحيث يغيث بعضهم بعضاً لأنهم إذا تفرقوا وبعد بعضهم عن بعض على وجه لا يمكنه أن يستغيث به إذا حزبه أمر كان معرضاً نفسه لأجل المال فإنه لا يأمن أن يجتمع عليه نفر من المشركين فيقتلوه .
كما لا يحل للواحد والمثنى أن يخرج ابتداء خوفاً من ذلك إلا أن يكون بالقرب من العسكر على وجه يتمكن من أن يستغيث بهم إذا حزبه أمر@(1/123)
فكذلك لا ينبغي لهم أن يتفرقوا إلا على هذه الصفة .
وإن نادى منادي الأمير بالنهي عن الخروج للعلافة فلا ينبغي لأهل منعة ولا لغيرهم أن يخرجوا لأن دلالة الإذن تنعدم بصريح النهي وربما يكون النظر في هذا النهي .
إلا أنه ينبغي للإمام أن يبعث لذلك قوماً وينبغي أن يؤمر عليهم أميراً لتتفق كلمتهم ويتمكنوا من المحاربة مع المشركين إن ابتلوا بذلك وكذلك إن خرجوا مفريقين قبل نهي الإمام فهجم عليهم العدو فينبغي لهم أن يجتمعوا ويؤمروا عليهم أميراً ثم يقاتلوا حتى يلتحقوا بالعسكر لأن حاجة الجيش إلى ذلك ماسة والإمام ناظر لهم فإنما يتم النظر منه إذا بعث لذلك قوماً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا : " هل أمرتما قالا : نعم فقال : ألا قد رشدتما " وقد بينا أن المسافرين يستحب لهم أن يؤمروا عليهم أميراً فما ظنك في المحاربين وبعد ما نهى الوالي الناس عن الخروج إذا أصابهم ضرورة من العلف وخافوا على أنفسهم أو على ظهورهم ولم يجدوا ما يشترون فلا بأس بأن يخرجوا في طلب العلف لأن موضع الضرورة مستثنى عن وموجب الأمر دليل قوله تعالى : { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } الأنعام : 119 .
وإن قال الوالي : لا يخرجن أحد إلى العلف إلا تحت لواء فلان فينبغي لهم أن يراعوا شرطه فيخرجوا تحت لوائه فإذا أتوا القرى فلا بأس بأن يتفرقوا فيها لطلب العلف على وجه يغيث بعضهم بعضاً إذا احتاجوا@(1/124)
إليه فإذا أتاهم العدو فلينضموا إلى صاحب اللواء حتى يقاتلوا تحت لوائه وإن لم يكن صاحب اللواء بحضرتهم فليؤمروا عليهم أميراً والحاصل أنه ينبغي أن يتحرزوا عن إلقاء النفس في التهلكة بأقصى ما يتمكنون منه قال الله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } البقرة : 95 .
ولا ينبغي بعدما خرجوا أن يفارقوا صاحب اللواء إلا حيث يمكنهم أن يغيثوهم إذا استغاثوا لأنا نعلم أن مقصود الإمام من قوله : لا يخرجوا إلا تحت لواء فلان " ليس الخروج فقط ولكن مراده : كونوا تحت لوائه إلى أن ترجعوا ومن يراع أمره في شيء يراع صفة أمره .
وكذلك لو قال منادي الأمير : من أراد العلف فليخرج تحت لواء فلان ولم يكن منه نهي ولا أمر غير هذا فهذا بمنزلة النهي وقد بينا أنه بني هذا الكتاب على أن المفهوم حجة وظاهر المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة مفهوم الصفة ومفهوم الشرط في ذلك سواء ولكنه اعتبر المقصود الذي يفهمه أكثر الناس في هذا الموضع لأن الغزاة في العام الغالب لا يقفون على حقائق العلوم وأن أمرهم بهذا اللفظ إنما يقصد نهي الناس عن الخروج إلا تحت لواء فلان فجعل النهي المعلوم بدلالة كلامه كالمنصوص عليه وتمام بيان هذه المسألة في الأصول .
قال : ولا أحب إذا انتهوا إلى القرى أن يدخل القرية الرجل الواحد لعل فيها قوماً مختفين فيقتلونه ولكن يدخل عدد القرية متأهبين للقتال فإن كان فيها أحد أعلم بعضهم بعضاً لقوله تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا } النساء : 71 .
وإن نهى الأمير المسلمين@(1/125)
أن يقطعوا الشجر أو يهدموا الأبنية فليس ينبغي لهم أن يعصوه في ذلك لأن في هذا النهي احتمال معنى النظر للمسلمين وهذا المنع من أمر الحرب ولو نهاهم عن القتال كان عليهم أن لا يعصوه ما لم يأت ضرورة أو معصية فكذلك إذا نهاهم عن هذه الخصال .
ولو عقد الأمير لواء الرجل وقال : لا يخرجن معه إلا ثلاث مائة فينبغي لهم أن يطيعوه فلا يخرج إلا العدد الذي قال لأن الكلام القيد بالاستثناء يكون عبارة عن ما وراء المستثنى فيكون هذا تصريحاً بالنهي عن الزيادة عن العدد المستثنى .
ولو صرح لهم بالنهي مطلقاً لم يحل لهم عصيانه فكذلك هاهنا فإن خرجوا أربع مائة فأصابوا غنائم لم يحرموا الغنيمة مع أهل العسكر وإن كانوا قد أساءوا لأنهم مجاهدون قاصدون إعلاء كلمة الله تعلى وإعزاز الدين فمخالفتهم أمر الأمير لا يكون أكثر تأثيراً من مخالفتهم أمر الله تعلى بارتكاب ما لا يحل فكما أن ذلك لا يخرجهم من أن يكونوا مؤمنين فهذا لا يخرجهم من أن يكونوا غزاة كيف وهذا النهي بمعنى في غير المنهي عنه فإنه ما نهاهم عن الخروج لعين الخروج أو القتال أو الاغتنام ولكن للإشفاق عليهم .
فإن كان قد نفلهم الربع بعد الخمس فخرجوا فأصابوا غنائم فإن كانت الثلاث مائة الذين أمرهم بالخروج قوماً مسلمين بأعيانهم ميز ثلاثة أرباع الغنيمة فأعطى أولئك منها نفلهم هكذا ذكر في بعض النسخ وهو غلط ولكن الصواب ما ذكره في بعض النسخ أنه يعزل الخمس من هذه الثلاثة الأرباع ثم يعطيهم من ربع ما بقي نفلهم لأنه هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس ومراده مما يصيبون ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة .
وذكر هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس ومراده مما يصيبون ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة .
وذكر بعد هذا هذه المسألة وقال : يقسم ما جاءوا به بينهم على سهام الخيل والرجالة ثم ينظر إلى ما أصاب الثلاث مائة فيخرج الخمس من ذلك ثم يعطيهم نفلهم@(1/126)
مما بقي ووجه التوفيق أنه وضع المسألة هناك فيما إذا كان بعضهم فارساً وبعضهم راجلاً وهاهنا وضع المسألة فيما إذا كانوا فرساناً كلهم أو رجالة كلهم فلهذا ميز لهم ثلاثة أرباع الغنيمة ليعطي منها نفلهم .
وقال في موضع آخر : يرفع الخمس في جميع المصاب أولاً ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيعطيهم من ذلك نفلهم فالحاصل أنه كرر ذكر هذه المسألة في أربعة مواضع في هذا الكتاب وأجاب في كل موضع بجواب آخر فنذكر في كل موضع ما هو صواب من الجواب وما هو غلط إذ انتهينا إليه إن شاء الله .
قال : ثم نظر إلى الربع الباقي فعزل خمسة ثم جمع ما بقي منه إلى ما بقي من الثلاثة الأرباع فجعل ذلك مع غنائم أهل العسكر يقسمها بينهم جميعاً على قسمة الغنيمة وفي بعض النسخ يذكر : أنه لا يخمس هذا الربع فكأنه بنى ذلك على أن المائة العصاة بمنزلة المتلصصين في دار الحرب بغير إذن الإمام فلا يخمس ما أصابوا .
وهو غلط فإنه إنما لا يخمس مصاب المتلصصين إذا لم يكونوا أهل منعة وهؤلاء كانوا أهل منعة بالانضمام إلى الثلاث مائة فلا بد من أن يخمس ما أصابوا .
وإن كانت الثلاث مائة ليسوا قوماً بأعيانهم والمسألة بحالها فإن الإمام ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيخرج منها الخمس ثم ينظر إلى ربع ما بقي فيقسم بين الأربع مائة بالسوية نفلاً لهم لأن الاستحقاق بالتنفيل يثبت لثلاث مائة منهم وليس بعضهم أولى من البعض فلا بد من قسمة ذلك بينهم بالسوية لاستوائهم في سبب الاستحقاق ثم يخرج الخمس من الربع الباقي ويجمع ما بقي منه إلى ما بقي من الثلاثة الأرباع فيقسمها بينهم وبين جميع العسكر على سهام الخيل والرجالة كما هو الحكم في قسمة الغنيمة بين الغانمين .
فإن كانت المائة العصاة بأعيانهم فرأى الأمير أن يحرمهم سهمهم مما أصابوا فقسم ما بقي بين الثلاث مائة وأهل العسكر وحرم العصاة ثم ولي آخر يرى ما صنيع الأول جوراً أمضى صنيعه ذلك ولم يرده لأنه أمضى باجتهاده فعلاً مختلفاً فيه فإن عند بعض الفقهاء@(1/127)
يحرم العصاة حظهم مما أصابوا ليكون زجراً وفطاماً لهم عن العود إلى مثله وردوا ذلك إلى حرمان القاتل الميراث بسبب جنايته وبيان هذا يأتي في باب إحراق رحل الغال وقضاء القاضي في المجتهدات يكون نافذاً لا يرد فلهذا قال : لا يرد الثاني ما صنع الأول .
قال : ولا ينبغي للرجل أن يخرج إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه لأن برهما واجب والتحرز عن عقوقهما فرض عليه بعينه قال صلى الله عليه وسلم : " ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة " وقال عليه السلام : " من أصبح ووالداه راضيان عنه فله بابان مفتوحان إلى الجنة " فلا ينبغي له أن يسد هذا الباب بالخروج بغير إذنهما وهو لا يدري أنه هل ينتفع بخروجه هو أو غيره أو لا ينتفع .
وذكر عن ابن عباس بن مرداس أنه قال : يا رسول الله إني أريد الجهاد قال : ألك أم قال : نعم قال : الزمن أمك فإن الجنة عند رجل أمك وتفريع المسائل على هذا الأصل في باب بعد هذا فيؤخر بعض الكلام فيه إلى ذلك الموضع وذكر عن ابن الزبير قال : سألت جابراً أيقاتل العبد بغير إذن مولاه قال : لا وبه نأخذ لأن منافعه ملك المولى فلا يجوز له أن يفوتها عليه بالاشتغال بالقتال وماليته ملك المولى فلا يجوز له أن يعرضها للتلف بالقتال غلا أن يجيء حال ضرورة الملمين إليه بأن وقع النفير عاماً فحينئذ لا بأس أن يخرج لما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من لزوم الطاعة شرعاً ولأنه ليس للمولى في مثل هذه الحالة أن يمنعه بل يفترض عليه دفع شر المشركين بنفسه وبما يقدر عليه من ملكه فلذلك لا يجب على العبد أن يطيعه إن نهاه عن الخروج وكذلك هذا الجواب في حق الولد إذا نهاه والداه في مثل هذه الحالة والله الموفق .@(1/128)
باب قتال النساء مع الرحال وشهودهن الحرب
قال : لا يعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : هاه ما كانت هذه تقاتل وربما يكون في قتالها كشف عورة المسلمين فيفرح به المشركون وربما يكون ذلك سبباً لجرأة المشركين على المسلمين ويستدلون به على ضعف المسلمين فيقولون : احتاجوا إلى الاستعانة بالنساء على قتالنا فليتحرز عن هذا ولهذا المعنى لا يستحب لهن مباشرة القتال .
إلا أن يضطر المسلمون إلى ذلك فإن دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز بل واجب .
واستدل عليه بقصة حنين وقد بيناها وفي أواخر تلك القصة : قالت أم سليم بنت ملحان وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب : يا رسول الله أرأيت هؤلاء الذين فروا منك وخذلوك فلا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم فقال : صلى الله عليه وسلم : يا أم سليم عافية الله أوسع فأعادت ذلك ثلاث مرات وفي كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أم سليم عافية الله أوسع وفي المغازي أنها قالت : ألا@(1/129)
نقاتل يا رسول الله هؤلاء الفرارين فنقتلهم كما قاتلنا المشركين فقال صلى الله عليه وسلم : " عافية الله أوسع " وأية حاجة إلى قتال النساء أشد من هذه الحاجة حين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموه وفي هذا بيان أنه لا بأس بقتالهن عند الضرورة لأن الرسول لم يمنعها في تلك الحالة ولم ينقل أنه أذن للنساء في القتال في غير تلك الحالة .
قال : ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز الكبيرة فتداوي الجرحى وتسقي الماء وتطبخ للغزاة إذا احتاجوا إلى ذلك لحديث عبد الله بن قرط الأزدي قال : " كانت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمجاهدين يرتجزن وهو يقاتل الروم والمراد العجائز فالشواب يمنعن عن الخروج الفتنة الحاجة ترتفع بخروج العجائز .
فالشواب يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة الحاجة ترتفع بخروج العجائز .
وذكر عن أم مطاع وكانت شهدت خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم قالت : رأيت أسلم حيث شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من شدة الحال فندبهم إلى الجهاد فنهضوا ولقد رأيت أسلم أول من انتهى إلى الحصن فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله علينا وهو حصن الصعب بن معاذ بالنطاة ففي هذا بيان أنها كانت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمنعها من ذلك فعرفنا أنه لا بأس للعجوز أن تخرج لإعانة المجاهدين بما يليق بها من العمل والله الموفق .@(1/130)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=8 - TOP#TOPباب الجهاد ما يسع منه وما لا يسع
قال أبو حنيفة رحمه الله : الجهاد واجب على المسلمين إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم فكان الثوري يقول : القتال مع المشركين ليس بفرض إلا أن تكون البداية منهم فحينئذ يجب قتالهم دفعاً لظاهر قوله : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } البقرة : 191 وقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } التوبة : 36 ولكنا نستدل بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ } التوبة : 123 وبقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وبقوله : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } التوبة 29 وبقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } الحج : 78 والحاصل أن الأمر بالجهاد وبالقتال نزل مرتباً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً في الابتداء بتبليغ الرسالة والإعراض عن المشركين قال الله تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } الحجر : 94 .
وقال تعالى : { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } الحجر : 85 ثم أمر بالمجادلة بالأحسن كما قال : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } النحل : 125 وقال : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } العنكبوت : 46 ثم أذن لهم في القتال بقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الحج : 39 ثم أمروا بالقتال إن كانت البداية منهم بما تلا من آيات ثم أمروا بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم كما قال تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5 ثم أمروا بالقتال مطلقاً بقوله تعالى { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } البقرة : 244 فاستقر الأمر على هذا ومطلق الأمر@(1/131)
يقتضي اللزوم إلا أن فريضة القتال لمقصود إعزاز الدين وقهر المشركين فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين بمنزلة غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه إذ لو افترض على كل مسلم بعينه وهذا فرض غير موقت بوقت لم يتفرغ أحد لشغل آخر من كسب أو تعلم وبدون سائر الأشغال لا يتم أمر الجهاد أيضاً فلهذا كان فرضاً على الكفاية .
حتى لو اجتمعوا على تركه اشتركوا في المأثم وإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم فعليه أن لا يعطل الثغور ولا يدع الدعاء إلى الدين وحث المسلمين على الجهاد وإذا ندب الناس إلى ذلك فعليهم أن لا يعصوه بالامتناع من االخروج ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء جزية إذا تمكن من ذلك لأن التكليف بحسب الوسع .
وإن كانوا قوماً لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان من العرب والمرتدين فإنه يدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا قاتلهم وأما المجوس وعبدة الأوثان من العجم في جواز أخذ الجزية منهم عندنا بمنزلة أهل الكتاب فيدعوهم إلى إحدى هاتين الخصلتين ويجب الكف عنهم إذا أجابوا إلى إحداهما وإن امتنعوا منهما فحينئذ يقاتلون وفي أهل الكتاب العربي وغير العربي سواء لقوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } التوبة : 29 وكل مسلم في هذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بعث داعياً إلى ما بينا وأمر بالقتال على ذلك مع من أبى .
قال : وإن قالوا للمسلمين : وادعونا على أن لا نقاتلكم ولا تقاتلونا فليس ينبغي للمسلمين أن يعطوهم@(1/132)
ذلك لقوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } آل عمران : 139 ولأن الجهاد فرض فإنما طلبوا الموادعة على أن تترك فريضة ولا يجوز إجابتهم إلى مثل هذه الوادعة كما لو طلبوا الموادعة على أن لا يصلوا ولا يصوموا .
إلا أن يكون لهم شوكة شديدة لا يقوى عليهم المسلمون فحينئذ لا بأس بأن يوادعهم إلى أن يظهر للمسلمين قوة ثم ينبذ إليهم قال الله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } الأنفال : 61 وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولأن حقيقة الجهاد في حفظ المسلمين قوة أنفسهم أولاً ثم في قهر المشركين وكسر شوكتهم فإذا كانوا عاجزين عن كسر شوكتهم كان عليهم أن يحفظوا قوة أنفسهم بالموادعة إلى أن يظهر لهم قوة كسر شوكتهم فحينئذ ينبذون إليهم ويقاتلونهم وهو بمنزلة إنظار المعسر إلى الميسرة كما قال الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } البقرة : 280 وكذلك لو قالوا للمسلمين : وادعونا على أن نعطيكم في كل سنة مالاً معلوماً على ن تجروا علينا أحكامكم فليس ينبغي الموادعة على ذلك لأنهم لا يلتزمون شيئاً من أحكامنا وإنما ينتهي القتال بعقد الذمة لما فيه من التزام أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات والرضا منهم بالمقام في دار الإسلام مقهورين ولما فيه من ترك المحاربة أصلاً ولا يوجد ذلك فيما طلبوا@(1/133)
ولأنهم لو أجيبوا إلى ذلك ربما يظنون أنا إنما نقاتلهم طمعاً في أموالهم بل لا يشكون في ذلك ولا يحل للمسلمين أن يقصدوا ذلك أو يظهروه من أنفسهم .
إلا أن يكون لهم شوكة شديدة فحينئذ تجوز الموادعة معهم بغير مال يؤخذ منهم فلأن يجوز بمال يؤخذ منهم كان أولى وهذا المال لا يؤخذ عوضاً عن ترك القتال وإنما يؤخذ لأن مالهم مباح لنا فباعتبار تلك الإباحة يؤخذ هذا المال منهم .
قال : فإذا أراد الخروج إلى الجهاد وله أبوان فليس ينبغي له أن يخرج حتى يستأذنهما لأن بر الوالدين وترك ما يلحق الضرر والمشقة بهما فرض عليه عيناً والجهاد فرض على الكافية .
إذا لم يقع النفير عاماً فعليه أن يقدم الأقوى وفي خروجه إلحاق الضرر والمشقة بهما فإن المجاهد على خطر في التمكن من الرجوع .
فإن أذنا له فليخرج وإن أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فليس ينبغي له أن يخرج مراعاة لحق الذي يأبى منهما وكذلك إن أبيا جميعاً والأصل فيه ما روي : أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني جئت أجاهد معك وتركت والدي يبكيان فقال : " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما " وأفضل الجهاد ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بالرجوع لكراهة الوالدين لخروجه ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال : " الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله " فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد والوالدان في سعة من أن لا يأذنا له إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة لأنهما يحملانه على ما هو الأقوى في حقه وهو برهما وبهذا تبين أنه لا يسعه الخروج بغير@(1/134)
إذنهما لأنه لو كان يسعه ذلك لكانا يأثمان في منعه ولو كانا يأثمان في منعه لكان هو في سعة من الخروج حتى يبطل عنهما الإثم .
وكذلك إن كان مات أحد أبويه والآخر حي لأن السبب الموجب للبر في حق الحي منهما كامل .
وإن كانا كافرين أو أحدهما كافر والآخر مسلم فكرها خروجه للجهاد أو كرهه الكافر منهما فإن كان إنما كره ذلك على وجه المخافة على نفسه والمشقة التي تلحقه بخروجه فلا ينبغي له أن يخرج لأنه في بر الوالدين يستوي الكافر والمسلم قال الله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا }
لقمان : 15 والمراد الأبوان المشركان بدليل قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي } لقمان : 15 .
وإن كان إنما ينهاه عن ذلك كراهة أن يقاتل أهل دينه لا شفقة عليه فليخرج ولا يطعه لأنه إنما كره خروجه بسبب دعاه الشرك إلى ذلك لا الولاد وليس عليه طاعة في داعية الشرك وإنما يعرف ذلك بغالب الظن والرأي لأن فيما لا طريق إلى معرفة حقيقته يبنى الحكم فيه على أكثر الرأي .
وهذا إذا كان لا يخاف عليه الضيعة فإن كان يخاف عليه من ذلك لم يحل له أن يخرج لأنه إذا كان معسراً محتاجاً إلى خدمته فخدمته فرض عليه وإن كان كافراً وليس من الصواب أن يترك فرضاً عيناً ليتوصل إلى ما هو فرض كفاية ولن ما يفوته من تضييع والده لا يمكنه تداركه وهو يتمكن أن يتدارك الجهاد في وقت آخر .
قال : وإن أذن له الأبوان وله جدان وجدتان فكرهوا خروجه فلا بأس بأن يخرج لأنه في حال قيام الوالدين الأجداد والجدات كالأجانب ألا ترى أن في حكم الحضانة والولاية واستحقاق الميراث هم كالأجانب فكذلك في المنع عن الخروج لا أمر لهم ما دام الوالدان حيين .
فإن مات الأبوان فأذن له الجد الذي من قبل أبيه والجدة التي من قبل@(1/135)
أمه ولم يأذن له الآخران - يعني : أب الأم وأم الأب - فلا بأس بأن يخرج لأن أب الأب عند عدم الأب قائم مقامه بدليل ثبوت الولاية له وأم الأم عند عدم الأم بمنزلتها بدليل ثبوت حق الحضانة لها والآخران معهما بمنزلة سائر الأجانب .
وإن أذن له الآخران ولم يأذن له هذان لم يكن له أن يخرج وإن لم يكن له جدة من قبل أمه ولا جد من قبل الأب فاستأذن الآخرين فلم يأذنا له أو لم يأذن له أحدهما فالمستحب له أن لا يخرج لأن حق الحضانة لأن الأب عند عدم أم الأم وهي في ذلك بمنزلة الأم والجد أب الأم وإن لم يجعل كالأب في الولاية فقد جعل كالأب في حكم الأم والجد أب الأم وإن لم يجعل كالأب في الولاية فقد جعل كالأب في حكم القصاص وفي منع قبول الشهادة له وحرمة وضع الزكاة فيه فإذا لم يبق جد أقرب منه كان هو قائماً مقام الأب في منعه من الخروج أيضاً .
وإن كان له أم وأب أب فأذن له أحدهما دون الآخر لم يسع له أن يخرج حتى تأذنا له لأن أب الأب بمنزلة الأب عند عدمه فكأن هذا ومن كان أبوه وأمه حيين في الحكم سواء .
وإن لم يكن له أم وكانت له جدة من قبل الأم وجدة من قبل الأب فحق الإذن للتي من قبل الأم خاصة ألا ترى أنها في الحضانة مقدمة على الأخرى والجدة التي من قبل الأب لا تقوم مقام الأب بدليل أنه لا تثبت لها الولاية كما تثبت للجد .
ولو كانت الأم حية فحق الإذن إليها وليس إلى الجدات من ذلك شيء بمنزلة حق الحضانة وكذلك مع بقاء الأب ليس للأجداد إذن في هذا الباب .
وإن كان له أو أم أب فليس يبغي له أن يخرج حتى يأذنا له@(1/136)
لأن أم الأب إذا لم يكن سواها أحد من الأمهات بمنزلة الأم ألا ترى أن حق الحضانة لها .
وأشار في الكتاب إلى أن له مخالفاً في هذه المسألة ولم يبين من هو فكأن هذا المخالف يقول : أم الأب تدلي بالأب وإذا لم يعتبر إذن الجد الذي يدلي بالأب مع الأب لم يعتبر إذن أم الأب بالطريق الأولى وهذا فاسد فإنه لو كان له أم وأم أب فأذنت له الأم كان له أن يخرج ولو كان أم الأب باعتبار هذا الإدلاء كالأب أو كالجد أب الأب لم يكن له أن يخرج إلا بإذنهما قال : وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو حج أو عمرة فكره ذلك أبواه وهو لا يخاف عليهما الضيعة فلا بأس بأن يخرج لأن الغالب في هذه الأسفار السلامة ولا يلحقهما في خروجه مشقة شديدة فإن الحزن بحكم الغيبة يندفع بالطمع في الرجوع ظاهراً .
إلا أن يكون سفراً مخوفاً عليه منه نحو ركوب البحر فحينئذ حكم هذا وحكم الخروج إلى الجهاد سواء لأن خطر الهلاك فيه أظهر والسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمناً والأمن في الموضع الذي قصده ظاهراً لا يكون دون السفر للتجارة بل هذا فوقه لقوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ } فلا بأس بأن يخرج إليه وإن كره الوالدان إذا كان لا يخاف الضيعة عليهما قال : وإن كان يخرج في التجارة إلى دار الحرب بالأمان فكرها ذلك فإن كانوا قوماً يفون بالعهد معروفين بذلك فلا بأس بأن يخرج لأن الغالب هو السلامة فصار هذا والخروج إلى بلدة أخرى من دار الإسلام سواء .
وإن كان يخرج في تجارة إلى دار الحرب مع عسكر المسلمين فإن كان عسكراً عظيماً كالصائفة فلا بأس بأن يخرج وإن كرها خروجه لأن الغالب من حاله@(1/137)
السلامة فإنه لا يعرض نفسه بالاشتغال بالقتال والعسكر العظيم يقوون على دفع شر العدو عنه وعن أنفسهم .
وإن كانت سرية أو نحوها لم يسعه أن يخرج إلا بإذنهما لأن خطر الهلاك أظهر في خروجه مع قوم ليس لهم قوة الدفع عنه وإنكن لا يخرج للجهاد مع هؤلاء بغير إذنهما لخطر الهلاك فكذلك لا يخرج للتجارة .
وإن كره خروجه للجهاد أولاده أو إخوانه أو أعمامه أو عماته أو زوجته فلا بأس بأن يخرج إذا كان لا يخاف عليهم الضيعة وإنما يخاف منهم الجزع عليه لأن المنع من ذلك باعتبار وجوب بر الوالدين وغيرهما من الأولاد والقرابات لا يساويهما في ذلك فكذلك في المنع من الخروج إلا أن يخاف الضيعة على أحد من هؤلاء فحينئذ لا يسعه أن يخرج ويدع من تلزمه نفقته لأن القيام بتعاهده والإنفاق عليه مستحق عليه بعينه قال صلى الله عليه وسلم : " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوته " وهذا الحكم في الذكور من أولاده الصغار والإناث صغاراً كن أو كباراً إذا لم يكن لهن أزواج والزمنى من الكبار الذين لا حرفة لهم من ذوي الرحم لأن نفقتهم واجبة عليه شرعاً فكذلك زوجته .
وأما بنوه الكبار الأصحاء وإخوانه الذين لازمانة بهم فلا بأس بأن يخرج ويدعهم وإن خاف الضيعة عليهم لأنه لو كان حاضراً لم يجبر على نفقتهم وإن ضاعوا فلا يمتنع خروجه بسبب خوف الضيعة عليهم وهذا كله إذا لم يكن النفير عاماً .
فأما إذا جاء النفير عاماً فقيل@(1/138)
لأهل مدينة : قد جاء العدو يريدون أنفسكم أو ذراريكم أو أموالكم فلا بأس بأن يخرج بغير إذن والديه لأن الخروج في مثل هذه الحالة فرض عين على كل واحد قال الله تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً } التوبة : 41 وما يفوته بترك هذه الفريضة لا يمكنه استدراكه وما يفوته بالخروج بغير إذن الوالدين يمكنه استدراكه بعد هذا فيشغل بما هو الأهم ولأن الضرر في تركه الخروج أعم فإن ذلك يتعدى إليه وإلى والديه وإلى غيرهم من المسلمين ولأنه لا يحل لوالديه أن ينهياه عن هذا الخروج فيكون له أن يخرج ليسقط به الإثم عنهما ولا طاعة لهما عليه فيما كانا عاصيين فيه ألا ترى أن رجلاً لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله أو ليقتله أو أراد امرأة ليفجر بها وهناك من له قوة على أن يمنعه من ذلك فعليه أن يمنعه وإن كره ذلك والداه لم يسعه أن يطيعهما في ذلك ولم يسعهما أن يمنعاه لأن هذا فرض عليه بعينه وإنما يلزمه طاعة الوالدين فيما يكون موسعاً عليه بين الإتيان والترك فأما ما يفترض عليه مباشرته بعينه فليس لوالديه أن يمنعاه من ذلك أرأيت لو أريد أحد والديه بشيء من ذلك فنهاه الوالد الآخر أن يعينه شفقة عليه أينبغي له أن يطيعه ويدع والده ينتهك حرمته ذكر هذا على سبيل الاستقباح لمراعاة إذن الوالدين فيما هو فرض عليه بعينه .
قال : ولا ينبغي للعبد أن يجاهد بغير إذن مولاه ما لم يكن النفير عاماً فإذا كان ذلك فله أن يخرج وليس لمولاه أن يمنعه من ذلك لأن فرضية الخروج عند النفير العام كفرضية الصوم والصلاة وذلك مستثنى للعبد مما ملكه عليه مولاه وإذا تبين هذا في العبد وللمولى عليه ملك على الحقيقة تبين في حق الولد مع الوالدين بطريق الأولى .
وكذلك النساء إذا كانت بهن قوة القتال فليخرجن إذ كان النفير عاماً وقد بينا ما صنعت أم سليم يوم حنين وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : " لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان " فسمى جماعة من الذين فروا وكان النفير عاماً فاستحسن قتال النساء ومدح من لم يهرب منهم بما قال .
فأما إذا لم يكن النفير عاماً فلا ينبغي أن يشتغل النساء@(1/139)
بالقتال ولا ينبغي للشواب أن يخرجن أيضاً في الصوائف ونحوها لأن مقامهن في البيوت أقرب إلى دفع الفتنة
فأما العجائز فلا بأس بأن يخرجن مع الصوائف لمداواة الجرحى جاء عن أم عطية قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع غزوات فكنت أطبخ لهم وأداوي الجرحى وأسقيهم الماء .
ولا يعجبني أن يباشرن القتال لأن بالرجال غنية عن قتال النساء فلا يشتغلن بذلك من غير ضرورة وعند تحقق الضرورة بوقوع النفير عاماً لا بأس للمرأة أن تقاتل بغير إذن وليها وزوجها بلغنا أن صفية بنت عبد المطلب قتلت يهودياً تسور عليهم حصناً كانوا فيه وإنما كان هذا يوم الخندق وكان النبي صلى الله عليه وسلم جمع النساء في أطم من آطام المدينة وكان حسان بن ثابت معهن فجاء يودي من بني قريظة وأراد أن يتسور الحائط فأمرت صفية حسان بن ثابت بأن يقوم إليه بحجر أو خشب فيقتله فقال حسان : أنا من أرباب اللسان لست من أرباب الضرب والطعان في شيء فقامت بنفسها فقتلته ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك استحسنه منها فعرفنا أنه لا بأس بذلك وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام وإن كره ذلك الآباء والأمهات وفي غير هذه @(1/140)
الحالة لا ينبغي لهم أن يخرجوا إلا أن تطيب أنفسهم بذلك .
قال : بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين فلو حضر قتالاً لقاتل فهذا لا بأس به والروايات اختلفت في سن علي رضي الله عنه حين أسلم فالذي ذكره محمد في هذا الكتاب التسع والعشر وفي رواية أنه أسلم وهو ابن سبع سنين وفي رواية أنه أسلم وهو ابن خمس سنين واختلاف الرواية بهذه الصفة يبتنى على اختلاف الناس في سنة حين قتل فقال جعفر بن محمد : قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة وقال الجاحظ : قتل وهو ابن ستين وقال العتبي : قتل وهو ابن ثلاث وستين ولا خلاف في أنه أسلم في أول مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بعث بمكة ثلاثة عشرة سنة وبالمدينة عشراً والخلافة بعده ثلاثون سنة انتهى ذلك بقتل علي رضي الله عنه فذلك ثلاث وخمسون فإن كانت سنة حين قتل ما قاله جعفر بن محمد ظهر أنه أسلم وهو ابن خمس ستين وإن كان على ما قاله الجاحظ فقد أسلم وهو ابن سبع سنين وإن كان على ما قاله فقد أسلم وهو ابن عشر سنين ولا خلاف أنه لم يكن بالغاً حين أسلم وعليه دل قوله : سبقتكم إلى الإسلام طراً غلاماً ما بلغت أوان حلم وإنما حققنا هذا لاعتماد أصحابنا على هذا الحديث في صحة إسلام الصبي .
قال : وإذا خرج القوم إلى الصوائف فأرادوا أن يخرجوا معهم النساء بغير منفعة إلا المباضعة والخدمة فالمستحب أن لا يفعلوا ذلك مخافة عليهن لأن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنهن ومن خرج للقتال ربما يبتلى بعارض يشغله بنفسه ولا يتمكن فيه من الذب عن حرمه واقتضاء الشهوة بالمباضعة ليس من أصول حوائجه ولا ينبغي أن يعرض حرمه للضياع لأجله ولو لم يكره له الخروج بهن إلا لمخافة أن يشتغل بهن عن القتال@(1/141)
لكان ذلك كافياً .
فإن كان لا بد من إخراجهن فالإماء دون الحرائر لأن حكم الاختلاط بالرجال في حق الإماء أخف ألا ترى أن جميع الناس لهن بمنزلة المحرم في النظر والمس وأنه لا بأس للأمة أن تسافر بغير محرم وليس للحرة ذلك إلا مع زوج أو محرم وما هو المقصود له من المباضعة والخدمة يتم بالإماء .
ولكن مع هذا رخص في إخراج الحرائر والإماء لمن يقوى على حفظهن إن ابتلي المسلمون بهزيمة حتى يخرجهن إلى دار الإسلام إما بقوة نفسه أو بما معه من الظهور والخدم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو قرع بين نسائه وأخرج منهن معه التي تقرع قالت عائشة رضي الله عنها : فأصابتني القرعة في السفر الذي أصابني فيه ما أصابني حين تكلم أهل الإفك بما تلكموا وهي غزوة المريسيع عزوة بني المصطلق من خزاعة .
ومعلوم أنه كان يأمن عليهن من الضياع بمن معه من المسلمين فمن يكون بهذه الصفة فلا بأس له بأن يخرجهن وإنما يكره هذا لمن إذا ابتلي المسلمون بهزيمة لم يقو على إخراجهن واشتغل بنفسه فيكون مضيعاً لهن والتعرض لمثل هذا التضييع حرام شرعاً .
وكذلك إن كانوا سرية يدخلون أرض العدو فإنه لا ينبغي لأحد من العجائز أن يخرج معهم لمداواة الجرحى لأنهم جريدة خيل إذا حزبهم أمر اشتغلوا بأنفسهم ولا يتمكنون من الدفع عنها وهي عاجزة عن الدفع عن نفسها وإنما يحل لها ذلك في الصوائف التي أكبر الرأي فيها أنهم قاهرون لا ينهزمون من العدو فيتمكنون من الدفاع عنها وعن أنفسهم .
والحاصل أن الحكم يبنى على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقة الحال فيه .
ولا بأس بإدخال المصاحف في أرض العدو لقراءة القرآن في مثل هذا العسكر العظيم ولا يستحب له ذلك إذا كن يخرج في سرية لأن الغازي ربما يحتاج إلى القراءة من المصحف إذا كن لا يحسن القراءة عن ظهر قلبه أو يتبرك بحمل المصحف أو يستنصر به فالقرآن حبل الله المتين من اعتصم به نجا@(1/142)
إلا أنه مهني عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو به ولهذا لو اشتراه ذمي أجبر على بيعه والظاهر أنه في العسكر العظيم يأمن هذا قوتهم وفي السرية ربما يبتلى به لقلة عددهم فمن هذا الوجه يقع الفرق والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم : " نهى أن يسافر بالقرآن في أرض العدو " .
تأويله هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم .
هكذا ذكره محمد وذكر الطحاوي أن هذا النهي كان في ذلك الوقت لأن المصاحف لم تكثر في أيدي المسلمين وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدي العدو أن يفوت شيء من القرآن من أيدي المسلمين ويؤمن من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء قال الطحاوي : ولو وقع مصحف في يدهم لم يستخفوا به لأنهم وإن كانوا لا يقرون بأنه كلام الله فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات وأبلغ المعاني فلا يستخفون به كما لا يستخفون بسائر الكتب لكن ما ذكره محمد أصح فإنهم يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين وقد ظهر ذلك من القرامطة حين ظهروا على مكة جعلوا يستنجون بالمصاحف إلى أن قطع الله دابرهم ولهذا منع الذمي من شرى المصحف في هذا الحكم فأما كتب الشعر فلا بأس بأن يحمله مع نفسه وكذلك إن اشتراه الكافر لا يجبر على بيعه .
وإن دخل إليهم مسلم بأمان فلا بأس بأن يدخل معه المصحف إذا كانوا ربما لا يوفون بالعهد فلا ينبغي له أن يحمل المصحف مع نفسه إذا دخل دارهم بأمان وإذا قال الحربي أو الذمي للمسلم : علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه وفقهه في الدين لعل الله يقلب قلبه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على المشركين وبه أمر قال الله تعالى : { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
مِن رَّبِّكَ } المائدة : 67 وقال الله تعالى : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } النحل : 125 ومعلوم أن تمام هذه الصفة في القرآن المستنبط من القرآن وهو الحكمة @(1/143)
كما قال الله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً } البقرة : 269 وفسره المفسرون بالفقه وإنما يتحقق دعاءه بهذا الطريق إذا علمه ذلك وفهمه وقال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه } التوبة : 6 .
يعني : يسمع فيفهم فربما يرغب في الإيمان لما يقف عليه من محاسن الشريعة وهذا هو المراد من قوله : لعل الله يقلب قلبه وفي حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الناس من تعلم القرآن وعلمه " ولم يفصل بين تعليم المسلمين وتعليم الكفار وإذا كان يندب إلى تعليم غير المخاطبين رجاء أن يعملوا به إذا خوطبوا فلأن يندب إلى تعليم المخاطبين رجاء أن يهتدوا به ويعملوا كان أولى .
وإذا دخل المشركون دار الإسلام فأخذوا الأموال والذراري والنساء ثم علم بهم جماعة المسلمين ولهم عليهم قوة فالواجب عليهم أن يتبعوهم ما داموا في دار الإسلام لا يسعهم إلا ذلك لأنهم إنما يتمكنون من المقام في دار الإسلام بالتناصر وفي ترك التناصر ظهور العدو عليهم فلا يحل لهم ذلك وفعل أهل الحرب بهذه الصفة منكر قبيح والنهي عن المنكر فرض على المسلمين والذين وقع الظهور عليهم صاروا مظلومين ويفترض على المسلمين دفع الظلم عن المظلوم والأخذ على يدي الظالم قال لعيه السلام : لان حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً .
فإن دخلوا بهم دار الحرب نظر فإن كان الذي في أيديهم ذراري المسلمين فالواجب على المسلمين أيضاً أن يتبعوهم إذا كان غالب رأيهم أنهم يقوون على استنقاذ الذراري من أيديهم إذا أدركوهم ما لم يدخلوا@(1/144)
حصونهم لأنهم ما ملكوا الذراري بالإحراز بدار الحرب فكونها في أيديهم في دار الحرب وفي دار الإسلام سواء والمعتبر تمكن المسلمين من الانتصاف منهم وذلك قائم باعتبار الظاهر ما لم يدخلوا حصونهم .
فأما إذا دخلوا حصونهم فإن أتاهم المسلمون حتى يقاتلوهم لاستنقاذ الذراري فذلك فضل أخذوا به وإن تركوهم رجوت أن يكونوا في سعة من ذلك لأن الظاهر أنم بعدما وصلوا إلى مأمنهم ودخلوا حصونهم يعجز المسلمون عن استنقاذ الذراري من أيديهم إلا بالمبالغة في الجهد وبذل النفوس والأموال في ذلك فإن فعلوه فهو العزيمة وإن تركوه لدفع الحرج والمشقة عن أنفسهم كان لهم في ذلك رخصة ألا ترى أنا نعلم أن في يد الكفار بالروم والهند بعض أسارى المسلمين ولا يجب على كل واحد منا الخروج لقتالهم لاستنقاذ الأسارى من أيديهم .
فإما إذا كان ما ظهروا عليه المال دون الذراري فإذا دخلوا دار الحرب وسع المسلمين أن لا يتبعوهم بعد ذلك وإن كانوا تبعوهم فهو أفضل لأنهم ملكوا الأموال بالإحراز وانتهت العصمة الثابتة فيها بالإحراز بدار الحرب فالتحقت بسائر أموالهم والمسلمون في سعة من أن يتركوا أتباعهم لأخذ أموالهم من أيديهم وإن كانوا لو فعلوا ذلك لإعزاز الدين وقهر المشركين كان أفضل فكذلك حكم هذه الأموال .
والحكم فيما إذا ظهر أهل الحرب على ذراري أهل الذمة أو على أموالهم على نحو ما ذكرنا أيضاً لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا من أهل دار الإسلام ألا ترى أن الإحراز بعقد الذمة للمال والنفس في حمن الضمان والعقوبة بمنزلة الإحراز الذي للمسلم فيستوي الحكم في وجوب الاتباع والدليل على الفرق بين الأموال والذراري بعد دخول دار الحرب أنهم لو أسلموا سلمت@(1/145)
لهم الأموال وأمروا برد الذراري وفي دار الإسلام لو أسلموا أمروا برد الأموال والذراري والمسلمون وأهل الذمة في ذلك سواء فيتضح الفرق .
وإن كان المسلمون حين بلغهم هذا النفير أكبر الرأي منهم أنهم إن خرجوا في إثرهم لم يدركوهم حتى يدخلوا حصونهم في الذراري أو حتى يدخلوا دار الحرب في الأموال رجوت أن يكونوا في سعة من ترك الاتباع لأن البناء على الظاهر جائز في مثل هذا والظاهر أنهم في الخروج يتعبون أنفسهم من غير فائدة وإنما الذي يفترض فيه الخروج بعينه على كل من يبلغه إذا كان أكبر الرأي منه أنه إذا خرج أدركهم وقوي على الاستنقاذ من أيديهم بمنعة من المسلمين على ما بينا .
قال : ولا بأس للذين يسكنون الثغور من المسلمين أن يتخذوا فيها النساء والذراري وإن لم يكن بين الثغور وبين أرض العدو أرض للمسلمين لأنهم يندبون إلى المقام في الثغور وإنما يتمكنون من المقام بالنساء والذراري فالنساء سكن للرجال ولأنهم إذا أقاموا في ذلك الموضع بالنساء والذراري كثروا بمرور الزمان حتى يصير ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين ويتخذ المسلمون وراء ذلك ثغراً بالقرب من العدو .
ولكن هذا إذا كانوا بحيث لو نزلت بهم جلبة العدو قدروا على دفع شرهم عن أنفسهم وعن ذراريهم وتمكنوا من أن يخرجوهم إلى أرض الإسلام فأما إذا لم يكن بهذه الصفة أي كانوا عدداً قليلاً لا يتمكنون من دفع جلبة العدو ولا يقدرون على إخراج الذراري إلى أرض الإسلام .
فإنه لا ينبغي لهم أن يتخذوا النساء في مثل هذه الثغور لأن الظاهر أنهم يضيعون في مثل هذه الثغور ويأمنون@(1/146)
الضياع في الفصل الأول وهو نظير ما سبق من الفصل بين الصائفة والسرية إلا أن هناك كره إخراج النساء مع الجيش العظيم للمباضعة ولم يكره ذلك في الثغر إذا كثر فيه المسلمون لأن أهل العسكر لا يطول مقامهم في دار الحرب فلا يحتاجون إلى النساء مدة مقامهم في الظاهر فإما أهل الثغور يطول مقامهم في الثغر بل يؤمرون بأن لا يبرحوا منها وإذا كانوا عزاباً ضجروا بالمقام فيها فلهذا لم ير بأساً بأنه يتخذوا فيها النساء والذراري .
فإن قال أهل الثغر : لا نقدر على دفع العدو بأنفسنا إن أتانا ولكن نستغيث بالمسلمين فيأتينا الغياث منهم فندفع بهم العدو فإنه لا ينبغي لهم أن يحملوا النساء والذراري إلى مثل هذه الثغور أيضاً لأنهم لا يقوون على الدفع عنهم بأنفسهم ولحوق الغوث بهم للدفع موهوم ولا يبنى الحكم على الموهوم خصوصاً فيما يكون الواجب فيه الأخذ بالاحيتاط ألا ترى أنه يتوهم أن تقع فتنة أو عصيبة بين المسلمين فيشتغل بعضهم ببعض .
حتى لا يقدروا على إغاثة تلك الثغور فيضيع من فيها من النساء والذراري فلهذا لا يستقيم البناء على الغوث وإنما يبنون ذلك على شوكة أنفسهم .
وذكر عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك دابة بمهلكة فهي لمن أحياها وبظاهر هذا الحديث أخذ بعض العلماء فقالوا : إذا ترك الغازي دابته في هزيمة فأخذها مسلم آخر وأخرجها فهو أحق بها لأن الأول تركها معرضاً عنها وإنما كان مالكاً لها لكونه محرزاً لها بيده فإذا زال ذلك التحقق بالصيود فهي لمن أخذها وأحياها .
ولسنا نأخذ به فإن هذا تسييب أهل الجاهلية وقد نفاه الشرع قال الله تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ } الآية المائدة : 103 وليس التسييب في الدواب نظير الإعتاق في العبيد فبالإعتاق تحدث فيه صفة المالكية فتنتفي المملوكية وبالتسييب لا تحذف صفة المالكية في الدواب وإذا بقيت مملوكة كانت لصاحبها وحرمة الملك@(1/147)
باعتبار حرمة المالك فلا يملكها أحد بالأخذ .
وذكر عن الشعبي أنه قال : يأخذها صاحبها ولا نفقة له على الذي أحياها إن كان أنفق من ماله وبهذا تبين أن الحديث الأول وهم فالشعبي هو الذي رواه وما كان يفتي بخلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم مثل هذا الحديث الشاذ لا يكون معمولاً به إذ كان مخالفاً للأصول فكان الرجوع إلى المقام المتفق على قبوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه " أولى وكذلك قوله عليه السلام : " من وجد عين ماله فهو أحق به " دليل على صحة ما قلنا وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول : يأخذها صاحبها ويرد على النفق ما أنفق عليه من ماله وقال الشعبي : ليس عليه شيء من النفقة إن كان أنفق بغير ما أنفق عليه من ماله وقال الشعبي : ليس عليه شيء من النفقة إن كان أنفق بغير إذنه وبقول الشعبي نأخذ لأنه متبرع بالإنفاق على مالك الغير إذنه وهو يريد أن يلزمه ديناً في ذمته لنفسه وليس لأحد هذه الولاية على غيره فأما عمر بن عبد العزيز كان يقول : دلالة الإذن في الإنفاق من صاحبها معلوم بطريق الظاهر لأنه لو تمكن من إخراجها أنفق عليها من مال نفسه فإذا عجز عن ذلك كان مستعيناً بكل من يقوى على ذلك راضياً بأن ينفق عليها من ماله ودلالة الإذن كصريح الإذن ولكنا نقول : هذه الاستعانة والرضا يحتمل أن يكون منه على وجه التبرع ويحتمل أن يكون على وجه الرجوع عليه بما ينفق والمحتمل لا يصلح حجة لإيجاب الذين له في ذمته وهو نظير المودع ينفق على الوديعة في حال غيبة صاحبها بغير أمر القاضي فإنه لا يرجع على صاحبها بما أنفق لهذا المعنى كذا هذا والله الموفق .@(1/148)
M0ا صاحب الساقة إذا وجد في أخريات الناس رجلاً مع دابته وإذا جعل أمير العسكر على الساقة رجلاً يلحق من تخلف بالمعسكر فهو حسن في دخول دار الحرب والانصراف منها لأن فيه نظراً للمسلمين فالذي يغلبه النوم أو يعيي ربما يجلس أو ينام للاستراحة في موضع الخوف ثم لا يلتحق بالجيش فيضيع .
وإذا كان على الساقة من يكلفه اللحوق بالعسكر يؤمن عليه الضياع وفي نظيره قال عمر رضي الله عنه : لو تركتم لبعتم أولادكم .
فإن وجد صاحب الساقة رجلاً قامت عليه دابته فأمره أن يترك الدابة ويلتحق بالعسكر كيلا يهلك فأخذه وألحقه بالعسكر وترك دابته فهلكت لم يضمن له شيئاً لأنه ما تعرض للدابة بشيء إنما أحسن إلى صاحبها حين ألحقه بالعسكر ولو أساء إلى صاحبها بأن حبس صاحب المواشي حتى ضاعت مواشيه لم يضمن شيئاً فإذا أحسن إليه كان أولى ولأن الرجل ابتلي ببليتين : إما يضيع دابته أو يضيع نفسه إن وقف معها ومن دفع إلى شرين فعليه أن يختار أهونهما وذلك ترك الدابة فصاحب الساقة أمره بما يحق عليه فعله شرعاً فيكون محسناً وما على المحسنين من سبيل .
وإن كان أخذ الدابة من يد صاحبها فنحاها عنه ثم منعه من أخذها فهلكت فهو ضامن له قيمتها لأنه فوت له يده بصنع أحدثه في الدابة وذلك غصب منه توضيحه أنه أمر بإزالة يد صاحب الدابة عن الدابة وإنما أمر بإلحاقه بالعسكر وهو فيما أمر به غير محتاج إلى التعرض لدابته فيكون ضامناً له قيمتها إذا أخرجها من يده كغيره وكذلك إن ذبحها صاحب الساقة أو ضربها فقتلها@(1/149)
فهو ضامن وهذا أظهر .
فإن أخذ صاحب الدابة بلجام دابته ففك صاحب الساقة يده وألحقه بالعسكر وترك الدابة في موضعها لم يضمن شيئاً لأن صنعه حل بيد صاحبها لا بالدابة وهذا دليل لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في أن ضمان الغصب لا يجب إلا باعتبار صنع في المغصوب يفوت يد المالك بتحويله عن الموضع الذي كان يد المالك عليه ثابتاً فيه فإنه إذا أخذ لجام الدابة نحاها كان ضامناً وإذا فك يد صاحبها عن اللجام لم يكن ضامناً وتلف الدابة في الموضعين حاصل بسبب واحد إلا أن محمداً رحمه الله يسلم هذا الأصل فيما يحتمل النقل ولكنه يقول فيما لا يحتمل النقل : يقام غيره مقامه باعتبار تفويت ثمرات الملك على المالك كما تشترط الإشارة في الدعوى والشهادة إلى العين فيما يحتمل النقل إلى مجلس القاضي ثم فيما لا يحتمل يقام ذكر الحدود مقامه للتيسير .
وكذلك لو كان الرجل راكباً فأنزله كرهاً وألحقه بالعسكر لم يضمن دابته لأنه لم يصنع فيها شيئاً إنما صنعه في صاحبها .
وإن أخذ صاحب الساقة الرجل فألحقه بالعسكر وترك دابته فمر بها سرية كانوا على إثرهم فعلفوها وقاموا عليه حتى ألحقوها بالعسكر ثم حضر صاحبها فهو أحق بها لأن وجد عين ماله فيكون أحق به وليس لهم أن يرجعوا عليه بما أنفقوا لأنه لم يأمرهم بذلك وقد بينا هذا وحكي أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان له رمح طويل وكان إذا شق عليه حمله ألقاه على الطريق فيمر به بعض الأعراب ممن يكون في آخر العسكر فيأخذه وهو لا يعرف قصته حتى يأتي به المنزل فيجيء الزبير ويقول : جزاك الله خيراً فيما حملت من رمحي فيأخذه فعل ذلك غير مرة فإن كانوا حين أتوا بها العسكر أخبروا الأمير خبرها فأمرهم أن ينفقوا عليها حتى يجدوا صاحبها ففعلوا ذلك ثم حضر صاحبها أخذها وأعطاهم ما أنفقوا بعد أمر الأمير ولم يعطهم شيئاً مما@(1/150)
أنفقوا قبل ذلك لأن في هذا الأمر نظراً لصاحبها بإحياء ملكه وإمساكه عليه والدابة لا تبقى بدون النفقة والإنسان لا يرضى بالتبرع بالإنفاق على ملك الغير وللأمير ولاية النظر لكل من عجز عن النظر لنفسه من الجند فكان أمره بذلك كأمر صاحب الدابة حين صدر عن ولاية شرعية .
فإن قالوا : أنفقنا عليها بعد المر كذا وذلك نفقة مثلها وقال صاحبها : لم ينفقوا عليه من ذلك شيئاً فالقول قول صاحبها لأنهم يدعون في ذمته ديناً لأنفسهم وهو منكر فيكون القول قوله بعدما يحلف على علمه لأنه استحلاف على فعل الغير وهو إنفاقهم عليها فيكون على العلم دون الثبات .
فإن أقاموا شاهدين مسلمين على ما ادعوا أو كان إنفاقهم بعلم الأمير رجعوا على صاحبها ولا يلتفت إلى إنكاره لثبوت ما ادعوا بحجة حكمية وذلك علم الأمير أو شهادة شاهدين .
فإن كانوا حين رفعوها إلى الأمير وشهد الشهود أنهم وجدوها لا يدرون لمن هي إن رأى الإمام أن يبيعها فباعها جاز لأن ذلك نظر منه لصاحبها فالإنفاق ربما يأتي على ماليتها وحفظ ثمنها أيسر من حفظ عينها وللأمير ولاية النظر على جنده وليس لصاحبها إذا حضر أن يبطل البيع وإنما حقه في ثمنها فإن كان أمرهم بالإنفاق زماناً ثم باعها فقالوا : أعطنا من الثمن ما أنفقنا وأقاموا البينة على ما ادعوا من النفقة قبل أن يحضر صاحبها أو بعدما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره لأنهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها أو بعدما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره لأنهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها بإحيائهم مالية هذه الدابة ولهذا لو حضر صاحبها كان لهم أن يحبسوها حتى يأخذوا ما أنفقوا بمنزلة راد الآبق يحبسه بالجعل والثمن بدل تلك المالية فيعطيهم الأمير مقدار حقهم من ذلك وهذه البينة مقبولة منهم قبل حضور صاحبها باعتبار أن الأمير خصم فيه عن صاحبها كما تقبل البينة مقبولة كما تقبل البينة منهم في ابتداء الأمر بالإنفاق فإنهم لو قالوا للأمير : وجدنا هذه الدابة ولا نعرف صاحبها أمرهم بأن يأتوه بشهود على@(1/151)
ذلك ويقبل بينتهم ليأمرهم بالإنفاق .
فإن لم يأتوه بشهود ورأى الأمير النظر في أن يأمرهم بذلك فلا بأس بأن يقول : أمرتهم أن ينفقوا عليها على أنه إن كان الأمر كما زعموا رجعوا على صاحبها وإلا فلست آمرهم بشيء من ذلك ويشهد على هذا أو يقول : أمرتهم ببيعها وإنفاق ثمنها إن كان الأمر كما ذكروا وإن كان الأمر على غير ما زعموا فلست آمرهم بشيء من ذلك وهذا لأن الإشهاد بهذه الصفة يتمحض نظراً لصاحبها بأنهم إن كانوا صادقين يحيا ملكه بهذا وإن كانوا غاصبين لا يستفيدون البراءة عما لزمهم من الضمان بهذا ولذلك لا يجوز البيع باعتبار هذا الأمر إذا كان من في يده غاصباً .
فإن حضر صاحبها وقد هلك الثمن في يد من باعها بعد أمر الأمير بهذه الصفة فإن أقر بما أخبر المخبر به الأمير فهو بريء من ضمانه وضمان ثمنه لأنه تبين أن البيع كان بإذن صحيح .
وإن جحد صاحبها ذلك فالبائع ضامن لقيمتها حتى يقيم البينة على ما يدعي فرن أقام البينة على م يدعي فالثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصم فإن وجد صاحبها الدابة في يد المشتري كان له أن يأخذها إذا أقام البينة أنها له لأنه وجد عين ماله .
فإن أقام المشتري البينة .
على ما قاله الواجد وعلى ما أمره به الأمير سلم له ما اشترى لأنه أثبت سبب ملك صحيح لنفسه بالبينة .
وإن لم يكن له بينة أخذ الدابة صاحبها ورجع المشتري على البائع بالثمن لاستحقاق المبيع من يده .
فإن أقام البائع البينة على ما ادعى من أنه وجدها ضائعة وأن الأمير أمره ببيعها برئ هو من الثمن بمحضر من الذي استحقه وهذا التقييد دليل على مسألة أخرى وهو أن المشتري إذا@(1/152)
استحق منه المبيع فأراد أن يرجع بالثمن على البائع فأقام البائع بينة على أمر يبطل به استحقاق المستحق إن كان ذلك بحضرة المستحق تقبل وإلا فلا ورجع المشتري فأخذها من المستحق لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وأي قاض رفع إليه هذه الحادثة وسئل إجازة البيع لم يجزه حتى تقوم البينة عنده على جميع ما بينا لأن ولاية الإجازة إنما تثبت له إذا ظهر جميع ذلك عنده ولا يظهر إلا بالحجة والله المعين .
سجدة الشكر وإذا أتى الأمير أمر يسره فأراد أن يشكر الله تعالى عليه فلا بأس بأن يكبر مستقبل القبلة فيخر ساجداً يحمد الله تعالى ويشكره ويسبح ويكبر تكبيرة ويرفع رأسه وهذه سجدة الشكر وهي سنة عند محمد وكذلك في قول أبي يوسف رواه عنه ابن سماعة فأما أبو حنيفة فكان لا يراها شيئاً أي شيئاً مسنوناً أو لا يراها شكراً تاماً فإن تمام الشكر في أن يصلي ركعتين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يكرهها وهكذا روي ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لأنه لو فعله من يكون منظوراً إليه ربما يظن ظان أن ذلك واجب أو سنة متبعة عند حدوث النعم فيكون مدخلاً في الدين ما ليس منه وقال عليه السلام : " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " وما من ساعة إلا وفيها نعمة متجددة لله تعالى على كل أحد من صحة أو غير ذلك فلو اشتغل بالسجود عند كل نعمة لم يتفرغ لشغل آخر ولما وفق حتى سجد كان ذلك نعمة ينبغي أن@(1/153)
يسجد لها ثانياً ولكن استحسن محمد الآثار المروية في الباب .
منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بشر ببشرى تسره خر ساجداً لله وروي أنه عليه السلام مر برجل به زمانة فسجد ومر به أبو بكر وعمر ففعلا ذلكن وفي كتب الحديث يروى أن النبي عليه السلام مر بنغاشي فسجد يعني ناقص الخلق .
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما أتاه فتح اليمامة سجد وعن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع علي بن أبي طالب بالنهروان فقال : التمسوه يعني ذا الثدية فالتمسوه فلم يجدوه فجعل يعرق جبينه ويقول : ما كذبت ول كذبت فوجدوه في ساقية أو بئر فسجد علي رضي الله عنه سجدة وأصل هذا ما روي أنه لما قاتل علي رضي الله عنه الحرورية قال : انظروا فإن فيهم رجلاً إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة حدثني نبي الله أني صاحبه فقلبوا القتلى فلم يجدوه فقال : انظروا فوالله ما كذبت ولا كذبت قالوا : فإن سبعة نفر تحت نخل لم نقلبهم بعد قال : انظروا قال الراوي : فرأيت في رجليه حبلاً جروه به حتى ألقوه بين يديه فخر لله ساجداً وقال : أبشروا وإنما فعل هذا لأنه أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بأن القوم الذي فيهم رجل بهذه الصفة يقاتلونك وهم على الضلالة فحين وجدوه كان ذلك نعمة عظيمة فلهذا خر لله ساجداً وبالله العون والتوفيق .@(1/154)
باب صلاة الخوف
قال محمد رحمه الله : اختلف الناس في الصلاة الخوف وأحسن الأقاويل فيها ما قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وجامعهما عليه ابن عمر وهو أن يجعل الإمام الناس طائفتين فتقف طائفة بإزاء العدو ويصلي بطائفة شطر الصلاة ثم تذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم شطر الصلاة ثم يسلم الإمام وتذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأولى فيتمون صلاتهم بغير قراءة لأنهم أدركوا أول الصلاة فهم في حكم المقتدين في جميعها ثم تأتي الطائفة الثانية فيقضون ما فاتهم بقراءة لأنهم مسبوقون فيها وقد بينا في كتاب الصلاة ما في هذا الباب من اختلاف الآثار واختلاف العلماء وما في نوادر أبي سليمان لأبي يوسف من الفرق بينهما إذا كان العدو في جهة القبلة أو في دبر القبلة في حكم صلاة الخوف .
وذكر هاهنا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الإمام يصلي بكل طائفة سجدة وإنما أراد به ركعة وهذه لغة معروفة عند أهل الحجاز يقولون : سجد فلان سجدة : أي صلى ركعة .
وذكر في حديثه أيضاً : فإن كان خوفاً هو أشد من ذلك صلوا رجالاً على@(1/155)
أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها وإنما أراد إذا كانوا قياماً لا مشاة فإن المشي عمل لا يجوز الصلاة معه بمنزلة السباحة في البحر والمسايفة في زمان القتال وذكر عن محمد بن يحيى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلاً لم يقعد حتى يصلي ركعتين وأهل الحديث يروون هذا الحديث أتم من هذا لأنه في كل منزل كان يعين مكان الصلاة أولاً فيصلي فيه ركعتين وهكذا ينبغي لكل مسافر أن يفعله فإن النزول للاستراحة وذلك نصيب البدن فالأولى أن يقدم أمر الدين عليه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصلي ويسعى في مهنة أهله وبه أمر أمته فقال : " لا تتخذوا بيوتكم قبوراً قيل معناه : لا تصلوا فيه وقيل معناه : بأن تناموا فيه من غير حاجة وأن تعينوا أهاليكم في حوائجهم وقال صلى الله عليه وسلم : " جعلت قرة عيني في الصلاة " وقرة عين أمته فيما فيه قرة عينه فالبداية به عند النزول في المنزل أولى .
قال : وإذا ابتلي المسلم بالقتل صبراً فإنه يستحب له أن يصلي عند ذلك ركعتين ويستغفر بعدهما ذنوبه ليكون آخر عمله الصلاة والاستغفار قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من ختم كتابه بالطاعة غفر له ما سلف " وقال : " الأمور بخواتيمها " وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان أول كلامه وآخر كلامه قول : لا إله إلا الله غفر له ما بين ذلك " فلهذا استحبوا أن يلقن الصبي في أول ما يقدر على التكلم كلمة التوحيد ويلقن ذلك عند موته أيضاً ليكون أول كلامه وآخر كلامه هذا .
ثم الأصل في الباب حديث خبيب فإنه لما أسر فبيع بمكة خرجوا إلى الحل ليقتلوه فقال : دعوني أصلي@(1/156)
ركعتين فقالوا : صل فصلى ركعتين ثم قال : لولا أن تظنوني جزعت من الموت لزدت وفي رواية : أوجزهما وقال : لو لا خشية أن يقولوا : جزع من الموت لطولت صلاتي ثم نظر في وجوه المشركين فلم ير إلا شامتاً أو شاتماً أو إنساناً في يده حجر أو عصاً فقال : والله ما أرى إلا وجه عدو اللهم ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فأقرئ رسولك وأصحابه مني السلام وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام وهو على المنبر بالمدينة ثم قال خبيب : اللهم أحصهم عدداً والعنهم بدداً ولا تبق منهم أحداً زاد في كتب الحديث أنه التمس منهم أن يكبوه على ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ثم صلبوه بعد القتل مستدبر الكعبة فتحولت خشبته حتى صار مستقبل الكعبة وقد استحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعه خبيب عند القتل من الصلاة ركعتين وسماه سيد الشهداء وقال : " هو رفيقي في الجنة " فصارت سنة من ذلك الوقت .
قال : وصلاة الخوف إنما تكون إذا كانوا موافقين للعدو فأما في حالة المسايفة والمطاعنة والرمي فلا تستقيم الصلاة لأن هذا عمل ولا تستقيم الصلاة مع الاشتغال بعمل ليس منها ولكنهم يؤخرون الصلاة إلى أن يفرغوا من ذلك لأن ما يفوتهم من الصلاة يمكنهم تداركه بعد هذا وما يفوتهم بالاشتغال بالصلاة والكف عن القتال في هذه الحالة لا يمكنهم تداركه .@(1/157)
والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري قال : حبسنا يوم الخندق عن الصلاة إلى هوي من الليل حتى كفينا كما قال الله تعالى : " وكفى الله المؤمنين القتال " الأحزاب : 25 فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمر فأقام الصلاة صلاة الظهر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها ثم أقام العصر فصلاها مثل ذلك ثم المغرب ثم العشاء وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف : { فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } البقرة : 239 وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فأذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعد الأولى وفي رواية عنه أنه أمره فأذن وأقام لكل صلاة وبأي ذلك أخذت فهو حسن وفيه دليل جواز تأخير الصلاة لشغل القتال وأن المستحب في الفوائت أن تقضى بالجماعة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قياماً على أرجلهم أو ركباناً لا يعملون شيئاً صلوا بالإيماء ولم يجز لهم تأخير الصلاة لأن عند العجز عن الركوع والسجود الفرض يتأدى بالإيماء وعجزهم ظاهر .
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب حتى صلى المغرب ثم ذكر بعد ذلك أنه لم يصل فصلاها وفيه دليل على أن الترتيب يسقط بعذر النسيان وقد بينا هذا في كتاب الصلاة ثم يوم الأحزاب هو يوم الخندق أيضاً وقد ذكر في الحديث الأول أنه ترك أربع صلوات وفي هذا الحديث ذكر أنه ترك صلاة العصر وكلاهما صحيح فقد روي أنه قال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً " يعني : صلاة العصر فوجه التوفيق أن كل واحد من الأمرين كان في يوم على حدة@(1/158)
لأنهم بقوا في الخندق سبعة عشر يوماً وكانوا مشغولين بالقتال في أكثر تلك الأيام ليلاً ونهاراً والله الموفق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=9 - TOP#TOPباب الشهيد وما يصنع به
قال محمد رحمه الله : الشهيد إذا قتل في المعركة لم يغسل ويصلى عليه في قول أهل العراق وأهل الشام وبه نأخذ وفي قول أهل المدينة لا يصلى عليه وممن قال ذلك مالك بن أنس واعلم أن محمداً رحمه الله سلك في هذا الكتاب للترجيح طريقاً سوى ما ذكره في سائر الكتب وهو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز فرجع ما اتفق عليه فريقان وأخذ به دون ما تفرد به فريق واحد وهذا خلاف ما هو المذهب الظاهر لأصحابنا في الترجيح أنه لا يكون بكثرة العدد وعليه دل ظاهر قوله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ
مَّا هُمْ } ص : 24 وقال تعالى : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } الأعراف : 187 وقال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } يوسف : 103 ووجه ما اعتبره هاهنا أن مثل هذا الاختلاف إنما يترتب على اشتباه الأثر فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي وكان ذلك أمراً ظاهراً فتهمة الغلط فيما تفرد به فريق واحد يكون أظهر من تهمة الغلط فيما اجتمع عليه فريقان كما في هذه المسألة .
فإن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد وأكثر الصحابة يروون أنه صلى عليهم حتى رووا أنه صلى على حمزة رضي الله عنه سبعين صلاة كان موضوعاً بين يدي@(1/159)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أتى رجل صلى عليه وعلى حمزة معه وكان جابر رضي الله عنه يومئذ قتل أبوه وخاله فكان مشغولاً بهما لم يشهد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء على ما روي أنه حملهم إلى المدينة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادفنوا القتلى في مضاجعهم فردهما ولا شك أن توهم الغلط في روايته أظهر .
ثم أهل المدينة يقولون : إن الصلاة على الميت استغفار له وترحم عليه والشهيد يستغني عن ذلك فإن السيف محاء للذنوب ونحن نقول : الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له والشهيد أولى بهذه الكرامة ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد صلى عليه أصحابه والناس يقولون : وارحم محمداً وآل محمد في الصلاة فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغنى بها عن استغفار المؤمنين والدعاء بالرحمة له ومن يقول منهم : إن الشهيد حي بالنص ولا يصلى على الحي فهذا ضعيف أيضاً لأنه حي في أحكام الآخرة فأما في أحكام الدنيا فهو ميت في حقنا ويقسم ميراثه ويجوز لزوجته أن تتزوج بعد انقضاء العدة والصلاة على الميت من أحكام الدنيا إلا أنه لا يغسل ليكون ما عليه شاهداً له على خصمه يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك ولهذا لا ينزع عنه جميع ثيابه على ما روي أن حمزة رضي الله عنه كفن في نمرة كانت عليه حين استشهد ولكن@(1/160)
ينزع عنه السلاح لأنه كان لبسه لدفع البأس فقد انقطع ذلك ولأن دفن القتلى مع الأسلحة فعل أهل الجاهلية وقد نهينا عن التشبه بهم وكذلك ما لبس من جنس الكفن كالسراويل والقلنسوة والمنطقة والخاتم والخف هكذا ذكر عن جماعة من أئمة التابعين لأهله أن يزيدوا في أكفانه ما أحبوا وبهذا اللفظ يستدل على أن التقدير بثلاثة أثواب أو بثوبين في كفن الرجال غير لازم .
وإن صار مرتثاً فهو شهيد في أحكام الآخرة ولكن يصنع به ما يصنع بالموتى من الغسل والتكفين والمرتث : من يصير خلقاً في حكم الشهادة مأخوذ من قول القائل ثوب رث أي خلق .
فإذا حمل من مصرعه حياً فمات على أيدي الرجال أو مرض في خيمته فهو مرتث لأنه نال بعض الراحة .
فأما إذا جر برحله من بين صفين لكيلا تطأه الخيول فإنه لا يغسل لأن نقله من صرعه لم يكن لإيصال الراحة إليه .
ولو أكل أو شرب فإنه يغسل لأنه نال بعض الراحة بذلك قال : وذكر عن زيد بن صوحان قال : لا تنزعوا عني ثوباً إلا الخفين ولا تغسلوا عني دماً وارمسوني في الأرض رمساً فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني ففيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ما ليس من جنس الكفن وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهداً له يوم القيامة : وعن سعيد ابن عبيد : أنه خطب الناس بالقادسية فقال : إنا لا قون غداً فمستشهدون فلا تغسلوا عنا دماً ولا تكفنونا في ثوب إلا ما علينا وهذا دليل على ما ذكرنا أيضاً وكأنه كره شيئاً@(1/161)
مما يرجع إلى الزينة في كفنه لا لأن الزيادة لا تحل .
وذكر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة زملوهم في ثيابهم ثم قال : أي هؤلاء كان أكثر أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى رجل قدمه في اللحد قبل صاحبه وكان يدفن في القبر الاثنين والثلاثة وفيه دليل على أنه لا بأس عند الضرورة بدفن الجماعة في قبر واحد فالأنصار يومئذ أصابهم قرح وجهد شديد حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : إن الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال : " أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة " ولكن ينبغي عند الحاجة أن يجعل بين كل ميتين حاجز من التراب كي يصير في حكم قبرين وعلى هذا الوجه لا بأس بدفن المرأة والرجل في قبر واحد على ما رواه عن إبراهيم ويقدم إلى جانب القبلة أفضلهما وهو الرجل .
فإن كانا رجلين تقدم أفضلهما أيضاً على ما قال عليه السلام : " قدموا أكثرهم أخذاً للقرآن " فإن أكثرهم أخذاً للقرآن كان أفضلهم يومئذ لأنهم يتعلمون القرآن بأحكامه .
ثم روي حديث جابر أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يومئذ : ادفنوا القتلى في مضاجعهم " وهذا حسن ليس بواجب وإنما صنع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كره المشقة عليهم بالنقل مع ما أصابهم من القرح .
وذكر عن محمد بن سيرين قال : استعمل يزيد بن معاوية على جيش فكره أبو أيوب@(1/162)
الأنصاري الخروج معه ثم ندم ندامة شديدة فغزا معه بعد ذلك فحضر فأتاه يزيد بن معاوية بعوده فقال : ألك حاجة قال : نعم إذا أنا مت فاغسلوني وكفنوني ثم احملوني حتى تأتوا بلاد العدو ما لم يشق على المسلمين ثم تأمرهم فيدفنوني وهذا أيضاً ليس من الواجب ولكنه شيء أحبه إما ليكون أقرب في نحر العدو فينال ثواب من مات مرابطاً أو ليكون أبعد عن الشهرة بكثرة الزيارة فقد قال عليه السلام : " لا تتخذوا قبري بعدي معبداً " وقال : " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وذكر في المغازي أنهم فعلوا ذلك به ودفنوه ليلاً فصعد من قبره نور إلى السماء ورأى ذلك من كان بالقرب من ذلك الموضع من المشركين فجاء رسولهم من الغد فقال : من كان هذا الميت فيكم قالوا : صاحب لنبينا فأسلموا لما رأو .
وذكر عن ابن أبي مليكة قال : مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشى فنقل منه ودفن بمكة فجاءت عائشة رضي الله عنها حاجة أو معتمرة فزارت قبره وقالت : وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً أن والله لو شهدتك ما زرتك ولو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت@(1/163)
فيه وإنما قالت ذلك لإظهار التأسف عليه حين مات في الغربة ولإظهار عذرها في زيارته فإن ظاهر قوله عليه السلام : " لعن الله زوارات القبور " يمنع النساء من زيارة القبور والحديث وإن كان مأولاً فلحشمة ظاهرة ظاهرة قالت ما قالت وفيه دليل أن الأولى أن يدفن القتيل والميت في المكان الذي مات فيه في مقابر أولئك القوم ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات في قال : ولو نقل ميلاً أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به وفي هذا بيان أن النقل من بلد إلى بلد مكروه لأنه قدر المسافة التي لا يكره النقل فيها بميل أو ميلين وهذا لأنه اشتغال بما لا يفيد فالأرض كلها كفات للميت قال الله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا } المراسلات : 25 : 26 إلا أن الحي ينتقل من موضع إلى موضع لغرض له في ذلك وذلك لا يوجد في حق الميت ولو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه أياماً كان كافياً في الكراهة .
وذكر عن الحسن قال : إذا وجد ما يلي صدر القتيل إلى رأسه غسل وصلي عليه يعني : إذا وجد أكثر البدن أو نصف البدن معه الرأس وبه نأخذ فإنه لا تعاد الصلاة على ميت واحد فلو صلى على النصف أو ما دونه يؤدي إلى تكرار الصلاة على ميت واحد بأن يوجد النصف الباقي وهذا لا يكون فيما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس .
فأما القتيل فإن علم أنه قتل في سبيل الله تعالى لم يغسل وإن لم يعلم ذلك غسل لأن الغسل سنة الموتى@(1/164)
من بني آدم إلا أنه يسقط في حق الشهيد لمقصود قد بيناه فما لم يعلم ذلك وجب غسله بمنزلة سائر الموتى .
وذكر عن أبي برزة الأسلمي أنه صلى ركعتين وهو آخذ بعنان فرسه ثم انسل قياد فرسه من يده فمضى الفرس على القبلة وتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياد فرسه ثم رجع ناكصاً على عقبيه فصلى بقية صلاته فقال الرجل : ما لهذا الشيخ فعل الله به وفعل فانصرف أبو برزة من صلاته فقال : من هذا الشاتم لي آنفاً إنا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأينا من يسره ولو كنت تركت فرسي حتى تباعد ثم طلبته شق علي فقال القوم للرجل : ما كان ينتهي بك خبثك حتى تتناول رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبه ففي هذا دليل على أنه لا بأس للغازي أن يأخذ بعنان فرسه في الصلاة لأنه يبتلى به من ليس له سائس وإن مشى في صلاته عند تحقق الحاجة يسيراً وهو مستقبل القبلة لم تفسد صلاته ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه كبر عند باب المسجد وركع ودب راكعاً حتى التحق بالصف ولو استدبر القبلة في مشيه حتى جعلها خلف ظهره كان مفسداً لصلاته لا لمشيه بل لتفويت شرط الجواز وهو استقبال القبلة وكأن الرجل استعظم مشيه في الصلاة لأجل الفرس فنال منه لأنه لم يعرفه فاستعظم فعله ثم بين أبو برزة أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من يسره يريد من تيسيره على الناس فعلاً وقولاً على ما قال عليه السلام : " خير دينكم اليسر " فبين عذر نفسه ولم يشتغل بمكافأة من نال منه ففعل ذلك القوم على وجه النيابة عنه وهذا هو الطريق المحمود في المعاشرة مع الناس .
قال : ولا بأس للغزاة وغيرهم من المسافرين أن يصلوا على دوابهم حيث ما كانت وجوههم تطوعاً يومؤن إيماء وهذا لأن التطوع مستدام غير مختص@(1/165)
بوقت والظاهر أن المسافر يلحقه الحرج في النزول واستقبال القبلة في كل وقت فذلك يشبه بالعذر لإثبات هذه الرخصة له إذا أراد استدامة الصلاة والدليل عله حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصنع ذلك أيضاً وعن جابر رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أبواء يصلي على راحلته ووجهه قبل المشرق ورآه يصلي على راحلته وهو ذاهب إلى خيبر حيث ما توجهت به مقبلاً أو مدبراً فعرفنا أنه لا بأس بذلك .
ثم ذكر أن ينبغي للغزاة الذين لا ثياب لهم أن يصلوا قعوداً وحداناً كأستر ما يكون يومون إيماء وذلك مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قال : ولا يعجبنا أن يصلوا جماعة فإن صلوا جماعة قعد الإمام في وسط الصف لكيلا يقع بصرهم على عورته كما هو السنة في صلاة النساء بالجماعة ثم ذكر الجمع بين الصلاتين في الغزو وغيره من الأسفار أنهن لا بأس به فعلاً لا وقتاً بأن يؤخر الأولى إلى آخر الوقت ثم ينزل فيصليها في آخر الوقت ويمكث ساعة حتى يدخل وقت الأخرى فيصليها في أول الوقت وهكذا فعله ابن عمر رضي الله عنهما وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا إذا جهد به السير وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الصلاة والله الموفق .@(1/166)
M0ا صلاة القوم الذين يخرجون إلى العسكر ويريدون العدو قال : إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسرة يوم واحد هما أقرب إلى أرض الحرب فكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة أن الخليفة كتب إلي يأمرني بالغزو فأعلم من قبلك ذلك ليقدموا علي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا فخرج القوم من المدينة البعيدة على قصد الغزو مع والي المدينة القريبة ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فأهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم لأنهم يتيقنون السفر ثلاثة أيام فإن من المدينة البعيدة إلى المدينة القريبة مسيرة يوم ومنها إلى أرض الحرب مسيرة يومين والغزاة يدخلون دار الحرب لا محالة فلهذا يقصرون الصلاة .
وإن كانت المسيرة من المدينة القريبة إلى دار الحرب دون يومين فإنهم يتمون الصلاة .
لأنهم لا يدرون أين يريد الوالي فلعله لا يريد أن يجاوز أول دار الحرب .
وإنما يؤخذ في العبادة بالاحتياط .
وطريق العبادة الاحتياط في البناء على المتيقن به دون المحتمل والغزاة تبع للوالي في نية السفر والإقامة لأن عليهم طاعته بمنزلة العبد مع مولاه والزوجة مع زوجها .
وإن كان بين في كتابه أين يريد المسير إليه من دار الحرب فقد زال الاشتباه ببيانه .
فإن كان@(1/167)
المسير إلى ذلك الموضع مقدار ثلاثة أيام فصاعداً من مدينتهم قصروا الصلاة وإلا أتموا .
وإن قدموا على والي المدينة القريبة فلم يخرج أياماً فإنهم يقصرون الصلاة ما لم يعزموا على الإقامة خمس عشرة ليلة في المدينة القريبة .
لأنهم صاروا مسافرين فما لم يعزموا على الإقامة في موضعها أو في مدة الإقامة كانوا مسافرين على حالهم .
ألا ترى أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر الصلاة وأما أهل المدينة القريبة فإنهم يتمون الصلاة حتى يخبرهم الأمير أنه يريد سفر ثلاثة أيام فصاعداً وإذا أخبرهم بذلك فما لم يخرجوا من مدينتهم يتمون الصلاة أيضاً .
وإن خرجوا إلى العسكر ينتظرون أن يخرج الأمير فمن كان منهم لا يعزم على الرجوع إلى منزله فإنه يقصر الصلاة وإن أقام في ذلك المكان شهراً .
لأنه صار مسافراً حين فارق عمران مصره على قصد السفر وإن كان من عزمه أن يرجع إلى منزله ساعة من نهار ليقضى حاجته فإنه يتم الصلاة .
لأن عزمه على الرجوع إلى وطنه الأصلي إذا كان هو في فنائها بمنزلة مقامه في جوفها فيتم الصلاة حتى يخرج من المدينة راجعاً إلى العسكر وهو لا يريد الرجعة إلى أهله حتى يغزو فإذا جعلها خلف ظهره قصر الصلاة لأنه صار مسافراً بهذا الخروج وإن عزموا على الإقامة في المعسكر خمس عشرة ليلة أتمو الصلاة لأنهم نووا الإقامة في موضعها فإن فناء المصر كجوف المصر في صحة نية الإقامة فيه ولو أن أهل المدينة البعيدة قصروا الصلاة إلى أن ينتهوا إلى المدينة القريبة فقال الوالي : إن الخليفة كتب إلي أن تغزوا قبل أن تخرجوا من مدينتكم إلي فصلاتهم التي أدوها تامة .
لأنهم كانوا مسافرين وما لم يعرفوا فسخ الوالي عزيمة السفر لا يصيرون مقيمين لأن التكليف يثبت بحسب الوسع .
ثم عليهم من حين@(1/168)
سمعوا هذا الخبر أن يتموا الصلاة لأنهم عزموا على الرجوع إلى وطنهم الأصلي وبينهم وبين وطنهم مسيرة يوم فكانوا مقيمين في الحال .
وإن سمع بذلك بعضهم دون بعض فعلى الذين سمعوا أن يتموا الصلاة وقصر الذين لم يسمعوا فصلاتهم صحيحة ليس عليهم إعادتها لأن ما يبتنى على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب ما لم يسمع به أصله خطاب الشرع وهذا لأن حكم الخطاب إنما يلزم المخاطب إذا تمكن من العمل به وذلك لا يكون إلا بعد السماع فكانوا مسافرين ما لم يسمعوا السبب الذي هو فاسخ لعزيمة سفرهم فإن كان والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة : من أراد منكم الغزو فليوافنى في موضع كذا ولم يخبر أين يريد وذلك المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة فإن أهلها يتمون الصلاة حتى ينتهوا إلى ذلك المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة فإن أهلها يتمون الصلاة حتى ينتهوا إلى ذلك المكان لأنهم قصدوا أقل من مدة السفر ولعل من رأى الإمام أن يقيم معهم في ذلك المكان ويبعث السرايا والجيوش من غيرهم ويتمون الصلاة في ذلك المكان أيضاً لأنهم إذا لم يصيروا مسافرين بالقصد إلى ذلك المكان لا يصيرون مسافرين بالمقام في ذلك المكان أيضاً فإن أخبرهم الوالي بعد ما نزلوا ذلك المكان أن يسير بهم مسيرة شهر في دار الحرب فإنهم يتمون الصلاة ما داموا في ذلك المكان لأنهم حصلوا فيه وهم مقيمون فبمجرد نية السفر لا يصيرون مسافرين ما لم يرتحلوا منه بمنزلة المقيم ينوي السفر وهو في مصره فإن قصروا الصلاة قبل أن يرتحلوا من ذلك المكان فعليهم إعادة الصلاة لأنهم خرجوا منها قبل إكمال الفرض ثم إن خرجوا من ذلك المكان قبل أن يمضي وقتها وقبل أن يعيدوها صلوها ركعتين وإن خرجوا بعد مضي وقتها صلوها@(1/169)
أربعاً لأن تقرر الوجوب باعتبار آخر الوقت فإذا خرج الوقت وهم مسافرون كان عليهم صلاة السفر وإن خرج الوقت وهم مقيمون كان عليهم صلاة المقيمين ولا يتغير هذا الحكم بما أدوا لأن المؤداة كانت فاسدة حين سلموا على رأس ركعتين وهم مقيمون فكأنهم لم يصلوها أصلاً فإن سبق أهل المدينة البعيدة إلى ذلك
المكان فلم يأتهم والي المدينة القريبة عشرة أيام وأن ذلك المكان من مدينتهم على مسيرة يومين أتموا الصلاة لما بينا .
وإن كان على مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة فيها وإن أقاموا شهراً أو أكثر لأنهم صاروا مسافرين بالخروج إليها فلا يصيرون مقيمين ما لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة وهم منتظرون للوالي في هذا المكان غير عازمين على إقامة خمسة عشر ليلة فإن قصروا الصلاة في ذلك المكان ثم أتاهم كتاب الوالي أنه قد أمر بالمقام فإنهم يقصرون الصلاة على حالهم حتى يرجعوا إلى مدينتهم لأنهم انصرفوا وبينهم وبين مواضع إقامتهم مسيرة سفر فلا يصيرون مقيمين حتى يدخلوا وطنهم .
قال : وإن دخل المسلمون أرض الحرب فانتهوا إلى حصن ووطنوا أنفسهم على أن يقيموا عليه شهراً إلا أن يفتحوه قبل ذلك أخبرهم الوالي بذلك فإنهم يقصرون الصلاة لأنهم لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة لمكان الاشتثناء فالفتح قبل مضي خمس عشرة ليلة محتمل وإن أخبرهم الوالي أنه لا يقيم بهم في ذلك المكان فتحوا أو لم يفتحوا فإنهم يقصرون الصلاة أيضاً لأنهم في دار الحرب محاربون لأهلها والمحارب بين أن يقهر عدوه فيتمكن من المقام وبين أن يظهر عليه عدوه فلا@(1/170)
يتمكن من المقام ومثل هذا الموضع لا يكون موضع الإقامة في حقه ونية الإقامة في غير موضعها هدر كأهل السفينة إذا نووا الإقامة في موضع من لجة البحر .
ولو أطالوا المقام في دار الحرب حتى وقع الثلج فصاروا لا يستطيعون الخروج فعزموا على الإقامة سنتهم حتى يذهب عنهم الثلج فيخرجون وهم في غير أمان من أهل الحرب فإنهم يقصرون الصلاة أيضاً لأنهم لا يأمنون من أن يقاتلهم العدو فيمنعوهم من القرار في ذلك الموضع وعن زفر رحمه الله أنه إن كانت لهم منعة وشوكة على وجه ينتصفون من العدو إن أتاهم يصح بينهم الإقامة باعتبار الظاهر وعن أبي يوسف رحمه الله قال : إذا كانوا في الأخبية والفساطيط لم يصح بينهم الإقامة وإن كانوا في الأبنية وهم ممتنعون صحت منهم الإقامة والأصح ما ذكر محمد رحمه الله لما قلنا إن موضع الإقامة ما يتمكن المرء من المقام فيه بقدر ما نوى .
واستدل عليه بحديث زائدة بن عمير قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما : إنا نطيل الثواء بأرض العدو يعني القرار فيكيف أنوي في الصلاة قال : ركعتين حتى ترجع إلى أهلك قلت : كيف تقول في العزل قال : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيه شيئاً فهو كما ذكر وإلا فإني أقول فيه : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } البقرة : 223 .
من شاء عزل ومن شاء ترك وفيه دليل جواز العزل وهذا اللفظ مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً واليهود كانوا يكرهون ذلك ويقولون إنه الموءودة الصغرى فنزلت الآية رداً عليهم وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن العزل فقال : إذا أخذ الله ميثاق نسمة من صلب رجل فهو خالقها وإن صب الماء على صخرة فإن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فاتركوا وهكذا يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم@(1/171)
إلا أنه في العزل عن الحرة يحتاج إلى رضاها ليحل له ذلك وفي العزل عن أمته لا يحتاج إلى ذلك .
قال : ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان ونوى الإقامة في موضع خمسة عشر يوماً أتم الصلاة لأنه غير محارب لهم بل هو في أمان منهم فيتمكن من المقام بقدر ما نواه كما يتمكن منه في دار الإسلام ومن أسلم منهم في دار الحرب فلم يأسروه أو لم يعلموا بإسلامه فهو يتم الصلاة أيضاً ما دام في منزله لأنه كان مقيماً في هذا الموضع فلا يصير مسافراً ما لم يرتحل منه .
وإن سافر مسيرة ثلاثة أيام فقصر الصلاة ثم انتهى إلى مقصده في دار الحرب نوى أن يقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة لأنه ما لم يتعرض له أهل الحرب فهو يتمكن من القرار في موضعه وهو غير محارب لهم فيكون في حكم المستأمن فيهم .
قال : والأسير من المسلمين في أيديهم إن أقاموا به في موضع يريدون المقام فيه خمسة عشر يوماً فعليه أن يتم الصلاة وإن كان لا يريد المقام معهم بل يكون عازما على الفرار منهم إن تمكن من ذلك لأنه مقهور مغلوب في أيديهم فيكون المعتبر في حقه نيتهم في السفر والإقامة لا نيته بمنزلة عبد الرجل وزوجته في دار الإسلام فإنه يعتبر في حقهما نية المولى والزوج في السفر والإقامة لا نيتهما وكذلك من بعث إليه الخليفة من عماله ليؤتى به من بلد إلى بلد لا تعتبر نيته في السفر والإقامة لأنه غير متمكن من تنفيذ قصده فمن بعثه الخليفة لا يمكنه من ذلك فكذلك حال الأسير في أيديهم : وإن كن الأسير انفلت منهم وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة شهر في غار أو غيره قصر الصلاة لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب@(1/172)
موضع الإقامة في حقه حتى ينتهي إلى دار الإسلام .
وكذا الذي أسلم في دارهم إذا علموا بإسلامه فطلبوه فخرج هارباً يريد مسيرة ثلاثة أيام فهو مسافر وإن أقام في موضع مختفياً شهراً منهم أو أكثر لأنه صار محارباً لهم حين طلبوه ليقتلوه .
وكذلك المستأمن إذا غدروا به فطلبوه ليقتلوه لأنه صار محارباً لهم وحال هؤلاء كحال من دخل دار الحرب متلصصاً فنوى الإقامة في موضع شهراً فإنه يكون مسافراً ونيته الإقامة لغو لأنه في غير موضع إقامته .
قال : وإن كان واحد من هؤلاء مقيماً بمدينة من دار الحرب فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها منهم فإنه يتم الصلاة أيضاً لأنه كان مقيماً في هذه البلدة فلا يصير مسافراً ما لم يخرج منها وكذلك إن خرج منها يريد مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافراً بنية الخروج إلى ما دون مدة السفر بمنزلة الرجل يخرج إلى ضيعته في بعض القرى .
وهؤلاء بمنزلة جيش دخلوا دار الحرب من مسيرة يوم من منازلهم ولا يريدون أن يسيروا في أرض العدو إلا يوماً آخر فلقوا العدو وقاتلوهم فإنهم يكملون الصلاة وإن طال مقامهم لأنهم لم يكونوا مسافرين في دار الحرب فبالقتال لا يصيرون مسافرين .
ألا ترى أن أهل مدينة من أهل الحرب لو أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم فإنهم يتمون الصلاة وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا منها يريدون مسيرة ثلاثة أيام فقد صاروا مسافرين يقصرون الصلاة فإن أقاموا في موضع من دار الحرب عند مدينتهم قصروا الصلاة أيضاً لأنهم محاربون ومن حصل@(1/173)
مسافراً في دار الحرب محارباً للمشركين لا يصير مقيماً بنية الإقامة في موضع منها .
وإن رجعوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها فعادوا فيها أتموا الصلاة لأن مدينتهم كانت دار الإسلام حين أسلموا فيها وكانت موضع إقامة لهم فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها .
وإن كان المشركون غلبوا عليها وأقاموا فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وخلا المشركون عنها فإن كانوا اتخذوها داراً ومنزلاً يبرحونها فصارت دار الإسلام يتمون فيها الصلاة لأنها صارت في حكم دار الحرب حين غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها وعزموا على المقام فقد صارت دار الإسلام ونية المسلم الإقامة في دار الإسلام صحيحة .
وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها داراً ولكن يقيمون فيها شهراً ثم يخرجون إلى دار الإسلام قصروا الصلاة لأن هذا الموضع من جملة دار الحرب وهم محاربون لهم فلا يصيرون مقيمين بنية الإقامة فيها .
وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها داراً فقد صارت دار الإسلام يتمون فيها الصلاة فإن لم يتخذوها داراً ولكن هم أرادوا الإقامة بها شهراً أو أكثر فإنهم يقصرون الصلاة لأنها دار الحرب وهم فيها محاربون فهذا التخريج بهذه الصفة على قولهما لأنه بمجرد ظهور أحكام الشرك في بلدة عند غلبة أهل الحرب عليها تصير دار حرب فإما عند أبي حنيفة رحمه الله فيشترط مع هذا أن تكون ملاصقة لدار أهل الشرك وأن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنا على نفسه وبيان هذا يأتي في موضعه وذكر بعد هذا باب من يغسل من الشهداء وباب صلاة الخوف في الخطا وقد استقصينا شرح مسائل البابين فيما أمليناه من شرح الزيادات فإنه أعاد تلك المسائل بعينها من غير زيادة ولا نقصان .@(1/174)
قال رضي الله عنه : اعمل بأن أدق مسائل هذا الكتاب وألطفها في أبواب الأمان فقد جمع بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه وكان شاور فيها علي ابن حمزة الكسائي رحمه الله تعالى فإنه كان ابن خالته وكان مقدماً في علم النحو وقيل : من أراد امتحان حفاظ الرواية من أصحابنا فعليه بباب الأذان من كتاب الصلاة ومن أراد امتحان المتبحرين في الفقه فعليه بأيمان الجامع ومن أراد امتحان المتبحرين في النحو والفقه فعليه بأمان السير .
قال : ثم أمان الرجل الحر المسلم جائز على أهل الإسلام كلهم عدلاً كان أو فاسقاً لقوله عليه السلام : " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم والمراد بالذمة العهد مؤقتاً كان أو مؤبداً وذلك الأمان وعقد الذمة فإن كان اللفظ مشتقاً من الأدنى الذي هو الأقل كما قال الله تعالى : { وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ } الفتح : 7 فهو تنصيص على صحة أمان الواحد وإن كان مشتقاً من الدنو وهو القرب كما قال الله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }@(1/175)
النجم : 9 فهو دليل على صحة أمان المسلم الذي يسكن الثغور فيكون قريباً من العدو وإن كان مشتقاً من الدناءة فهو تنصيص على صحة أمان الفاسق لأن صفة الدناءة به تليق من المسلمين ثم الحاصل أن في الأمان معنى النصرة فإن قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } الفتح : 1 نزلت في صلح الحديبية وقد سماه الله فتحاً مبيناً نصراً عزيزاً وكل مسلم أهل أن يقوم بنصرة الدين ويقوم في ذلك مقام جماعة المسلمين ألا ترى أنه إذا تحقق النصرة منه بالقتال على وجه يدفع شر المشركين سقط به الفرض عن جماعتهم فكذلك إذا وجد منهم النصرة بعقد الأمان والصلح كان ذلك كالموجود من جماعة المسلمين .
ولهذا يصح أمان الحرة المسلمة لأنها من أهل النصرة إلا أنه ليس لها بنية صالحة لمباشرة القتال والأمان نصرة بالقول وبنيتها تصلح لذلك ألا ترى أنها تجاهد بمالها لأن مالها يصلح لذلك كمال الرجل .
والدليل على صحة أمانها أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وعن أم هانئ قالت : أجرت حموين لي من المشركين أي قريبين فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتغلت عليهما ليقتلهما .
أي قصدهما فجأة وقال : أتجيرين المشركين فقلت : والله لا تقتلهما حتى تبدأ بي قبلهما ثم خرجت وقلت : أغلقوا دونه الباب فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسف الثنية فلم@(1/176)
أجده ووجدت فاطمة فقلت : ماذا لقيت من ابن أمي علي أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فكانت أشد علي من زوجها إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار فقال : مرحباً بأم هانئ فاخته فقلت : يا رسول الله ماذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أنفلت منه أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فقال : ما كان له ذلك فقد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ثم أمر فاطمة رضي الله عنها فسكبت له غسلاً فاغتسل ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد يخالف بين طرفيه وذلك ضحى فتح مكة فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها وبين أنه ما كان لعلي أن يتعرض لهما بعد أمانها وقيل في معنى قوله : ثمان ركعات أن ركعتين منهما للشكر على فتح مكة وركعتين كان يفتتح صلاة الضحى بهما على ما رواه عمارة ابن رويبة فأربعاً كان يواظب عليها في صلاة الضحى على ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ومعنى قوله : " مخالفاً بين طرفيه " : أي متوشحاً به من طرفيه فيكون فيه بيان أنه لا بأس بالصلاة في ثوب واحد متوشحاً به .
وعن عمر رضي الله عنه قال : إن كانت المرأة لتأجر على المسلمين فيجوز ذلك أي تعطي الأمان للمشركين وفي رواية : لتأخذ أي تأخذ العهد بالصلح والأمان وهكذا قالت عائشة رضي الله عنها : إن كانت المرأة لتأخذ على المسلمين فأما العبد المسلم فلا أمان له إلا أن يكون يقاتل وهذا@(1/177)
قول أبي حنيفة رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وفي الرواية الأخرى وهو قول محمد رحمه الله : أمانه صحيح قاتل أو لم يقاتل لأنه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه والأمان نصرة بالقول وهو مملوك له بخلاف مباشرة القتال فإنه نصرة الدين بما لا يملكه من نفسه ومنافعه ولأنه بالأمان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ثم يتعدى ذلك إلى غيره والعبد في مثل هذا كالحر أصله الشهادة على رؤية هلال رمضان لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول : معنى النصرة في الأمان مستور فلا يتبين ذلك إلا لمن يكون مالكاً للقتال والعبد المشغول بخدمة المولى غير مالك للقتال فلا تظهر الخيرية أمانة بخلاف ما إذا كان مقاتلاً بإذن المولى فإنه يظهر عنده الخيرية في الأمان حتى يتمكن من مباشرة القتال فيكون تصرفه واقعاً على وجه النظر للمسلمين وإنما يكون بالأمان ملتزماً للكف عن قتالهم إذا كان متمكناً من القتال فأما إذا لم يكن متمكناً من ذلك كان ملزماً غيره ابتداء لا ملتزماً وليس لعبد هذه الولاية .
قال : والأمة كالعبد في ذلك واستدل محمد رحمه الله فيه بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال : أمان المرأة والعبد والصبي جائز وتأويل هذا عند أبي حنيفة رحمه الله في العبد المقاتل .
وبحديث الفضل الرقاشي قال : حضرنا أهل حصن فكتب عبد أماناً في سهم ثم رمى به إلى العدو فكتبنا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب : إنه رجل من المسلمين وإن أمانه جائز وإنما علل لصحة أمانة بكونه مسلماً لا بكونه مقاتلاً ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال : هذا العبد كان مقاتلاً لأن الرمي بالسهم من عمل المقاتلين وأمان المقاتل إنما يصح عنده لكونه رجلاً من المسلمين وفي المغازي ذكر أنه كتب على سهمه بالفارسية : مترسيد فأما أمان الذمي فباطل وإن كان يقاتل مع المسلمين بأمرهم لأنه@(1/178)
مائل إليهم للموافقة في الاعتقاد فالظاهر أنه لا يقصد بالأمان النظر للمسلمين ثم هو ليس من أهل نصرة الدين والاستعانة بهم في القتال عند الحاجة بمنزلة الاستعانة بالكلاب أو كأن ذلك للمبالغة في قهر المشركين حيث يقاتلهم بمن يوافقهم في الاعتقاد وهذا المعنى لا يتحقق في تصحيح أمانهم بل في إبطاله .
قال : فأما أمان الغلام الذي راهق من المسلمين أو كان من الكافرين فعقل الإسلام ووصفه فغير جائز على المسلمين في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله جائز لأنه يصح إسلامه إذا كان عاقلاً ومن صح إيمانه صح أمانه بعد إيمانه وهذا لأن الأمان نصرة الدين بالقول فإذا اعتبر قول مثله في أصل الدين فكذلك يعتبر في نصرة الدين وأبو حنيفة رحمه الله يقول : في معنى الخيري والنظر في الأمان إنه مستور لا يعرفه إلا من اعتدل حاله واعتدال الحال لا يكون قبل البلوغ ثم هو لا يملك القتال بنفسه وإنما يتبين الخيرية في الأمان لمن يكون مالكاً للقتال مباشراً له ولم يذكر قول أبي حنيفة فيما إذا كان الصبي مأذوناً في القتال وكان أبو بكر الرازي يقول : يصح أمانه لكونه متمكناً من مباشرة القتال بمنزلة العبد وغيره من مشايخنا كان يقول : لا يصح أمانه لأنه ليس بمعتدل الحال فلا يتم معنى النظر للمسلمين في أمانه والله الموفق .
M0ا الأمان ثم يصاب المشركون بعد أمانهم قال : رجل من المسلمين أمن قوماً من المشركين فأغار عليهم قوم آخرون من المسلمين فقتلوا الرجال وأصابوا النساء والأموال فاقتسموها وولد منهن لهم أولاد ثم علموا بالأمان فعلى القاتلين دية القتلى لأن أمان الواحد نافذ في حق جماعة المسلمين فيظهر به العصمة والتقوم في نفوسهم وأموالهم والقتل من القاتلين كان@(1/179)
بصفة الخطأ حين لم يعلموا بالأمان أو بصفة العمد إن علموا بالأمان ولكن مع قيام الشبهة المبيحة وهي المحاربة فتجب الدية بقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } النساء : 92 والنساء والأموال مردودة عليهم لبطلان الاسترقاق بعصمة المحل ويغرمون للنساء أصدقهن لأجل الوطء بشبهة فقد ظهر أنهم باشروا الوطء في غير الملك وسقط الحد بشبهة فيجب المهر والأولاد أحرار لأنهم انفصلوا من حرائر فكانوا أحرار الأصل بغير قيمة مسلمين تبعاً لآبائهم لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً .
وذكر فيه حديث المهلب ابن أبي صفرة قال : حاصرنا مدينة بالأهواز على عهد عمر رضي الله عنه ففتحناها وقد كان صلحاً لهم من عمر فأصبنا نساء فوقعنا عليهن فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فكتب إلينا أن خذوا أولادكم وردوا إليهم نساءهم وعن عطاء قال : كانت تستر فتحت صلحاً وهو اسم موضع فكفر أهلها فغزاهم المهاجرون فسبوهم وأصاب المسلمون نساءهم حتى ولدن لهم فأمر عمر رضي الله عنه برد النساء على حريتهن وفرق بينهن وبين ساداتهن فتأويل هذا أن القوم حين كفروا لم يغلبوا على الدار ولم يجر فيها حكم الشرك ولم تصر دارهم دار حرب فلهذا لم ير عمر عليهم شيئاً وعن شويس قال : لقد خشيت أن يكون من صلبي بميسان رجال ونساء قالوا : وما ذاك يا فلان قال : كنت جئت بجارية فنكحتها زماناً ثم جاء كتاب عمر فرددتها إذ رد الناس وإنما خاف من ذلك لأنه ردها قبل أن تحيض عنده وما كان ينبغي له أن يردها حتى تحيض ثلاث حيض لأنها حرة وقد وطئها بشبهة فعليها أن تعتد بثلاث حيض@(1/180)
وليس عليه أن يردها حتى تعلم أنها حامل أو غير حامل .
وعن أبي جعفر محمد بن علي قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد ببني جذيمة رفع يديه حتى روئي بياض إبطيه وهو يقول : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ثلاث مرات " ثم دعا علياً رضي الله عنه فقال : خذ هذا المال فاذهب به إلى بني جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك يعني ما كان بينهم وبين أهل مكة من الخماشات والذحول في الجاهلية قال : فدلهم ما أصاب خالد فخرج إليهم علي بذلك المال فودى لهم كل ما أصاب خالد منهم حتى إنه أدى لهم ميلغة الكلب حتى إذا لم يبق شيء يطلبونه وبقيت مع علي بقينة من المال قال علي رضي الله عنه : هذه البقية من المال لكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالد مما لا يعلمه ولا تعلمونه فأعطاهم ذلك ثم انصرف علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وفيه دليل أن المسلمين إذا أصابوا شيئاً مما كان في أمان أو موادعة فإنه يؤدى لهم كل شيء أصيب لهم من دم أو مال وكان خالد أصاب ذلك خطأ وكانت عاقلته رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قوته ونصرته كانت به ولهذا أدى ذلك بنفسه أو تبرع بأداء ذلك من عنده وهذا هو الأظهر فإن تحمل العقل في الدماء لا في الأموال وما أطلق من لفظ الدية في بذل المال إنما أطلقه على وجه المجاز والاتباع لبذل النفس قاسم الدية حقيقة إنما يتناول بذل النفس ولكن باعتبار معنى الأداء يجوز إطلاقه على بذل المال مجازاً وفيه دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة على مال معلوم فإنه قال : هذا لكم مما لا يعلمه ولا تعلمونه واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه .@(1/181)
قال : وأيما عسكر من المسلمين حاصروا حصناً أو مدينة فأسلم بعضهم كان آمناً على نفسه وماله وأولاده الصغار لقوله عليه السلام " فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقال الله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } التوبة : 5 فأما زوجته وأولاده الكبار إن لم يسلموا معه فهم فيء لأن الصغار صاروا مسلمين تبعاً له فأما الكبار ما صاروا مسلمين بإسلامه وزوجته كذلك فهم بمنزلة غيرهم من أهل الحرب واستدل عليه بحديث الزهري : أن ثعلبة وأسيد ابني سعية وأسيد بن عبيد قالوا : لبني قريظة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصراً لهم : يا معشر بني قريظة أسلموا تأمنوا على دمائكم وأموالكم هذا والله الذي كان أخبركم به بنو الهيبان قالوا : ليس به وقصة الهيبان مذكورة في المغازي أنه كان حبراً من أحبار الشام قدم على يهود يثرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضره الموت فجمعهم فقال : أتدرون لم تركت أرض الخمر والخمير يعني الخصب من أرض الشام فنزلت بأرض الجدب والشدة قالوا : لا قال : لأجل نبي قد أظل زمانه وهذا مهاجره وكنت أرجو أن أدركه فمن يدركه منكم فليقرئه مني السلام وليؤمن به@(1/182)
فإنه خاتم النبيين وخير الخلائق أجمعين قال : فلما كانت الليلة التي في صبيحتها نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ابنا سعية وابن عبيد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وأمنوا على دمائهم وأموالهم وفي هذا دليل على أن المحاصر يأمن بالإسلام كما يأمن غير المحاصر .
وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أيما رجل من العدو أشار إليه رجل بأصبعه : إنك إن جئت قتلتك فجاءه فهو آمن فلا يقتله وبعد هذا نأخذ فنقول : إذا أشار إليه بإشارة الأمان وليس يدري الكافر ما يقول فهو آمن لأنه بالإشارة دعاه إلى نفسه وإنما يدعى بمثله الآمن لا الخائف وما تكلم به : إن جئت قتلتك لا طريق للكافر إلى معرفته بدون الاستكشاف منه ولا يتمكن من ذلك قبل أن يقرب منه فلا بد من إثبات الأمان بظاهر الإشارة وإسقاط ما وراء ذلك للتحرز عن الغدر فإن ظاهر إشارته أمان له وقوله : إن جئت قتلتك بمعنى النبذ لذلك الأمان فما لم يعلم بالنبذ كان آمناً عملا بقوله تعالى : { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } الأنفال : 58 أي : سواء منكم ومنهم في العلم بالنبذ وأشار إلى المعنى فيه فقال : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ومبنى الأمان على التوسع حتى يثبت بالمحتمل من الكلام فكذلك يثبت بالمحتمل من الإشارة .
وبيان هذا في حديث الهرمزان فإنه لما أتي به عمر رضي الله عنه قال له : تكلم قال : أتكلم بكلام حي أم كلام ميت فقال عمر : كلام حي فقال : كنا نحن وأنتم في الجاهلية لم يكن لنا ولا لكم دين فكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب فإذا أعزكم الله بالدين وبعث رسوله منكم لم نطعكم فقال @(1/183)
عمر : أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا اقتلوه فقال : أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيراً ثم تقتلوه فقال متى أمنتك فقال : قلت لي تكلم بكلام حي والخائف على نفسه لا يكون حياً .
فقال عمر : قاتله الله أخذ الأمان ولم أفطن به فهذا دليل على التوسع في باب الأمان .
قال : فإذا أمن الإمام قوماً ثم بدا له أن ينبذ إليهم فلا بأس بذلك لقوله تعالى : { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } الأنفال : 58 لأن الأمان كان باعتبار النظر فيه للمسلمين ليحفظوا قوة أنفسهم وذلك يختص ببعض الأوقات فإذا انقضى ذلك الوقت كان النظر والخيرية في النبذ إليهم ليتمكنوا من قتالهم بعد ما ظهرت لهم الشوكة والنبذ لغة هو الطرح قال الله تعالى : { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } آل عمران : 187 .
وإنما يتحقق طرح الأمان بإعلامهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الأمان حتى إن كانوا لم يبرحوا حصنهم فلا بأس بقتالهم بعد الإعلام لأنهم في منعتهم فصاروا كما كانوا .
وإن نزلوا وصاروا في عسكر المسلمين فهم آمنون حتى يعود وإلى مأمنهم كما كانوا لأنهم نزلوا بسبب الأمان فلو عمل النبذ في رفع أمانهم قبل أن يصيروا ممتنعين كان ذلك خيانة من المسلمين والله لا يحب الخائنين .
ودل على هذا قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } التوبة : 6 واستدل عليه بحديث معاوية فإنه كان بينه وبين الروم عهد فكان يشير نحو بلادهم كأنه@(1/184)
يقول : حتى نفي بالعهد ثم نغير عليهم يعني أن العهد كان إلى مدة ففي آخر المدة سار إليهم ليقرب منهم حتى يغير عليهم مع انقضاء المدة .
قال : وإذا شيخ يقول : الله أكبر وفاء لا غدر وفاء لا غدر وكان هذا الشيخ عمرو بن عنبسة السلمي تبين له بما قال أن في صنعه معنى الغدر لأنهم لا يعلمون أنهم يدنو منهم يريد غارتهم وإنما يظنون أنه يدنو منهم للأمان .
فقال معاوية : ما قولك : وفاء لا غدر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أيما رجل بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها وينبذ إليهم على سواء وفي هذا دليل وجوب التحرز عما يشبه الغدر صورة ومعنى والله الموفق .
قال : وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان فأخذه المشركون فقال لهم : أنا رجل منكم أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم ويأخذ من أموالهم ما شاء لأن هذا الذي قال ليس بأمان منه لهم إنما هو خداع باستعمال معاريض الكلام فإن معنى قوله : أنا رجل منكم أي : آدمي من جنسكم ومعنى قوله : جئت لأقاتل معكم المسلمين أي : أهل البغي إن نشطتم في ذلك أو أضمر في كلامه " عن أي : جئت لأقاتل معكم دفعاً عن المسلمين ولو كان هذا اللفظ أماناً منه لم يصح لأنه أسير مقهور في أيديهم فكيف يؤمنهم إنما حاجته إلى طلب الأمان منهم وليس في هذا اللفظ من طلب الأمان@(1/185)
شيء .
ثم استدل عليه بالآثار فمن ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس سرية وحده إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي إلى نخلة أو بعرنة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع له أي : جمع الجيش لقتاله وأمره بقتله وقال : انتسب إلى خزاعة وإنما أمره بذلك لأن ابن سفيان كان منهم فقال : يا رسول الله إني لا أعرفه فقال : إنك إذا رأيته هبته وكنت لا أهاب الرجال فأقبلت عشيشية الجمعة وهو تصغير العشية فحانت الصلاة فخشيت أن أصلي فأعرف فأومأت إيماء وأنا أمشي وبه يستدل أبو يوسف على أن المنهزم ما شياً يومئ ثم يعيد .
قال : حتى أدفع إلى راعية له فقلت : لم أنت فقالت : لا بن سفيان فقلت : أين هو قالت : جاءك الأن فلم أنشب أن جاء يتوكأ على عصا أي لم ألبث فلما رأيته وجدتني أقطر وفي رواية أفكل أي : ترتعد فرائصي هيبة منه فجاء فسلم ثم نسبني فانتسبت إلى خزاعة وذكر في الطريق الآخر : كنت أعتزي إلى جهينة أي أنتسب إليهم ثم قلت له : جئت لأنصرك وأكثرك وأكون معك ومعناه لأنصرك بالدعاء إلى الإسلام وبالمنع عن المنكر وهو قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال عليه السلام : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقيل : كيف ينصره ظالماً قال : يكفه عن ظلمه " وقوله : أكثرك أي :@(1/186)
أجعلك إرباً إرباً فأكثر أجزاءك إن لم تؤمن وأكون معك إلى أن أقتلك .
فقال للجارية : احلبي فحلبت ثم ناولتني فمصصت شيئاً يسيراً ثم دفعته إليه فعب فيه كما يعب الجمل حتى إذا غاب أنفه في الرغوة صوبته وقلت للجارية : لئن تكلمت لأقتلنك وذكر بعد هذا : فمشيت معه حتى استحلى حديثي ثم أريته أني وطئت على غصن شوك فشيكت رجلي فقال : إلحق يا أخا جهينة فجعلت أتخلف ويستلحقني فلحقته وهو مولي فضربت عنقه وأخذت برأسه ثم خرجت أشتد حتى صعدت الجبل فدخلت غاراً وأقبل الطلب وفي رواية : خرجت الخيل توزع في كل وجه في الطلب وأنا متمكن في الجبل فأقبل رجل معه إداوة ونعلاه في يده وكنت حافياً فجلس يبول فوضع إداوته ونعليه وضربت العنكبوت على الغار أو قال : خرجت حمامة فقال لأصحابه ليس فيه أحد فنزل وترك نعليه و إداوته فخرجت ولبست النعلين وأخذت الإداوة فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار حتى جئت المدينة فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما رآني قال : أفلح الوجه وهذا لفظ يتكلم به العرب خطاباً لمن نال المراد وفاز بالنصرة فقلت : وجهك الكريم يا رسول الله فأخبرته خبري فدفع إلي@(1/187)
عصا وقال : " تخصر بهذه يا ابن أنيس في الجنة فإن المتخصرين في الجنة قليل " قيل معناه : تحكم بها في الجنة كما يتحكم الملوك بما يشاءون وقيل معناه : ليكن هذا علامة بيني وبينك يوم القيامة حتى أجازيك على صنيعك بسؤال الزيادة في الدرجة لك فإن مثلك ممن يكون بينه وبين نبيه علامة فيجازيه على صنيعه في الجنة .
قيل : فكانت عند ابن أنيس حتى إذا مات أمر أهله أن يدرجوها في كفنه ومراده من القصة الاستدلال بقوله : جئت لأنصرك وأكثرك فإن ذلك لم يكن أماناً منه .
وذكر حديث يزيد بن رومان قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوم كعب بن الأشرف وإعلانه بالشر وقوله الأشعار وكعب هذا من عظماء اليهود بيثرب وهو المراد بالطاغوت المذكور في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوت } ِ
النساء : 60 وكان يستقصي في إظهار العداوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة بعد حرب بدر وجعل يرثي قتلاهم ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره ويحثهم على الانتقام فمن ذلك القصيدة التي أولها : فلما رجع إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لي بابن الأشرف فإنه قد آذاني@(1/188)
فقال محمد بن مسلمة : أنا لك يا رسول الله وأنا أقتله قال : فافعل فمكث ابن مسلمة أياماً لا يأكل ولا يشرب فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تركت الطعام والشراب فقال : يا رسول الله قلت لك قولاً فلا أدري أفي به أم لا فقال صلى الله عليه وسلم : " إنما عليك بالجهد " ومعنى هذا أنه ترك الإصابة من اللذات قبل أن يفي بما وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا ينبغي لمن قصد إلى خير أن يقدمه على الإصابة من اللذات إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين له أن نفسه لا تتقوى إلا بالطعام والشراب كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } الأنبياء : 8 وأن عليه الجهد بالوفاء بالوعد لا غير .
قال : فاجتمع في قتله محمد وأناس من الأوس منهم عبادة بن بشر بن وقش وأبو نائلة سكان بن سلامة بن وقش والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر فقالوا : يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل فإنه لا بد لنا منه أي : نخدعه باستعمال المعاريض وإظهار النيل منك قال : فقولوا فخرج إليه أبو نائلة وكان أخاه من الرضاعة فتحدث معه وتناشد الأشعار ثم قال أبو نائلة كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء يعني النبي ومراده من ذكر البلاء النعمة فالبلاء يذكر بمعنى النعمة كما يذكر بمعنى الشدة فإنه من الابتلاء وذلك يكون بهما كما قالت الصحابة : ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر وقيل في تأويل قوله تعالى { وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } البقرة : 49 أي : في إنجائكم من فرعون وقومه نعمة عظيمة وقيل : أي في ذبحه أبناءكم واستحيائه نساءكم محنة عظيمة ثم قال : حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأبدان وضاع العيال وأخذنا بالصدقة@(1/189)
ولا نجد ما نأكل قال كعب : قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة : إن الأمر سيصير إلى هذا قال سلكان : ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم لنبتاع منك طعاماً وتمراً وتحسن في ذلك إلينا ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة قال كعب : أما إن رفافي تتقصف تمراً من عجوة يغيب فيها الضرس والرفاف : جمع الرف وهو الموضع الذي يجمع فيه التمر شبه الخنبق وقوله : تتقصف أي : تتكسر من كثرة ما فيها من التمر ووصف جودتها بقوله يغيب فيها الضرس .
قال : أما والله يا أبا نائلة ما كنت أحب أن أرى هذه الخصاصة يعني شدة الحاجة وإن كنت لمن أكرم الناس علي فماذا ترهنون أترهنونني أبناءكم ونساءكم قال : لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به يا كعب قال : إن في الحلقة لوفاء يعني السلاح وإنما قال ذلك سلكان كيلا ينكرهم إذا جاءوا إلى السلاح .
فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد فأتى أصحابه وأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسوا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فأخبروه فمشى معهم حتى أتى البقيع ثم وجههم وقال : امضوا على ذكر الله وعونه ثم دعا لهم وذلك في ليلة مقمرة مثل النهار@(1/190)
فمضوا حتى أتوه فلما انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة وكان ابن الأشراف حديث عهد بعرس فوثب فأخذت امرأته بناحية ملحفته فقالت : أين تذهب إنك رجل محارب ولا ينزل مثلك في مثل هذه الساعة قال : إنما هو أخي أبو نائلة والله لو وجدني نائماً ما أيقظني ثم ضرب بيده الملحفة فنزل وهو يقول : لو دعي الفتي لطعنة لأجابا ثم نزل إليهم فحياهم وتحدثوا ساعة ثم انبسط إليهم فقالوا : ويحك يا ابن الأشرف هل لك أن نمشي إلى شرج العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا فقال : نعم فخرجوا يتمشون فلما توجهوا قبل الشرج أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال : ويحك يا ابن الأشرف ما أطيب عطرك هذا ثم مشى ساعة فعاد بمثلها حتى إذا اطمأن إليه أخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه : اقتلوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فالتفت عليه فلم تغن شيئاً يعين رد بعضها بعضاً قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولاً كان في سيفي وهو يشبه الخنجر فانتزعته فوضعته في سرته ثم تحاملت عليه فغططته أي غيبته فيه حتى انتهى إلى عانته فصاح عدو الله صيحة ما بقي أطم@(1/191)
من آطام اليهود إلا أوقدت عليه نار وهذه عادة اليهود يوقدون النار بالليل عند الفزع قال ابن سنينة يهودي من يهود بني حارثة : إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح وذكر في المغازي أنه كان بينه وبين ذلك الموضع مقدار فرسخ قال : وقد أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيف وهم يضربون كعباً فكلمه في رجله أي جرحه فلما فرغوا منه خرجوا يشتدون حتى أخذوا على بني أمية ثم على بني قريضة ثم على بعاث حتى إذا كانوا بحرة العريض وهذه أسماء الواضع نزف الحارث الدم يعني كثر سيلان الدم من جراحته فعطفوا عليه أي رحموه أو حملوه
على أعناقهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا البقيع كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي فلما سمع تكبيرهم عرف أنهم قتلوه ثم أتوا يصاحبهم الحارث بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتفل على جرحه فلم يؤذه وأخبروه بخبر عدو الله ثم رجعوا إلى أهلهم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " وإنما قال ذلك لئلا يتجمعوا في كل موضع للتحدث بما جرى والتدبير فيه وهذا من الحزم والسياسة .
قال : فخافت اليهود ولم يخرج عظيم من عظمائهم ولم ينطقوا بشيء وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف@(1/192)
وكان ابن سنينة من يهود بني حارثة وكان حليفاً لحويصة بن مسعود وكان أخوه محيصة قد أسلم فغدا محيصة على ابن سنينة فقتله فجعل حويصة يضرب محيصة وكان أسن منه ويقول : أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله لأنه كان ينفق عليهما فقال محيصة : والله لو أمرني بقتلك الذي أمرني بقتله لقتلتك فقال له : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال : نعم قال حويصة : والله إن ديناً يبلغ منك هذا لدين معجب فأسلم حويصة يومئذ وأنشأ محيصة يقول : يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله لطبقت دفراه بأبيض قاضب حسام كلون الملح أخلص صقله متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرني أني قتلتك طائعاً ولو أن لي ما بين بصري ومارب ثم أعاد هذا الحديث برواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من وجه آخر : أن محمد بن مسلمة هو الذي أتى ابن الأشرف فقال : يا كعب قد جئتك لحاجة قال : مرحباً بحاجتك قال : جئتك استسلفك تمراً قال : ما بغيتكم إلى مسألة التمر وإنما@(1/193)
قال ذلك لأنهم كانوا يجدون في الجاهلية ألف وسق فقال محمد : إن هذا الرجل لم يدع عندنا شيئاً وأصحابه وأراد به لم يدع عندنا شيئاً مما كان يضرنا من أمور الجاهلية أو شيئاً من الشرك أو شيئاً مما يحتاج إليه من امور الدين والدنيا إلا هدنا إليه .
قال كعب : الحمد لله الذي أراك النصرة فانظر حاجتك ولكن لا بد من رهن قال : أرهنك درعي قال : لعلها درع أبيك الزغباء قال : نعم قال : فائت بمن أحببته وخذ حاجتك قال : فإني آتيك في خمر الليل أي في ظلمة الليل والخمر ما وراك .
فإني أكره أن يرى الناس أني أطلبك أو آتيك في حاجة أو أني احتجت .
الحديث إلى أن نزل إلى محمد وآنسه شيئاً وحادثه ثم أدخل يده في رأسه وكان جعداً فقال : ما أطيب دهنك قال : إن شئت أرسلت إليك منه ثم عاد الثانية فقال : قد تركت يا محمد أنت وأصحابك هذا يعنى الدهن فلما أن خلل أصابعه في رأسه ضرب بالخنجر سرته الحديث إلى آخره فقد أخبره أنه يأتيه ليستسلفه تمراً ثم قتله ولم يك ذلك منه غدراً فتبين أنه لا بأس بمثله والله الموفق .@(1/194)
باب الأمان على الشرط
قال : وإذا آمن المسلمون رجلاً على أن يدلهم على كذا ولا يخونهم فإن خانهم فهم في حل من قتله فخرج عليهم من مدينته أو حصنه على ذلك حتى صار في أيديهم ثم خانهم أو لم يدلهم فاستبانت لهم خيانته فقد برئت منه الذمة وصار الرأي فيه إلى الإمام إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً لأن الشرط هكذا جرى بينهم فقال عليه السلام : " المسلمون عند شروطهم " وقال عمر رضي الله عنه الشرط أملك أي : يجب الوفاء به ولأنه كان مباح الدم علقوا حرمة دمه بالدلالة وترك الخيانة وتعليق أسباب التحريم بالشرط صحيح كالطلاق والعتاق فإن انعدم الشرط بقي حل دمه على ما كان ولأن النبذ بعد الأمان والإعادة إلى مأمنه إنما كان معتبراً للتحرز عن الغدر وبالتصريح بالشرط قد انتفى معنى الغدر .
واستدل عليه بحديث موسى بن جبير قال : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتيبة أربع عشر يوماً يعني حصناً من حصون خيبر وكان آخر حصونهم فلما أيقنوا بالهلكه سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأرسل إلى ابن أبي الحقيق : انزل فأكلمك فقال : نعم فصالحه على حقن@(1/195)
دمائهم ويخرجون من خيبر وأرضها ويخلون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال أو أراض وعلى الصفراء والبيضاء والحلقة وعلى البز إلا ثوب على ظهر إنسان قال : وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتموني شيئاً فصالحوه على ذلك ثم كتم ابن أبي الحقيق آنية من فضة ومالاً كثيراً كان في مسك الجمل عند كنانة ابن أبي الحقيق وهذه كانت أنواعاً من الحلي كانوا يعيرونها أهل مكة ربما قدم القادم من قريش فيستعيرها شهراً للعرس يكون فيهم فكان ذلك يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق حتى ذكر في المغازي أنه ضاع منها شيء مرة بمكة فغرم من ضاع على يده قيمة ذلك عشرة آلاف دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين الآنية والأموال التي خرجتم بها من المدينة حين أجليتكم فقالوا : ذهبت في الحرب يا أبا القاسم إنما كنا نمسكها لمثل يومنا هذا فلا والله ما بقي عندنا منها شيء وحلفوا على ذلك فقال : أفرأيتم إن وجدته عندكم أقتلكم قالوا : نعم وفي رواية قال لكنانة وربيعة ابني أبي الحقيق : برئت منكم@(1/196)
ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما قالا : نعم قال : فكل ما أخذت من أموالكم فهو حلال لي ولا ذمة لكما قالا : نعم قال : فأشهد عليهما أبا بكر وعمر وعلياً والزبير وعشرة من يهود فقام يهودي إلى كنانة فقال : إن كان عندك أو تعلم علمه فأعلمه لتأمن على دمك فوالله ليطلعن عليه فقد اطلع على غير ذلك مما لم يعلمه أحد فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما إلى الزبير بن العوام أن يعذبهما ويستأصل ما عندهما فعذب كنانة حتى أجافه فلم يعترف
بشيء ويحتمل أن يكون هذا قبل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وإن كان بعد ذلك فيحتمل أنه فعل ذلك على سبيل السياسية ليظهر الأمر ويتم الزجر في حق غيره عن مثل هذا التلبيس .
قال : فاعترف ربيعة بن أبي الحقيق فقال : قد رأيت كنانة يطوف كل غداة بهذه الخربة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حتى حفرها واستخرج منها ذلك الكنز وفي رواية : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق وكان رجلاً ضعيفاً مختلط العقل قال : ليس لي علم غير أني كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة فإن كان شيئاً دفنه فهو فيها فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الخربة فحفر فوجد ذلك الكنز فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة لقتله بأخيه محمود بن مسلمة فقد كان هو الذي@(1/197)
دلى على محمود الرحى وإنما استحل دماءهما وسبى ذراريهما لمكان الشرط الذي جرى بينه وبينهما فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وكانت تحت كنانة ومعها ابنة عمها لم يسب من أهل خيبر غيرهما وكان قد وعد دحية الكلبي من سبي خيبر فسأله أن يعطيه صفية فأعطاه مكانها ابنة عمها وأمسك صفية لنفسه وهي عروس بحدثان ما دخلت على زوحها وذكر في المغازي أنها كانت رأت في منامها في بعض تلك الليالي أن القمر وقع في حجرها من السماء فلما أصبحت قصت رؤياها على كنانة فلطمها لطمة على وجهها وقال : أتريدين أن تكوني زوجة محمد ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يذهب بها إلى رحله فسر بها وسط القتلى فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ذهبت بجارية حديثة السن إلى القتلى لقد ذهبت منك الرحمة فاعتذر بلال وقال : يا رسول الله ما مررت بها إلا إرادة أن ترى مصارع قومها ولم أدر أنك تكره يا رسول الله وذكر في المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فتزوجها فأمر أم أيمن أن تصلحها له فبنى بها في
الطريق قبل أن ينتهي إلى المدينة وكانت لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك ما روي أنه لما قرب بعيرها لتركب بعدما بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركبها بنفسه فأمرها أن تضع رجلها على فخذه وتركب فوضعت ركبتها على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعظمت وضع رجلها على ركبته وإن كان بأمره فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها وبعدما قدموا المدينة دخلت عائشة متنكرة مع النساء منزلها لتراها فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من نساء عشيرتها فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بين من دخل من النساء ولم يذكر لها شيئاً حتى عادت إلى منزلها ثم جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف رأيت صفية فقالت : ما رأيت شيئاً غير ابنة يهودي بين يهوديات ولكني سمعت أنك تحبها فقال : لا تقولي يا عائشة فإني لم أر في وجهها كبوة حين عرضت عليها الإسلام ثم روي أنه كان إذا اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم معها في موضع يخاطبنها يا ابنة اليهودي فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا قلن لك هذا فقولي : من منكن مثلي أبي نبي وعمي نبي وزوجي نبي " فإنها كانت من أولاد هارون عليه السلام فلما قالت ذلك لهن قالت عائشة رضي الله عنها : ليس هذا من كيسك يا ابنة اليهودي .
ومن جوز التنفيل بعد الإصابة استدل بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم دحية ابنة عم صفية ولكن تأويل ذلك ما قال محمد : إن الكتيبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً فلذلك أعطاه الجارية واستدل من جوز@(1/198)
المعاملة بما ذكر في هذا الحديث في بعض الطرق أنهم قالوا : يا محمد نحن أرباب الأموال ونحن أعلم بها فلا تخرجنا عاملنا على النصف وتأويل ذلك لأبي حنيفة رحمه الله قد بيناه في أول كتاب المزارعة والله الموفق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=10 - TOP#TOPباب الأمان
قال : وإذا نادى المسلمون أهل الحرب بالأمان فهم آمنون جميعاً إذا سمعوا أصواتهم بأي لسان نادوهم به العربية والفارسية والرومية والفبطية في ذلك سواء لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه كتب إلى جنوده بالعراق : إنكم إذا قلتم : لا تخف أو مترسي أو لا تذهل فهو آمن فإن الله تعالى يعرف الألسنة والمعنى ما أشار إليه فإن الأمان التزام الكف عن التعرض لهم بالقتل والسبي حقاً لله تعالى والله لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه خافية ثم فيما يرجع إلى المعاملات يعتبر حصول المقصود بالكلام من غير أن يختص ذلك بلغة وإنما اعتبر ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في العبادات حيث لم يجوزا التكبير والقراءة بالفارسية لأن تمام الإسلام في وجوب مراعاة النص لفظاً ومعنى وهذا لا يوجد في المعاملات وإذا كان الإيمان يصح بأي لسان كان إذا حصل به ما هو المقصود وهو الإقرار والتصديق فالأمان أولى وكذلك التسمية على الذيحة تصح بأي لسان كان الحصول المقصود فالأمان أوسع من ذلك كله .
وإن نادوهم بلسان لا يعرفه أهل الحرب وذلك معروف@(1/199)
للمسلمين فهم آمنون أيضاً لأن معرفتهم لذلك حقيقة أمر باطن لا يمكن تعليق الحكم به فتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه هو إسماعهم كلمة الأمان وهذا أصل كبير في الفقه ولهذا شرطنا الإسماع حتى إذا كانوا بالبعد منهم على وجه يعلم أنهم لم يسمعوا فإنه لا يكون ذلك أماناً لأن هذا ظاهر يمكن الوقوف عليه فيمكن تعليق الحكم بحقيقته ثم لعله كان فيهم ترجمان يعف معنى نداء المسلمين فيوقفهم على ذلك فلو لم يثبت الأمان به كان نوع غدر من المسلمين والتحرز عن صورة الغدر واجب يوضح الفرق أنهم إذا لم يفهموا فإنما كان ذلك بمعنى من المسلمين حيث نادوهم بلغة لا يعرفونها فلا يبطل به حكم الأمان في حقهم .
فأما إذا كانوا بالبعد من المسلمين بحيث لا يسمعون كلامهم فإنهم لم يقفوا على مقالة المسلمين لمعنى من جهتهم وهو أنهم لم يقربوا من المسلمين فلهذا لا يثبت حكم الأمان لهم قال : وإذا قال المسلمون للحربي : أنت آمن أو لا تخف أو لا بأس عليك أو كلمة تشبه هذا فهو كله أمان لأنه إنما يخاطب الخائف بمثل هذا العبارات لإزالة الخوف عادة وإنما يزول عنه الخوف بثبوت الأمان وكل مسلم يملك إنشاء الأمان له فيجعل بهذا اللفظ منشئاً كمن يقول لعبده : أعتقتك أو أنت حر يجعل منشئاً عتقه بما وصفه ثم ذكر أمان مختلط العقل إذا كان يعقل الإسلام ويصفه وهو في ذلك بمنزلة الصبي الذي يعقل كما في أصل الإيمان وقد بينا الخلاف في أمان الصبي فكذلك مختلط العقل .
فإن كان لا يعقل الإسلام ولا يصفه لا يجوز أمانه لأنه بمنزلة الصبي الذي لا يعقل وإن كان عاقلاً في أمر معيشته إلا أنه بالغ لا يصف الإسلام ولا يعقله فهذا بمنزلة المرتد والمرتد لا يجوز أمانه بخلاف الصبي فإنه مسلم تبعاً لأبويه أو لأحدهما وإن كان لا يصف@(1/200)
الإسلام ولا يعقله فإذا كان بحيث يعقل الأمان صح أمانه عند محمد .
قال : وإن أمر أمير العسكر رجلاً من أهل الذمة أن يؤمنهم أو أمره بذلك رجل من المسلمين فأمنهم فهو جائز لأن الأمير يملك مباشرة الأمان بنفسهن فيملك الذمي بعد أمره إياه بذلك وهذا لأن أمان الذمي إنما لا يصح لتهمة ميله إليهم اعتقاداً ويزول ذلك إذا أمره المسلم به ويتبين بأمر المسلم إياه أن في أمانه معنى النظر للمسلمين وهذا بخلاف ما إذا أمره بالقتال لأنه بأمره إياه بالقتال لا يتعين معنى الخيري في الأمان فلو تعين ذلك إنما يتعين برأي الكافر وهو متهم في ذلك ثم المسألة على وجهين : إما أن يقول له : أمنهم أو يقول : قل لهم إن فلاناً المسلم يؤمنكم وكل وجه من ذلك على وجهين إما أن يقول الذمي لهم : قد أمنتكم أو يقول : إن فلاناً المسلم قد أمنكم فأما إذا قال له المسلم : أمنهم فسواء قال لهم أمنتكم أو أمنكم فلان فهم آمنون لأنه صار مالكاً للأمان بهذا الأمر فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر والمسلم إذا قال لهم : أمنتكم أو أمنكم فلان كانوا آمنين في الوجهين لأنه أضاف الأمان إلى من يملك إنشاءه فيكون ذلك إخباراً منه بأمان صحيح فيجعل في حكم الإنشاء لرفع الغدر فإن كان المسلم قال له : قل لهم : إن فلاناً أمنكم فإن كان على هذا الوجه فهم آمنون لأنه جعله رسولاً إليهم وقد أدى الرسالة على وجهها فيكون هذا بمنزلة ما لو كتب إليهم كتاب الأمان وبعث به على يده فإذا بلغهم كانوا آمنين وإن قال لهم : أمنتكم فهذا باطل لأنه خالف ما أمر به لأنه أمر بتبليغ الرسالة وهذا لا يتضمن تمليك الأمان منه فإذا قال أمنتكم فهذا ليس بتبليغ للرسالة ولكنه إنشاء عقد منه مضاف إلى نفسه وهو ليس من أهله فيكون باطلاً .
قال : والأسير في دار الحرب إذا أمنهم لا يصح أمانه على غيره من المسلمين لأن أمانه لا يقع بصفة النظر منه للمسلمين بل لنفسه حتى يتخلص منهم ولأن الأسير خائف على نفسه وإنما يؤمن غيره من يكون آمناً في نفسه ولأنهم آمنون منه لكونه مقهوراً في أيديهم فعقده يكون على الغير@(1/201)
ابتداء وقل ما تخلو دارهم عن أسير فلو صححنا أمانه انسد باب القتال علينا فإنهم كلما حزبهم خوف أمروا الأسير حتى يؤمنهم والقول بهذا فاسد إلا أنه فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم فينبغي أن يفي لهم كما يفون لهم ولا يسرق شيئاً من أموالهم لأنه غير متهم في حق نفسه وقد شرط أن يفي لهم فيكون بمنزلة المستأمن في دارهم وإن كان في أيديهم عبد مسلم أو أمة مسلمة لم ينبغ له أن يعرض لهم في ذلك لأنهم لو أسلموا عليه كان سالماً لهم فحكم هذا وحكم سائر أموالهم سواء ولكن لا بأس بأن يأخذوا ما وجد في أيديهم من أسير حر مسلم أو ذمي أو مكاتب أو أم ولد أو مدين لمسلم و ذمي لأن هؤلاء لا يجري عليهم السبي ألا ترى أنهم لو أسلموا عليه لم يكن لهم فهم ظالمون في إمساكهم وهو بالأمان ما التزم تقريرهم على الظلم فكان له أن يزيل ظلمهم بالسرقة أو الغصب حتى يخرجهم وإنما يلزمه أن يراعي بالعهد ما يجوز إعطاء العهد عليه ولا يجوز إعطاء الأمان على ترك هؤلاء في أيديهم بعد التمكن من أخذهم منهم .
ولو حصل المستأمنون في عسكر المسلمين غير ممتنعين منهم فبدا للأمير أن ينبذ إليهم فعليه أن يلحقهم بمأمنهم فإن أبوا أن يخرجوا وقالوا : نكون مع ذرارينا ونسائنا الذين أسرتموهم فإنه ينبغي للأمير أن يتقدم إليهم في ذلك على سبيل الإعذار والإنذار ويؤجلهم إلى وقت يتيسر عليهم اللحوق بمأمنهم في ذلك الوقت ولا يرهقهم في الأجل كيلا يؤدي إلى الإضرار بهم ويقول : إن لحقتم بمأمنكم إلى أجل كذا وإلا فأنتم ذمة نضع عليكم الخراج ولا ندعكم ترجعون إلى مأمنكم@(1/202)
بعد ذلك فإن لم يخرجوا حتى مضت المدة كان ذلك دليل الرضا منهم بن يكونا ذمة فيكونا بمنزلة قبول عقد الذمة نصاً بمنزلة المستأمنين في دارنا إذا أطالوا المقام وإن خاف أمير العسكر إن لقي المسلمون عدوهم أن يغيروا على عسكرهم أو خاف أن يقتلوا المسلمين ليلاً فإنه يأمرهم بأن يلحقوا بمأمنهم ويوقت لهم في ذلك وقتاً كما بينا نظراً منه للمسلمين ثم يأمرهم في كل ليلة حتى يمضي ذلك الوقت أن يجمعوا في موضع فيحرسوا لأن الخوف منهم يزداد بالتقدم إليهم في الخروج ومفارقة النساء والذراري والتوقيت كان نظراً منه لهم فينبغي أن ينظر للمسلمين كما ينظر لهم وطريق النظر هذا فإن مضى ذلك الوقت فصاروا ذمة أمر بهم أن يجمعوا في موضع كل ليلة ويجعل عليهم حراساً حتى يخرجوا إلى دار الإسلام لأن الأمن لم يقع من جانبهم وإن جعلهم ذمة بمضي الوقت بل ازداد الخوف بما ألزمهم من صغار الجزية إلا أن الخوف يكون بالليل غالباً فيجعل عليهم حراساً كل ليلة فإذا أصبح المسلمون خلوا سبيلهم في العسكر ليكونوا عند ذراريهم ونساءهم وكذلك إذا حصر المسلمون العدو جمعهم في موضع وجعل عليهم حراساً لأن الخوف يزداد منهم عند التقاء الصفين ويحتاج المسلمون إلى ان يأمنوا من جانبهم ليتفرغوا لقتال العدو وذلك إنما يحصل إذا جعل عليهم حراساً يحرسونهم فإن لم يقدروا على أن يحرسهم إلا بأجر استأجر الإمام قوماً يحرسونهم من الغنيمة لأن في
هذا الاستئجار منفعة للغانمين فهو نظير@(1/203)
الاستئجار على حفظ الغنائم أو على حفظ منفعة الغانمين فإن قيل : في هذا الحفظ معنى الجهاد فكيف يجوز الاستئجار عليه قلنا : لا كذلك فالقوم ذمة للمسلمين غير محاربين لهم فلا يكون حفظهم جهاداً ولكن يخاف من جانبهم أن يغيروا على غنائم المسلمين وأمتعتهم فلا فرق بين الاستئجار على حفظ الغنائم وبين الاستئجار على حفظ هؤلاء ومنعهم من اخذ الغنائم وقتل المسلمين .
ولو أن مسلماً أهل العسكر في منعتهم أشار إلى مشرك في حصن أو منعة لهم أن تعال أو أشار إلى أهل الحصن أن افتحوا الباب أو أشار إلى السماء فظن المشركون أن ذلك أمان ففعلوا ما أمرهم به وقد كان هذا الذي صنع معروفاً بين المسلمين وبين أهل الحرب من أهل تلك الدار أنهم إذا صنعوا كان أماناً ولم يكن ذلك معروفاً فهو أمان جائز بمنزلة قوله : قد أمنتكم لأن أمر الأمان مبني على التوسع والتحرز عما يشبه الغدر واجب فإذا كان معروفاً بينهم فالثابت بالعرف كالثابت بالنص فلو لم يجعل أماناً كان غداراً وإذا لم يكن معروفاً فقد اقترن به من دلالة الحال ما يكون مثل العرف أو أقوى منه وهو امتثالهم أمره وما أشار عليهم به فهو من أبين الدلائل على المسالمة ألا ترى أنهم لو قالوا لهم : اخرجوا حتى تهدموا هذا الحصن فخرجوا كانوا آمنين .
ثم استدل عليه بحديث عمر رضي الله عنه : أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك فأتاه فهو آمن وتأويل هذا أنه إذا لم يفهم قوله : إن جئت قتلتك أو لم يسمع فأما إذا علم ذلك وسمعه وجاءه مع ذلك فهو فيء لأن دلالة الحال والعرف يسقط اعتباره إذا صرح بخلافه ألا ترى أنه لو قال : تعال إن كنت تريد القتال أو إن كنت رجلاً أو تعال حتى تبصر ما أفعله معك فإنه لا يشكل على أحد أن هذا كلام تهديد لا كلام أمان@(1/204)
فأما قوله : تعال مطلقاً فكلام موافقة وكذلك إشارته بالأصابع إلى السماء فيه بيان أني أعطيتك ذمة إله السماء أو أنت آمن مني بحق رب السماء فهو بمنزلة قوله : أمنتك .
ولو أن عسكر المسلمين في دار الحرب وجدوا رجلاً أو امرأة فقال حين وجدوه : جئت أطلب الأمان فإن لم يكن لهم علم به حتى هجموا عليه فهو فيء ولا يصدق في ذلك لأن الظاهر يكذبه فيما يقول فإنه كان مختفياً منهم إلى أن هجموا عليه وإنما يليق هذا بحال من يأتيهم مغيراً لا مستأمناً فالظاهر أنه يحتال بهذه الحليلة بعدما وقع في الشبكة فلا يصدق وإن كان ممتنعاً في موضع لا يقدر عليه المسلمون وهم يسمعون كلامه إن تكلم فأرادوه ليقتلوه فلما رأى ذلك لم يتكلم ولكنه أقبل فوضع يده في أيديهم فهو فيء وللإمام أن يقتله ولا يقبل قوله إني جئت أطلب الأمان لأنه حين أراد المسلمون أسره أو قتله كما متمكناً على أن ينادي بالأمان فيعلم أيؤمنونه أم لا وقد كان ممتنعاً في ذلك الموضع فحين ترك النداء بالأمان فهو الذي لم ينظر لنفسه بعد التمكن فالظاهر أنه أقبل راداً لقصد المسلمين فحين لم يتمكن من ذلك احتال بهذه الحيلة وإن لم يعرض له المسلمون بقتل ولا أسر فأقبل إليهم حتى أتاهم فهو آمن لأن إقباله إليهم دليل المسالمة فهو بمنزلة النداء بالأمان بخلاف الأول فإقباله بعد قصد المسلمين دليل على أنه قصد رد قصدهم بالقتال وأما إقباله قبل قصد المسلمين دليل على أنه قصد المسالمة ألا ترى أن تجارهم هكذا يكون الحال بينهم وبين المسلمين يدخلون دار الإسلام من غير أن ينادوا لطلب الأمان .
وإن كان في منعة حيث لا يسمع المسلمون كلامه ولا يرونه فانحط من ذلك الموضع ليس معه أحد ولا سلاح حتى أتى المسلمين فلما كان حيث يسمعهم نادى بالأمان وهو في ذلك الموضع غير ممتنع من@(1/205)
المسلمين فهو آمن لأنه أتى بما في وسعه من مفارقة المنعة والنداء بالأمان إذ كان بحيث يسمع المسلمون وألقى السلاح فالظاهر أنه جاء طالباً للأمان فهو آمن أمنوا أو لم يؤمنوا لأن الشرع أمن مثله قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } التوبة : 6 وقال تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } الأنفال : 61 وكذلك لو كان معه السلاح إلا أنه ليس عليه هيئة رجل يريد القتال لأنه ربما استصحب السلاح ليبيعه في عسكر المسلمين أو خاف ضياعه إن خلفه عندهم فاستصحبه ضنة منه بسلاحه .
وإن كان أقبل سالاً سيفه ماداً رمحه نحو المسلمين فلما كان في موضع لا يكون ممتنعاً منهم نادى الأمان فهو فيء لأن الظاهر من حاله أنه أقبل مقاتلاً والحاصل أن البناء على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقته جائز وغالب الرأي يجوز تحكيمه فيما لا يمكن معرفة حقيقته وإن كان يرجع إلى إباحة الدم ألا ترى أنه لو رأى إنساناً يدخل بيته ليلاً ولا يدري أنه سارق أو هارب من اللصوص فإنه حكم حاله : فإن كان عليه سيماء اللصوص أو كان معه آخر يجمع متاعه فلا بأس بأن يقتلهما قبل أن يدنوا منه وإن كان عليه سيماء أهل الخير فعليه أن يؤويه ولا يسعه أن يرمي إليه .
والدليل على جواز تحكيم السيماء قوله تعالى : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } والدليل على جواز الرجوع إلى دلالة قوله تعالى : { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } التوبة : 46 ولو أن عسكراً نزل ليلاً في أرض الحرب فجاء مشرك على الطريق لا يعدو على غيره حتى لقي أول مسالح المسلمين فسألهم الأمان إلا أنه في ذلك الموضع غير ممتنع كان آمناً لأنه أتى بما في وسعه والظاهر أنه إذا صار بحيث يسمع المسلمين لا يكون ممتنعاً منهم والنداء بالأمان في موضع لا يسمع المسلمين لا يكون مفيداً شيئاً فلا معنى لاشتراطه وذكر في المغازي عن محمد بن مسلمة كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليلالي حين كان محاصراً لبني قريظة فخرج رجلان ووجههما نحوه فلما وصلا إليه قال : ما الذي جاء بكما قال : جئنا بالأمان فخلى سبيلهما وقال : اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ولم يوقف على أثرهما بعد ذلك وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعاتبه على ذلك .
ولو وجدوا رجلاً عليه سلاحه في مؤخر العسكر أو عن@(1/206)
يمينه أو عن شماله يعارض العسكر فلما بصروا به دعا الأمان كان فيئاً وللأمير أن يقتله لأن الظاهر من حاله أنه جاء متجسساً أو جاء على قصد أن يبيت بعض المسلمين وقد بينا أنه يؤخذ في مثل هذا بغالب الظن والرأي وإن أشكل حاله وليس فيه أمر يستدل به على أنه مستأمن ولا ما يستدل به على أنه غير مستأمن ولم يقع في القلوب ترجيح أحد الجانبين من حاله فإنه ينبغي للأمير أن يأخذه فيخرجه إلى دار الإسلام ويجعله ذمة لأن عند تحقق المعارضة وانعدام الترجيح يجب الأخذ بالاحتياط ومن الاحتياط أن لا يقتله ولا يجعله فيئاً لاحتمال أنه جاء مستأمناً وأن لا يرده إلى مأمنه لاحتمال أنه جاء مغيراً فلا يبطل حكم حرمته بالمحتمل ولا يجوز إراقة دمه به أيضاً .
فيبقى حراً محتبساً في دارنا على التأبيد فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه وإن أبى وضع عليه الخراج وكذلك القوم من أهل الحرب يريدون دخول دار الإسلام ولا يقدرون على أن ينادوا بالأمان إلا في موضع لا يكونون فيه ممتنعين فنادوا بالأمان حين انتهوا إلى ذلك المكان فهم آمنون لأنهم أتوا بما في وسعهم .
ولو كانوا أهل منعة جاءوا فاستأمنوا فإن شاء المسلمون أمنوهم وإن شاءوا لم يؤمنوهم لأن أهل المنعة في دارنا كهم في دار الحرب أو في حصونهم ولكونهم ممتنعين ولو كانوا مستأمنين كان للمسلمين أن ينبذوا إليهم إذا كانوا في منعتهم فيكون لهم أيضاً أن يمتنعوا من إعطاء الأمان لهم بطريق الأولى فأما غير الممتنعين لو كانوا مستأمنين لم يجز نبذ الأمان بيننا وبينهم حتى نلحقهم@(1/207)
بمأمنهم فكذلك إذا جاءوا طالبين الأمان حتى صاروا غير ممتنعين منا إلا أن يكون أمير المسلمين تقدم على أهل تلك الدار من أهل الحرب أنه لا أمان لكم عندنا فلا يخرجن أحد منكم إلينا فإذا علموا بذلك فلا أمان لهم ومن جاء يطلب الأمان فهو فيء لأنه أعذر إليهم بما صنع وقد قال الله تعالى : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } ثم الحاصل أنه من فارق المنعة عند الاستئمان فإنه يكون آمناً عادة والعادة تجعل حكماً إذا لم يوجد التصريح بخلافه فأما عند وجود التصريح بخلافه يسقط اعتباره كمقدم المائدة بين يدي إنسان إذا قال : لا تأكل .
ولو وجد المسلمون حربياً في دار الإسلام فقال : دخلت بأمان لم يصدق لأنه صار مأخوذاً مقهوراً بمنعة الدار فهو منهم فيما يدعي من الأمان وقول المتهم لا يكون حجة أرأيت لو أخذه واحد من المسلمين واسترقه ثم قال : كنت دخلت بأمان أكان مصدقاً في ذلك ولو قال رجل من المسلمين : أنا أمنته لم يصدق بذلك أيضاً لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه وقد ثبت حق جماعة المسلمين في منعه من الرجوع إلى دار الحرب واسترقاقه وقول الواحد في إبطال الحق الثابت بجماعة المسلمين غير مقبول .
فإن شهد بذلك رجلان مسلمان غير المخبر أنه أمنه فهو آمن لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولا شهادة فيه للذي يقول : أنا أمنته لأنه يخبر عن فعل نفسه فيكون دعوى لا شهادة ولا شهادة فيه للذي يقول : أنا أمنته لأنه يخبر عن فعل نفسه فيكون دعوى لا شهادة ولا شهادة فيه لغير المسلمين لأنها تقوم على إبطال حق المسلمين وكذلك لو قال : أنا رسول الملك إلى الخليفة لم يصدق وكان فيئاً لأن هذا منه دعوى الأمان فإن الرسول آمن من الجانبين هكذا جرى الرسم في الجاهلية والإسلام فإن أمر الصلح أو القتال لا يلتئم إلا بالرسول ولا بد من أن يكون الرسول آمناً ليتمكن من أداء الرسالة فلما تكلم رسول قوم بين يدي رسول اله صلى الله عليه وسلم بما كان لا ينبغي أن يتكلم به قال : " لولا أنك رسول لقتلتك فتبين بهذا أن الرسول آمن ولكن بمجرد دعواه لا يصدق أنه رسول .
فإن أخرج كتاباً يشبه أن يكون كتاب ملكهم وادعى أنه كتاب ملكهم فهو آمن حتى يبلغ الرسالة وإنما @(1/208)
يثبت الأمان له هاهنا بغالب الظن فلعل الكتاب مفتعل ولكن لما لم يكن في وسعه فوق هذا لأنه لا يجد مسلمين في دار الحرب ليستصحبهما ليشهدا على أنه رسول من قبله يكتفى منه بهذا الدليل .
فكذلك فيما سبق ولو لم يصحبه دليل ولا كتاب فأخذه واحد من المسلمين في دار الإسلام فهو فئ لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة لأنه تمكن من أخذه بقوة المسلمين فهو بمنزلة من وجد في عسكر المسلمين في دار الحرب فأخذه واحد إلا أن هناك يجب فيه الخمس فيه رواية واحدة وفي هذا الفصل روايتان عن أبي حنيفة في إيجاب الخمس وعند محمد هو فيء لمن أخذه لأنه مباح في دارنا فمن سبقت يده إليه يكون محرزاً له مختصاً بملكه كالصيد والحشيش وفي إيجاب الخمس فيه روايتان عن محمد أيضاً والحاصل أنه عند أبي حنيفة رحمه الله يصير هو مقهوراً لمنعة الدار مأخوذاً حتى لو أسلم قبل أن يوجد كان فيئاً بمنزلة الأسير يسلم بعد الأخذ قبل أن يضرب الإمام عليه الرق وعند محمد رحمه الله لا يصير مأخوذاً بالدار ما لم يأخذه مسلم حتى لو أسلم كان حراً لأن الإحراز في الحقيقة يكون باليد لا بالدار ولهذا لو رجع إلى داره قبل أن يؤخذ كان حر الأصل فإذا أخذه إنسان كان مختصاً بملكه لاختصاصه بإحرازه فإن قال : إني أمنته قبل أن آخذه فهو آمن عند محمد لأنه في الظاهر عبد له وقد أقر بحريته ولا تهمة في إقراره وينبغي في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن لا يكون مصدقاً في ذلك لأن الحق ثابت فيه لجماعة المسلمين وهو غير مصدق في إبطال حقهم وإن لم يؤخذ بعدما أسلم في دارنا حتى رجع إلى دار الحرب فهو حر لا سبيل عليه أما على قول محمد فلا إشكال فيه لأنه لو لم يرجع كان حراً فكذلك إذا رجع وعند أبي حنيفة فلأنه وإن صار مأخوذاً لا يصير رقيقاً ما لم يضرب عليه الرق فإذا رجع إلى دار الحرب فقد انعدم عرضية الاسترقاق فيه وتقرر حريته في حال إسلامه فلا يسترق بعد ذلك بمنزلة الأسير يسلم وينقلب إلى عسكر أهل الحرب ثم يؤخذ بعد ذلك فكما يكون حراً هناك لا سبيل عليه فكذلك هاهنا .
وإذا مر عسكر المسلمين بمدينة من مدائن أهل الحرب ولم يكن لهم بهم طاقة فأرادوا أن ينفذوا إلى غيرهم قال لهم أهل المدينة : أعطونا أن لا تمروا في هذا الطريق على أن لا نقتل منكم أحداً ولا نأسره فإن كان ذلك خيراً للمسلمين فلا بأس بأن يعطوهم ذلك ويأخذوا في طريق آخر وإن@(1/209)
كان أبعد وأشق لأنهم لا يأمنون أن يتبعوهم فيقتلوا الواحد والاثنين ممن في آخريات العسكر وهذه الموادعة تؤمنهم من ذلك وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة يوم الحديبية من الشرط ما هو أعظم من هذا فإن أهل مكة شرطوا عليه أن يرد عليهم كل من أتي مسلماً منهم ووفي لهم بهذا الشرط إلا أن انتسخ لأنه كان فيه نظر للمسلمين لما كان بين أهل مكة وأهل خيبر من المواطأة على ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى أحد الفريقين أغار الفريق الآخر على المدينة فوادع أهل مكة حتى يأمن من جانبهم إذا توجه إلى خيبر .
فعرفنا أن مثل هذا الشرط لا بأس بقبوله إذا كان فيه نظر للمسلمين .
فإن قبلوه ثم بدا لهم أن يمروا في ذلك الطريق فلينبذوا إليهم ويعلموهم بذلك لأن هذا بمنزلة الموادعة والأمان فيجب الوفاء به والتحرز عن الغدر إلى أن ينبذوا إليهم .
فإن قال المسلمون : إن ممرنا في هذا الطريق لا يضرهم شيئاً قيل لهم : لعل لهم في هذا الطريق زروعاً ونخلاً وكلأ يحتاجون إليه ولا يحبون أن ترعوه أو لعل لهم مواشي ولا يحبون أن تعرضوا لها فإن قالوا : نمر ولا نتعرض لشيء من ذلك فإن هذا أسهل الطرق قيل لهم : وإن لم تأخذوا شيئاً فلعل القوم يكرهون أن تروا حصونهم ومواشيهم وتعرفوا الطريق إليهم فتأتوهم مرة أخرى بما رأيتم من العورة فليس لكم إلا الوفاء بما قلتم أو النبذ إليهم عملاً بقوله تعالى : { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } الأنفال الآية 58 ولو قال أهل المدينة : أعطونا على أن لا تشربوا من ماء نهرنا فأعطيناهم ذلك فإن كان شربنا يضرهم في مائهم أو لا نعلم أيضر ذلك بمائهم أولا فينبغي أن@(1/210)
نفي لهم بذلك وإن كنا نتيقن أن ذلك لا يضر بماء نهرهم فلا بأس بأن نشرب من ذلك النهر ونسقي الدواب بغير علمهم لأن الشرط إن كان مفيداً يجب مراعاته ومن اشترط مثله يكون متعنتاً لا طالب منفعة أو دافع ضرر فإذا علمنا أنه لا يضر بهم فهذا شرط غير مفيد فيلغى وإذا كان يضر بهم فهذا شرط مفيد لهم فيجب اعتباره بمنزلة ما يجري من الشروط بين المسلمين في المعاملات وإن كان لا يدري أيضر بهم أم لا فالظاهر أنه لا يشترطون ذلك إلا لمنفعة لهم أو دفع ضرر عنهم لأن العقل لا يشتغل بما لا يفيده شيئاً والبناء على الظاهر واجب ما لم يتبين خلافه .
فإذا احتاج المسلمون إلى ذلك الماء لأنفسهم أو دوابهم فلينبذوا إليهم ويخبروهم أنهم فاعلون ثم يشربون وكذلك الكلأ هو بمنزلة الماء لأنه غير مملوك لهم وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس شركة عامة في الكلأ والماء فلا تنقطع شركتهم بهذا الشرط إذا علموا أنه لا فائدة لهم فيه .
فأما الزرع والأشجار والثمار إذا أعطوهم أن لا يتعرضوا لذلك فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لشيء من ذلك أضر بأهل الحرب أو لم يضر بهم لأن هذا ملك لهم ونفوذ تصرف الإنسان في ملكه بحكم الملك لا باعتبار المنفعة والضرر إلا أن يضطر المسلمون إليه فلينبذوا إليهم ثم يأخذون ويأكلون ويعلفون لأن بهذا الشرط لا تنعدم صفة الإباحة الثابتة في أملاكهم ولكن التحرز عن الغدر واجب وقد حصل ذلك بالنبذ إليهم وإن قالوا : أعطونا على أن لا تحرقوا زروعنا ولا كلأنا فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأكل منه ونعلف دوابنا لأن الوفاء إنما يلزمنا بقدر ما قبلنا من الشروط وذلك الإحراق والأكل ليس من الإحراق في شيء ألا ترى أنه يحل للإنسان أن يأكل@(1/211)
ملكه ولا يحل له أن يحرقه وأهل الشام يكرهون الإحراق في أموال أهل الحرب ولا يكرهون التناول ولعلهم إنما شرطوا هذا الشرط لما في الإحراق من الفساد والأصل أن ما ثبت بالشرط نصاً لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه .
وإن سألونا أن لا نخرب قراهم فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأخذ ما وجدنا في قراهم من متاع أو علف أو طعام أو غيره ما ليس ببناء لأن التخريب يكون في الأبنية أما أخذ الأمتعة فمن الحفظة لا من التخريب ولعلهم كرهوا ذلك لما في التخريب من صورة الإفساد ولكن كل ما كان في قراهم من خشب أو غيره فليس ينبغي أن نعرض له وما كان من خشب موضوع ليس في بناء فلا بأس بأن نأخذه ونوقد به لأن هذا انتفاع وليس بتخريب وإنما الذي لا يحل بعد هذا الشرط هدم شيء من مساكنهم أو تخريبه بالنار لأن ذلك فوق التخريب فيثبت حكم الشرط فيه بطريق الأول وإن وجدنا باباً مغلقاً ولم نقدر على فتحه فلا ينبغي أن نقلعه قبل النبذ إليهم لأن هذا تخريب بخلاف ما إذا قدرنا على فتح الباب فإن فتح الباب ليس بتخريب فإن لم نقدر على فتحه إلا بكسر الغلق فليس ينبغي لنا أن نفعل لأن هذا تخريب والقليل والكثير فيما التزمناه بالشرط نصاً سواء .
وإن شرطوا علينا أن لا نأكل من زروعهم ولا نعلف منها فليس ينبغي لنا أن نحرق شيئاً منها لأن الإحراق فوق الأكل في تفويت مقصودهم بالشرط فيثبت الحكم فيه بالطريق الأولى بمنزلة التنصيص على التأفيف في حق الأبوين يكون تنصيصاً على حرمة الشتم بالطريق الأولى وهذا بخلاف ما إذا شرطوا بأن لا يحرق لأن الأكل دون التحريق فإن الإحراق إفساد للعين والأكل انتفاع بالعين فإذا شرطوا كل فمقصودهم بقاء العين لهم وذلك ينعدم بالإحراق كما ينعدم بالأكل وإذا شرطوا أن لا نحرق لهم زروعاً فقدرنا على أن نغرقها بالماء فليس لنا أن نفعل ذلك لأن هذا في معنى المنصوص من كل وجه فإن كل واحد منهما إفساد .
وكذلك لو شرطوا أن@(1/212)
لا نغرقها فليس ينبغي لنا أن نحرقها وكذلك لو شرطوا أن لا نغرق سفينتهم ولا نحرقها لم ينبغ لنا أن نذهب بها لأن مقصودهم من هذا بقاء عينها لهم لينتفعوا بها وذلك يفوت إذا ذهبنا بها أرأيت لو شرطوا أن لا نحرق منازلهم ولا نغرقها أكان ينبغي لنا أن ننقضها فنذهب بخشبها وأبوابها هذا لا ينبغي لأنهم إنما أرادوا أن لا نستهلكها عليهم إلا أنه تعذر عليهم التنصيص على جميع أنواع الاستهلاك وذكروا ما هو الظاهر من أسبابه وهو التغريق والإحراق .
ولو شرطوا أن لا نقتل أسراهم إذا أصبناهم فلا بأس بأن نأسرهم ويكونوا فيئاً ولا نقتلهم لأن الأسر ليس في معنى ما شرطوا من القتل فإن القتل نقص البنية ألا ترى أنه لا بأس بأن نأسر نساءهم وذراريهم وإن كان لا يحل قتلهم شرعاً وإن شرطوا أن لا نأسر منهم أحداً فليس ينبغي لنا أن نأسرهم ونقتلهم لأن القتل أشد من الأسر ومقصودهم بهذا الشرط يفوت بالقتل كما يفوت بالأسر .
إلا أن تظهر الخيانة منهم بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا ولا يأسروا منا أحداً ثم فعلوا ذلك فحينئذ يكون هذا منهم نقضاً للعهد فلا بأس بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم كما كان لنا ذلك قبل العهد ألا ترى أن أهل مكة لما صاروا ناقضين للعهد لمساعدة بني بكر على بني خزاعة وكانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم@(1/213)
كيف قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نبذ إليهم فإنه سأل الله تعالى أن يعمي عليهم الأخبار حتى يأتيهم بغتة فإن فعل ذلك منهم رجل واحد لم يكن ذلك ينقض منهم لعهدهم لأن فعل الواحد لا يشتهر في جماعتهم عادة وليس لهذا الواحد ولاية نقض العهد على جماعتهم ألا ترى أن مسلماً لو ارتكب ما لا يحل في دينه لم يكن ذلك نقضاً منه لإيمانه ولو أن ذمياً فعل ذلك لم يكن نقضاً منه لأمانه فإن فعل ذلك جماعتهم أو أميرهم أو واحد منهم على وجه المحاربة وهم يعلمون بذلك فلا يغيرونه فحينئذ يكون نقضاً للعهد منهم لأن فعل أميرهم يشتهر لا محالة والواحد منهم إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا عليه فكأنهم أمروه بذلك على ما قيل : إن السفيه إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا عليه فكأنهم أمروه بذلك على ما قيل : إن السفيه إذا لم ينه مأمور ومباشرة ذلك الفعل على سبيل المجاهرة بمنزلة النبذ للعهد الذي جرى بيننا وبينهم .
فإن شرطوا على أن لا نقتل أسراهم على أن لا يقتلوا أسرانا وأسروا منا أسارى فلم يقتلوهم فلا بأس بأن نأسر نحن أيضاً أسراهم ولا نقتلهم لأن هذا ليس نقض العهد منهم فإنهم التزموا بأن لا يقتلوا وما التزموا بأن لا يأسروا وإذا بقي العهد نعاملهم كما يعاملوننا جزاء وفاقاً وإذا دخل حربي دارنا بأمان فقتل مسلماً عمداً أو خطأ أو قطع الطريق أو تجسس أخبار المسلمين فبعث بها إلى المشركين أو زنى بمسلمة أو ذمية كرهاً أو سرق فليس يكون شيء منها نقضاً منه للعهد إلا على@(1/214)
قول مالك فإنه يقول يصير ناقضاً للعهد بما صنع لأنه حين دخل إلينا بأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئاً من ذلك فإذا فعله كان ناقضاً للعهد بمباشرته مما يخالف موجب عقده ولو لم يجعله ناقض العهد بهذا رجع إلى الاستخفاف بالمسلمين ولكنا نقول : لو فعل المسلم شيئاً من هذا ليس بناقض لإيمانه فإذا فعله المستأمن لا يكون ناقضاً لأمانه والأصل فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة فإنه كتب إلى أهل مكة أن محمداً يغزوكم فخذوا حذركم ولذلك قصة وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } الممتحنة : 1 فقد سماه الله تعالى مؤمناً مع ما فعله وكذلك أبو لبابة بن عبد المنذر حين استشاره بنو قريظة أنهم إن نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يصنع بهم فأمر يده على حلقه يخبرهم أنه يضرب أعناقهم وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ } الآية فعرفنا أن هذا لا يكون نقضاً للإيمان من المسلم فكذلك لا يكون نقضاً للأمان من المستأمن ولكنه إن قتل إنساناً عمداً يقتل به قصاصاً لأنه التزم حقوق العباد فيما يرجع إلى المعاملات وإن قذف مسلماً يضرب الحد لأن فيه حق العبد أيضاً فإنه مشروع صيانة لعرضه ولهذا تسمع خصومته في الحد ولا تستو في إلا به فأما ما أصاب من الأسباب الموجبة
للحد حقاً لله تعالى كالزنا والسرقة فالخلاف فيه معروف أنه لا يقام عليه ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافاً لأبي يوسف واستدل بصحة مذهبه هنا بأن المسلمين اختلفوا في أهل الذمة هل تقام عليهم هذه الحدود فقال أهل المدينة : لا يقام عليهم ذلك ولكن يرفعون إلى حاكمهم ليقيمها عليهم وذلك مروي عن علي رضي@(1/215)
الله عنه فاختلافهم في ذلك في حق الذمي يكون اتفاقاً منهم في حق المستأمن أنه لا يقام عليه ونحن لم نأخذ بذلك في حق الذمي لورود النص فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم اليهودي ولكن ورود النص في الذمي لا يوجب ذلك الحكم في حق المستأمن لأن الذمي ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فإنه من أهل دارنا فيقام عليهم الحدود كلها إلا حد الخمر فإنه لا يعتقد حرمة شربه وبدون اعتقاد الحرمة لا يتقرر السبب فأما المستأمن لا يصير من أهل دارنا ولا التزم شيئاً من أحكامنا وإنما دخل دارنا ليقضي حاجته ثم يرجع إلى داره ولهذا لا يمنع من الرجوع ولا يجب القصاص على الذمي بقتل المستأمن كما لا يجب على المسلم فلهذا لا يقام عليه ما كان محض حق الله ولكنه يؤمر برد ما أخذ من أموال الناس ويغرم ما استهلك من ذلك ويكون عليه صداق التي أصابهم لأن الوطء في غير الملك لا يخلو عن حد أو مهر فإذا لم يجب عليه الحد يلزمه المهر لأن ذلك من حقها ويوجع عقوبة على ما صنع ويجلس في السجن على قدر ما يرى الإمام ويعزر لأن في لفظ التعزير من ينبئ عن معنى التطهير والتعظيم قال الله تعالى : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } الفتح : 9 والكافر ليس من أهل فلهذا قال : يوجع عقوبة بما صنع من إساءة الأدب والله الموفق .@(1/216)
باب ما يصدق المستأمن فيه من أهل الحرب وما لا يصدق
وإذا انتهى عسكر المسلمين إلى مطمورة أو حصن فأقاموا عليها فناداهم قوم من أهلها أمنونا على أهلينا ومتاعنا على أن نفتحها لكم ففعلوا ذلك وفتحوها لهم فالقوم الذين سألوا ذلك آمنون وإن لم يذكروا أنفسهم بشيء لأن النون والألف أو النون في قوله : أمنونا كناية لإضافة المتكلم ما يتكلم به إلى نفسه وكلمة على للشرط قال الله تعالى : { الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ
بِاللَّهِ شَيْئًا } الممتحنة : 12 وقال تعالى : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } الأعراف : 05 أي بشرط ذلك فعرفنا أن تقرير كلامهم نحن آمنون مع أهلينا وأموالنا إن فتحناها لكم وقد أعطاهم المسلمون ذلك فإذا فتحوا كانوا آمنين فإذا خرج أهل المطمورة فقال الذين أومنوا : هذا متاعنا لجيد المتاع وهؤلاء أهلونا لفرهة السبي فالقياس في هذا أنهم لا يصدقون إلا ببينة تقوم على ذلك من المسلمين العدول لأن حق المسلمين قد ثبت في جميع ما وجد في المطمورة لظهور سببه فهم يدعون المانع بعدما ظهر الاستحقاق بسببه فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة ولا حجة على المسلمين إلا بشهادة العدول من المسلمين بمنزلة ما لو ادعى أحد المتبايعين شرط خيار لم يقبل ذلك منه إلا بحجة .
قال : ولكن العمل بالقياس يتعذر في هذا الموضع فإنهم لا يجدون في المطمورة قبل فتح الباب عدولاً مسلمين ليشهدوهم على ما لهم من المتاع والأهل وكما@(1/217)
يسقط اعتبار صفة الذكورة في الشهادة فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة يسقط اعتبار أصل الشهادة هنا لأجل الضرورة ويجب العمل فيه بالاستحسان فنقول : إن صدقهم السبي الذين أدعوهم بما قالوا فهم مصدقون وهم آمنون معم لأنهم كانوا في المطمورة جملة .
فإذا تصادقوا على شيء فعلينا أن نأخذ بذلك لأنه لا طريق لنا إلى الوقوف على حقيقة ما كان بينهم فيبتنى الحكم على ما يظهر بتصادقهم وإن كذبوهم بما قالوا كانوا فيئاً لأنه عند التكذيب لم يثبت السبب الذي بني الأمان عليه ودعوى المستأمنين لا يكون مقبولاً على من كان معهم في المطمورة أنهم أهلونا إلا بحجة فإن مجرد خبرهم لا يصلح حجة في ذلك لأنهم عارضوهم بالتكذيب بخلاف الأول فالسبب هناك قد ثبت فيما بينهم بالتصادق وعليه بنينا الأمان فلهذا كانوا آمنين .
فإن كانوا حين كذبهم هؤلاء ادعوا غيرهم أنهم أهلونا لم يصدقوا على ذلك لأنه يتناقض كلامهم والمناقض لا قول له ولأنا إنما نقبل قولهم عند التصديق لنوع من الاستحسان وهو الذي سبق إلى فهم كل أحد أنهم لا يتجاسرون على التصادق على الباطل في مثل هذه الحالة وهذا المعنى ينعدم عند التناقض في الدعوى فكان جميع من في المطمورة فيئاً إلا المستأمنين ومن صدقهم في الابتداء أنه من أهليهم .
وإن ادعى بعض السبي رجلان منهم فقال كل واحد منهما : هذا من أهلي فإن صدق المدعي به أحدهما فهو من أهله وكان آمناً وإن كذبهما جميعاً كان فيئاً لأن السبب الذي رتبنا عليه الأمان لم يثبت بينه وبين وبين واحد منهم .
وأهله امرأته وولده الذين كانوا في عياله من الصغار والكبار من النساء والرجال وفي القياس أهله : زوجته@(1/218)
فقط لأنه في العرف يقال لمن له زوجة متأهل ولمن لا زوجة له غير متأهل وإن كان يقوله جماعة ولكنه استحسن فقال : اسم الأهل يتناول كل من يعوله الرجل في داره وينفق عليه ألا ترى في قوله تعالى : في قصة نوح عليه السلام : { إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي } هود الآية 40 وقد استثنى الله الزوجة عن الأهل في قصة لوط عليه السلام قال تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ } النحل : 57 وفي قصة نوح : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } هود : 45 يعني زوجته فعرفنا أن اسم الأهل يتناول غير الزوجة ويقال : فلان كثير الأهل : إذا كان ينفق على جماعة وهذا لأن بين الأهل والعيال مساواة في الاستعمال عرفاً فأما ابن له كبير هو معتزل عنه فليس من أهله وكذلك كل ابنة من بناته لها زوج وقد ضمها زوجها إليه فهي ليست من أهله لأنها ليست في نفقته والأهل من يكون في نفقته في داره سواء كان من قرابته أو لم يكن من قرابته .
فإذا تصادقوا على ذلك كانوا آمنين وأيهم ادعى ذلك وكذبه المستأمن أو ادعى المستأمن وكذبه المدعي فهو فيء فإن رجع المكذب منهما إلى تصديق صاحبه وقال أوهمت لم يلتفت إلى قوله لأنه مناقض في كلام ولأن حق المسلمين تقرر فيه بالتكذيب فلا يبطل بمجرد رجوعه إلى الصديق ولو قالوا : أمنونا على أهل بيوتاتنا فالمسألة بحالها فأهل بيت كل واحد منهم قرابته من قبل أبيه الذين ينسبون إليه في بلادهم كما يكون في بلادنا أهل بيت أمير المؤمنين آل عباس وأهل بيت علي بن أبي طالب وأهل بيت طلحة والزبير لأنه ليس المراد بيت السكنى وإنما المراد بيت@(1/219)
النسب والإنسان منسوب إلى قوم أبيه فعرفنا أن ذلك بيت نسبه وأن من يناسبه إلى أقصى أب يعرفون به فهم أهل بيته وإن كانوا في عياله لأنهم ينسبون إلى غير من ينسب هو إليه ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء يكونون من أهل بيت الخلافة يصلحون لها وكذلك لو قال : آمنوني على آلي فالآل وأهل البيت في عرف الاستعمال سواء وكذلك لو قال : آمنوني على جنسي لأن الإنسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه ألا ترى أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وإن كانت أمه قبطية وكذلك إسماعيل كان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه هاجر .
وإن قال : آمنوني على ذوي قرابتي أو على أقربائي أو على أنسابي فهذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على كل ذي رحم محرم وقد بينا هذا في الوصايا في الزيادات إلا أنه يقع الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الوصية في فصلين .
أحدهما : أن على قول أبي حنيفة رحمه الله استحقاق الوصية للأقرب فالأقرب وهاهنا يدخل في الأمان كل ذي رحم محرم الأقرب والأبعد فيه سواء لأن ذلك إيجاب بطريق الصلة والإنسان في الصلة يميز بني الأقرب والأبعد ويرتب الأبعد على الأقرب وهذا استنقاذ والإنسان عند اكتساب سبب الاستنقاذ لا يرتب الأبعد على الأقرب يوضحه : أن في التسوية هناك إضراراً بالأقرب فإنه ينتقص حقه ولا يجوز الإضرار بالأقرب لمزاحمة الأبعد وهاهنا ليس في التسوية إضرار بالأقرب لأنه يثبت الأمان له سواء ثبت للأبعد معه أو لم يثبت .
والفصل الثاني : أن في الوصية لذوي قرابته لا يدخل ولده ووالده وإن كانوا لا يرثونه لمعنى من المعاني وفي الأمان يدخل ولده ووالده استحساناً والقياس فيهما سواء لأن اسم القرابة إنما يتناول من يتقرب إلى الغير بواسطة فأما من يتصل به بغير واسطة فهو أقرب من أن ينسب إلى القرابة وأيد هذا أن الله سبحانه وتعالى عطف الأقربين على الوالدين فقال : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } البقرة : 18 ولكنه استحسن وقال : مقصوده من طلب الأمان لقرابته استنقاذهم للشفقة عليهم وشفقته@(1/220)
على والده وولده أظهر من شفقته على سائر القرابات فلمعرفة المقصود أدخلناهم في الأمان ولأنا إنما لا ندخلهم في هذا الاسم لأنه يعد من الجفاء أن يقول الرجل لأبيه : هو قريبي وفي فصل الأمان الجفاء في ترك استنقاذه أو طلب الأمان لغيره أظهر فلو أدخلناهم في الاسم هاهنا يؤدي إلى تحقيق معنى البر لا إلى الجفاء والعقوق فلهذا أدخلوا في الأمان قال ولو استأمنوا على متاعهم ثم ادعوا جيد المتاع فإن كان ذلك المتاع أخذ من يد بعض أهل المطمورة وسئل عن ذلك المأخوذ منه فإن صدقوهم فهم مصدقون وإن كذبوهم كان فيئاً لأنا عرفنا كون اليد في هذه الأمتعة له إلى أن أخذ منه ولصاحب اليد قول فيما في يده كما أن للمرء قولاً معتبراً في نفسه وقد بينا في الأصل أنه يرجع إلى تصديق المدعي فكذلك في المتاع يرجع إلى تصديق من كان في يده ولا يقال : يده زائلة في الحال لأن سبب زوالها الأخذ على وجه الاغتنام وما ثبت في الأمان لا يكون محل الداخل بهذه الصفة وهذا المعنى في النفوس موجود أيضاً فقد صارت مأخوذة منهم بالاغتنام حكماً ومع ذلك اعتبر تصديقهم فيها باعتبار الأصل .
فإن ادعوا بعد هذا التكذيب متاعاً آخر لم يصدقوا على ذلك لأن في دعواهم الأولى بيان أنه ليس لهم في المطمورة سوى ما ادعوا من المتاع وطريق المفهوم الذي نعتبره في هذا الكتاب وكانوا متناقضين فيه يدعون بعد ذلك .
وإن كذبهم من كان المتاع في يده وقال : هو متاعي ثم صدقهم بعد ذلك لم يلتفت إلى هذا التصديق للتناقض ولتقرر حكم الاغتنام فيه بالتكذيب فيكون المتاع فيئاً وإن وجدنا المتاع في أيدي المستأمنين فقالوا : هو متاعنا الذي أمنتمونا عليه فالقول فيه قولهم لأن أصل اليد لهم وهي@(1/221)
شاهدة لهم من حيث الظاهر فيبنى الحكم عليه ما لم يعلم خلافه وكل من جعل القول قوله فغن الإمام يستحلفه لأن أكثر ما فيه أنه أمين فيما يخبر فالقول قوله مع اليمين فإن تهمة الكذب شرعاً إنما تنتفي باليمين ولا يستحلفه إلا بالله لقوله عليه الصلاة والسلام : " فمن كامن منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر " إلا أنه يغلظ اليمين .
فإن كان نصرانياً استحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان يهودياً استحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى لأن انزجاره عن اليمين الكاذب عند ذكر هذه الزيادة أظهر وهو المقصود بالاستحلاف هاهنا .
قال : وإن كان مجوسياً استحلفه بالله الذي خلق النار لهذا المعنى أيضاً وقد قال كثير من مشايخنا : لا يستحلف المجوس إلا بالله لأن ذكر هذه الزيادة معنى تعظيم النار والنار بمنزلة سائر المخلوقات من الجمادات بخلاف ما سبق فهناك فيما يزيد معنى تعظيم الكتابين والرسولين وذلك يستقيم .
فإن كانوا أمنوهم على أهليهم فقال قول المدعي لأنه استفاد الأمن بادعائه الأول فهو بالكلام الثاني يريد إبطال الأمان الثابت له وهو لا يصدق في ذلك لو لم يكن مناقضاً فكيف إذا كان مناقضاً ولو رجع المدعي دون المدعي كان المدعى فيئاً لأنه أقر على نفسه بالرق للمسلمين وبكونه من أهل المدعي لا يخرج من أن يكون مقبول الإقرار على نفسه إلا أن يكون المدعي ادعى أنه عبد أو أمة له وصدقه المدعى ثم قال بعد ذلك : لست بمملوك لم يصدق وكان مملوكاً له لأن بتصديقه صار مملوكاً له@(1/222)
فلا يبقى له قول معتبر في إبطال ملكه بعد ذلك ومملوكه من أهله فإنه يعوله وينفق عليه فيتناوله الأمان .
ولو قال المدعي : ليس من أهلي وليس بمملوك لي وكذبه المدعى فهو فيء لأن المدعي أقر في ملكه بثبوت حق الغانمين وذلك إقرار منه على نفسه إلا أنه ليس للأمير أن يقتله لأنه صار آمناً من القتل بتصادقهما في الابتداء أنه مملوك له فبعد ذلك لو أبيح قتله إنما يباح بقول المدعي وقوله ليس بحجة على مملوكه في إباحة دمه .
وإن لم يكن مناقضاً كما لو أقر عليه بالقصاص فكيف إذا كان مناقضاً وإن تصادقا جميعاً أنه ليس بمملوك له فللأمير أن يقتله إن كان رجلاً إن شاء لأن بقول المدعي انتفى ملكه بإقرار المدعى وثبت أنه لم يتناول الأمان وهو غير منهم فيما يقر به على نفسه من إباحة دمه .
كما لو أقر على نفسه بالقصاص كان إقراره صحيحاً حراً كان أو مملوكاً ولو قال المدعي : هو ابني في عيالي وصدقه المدعى وهو رجل فاتهمهما الأمير فإنه يحلف المدعي فإن حلف كان حراً وإن لم يحلف كان فيئاً لإقراره على نفسه بثبوت حق الغانمين فيه فإن النكول بمنزلة الإقرار ولكنه لا يقتل لأنه آمن من القتل بتصادقهما فلو جاز قتله بعد ذلك إنما يجوز بالنكول والنكول لا يصلح حجة لإباحة القتل بدليل المدعى عليه بالقصاص في النفس إذا نكل عن اليمين فإنه لا يقضى عليه بالقصاص فهذا مثله قال عيسى رحمه الله : هذا غلط أن إباحة القتل هنا ليس باعتبار النكول بل باعتبار أصل الإباحة فإنه كان مباح الدم فبنكوله ينتفي المانع وهو الأمان فيكون هذا بمنزلة ما لو ادعى القاتل العفو على الولي وجحد الولي وحلف فإنه يستوفي القصاص ولا يكون هذا قتلاً باليمين ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأن الإباحة التي كانت في الأصل قد ارتفعت بتصادقهما على أنه من أهل المدعي فلو جاز قتله بعد هذا كان ذلك بسبب نكوله وذلك لا يجوز لما في@(1/223)
النكول من الشبهة والاحتمال فقد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة ولا يستحلف المدعى لأن المقصود من الاستحلاف لم يحصل لأنه لا قول له على ابنه فيما يرجع إلى استحقاق الرق وإباحة القتل والمقصود بالاستحلاف هذا .
وإن قال الذي استأمن على متاعه : لمتاع هذا من متاعي وليس ذلك في يد أحد فإن كان قال هذا بعد ما صار في أيدي المسلمين لم يصدق على ذلك إلا ببينة عادلة من المسلمين وقوله لا يكون حجة في ذلك فلا بد من بينة عادلة من المسلمين .
وإن قال ذلك قبل أن يصل المتاع إلى أيدي المسلمين فالقول قوله مع يمينه لأن ما كان في المطمورة فيده إليه أقرب من يد المسلمين حين كان في المطمورة .
فكأنه كان في يده حين ادعى ذلك .
وإن كن في يده ويد المسلمين جميعاً فوصل ذلك إلى الأمير وهم متعلقون به فهو للمستأمن بعدما يحلف لأن يده كانت أقرب إليه باعتبار الأصل وقد علمنا أن يد المسلمين يد مستحدثة فيه فمع بقاء الأصل لا يعتبر يد المسلمين فيه ألا ترى أنا لو علمنا أنهم أخذوه من المستأمن كان القول فيه قول المستأمن فهذا أولى .
وكذلك إن وصل إلى الأمير وقوم من أهل المطمورة وقوم من المسلمين متعلقون به وأهل المطمورة يقرون أنه للمستأمن فالقول قولهم باعتبار أن اليد في الأصل كانت لهم فلا يعتبر يد المسلمين بتعلقهم به .
فأما إذا وصلوا إلى الأمير وهو في يد المسلمين خاصة فقد عرفنا زوال اليد التي كانت في الأصل ولا يدرى لمن كانت حقيقة للمدعي كان أو للمصدقين له أو لغيرهم .
فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر ما هو معلوم في الحال وهو في يد المسلمين فلا يجوز إزالتها إلا ببينة عدول من المسلمين .
فإن شهد قوم من المسلمين أن الذين في أيديهم ذلك أخذوه من المستأمنين أو أقر@(1/224)
الذين ذلك في أيديهم أنهم أخذوه من المستأمنين أو أقروا أنهم أخذوه من قوم من أهل المطمورة وأقر أولئك أنه للمستأمنين أو شهد شهود أنهم أخذوه من هؤلاء الذين هم من أهل المطمورة وأقر أولئك أنه للمستأمنين فهو رد عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة والثابت بالإقرار في حق المقر كذلك والاستحقاق للمسلمين الآن باعتبار يد الأخذين في بيان جهة الوصول إلى أيديهم فلهذا وجب رده على المستأمنين ولو لم يقر الذين أخذ ذلك من أيديهم أنه للمستأمنين إلا بعدما أخذه المسلمون منهم فهذا وما لو أقروا به قبل الأخذ منهم سواء لأنا قد علمنا أن أصل اليد لهم وتلك اليد قائمة حكماً لما وجب اعتبار تصادقهم مع المستأمنين فكان إقرارهم بعد الأخذ منهم بمنزلة إقرارهم قبله فإن اقتسم المسلمون المتاع أو بيع المتاع ثم ادعى المستأمنون أن المتاع متاعهم لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة تشهد أنه أخذ منهم أو من قوم كانوا مقرين بالملك لهم قبل القسمة لأن سبب الملك قديم لمن وقع في سهمه أو للمشتري والملك لا يستحق بمجرد الظاهر بل بالحجة التامة وإنما الظاهر حجة لدفع الاستحقاق وحاجة المستأمنين هنا إلى استحقاق الملك على الملاك فلا بد من بينة تشهد بما ذكرنا .
فإن أقر المسلمون الذين كانوا أخذوه أنهم أخذوه من أيدي المستأمنين أو من أيدي قوم يقرون أنه للمستأمنين لم يصدقوا على ذلك لأنهم لم يبق لهم في المتاع يد ولا ملك فهم كسائر المسلمين في هذا الإقرار .
إلا أن يقع شيء من ذلك في سهم الذي أقر فيصدق على نفسه ويؤخذ منه فيرد على المستأمنين لأن إقراره في ملك نفسه بمنزلة البينة في حقه أو أقوى .
ولكن لا يعوض لأن الاستحقاق كان بإقراره وإقراره ليس بحجة على سائر الغانمين فكان هو في حقهم متلفاً نصيب نفسه فلا يستحق التعويض من الغنيمة .
فأما السبي فهم مصدقون أنهم من أهل المستأمنين وإن وقعوا في أيدي المسلمين ما لم يقتسموا أو يباعوا سواء كانوا في دار @(1/225)
الحرب أو قد أخرجوا منها لأن اعتبار يدهم وقولهم في أنفسهم لا يزول إلا بضرب الرق عليهم وذلك بالقسمة أو البيع دون الإحراز ألا ترى أن للإمام أن يقتلهم بعد الإحراز وليس له بعد ضرب الرق عليهم أن يقتلهم وكذلك له أن يمن عليهم فيجعلهم ذمة وإذا فعلوا ذلك كانوا أحرار الأصل فأما إذا اقتسموا أو بيعوا لم يصدقوا على ذلك لان الرق قد تقرر فيهم فلا قول لهم بعد ذلك ولا يد معتبرة في أنفسهم إلا أن يقوم لهم ببينة من المسلمين أنهم تصادقوا مع المستأمنين قبل القسمة والبيع أنهم من أهليهم فحينئذ لا سبيل عليهم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك في المتاع إذا قامت البينة على أنهم تصادقوا على ذلك قبل الآخذ من أيديهم وكأنه جعل الأخذ من أيديهم في المتاع بمنزلة ضرب الرق عليهم بالقسمة والبيع في نفوسهم ولكن هذا إنما يستقيم في متاع لم يعلم أن أصل اليد فيه لمن كان وإذا ثبت الاستحقاق بالبينة بهذه الصفة فإن كان مشترياً رجع بالثمن وإن كان عازباً أصابه ذلك بالقسمة عوض قيمته من بيت مال المسلمين وإن كانت الغنائم كلها قسمت لأن نصيبه قد استحق فيستوجب الرجوع بعوضه على الغانمين والظاهر أنه يتعذر الرجوع عليهم لتفرقهم فتكون هذه نائبة من نوائب المسلمين ومال بيت المال معد لها ألا ترى أنه لو بقي من الغنيمة شيء يتعذر قسمته كجوهرة ونحوها يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا ظهر درك يجعل ذلك في بيت المال لأن الغرم مقابل بالغنم وإن كان الذين شهدوا على هذا هم الذين اشتروا أو وقع المتاع في سهامهم صدقوا على أنفسهم لإقرارهم ولا يصدقون على بيت المال فلا يثبت لهم حق الرجوع بعوض ولا ثمن فيؤخذ ما في أيديهم@(1/226)
فيرد على المستأمنين وتركوا يرجعون بذلك كله إلى دار الحرب إلا الكراع والسلاح والرقيق فإنهم قد احتبست في دارنا حتى نفد
فيها القسمة والبيع وهذا الاحتباس لحق الشرع وحق جماعة المسلمين حتى لا يتقوى أهل الحرب بذلك عليهم فلا يصدق الملاك ففي إبطال حق المسلمين وصار هذا بمنزلة ما لو وهبوه للمستأمنين أو باعوه منهم فلا يمكنون من إدخاله دار الحرب بخلاف ما إذا ثبت بالبينة من المسلمين فإن البينة حجة على المسلمين .
ولو قال الذين أمنوا على أهليهم ومتاعهم : جميع ما في المطمورة أهلونا وجميع ما فيها متاعنا ونحن بطارقتها وصدقهم بذلك من فيها فهم مصدقون لأن المعنى الذي لأجله وجب تصديقه إذا ادعوا بعض ما فيها وذلك المعنى موجود في الكل .
ولكن هذا إذا لم يعلم خلاف ذلك بأن كانوا قوماً معروفين بأنهم رءوس أهل المطمورة وأما إذا كان يعلم خلاف ذلك لا يصدقون لأن التصديق هنا باعتبار نوع من الظاهر ويسقط اعتبار ذلك إذ ظهر دليل الكذب .
قال : ولا يدخل في المتاع نقد ولا تبر ولا حلي ولا جوهر لأن المتاع وإن كان اسماً لما يستمتع به في الحقيقة ولكن الذهب والفضة والحلي اختصت باسم آخر وهو العين أو الجوهر وذلك يمنع دخولها في مطلق اسم المتاع ولأن المتاع ما يكون مبتذلاً في الاستمتاع به على وجه يفنى بالاستمتاع وهذا لا يوجد في مثل هذه الأعيان لنفاستها .
ويدخل في المتاع ما سواها من الثياب والفرش والستور وجميع متاع البيت وفي القياس لا يدخل في ذلك الأواني لأن في عرف الاستعمال يعطف الأواني على الأمتعة والشيء لا يعطف@(1/227)
على نفسه والعطف دليل على أن الأواني غير الأمتعة .
وفي الاستحسان الأواني التي ينتفع بها في البيوت تدخل في المتاع لأن المفهوم عند الناس من مطلق اسم المتاع ما يستمتع به في البيوت ويتأتى به السكنى والمقام في البيوت وهذا موجود في الأواني ولهذا لا يدخل السلاح والكراع والسروج في ذلك لأنه لا يستمتع بها في البيوت وإنما يستمتع بها عند الركوب أو الحرب وذلك ليس من السكنى في البيوت في شيء فلا يتناولها مطلق اسم المتاع كما لا يتناول النقود والمصاغ والجواهر .
وإن كانوا قالوا : آمنونا على مالنا من شيء دخل جميع ذلك في كلامهم لأن اسم الشيء يعم كل موجود ولو قالوا : أمنونا على مالنا أو على جميع ما لنا من مال دخل ذلك كله أيضاً لأن اسم المال يعم ذلك كله باعتبار أنه متمول منتفع به ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله لرجل دخل جميع ذلك فكذلك في الأمان بل هذا نظير الوصية لأن الوصية أخت الميراث والإرث يثبت في كل مال فكذلك الوصية وهاهنا إعطاء الأمان على المال نظير اغتنام المال فكما أن الاغتنام يثبت في كل مال فكذلك حكم الأمان عند إعطائه بلفظ المال وإن قالوا للمسلمين : أمنوا أهلينا فقالوا : نعم قد أمناهم فهم فيء وأهلوهم آمنون لأنهم طلبوا الأمان لأهليهم ولم يذكروا أنفسهم بشيء صريحاً ولا كناية ولا دلالة فالإنسان لا يكون من أهل نفسه وإنما أهله غيره لأن المضاف غير المضاف إليه فإن الأمان إشفاقاً على أهليهم وشفقتهم على أنفسهم أظهر منه على أهليهم .
والثاني : أنهم قصدوا بهذا استبقاء أهليهم وبقاؤهم بمن يعولهم وينفق عليهم وذلك أنفسهم قلنا : نعم هم قصدوا هذا ولكن حرموا هذا المقصود حين خذلهم الله فلم يذكروا أنفسهم بشيء ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ثم بمجرد القصد لا يثبت لهم الأمان بل بإعطاء المسلمين إياهم الأمان أعطوا أهليهم فقالوا : أمناهم ولم يقولوا أمناكم وقد حكي@(1/228)
أن مثل هذه الحادثة وقع في زمن معاوية وكان الذي يسعى في طلب الأمان لجماعة قد آذى المسلمين فقال معاوية رضي الله عنه : اللهم أغفله عن نفسه فطلب الأمان لقومه وأهله ولم يذكر نفسه بشيء فأخذ وقتل ثم الإنسان في مثل هذه الحالة قد يسعى في استنقاذ أهله من غير أن يقصد نفسه بذلك إما لانقطاع طمعه بأنه لا يؤمن إن طلب ذلك لنفسه أو لأنه ملَّ من نفسه لفرط الضجر فباعتبار المقصود الدليل مشترك وباعتبار اللفظ لا ذكر له ألا ترى أنهم لو قالوا : نضع أيدينا في أيديكم على أن تؤمنوا أبناءنا ونساءنا ففعل المسلمون ذلك لم ندخلهم في الأمان فإن معنى كلامهم : أن نضع أيديكم لتفعلوا بنا ما شئتم فكذلك ما سبق فإن قالوا : نخرج إليكم على أن نراوضكم في الأمان على أهلينا فقالوا لهم : اخرجوا فلما خرجوا أمنوا أهليهم فلا سبيل للمسلمين عليهم لا باعتبار أنهم أمنوا أهليهم بل باعتبار أنهم حين أمروهم أن يخرجوا للمراوضة على الأمان فهذا أمان منهم لهم ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شيء كان عليهم أن يردوهم إلى مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشيء بخلاف الأول فهناك قالوا وهم في المطمورة : أمنوا أهلينا فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام ثم خرجوا لا على طلب الأمان فهذا أمان منهم لهم ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شيء كان عليهم أن يردوهم إلى مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشيء بخلاف الأول فهناك قالوا وهم في المطمورة : أمنوا أهلينا فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام ثم خرجوا لا على طلب الأمان فكانوا فيئاً .
وإن قالوا : أمنونا على ذرارينا فأمنوهم على ذلك فهم آمنون وأولادهم وأولاد أولادهم وإن سفلوا من أولاد الرجال لأن اسم الذرية يعم جميع ذلك فذرية المرء فرعه الذي هو مستولد منه وهو أصل لذريته ألا ترى أن الناس كلهم ذرية آدم ونوح صلوات الله عليهما قال سبحانه وتعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ } مريم : 58 قال : ولا يدخل أولاد البنات من ذرية آبائهم لا من ذرية قوم الأم ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الإماء من ذرية آبائهم كما قال المأمون : لا عيب للمرء فيما أن يكون له أم من الروم أو سوداء عجماء فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأنساب آباء وذكر بعد هذا ما يدل على أنه يدخل أولاد البنات في ذلك ووجهته ما بينا أن الذرية اسم للفرع المتولد من الأصل والأب والأم أصلان للولد ثم الأم من ذرية@(1/229)
أبيها فما يتولد منها يكون من ذريته أيضاً ومعنى الأصلية والتولد في جانب الأم أرجح لأن ماء الفحل يصير مستهلكاً بحضانتها في رحمها فإنما يكون الولد متولداً منها بواسطة ماء الفحل فإذا جعل النافلة من ذرية أب أبيه فكذلك يجعل من ذرية أب أمه وفيه حكاية يحيى بن يعمر فإن الحجاج أمر به ذات يوم فأدخل عليه وهم بقتله فقال له : لتقرأن علي آية من كتاب الله تعالى نصاً على أن العلوية ذرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأقتلنك ولا أريد قوله تعالى : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } آل عمران : 61 فتلا قوله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } إلى أن قال : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى } الأنعام : 84 85 ثم قال : فعيسى من ذرية نوح من قبل الأب أو من قبل الأم فبهت الحجاج ورده بجميل وقال : كأني سمعت هذه الآية الآن ولو قالوا : أمنونا على أولادنا فهذا على أولادهم لأصلابهم وأولاد أولادهم من قبل الرجال وأما أولاد البنات فليسوا بأولادهم هكذا ذكر
هاهنا وذكر الخصاف عن محمد رحمهما الله أنهم يدخلون في الأمان أيضاً لأن اسم الأولاد يتناولهم من الوجه الذي قلنا وأيد ذلك قوله عليه السلام حين أخذ الحسن والحسين : " أولادنا أكبادنا " فأما على هذه الرواية يقول ذلك نوع من المجاز بدليل قوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } الأحزاب : 40 ومن كان ولدك حقيقة كنت أباً له حقيقة أو كان ذلك لأولاد فاطمة رضي الله عنها على الخصوص كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل الأولاد ينتمون إلى آبائهم إلا أولاد فاطمة فإنهم ينتسبون إلي أنا أبوهم "@(1/230)
ولكن هذا حديث شاذ وهو مخالف للكتاب كما تلونا .
ولو استأمنوا على أولاد أولادهم دخل في ذلك أولاد البنات لأن اسم ولد الولد حقيقة لمن ولدته وهو ولده وابنة ولده فما ولد لابنته يكون ولد ولده حقيقة بخلاف الأول فقد ذكر هناك أولاده وهم في الحقيقة ولده هو ومن حيث الحكم من يكون منسوباً إليه بالولادة وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات .
ولو قال : أمنونا على موالينا ولهم موال وموالي موال فكلهم آمنون استحساناً وفي القياس لا يدخل موالي الموالي لأن الاسم لمواليه حقيقة ولموالي الموالي مجازاً ألا ترى أنه يستقيم نفسه عنهم فيقال : هؤلاء ليسوا من مواليه ولهذا لا يدخلون في الوصية لمواليه حتى لا يزاحمون مواليه ولكنه استحسن فقال : موالي الموالي ينسبون إليه بالولاء بواسطة الموالي فهم بمنزلة أولاد الأولاد مع الأولاد وفي الوصية يدخل موالي الموالي إذا لم يكن له موال إلا عند وجود الفريقين لو أثبتنا المزاحمة انتقض نصيب الموالي ولا يجوز إدخال النقصان على الأقرب بمزاحمة الأبعد وهذا لا يوجد في الأمان فسواء دخل موالي الموالي أو لم يدخلوا كان الأمان لمواليه بصفة واحدة والظاهر أن مقصوده استنقاذ الفريقين ثم لا نقول بالجمع بين الحقيقة والمجاز ولكن هذا الاسم للموالي حقيقة ولموالي الموالي أيضاً صورة ومجازاً فباعتبار هذه الصورة تتمكن شبهة في حقهم والأمان مبني على التوسع حيث يثبت بمجرد الإشارة صورة فلأن يثبت بهذا اللفظ أولى وبه فارق الوصية ولو قالوا : أمنونا على إخواننا ولهم إخوة وأخوات فهم آمنون لاسم الأخوة عند الإطلاق للذكور والإناث قال الله تعالى : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً@(1/231)
وَنِسَاء } النساء : 176 وفي الحقيقة هذه الصيغة للذكور إلا أن من مذهب العرب عند اختلاط الذكور بالإناث تغليب الذكور وإطلاق علامة الذكور على الكل والمستعمل بهذه الصيغة بمنزلة الحقيقة نقول : فإن كان لهم أخوات ليس معهن واحد من الذكور لم يدخلن في الأمان لأن الإناث المفردات لا تتناولهن صيغة الذكور فإن قيل : أليس أن الله سبحانه وتعالى قال : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } النساء : 11 ثم الأخوات المنفردات يحجبن الأم من الثلث إلى السدس قلنا : لا بهذه الآية بل باتفاق الصحابة واعتبار معنى الحجب وقد بينا ذلك في الفرائض ولكن اعتبار المعنى في
النصوص الشرعية جائز فأما في ألفاظ العباد يراعى عين الملفوظ به من غير أن يستقل بتعليله واسم الإخوة لا يتناوله الإناث المفردات حقيقة ولا استعمالاً .
ولو قالوا : أمنونا على أبنائنا ولهم بنون وبنات فهم آمنون جميعاً لما بينا في الإخوة ومن أصحابنا من يقول : جوابه في الفصلين قولهما وقول أبي حنيفة الأول فأما قوله الآخر فيتناول الذكور خاصة بمنزلة الوصية لبني فلان وفلان أب أولاد أو لإخوة فلان ولكن الأصح أن هذا قولهم جميعاً لأنه يتوسع في باب الأمان ما لا يتوسع في باب الوصية فأبو حنيفة في الوصية اعتبر الحقيقة فقط فأما في الأمان فيعتبر الحقيقة وما يشبه الحقيقة بطريق الاستعمال فإن لم يكن فيهم ذكر وإنما بنات خاصة فهن فيء جميعاً لأن هذه الصيغة لا تتناول الإناث المفردات إلا إذا كان المضاف إليه أبا قبيلة وقد بينا هذا في الوصايا أنه إذا أوصى لبني فلان وفلان أبو قبيلة فالمراد بهذه النسبة إلى القبيلة والإناث المفردات في النسبة بهذا اللفظ كالذكور بخلاف ما إذا كان فلان أبا أولاد وقد قال بعض مشايخنا : إذا تقدم منه كلام يستدل به على أنه أراد الأمان لهن بأن قال : ليس لي إلا هؤلاء البنات أو الأخوات فأمنوني على بني أو على إخوتي فحينئذ يستدل بتلك المقدمة أن مراده الإناث فهن آمنات وإن قالوا : أمنونا على أولادنا دخل في هذا الذكور والإناث المفردات أيضاً لأن الولاد حقيقة في الفريقين قال الله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللّهُ
فِي أَوْلاَدِكُمْ } ثم قال : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } النساء : 11 فقد فسر الأولاد بالإناث المفردات .
وإن قالوا :@(1/232)
أمنونا على بناتنا وأخواننا فهذا على الإناث دون الذكور لأن صيغة الكلام للإناث خاصة فلا يدخل فيه الذكور حقيقة ولا استعمالاً ومن حيث المقصود قد يطلب الأمان للإناث خاصة لضعفهن ولعلمه أنه لا يجاب إلى الأمان لو طلبه للذكور بعدما اتصل منهم أذى بالمسلمين من حيث القتال : وإن قالوا : أمنونا على بنينا فإذا لكلهم بنات إلا لواحد منهم فإن له ابناً واحداً كان الأمان عليهم جميعاً لأنهم استأمنوا للكل بكلمة واحدة وتلك الكلمة تتناول الذكور والإناث عند الاختلاط وبالابن الواحد لأحدهم يتحقق الاختلاط .
وإن قالوا : أمنونا كل واحد منا على بنيه والمسألة بحالها كان البنات كلهن فيئاً إلا أولاد الرجل الذي له الابن لأن كلمة كل توجب الإحاطة على سبيل الانفراد وقد قال الله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } آل عمران : 185 وباعتبار انفراد اللفظ في حق كل واحد منهم لا يتناول هذا اللفظ إلا أولاد الجل الذي له الابن بخلاف الأول لأن الكلمة هناك للإحاطة على وجه الاجتماع والإخوة والأخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات .
ولو قالوا : أمنونا على أبنائنا ولهم آباء وأمهات فهم آمنون جميعاً لأن اسم الآباء يتناول الآباء والأمهات ألا ترى أنهما يسميان أبوين قال الله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ } النساء : 11 وكذلك إن لم يكن الأب منهم إلا لإنسان واحد فالأمهات والأب الذي معهن آمنون لأن الاسم حقيقة للكل استعمالاً عند الاختلاط ولو قالوا : أمنونا على أبنائنا ولهم أبناء وأبناء أبناء فالأمان على الفريقين جميعاً استحساناً وكان ينبغي في القياس أن يكون الأمان للأبناء خاصة لأن الاسم حقيقة للأبناء مجاز في حق أبناء الأبناء ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد ولهذا جعل أبو حنيفة الوصية للأبناء@(1/233)
خاصة بهذا اللفظ إلا إذا لم يكن هناك أبناء فحينئذ يتناول أبناء الأبناء لأن الحقيقة لما تنحت وجب استعمال اللفظ بطريق المجاز ولكنه استحسن هاهنا فقال : وإنما يطلب الأمان لمن يكون مضافاً إليه بالبنوة وباعتبار الصورة وهذا يوجد في أبناء الأبناء فيصير ذلك شبهة يثبت به الأمان لهم بخلاف الوصية فإنها لا تستحق بالصورة والشبهة ثم في إثبات المزاحمة هناك بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الأبناء ولا يوجد مثل ذلك في الأمان وهذا نظير ما تقدم في قوله : لذوي قرابتي لأن طلب الأمان بهذا اللفظ لإظهار الشفقة على ما ينسب إليه بالبنوة وربما يكون ذلك في حق أبناء الأبناء أظهر منه في حق الأبناء على ما قيل : النافلة أحب إلى المرء من الولد ولو كان لبعضهم أبناء لصلبه ولبعضهم أبناء أبناء فهم آمنون جميعاً لما قلنا وإن قالوا : أمنونا على آبائنا وليس لهم آباء ولهم أجداد فليس يدخل الأجداد في ذلك وهذا الفصل مشكل فإن اسم الأب لا يتناول الجد حقيقة حتى يجوز أن ينفي عنه بإثبات غيره فيقال : إنه جد ولي بأب ولكن يتناوله مجازاً ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس أنه قال لرجل : أي أب لك أكبر فلم يفهم الرجل ما قال
فتلا ابن عباس قوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ } الأعراف : 6 وقال : أما علمت أن من كنت ابنه فهو أبوك فباعتبار هذا المجاز أو باعتبار الصورة ينبغي أن يثبت الأمان لهم كما ذكرنا في أبناء الأبناء ولكنه فرق بينها لمعنى آخر فقال : المجاز تبع للحقيقة ويمكن تحقيق هذا في أبناء الأبناء فإنهم تفرعوا من الأبناء فكانوا تبعاً لهم ولا يأتي مثل ذلك في الأجداد فإنهم أصول الآباء مختصون باسم فيكف يتناولهم اسم الآباء على وجه الاتباع لفروعهم ألا ترى أنه لو قال : أمنوني على أمي وليست له أم إنما له جدة أن الأمان لا يتناولها فإن قال قائل : يتناولها باعتبار أن الجدة تسمى أماً قلنا : قد سمى الله تعالى الخالة أماً في قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } يوسف : 105 .@(1/234)
أي أباه وخالته وسمى العم أباً في قوله تعالى : { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } البقرة : 133 وإسماعيل كان عماً ثم أحد لا يقول إن العم والخالة يدخلان في الأمان للآباء لأن كل واحد منهما مختص باسم الآخر به ينسب إليه فكذلك الجد والجدة بخلاف بني الابن فإنهم ينسبون إليه باسم النبوة ولكن بواسطة الابن فكان الأمان بهذا الاسم متناولاً لهم وهذا بيان لسان العرب فإن كل قوم في لسانهم الذي يتكلمون به أن الجد ولد كما أن ابن الابن ابن فهو داخل في الأمان وهكذا في لسان الفارسية فإنه يقال للجد : بدر بدر كما يقال للحفيد : يسر يسر والله سبحانه وتعالى الموفق .
باب المرأة من أهل الحرب
تخرج مع رجل من المسلمين فيقول : أسرتهم وهي تقول : جئت مستأمنة وإذا دخل العسكر دار الحرب فخرج إليهم مسلم كان أسيراً أو كن مستأمناً فهيم أو كان أسلم منهم والتحقق بجيش المسلمين ومعه حربية فقالت : جئت مستأمنة إليكم وقال المسلم : جئت بها قهراً فهذا إنما يكون على ما جاءت عليه المرأة فإن كانت مخلاة غير مربوطة تمشي معه حتى إذا انتهت إلى أدنى مسالح المسلمين نادت بالأمان أو لم تناد فهي آمنة لأن الظاهر شاهد لها فإنها جاءت مجيء المستأمنات .
ولو جاءت وحدها بهذه الصفة كانت آمنة فكذلك إذا صحبها مسلم في الطريق لأنه بمجرد هذه الصحبة لا تثبت اليد عليها للمسلم فهي في يد نفسها فالذي يسبق إلى فهم كل أحد@(1/235)
أنها طاوعته في المجيء مستأمنة وقد بينا أنه فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته يعتبر الظاهر وغالب الرأي .
وإن كان الرجل جاء بها وهو قاهر لها قد ربطها فنادت بالأمان أو لم تناد فهي فيء لأن الظاهر أنه هو الذي أسرها وأخرجها وقد كانت يده بطريق القهر ثابتة عليها وذلك سبب لاستحقاقه نفسها فإنها حربية لا أمان لها إلا أنه حين أحرزها بمنعة الجيش فالجيش شركاؤه فيها لأن الإحراز بالدار حصل بهم جميعاً .
ولو لم يخرجها إلى عسكر المسلمين ولكن أخرجها إلى دار الإسلام فهذا والأول سواء إلا في خصلة واحدة وهو أنه يختص بها هنا إذا جاء به قاهراً لها لأنه تفرد بإحراز بدار الإسلام ولا خمس فيها لأنه ما أصابها على وجه إعلاء كلمة الله تعالى فهو بمنزلة ما أخذه المتلصص وأحرزه بدار الإسلام .
فإن قالت : تزوجته وخرجت معه وقال هو : كذبت بل قهرتها وأخرجتها أو هي أمة اشتريتها ووهبت لي لم يصدق على شيء من ذلك إذا جاءت معه مخلاة لأنها في يد نفسها فإقرارها بأنه تزوجها غير مسقط حكم يدها في نفسها فكانت مستأمنة إلا أن يأتي بها مقهورة يعرف قهره إياها في دار الحرب فحينئذ يكون القول قوله لأن باعتبار ما ظهر من القهر في موضعه سقط حكم يدها في نفسها .
وكذلك إذا جاء معه برقيق فقالوا : نحن أحرار فقال هو : بل هم عبيدي وقد جاءوا معه غير مقهورين ولا مربوطين فالقول قولهم سواء نادوا بالأمان حين انتهوا إلى مسالح المسلمين أو لم ينادوا لأنهم لو جاءوا وحدهم بهذه الصفة كانوا آمنين .
فكذلك إذا جاءوا معه .
فإن أقام عليهم ببينة من المسلمين أو من أهل الذمة أو من المستأمنين عدول أنه كان أسرهم وقهرهم قبلت@(1/236)
البينة وكانوا عبيداً له لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم .
ولو أقروا أنه قهرهم في دار الحرب أو علمنا ذلك معاينة كانوا عبيداً له وفي زعم الخصوم أنهم من أهل الحرب مستأمنون وشهادة الحربي المستأمن على المستأمن مقبولة فلهذا قبلت شهادة الكل وإن كان انتهى إلى أدنى مسالح المسلمين وليس بقاهر لهم ولا يعلم أنهم في يده فنادوا بالأمان حيث ينادون به أو لم ينادوا فهم آمنون لا سبيل عليهم كما لو جاءوا وليس معهم مسلم وإن لم ينادوا بالأمان وكانوا رجالاً ولم يظهر منهم أمر يدل على أنهم جاءوا مستأمنين ولا يعلم أنه قاهر لهم أيضاً فهو بمنزلة حربي خرج إلى دارنا بغير أمان وقد بينا الحكم في ذلك والحاصل أنه لما لم يكن له يد عليهم حساً فهم في يد أنفسهم حقيقة وحكماً كان خروجهم دونه في الحكم سواء ولو كان هذا المسلم خرج ومعه امرأة ولم يستأمن لها فأراد المسلمون أخذها لتكون فيئاً فقال : هذه امرأتي وصدقته بذلك فهي امرأته لتصادقهما على النكاح في حال لم يتقرر لأحد فيها حق وإذا ثبت النكاح كانت حرة ذمية لأنه حين خرج بها بناء على النكاح الذي بينهما فقد أمنها وأمان الواحد من المسلمين بعدما خرج من قهر أهل الحرب كأمان جماعتهم ثم هي مستأمنة تحت مسلم فتصير ذمية بمنزلة المستأمنة في دارنا فتصير هي من أهل دارنا تبعاً له وكذلك لو خرج بسبي فقال : هؤلاء عبيدي وإمائي وصدقوا بذلك لأنهم@(1/237)
تصادقوا على ذلك قبل أن يثبت الحق فيهم للمسلمين ومعنى الحاجة والضرورة يتحقق هاهنا فالمستأمن في دارهم أو الذي أسلم يخرج عبيده وزوجته ولا يمكنه أن يستصحب شاهدين مع نفسه أنهم له فلا بد من بناء الحكم على قولهم إذا تصادقوا عليه وإن كذبوه كانوا فيئاً لأنهم من أهل الحرب دخلوا في دارنا بغير أمان وإن قالوا : نحن عبيد وإماء لأهل الحرب خرجنا نريد الأمان ولسنا لهذا الرجل فإن كان قاهراً لهم حين أخرجهم فهم له لأنهم أقروا بالرق على أنفسهم وذلك يسقط اعتبار يدهم في أنفسهم وقد ظهر سبب استحقاقه لهم وهو القهر في موضعه وإن
لم يعلم أنهم في يده .
فإذا كانوا نادوا بالأمان حين دنوا من أدنى المسالح فهم آمنون لأنه لم يثبت له سبب الاستحقاق منهم وهو اليد القاهرة عليهم وقد نادوا بالأمان في موضعه فالظاهر أنهم صادقون جاءوا مستأمنين ولو جاءوا بهذه الصفة وحدهم كانوا آمنين على ما بينا زن المستأمنين لا يقدرون على طلب الأمان إلا بهذه الصفة فكذلك إذا جاءوا معه وكذلك إن كان المسلمون يرونهم على موضع بعيد لا يسمعون فيه النداء بالأمان فوقع في قلب المسلمين أنهم يريدون الأمان فلما بلغوا إلى الموضع الذي يسمع فيه النداء بالأمان نادوا أو لم ينادوا فهم آمنون لأنهم جاءوا منقادين وذلك دليل على أنهم طالبون للأمان والدليل في مثل هذا كالصريح فإن زعموا أنهم عبيد لأهل الحرب فهم عبيد كما ذكروا يمكنون من الرجال إلى مواليهم كما هو حكم الأمان وإن قالوا : جئنا مراغمين لموالينا نريد الذمة أو نريد الإسلام فهم أحرار لا سبيل لمواليهم عليهم ولو@(1/238)
جاءوا مستأمنين وأقاموا البينة من المسلمين على ذلك فكذلك لأنهم أحرزوا أنفسه بدارنا على مواليهم ولو قهروا مواليهم فأحرزوهم بدارنا ملكوهم فكذلك إذا أحرزوا أنفسهم يملكون رقابهم .
ومن ملك نفسه عقت ولا ولاء عليه لأحد لأنه عتق بملك نفسه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الطائف : " أيما عبد خرج إلينا مسلماً فهو حر " فخرج إليه سبعة أعبد فأعتقهم وكانوا يسمون عتقاء الله ثم لا فرق بين أن يخرجوا مسلمين أو ذمة لأن الذمي من أهل دارنا كالمسلم فيتم فيهم إحراز أنفسهم بالطريقين .
وإن قدم مواليهم فزعموا أنهم أذنوا لهم في الخروج إلى دار الإسلام للتجارة فالقول قول الموالي لأنهم تصادقوا على أنهم كانوا مملوكين لهم ثم ادعوا سبب زوال ملك الموالي عنهم وهو المراغمة فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة بمنزلة العبد يدعي أن مولاه أعتقه وهذا لأن الموالي يتمسكون بما هو الأصل والأصل أن العبد غير مراغم والقول قول من يتمسك بالأصل مع يمينه .
فيستحلف الإمام الموالي بالله إن طلب العبيد ذلك ثم إذا حلفوا أنهم عبيد لهم وإن كانوا أسلموا أجبروا على بيعهم لأن العبد المسلم كما لا يترك في يد الذمي لا يترك في يد الحربي ليرجع به إلى دار الحب وفي الإجبار على البيع هاهنا مراعاة حق العبد من حيث إزالة ذلك الكافر عنه والمستأمن يؤخذ بمثال هذا كالذمي فأما من صار منهم قبول الذمة مقصوداً ألا ترى أن الحربي المستأمن في دارنا إذا كان معه عبد أدخله مع نفسه فطلب العبد أن يكون ذمة لنا لا نجيبه إلى ذلك فإن كان الإمام أخذ منه الخراج قبل رده على مولاه لأنه كسب عبده ولا بأس بأن يأخذ منه الخراج قبل أن يأتي مولاه لأنه@(1/239)
يبني الحكم على الظاهر وهو في الظاهر مصدق فيما يقول ما لم يأت من يكذبه وهذا كله إذا علم أنه كان عبداً له بحجة سوى إقراره وإن لم يعلم ذلك إلا بإقرار العبد فإن كان حين نادى بالأمان أو رآه المسلمون أخبر أنه عبد جاء غير مراغم لمولاه صدق أيضاً ودفع إلى مولاه لأنه أقر بذلك قبل أن يصير من أهل دارنا وقبل أن يتعلق حق المسلمين به فلا تتمكن التهمة في إقراره .
ولو لم يكن أقر أنه عبد حتى صار ذمة وأخذ منه الخراج ثم جاء مستأمن فادعى أنه عبده بعثه إلى دار الإسلام للتجارة بأمان وصدقه بذلك الذمي فإن الإمام لا يصدقه على ما قبض من الخراج ليرده ولا على رقبته ليعيده إلى دار الحرب ولكنه يجعله عبداً له بإقراره على نفسه لأن الإقرار خبر محتمل بين الصدق والكذب فلا يكون حجة فيما يتمكن فيه التهمة فيكون حجة على المقر فيما لا تهمة فيه وفي صيرورته ملكاً للمقر له لا تهمة فيه فأما في رده إلى دار الحرب فتتمكن التهمة لأنه صار من أهل دارنا ممنوعاً من الرجوع إلى دار الحرب فلعله واضع هذا الرجل حين لم يعجبه المقام في دارنا حتى يقر له بالرق فيرده إلى دار الحرب وليس من ضرورة صيرورته عبداً له أن يتمكن من رده إلى دار الحرب كما لو اشترى عبداً ذمياً في دارنا أو أسلم عبده فيجبر على بيعه ولا يمكن من أن يرده إلى دار الحرب ولا إشكال أن ما قبض منه من الخراج قد صار حقاً للمقاتلة فلا يصدق هو في إيجاب رد ذلك على الحربي .
فإن أقام الحربي بينة من المسلمين على ما ادعى من الرق فإنه يدعه ليرده إلى دار الحرب ويرد عليه ما أخذه من الخراج لأنه أثبت حقه بما هو حجة على المسلمين .
وإن شهد على ذلك قوم من أهل الحرب مستأمنون لم يقبل شهادتهم ولم يقض عليهم بالرق إذا كان هو منكراً لذلك لأنه ذمي وشهادة الحربي لا تكون حجة على الذمي .@(1/240)
وإن شهد عليه قوم من أهل الذمة جعله عبداً له لأن في هذا الحكم الشهادة تقوم عليه وشهادة أهل الذمة حجة على الذمي .
ولم تقبل شهادتهم في رد الخراج عليه ولا في رده إلى دار الحرب لأن في هذا الحكم الشهادة تقوم على المسلمين وشهادة أهل الذمة ليست بحجة على المسلمين وليس من ضرورة ثبوت أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر ولو كان أسلم لم يقبل عليه إلا شهود مسلمون فإذا قضي بشهادتهم جعله عبداً له وأجبره على بيعه كما لو أقر العبد بذلك .
قال : فإذا استأمن الحربي إلى أهل الإسلام فآمنوه فخرج معه بامرأة وبأطفال صغار فقال : هذه امرأتي وهؤلاء ولدي ولم يكن ذكرهم في الأمان فالقياس في هذا أنهم فيء غيره لأنه طلب الأمان لنفسه دون غيره وحكم الأمان لا يتعدى إلى من كان منفصلاً عنه ولأنه لم يوجد منه استئمان لهؤلاء إشارة ولا دلالة ولكن هذا قبيح فيجعلون جميعاً آمنين بأمانه استحساناً لأنه إنما يستأمن إلينا فراراً منهم لمعنى هو أعلم به أو ليقيم في دارنا زماناً ويتجر بما يتم له هذا المقصود إذا خرج بزوجته أولاده الصغار فإن قلت : المرء مع عياله فهذا دليل استئمانه لهم ثم هم تبع له من حيث إنه يعولهم وينفق عليهم والتبع يصير مذكوراً بذكر الأصل إلا إذا كان هناك عرف يمنع منه والعرف هنا مؤيد لهذا المعنى ألا ترى أن الذمي في دارنا يؤدي الجزية ولا جزية على اتباعه وذراريه من النساء وأولاده الصغار وكذلك لو جاء معه بسبي كثير فقال هؤلاء رقيقي وصدقوه أو كانوا صغاراً لا يعبرون عن أنفسهم أو كان معه دواب عليها متاع ومعها قوم يسوقونها فقال : هؤلاء غلماني فصدقوه في ذلك كان مصدقاً مع يمينه لما بينا أن الظاهر شاهد له فإنه@(1/241)
يستصحب ماله سواء جاء للتجارة أو على قصد الفرار منهم ولو جاء وحد ه لا شيء معه هلك جوعاً في دارنا وإنما طلب الأمان لنفسه حتى يتمكن من القرار في دارنا زماناً فدخل ماله في ذلك تبعاً إلا أن الإمام يستحلفه لتنتفي تهمة الكذب بيمينه ومن كذبه من الرقاب الذين معه كان فيئاً وجميع ما معه لأن الرق لم يثبت في حقه إذا كذبه والتبعية في الأمان تبتنى على ذلك فكان هذا حراً حربياً في دارنا لا أمان له فيكون فيئاً مع ما معه .
وإن قال : ليست الدواب دوابي ولا الذين يسوقونها بغلماني ولكن المتاع متاعي استأجرتهم ليحمل ذلك معي فصدقوه فالقياس أنهم فيء ودوابهم لأنه لم يستأمن لهم ولا استأمنوا لأنفسهم إشارة ولا دلالة .
وفي الاستحسان هم آمنون مع دوابهم لأن المستأمن لا يمكنه أن يأتي بالأمتعة إلى دارنا على ظهره ليجر فيها ولكن من عادة التجار الكراء في مثل هذا وثبوت الأمان لهم من جملة حوائجه ومما يتم به مقصوده فيتعدى حكم الأمان إليهم بهذا الطريق كما يتعدى إلى زوجته وولده ويصير كأنه استأمن لهم وإن كان معه رجال فقال : هؤلاء أولادي فهم فيء لأنهم أصول قد خرجوا بالبلوغ من أن يكونوا تبعاً له من حكم الأمان كما أنهم في حكم الذمة والإسلام لا يتبعونه وكان ينبغي لهم أن يستأمنوا لأنفسهم فإذا لم يفعلوا كانوا فيئاً وإن كانوا صغاراً يعبرون عن أنفسهم فقال : هم ولدي وصدقوه فهم آمنون لأنهم أتباعه ما لم يبلغوا ألا ترى أنهم يتبعونه في الذمة والإسلام وإن كانوا يعبرون عن أنفسهم فكذلك في الأمان وإن كذبوه فهم فيء للمسلمين لأن نسبهم لا يثبت منه عند تكذيبهم إذا كانوا يعبرون عن أنفسهم وقد زعموا أنهم صاروا فيئاً حين دخلوا بغير أمان وقول من يعبر عن نفسه في هذا مقبول وإن كان صغيراً كمجهول الحال إذا أقر على نفسه بالرق لإنسان وصدقه المقر له وإن كان معه صغار لا يعبرون عن أنفسهم فقال : سرقتهم من دار الحرب وأخرجتهم أو هم أيتام كانوا في عيالي@(1/242)
فأخرجتهم معين فهم له لا سبيل عليه لأن يده عليهم مستقرة إذا كانوا لا يعبرون عن أنفسهم فيجب قبول قوله فيهم وقد زعم أنه استولى عليهم في دار الحرب بطريق السرقة فهم مماليكه وأتباع له أو أنهم في عياله أتباعه بسبب إنفاقه عليهم وما كانوا يجيئون إلى دارنا إلا معه فهم بمنزلة أهله .
ولو خرج بنساء قد بلغن فقال : هؤلاء بناتي وصدقنه فهن فيء في القياس لأن معنى التبعية يزول ببلوغهن حتى لا يصرن مسلمات بإسلامه فهن بمنزلة الذكور البالغين من أولاده .
وفي الاستحسان هن آمنات لأنهن في عياله ونفقته ما لم يتحولن إلى بيوت الأزواج وبنى هذا الحكم على الظاهر فالنساء لا يستأمن لأنفسهن عادة ولكن يكن مع آبائهن أو أزواجهن بخلاف الذكور من الأولاد لأن الذكور بعد الإدراك مقاتلة فلا يحصل الأمان لهم إلا بالاستئمان مقصوداً والنساء آمنات عن القتل وإنما حاجتهن إلى الأمان لدفع الاسترقاق عن أنفسهن ويمكن إثبات ذلك لهن بالاتباع لآبائهن في حكم الأمان .
وعلى هذا الأمهات والجدات والأخوات والعمات والخالات ومن معه منهن فهن آمنات تبعاً له بخلاف الآباء والأجداد فإنه لا يتبعه في الأمان أحد من المقاتلة إلا عبده وأجيره استحساناً لتحقق حاجته إلى استصحابهم مع نفسه إما للتجارة فيهم أو لنقل أمتعة التجارة بهم وكل من كان آمناً بأمانه نعلم أنه كما قال إذا ادعى ذلك وصدقه الآخر فهو آمن لتصادقه عليه قبل ثبوت حق المسلمين فيه وإن كذبه ثم صدقه كان فيئاً لأن بتكذيبه يثبت حق المسلمين فيه فتصديقه بعد ذلك إبطال لحق المسلمين وهو مناقض في ذلك وإن صدقه ثم كذبه كان فيئاً أيضاً لإقراره على نفسه بثبوت حق الاسترقاق فيه@(1/243)
وذلك مقبول منه .
إلا رقيقه وأولاده الصغار الذين يعبرون عن أنفسهم أما رقيقه فلأن ملكه تقرر فيهم بالتصديق فلا يبقى لهم قول في إبطال ملكه .
وأما أولاده فقد ثبت نسبهم بالتصديق وتأكدت حريتهم باعتبار أمانه ولا قول لهم بعد ذلك في الإقرار بالرق على أنفسهم بمنزلة معروف النسب وحر الأصل إذا أقر بالرق على نفسه وهو صغير يعبر عن نفسه فإنه لا يقبل قوله .
أما ابنته وزوجته وأخته وعمته إذا كذبت بعد التصديق كانت فيئاً لإقرارها بالرق على نفسها فإن قيل : فقد ثبت نسب الابنة منه حين صدقته قلنا : نعم ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسبها منه بطلان إقرارها بالرق على نفسها والبالغة مقبولة القول فيما يضرها بخلاف الصغير الذي يعبر عن نفسه فإنه مقبول القول فيما ينفعه لا فيما يضره ولا يمكن إثبات الرق بإقرار بعدما ظهرت حريته بتصديقه فإن قيل : أليس أن هذا الصغير لو كان في يد رجل وهو مجهول الحال فأقر بأنه عبده كان عبداً له قلنا : نعم ولكن لا بإقراره بل بدعوى ذلك الرجل إلا أن من يعبر عن نفسه لم تكن يد الغير مستقرة عليه فإذا ادعى أنه حر وجب الأخذ بقوله وحين قال : أنا عبد له فقد تقررت يد ذي اليد عليه فيثبت الق بدعوا ذي اليد وباعتبار يده كما لو كان ممن لا يعبر عن نفسه فأما أن ثبت الرق بإقراره فلا لأن إقرار الصبي بما يتردد بين النفع والضر لا يصح فكيف يصح إقراره بما يضره .
ولو أن المسلمين حاصروا حصناً فطلب إليهم رجل الأمان على أن ينزل إليهم فأعطوه ذلك فخرج ومعه امرأته وولده الصغار ورقيقه وماله فذلك كله فيء غيره لأن هذا قد صار مقهوراً خائفاً على نفسه وإنما يطلب الأمان لينجو بنفسه وفي تحصيل هذا المقصود لا حاجة إلى اتباع شيء من هؤلاء معه بخلاف الأول فإنه كان في داره غير خائف وإنما استأمن إلى دارنا ليسكن فيها ويتجر ولا يتم له هذا المقصود إلا باستصحاب هؤلاء .
والثاني : أن حق المسلمين قد ثبت في جميع ما في الحصن هنا فإن المحصور كالمأخوذ فلهذا يتوقف حكم تصرفاته فالحاجة إلى إبطال حق المسلمين عنهم بعدما ثبت وذلك بالنص يكون لا بدلالة الحال فأما الذي استأمن إلى دارنا لم يثبت حق المسلمين فيمن استصحبهم معه وإنما حاجتهم إلى منع ثبوت حق الاسترقاق فيهم ودلالة@(1/244)
الحال يكفي لذلك ولكن هذا المحصور إن خرج إلينا بسلاح كما يلبس الناس راكباً على دابة ومعه نقد بقدر نفقته في حقويه فذلك سالم له استحساناً لأنه لا يمكنه أن يخرج عرياناً ولو فعل ذلك أنكرنا ما عليه ويحتاج إلى لبس السلاح أيضاً ليرى أصحابه أنه يخرج إلى القتال أو يدفع شرهم عن نفسه إن روموه بعدما خرج وربما لا يمكنه أن يمشي فيحتاج إلى أن يخرج راكباً على دابته ويحتاج إلى نفقته أيضاً لأنه يعلم أنه لا يعطي شيئاً في عسكر المسلمين فإنه يكفيه منهم أن ينجو رأساً برأس ولو لم يستصحب نفقته مات جوعاً فلا يحصل مقصوده فباعتبار هذا المعنى يصير هذا القدر مستثنى من جملة ما يستصحبه مع نفسه فيسلم له كما أن الطعام والكسوة مما يشتريه كل واحد من المتفاوضين يصير مستثنى عن مقتضى الشركة لعلمنا بوقوع الحاجة إليه استحساناً .
ثم أوضع الفرق بين المحصور وبين الذي جاء مستأمناً إلى دارنا فقال : ألا ترى أن المحصور لو نادى بالأمان وانحط إلى المسلمين من غير أن يؤمنوه كان فيئاً والذي جاء إلى أدنى مسالح المسلمين إذا نادى بالأمان ولم يقل المسلمون له شيئاً كان آمناً فبهذا تبين أن الدلالة هاهنا تكفي وفي المحصور لا .
ولو أن المسلمين أمنوا رجلاً في الحصن ولم يذكر خروجه إليهم لأمر ينتفع به المسلمون من دلالة أو غيرها فهو آمن على نفسه وماله وأولاده الصغار لأنهم أمنوه ليسكن في موضعه وإنما يتأتى له السكنى بهذه الأشياء فيتبعونه في الأمان بخلاف النازل من الحصن فإنه استأمن لينجو بنفسه .
ولو تقدمت مسالح المسلمين إلى أهل الحرب أن من استأمن منكم إلى دارنا أو إلى عسكرنا في تجارة فهو آمن وحده دون ما يأتي به فعلموا بذلك فمن جاء منهم بعد ذلك بسبي لم يبينه للمسلمين فهو فيء كله لا يسلم له إلا ما يسلم للمحصور الذي يخرج استحساناً لأنهم قد نبذوا إليهم الأمان فيما يأتون به وإذا كان النبذ بعد الأمان يرفع حكم الأمان@(1/245)
فاقترانه يمنع ثبوت حكمه ولأنا إنما كنا نثبت الأمان له فيما يأتي به بطريق الدلالة ولا دلالة مع التصريح بخلافه ألا ترى أنهم لو أعلموهم أنه لا أمان لمن جاء منهم بطلب الأمان ثم جاءوا بعد ذلك لم يأمنوا إلا أن يعطيهم المسلمون الأمان فعرفنا بأن حالهم بعد هذا النبذ كحال المحصور .
ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربي ينادي بالأمان ومعهما مال فهو في أيديهما أو على دابة ممسكان لها فقال المسلم : هذا عبدي والمال والدابة لي وقال المستأمن : كذب بل جئت مستأمناً والمال مالي فإن كان الحربي مقهوراً برباط أو غيره فالقول قول المسلم لأنه صار عبداً له حين جاء به مقهوراً وليس لعبد يد معارضة ليد مولاه في المال .
وإن كان غير مقهور فهو حر مستأمن لكون الظاهر شاهداً له ثم يد كل واحد منهما في المال معارضة ليد صاحبه فيكون المال والدابة بينهما نصفين وإن كان أحدهما راكباً عليها والآخر ممسكاً بلجامها فاليد للراكب دون الممسك باللجام أيهما كان لأن المركوب نفع للراكب وما على الدابة فهو في يد من في يده الدابة .
وكذلك إن كان ثوباً وأحدهما لابسه والآخر ممسك به فالثوب للابس دون الممسك به فهو أحق به وكذلك اليد للراكب دون السائق والقائد للدابة فإذا كان المال في يد أحدهما فالقول فيه قوله دون صاحبه وإن كان أحدهما يقود الدابة والآخر يسوقها فالدابة والمال للقائد لأنه ممسك بلجام الدابة فهي وما عليها في يده دون السائق .
فإن كانا خرجا إلى معسكرنا في دار الحرب فقال المستأمن : هو مالي وقال المسلم : هو مالي وهبه لي أهل الحرب أو اغتصبته منهم وقد كان المسلم أسيراً فيهم فإن المال في أيديهما فنصفه للمستأمن باعتبار يده ونصفه فيء لجماعة العسكر لأن هذا@(1/246)
النصف في يد الأسير وقد أحرزه بمنعة الجيش فهو فيما يدعى في الهبة يريد إبطال حق جيش المسلمين في المشاركة معه .
ولا يصدق على ذلك إلا ببينة من المسلمين فإن أقام بينة من أهل الذمة أو من المستأمنين على ما ادعى قضي له على المستأمن بجميع المال لأن ما أقام من البينة حجة على المستأمن .
وذلك يكون كله فيئاً لجماعة العسكر وهو فيهم لأن ما أقام من البينة ليس بحجة في إبطال حق المسلمين فلا يثبت ما ادعى من الهبة والصدقة في حق المسلمين وإن شهد له بذلك قوم من المسلمين فالمال سالم له لأنه أثبت ما ادعى بما هو حجة على المسلمين فيجعل كالثابت معاينة .
وإن كان المال في يد المستأمنين خاصة وشهد المسلمون أنه كان للأسير تصدق به عليه وأنه أودعه هذا المستأمنين خاصة وشهد المسمون أنه كان للأسير تصدق به عليه وأنه أودعه هذا المستأمن فإن شهدوا أنه أودعه إياه في منعة أهل الإسلام رد المال عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة .
وإن شهدوا أنه أودعه إياه في منعة أهل الحرب لم يقض على المستأمن بشيء من ذلك لأن هذا سبب كان بينهما بالتراضي في دار الحرب ألا ترى أن مسلماً ومستأمناً لو دخلا دار الإسلام فادعى أحدهما على صاحبه أنه أدانه ديناً في دار الحرب ألا ترى أن مسلماً ومستأمناً لو دخلا دار الإسلام فادعى أحدهما على صاحبه أنه أدانه ديناً في دار الحرب أو أودعه وديعة وأقام بينة مسلمين على ذلك لم يقض القاضي بينهما بشيء إلا أن يسلم المستأمن أو يصير ذمياً فحينئذ يسمع خصومة كل واحد منهما على صاحبه لأنه صار من أهل دارنا ملتزماً لأحكامنا وكذلك لو أن مستأمنين في دارنا ادعى أحدهما على صاحبه ديناً أو وديعة فإن كانت المعاملة بينهما في دارنا تسمع الخصومة لأنه مأمور بالإنصاف والنظر بينهما مدة مقامهما في دارنا وإن كانت المعاملة في دار الحرب لم تسمع الخصومة في@(1/247)
ذلك إلا أن يسلما أو يصيرا ذمة وبعد ذلك إن ادعى أحدهما على صاحبه أنه غصبه شيئاً في دار الحرب لم تسمع هذه الخصومة أيضاً لأنها دار نهبة فكل من استولى على شيء ثم أسلم عليه أو صار ذمياً كان سالماً له بخلاف الدين والوديعة فإن ذلك كانت معاملة جرت بينهما بالتراضي فتسمع الخصومة فيهما بعد ما صارا من أهل دارنا .
وكذلك المسلم والمستأمن إذا خرجا وقد عصب أحدهما صاحبه شيئاً قائماً بعينه ثم أسلم المستأمن لم يسمع القاضي الخصومة في ذلك لأن المسلم إن كان هو الغاصب فقد استولى على مال المباح والحربي إن كان هو الغاصب فقد تم إحرازه له بخلاف الدين والوديعة فإن الاستيلاء والإحراز فيه لا يتحقق فتسمع الخصومة فيه لهذا ولو خرج المسلم والمستأمن وفي أيديهما بغل عليه مال كل واحد منهما يقول : مالي وفي يدي فقامت لأحدهما بينة من المسلمين .
قضى القاضي به له لأنه نور دعواه بالحجة وتبين بهذه المسألة خطأ بعض مشايخنا فيما قال : إن كل واحد من المتداعيين إذا قال ملكي وفي يدي لا يسمع القاضي هذه الخصومة ويقول : إذا كان ملكك في يدك فماذا تطلب مني فقد نص هنا على قبول البينة من أحدهما ووجهه أنه محتاج إليها لدفع منازعة الآخر والبينة لهذا المقصود مقبولة وهو يقول للقاضي : أطلب منك أن تمنعه من مزاحمتي وتقرره في يدي فإن قيل لماذا لم يجعل هذا بمنزلة ما لو كان في يد أحدهما فإن هناك لا تسمع الخصومة فيه وهنا في يد كل واحد منهما نصفه فينبغي أن لا تسمع الخصومة بينهما فيه ما لم يصر المستأمن من أهل دارنا قلنا : في هذا الموضع يدعي كل واحد منهما أنه في يده في دار الإسلام أو في عسكر المسلمين فلا بد من أن يسمع الخصومة فيه بينهما بمنزلة ما لو ادعى أحدهما على صاحبه أنه أخذه منه في دار الإسلام فإن شهدت الشهود أن الغصب وثب في منعة أهل الحرب حتى تعلق بالبغل مع صاحبه قبل أن يستأمنا فإنه يسمع هذه الخصومة أيضاً ويقضي به لصاحبه لأنه لم يخرج من يد صاحبه ولم يحرزه غاصبه ما دامت يد صاحبه معارضة ليده@(1/248)
بخلاف ما إذا أخرجه نم يد صاحبه في منعة أهل الحرب لأن هناك قد تم زوال يد صاحبه وقد تم الإحراز من الغاصب له فلهذا لا يقضي للمغصوب منه عليه بشيء وإن أسلما .
وإن قال المسلم الذي كان أسيراً في دارهم : هذا البغل وهذا المال كان لهذا المستأمن أخذته منه في دار الحرب أو بعد ما خرجنا وقال المستأمن : البغل وما عليه لي وهذا كاذب والبغل في أيديهما ففي القياس نصفه للمستأمن باعتبار يده ونصفه فيء لأهل العسكر إذا أخرجه إليهم لأن الأسير بإقراره يريد إبطال حق أهل العسكر بعدما ثبت حقهم وهو غير مقبول القول في حقهم وفي الاستحسان يكون ذلك كله للمستأمن لأن حق أهل العسكر إنما ثبت باعتبار يد الأسير ولا بد من قبول قول الأسير في بيان جهة ثبوت يده على هذا المال وقد ثبت بقوله : إن أصل المال كان للمستأمن فما بقيت يده لا تتقرر يد الأسير عليه فلا يكون محرزاً له فلهذا كان للمستأمن سواء خرجا إلى المعسكر أو إلى دار الإسلام ولو كان ذلك في يد الأسير خاصة والمسألة بحالها فإن صدقه المستأمن أنه أخذه منه في دار الحرب فلا سبيل للمستأمن عليه لأنه قد تم استيلاء المسلم عليه حين انقطع يد المستأمن عنه فإن أخرجه إلى المعسكر فهو فيء لجماعتهم ون أخرجه إلى دار الإسلام فهو له خاصة بمنزلة ما يخرجه المتلصص ولا خمس فيه .
وإن قال المستأمن : إنما أخذه مني في منعة المسلمين فالقول قول المستأمن لأنهما تصادقا أن أصل الملك كان للمستأمن وبأمانه صار ملكه مغصوباً محترماً فالأسير يدعي سبب تملك ماله عليه وهو منكر فالقول قوله مع يمينه بالله ولأن أخذه من المستأمن حادث فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات وهو ما بعد حصولهما في دار الإسلام كمن ادعى تاريخاً سابقاً في الآخذ لا يقبل في قوله من غير حجة والله سبحانه هو الموفق .@(1/249)
باب ما يكون أماناً وما لا يكون
وإذا حاصر المسلمون حصناً في دار الحرب فناداهم رجل من المسلمين فقال : أنتم آمنون وكان نداؤه إياهم في موضع لا يسمعون ذلك فليس هذا بأمان لأن المقصود من الكلام إسماع المخاطب فإذا علم أنهم لا يسمعون كلامه كان لاغياً في كلامه لا معطياً الأمان لهم ولو كان هذا أماناً لكان الواحد من المسلمين في هذه البلدة يؤمن الروم والترك والهند فلا يسع للمسلمين قتالهم حتى ينبذوا إليهم فكل أحد يعرف أن هذا ليس بشيء فإن قيل : في الأمان إسقاط الحد أو تحريم القتل والاسترقاق وهذا يتم بالمتكلم به وحده بمنزلة الطلاق والعتاق قلنا : لا كذلك بل فيه إثبات صفة الأمن لهم بكلام ألا ترى أنهم لو ردوا أمانه لم يثبت الأمان ولا يكون إثبات صفة الأمن لهم بكلامه في موضع يعلم أنهم لا يسمعونه ولو ناداهم بالأمان بحيث يسمعون الكلام وهو النداء إلا أن العلم قد أحاط أنهم لم يسمعوا بأن كانوا نياماً أو متشاغلين بالحرب كان ذلك أماناً حتى لا يحل قتالهم إلا بعد النبذ إليهم لأن حقيقة سماعهم باطن يتعذر الوقوف عليه وفي مثله إنما يتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه وهو أن يكون منهم بحيث يسمعون نداءه وإذا قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً وهذا لأن التحرز عن الغرور واجب ومعنى الغرور يتمكن إذا كان المنادي منهم بحيث يسمعون نداءه ولا يتحقق ذلك إذا كان المنادي منهم بحيث لا يسمعون نداءه قال : ألا ترى أنك لو انتهيت إلى رجل منهم نائماً على فراشه فناديته@(1/250)
بالأمان وأنت قريب منه بحيث يسمع كلامك فلم يسمع ذلك لنومه أو لصمم كان به فإنه يكون ذلك أماناً وهذا على أصل أبي حنيفة أظهر لأنه يجعل النائم كالمنتبه على ما قال في مسألة الخلوة والصيد الذي يقع عند النائم وقال في كتاب الإيمان : إذا حلف لا يكلم فلاناً فناداه أو أيقظه فهو حانث في يمينه وفي بعض النسخ : فناداه وأيقظه وبهذه المسألة تبين أنه سواء أيقظه أو لم يوقظه إذا ناداه
وهو منه بحيث يسمع كلامه فإنه يكن متكلماً له .
ولو كتب كتاباً فيه أمان ورمى به إليهم فنزلوا على ذلك كانوا آمنين لأن الكتاب أحد اللسانين فإن البيان بالبيان كهو باللسان ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ الرسالة ثم كتب إلى الآفاق وكان ذلك تبليغاً منه ولأنهم لما وقفوا على ما في الكتاب نزلوا على ذلك فلو لم يجعل ذلك أماناً لأدى إلى الغرور وقد بينا فيه حديث عمر رضي الله عنه وإن وجدوا كتاباً فيه أمان لم يرم به إليهم أحد فليس هذا بأمان لأن الكتاب جماد لا يتصور منه الأمان وإنما يكون من الكاتب وهو غير معلوم والأمان من المجهول لا يتحقق ثم لعل الكتاب مفتعل أو كتبه بعض من لا يصح أمانه من أهل الذمة فلهذا لا يثبت الأمان لهم حتى يعلم أن الرامي به مسلم ببينة تقوم من المسلمين على ذلك لأن حق المسلمين قد ثبت في استرقاقهم وهذه البينة تقوم لإبطال حقهم .
فإن قال مسلم : أنا رميت به إليهم فإن كان قال ذلك قبل أن يظفر بهم المسلمون فهو مصدق لأنه أخبر بما يملك إنشاءه ولا تتمكن التهمة في خبره ولأن حق المسلمين لم يتقرر فيهم بعد فيكون تأثير كلامه في منع ثبوت حق المسلمين فيهم والواحد من المسلمين يملك ذلك .
وإن قال ذلك بعدما أعطى القوم بأيديهم لم يصدق على ذلك حتى يشهد الشاهدان من المسلمين سواء أنه رمى إليهم لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه وقصد بإخباره إبطال حق ثابت للمسلمين فيهم فلا يقبل قوله على ذلك ولا شهادته لأنه شهد على فعل نفسه وذلك دعوى لا شهادة .
فإن شهد سواه مسلمان@(1/251)
يثبت الأمان لهم وردوا حتى يبلغوا مأمنهم وإن لم يقم بينة فقسموا ووقع بعضهم في سهم المقر كان حراً لإقراره بحريته وكونه أمناً وإقراره على نفسه في ملكه صحيح إلا أنه لا يترك ليرجع إلى دار الحرب لأن احتباسه في دارنا على التأبيد من حق المسلمين وإقراره عليهم غير مقبول .
فيجعل ذمياً إن أبى أن يسلم لأن من احتبس في دارنا على التأبيد يضرب عليه الجزية بمنزلة الذمي على ما يأتيك بيانه وكذلك لو رأى الإمام بيعهم فاشتراهم المقر بالأمان فعليه الثمن لأنهم في الظاهر أرقاء ثم يكونون أحراراً في يديه بمنزلة من اشترى عبداً قد أقر بحريته ولا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب لما بينا .
ولو أن مسلماً قال للمحصورين : إن الأمير قد أمنكم هو كاذب في مقالته ففتحوا حصنهم كانوا آمنين لأنه أخبرهم بأمان صحيح وهو يملك إنشاء مثله فيكون إخباره به إظهاراً لأمان سابق إن كان وإنشاء إن لم يكن سبق الأمان بمنزلة قضاء القاضي في العقود على أصل أبي حنيفة ثم مقتضى كلامه أنتم آمنون بأمان الأمير فافتحوا الباب .
ولو صرح بهذا كانوا آمنين بأمانه فكذلك إذا ثبت بمقتضى كلامه وإن كان المخبر بذلك لهم ذمياً أو مستأمناً كانوا فيئاً لأن المخبر به إذا كان كذباً فبالإخبار لا يصير صدقاً ولا يمكن أن يجعل هذا أماناً من جهته بمقتضى كلامه لأنه لا يملك إنشاء الأمان وإن كان الأمير قال : أمنتهم في مجلسه فلم يبلغهم ذلك حتى نهاهم الأمير أن يبلغوهم فذهب رجل سمع ذلك من الأمير فأبلغهم إياه فإن كان الذي قال لهم ذلك@(1/252)
مسلم فهم آمنون لأنه لو كان كاذباً في أصل الخبر كانوا آمنين من جهته كما بينا فإذا كان صادقاً في أصل الخبر إلا أنه أخبر به بعد نهي الأمير أولى أن يكونوا آمنين فإن أبلغهم ذمي ذلك فإن كان سمع مقالة الأمير الأولى ولم يسمع مقالته الثانية فالقوم آمنون لأن قول الإمام ذلك في مجلسه أمر لكل سامع بالتبليغ إليهم دلالة والثابت بالدلالة كالثابت بالإفصاح وبعد ثبوت ولاية التبليغ للسامع لا ينعزل ما لم يبلغه النهي بمنزلة عزل الوكيل والحجر على العبد المأذون لا يثبت في حقه ما لم يعلم به فكان هذا مبلغاً أمان الإمام إليهم بأمره وعبارة الرسول في مثل هذا كعبارة المرسل وإن كان سمع المقالتين جميعاً والمسألة بحالها فهم فيء لأنه حين بلغه النهي صار معزولاً عن التبليغ وارتفع حكم ذلك الأمر في حقه وهذا لأن النهي بمنزلة النبذ لذلك الأمان إلا أنه كان بعد وصول الأمان إليهم لا يثبت النبذ في حقهم ما لم يعلموا به فإن كان قبل الوصول إليهم يثبت حكمه قبل علمهم به ألا ترى أن من أذن لعبده في أهل سوقه ثم حجر عليه في بيته لا ينحجر ما لم يعلم به أهل سوقه ولو أذن له في بيته ثم حجر عليه قبل أن يعلم أهل سوقه بالإذن كان ذلك حجراً وعلى هذا لو قال الأمير لذمي : اذهب فأخبرهم أني قد أمنتهم ثم قال له : ارجع ولا تخبرهم أو كان كاتبه ذمياً فقال : اكتب إليهم بأمانهم فأعلمهم ثم قال : لا تكتب فكتب إليهم بعد ذلك فنزلوا كانوا فيئاً ولو لم ينه الرسول والكاتب
عن ذلك أو نهاه ولم يسمع حتى كتب إليهم أو بلغهم فنزلوا كانوا آمنين والفقه في الكل التحرز عن صورة الغرور وحقيقته .
ولو أن مسلماً قال لأهل الحصن : إن هذا الرجل قد أمنكم وأشار إلى شخص معه فنزلوا فإذا المحكي عنه@(1/253)
ذمي أو مستأمن فهم فيء صدق عليه أو كذب لأنه أخبرهم بأمان باطل فلا يصير به معطياً أماناً صحيحاً لهم وهو لم يغرهم في شيء ولكنهم اغتروا بأنفسهم حين لم يتفحصوا عن حال المحكي عنه بعد ما عينه لهم منه أو من الحاكي أو من غيرهما وإن أشار لهم إلى مسلم أو مسلمة كانوا آمنين صدق في ذلك أو كذب لأنه أخبرهم بأمان صحيح فيكون معطياً الأمان لهم حين أضافه إلى من يصح أمانه ولو أن ذمياً قال لهم ذلك حكاية عن مسلم فإن علم أنه صادق كانوا آمنين وإن علم أنه كاذب أو لم يعلم أصادق هو أم كاذب كانوا فيئاً لأنه لا يملك إعطاء الأمان بنفسه فهم إذا اعتمدوا خبر من لا يملك الأمان بنفسه كانوا مغترين لا مغرورين .
وإن قال المحكي عنه صدق فيما قال فإن كان قال ذلك في حال بقاء منعتهم ثم نزلوا بعد ذلك فهم آمنون لأنه صدق المخبر في حال يملك إنشاء الأمان لهم فلا يكون متهماً في التصديق .
وإن كان قال لهم بعد ما صاروا في أيدينا غير ممتنعين لم يصدق على ذلك لأنه متهم في هذا التصديق فقد صار بحال لا يملك إنشاء الأمان لهم فلا يكون متهماً في التصديق .
وإن كان قال لهم بعد ما صاروا في أيدينا غير ممتنعين لم يصدق على ذلك لأنه متهم في هذا التصديق فقد صار بحال لا يملك إنشاء الأمان لهم ولأنه قصد بهذا التصديق إبطال حق ثابت للمسلمين في استرقاقهم إلا أنه إذا قسمهم الإمام فوقع بعضهم في سهم المقر أو فيما رضخ به الذمي عتق عليهما وكذلك إن باعهم الإمام فاشتراهم الذمي المخبر أو المسلم المصدق له عتقوا جميعاً لتصادقهما على أنهم أحرار آمنون وذلك عامل في حق من صار ملكاً لهما منهم ولكن لا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب لأن احتباسهم في دارنا من حق المسلمين حين قسمهم الإمام إذا باعهم وهما لا يصدقان فيما يرجع إلى حق المسلمين وبالله العون .@(1/254)
باب الحربي يدخل الحرم غير مستأمن
وإذا دخل الحربي الذي لا أمان له الحرم فإنه لا يهاج له بقتل ولا أسر وهذا أصل علمائنا أن من كان مباح الدم خارج الحرم يستفيد الأمن بدخول الحرم قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } العنكبوت : 67 وقال عز من قائل : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } آل عمران : 97 قال عليه السلام في خطبة يوم الفتح : " إنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة وإنما قال ذلك لأنه قتل منهم أناساً وهم غير مقاتلين له في تلك الحالة ولو كانوا مقاتلين له لم تظهر فائدة تخصيصه بما قال لأن من استحل الحرم يستحل منه على ما بينه .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته وقال ابن عباس : مثل ذلك ولم يقل أبوه ولكن إنما قال ذلك على سبيل المبالغة في النهي عن قتل أحد في الحرم ابتداء وكما لا يقتل لا يؤسر لأن فيه إتلافه حكماً فالحرية حياة والرق تلف وحكم حرمة الحرم تمنع من ذلك ألا ترى أن الصيد كما لا يقتل في الحرم لا يتملك بالأخذ فإن أسلم قبل أن يخرج فهو حر لا سبيل عليه لأنه كان آمناً حراً ما دام في الحرم وقد تأكدت حريته بالإسلام وإن سألنا أن يكون ذمة لنا فإن شئنا أعطيناه ذلك وإن شئنا لم نعطه لأنه مأخوذ مشرف على الهلاك فالظاهر أنه لا يطلب @(1/255)
عقد الذمة ملتزماً لأحكامنا اختياراً بل اضطراراً ليتمكن به من الفرار فالرأي إلى الإمام في إعطاء الذمة له بمنزلة المأسور قبل ضرب الرق عليه إذا طلب أن يكون ذمة وإن أبى أن يسلم وجعل يتردد في الحرم فإنه لا يجالس ولا يطعم ولا يبايع حتى يضطر ويخرج لأنه بسبب الأمن الثابت بالحرم يتعذر علينا التعرض له بالإساءة ولا يلزمنا الإحسان إليه فإن منع الإحسان لا يكون إساءة فلهذا لا يجب قبول الذمة منه إن طلب لأن ذلك إحسان إليه .
إلا أنه لا يمنع منه الكلأ وماء العامة لأن ذلك حقه فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شركة عامة بين الناس في قوله : " الناس شركاء في ثلاث : الكلأ والماء والنار " وفي منع حقه منه إساءة إليه وهو معنى قوله : ولو كان لك أن تمنعه الماء كان لك أن تقتله فإن قال الأمير : إني لا آسره ولكن أحبسه لم يكن له ذلك أيضاً لأن في الحبس معنى العقوبة وكذلك لو قال : أخرجه من الحرم لم يكن له ذلك لأن الأمن الثابت بسبب الحرم يحرم التعرض له بالحبس والإخراج كما في حق اصيد ولو كانوا جماعة دخلوا الحرم للقتال فلا بأس للمسلمين أن يقتلوهم لقوله تعالى { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } البقرة : 91 قال ابن عباس رضي الله عنهما : الحرم كله المسجد الحرام أي : كالمسجد الحرام في هذا الحكم ولأن حرمة الحرم لا تلزمنا بحمل الأذى عنهم كما لا يلزمنا تحمل الأذى عن الصيد حتى إن الضبع إذا صال على إنسان في الحرم جاز قتله دفعاً لأذاه .
فإن حمل عليهم المسلمون فانهزموا فأخذوا منهم الأسرى فلا بأس بأن يقتلوهم لأنهم لم يراعوا حرمة الحرم فيكون الحرم في حقهم بمنزلة الحل ابتداء وانتهاءً بخلاف الصيد فإنه بعد الصيال إذا هرب لم يحل قتله لأن الصيد غير عاقل وإنما يباح دفع أذاه عند قصده حساً وقد اندفع ذلك بهربه فأما الآدمي عاقل يجوز دفع أذاه بقتله زجراً ولهذا شرع القصاص@(1/256)
لمعنى الحياة فكما يجوز قتالهم في الابتداء إذا قصدوا دفعاً لأذاهم وزحراً لهم عن هتك حرمة الحرم فكذلك يجوز قتلهم بعد الانهزام والأسر لمعنى الزجر عن هتك حرمة الحرم بطريق الاعتبار .
وكذلك لو دخلوا الحرم مقاتلين ومعهم عيالاتهم فهزموا وأخذت عيالاتهم فلا بأس بأن يؤسروا لأنهم اتباع المقاتلة وحين التحقق الحرم بالحل في حق الأصول لهتكهم حرمة الحرم فكذلك في حق الاتباع فإن ثبوت الحكم في حق التبع بثبوته في الأصل .
ولو كانوا قاتلوا في غير الحرم فقتلوا جماعة من المسلمين ثم انهزموا بعيالاتهم حتى أدخلوهم الحرم فحصلوا في الحرم منهزمين لا فئة لهم لم يحل أن يعرض لهم ولا لعيالاتهم لأنهم التجئوا إلى الحرم معظمين لها وكانوا آمنين فيها بخلاف الأول فإنهم دخلوا الحرم هاتكين حرمتها بالقصد إلى قتال المسلمين فيها ولو كانت فئتهم تجمعت بالحرم وصارت لهم منعة فهرب هؤلاء بعيالاتهم إلى فئتهم في الحرم فلا بأس بقتلهم وأسرهم لأن الملتجئ إلى فئة يكون محارباً ولا يكون تاركاً للحرب ألا ترى أن المنهزم من أهل البغي يتبع فيقتل إذا بقيت لهم فئة فكذلك في هذا الموضع وجميع ما ذكرنا في أهل الحرب هو الحكم في الخوارج وأهل البغي إلا أنه لا تسبى ذراريهم ولا نساؤهم لأنهم مسلمون من أهل دارنا ولتأكد حريتهم بالإسلام كانوا آمنين من السبي .
فأما فيما سوى ذلك مما يحل فيه قتلهم ويحم فهم كأهل الحرب والله الموفق .@(1/257)
باب من الأمان الذي يشك فيه
وإذا أحاط المسلمون بحصن من حصون أهل الحرب فأشرف منهم أربعة نفر فقالوا : آمنونا على أن نخرج إليكم لنراوضكم على الصلح ففعل ذلك بهم فخرج منهم عشرون رجلاً معاً فإن عرفنا الأربعة بأعيانهم كانوا آمنين ومن سواهم فيء للمسلمين إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا جعلوهم فيئاً لأنهم حصلوا في أيدينا بغير أمان فإن المحصور بمجرد الخروج لا يستفيد الأمن ما لم يمط له الأمان نصاً وكيف يستفيد الأمن وإنما حصر ليخرج وليس بين الأربعة وبين من سواهم سبب يوجب الأمن لهم بطريق التبعة وأما حكم الأربعة : فإن استقام بين المسلمين وبينهم صلح وإلا ردوهم إلى حصنهم كما هو موجب الأمان وإن أبوا أن يرجعوا إلى الحصن لم يكن للمسلمين أن يجبروهم على ذلك لأنهم حصلوا آمنين فينا .
ولا يجوز التعرض لهم بحبس ولا أسر ولكن يقال لهم : اذهبوا إلى أرض الحرب@(2/3)
شئتم فإنا لا نتعرض لكم حتى تبلغوا مأمنكم لأن الوفاء بالأمان والتحرز عن الغدر واجب .
فإن قالوا : لا نفارق عسكركم فالسبيل أن يتقدم الإمام إليهم ويؤجلهم في ذلك على حسب ما يراه ويخبرهم أنهم إن لم يذهبوا جعلهم ذمة وأخرجهم إلى دار الإسلام وقد تقدم بيان هذا الفضل .
وليس للإمام أن يقول لهم : إن ذهبتم إلى وقت كذا وإلا جعلناكم عبيداً أو : وإلا فدماؤكم حلالاً لأنهم آمنون فينا ومن ضرورة الأمان ثبوت العصمة عن الاسترقاق والقتل وكما لا يملك تنفيذ ذلك منهم في الحال لا يملك تعليقه بمضي الزمان بخلاف تصييرهم ذمة على ذلك فإن ذلك لا ينافي الأمان بل يقرره .
والكافر لا يمكن من إطالة المقام فينا بدون صغار الجزية والتزام أحكامنا في المعاملات لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين .
ولو أن المسلمين قالوا لأربعة من أهل الحصن : انزلوا فأنتم آمنون حتى نراوضكم على الصلح .
فنزل عشرون رجلاً فيهم أولئك الأربعة ولكن لا نعلم الأربعة بأعيانهم وكل واحد يقول : أنا من الأربعة فهم جميعاً آمنون لا يحل قتل أحد منهم ولا أسره لأن كل واحد منهم تردد حاله بعدما حصل فينا بين أن يكون آمناً معصوم الدم وبين أن يكون مباح الدم فيترجح جانب العصمة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : " ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال " .@(2/4)
ولأن الأمان يتوسع في إثبات حكمه لا في المنع من ثبوت حكمه ولأن ترك القتل والأسر وهو حلال له خير من أن يقدم على قتل أو أسر في محل معصوم ثم هذا التجهيل من ناحية المسلمين حين لم يعلموا الأربعة بعلامة يتمكنون من تمييزهم بتلك العلامة عن أغيارهم فلا يؤثر ذلك في أيطال الأمان الثابت بطريق الاحتمال لكل واحد منهم .
ولكنهم يبلغون مأمنهم بمنزلة ما لو أمنوا جميعاً .
ولو أن الأمير أمن أربعة نفر من أهل الحصن بأعيانهم ولم يأمرهم بالنزول ثم فتح الحصن فقال كل واحد منهم : أنا من الأربعة فإن عرف المسلمون الذين أمنوهم وإلا كان القوم كلهم فيئاً لأنهم أخذوا في منعة أهل الحرب ومن كان في منعة أهل الحرب فهو مباح الأخذ إلا أن يعلم فيه مانع ولم يعلم ذلك في واحد منهم بخلاف الأول فهناك الأربعة صاروا آمنين وهم في منعة المسلمين ومن في منعة المسلمين لا يكون محارباً لهم باعتبار الحال فما لم يعلم أنه محارب باعتبار الأصل وأنه لم يتناوله الأمان لا يجوز التعرض له .
ألا ترى أنه لو أسلم أربعة في الحصن فأمرهم المسلمون بالنزول فنزل عشرون وادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم في الحصن لم يحل سبي أحد منهم .
لو أسلم أربعة في الحصن ولم يخرجوا حتى ظهر المسلمون على الحصن فادعى كل واحد منهم أنه هو الذي أسلم كانوا جميعاً فيئاً إلا من عرف بعينه أنه كان فيمن أسلم فحينئذ يكون حراً هو وأولاده الصغار ويسلم له ماله لأنه هو المحرز له فأما الكبار من أولاده فلا يتبعونه في الإسلام@(2/5)
فكانوا فيئاً أجمعين إلا أنه ليس للإمام أن يقتل أحداً هاهنا لأن كل واحد منهم قابل للإسلام أو راغب فيه وإسلام الأسير يؤمنه عن القتل ولكنه لا يؤمنه عن الاسترقاق .
قال : ولو لم أسب هؤلاء لم أسب أهل قسطنطينية إذا علمت أن فيها مسلماً واحداً أو ذمياً ولا أعرفه بعينه فهذا ليس بسبي وكل من وقع عليه الظهور في دار الحرب فهو فيء ما لم يعلم المانع فيه واستوضح هذا الفرق بما لو دخل قوم من دار الحرب بغير أمان قرية من قرى أهل الذمة فأتاهم المسلمون ليأخذوا أهل الحرب فادعى كل واحد في القرية أنه من أهل الذمة فهم آمنون كلهم لأنهم في موضع الأمن والعصمة فلا يحل التعرض لأحد منهم ما لم يعلم أنه من أهل الحرب ولو أن قوماً من أهل الذمة دخلوا بعض حصون أهل الحرب بمرأى العين من المسلمين ثم ظهرنا على أهل الحصن فكل من في الحصن فيء إلا من عرف بالذمة بعينه لأنهم وجدوا في موضع النهبة والإباحة فكانوا فيئاً ما لم يظهر المانع في بعضهم وتحكيم المكان في مثل هذا أصل في الشرع .
ألا ترى أنه من رأى شخصاً في دار الحرب وهو لا يعلم حاله يباح له الرمي إليه ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمي ولو رآه في دار الإسلام لا يحل له ذلك ما لم يعلم أنه حربي .@(2/6)
ولو أن ذمياً دخل حصناً من حصونهم فافتتح الحصن حين دخل الرجل ولم يقتل أحداً منهم حتى أخذوا وقد أحاط العلم بأن الذمي فيمن أخذ ولا يعلم أيهم هو فإنه لا ينبغي للإمام أن يقتل أحداً منهم لأنه ليس بعضهم بأن يقتله أولى من البعض ولو قتلهم جميعاً كان متيقناً بقتل من لا يحل قتله ولا طريق له إلى التحرز عما لا يحل بالكف عن قتلهم جميعاً .
وهذا لأن التحرز عن قتل الذمي فرض عليه وقتل الحربي الأسير مباح له ولا معارضة بين المباح والفرض وفي الموضع الذي تتحقق المعارضة يترجح جانب الحل .
فهنا أولى .
فإن كان القوم قتل بعضهم أو مات بعضهم أو خرج بعضهم فلم يحط العلم بأن الذمي فيهم فلا باس بقتل الرجال كلهم لأنهم وجدوا في موضع الحرب والمانع من قتلهم كون الذمي فيهم .
وذلك غير متيقن به فلا بأس بقتلهم بناء على أن الذمي كان هو الذي مات أو خرج منهم وهذا لأن الظاهر من حال كل واحد منهم أنه حربي مباح الدم .
وإنما يبنى على الظاهر فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته إلا أن يعارض الظاهر يقين بخلافه .
ففي الفصل الأول عارض الظاهر يقين وهو العلم بكون الذمي فيهم وفي هذا الفصل لم يعارض الظاهر يقين فبني الحكم عليه .
فإن كان أكبر ظن الإمام أن الذمي فيهم وكلهم يقول : أنا الذمي فالمستحب له أن لا يقتل أحداً منهم لأن أكبر الرأي - وإن كان لا يعارض الظاهر - لكن يثبت به استحباب الاحتياط .
ألا ترى أن من وجد ماء وغلب على رأيه أنه نجس ولكن لم يخبره أحد بنجاسته فالمستحب له أن يتوضأ بغيره وإن توضأ به@(2/7)
وإن كان لو قتلهم جاز باعتبار الظاهر والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد : " ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فما حك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به " وإن كان لا رأي له في ذلك فلا بأس بأن يقتلهم باعتبار الظاهر وإن شك في اثنين أو ثلاثة منهم فلا بأس بأن يقتل الباقين ويسبي الذين في أكبر رأيه أن الذمي فيهم .
وكذلك لو أن رجلاً منهم أشرف على الحصن فدلنا على عورة من عوراتهم فأمنه الإمام ثم افتتح الحصن من ساعته فهذا والذمي سواء لأن الذي أمناه معصوم عن القتل فإن حرمة القتل بالأمان وبالذمة سواء .
ولو وجدت المراوضة بين المسلمين وبين أهل الحصن على الصلح فقال المسلمون : أخرجوا إلينا أربعة منكم فهم آمنون حتى نراوضهم فخرج منهم عشرون معاً فهم آمنون لأن أربعة من العشرين قد صاروا آمنين بإعطاء المسلمين لهم الأمان فإن إعطاء الأمان لمجهول صحيح .
فإذا حصلوا في عسكرنا وبعضهم آمنون ثبت الأمان لهم جميعاً إذ ليس بعضهم بأولى من بعض ولا يحل التعرض لواحد منهم لتردد حاله بين أن يكون آمناً معصوماً وبين أن يكون مباحاً .
ألا ترى أن المسلمين لو قالوا : ليخرج إلينا رجل منكم فهو آمن فإذا فتح الباب كان لكل واحد منهم أن يخرج ويكون آمناً .
فإذا خرج عشرة معاً فكل واحد منهم في صورة من سلطه@(2/8)
المسلمون على الخروج ولو خرج وحده كان آمناً فخروج غيره معه لا يبطل ما أوجب له المسلمون من ألا ترى أنهم لو قالوا : إن فتح رجل منكم الباب فهو آمن فوثب عشرة منهم ففتحوه معاً كانوا آمنين لأن كل واحد منهم لو فتحه وحده كان آمناً فلا يبطل أمانه بفتح الغير معه .
ولو قال : إن خرج رجل منكم إلينا لنراوضه على الصلح فهو آمن فخرج رجل ثم تبعه آخر ثم آخر فإن كان الأول صار في منعتنا قبل خروج الآخرين فالثاني والثالث فيء للمسلمين لأن حكم الأمان تعين في الأول حين صار في منعتنا وحده ثم خرج الثاني والثالث بغير أمان فإن النكرة في موضع الإثبات يخص فبعد ما تعين الأول له لا يمس الثاني والثالث .
وإن لم يصل الأول إلى منعتنا حتى لحقه صاحباه فهذا وخروجهم معاً سواء لأن المنصوص عليه خروجه إلينا وإنما يتم ذلك بوصوله إلى منعتنا فقبل ذلك لم يتعين الأمان في الأول فكان هذا وخروجهم معاً سواء .
ألا ترى أن الأول لو رجع قبل أن يصل إلى منعتنا ثم خرج الآخر كان آمناً إذا وصل إلى منعتنا .
ولو وصل الأول إلى منعتنا ثم مات أو رجع فخرج الآخر كان فيئاً .
أرأيت لو أن الثاني عجل فوصل إلى منعتنا قبل أن يخرج الأول من منعة المشركين ألم يكن آمناً وهو أول رجل وصل إلى منعتنا فعرفنا أن المعتبر حال الوصول إلى منعتنا وقد وصلوا إلينا معاً فكأنهم خرجوا معاً فكانوا آمنين فإن قيل : إذا خرجوا معاً كيف يثبت الأمان لهم والنكرة في@(2/9)
قلنا : هذه نكرة موصوفة بصفة عامة وهي الخروج إلينا ومثل هذه النكرة تعم كالرجل يقول : لا أكلم إلا رجلاً عالماً ولكن ينتهي شرط الأمان بوصول أحدهم إلينا قبل خروج الآخرين فإذا خرجوا معاً كانوا آمنين لهذا .
ولو كان قال : عشرة منكم آمنون على أن تفتحوا الباب فقال الإمام : نعم ففتحوا الباب فعشرة منهم آمنون والخيار في تعيينهم إلى الإمام لأنه ما أوجب الأمان للفاتحين بأعيانهم وإنما أوجبه لعشرة منكرة منهم ولكن إيجاب الأمان للمجهول يصح منجزاً وكذلك معلقاً بالشرط ثم البيان يكون إلى من أوجب في المجهول كما في الطلاق والعتاق .
وإنما يثبت الأمان لعشرة منهم بغير عيال ولا مال إلا عليهم من الكسوة والسلاح استحساناً لأن ثبوت الأمان لهم بعد فتح الباب وتمام القهر وقد بينا أن العيال لا يدخلون في مثله .
وإن كانوا قالوا : عشرة من أهل حصننا آمنون على أن يفتح لكم الباب .
فقال الإمام : نعم فله الخيار إن شاء جعل العشرة من نسائهم وصبيانهم وإن شاء جعلهم من رجالهم لأن اللفظ الذي به طلب الأمان يتناول الكل والكل من أهل الحصن وفي الأول إنما خاطب الرجال فيثبت الأمان لعشرة من الرجال يعينهم الإمام .
وينبغي أن يحتاط للمسلمين في ذلك حتى لا يختار للأمان من تكون منفعة المسلمين في استرقاقه أقل لأنه نصب ناظراً لهم .
وهذا بخلاف ما سبق من قوله : ليخرج إلينا أربعة منكم .
وقوله : ليخرج إلينا أحد منكم لأن هناك الأمان إنما يثبت لهم بعدما وصلوا إلى منعتنا وكل واحد@(2/10)
منهم لو خرج وحده كان آمناً فبانضمام غيره إليه لا يبطل الأمان وهذا الأمان لعشرة منهم بعد الفتح وهم في الحصن .
وحقيقة هذا الفرق ما ذكرنا أن النكرة هنا غير موصوفة وهناك النكرة موصوفة بالخروج إلينا .
ألا ترى أنه لو قال : إن رمى رجل منكم بنفسه إلينا وحده كان آمناً فرمى عشرة معاً كانوا آمنين لأن النكرة موصوفة وكل واحد منهم لو رمى بنفسه وحده كان آمناً فبانضمام غيره إليه لا يبطل حقه .
ولو قال : ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على الصلح فخرجوا فهم آمنون سواء قال : وهم آمنون أو لم يقل لأنه دعاهم إلى الخروج لطلب السلم والموافقة ولأن المراوضة على الصلح إنما تتأتى ممن كان آمناً على نفسه .
فهذا دليل الأمان لهم .
بخلاف ما إذا قال لأربعة منهم : اخرجوا إلينا فخرجوا فإنه يكون له أن يقتلهم لأنه ليس في لفظه ما يدل على الأمان أو على الخروج على سبيل الموافقة ولكن هذا طلب المبارزة .
فكأنه قال : اخرجوا إلينا للقتال إن كنتم رجالاً ولو قال : أخرجوا إلينا فبيعوا واشتروا كانوا آمنين لأن في كلامه ما دل على الأمان والخروج إلى الموافقة .
فالتجارة تكون عن مراضاة وإنما يتمكن منها من يكون آمناً ولو قال : ليخرج إلينا هؤلاء الأربعة حتى نراوضهم على الصلح .
فخرج أربعة غير أولئك الأربعة فهم فيء للمسلمين لأن دلالة الأمان لا تكون فوق التصريح بعينه ولو قال لأربعة بأعيانهم : أمنتكم فخرج غيرهم كانوا فيئاً .
وإن أشكل على المسلمين فلم يدروا أيهم أولئك الأربعة أم غيرهم فإن الإمام يسألهم عن ذلك@(2/11)
فإن زعموا أنهم غيرهم كانوا فيئاً لإقرارهم على أنفسهم بحق الاسترقاق وإن زعموا أنهم أولئك الأربعة فالقول قولهم لأن الظاهر شاهد لهم والظاهر أنه لا يتجاسر أحد على الخروج إلا من أومن بعينه فإن اتهمهم استحلفهم بالله على ذلك فإن نكلوا عن اليمين كانوا فيئاً ولكن لا يقتلون لأن النكول بمنزلة الإقرار ولكن فيه ضرب شبهة واحتمال فلا يجب القتل به .
وقد تقدم بيانه .
وإن خرج عشرون رجلاً معاً فقال كل واحد منهم : أنا من الأربعة وحلف على ذلك فهم آمنون جميعاً لأن كل أربعة لو خرجوا وحدهم وحلفوا كان القول قولهم فخروج غيرهم لا يبطل حكم الأمان في حقهم أو لأنه اختلط المستأمن بغير المستأمن في منعتنا وفي مثل هذا يثبت الأمان لهم جميعاً احتياطاً فعلى الإمام أن يبلغهم مأمنهم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=15 - TOP#TOPباب الخيار في الأمان
قال : وإذا حاصر المسلمون حصناً فأشرف عليهم رأس الحصن فقال : أمنوني على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم .
فقالوا : لك ذلك .
ففتح الحصن .
فهوا آمن وعشرة معه لأنه استأمن لنفسه نصاً بقوله : أمنوني فالياء والنون يكني بهما المتكلم عن نفسه وقوله : على عشرة كلمة عشرة للشرط وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه فعرفنا أن العشرة سواه ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم وهو ليس بذي حظ @(2/12)
باعتبار أنه داخل في أمانهم فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة وليس بذي حظ على أنه مباشر لأمانهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معيناً لمن تناوله الأمان منهم باعتبار أن التعيين في المجهول كالإيجاب المبتدأ من وجه .
ولو كان قال : أمنوا لي عشرة من أهل الحصن .
فله عشرة يختار أي عشرة شاء فإن اختار عشرة هو أحدهم فلذلك جائز وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فيء لأنه ما استأمن لنفسه عيناً وإنما استأمن لعشرة منكرة ولكن بقوله : لي شرط لنفسه أن يكون ذا حظ ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة الأمان لهم فإن ذلك لا يصح منه فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون هو المعين للعشرة ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الأمان نصاً .
فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمناً .
بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه .
وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الأمان فيهم وصار هو فيئاً .
كغيره من أهل الحصن وكان حقيقة كلامه : أمنوا لأجلي عشرة وأوجبوا لي حق تعيين عشرة تؤمنونهم ولو قال ذلك كان الحكم فيه ما بينا .
قال : وبلغنا نحو ذلك عن الأشعث بن قيس أنه قال ذلك يوم النجير وقد ذكر أهل الحديث نحو ذلك عن معاوية رضي الله عنه وكذلك لو كانت البداية من رأس الحصن بأن يقول : فأفتح لكم الحصن على أني آمن على عشرة .
أو قال : على أن لي عشرة آمنين من أهل الحصن فهذا وما تقدم سواء في الفصلين جميعاً .
ولو قال : أفتح لكم على أن تؤمنوني في عشرة من أهل الحصن أو على أني آمن في عشرة .
فهو سواء وهو آمن وتسعة معه لأن حرف في للظرف .
فقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس الأمان لهم .
فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه لأنه لو تناول عشرة سواه كان هو آمناً في أحد عشرة بخلاف الأول فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة فإن قيل : فقد جعل العشرة هنا ظرفاً لنفسه والمظروف غير المظرف .
قلنا : هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف ولا يتحقق ذلك في العدد إلا بالطريق الذي قلنا وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال : اجعلوني أحد العشرة الذين تؤمنونهم .@(2/13)
فإن قيل : إذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة فينبغي أن يجعل بمعنى مع كقوله تعالى : { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أو يجعل بمعنى على كقوله تعالى : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وباعتبار الوجهين يثبت الأمان لعشرة سواه .
قلنا : الكلمة للظرف حقيقة فيجب حملها على ذلك بحسب الإمكان .
وذلك أن يكون هو أحدهم داخلاً في عددهم فلهذا لا نحمله على المجاز ثم الخيار في التسعة الذين معه إلى الإمام هاهنا لا إلى رأس الحصن لأنه جعل نفسه أحد العشرة فكما لا خيار له لمن سواه من العشرة في التعيين لا خيار له .
وهذا لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن يتناوله حكم أمانهم لا أن يكون هو معنياً لهم .
وقد نال ما سأل .
وبقي الإمام موجباً الأمان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم ولو قال : أمنوني وعشرة أو أفتح لكم على أني آمن أنا وعشرة .
فالأمان له ولعشرة سواه لأن حرف الواو للعطف .
وإنما يعطف الشيء على غيره لا على نفسه .
ففي كلامه تنصيص على أن العشرة سواه هاهنا فإن لم يكن في الحصن إلا ذاك العدد أو أقل فهم آمنون كلهم لأن الأمان بذكر العدد بمنزلة الأمان لهم بالإشارة إلى أعيانهم وإن كان أهل الحصن كثيراً فالخيار في تعيين العشرة إلى الإمام لأن المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه .
فكان الإمام هو الموجب للأمان لهم فإليه التعيين وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك لأنهم من أهل الحصن إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال ولو قال : أمنوني بعشرة من أهل الحصن كان هذا وقوله : وعشرة سواء لأن الباء للإلصاق فقد ألصق أمان العشرة بأمانه .
وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه .
ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة : أمنوني فعشرة .
لأن الفاء من حروف العطف وهو يقتضي الوصل والتعقيب فيستقم عطفه على قوله : أمنوني وعشرة .
فأما الباء فتصحب الأعواض فيكون قوله : أمنوني بعشرة بمعنى : عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضاً عن أماني .
وهذا لا معنى له في هذا الجنس من المسائل .
فعرفنا أن الصحيح قوله : أمنوني فعشرة .@(2/14)
ولو قال : أمنوني ثم عشرة .
كان هذا والأول سواء فالعشرة سواه لأن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي .
وبهذا يتبين أيضاَ أن الصحيح في الأول قوله : فعشرة لأنه بدأ بما هو للعطف مطلقاً ثم بما هو للعطف على وجه التعقيب بلا مهملة ثم لها هو للتعقيب مع التراخي ولو قال : أمنوا لي عشرة فالخيار في تعيينهم إلى الإمام لأن المتكلم لم يجعل نفسه ذا حظ وإنما التمس الأمان بعشرة منكرة .
فكان الإمام هو الذي ابتدأ فقال : عشرة منكم أمنوني على أن يفتحوا .
فالخيار في تعيينهم إلى الإمام إن شاء جعل المتكلم أحدهم وإن شاء لم يجعل ولو قال : أمنوني مع عشرة فالعشرة سواه لأن كلمة مع للضم والقران .
وإنما يضم الشيء إلى غيره لا إلى نفسه .
فعرفنا أن العشرة سواه والخيار في تعيينهم إلى الإمام لأنه هو الذي أبهم الإيجاب والمتكلم ما جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة ولو قال : أمنوني في عشرة من أهل حصني .
فهذا وقوله : من أهل الحصن سواء .
والأمان له ولتسعة يختارهم الإمام فإن قيل : هو جعل نفسه معرفة بإضافة الحصن إلى نفسه والعشرة منكرة فينبغي أن لا يدخل المعرفة في النكرة كما قال في الجامع : إن دخل داري هذه أحد فعبده حر فدخلها هو لم يحنث .
قلنا : هو معرفة هنا بإضافة الأمان إلى نفسه قبل إضافة الحصن إلى نفسه بقوله : أمنوني .
وإنما الحاجة إلى معرفة حكم في وقد بينا أنه للظرف .
ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يكون هو في جملة العشرة .
والعمل بالحقيقة هاهنا ممكن لأنه من أهل الحصن كغيره .
وكذلك لو قال : في عشرة من أهل بيتي أو في عشرة من بني أبي كان هو وتسعة سواه لأنه من جملة أهل بيته والمراد بيت النسب .
وهو من جملة بني أبيه .
فكان العمل بحقيقة الظرف هاهنا ممكناً فلهذا كان الأمان بعشرة ممن سماهم هو أحدهم والبيان إلى الإمام .@(2/15)
ولو قال : في عشرة من إخواني فهو آمن وعشرة سواه من إخوانه لأنه صرح بما يمنع العمل بحقيقة الظرف هنا .
والإنسان لا يكون من إخوانه فوجب أن يجعل حرف في بمعنى مع كما هو الأصل أنه متى تعذر العمل بحقيقة الكلمة وله مجاز متعارف يحمل على ذلك المجاز لتصحيح الكلام .
وكذلك لو قال : في عشرة من ولدي لأنه لا يكون من ولد نفسه فلا بد من أن يجعل العشرة سواه وعلى هذا لو قال : أمنوا عشرة من إخواني أنا فيهم أو قال : عشرة من أولادي أنا منهم فالأمان لعشرة سواه ولو قال : عشرة من أهل بيتي أنا فيهم أو عشرة من أهل حصني أنا فيهم فالأمان لعشرة سواه فالأمان لعشرة وهو أحدهم ولما بينا من الفرق ولو قال في أو عشرة من بني فهو على عشرة من بنيه سواه يعينهم الإمام لأنه لم يجعل نفسه ذا حظ من أمانهم فإن كانوا ذكوراً كلهم أو مختلطين فالإمام يعين أي عشرة شاء من ذكورهم أو إناثهم .
فإن لم يكن فيهم ذكر فهم فيء كلهم سوى الرجل المستأمن لأنه إنما استأمن لبنيه .
وقد بينا أن هذا الاسم لا يتناول الإناث المفردات .
فإن قيل : أليس إنهم لو كانوا مختلطين فعين الإمام عشرة من الإناث كان له ذلك وإذا لم يتناولهم اسم البنين فكيف يعينهم الإمام قلنا : لأنه ما أمن عشرة وهم بنوه وإنما أمن عشرة هم من بنيه .
وعند الاختلاط البنات العشرة هم عشرة من بنيه .
فلهذا كان له أن يعينهم .
فأما عند عدم الاختلاط فالإناث المفرادت لسن من بنيه فكيف يتناولهن الأمان ولو كانوا بنين وبنات وبني بنين وبني بنات فله أن يختار عشرة إن شاء من الولدان وإن شاء من ولد الولد وقد بينا أن هذا الاسم يتناول بني البنين في الأمان كما يتناول البنين استحساناً .@(2/16)
ذكر في الكتاب بني البنات فمن أصحابنا من قال : هذا غلط من الكاتب والصحيح : بنات البنين وقيل : بل هو صحيح وهو إحدى الروايتين اللتين ذكرنا فيما سبق أنه يطلق اسم البنين على أولاد البنات كما يطلق على أولاد البنين .
والإخوة والأخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات إلا أنه إذا قال : في عشرة من إخواني وله أخوات منفردات وبني أخوة فهم فيء كلهم لأن اسم الإخوة لا يتناول الأخوات المنفردات ولا بني الإخوة حقيقة ولا مجازاً .
ولو قال : أمنوني في عشرة من أصحابي .
فالعشرة سواه لأن أصحابه غيره ولا وجه لإعمال حرف في هاهنا للظرف وكذلك لو قال : في عشرة من رقيقي أو في عشرة من موالي .
ولو نظر الإمام إلى فارس منهم فقال : أنت آمن في عشرة من فرسانكم .
فهو آمن وتسعة وسواه فإن حرف في هاهنا للظرف فإنه بصفة العشرة الذين أمنهم الإمام فيمكن أن يجعل هو أحدهم وإن قال : أنت آمن في عشرة من الرجالة .
فالعشرة من الرجالة سواه لأنه ليس بصفة العشرة فإنه فارس فعرفنا أن حرف في بمعنى مع هنا وكذلك لو كان على عكس هذا قال : وإنما يؤخذ في هذا بما عليه كلام الناس يعني الذي سبق إلى فهم كل أحد من هذه الألفاظ التي ذكرت ولو قال : في عشر من بناتي وله بنون فالأمان للبنات خاصة لأن اسم البنات لا يتناول الذكور بحال وكذلك لو كان له بنات بنين فهو عليهن دون البنين لأن اسم البنات لا يتناولهن مجازاً@(2/17)
وإن لم يكن له إلا بنات بنات فليس يدخلن في الأمان وهذا بناء على أظهر الروايتين أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى أبي أمهم .
إلا أن يكون جرى مقدمة بأن يقول : لي بنات بنات وقد ماتت أمهاتهن فأمنوني في بناتي .
فحينئذ يعرف بتلك المقدمة أنه إنما استأمن لهن .
والرجوع إلى دلالة الحال لمعرفة المقصود بالكلام أصل صحيح في الشرع ولو قال : أمنوني في موالي وله موال وموالي موالٍ كانوا آمنين استحسناً لأن الاسم لمعتقه حقيقة باعتبار أنه أحياهم بالإعتاق حكماً أو لمعتق معتقه مجازاً باعتبار أنه حين جعل المعتقين أهلاً لإيجاب العتق لهم فكأنه سبب لإعتاقهم .
وقد بينا أن الأمان مبني على التوسع وأن مجرد صورة اللفظ يكفي لثبوت حقن الدم به احتياطاً وإنما لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في محل واحد فأما في محلين فيجوز أن يجمع على وجه لا يكون المجاز معارضاً للحقيقة في إدخال الجنس على صاحب الحقيقة وفي الأمان لا يؤدي إلى هذه المعارضة بخلاف الوصية وإنما هذا نظير قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } حتى يتناول الأم والجدات جميعاً ولو قال : أمنوني في مواليّ وله موالٍ أعتقوه وموال أعتقهم فالأمان لا يتناول الفريقين بهذا اللفظ لأن مقصوده من طلب الأمان للأعلى مجازاته على ما أنعم عليه وللأسفل الترحم والزيادة في الإنعام عليه .
وهما معنيان متغايران ولا عموم للاسم المشترك باعتبار أنه لا يتحقق اجتماع المعنيين المتغايرين في كلمة واحدة فلهذا كان الأمان لأحد الفريقين كالوصية إلا أن الوصية للمجهول لا تصح فكانت باطلة بهذا اللفظ .
والأمان للمجهول صحيح فيكون ذلك على ما نواه الذي أمنهم وهو مصدق في ذلك لأنه لا يعرف من جهته فإن قال : ما نويت شيئاً .
فهم جميعاً آمنون استحساناً لا باعتبار أن اللفظ المشترك عمهم فالمشترك لا عموم له ولكن باعتبار أن الأمان يتناول أحد الفريقين ولا يعرفون بأعيانهم .
وعند اختلاط المستأمن بغير المستأمن يثبت الأمان لهم احتياطاً كما بينا .@(2/18)
فإن قيل : كان ينبغي أن يكون خيار التعيين إلى الإمام وإن لم ينو شيئاً في الابتداء لأنه أوجب في المجهول فإليه البيان .
قلنا : لا كذلك فإن المشترك غير المجمل واللفظ الذي أوجب الأمان هنا ليس بمجمل حتى يرجع في البيان إلى المجمل وإنما هو مشترك باعتبار أنه يحتمل كل واحد من الفريقين على وجه الانفراد كأنه ليس معه غيره .
وفي مثل هذا لا بيان للموجب وإنما يطلب البيان بالتأمل في صفة الكلام فإذا تعذر الوقوف عليه كانوا جميعاً آمنين لاختلاط المستأمن بغير المستأمن .
وهذا لأن بيان المشترك بما يكون مقارناً فأما ما يكون طارئاً فهو نسخ فلا جرم إذا قال : نويت الأسفلين أو الأعلين كان ذلك صحيحاً لأنه بيان بما اقترن بالكلام فأما إذا قال : اختار الآن فهذا ليس ببيان إنما هو في معنى النسخ وهو لا يملك ذلك .
وإن قال المتكلم : أنا نويت الأسفلين .
وقال الإمام : أنا نويت الأعلين .
فهو على ما عني الإمام لأنه هو الموجب بالصيغة المشتركة .
ألا ترى أنه لو قال : أمنى على قريبي عباس بن عمر .
فقال : أمنتك وله قريبان كل واحد منهما بهذا الاسم فقال الإمام : عنيت هذا .
وقال المستأمن عنيت الآخر .
كان ذلك على ما عني الإمام وإن قال الأمير : لم أعن واحداً منهما بعينه .
وقال المستأمن كذلك فهما آمنان .
لاختلاط من صار آمناً بغيره على وجه لا يمكن تمييزه وإن قال المستأمن عنيت هذا .
وقال الأمير لم أعن واحداً بعينه .
إنما أجبته إلى ما طلب فالأمان الذي عناه المستأمن لأن الإمام بنى الإيجاب على كلامه وأحدهما في ذلك عين بإرادة المستأمن إياه .
فيجعل ذلك كالمعين في جواب الإمام أيضاً ولو قال : أمني على عشرة من مواليّ الأسفلين .
فالخيار في تعيينهم إلى المستأمن هنا كما في قوله : على عشرة من أهل حصني لأنه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم بذكر كلمة الشرط بعد أمان نفسه وكذلك لو قال : علي ابن عمي فله أن يختار أيهما شاء إذا كان له ابنا عم .@(2/19)
ولو قال : علي ابن عمي زيد بن عمرو .
فإذا كان له ابنا عم كل واحد منهم بهذا الاسم وأجمع المستأمن والذي أمن أنهما لم يعينا واحداً منهما فهما آمنان لأن التعريف بالاسم والنسب كالتعريف بالإشارة وإنما وقع الأمان بهذا اللفظ على أحدهما بعينه ولكنا لا نعرفه فاختلط المستأمن بغير المستأمن وفي الأول إنما أوجب الأمان في منكر مجهول فكان له أن يعين أيهما شاء .
ألا ترى أنه لو أعتق عبداً بعينه من عبيده ثم اختلط بغيه على وجه لا يمكن تمييزه لم يكن له خيار التعيين بخلاف ما لو أعتق أحد عبديه بغير عينه .
ولو قال : أمنوني في عشرة أنفس من بني .
فقد تقدم بيان هذا .
إلا أن هنا ليس للإمام أن يعين عشرة من بناته ليس فيهن ذكر لأنه أوجب الأمان لعشرة هم بنوه .
وهذا لا يتناول الإناث المفردات بخلاف الأول .
فهناك أوجب الأمان لعشرة هم من بينه والإناث المفردات من بنيه إذا كان له معهن ذكر .
ولو قال : أمنوني على مواليّ .
وليس له إلا مواليات إناث لا ذكر فيهن .
فهن آمنات معه استحساناً .
وفي القياس هذا وما تقدم من الإخوة والبنين سواء في أنه لا يتناول الإناث المفردات ولكنه استحسن فقال : وأهل اللغة يستجيزون إطلاق اسم الموالي على الإناث المفردات ويعدون قول القائل : مواليات من باب التكلف بل يقولون للمعتقات : هن موالي بني فلان المفردات ويعدون قول القائل : مواليات من باب التكلف بل يقولون للمعتقات : هن موالي بني فلان كما يقولون للمعتقين وللعرف عبرة في معرفة المراد بالاسم .
فلهذا تناول هذا اللفظ الإناث المفردات في الأمان والوصية بخلاف اسم الإخوة والبنين والله أعلم بالصواب .@(2/20)
باب الأمان على غيره ما يدخل هو فيه وما لا يدخل وما يكون فداء وما لا يكون
قال : رجل من المحصورين قال للمسلمين : أفتح لكم الحصن على أن تؤمنوني على فلان رأس الحصن .
فقالوا : نعم ففتح الحصن فهو والرأس آمنان .
لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه وللرأس على فتح الحصن فإنه أضاف الأمان إلى نفسه بالكناية والى الرأس بالتصريح باسمه ووصل كلمة على الذي هو للشرط به وكذلك لو قال : أنا آمن على فلان رأس الحصن إن فتحت الباب .
فقالوا : نعم وهذا لأن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فإذا ذكر في موضع الجواب يصير الخطاب معاداً فيه فكأن المسلمين قالوا له : أمناك على فلان رأس الحصن على أن تفتح الباب وفي هذا إيجاب الأمان لهما بمنزلة ما لو قالوا : أمناك على أهلك وولدك أو على أهلك ومالك على أن تفتح الحصن ولو كان قال : اعقدوا لي الأمان على فلان فهما آمنان أيضاً .
وكذلك لو قال : اجعلوا لي الأمان على فلان لأنه صرح باشتراط الأمان لنفسه ولفلان .
وهذا بخلاف ما قال في الباب الأول آمنوا لي عشرة .@(2/21)
فإنه لا يتناوله الأمان لأن تقدير كلامه هناك آمنوا لأجلي فلا يصير مضيفاً الأمان إلى نفسه بل يصير ملتمساً الأمان لعشرة منكرة متشفعاً في ذلك .
وكم من شفيع لا حظ له فيما يشفع فيه ولا يتحقق هذا المعنى هنا فإن قوله : اعقدوا لي الأمان تصريح بإضافة الأمان إلى نفسه .
ولأنه قال على فلان ولو حملنا قوله على معنى الشفاعة لم يبق لقوله : على فائدة بل يصير كلامه اعقدوا أو اجعلوا لأجلي وبشفاعتي الأمان لفلان .
وكلمة على للشرط فلا بد من إعمالها إذا صرح بها وذلك في أن يلتمس الأمان لنفسه ويشترط أمان فلان معه .
وفي ولو قال : عاقدوني على أن الأمان على رأس الحصن فالرأس آمن والمتكلم فيء لأنه أضاف العقد إلى نفسه دون الأمان .
وكم من مباشر للعقد لا حظ له من المقصود بالعقد خصوصاً في هذا العقد الذي لا تتعلق الحقوق فيه بالعائد .
ولا بد من الإضافة إلى من يقع العقد له ألا ترى : أن المسلمين لو قالوا : عاقدناك الأمان على الرأس إن فتحت .
فكان الأمان على الرأس دونه .
لأن المعاقدة على ميزان المفاعلة فيه يصير العقد مضافاً إليه دون ما يتناوله العقد وهو الأمان ثم إنما يأمن الرأس وحده ولا يدخل في الأمان عياله ورقيقه في هذين الفصلين لأن الأمان له بعد الفتح وتمام القهر وفي مثله لا يدخل إلا ما عليه من اللباس .
ولو قال : عاقدوني الأمان أو اكتبوا إلي الأمان على فلان .
فقالوا : نعم فالأمان لفلان دونه لأنه التمس أن يكتبوا إليه أمان فلان .
والمكتوب إليه قد لا يكون ذا حظ من المكتوب فهذا وقوله : عاقدوا لي سواء ووقع في بعض النسخ : اكتبوا لي الأمان على فلان وهو غلط فإن قوله : اكتبوا لي الأمان كقوله : اجعلوا لي الأمان .
لأن فيه تصريحاً بإضافة الأمان المكتوب إلى نفسه فعرفنا أن الصحيح : اكتبوا إلي .
ولو قال : اعقدوا لي الأمان أو : عاقدوني على الأمان على عيالي أو قال : على ولدي أو على مالي أو على قرابتي .
فهو آمن وجميع من اشترط عقد الأمان عليه .
أما في قوله : اعقدوا لي فهو غير مشكل .
وأما في قوله : عاقدوني فهو لا يدخل في الأمان في القياس كما في الفصل أحدهما : أن في كلامه دلالة اشتراط الأمان لنفسه لأنه شرط الأمان لولده ولعياله والمقصود به إبقاؤهم .
وإنما بقاؤهم ببقائه على وجه يعولهم بعد هذا كما كان يعولهم من قبل .
ولا يتحقق هذا إلا إذا تناوله الأمان فإنه إذا قتل أو استرق لا يعولهم بعد ذلك .
وهذا في قوله : على مالي أظهر .
لأنه لا غرض له في طلب الأمان لماله سوى أن يبقي على ملكه فيصرفه إلى@(2/22)
حوائجه ولا يكون ذلك إلا بعد أن يثبت الأمان له ولأنه ليس بسفير في هذا العقد .
فالعاقد على مال نفسه يكون عاملاً لنفسه ولا يكون سفيراً عن غيره .
وكذلك في حق العيال والولد لأن قصده إلى استنقاذهم لحاجته إلى ذلك حتى يقوموا بمصالحة أو لإظهار الشفقة عليهم وذلك في حق نفسه أظهر .
فعرفنا أنه طلب الأمان لنفسه دلالة بخلاف ما سبق .
ولو قال : عاقدوني على الأمان على عيال فلان أو على ولد فلان .
فهو لا يدخل في الأمان لأنه ليس في كلامه دليل على طلب الأمان لنفسه فإن بقاء عيال فلان غير متعلق ببقائه وبقاؤه غير متعلق أيضاً بقيامهم بمصالحه .
فكان هذا وقوله على رأس الحصن سواء ولم يذكر أن فلاناً المنسوب إليه العيال والولد هل يدخل في هذا الأمان أم لا وعلى أحد الطريقين الاستحسان ينبغي أن يدخل لأن بقاء عيال فلان على ما كانوا عليه يتعلق بأمان فلان وعلى الطريق الآخر لا يدخل لأن المتكلم أظهر الشفقة والترحم على ولد فلان وعياله وذلك لا يكون دليلاً على شفقته على فلان ثم أوضح هذا بما : لو قال الرأس : عاقدوني الأمان على أهل مملكتي أو على بيتي فإنه بهذا اللفظ يعلم كل واحد أن مراده إبقاء نفسه على ما كان عليه متصرفاً في مملكته وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت الأمان .
ولو قال : اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أفتحه لكم فهو آمن وأهل الحصن من بني آدم فأما الأموال والسلاح والمتاع والكراع فهو فيء لأن ثبوت الأمان بعد فتح الباب .
وفي مثله لا تدخل الأموال تبعاً ألا ترى أنهم شرطوا له ذلك جزاء على فتح الباب ولو تناول الأمان جميع ما في الحصن من الأموال والنفوس لم يبق للمسلمين فائدة في فتح الباب فبهذا يتبين أنهم قصدوا ذلك ليتوصلوا إلى استغنام الأموال ولأن في اشتراط فتح الباب دليل على أن الذين تناولهم الأمان غير مقرين على السكنى في الحصن وإنما تدخل الأموال في الأمان لأن التمكن من المقام بها يكون فإاذ انعدم ذلك المعنى هنا لا يدخل المال .@(2/23)
ولو قال : اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن أدلكم على الطريق إلى موضع كذا ففعلوا وفتح الحصن .
فجميع من في الحصن وجميع ما فيه داخل في الأمان هنا لأن شرط الأمان هنا جزاء على الدلالة لا على فتح الباب ففي كلامه بيان أنه يدلهم ليتمكن القرار في حصنه مع أهل الحصن على ما كانوا من قبل .
وفي مثل هذا الأمان تدخل الأموال .
وكذلك لو قال : اعقدوا لي الأمان على أهل حصني على أن تدخلوه فتصلوا فيه .
فليس لهم قليل ولا كثير من النفوس ولا من الأموال لأن في كلامه تصريح بما هو فائدة فتح الباب وهو الصلاة فيه دون إزعاج أهله منه .
وقد يرغب المسلمون في ذلك ليفشو الخبر بأن المسلمين صلوا بالجماعة في حصن كذا فيقع به الرعب في قلوب المشركين أو ليعبد الله في مكان لم يبعده في ذلك المكان أهله .
ومكان العبادة شاهد للمؤمن يوم القيامة كما ورد به الأثر .
ولو قال : أمنوني على أهل الحصن على أن تدخلوه ولم يذكر غير ذلك فهذا الأمان على الناس خاصة لأن فائدة دخول الحصن : الاستغنام هو الظاهر وما سواه محتمل .
ولكن المحتمل لا يقابل الظاهر .
فإذا انعدم التصريح بالوجه المحتمل كان الكلام محمولاً على الظاهر .
إليه أشار بقوله وبعض هذا قريب من بعض ولكن هذا على ما يقع عليه معاني الكلام .
ولو قال : أفتح الحصن على أن تؤمنوني في أهل حصني أو مع أهل حصني أو وأهل حصني لم يدخل الأموال في شيء من هذا لأن اشتراط الأمان لهم جزاء على فتح الباب مطلقاً .
ولو قال : أفتح الحصن على أن تؤمنوني على ألف درهم .
فهو آمن وماله كله فيء .
إنما له ألف درهم يعطيه الإمام@(2/24)
من أي موضع شاء لأنه شرط ألف درهم مطلقاً مع أمان نفسه جزاء على الفتح وفي مثل هذا الأمان لا يدخل ماله ولكن يدخل ما شرط من الألف عوضاً على فتح الباب .
فإذا فتح أعطي ما شرط له من العوض .
وكذلك لو قال : أفتح الحصن وتؤمنوني على ألف درهم فإن الواو هنا بمعنى الحال يعني في الحال ما تؤمنوني على ألف درهم .
فيكون شرطاً .
كقوله لامرأته : أنت طالق وأنت مريضة .
فإن قال : أفتح الحصن فتؤمنوني على ألف درهم من مالي أو على أن تؤمنوني فإنما له ألف درهم من ماله والباقي كله فيء .
وإن لم يف ماله بألف درهم لم يكن زيادة على ماله لأنا علمنا أنه لم يجعل الألف لنفسه عوضاً فإنه أضاف الألف إلى نفسه بقوله : من مالي .
وماله لا يسلم له عوضاُ عن فتح الباب بل يسلم له بأن أعطي الأمان في ماله كما في نفسه .
وبطريق الأمان لا يسلم له زيادة على ماله بخلاف الأول .
فقد أطلق تسمية الألف بمقابلة منفعة شرطها على نفسه للمؤمنين فيكون ذلك عوضاً بمنزلة الأجير يقول : أعمل لك هذا العمل على درهم ولو قال : أعمل لك هذا العمل على درهم من مالي لم يكن ذلك إجازة .
وإن لم يكن ماله دراهم ولكنه كان عروضاً أعطي من ذلك ما يساوي ألفاً لأنه قال : من مالي .
فإنما جعل المشروط فيه الأمان جزء من ماله وبصفة المالية الأموال جنس واحد بخلاف ما إذا قال : علي ألف درهم من دراهمي .
لان المشروط فيه الأمان هناك جزء من دراهمه فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الأمان جزء من ماله وبصفة المالية جنس واحد بخلاف ما إذا قال : علي ألف درهم من دراهمي .
لأن المشروط فيه الأمان هناك جزء من دراهمه فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الأمان محله فكان لغواً .
ونظيره الوصية إذا قال : أوصيت لفلان بألف درهم من مالي .
أعطي ألف درهم من ماله وإن لم يكن له دراهم وإن قال : من دراهمي لم يعط شيئاً ثم ذكر سؤالاً فقال : إذا قال : علي ألف من مالي لماذا لا يجعل شرطاً للألف على نفسه للمسلمين عوضاً عن الأمان فيصير كأنه شرط لهم فتح الحصن وألف درهم عن نفسه عوضاً عن أمانه .@(2/25)
قلنا : لأن في هذا إلغاء هذا الشرط .
فإنه لو فتح الباب ولم يذكر هذه الزيادة كان ماله كله فيئاً .
فعرفنا أنه ليس مراده وتؤمنوني على ألف من مالي أن تكون الألف للمسلمين من ماله وإنما مراده أن يكون الألف سالماً له من ماله بطريق الأمان وما سواه فيء للمسلمين .
ألا ترى أنه لو قال : أفتح الحصن على أن تؤمنوني على دقيقي أو على مالي أو على سلاحي كان ذلك محمولاً على طلب الأمان لهذه الأشياء مع نفسه .
فكذلك قوله : على ألف من مالي ولو قال : على عشرة أرؤس من الرقيق أو على عشرة أفراس كان ذلك عوضاً بمنزلة قوله : على ألف درهم مطلقاً لأن الرقيق يصلح عوضاً عما ليس بمال كالدراهم وفتح الباب بهذه الصفة فللمسلمين أن يعطوه الأرؤس من أي موضع أحبوا بخلاف ما إذا قال : رقيقي أو كراعي ولو لم يشترط فتح الحصن ولكن قال : آمنوني حتى أنزل إليكم على ألف درهم أو قال : على ألف درهم من مالي فأمنوه فعليه ألف درهم في الوجهين جميعاً لأنه ما شرط في مقابلة ما التمس من الأمان منفعة للمسلمين فعرفنا أن مراده بذكر الألف أن يكون عوضاً للمسلمين على أمانه سواء أطلق أو قال : من مالي وهذا لأن بنزوله يتوصل المسلمون إلى ماله الذي في الحصن ليكون ذلك دلالة التماس الأمان في هذا القدر من ماله .
وإذا حملنا على اشتراط العوض كان مفيداً للمسلمين بخلاف ما سبق .
وكذلك لو قال : على عشرة أرؤس من الرقيق أو من رقيقي فهذا عوض .
وقد فدى به نفسه فعليه أن يدفع ذلك إلى المسلمين .
ولو قال : على أهلي أو ولدي أو مالي فهو آمن وجميع ما نزل به من ذلك ولا شيء عليه@(2/26)
لأن أهله وولده ليس بمال ولم تجر العادة بأن يجعلهم المرء فداء لنفسه بل يجعل نفسه وقاية دونهم .
فعرفنا أن مراده التماس الأمان لهم مع نفسه .
وكذلك إذا ذكر المال مطلقاً لأن ذلك مجهول الجنس والصفة والقدر فلا يصلح أن يكون فداء ولأنه لا يفدي نفسه بجميع ماله عادة إذاً يهلك جوعاً .
ولو قال : أمنوني على رقيقي على أن أنزل فهو آمن ورقيقه .
ولو قال : على نصف رقيقي كان هذا فداء وباعتبار حقيقة المعنى لا يتضح الفرق بينهما ولكن باعتبار عرف الناس .
فإن الإنسان يفدي نفسه ببعض ما يأتي به معه ليتعيش آمناً بما بقى ولا يفدي بجميع ما ينزل به فإذا ذكر نصف المال أو نصف جنس من المال فالغالب أن مراده الفداء وإذا ذكر جميع المال أو جميع جنس من المال كالرقيق فالغالب أن مراده طلب الأمان لذلك الجنس مع نفسه فإذا ذكر ما ليس بمال كالزوجة والولد فالغالب أن مراده الاستئمان لهم لا الفداء سواء ذكر عدداً منهم أو ذكر جماعتهم وهو بمنزلة ما لو ذكر إنساناً آخر بقوله : آمنوني على فلان فإنه يكون ذلك طلب الأمان لفلان لا جعله فداء لنفسه .
فإن قال : أمنوني على عشرة من رقيقي حتى أنزل فهذا فداء .
فإن نزل معه بماله وزوجته فهم فيء أجمعون لما بينا أن في أمان النازل لا يدخل سوى ما عليه من اللباس ألا ترى أن في الأمان بغير فداء لا يدخل المال والعيال فكذلك في الأمان بالفداء .
ولكنه إن نزل معه بمثل ما اشترط في فدائه فقال : جئت به للفداء الذي شرطتم علي فالقياس أن يكون ذلك فيئاً فيكون عليه فداء آخر لأن الأمان له بعد النزول وذلك لا يتناول ما معه من المال فصار المال فيئاً للمسلمين وهو لا يتمكن من أداء ما التزمه من الفداء بفيء للمسلمين ولكنه استحسن فقال : يحسب له هذا من الفداء لأنه يتمكن من أداء ما التزمه بماله وهو ينزل إلينا ولا مال له عندنا .
وإذا لم ينزل بهذا القدر مع نفسه لا يتمكن من الفداء .
فكان اشتراط الفداء عليه تسليطاً له على أن يأتي به كما أن اشتراط بدل الكتابة على المكاتب يكون تسليطاً له على الاكتساب وتمليكاً لليد والكسب منه .@(2/27)
فإن كان المشروط عليه عشرة أرؤس فجاء بأحد عشرة كان لنا أن نأخذ الكل : عشرة بالفداء والباقي لأنه فيء لأن الاستحسان في مقدار حاجته إلى الفداء وفيما زاد عليه يؤخذ بالقياس وكذلك لو جاء بعشرين رأساً فقال : جئت بها لتبيعوها فإنه يؤخذ الكل منه باعتبار القياس كما ذكرنا .
وإن جاء بصنف غير الرقيق فقال : أردت أن أبيعه وأعطيكم القيمة فإنه يقبل ذلك منه مع يمينه استحساناً لأن الرقيق في معاوضة ما ليس بمال مطلقاً يثبت متردداً بين العين وبين القيمة وبأيهما جاء قبل منه .
فكانت المجانسة بين الفداء وبين ما جاء به ثابتة باعتبار المالية فلهذا يصدق في ذلك .
وهذا إذا قال : على عشرة أرؤس من الرقيق وأما إذا قال : من رقيقي ثم جاء بالدراهم فذلك فيء وهو مطالب بما التزمه من الفداء لأنه بإضافة الرقيق إلى نفسه يصير معيناً لهم .
فكأنه عينهم بالإشارة وفي مثل هذا لا يؤخذ منه القيمة مكان العين فإن قال : لم يدعني أهل الحصن أنزل إليكم بذلك فجئت بالقيمة .
لم يصدق على ذلك لأن ما جاء به من الدراهم صار غنيمة للمسلمين فلا يصدق على أن يجعل ذلك محسوباً عليهم بالفداء .
وذلك لأنه كان متمكناً من أن يبين للمسلمين قبل نزوله أنهم يمنعونه من النزول بالرقيق حتى يأذنوا له في النزول بالقيمة .
فإذا لم يفعل كان التقصير منه وإن فعل ذلك فأذنوا له في النزول بالقيمة كان ما يأتي به من الدراهم فداء ولا يكون فيئاً .
ولو أن صاحب القلعة قال : أمنوني على قلعتي أو على مدينتي على أن أفتحها لكم .
فإن جرى كلام يدل على أن المراد عين القلعة والمدينة بأن قال : إني أخاف إن فتحت لكم أن تهدموا قلعتي أو تخربوا مدينتي فقالوا له :@(2/28)
أنت آمن على قلعتك ومدينتك .
فهذا عليهما خاصة دون ما فيهما من الأموال والنفوس لأن مطلق الكلام يتقيد بما سبق من دلالة الحال .
وإنما جعلوا له الأمان جزاء على فتح الباب .
ومقصودنا من ذلك الاستغنام فعرفنا أن الأمان يختص بما سمي له إلا أنه يأمن بماله وولده وعياله لأنه استأمن على قلعته ليتمكن من القرار فيها وتمكنه بهذه الأشياء .
ففي هذا الحكم يشبه حاله حال المستأمن إلى دارنا للتجارة .
فأما إذا لم يسبق كلام يكون دليلاً على تخصيص ففي القياس الجواب كذلك أيضاً لما بينا أن المقصود من فتح الباب هو الاستغنام والاسترقاق .
ثم ليس في لفظة القلعة والمدينة ما ينبئ عن أهلها أو عما فيها ولعله إنما استأمن لهذه الصفة لخوفه على القلعة أن تقلع وعلى المدينة أن تحرق أو تخرب .
وقد كان ذلك مسقط رأسه ومسكن آبائه فقصد بالأمان إبقاؤها دون إبقاء من فيها وفي الاستحسان هذا أمان على القلعة والمدينة وعلى جميع ما فيها لدلالة العرف فإنه إذا قيل هذه مدينة عامرة أو قلعة حصينة يفهم منه عمارتها بكثرة أهلها لا بجدرانها .
أرأيت لو قال : آمنوني على مملكتي على أن أفتح لكم القلعة أليس يفهم من هذا اللفظ جميع ما في مملكته من النفوس والأموال ولأن مقصوده أن تبقى له المدينة والقلعة على ما كانت من قبل ويكون هو المتصرف في أهلها كما كان .
وإنما يحصل هذا المقصود إذا دخلوا في الأمان .
ولو أشرف رجل من أهل الحصن فقال : أفتح لكم على أن تؤمنوني من مالي على ألف درهم .
فله ألف درهم من ماله بطريق الأمان لا بطريق العوض .
كما في قوله : على أن تؤمنوني على ألف درهم من مالي .
إذ التقديم والتأخير في هذا لا يوجب اختلاف المعنى وكذلك لو قال : على ألف درهم فلا فرق بين أن يقدم ذكر الألف على أمان نفسه أو يؤخره في أن يكون عوضاً شرطه عليهم بفتح الباب .
ولو قال : أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم كان آمناً وحده .
وكان عليه ألف درهم يكتسبها فيؤديها لأن جميع ماله يصير فيئاً بفتح الباب لو لم يقل بألف درهم فكذلك إذا قال : بألف درهم .@(2/29)
وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض .
فإذا وصل الألف بأمان نفسه بحرف الباء كان ذلك تنصيصاً على أن الألف عوض عن الأمان والأمان حاصل له .
فكان الألف عليه بمنزلة من يقول لغيره : وهبت هذه العين منك على أن تبيعني جاريتك هذه بمائة دينار كانت المائة عوضاً عن الجارية .
وكذلك لو قال : أفتح لكم وتؤمنوني بألف درهم .
ولو قال : أفتح لكم على أن تؤمنوني من مالي بألف درهم .
فالألف عوض عن أمانه أيضاً إلا أنه يؤخذ منه من ماله مقدار الألف وجد مكان ما عليه عوضاً من الأمان بخلاف الأول لأن هاهنا عين لما التزم من العوض محلاً مخصوصاً وهو ماله الذي في يده وعلى ذلك أعطيناه الأمان .
ولا بد من أن يأخذ ذلك القدر منه بطريق الفداء لا بطريق الاستغنام وفي الأول التزم العوض في ذمته من غير أن عين له محلاً فيبقى ماله فيئاً كما هو موجب فتح الباب على وجه إتمام القهر .
وإن لم يجدوا له مالاً هنا فعليه ألف درهم يؤديها إلى المسلمين لأن الأمان قد سلم له فيلزمه العوض بمقابلته .
ولكنه كان يعطي ذلك العوض من المال الموجود في يده إن كان فإذا لم يكن فقد عرفنا أن مراده من المال الذي يكسبه .
ولو لم يذكر فتح الباب ولكن قال : أمنوني حتى أنزل إليكم بألف درهم من مالي أو من مالي بألف درهم .
فهذا فداء لأن حرف الباء يصحب الأعواض .
فإنما التمس أماناً بعوض .
وقد نال ذلك حين نزل فعليه إذاً الألف .
وكذلك لو كان بحرف على هنا لأنه لم يشترط على نفسه للمسلمين منفعة حتى يكون ذكر الألف شرطاً شرطه لنفسه على المسلمين عوضاً فتكون الألف عوضاً عن أمانه في الوجهين .
ولو قال : أفتح لكم على@(2/30)
أن تؤمنوني على أهلي وألف درهم .
أو قال : بأهلي وألف درهم فهو سواء .
وله ألف درهم من ماله مع أهله وما سوى ذلك فيء لأن الأهل ليس بمال فلا يكون ذكره الألف على سبيل البدل عن أمانه سواء ذكره بحرف على أو بحرف الباء ولكنه على وجه الاستئمان لهم .
ثم الواو للعطف وحكم العطف حكم المعطوف عليه .
فإذا كان المعطوف عليه استئماناً كان المعطوف كذلك .
ولو بدأ بالمال فقال : أفتح لكم وتؤمنوني على ألف درهم وعلى أهلي وولدي كان آمناً على ألف يعطونها إياه وعلى أهله وولده وما سوى ذلك فيء لأن شرط ذلك كله لنفسه جزاء على فتح الباب فما يصلح عوضاً وهو الألف يعطوا له إياه .
وأهله وولده كنفسه في أنه شرط أمانهم جزاء على الفتح .
ولو قال : أفتح لكم على أن تؤمنوني بألف درهم وبأهلي وولدي .
فعليه الألف وأهله وولده كلهم فيء لأن حرف الباء محكم في الأعواض .
فقد قرنه بالألف فكان عوضاً عن أمانه وقرنه بالأهل والولد أيضاً وعطفهما على العوض أيضاً .
فكان تنصيصاً على أن كل ذلك عوضاً عن أمانه فإذا بدأ بالأهل فقال : على أن تؤمنوني بأهلي وألف درهم فالقياس هكذا يقتضى .
ولكن الاستحسان : الأهل ليس بمال ليصلح أن يكون عوضاً .
فاستدللنا بذلك على أن المراد الاستئمان للأهل جزاء على الفتح وقد عطف الألف عليه فيكون ذلك استثناء الألف من ماله من جملة ما يكون فيئاً .
ألا ترى أنه لو قال : أفتح لكم على أن تؤمنوني بجميع قرابتي وبأهلي وولدي وبألف درهم فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أن هذا كله استثناء لا فداء .
ولو قال : أنزل إليكم على أن تؤمنوني على أهلي وألف درهم أو بأهلي وألف درهم .
فهو سواء .
وله أهله وألف درهم من ماله الذي نزل به .
وما سوى ذلك فيء كما هو الحكم في@(2/31)
أمان النازل لأنه عطف الألف على الأهل ومراده في حق الأهل الاستئمان دون الفداء فكذلك فيما عطف عليه .
ولو قال : بألف درهم وأهلي .
فهذا فداء .
وعليه أن يعطيهم ألف درهم وأهله لأن الألف عوض حين قرن به حرف الباء ثم عطف الأهل عليه فكان ذلك تنصيصاً على الفداء .
قال : وبعض هذا أقرب من بعض .
ولكن إنما يؤخذ بالغالب من معاني كلام الناس في كل فصل إلا أن يكون قبل ذلك مراوضة تدل على فداء أو على أمان عليه فيؤخذ بذلك لأن الكلام يحتمل كل واحد من المعنيين .
فإذا سبق ما يكون دليلاً على أحد المعنيين ترجح ذلك وإذا لم يسبق حمل على أغلب الوجهين .
كما هو الحكم في المشترك إذا ترجح أحد المحتملين فيه بدليل في صيغته .
ولو قال : أفتح لكم وأعطيكم مائة دينار على أن تؤمنوني على عشرة آلاف درهم من مالي .
فعليه بعد فتح الباب أن يعطيهم مائة دينار وعليهم أن يسلموا له عشرة آلاف من ماله كما استثناه لنفسه وهذا لا يكون فداء لأنه لو لم يذكر المائة الدينار كان ذلك استئماناً منه على عشرة آلاف من ماله فكذلك إذا ذكر المائة الدينار شرطاً للمسلمين على نفسه مع فتح الباب .
ولو قال : أفتح لكم وأعطيكم مائة دينار عل ان تؤمنوني بألف درهم .
فعليه مائة دينار وألف درهم لأنه صرح بكون الألف عوضاً عن أمانه حين وصل حرف الباء بذكره وصرح بكون الدنانير عوضاً عن أمانه حين شرط على نفسه أن يعطيها للمسلمين إلا أن يقول : بألف درهم آخذها أو تعطونها فحينئذ يكون ذلك تنصيصاً على اشتراط الألف على المسلمين لنفسه عوضاً .
وهذا تفسير ما قال إن هذا الكلام يحتمل معنيين .
يعني بقوله ألف درهم .
أي بألف درهم التزمها أو بألف آخذها منكم .
فإذا جاء دليل أخذ به وإذا لم يأت دليل أخذ بما هوالغالب@(2/32)
باب الحربي يستأمن إلى معسكر المسلمين
فإذا استأمن الحربي إلى العسكر من غير حصن ولا قلعة ولا مطمورة فقال : أستأمن لأخرج إليكم ثم أرجع إلى أهلي فآتيكم بالتجارات فذهب ثم جاء بتجارة أو سلاح أو غير ذلك وقال : هذا مالي .
فالقول قوله وهو آمن على ما جاء به لأنه استأمن في حال لم يصر مقهوراً فهو بمنزلة من استأمن ليخرج إلى دار الإسلام .
وقد بينا أن هناك يدخل ماله في أمانه تبعاً .
وإن لم يذكر فكذلك الذي استأمن إلى العسكر إذا لم يكن محصوراً وقوله في المال مقبول اعتبار أن اليد له .
فالظاهر شاهد له .
وكذلك لو جاء بامرأة فقال : هذه امرأتي أو ابنتي أو أختي أو جاء بصبيان فقال : هؤلاء ولدي فهو مصدق على ذلك .
وهم آمنون معه بمنزلة من استأمن إلى دار الإسلام .
وقد ذكرنا هناك أنه يتبعه عياله في الأمان كما يتبعه ماله .
ومن كلبه منهم فيما قال فهو فيء لإقراره على نفسه بالرق حين كلبه في سبب التبعية في الأمان وإن صدقوه ثم رجع المستأمن فقال : لا قرابة بيني وبينهم وكذبوه فهم آمنون لأنهم بالتصادق استفادوا الأمان في الابتداء فلا يبطل ذلك بقول المستأمن لأن إقراره عليهم بالرق أو بما يبطل أمانهم مردود وإن اتهم الأمير أحداً منهم حلفه فإن نكل أخذ مملوكاً ولكن لا يقتل بنكوله .
ولو جاء معه رجال فقال : هؤلاء أولادي وإخواني فهم فيء أجمعون .@(2/33)
لما بينا أن المقاتلة لا يتبعونه في الأمان لو استأمن إلى دار الإسلام فكذلك إذا استأمن إلى العسكر ولم يستأمن لهم نصاً ولا استأمنوا لأنفسهم .
ولو جاء بمتاع أو رقيق فقال : هذا مالي أو بامرأة فقال : هذه عيالي .
فعلم أنه جاء بذلك من قرية أو مطمورة قريبة من العسكر فإن كان لم يعلم بها أهل العسكر فذلك كله سالم سواء كانت بحيث لو علموا بها كانوا قاهرين لأهلها أو لم يكونوا لأن معنى القهر لا يتحقق إذا لم يعلموا بهم والقريب كالبعيد في حق من لا يعلم به .
ألا ترى أن من تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به صح تيممه بمنزلة ما لو كان الماء بعيداً وكذلك لو كان علم بهم إلا أنهم لم يقاتلوهم ولم يتعرضوا لهم وهم ممتنعون من المسلمين لأن أهل المنعة لا يصيرون مقهورين بمجرد العلم بهم ما لم يتعرض لهم بالقتال .
فإنما جاء بذلك من موضع لم يتناوله قهر المسلمين فيكون سالماً له .
وإن جاء به من قرية قريبة من العسكر ليست لهم منعة وقد علم أهل العسكر بها وبما فيها أو لم يعلموا بما فيها إلا أنهم لو دخلوها علموا ذلك فليس له شيء مما جاء به لأن العسكر دخلوا دار الحرب على قصد قهر المشركين فإذا نزلوا بساحة قوم غير ممتنعين منهم وعلموا بحالهم كانوا قاهرين لهم .
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرب من خيبر قال : " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " .
وإذا ثبت القهر بهذا الطريق عرفنا به إنما جاء بهذا مما كان في يد المسلمين وتحت قهرهم ولا يسلم له شيء منه بمنزلة المحصور الذي يستأمن لينزل أو ليفتح الباب .
وإن كان إخرجه من مطمورة في قرية قد عرف المسلمون القرية ولكنهم لم يعلموا المطمورة فجميع ذلك سالم لأن ما في المطمورة لا يتناوله قهوهم إذا لم يعلموا بها دخلوا القرية أو لم يدخلوها فإنهم عدموا آلة الوصول إليها .
وإن جاء بذلك من حصن قد قاتلهم المسلمون وهم مقيمون عليه ليفتحوه فجميع ما جاء فيه فيء لأن قهر المسلمين يتناول ما في الحصن بدليل أنه لو نزل رجل من@(2/34)
أهل الحصن مستأمناً لم يسلم شيء مما جاء به مع نفسه .
فأي فرق بين أن يستأمن وهو خارج وبين أن يستأمن ليخرج في حق المال الذي يخرجه من الحصن .
فكما أن هناك لا يسلم له شيء في المال والعيال بدون التصريح بالاستئمان منه له كذلك هذا .
والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=17 - TOP#TOPباب الحربي يستأمن إلينا ثم نجده في أيديهم
وإذا استأمن الحربي إلى العسكر ليدلهم على عورات المشركين ولقي المسلمون العدو ففقدوه .
فلما هزموهم وجدوه فيهم وقال : أسروني من صف المسلمين ولا يعرف كذبه من صدقه فإنه ينظر في حاله فإن كانت هيئته كهيئة المأسور بأن كان مغلولاً أو مربوطاً أو مضروباً لم يعرض له وكان عندنا على أمانه الأول لأنه عند تعذر الوقوف على حقيقة الحال يصار إلى تحكيم الظاهر وإلى العلامة والزي .
فإذا تبين بذلك أنه كان مأسوراً فيهم قلنا : أسرهم إياه لا يبطل أمانه كما لو أسروا ذمياً لا يبطل ذلك عهده ولكنه يستحلف على ما يدعي من ذلك لأن بما شاهدناه من دلالة الحال يصير الظاهر شاهداً له ولكن لا تنتفي تهمة الكذب عن كلامه فالقول قوله مع يمينه .
وإن لم يكن عليه شيء من علامات الأسر فهو فيء وللإمام أن يقتله لأن الظاهر أنه فارق عسكرنا باختياره والتحق بمنعة أهل الحرب فانتهى به الأمان الذي بيننا وبينه وحال كحال غيره من أهل الحرب .
وإن أشكل أمره بأن دل بعض العلامات على أنه أتاهم اختياراً وبعض العلامات على أنهم أسروه فهو فيء .
ولكن لا ينبغي@(2/35)
للإمام أن يقتله لأن عند تعارض العلامات يحكم الموضع الذي وجد فيه وإنما وجد في منعة أهل الحرب وفي موضع إباحة الاسترقاق .
إلا أن تعارض العلامات يمكن شبهة في أمره فمنع القتل إذا القتل مما يندرئ بالشبهات .
فإن قيل : عند تعارض العلامات لماذا لا يتمسك بالأصل وهو الأمان الذي كان ثابتاً له منا قلنا : التمسك بالأصل المعلوم هو لانعدام الدليل المزيل له لا لوجود الدليل المبقي .
وقد ظهر الدليل المزيل لأمانه وهو كونه في منعة أهل الحرب .
فكان ينبغي على هذا القياس أن يكون فيئاً على كل حال إلا أنا تركنا هذا القياس فيما إذا ظهر أنه كان أسيراً فيهم بدليل فإذا انعدم ذلك أو جاء ما عارضه وجب الاعتماد على ما هو معلوم في الحال وهو أنه حربي وجد في منعتهم .
قال : ولو جالت خيل المسلمين جولة ثم إنهم عطفوا فهزموهم فوجدوه في أيديهم فهذا والأول سواء .
إذا علم أنه كان في منعتهم قبل هزيمتهم وإن هزمهم المسلمون فوجدوه لا يدرون أكان معهم أو مع أهل الحرب إلا أنهم كانوا فقدوه .
فلما وجدوه قال : لم أبرح عسكركم .
فإن كان أهل العسكر قليلاً وأحاط العلم بأنه لا يخفى مثله إن كان في العسكر فهو فيء لأنا تيقنا بأنه كاذب محتال وأنا حين فقدناه قد التحق بمنعة أهل الحرب فانتهى حكم الأمان وإن كان العسكر عظيماً قد يخفى مثله فيه ولا يدرى أصدق أم كذب فهو على أمانه لأن الدليل المزيل للأصل المعلوم لم يظهر هنا وهو وصوله إلى منعة المشركين ولكنا ندعي ذلك عليه وهو منكر فالقول قوله مع يمينه .
وإن كان قليلاً ففقدوه فلما هزموا العدو إذا هم به لا يدرون أكان مع العدو أو كان معهم .
فسئل عن ذلك فقال : ذهبت أتعلف العلف أو ضللت الطريق ولم ألحق بالعدو .
ففي القياس هو فيء لأنا علمنا مفارقته العسكر في دار الحرب ودار الحرب موضع أهل الحرب فكان ذلك بمنزلة وصوله إلى منعتهم في حكم انتهاء الأمان .
ولكنه استحسن وقال : هو مصدق مع يمينه لأنه أخبر بخبر محتمل .
فإنه لم يجد بداً من أن يخرج من المعسكر ليقضي حاجته أو ليأتي بالعلف .
وربما يضل الطريق عند الخوف وكثرة الزحام كما أخبر به .
وقد عرفنا ثبوت الأمان له .
فيجب التمسك بذلك الأصل ما لم يظهر مزيله بدليل .
والله أعلم .@(2/36)
M0ا المراوضة على الأمان بالجعل وغيره قال : ولو أن عسكر المسلمين أتوا حصناً من حصون أهل الحرب فناهضوه وقال لهم أهل الحصن : يخرج عشرة منا يعاملونكم على الأمان وقد رضينا بما صنعوا .
فلما خرج العشرة سألوا المسلمين أن يسلموا السبي ويأخذوا ما سوى ذلك .
فأبى المسلمون ذلك .
وصالحهم العشرة على أن يؤمنوهم خاصة وعيالاتهم .
فتراضوا على ذلك .
ثم دخلوا الحصن وفتحوا الباب .
فدخل المسلمون يسبون .
فقال أهل الحصن : أخبرنا العشرة بأنكم أمنتم السبي لم يلتفت إلى كلامهم سواء صدقهم العشرة في ذلك أو كذبوهم .
وجميع ما في الحصن فيء سوى العشرة مع عيالاتهم لأنه لم يؤخذ من المسلمين أمان لغير العشرة صريحاً ولا دلالة .
وأهل الحصن لا يدخلون في أمان العشرة تبعاً فإن في أمان المحصور لا يدخل من كان تبعاً له حقيقة فكيف يدخل من لم يكن تبعاً والعشرة وإن أخبروهم بأمان السبي كما زعموا فقد كذبوا في ذلك .
والمشركون إنما أتوا من قبل أنفسهم حين نصبوا الخائنين للسفارة بيننا وبينهم وصاروا مغترين لا مغرورين من جهة المسلمين .
وعلى هذا لو شهد قوم من المسلمين كانوا في الحصن أن العشرة أخبروهم بذلك لم تنفعهم هذه الشهادة .
لما بينا فإن الثابت بالبينة لا يكون أقوى من الثابت بالمعاينة .@(2/37)
ولو عاينا أن العشرة أخبروهم بذلك حين دخلوا الحصن لم يمنعنا ذلك من استرقاقهم لأنه لا أمان لهم منا .
ولو كان أهل الحصن أخذوا الأمان من المسلمين على ما في حصونهم حتى يرجع إليهم العشرة بصلح أو غير صلح فهذا والأول سوءا لأن ذلك الأمان قد انتهى برجوع العشرة إليهم فكأنه لم يكن أصلاً .
ولو كانوا أخذوا الأمان حتى ترجع إليهم العشرة فيخبروهم بما جرى على وجهه والمسألة بحالها فقال العشرة : قد أخبرناهم بذلك .
وقال أهل الحصن : لم تخبرونا بشيء من ذلك .
فهم على أمانهم لأن العشرة يدعون انتهاء الأمان الذي كان منا لأهل الحصن وأهل الحصن منكرون لذلك فالقول قولهم ولا شهادة للعشرة على ذلك .
لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم ولأنهم يشهدون على إجازة ما فعلوا فإنهم يقولون : قد أخبرنا أهل الحصن ورضوا بما فعلنا ولا شهادة للمرء على إجازة ما باشره .
ولو شهد على مقالتهم قوم مسلمون أو من أهل الذمة كانوا في الحصن قبلت الشهادة وكانوا فيئاً لأن شهادتهم حجة على أهل الحصن .
فكان الثابت بشهادتهم كالثابت بإقرار أهل الحصن .
فإن كان الشهود من المسلمين على ذلك فساقاً رد السبي إلى الحصن وأعيد الأمر كما كان ثم ينبذ إليهم ويقاتلون لأن الأمر بالتوقف في خبر الفاسق منصوص عليه ولا فرق بين أن يكون المشهود عليه مسلماً أو حربياً في أنه ليس للفاسق عليه شهادة مقبولة .
وما لم يثبت إخبار العشرة إياهم بالأمر على وجهه كانوا آمنين فلا يحل سبيهم .
وإن كانوا حين دخل المسلمون عليهم كسر حصنهم فصاروا لا منعة لهم فعليهم أن يلحقوهم بمأمنهم لأنهم في أمان منا .
فلا يجوز النبذ إليهم حتى@(2/38)
نبلغهم مأمنهم .
ولو قالت العشرة : ما أخبرناهم بالصلح على وجهه ولكنا أخبرناهم أنكم أمنتم السبي .
فهذا والأول سواء ولا يجوز التعرض بشيء مما في الحصن لأنهم كانوا في أمان منا إلى غاية .
وهو أن يخبرهم العشرة بالأمر على وجهه ولم يفعلوا .
فإن قال المسلمون : فنحن نسلم لكم السبي كما أخبركم به العشرة ونأخذ ما سواه من المتاع لأنكم رضيتم بذلك وفتحتم الحصن عليه .
وقال أهل الحصن : لا نرضى بهذا الآن .
فذلك لأهل الحصن لأن الأمان منا يتناول جميع ما في الحصن فهم على ذلك الأمان وإن رضوا بغيره ما ثم ينبذ إليهم أو ينتهي بوجود غايته وغايته الإخبار بالأمر على وجهه .
فإذا لم يوجد كان علينا أن نعيدهم إلى منعتهم كما كانوا أو نبلغهم مأمنهم لم ننبذ إليهم ولو بعث الأمير مع العشرة رجلاً من المسلمين .
فقال الرجل المسلم : قد أخبرهم العشرة كيف كان الصلح .
وأنكر ذلك أهل الحصن فالقول قولهم لأن شهادة الواحد في الإلزام لا تكون حجة على المستأمنين كما لا تكون حجة على المسلمين .
وإن كان بعث معهم رجلين مسلمين أو أكثر فشهدا بذلك كانوا فيئاً لأن شهادة المسلمين حجة تامة فيثبت بشهادتهما ما يوجب انتهاء الأمان به .
فإن قيل : كيف تقبل شهادتهما وهما يجران بها نفعاً إلى نفسهما لأن لهما نصيباً في الغنيمة قلنا : نعم .
لكن الحق في الغنيمة لا يتأكد قبل الإحراز .
ولهذا من مات منهم لا يورث نصيبه ومثل هذا الحق الضعيف لا يورث تهمة مانعة من قبول الشهادة .
ألا ترى أن مسلمين من الجند لو شهدا على ذمي أنه سرق من الغنيمة شيئاً بعينة أو شهد عليه أنه سرق شيئاً من مال بيت المال .
كانت شهادتهما مقبولة ولا ينظر إلى ما لهم فيه من المنفعة بناء على الشركة العامة .
وإن كان الرجلان ممن لم تقبل شهادتهما بين المسلمين فالقوم على أمانهم لأن ما ينتهي به الأمان لم يثبت بهذه الشهادة فإن ثبوته بناء على قبول شهادتهما .
ولو كان بعث رجلين@(2/39)
من أهل الذمة مع العشرة وهما ممن تقبل شهادتهما على أهل الذمة فهم فيء أيضاً لأنهم يشهدون على المستأمنين ولأهل الذمة شهادة مقبولة على المستأمنين فيما يندرئ بالشبهات وفيما لا يندرئ بالشبهات فكانا بمنزلة المسلمين في ذلك .
فإن شهد على ذلك رجل وامرأتان جازت الشهادة وكانوا فيئاً إلا أنهم لا يقتلون لأن شهادة الرجال مع النساء حجة فيما يثبت مع الشبهات وليس بحجة فيما يندرئ بالشبهات .
لتمكن شبهة الضلال والنسيان في شهادتهن .
ولو كان بعث مع العشرة رجلين من أهل الحرب مستأمنين فشهدا عليهم فإن كان من أهل تلك الدار جازت شهادتهما وإن كان من غير تلك الدار بأن كانا من الترك وأهل الحصن نصارى لم تقبل شهادتهما لتباين الدارين .
فإن ذلك يقطع ولاية الشهادة كما يقطع ولاية التوارث .
وهذا لأن دار الحرب دار قهر ليس بدار حكم .
فباعتبار اختلاف المنعة يتباين الدار حتى لا تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دور مختلفة وإن كانوا مجتمعين في دارنا بخلاف أهل الذمة فإنهم صاروا من أهل دارنا ودار الإسلام دار حكم فإذا جمعهم حكم واحد قبلت شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم كما تقبل شهادة المسلمين بعضهم على بعض وإن اختلفت مذاهبهم .
وكل شيء رددت فيه أهل الحصن إلى مأمنهم فإني أرد فيه العشرة إلى مأمنهم أيضاً لأن الأمان تناولهم يقيناً فلا يجوز التعرض لهم قبل النبذ إليهم .
ولو شهد قوم من أهل الحصن سوى العشرة ممن يعدل في دينه أن العشرة أخبروهم بالصلح لم تجز شهادتهم لأنهم صاروا عبيداً للمسلمين بزعمهم .
فإن الشهود يزعمون أن الأمان قد انتهى بإخبار العشرة إياهم بالأمر على وجهه فهم أرقاء أو حالهم متردد بين الرق والحرية فيكونون بمنزلة المكاتبين لا شهادة لهم .@(2/40)
وإذا لم تقبل شهادتهم فأهل الحصن آمنون غير العشرة وأموالهم ورقيقهم .
هكذا وقع في بعض النسخ وهو غلط والصحيح : غير الشهود على العشرة فإنه لا إشكال في أمان العشرة فكيف يستثنيهم من جملة الآمنين ولكن هؤلاء الذين شهدوا هم مقرون بانتهاء الأمان وإقرارهم صحيح على أنفسهم فكانوا فيئاً مع أموالهم ورقيقهم ومن صدقهم من عيالهم وأولادهم الصغار أيضاً لأنهم في حجر الأمهات وعند التكذيب هن آمنات فكذلك أولادهن .
ومن لم يكن له أم من أولادهم الصغار فهم مصدقون عليهم .
وهذا لأنهم لما صاروا أرقاء والأمهات حرائر فباعتبار بقاء الأمان لهن كان المعتبر في حق الأولاد حجر الأمهات .
ومن لم يكن له أم فلا بد من اعتبار حجر الأب في حقه فيصير رقيقاً معه ولا يصدقون على الكبار من أولادهم إلا أن يصدقوهم فحينئذ يكونون أرقاء بإقرارهم .
قال : ولو كتب الأمير كتاباً إلى أمير الحصن يخبره بما جرى وختمه بخاتمه وبعثه على يدي رسول من قبله مع العشرة فلما فتح الحصن قال أميرهم : لم يأت بالكتاب ولم يدفعه إلي الرسول وقال الرسول : قد دفعته إليه وقرأه بمحضر مني فأهل الحصن على أمانهم الأول لأن الرسول يدعي انتهاء الأمان بإيصال الكتاب إليه وهو منكر لذلك فالقول قول المنكر .
وهذا لأن الذي يتعلق بانتهاء الأمان إباحة قتلهم واسترقاقهم وهذا مما يندرئ بالشبهات فخبر الواحد فيه لا يكون حجة تامة وإن كان مسلماً .
فن كان بعث معه رجلين مسلمين فشهدا بأنه قرأ عليه بمحضر منهما حتى سمعه وعلم ما فيه فهم فيء أجمعون لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم وشهادة المسلمين حجة تامة .
ولو شهدا أنه دفع الكتاب إليه فقرأه عليه بالعربية وترجم له الترجمان@(2/41)
ولكنهما لا يدريان ما قاله الترجمان فالقياس فيه أنهم آمنون حتى نعلم أنه قد علم ما في الكتاب لأنا نعرف أنه لا يعرف العربية والشهود لم يعرفوا ما قال له الترجمان فلا يثبت علمه بما في الكتاب بهذا القدر وما لم يصر ذلك معلوماً له لا ينتهي الأمان ولا تنتفي الشبهة .
فلا يجوز لهم الإقدام على القتل والسبي ولكنه استحسن .
فقال : فيء لأنه ليس في وسع المسلمين فوق ذلك إذا أرادوا النبذ إليهم .
وإن خان الترجمان فذكر لهم غير ما في الكتاب فإنما أتوا من قبل أنفسهم حين اتخذوا ترجماناً هو خائن .
وما لا يمكن الوقوف عليه حقيقة لا يجوز تعلق الحكم به وإنما يعلق بالسبب الظاهر وقد تم ذلك كما شهد الشهود .
ولو أن رسل المؤمنين لم يحضروا مجلس أميرهم إلا أن الأمير رد جواب الكتاب بكتاب مختوم ثم فتح الحصن فجحد الأمير الكتاب فقال : ما وصل إلي كتاب ولا أخبرني العشرة بما جرى افتعل ذلك مفتعل على لسان أميرهم .
وانتهاء الأمان لا يثبت مبيحاً للقتل والاستغنام بمثل هذا الكتاب المفتعل .
وكذلك إن كان هذا الكتاب من ملكهم الأعظم ثم أنكره بعد ما وقع الاستيلاء على مملكته .
فإنه لا يبطل به الأمان الذي كان بين المسلمين وبينهم .
لما بينا أن الكتاب محتمل قد يفتعل على لسان الأعظم كما يفتعل على لسان من هو دونه .
ولا يحل إراقة الدماء والاسترقاق باعتبار هذا الكتاب الذي لا يدرون أحق هو أم باطل .
فإن قيل : أليس أن كتاب القاضي إلى القاضي يجعل حجة في الأحكام وهذا الاحتمال فيه موجود .
قلنا : أما فيما يندرئ بالشبهات لا يجعل حجة وفيما يثبت مع الشبهات في القياس لا يكون حجة أيضاً .
وإنما جعل حجة فيما يثبت مع الشبهات استحساناً لتحقق الحاجة فيه بشرائط يقع بها الأمن عن الافتعال ظاهراً وهو الختم وشهادة الشهود عليه وعلى ما فيه ومثل ذلك لا يوجد في كتاب كبيرهم إلينا .
والله أعلم .@(2/42)
باب أمان الرسول
قال : فإذا أرسل أمير العسكر رسولاً إلى أمير حصن في حاجة له فذهب الرسول وهو مسلم .
فلما بلغ الرسالة قال : إنه أرسل على لساني إليك الأمان لك ولأهل مملكتك فافتح الباب .
وأتاه بكتاب افتعله على لسان الأمير أو قال ذلك قولاً وحضر المقالة ناس من المسلمين .
فلما فتح الباب دخل المسلمون وجعلوا يسبون .
فقال أمير الحصن : إن رسولكم أخبرنا أن أميركم أمننا وشهد أولئك المسلمون على مقالتهم .
فالقوم آمنون يرد عليهم ما أخذ منهم لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فكان أمير العسكر أمنهم .
فإن قيل : عبارة الرسول كعبارة المرسل فيما جعله رسولاً فيه فأما فيما افتعله فلا .
قلنا : هذا التمييز غير معتبر في حق المبعوث إليه لأنه لا طريق له إلى ذلك .
وإنما الذي في وسعه الاعتماد على ما يخبر به الرسول فلهذا يجعل ما أخبر به كأنه حق بعد ما ثبت أنه رسول .
وهذا لأن الواجب على المرسل أن يختار لرسالته الأمين دون الخائن والصادق دون الكاذب .
فلو لم يجعل ما يخبر الرسول به كأنه حق من حقهم أدى ذلك إلى الغرور وذلك حرام .
أرأيت لو ناداهم الأمير : إن هذا رسولي في كل ما يجري بيني وبينكم .
ثم أتاهم بهذا لم يكن القوم آمنين .
ومن تأمل قوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } الحاقة : 45 : 46 يتضح عنده هذا المعنى .
وقد تقول عليه غيره بعض الأقاويل نحو مسيلمة ونظرائه ممن ادعى الرسالة ولم يصبهم في الدنيا .
فعرفنا أن حال الرسل فيما يخبرون به عمن أرسلهم ولا يكون كحال غيرهم@(2/43)
وكذلك إن كان الرسول ذمياً أو حربياً مستأمناً لأن ثبوت هذا الأمان من جهة أمير العسكر لا من جهة الرسول .
فإن الرسول في حصنهم غير ممتنع منهم .
فلا يصح أمانه من جهة نفسه .
ثم هذا التقصير كان من جهة الأمير حين اختار لرسالته كافراً خائناً وهو منهي عن ذلك .
ألا ترى إلى ما روي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه : مر كاتبك فليدخل المسجد وليقرأ هذا الكتاب .
فقال : إن كاتبي لا يدخل المسجد .
قال : ولم أجنب هو قال : لا ولكنه نصراني .
فقال : سبحان الله اتخذت بطانة من دون المؤمنين أما سمعت قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } آل عمران : 118 أي : لا يقصرون في إفساد أموركم فإن قال الرسول : إني قلت لهم هذا الذي ادعوا ولا نعلم ذلك إلا بقوله وقد فتح الحصن وسباهم المسلمون لم يصدق على ذلك لأنه أخبر بما لا يملك استئنافه وادعى ما يبطل حق المسلمين بعد ما ظهر سبب ثبوت حقهم فلا يصدق فيه إلا بحجة .
ولكن من وقع سهمه منهم صار حراً لإقراره أنه آمن ولا يترك ليرجع إلى دار الحرب لأن ذلك من حق المسلمين .
وإن شهد على هذه المقالة قوم من أهل الذمة لا تقبل شهادتهم لأنها تقوم على المسلمين .
وإن كان الذي أتاهم بهذه الرسالة رجل ليس برسول ولكنه افتعل كتاباً فيه أمانهم فدخل به إليهم أو قال لهم ذلك قولاً وقال : إني رسول الأمير أو رسل المسلمين والمسألة بحالها فهم فيء كلهم .
وللإمام أن يقتل مقاتلتهم لأنه لا يمكن إثبات الأمان لهم من جهته .
فإنه غير ممتنع منهم حين قال لهم ذلك بل هو بمنزلة الأسير فيهم .@(2/44)
وأمان الأسير لا ينفذ على المسلمين .
فلا يمكن تصحيحه من جهة أمير العسكر لأنه ما أرسله حتى تكون عبارته قائمة مقام عبارة الأمير .
وهذا لأن معنى الغرور لا يتحقق هنا لو أبطلنا هذه المقالة وإنما جاء التقصير من جهتهم حين اعتمدوا قول مجهول غير معروف بالرسالة ولا كان رسولاً إليهم من جهة الأمير في وقت من الأوقات والأمير لا يمكنه أن يتحرر عن هذا لأنه لا يعرف المفتعل لمنعه من الافتعال .
وكما أنه يسقط عنهم الوقوف على ما ليس في وسعهم يسقط عن الإمام التحرز عما ليس في وسعه .
ولو قال لهم هذا الذي لم يكن رسولاً هذه المقالة وهو في عسكر المسلمين ناداهم ففتحوا الباب كانوا آمنين حتى ينبذ إليهم لأنه يجعل هذه المقالة أماناً من جهته حين كان في منعة المسلمين .
وقد بينا أن من يملك الأمان إذا أخبر عن من يملك الأمان فذلك أمان صحيح لهم .
سواء كان الخبر صدقاً أم كذباً .
إن كان صدقاً فمن جهة المخبر عنه وإن كان كذباً فمن جهة المخبر إلا أنه لا يثبت ذلك إلا بشهادة العدول من المسلمين لأنها تقوم لإبطال حقهم في الاستغنام .
ولو أن رسول الأمير حين بلغ رسالة الأمير قال : إن فلاناً القائد قد أمنكم وأرسلني بذلك إليكم أو إن المسلمين على باب الأمير أمنوكم أو إني كنت قد أمنتكم قبل أن أدخل إليكم وناديتكم بذلك .
وشهد على هذه المقالة قوم من المسلمين .
فهم فيء أجمعون إذا كان ما أخبر به كذباً لأنه ليس برسول القائد حتى يجعل عبارته كعبارة القائد ولا هو رسول المسلمين على باب الأمير حتى تكون عبارته كعبارتهم ولا يملك هو أمانهم بنفسه في هذه الحالة لأنه في منعتهم فلهذا بطل حكم كلامه .
ولو كان رجل من المسلمين أرسل في حاجته فقضى حاجته ثم أخبرهم أن من أرسله آمنهم .
فهذا أيضاً باطل لأن رسول الواحد من عرض العسكر في مثل هذا لا يشبه رسول الأمير أو رسول جماعة المسلمين .
فإن ذلك المرسل لو كان في هذا الموضع لا يصح أمانه فكذلك رسوله إذا أخبر عنه .@(2/45)
وهذا هو القياس في رسول الأمير ورسول جماعة المسلمين أيضاً غير أنا استحسنا في هاتين الخصلتين لأن جماعة المسلمين من أهل المنعة حيث ما كانوا ورسولهم قائم مقامهم .
فإذا أضاف الأمان إليهم كان صحيحاً وكذلك الأمير أمانه صحيح حيث يكون أميراً لأنه لا يكون أميراً إلا باعتبار المنعة .
فلسان رسوله كلسانه في الإخبار بالأمان .
وهذا لا يوجد في حق الواحد من عرض الناس فلهذا لا يعتبر إخبار رسوله إياهم بالأمان عنه .
قال : ولو أن الأمير أرسل إليهم من يخبرهم أنه أمنهم ثم رجع إليه فأخبره أنه قد أتاهم برسالته فهم آمنون وإن كانوا لا يعلمون أن الرسول قد بلغهم لأن البناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته .
والظاهر أن الرسول بعدما يدخل عليهم لا يخرج حتى يؤدي الرسالة ولأن فيما يقوله الرسول احتمال الصدق وإن لم يترجح جانب الصدق .
وبهذا القدر تثبت الشبهة وقد بينا أن الأمان يثبت في موضع الشبهة .
فلا يجوز للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم ولو كان الأمير والمسلمون أمنوهم ثم بعثوا رجلاً ينبذ إليهم ويخبرهم أنهم قد نقضوا العهد فرجع الرسول وذكر أنه قد أخبرهم بذلك .
فليس ينبغي للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى يعلموا ذلك لأنه أتاهم بخبر متميل بين الصدق والكذب وذلك لا يكون حجة تامة في نقض العهد وإن كان حجة في الأمان بمعنى وهو أن الذي يتعلق بنبذ الأمان إباحة السبي واستحلال الفرج والدماء .
وهذا مما لا يثبت مع الشبهة .
ومجرد الظاهر أو خبر الواحد لا ينفك عن الشبهة .
فأما الذي يتعلق بالأمان حرمة السبي وذلك مما يثبت مع الشبهة ولأن ما يتعلق بنبذ الأمان إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فلا يجوز أن يعتمد فيه بمجرد الظاهر وأما ما يتعلق بالأمان إذا وقع فيه غلط يمكن تداركه فيجوز الاعتماد فيه على الخبر الواحد إذا كان رسولاً .@(2/46)
فإن أغار عليهم المسلمون قبل التثبت فقالوا : لم يبلغنا ما جاء به رسولكم فالقول قولهم لأنهم أنكروا نبذ الأمان وفيه تمسك بالأصل المعلوم فيرد عليهم المسلمون ما أخذوا من أموالهم ويغرمون ديات من قتلوا منهم لأنهم كانوا في أمان ما لم يعلموا بالنبذ فإن قيل : فليس في وسع الأمير فوق هذا .
قلنا : لا كذلك بل في وسعه أن يرسل إليهم رسولاً ينبذ إليهم ويرسل لهم معه برجلين عدلين من أهل الشهادة حتى يشهد على تبليغه النبذ .
فهذا أدنى ما تتم به الرسالة في النبذ .
حتى لو أرسل إليهم رجلين فرجعا وشهد على تبليغ النبذ إليهم لم يجز ذلك لأن أحدهما شهد على فعل نفسه وذلك لا يكون حجة في الأحكام .
ولا يقبل في مثل هذا إلا ما يكون حجة في الأحكام .
ولو جاء رسول أميرهم بكتاب مختوم إلى أمير العسكر : إني قد ناقضتك العهد .
فليس ينبغي للمسلمين أن يعجلوا حتى يعلموا حقيقة ذلك لأن الكتاب محتمل ولعله مفتعل .
وإن كان الذي جاء بالكتاب رجلان من أهل الحرب فشهدا أن هذا الكتاب كتاب الملك وخاتمه جازت شهادتهما على أهل الحرب لأن الرسولين عندنا في أمان والقوم كذلك قبل أن يتم النبذ .
وشهادة أهل الحرب على أمثالها من أهل دارهم حجة تامة .
وبعد تمام النبذ بشهادتهم لا بأس بقتلهم واسترقاقهم .
إلا أن يكون اللذان شهدا بالكتاب ممن لا تجوز شهادتهما منهم أو من أهل الذمة أو من المسلمين فحينئذ لا يحل للمسلمين أن يعجلوا بقتالهم لأن شهادة هؤلاء ليس بحجة في الأحكام .
ونبذ الأمان لا يثبت بمثل هذه الشهادة .
فينبغي للأمير أن يبعث إليهم رجلين عدلين ممن يثق به من المسلمين ليسألوهم عن ذلك .
ألا ترى انهم لو أسروهم فجحدوا الكتاب وحلفوا أنهم ما كتبوه كان القول قولهم شرعاً ولا يبطل إنكارهم بشهادة من لا شهادة له .
فلا بد من أن يبعث الأمير من تجوز شهادته حتى إذا أنكروا الكتاب شهدوا به عليهم .@(2/47)
ولو أن الأمير بعث إليهم عشرة معهم كتاب فيه نقض العهد وقال للرجل المسلم : اقرأه عليهم .
وقال للآخرين : اشهدوا عليهم بذلك .
فاجتمع أميرهم مع القواد والبطارقة .
فقرأ الرجل عليهم بالعربية وترجم الترجمان بلسانهم ثم رجع الرسل فأخبروا بما كان فلا بأس بأن يغير المسلمون عليهم لأنهم ليس في وسعهم فوق هذا والتكليف يثبت بحسب الوسع فيما يندرئ بالشبهات وفيما يثبت مع الشبهات .
فإن أغاروا عليهم فقالوا : إن الترجمان لم يخبرنا بنقض العهد وإنما أخبرنا أن في الكتاب : قد زدناكم في مدة الأمان كذا فقولهم هذا باطل .
لما بينا أنهم أتوا من قبل أنفسهم حين اختاروا للترجمة خائناً وليس في وسعنا أن نعلم حقيقة ما يخبرهم به الترجمان إلا أن يستقر عند المسلمين الذين حضروهم أن الترجمان قال لهم غير ما في الكتاب .
فإن استيقن المسلمون بذلك فالقوم على أمانهم .
أرأيت لو كان أهل الحرب الذين أمناهم لهم لغات مختلفة وكانوا قوماً من العرب لهم لغة فكلموهم بلغة غير لغتهم أو أعربوا في الكلام .
فذكروا الغريب من اللغات فقالوا : لم تفهم اللغة أينبغي أن نصدقهم على هذا ونحن نعلم أنهم من أهل المعرفة باللغة لا نصدقهم على شيء من ذلك حتى نستيقن أنهم لم يفهموا .
فإذا تيقنا بذلك فقد سقط اعتبار الظاهر باليقين وكانوا هم على الأمان .
وكذلك إن كان أكبر الرأي منا أنهم لم يفهموا لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما يبتنى على الاحتياط .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو أن مسلماً جاء برجل من المشركين إلى الأمير وهم في المفازة وكانوا على حصن حاصروه وقال : إني كنت أمنت هذا .
فأتاني على أماني إياه لم يصدق حتى يشهد شاهدان سواء أنه قدم أمنه لأنه صار فيئاً للمسلمين حين جاء به إلى الأمير فإنه غير ممتنع منهم .
وهذا المسلم لا يتمكن من أن يؤمنه ابتداء فلا يصدق فيما يقر به من أمانه وفي القياس : للإمام أن يقتله إن شاء بمنزلة غيره من المأسورين .
ولكن في الاستحسان : له أن يجعله فيئاً ولا يقتله لأن احتمال الصدق في خبره شبهة مانعة من إراقة الدم .
وهذا لأن حرمة قتل المستأمن@(2/48)
من حق الله تعالى وخبر الواحد فيما يرجع إلى أمر الدين حجة شرعاً وخصوصاً فيما لا يكون فيه إلزام على شخص بعينه وهو منكر لذلك الخبر .
ولو أن مسلماً غير الذي جاء به شهد أنه أمنه .
لم تقبل شهادته حتى يشهد عل ذلك رجلان مسلمان .
واستدل بحديث الهرمزان فإن عمر رضي الله عنه قال له : تكلم لا بأس عليك أو تكلم بكلام حي .
ثم اشتبه ذلك على عمر .
فشهد له أنس ابن مالك .
فأبى عمر أن يقبل ذلك حتى جاء معه رجل آخر فشهد بذلك فأمنه عمر .
ففي هذا بيان أنه لا بد من شهادة رجلين إذا شهد على أمان غيرهما .
لأن ذلك الغير منكر للأمان ولو كان مقراً به لم تكن شهادته حجة على فعل نفسه فلا بد من أن يشهد به شاهدان سواء حتى يثبت الأمان إلا في حق الرسول خاصة إذا علم المسلمون أنه قد أخبرهم بالأمان لأن المسلمين ائتمنوه على الرسالة .
فإن ظهر منه خيانة فذلك على المسلمين .
ألا ترى أن الإمام إذا ولى قاضياً أمر المسلمين فأخطأ في إقامة حد من رجم أو قطع في سرقة كان ذلك على بيت مال المسلمين .
لأنهم ولوه ذلك على المسلمين فخطؤه عليهم
M0ا السرية تؤمن أهل الحصن ثم تلحقها السرية الأخرى قال : ولو أن سرية صالحوا أهل حصن على خمسمائة دينار على أن يؤمنوهم حتى يخرجوا إلى دار الإسلام صح ذلك لأنهم لو أمنوهم بغير عوض إلى هذه الغاية جاز فمع العوض أجوز .
لأن في الأمان تحريم القتل والاسترقاق وهو صحيح بعوض وبغير عوض .
بمنزلة الصلح ظن القصاص .
ولا بأس بأن يغيروا بعد هذا الصلح على غيرهم من أهل الحرب لأنهم خصوا بالأمان@(2/49)
أهل الحصن .
ودخل في أمانهم أمتعتهم ومواشيهم تبعاً لأنهم أمنوهم ليقيموا في حصنهم .
فلا يجوز أن يعرضوا لشيء من أموالهم إلا ما كانوا أخذوه قبل الصلح وليس عليهم رد شيء من ذلك لأن المأخوذ صار غنيمة لهم وما أمنوهم ليردوا عليهم الغنائم إنما أمنوهم ليتركوا التعرض لأموالهم وقد خرج المأخوذ من أن يكون من جملة أموالهم .
فإن مضت هذه السرية في أرض الحرب ودخلت سرية أخرى من المسلمين فلما انتهوا إلى الحصن أخبروهم بذلك الصلح وشهد على ذلك عدلان من المسلمين فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لأهل الحصن بشيء لأن عقد السرية الأولى نافذ في حق المسلمين كافة .
قال عليه السلام : " المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم يعقد عليهم أولاهم ويرد عليهم أقصاهم " .
قيل : المراد بعقد أول السرايا : الأمان فنفذ ذلك على المسلمين .
وإذا ثبت أن حكم هذه السرية حكم السرية الأولى وهم لو رجعوا إليهم لم يحل لهم أن يتعرضوا لأهل الحصن بشيء إلا أن ينبذوا إليهم برد الدنانير التي أخذها أصحابهم ثم ينبذوا إليهم ويقاتلوهم .
وهذا لأنهم أعطوا الدنانير ليأمنوا إلى وقت خروج السرية الأولى من دار الحرب فما لم يخرجوا كانوا في أمان .
ولو قاتلناهم من غير رد الدنانير كان في إضرار وغرور وهو حرام .
وإن ردوا الدنانير فقاتلوهم حتى ظفروا بهم ثم التقواهم والسرية الأولى فهم شركاء في أموال أهل الحصن والدنانير التي أخذتها السرية الأولى لأن كل ذلك غنيمة .
وقد اشتركوا في إحرازها بدار الإسلام .
وذلك سبب الشركة بينهم فيها .
إلا أن السرية الثانية إن كانوا غرموا الدنانير من أموالهم@(2/50)
أخذوها من أموال أهل الحصن قبل القسمة لأنهم توصلوا إلى هذه الأموال برد تلك الدنانير وما كانوا متبرعين فيما أدوا منها وإنما كانوا متطرقين بها إلى الوصول إلى هذه الغنيمة فيكون حقهم في ذلك القدر مقدماً على حق الغانمين .
ثم الباقي مقسوم بين الكل على سهام الغنيمة .
فإن كانوا غرموها من غنيمة أصابوها لم يأخذوها لأن ما أدوا من جملة الغنيمة مشترك بينهم بمنزلة ما تواصلوا به إلى أخذه .
وهو بمنزلة ما لو قضى بعض الورثة ديناً به رهن وهو من جملة التركة .
فإن قضاء من مال نفسه رجع به من التركة وإن قضاء من التركة لم يرجع بشيء منه .
وإن لم تلتق السريتان في دار الحرب سلمت للسرية الأولى الدنانير التي أخذوها وللسرية الثانية غنائمهم التي غنموا لأن كل فريق اختص بإحراز ذلك بدارنا وليس للسرية الثانية أن يأخذوا الدنانير من السرية الأولى وإن غرموها من أموالهم لأنهم اختصوا بمنفعة ما أدوا حين سلمت لهم غنائم أهل الحصن بخلاف الأول فقد اشتركت السريتان هناك في المنفعة وهو غنائم أهل الحصن مع أنه لا فرق .
فهناك رجوعهم في غنائم أهل الحصن خاصة وهنا غنائم أهل الحصن سالمة لهم وإن لم تظفر السرية الثانية بالحصن فالتقوا مع السرية الأولى في دار الحرب لم يكن للسرية الثانية أن يأخذوا شيئاً من دنانيرهم من جملة ما أحرزوا بدارنا من الغنائم لأنه لا منفعة للسرية الأولى فيما ردوا من الدنانير حين لم يتوصلوا بها إلى غنائم أهل الحصن فكانوا متبرعين في حقهم بخلاف الأول .
وهذا لأن الغنم مقابل بالغرم .
فإذا ظهرت المنفعة لهم جميعاً بسبب ما ردوا من الدنانير نفذ الرد في حق الكل .
وإذا لم تظهر المنفعة لا ينفذ ذلك في حق غير الذين ردوا .
وإن كانت السرية الثانية غنمت من غير أموال أهل الحصن فأرادوا أخذ دنانيرهم من ذلك لم يكن لهم ذلك لأن هذه الغنائم كانوا يتوصلون إليها بدون رد الدنانير فلا@(2/51)
يظهر حكم رد الدنانير في حقها كما لا يظهر في حق ما أصاب السرية الأولى بخلاف ما إذا غنموا من أهل الحصن فإن وصولهم إلى تلك الغنائم باعتبار رد الدنانير فيرفعون دنانيرهم منها قبل القسمة .
وإن كان أهل الحصن أخبروا السرية الثانية بالأمان ولم يكن بينة على ذلك فمل يصدقوهم .
ولكن قاتلوهم وظفروا بهم ثم علموا بعد ذلك بالأمان فعليهم رد ما أخذوا وضمان ما استهلكوا من أموالهم وديات من قتلوا منهم على عواقلهم لأنه ظهر أن القوم كانوا مستأمنين وأن نفوسهم وأموالهم كانت معصومة متقومة .
فكل من قتل منهم رجلاً فإنما قتله خطأ فتجب الدية على عاقلته .
بلغنا أن رجلين من المشركين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين فأجازهما بحلتين ثم خرجا من عنده فلقيهما قومن من المسلمين فقتلوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فعرفهما وعرف الحلتين فوداها بدية حرين مسلمين .
هكذا ذكر محمد رحمه الله الحديث وفي كتب المغازي أن رجلين كانا من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية الضمري حين انصرف من بئر معونة وقد فعل بنو عامر بأصحابه ما فعلوا .
وكذلك لو كان أهل الحصن قالوا للسرية الأولى : أمنونا أنتم .
فهذا والأول سواء لأنهم هم الذين يؤمنونهم سواء صرحوا بقولهم : أنتم أو لم يصرحوا .
ولو قالوا : على أن لا تعرضوا أنتم لنا حتى تخرجوا إلى دار الإسلام .
ففعلوا ذلك .
ثم جاءت السرية الثانية فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير أن يردوا عليهم شيئاً لأنهم إنما استأمنوا منهم خاصة ليزيلوا تعرضهم عنهم .
ومقصودهم من أداء الدنانير هنا أن تنصرف عنهم السرية التي أحاطت بهم وقد حصل هذا المقصود@(2/52)
لهم بخلاف الأول .
فهناك التمسوا أماناً عاماً إلى مدة معلومة .
وكما أن الأمان يقبل التخصيص بالوقت يقبل التخصيص من حيث السرايا إلا أن عند الإطلاق موجب اللفظ العموم وعند التنصيص على ما يوجب الخصوص يثبت الحكم خاصة .
ثم فرع على الأمان العام فقال : إن خرجت السرية الأولى قبل وصول الثانية إلى أهل الحصن ثم وصلوا إليهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير نبذ ورد الدنانير لأن الأمان كان لهم إلى غاية وهو خروج السرية الأولى إلى دار الإسلام .
فانتهى الأمان بوجود الغاية .
ألا ترى أن السرية الأولى لو عادوا إليهم بعد ما خرجوا كان لهم أن يقاتلوهم فكذلك السرية الثانية .
ولو كان خرج بعضهم دون بعض فالمعتبر فيه خروج الأمير مع جماعة القوم الذين لهم المنعة لأن الباعث لأهل الحصن على التماس الصلح وأداء الدنانير خوفهم من السرية وذلك كان باعتبار جماعتهم ومنعتهم .
وكان ينبغي في القياس على قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه وإن بقي واحد منهم في دار الحرب لا يحل قتالهم بدون رد الدنانير لأن الحكم إذا ثبت بجملة يبقى ببقاء الواحد كما قال في البلدة التي ارتد أهلها وبقي فيها مسلم أو ذمي آمن أنها لا تصير دار حرب .
ولكن هذا القياس متروك هاهنا لأجل التعذر .
أرأيت لو قتل رجل منهم أو مات أو أسر أو فقد ألم يحل قتال أهل الحصن أيضاً بعد خروج الجماعة ولو لم تخرج السرية الأولى ولكنهم قتلوا حل قتال أهل الحصن أيضاً .
لأنهم إذا قتلوا فكأنهم خرجوا .
يعني أن أهل الحصن يأمنون جانبهم إذا قتلوا فوق ما يأمنون جانبهم إذا خرجوا .@(2/53)
وإن قتل منهم ناس وبقي ناس فالمعتبر هو المنعة كما في الخروج .
فإن كان من بقي منهم لا منعة له فلا بأس بقتال أهل الحصن وإن كانوا أهل منعة لم يحل قتالهم ما لم يخرج هؤلاء إلى دارنا ولو كانوا صالحوهم على أن يؤمنوهم هذه السنة فهذا جائز لأنهم وقتوا الأمان بما هو معلوم يقيناً ولو وقتوه بما هو غير معلوم وهو خروجهم إلى دار الإسلام جاز ففيما هو معلوم أجوز .
ثم لما عرفوا للسنة بالألف واللام ينصرف إلى السنة المعهودة التي هم فيها ومضيها انقضاء ذي الحجة حتى إذا كان الباقي منها شهراً فلهم ذلك خاصة .
وإن قالوا : إنما صالحناكم على ما نحسب نحن عليه السنة لم يلتفت إلى ذلك لأن المسلمين هم الذين أعطوهم الأمان والمدة المذكورة تنصرف إلى ما يكون معلوماً عند المسلمين دون ما يكون معلوماً لهم .
فإن المسلمين لا يعرفون ذلك .
وقد أمرنا ببناء الأحكام على ما نعرفه .
قال الله تعالى : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } يونس : 5 إلا أن يكونوا بينوا ذلك في صلحهم فحينئذ الشرط أملك .
إن قالوا : لنا سنة كاملة من وقت الصلح اثنا عشر شهراً لم يلتفت إلى ذلك لأنهم قالوا : هذه السنة واثنا عشر شهراً مدة سنة منكرة لا سنة معرفة .
ألا ترى أنه لو قال : لله علي صوم سنة ينصرف نذره إلى سنة كاملة ولو قال : صوم السنة ينصرف إلى بقية السنة ومضيها انقضاء ذي الحجة .
وإن قالوا : عنينا هذه السنة إلى انصرافكم من صائفتكم لم يلتفت إلى ذلك لأنهم ادعوا ما هو خلاف الظاهر .
فإن الظاهر ما يسبق إلى الأفهام والذي يسبق إلى الأفهام من ذكر السنة المدة دون الانصراف إلا أن ذلك محتمل أيضاً .
فإن بينوا في الصلح فهو على ما بينوا وإن قالوا : على أن تؤمنونا سنة فهذا على اثني عشر من وقت الصلح لأنهم ذكروا سنة منكرة وذلك اثنا عشر شهراً .
قال الله تعالى : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } @(2/54)
التوبة : 36 يعني شهور السنة .
ولو قالوا : نصالحكم على أن تؤمنونا على ألف دينار ولم يوقتوا وقتاً فهذا على خروجهم إلى دار الإسلام لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال وبما يعلم من مقصود المتكلم وبعد ما أحاطت بهم السرية يعلم أن مقصودهم بهذا الصلح الأمن من الخوف الذي نزل بهم وإنما يتم ذلك بخروج السرية إلى دار الإسلام .
فكأنهم صرحوا بهذا وقالوا : أمنونا حتى تخرجوا إلى دار الإسلام .
فإن خرجوا ثم عادوا هم أو غيرهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير رد الدنانير .
ولكن لا ينبغي أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم لأن الأمان لهم مطلق .
والمقصود الذي ذكرنا يرجع إلى ما أدوا من الدنانير .
فباعتبار ذلك المقصود تتم سلامة الدنانير لهم إذا خرجوا وباعتبار كون الأمان مطلقاً لا يحل قتالهم ما لم ينبذوا إليهم كما لم أمنوهم بغير عوض بخلاف ما سبق : فهناك الأمان مؤقت نصاً فلا يبقى بعد مضي الوقت .
ولو أن الإمام بعث إليهم من دار الإسلام من يدعوهم إلى الصلح فصالحوه على أن يؤمنوهم على مال مطلقاً .
ثم بدا للإمام أن ينبذ إليهم فليس ينبغي أن يقاتلهم حتى يرد إليهم ما أخذوا منهم بخلاف الأول لأن هناك مقصودهم من بذل المال إزالة الخوف الذي حل بهم وهاهنا ما حل بهم خوف وإنما مقصودهم من بذل المال هاهنا تحصيل الأمن لهم مطلقاً حتى لا يتعرض أحد من المسلمين لجانبهم .
والمطلق فيما يحتمل التأييد بمنزلة المصرح بذكر التأييد فكأنهم قالوا : أمنونا أبداً .
فلهذا لا يحل قتالهم إلا بعد رد المال عليهم .
فإن كانت السرية التي أحاطت بالحصن صالحوهم على أن يكفوا عنهم على ألف دينار ولم يزيدوا على هذا شيئاً فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لهم ما داموا في تلك الغزاة .
ولا بأس بأن يغير عليهم غير تلك السرية من المسلمين وإن لم تخرج تلك السرية من دار الحرب لأنهم عند بذل المال شرطوا عليهم أن يكفوا عنهم .@(2/55)
وهذا اللفظ يخصهم دون سائر المسلمين .
ومن حيث المقصود يعلم أنهم أرادوا أن يأمنوا جانبهم وهذا المقصود يتم بخروجهم إلى دار الإسلام فيتم سلامة الدنانير لهم عند ذلك فإن عادوا إليهم بعد ذلك لم يكن عليهم رد الدنانير ولكن لا ينبغي لهم أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم لأن بينهم وبين أهل الحصن أمان خاص ولكن مطلق غير مؤقت نصاً وقد قلنا : إن مثل هذا الأمان لو كان بينهم وبين جماعة المسلمين لم يحل قتالهم قبل النبذ إليهم للتحرز عن الغدر .
فكذلك إذا كان بينهم وبين السرية حتى أغاروا عليهم من غير نبذ وأخذوا منهم مالاً ردوا عليهم ما أخذوا لأنهم كانوا في أمان منهم حتى ينبذ إليهم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحل لكم شيئاً من أموال المعاهدين " .
ولو أن الخليفة بعث ثلاثة عساكر إلى دار الحرب .
فبعث أهل حصن لم يأته المسلمون بعد إلى أمير عسكر من تلك العساكر أن أمنوا أهل حصن كذا - على أن تكفوا عنهم حتى ترجعوا من غزاتكم هذه - على ألف دينار .
وتراضوا على هذا فليس للعسكرين الباقين ولا لغيرهم ممن يدخل من دار الإسلام أن يغيروا عليهم حتى ترجع العسكر الثلاثة إلى دار الإسلام لأن هذا الأمان نافذ في حق جماعة المسلمين .
ولم يكن مقصود أهل الحصن بهذا أن يأمنوا جانب العسكر المبعوث إليهم خاصة فإنهم لم ينزلوا بساحتهم بعد بل خوفهم منهم ومن العسكرين الآخرين ومن جميع المسلمين بصفة واحدة فعرفنا أن مقصودهم من بذل المال إزالة هذا الخوف من أنفسهم إلى غاية وهو خروج العسكر وذلك إنما يحصل إذا علم الأمان كافة المسلمين فليس لأحد أن يغير عليهم إلا بعد النبذ ورد الدنانير .
بخلاف ما إذا دنا العسكر المبعوث إليهم من @(2/56)
الحصن حتى حاصروهم أو كانوا قريباً منهم فإن هناك مقصودهم الأمن من جانبهم خاصة لأنهم صاروا محصورين مقهورين من جهتهم .
وقد بينا أن مطلق الكلام يتقيد بالمقصود فلهذا كان للعسكرين الباقيين أن يقاتلوهم من غير نبذ .
ألا ترى أنه لو كان أمير الشام أو الخليفة أو ولي العهد مع أحد العساكر الثلاثة فأرسلوا إليه أن أمنونا على أن تكلفوا عنا حتى ترجعوا من غزاتكم ففعل أن ذلك على العساكر كلها وعلى جميع أهل الحرب أيضاً حين لم يذكروا أهل حصن خاصة .
لأن اللفظ عام فيكون موجباً الحكم في كل ما يتناوله إلا أن يقوم دليل الخصوص بأن يبينوا فيقولوا : أمنوا أهل حصن كذا .
ولو كان الخليفة مع عسكره أحاط بذلك الحصن فأمنهم والمسألة بحالها كان الأمان لهم خاصة من العسكر الذين أحاطوا بهم دون غيرهم فكذلك ما سبق .
وكذلك لو كانوا بعثوا إلى أحد العساكر فقالوا : أمنونا أنتم خاصة .
فهذا والأول سواء لأنهم هم الذين يؤمنونهم خاصة وإن لم يذكروا هذه الزيادة ولكن حكم أمانهم يثبت في حق المسلمين كافة .
وإن قالوا : على أن تكفوا عنا أنتم خاصة وذلك قبل أن ينتهوا إليهم فهذا على ذلك العسكر خاصة .
لوجود دليل للتخصيص .
وكذلك إن كانوا قالوا للخليفة : أمنونا نحن خاصة .
فالأمان لهم دون غيرهم من أهل الحرب .
للتصريح بما يوجب التخصيص في الكلام .
فإن لحق رجل من أهل هذا العسكر بغيره من العساكر فليس ينبغي له أن يقاتل معهم أهل الحصن لأنه استفادوا الأمان من جانب أهل ذلك العسكر خاصة وذلك حكم ثابت في حق كل واحد منهم على الانفراد .
فكما لا يكون له أن يقاتلهم مع عسكره لا يكون لهم أن يقاتلهم مع عسكر آخر .
ولو أن سرية حاصروا حصناً فسألهم أهل الحصن أن يؤمنوهم على أربعة أشهر على@(2/57)
أن يعطوهم خمسمائة دينار ففعلوا ثم دخلت سرية أخرى في دار الحرب وعلموا بذلك ليس لهم يقاتلوهم حتى يردوا عليهم الدنانير أو ينتهي الأمان بمضي المدة .
لنفوذ أمانهم على كافة المسلمين .
فإن ردوا الدنانير من أموالهم فقاتلوهم وظفروا بهم ثم خرجوا بالغنائم إلى دار الإسلام بالدنانير التي أدوا فيعطون ذلك قبل الخمس وقبل كل قسمة لأنهم إنا توصلوا إلى هذه الغنائم بما أدوا فلا يكونون متبرعين فيما أدوا بل يكونون أحق بما أصابوا من الحصن حتى يأخذوا دنانيرهم .
أرأيت لو وجدوا في الحصن تلك الدنانير بعينها ما كانوا أحق بها قبل الخمس والقسمة فكذلك إذا وجدوا في الحصن مثلها .
وهو نظير المرهون إذا أسره العدو ثم اشتراه منهم مسلم فأخرجه وظفر به الراهن دون المرتهن فأخذه بالثمن فإنه يسقط دين المرتهن إلا أن يرد على الراهن ما أعطى من الثمن فحينئذ يأخذ العبد ويكون رهناً عنده لأن الراهن ما تمكن من أخذه وإحياء ملكه فيه إلا بما أدى فلم يكن متطوعاً .
وكذلك العبد الموصى بخدمته لإنسان مدة معلومة وبرقبته لآخر فإن الموصى له بالخدمة إذا فداه بالثمن من المشتري من العدو فهو أحق به ولا يكون متبرعاً في هذا الفداء لأنه ما كان يصل إلى خدمته إلا به حتى إذا انقضت مدة الخدمة بيع العبد له في الفداء .
إلا أن يرد عليه صاحب الرقبة مثل ما أدى فحينئذ يسلم العبد له .
وكذلك المبيع في يد البائع إذا أسره العدو فاشتراه رجل منهم فللبائع أن يأخذه بالثمن ثم يقال لمشتري : إن شئت فخذه بالثمنين جميعاً وإن شئت فدع .
لأن البائع ما كان يتوصل إلى إحياء حقه إلا بأداء الفداء فلا يكون هو متبرعاً فيما أدى فكذلك حال السرية الثانية فيما أدوا من الدنانير فيسلم لهم هذا قبل الخمس لأن الخمس في الغنيمة وما أدوا لم يكن من الغنيمة .
فمثله المردود عليهم لا يكون من الغنيمة أيضاً ولكن بمنزلة النفل قبل الخمس على ما نبينه في آخر الباب .
ولو لم يظفروا بالحصن وجعلوا يقاتلونهم حتى مضت أربعة أشهر ثم ظفروا بهم فليس لهم أن يأخذوا بتلك الدنانير ولا مثلها قبل الخمس بل يخمس جميع ما أصابوا والباقي بينهم على@(2/58)
سهام الغنيمة لأن تمكنهم من اغتنام ما في هذا الحصن لم يكن برد الدنانير فإنهم لو لم يردوا حتى مضت مدة الأمان كان لهم أن يغيروا عليهم من غير نبذ بخلاف المسألة الأولى فإنهم ما كانوا يتمكنون من الاغتنام في المدة قبل رد الدنانير ولو فعلوا أمروا برد الأموال عليهم وإعادتهم إلى مأمنهم .
ولو أنهم لم يخرجوا إلى دارنا حتى التقوا هم والسرية الأولى في دار الحرب فإن كانوا ظفروا بأهل الحصن بعد الأربعة الأشهر فهم شركاء فيما أصابوا وليس لهم من دنانيرهم شيء .
ولو كانوا ظفروا بهم في الأربعة الأشهر أخذوا دنانيرهم أولاً ثم الشركة بينهم في الباقي لأنهم اشتكوا في الإحراز بدارنا وذلك سبب الشركة في الغنيمة .
وقد بينا أنهم إذا كانوا ظفروا بهم بعد مضي المدة فجميع ما أصابوا غنيمة وإن كان قبل مضي المدة بعد رد الدنانير عليهم .
وقد قررنا هذا في الخمس فكذلك في شركة السرية الأولى معهم .
ولو أن السرية الثانية بعد رد الدنانير لم يقدروا فتح الحصن فدخلوا أرض الحرب ثم أتى أهل الحصن سرية ثالثة فلا بأس بأن يغيروا عليهم لأن حكم أمانهم قد بطل برد السرية الثانية الدنانير عليهم .
ألا ترى أنه كان يجوز لهم أن يغيروا عليهم .
فكذلك يجوز للسرية الثالثة .
فإن ظفروا بهم في المدة أو بعدها ثم التقت السرايا في أرض الحرب .
فهم شركاء في جميع الغنائم لأنهم اشتركوا في إحرازها .
ولا سبيل للسرية الثانية على أخذ دنانيرهم وإن وجدوها بعينها لأنهم ما ظفروا بالحصن .
فإن قيل : السرية الثالثة إنما تمكنوا من فتح الحصن في المدة برد تلك الدنانير فينبغي أن يكون للسرية الثانية حق استرداد ذلك قبل القسمة .
قلنا : نعم ولكن لم يكن لأهل السرية الثانية ولاية على أهل السرية الثالثة .
ألا ترى أنهم لو خرجوا إلى دار الإسلام قبل أن يلتقوا لم يكن لهم سبيل على شيء مما أصابوا .
وملاقاتهم إياهم في دار الحرب سبب لثبوت حق@(2/59)
الشركة لهم في الغنيمة لا في غيرها .
فإن لم يجعل هذه الدنانير من الغنيمة فلا حق للسرية الثانية فيها .
وإن جعلت من الغنيمة فليس لهم حق الاختصاص بشيء منها إلا أن يكون الإمام أو من كان أميراً على السرايا هو الذي أمر السرية الثانية برد الدنانير من أموالهم فحينئذ له ولاية على السرايا كلها .
فالذين أدوا بأمره لا يكونون متبرعين في حق أحد .
فإن ظفر السرية الثالثة بهم في المدة ردوا على السرية الثانية دنانيرهم أولاً لأنهم ما تمكنوا من هذا الاغتنام إلا بذلك .
وإن ظفروا بهم بعد المدة فليس عليهم رد شيء من ذلك ولكن على الإمام أن يعطي الذين أدوا مالهم من بيت مال المسلمين لأنه أمرهم بأداء مال لأجل منفعة رجعت إلى المسلمين فكان ذلك ديناً لهم على بيت المال .
ولأن خمس تلك الغنيمة سلم لبيت المال فيرد عليهم ما غرموا من مال بيت المال أيضاً ليكون الغرم بمقابلة الغنم .
ولو لم يأت أهل الحصن سرية أخرى حتى رجعت إليهم السرية الأولى فردت عليهم الدنانير وظفروا بهم فلا سبيل عليهم على أخذ الدنانير من رأس الغنيمة لأنهم أخذوا مثل ما أرادوا وفسخوا حكم فعلهم بالرد .
فكأنهم لم يأخذوا شيئاً في الابتداء حتى ظفروا بالحصن فيكون لجميع ما أصابوا حكم الغنيمة .
وإن كان تلك الدنانير ضاعت منهم وحين رجعوا أعطوا إن كانوا ظفروا بهم في المدة لأن حالهم عند الرجوع ورد الدنانير كحال سرية أخرى .
ولو أن الإمام وادع قوماً من أهل الحرب سنة على مال دفعوه إليه فذلك جائز إنما ينبغي له أن يوادع إذا كان خيراً للمسلمين .
لما بينا أنه نصب ناظراً للمسلمين ولا يجوز له ترك القتال والميل إلى أخذ المال إلا أن يكون فيه نظر للمسلمين .@(2/60)
ثم هذا المال ليس بفيء ولا غنيمة حتى لا يخمس ولكنه بمنزلة الخراج يوضع في بيت المال لأن الغنيمة اسم لمال مصاب بإيجاف الخيل والركاب والفيء اسم لما يرجع من أموالهم إلى أيدنا بطريق المراضاة فيكون بمنزلة الجزية والخراج يوضع في بيت مال المسلمين .
لأن الإمام إنما تمكن منه لمنعة جماعة المسلمين .
فإن نظر الإمام فرأى هذه الموادعة شراً للمسلمين فليس ينبغي له أن يقاتلهم حتى يرد عليهم ما أخذ لأن الوفاء بالعهد والتحرز عن الغدر واجب .
فإن رد عليهم عينه أو مثله من بيت المال ونبذ إليهم ثم بعث جنداً حتى ظفروا بهم فإنه يخمس جميع ما أصابوا ويقسم الباقي بين الغانمين على سهام الغنيمة وليس له أن يرتجع شيئاً مما أعطي من الدنانير لأنه كان في الأخذ عاملاً للمسلمين .
فقد ردها أو مثلها من مال المسلمين .
فإن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين وهذا كان من جملة النوائب .
بخلاف ما ذكرنا في السرية الأولى إذا ردوا من أموالهم بعد ما ضاعت تلك الدنانير منهم .
لأن هناك المأخوذ الذي ضاع منهم كان من جملة الغنيمة والمردود لم يكن من الغنيمة إنما كان من خاص أموالهم .
وهاهنا المأخوذ كان لجماعة المسلمين والمردود أيضاً من مال جماعة المسلمين .
فلهذا لا يرجع في شيء من ذلك .
ثم عاد إلى مسألة السريتين فقال : لو أن السرية الثانية ردوا الدنانير بأمر أميرهم خاصة ثم أدركتهم سرية أخرى فافتتحت السريتان الحصن وأخذوا ما فيه فإنه يقسم المصاب على رءوس الرجال من السريتين أولاً ثم ينظر إلى ما أصاب السرية التي ردت الدنانير فيبدأ بدنانيرهم من ذلك لأن أمر أميرهم غير نافذ على السرية الثالثة وإنما ينفذ على أهل سريته خاصة .
وأموال أهل الحصن مصاب السريتين جميعاً فلا بد@(2/61)
من قسمتها بينهم ليتبين مصاب السرية الثالثة حتى يرفعوا دنانيرهم منها قبل القسمة .
وإنما قسمت هذه الغنيمة على عدد الرءوس لأنها ليست بقسمة الغنيمة حتى يعتبر فيها سهام الفرسان والرجالة .
ألا ترى أنها قبل الخمس وقسمة الغنيمة بعد الخمس فإذا دفعوا دنانيرهم يضم ما بقي إلى ما أصاب السرية الثالثة بالقسمة الأولى فيخمس جميع ذلك ثم يقسم الباقي بين السريتين على سهام الغنيمة .
قال : وإنما مثل هذا مثل إمام بعث سريتين ونفل إحداهما بعينها الربع قبل الخمس .
وهناك يقسم ما أصابوا أولاً على رءوس الرجال حتى يتبين نصيب المنفلين فيعطون نفلهم من ذلك ثم يضم ما بقي إلى ما أصاب السرية الأخرى فيخمس ويقسم ما بقي بينهم على سهام الغنيمة وهذا بخلاف ما سبق في أول الكتاب في مسألة المائة العصاة إذا كانوا بأعيانهم .
فإن هناك القسمة بينهم وبين الثلاثمائة على سهام الخيل الرجالة في أصح الروايات حتى يتبين نصيب الثلاثمائة فيعطون من ذلك نفلهم لأن هناك إنما نفلهم الربع بعد الخمس والقسمة التي تكون بعد الخمس قسمة الغنيمة .
وهذا إنما نفلهم الربع قبل الخمس .
والقسمة الأولى هاهنا ليست بقسمة الغنيمة .
فلهذا قسم على عدد رءوس الرجال .
فإن كان ما أصاب السرية الرادة لم يرد على دنانيرهم سلم لهم جميع ذلك ويخمس ما أصاب السرية الآخرى ثم يقسم ما بقي بين السريتين جميعاً على الغنيمة لأن المغنوم هذا المقدار .
وإن لم يف ما أصابهم بدنانير فكذلك الجواب لأنه لا أمر لأميرهم فيما أصاب السرية الثالثة ليأخذوا أشياء منها بحساب الدنانير . والله أعلم .@(2/62)
باب ما يتكلم به الرجل فيكون أماناً أو لا يكون
فإذا أخذ المسلم أسيراً من المشركين وطلب الأسير منه الأمان فأمنه فهو آمن لا يحل له ولا للأمير ولا لغيره أن يقتله لأن أمان الواحد من المسلمين نافذ على الجماعة .
فكأن الأمير هو الذي أمنه ولكنه يكون فيئاً لأنه مقهور مأخوذ .
وقد ثبت فيه حق المسلمين فلا يبطل بأمان الواحد الحق الثابت لجماعتهم .
وأمناً من القتل بسبب الأمان لا يكون فوق أمانه من القتل بالإسلام .
ولو أسلم بعد ما أسر لم يقتل ولكن يكون فيئاً .
فكذلك إذا أمنه بعد الأسر .
وهذا لأنه صار بمنزلة الرقيق وإن لم يتعين مالكه ما لم يقسم .
وإسلام الرقيق لا يزيل الرق عنه .
ثم الدليل على أن إسلامه بعد الأخذ لا يبطل الحق الثابت فيه للمسلمين حديث العباس رضي الله عنه .
فإنه أسلم يوم بدر بعد ما أسر .
وحسن إسلامه على ما روي أن المسلمين قالوا فيما بينهم : قد قتلنا الرجال وأسرناهم فنتبع العير الآن .
فلما عزموا على ذلك قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق الأسر : هذا لا يصلح .
قال : لم قال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين .
وقد أنجزها لك فارجع سالماً .
فهذا دليل على حسن إسلامه في ذلك الوقت .
ومع ذلك أمره@(2/63)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفداء .
وفيه نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } الآية الآنفال : 67 فإن قال : لا أسلم ولكن أكون ذمة لكم .
فللأمام أن لا يعطيه ذلك ويقتله لأنه صار مأخوذاً مقهوراً .
وقد بينا أنه لا يفترض الإجابة إلى إعطاء الذمة في حق مثله .
فإن كان حين أخذه المسلمون خافوا أن يسلم فكعموه .
أي : سدوا فمه والكعام اسم لما يسد به الفم أو ضربوه حتى يشتغل بالضرب فلا يسلم فقد أساءوا في ذلك لأن فعلهم في صورة المنع عن الإسلام لمن يريد الإسلام وذلك لا رخصة فيه .
ولكنهم إن كعموه كي لا ينفلت ولم يريدوا به أن يمنعوه من الإسلام فهذا لا بأس به لقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } محمد : 4 فإن قيل : إذا كعموه حتى لا يسلم ينبغي أن يكون ذلك كفراً منهم لأنهم رضوا بكفره ومن رضي بكفر غيره يكفر .
قلنا : لفعلهم ذلك تأويلان : أحدهما : أنهم علموا أنه لا يسلم حقيقة ولكن يظهر الإسلام تقية لينجو من القتل .
فلا يكون ذلك رضاً منهم بكفره .
والثاني : أن مقصودهم من ذلك الانتقام منه والتشديد عليه لكثر ما آذاهم لا على وجه الرضا بكفره .
ومن تأمل قوله تعالى { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } يونس : 88 .
يتضح له هذا المعنى .
وأيد هذا ما روي أن عثمان رضي الله عنه جاء بعبد الله بن سعيد بن أبي سرح يوم فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بايع عبد الله فأعرض عنه .
حتى جاء إلى كل جانب هكذا فقال : بايعناه فلينصرف .
فلما انصرف قال لأصحابه : أما كان فيكم من يقوم إليه فيضرب عنقه قبل أن أبايعه فقالوا : أهلا أو مأت إلينا بعينك يا رسول الله فقال : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
وأحد لا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرضى بكفره ولكن علم أنه كان يظهر في ذلك تقية .
فلهذا@(2/64)
أعرض عنه وقال ما قال .
ولو أن الأسير قال للمسلم حين أراد قتله : الأمان الأمان .
فقال له المسلم : الأمان الأمان .
وإنما أراد رد كلامه على وجه التغليظ عليه ولكنه لم يرد على هذا فهذا في حقه حلال الدم لا بأس بأن يقتله .
ولكن من سمع منه هذه المقالة يمنعه من قتله ولا يصدقه فيما ادعى من مراده لأن سياق كلامه من حيث الظاهر أمان .
ولكنه محتمل لما أراد .
إلا أن ذلك في ضميره فلا يقف عليه غيره .
فأما الأمير والناس يتبعون الظاهر فلا يمكنونه من قتله بعد ما أمنه .
وفيما بينه وبين ربه هو في سعة من قتله لأن الله مطلع على ضميره .
ولو كان قال له المسلم : الأمان الأمان تطلب أو قال : لا تعجل حتى تنظر ما تلقى .
فهذا لا يكون أماناً .
و لا بأس بقتله له ولغيره لأن في سياق كلامه تنصيصاً على معنى التهديد وسياق النظم دليل على ترك الحقيقة .
ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا } الكهف : 29 .
أنه زجر وتوبيخ لا تخيير باعتبار سياق الكلام وكذلك قوله تعالى : { الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فصلت : 40 .
تهديد وليس بأمر .
وكذلك إذا قال الرجل لغيره : افعل في مالي ما شئت إن كنت رجلاً أو افعل به ما شئت إن كنت صادقاً لا يكون إذناً بل يكون زجراً وتقريعاً .
فكذلك هاهنا إذا قال المسلم : الأمان ستعلم أؤمنك أو لا تعلم أنه أراد رد كلامه .
وإذا قال : الأمان وسكت لا يعلم ما في ضميره فجعل ذلك أماناً باعتبار الظاهر بمنزلة من يقول لغيره : افعل في مالي كذا وكذا يكون إذناً وإن قال : أردت به التهديد لم يدن في القضاء .
ولو أن المشرك نادى من الحصن قبل أن يظفر به : الأمان الأمان .
فقال له المسلم : الأمان الأمان .
فرمى بنفسه إلى المسلمين فقال الذي أمنه : إنما أردت التهديد لا يلفت إلى كلامه وخلي سبيله .
سواء كان الأمير قال له ذلك أو غيره لأن ما في ضميره@(2/65)
لا يعرفه المشرك فلو اعتبر ذلك أدى إلى الغرور وهذا حرام وبهذا فارق الأسير لأنه صار مقهوراً مأخوذاً فلا يتحقق معنى الغرور بينه وبين المسلم فيعتبر ما في ضميره في حقه خاصة .
ولو كان المسلم قال للمحصور : الأمان الأمان ما أبعدك عن ذلك ! أو انزل إن كنت رجلاً .
فأسمعه الكلام كله بلسانه فرمى المشرك بنفسه فهو فيء يجوز قتله لأنه لم يغره في شيء فقد أسمعه ما هدده به وبين له أن كلامه تهديد وليس بإعطاء الأمان ألا ترى أن الرجل يقول لآخر : لي عليكم ألف درهم فيقول الآخر : لك علي ألف درهم ما أبعدك من ذلك ! فإنه لا يكون كلامه إقراراً لهذا المعنى .
فأما إذا سمعه ذكر الأمان ولم يسمعه ما وصل به فهو آمن لا يعتبر في حقه ما أسمعه دون ما لم يسمعه .
وما لم يسمعه هو بمنزلة ما في ضميره لو اعتبر أدى إلى الغرور والغرور حرام والله أعلم .
ممن يدخل دار الحرب والأسرى وما لا يكون أماناً ولو أن رهطاً من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا : نحن رسل الخليفة وأخرجوا كتاباً يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا وكان ذلك خديعة منهم للمشركين فقالوا لهم : ادخلوا فدخلوا دار الحرب فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب ولا أخذ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم لأن ما أظهروه لو كان حقاً كانوا في أمان من أهل الحرب وأهل الحرب في أمان منهم@(2/66)
أيضاً لا يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشيء هو الحكم في الرسل إذا دخلوا إليهم كما بينا .
فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين حقيقة وإنما يبنى الحكم على ما يظهرون لوجب التحرز عن الغدر وهذا لما بينا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي فيجعل ما أظهروه بمنزلة الاستئمان منهم .
ولو استأمنوا فأمنوهم وجب عليهم أن يفوا لهم .
فكذلك إذا ظهر ما هو دليل الاستئمان .
وكذلك لو قالوا : جئنا نريد التجارة .
وقد كان قصدهم أن يغتالوهم لأنهم لو كانوا تجاراً حقيقة كما أظهروا لم يحل لهم أن يغدروا بأهل الحرب فكذلك إذا أظهروا ذلك لهم .
وكذلك لو لقوهم في وسط دار الحرب إلا أن ما كانوا أخذوا قبل أن يلقوهم فهو سالم لهم ولا يحل أن يتعرضوا لشيء بعد ذلك لأنهم حين خلوا سبيلهم بناء على ما أظهروا فكأنهم أمنوهم الآن .
وذاك يحرم عليهم التعرض لهم في المستقبل ولا يلزمهم رد شيء مما أصابوا قبل ذلك .
ولو كانوا تشبهوا بالروم ولبسوا لباسهم فلما قالوا لهم : من أنتم قالوا : نحن قوم من الروم كنا في دار الإسلام بأمان .
وانتسبوا لهم إلى من يعرفونه من أهل الحرب أو لم ينتسبوا فخلوا سبيلهم .
ولا بأس بأن يقتلوا من يقدرون عليه منهم ويأخذوا الأموال لأن ما أظهروا لو كان حقيقة لم يكن بينهم وبين أهل الحرب أمان .
فإن بعضهم ليس في أمان من بعض حتى لو استولى عليه أو على ماله بملكه وإذا أسلم عليه كان سالماً له .
يوضحه أنهم ما خلوا سبيلهم بناء على استئمان منهم صورة أو معنى وإنما خلوا سبيلهم على بناء أنهم منهم .
فهذا وقولهم : نحن منكم سواء .
وكذلك لو أخبروهم أنهم قوم من أهل الذمة أتوهم ناقضين للعهد مع المسلمين فأذنوا لهم في الدخول فهذا والأول سواء@(2/67)
لأنهم خلوا سبيلهم على أنهم منهم وأن الدار تجمعهم والإنسان في دار نفسه لا يكون مستأمناً .
واستدل عليه بحديث عبد الله بن أنيس المتخصر في الجنة حين قال لسفيان بن عبد الله : جئت لأنصرك وأكثرك وأكون معك ثم قتله فدل أن مثل هذا لا يكون أماناً .
وقد بينا تفسير المتخصر فيما سبق .
ومما يبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير العاملين في الدنيا بعد الأنبياء والمرسلين المتخصرون " يعني الذين يعملون في الدنيا من الطاعات ما يعتمدون عليها في ولو أن رهطاً من المسلمين كانوا أسراء في أيديهم فخلوا سبيلهم لم أر بأساً أن يقتلوا من أحبوا منهم ويأخذوا الأموال ويهربوا إن قدروا على ذلك لأنهم كانوا مقهورين في أيديهم وقبل أن يخلوا سبيلهم لو قدروا على شيء من ذلك كانوا متمكنين منه .
فكذلك بعد تخلية سبيلهم .
لأنهم ما أظهروا من أنفسهم ما يكون دليل الاستئمان وما خلوهم على سبيل إعطاء الأمان بل على وجه قلة المبالاة بهم والالتفات إليهم .
وكذلك لو قالوا لهم : قد أمناكم فاذهبوا حيث شئتم .
ولم تقل الأسراء شيئاً لأنه إنما يحرم عليهم التعرض لهم بالاستئمان صورة أو معنى فيه يلتزمون الوفاء ولم يوجد منهم ذلك .
وقول أهل الحرب لا يلزمهم شيئاً لم يلتزموه .
بخلاف ما إذا جاءوا من دار الإسلام فقال لهم أهل الحرب : ادخلوا فأنتم آمنون لأن هناك جاءوا عن اختيار مجيء المستأمنين فإنهم حين@(2/68)
ظهروا لأهل الحرب في موضع لا يكونون ممتنعين منهم بالقوة .
فكأنهم استأمنوهم وإن لم يتكلموا به .
وما الأسراء فحصلوا في دراهم مقهورين لا عن اختيار منهم فلا بد للاستئمان من قول أو فعل يدل عليه .
ولو أن قوماً منهم لقوا الأسراء فقالوا : من أنتم فقالوا : نحن قوم تجار دخلنا بأمان أصحابكم أو قالوا : نحن رسل الخليفة فليس ينبغي لهم بعد هذا أن يقتلوا أحداً منهم لأنهم أظهروا ما هو دليل الاستئمان .
فيجعل ذلك استئماناً منهم فلا يحل لهم أن يغدروا بهم بعد ذلك .
ما لم يتعرض لهم أهل الحرب .
فإن علم أهل الحرب أنهم أسراء فأخذوهم ثم انفلتوا منهم حل لهم قتالهم وأخذ أموالهم لأن حكم الاستئمان إليهم يرتفع بما فعلوا .
ألا ترى أن المستأمنين لو غدر بهم ملك أهل الحرب فأخذ أموالهم وحبسهم ثم انفلتوا حل لهم قتل أهل الحرب وأخذ أموالهم باعتبار أن ذلك نقض للعهد من ملكهم .
وكذلك لو فعل ذلك بهم رجل بأمر ملكه أو بعلمه ولم يمنعه من ذلك .
فإن السفيه إذا لم ينه مأمور .
فأما إذا فعلوا بغير علم الأمير أو علم جماعتهم لم يحل للمستأمنين أن يستحلوا حريم القوم بما صنع هذا بهم لأن فعل الواحد من عرضهم لا يكون نقضاً للعهد بينهم وبين المستأمن فإنه لا يملك ذلك وإنما هذا ظلم منه إياهم فيحل لهم أن ينتصفوا منه باسترداد عين ما أخذ منهم أو مثله إن قدروا على ذلك .
ولا يحل لهم أن يتعرضوا له بشيء سوى هذا لأن الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه بالمثل فقط .
ولو كان الأسراء قالوا لهم حين أخذوهم : نحن قوم منكم : فخلوا سبيلهم .
حل لهم قتلهم وأخذ أموالهم .
لما بينا أن ما أظهروا ليس باستئمان .
وكذلك لو كانوا أسلموا في دار الحرب فهم بمنزلة الأسراء في جميع ما ذكرنا لأن حصولهم في دار الحرب لم يكن على وجه الاستئمان .
ولو كان الذين لقيهم أهل الحرب من المسلمين قالوا : نحن قوم من برجان جئنا@(2/69)
من أرض الإسلام بالأمان .
أمننا بعض مسالحكم لنلحق ببلادنا .
فخلوا سبيلهم لم يحل لهم أن يعرضوا بعد هذا لأحد منهم .
وبرجان هذا اسم ناحية وراء الروم بين أهلها وبين أهل الروم عداوة ظاهرة .
ولا يتمكن بعضهم من الدخول على بعض إلا بالاستئمان فما أظهروا بمنزلة الاستئمان .
ألا ترى أن ذلك لو كان حقاً لم يحل لهم أن يتعرضوا لهم فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم .
ما لم يرجعوا إلى بلاد المسلمين .
فإن رجعوا فقد انتهى حكم ذلك الاستئمان وإذا دخلوا دارهم بعد ذلك حل لهم أن يصنعوا بهم ما قدروا عليه لأنهم الآن بمنزلة المتلصصين فيهم سواء علموا برجوعهم أو لم يعلموا لأن رجوعهم إنما يخفى على أهل الحرب لتقصير منهم في حفظ حريمهم بخلاف الوقوف على حقيقة الحال فيما سبق .
ولو أن المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا قتلهم .
فقال رجل منهم : أنا مسلم .
فلا ينبغي لهم أن يقتلوه حتى يسألوه عن الإسلام .
لا لأنه سيصير مسلماً بهذا اللفظ ولكن بظاهر قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } النساء : 94 .
ولأن تكلم بكلام مبهم فيستفسر .
وليس من الاحتياط المبادرة إلى قتله قبل الاستفسار .
فإن وصف الإسلام حين سألوه عنه فهو مسلم لا يحل قتله .
وهو فيء إلا أن يعلم أنه كان مسلماً قبل ذلك لأن هذا منه ابتداء الإسلام لما لم يعرف إسلامه قبل هذا .
وذاك يؤمنه من القتل دون الاسترقاق .
فإن كان عليه سيماء المسلمين وأكبر الظن من المسلمين أنه كان مسلماً فهذا بمنزلة العلم بإسلامه حتى يجب تخلية سبيله لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما بني أمره على الاحتياط وفيما@(2/70)
يتعذر الوقوف فيه على حقيقة الحال .
ولو قال : لست بمسلم ولكن ادعوني إلى الإسلام حتى أسلم لم يحل قتله أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله " فكان لا يقاتل قوماً حتى يدعوهم .
ولو أردنا قتال قوم لم تبلغهم الدعوة لا ينبغي لنا أن نقاتلهم حتى ندعوهم .
وربما يجيبون وربما يمتنعون .
فهذا الذي طلب منا أن ندعوه وأظهر من نفسه الإجابة إلى ذلك أولى أن لا يحل قتله قبل الدعاء إلى الإسلام .
ولو قال : أنا مسلم .
فاستوصف الإسلام فأبى أن يصفه فإنه ينبغي للمسلمين أن يصفوا الإسلام ثم يقولون له : أنت على هذا فإن قال : نعم فهو مسلم وإن قال : لست على هذا أو قال : ما أعرف هذا الذي تقولون فهو حلال الدم .
إلا أن الأولى أن يقول له الإمام : أتدخل في هذا الذي دعوناك إليه فإن قال : نعم لم نقتله وكان فيئاً .
وإن قال : لا فحينئذ يضرب عنقه .
وبهذا الفصل يتبين الجواب في مسألة الزوجة والجارية أنه إذا استوصفها الإسلام فلم تحسن أن تصفه ينبغي له أن يصف الإسلام بين يديها ويقول : أنا على هذا وظني بك أنك على هذا فإن قالت : نعم .
فذلك يكفي وتكون مسلمة يحل له وطئها بالنكاح والملك .@(2/71)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=18 - TOP#TOPباب أمن الرسول والمستأمن
ولو أن رسول ملك أهل الحرب جاء إلى عسكر المسلمين فهو آمن حتى يبلغ رسالته بمنزلة مستأمن جاء للتجارة لأن في مجيء كل واحد منهما منفعة للمسلمين .
فإن أرادا الرجوع فخاف الأمير أن يكونا قد رأيا للمسلمين عورة فيدلان عليها العدو فلا بأس بأن يحبسهما عنده حتى يأمن من ذلك لأن في حبسهما نظراً للمسلمين ودفع الفتنة عنهم .
وإذا جاز حبس الداعر لدفع فتنته وإن لم نتحقق منه خيانة فلأن يجوز حبس هذين أولى .
فإن قالا للإمام : خل سبيلنا وإنا عندك بأمان .
لم ينبغ له أن يخلي سبيلهما لأن الظاهر أنهما يدلان العدو على ما رأيا من العورة .
فإن اعتقادهما يحملهما على ذلك .
وأيد هذا الظاهر قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وإن قالا : نحلف أن لا نخبر بشيء من ذلك .
لم يصدقهما في ذلك لأن اليمني إنما تكون حجة لمن شهد الظاهر له والظاهر هنا يشهد بخلاف ما يقولان فلا يلتفت إلى يمينهما وأيد هذا قوله تعالى : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا أيمان يجوز الاعتماد عليهم فيما يرجع إلى الإضرار بالمسلمين .
وهذه اليمين بهذه الصفة فلا يجوز للإمام أن يعتمدها ولكنه يحبسهما عنده حتى يأمن .
إلا أنه ينبغي له أن يقيدهما ولا أن يفلهما لأن فيه تعذيباً لهما وهما في أمان منه فلا يكون له أن يعذبهما ما لم يتحقق منهما خيانة فإن قيل : ففي الحبس تعذيب أيضاً .@(2/72)
قلنا : لا نعني بقولنا يحبسهما الحبس في السجن .
فإن ذلك تعذيب .
وإنما نعني به أن يمنعهما من الرجوع ويجعل معهما حرساً يحرسونهما وليس في هذا القدر تعذيب لهما بل فيه نظل للمسلمين ولئن كان فيه نوع تعذيب من حيث الحيلولة بينهما وبين وطنهما فالمقصود دفع ضرر هو أعظم من ذلك وإذا لم نجد بداً من إيصال الضرر إلى بعض الناس ترجح أهون الضررين على أعظمهما .
ثم هذا المقصود يحصل بحرس يجعله معهما .
فليس له أن يعذبهما فوق ذلك بالتقييد .
فإن حضر قتال وشغل عنهما الحرس وخاف انفلاتهما فلا بأس بأن يقيدهما حتى يذهب ذلك الشغل لأن هذا موضع الضرر فإذا ذهب ذلك الشغل حل قيودهما لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها .
وإن سار الإمام راجعاً إلى دار الإسلام فله أن يذهب بهما معه حتى يبلغ الموضع الذي يأمن فيه مما يخاف عنهما ثم يخلى سبيلهما لأن النظر للمسلمين دفع الفتنة عنهم في ذلك .
فإن لم يأمن منهم حتى يدخل أرض الإسلام لم يخل سبيلهم حتى يدخل أرض الإسلام لأن الفتنة في تخلية بيلهما في دار الحرب تعظم عسى وعلى الإمام أن يتحرز ويجتهد لدفع ذلك عن نفسه وعن العسكر .
فإن أبيا أن يبرحا مكانها أكرههما على ذلك لأن في موضع النظر للإمام ولاية الإكراه .
ألا ترى أنه إذا وقع النفير عاماً كان له أن يجبر الناس على الخروج وفي نظيره قال عمر رضي الله عنه : " لو تركتم لبعتم أولادكم " .
فإن وصل إلى مأمنه من دار الإسلام ثم أمرهما بالإنصراف فسألاه أن يعطيهما مالاً يتجهزان به إلى بلادهما فإنه ينبغي له أن يعطيهما من النفقة ما يبلغهم إلى المكان الذي أبيا أن يصحباه منه لأنه جاء بهما مكروهين من ذلك الموضع فعليه أن يردهما إليه .
وكان ذلك منه نظراً للمسلمين فتكون تلك المؤنة من بيت مال المسلمين بمنزلة نائبة تنوب المسلمين .
وفيما يجاوز ذلك قد أتيا اختباراً منها فلا يعطيهما للرجوع نفقة وإنما يعطى هذه النفقة من بيت المال إذا لم تصب الجند غنيمة أو أصابوا واقتسموها .@(2/73)
فأما إذا أصابوا غنيمة ولم تقسم بعد فإنه يعطيها النفقة من تلك الغنيمة لأنه أكرههما على ذلك نظراً منه للجند خاصة .
فتكون المؤنة من مال هو حق للجند بمنزلة ما لو استأجر لحمل الغنائم أو سوقها أو حفظها .
وكذلك إذا منعهما من الرجوع وأكرههما على المقام معه .
فإنه ينبغي أن ينفق عليهما من غنائم المسلمين .
وإذا حملهما من ذلك الموضع مع نفسه على الدواب من غنائم المسلمين لأنهما آمنان عنده والتحرز عن الغدر واجب فإذا حبسهما لمنفعة الغانمين أنفق عليهما من أموالهم بمنزلة العامل على الصدقات يعطى الكفاية من مال الصدقة .
والمرأة إذا كنت محبوسة عند الزوج لحقه استوجبت النفقة عليه .
فإن أراد تخلية سبيلهما بعد ما أمن وكان هو في موضع يخافان فيه فينبغي له أن ينظر لهما ولا يخلي سبيلهما إلا في موضع لا يخاف عليهما فيه لأنهما تحت ولايته وفي أمانه وهو مأمور بدفع الظلم عنهما .
فكلما ينظر للمسلمين بما يزيل الخوف عنهم فكذلك ينظر لهما .
أرأيت لو حملهما معه في البحر فلما انتهى إلى جزيرة أمن فيها أينبغي له أن يتركهما في تلك الجزيرة لا ولكن يحملهما إلى موضع لا يخاف عليهما فيه الضيعة ثم يعطيهما ما يكفيهما لجهازهم وحملاتهما .
وإن كانا لا يأمنان من اللصوص فينبغي له أن يرسل معهما قوماً يبلغونهما مأمنهما لأن ذلك على الإمام ولكنه ربما لا يقدر على مباشرته بنفسه فيستعين عليه بقوم من المسلمين .
فإن كانا لا يبلغان مأمنهما حتى يبلغا موضعاً يخاف فيه الذين أرسلوا معهما فإنه ينبغي أن يرسل معهما إلى أبعد موضع يأمن فيه أهل الإسلام ثم يخلى سبيلهما .
ليس عليه غير ذلك لأن فيما وراء ذلك تعريض المسلمين للهلاك وذلك لا يحل له لدفع الخوف عن المشركين ثم إن أجبر المسلمين على أن يذهبوا معهما إلى الموضع الذي يخافون فيه فقتلوا كان هو الساعي في دمهم وإن تركهما ليذهبا فأصيبا لم يكن هو ساعياً في دمهما .
فكان هذا أهون الأمرين والله أعلم .@(2/74)
باب أهل الحصن يؤمنه الرجل من المسلمين على جعل أو غير جعل
وإذا حاصر المسلمون حصناً وفيها أسير من المسلمين فأمنهم ثم جاء بهم ليلاً حتى أدخلهم المعسكر فهم فيء للمسلمين لأن الذي أمنهم كان مقهوراً غير ممتنع منهم وأمان مثله باطل .
ولأنه ما قصد بهذا الأمان النظر للمسلمين وإنما قصد تخليص نفسه ولو صححنا أمان مثله لم يتوصل المسلمون إلى فتح الحصن من حصونهم قهراً فقل ما يخلو حصن عن أسير فإذا أيقنوا بالفتح أمروا الأسير حتى يؤمنهم وإن لم يكن فيهم أسير أمروا رجلاً منهم حتى يسلم ثم يؤمنهم فيكون حكمه وحكم الأسير سواء فلأجل هذه المعاني قلنا : هم جميعاً فيء للمسلمين .
وفي القياس : لا بأس بقتل رجالهم لأن الأمان الباطل لا يحرم القتل كما لو حصل من صبي لا يعقل أو من كافر ولكنه استحسن وقال : لا ينبغي للإمام أن يقتل رجالهم .
لوجهين : أحدهما : أن ظاهر قوله عليه السلام : " يسعى بذمتهم أدناهم " الحديث يعم الأسير وغيره وهذا الظاهر وإن ترك العمل به لقيام الدليل بنفي شبهة فيما يندرئ بالشبهات بمنزلة قوله : أنت ومالك لأبيك .
والثاني : أن القوم إنما جاءوا إلى المعسكر للاستئمان لا للقتال فإنهم جاءوا باعتبار أمان الأسير إياهم وقد بينا أن المحصور إذا جاء على هيئة يعلم أنه تارك للقتال بأن ألقى السلاح ونادى بالأمان وجاء فإنه يأمن القتل .
فهؤلاء أيضاً يأمنون من القتل ولكنهم لا يأمنون من الاسترقاق فنخمسهم ونقسمهم بين الغنائم .
وكذلك لو كان الذي أمنهم مستأمناً فيهم أو كان رجلاً منهم أسلم فالمعنى يجمع الكل .
ولو أمنهم مسلم من أهل العسكر فأمانه جائز لأنه آمن منهم .
ممتنع في عسكره فأمانه@(2/75)
كأمان جماعة المسلمين .
فإن لم يخرجوا من حصنهم بعد نبذ الإمام إليهم ثم قاتلهم كما لو كان هو الذي أمنهم بنفسه ثم رأى النظر في قتالهم فإن خرجوا إلى المعسكر وقالوا : أمننا فلان لم نصدقهم على ذلك حتى يشهد عدلان من المسلمين لأنهم صاروا فيئاً باعتبار الظاهر وقد ادعوا ما يسقط حق المسلمين عنهم .
فلا بد من شاهدين عدلين من المسلمين على ذلك .
ولا يقبل قول ذلك الرجل : إني أمنتهم لأنه يخبر بما لا يملك استئنافه .
وكذلك لو شهد هو مع رجل آخر لأنه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للمرء على فعل نفسه .
فإن شهد عدلان سواء وجب تبلغيهم مأمنهم لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة .
وإن لم تكن لهم بينة إلا قول ذلك الرجل كانوا فيئاً .
إلا أنه لا يقتل رجالهم استحساناً للشبهة التي تمكنت فإن ذلك الرجل أخبر بحرمة قتلهم وهو محتمل للصدق وحرمة القتل من أمر الدين وخبر الواحد في أمر الدين حجة وإن لم يكن حجة في إلزام الحكم .
فلهذا لا يقتلون .
ولو كان المسلم أمنهم على ألف دينار أخذا منهم ثم علم بذلك الإمام وهم في حصنهم فهو بالخيار .
إن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض له حتى يخرج من دار الحرب وأخذ الدنانير فكانت فيئاً للمسلمين لأن الإمام لو رأى النظر في إنشاء الأمان بهذه الصفة كان له أن يفعله فكذلك إذا رأى النظر في أن يجيز أمان غيره .
ثم المال مأخوذ بقوة العسكر فيكون فيئاً لهم .
وإن شاء رد عليهم الدنانير للتحرز عن الغدر ثم نبذ إليهم وقاتلهم .
بمنزلة ما لو أمنهم بنفسه على هذا الوجه .
وإن كانوا دخلوا عسكر المسلمين حين صالحهم الرجل أو خربوا حصنهم فإن للإمام أن يأخذ ألف دينار فيجعلها فيئاً للمسلمين لأن معنى النظر هاهنا متعين في إجازة ذلك فإنهم آمنون في العسكر ولا سبيل للإمام عليهم حتى يبلغهم@(2/76)
مأمنهم وإن رد الدنانير عليهم .
فعرفنا أن في أخذ الدنانير منفعة للمسلمين .
وهو نظير العبد المحجور عليه يؤاجر نفسه ويسلم من العمل .
وإذا قسم الدنانير بني الغانمين قال لهم : الحقوا حيث شئتم من بلاد أهل الحرب .
ولا يعرض لهم حتى يبلغوا مأمنهم .
فيتم به الوفاء لما شرط لهم في الصلح .
وإذا فتح المسلمون الحصن فقال رجل منهم : إني كنت صالحت القوم قبل فتح الحصن على هذا الألف دينار .
وصدقه أهل الحصن بذلك فإن الإمام ينظر في ذلك فإن كان خيراً للمسلمين أن يصدقه صدقه وأخذ منه الدنانير وأمرهم أن يلحقوا بمأمنهم وإن كان خيراً للمسلمين أن يكذبه كذبه ولم يعض للدنانير وجعلهم فيئاً لأنه نصيب ناظراً للمسلمين .
فينظر ما يكون أنفع للمسلمين فيعمل به .
ألا ترى أنه لو رأى النظر للمسلمين في أن يمن عليهم كان له أن يفعل ذلك .
فهذا مثله .
إلا أنه لا يقتل رجالهم على كل حال للشبهة التي دخلت بإخبار الرجل أنه أمنهم .
وإن كان حين أخبر الرجل بهذا كانوا ممتنعين في حصنهم فهم آمنون والإمام بالخيار .
كما بينا فيما إذا أنشأ لهم الأمان في هذه الحالة .
فإن الإخبار به في حق المسلمين بمنزلة الإنشاء .
والله أعلم .@(2/77)
وإذا قال رجل من المحصورين : أمنوني حتى أنزل إليكم على أن أدلكم على مائة رأس من السبي في موضع .
فأمنوه على ذلك .
فأنه ينبغي للمسلمين أن يردوه إلى مأمنه إن لم يفتحوا الحصن .
فإن افتتحوا الحصن فعليهم أن يبلغوه مأمنه من أرض الحرب لأنه حصل أمناً في المعسكر فإن الأمان شرط يثبت بوجود القبول ولا يتأخر إلى أداء المقبول بمنزلة العتق بجعل .
فإنه لو أعتق عبده على أن يؤدي إليه ألف درهم فقبل كان العتق واقعاً وإن لم يؤد فها هنا الأمان يثبت له أيضاً إذا نزل عن منعته على أن يدل .
فسواء وفى بما قال أو لم يف كان هو في أمان من المسلمين فيبلغوه مأمنه .
فإن قال المسلمون : إنما أمناه على أن يدلنا ولم يف بالشرط قيل لهم : إنه لم يقل لكم : إني إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم .
وهذا تنصيص من محمد رحمه الله على أن مفهوم الشرط ليس بحجة وهو المذهب عندنا .
وقد حكاه الكرخي عن أبي يوسف رحمه الله في قوله تعالى : { وَيَدْرَأُ@(2/78)
عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ } النور : 8 .
أنه لا يدل على أنه لا يدرأ عنها العذاب إن لم تشهد .
وقال تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } النساء : 25 .
وهذا لا يدل على أنها إذا أتت بالفاحشة ولم تحصن أنه لا يلزمها ذلك العذاب .
وهذا لأن مفهوم الشرط كمفهوم الصفة .
وذلك ليس بحجة .
قال الله تعالى : { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } الأحزاب : 50 ثم لم يدل على حرمة اللاتي لم يهاجرن معه وقال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } التوبة : 36 .
وهذا يدل على إباحة الظلم في غير الأشهر الحرم .
فكذلك قولهم : أمناك على أن تدلنا لا يكون دليلاً على أنه لا أمان لك إن لم تدلنا لأن ذلك محتمل والمحتمل لا يعارض المنصوص ولا يدفع حكمه إلا أن ينص فيقول : على أني إن لم أدلكم عليهم فلا أمان بيني وبينكم .
فحينئذ هذا نص يصلح معارضاً لذلك النص .
وفي النبذ حل القتل والاسترقاق وذلك من باب الإطلاق يحتمل التعليق بالشرط فإذا لم يدل لم يكن له أمان وللإمام الخيار إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً .
ونظير هذا ما لو كفل بنفس رجل إلى شهر لم يبرأ بمضي الشهر ما لم يسلم نفس الخصم إليه .
وإن قال : على أني بريء من الكفالة بعد شهر كان على ما قال .
ولو كان هذا الرجل أسيراً في أيدينا وقال : تؤمنوني على أن أدلكم على مائة رأس والمسألة بحالها ثم لم يدلهم فللإمام أن يقتله لأنه صار مقهوراً في أيدينا وحل للإمام قتله واسترقاقه .
وإنما علق على إزالة ذلك عنه بالدلالة ولم يفعل .
ففي الأول كان في منعته وإن كان محصوراً فإنما نزل على أمان فأخذه من المسلمين والتزم لهم بمقابلة ذلك دلالة فيها منفعة للمسلمين .
فإذا لم يف بما التزم كان على الإمام أن يبلغه مأمنه وفي الحقيقة لا فرق بين الفصلين فإنه إذا لم يدل على ما كان عليه قبل هذا الالتزام في الوجهين إلا أن هذا الأسير قبل هذا الالتزام كان مباح القتل والاسترقاق في أيدينا فيعود كما كان .
والمحصور قبل هذا الالتزام كان في منعته فإذا لم يف بما التزم وجبت إعادته إلى منعته كما كان .
وإن كان المحصور قال :@(2/79)
إني إن لم أدلكم كنت لكم فيئاً .
أو قال : رقيقاً لم يف بالشرط .
فهو فيء للمسلمين وليس للإمام أن يقتله لأنه لو لم يقل هذه الزيادة كان آمناً من القتل والاسترقاق وإن لم يف بالشرط .
فهذه الزيادة دليل معارض الكلام الأول في رفع حكمه .
وإنما يعمل المعارض بحسب الدليل .
ولأنه شرط إزالة ذلك الأمان في حكم الاسترقاق خاصة دون القتل وفي هذا الشرط منفعة فيجب مراعاتها .
وكذلك لو قال : على أني إن لم أف كنت ذمة لكم فهو كما قال : وإذا لم يف بالشرط فهو ذمة لا يقتلونه ولا يسترقونه لأن الوفاء بالشرط واجب .
ولو قال : أمنونا حتى يفتح لكم الحصن فتدخلون على أن تعرضوا علينا الإسلام فنسلم ثم أبوا أن يسلموا فهم منون وعلى المسلمين أن يخرجوا من حصنهم حتى يعودوا ممتنعين كما كانوا ثم ينبذون إليهم لأنهم استفادوا الأمان بقبول الشرط قبل الوفاء به .
ثم لا يبطل حكم الأمان بالامتناع من الوفاء بما وعدوا وبحكم الأمان يجب إعادتهم إلى مأمنهم ثم النبذ إليهم .
فإن شرط المسلمون عليهم : إنكم إن أبيتم الإسلام فلا أمان بيننا وبينكم .
فرفضوا ذلك والمسألة بحالها فلا بأس باسترقاقهم وقتل المقاتلة منهم إذا أبوا أن يسلموا لأن الشرط هكذا كان وفيما يجري بيننا وبينهم الواجب الوفاء بالشرط فقط .
والدليل عليه حديث بني أبي الحقيق حيث قال رسول الله : " وبرئت منكم الذمة إن كتمتموني شيئاً " .
فقبلوا ذلك ثم ظهر ذلك عليهم فاستخار قتلهم استرقاقهم .
وقد بينا قصة ذلك .
وقد روي أن رجلاً من المشركين بعد وقعه أحد حين رجع الجيش ضل الطريق فدخل المدينة وجاء إلى بيت عثمان بن عفان رضي الله عنه سراً .
وكن بينها قرابة .
فأتى عثمان النبي صلى الله عليه وسلم وسأل له الأمان .
فقال : " قد أمناه على أنا إن أدركناه بعد ثالثة فقد حل دمه " .
فخرج الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اطلبوه فإني أرجو أن@(2/80)
تجدوه " .
فوجدوه بعد ثالثة قد سلط الله عليه النوم .
فأخذ فقتل .
فبهذا تبين أن الشرط المنصوص عليه في الأمان معتبر وإن كان ذلك يرجع إلى النبذ وإباحة القتل .
ولو أسلم بعضهم وأبى البعض كان من أسلم منهم حراً لا سبيل عليه ومن أبى الإسلام فهو فيء اعتباراً للبعض بالكل .
وهذا لأن الجميع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم على الانفراد بدليل قوله تعالى : { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } نوح : 7 .
فكان هذا بمنزلة ما لو شرطنا على كل واحد منهم : إنك إن أبيت الإسلام فلا أمان بيننا وبينك .
وكذلك لو أن واحداً من المحصورين قال : أمنوني على أن أنزل إليكم فأسلم ثم أبى أن يسلم يرد إلى حصنه لأنه أمن عندنا .
وفي مثل حاله قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } التوبة : 6 .
وإن شرطوا عليه : إنك إن أبيت الإسلام فلا أمان بيننا وبينك ثم أبى الإسلام .
فهو فيء للمسلمين لأن الشرط هكذا جرى بيننا وبينه .
فإن جعله الإمام فيئاً بعد ما عرض عليه الإسلام فأبى ثم أسلم لم يقبله بعد إسلامه ولكنه يجعله فيئاً لأن حكم ذلك الأمان انتهى حين أبى الإسلام بعدما عرض عليه ويبقى هو أسيراً في أيدينا فإذا أسلم لم يقتل وكان فيئاً وهذا إذا حكم عليه بأنه فيء بعد ما أبى الإسلام فإن جعل الإمام يدعوه إلى الإسلام وهو يأبى إلا أنه لم يحكم عليه بأنه فيء حين أسلم ففي القياس هو فيء لأن شرط انتباذ الأمان قد تحقق بإبائه الإسلام والمتعلق بالشرط يثبت بوجود الشرط وبمنزلة الطلاق والعتاق إذا علق بالشرط .@(2/81)
وفي الاستحسان : هو حر مسلم لأن الإباء متردد محتمل قد يكون لكراهة الإسلام فهو إباء حقيقة .
وقد يكون للتأمل فيه إلى أن تزول الشبهة عن قلبه فلا تعين جهة الإباء إلا بحكم الحكم .
ألا ترى أنه إذا أسلم أحد الزوجين في دارنا فإن الفرقة تتوقف على إباء الآخر الإسلام .
ثم لا يتحقق ذلك إلا بقضاء القاضي .
وكذلك النكول في باب الأموال بمنزلة الإقرار شرعاً ولا يثبت ذلك إلا بقضاء القاضي .
ولو لم يأب الإسلام ولكن قال : دعوني حتى أنظر في أمري فإن الإمام يؤجله ثلاثة أيام لا يزيد على ذلك لأن التأمل وإزالة الشبهة يحتاج إلى مدة فإذا طلب ذلك من الإمام أجله ثلاثة أيام .
فإنها مدة تامة للنظر بدليل خيار الشرط .
والأصل فيه المرتد فإنه إذا استمهل النظر في أمره أمهله ثلاثة أيام .
ورد به حديث عن عمر حين قدم عليه رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال : هل عندكم من مغربة خبر - يعني أمر حادث وخبر غريب - فقال : نعم رجل كفر بعد إسلامه .
فقال : ماذا فعلتم به فقال : قربناه فضربنا عنقه .
قال : فهلا طينتم عليه بيتاً ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً وأسقيتموه فلعله أن يتوب ويراجع أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذا بلغني وبظاهره يأخذ الشافعي رحمه الله ويقول : يجب تأجيله شرعاً طلب ذلك أو لم يطلبه .
فتأويله عندنا أنه كان استمهلهم فأبوا فلهذا أنكره عمر رضي الله عنه وإذا كان المرتد وقف على محاسن الشريعة يؤجل ثلاثة أيام فهذا الذي لم يقف عليها أصلاً أحرى أن يؤجل .
فإن سكت حين عرض عليه الإسلام ولم يجب@(2/82)
بقبول أو برد .
فإن الإمام يعرض عليه الإسلام ثلاث مرات ويخبره في كل مرة أنه إن لم يجبه حكم عليه أنه فيء .
وهذا لأن سكوته إباء منه للإسلام .
إلا أنه محتمل في نفسه فيكرر عليه العرض ثلاث مرات لإبلاء العذر ويخبره في كل مرة على سبيل الإنذار .
فإن أبى حكم عليه بأنه فيء .
وهو بمنزلة الخصم إذا سكت عن الجواب في مجلس القاضي جعله منكراً وإذا سكت عن اليمين بعدما طلب منه جعله ناكلاً وعرض عليه اليمين ثلاثاً وأخبره في كل مرة أنه يحكم عليه إن لم يحلف ثم يحكم بعد الثالثة .
ولو كان قال : حين أراد النزول : أمنوني على أن تعرضوا علي الإسلام .
فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام وإلا فلا أمان بيني وبينكم .
ثم عرضوا عليه الإسلام فله مهلة ثلاثة أيام ولياليها من حين عرضوا عليه الإسلام لأنه شرط ذلك لنفسه .
فإنه بين أنه يسلم بعدما يعرض عليه الإسلام واستمهل في ذلك ثلاثة أيام .
فعرفنا أن ابتداء المدة من ساعة العرض .
وذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بإزائه من العدد الأخر .
فإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئاً ولا حاجة إلى حكم الحاكم لأن الشرط هكذا جرى .
فاشتراط الحكم عند الإطلاق ليتميز به التأمل من الإباء وقد حصل ذلك بالمدة هنا .
ثم التوقيت نصاً يمنع أن يكون لما بعد مضي الوقت حكم ما قبله كما في الإجازة .
وإن كان لم يقل : وإلا فلا أمان بيني وبينكم والمسألة بحالها فإنه يرد إلى مأمنه بعد مضي ثلاثة أيام شرط للتروي والنظر لا للأمان .
فبعد مضيها يتحقق الإباء .
ولكنه أمن حين لم يشترط عليه نبذ الأمان بعد الإباء فيجب تبليغه مأمنه من حصنه .
وإن كانوا قد افتتحوا حصنه بلغوه أدنى مأمن له من أرض الحرب ثم حل قتاله وإن@(2/83)
كان قال : فإن أسلمت فيما بيني وبين ثلاثة أيام وإلا كنت عبداً لكم .
فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه وإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئاَ يقسم مع الغنيمة ولا يقتل لأن الشرط هكذا كان .
وكذلك لو قال : وإلا كنت ذمة لكم .
أو قال ذلك جميع أهل الحصن ثم مضت المدة قبل أن يسلموا فهم ذمة للمسلمين .
كما التزموه بالشرط .
ولو قال المحصور للمسلمين : تؤمنوني على أن أنزل إليكم فأدلكم على قرية فيها مائة رأس فقال المسلمون : إن دللتنا على قرية فيها مائة رأس فأنت آمن .
ورضي بذلك ونزل .
ثم جاء بهم إلى قرية لا شيء فيها .
فقال : قد كانوا هنا وذهبوا فهو فيء للمسلمين وليس له أن يقول : ردوني إلى مأمني بخلاف ما سبق لأن المسلمين علقوا الأمان له بالشرط وهو الدلالة والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط وفي الأول أوجبوا له الأمان على أن يدل وقد قبل ذلك فيكون آمناً دل أو لم يدل .
ألا ترى أن من قال لعبده : أنت إن أديت إلي ألفاً فأنت حر .
فقبل ذلك فإنه لا يعتق ما لم يؤد .
ولو قال : أنت حر على أن تعطيني ألف درهم .
فقبل فهو حر أدى أو لم يؤد .
فكذلك هاهنا .
وكذلك لو قال له : إن نزلت وسلمت فأنت آمن .
ثم نزل ولم يسلم فهو@(2/84)
فيء لأن قولهم : فأسلمت معطوف على الشرط فيكون شرطاً .
وإنما علقوا أمانه بشرط أن يسلم .
فإذا لم يسلم لم يكن له أمان .
وإذا قالوا : أنت آمن على أن تنزل فتسلم .
فهو آمن بعد النزول قبل أن يسلم .
فيجب أن تبلغه مأمنه وإن أبى الإسلام .
وعلى هذا لو قالوا : أنت آمن على أن تنزل فتعطينا مائة دينار فقبل ذلك ونزل ثم أبى أن يعطي الدنانير فإنه يكون آمناً .
بخلاف ما لو قالوا : إن نزلت فأعطيتنا مائة دينار فأنت آمن لأن هنا الأمان معلق بشرط أداء الدنانير وفي الأول بشرط أداء القبول .
فإذا نزل وقبل كان آمناً وكانت الدنانير عليه فإذا أبى أن يعطيها أو قال : ليست عندي حبس حتى يؤديها ولا يكون فيئاً لأجل الأمان الثابت له .
فمتى ما أعطى الدنانير وجب تخلية سبيله حتى يلحق بمأمنه .
وإن أبى أن يعطيه حتى يخرجه الإمام مع نفسه إلى دار الإسلام ثم أعطاها يخلى سبيله حتى يرجع إلى مأمنه لأنه في أمان وقد كان محبوساً في دين عليه فإذا قضى الدين لم يبق لنا عليه سبيل .
وإن طال مكثه في دارنا ولم يعط الدنانير جعله الإمام ذمة لأن الكافر لا يتمكن من إطالة المقام في دارنا بدون صغار الجزية ولأنه احتبس عندنا إلى أداء الدنانير وهو ممتنع عنه أو عاجز عن الأداء .
والكافر إذا احتبس في دارنا تضرب عليه الجزية بمنزلة الرهن .
فإذا جعله الإمام ذمة أخرجه من الحبس وأبطل عنه الدنانير لأن تلك الدنانير كان التزمها عوضاً عن أمان نفسه أو كن قد افتدى بها نفسه@(2/85)
ليلحق بمأمنه .
فإذا كان الأمان فقد استفاد ذلك بأقوى السببين وهو عقد الذمة أو الإسلام .
إن أسلم فيسقط عنه أداؤها بمنزلة المكاتب إذا أعتقه المولى أو أم الولد إذا أعتقت بموت المولى وهي مكاتبة يسقط بدل الكتابة لوقوع الاستغناء عن أدائها .
وإن كان فداء فقد انعدم المعنى الذي لأجله كان يفدي بها نفسه لأنه حين أسلم أو صار ذمياً فقد صار من أهل دارنا ممنوعاً من الرجوع إلى دار الحرب وإن أعطى الدنانير كغيره من أهل الذمة وإنما كان يفدي بها نفسه ليلحق بمأمنه .
فإن قيل : لماذا لم يجعل المال عليه عوضاً عن رقبته حتى يطالب به بعد عقد الذمة بسلامة رقبته له قلنا : لأنه لم يكن عبداً للمسلمين قط وإنما يكون المال عوضاً عن رقبته إذا كان عبداً في وقت فعتق بذلك المال .
وكذلك لو صالحوه على أن يعطيهم رأساً فعليه رأس وسط أو قيمته دراهم أو دنانير لأن ما يلزمه بطريق الفداء لا يكون عوضاً عن مال .
والرأس المطلق في مثله يثبت مقيداً بالوسط متردداً بين القيمة والعين كما في بدل الخلع والصلح عن دم العمد .
فإذا أعطى ما التزم ولم يفتح حصنه بعد فأراد أن يذهب إلى موضع آخر لم يمنع من ذلك .
وله أن يذهب حيث شاء من أرض الحرب لأنا عرفنا أنه نزل من الحصن وفدى نفسه بالمال لا ليعود إلى الحصن بل ليأمن مما كان خائفاً منه في الحصن .
وإنما يتم له ذلك إذا تمكن من الذهاب إلى حيث شاء من أرض الحرب .
فإذا بلغ مأمنه منها حل قتله لأن مقصوده قد تم حين وصل إلى منعة أخرى .
فينتهي الأمان الذي كان بينه وبين المسلمين .
إلا أن يكون قد اشترط على المسلمين أنه آمن منهم حتى يخرجوا إلى دار الإسلام أو كذا كذا شهراً .
فحينئذ يجب الوفاء له بذلك الشرط لأنا إنما نجعل الأمان منتهياً بيننا وبينه إذا وصل إلى مأمنه لدلالة الحال وهو أنه كان خائفاً محصوراً وإنما قصد إزالة ذلك الخوف عن نفسه ويسقط اعتبار دلالة الحال إذا جاء التصريح بخلافها .
وإذا لم يذكر شيئاً من هذه الشروط ثم اختار الرجوع إلى حصنه فرجع حتى صار فيه ممتنعاً فقد خرج من أمان المسلمين أيضاً لأنه وصل إلى منعته باختياره وذلك سبب لانتهاء@(2/86)
الأمان .
إلا أن يكون شرط أنه آمن كذا كذا شهراً أو حتى ينصرف المسلمون إلى دار الإسلام فحينئذ هو آمن .
وإن دخل الحصن لبقاء مدة الأمان بمنزلة ما لو التحق بمنعة أخرى .
فإن ظهر المسلمون على الحصن خلوا سبيله لبقاء مدة الأمان .
إلا أن يكون قاتل المسلمين حين رجع إلى الحصن .
فحينئذ يكون فيئاً لأنه بمباشرة القتال في مأمنه يصير ناقضاً للأمان الذي كان له منا ولا حكم للأمان بعد النقض في حرمة القتل والاسترقاق .
وإن قال للمسلمين : أمنوني على أن أنزل إليكم فأعطيكم مائة دينار فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم .
أو قال : إن نزلت إليكم فأعطيتكم مائة دينار فأنا آمن .
ثم نزل فطالبوه فأبى أن يعطيهم .
فهو فيء في القياس .
لوجود شرط انتباذ الأمان في أحد الفصلين وانعدام شرط الأمان في الفصل الثاني .
وفي الاستحسان : لا يكوون فيئاً حتى يرفع إلى الإمام فيأمره بالأداء وإن أبى حكم عليه بأن يجعله فيئاً .
لما بينا أن في امتناعه من الأداء لما طلب منه احتمال المعاني فلا تتعين جهة الإباء إلا بحكم الحاكم .
أرأيت لو قال لهم : لا أعطيكم وإنما أعطي الأمير .
أو قال : لا أعطيكم إلا بشهود .
أكان فيئاً بهذا الامتناع ليعلم أن القول بالقياس في هذا قبيح .
ولو رفعوه إلى الإمام فقال : هات المائة الدينار فقال : أجلني فيها حتى أنحلها لها .
فلا بأس للإمام أن يؤجله يومين أو ثلاثة لأنه ليس في هذا القدر كثير ضرر على المسلمين وفيه منفعة له والإمام مأمور بالنظر في كل جانب .
ألا ترى أن من لزمه الدين إذا استمهل هذا القدر من المدة أمهله الحاكم ولم يحبسه .
فهذا الذي يفدي نفسه بالمال أولى بأن@(2/87)
يمهله ولا يعجله .
وإن كان قال : تؤمنوني على أن أنزل إليكم فأعطيكم رأساً أو مائة دينار ما بيني وبين ثلاثة أيام فنزل فهو آمن ولا سبيل عليه حتى يمضي الوقت لأنه شرط هذه المدة مهلة لنفسه .
فلا يحبس قبل مضيها .
كما لا يحبس من عليه الدين المؤجل فإن مضت المدة فهو آمن لقبوله .
ولكن يحبس حتى يؤدي ما التزم به إلا أن يسلم أو يصير ذمة فحينئذ يبطل المال عنه .
لما بينا من الطريقين فيه .
ولو قال : تؤمنوني على أن أعطيكم مائة دينار على أن أجل كذا .
فإن لم أعطكم فلا أمان بيني وبينكم .
أو قال : إن أعطيتكم إلى أجل كذا فأنا آمن .
ثم لم يعطهم حتى مضى الأجل .
فهو فيء ولا حاجة إلى قضاء القاضي هاهنا لأنه صرح باشتراط الوقت لنفسه فلا يزاد على الوقت الذي صرح به .
ولو شرطنا قضاء القاضي بعد مضي الوقت كان زيادة على الوقت .
والزيادة على النص في معنى النسخ .
ولو كان قال : تؤمنوني على أن أنزل فأدلكم على قرية فيها مائة رأس على أني إن لم أدلكم فلا أمان بيني وبينكم .
ثم نزل فدلهم على قرية فيها مائة رأس قد أصابها المسلمون قبل هذا الأمان أو بعده قبل نزوله أو بعد نزوله قبل أن يدلهم فليست هذه بدلالة فإن دلهم على غيرها وإلا كان فيئاً .
وكذلك لو علم المسلمون بها قبل دلالته ولم يصيبوها لأنه التزم دلالة فيها منفعة للمسلمين .
وذلك لا يوجد إذا دل على ما كان معلوماً للمسلمين ولأن الدلالة إنما تتحقق إذا كان التوصل إلى المقصود بتلك الدلالة ووصول المسلمين إلى هذه القرية لم يكن بدلالته حين علموا بها قبل دلالته أصابوها أو لم يصيبوها .
ألا ترى أن المحروم إذا دل على صيد كان المدلول عالماً بمكانه لم يكن ملتزماً للجزاء بهذه الدلالة .
ولو كانوا@(2/88)
خرجوا معه فدلهم على الطريق فجعلوا يسيرون أمامه حتى عرفوا مكانها قبل أن ينتهي إليها فيدلهم عليها .
فهذه دلالة وهو آمن لا سبيل لهم عليه لأنهم إنما أخذوا في ذلك الطريق بدلالته .
وإنما علموا بها حين أخذوا في ذلك الطريق فما يحصل لهم من العلم يكون مضافاً إلى أصل السبب وهو دلالته .
ألا ترى أن دلالة المحرم على الصيد بهذا الطريق يتحقق حتى يلزمه جزاء الصيد .
وكذلك لو وصف لهم مكانها ولم يذهب معهم فذهبوا بصفته حتى أصابوها فهو آمن لأن الدلالة هكذا تكون .
فإن من يدل غيره على طريق قد يذهب معه وقد لا يذهب ولكن يصف الطريق له فيصير معلوماً بدلالته ويسمى دالاً عليه في الوجهين .
وكذلك لو قال : أمنوني على أن أدلكم على بطريق بأهله وولده فإن لم أفعل فلا أمان لي عليكم .
فلما نزل وجد المسلمين قد أصابوا بطريقاً فقال : هذا الذي أردت أن أدلكم عليه .
فليس هذا بشيء لأنه التزم الدلالة على بطريق منكر حتى ينتفع المسلمون بدلالته ولا يحصل هذا المقصود بهذه الدلالة .
وإن كان قال : على أن أدلكم على بطريق الحصن فإنه قد نزل هارباً من الحصن .
ثم لما نزل وجد المسلمين قد أصابوا ذلك البطريق فهو آمن لا سبيل عليه لأنه التزم الدلالة على معرف معلوم بعينه أو بنسبه وقد دل عليه وهذا لأن في المعين لا يعتبر الوصف وفي غير المعين يعتبر .
ألا ترى أن من قال : لا أكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ حنث في يمينه .
ولو قال : لا أكلم شاباً فكلم شيخاً كان شاباً وقت يمينه لم يحنث .
وحصول العلم للمسلمين بدلالته أو انتفاعهم بدلالته وصف@(2/89)
معتبر في المشروط .
فإنما يعتبر في غير المعين فأما في المعين فلا يعتبر شيء من ذلك .
وعلى هذا لو التزم أن يدلهم على حصن أو مدينة فإن لم يعينها لا تعتبر دلالته على ما يعلم المسلمون بها وفي المعين : يعتبر ذلك .
ثم في غير المعين : لو دلهم على شيء من ذلك قد كانوا يعرفونه في دخلوها أرض الحرب قبل هذه الدخلة إلا أن موضعها أشكل عليهم في هذه المدة فهو آمن لا سبيل عليه لأنهم توصلوا إليها بدلالته لا بما كان سبق من علمهم بها .
ألا ترى أن المحرم في مثل هذا يكون دالاً على الصيد ملتزماً للجزاء ولأن المقصود دلالة فيها منفعة للمسلمين وقد وجد فإنهم انتفعوا بهذه الدلالة .
فأما علمهم الذي سبق فما كان يوصلهم إلى هذه المنفعة بعدما اشتبه عليهم أو بعدما نسوها .
فيتحقق منه الوفاء بالشرط عند هذه الدلالة .
والله أعلم .
ولو أن مسلماً في دار الحرب تزوج منهم كتابية وأخرجها إلى دار الإسلام فهي حرة .
لا باعتبار أن النكاح أمان منه لها فإن أمان المسلم في دار الحرب باطل أسيراً كان أو تاجراً أو رجلاً أسلم منهم ولكن لأنها جاءت معه مجيء المستأمنات .
فإنها جاءت للمقام في دارنا مع زوجها وهذه صفة المستأمنة .
فإن أرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يكن لها ذلك لقيام النكاح بينها وبين المسلم .
ولو أن المستأمنة في دارنا تزوجت لمسلم صارت ذمية فكذلك إذا بقيت في دارنا بنكاح مسلم .
وهذا لأن المرأة تابعة للزوج في المقام والزوج من أهل دارنا فتصير هي من أهل دارنا تبعاً .
وإن قال الزوج :@(2/90)
قهرتها في دار الحرب وأخرجتها قهراً .
وقالت المرأة : بل خرجت على النكاح ولم يقهرني .
فهذا على ما يدل عليه الظاهر .
فإن جاء بها مربوطة فالظاهر شاهد للزوج .
فيكون القول قوله وهي له أمة .
وإن جاءت معه غير مربوطة فالظاهر يشهد لها فتكون حرة ذمية إلا أنه لا نكاح بينها وبين الزوج لإقراره بما يبطل النكاح وهو الملك بطريق القهر .
فإن إقرار الزوج بما ينافي النكاح يبطله كما لو زعم أن زوجته قد أرتدت ونكرت هي فإن أقام بينة من المسلمين أو من أهل الذمة أنه قهرها في دار الحرب كانت أمة له لأنه أثبت سبب ملكه رقبتها بالحجة وهي ذمية في الظاهر لإقرارها أنها في نكاح مسلم في دار الإسلام وشهادة أهل الذمة على الذمية تقبل .
ثم إن كان المسلم مستأمناً في دار الحرب كره له ما صنع وأمر بأن يعتقها ويخلي سبيلها لأنه حين دخل عليهم بأمان فقد ضمن أن لا يغدر بهم وأن لا يتعرض لهم بشيء من ذلك .
فيؤمر بالوفاء بما ضمن ولا يجبر عليه في الحكم لأنه غدر بأمان نفسه خاصة دون أمان المسلمين وذلك أمر بينه وبين ربه .
وإن كان أسيراً فيهم أو كان أسلم منهم لم يؤمر بشيء من ذلك لأنه متمكن شرعاً من استرقاقهم وأخذ مالهم إذا قدر عليهم وقد بينا أن تزوجه إياها لا يكون أماناً منه لها ثم خمس فيها لأنه أخرجها على وجه التلصص .
ولا يقبل على قهره إياها شهادة أهل الحرب من المستأمنين لأنها ذمية في الظاهر وقد تصادقا على أنها كانت زوجة له .
وشهادة المستأمن بالرق على الذمية لا تقبل .
وإن قالت : ما تزوجني ولا قهرني ولكنه أمنني فخرجت معه .@(2/91)
فهي حرة إن خرجت طائعة لدلالة الحال ولا تكون زوجة له لأنه يدعي عليها النكاح وهي تنكر .
ولو ادعى أنه تزوجها في دار الإسلام لم يقبل قوله إلا بحجة .
فكذلك قولها إذا ادعت أنه تزوجها في دار الحرب .
فإن أرادت الرجوع إلى دار الحرب تمنع من ذلك لأن النكاح لم يثبت حين أنكرت وبه تصير ذمية تابعة للرجل .
وإن أقام الزوج البينة من المستأمنين في هذا الفصل على أنه قهرها في دار الحرب تقبل البينة لأنها مستأمنة في الظاهر وشهادة المستأمنين على المستأمنة بالرق مقبولة .
وإن أخرجها معه مقيدة فهي أمة له ولا خمس فيها لأن الظاهر شاهد له .
فإن لم يعلم أنه صنع بها هذا إلا في دار الإسلام ففي قول أبي حنيفة رحمه الله : هي فيء لجماعة المسلمين .
لأنها لما أنكرت النكاح لم يثبت لها حكم الأمان في دارنا .
فإن المستأمنة من تجيء للمقام في دارنا .
ولا نعلم لذلك سبباً حين أنكرت النكاح فكانت حربية لا أمان لها في دارنا .
ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله : أن الحربي إذا دخل دارنا بغير أمان فأخذه مسلم يكون فيئاً لجماعة المسلمين .
وعندهما يكون للأخذ وفي إيجاب الخمس فيه روايتان .
ولو أن ذمياً دخل دار الحرب بأمان فتزوج منهم امرأة أخرجها مع نفسه بعدما استأمن المسلمين عليها فهي حرة لأنها جاءت مجيء المستأمنات ولأن المسلمين أمنوها حين استأمن عليها .
ثم تكون ذمية من أهل دارنا تبعاً لزوجها .
بمنزلة ما إذا تزوجت المستأمنة ذمياً في دارنا فلا ترجع إلى دار الحرب .
وإن أذن الزوج لها في ذلك أو طلقها فالاستئمان عليها ليس بشرط ولكنها إذا خرجت معه طائعة فهي@(2/92)
آمنة لأنها جاءت للمقام مع زوجها وهو من أهل دارنا .
فإن استأمن هذا الذمي على ابنته أو أخته فهي آمنة أيضاً لأن المسلمين أمنوها .
ولأنها جاءت مجيء المستأمنات حين استأمن عليها .
ولها أن ترجع إلى دار الحرب متى شاءت لأنها ليست بتابعة لأبيها أو أخيها الذمي فإنها بالغة .
وإن أخرجها مع نفسه ولم يستأمن لها فهي فيء للمسلمين في قول أبي حنيفة لأنها جاءت مجيء المستأمنات فإنها ليست بتابعة له في المقام ولم يستأمن لها نصاً .
وإن قال الذمي : قد كنت قهرتها في دار الحرب وأخرجتها .
وكذبته ولا قرابة بينهما فإنه لا يصدق لأن ظاهر الحال يكذبه فيما قال .
فإنها جاءت غير مربوطة معه وقد ثبت فيها حق جماعة المسلمين .
فلا يصدق الذمي فيه في إبطال ذلك .
وإن شهد له بذلك شهود من المسلمين كانت أمة له لأنه أثبت سبب الملك فيها بالحجة .
ولا يقبل في ذلك شهادة أهل الذمة لأنها تقوم على المسلمين وقد صارت هي أمة له في الظاهر .
وإن أخرجها مغلولة قد علم ذلك فالقول قوله لأن الظاهر شاهد له .
وإن لم يعلم أنه قهرها إلا في دار الإسلام فعند أبي حنيفة رحمه الله : هي فيء لجماعة المسلمين .
وعندهما هي له .
ولكن يؤخذ منه الخمس .
بمنزلة ما لو أصاب الذمي ركازاً في دار الإسلام فإنه يخمس وما بقي يكون له .
ولو خرج علج من أهل الحرب مع مسلم إلى المعسكر فقال المسلم : أخذته أسيراً .
وقال الحربي : جئت مستأمناً .
فالقول قول الحربي لأنه جاء مجيء المستأمنين والظاهر شاهد له فإنه غير مقهور حين جاء معه لأن الواحد ينتصف من الواحد ألا ترى أنه لو جاء وحده هكذا كان آمناً فكذلك إذا جاء مع مسلم ولو كان جاء به وهو مكتوف أو مغلول أو في عنقه حبل يقوده فالقول قول المسلم لأن دلالة الحال تشهد له .
وقد بينا أن في مثل هذا يحكم بدلال الحال .
ولو كان هذا الحربي جاء مع عدد من المسلمين وهو مخلى عنه فقالوا : هو أسيرنا وقال الحربي : جئت مستأمناً معهم .
فالقول قول المسلمين@(2/93)
لأنه مقهور لجماعتهم لا يقدر على الانتصاف والتخلص منهم لو أراد ذلك .
فهو بمنزلة المربوط ألا ترى أنهم لو كانوا مائة رجل قد أحدقوا به حتى صار لا يقدر على التخلص منهم فإنه يسبق إلى وهم كل أحد أنه أسير لا مستأمن فيكون فيئاً لجميع العسكر .
وإن شهد مسلمان أنه جاء مستأمناً قبلت الشهادة لأن شهادة المسلمين حجة تامة على جماعة المسلمين .
وإن لم يشهد به شاهدان ولكن أقر رجل واحد من القوم أنه جاء مستأمناً لم يصدق في ذلك لأن قول الواحد ليس بحجة في الحكم وشركتهم فيه شركة عامة فلا حكم لإقرار الواحد فيه إلا أن يقع في سهمه بالقسمة .
قال : ولو أن مسلماً خرج من دار الحرب ومعه امرأة .
فقال : ليست لي بزوجة ولكني أمنتها فأخرجتها على الأمان .
فهي في القياس فيء لأن أمانه إياها في دار الحرب باطل لكونه مقهوراً في منعة أهل الحرب .
وكما حصلت في دار الإسلام فقد صارت فيئاً مأخوذة بالدار .
فلا يعمل أمانه في إبطال حق المسلمين عنها .
وفي الاستحسان : هي حرة مستأمنة ترجع إلى دار الحرب متى شاءت لأنه لما خرج معها مستديماً لذلك الأمان صار بمنزلة المنشئ للأمان في أول جزء من أجزاء دار الإسلام .
وإنما يثبت حق المسلمين فيها إذا حصلت في دارنا غير آمنة .
وهي ما حصلت في دارنا إلا آمنة .
فأدنى الدرجات أن يقترن أمان المسلم إياها بسبب ثبوت حق المسلمين فيها .
وذلك يمنع ثبوت حقهم فيها .
يوضحه : أنهما لما وصلا إلى الموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون ولا أهل الحرب فقد خرجا من منعة أهل الحرب وصح أمان المسلم إياها في هذا الموضع .
وهي لا تصير مأخوذة بدار الإسلام ما لم تصل إلى الموضع الذي يأمن فيه المسلمون .
وهذا بخلاف ما لو أمنها ثم خرجت هي وحدها .
لأن أمانه إياها في دار الحرب باطل وهو ليس معها في الموضع الذي يصح فيه الأمان حتى يجعل@(2/94)
كالمنشئ للأمان في ذلك الموضع .
فلهذا كانت فيئاً .
ولو أن مسلماً في دار الحرب أمن جنداً عظيماً فخرجوا معه إلى دار الإسلام فظفر بهم المسلمون كانوا فيئاً لأن هذا المسلم ليس ممتنعاً منهم في دار الإسلام ولا في دار الحرب بل هو مقهور في الموضعين بمنعتهم .
فيكون أمانه لهم باطلاً .
ألا ترى أن هذا العسكر لو دخلوا دار الإسلام فدخل إليهم مسلم بأمان ثم أمنهم كان ذلك باطلاً لأنه غير ممتنع منهم فكذلك إذا خرج معهم من دار الحرب مستديماً لذلك الأمان بخلاف مالو أمن واحداً منهم وخرج معه لأن الواحد لا يكون مقهوراً بالواحد بل يمتنع منه وينتصف في الظاهر فيصح أمانه له كما لو دخلا دار الإسلام .
ولو كان أمن في دار الحرب عشرين رجلاً منهم ثم خرج معهم إلى دار الإسلام فهم آمنون .
بمنزلة ما لو أنشأ الأمان لهذا العدد في دار الإسلام ابتداء .
فإن قيل : هو غير ممتنع من هذا العدد أيضاً بل هو مقهور بهم في الظاهر فينبغي أن لا يصح أمانه .
قلنا : نعم هو مقهور باعتبار نفسه ولكنه قاهر ممتنع بقوة المسلمين .
لأن هؤلاء لا يمتنعون من جماعة المسلمين والقوة للمسلم في دار الإسلام بجماعة المسلمين فإذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين كأن هذا الرجل قاهراً لهم في دار الإسلام حكماً لا مقهوراً بهم فيصح أمانه لهم بخلاف الجند فإنهم ممتنعون من أهل دار الإسلام بشوكتهم فيكون هو مقهوراً فيهم في دارنا كما في دار الحرب .
ألا ترى أن القوم الذين لا منعة لهم لو دخلوا دارنا بغير أمان وأخذهم قوم من المسلمين كانوا فيئاً لجماعة المسلمين ولو أن جنداً عظيماً منهم دخلوا دارانا فقاتلهم قوم من المسلمين حتى قهروهم كانوا لهم خاصة .
وما كان الفرق إلا بهذا .
إن الذين لهم منعة ما صاروا مقهورين بحصولهم في دار الإسلام بخلاف الذين لا منعة لهم .
ثم تحقق ما قلنا : إنهم إذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين فلو لم يجعل أمان الواحد الذي جاء معهم صحيحاً أدى إلى الغرور لأنهم فارقوا منعتهم بناء على ذلك الأمان وفي الجند لا يؤدي إلى هذا .
لأنهم ما فارقوا منعتهم بناء على أمانه بل هم ممتنعون بشوكتهم في دارنا@(2/95)
كما في دار الحرب .
وعلى هذا لو أخرجهم هذا المسلم إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فإن كانوا بحيث لا يمتنعون من العسكر فهم آمنون .
لأن قوة العسكر في هذا الموضع بعسكر المسلمين فيكون قاهراً لا مقهوراً إذا وصل إلى عسكر المسلمين .
وإن كانوا بحيث يمتنعون من العسكر لكثرتهم فأمانه لهم باطل وإن خرج معهم لما بينا .
ولو كان المسلمون حاصروا حصناً وفيهم مسلم فأمن قوماً لا منعة لهم وأخرجهم معه إلى العسكر لم يكونوا آمنين بخلاف الأول لأن المحصورين قد صاروا مقهورين من وجه فحالهم كحال المأسورين فلا يصح أمان المسلم لهم إذا كان فيهم لما فيه من إبطال حق المسلمين عليهم بخلاف الأول ولأنه لو جاز هذا الأمان لم يقدر المسلمون على قهرهم بحال فإنهم إذا أيقنوا بالقهر أسلم بعضهم ثم أمنهم على أن يخرج مع كل نفر منهم ولا يجوز القول بما يؤدي إلى سد
باب الاسترقاق على المسلمين .
يوضحه : أن يد المسلمين إلى المحصورين سابقة على قوة هذا المسلم الخارج معهم فلا يبطل باعتبار هذه القوة حكم اليد السابقة .
بخلاف جميع ما سبق .
ولو أن حربية أسلمت وزوجها حربي فهما على نكاحهما حتى تحيض ثلاث حيض لأن يد الإمام لا تصل إلى الزوج لتعرض عليه الإسلام فتجعل ثلاث حيض قائمة مقام ثلاث عرضات باعتبار أنها مؤثرة في الفرقة بينهما إذا صار غير مريد لها كما بعد الطلاق .
وبإصراره على الكفر يعلم أنه غير مريد لها .
فإن لم تحض حتى خرجا إلى دار الإسلام كان الرجل فيئاً للمسلمين لأنه خرج لا على وجه الاستئمان ولكن يبقى النكاح بينهما لأن الرق الذي ثبت فيه لا ينافي ابتداء النكاح فيما بينهما ولا ينافي بقاء النكاح أيضاً .
وإنما الموجب للفرقة تباين الدارين ولم يوجد ذلك فالرجل لما صار عبداً للمسلمين كان من أهل دارنا .
ثم لا تقع الفرقة بينهما وإن حاضت ثلاث حيض حتى@(2/96)
يعرض عليه الإسلام لأن الحيض كانت خلفاً عن عرض الإسلام باعتبار تعذر عرض الإسلام عليه وقد زال قبل حصول المقصود به .
والقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف يسقط اعتبار الخلف .
فلهذا يعرض عليه الإسلام .
فإن أسلم فهي امرأته وإن أبى فرق بينهما .
ولو كان الزوج هو الذي أسلم وهي من غير أهل الكتاب ثم خرجا إلى دارنا قبل أن تحيض شيئاً فهي امرأة آمنة حرة لا سبيل عليها لأنها جاءت مجيء المستأمنات .
فإنها تابعة للزوج في المقام ومن جاءت للمقام في دارنا كانت مستأمنة .
فأما الرجل فليس بتابع لامرأته في المقام وهو إنما جاء مغتراً لا مستأمناً إذ لم يطلب الأمان ولم يظهر منه علامة لذلك .
ثم إن كانت من أهل الكتاب فهي ذمية لأن النكاح بينهما مستقر وذلك يلزمها المقام في دارنا مع زوجها .
وإن كانت من غير أهل الكتاب فالنكاح بينهما غير مستقر فلا تصير ذمية ولكن يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا فرق بينهما وكان لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنها مستأمنة .
وقد بينا في كتاب الطلاق اختلاف الروايات فيما إذا أسلم أحد الزوجين المستأمنين في دارنا أن في وفي الرواية الأخرى أي الأمرين يسبق إما عرض الإسلام على المصر منها أو مضي ثلاث حيض تقع الفرقة به .
وعليه نص هاهنا لأنهما تحت يد الإمام في الحقيقة فيتمكن من عرض الإسلام والمصر من أهل دار الحرب حكماً فتقع الفرقة بينهما بمضي ثلاث حيض .
فإن لم تسلم ولكنها تحولت إلى دين أهل الكتاب فقد تقرر النكاح بينهما بمنزلة ما لو كانت كتابية في الأصل فتكون ذمية .
وأشار إلى الفرق بين إسلام الزوج وإسلام المرأة فقال محمد رحمه الله :@(2/97)
الزوج ليس من عيال امرأته إذا أسلمت والمرأة من عيال الزوج إذا أسلم فتكون آمنة إذا خرجت معه .
ألا ترى أن حربياً لو استأمن إلى دار الإسلام فأخرج معه امرأته كانت آمنة فكذلك إذا أسلم ولو أن امرأة منهم استأمنت ثم أخرجت معها زوجها لم يكن آمناً تبعاً لها فكذلك إذا أسلمت .
ولو كانت التي أسلمت أمنت زوجها على أن أخرجته إلى دارنا فخرج معها كان آمناً لما بينا أن استدامة ذلك الأمان حين حصلا في دارنا بمنزلة الإنشاء .
فإن قالت هي : أمنته وأخرجته معي .
وقال المسلمون : خرج معك بغير أمان .
فالقول قولها لأن الظاهر شاهد لها .
فقد علم أنه خرج معها وهو لا يخرج معها مصراً على الكفر إلا بأمانها .
البناء على الظاهر واجب يما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال فيه .
ولو أسلم رجل من المحصورين وأخرج معه امرأته وهي كافرة كانت فيئاً للمسلمين لأنه لو استأمن وهو محصور فخرج بأمان لم تتبعه زوجته فكذلك إذا أسلم .
وكذلك لو أسلمت المرأة وأمنت زوجها فخرج معها لأن أمانها إياه في منفعة أهل الحرب بالطل وهو كما لا يأمن تبعاً لها في الأمان لا يأمن بأيمانها أيضاً .
بخلاف ما لو لم يكن محصوراً فاستأمن إلى عسكر المسلمين أو إلى دار الإسلام فإنه تتبعه زوجته والصغار من أولاده والكبار من الإناث لأن حكم القهر لم يتناولهم هناك .
وقد يتناول المحصورين فيؤثر أمانه وأيمانه في إزالة القهر عنه خاصة .
ولو أن ذمياً تزوج امرأة في دار الحرب وأخرجها مع نفسه فهي حرة ذمية لأن عقد الذمية@(2/98)
أقوى من عقد الأمان .
ولو خرج مستأمناً مع زوجته كانت حرة آمنة فإذا خرج وهو ذمي مع زوجته فأولى أن تكون أمنة ثم هي تابعة لمن هو من أهل دارنا في المقام وهو الذمي فتصير ذمية .
ولو خرج الذمي بابنة له كبيرة أو أخت من أهل الحرب كانت فيئاً .
إلا أن يكون استأمن عليها لأنها ليست بتابعة له في المقام في دار الإسلام فلا يكون خروجها معه دليل الاستئمان بخلاف الزوجة .
فإن قيل : أليس أن المستأمن لو أخرج مع نفسه ابنته أو أخته كانت آمنة معه وكان ينبغي أن يكون الحكم في الذمي هكذا قلنا : هناك الزوجة التي هي تابعة له لا تصير ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب بمنزلة المستأمن نفسه ويمكن إثبات مثل هذا الحكم في الابنة والأخت أيضاً .
وباعتبار الظاهر هو يعولهما كما يعول زوجته .
فأما الذمي فتصير زوجته ذمية ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب ولا يمكن إثبات مثل هذا الحكم في حق الابنة والأخت لانعدام التبعية في حق الاحتباس في دارنا .
ولا يجوز أن يثبت في التابع حكم آخر سوى الثابت فيمن هو أصل .
ولو أخرج الذمي معه امرأة وقال : هي امرأتي وصدقته .
كانت امرأته حرة وإن لم يعرف ذلك إلا بقولهما لأنهما تصادقا على ذلك والظاهر أنهما لا يجدان في دار الإسلام شهوداً على نكاح كان بينهما في دار الحرب .
فلأجل الضرورة يقبل قولهما إذا لم يكن هناك من ينازعهما .
ألا ترى أنه لو أخرج معه برجال ونساء وقال : هم عبيدي وإمائي وصدقوه .
قبل قولهم في ذلك .
وكذلك لو خرج مستأمناً فهو مصدق فيما يدعي من ذلك إذا صدقه المدعي عليه لهذا المعنى .
وإن كذبته المرأة وقالت : لا نكاح بيني وبينه ولا قرابة كانت فيئاً لأن السبب الموجب للتبعية لم يثبت عند تكذيبهما فتبقى حربية في دارنا لا أمان لها فكانت فيئاً .@(2/99)
ولو أن مسلماً خرج من دار الحرب ومعه رجل أو امرأة وقال : هذا مملوكي أو هذه مملوكتي .
وقال الآخر : ليس كذا ولكنه أمننا فخرجنا معه .
ففي القياس : هما فيء لأن ما ادعى هو من الملك قد انتفى بتكذيبهما وما ادعيا من الأمان قد انتفى بإنكاره .
وفي الاستحسان : هما حران مستأمنان يرجعان إذا أحبا لأنهما مع الاختلاف تصادقا على أنه لا سبيل للمسلمين عليهما .
والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فبعد الاتفاق على الحكم لا يعتبر الاختلاف في السبب .
يوضحه : أن اختلاف السبب في الصورة فأما في المعنى فالسبب واحد وهو الأمان الثابت لهما تبعاً أو مقصوداً .
فهو بمنزلة ما لو أقر أن لفلان عليه ألف درهم قرضاً وقال المقر له : هي غصب .
فإن المال يلزمه لهذا المعنى .
ولو كان الذي أخرجهما ذمي أو حربي مستأمن وقال : هي امرأتي .
فقالت المرأة : لست بزوجة له ولكنه أمنني فأخرجني كانت فيئاً للمسلمين لأن النكاح لم يثبت لإنكارها وقد زعمت أنها خرجت بأمان الذمي أو الحربي وذلك باطل .
ولو خرج حربي مع مسلمين فقال : أمنني هذان .
وكذباه فهو فيء لأنه يدعي عليهما ما لا يعرف سببه فلا يصدق إلا بحجة .
وقد ثبت حق المسلمين فيه باعتبار الظاهر لأنه حربي في دارنا لا أمان له فلا يصدق في إبطاله .
فإن صدقه أحدهما فهو آمن يرجع إلى دار الحرب إن أحب لأن الأمان يثبت له من جهة من صدقه بتصادقهما وإن لم يثبت من جهة الآخر فكأنه ما ادعى إلا على هذا .
وفي أمان الواحد كفاية له .
وإن قال : أمنني هذا .
وكذبه .
وقال الآخر : أنا الذي أمنته .
وكذبه الحربي وثبت كل واحد على مقالته فهو فيء لأن الأمان لم يثبت له من جهة من ادعاه حين@(2/100)
كذبه ولا من جهة من أقر له لتكذيب الحربي إياه .
فكان فيئاً .
بمنزلة ما لو قال المسلم : أنا أمنتك .
وقال الحربي : أبطلت بل كتب إلي من دار الإسلام رجل بالأمان .
لم يصدق وكان فيئاً .
وكذلك لو قال : أمني فلان المسلم .
وهو غائب أو ميت لأن الأمان لم يثبت له بمجرد دعواه على الغالب والميت ومن أقر بالأمان .
فقد كذبه الحربي في ذلك .
وهذا بخلاف ما تقدم .
فهناك الأمان من جهة واحد بعينه وإنما الاختلاف بينهما في السبب وهنا الاختلاف بينهما فيمن كان الأمان من جهته فلا يثبت واحد من الأمرين مع التكذيب ولو كان قال بعد هذا الذي أقر له بالأمان : صدقت أنت أمنتني وقد غلطت فيما قلت .
ففي القياس : هو فيء لأن إقراره له قد بطل بالتكذيب فلا يعمل التصديق بعد ذلك .
إذ الأمان عقد محتمل للفسخ والتصديق بعد التكذيب إنما يعتبر فيما لا يكون محتملاً للفسخ كالنسب والولاء .
وفي الاستحسان : هو آمن إذا لم يصر على ذلك التكذيب لأن الغلط في هذا الباب قد يقع فإنه ما رأى من أمنه قبل هذا الوقت وبالمرة الواحدة قل ما تثبت معرفته .
فإذا تبين له الغلط وجب اعتبار تصديقه لدفع الضرر بخلاف ما إذا ثبت على التكذيب بعد الاستثبات .
لأن توهم الغلط هناك قد انتفى .
وهو نظير ما لو قال الرجل لامرأة جالسة إلى جنبه : هي أختي من الرضاعة .
ثم قال : غلطت هي امرأتي .
كان مصدقاً في ذلك ولم يفرق بينهما .
فإن ثبت على ذلك بعد الاستثبات ثم قال بعد ذلك : قد غلطت لا يصدق وفرق بينهما للمعنى الذي قلنا .
ولو قال الحربي : ما أمنني أحد من المسلمين لكني خرجت بغير أمان بعدما قال له المسلم : أنا أمنتك ثم رجع إلى تصديقه لم يصدق وكان فيئاً لأنه ليس في هذا يوهم الغلط فأهم الأشياء عند الحربي الذي يخرج إلى دارنا هو الأمان .
وبعدما خرج مسلم لا يشتبه عليه أصل الأمان .@(2/101)
فبعد إنكار أصل الأمان لا يعتبر تصديقه بخلاف الأول فقد يقع الاشتباه له فيمن كان أمانه من جهته فلهذا يعتبر رجوعه إلى التصديق ويعذر بالغلط في ذلك .
ولو خرج إلى دارنا رجل وامرأة من أهل الحرب فشهد مسلمان بأنهما خرجا بأمان بعض المسلمين وهما يقولان كذباً : ما أمننا أحد .
ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله : المرأة آمنة والرجل فيء لأنهما صارا رقيقين في الظاهر والشهادة على عتق الأمة مقبولة من غير الدعوى بالاتفاق وعلى عتق العبد كذلك في قولهما ولا يقبل في قول أبي حنيفة رحمه الله .
فإن كانا ادعيا ذلك بعد الإنكار ثم شهد المسلمان به قبلت الشهادة لأن هذا تناقض في الدعوى .
والتناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية .
وإن شهد لهما ذميان أو مستأمنان بذلك لم تقبل الشهادة لأنها تقوم على المسلمين .
وبعد شهادة المسلمين لو أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا من ذلك لأنه قد ثبت بالحجة أنهما مستأمنان .
فإن قيل : هما قد أقرا بالرق على أنفسهما في الابتداء فكيف يتركان ليرجعا حربيين قلنا : لأن الإمام قد حكم بكذبهما فيما قالا بالحجة والمقر إذا صار مكذباً في إقراره يسقط حكم إقراره .
ولو قالا : خرجنا بغير أمان .
فشهد لهما شاهدان بأنهما أسلما في دار الحرب قبل أن يخرجا وصدقا الشاهدين بذلك فإن كان الشاهدان مسلمين فهما حران وإن كانا من أهل الذمة فهما رقيقان للمسلمين لأن شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين وإسلامهما إنما ظهر بعدما صارا فيئاً فلا يبطل الرق عنها .
ولو قالا للشاهدين المسلمين : كذبتما ما أسلمنا قط على الإسلام @(2/102)
لأن شهادة المسلمين عليهما بالإسلام عليهما حجة تامة .
فإن أسلما فهما حران .
أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله : فهو غير مشكل وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن في هذه الشهادة التزام حق على الرجل والمسلمون خصم في ذلك .
فإنكاره لا يمنع قبوله البينة بمنزلة ما لو أنكر العتق وهناك من يدعي حقاً من حد قذف أو قصاص فيما دون النفس .
وإن أبيا أن يسلما قتل الرجل وحبست المرأة حتى تسلم لأنه ثبت بالحجة أنها حران مرتدان .
فلا يجري عليهما شيء في دارنا ولكن الحكم في المرتد والمرتدة ما بينا .
وإن قالا : ما أسلمنا قط .
وشهد الشاهدان أنهما أسلما يوم كذا في دار الحرب .
فقالا : قد كنا على النصرانية في دار الحرب بعد هذا الوقت .
فإنهما يجبران على الإسلام فإن أسلما فالرجل حر والمرأة فيء للمسلمين لأنه ظهر بإقرارهما ارتدادهما في دار الحرب وخروجهما إلى دارنا على ذلك .
والمرتدة في دار الحرب تسترق ولا يبطل الرق عنهما بإسلامهما .
وهذا بخلاف الأول فلم تظهر هناك الردة منهما بعدما ثبت إسلامهما إلا في دارنا .
فإن قيل : هناك قد أقرا أيضاً أنهما كانا كافرين بعد الوقت الذي شهد فيه المسلمان عليهما بالإسلام .
قلنا : نعم ولكنهما ما أقرا بكفر متجدد منهما في تلك الحالة ليجعل ذلك ردة إنما أنكرا أصل الشهادة .
فأما هنا فقد أقرا بأنهما أظهرا كفراً حادثاً بعد الوقت الذي ثبت فيه إسلامها بالحجة في دار الحرب .
فإن قيل : مع هذا في هذه الشهادة إثبات حرية المرأة فلماذا يعتبر قولهما حتى تجعل أمة بعدما شهد الشهود بحريتها .
قلنا : لأن هذا إقرار منها بالرق على نفسها وإقرار المرأة بالرق مقبول بمنزلة اللقيط إذا كانت أنثى فأقرت بالرق .
ولو أن حربية أسلمت في دار الحرب وعرف إسلامها ثم أخذت في الأسراء فقالت : قد@(2/103)
ارتددت قبل أن تأخذوني .
كانت فيئاً وصدقت لإقرارها على نفسها بالرق .
وكذلك لو كانت مسلمة لحقت بدار الحرب ثم أخذت في الأسراء فزعمت أنها لحقت بدار الحرب مرتدة فهي أمة وإن كذبها أبوها فيما قالت لأنها أقرت على نفسها بالرق بسبب ظاهر .
فإنها أخذت من دار الحرب وحكم الشرك ظاهر فيها .
وكذلك لو أن ذمياً أو ذمية لحقتا بدار الحرب ثم أخذا فقالا : خرجنا ناقضين للعهد كان القول قولهما وكانا فيئاً لأنهما أقرا بالرق على أنفسهما .
وكل هذا يوضح ما سبق أن شهادة المسلمين بأنها أسلمت في دار الحرب لا تمنع صحة إقرارها بالرق بعد ذلك بسبب ردتها في دار الحرب .
ولو أن مسلمة في دار الإسلام حرة معروفة الأبوين تعلق بها رجل وقال : هي أمة لي فقالت : صدقت قد كنت ارتددت ولحقت بدار الحرب فسباني وأخرجني .
فهي أمة له في القياس لأنها تصادقا على سبب يوجب الملك له فيها .
فيجعل ما تصادقا عليه كالثابت بالمعاينة أو بالبينة .
يوضحه : أنها تقر على نفسها بما يتلفها حكماً وهو الرق .
ولو أقرت على نفسها بما يتلفها حقيقة من قصاص أو رجم وجب قبول قولها لأنها مخاطبة .
فهنا أولى .
وفي الاستحسان : لا تصدق وهي حرة لا سبيل عليها لأنها تقر بما لا تملك إنشاءه فإن حرية الأصل تثبت لها لحرية الأبوين على وجه لا تملك إبطاله .
وهي متهمة فيما أقرت به من السبب فإن النساء جبلن على الميل إلى الهوى فلعلها أحبت هذا الرجل وهو لا يرغب فيها بالنكاح فأقرت له بالرق بهذا السبب كاذبة ليحصل مرادها .
وهذا بخلاف ما إذا عرف لحاقها بدار الحرب لأن هناك الظاهر يشهد لهما فيما قالا .
فإن المسلمة لا تلحق بدار الحرب ما دامت مصرة على الإسلام عادة .@(2/104)
يوضحه : أن اعتقادها باطن لا يمكن الوقوف عليه فلا بد من قبول قولها فيه .
فأما لحوقها بدار الحرب فظاهر يمكن الوقوف عليه فلا حاجة إلى قبول قولها في ذلك .
تقريره : هو أن دار الحرب دار سبي واسترقاق .
فإذا عرفت لحاقها فإنما أصابها من موضع الاسترقاق فتكون أمة له ما لم يظهر المانع وهو إسلامها عند الأخذ .
فأما دار الإسلام فليس بدار استرقاق بل دار حرية متأكدة فلا تبطل بمجرد قولها إذا لم يعلم صدقها في ذلك .
والذمية في هذا كالمسلمة .
فما الحر الذمي إذا قال ذلك ولم يعرف صدقه ولحوقه بدار الحرب ناقضاً للعهد فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى هو والمرأة في ذلك سواء لأن عندهما معنى حق الله تعالى هو المعتبر في حرية الرجل كما في حرية المرأة ولهذا قبلا الشهادة فيه من غير دعوى .
وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو عبد سواء عرف لحاقه أو لم يعرف .
لأن معنى حقه هو المعتبر في حريته عنده ولهذا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير دعوى .
ولأن معنى الميل إلى الهوى منعدم في حق الرجل وليس في هذا الإقرار معنى حل الفرج بالملك بخلاف إقرار المرأة .
ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربي : رجل أو امرأة .
فقال : أمنته بالعربية وأخرجته .
وقال الحربي : أبطل ولكنه أمنني بالفارسية وثبتا على الاختلاف فهو آمن لأنهما اتفقا على السبب والحكم وإن اختلفا في العبارة ولا معتبر بهذا الاختلاف خصوصاً في الأمان .
فقد ثبت من غير عبارة .
وإذا الاختلاف في العبارة لا يمنع قبول الشهادة فكيف يمنع ثبوت الأمان .
وكذلك لو اختلفا في الوقت الذي أمنه فيه أو في المكان أو في الكتاب والرسالة والأمان باللسان لأنهما اتفقا على ما هو المقصود .
والأمان مما يعاد ويكرر .
فالاختلاف في هذه الأشياء لا يمنع الحكم بما هو المقصود .
ولو قال المسلم : أسلم فخرج معي .
وقال الحربي : بل أمنني .
فهو فيء لأن الاختلاف هنا بينهما في الحكم المطلوب بالسبب فإن المسلم يستفيد الأمان من قبل إيمانه والمستأمن إنما يستفيد الأمان من جهة من أمنه فمنع اختلافهما لا يثبت واحد من الأمرين .@(2/105)
وإن قال : سألني أن يخرج معي ويكون ذمياً فأعطيته ذلك .
وقال الحربي : بل أمنني .
فهو آمن هنا لأنهما اتفقا على الحكم وهو ثبوت الأمان له من جهة هذا المسلم وإن اختلفا في سببه والمسلم يدعي عليه زيادة وهو احتباسه في دارنا والتزامه الجزية فلا تثبت تلك الزيادة بمجرد قوله ويبقى أصل الأمان له باتفاقهما عليه فيرجع إلى دار الحرب إن شاء .
ولو كان مع الحربي المستأمن في دارنا جارية له فأعتقها كان لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنها مستأمنة تبعاً له حتى لو أراد إعادتها إلى دار الحرب كان ممكناً من ذلك فبإعتاقه إياها لا يبطل ذلك الحكم .
ولو باعها من مسلم أو ذمي صارت ذمية تبعاً لمولاها لأنه من أهل دارنا .
فإن أعتقها لم يكن لها أن ترجع إلى دار الحرب لأنه بعدما صارت ذمية لا تعود حربية بالعتق .
ولو وجد بها عيباً فردها لم يكن له أن يعود بها إلى دار الحرب ولكن يجبر على بيعها لأنها صارت ذمية بالشراء وثبت الملك لمسلم أو ذمي فيها فكانت بمنزلة أمة ذمية اشتراها المستأمن .
فإن كان باعها من مستأمن مثله فأعتقها المشتري فإأن كان من أهل دار البائع فلها أن تعود إلى دار الحرب كما لو كان البائع أعتقها بنفسه لأن حالهما سواء .
وإن كان المشتري من أهل أخرى لم يكن لها أن تعود إلى واحدة من الدارين لأن تبعية البائع انقطعت بالبيع وما كان للمشتري أن يخرجها إلى دار نفسه قبل أن يعتقها فكذلك بعد العتق لا يكون لها أن ترجع إلى داره .
وهذا لأن المستأمن إنما يتمكن من إعادة ما أخرجه من داره وهو ما أخرج هذه الأمة من داره .
وإذا كان هذا الحكم ثابتاً في السلاح ففي الآدمي أولى وإذا ثبت أنها احتبست في دارنا كانت بمنزلة الذمية بعد الاعتاق .
وقبل العتاق يجبر على بيعها من المسلمين أو من أهل الذمة كما هو الحكم في الذمية .@(2/106)
وإن ردها بعيب على البائع فكذلك الجواب لأنها بعدما صارت ذمية باعتبار المعنى الذي قلنا لا تعود حربية .
ولو كان باعها من مسلم فشهد مسلمان أن الحربي كان أعتقها في دارنا قبل أن يبيعها قبلت هذه الشهادة لما فيها من معنى حرمة الفرج فيبطل البيع ويرد البائع الثمن على المشتري .
فإن أرادت أن تخرج إلى دار الحرب لم تمنع من ذلك لأن البيع لها ظهر بطلانه فقد تبين أنها حرة حربية .
فإن قيل : هي تقر بأنها أمة للمسلم وأنه لا سبيل لها إلى الرجوع إلى دار الحرب .
قلنا : نعم ولكن القاضي حكم ببطلان إقرارها بذلك فلا يبقى لإقرارها حكم .
ألا ترى أن المشتري مقر أيضاً بأن الثمن سالم للبائع لأنه كان قبضها وذلك لا يمنعه من الرجوع بالثمن على البائع لأن الحاكم حكم بخلاف زعمه .
ولو لم يبعها الذي أخرجها ولكنه قال : كانت زوجتي فقهرتها وأخرجتها فهي أمة لي .
فقالت : كنت زوجة له فخرجت معه غير مقهورة .
فالقول قولها لأن الظاهر شاهد لها .
فإنها خرجت وليس عليها أثر القهر .
ثم يفرق بينهما إن أسلما بإقراره .
فقد أقر أنها صارت أمة له .
وذلك مناف للنكاح وإقراره حجة عليه .
فإن قيل : فقد حكم الإمام هنا بأنها حرة فلماذا يعتبر إقراره بعد ذلك في التفريق بينهما .
قلنا : لأنه حكم بذلك بمجرد قولها ونوع من الظاهر وذلك لا يوجب تكذيب المقر لا محالة .
ألا ترى أنه لو أقام البينة على ما ادعى قبلت بينته وقضى بها أمة له بخلاف ما سبق فقد حكم هناك بحريتها بحجة تامة .
ألا ترى أنه لا تقبل البينة على رقها بعد ذلك .
واستوضح هذا بمسلم تحته مسلمة لم يدخل بها إذا زعم أنها ارتدت من الإسلام وجحدت المرأة ذلك .
فإنه يفرق بينهما بإقراره ولها نصف الصداق لأنه غير مصدق عليها في إبطال حقها وإن كان مصدقاً على نفسه وكذلك في@(2/107)
مسألة الحربي .
فإن قال الإمام : استحلفها ما كان الأمر على ما قلت : فلا يمين عليها في قياس أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه يدعي عليها الرق وأبو حنيفة لا يرى الاستحلاف في دعوى الرق .
وعندهما يستحلفها على ما ادعى من سبب الرق عليها فإن نكلت قضى بكونها أمة لأن نكولها بمنزلة إقرارها .
ومن أصلهما القضاء بالنكول في دعوى الرق .
والله أعلم بالصواب .
باب من الأمان بغير إذن الإمام
وبعد نهي الإمام وإذا حاصر المسلمون حصناً فليس ينبغي لأحد أن يؤمن أهل الحصن ولا أحداً منهم إلا بإذن الإمام لأنهم أحاطوا بالحصن ليفتحوه والأمان يحول بينهم وبين هذا المراد في الظاهر .
ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يكتسب سبب الحيلولة بين جماعة المسلمين وبين مرادهم خصوصاً فيما فيه قهر العدو .
ولأن كل مسلم تجب طاعة الأمير عليه .
فلا ينبغي أن يعقد عقداً يلزم الأمير طاعته في ذلك إلا برضاه .
ولأن ما يكون مرجعه إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالإمام هو المنصوب للنظر في ذلك .
فالإفتيات عليه في ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالإمام ولا ينبغي للرعية أن يقدموا على ما فيه استخفاف بالإمام .
فإن فعل ذلك فهو جائز لأن علة صحة الأمان ثابت ومتكامل في حق كل مسلم على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " يسعى بذمتهم أدناهم " .
وعلى الإمام أن يكف عن قتالهم حتى ينبذ إليهم بعدما يردهم إلى مأمنهم وإن كانوا أخرجوا .
وإن رأى أن يؤدب@(2/108)
الذي أمنهم فعل لأنه أساء الأدب حين فعل ما يرجع إلى الاستخفاف بالإمام ولو لم يؤدبه اجترأ غيره على مثله وذلك يقدح في السياسة وتدبير الإمارة .
إلا أنه إذا أمنهم على وجه النظر منه للمسلمين وظهر ذلك للإمام فإنه لا يؤدبه في ذلك لأنه قصد بفعله توفي المنفعة على المسلمين فربما تفوتهم تلك المنفعة لو أخره إلى استطلاع رأي الإمام .
وفي مثل هذه الحالة يباح له إعطاء الأمان .
فإن الواحد منهم إذا قال له سراً : أمني على أن أدلكم على عوراتهم أو على أن أفتح لك الحصن وخاف إن لم يؤمنه أن يفوته ما وعده من ذلك فلا إشكال أن له أن يؤمنه من غير استئمان الإمام لأن الأمان في مثل هذه الحالة يرجع إلى تحصيل مقصود المسلمين وهو يستوجب الشكر على ذلك لا التأديب فلا يؤدبه في مثل ذلك الموضع .
ولو أن مسلماً أمن واحداً منهم على مائة دينار على أن ينزل من حصنه إلى المعسكر .
فلما قبض الدنانير وجاء به إلى عسكر المسلمين علم به الإمام فقد أساء المسلم في ذلك وأمانه جائز كما لو فعله بغير عوض ثم ينظر الإمام في ذلك .
فإن كان شرط له المسلم أنه آمن حتى يخرجوا من أرض الحرب فالإمام بالخيار إن شاء رد الدنانير عليه ورده إلى مأمنه وأن شاء وفى بما شرط له وأخذ الدنانير فجعلها غنيمة لأهل@(2/109)
العسكر لأن المعطي للأمان إنما يمكن من أخذ الدنانير بقوة العسكر فلا يختص بها ولكن يجعل فعله لذلك كفعل الأمير أو فعل جماعة المسلمين .
وإن كان شرط له أن ينزل إلى العسكر فيلقى رجلاً في حاجة له ثم يعود إلى حصنه فإن الإمام يمضي هذا الأمان ويجعل الدنانير غنيمة لأهل العسكر لأن معنى النظر هنا متعين في تنفيذ هذا الأمان .
فإنه آمن فينا حتى يعود إلى حصنه فإن رد عليه الدنانير فلا فائدة للمسلمين في ردها بخلاف الأول .
فإن لم يعد إلى حصنه حتى فتح الحصن فهو آمن فينا حتى يبلغ مأمنه من أرض الحرب .
ولا فائدة في رد الدنانير عليه ولكن لا يتعرض له حتى يصل إلى مأمنه والدنانير فيء لأهل العسكر .
وكذلك لو كان المسلم أمن أهل الحصن شهراً على مائة دينار وأخذها منهم فالإمام بالخيار إن شاء رد الدنانير ونبذ إليهم وإن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض لهم حتى يمضي شهر وأخذ المائة الدنانير فجعلها فيئاً للمسلمين لأن في كل جانب توهم المنفعة عسى فإنه إن طمع في فتح الحصن قبل مضي شهر فالمنفعة في رد الدنانير وإن لم يطمع في ذلك فالمنفعة في أخذ الدنانير وإمضاء الأمان .
فلهذا يخير الإمام في ذلك .
ولو أن الأمير أمر منادياً فنادى في العسكر : إن من أمن منكم أهل الحصن أو واحداً منهم فأمانه باطل ثم أمنهم مسلم بجعل أو بغير جعل فأمانه جائز لأن العلة الموجبة لصحة الأمان من المسلم لم تنعدم بهذا النداء .
وولاية الأمان لكل مسلم ثابتة شرعاً كولاية الشهادة ولا تنعدم هذه الولاية بنهي الإمام .
ثم أهل الحرب لا يعلمون هذا النهي فلو لم يصلح أمان هذا المسلم بعد هذا النهي رجع إلى الغرور وهو حرام .
إلا أن للأمير أن يؤدب الذي أمن بالحبس والعقوبة إن كان لم يؤمنهم على وجه النظر للمسلمين لأن إساءة الأدب هاهنا أبلغ منها في الفصل الأول فإنه جاهر بمخالفة الإمام فيستوجب الحبس والعقوبة بهذا .@(2/110)
فإن أمر بأن ينادي أهل الحصن أو يكتب إليهم أو يرسل إليهم رسولاً : إن أمنكم واحد من المسلمين فلا تغتروا بأمانه فإن أمانه باطل ثم أمنهم رجل فنزلوا على أمانه فهم فيء .
لا باعتبار أن أمان المسلم لا يصح بعد هذا النهي ولكن لأن هذا القول من الإمام بمنزلة النبذ إليهم وكما يصح نبذه إليهم بعد الأمان يصح قبل الأمان إذ المقصود بالنبذ دفع الغرور .
وذلك ينتفي في الوجهين جميعاً إذا كان النبذ لو طرأ على الأمان دفع ثبوت حكمه فإذا اقترن بالأمان منع ثبوت حكمه .
بخلاف الأول فهناك لا علم لأهل الحرب بنهي الأمير والنبذ إليهم لم يتحقق ما لم يعلموا به .
وإنما صح النبذ قبل الأمان دفعاً للضرر عن المسلمين .
فإنه لو لم يصح ذلك تمكن بعض فساق المسلمين أن يحول بينهم وبين فتح حصونهم بأن يؤمنهم كلما نبذ الأمير إليهم مرة بعد مرة فلا يظفرون بحصن أبداً .
فلدفع هذا الضرر صح النبذ إليهم قبل الأمان للإعذار والإنذار .
ولو كان قال لهم : لا أمان لكم إن أمنكم رجل مسلم حتى أؤمنكم أنا .
ثم أتاهم مسلم فقال : إني رسول الأمير إليكم قد أمنكم .
فنزلوا على ذلك فهم آمنون .
وإن كان الرجل كذب في ذلك لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل .
فإن قيل : هذا إذا ثبتت الرسالة فأما إذا كذب فلا يمكن أن تجعل عبارته كعبارة الأمير لأنه لم يرسله ولا يمكن تصحيح الأمان لهم من جهته لأنه لو قال أمنتكم لا يصح فينبغي أن يكون أمانه باطلاً .
قلنا : نعم ولكن حين أخرج الكلام مخرج الرسالة فقد تحقق معنى الغرور إذ لا طريق لهم إلى الوقوف على حقيقة كلامه أنه صادق في ذلك أو كاذب .
وإذا كان عقله ودينه يدعوه إلى الصدق ويمنعه من الكذب وسعهم أن يعتمدوا على الظاهر فلو لم يصحح الأمان أدى إلى الغرور بخلاف ما إذا أضاف الأمان إلى نفسه .
فإن كان الأمير قال لهم : لا أمان لكم إن أمنكم مسلم أو@(2/111)
أتاكم برسالة مني حتى آتيكم أنا فأؤمنكم بنفسي .
والمسألة بحالها فهم فيء لأن هذا بمنزلة النبذ لكل أمان إليهم إلا أماناً يسمعونه من لسانه .
ولأن دفع الضرر عن المسلمين واجب ولا طريق للأمير في دفع الضرر عنهم إلا ما فعله من التقدمة إليهم فلو لم يصحح ذلك أدى إلى أن يتمكن الفاسق من إفساد الجهاد على المسلمين وذلك لا يجوز .
إلا أن في هذا الفصل إن كان الأمير هو الذي أرسل إليهم ليبلغهم الأمان ففعل فهم آمنون .
لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل فكأنه أمنهم بنفسه وهو بما تقدم إليهم قصد أن يمنعهم من الاعتماد على خبر من يزعم أنه رسول كاذباً ولا يمنهم من الاعتماد على خبر من يرسله إليهم حقيقة ولأنه إنما أبطلنا الخبر إذا كان الرسول كاذباً لدفع الضرر عن المسلمين وهذا لا يوجد فيما إذا كان الرسول صادقاً .
يوضحه : أنه إذا أرسل إليهم بعد تلك المقالة فذلك رجوع منه عن تلك المقالة ورجوعه صحيح .
ألا ترى أنه لو قال لهم : إذا أمنتكم فأماني باطل .
ثم أمنهم بعد ذلك كان ذلك أماناً صحيحاً .
باعتبار أن هذا رجوع عما قاله لهم وذلك القول ما كان ملزماً إياه شيئاً فيصح رجوعه عنه .
ولو أن مسلماً وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار جازت موادعته ولم يحل للمسلمين أن يغزوهم وإن قتلوا واحداً منهم عزموا ديته لأن أمان الواحد من المسلمين بمنزلة أمان جماعتهم .
وإن لم يعلم الإمام بذلك حتى مضت سنة أمضى موادعته وأخذ المال فجعله في بيت المال لأن منفعة المسلمين متعينة في إمضاء الموادعة بعد مضي المدة فهو بمنزلة العبد المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل فإنه ينفذ العقد وتكون الأجرة للمولى .
وإن كان لو علم به المولى قبل مضي المدة كان متمكناً من فسخ الإجارة ثم إنما أخذ هذا المال منهم بقوة المسلمين فإن خوف أهل الحرب من جماعة المسلمين لا من واحد منهم فلهذا يأخذ المال منهم فيجعله في بيت المال معداً لنوائب المسلمين .@(2/112)
وإن علم بموادعته قبل مضي السنة فإنه ينظر في ذلك فإن كانت المصلحة في إمضاء ذلك الموادعة أمضاها وأخذ المال فجعله في بيت المال لأن له أن ينشئ الموادعة بهذه الصفة إذا رأى المصلحة فيها فلأن يمضيها كان أولى .
وإن رأى المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم وقاتلهم لأن أمان المسلم كان صحيحاً والتحرز عن الغدر واجب .
فإن كان مضي نصف السنة ففي القياس يرد نصف المال ويمسك النصف للمسلمين .
اعتباراً للبعض بالكل وقياساً للموادعة في مدة معلومة بعوض معلوم .
وقياساً على الإجارة وهناك إذا انفسخ العقد في بعض المدة يسقط من الأجر بحساب ما بقي ويتقرر بحساب ما مضى .
وفي الاستحسان : يرد المال كله لأنهم ما التزموا المال إلا بشرط أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة ولا يتوزع على أجزائه .
وكلمة على للشرط حقيقة .
والموادعة في الأصل ليست من عقود المعاوضات فجعلنا هذه الكلمة فيها عاملة بحقيقتها .
فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة وجب رد المال كله عليهم .
وهذا لأنه ربما يكون خوفهم من بعض المدة دون البعض فإنهم يأمنون في الشتاء أن يأتيهم العدو وإنما يخافون ذلك في الصيف .
فإذ نبذ إليهم في وقت خوفهم ومنعهم بعض المال لم يحصل شيء من مقصودهم بهذا الشرط وذلك يؤدي إلى الغرور فلهذا يرد المال إن نبذ إليهم قبل مضي المدة .
وإن كانوا وادعوه ثلاث سنين كل سنة بألف دينار وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقض الموادعة بعد مضي السنة فإنه يرد عليهم الثلثين لأن الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء وهو يصحب الأعواض فيكون المال عوضاً فينقسم على المعوض باعتبار الأجزاء كيف وقد فرق العقود هاهنا بتفريق التسمية حيث قال : كل سنة بألف دينار .
بخلاف الأول فهناك العقد واحد في جميع السنة والمال مذكور بحرف على وهو حرف الشرط .
فإن قيل : أليس أن في الإجارة بين أن يقرن بالبدل حرف الباء أو حرف على في أنه يتوزع البدل على المدة وكذلك في باب البيع فلماذا فرق بينهما هنا قلنا : لأن البيع والإجارة معارضة@(2/113)
باعتبار الأصل ولا يحتمل التعليق بالشرط وأما الموادعة فليست بمعاوضة باعتبار الأصل لا يحتمل التعليق بالشرط وأما الموادعة فليست بمعارضة باعتبار الأصل وإنما تصير معاوضة عند التصريح بحرف الباء الذي يصحب الأعواض وهي تحتمل التعليق بالشرط .
فإذا ذكر فيها حرف الشرط كان محمولاً على الشرط حقيقة وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة فيما إذا قالت المرأة لزوجها : طلقني ثلاثاً على ألف درهم فطلقها واحدة أنه لا يجب شيء من المال بخلاف ما إذا قالت : بألف درهم لأن الطلاق يحتمل التعليق بالشرط ليس بمعاوضة باعتبار الأصل فيفصل فيه بين حرف الباء وعلى كما في الأمان .
ولكنهما قالا : الخلع معاوضة وما هو المقصود لها - وهو زوال ملكه عنها - يحصل بالواحدة فرجحنا معنى المعاوضة فيه بخلاف الأمان على ما قررنا .
ولو حاصر المسلمون حصناً فقال أميرهم لأهل الحصن : إني لعلي أن أؤمنكم فمتى أمنتكم فأماني باطل .
أو قال : فلا أمان لكم أو فقد نبذت إليكم ثم أمنهم .
فأمانه باطل كما قال لأنه بين لهم على وجه انتفى شبهة الغرور من كل وجه .
وهو بما تقدم من الكلام يصير كأنه نبذ إليهم الأمان الذي يكون منه .
فإن قيل : لماذا لم يجعل إقدامه على الأمان رجوعاً عن تلك المقالة كما في المسألة المتقدمة قلنا : هناك في الوضع زيادة هو أنه أمنهم بعد مقالته وقال : قد أبطلت قولي لكم أنه لا أمان لكم .
فهذا البيان يظهر أنه رجوع .
فأما هنا فليس في كلامه ما يدل على الرجوع عن المقالة الأولى بل ما يدل على تحقيقها .
ألا ترى أنه لو قال لهم : إني أقاتل أهل هذا الحصن معكم وقد دعوتهم إلى أن أؤمنهم فلم يجيبوني .
فأنا أريد أن أظهر لكم الأمان لعلي إذا دعوتهم أجابوني .
وهذا الأمان الذي أظهره لكم باطل وزور فلا تغتروا به ثم أمنهم كان ذلك باطلاً .
وهذا لأن الأمان مما يحتمل النقض فإذا أعلمهم أن تكلمه به باطل ثم تكلم بعد ذلك فهو بمنزلة من لم يتكلم به .
ونظائر هذا في فصول التلجئة في البيع وغيره .
وقد بيناه في كتاب الإكراه والإقرار .
وذكر بعد هذا باب النزول على الحكم وقد بينا تمام شرح هذا الباب فيما أمليناه من شرح الزيادات .@(2/114)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=20 - TOP#TOPباب الحكم في أهل الحرب
إذا نزلوا على حكم رجل من المسلمين قال : وإذا نزل أهل حصن قد حوصروا فيه على حكم رجل من المسلمين فذلك جائز لقوله عليه السلام : " ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم احكموا فيهم " .
ولأن الروايات اختلفت في نزول بني قريظة على الحكم .
فذكر بعض أهل المغازي أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه ابتداءً .
فإن النبي عليه السلام لما حاصرهم خمس عشرة ليلة وكان قال لهم في الابتداء - حين أخبره علي رضي الله عنه أنهم يسبونه - : " يا إخوة القردة والخنازير ! أتسبونني انزلوا على حكم الله وحكم رسوله " .
فقالوا : لا يا أبا القاسم ! ما كنت فحاشاً .
ثم لما طال عليهم الأمر .
عرض عليهم أن ينزلوا على حكم من شاءوا من المسلمين .
وكانوا حلفاء الأوس قبل مبعث رسول الله وكان سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا بالنزول على حكمه رجاء أن يحسن إليهم لما كان بينه وبينهم في الجاهلية .
فأنزلهم رسول الله على حكمه .
فهذا يدل على أنه لا بأس بأن ينزلهم على حكم رجل من المسلمين .@(2/115)
والأشهر أنهم نزلوا على حكم رسول الله عليه السلام .
ثم جعل رسول الله عليه السلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ برضاهم .
فإنما فعل ذلك لأن الأنصار أحاطوا برسول الله فكلموه في شأنهم على سبيل الشفاعة .
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة قلوبهم فقال : ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم قالوا : نعم قال : فذاك إلى سعد بن معاذ .
وإنما جعل ذلك إليه لأنه كان أصابه سهم يوم الخندق فقطع أكحله .
وكان لا يرقأ الدم .
فدعا وقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لذلك .
فلا شيء أحب إلي من قتال قوم أخرجوا رسولك من بين أظهرهم .
وإن لم تبق من ذلك شيئاً فاجعل هذا سبب شهادتي ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة .
فلما دعا بذلك رقأ الدم .
وإنما تكلم بهذا الدعاء لأنه كان أتى بني قريظة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من رءوس الأنصار حين أخبر أنهم نقضوا العهد ليدعوهم إلى تجديد العهد .
فأغلظوا له القول وشتموه .
فانصرف عنهم وهو يقول : أتشتموني بيننا وبينكم أهم من الشتم وهو السيف .
فلما هزم الله الأحزاب وحاصر المسلمون بني قريظة دعا هو بهذا الدعاء .
فلما نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله جعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ وهو كان مريضاً في مسجد رسول الله فأتاه الأنصار وحملوه على حمار ليأتوا به معسكر رسول الله .@(2/116)
فجعلوا يكلمونه في الطريق ويقولون : حلفاؤك ومواليك أمكنك الله منهم فأحسن إليهم .
وقد علمت أن رسول الله عليه السلام يحب الإحسان والإبقاء .
وقد علمت ما فعل عبد الله بن أبي في تخليص حلفاته من بني قينقاع وأنت أحق بذلك منه .
فلما أكثروا من ذلك مسح لحيته بيده وقال : لقد آن لسعد أن يأخذه في الله لومة لائم فقالوا فيما بينهم : هلكت قريظة والله .
فانصرفوا عنه إلى مجلس رسول الله .
فلما أتى سعد إلى مجلس رسول الله قال الأنصار : قوموا لسيدكم .
فأنزلوه .@(2/117)
جلس بين يدي رسول الله قال : قد جعلت الحكم فيهم إليك فاحكم فيهم .
فأقبل سعد عليهم وقال : عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت ! .
قالوا : نعم ثم قال للناحية التي فيها رسول الله عليه السلام وهو معرض إجلالاً لرسول الله وعلى من هنا بمثل ذلك ! .
فقال : رسول الله ومن معه : نعم قال سعد : فإني حكمت فيهم بأن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية وتقسم الأموال .
فقال عليه السلام : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " أي سبع سموات .
وهكذا روي في بعض الروايات .
ففي هذا دليل أنهم إذا نزلوا على حكم رجل فجعل الحكم إلى غيره برضاهم أنه يجوز وليس له أن يجعل الحكم إلى غيره بغير رضاهم لأن سعداً أخذا عليهم العهد بين يدي رسول الله عليه السلام ليسترضيهم بذلك ولم ينكر ذلك عليه رسول الله عليه السلام .
وهذا لأن الناس يتفاوتون في الرأي وهذا الحكم مما يحتاج فيه إلى الرأي .
فرضاهم بحكم شخص لا يكون رضاً بحكم شخص آخر حتى إذا جعله إلى غيره بغير رضاهم فحكم بشيء لم ينفذ حكمه إلا أن يجيزه المحكم الأول بعد ما يعلم به فحينئذ ينفذ .
لأن إجارته بمنزلة إنشائه .
ولأنه إنما تم الحكم برأيه وقد رضوا بذلك ثم إن حكم المحكم فيهم بأن يقتل المقاتلة أو بأن يجعلوا ذمة أو بأن يجعلوا فيئاً فذلك كله نافذ استلالاً بما حكم به سعد .
وذكر في بعض الروايات أن سعداً حكم@(2/118)
يومئذ بأن يقتل من جرت عليه الموسي .
وبه يستدل من يقول بأن البلوغ باعتبار نبات العانة ولسنا نقول بهذا لأن نبات العانة يختلف في أحوال الناس .
ألا ترى أن ذلك يبطئ في الأتراك ويسرع في الهنود فلا يمكن أن يجعل حكماً .
وتأويل هذا أنه علم بإخبار رسول الله إياه من طريق الوحي أن ذلك علامة بلوغ بني قريظة .
وإنما حكم بذلك لأن من جرت عليه الموسى منهم كان مقاتلاً .
وإنما حكم بقتل مقاتلهم .
والمقاتل يقتل بالغاً كان أو غير بالغ .
ولكن الأول أصح لأن غير البالغ إنما يقتل قبل الأسر إذا قاتل فأما بعد ما أسر فلا يقتل .
ثم ذكر : أنه لما حكم فيهم سيقوا حتى حبسوا في دار بنت الحارث النجارية وأمر بهم أن يكتفوا .
وهكذا ينبغي أن يصنع بالأسراء .
قال الله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } محمد : 4 قال : ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حتى قتل من قتل منهم في يوم صائف .
وسمي ممن قتل منهم بين يدي رسول الله في المغازي : حيي بن أخطب وكعب بن أسيد وجماعة .
فلما انتصف النهار قال النبي عليه السلام : " لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح .
قيلوهم واسقوهم حتى يبردوا ثم اقتلوا من بقي منهم " .
وفي المغازي ذكر أن رسول الله عليه السلام قام وقال لسعد بن معاذ : شأنك ومن بقي منهم .
وكان الذين يلون قتلهم علي ابن أبي طالب والزبير وبن العوام .
فقتلوا عند موضع دار ابن أبي الجهم .
فسالت دماؤهم حتى بلغ أحجار الزيت .
ولم يبين في الكتاب عدد من قتل منهم .
وقد اختلفت الروايات فيه فأظهر الروايتين أنهم قتلوا سبعمائة رجل منهم .
وقال مقاتل : قتلوا أربعمائة وخمسين .
وكان عدد السبي ستمائة وخمسين فكان كل من يشك في أمره يكشف عن عانته على ما قال عطية القرظي : شكوا في أمري يومئذ فكشفوا عن عانتي فإذا أنا لم أنبت فجعلوني في الذرية .
وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اقتلوا من جرت عليه الموسى ولا تسبوا إلينا من العلوج أحداً .@(2/119)
وإنما نهى عن ذلك على سبيل النظر للمسلمين حتى لا يقصدوهم بسوء .
ألا ترى أنهم حين لم يبالغوا في مراعاة نهيه ابتلي بمثل ذلك فقتله أبو لؤلؤة وكان نصرانياً وكان مجوسياً .
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فردني .
ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني في المقاتلة .
وإنما أورد هذا مستدلاً به على أنه لا يحكم في البلوغ نبات العانة وإنما يعتبر في العلامة بالاحتلام أو بأن يتم له خمس عشرة سنة في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله .
وفي قول أبي حنيفة رحمه الله : ثمان عشرة سنة في رواية وتسع عشرة سنة في رواية .
وقد بينا هذه المسألة في كتاب الطلاق .
تم أبواب الأمان بحمد الله وتوفيقه أمننا الله من النار وأسكننا دار القرار@(2/120)
أبواب الأنفال الأنفال الغنائم في أصل الوضع .
وأصلها نفل ومنه قول القائل : إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي والعجل وقال الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } الأنفال : 1 .
أي : الغنائم .
وسبب نزول الآية ما روي عن عبادة بن الصامت قال : ساءت أخلاقنا يوم بدر فحرمنا فقيل : وكيف ساءت أخلاقكم قال : لما هزم الله العدو افترقنا ثلاث فرق .
فرقة كانوا حول رسول الله عليه السلام يحرسونه وفرقة اتبعوا المنهزمين وفرقة جمعوا الأموال .
ثم ادعت كل فرقة أنها أحق بالغنائم فاجتمعنا عند رسول الله عليه السلام وارتفعت أصواتنا ورسول الله ساكت .
فأنزل الله تعالى في تلك الحالة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } الأنفال : 1 .
والمراد في استعمال لفظ الأنفال في عبارة الفقهاء ما يخص به الإمام بعض الغانمين .
فذلك الفعل يسمى منه تنفيلاً وذلك المحل يسمى نفلاً .
ولا خلاف أن التنفيل جائز قبل الإصابة للتحريض على القتال .
فإن الإمام مأمور@(2/121)
بالتحريض .
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } الأنفال : 65 .
فهذا الخطاب لرسول الله ولكل من قام مقامه .
والتحريض بالتنفيل .
فإن الشجعان قل ما يخاطرون بأنفسهم إذا لم يخصوا بشيء من المصاب .
فإذا خصهم الإمام بذلك فذلك يغريهم على المخاطرة بأرواحهم وإيقاع أنفسهم في حلبة العدو .
وصورة هذا التنفيل أن يقول : من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أخذ أسيراً فهو له .
كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المنادي حين نادى يوم بدر ويوم حنين .
أو يبعث سرية فيقول : لكم الثلث مما تصيبون بعد الخمس أو يطلق بهذا الكلمة .
فعند الإطلاق لهم ثلث المصاب قبل أن يخمس يختصون به وهم شركاء الجيش فيما بقي بعد ما يرفع منه الخمس وعند التنفيل بهذه الزيادة يخمس ما أصابوا ثم يكون لهم الثلث مما بقي يختصون به وهم شركاء الجيش فيما بقي ولا يستحق القاتل بدون تنفيل الإمام عندنا .
وعلى قول الشافعي : من قتل مشركاً على وجه المبارزة وهو مقبل غير مدبر استحق سلبه وإن لم يسبق التنفيل من الإمام .
لأن قول رسول الله عليه السلام من قتل قتيلاً فله سلبه لنصب الشرع ومثل هذا الكلام في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " .
ولكنا نقول هذا لو أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بالمدينة بين يدي أصحابه .
ولم ينقل أنه قال هذا إلا بعد تحقق الحاجة إلى التحريض .
فإن مالك بن أنس قال : لم@(2/122)
يبلغنا أن النبي عليه السلام قال في شيء من مغازيه : " من قتل قتيلاً فله سلبه " إلا يوم حنين وذلك بعدما انهزم المسلمون ووقعت الحاجة إلى تحريضهم ليكروا كما قال تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } التوبة : 25 .
وذكر محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال ذلك يوم بدر أيضاً .
وقد كانت الحاجة إلى التحريض يومئذ معلومة فإنهم كانوا كما وصفهم الله تعالى به في قوله : { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } آل عمران : 123 .
فعرفنا أنه إنما قال ذلك بطريق التنفيل للتحريض لا بطريق نصب الشر .@(2/123)
وأيد ما قلنا ما ذكره عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً وادي القرى فأتاه رجل فقال : ما تقول في الغنائم فقال : لله سهم ولهؤلاء أربعة .
قال : فالغنيمة يغنمها الرجل قال : إن رميت في جنبك بسهم فاستخرجته فلست بأحق به من أخيك المسلم .
فهذا دليل ظاهر على أن القاتل لا يستحق السلب بدون التنفيل .
وعلى هذا القول اتفق أهل العراق وأهل الحجاز .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا تقل بعد إحراز الغنيمة .
وهو مذهب أهل العراق والحجاز .
وأهل الشام يجوزون التنفيل بعد الإحراز وممن قال به الأوزاعي وما قلنا دليل على فساد قولهم لأن التنفيل للتحريض على القتال وذلك قبل الإصابة لا بعدها .
ولأن التنفيل لإثبات الاختصاص ابتداءً لا لإبطال حق ثابت للغانمين أو لإبطال حق ثابت في الخمس لأربابها .
وفي التنفيل بعد الإصابة إبطال الحق .
والدليل على أنه لا يجوز ذلك حديث الحسن أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زماماً من شعر من المغنم فقال : ويلك ! سألتني زماماً من نار - مرتين أو ثلاثاً - والله ما كان لك أن تسألنيه وما كان لي أن أعطيكه .
وعن مجاهد أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبة من شعر أخذه من@(2/124)
المغنم فقال : هب لي هذه فقال : أما نصيبي منها فلك .
وعن أبي الأشعث الصنعاني قال : جاء رجل إلى النبي عليه السلام ومعه زمام من شعر .
فقال : مر لي بهذا الزمام فإنه ليس لراحلتي زمام .
فقال : سألتني زماماً من نار ما لك أن تسألنيه وما لي أن أعطيكه .
فرمى به في المغنم .
ولو جاز التنفيل بعد الإصابة لما حرمه رسول الله عليه السلام ذلك مع صدق حاجته .
والذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل بعد الإحراز فإنما يحمل على أنه أعطى ذلك من الخمس بعض المحتاجين باعتبار أنه من المساكين .
أو أعطى ذلك من سهم نفسه من الخمس أو الصفي الذي كان له على ما قال : " لا يحل من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم " .
أو أعطى مما أفاء الله عليه لا بإيجاف الخيل والركاب كأموال بني النضير .
فقد كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى : { مَّا@(2/125)
أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } الحشر : 7 .
أو أعطى ذلك من غنائم بدر .
فقد كان الأمر فيها مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } الأنفال : 1 .
ثم انتسخ ذلك بقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ } الأنفال : 41 الآية .
وذكر : عن موسى بن سعد بن يزيد - أو زيد - قال : نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : من قتل قتيلاً فله سلبه وما أخذوا بغير قتال قسمة بينهم عن فواق .
يعني على سواء .
وهكذا ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما نزلت الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ } إلى قوله : { لَكَارِهُونَ } فقسمها بينهم بالسواء .
وقد اتفقت الروايات على أنه أعطى كل قاتل سلب قتيله يومئذ على ما ذكر عن عاصم بن عمرو بن قتادة قال : أخذ علي سلب الوليد بن عتبة وأخذ حمزة سلب عتبة وأخذ عبيدة بن الحارث سلب شيبة فدفعه إلى ورثته .
وكان عبيدة قد جرح فمات في ذات أجدال بالصفراء قبل أن ينتهي إلى المدينة .
وهو اسم موضع .
واختلفت الروايات في قاتل أبي جهل .
فروي عن عبد الرحمن بن عوف قال : كنت يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ بن عمرو بن الجموح فقال لي@(2/126)
أحدهما : أي عم أتعرف أبا جهل قلت : وما شأنك به قال : بلغني أنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لقيته لما فارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا موتاً وغمزني الآخر إلى مثل ذلك ثم لقيت أبا جهل وهو يسوي صف المشركين .
فقلت : ذاك صاحبكما الذي تريدانه .
فابتدراه بسيفهما فقتلاه وجاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كل واحد منهما : أنا قتلته فلي سلبه .
فقال عليه السلام : أمسحتما سيفكما فقالا : لا فقال : أرياني سيفكما .
فأرياه فقال : كلاكما قتله .
ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء .
وذكر في المغازي أنه إنما خصه لأنه رأى أثر الطعان على سيفه فعلم أنه هو القاتل وأنه أعانه الآخر .
وروي أنه بعث إلى عكرمة بن أبي جهل فسأله : من قتل أباك فقال : الذي قطعت أنا يده .
وإنما كان قطع يد وأشهر الروايتين : أنه أثخنه علي بن بي طالب رضي الله عنه وأجهز عليه ابن مسعود على ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أفتش القتلى يوم بدر لأبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أراه مقتولاً منهم .
فرأيت أبا جهل صريعاً وبه رمق فجلست على صدره ففتح عينيه وقال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى عظيماً .
فقلت : الحمد لله الذي مكنني من ذلك .
فقال : لمن الدبرة فقلت : لله ورسوله .
فقال : ماذا تريد أن تصنعه فقلت : أحز رأسك .
فقال : خذ@(2/127)
سيفي فهو أمضى لما تريد واقطع رأسي من كاهلي ليكون أهيب في عين الناظر وإذا رجعت إلى محمد فأخبره أني اليوم أشد بغضاً له مما كنت من قبل .
فقال : قطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : هذا رأس عدو الله أبي جهل .
فقال عليه السلام : " الله أكبر هذا فرعون أمتي .
كان شره علي وعلى أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته " ثم نفلني سيفه .
زاد في بعض الروايات : وأخبرته بما قال فقال : " إنه كفر في الدنيا وعند موته وسيكفر في النار أيضاً " .
قيل : وكيف يا رسول الله قال : " إذا دخل النار جعل ينظر ويقول لأصحابه : أين محمد وأصحابه فيقال له : هم في الجنة .
قال : كلا إنما كان اليوم يوم زحمة فهربوا " .
والروايات متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ابن مسعود سيفه .
وفي بعض فإن صح هذا فإنما يحمل على أن الذي جرحه ما أثخنه فيكون قاتله من قطع رأسه .
وإن كان الصحيح أنه أعطى سلبه غير ابن مسعود فإنما يحمل على أن الأول كان أثخنه وصيره بحال يعلم أنه لا يعيش ولا يتصور منه القتال فيكون السلب له دون من قطع رأسه .
وإنما أعطى سيفه ابن مسعود لأن التدبير في غنائم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بينا .
وبهذا يستدل من يجوز التنفيل بعد الإصابة فإنه يقول : أعطاه سيفه على طريق التنفيل .
وهذا ضعيف لأن ما كان مستحقاً لغيره بالتنفيل لا يجوز أن ينفله الإمام لغيره كيف وقد روي أنه كان على سيفه فضة وعلى قول أهل الشام : لا نفل في ذهب ولا فضة على ما بينه وإن كان هذا تنفيلاً فهو حجة لنا عليهم .
وذكر عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه " .
وتمام هذا الحديث أن أبا قتادة قال : كان للمسلمين جولة يوم حنين .
فلقيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين .
فأتيته من ورائه وضربت على حبل عاتقه ضربة فتركه وأقبل علي فضمني إلى نفسه@(2/128)
ضمة شممت ريح الموت .
ثم أدركه الموت فأرسلني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : من قتل قتيلاً وله عليه بينة فله سلبه .
فقلت : من يشهد لي فقال رجل : صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني .
فقال أبو بكر : لاها الله ! أيعمد أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله ثم يعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق أبو بكر .
وأعطاني سلبه .
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لا مغنم حتى يخمس ولا نفل حتى يقسم جفة أي جملة .
وإنما أراد بهذا نفي التنفيل بعد الإصابة نفي اختصاص واحد من الغانمين بشيء قبل الخمس بغير تنفيل وهو مذهبنا .
وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا نفل في أول الغنيمة ولا بعد الغنيمة ولا يعطى من الغنائم إذا اجتمعت إلا راع أو سائق أو حارس غير محابى .
ومعنى قوله : لا نفل في أول الغنيمة أي بعد الإصابة : لا ينبغي للإمام أن ينفل أحداً شيئاً قبل رفع الخمس ولا بعد رفع الخمس .
وقيل معناه : لا ينبغي له أن ينفل في أول اللقاء قبل الحاجة إلى التحريض لأن الجيش في أول اللقاء يكون لهم نشاط في القتال فلا تقع الحاجة إلى التحريض فأما بعد ما طال الأمر وقل نشاطهم فتقع الحاجة إلى التحريض فينبغي أن يكون التنفيل عند ذلك .
فلا ينبغي أن ينفل بعد الإصابة .
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث فأهل.@(2/129)
الشام حملوا هذا على التنفيل بعد الإصابة وليس كما ظنوا بل المراد به أنه كان ينفل أول السرايا الربع وآخر السرايا الثلث لزيادة الحاجة إلى التحريض .
فإن أول السرايا يكونون ناشطين في القتال فلا يحتاجون إلى الإمعان في طلب العدو وآخر السرايا قد قل نشاطهم ويحتاجون إلى الإمعان في الطلب .
فلهذا زاد فيما نفل لهم وأما الراعي والسائق والحارس فهم أجراء يعطيهم الإمام أجرهم باعتبار عملهم للمسلمين وهو معنى قوله : غير محابى فإنما يعطيهم الأجر بقدر عملهم وليس ذلك من النفل في شيء .
وذكر عن خالد بن الوليد وعوف بن مالك أنهما كانا لا يخمسان الأسلاب .
وعن حبيب بن مسلمة ومكحول أن السلب مغنم وفيه الخمس .
وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه .
وإنما يؤخذ بقول هؤلاء لقوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } الأنفال : 41 .
والسلب من الغنيمة .
وتأويل ما نقل عن خالد وعوف إذا تقدم التنفيل من الإمام لقوله : " من قتل قتيلاً فله سلبه " .
وعندنا في هذا الموضع لا يخمس السلب .
فأما بدون التنفيل يخمس على ما روي عن مكحول أن البراء بن مالك أخو أنس بن مالك قتل مرزبان الزارة وأخذ سلبه مذهباً بالذهب مرصعاً@(2/130)
بالجواهر تبلغ قيمته أربعين ألفاً .
فكتب صاحب الجيش ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر أن يأخذ منه الخمس ويدفع سائر ذلك إليه .
وهذا مشكل فإنه إن كان سبق التنفيل فلا خمس في السلب .
وإن كان لم يسبق التنفيل فأعطى ما بقي إلى البراء فيكون تنفيلاً بعد الإصابة .
وذلك لا يجوز عندنا ولكن تأويله أنه كان تقدم بتنفيل مقيد بأن كان الأمير قال : من قتل قتيلاً فله سلبه بعد الخمس .
وفي هذا الموضع يخمس السلب عندنا والباقي للقاتل .
وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : الفرس والسلب من النفل .
والمراد أن القاتل بعد التنفيل يستحق الفرس لأن السلب اسم لما يسلب منه بإظهار الجزاء والعناء .
وهذا يتحقق في الفرس كما يتحقق في السلب فيدخل الكل في التنفيل بقوله .
فإن جرح الكافر رجل بعد تنفيل الإمام ثم قتله الآخر فإن كان الأول صيره بحيث لا يستطيع قتالاً أو عوناً بيد ويعلم أنه لا يعيش مع مثل تلك الجراحة فالسلب للأول وإلا فالسلب للثاني لأن مقصود الإمام من هذا التنفيل أن يظهر القاتل فضل جزاء وعناء بقتل المشرك .
وهذا إنما حصل من الأول دون الثاني .
لأنه إذا صار بحيث لا يتوهم القتال منه فالثاني لا يحتاج إلى عناء وقوة في حز رأسه وإن كان يتحامل مع تلك الجراحة ويتوهم أن يعيش ويقاتل فقد أظهر الثاني بقتله العناء والقوة فيكون السلب له .
ألا ترى أن الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه ثم رماه آخر فقتله كان للأول .
ولو كان يتحامل بعد رمي الأول حتى رماه الثاني فهو للثاني واستدل على هذا بحديث محمد بن إبراهيم التيمي .
قال : قطع محمد بن مسلمة رجلي مرحب وضرب على عنقه .
فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلبه محمد ابن مسلمة .
وفي بعض الروايات أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال محمد : والله يا رسول الله @(2/131)
ما قطعت رجليه إلا وأنا قادر على قتله ولكني أردت أن يذوق من الموت ما ذاق أخي محمود .
وكان مرحب قد دلى عليه حجر الرحاء .
فمكث ثلاثاً حياً ثم مات .
فقضى رسول الله عليه السلام بسلبه لمحمد بن مسلمة .
وروي أنه لما قطع محمد بن مسلمة رجليه قال مرحب : أجهز علي يا محمد ! فقال : لا حتى تذق ما ذاق أخي محمود .
وجاوزه .
فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذفف عليه .
أي : حز رأسه وأخذ سلبه .
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سلبه لمحمد بن مسلمة .
قال الراوي من أولاده : وكان سيف مرحب عندنا فيه كتاب كنا لا نعرفه حتى جاء يهودي فقرأه فإذا فيه : هذا سيف مرحب من يذقه يعطب .
وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال : عانق رجل رجلاً وجاء آخر فقتله .
فأعطى سلبه للذي قتله .
وعن علي رضي الله عنه أنه قال : هو بينهما لأن كل واحد منها أظهر زيادة عناء وقوة أحدهما بإثباته والآخر بقتله .
وإنما نأخذ بقول عمر رضي الله عنه لأن الأول بإمساكه لم يخرجه من أن يكون مقاتلاً وإنما القاتل هو الثاني في الحقيقة فيكون السلب له بالتنفيل وقد كان التنفيل من الإمام للقاتل لا للممسك والله أعلم بالصواب .@(2/132)
باب النفل وما كان للنبي خالصاً
قال : لا بأس بأن يعطي الإمام الرجل المحتاج إذا أبلى من الخمس ما يعينه ويجعله نفلاً له بعد الغنيمة لأنه مأمور بصرف الخمس إلى المحتاجين وهذا محتاج .
وإذا جاز صرفه إلى محتاج لم يقاتل فلأن يجوز صرفه إلى محتاج قاتل وأبلى بلاء حسناً كان أولى .
وهذا لأن بقتاله وقتال أمثاله حصل هذا الخمس .
وهو نظير من وجد ركازاً فرآه الإمام محتاجاً وصرف الخمس إليه .
فإن ذلك يجوز .
ورد بنحوه أثر علي رضي الله عنه أنه قال للواجد : خمسها لنا وأربعة أخماسها لك وسنتمها لك .
ثم هذا تأويل ما رواه سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نفل إلا من الخمس " .
وعن سعيد قال : كان النفل من الخمس .
يعني النفل بعد الإصابة للمحتاجين كان يكون من الخمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبين بهذا أن من جوز التنفيل بعد الإصابة من جملة الغنيمة استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفل بعد الغنيمة فقد أخطأ .
لأنه ترك التأمل ولم يدر أنه من أي محل نفل وقد كان تنفيله مما كان له خاصة وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حظوظ من الغنائم : الصفي وخمس الخمس وسهم كسهم أحد الغانمين .@(2/133)
ومعنى الصفي : أنه كان يصطفي لنفسه شيئاً قبل القسمة من سيف أو درع أو جارية ونحو لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فانتسخ ذلك كله سوى الصفي .
فإنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق بعد موته بالاتفاق .
حتى أنه ليس للإمام الصفي بعد وفاة الرسول عليه السلام وإنما الخلاف في سهمه من الخمس أنه هل بقي للخلفاء بعده وقد بينا ذلك في السير الصغير .
وذكر عن الزهري قال : كانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقسمها بين المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار منها شيئاً إلا سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبا دجانة فإنهما كانا محتاجين فأعطاهما .
وبيانه أن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله تعالى : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } الحشر آية : 6 .
فإنهم ما فتحوا بني النضير عنوة وقهراً وإنما صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما حملت الإبل وإلا الحلقة .
وما سوى ذلك فهو لرسول الله عليه السلام .
وإنما حملهم عن ذلك ما ألقى الله من الرعب في قلوبهم .
فإن قيل : ففي زماننا لو حاصر الإمام حصناً ثم صالحهم على مثل هذا هل تكون الأموال له خاصة أم تكون غنيمة للجيش .
قلنا : بل تكون غنيمة لأن خوفهم من منعة الإمام لا من نفسه ومنعته بالجيش .
فأما في ذلك الوقت فمنعة رسول الله ما كان بمن حوله من الناس ولكنهم كانوا يأمنون به .
قال الله تعالى : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } المائدة : 67 وقد روي أنه فيما صنع استرضى الأنصار أيضاً .
فإن المهاجرين كانوا نازلين مع الأنصار في بيوتهم وقال عليه السلام للأنصار : " إما أن@(2/134)
أقسم بني النضير بين المهاجرين برضاكم ليتحولوا إليها فتسلم لكم منازلكم وإما أقسمها بين الكل وهم يسكنون معكم في منازلكم على حالهم " فقام سعد بن معاذ وقال : يا رسول الله ! بل نرضى بأن تقسمها بينهم ويكونون معنا في منازلنا أيضاً .
وفيه نزل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ } الحشر : 9 .
وقد روي أن النبي عليه السلام أعطى يومئذ سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق نفله إياه .
وإنما أعطاه تنفيلاً بعد الإصابة لأنه كان له خاصة .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير وفدك وخيبر .
وكانت بنو النضير حبساً لنوائبه .
أي محبوسة لذلك كالموقوفة .
وكانت فدك لابن السبيل .
والمراد بنوائبه جوائز الرسل والوفود الذين كانوا يأتونه .
وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء : جزءان للمهاجرين وجزء كان ينفق على أهله منه .
فإن فضل رده على فقراء المهاجرين .
وإنما أراد بهذا بعض@(2/135)
خيبر لا كلها فقد اتفقت الروايات على أنه قسم الشق والنطاة على ثمانية عشر سهماً بين المسلمين .
وقد بينا هذا في أول القسمة .
وذكر عن عروة أن النبي عليه السلام أقطع الزبير عامراً ومواتاً من أموال بني النضير .
وعن الزهري أن النبي عليه السلام أقطع لأبي بكر وعمر وسهيل وعبد الرحمن بن عوف أموالاً من أموال بني النضير عامرة .
وفي بعض الروايات : غامرة وهي الخراب التي يبلغها الماء .
قال محمد رحمه الله : فمن يسمع هذه الآثار يتوهم أنه نفل بعد الإصابة على وجه نصب الشرع ولا نعلم أنه إنما فعل ذلك لأنه كان خالص حقه .
فإذا تأمل ما يروى عن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ! ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر قال : لا أجعل شيئاً جعله الله لي دون المؤمنين مثل ما هو لهم .
وتلا قوله تعالى : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الحشر : 7 .
ثم ذكر : عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الأنفال فقال : لا نفل بعد رسول الله .
وإنما أراد به ما بينا أن ما كان خالصاً لرسول الله عليه السلام فليس لأحد بعده مثل تلك@(2/136)
الخصوصية لينفل منه كما كان ينفل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر عن ابن الحنفية أن النبي عليه السلام نفل يوم بدر سعد بن أبي وقاص سيف العاص بن سعيد .
وإنما يحمل هذا على أنه إنما نفله من الخمس لأنه كان محتاجاً أو على أن غنائم بدر كانت مفوضة إليه كما قال تعالى : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } الأنفال : 1 .
وعلى أنه اصطفى ذلك لنفسه ثم أعطاه سعداً .
وهو نظير ما يروى أنه اصطفى يوم بدر ذا الفقار ثم وفي رواية نبيه بن الحجاج بخلاف ما يزعم الروافض أن ذا الفقار كان نزل من السماء لعلي رضي الله عنه وذلك كذب وزور .
ومبنى مذهب الروافض على الكذب .
وإنما سمي ذا الفقار لكسر فيه .
وعلى هذا أيضاً يحمل حديث الزهري أن النبي عليه السلام لما أمر يوم بدر أن يردوا ما في أيديهم من الغنائم ثم جاء أبو أسيد الساعدي بسيف ابن عائذ المخزومي حتى ألقاه في الغنائم وكان رسول الله لا يسأل شيئاً إلا أعطاه .
فجاءه الأرقم بن أبي الأرقم وعرف ذلك السيف فسأل النبي عليه السلام فأعطاه إياه .
وعليه يحمل أيضاً حديث سلمة بن الأكوع قال : جاء عين من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في سفر .
فأكل معهم وخالطهم ثم ذهب .
فقال رسول الله عليه السلام : " الحقوه فاقتلوه " .
وكان سلمة سباقاً يسبق الفرس عدواً .
فلحقه وأخذ بخطام ناقته فقتله .
وأتى رسول الله عليه السلام بناقته وسلبه فنفله إياه .
وكأنه جعل هذا من الخمس ثم نفله إياه لحاجته .@(2/137)
وللإمام رأي في مثل هذا .
وذكر عن عكرمة قال : لما كان في حصار بني قريظة قال رجل من اليهود : من يبارز فقام إليه الزبير بن العوام .
فقالت صفية : واحدي ! فقال رسول الله عليه السلام : أيهما علا صاحبه يقتله فعلاه الزبير فقتله .
ونفله رسول الله عليه السلام سلبه .
وذكر الواقدي في المغازي أن من زعم أن هذا كان في بني قريظة فقد أخطأ وإنما كان هذا بخيبر .
فقد كانت المبارزة والقتال يومئذ .
فأما بنو قريظة فلم يخرج أحد منهم للمبارزة والقتال .
وصفية كانت أم الزبير ولم يكن لها ولد سواه فتأسفت عليه حين خرج للمبارزة وقالت : واحدي .
أي وا أسفا على واحد لي لا ولد لي سواه .
فطيب رسول الله عليه السلام قلبها بما قال .
ثم نفل الزبير سلبه .
وكان ذلك بالطريق الذي قلنا إنه جعله مما كان له خاصة ثم نفله إياه .
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام بعث بعثاً قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهامهم اثني عشر بعيراً .
ونفلوا بعيراً بعيراً وتأويل هذا أنهم نفلوا ذلك من الخمس لحاجتهم أو نفلوا ذلك بينهم بالسوية .
وقد كانوا رجالة كلهم أو فرساناً كلهم .
وعندنا مثل هذا التنفيل بعد الإصابة يجوز لأنه في معنى القسمة .
وإنما لا يجوز النفل بعد الإصابة إذا كان فيه تخصيص بعضهم .
قال : ولو أن إماماً نفل من الغنيمة بعد الإصابة قبل القسمة بعض من كان له جزاء أو عناء على وجه الاجتهاد والنظر منه ثم رفع إلى وال آخر لا يرى التنفيل بعد الإصابة فإنه يمضي ما صنع ولا يرده لأنه أمضى تنفيلاً مجتهداً فيه وقضاء في المجتهدات نافذ بمنزلة ما لو قضى على@(2/138)
الغائب بالبينة فإنه ينفذ قضاؤه لكونه مجتهداً فيه .
واستدل عليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : بارزت دهقاناً فقتلته فنفلني أميري سلبه .
فأجاز ذلك عمر رضي الله عنه وقد صح من مذهب عمر رضي الله عنه أنه كان لا يجوز التنفيل بعد الإصابة عل ما روينا من قوله : لا نفل بعد الغنيمة .
فلو كان هو الوالي ما نفل إليه شيئاً بعد الإصابة ولكن لما نفله الأمير وأمضاه أجاز ذلك عمر رضي الله عنه .
وذكر عن شبر بن علقمة قال : بارزت رجلاً من الأعاجم فقتلته فنفلني سعد سلبه .
ثم رفع ذلك إلى عمر فأمضاه .
وإذا قال الأمير لأهل العسكر جميعاً : ما أصبتم فهو لكم نفلاً بالسوية بعد الخمس فهذا لا يجوز لأن المقصود من التنفيل التحريض على القتال وإنما يحصل ذلك إذا خص البعض بالتنفيل فأما إذا عمهم فلا يحصل به ما هو المقصود بالتنفيل وإنما في هذا إبطال السهمان التي أوجبها رسول الله عليه السلام وإبطال تفضيل الفارس على الراجل وذلك لا يجوز .
وكذلك إن قال : ما أصبتم فلكم ولم يقل : بعد الخمس .
فهذا لا يجوز لأن فيه إبطال الخمس التي أوجبها الله تعالى في الغنيمة .
وذكر عن مكحول قال : لا يصلح للإمام أن ينفل كل شيء إلا الخمس .
لأنه حق على قوي المسلمين أن يرده على ضعيفهم .
ومعنى هذا أنه لا ينبغي له أن يقول : من أصاب شيئاُ فهو له بعد الخمس .
لأن التنفيل على هذا الوجه يكون إبطالاً لحق ضعفاء المسلمين .
وذلك لا يجوز على ما@(2/139)
روي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت الرجل يكون حامية القوم وآخر لا يقدر على حمل السلاح أيسوى بينهما في الغنيمة فقال عليه السلام : وهل تنصرون وترزقون قال : والنفل في الأموال كلها من الذهب والفضة وغير ذلك .
وإذا قال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فقتل رجل قتيلاً وكان معه دراهم أو دنانير أو فضة سيف أو سوار من ذهب أو قرط ذهب أو منطقة من فضة أو ذهب فذلك كله له .
وعلى قول أهل الشام لا نفل في ذهب ولا فضة .
وإنما النفل فيما يكون من الأمتعة فأما في أعيان الأموال فلا .
والذهب والفضة عين مال فيكون حكم الغنيمة مقرراً فيها .
وقاسوا هذا بإباحة التناول لكل واحد من الغانمين بقدر الحاجة فإن ذلك يثبت في الطعام والعلف دون الذهب والفضة حتى لو أراد بعضهم أن يرفع الدراهم من الغنيمة فيشتري بها طعاماً لنفسه لم يكن له ذلك ولكنا نقول : التنفيل لتحريض على المخاطرة بالروح في قتال العدو .
وفي هذا المعنى يستوي الأموال بل الذهب والفضة أولى .
لأنه إنما يخاطر بأعز الأشياء عنده فإذا علم أنه لا يسلم له المال النفيس يمتنع من هذه المخاطرة .
وقد بينا أن السلب اسم لما يسلب .
فكل ما يكون مع الحربي إذا قتله فقد استلبه منه .
ويستحق كل ذلك بمطلق اسم السلب .
ثم استدل @(2/140)
عليه : بحديث عمر رضي الله عنه في قصة البراء بن مالك حين قتل مرزيان الزارة .
وذكر أنه كان عليه منطقة ذهب فيها جوهر فقوم فبلغ ثلاثين ألفاً .
وقد ذكر قبل هذا أنه كان بلغ أربعين ألفاً فإما أن يقال ثلاثون ألفاً قيمة المنطقة فقط وأربعون قيمة جميع السلب .
أو يقال ما سبق فوهم من الراوي .
والصحيح ما ذكر هنا : فقد قال في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال : بعثنا إلى عمر بالخمس ستة آلاف درهم .
فبهذا التفسير يتبين أن قيمة السلب كان ثلاثين ألفاً .
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل ابن مسعود سيف أبي جهل يوم بدر وكان عليه فضة .
فدل بهذا على أنه يجوز التنفيل في الذهب والفضة .
وذكر : عن مكحول قال : لا سلب إلا لمن أسر علجاً أو قتله .
ولا يكون السلب في يوم هزيمة أو فتح .
ويصلح في السلب الثياب والسلاح والمنطقة والدابة وما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه ولا سلب في السلعة .
أما قوله لا سلب إلا لمن أسر علجاً أو قتله فهو كما قال .
لأن التنفيل إنما يكون باعتبار الجزاء والعناء وإنما يحصل ذلك بالأسر والقتل .
وأما قوله : لا سلب في يوم هزيمة ولا فتح .
فالمراد به أنه لا ينبغي للإمام أن ينفل الأسلاب من القتلى والأسرى في الهزيمة .
ولكن ينبغي أن يقول : من قتل قتيلاً أو أسر قبل الهزيمة أو الفتح فله سلبه ليتم النظر منه للمسلمين .
وهذا لأنه لا يحتاج في قتل المنهزم إلى عظيم جزاء وعناء وكذلك بعد الفتح .
فأما إذا أطلق وقال : من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فهو له .
فلكل مسلم ما شرط الإمام له سواء كان ذلك منه في حالة الهزيمة أو غيرها لأن اللفظ عام وبمجرد المقصود لا يثبت تخصيص العام بل يجب إجراؤه على عمومه .
ألا ترى أن المسلمين يوم بدر أسروا كثيراً منهم بعد الهزيمة بل كانت عامة الأسراء بعد الهزيمة .
ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى لمن أسروهم حتى أخذوا فداءهم .
وأما قوله : يصلح من السلب السلاح والثياب والمنطقة والدابة فما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه فهو كما قال .
والمراد أن ما معه مما خلفه في المعسكر ليس عليه ولا على فرسه الذي خرج يقاتل عليه فليس ذلك@(2/141)
من السلب لأن السلب اسم لما يسلب منه .
فإنه يتناول ما معه خاصة مما إذا قتل هو لا يبقى مانع يمنع ذلك من القاتل .
وهذا غير موجود فيما خلفه في المعسكر فإنهم يمنعون ذلك من القتل .
فلا يتمكن هو من أخذه بقتل العلج .
وكذلك إن كان معه بغلة عليها متاعه فليس ذلك من سلبه .
ويحتمل أن يكون هذا هو المراد بقوله لا سلب في السلعة يعني أنه لا يقود هذا مع نفسه لحاجته إليه في القتال فيكون بمنزلة السلع التي يحملها للتجارة .
والأظهر أن المراد من قوله : لا سلب في السلعة ما يكون معه من المال العين وهذا مذهب أهل الشام لا نأخذ به فأما عندنا ما معه في حقوة فهو من السلب يسلم للقاتل .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=21 - TOP#TOPباب النفل في دار الحرب
قال : كل أمير كان في أرض الحرب يلي سرية أو جنداً فله أن ينفل منها أصحابه قبل إصابة الغنيمة .
وهو في ذلك بمنزلة الإمام لأنه فوض إليه تدبير القتال والتنفيل من تدبير القتال لما بينا أن المقصود به التحريض على القتال .
فكل أمير في ذلك بمنزلة الإمام .
ألا ترى أنه إذا أمرهم بشيء في القتال كان عليهم طاعته في ذلك كما تجب طاعة الإمام فيما يأمر به فكذلك في التنفيل هو بمنزلة الإمام .
ولو أن أمير الشام بعث جنداً إلى أرض الحرب وأمر عليهم أميراً ولم يأذن لأميرهم أن ينفل ولم ينهه عن ذلك فرأى أميرهم أن ينفل جاز تنفيله وإن كره ذلك بعض من تحت رايته لأنه ما أمر بأن يتبع رأيهم وإنما أمروا أن لا يخالفوه فيما يراه صواباً ولأنه ولي القتال فيدخل فيه ما يحصل به التحريض على القتال .
وإن نهاه الذي وجهه أن ينفل فليس له أن ينفل أحداً شيئاً لأن سبب الإمارة@(2/142)
التقليد وهو يقبل التخصيص بمنزلة تقليد القضاء فإنه يقبل التخصيص .
ولأن إنما صححنا تنفيله قبل النهي بطريق الدلالة فيسقط اعتبارها عند التنصيص بخلافها .
فإن رضي جميع من معه جاز تنفيله من أنصبائهم بعد رفع الخمس لأن لهم ولاية على أنفسهم وإنما يعمل رضاه في حقهم .
فأما الخمس حق غيرهم فلا يعمل فيه رضاهم بالتنفيل .
وإن كره ذلك بعضهم وأذن فيه بعضهم فله أن ينفل من حصص الذين أذنوا له في ذلك .
لما بينا أن ولايتهم مقصورة على حصصهم دون حصص الباقين ممن كره تنفيله .
قال : ولو أن أمير المصيصة بعث سرية لم يكن له أن ينفل بعضهم على بعض .
يريد به أنه لا ينبغي له أن ينفل السرية ما أصابوا .
بخلاف ما إذا دخل الإمام مع الجيش دار الحرب ثم بعث سرية ونفل لهم ما أصابوا فإنه يجوز لأن السرية المبعوثة من المصيصة يختصون بما أصابوا قبل تنفيل الإمام وليس لأهل المصيصة معهم شركة في ذلك .
فإن المصيصة من دار الإسلام ومن يتوطن في دار الإسلام لا يشارك الجيش فيما أصابوا فليس في هذا التنفيل إلا إبطال الخمس .
وأما السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب فلا يختصون بالمصاب قبل تنفيل الإمام وإنما هذا التنفيل للتخصيص على وجه التحريض لهم فكان مستقيماً .
ثم لا ينبغي للإمام أن ينفل أحداً شيئاً إلا ببلاء يبليه .
وذلك لا يحصل في التنفيل للسرية المبعوثة في دار الإسلام ويحصل في السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب لأنهم دخلوا جميعاً للقتال ثم اختصت السرية بالتقديم في نحو العدو فيكون ذلك إظهار البلاء منهم فإذا نفلهم على ذلك كان صحيحاً بمنزلة التنفيل في السلب للقاتل .
ألا ترى أنه إذا برز علج من الصف ودعا إلى البراز فقال الأمير : من برز إليه فقتله فله سلبه فذلك@(2/143)
تنفيل صحيح لأن الذي يبرز إليه يظهر فضل بلاء بصنعه فلا يجوز للأمير أن ينفله على ذلك .
وكذلك لو حاصروا حصناً فكره القوم التقدم فيقول الأمير : من تقدم إلى القتال أو إلى الباب أو إلى حصر الحصن فله كذا .
فذلك تنفيل مستقيم لما فيه من معنى التحريض والمنفعة للمسلمين .
وكل من فعل ذلك استحق ما سمي له من المصاب قبل الخمس والقسمة .
فأما ما ليس فيه منفعة للمسلمين فلا ينبغي فيه التنفيل لأنه لا مقصود فيه سوى إبطال الخمس أو تفضيل الفارس على الراجل وذلك غير صحيح .
ولو أن أمير العسكر في دار الحرب وجه سريتين بعد الخمس إحداهما يمنة والأخرى يسرة ونفل لإحداهما الثلث بعد الخمس مما يصيبون ولأخرى الربع بعد الخمس فهو جائز لأن التنفيل للترغيب في الخروج وذلك يختلف باختلاف الطريق في القرب والبعد والوعورة والسهولة والخوف والأمن وباختلاف حال المبعوث إليهم في المنعة والقوة والأمير ناظر لهم فيجوز أن يفاوت في النفل بحسب ذلك .
فإن جاءت كل سرية بمال أخذ الخمس من ذلك ثم أعطوا نفلهم بينهم بالسوية لا يفضل فيه الفارس على الراجل لأن الاستحقاق بالتسمية بخلاف الغنيمة فاستحقاقها باعتبار العناء والقوة وهو بمنزلة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث والتسوية بين الذكر والأنثى في الوصية .
ثم ما بقي بعد ذلك يقسم بني أصحاب السريتين والجيش على سهام الغنيمة لأنهم اشتركوا في إحرازها بالدار .
فإن ذهب رجل ممن بعثه الأمير في سرية الربع مع@(2/144)
أصحابه سرية الثلث فأصابوا غنائم ففي القياس لا شيء لهذا الرجل من النفل لأن استحقاق النفل بالتسمية وما سمى الإمام له شيئاً في أصحاب سرية الثلث وهو لم يخرج مع الذين سمى لهم نفلاً معهم فهو قياس ما لو تخلف مع العسكر ولم يخرج أو خرج رجل من العسكر مع أصحاب سرية الثلث ولم يؤمر بالخروج أصلاً فكما لا يستحق هناك النفل فكذلك هنا .
ولم يبين وجه الاستحسان هنا .
فقال بعض مشايخنا : على طريقة الاستحسان يكون له النفل مع أصحاب سرية الثلث .
لأن تسمية الإمام لهم ما كان باعتبار أعيانهم بل لتحريضهم على الخروج إلى الطريق الذي وجهوا إليه وقد وجد هذا في حق الواحد .
والأصح أن للاستحسان فيه وجهاً آخر فسره في آخر الكتاب فنبينه عند ذلك .
ولو أن الإمام قال : من شاء فليخرج في هذه السرية ومن شاء في هذه فلجميع من خرجوا النفل الذي نفلوا لأنهم خرجوا بإذن الإمام فبهذا تبين ضعف الاستحسان الذي ذكرنا في المسألة الأولى لأن فيه تسوية بين ما إذا عين الإمام للخروج قوماً في كل جانب وبين ما إذا لم يعين وجعل الأمر مفوضاً إلى رأيهم .
ولو بعث سرية وعليهم أمير ونفلهم الثلث بعد الخمس ثم إن أمير السرية نفل قوماً نفلاً لفتح الحصن أو للمبارزة ولم يكن أمره الأمير بذلك فإن نفل أمير السرية يجوز من حصة السرية من النفل ومن سهامهم بعد النفل ولا يجوز من سهام أهل العسكر مما أصابوا لأنه أمير على السرية فهو في حق العسكر بمنزلة واحد من أصحاب السرية فلا ينفذ تنفيله عليهم .
وهو في حق السرية بمنزلة أمير العسكر فيجوز تنفيله فيما هو حقهم وحقهم ما نفل هلم وما يصيبهم من السهام بالقسمة فينفذ تنفيل أميرهم من ذلك خاصة .
ولو أن السرية لما بعدوا من العسكر مسيرة يوم فقدوا رجلاً منهم .
فقالوا لبعضهم : أقيموا على صاحبنا هاهنا .
وبعضهم ذهبوا حتى أصابوا غنائم ورجعوا إلى أصحابهم وقد وجدوا الرجل كانوا شركاء كلهم في النفل لأنهم فارقوا المعسكر جملة وأحرزوا المصاب بالمعسكر جملة فكانوا شركاء في النفل بمنزلة ما لو@(2/145)
باشر القتال بعضهم والبعض كانوا رداءاً لهم وهذا لأن إحراز المصاب بالمعسكر في استحقاق النفل بمنزلة الإحراز بدار الإسلام في استحقاق السهم .
ولو وقعت هذه الحادثة لبعض العسكر في دار الحرب ثم اجتمعوا عند إحراز الغنائم بدار الإسلام كانوا شركاء في الغنيمة فهذا مثله .
وعلى هذا لو أصاب الرجل المفقود غنائم والذين قاموا لانتظاره غنائم والسري كذلك .
ثم التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر فلهم النفل من جميع ذلك بينهم بالسوية كما لو لم يتفرقوا لأنهم اشتركوا في إحراز المصاب بالمعسكر .
ولو لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر فلكل فريق النفل مما أصاب خاصة لأنه تفرد بإحراز ذلك بالمعسكر .
والإمام إما نفل نفل لهم الثلث مما أصابوا فذلك يتناول كل فريق منهم .
ثم الباقي يكون بينهم وبين أهل العسكر على سهام الغنيمة .
وعلى هذا لو أن السرية بعد ما بعدت من المعسكر تفرقوا سريتين وبعدت إحداهما عن الأخرى بحيث لا تقدر إحداهما على عون الأخرى فإن التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر كان لهم النفل في جميع ذلك بينهم بالسوية .
بمنزلة ما لو كانوا مجتمعين حين أصابوا .
وإن لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر فلكل فريق النفل مما أصابوا خاصة وكذلك لو التقوا في مكان دون المعسكر بحيث يراهم أهل المعسكر لو قوتلوا لنصروهم وما لو التقوا في المعسكر سواء لأن ما قرب من المعسكر بمنزلة جوف المعسكر فهذا على معنى أن إحراز المصاب بالمعسكر يحصل بالاتصال إلى ذلك الموضع وقد تفرد به كل فريق .
قال : ولو أن هذه السرية حين بعدوا من المعسكر وأصابوا غنائم لم يقدروا على الرجوع إلى المعسكر فخرجوا إلى دار الإسلام من موضع آخر ولم يلتقوا مع أهل العسكر .
فالغنيمة كلها لهم@(2/146)
يخمس ما أصابوا والباقي بينهم على سهام الغنيمة دون أهل العسكر لأنهم تفردوا بالإحراز بدار الإسلام وهو سبب تأكد الحق .
فإن قالوا : سلم لنا نفلنا أولاً لم يسلم لهم ذلك لان الغنيمة لما صارت لهم كلها بطل التنفيل بمنزلة ما لو كانوا دخلوا من أرض الإسلام .
ولو أن الإمام بعث سرية من دار الإسلام فنفل لهم الثلث بعد الخمس أو قبل الخمس كان هذا التنفيل باطلاً لأنه ما خص بعضهم بالتنفيل ولا مقصود من هذا التنفيل سوى إبطال الخمس وإبطال تفضيل الفارس على الراجل .
وذلك لا يجوز .
بخلاف ما إذا التقوا في دار الحرب .
ففي التنفيل هناك معنى التخصيص لهم لأن الجيش شركاؤهم في الغنيمة ففي التنفيل يخصهم ببعض المصاب وذلك مستقيم .
ولو أن السرية أصابت الغنائم في موضع كان أهل العسكر فيه ردءاً لهم يقدرون على أن يغيثوهم إذا استغاثوا ثم خرجوا بالغنيمة إلى دار الإسلام قبل أن يأتوا المعسكر فأهل المعسكر شركاؤهم في المصاب لأنهم اشتركوا في الإصابة حكماً حين كانوا ردءاً لهم وقت الإصابة بخلاف الأول .
وإذا ثبتت الشركة بينهم فلأصحاب السرية نفلهم بمنزلة ما لو رجعوا بالمصاب إلى العسكر وهو بمنزلة المدد يلحق الجيش بعد الإصابة فإنهم يشتركون في المصاب .
وإن كان المدد لم يلحق الجيش ولم يقربوا منهم حتى خرجوا فلا شركة لهم في المصاب .
وإن قربوا منهم بحيث لو استغاثوا بهم أغاثوهم ثم خرج@(2/147)
الجيش قبل أن يجتمعوا فلهم الشركة في المصاب لأنهم حين قربوا منهم فكأنهم خالطوهم في الحكم وإنما حصل الإحرز بقوة الجماعة .
قال : ولو أن أمير السرية المبعوثة من العسكر في دار الحرب نفل قوماً ما صعدوا الحصن بالسلاليم حتى فتحوه فنفله جائز في حصة أصحاب السرية كما بينا .
وإن لم ترجع السرية إلى المعسكر حتى خرجوا إلى دار الإسلام جاز نفل أميرهم في جميع ما أصابوا لأنه لا شركة لهم لأهل العسكر معهم في المصاب وإنما الحق لهم خاصة .
ونفل الأمير جائز عليهم وقد يبطل نفل أمير العسكر لهم لفوات ما هو المقصود بالتنفيل حتى اختصوا بالسرية في المصاب دون العسكر .
فإن قيل : كان ينبغي أن يجوز تنفيل أمير السرية في جميع المصاب وإن رجعوا إلى العسكر لأنهم لو لم يرجعوا كان المصاب لهم خاصة وإنما يثبت للعسكر الشركة معهم بالرجوع وقد سبق تنفيله الرجوع إليهم فلا يتضمن هذا التنفيل إبطال حق ثابت لهم .
قلنا : هم لا يستحقون الشركة بالرجوع إليهم خاصة بل إذا رجعوا إليهم كانوا بمنزلة الردء لهم فكأنهم لم يزالوا معهم .
وبهذا يتبين أن الحق كان ثابتاً لهم ولو كان الاستحقاق بالرجوع إليهم لما استحقوا إلا أن يلقوا قتالاً فيقاتلوا عن الغنيمة بمنزلة التجار والأسراء من المسلمين .
والذين أسلموا في دار الحرب إذا التحقوا بالجيش بعد الإصابة لم يستحقوا الشركة إلا أن يلقوا قتالاً .
وهاهنا لما استحقوا عرفنا أن الطريق فيه ما ذكرنا .
وعلى هذا لو بعث الإمام سرية من دار الإسلام ونفل لهم الثلث وقال : تقدموا حتى نلحقكم فأصابوا غنائم ثم تبعهم العسكر فإن التقوا في دار@(2/148)
الحرب فلهم النفل وإن لم يلتقوا بدار الحرب بأن أخطأ العسكر الطريق أوبدا للإمام أن لا يبعث أهل العسكر فلا شيء لأصحاب السرية من النفل لأن المصاب غنيمة لهم خاصة .
وإذا التقوا في دار الحرب فالمصاب بينهم وبين العسكر فيحصل ما هو المقصود بالتنفيل فلهذا استحقوا نفلهم .
وهذا بناء على مذهبنا وأما على قول أهل الشام فلا نفل للسرية الأولى المبعوثة من دار الإسلام .
ويروون فيه أثراً بهذه الصفة .
وتأويله عندنا : لا نفل للسرية المبعوثة من دار الإسلام إذا لم يلتحق بهم الجيش في دار الحرب لأن في هذا التنفل إبطال الخمس وإبطال تفضيل الفارس على الراجل .
ولو قال الإمام لهم : لا خمس عليكم فيما أصبتم أو الفارس والراجل سواء .
فيما أصبتم كان ذلك باطلاً منه فكذلك كل تنفيل لا يفيد إلا ذلك .
فإن قيل : أليس أن في قول الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه إبطال الخمس عن الأسلاب ومع ذلك كان مستقيماً قلنا : هناك المقصود بالتنفيل التحريض على القتال أو تخصيص القاتلين بإبطال شركة أهل العسكر عن الأسلاب ثم تثبيت إبطال حق أرباب الخمس عن خمس الأسلاب تبعاً وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت مقصوداً بمنزلة الشرب والطريق في البيع والوقوف في المنقول يثبت تبعاً للعقار وإن كان لا يثبت مقصوداً .
والذي يوضح هذا أن الإمام لو ظهر على بلدة من بلاد أهل الحرب كان له أن يجعلها خراجاً ويبطل منها سهام من أصابها والخمس .
ولو أراد أن يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين ويجعل حصة الخمس خراجاً للمقاتلة@(2/149)
الأغنياء لم يكن له ذلك لأنه ليس في هذا الإبطال الخمس مقصوداً وذلك لا يجوز .
وفي الأول إبطال الخمس يثبت تبعاً لإبطال حق الغانمين في الغنيمة فيجوز وإن كان في الموضعين يخلص المنفعة للمقاتلة .
ولو قال الإمام للسرية المبعوثة من أرض الإسلام : من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أصاب منكم شيئاً فهو له دون من بقي نم أصحابه كان هذا جائزاً لأن في هذا التنفيل معنى التخصيص .
فإن المقاتل والمصيب يختص بالنفل ويحصل به معنى التحريض .
بخلاف ما إذا نفل لهم الثلث لأنه ليس في ذلك التنفيل تخصيص البعض ولا إبطال حق أحد من الغانمين .
ولو بعث الإمام رجلاً أو رجلين من أرض الإسلام لقتال وأصابوا غنائم خمس ما أصابوا لأنهم أصابوا على وجه إعزاز الدين فإنهم حين خرجوا بإذن الإمام كانوا ظاهرين بقوة الإمام فعلى الإمام أن يمدهم إذا حزبهم أمر فلهذا يخمس ما أصابوا بخلاف ما يصيب المتلصص الخارج بغير إذن الإمام .
ولو قال الإمام لهم : ما أصبتم فهو لكم على سهامكم ولا خمس فيه فهو جائز .
بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة .
فقال لهم الإمام ذلك فإنه لا يجوز لأن الذين لا منعة لهم إنما يثبت الخمس فيما أصابوا باعتبار إذن الإمام .
فللإمام أن يبطل بقوله ما كان وجوبه باعتبار قوله .
فأما وجوب الخمس فيما أصابوا أهل المنعة فلم يكن بإذن الإمام فإنهم لو خرجوا مغيرين بغير إذنه خمس ما أصابوا لأنهم إذا كانوا أهل منعة فمعنى إعزاز الدين يحصل بقتالهم فإن كانوا خرجوا بغير إذن الإمام فلا يجوز أن يسقط حق أرباب الخمس من مصابهم بإسقاط الإمام أيضاً .
وهذا المعنى وهو أن الإمام هناك كالمبين لهم بقوله : لا خمس عليكم أنه لا يريد أن يمدهم وأن يغيثهم إذا استغاثوا به فالتحقوا في ذلك بالمتلصصين وانعدم به السبب الذي كان يجب الخمس لأجله في مصابهم .
وفي حق أهل المنعة لم ينعدم السبب بقول الإمام لأن السبب قوتهم ومنعتهم وذلك باق بعد قول الإمام : أبطلت الخمس عنكم .@(2/150)
ولو بعث الإمام سرية في دار الحرب ونفلهم الربع بعد الخمس كان جائزاً .
وكان ينبغي على قياس ما تقدم أن لا يجوز لأن في هذا التنفيل تخصيص حق أهل العسكر بالإبطال دون حق أرباب الخمس .
وإذا كان لا يجوز تخصيص حق أرباب الخمس بالإبطال بسبب التنفيل فكذلك ينبغي أن لا يجوز تخصيص حق أهل العسكر بالإبطال ولكن الفرق بينهما أن أرباب الخمس يستحقون بغير قتال ولا عناء من جهتهم فلا يجوز إبطال حقهم إلا تبعاً لحق المقاتلة .
وأما المقاتلة فإنما يستحقون أربعة الأخماس بالعناء والقتال فيجوز أن يخص بعضهم بشيء قبل الإحراز لفضل عناء كان منه وإن كان فيه إبطال حق الباقين .
ولو بعث الإمام سرية في دار الحرب وقال : لكم مما أصبتم الربع بعد الخمس وبعث سرية أخرى وقال : لكم الثلث بعد الخمس .
فضل رجل من كل سرية الطريق ووقع مع السرية الأخرى فذهب معهم .
وأصابت كل سرية الغنائم ثم لم يلتقوا حتى انتهوا إلى العسكر .
فإن ما أصابت كل سرية يقسم على رءوسهم ويدخل فيهم الرجل الذي التحق بهم على قدر ما جعل لهم الإمام في الاستحسان .
وهذا الذي بينا أنه الوجه الصحيح من الاستحسان فيما سبق .
فإن كان ممن جعل له الإمام الثلث أخذ الثلث من حصته وإن كان ممن جعل له الربع أخذ الربع وكان ما بين الربع إلى الثلث من نصيبه غنيمة لجماعة المسلمين .
يعني أهل العسكر لأن نفل كل واحد منهم في المصاب فيجعل فيما يستحقه كل واحد منهم كان شركاؤه كانوا في مثل حاله في حكم النفل حتى إذا كانت كل سرية مائة رجل قسم مصاب كل سرية على مائة سهم ليتبين مصاب كل واحد منهم فيأخذ نفله من جزئه ثلثاً كان أو ربعاً ثم الباقي يكون غنيمة .
وإن لحق رجل من إحدى السريتين@(2/151)
بالأخرى خاصة قسم مصابهم على مائة سهم وسهم لأن عددهم مائة و واحد .
فتكون القسمة على عدد رءوسهم .
ثم يأخذ الرجل اللاحق بهم من جزئه ما كان سمى الإمام له من النفل لأن استحقاقه بالتسمية ولكن عند الإصابة إنما يستحق من جزئه بالنفل مقدار ما سمى له ولا يلتفت إلى نفل الذين كانوا معه لأن الإمام فرق بينهم في التسمية ولا يجوز أثبات المساواة بينهم في المستحق بالتسمية .
فإن التقت السريتان قبل أن يقربوا من المعسكر فالجواب فيه على ما بينا إلا في خصلة واحدة .
وما أصاب اللاحق بالسرية من النفل ضمه إلى نصيب أصحابه الذين كان أخرجه الإمام معهم فاقتسموا نفلهم بالسوية على ما كان جعل لهم الإمام وإن لم تصب تلك السرية شيئاً دخلت معه في نفله .
لما بينا أن الإحراز بالمعسكر هنا حصل بهم جميعاً فكأنهم اشتركوا في الإصابة .
وهو نظير ما لو ضل رجل منهم الطريق فذهب وحده فأصاب غنيمة ولم تصب السرية شيئاً ثم التقوا قبل أن ينبهوا إلى المعسكر فإنهم يدخلون معه في النفل .
بمنزلة ما لو أصابوه جميعاً .
ولو لم يلقوه حتى انتهوا إلى المعسكر كان النفل له خاصة .
ولو أن السريتين أصابتا الغنيمة وهما متقاربتان بحيث يغيث بعضهم بعضاً إلا أن كل سرية أصابت غنيمة على حدة لم يدخل بعضهم في نفل بعض لأن استحقاق النفل بالتسمية .
الا ترى أن الغمام لو سمى النفل لبعض السرية خاصة لم يكن للباقين معهم شركة في ذلك وإن شاركوهم في الإصابة حقيقة .
فكذلك هاهنا .
وإن شاركت إحدى السريتين الأخرى في الإصابة حكماً باعتبار القرب لم يكن للبعض أن يدخل في نفل البعض
ألا ترى أن@(2/152)
السريتين لو قاتلتا في موضع يقدر أهل العسكر على أن يعينوهما لم يكن لأهل العسكر معهم شركة في النفل باعتبار هذا القرب فكذلك الحكم فيما بين أهل السريتين .
ولكنهم لو أصابوا جميعاً غنيمة واحدة قسمت على عدد رءوسهم ليتبين محل النفل لكل سرية فإن محل النفل ما أصابت .
وإنما يتبين مصاب كل سرية بهذه القسمة .
ثم تأخذ كل سرية نفلها مما أصابها والباقي بينهم وبين جميع أهل العسكر .
وقد بينا أن في النفل يستوي الفارس والراجل .
إلا أن يكون الأمير بين لهم بأن يقول : لكم الربع بعد الخمس للفارس منكم سهم الفارس وللراجل سهم الراجل لأن الاستحقاق باعتبار التسمية .
فإذا فضل بعضهم على بعض في التسمية ثبت الاستحقاق بتسميته وإذا لم يفضل ثبت الاستحقاق لهم بالسوية ولا يقال : وإن لم يبين الإمام فينبغي أن يكون الاستحقاق لهم على هذا بناء على الاستحقاق الثابت لهم من الغنيمة لأن كل واحد منهما يستحق بسبب القتال وهذا لأن النفل غير الغنيمة فإن هذا شيء رضخ لهم الإمام باعتبار جزائهم وعنائهم .
ومن أصلنا أن المطلق لا يحمل على المقيد في حكمين مختلفين وإن كانا في حادثة واحدة فلا يجوز أن يجعل التقييد في الغنيمة بمنزلة التقييد في النفل ولكن يعتبر في النفل إطلاق التسمية فيكون بينهم بالسوية .
ألا ترى أنه لو قال : من قتل قتيلاً فله سلبه فاعتور القتيل فارس وراجل حتى قتلاه كان سلبه بينهما نصفين ولو قال الأمير لقوم من أهل الذمة بعثهم سرية : لكم الربع مما أصبتم فكان فيهم فرسان ورجالة كان الربع بينهم بالسوية وكذلك في حق المسلمين .
فإن قال قائل : ليس لأهل الذمة سهام معروفة ليعتبر النفل بها بخلاف المسلمين .
قلنا أرأيتم لو بعث الإمام سرية فيها مائتا رجل : مائة مسلمون ومائة من أهل الذمة ونفلهم الربع .
فإن قسم النفل@(2/153)
بينهم فجعل لأهل الذمة نصفه بينهم بالسوية وللمسلمين نصفه وفضل فيه الفارس على الراجل كأن الراجل من أهل الذمة قد أخذ أكثر مما يأخذ راجل المسلمين وقد عملا عملاً واحداً وأجزيا جزاء واحداً فأي فعل يكون أقبح من هذا .
فكأنه أشار في هذا إلى مخالف له في هذه المسألة .
ولكن لم يبين من المخالف والأشبه أن يكون المخالف له من يقول بأن المطلق يحمل على المقيد وإن كانا في حادثين .
وقد بيناه في أصول الفقه والله أعلم بالصواب .
باب النفل الذي ينفله أمير العسكر
وإذا خرج أمير العسكر مع السرية وخلف الضعفة في المعسكر وأمر عليهم أميراً فابتلوا بالقتال فنفل لهم أميرهم فهو جائز على ما يجوز عليه نفل أمير السرية لأن الذين خلفهم في المعسكر بمنزلة سرية وجههم من المعسكر إلى ناحية فكما أن لأميرهم الولاية عليهم خاصة دون الذين خرجوا مع أمير العسكر فهنا لأمير الضعفة الولاية عليهم خاصة دون الذين خرجوا مع أمير العسكر في حكم التنفيل .
ولو أن أمير السرية الذين نفل لهم الإمام الثلث بعد الخمس بعد من المعسكر ثم بعث سرية من سريته ونفلهم أقل من النفل الأول وأكثر فذلك جائز في حصة أصحاب سريته .
ثم المسألة على وجهين : أحدهما أن نصيب السرية الثانية غنيمة ثم يرجع إلى السرية الأولى ثم يلحقون جميعاً بأهل المعسكر
وفي هذا يجوز النفل للسرية الأولى ويرفع ذلك مما جاءوا به ثم يقسم ما بقي حتى يتبين @(2/154)
حصة السرية الأولى ثم ينفذ من ذلك كله نفل السرية الثانية لأن تنفيل أمير السرية الأولى إنما يجوز في حصة أصحابه خاصة من النفل والغنيمة جميعاً دون حصة أهل العسكر .
فإذا تبين من ذلك حصتهم يعطي من ذلك نفل السرية الثانية فإن كان يأتي ذلك على جميع حصتهم ويفضل أيضاً لم يكن لهم من الفضل شيء لأنه لا ولاية لأميرهم على حصة أهل العسكر إلا أن يكون أمير العسكر أذن له في التنفيل فحينئذ هو نائب عن الأمير ينفذ تنفيله للسرية الثانية .
في حق جميع أهل العسكر .
والفصل الثاني : فيما إذا لم يلقوا أهل العسكر حتى خرجوا إلى دار الإسلام .
فهاهنا يبطل نفل السرية الأولى لأن الحق في المصاب لهم خاصة والنفل العام في مثله باطل .
كما لو كانوا بعثوا من دار الإسلام وجاز نفل السرية الثانية لأنهم بمنزلة سرية مبعوثة من جيش في دار الحرب وقد نفل لهم أميرهم فيعطيهم النفل من المصاب أولاً ثم يقسم الباقي بينهم وبين جميع أهل السرية على قسمة الغنيمة .
ولو بعث الإمام من المعسكر سرية ونفل لهم الربع قبل الخمس فهو تنفيل صحيح في جميع ما أصابوا من ذهب أو فضة أو رقيق أو متاع لأنه سمى لهم بلفظ عام .
فإن خص شيئاً فهو على ما خص لأن الوجوب لهم بالتسمية فيراعى صفة التسمية .
فإن جاءت السرية بغنائم فيها رجال ونساء وصبيان فأعتق واحد من أهل السرية بعض السبي فعتقه باطل لأن الاستحقاق لهم بطريق الاغتنام كاستحقاق أصل الغنيمة للجيش .
فكما أن هناك الملك لا يثبت قبل القسمة حتى لا ينفذ العتق من بعض الغانمين في شيء من الغنيمة فكذلك هاهنا .
فإن قيل : لا كذلك بل الاستحقاق للنفل بالتسمية .
وقد صحت من الإمام فينبغي أن يثبت له الملك بنفس الإصابة .
قلنا : تسمية الإمام لقطع شركة الجيش معهم في مقدار ما نفل لهم لا لإثبات الاستحقاق وإنما يستحقون بعد هذه التسمية بالإصابة .
فإن قيل : أليس قد قلتم لا يفضل في هذا الفارس على الراجل ولو كان الاستحقاق@(2/155)
بالإصابة لثبت التفضيل .
قلنا : الإمام بهذه التسمية كما قطع شركة الجيش معهم قطع حق الفارس في التفضيل لضرورة أنه سوى بينهم في النفل .
ثم من ضرورة انقطاع الشركة للغير واختصاصهم في النفل أن يتأكد حقهم فيه وليس من ضرورة ثبوت الملك لهم قبل القسمة فيكون المنفل في حقهم بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الإسلام .
ولو أن الجيش بعد إحراز الغنائم بدار الإسلام أعتق واحد منهم بعض السبي لم ينفذ عتقه فكذلك هاهنا وكان المعنى فيه أنه لايدري أين يقع نصيبه منها بالقسمة وأن للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم .
وأن له أن يقتل الرجال من السبي .
فهذا موجود في النفل قبل الإحراز أيضاً .
ثم خرج المسائل على هذا فقال : ولو كان في السبي قريب لبعض أهل السرية لم يعتق عليه بالقرابة لأنه لم يملكه قبل القسمة .
ولو أراد الإمام أن يقتل الرجال فليس لأصحاب السرية أن يمنعوه من ذلك لأجل نفهلم .
كما لا يكون للجيش ذلك في الغنائم المحرزة بدار الإسلام .
ولو ظهر المشركون على الغنيمة التي جاءت بها السرية فأحرزوها ثم إن المسلمين قاتلوهم حتى استنقذوا ذلك من أيديهم ردوا النفل إلى أهله لأن حقهم تأكد في المنفل وهو بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الإسلام إذا استولى عليها المشركون فأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر فهناك الرواية واحدة .
أن الأولين إن ظفروا بما قبل القسمة أخذوها بغير شيء لأن حقهم تأكد فيها بالإحراز والحق المتأكد في الحكم بمنزلة الملك .
ألا ترى أن المرهون إذا أحرزه المشركون ثم وقع في الغنيمة فإنه يكون للمرتهن أن يأخذه قبل القسمة بغير شيء لما له فيه من الحق المتأكد .
واختلفت الرواية فيما إذا وجدوها بعد القسمة فذكر هنا : أنهم يأخذونها بالقيمة إن شاءوا على قياس المرهون فإن المرتهن إذا وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة@(2/156)
لما له من الحق المتأكد فيه وذكر بعد هذا : أنهم لا يأخذونها بعد القسمة وهو الأصح لأن الحق للجيش الأول إنما تأكد في المالية دون العين .
ألا ترى أن للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم فلا يكون الأخذ بالقيمة مفيداً لهم شيئاً بخلاف الأخذ قبل القسمة .
ولصاحبه أن يأخذه قبل القسمة .
وهو بمنزلة ما لو أحرز الكفار شيئاً من ذوات الأمثال لبعض المسلمين ثم وقع في الغنيمة فلصاحبه أن يأخذه قبل القسمة بغير شيء وليس له حق الأخذ بعد القسمة لأنه لو أخذه أخذه بالمثل فلا يكون مفيداً بخلاف المرهون فإن حق المرتهن في حبس العين ثابت فيكون الأخذ مفيداً في حقه .
وإذا ثبت هذا في الغنائم المحرزة فكذلك الحكم في المنفل قبل الإحراز فإنهم أحق به قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة فيه روايتان .
وهذا بخلاف الغنيمة التي لا نفل فيها قبل الإحراز فإنه إذا ظهر عليها العدو وأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر فلا سبيل للجيش الأول عليها قبل القسمة وبعد القسمة .
لأن الثابت لهم كان حقاً ضعيفاً .
ألا ترى أن من مات منهم لم يورث نصيبه بخلاف ما بعد الإحراز .
وكذلك لو لحقهم مدد شاركوهم في ذلك بخلاف ما بعد الإحراز .
والحق الضعيف يبطل إحراز المشركين المال بدارهم فكأنها ما أخذت منهم حتى الآن .
وأما في المنفل فالحق متأكد لهم قبل الإحراز حتى أن من مات منهم يورث نصيبه ولا يشركهم المدد في ذلك إذا لحقوهم .
فلهذا وجب الرد عليهم قبل القسمة .
ولو قسمت الغنائم في دار الحرب أو بيعت ولم يقسم الثمن بعد القبض من المشتري حتى ظهر المشركون على الغنائم وعلى الثمن فأحرزوها ثم استنقذها منهم عسكر آخر فإنهم يردون الغنائم على المشتري قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأن المشتري ملك العين بالشراء فيردون الثمن على الفريق الأول كما يردون هذا الجيش من أموال سائر الناس .
لأن بيع الإمام حين نفذ@(2/157)
موجب الملك للمشتري في المبيع فهو موجب الملك في الثمن لمن وقع البيع لهم أيضاً .
ولو أن السرية لما جاءت بالغنائم ولهم فيها النفل استهلك رجل من أهل العسكر جميع تلك الغنائم .
فهو ضامن لحصة النفل خاصة إلا من قتل من الرجال فإنه لا ضمان في ذلك لأن النفل بمنزلة الغنائم المحرزة .
ولو أن واحداً من الغانمين استهلك الغنائم قبل الإحراز لم يضمن شيئاً لضعف حقهم فيها ولو استهلك بعد الإحراز بالدار كان ضامناً لتأكد الحق فيها بالإحراز إلا من قتل من الرجال فإنه لا يكون ضامناً لها لأن الحق في الرجال لا يتأكد بالإحراز ما لم يضرب عليهم الإمام الرق .
ألا ترى أن له أن لا يقتلهم وأن يمن عليهم فيجعلهم ذمة فكذلك هذا الحكم في المنفل قبل الإحراز .
ولو أن السرية جاءت بغنائم فيها طعام وعلف فلأهل العسكر أن يأكلوا ذلك بقدر حاجتهم لأنهم شركاء للسرية فيها بسهامهم .
فكما أن لكل واحد من أهل السرية أن يتناول فيها مقدار حاجته فكذلك لأهل العسكر أن يتناولوا لأن الشركة تقتضي المساواة .
فإن قيل : فأين ذهب قولكم أن المنفل بمنزلة الغنائم المحرزة .
فإن بعد الإحراز بالدار ليس لواحد من الغانمين أن يتناول من الطعام والعلف من غير ضرورة ولا ضمان .
فكان ينبغي أن يكون الجواب في المنفل قبل الإحراز كذلك .
قلنا : إنما افترقا في هذا الحكم لأن إباحة التناول من الطعام والعلف قبل الإحراز باعتبار أنه يصير مستثنى من شركة الغنيمة لضرورة الحاجة لكل واحد منهم إلى ذلك فإنهم لا يقدرون على أن يستصحبوا من دار الإسلام ما يحتاجون إليه من الطعام والعلف للذهاب والرجوع ولا يجدون ذلك في دار الحرب شراء .
وما يأخذونه يكون غنيمة .
وهذه الضرورة لا تتحقق في دار الإسلام فإذا صار مستثنى من الشركة باعتبار هذه الضرورة .
بقي على أصل الإباحة بمنزلة شراء كل واحد من المتفاوضين الطعام والكسوة لنفسه وعياله فإنه يصير مستثنى من موجب المفاوضة لضرورة الحاجة إليه ثم هذه الضرورة تتحقق في الغنائم التي فيها نفل في دار الحرب كما@(2/158)
تحقق في الغنائم التي لا نفل فيها فيصير مستثنى من فإن قيل : لا كذلك فإنهم إذا قسموا في دار الحرب أو في دار الإسلام أعطوهم النفل من الطعام والعلف كما أعطوهم من سائر الأموال ولو صار هذا مستثنى من التنفيل لما استحق النفل منه .
قلنا : هذا الاستثناء باعتبار الضرورة والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة .
ألا ترى أن الغنيمة التي لا نفل فيها إذا قسمت بين الغانمين فالطعام وغير الطعام في ذلك سواء ولم يدل ذلك على أن قبل القسمة لم تكن باقية على أصل الإباحة فكذلك حكم المنفل .
ولهذا لا يباح التناول من الطعام والعلف للتجار الذين لا يقاتلون لأن ثبوت هذه الأشياء باعتبار الضرورة .
وإنما يتحقق في حق الغزاة الذين لهم شركة في القسمة دون التجار .
ولو تناول التجار شيئاً من ذلك أو علفوا دوابهم لم يغرموا شيئاً لأن باعتبار الاستثناء الذي قلنا لا يتأكد الحق فيها ما داموا في دار الحرب فمن استهلك شيئاً منها لم يكن ضامناً المنفل وغير المنفل فيه سواء بمنزلة قتل الرجال على ما قررنا .
قال : ولو أن السرية أصابوا أراضٍ بما فيها .
فلهم النفل من ذلك كله لتعميم التنفيل من الإمام .
فإن رأى الإمام أن يمن بها على أهلها ويجعلهم ذمة فلا بأس بذلك لأنه نصب ناظراً فربما رأى النظر في ذلك .
وليس لأصحاب النفل أن يأبوا ذلك عليه لأن حقهم في النفل كحق الغانمين في الغنائم المحرزة .
وللإمام ولاية المن هناك فكذلك هنا .
إلا أنه ينبغي له أن يسترضيهم بأن يعطيهم عوضاً من محل آخر واستدل عليه بفعل عمر رضي الله عنه فإنه حين بعث الناس إلى العراق قال لجرير بن عبد الله البجلي : لك ولقومك ربع ما غلبتم عليه ففتحوا السواد .
ثم جعل عمر رضي الله عنه الأرض بعد ذلك أرض خراج .
ولم يمنعه ما نفل جريراً وقومه من ذلك قال : وبلغنا أن امرأة أتته فقالت : إن ذا قرابة لي مات من الغزاة فترك نصيبه من ذلك ميراثاً ولست أسلم ما صنعت إلا أن@(2/159)
تعطيني دنانير فأعطاها كفاً من دنانير .
وفي المغازي يروى هذا الحديث أنها قالت : لست أرضى حتى تملأ كفي ذهباً وتحملني على ناقة حمراء .
ففعل ذلك عمر رضي الله عنه .
فهذا دليل على أن من مات بعد الإحراز يورث نصيبه .
وأنه ينبغي للإمام أن يسترضي أصحاب النفل بأن يعطيهم شيئاً إذا أراد المن على أهل الأراضي بها .
والله أعلم .
باب ما يبطل فيه النفل وما لا يبطل .
وإذا بعث الخليفة عسكراً إلى دار الحرب وعليهم أمير فبعث أميرهم سرية ونفل لها الربع .
ثم بعث الخليفة عسكراً آخر من ناحية أخرى فلقوا السرية بعدما غنمت الغنائم ثم لحقوا جميعاً بالمعسكر الأول وأخرجوا الغنائم إلى دار الإسلام فالنفل سالم للسرية من جميع ما أصابوا على ما سمى أميرهم لهم لأن أمير ذلك العسكر مبعوث الخليفة .
فهو فيما ينفل كالخليفة ينفذ تنفيله في حق العسكرين وجماعة المسلمين .
بخلاف ما سبق من نفل أمير السرية لمن بعثه من سريته .
لأن ولايته هناك مقصورة على أهل سريته .
ألا ترى أنه بعد الرجوع إلى المعسكر هو كسائر الرعايا وهاهنا لأمير العسكر ولاية كاملة@(2/160)
باعتبار تقليد الخليفة إياه .
فينفذ تنفيله في حق الكل ثم ما يبقى بعد النفل والخمس يشترك فيه أهل العسكريين والسرية على سهام الغنيمة لأنهم اشتركوا في إحراز ذلك بدار الإسلام .
ولو أن السرية والعسكرين لقوهم خرجوا إلى دار الإسلام قبل أن يلقوا العسكر الأول فللسرية أيضاً نفلها لأن نفلهم قائم مقام الخليفة في التنفيل لهم فيستحقون النفل بتسميته لهم .
سواء رجعوا إليه في دار الحرب أو لم يرجعوا ثم الباقي بينهم وبين العسكر الثاني دون العسكر الأول لأنهم هم الذين أحرزوه .
ولو لم تلق السرية واحداً من العسكرين حتى خرجت إلى دار الإسلام فقد بطل نفلهم لأنهم هم المختصون بالإحراز .
وثبوت الحق في المصاب هنا .
والنفل العام في مثل هذا يكون باطلاً بمنزلة السرية المبعوثة من دار الإسلام .
ولو أن الإمام قال للسرية المبعوثة من دار الإسلام : من أصاب منكم شيئاً فهو له دون أصحابه .
كان هذا جائزاً بخلاف ما إذا قال : لكم الربع لأن التنفيل قطع شركة غير المصيب مع المصيب وذلك جائز فيبطل فيه الخمس .
ويفضل الفارس على الراجل أيضاً تبعاً ومثل هذا لا يوجد فيما إذا نفل لهم الربع .
أرأيت لو قال لهم : من دخل منكم فارساً فأصاب فهو له .
أما كان يصح هذا التنفيل وفيه تحريضهم على التزام مؤنة الفرس ولو قال لهم : ما أصبتم فلو صح هذا التنفيل كان فيه تقليل نشاطهم في التزام مؤنة الفرس لأنهم إذا علموا أنه لا يزداد نصيبهم بالتزام مؤنة الفرس فقل ما يرغبون في ذلك فبهذا وقع الفرق بينهما .
ولو أن العسكر الثاني لحقوا السرية المبعوثة في دار الحرب قبل أن يصيبوا شيئاً ثم قاتلوا جميعاً فأصابوا غنائم ثم لحقوا بالعسكر الأول وخرجوا فالغنائم تقسم@(2/161)
بين السرية والعسكر الذين لحقوهم على قسمة الغنيمة كأنه لا نفل فيها ثم ينظر إلى حصة السرية فيخرج نفلهم من ذلك لأن أميرهم إنما نفل لهم الربع مما أصابوهم دون ما أصابه عسكر آخر ولا يتبين مصابهم إلا بالقسمة فلا بد من هذه القسمة ليتبين محل حقهم فيعطون النفل بعد ذلك .
ثم يجمع ما بقي إلى ما أصاب أهل العسكر فيقسم بين السرية والعسكرين على قسمة الغنيمة لأنهم اشتركوا في الإحراز .
ولو لم يلقوا العسكر الأول حتى خرجوا قسم بينهم أولاً ليتبين حصة السرية ثم يعطون نفلهم من ذلك لأن تنفيل الأمير لهم صح مطلقاً .
ثم يجمع ما بقي إلى حصة العسكر فيقسم بينهم على سهام الغنيمة لا شيء فيه لأهل العسكر الأول لأنه لم يشاركوهم في الإحراز .
ولو أن أمير العسكر في دار الحرب بعث سرية وقال : ما أصبتم فهو لكم فهذا جائز لأن المقصود قطع شركة الجيش معهم في المصاب إذا رجعوا إليهم بخلاف السرية المبعوثة من دار الإسلام .
فإن افتتحوا حصناً متاخمة لدار الإسلام ثم لحقهم أهل العسكر بعد ذلك فجميع ما أصابوا لهم دون أهل العسكر لأن الإمام قطع شركة أهل العسكر معهم بتنفيل صحيح .
لكن لو أعتق رجل منهم نصيبه من الرقيق أو كان فيهم ذات رحم محرم من بعضهم لم تعتق لأنها لم تصر مملوكة لهم بالإصابة قبل القسمة .
وإن انقطعت شركة الغير معهم بمنزلة الغنائم المحرزة بالدار قبل القسمة .
ألا ترى أن الإمام لو رأى أن يجعلهم ذمة أو رأى أن يقتل الرجل كان له ذلك .
قال : والنفل بمنزلة رضخ لهم من الغنيمة فإذا كان سهام الغنيمين لا يمنعه من هذا فالرضخ@(2/162)
كيف يمنعه ولو كان قال لهم : من أصاب منكم شيئاً فهو له ثم أعتق رجل منهم أسيراً قد أصابه فإنه ينفذ عتقه ولو أصاب ذا رحم محرم منه عتق عليه لأنه اختص بملكه هنا بنفس الإصابة وهذا لأنه ليس هنا أمر آخر منتظر لوقوع الملك سوى الإصابة حتى يتوقف الملك عليه بخلاف الأول فإن هناك أمراً آخر منتظراً وهو القسمة بينهم فلا يثبت الملك قبل وجودها .
وفي هذا الفصل ليس للأمير أن يقتل أحداً من رجال الأسراء لأن الملك ثبت فيه للمصيب بنفس الإصابة .
فكأن الإمام ضرب عليه الرق .
وكذلك من استهلك شيئاً على المصيب في هذا الموضع غرم له .
وليس لغير المصيب من أهل العسكر ولا من أهل السرية أن يرد أشياء من الطعام والعلف بخلاف الأول وهذا لأن هذا التنفيل من الإمام بمنزلة القسمة بعد الإصابة في دار الحرب ولو قسم بينهم ثبت هذه في الأحكام فيما أصاب كل واحد منهم وكذلك إذا نفل لكل واحد منهم ما أصابه خاصة بخلاف ما سبق فإن قوله ما أصبتم فلكم قطع لشركة الجيش .
فليس فيه معنى القسمة بينهم والملك في المصاب لا يثبت إلا بالقسمة .
ولو قال : للسرية المبعوثة في دار الحرب : من أصاب منكم أسيراً فهو له فأصابوا جميعاً أسيراً واحداً فهو لهم لأن من اسم مبهم فهو عام فيما يتناوله .
فكما يتناوله الفرد منهم يتناول جماعتهم بمنزلة قول الرجل لعبيده : من شاء منكم العتق فهو حر .
فشاءوا عتقوا بخلاف قول أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا قال : من شئت عتقه من عبيدي لأنه أضاف المشيئة هناك إلى من لم يتناوله من وهاهنا أضاف الإصابة إلى من تناوله من .
وإذا ثبت الاستحقاق لهم بالإصابة صار الأسير مملوكاً لهم .
حتى إذا كانوا قريباً لبعضهم عتق حصته منه .
ولو أعتقه أحدهم عتق حصته لأن الإمام حين خص المصيب بالمصاب فلذلك منه بمنزلة القسمة بعد الإصابة لا فرق بين أن يصيب الأسير جماعة وبين أن يصيب الواحد في ثبوت الملك@(2/163)
به فكذلك في الغنيمة قبل الإصابة .
ولو كان قال لهم : ما أصبتم فهو لكم والمسألة بحالها لم يعتق الأسير بأعتاق أحدهم إياه ولا بقرابته منه لأن هذا التنفيل ليس في معنى القسمة من الإمام .
ألا ترى أن المصيب لا يختص بالمصاب ولكن ما يصيب الواحد منهم يكون بين جماعتهم وبدون القسمة وما في معناها لا يثبت الملك بنفس الإصابة .
يوضح الفرق أن في كل موضع يختص المصيب بالمصاب على وجه لا يشاركه فيه غيره فتلك الإصابة في معنى الاصطياد .
فكما أن الملك في الصيد يثبت بنفس الإصابة للواحد كان أو للجماعة فكذلك الملك يثبت للسرية بمثل هذه الإصابة وفي كل موضع لا يختص المصيب بالمصاب ولكن يشاركه فيه أصحابه .
فتلك الإصابة في معنى إصابة الغنيمة .
ومجرد الأخذ في الغنيمة لا يوجب الملك قبل القسمة فكذلك ما يكون في معناه .
ولو بعث الأمير في دار الحرب ثلاثة طليعة ونفل لهم الربع مما يثيبون فأصابوا أسيراً ثم أعتقه أحدهم أو كان قريباً منه لم يعتق لأن أهل العسكر وأرباب الخمس شركاؤهم في المصاب فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة قلوا أو كثروا .
ألا ترى أن للإمام ولاية البيع وقسمة الثمن وأن نصيبهم لا يدرى أن يقع بالقسمة .
ولو كان قال لهم : لكم ما أصبتم والمسألة بحالها عتق المصاب بإعتاق أحدهم أو بقرابته منه استحساناً وفي القياس لا يعتق لأن بهذا التنفيل لا يختص المصيب بالمصاب ولكن يشاركه فيه أصحابه فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة .
بمنزلة أهل السرية على ما بينا .
وفي الاستحسان نقول : قد ثبت الاختصاص لهم بالمصاب بسبب تنفيل الإمام .
وقد بينا أن هذا وإن كان من الإمام قبل الإصابة فهو في المعنى كالموجود بعد الإصابة فيكون بمنزلة القسمة يثبت لهم الملك حتى ينفذ العتق فيه من بعضهم .
وهو نظير ما لو قسم الإمام الغنيمة على الرايات بين العرفاء ثم أعتق واحد منهم من أهل رأية عبداً مما أصاب أهل تلك الراية .
قبل أن يقسم العريف بينهم فإنه ينفذ عتقه .
والمعنى في الكل أن الشركاء متى قلوا فالشركة بينهم تكون شركة خاصة وهي لا تمنع الملك لهم في المشترك بمنزلة الشركة بين الورثة في الميراث .
وعند الكثرة الشركة عامة فيمنع ذلك ثبوت@(2/164)
الملك .
بمنزلة شركة المسلمين في بيت المال وشركة الغانمين في الغنيمة .
فإن قيل : فما الحد الفاصل بين القليل والكثير في ذلك قلنا : قد ذكر في ذلك وجوهاً كلها محتملة .
أحدها : أنهم إذا كانوا أقل من تسعة جاز عتقهم وإن كانوا تسعة فصاعداً لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث تسعة سرية لأن الجمع في حد الكثرة والقلة جمع متفق عليه .
فالتسعة تكون جمع الجمع .
والثاني : أنهم إذا كانوا أقل من أربعين جاز عتقهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أظهر الدعاء إلى الدين بمكة حين تموا أربعين بإسلام عمر رضي الله عنه فتبين بهذا أن الأربعين أهل عزة ومنعة .
فقد كان دعاء رسول الله عليه السلام فقال : " اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك " .
والعزة والمنعة إنما تحصل بالعدد الكثير من المسلمين .
والثالث : أنهم إن كانوا أقل من مائة جاز عتقهم لأن الله تعالى يقول : { الآنَ خَفَّفَ
اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } الأنفال : 66 .
فكل هذا محتمل إن قال به قائل وسعه اجتهاد الرأي فيه وأما أنا فلست أوقت في ذلك وقتاً ولكني أقول : إن كانوا قوماً لا منعة لهم جاز العتق وإلا فلا لأن نصب المقادير بالرأي لا يكون وليس في هذا نص والمنعة تختلف باختلاف أحوال الناس فالسبيل أن يفوض إلى رأي الإمام ليحكم برأيه فيه هذا هو.@(2/165)
الأقرب إلى معاني الفقه .
وهذا نظير ما بينا في كتاب الشفعة في الفرق بين الشركة الخاصة في النهر والشركة العامة في استحقاق الشفعة .
فكل فصل ذكرناه ثمة فإنه يستقيم القول به هنا ثم في كل فصل ذكرنا أنه ينفذ العتق فإنه ليس للإمام أن يقتل الرجال من الأسراء .
لأنهم قد ملكوا فصار ذلك بمنزلة الغنيمة المقسومة وكذلك بعد القسمة بين العرفاء ليس للإمام أن يقتل أحداً من الرجال وهذا أظهر لأن الملك هنا يثبت بالقسمة الأولى وهي قسمة الجمل .
وإن لم توجد القسمة بين الأفراد بعد .
وإن كان العدد القليل بعثهم الإمام من دار الإسلام فأصابوا غنائم ثم أعتق بعضهم الرقيق فعتقه باطل في القياس لأن المصاب هنا غنيمة .
ألا ترى أنهم لو لحقهم المدد في دار الحرب شاركوهم فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة .
ولا أرباب الخمس شركاؤهم والإمام رأى باعتبار ذلك فلا يدرى أين يقع نصيب من أعتق عند القسمة فينبغي أن لا ينفذ عتقه .
وفي الاستحسان : ينفذ عتقه لأن الشركة بينهم شركة خاصة لقلة عددهم .
وقد تأكد حقهم بالإحراز حسب ما يتأكد حق الطليعة المبعوثة في دار الحرب بالإصابة بعد تنفيل الإمام .
فكما أن هناك ينفذ العتق فكذلك هاهنا ينفذ .
ألا ترى أن المبعوث لو كان رجلاً واحداً فأعتق السبي أو كانوا أقرباءه بعد الإحراز لم يشكل أنه ينفذ عتقه .
وإن كان لو أعتقهم في دار الحرب لم ينفذ عتقه لأن الحق لم يتأكد فيهم قبل الإحراز .
ثم بعد نفوذ العتق إن كان المبعوث رجلاً واحداً فهو ضامن الخمس لأرباب الخمس إن كان موسراً .
وكذلك إن كانوا نفراً فهو ضامن نصيب أصحابه ممن أعتقه .
وإن كان معسراً سعى الرقيق في حصة أصحابه كما هو الحكم في عتق العبد المشترك .
وأما في حصة الخمس فينبغي للإمام أن لا يستسعيهم لأن الخمس للمحتاجين ولا حاجة أظهر من حاجة المعتقين فإنهم لا يملكون شيئاً حتى يلزمهم السعاية .
فلهذا ينبغي للإمام أن لا يسلم حصة الخمس لهم .
وعلى هذا الوجه لو جاءوا برجال فليس للإمام أن يقتلهم بعد الإحراز لأن الشركة في المصاب خاصة بين العدد القليل .
وقد تأكد حقهم بالإحراز .
وله أن يقتلهم قبل الإحراز لأن الحق لم يتأكد بالإصابة قبل الإحراز والمصاب غنيمة على الإطلاق .@(2/166)
باب النفل الذي يبطل بأمر الأمير
والذي لا يبطل ولو أرسل الأمير في دار الحرب سرية من المعسكر ونفلهم الربع فلما بعدوا منه خاف عليهم فأرسل سرية أخرى وقال : الحقوا بأصحابكم فما أصبتم فأنتم شركاؤهم في ذلك كله من النفل وغيره فأدركوهم بعدما أصابوا الغنيمة .
ورجعوا إلى المعسكر جملة فلا شيء للسرية الثانية من النفل لأن أصحاب السرية الأولى قد تأكد حقهم في المنفل بنفس الإصابة على وجه لا يشركهم في ذلك غيرهم .
بمنزلة تأكد حق الغانمين بالإحراز ولو أراد الإمام أن يثبت الشركة بين المدد والجيش بعدما أحرزوا الغنيمة بالدار لم يملك ذلك بقوله فهذا مثله .
وإن غنموا جميعاً بعدما لحقوهم فلهم النفل في الغنيمة الثانية لأن ثبوت الحق المنفلين بالإصابة وقد أشركوا جميعاً في الإصابة والتنفيل من الإمام لهم جميعاً في الدفعتين .
قال : فإن كانت السرية الأولى مائة فارس والثانية خمسين فارساً وخمسين راجلاً فلما أتوهم لم يعلموهم بما جعل لهم الإمام من النفل حتى أصابوا غنائم فإنهم تقسم بين السريتين أولاً على سهام الفرسان والرجالة ثم ينظر إلى ما أصاب السرية الأولى فيعطون من ذلك نفلهم لا ينقصون منه شيئاً وإلى ما أصاب السرية الثانية فيعطون منه نفلهم أيضاً ثم الباقي يخمس ويقسم بين السريتين وأهل@(2/167)
العسكر على قسمة الغنيمة لأن السرية الأولى استحقوا ربع ما يصيبون بالتنفيل الأول فكما لا يملك الأمام إبطال حقهم بالرجوع عن ذلك التنفيل بعد علمهم فكذلك لا يملك إدخال ضرر النقصان عليهم باشتراك الغير معهم بدون عملهم .
لأن الاشتراك والإبطال كل واحد منهما خطاب من الإمام إياهم فلا يثبت حكمه في حقهم ما لم يعلموا به بمنزلة خطاب الشرع في حق المخاطبين .
ولو أخبرت السرية الثانية السرية الأولى بما جعل لهم الأمير من الشركة معهم في النفل قبل أن يصيبوا الغنيمة والمسألة بحالها فالنفل بينهم بالسوية .
وهذا لأن التنفيل الأول من الإمام لم يكن لازماً قبل الإصابة .
ألا ترى أنه لو رجع عنه بعلمهم كان صحيحاً فكذلك إذا نقص حقهم بالاشتراك بعلمهم .
وكذلك إذا أعلموا بذلك أمير السرية الأولى .
فإن إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم إذ الأمير نائب عنهم .
وكذلك إن أظهروا ذلك حتى علم به عامتهم لأنه يتعذر عليهم إعلام كل واحد من آحادهم وإنما يمكنهم إظهار ذلك الخبر في عامتهم .
فإذا فعلوا ذلك فهو بمنزلة الواصل إلى كل واحد منهم كالخطاب الشائع في دار الإسلام يشترك في حكمه من علم به ومن لم يعلم ممن أسلم من أهل المدينة حتى يلزمه قضاء الصلوات المتروكة بعد الإسلام بخلاف من أسلم في دار الحرب والفرق باعتبار شيوع الخطاب .
ولو كان الأمير قال للسرية الثانية : أنتم شركاؤهم في النفل .
لكم ثلثاه ولهم ثلثه .
والمسألة بحالها .
فإن كانوا لم يعلموهم حين أدركوهم حتى أصابوا غنائم فللسرية الأولى نفلهم مما أصابوا كاملاً لأن حكم الخطاب بالتفضيل لا يثبت في حقهم ما لم يعلموا لما فيه من الإضرار بهم .
فإنه ينتقص حقهم بذلك .
وإن كانوا أعلموهم ذلك ثبت حكم الخطاب في حقهم فيكون النفل بينهم على الثلث والثلثين كما بين الإمام .@(2/168)
قال : ولو جاز من الإمام أن ينقص حق السرية الأولى بغير علمهم لجاز أن يقول للسرية الثانية النفل كله لكم دون الأولى فلا ينبغي لأحد أن يجيز هذا لأن ما هو المقصود بالتنفيل - وهو التحريض - يفوت بتجويز هذا فإن السرية لا يعتمدون ذلك التنفيل بعدما بعدوا من الإمام إذا كان هو متمكناً من إبطاله بغير علمهم .
أرأيت لو قال لأهل العسكر بعدما مضت السرية الأولى : قد أبطلت نفلها .
كان يصح ذلك في حقهم قبل أن يعلموا به .
فكما لا يصح منه الإبطال فكذلك لا يصح منه تحويله إلى السرية الثانية قبل علم السرية الأولى به .
ولو علموا به صح ذلك كله إبطالاً كان ذلك أو نفلاً إلى غيره .
ألا ترى أنه لو قال لرجل : إن قتلت هذا القتيل فلك سلبه .
فلما خرج للمبارزة قال : قد أبطلت نفله لم يبطل ذلك ما لم يعلم به المبارز فكذلك ما سبق .
ولو بعث أمير المصيصة سرية منها .
وهي اسم بلدة من دار الإسلام في وسط الروم .
فنفل أصحاب الخيل دون الرجالة لم يجز لأن هذه السرية مبعوثة من دار الإسلام .
وهذا تنفيل عام .
فإن أهل السرية أصحاب الخيل كلهم .
وقد بينا أن التنفيل العام في مثل هذه السرية لا يجوز لأنه ليس فيه إلا إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل .
ولكنه لو أرسل معهم قوماً من أصحاب المجانيق وقوماً يحضرون الحصن فنفلهم شيئاً لجزائهم وعنائهم فهذا جائز لأنه تنفيل خاص لبعض أهل السرية .
بمنزلة قوله : من قتل قتيلاً فله سلبه وهذا .
بخلاف السرية المبعوثة في دار الحرب لو نفل أصحاب الخيل جاز لأن التعميم في حقهم لا يمنع صحة التنفيل إذ المقصود قطع شركة الجيش معهم .
وكذلك إن نفل أصحاب الخيل العرب على البراذين جاز .
والعراب أفراس العرب والبراذين أفراس العجم وأفراس العرب أقوى في الطلب والهرب والبراذين أصبر على القتال وألين عند العطف والتنفيل بحسب العناء والجزاء فلا بأس للإمام أن يختص أحد الفريقين بالفعل على حسب ما يرى فيه من النظر .@(2/169)
والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=23 - TOP#TOPباب نفل الأمير
وإذا قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه ثم لقي الأمير رجلاً فقتله فله السلب استحساناً .
وفي القياس : لا يستحق لأن الغير إنما يستحق بإيجابه وهو لا يملك الإيجاب لنفسه بولاية الإمارة .
بمنزلة القاضي لا يملك أن يقضي لنفسه .
ألا ترى أنه لو خص نفسه فقال : إن قتلت قتيلاً فلي سلبه لم يصح ذلك .
ولو كان هو كغيره في هذا الحكم يصح إيجابه خاصاً كان أو عاماً كما في حق غيره .
ولأن التنفيل للتحريض وإنما يحرض غيره على القتال لا نفسه .
فالإمارة تكفيه لذلك .
ووجه الاستحسان أنه وجب النفل للجيش بهذا اللفظ وهو رجل منهم فيستحق كما يستحق غيره .
ألا ترى أن فيما يجب شرعاً وهو السهم هو كواحد من الجيش فارساً أو راجلاً فكذلك فيما يستحق بالإيجاب .
أرأيت لو برز علج ودعا إلى البراز .
فقال الأمير : من قتله فله سلبه فلم يتجاسر أحد على الخروج حتى خرج هو بنفسه فقتله كان لا يستحق سلبه وهذا بخلاف ما إذا خص نفسه لأنه منهم فيما يخص به نفسه من التنفيل بمنزلة القاضي يكون منهماً فيما يقتضي به لنفسه .
فأما عند التعميم فتنتفي التهمة فيثبت الحكم في حقه كما يثبت في حق غيره .
ألا ترى أن إباحة التناول من الطعام والعلف يثبت في حق الإمام كما يثبت في حق العسكر باعتبار أنه لا تتمكن تهمته فيما لا يختص الأمير به .
وإذا خص غيره بالتنفيل لا تتمكن التهمة في ذلك ولا يخرج فعله من أن يكون واقعاً بصفة النظر .
ولو كان قال : من قتل منكم قتيلاً فله سلبه ثم قتل@(2/170)
الأمير قتيلاً لم يكن له سلبه لأنه خصهم بقوله : منكم فلا يتناوله حكم الكلام بخلاف الأول .
ألا ترى أن من قال لعبده : اعتق مماليكي فقال العبد لسائر المماليك : أنتم أحرار .
لم يدخل هو في جملتهم لهذا المعنى .
ولو قال : إن قتلت قتيلاً فلي سلبه ثم لم يقتل أحداً .
حتى قال : ومن قتل منكم قتيلاً فله سلبه .
ثم قتل الأمير بعد ذلك قتيلاً استحق سلبه لأن التنفيل صار عاماً باعتبار كلاميه ولا فرق بين تنفيل العام بكلامين وبينه بكلام واحد .
وهذا لأن كلامه الأول لم يكن صحيحاً للتهمة المتمكنة بسبب التخصيص وقد زال ذلك بكلامه الثاني وبعد ما انعدم المانع من صحة الإيجاب يكون الإيجاب صحيحاً عاماً في حقهم .
ولو كان قتل قتيلين : أحدهما قبل الكلام الثاني والأخر بعده فله سلب القتيل الثاني دون الأول لأن القتل الذي جعله سبباً تم منه في الأول قبل صحة الإيجاب .
فصار ذلك السبب غنيمة .
ثم صح الإيجاب بالكلام الثاني فيجعل عند الكلام الثاني كأنه أنشأ تنفيلاً عاماً الآن فإنما يستحق به سلب ما نفل بعد ذلك .
لأن التنفيل لا يعمل فيما صار غنيمة قبله باعتبار أن الكلام غير متناول له ولو كان متناولاً له لم يصح أيضاً لأنه تنفيل بعد الإصابة .
ولو قال : إن قتلت قتيلاً فلي سلبه .
ومن قتل منكم قتيلاً فله سلبه .
ثم قتل الأمير قتيلين ورجل من القوم قتيلين فللأمير سلب الأول دون الثاني لأنه أوجب لنفسه بحرف لا يقتضي التكرار وهو حرف الشرط .
ألا ترى أن من قال لزوجته : إن دخلت الدار فأنت طالق .
فدخلت دخلتين لم تطلق إلا واحدة .
أوجب للقوم بكلمة من وهي عامة كما بينا فيتناول كل قتيل كل واحد منهم حتى لو قتل رجل عشرين قتيلاً كان له أسلابهم جميعاً .
ولو قال لرجل منهم : إن قتلت قتيلاً فلك سلبه .
فقتل رجلين كان له سلب الأول خاصة .
لما بينا أنه علق استحقاقه بالشرط وذلك ينتهي بقتل الأول وليس في لفظه ما يدل على التكرار والعموم .
ولو قال لجميع أهل العسكر : إن قتل رجل منكم قتيلاً فله سلبه فقتل رجل عشرة منهم استحق أسلابهم جميعاً .
وهذا استحسان .
وفي القياس : لا يستحق إلا القتيل الأول كما لو خصه بالإيجاب بهذا اللفظ .
ووجه الاستحسان أنه لما من يقصد لإنسان بعينه@(2/171)
فقد خرج الكلام منه عاماً .
ألا ترى أنه يتناول جميع المخاطبين .
فكما يعم جماعتهم يعم جماعة المقتولين بخلاف الأول ألا ترى أن في هذا الفصل إن قتل عشرة من المسلمين عشرة منهم استحق كل واحد منهم سلب قتيله .
فكذلك إذا كان الواحد هو القاتل لعشرة .
وحقيقة معنى الفرق أن مقصود الإمام هنا تحريضهم على المبالغة في النكاية فيه .
وفي معنى النكاية لا فرق بين أن يكون القاتل للعشرة عشرة من المسلمين أو واحداً منهم .
وفي الأول مقصوده معرفة ذلك الرجل وجلادته وذلك يتم بدون إثبات معنى العموم في المقتولين .
ولو قال لعشرة هو أحدهم : من قتل منا قتيلاً فله سلبه .
أو إن قتل رجل منا قتيلاً فله سلبه ثم قتل بنفسه قتيلين أو ثلاثة استحق اسلابهم لأن معنى التهمة قد انتفى باشتراك التسعة مع نفسه في الإيجاب وصار كلامه عاماً باعتبار المعنى الذي قلنا .
فيستحق هو من سلب المقتولين ما يستحقه تسعة معه إذا قتلوا .
ولو قال لرجل بعينه .
إن قتلت قتيلاً فلك سلبه فقتل قتيلين معاً .
فله سلب أحدهما لأن هذا الإيجاب لا يتناول إلا الواحد ثم يختار أي السلبين شاء لأن الحق ثابت له فالخيار في البيان إليه .
ولا يقال : كان ينبغي أن يكون الخيار إلى الإمام شاء لأن الحق ثابت له فالخيار في البيان إليه .
ولا يقال : كان ينبغي أن يكون الخيار إلى الإمام لأنه هو الموجب له .
وهذا لأن مثل هذا الكلام من الإمام على وجه بيان السبب وإنما يكون الخيار لم باشر السبب وأكثر ما فيه أنه يختار أفضلهما سلباً ولو لم يقتل إلا ذلك الرجل بضربته كان مستحقاً لسلبه .
فإن قتل معه غيره لا يجوز أن يصير محروماً لأنه أظهر زيادة القوة بما صنع .
وكذلك لو قال : إن أصبت أسيراً فهو لك .
فأخذ أسيرين معاً .
فله أن يختار أرفعهما لهذا المعنى .
ولو خرج أمير العسكر في سرية ونفل لهم الربع فأصابوا غنائم .
كان للأمير النفل مع السرية لأنه أوجب النفل لأصحاب السرية .
وهو واحد منهم .
وبهذا الفصل يتبين ما سبق أنه عند التعميم يكون الإمام في استحقاق النفل كغيره .
والكلام في فصل السرية أظهر فإن استحقاقهم للنفل على هيئة استحقا الغنيمة .
ألا ترى أن المباشر منهم والردء في ذلك سواء .
ثم في استحقاق الغنيمة الإمام بمنزلة الجيش .
فكذلك في استحقاق السرية إذا خرج وهو معهم .
والله أعلم بالصواب .@(2/172)
باب من النفل الذي يصير لهم ولا يبطل
إذا نفل بعضهم دون بعض ولو قال الأمير : إن قتل رجل فله سلبه .
فقتل رجلان قتيلاً واحداً فلهما سلبه لأنه حين أخرج الكلام مخرج العموم فقد قصد به التحريض على النكاية .
وفي هذا لا فرق بين أن يكون القاتل واحداً أو جماعة إلا أن يبين فيقول : إن قتل رجل منكم وحده قتيلاً فحينئذ لا شيء للقاتلين من السلب لأنه تبين بهذه الزيادة أن مقصوده التحريض على إظهار الجلادة بالاستبدال القتل وبالاشتراك لا يحصل ذلك .
ولو برز عشرة للقتال فقال الأمير لعشرة من المسلمين : إن قتلتموهم فلكم أسلابهم .
فقتل رجل رجلاً منهم استحق كل قاتل سلب قتيله خاصة لأن تعميم العشرة بالخطاب بمنزلة تعميم الكل بقوله : من قتل قتيلاً فله سلبه .
وهذا لأن العدد إذا قوبل بذي عدد ينقسم الآحاد على الآحاد .
كقول الرجل : أعط هؤلاء العشرة هذه العشرة الدارهم .
والفعل المضاف إلى جماعة بعبارة الجمع يقتضي الانقسام على الأفراد .
كما قال : ركب القوم دوابهم فإنه يفهم منه ركوب كل أحد دابته .
ولو قتل تسعة من المسلمين تسعة منهم وقتل المشرك المسلم العاشر أو هرب فلم يقدر عليه فلكل واحد من القاتلين سلب قتيله لأن المقصود من هذا الكلام جعل القتل@(2/173)
سبباً لاستحقاق السلب لا اشتراط قتلهم حتى لا يبقى منهم أحد .
إلا أن يبين ذلك فيقول : لكم أسلابهم إن قتلتموهم كلهم ولم تغادروا منهم أحداً .
فحينئذ يتبين بتنصيصه أنه علق الاستحقاق بشرط قتل الكل والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزواً فجزواً .
وما لم يتم الشرط لا يثبت شيء من الجزاء .
فأما إذا لم يبين فإنما يحمل مطلق كلامه على ما هو المفهوم عادة وهو التحريض على دفع شرهم عن المسلمين بقتلهم فبقدر ما حصل من المقصود يستحق السلب .
وكذلك لو قال لسرية : ائتوا حصن كذا فإن قتلتم وفتحتموه فلكم الربع .
فقتلوا بعضهم أو قتلوا رأسهم وتفرق جمعهم وفتحوا الحصن فلهم النفل لأن ما هو المفهوم من كلامه قد حصل وهو تقريق الجمع وفتح الحصن بالقتال .
وإن فتحوا الحصن بغير قتال لم يكون لهم نفل لأن ما جعله سبب الاستحقاق لهم وهو القتال لم يوجد .
ألا ترى لو قال : إن قتلتم مقاتلته وسبيتم ذريته فلكم كذا .
فقتلوا البعض وسبوا من بقي منهم كان لهم النفل ولو أخذوهم بغير قتال لم يكن لهم نفل ولو أخذوهم بغير قتال لم يكن لهم نفل لما قلنا .
ولو قال : إن قتل إنسان منكم قتيلاً فقتل رجلان من المسلمين قتيلاً كان سلبه بينهما نصفين ولو قتل مسلم ومشرك مشركاً أخطأ به فقتله مع المسلم كان نصف السبب للمسلم ونصفه في الغنيمة لأن في حق المسلم يجعل كأن القاتل معه مسلم .
وفي حصة المشرك يجعل كأن القاتل معه مشرك .
وهذا لأن الإيجاب بالتنفيل من الإمام كان للمسلمين فإنما يستحق المسلم بقدر ما باشر من السلب .
وإنما باشر هو قتل نصف النفس حين شارك غيره فيه .
ألا ترى أنه لو قتل مسلماً خطأ مع غيره كان عليه نصف الدية فإذا كان فيما يجب من الغرم بالقتل يجعل هذا قاتلاً نصف النفس فكذلك فيما يستحق من الغنم به .
ولو قال : من قتل بطريقاً فله سلبه فقتل مشركاً ليس ببطريق لم يستحق@(2/174)
السلب لأن المقصود التحريض على قتل من تنكسر شوكتهم بقتله ولم يحصل هذا المقصود .
ألا ترى أنه لو قال : من قتل الملك فله سلبه .
فقتل رجلاً غير الملك لم يستحق شيئاً ولو قال : من قتل بطريقاً فله من الغنيمة ألف درهم فقتل رجل بطريقاً استحق ما أوجب له الإمام من الغنيمة ألف درهم لمباشرته سلبه ولكن مما يغنمون بعد هذا حتى لو لم يغنموا بعد هذا شيئاً لم يعطه مما كانوا غنموا قبل هذا شيئاً لأن سهام المسلمين قد وجبت فيه وهذا التنفيل فيما كانوا غنموا لأنه يكون تنفيلاً بعد الإصابة وذلك لا يجوز ولو قال : من قتل منكم صعلوكاً فله سلبه .
فقتل رجل بطريقاً أو قتل الملك لم يستحق شيئاً لأنه أوجب له سلب الصعلوك .
وسلب الملك والبطريق أفضل من سلب الصعلوك لا محالة فبإيجاب الأدنى لا يستحق الأعلى .
بخلاف ما لو قال : من قتل صعلوكاً فله مائة درهم فقتل رجل بطريقاً فإنه يستحق المائة لأنه أتى بما شرط عليه وزيادة .
فانكسار شوكتهم بقتل البطريق أظهر منه بقتل الصعلوك .
والمسمى بمقابلته وهو المائة معلوم .
والمسائل بعد هذا إلى آخر الباب مبينة على أصل وهو أنه : إن أوجب له بالتنفيل شيئاً بعينه لم يستحق شيئاً آخر سواء أتى بأدون مما شرط عليه أو أعلى لأن محل الاستحقاق لم يوجد والإيجاب لا يعمل بدون المحل .
وإن كان أوجب له مالاً مسمى فإن أتى بخلاف ما شرط لم يستحق شيئاً من المسمى لأن مع مخالفة الجنس لا يحصل الامتثال .
وإن كان ما أتى به من جنس ما شرطه عليه : فإن كان أدون مما شرط عليه في المنفعة لم يستحق شيئاً لأنه لم يمتثل الأمر ولم يحصل المقصود بكماله .
فإن كان أعلى مما شرط عليه استحق المسمى لأنه أتى بالمشروط وزاد عليه .
فإذا قال : من قتل شيخاً فله سلبه فقتل شاباً استحقه@(2/175)
لأنه أتى بالمشروط وزيادة فإن النكاية وإظهار الجلادة في قتل الشاب أكثر والسلب لا يتفاوت بالشباب والشيخوخة .
وإن قال : من قتل شاباً فقتل شيخاً لم يستحق لأن ما أتى به أدنى مما شرط عليه في معنى النكاية والجلادة .
ولو قال : من جاء بأسير فهول له .
فجاء بوصيف أو على عكس هذا لم يستحق شيئاً لأن المحل الذي أوجب صفة النفل فيه لم يوجد فإن الأسير غير الوصيف .
وكذلك لو قال : من جاء بوصيف فهو له فجاء برضيع أو على عكس هذا لم يكن له لأن الوصيف غير الرضيع .
فالمحل الذي أوجب حقه لم يوجد .
ولو قال : من جاء بألف درهم فله منها مائة .
فجاء بألف دينار لم يكن له منها شيئاً لأنه أوجب له بعض ما يأتي به من الدراهم وبين الدراهم والدنانير مخالفة في الجنس .
ولو قال : من جاء بوصيف فله مائة درهم فجاء بوصيفة لم يستحق شيئاً لان الذكور والإناث من بني آدم جنسان مختلفان لتباين المقصود .
ولهذا لو اشترى شخصاً على أنه عبد فإذا هي أمة لم ينعقد البيع ومع اختلاف الجنس لا يتحقق الامتثال .
ولو قال : من جاء بشاب فله مائة درهم فجاء بشيخ لم يستحق شيئاً .
ولو كان على عكس هذا استحق لأن الجنس واحد والشاب فيما هو المقصود هاهنا خير من الشيخ .
فإذا جاء بما هو أزيد من المشروط عليه استحق النفل .
وإن جاء بأنقص منه لم يستحق بمنزلة ما لو قال : من جاء بألف درهم غلة فله مائة درهم .
فجاء بألف درهم جياد أخذ مائة درهم غلة لأن الجنس واحد وما جاء به أفضل ولكن لا يستحق إلا قدر ما سمي له وذلك مائة درهم غلة .
وكذلك لو قال : من جاء بألف درهم غلة فله عشرها .
فجاء بألف نقد بيت المال استحق عشرها من دراهم غلة لأن ما أوجب له الفضل والاستحقاق بالتسمية ولا يثبت إلا بقدر المسمى .
ولو قال : من جاء بألف درهم جياد فله مائة .
فجاء بألف غلة لم يكن له شيء لأن ما@(2/176)
جاء به دون ما شرط عليه .
ولو قال : من جاء بعشر شياة فله شاة .
فجاء بعشر بقرات لم يستحق شيئاً لاختلاف الجنس .
وكذلك لو قال : من جاء بعشرة أثواب ديباج فله كذا فجاء بعشرة أثواب بزيون لم يكن له شيء .
وكذلك إن كان على عكس هذا لأن الجنس مختلف .
ولو قال : من جاء بعشرة أثواب بزيون أحمر فجاء بالأخضر أو الأصفر فإن كان الأحمر أفضل ما جاء به لم يستحق شيئاً .
وإن كان مثل ما جاء به أو دونه استحق ما سمي له لأن الجنس واحد وإنما الاختلاف في الصفة هنا .
ألا ترى أن من اشترى ثوب بزيون على أنه أحمر فإذا هو أخضر فإن البيع يكون صحيحاً .
وكذلك على هذا الأصل البغل والفرس والحمار .
ولو قال : من جاء بفرس فله مائة فجاء ببرذون لم يستحق شيئاً وإن كان على عكس هذا استحق لأن الجنس واحد والفرس أفضل من البرذون .
بخلاف ما إذا جاء بحمار أو بغل فإنه لا يستحق شيئاً لأن الجنس مختلف .
ولو قال : من جاء بفرس فله مائة .
فجاء رجل بفرس فإنما يعطى نفله مما يغنمون بعد هذا .
حتى إذا لم يغنموا شيئاً آخر فإن نفله من الفرس خاصة دون ما غنموا قبل هذا .
فإن كان الفرس لا يساوي مائة لم يزد على مقدار ثمنه شيئاً وإن كان يساوي مائة أو أكثر فرأى الإمام أن يجعل الفرس فيما غنموا قبل هذا ويعطيه المائة منها فذلك مستقيم لأن له ولاية بيع الغنائم وهذا التصرف منه بمنزلة بيع شيء من الغنائم بمثل قيمته فيجوز .
وإن كانت المائة أكثر من قيمة الفرس لم يعطه من الغنيمة إلا مقدار قيمة الفرس لأن له ولاية المبادلة بشرط النظر لا بالمحاباة الفاحشة .@(2/177)
باب ما يجب من السلب بالقتل وما لا يجب
ولو قال الأمير : قتل قتيلاً فله سلبه فبرز علج للقتال وخرج إليه مسلم فضربه ضربة أبانه عن فرسه وأخذ فرسه وجره إلى المسلمين حياً فمات بعد أيام .
وقد كان صاحب فراش أو لم يكن إلا أنه علم أنه مات من ضربته فله السلب والفرس والسلاح من جملة السلب لأنه صار قاتلاً له حين مات من ضربته .
وفيما يجب على القاتل لا فرق بين أن يموت المقتول بضربته في الحال وبين أن يموت منها بعد مدة فكذلك فيما يجب له بالقتل .
ويستوي إن كان مات قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام أو بعدها ما لم يقسم فأما إذا قسمت الغنائم أو بيعت والرجل حي بعد فإن سلبه يقسم في الغنيمة بين الغانمين لأن سبب الاستحقاق فيه للقاتل لم يتم بعد وهو القتل فإن تمام القتل لا يكون بدون الموت والرجل حي بعد .
وسبب ثبوت حق الغانمين فيه قديم وهو الاغتنام فيقسم بينهم وبالقسمة يتعين الملك فمن ضرورته إبطال حق حكم التنفيل فيه وبعد ما نفذ الحكم من الإمام بإبطاله التنفيل فيه لا يستحقه بالتنفيل وإن تم السبب .
فإن قيل : لماذا لا تؤخر الغنيمة والبيع في السلب حتى تنظر إلى ماذا يئول حال الرجل .
قلنا : لأن السبب الموجب للقسمة وهو الاغتنام قديم فيه فلا يؤخر الحكم الذي يثبت بتقرير سببه لأجل سبب موهوم .
ألا ترى أن المضروب نفسه يقسم في الغنيمة فكيف لا يقسم سلبه .
فإن قيل : لأنه ليس في نفسه حق منتظر لأحد فأما في السلب فحق منتظر للقاتل .
فقد وجد سببه منه .
قلنا : قد بينا أن السبب لا يتم إلا بموت المضروب .
ثم لا يتأخر قسمة الغنيمة لحق أقوى من هذا وهو حق المالك القديم في المأسور فإنه حق ثابت لو جاء قبل القسمة أخذه بغير@(2/178)
شيء .
ثم لا تؤخر القسمة والبيع لحقه فلأن لا يؤخرها هاهنا لحق الضارب وهو غير ثابت في الحال كان أولى .
فإن قيل : فعلى هذا ينبغي إذا مات المضروب بعد القسمة أن يكون للقاتل حق أخذ السلب بالقيمة كما في المأسور إذا جاء المولى بعد القسمة .
قلنا : هناك الملك كان ثابتاً للمولى في الأصل فيتمكن من أخذه بالقيمة على وجه الفداء لذلك الملك وهاهنا الملك للضارب في السلب لم يكن ثابتاً قط ليفديه بالقيمة وإنما كان يثبت له الحق ابتداء بسبب التنفيل إن لو مات المضروب قبل القسمة فأما بعد القسمة فلا يمكن إثبات حقه لانعدام محله .
فإنما وزان هذا من المأسور إن لو خرج الحربي بالعبد إلينا بأمان ثم أسلم أو باعه من مسلم .
وهناك لا يثبت للمولى حق وعلى هذا لو أن المسلم حين رمى به عن فرسه اجتره المشركون فذهبوا به حياً فلا شيء للضارب من فرسه وسلبه ما لم يعلم بموته من ضربته لأن تمام السبب به يكون فالاستحقاق يثبت له ابتداء فلا بد فيه من التيقن بالسبب ولا يكفي وجوده ظاهراً بمنزلة الشرط الذي تعلق به عتق أو طلاق فإنه ما لم يتيقن به لا ينزل الجزاء .
وإنما طريق معرفة ذلك أن يشهد به عدلان من المسلمين لأن السلب باعتبار الظاهر غنيمة المسلمين .
وإنما الحاجة إلى الاستحقاق عليهم .
فلا يكون ذلك إلا بينة تقوم من المسلمين على موته قبل القسمة .
فأما إذا مات المضروب بعد القسمة والبيع لم يكن للقاتل من السلب شيء ولو قامت البينة به .
لفوات المحل بنفوذ القسمة والبيع من الإمام فيه .
ولو كان قال : من قتل قتيلاً فله مائة درهم .
فهذا والأول سواء إلا في خصلة واحدة : وهو أنه إذا بيع الغنائم ثم مات المضروب استحق المائة هاهنا ما لم يقسم الثمن أما إذا قسم الثمن أو قسمت الغنيمة ثم مات المضروب فلا نفل له لأن محل حقه الغنيمة هاهنا .
والبيع لا يفوت هذا المحل .
فإن الثمن غنيمة باعتبار أنه قائم مقام المبيع يقسم بين الغانمين .
فأما بالقسمة يفوت محل حقه فيبطل نفله وفي الأول محل حقه السلب وهو يفوت بالسلب .
فإن الثمن ليس من السلب في شيء ففي هذا يقع الفرق بينهما .
والله أعلم .@(2/179)
وإذا قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي ممن كان يقاتل مع المسلمين قتيلاً استحق سلبه لن الإمام أوجب السلب للقاتل بلفظ عام يتناول المسلم والذمي والعام كالنص في إثبات الحكم في كل ما يتناوله .
ولو خص الذمي بهذا استحق السلب بالقتل فكذلك إذا تناوله اللفظ العام .
وهذا لأن الذمي إذا قاتل معنا استحق الرضخ من الغنيمة كما يستحق المسلم السهم .
ومن استحق الرضخ فهو شريك في الغنيمة .
بمنزلة من يستحق السهم .
ولهذا كان له أن يتناول من الطعام والعلف مقدار حاجته .
وكذلك لو قتل رجل من التجار قتيلاً سواء كان يقاتل قبل هذا أو كن لا يقاتل لأنه قاتل الآن وبه يصير شريكاً في الغنيمة فيتناوله حكم التنفيل .
وكذلك لو قتلت امرأة مسلمة أو ذمية قتيلاً لأنها شريكة بما يستحق من الرضخ .
وكذلك لو قتل عبد كان يقاتل مع مولاه قبل هذا أو كان لا يقاتل حتى الآن لأنه شريك بما يستحق من الرضخ .
فليستحق السلب بالتنفيل ويكون ذلك لمولاه لأنه كسب عبده .
إلا أن يكون الأمير خص فقال : من قتل من الأحرار قتيلاً أو قال : من قتل من المسلمين قتيلاً فحينئذ يبنى الأمر على تخصيصه لأن الاستحقاق بإيجابه .@(2/180)
فكما يعتبر عموم كلامه يعتبر خصوصه .
وإذا لم يستحق الذمي السلب عند التخصيص يرضخ له من الغنيمة على قدر ما يرى الإمام لأنه تبع للمسلمين ومن يكون تبعاً في القتال يستحق الرضخ دون السهم كالعبيد والنساء .
وهذا لأنه لا بد من أن يعطى شيئاً ليكون ذلك تحريضاً له على الخروج .
ولا وجه للتسوية بين التبع والمتبوع .
ولهذا أعطيناه الرضخ ولا يزاد رضخه إن كان فارساً على سهم فارس من المسلمين وإن كان راجلاً على سهم راجل منهم .
لأنه لا يكون ذمي أبداً إلا وفي المسلمين من هو أعظم غناء منه .
فإذا كان لا يزاد للمسلم العظيم الغناء على السهم فكيف يزاد للذمي .
وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يجوز أن يبلغ برضخه سهم المسلم إذا كان عظيم الغناء .
والصحيح أنه لا يبلغ به أيضاً ولكن ينقص بقدر ما يراه الإمام كما لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر .
فإن قيل : أليس في التنفيل العام يسوى بينهما في السلب وربما يكون سلب قتيل الذمي أكثر قيمة من سهم المسلم فلماذا لا يجوز أن يسوى بينهما أو يفضل الذمي فيما يرضخ له .
قلنا : لأن استحقاق السلب بعد التنفيل إما أن يكون بالقتل أو بالإيجاب من الإمام ولا تفاوت بينهما في ذلك .
بخلاف استحقاق الغنيمة فإنه باعتبار معنى الكرامة .
ألا ترى أن في الاستحاق بالتنفيل يسوى بين الفارس والراجل وذلك لا يدل على أنه يجوز التسوية بينهما في استحقاق الغنيمة .
ولو كان الأمير قال : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فسمع ذلك بعض الناس دون البعض .
ثم قتل رجلاً قتيلاً فله سلبه وإن لم .
.
.
الإمام لأنه ليس في وسع الإمام إسماع كل واحد منهم .
وإنما في وسعه أن يجعل الخطاب شائعاً وقد فعل .
فيكون هذا كالواصل إلى كل من تناوله الخطاب حكماً .
ألا ترى أن أبا قتادة رضي الله عنه كان قتل قتيلاً يوم حنين قبل أن يسمع التنفيل ثم أعطاه رسول الله عليه السلام سلبه على ما روينا .
ولأن سماع الخطاب إنما يشترط لدفع الضرر عن المخاطب وفي هذا محض منفعة له .
لو بعث سرية وقال لأميرهم .
لكم نفل الربع فإن إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم .
وكذلك لو سمع بعضهم دون بعض فإن لم يسمع أحد@(2/181)
منهم ولا من غيرهم لم يكن له نفل لأن المقصود بالتنفيل التحريض على القتال ولا يحصل هذا إذا لم يسمع كلامه أحد .
فهو نظير ما لو تفكر هذا في نفسه ولم يتكلم به فأما إذا سمع أميرهم أو بعضهم فقد حصل المقصود وهو التحريض .
يوضحه : أن كلام الأمير يفشو إذا سمعه بعض الناس عادة .
لأن السامع يبلغ من لم يسمع كما قال عليه السلام : " ألا فليبلغ الشاهد الغائب " .
وأما ما لم يسمع منه أحد فلا يتصور أن يفشوا فلا يكون ذلك منه إشاعة الخطاب .
ولو قال في أهل عسكره : قد جعلت لهذه السرية نفل الربع .
ولم يسمع ذلك أحد من السرية ففي القياس : لا نفل لهم لأن المقصود وهو التحريض لا يحصل إذا لم يسمعه أحد منهم .
فتكلمه بذلك مع أهل العسكر وتكلمه به مع عياله ليلاً أو في نفسه وحده سواء فيما هو المقصود بالتنفيل .
وفي الاستحسان : لهم النفل .
لما بينا أن ما يتكلم به الإمام في أهل عسكره فإنه يفشو أو كأنه أمرهم بتبليغ أهل السرية به دلالة .
وليس في إثبات هذا الحكم في حقهم قبل التبليغ إضرار بهم وإن كان الأولى التبليغ لهم ليتم معنى التحريض يوضحه أن أصحاب السرية قد يكونون قوماً لا يخاطبهم الإمام بنفسه عادة .
ومن عادة الملوك أنهم يتكلمون بين يدي خواصهم بما يريدون أن يظهر للعامة فبهذا الطريق يصير هذا منه بمنزلة إشاعة الخطاب والأمر إياهم بالتبليغ .
ولو قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه ثم لحقهم مدد من المسلمين فقتل رجل من المسلمين منهم قتيلاً كان له سلبه لأن المدد في استحقاق الشركة في الغنيمة يكون كالحضر وقت التنفيل فله سلب قتيله علم بمقالة الأمير أو لم يعلم .
ولو كان جاء مع المدد أمير آخر وعزل الأمير الأول بطل التنفيل فيما يستقبلون لأن صحة تنفيه باعتبار ولايته وقد زالت ولايته بالعزل .
والعارض قبل حصول المقصود بالشيء كالمقترن بأصل السبب .
ولو كان معزولاً حين نفل لم يعتبر تنفيله .
فكذلك إذا@(2/182)
صار معزولاً بعد التنفيل قبل القتل أو بعد بعث السرية قبل إصابة الغنائم .
فأما إذا أصابوا الغنائم قبل أن يصير الأول معزولاً فلهم النفل من ذلك لأن المقصود قد تم بالتنفيل قبل العزل .
ثم إذا كان الأمير الأول قد أخبر بأن الأمير الثاني قادم بعزله فما دام بالبعد من معسكره لا يصير هو معزولاً .
فإذا صار قريباً من المعسكر بحيث يغيث أهل العسكر إن طلبوا منه فإنه يصير معزولاً ويبطل نفل الأول لأنه لما قرب منهم فكأنه خالطهم وهذا لأنه بعد ما بعث الخليفة الثاني بعزل الأول إنما لا ينعزل الأول ما لم يقرب منهم لحاجة أهل العسكر إلى من يدبر أمورهم .
والثاني عاجز عن ذلك لبعده عنه .
فإذا قرب منهم فقد ارتفع هذا المعنى .
ولو لم يقدم عليهم أمير آخر ولكن مات أميرهم فأمروا عليهم أميراً آخر وكان الأول قد نفل لهم لم يبطل حكم تنفيله لأن الثاني خليفة الأول قائم مقامه ولا يبطل شيء مما صنعه الأول .
إلا أن يبطل ذلك الأمير الثاني .
فإن أبطله بعلم المخاطبين بطل لأنه بمنزلة الأول .
ولو أبطل الأول ذلك بعلمهم بطل .
فكذل الثاني .
ولو كان الخليفة قال لهم : إن مات أميركم أو قتل فأميركم فلان .
فهذا صحيح لأنه تعليق الإطلاق بالشرط .
فيصح كالعتق والطلاق .
والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام قال يوم مؤتة : " إن قتل زيد فجعفر أميركم وإن قتل جعفر فإن رواحة أميركم " .
الحديث .
ثم في هذا الفصل إذا مات الأول بطل تنفيله لأن الثاني نائب الخليفة بتقليده من جهته فكأنه قلده ابتداء بعد موت الأول بخلاف ما سبق وهذا لأن التنفيل رأي رآه الأول وحكم رأيه ينقطع برأي فوق رأيه وهو تقليد الخليفة للثاني .@(2/183)
فأما في الفصل الأول فلم يعترض على رأيه رأي فوقه إنما نظر الجند له ولأنفسهم في نصب خليعة .
فيبقى حكم رأيه باعتبار خليفته كما لو استخلف هو بنفسه .
ألا ترى أن في الاستخلاف في الصلاة لا فرق بين أن يفعله الإمام الأول وبين أن يفعله القوم فهذا مثله .
ولو قال لأهل العسكر : من قتل منكم قتيلاً فله سلبه ثم لحق بهم مدد أو تجار أو قوم أسلموا من أهل الحرب .
فقتل رجل منهم قتيلاً ففي القياس : لا يستحق السلب لأنه خص الحاضرين بالخطاب بقوله : منكم بخلاف ما سبق فقد عم الخطاب هناك بقوله : من قتل قتيلاً .
وذلك يتناول الحاضر ومن يحضر .
وفي الاستحسان : له السلب لأنه ما قصد الحاضرين لأعيانهم بل لتحريضهم على القتال وفي هذا المعنى من يحضر ومن حضر سواء .
ألا ترى أن الذين لحقوا بهم شركاؤهم فيما أصابوا قبل ذلك إذا قاتلوا وجعلوا كالحاضرين وقت الإصابة .
فكذلك هم شركاؤهم في حكم التنفيل وجعلوا كالحاضرين وقت التنفيل .
ولو كان في العسكر قوم مستأمنون فإن كانوا دخلوا بإذن الإمام فهم بمنزلة أهل الذمة في استحقاق الرضخ واستحقاق النفل إذا قاتلوا .
وإن كانوا دخلوا بغير إذن الإمام فلا شيء لهم مما يصيبون من السلب ولا من غيره بل ذلك كله للمسلمين لأن هذا الاستحقاق من المرافق الشرعية لمن هو من أهل دارنا فلا يثبت في حق من ليس من أهل دارنا إلا أن يكون الإمام استعان بهم فباستعانته بهم يلحقون بمن هو من أهل دارنا حكماً .
ونظيره الركاز والمعدن .
فإن المستأمن إذا استخرج ذلك من دارنا بغير إذن الإمام أخذ كله منه وإن استخرجه بإذن الإمام فهو بمنزلة الذمي يخمس ما أصاب والباقي له .
ولو أن قوماً من المسلمين دخلوا دار حرب غير دارهم على إثر جيش من المسلمين وكانوا أهل منعة فأصابوا غنائم وأصاب@(2/184)
المسلمون أيضاً غنائم ثم خرجوا فما أصاب المسلمون يخمس والباقي بينهم على سهم الغنيمة .
وما أصاب المستأمنون فهو لهم لا خمس فيه لأن إصابتهم لذلك لم تكن على وجه إعزاز الدين .
وإنما يخمس المصاب إذا أصيب بأشرف الجهات وهذا لا يتحقق في مصاب المسلمين دون مصاب المستأمنين وإنما كان ذلك منهم اكتساباً محضاً فيسلم لهم كسبهم بخلاف ما سبقه فالإصابة هناك كانت بمنعة المسلمين لأن المستأمنين إنما قاتلوا تحت رايتهم والاستعانة بهم بمنزلة الاستعانة بالكلاب فلهذا خمس جميع المصاب .
ولو كان الذين فعلوا ذلك قوم من أهل الذمة لهم منعة جمع ما أصاب الفريقان أخرج خمسه والباقي غنيمة بينهم جميعاً لأن أهل الذمة من أهل دارنا فإنما يقاتلون للذب عن دار الإسلام .
ألا ترى أنه يجب علينا نصرة أهل الذمة إن قهروا إن قوينا على نصرتهم .
وليس علينا ذلك في حق المستأمنين بعدما دخلوا دار الحرب .
يوضحه : أن أهل الذمة تبع للمسلمين في السكنى حين صاروا من أهل دارنا فيكونون تبعاً للمسلمين فيما يصيبون في دار الحرب أيضاً .
وقد تم الإحراز بالكل .
فلهذا يخمس جميع المصاب .
فأما المستأمنون لا يكونون تبعاً للمسلمين في السكنى حتى يتمكنوا من الرجوع إلى دار الحرب فكذلك في الإصابة .
ولو أن حربياً في دار الحرب أخذ مالاً من مالهم ثم استأمن إلى أهل العسكر فله ما جاء به لأنه بنفس الأخذ ملك المأخوذ لا بقوة المسلمين فالتحق بسائر أمواله .
وكذلك لو أسلم بعد الأخذ وصار ذمياً وخرج إلى دارنا مع العسكر فذلك المال له لأنه ما أصاب بقوة المسلمين فلا يثبت حقهم فيه وروي أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان فعل ذلك فإنه قتل الذين صحبوه في السفر وأخذ أموالهم وجاء إلى المدينة وأسلم فلم يخمس رسول اله صلى الله عليه وسلم ذلك المال ولم يأخذ منه شيئاً .
وروي أنه قال له : " أما إسلامك فمقبول وأما مالك فمال غدر لا حاجة لنا فيه " .
وإنما قال ذلك لأنه كان غدر بهم .
ولذلك قصة معروفة .
ولو كان أسلم قبل إصابة المال ثم قتل بعضهم@(2/185)
وأخذ ماله ولحق به العسكر فهو غنيمة بينه وبين أهل العسكر لأنه أصابه بقوة المسلمين وقد تم الإحراز بمنعة المسلمين .
ولو فعل ذلك أحد من أهل العسكر سواه كان الحكم فيه هذا فكذلك إذا فعله الذي أسلم منهم .
وكذلك لو خرج فصار ذمة للمسلمين ثم رجع فأصاب ذلك لأنه صار ذمة للمسلمين فهو بمنزلة الذمي الداخل مع الجيش من دار الإسلام وإنما تمكن من هذا المال بقوة المسلمين .
وكذلك لو استأمن إلى أهل العسكر ثم عاد بإذن الأمير وفعل ذلك .
لما بينا أنه بعد إذن الأمير بمنزلة الذمي فيما يصيب .
ولو فعل بغير إذن الأمير كان ذلك لأهل العسكر إذا كان المستأمن غير أهل تلك الدار لأنه بمنزلة مستأمن دخل مع العسكر من دار الإسلام .
وهذا لأنه لا منعة له فإنما أصاب ذلك بقوة المسلمين فيكون لهم بخلاف ما إذا كان المستأمنون أهل منعة .
ولو أن العسكر أسروا الأسراء من العدو فقال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل أسير رجلاً من العدو فسلبه من الغنيمة إن لم يقسم الأمير الأسراء وإن كان قسمهم أو باعهم فالسلب لمولى القاتل لأن بالقسمة صار عبداً له وسلب قتيله كسبه فأما قبل القسمة فالأسير من الغنيمة .
فسلب قتيله يكون من الغنيمة أيضاً والله أعلم .@(2/186)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=24 - TOP#TOPباب من الشركة في النفل وما يؤخذ بحساب
وإذا قال الأمير : من أصاب أسيراً فهو له فأصاب رجل أسيرين أو ثلاثة فهم له لأن صيغة كلامه عامة في المصيب والمصاب جميعاً .
وكذلك لو قال : إن أصاب إنسان منكم أسيراً فهو له لأنه صرح بما يدل على التعميم في المصيب والمصاب وفي مثله لا فرق بين حرف الشرط وحرف من وقوله : إنسان .
لما لم يصمد عيناً به كان للجيش حتى إذا أصاب جماعة أسيراً واحداً فهو لهم باعتبار هذا المعنى .
ولو قال : من أصاب منكم عشرة أرؤس فهم له .
فأصاب رجل منهم عشرين رأساً فهم له كلهم .
للتصريح بما يوجب التعميم .
وهذا كله بمنزلة قوله : من أصاب شيئاً فهو له .
ولو قال : من أصاب عشرة أرؤس فله عشرهم .
فأصاب رجل عشرين فله عشر ما أصاب .
وذلك رأسان .
وكذلك لو قال : من أصاب عشرة أرؤس فله رأس منهم ثم أصاب رجل عشرين فله رأسان .
وإن أصاب عشرة فله رأس وإنما يعطى الوسط مما أصاب لا يعطى أرفعهم ولا أخسهم لأن الأمير أوجب له ذلك بإزاء منفعة المسلمين بعمله وذلك التسعة التي تبقى لهم وتسمية الرأس مطلقاً بمقابلة ما ليس بمال ينصرف إلى الوسط كما في الخلع والصلح عن دم العمد .
ولأن الإمام مأمور بالنظر له وللمسلمين وفي إعطاء أرفعهم إياه ترك النظر للمسلمين .
وفي إعطاء الأخس ترك النظر له@(2/187)
فيعطيه الوسط ليعتدل النظر .
وخير الأمور أوساطها .
وإن أصاب خمسة أرؤس أعطي نصف واحد من أوساطها اعتباراً للبعض بالكل .
فإن قيل : الإمام شرط لاستحقاقه المجيء بعشرة أرؤس والشرط لا ينقسم على المشروط باعتبار الأجزاء فإذا أتى بما دون العشرة ينبغي أن لا يستحق شيئاً .
قلنا : لا كذلك ولكنه أوجب له ذلك بمقابلة منفعة المسلمين بعمله فبقدر ما يحصل من المنفعة للمسلمين يعطيه من المسمى .
وهذا لأن المقصود من التنفيل التحريض على الأخذ والأسر .
وهذا المقصود لا يحصل إذا اعتبرنا الشرط صورة لأنه إذا تمكن من أخذ تسعة فلعم أنه لا يستحق شيئاً لو جاء بهم لم يرغب في ذلك لأنه يحتاج إلى معالجة ومؤنة فإذا علم أن نصيبه فيه كنصيب سائر الغانمين قل ما يرغب في التزام ذلك .
فإنما تمام معنى التحريض في اعتبار ما قلنا أنه يستحق بقدر ما جاء به .
أرأيت لو قال : من قتل منكم عشرة فله عشر أسلابهم .
فقتل تسعة أما كان يستحق المسمى بحساب ما قتل فكل أحد يعلم أنه لم يكن مقصود الإمام اشترط العشرة لأن الواحد قل ما يتمكن من قتل عشرة منهم أو أخذ عشرة أرؤس .
ولو أصاب رجلان عشرة أرؤس فلهما واحد من أوساطهم لأن تمام المنفعة المشروطة للمسلمين كان بهما .
فالمسمى يكون مشتركاً بينهما أيضاً .
ولو قال لرجل من أهل العسكر : إن أصبت رأساً فهو لك .
فأصاب رأسين لم يكن له إلا واحد منهما لأنه أخرج الكلام مخرج الخصوص في المصيب والمصاب فينتفي معنى العموم عنه فيهما .
ثم إن أصابهما على الترتيب فله أولهما وإن أصابهما معاً فله أن يختار أفضلهما لأنه لو لم يصب إلا الأفضل كان سالماً له فلا يحرم ذلك بإصابة آخر معه .
ولو قال : إن أصبت عشرة أرؤس فلك منهم رأس فأصاب عشرين لم يكن له إلا رأس واحد لاعتبار معنى الخصوص في كلامه .
فإن أصاب بعضهم قبل بعض فله@(2/188)
واحد من العشرة الأولى من أوساطهم وإن أصابهم معاً فله واحد من أوساطهم .
فإن قيل : لماذا لم يكن له أن يختار الأفضل هنا كما في المسألة المتقدمة قلنا : لأن هناك ما شرط عليه منفعة المسلمين بمقابلة ما أوجب له وهنا قد شرط ذلك عليه حين سمى له جزاء مما يأتي به فلهذا يعتبر الوسط هاهنا .
وإن أصاب خمسة فله نصف رأس من أوساطهم .
اعتباراً للبعض بالكل وتحقيقاً لمراعاة معنى التحريض .
ولو قال لعشرة من العسكر : إن أصبتم عشرة أرؤس فلكم منها راس .
فهذا وقوله للواحد سواء في جميع ما ذكرنا لأنه لما جمع بينهم في ذكر الإصابة فقد خصهم والتخصيص في المصيب يدل على التخصيص في المصاب لكونه مبنياً عليه .
ولو قال لعشرة : إن أصاب رجل منكم عشرة أرؤس فله منها واحد فأصاب رجل عشرين رأساً فله رأسان من أوساطهم لأنه أفرد كل واحد بالإصابة وجعل خطابه عاماً فيهم .
فتعميم الخطاب في المصيبين يثبت حكم العموم في المصاب كما لو خاطب به جميع أهل العسكر .
ألا ترى أن هنا لو أصاب كل رجل منهم عشرة أرؤس كان لكل رجل منهم رأس مما أصاب فكذلك إذا أصاب المائة واحد منهم يكون له عشرة أرؤس .
ولو قال لرجل واحد : ما أصبت من عشرة أرؤس فلك منهم واحد فأصاب عشرين فله رأسان من أوساطهم لأن كلمة ما توجب العموم ولا يمكن إثبات العموم به في المصيب لأنه خص الواحد به .
فأثبتنا العموم به في المصاب بخلاف قوله إن أصبت لأنه ليس في كلامه ما يوجب العموم صورة ولا معنى .
ولو قال لرجل من أهل العسكر : يا فلان إن قتلت هذا الذي برز من المشركين فلك سلبه .
فسمع ذلك رجل آخر من المسلمين فبرز للمشرك وقتله لم يكن له سلبه لأن الأمير خص به من خاطبه والاستحقاق باعتبار تنفيله .
والتنفيل قابل للتخصيص فيجعل في حق غيره كأن التنفيل لم يوجد أصلاً .
فلو قتله المخاطب بالتنفيل مع مسلم آخر كان للمخاطب نصف السلب والنصف الآخر في الغنيمة لأن كل واحد منهما قتل نصفه والبعض يعتبر بالكل في حق كل واحد من القاتلين .@(2/189)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=24 - TOP#TOPباب من النفل المجهول
ولو قال الأمير : من جاء منكم بشيء فله منه طائفة .
فجاء رجل بمتاع أو ثياب أو برءوس فذلك إلى الأمير يعطيه من ذلك بقدر ما يرى على وجه النظر منه لم جاء به ولأهل العسكر لأنه عبر عما يأتي به بأعم ما يكون من أسماء الموجودات وهو اسم الشيء فيتناول كل ما يأتي به .
وقد أوجب له طائفة من ذلك .
وذلك اسم لجزء مجهول .
إلا أن هذه الجهالة لا تمنع صحة الإيجاب فيما كان مبنياً علىالتوسع وبعد صحة الإيجاب البيان إلى الموجب أو إلى من يقوم مقامه .
والموجب الإمام هنا .
وهو مأمور بالنظر للكل .
فينبغي أن يبين على وجه يراعى النظر فيه ويكون ذلك البيان مقبولاً منه بمنزلة من أوصى للإنسان بطائفة من ماله فإن الوارث يعطيه من ذلك ما يشاء لأنه قائم مقام الموجب فإن لم يكن له وارث فميراثه للمسلمين .
ويكون ذلك إلى الإمام يعطيه ما يشاء على وجه النظر له وللمسلمين .
ولو قال : من جاء بشيء فله منه شيء أو له منه قليل أو يسير فهو على قياس ما سبق .
إلا أنه لا ينبغي للأمير هنا أن يبلغ ما يعطيه نصف ما جاء به لأنه أوجب له يسيراً مما جاء به أو قليلاً أو شيئاً منكراً وذلك دليل القلة أيضاً والقلة والكثرة من الأسماء المشتركة إنما تظهر بالمقاتلة .
فالقليل من الشيء دون نصفه حتى إذا قوبل بما بقي منه كان ما بقي أكثر .
ولو قال : من جاء بشيء فله منه جزء فذلك إلى الأمير أيضاً .
إلا أنه لا يزيده على النصف هنا وله أن يبلغ به النصف لأن أدنى ما يكون جزء من جزءين وذلك النصف .
ولو قال : بعضه فهو بمنزلة قوله : وله طائفة لأن الأقل والأكثر@(2/190)
يكون بعض الشيء وطائفة منه فليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك .
فلهذا كان الرأي فيه إلى الإمام .
ولو قال : من جاء بشيء فله منه سهم .
ففي قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه يعطيه سدس ما جاء به لأن السهم عنده عبارة عن السدس حتى قال : إذا أوصى رجل لرجل بسهم من ماله لم ينقص حقه عن السدس .
وذلك مروي عن ابن مسعود رضي الله عنه فأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في الوصية : له سهم كسهام أحد الورثة .
وهو قول شريح رحمه الله .
وقد بينا هذا في الوصايا .
وهنا على قياس قولهم : إذا قال فله سهم يعطيه قدر ما يرى بعد أن لا يزيده على النصف بمنزلة الجزء لأن الأدنى سهم من سهمين .
كجزء من جزءين .
وإن قال : فله سهم رجل من القوم كان له مقدار سهم راجل .
وإن كان في القوم فرسان ورجالة لأنه لا يعطى إلا القدر المتيقن وهو الأقل .
بمنزلة ما لو أوصى بسهم من ماله وقد ترك خمس بنين وخمس بنات فإنه يكون للموصى له سهم كسهم إحدى البنات حتى تكون القسمة من ستة عشر سهماً .
ولا يعطى إلا الأقل لكونه متيقناً به فكذلك هنا .
ثم في جميع هذا إذا أخذ نفله فالباقي بينه وبين أهل العسكر على سهام الغنيمة .
ولا يحرم سهمه باعتبار ما أوجب له من النفل .
فإن قيل : فإذا كان هو شريكاً فيما يأتي به كيف يستحق النفل هذا يمتنع إذا كان النفل عوضاً والغازي فيما ينكئ في العدو لا يستحق عوضاً بالشرط وإنما يستحق ذلك بطريق التنفيل للتحريض ثم هو شريك القوم فيما بقي باعتبار معنى الكرامة .
ولو قال : من جاء بألف درهم فله ألفا درهم .
فجاء رجل بما قال لم يكن له غير ما جاء به لأن معنى التحريض والنظر متعين في إيجاب جميع ما يأتي به له أو بعضه فأما الزيادة على ذلك فليس فيه من معنى التحريض شيء فلا يستحق .
وكذلك هذا في كل ما يشترط عليه المجيء به مما لا مقصود فيه@(2/191)
سوى العالية كالدنانير والوصفاء والأفراس وما أشبه ذلك .
فإنه إذا كان قيمة ما جاء به دون ما أوجب له لم يستحق إلا بقدر قيمة ما جاء به .
ولو قال : من جاء بأسير فهو له وخمسمائة درهم .
فهذا صحيح ويعطى الخمسمائة مما يغنمون بعد هذا .
بخلاف ما سبق لأن المقصود هنا الكناية في العدو بأسر المبارزين منهم وفيما تقدم لا مقصود سوى المالية ألا ترى أنه لو قال : من جاء ببطريق فهو له وألف دينار أو قال : من جاء بالملك فهو له وعشرون رأساً فجاء به رجل استحق من الغنيمة ما سمي له وإن كان أكثر مما جاء به لحصول معنى الكناية بفعله .
ألا ترى لو قال : من قتل الملك فله عشرة آلاف دينار فقتله رجل أعطي ذلك وإن لم يحصل للمسلمين بقتله شيء من المال .
ولو نظر إلى مشرك على سور الحصن يقاتل فقال : من صعد السور فأخذه فهو له وخمسمائة درهم ففعل ذلك رجل استحق ما سمي له لأن المقصود النكاية في العدو بفعله وقد حصل .
فإن وقع الرجل من فوق السور إلى الأرض خارجاً من الحصن في موضع يمتنع فيه من المسلمين فأخذه رجل من المسلمين أو قتله لم يكن له شيء لأن الأمير أوجب له ذلك إذا صعد السور فأخذه وقتله وفي ذلك من النكاية في العدو ما لا يحصل إذا قتله بعدما وقع على الأرض خارجاً من الحصن .
أرأيت لو وقع وسط المسلمين حيث لا يمتنع منهم فقتله رجل أكان يستحق شيئاً ولو وقع في داخل الحصن فصعد إليه رجل فأخذه أو قتله استحق النفل لأنه أتى بالمشروط عليه وزيادة .
ولو كان على السور على حاله فطعنه حتى رمى به إلى المسلمين في موضع يمتنع فيه من المسلمين@(2/192)
ثم أخذه فقتله كان له النفل لأنه أتى بالمشروط عليه معنى فإنه سقط من الحصن بفعله فكان هذا والصعود إليه قريباً من السواء .
ألا ترى أنه لو توهقه حتى جرده فألقاه من السور ثم قتله فإنه يستحق نفله .
ولو كان الأمير قال : من أخذه فهو له .
ولم يذكر صعوداً إليه .
فوقع من السور خارجاً من الحصن .
فإن كان في موضع لا يمتنع فيه من المسلمين فقد صار مأخوذاً بجماعتهم فلا يعتبر فيه فعل الأخذ بعد ذلك .
وإذا كان في موضع يمتنع فيه فإنما صار مأخوذاً بالآخذ فيكون له .
ولو قال : من صعد الحصن ثم نزل عليهم فله خمس مائة درهم .
ففعل ذلك رجل من استحق النفل .
لحصول النكاية .
وإن صعد فلم يستطع أن ينزل فرجع لم يكن له من النفل شيء لأن ما أتى به دون المشروط عليه في النكاية .
ولو كان المسلمون على ثلمة في الحصن فقال الأمير : من دخل فيها فله عشرة دنانير .
فدخل رجل ولم يقتل أحداً أخذ الدنانير لأنه أتى بما كان مشروطاً عليه .
والمقصود النكاية فيهم وقد حصل .
وإن دخل من ثلمة أخرى أو صعد حائطاً فنزل عليهم فإن كان فعل ذلك من موضع مثل هذا الموضع أو أشد فيما يرجع إلى جرأة الداخل والنكاية فيهم والمنفعة للمسلمين فله نفله لأنه أتى بالمشروط معنى وزيادة .
وإن كان ذلك الموضع أيسر في الدخول من هذا الموضع أو@(2/193)
أشد إلا أنه أقل منفعة للمسلمين لم يكن له النفل .
وهو الأصل فيما ذكر إلى آخر الباب .
أنه متى أتى بما هو أقل من المشروط عليه فيما يرجع إلى المقصود لا يستحق شيئاً .
وإن كان مثله أو فوقعه يستحق مقدار ما سمي له حتى إذا قال : من جاء بألف درهم جياد فله منها مائة فجاء بألف غلة لم يكن له شيء لأن المقصود هنا منفعة المال وما جاء به دون المشروط عليه .
ولو قال : من جاء بألف غلة فله منها مائة فجاء بألف جياد أخذ منها مائة غلة لأنه جاء بأنفع من المشروط عليه .
ولكن لا يستحق إلا المسمى لأن الاستحقاق باعتبار التسمية .
ولو قال : من جاء بألف جياد فهي له فجاء بألف غلة كانت له لأنه ما شرط للمسلمين علي منفعة هاهنا .
فإنما يعتبر الصفة فيما جاء به لأجل منفعة المسلمين .
فإذا كان المشروط له بعض ما جاء به اعتبر معنى المنفعة .
فإذا كان جميع ما جاء به فلا معتبر بالصفة فيه ولو قال : من جاء بألف إلى فيه له فجاء بألف نقد بيت المال كان له ألف غلة لأن الاستحقاق باعتبار التسمية وهو ما أوجبه له فجاء بألف نقد بيت المال كان له ألف غلة لأن الاستحقاق باعتبار التسمية وهو ما أوجبه له أكثر من ألف غلة فما زاد على صفة ما أوجب له يكون في الغنيمة .
وعلى هذا ذكر هنا بعده من قوله : من جاء بنقرة .@(2/194)
M0ا من النفل الذي يستحق بقتل القتيل وإذا قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فضرب مسلم مشركاً فصرعه وأجتز آخر رأسه فإن كان الذي ضربه قتله واجتز الآخر رأسه بعد الموت فالسلب للضارب لأنه هو القاتل .
فإن تمام فعل القتل بالمقتول .
وقد صار مقتولاً بضربته .
وإن كان لم يقتله وكان بحيث يقدر على التحامل مع ضربته أو العون بالكلام أو غيره فالسلب للذي أجتز رأسه لأنه هو القاتل .
فإنه بعد فعل الأول كان مضروباً مقتولاً .
وإنما صار مقتولاً بعد فعل الثاني .
والإمام لم يقل : من صرعه أو ضربه .
وإنما قال : من قتله .
فإن قيل : لولا فعل الأول لما تمكن الثاني من جز رأسه .
قلنا : ولولا خروجه إلى هذا الموضع ما تمكن القاتل من قتله فيه ثم بهذا لا يتبين أنه يكون قاتلاً نفسه .
أرأيت لو توهقه إنسان فرمى به عن برذونه ولم يخرجه فوثب آخر فجز رأسه أكان القاتل هو الأول لا ولكن القاتل من جز رأسه وإن كان لولا ما سبق من فعل الآخر لم يتمكن منه .
وكذلك إن كان ضربه الأول@(2/195)
بحيث يعلم أن آخره يكون إلى الموت إلا أنه ربما عاش يوماً أو يومين فاجتز آخر رأسه فالسلب للثاني لأنه هو القاتل حقيقة .
ألا ترى أن في نظيره في قتل العمد يكون القود على الثاني ويجعل فعله الثاني في حق الأول كالبرء لأنه قاطع لسراية فعل الأول .
واستدل عليه : بحديث عمر رضي الله عنه فإن الذي ضربه في المحراب أصاب مقتله حتى شرب اللبن فخرج من جرحه وعلم أن آخر أمره إلى الموت .
ومع هذا كن حياً ما لم يمت حتى لو مات له ولد ورثه عمر ولم يرث ذلك الولد منه شيئاً .
وإن كان الأول ضربه فنثر ما في بطنه فألقاه أو قطع أوداجه إلا أن فيه الروح بعد فاجتز الآخر رأسه فالسلب للذي ضربه لأنه صار بمنزلة الميت بفعل الأول والذي بقي فيه بمنزلة اضطراب المذبوح فلا يعتبر به .
ألا ترى أن الذئب لو عدى على شاة فقطع أوداجها أو نثر ما في بطنها ثم أدركها صاحبها فذبحها لم يحل أكلها وإن كانت تضطرب عند الذبح .
ومثله لو عقرها الذئب عقراً يعلم أن آخر ذلك الموت إلا أنها تعيش يوماً أو يومين فذبحها صاحبها جاز أكلها .
وهو معنى قوله تعالى : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }
وذلك مروي عن ابن عباس رضي الله عنه في شاة بقر الذئب بطنها فخرج قصبها فأدركها صاحبها فذبحها .
قال : لا بأس بأكلها .
وهذا لأن المتيقن به لا يتبدل إلا بمثله .
فالروح قبله كان متيقناً به فلا يحكم بموته إلا بفعل يتيقن به بأنه لا يبقى فيه الروح بعده وما يتوهم أن يعيش بعده يوماً أو أكثر ليس بهذه الصفة فلا يجعل مقتولاً بل إنما يجعل مقتولاً بحز الرأس .
فإن قال الذي اجتز رأسه : اجتززت رأسه قبل أن يموت وقال الضارب : بل اجتززت رأسه بعد ما مات فإنه يجعل القول قول من يشهد له الظاهر فإن كان فعل الضارب على نحو ما@(2/196)
ذكرنا من قطع الأوداج أو إلقاء ما في البطن فالقول قوله لأنا نتيقن أن فعله قاتله وفعل الثاني كذلك .
وعند المساواة في الأثر يترجح الأول بالسبق .
وإن كان فعل الأول بحيث يعاش من مثله يوماً أو أكثر فالقول قول الثاني والسلب له .
لأنا نتيقن أن فعل الثاني قتل ولا نتيقن به في فعل الأول ولا معارضة بين الأضعف والأقوى فإنما يحال بزهوق الروح على الأقوى الذي نتيقن به .
وإن كانت جراحة الأول مشكلة أو كان خفي عليه موضعها من الجسد أو أخذه أصحابه فاحتملوه فالسلب للذي اجتز رأسه لأنا نتيقن بأن فعله قتل وفي فعل الأول تردد إذا لم يوقف على صفته والمتردد لا يعارض المتيقن به لأن من علم حياته يقيناً لا يعمل يجعل ميتاً إلا بتيقن مثله وذلك بعد فعل الثاني .
ولو أن مسلماً احتمل رجلاً من المشركين عن فرسه حتى جاء به إلى صف المسلمين ثم ذبحه لم يكن له سلبه ولم يحل له أن يقتله لأنه لما جاء به إلى الصف حياً فقد صار هذا أسيراً للمسلمين ولا يحل قتل الأسير بغير إذن الإمام لأن للإمام في الأسير رأي بين أن يقتله وبين أن يجعله فيئاً .
ولم يكن مقصود الإمام من قوله : من قتل قتيلاً فله سلبه الأسير وكيف يكون قصده هذا وإنما نفل للتحريض .
وقتل الأسير بغير إذن الإمام لا يحل شرعاً .
فلو كان حين احتمله أنزله عن دابته فقتله بين الصفين كان له سلبه لأنه قتل مقاتلاً على وجه المبارزة فإنه لم يصر أسيراً بمجرد إنزاله عن دابته .
ألا ترى أنه لو أخذه لكان ينتصف منه في ذلك الموضع بخلاف الأول فإنه بعدما حصل في صف المسلمين فقد صار مقهوراً لا ينتصف من المسلمين وإن لم يكن مأخوذ هذا الرجل .
والذي يوضح الفرق أنه لو أسلم بعدما جاء به إلى صف المسلمين كان عبداً للمسلمين .
ولو أسلم بين الصفين بعدما أنزله عن دابته كان حراً لا سبيل عليه .
وكذلك لو توهقه حتى أنزله عن دابته ثم قتله بين الصفين فله سلبه فلو جره@(2/197)
بوهقة إلى صف إلى صف المسلمين ثم قتله لم يكن له سلبه إلا أن يكون المشرك ممتنعاً مع ذلك يعالج نفسه ويقاتله بعدما أتى به صف المسلمين فقتله فحينئذ يستحق سلبه لأنه لم يتم أسره بعد إذ كان ممتنعاً مقاتلاً .
ألا ترى أنه لو حمل فوقع في صف المسلمين وهو يقاتل مع ذلك فقتله إنسان استحق سلبه ولو أسلم حين وقع في الصف وألقى سلاحه ثم قتله رجل لم يكن له سلبه لأنه صار أسيراً مقهوراً بما صنعه .
ولو قال الأمير حين اصطف الفريقان للقتال : من جاء برأس فله مائة دينار .
فهذا جائز وهو على رءوس الرجل ليس على السبي لأن المقصود في هذه الحالة التحريض على القتال .
ومطلق الكلام يتقيد بما هو المعلوم من دلالة الحال .
فكل من قتل إنساناً وجاء برأسه استحق النفل من الغنيمة كما سمى له الإمام .
فإن جاء رجل برأس وقال : أنا قتله .
وقال آخر : بل أنا قتلته وهذا أخذ برأسه فالقول قول الذي جاء بالرأس لأن الظاهر شاهد له .
فإن تمكنه من جز رأسه والمجيء به دليل على أنه هو القاتل .
فالقول مع يمينه .
فإن قيل : بالظاهر يدفع الاستحقاق وحاجته إلى إثبات الاستحقاق .
قلنا : نعم ولكن التكيف بحسب الوسع وهو عند قتل المشرك لا يمكنه أن يشهد على ذلك شاهدين عادة فلا بد من تحكيم العلامة لاستحقاقه .
وإن أقام الآخر البينة أنه هو الذي قتله فالسلاب له لأنا علمنا أن مقصود الأمير التحريض على القتل وحث المبارزين على ما لا يقدر عليه غيرهم وذلك فعل القتل دون جز رأس المقتول فكأنه جعل قوله : من جاء برأس كناية عن هذا واللفظ متى صار مجازاً عن غيره بدليل سقط اعتباراً حقيقته .
أرأيت أنه لو قتل مشركاً فاجتره أصحابه إليهم .
فلم يقدر على@(2/198)
رأسه أو ضرب رأسه فأندره فوقع في نهر فذهب به الماء أكان لا يستحق السلب لهذا .
أرأيت لو ضرب رأسه فأندره فوقع في كف آخر أكان السلب للذي وقع في كفه .
لا ولكنه للقاتل .
ولو جاء برأس فقال بعض الناس : هذا رجل مات فاجتز رأسه .
وقال الذي جاء برأسه : بل قتلته فالقول قوله مع يمينه لأنا وجدنا معه علامة يستدل بها على أنه هو القاتل وتحكيم العلامة في مثل هذا أصل .
ولو قال بعض الناس : هذا رأس مسلم نظر إلى السيماء .
فإن كانت عليه سيماء المشركين فله النفل وإلا فلا لأن تحكيم السيماء فيما يحكم فيه بالعلامة أصل بدليل ما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فإن تحكيم السيماء في الصلاة عليهم والدفن .
وإن أشكل فلم يدر أرأس مسلم هو أو رأس مشرك لم يعط شيئاً حتى يعلم أنه رأس مشرك بدليل ما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فإن تحكيم السيماء فيما يحكم فيه بالعلامة أصل بدليل ما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فإن تحكيم السيماء في الصلاة عليهم ودفن .
وإن أشكل فلم يدر أرأس مسلم هو أو رأس مشرك يعط شيئاً حتى يعلم أنه رأس مشرك لأن معه علامة يستدل بها على أ ه مشرك وبدونه لا يستحق القاتل فما لم يعلم بما هو المشروط لا يستحق شيئاً .
وإن جاء برأس يزعم أنه قتله ومعه آخر يزعم أنه قتله فالقول قول الذي في يده الرأس مع يمينه .
فإن حلف أخذ النفل وإن نكل ففي القياس لا نفل لكل واحد منهما لأن الناكل قد صار مقراً أنه لا حق له ولم يجد مع الآخر علامة يستدل بها على أنه قاتل إذ الرأس لم يكن في يده وحاجته إلى نكول الناكل كإقراره .
ولو أقر أن القاتل هذا بعدما جحد أو قيل أن بجحد كان النفل له .
فكذلك إذا نكل عن اليمين والمعنى في الكل أن الذي جاء بالرأس مستحق للنفل بوجود العلامة معه فهو@(2/199)
بإقراره أو نكوله حول ما كان مستحقاً له إلى الثاني وذلك صحيح .
كمن أقر بعين لإنسان وقال المقر له : ليس لي ولكنه لفلان فإنه يكون للمقر له الثاني ويجعل محولاً إليه ما صار مستحقاً له بإقراره .
وكذلك لو جاء رجلان برأس وهما يزعمان أنهما قتلاه فالنفل بينهما سواء كان الرأس في أيديهما أو في يد أحدهما وهو مقر أنهما قتلاه لأن العلامة ظهرت في حقهما بتصادقهما أو بكون الرأس في أيديهما .
وإن قال الذي في يده الرأس : قتلته أنا وهذا الرجل وقال الآخر : قتلته دونه فالنفل لهما لأن العلامة لمن في يده الرأس .
وهو ما حول بإقراره إلى صاحبه إلا بنصف ما صار مستحقاً له .
فيبقى استحقاقه للنصف الآخر .
ولو جاء بالرأس وهما آخذان به وكان واحد منهما يقول أنا قتلته وحدي .
استحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لقطع المنازعة بينهما فإن نكل أحدهما فالنفل لصاحبه خاصة .
فإن حلفا فالنفل بينهما نصفان .
لاستوائهما في العلامة وهو المجيء بالرأس والاستحقاق مبني عليه .
ولو نظر المسلمون إلى رجل يجتز رأس مقتول فقال : أنا قتلته .
وحلف على ذلك أعطي نفله .
لوجود العلامة معه .
فإن كانوا رأوه جاء من موضع بعيد لا يقتله في مثل ذلك الموضع حتى اجتز رأسه وهو مقتول فهذا لا نفل له لأن تحكيم العلامة إنما يكون في موضع لا يعارضه دليل أقوى منه هاهنا وهو علمنا بأنه مقتول حال ما كان الرجل بالبعد منه على وجه لا يتمكن من ضربه .
والذي سبق إلى وهم كل واحد في هذه الحالة أنه كاذب .
فإن قال : إني كنت قتلته ثم قاتلت ثم رجعت إليه فجتززت رأسه لم يلتفت إلى قوله لأنه أخبر بما لا يشهد له@(2/200)
الظاهر به وبما ليس معه علامة يستدل به على صدقه .
فلو أعطي شيئاً إنما يعطى بمجرد الدعوى وذلك لا يجوز بالنص .
ولو كان الأمير قال حين انهزم : من جاء برأس فله مائة درهم .
فهذا أيضاً على رءوس الرجال لأن في انهزام المسلمين في آثارهم يقتلونهم .
فالظاهر أن المراد التحريض على الاتباع والقتل .
ولو قال الإمام : عنيت السبي لم يلتفت إلى قوله لأنه أضمر خلاف ما أظهر ولا طريق لهم إلى معرفة ما في ضميره فإنما يبنى الحكم في حقهم على ما أظهر وعلى ما عليه الغالب من الأمور إلا أن يبين فيقول : من جاء برأس من السبي فله كذا .
وإن كانوا قد انهزموا وتفرقوا وكف المسلمون عن القتل وقال الأمير : من جاء برأس فله كذا فهذا على السبي لأنه قد انقضى وقت القتال .
وإنما الآن وقت جمع الغنائم .
فعرفنا أن مراده التحريض على الطلب والجمع .
وإن قال : عنيت به رأس القتيل لم يلتفت إلى قوله لما بينا أن الحكم يبنى على ما هو الغالب من المراد في كل فصل .
ولو قال في حالة القتال : من جاء برأسين فله أحدهما فهذا فله أحدهما فهذا على السبي لأنه ملكه بعض ما يأتي به .
وذلك إنما يتحقق في السبي لا في رأس القتيل فإنه جيفة لا يحتمل التمليك ولا يحصل به معنى التحريض بخلاف ما إذا قال : فله مائة درهم لأن معنى التحريض على القتل هناك يحصل بما أوجب له .
ولو قال : بطريق القوم قتل .
فقال الأمير : من جاء برأسه فله مائة .
فإن كان في موضع لا يقدر عليه إلا بقتال فقاتل رجل من المشركين عن رأسه حتى جاء به فله النفل .
وكذلك إن كان في موضع يخالف فيه أن يقاتل المشركون عنه فأخذه وجاء به ولم يقاتلهم فله النفل لأنا نعلم أن مقصود@(2/201)
الأمير التحريض على أن يأتي برأسه فقد أتى به وفي هذا كبت وغيظ للعدوا لأنه قصد أن ينصب رأس بطريقهم حتى يعلم أنه قتل فتنكسر شوكتهم .
وهذا نوع من الجهاد فيستحق النفل عليه .
فإن تنحى العدو عن ذلك الموضع فذهب رجل حتى اجتز رأسه وجاء به من موضع لا يخاف فيه العدو فليس له قليل ولا كثير لأن فعله هذا ليس بجهاد وإنما هذا من الأمير على وجه الاستئجار بحمل الجيفة إليه ولم يصمد لقوم بأعيانهم وإنما قال : من جاء برأسه وفي مثل هذا الاستئجار باطل .
فإن عمد لرجل بعينه فقال : إن جئتني برأس البطريق فلك كذا أو لقوم بأعيانهم فقال : أيكم جاء برأسه فله كذا والمسألة بحالها .
فللذي جاء به أجر مثله لا يجاوز به ما سمي له لأن هذا كان من الإمام على وجه الاستئجار ولكنه أجارة فاسدة .
فإن مقدار العمل كان مجهولاً لأنه ما كان يعلم موضعه حين استأجره .
والحكم في الإجازة الفاسدة وجوب أجر المثل عند إقامته العمل ولا يجاوز به ما يسمى له لأنه قد رضي بالمسمى .
وإنما يعطيه ذلك من الغنيمة لأنه استأجره لمنفعة المسلمين .
فإن مقصوده أن ينصب رأسه لتنكسر قلوبهم فلا يكروا على المسلمين .
فهو بمنزلة ما لو استأجر رجلاً ليدلهم على الطريق أو يسوق الغنم أو الرمك أو ليحمل الأمتعة ويعطيه ذلك مما غنموا قبل هذا لأن استحقاقه على وجه الأجر لا على وجه النفل وإنما الذي لا يجوز التنفيل بعد إحراز الغنيمة فإما الاستئجار لمنفعة المسلمين من غنائمهم بعد الإحراز فصحيح .
والله أعلم .@(2/202)
وإذا قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فقتل رجل أجيراً من المشركين لم يكن يقاتل معهم فله سلبه لأن المقصود بهذا التنفيل التحريض على القتال .
فيتناول كل من يباح قتله منهم وقتل الأجير منهم مباح لأن بنية صالحة للقتال وهو يقاتل إذا احتيج إليه وإنما يتمكن القاتل من القتال بعلمه لأنه يهيئ له أسباب ذلك .
وكذلك لو قتل تاجراً منهم أو عبداً كان مع مولاه يخدمه أو رجلاً كان ارتد ولحق بهم أو ذمياً نقض العهد ولحق بهم لأن قتل هؤلاء كلهم مباح .
ولو قتل امرأة منهم لم يكن له سلبها لأن قتل النساء ممنوع منه شرعاً .
على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى امرأة مقتولة استعظم ذلك فقال : " هاه ! ما كانت هذه تقاتل وقد علمنا أن الأمير لم يرد بكلامه التحريض على قتل من لا يحل قتله .
إلا إذا علم أنها كانت تقتل فحينئذ له سلبها لأن قتلها مباح في هذه الحالة .
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعظم قتلها باعتبار أنها لا تقاتل .
وكذلك الغلام الذي لم يبلغ منهم إن قتله مسلم فليس سلبه لأن قتل الصبيان منهم لا يحل فعلمنا أن الأمير لم يرد ذلك بالتحريض .
إلا أن يعلم أنه يقاتل معهم .
فحينئذ يباح قتله وللقاتل سلبه .@(2/203)
ولو قتل مريضاً أو مجروحاً منهم فله سلبه سواء كان يستطيع القتال أو لا يستطيع لأنه مباح القتل في الوجهين فإنه يقاتل برأيه وإن كان عاجزاً عن القتال بنفسه في الحال لما به من المرض .
فإن قتل شيخاً منهم .
فإن كان شيخاً فاتياً لا يتوهم منه قتال بنفسه ولا برأيه ولا يرجى له نسل لم يكن له سلبه لأن مثل هذا لا يباح قتله .
وإن كان بحيث يرجى له نسل أو كان له في الحرب رأي فهذا يباح قتله على ما روي أن دريد بن الصمة قتل وهو ابن مائة وستين سنة ولكن كان ذا رأي في الحرب فإذا كان بهذه الصفة فلقاتله سلبه .
ولو قتل مسلماً كان في صف المشركين يقاتل المسلمين معهم لم يكن له سلبه لأن هذا وإن كان مباح القتل ولكن سلبه ليس بغنيمة لأن مال المسلم ومال المسلم لا يكون غنيمة للمسلمين بحال كأموال أهل البغي .
فإن كان السلب الذي عليه للمشركين أعادوه إياه فذلك للذي قتله لأن ما عليه من السلب غنيمة وهو مباح القتل في هذه الحالة فيدخل في تحريض الإمام عليه .
ألا ترى أنه لو صمد له نفسه فقال : إن قتلته فلك سلبه استحق ذلك فكذلك إذا عم به .
ولو قتل صبياً أو امرأة وسلبه لرجل من المشركين لم يكن له سلبه لأنه لو كان السلب للقتيل لم يستحقه لا باعتبار أنه ليس بمحل الاغتنام بل باعتبار أن كلام الإمام لم يتناوله أصلاً وفي هذا المعنى لا فرق بين أن يكون السلب الذي عليه ملكاً أو عارية .
ولو قتل رجلاً من المشركين يعلم أن سلبه لرجل آخر منهم أو امرأة أو شيخ أو صبي فالسلب للقاتل لأن الذي قتله مباح القتل والسلب الذي عليه محل الاغتنام لمن كان منهم فيستحقه القاتل بالتنفيل .
ولو كان السلب الذي عليه لمسلم أو معاهد غير ناقض للعهد لم يكن له سلبه لأنه ليس بمحل الاغتنام@(2/204)
وهذا إذا كان المسلم دخل إليهم بأمان .
فإن كان لرجل منهم أسلم ولم يهاجر فالسلب للقاتل في قول أبي حنيفة رضي الله عنه لأن من أصله أن بمجرد الإسلام يصير ماله معصوماً في الإثم دون الحكم بمنزلة نفسه فما التقوم والعصمة عن الاغتنام فإنما يكون بالإحراز بالدار ولم يوجد ذلك .
ألا ترى أنه لو خرج إلى دارنا وترك أمواله في دار الحرب ثم ظهر المسلمون على الدار كان جميع ماله فيئاً ولو لم يخرج حتى ظهر المسلمون على الدار فعقاره وعروضه فيء إلا ما كان في يده منه لأنه يصير محرز السبق يده إليه وهذا لا يوجد فيما أعاره من الحربي المقتول فلهذا استحقه القاتل بالتنفيل .
وكذلك إذا كان الحربي أخذ هذا السلب غصباً فقتله هذا المسلم كان له سلبه .
لما بينا أنه لا يد للمسلم عليه حتى يصير محرزاً له بها فيكون محل الاغتنام .
ولو أن عبداً من عبيد هذا الذي سلم قاتل المسلمين فأخذ كان فيئاً لأنه صار غاصباً نفسه من مولاه حتى قاتل المسلمين فلم يبق له عليه يد محرزة له فيكون فيئاً كغيره من أهل الحرب وهذا وغاصب السلب سواء .
فإن كان الحربي إنما عصب السلب من مسلم دخل إليهم بأمان والمسألة بحالها فالسلب للقاتل لأن الحربي بالغصب صار محرزاً لمال المسلم وهم يملكون أموالنا بالإحراز فيصير للقاتل بالتنفيل إلا أن لصاحب السلب أن يأخذه منهم بالقيمة إن شاء لأن التنفيل بمنزلة القسمة حين اختص المنفل له بملكه .
والمالك القديم إذا وجد عين ماله في الغنيمة@(2/205)
باب السلب الذي لا يحرزه المنفل له
ولو قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فرمى مسلم من صف المسلمين رجلاً في صف المشركين فقتله فله سلبه لأنه قتل مقاتلاً يحل له قتله وهو السبب لاستحقاق السلب بتنفيل الإمام .
فإن لم يعرض المشركون لسلبه حتى انهزموا فظفر المسلمون به قتيلاً عليه سلبه وعنده دابته فلذلك كله للقاتل لأن حقه تأكد فيه بمباشرة السبب ولم يعترض عليه ما يبطله إنما تأخر أخذه لعدم تمكنه أو لغفلة منه وذلك غير مبطل لحقه .
وإن كان المشركون أخذوا دابته وسلاحه والمسألة بحالها لم يكن للقاتل من سلبه شيء لأنه لم يحرزه حتى أخذه المشركون ولو كان محرزاً له فأخذه المشركون وأحرزوه بطل ملكه فكيف إذا لم يحرزه .
وبهذا تبين أن سبب استحقاقه قد انفسخ لأن الإمام إنما جعل القتل سبباً لاستحقاق السلب بالتنفيل لأن القاتل به يتمكن من الأخذ وقد زال هذا التمكن بأخذ المشركين إياه وبعد ما انفسخ السبب لا يكون له أثر في الحكم فيبقى هذا ما لهم وقع في أيدي المسلمين فهو غنيمة .
ولو لم يعلم أنهم أخذوا سلبه أو لم يأخذوه فما وجد عليه من سلبه فهو للقاتل وما وجد وقد نزع عنه فهو فيء لاعتبار الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة .
فإن كانوا جروه إليهم حين قتل وسلبه عليه ثم@(2/206)
انهزموا فهو للذي قتله لأنهم جروه لكيلا تطأه الخيول لا لإحراز سلبه ألا ترى أن المجروح من المسلمين إذا جر برجله من بين الصفين لكيلا تطأه الخيول عمات كان شهيداً لا يغسل وهذا إذا كان الذين جروه غير ورثته
فإن كان الوارث هو الذي جره فسلبه غنيمة لأن الظاهر أن الوارث إنما جره لإحراز سلبه .
فإنه يخلفه فيما كان له .
وقد كان هو محرزاً سلبه بلباسه فكذلك من يخلفه يجره إليهم .
فأما الأجنبي فما كان يخلفه في ملكه وإنما يكون محرزاً له إذا نزعه عنه لأنه يتملكه ابتداءً .
والملبوس تبع اللابس .
فإذا تركه عليه عرفنا أنه لم يقصد تملكه ابتداءً .
وإن لم يدر أن الذي جره كان وارثاً أو وصياً أو أجنبياً فالسلب للقاتل لأن سبب استحقاقه معلوم فما لم يعلم اعتراض ما يبطله يجب اعتباره في الحكم .
وكذلك إن وجدوا دابته عنده فهي للقاتل .
وإن وجدوها في يد رجل منهم كانت غنيمة لأن باعتراض يد أخرى عليها ينفخ حكم السبب الأول .
ولو وجدت بعدما سار العسكر منقلة أو منقلتين فهي للقاتل في القياس لأنه لا يظهر اعتراض يد أخرى مبطلة لحقه .
ولعها اتبعت العسكر عابرة من غير أن يأخذها أحد .
وفي الاستحسان هي غنيمة لأنها لم توجد في يد القتيل ولا في الموضع الذي كان يد القتيل عليها ثابتة فيه .
ولو أخذنا فيها بالقياس لزمنا أن نقول : هي للقاتل .
وإن ساروا شهراً فرجعوا إلى مدائنهم - وهذا يقبح - فالظاهر أنها لا تمشي عابرة هكذا ولكنها تقف للعلف أو تتحول يمنة أو يسرة عن الطريق فإذا سارت مستوية على الطريق عرفنا أن سائقاً ساقها فكانت غنيمة إلا أن نعلم أنها ذهبت عابة فهي للقاتل حينئذ لأنه لم تعترض عليها يد أخرى@(2/207)
وفعلها جبار لا يصلح أن يكون فاسخاً لسبب الاستحقاق الثابت للقاتل .
ولو أنهم أخذوا دابته فحملوا عليها القتيل مع سلاحه وساقوها منهزمين ثم ظفرنا بهم فذلك كله للقاتل لأنهم ما قصدوا إحراز ما عليه وإنما حملوه على دابته ليردوه إلى أهله .
فلا يكون ذلك غنيم لأن الابن لا يفعل ذلك إلا محرزاً له .
باعتبار أنه خليفة القتيل .
غيره يرد عليه وهو لا يرد على أحد .
وأحد الورثة في هذا المعنى كجماعتهم .
ألا ترى أنه يقوم مقام الميت في إثبات حقه وملكه وكذلك لو أوصى إلى رجل ففعل الوصي ذلك لأن الوصي خليفته بعد موته ففعله يكون إحرازاً كفعل الوارث سواء نزع منه سلبه أو لم ينزعه .
فإن كان الأجانب حين حملوه عليها مع سلاحه حملوا عليها أيضاً أمتعة لأنفسهم وساقوها فالدابة وما عليها غنيمة إلا ما على القتيل من السلب لأنهم قصدوا إحراز الدابة حين استعملوها في حوائجهم ولم يقصدوا إحراز سلبه حين لم ينزعوه عنه .
فإن كانوا علقوا عليها إداوة أو مخلاة فقط فالدابة وما عليها من سلب القتيل كله للقاتل لأن بهذا القدر لا يكونون محرزين لها .
فالإحراز بثبوت يدهم عليها .
وإنما تثبت اليد على الدابة بحمل مقصود بتعليق إداوة .
ألا ترى أن رجلين لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل وللأخر إداوة فإنه يقضى بها لصاحب الحمل المقصود .
ولو غيروا سرجها بإكاف أو بسرج غيره ولم يحملوا عليها غير القتيل وسلبه كله للقاتل لأن تغيير السرج بسرج آخر لا يكون دليلاً على أنهم قصدوا إحرازها أو أثبتوا أيديهم عليها .
وإنما يؤخذ في هذا ونحوه بما يكون عليه أكثر الرأي .
وما يكون فيه العلامات من أخذهم ذلك لأنفسهم أو غير ذلك .
والله أعلم .@(2/208)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=25 - TOP#TOPباب الاستثناء في النفل والخاص منه
وإذا قال الأمير : من أصاب ذهباً أو فضة فله من ذلك الربع .
فهذا على التبر والمضروب سواء كان من ضرب المسلمين أو المشركين لأن اسم الذهب والفضة يتناول الكل حقيقة .
والاستحقاق بناء عليه .
ألا ترى أنه لو استثنى بهذا الاسم وقال : من أصاب شيئاً فهو له إلا ذهباً أو فضة كان الكل مستثنى بهذا الاسم .
فكذلك إذا بني الإيجاب عليه .
ألا ترى أن وجوب الزكاة في الذهب والفضة باعتبار العين وكذلك وجوب التقايض عند مبادلة البعض بالبعض وحرمة الفضل عند اتحاد الجنس .
وكان التبر والمضروب في ذلك سواء .
وهذا بخلاف ما إذا حلف لا يشتري ذهباً أو فضة فاشترى دراهم أو دنانير لم يحنث .
لأنه عقد اليمين هناك على المشتري وذلك لا يتم إلا بالبائع .
وبائع المضروب يسمى صيرفياً .
وإنما يسمى بائع الذهب من يبيع غير المضروب فأما هاهنا فعلق الاستحقاق بحقيقة الاسم فعروضه من اليمين أن لو حلف لا يمس ذهباً ولا فضة .
وذلك يتناول المضروب وغير المضروب .
ثم الإيجاب بطريق التنفيل بمنزلة الإيجاب بالوصية .
ولو أوصى لغيره بالذهب أو الفضة من ماله يتناول ذلك المضروب وغيره ولو قال : من أصاب حديداً فهو له ومن أصاب غير ذلك فله نصفه .
فما أصاب رجل من الحديد تبراً أو إناء من حديد أو سلاح أو سكاكين أو سيوف فهو له كله لأن اسم الحديد لذلك كله .
فإن بالصنعة لا يتبدل اسم العين لأنه لا ينعدم به ما هو المقصود بالعين بل يتقرر وهو معنى البأس .
قال الله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فأما جفون السيف وأنصبة السكاكين وغلفها فله نصفه لأنه ليس بحديد .
فإنما يستحق النفل بقوله : ومن أصاب غير ذلك فله نصفه .
إلا أنه يؤخذ نصف ذلك منه أو نصف@(2/209)
قيمته إن كان نزع ذلك يضر به لأنه صاحب الأصل وحق الغانمين ثابت في نصف ما هو تبع .
إلا أن الضرر مدفوع عنه .
فإذا احتبس عنده لوجوب دفع الضرر عنه كان عليه قيمته .
بمنزلة بناء مشترك بين اثنين في أرض أحدهما فإن لصاحب الأرض أن يتملك على شريكه نصيبه من البناء بالقيمة لهذا المعنى .
ولو قال : من أصاب بزاً فهو له فأصاب ثوب ديباج أو بزبون أو أكسية صوف لم يكن له لأن اسم البز لا يتناول هذه الأشياء إنما يتناول اسم القطن والكتان خاصة .
ألا ترى أن البزاز في الناس من يبيع ثوب القطن والكتان وسوق البزازين الموضع الذي فيه ثوب القطن والكتان دون الديباج والكساء فكأنه بني على عادة أهل الكوفة .
فأما في ديارنا فمن يبع ثوب القطن والكتان يسمى كرابيساً .
فلو أصاب كتاناً أو قطناً غير مغزول أو مغزولاً غير منسوج لم يكن له من ذلك شيء لأن اسم البز يتناول الملبوس ولا يتناول الغزل عادة .
ألا ترى أن بائعه يسمى قطاناً وغزالاً ولا يسمى بزاراً ولو قال : من أصاب ثوباً فهو له فأصاب ثوب ديباج أو بزيون مما يلبسه الناس أو فرواً أن كساء فهو له لأن اسم الثوب عادة يطلق على ملبوس بني آدم فكل ما يلبسه الناس عادة فهو داخل في هذا الإيجاب ما خلا الخف والعمامة والقلنسوة لا يحصل بهما الاكتساء .
ألا ترى أن كفارة اليمين لا تتأدى بالكسوة إذا أعطي كل مسكين قلنسوة أو عمامة أو خفين إلا أن يجعل ذلك مكان الطعام إذا كان يساوي ذلك .
ومن حلف لا يلبس ثوباً فلبس عمامة أو قلنسوة لم يحنث .
ولو أصاب مسحاً أو بساطاً أو ستراً أو فراشاً لم يكن ذلك له لأن هذا لا يلبسه الناس عادة وإنما يتمتعون به في البيوت .
وإنما يتناوله اسم المتاع لا اسم الثوب .
حتى لو قال : من أصاب متاعاً فهو له استحق ذلك كله وملبوس الناس أيضاً لأن ذلك كله من المتاع فالمتاع اسم لما يستمتع به .
وكذلك يستحق الأواني عند إطلاق اسم المتاع وإن لم يذكره نصاً لأنه لو قال : من أصاب متاعاً دون الآنية فأصاب طاساً أو إبريق وقماقم وقدوراً من نحاس لم يكن له من ذلك شيء لأن هذا من الآنية وقد استثناها@(2/210)
من المتاع فهو دليل على أنه عند عدم الاستثناء يستحق ذلك كله .
ولو قال : من أصاب فضة أو ذهباً فأصاب سيفاً محلى بفضة أو ذهب كان له الحلية لأن الاسم يتناوله حقيقة .
ألا ترى أن حكم الصرف يثبت في حصة الحلية في البيع وكذلك إن أصاب سرجاً مفضضاً فله الفضة من ذلك كله خاصة .
ولو وجد أبواباً فيها مسامير فضة أو ذهب إن نزعت تفككت الأبواب لم يكن له من ذلك شيء .
قال : لأن الغالب غير الفضة والذهب .
يعني أن المسامير في حكم المستهلكة حين كانت مغيبة .
والمقصود من الذهب والفضة التزين بها وفي المسامير المقصود الانتفاع لا التزين بخلاف حلية السرج والسيف فهو - ظاهراً - يقصد به التزين .
ولأن المسمار صار تبعاً محضاً من حيث أنه إذا نزع لا يبقى اسم الباب والمصاب باب .
وفي العادة لا يسمى هذا باباً من ذهب وإن كان فيه مسامير ذهب بخلاف السرج واللجام فإنه يقال : إنه مفضض لما عليه من الفضة .
ولو وجد حلي فضة أو ذهب مرصعاً بفصوص أو خاتم فضة فيه فص فالفصوص كلها غنيمة لأن اسم الذهب والفضة لا يتناولها حقيقة .
والحلي له لأن اسم الذهب والفضة يتناوله حقيقة ولم يغلب عليه اسم آخر .
ألا ترى أن الصليب ينسب إلى ما صيغ منه من الذهب أو الفضة دون ما فيه من الفصوص .
ولو قال : من أصاب ياقوتاً أو زمرداً فأصاب حلياً مفضضاً فيه الياقوت والزمرد فأن ذلك ينزع ويدفع إليه لأن الاسم باق له حقيقة وإن ركب في الفضة أو الذهب لأنه لم يعترض عليه اسم آخر يزيله .
وكذلك لو أصاب خاتماً فيه فص ياقوت أو زمرد فإن ذلك يقلع ويدفع إليه@(2/211)
لأنه ليس في نزعه ضرر على المسلمين فيما هو المقصود لهم وهو المالية .
ولو قال : من أصاب حديداً فهو له .
فأصاب سرجه ركاباه من حديد نزع الركابان له لأن الاسم فيهما باق حقيقة .
يقال : ركاب من حديد وركاب من خشب وليس في النزع ضرر .
ولو كان في السرج مسامير حديد .
أو ضبة حديد إن نزعت تفكك السرج لم يكن له منه شيء لأن هذا بمنزلة المستهلك فيه على معنى أنه استعمل لمنفعة السرج لا للزينة بمنزلة المسامير في الأبواب .
ألا ترى أنه لو أصاب سفينة مضببة بالحديد إن نزعت تخلعت السفينة لم يكن له من ذلك شيء وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل إن كل شيء كن مستعملاً في عين آخر لا للزينة بل لينتفع به باسم غير الاسم الذي أوجب به المطلوب من الانتفاع بالعين ثم إن كان ينزع بغير ضرر فاحش نزع لحقه .
وإن تفاحش الضرر في نزعه بيع فيقسم الثمن على قيمة ما يتناوله النفل وقيمة ما لم يتناوله النفل بمنزلة ما لو انصبغ ثوب إنسان بصبغ غيره وأبى صاحب الثوب أن يغرم قيمة الصبغ فإنه يباع الثوب ويقسم الثمن بينهما على قيمة ملك كل واحد منهما .
ولو قال : من أصاب قزاً فهو له فأصاب قباء أو جبة حشوها قز لم يكن له ذلك لأن الحشو مغيب .
وكان المقصود من اتخاذه في البقاء والجبة الانتفاع به دون الزينة للرجال في غير حالة الحرب .
ولو قال قائل : يستحق هذا لم يجد بداً من أن يقول : إذا أصبا ثوباً سداه قز ولحمته غير القز أليس أنه يستحق السدي وهو بعيد جداً .
ولو قال : من أصاب ثوب قز فهو له فأصاب جبة ظهارتها أو بطانتها قز فله الثوب الذي هو قز منهما والآخر في الغنيمة لأن اسم الثوب يتناول كل واحد من الظهارة والبطانة على انفراد .
وأحدهما غير غالب على صاحبه بل كل@(2/212)
واحد منهما ظاهر على الحقيقة ومن حيث الحكم يكره للرجال ليس هذا الثوب فهو بمنزلة حلية السيف .
ثم يباع ويقسم الثمن كما بينا لأن الضرر فاحش في نزع الظهارة من البطالة .
ولو قال : من أصاب جبة حرير فهي له .
فأصاب جبة ظهارتها أو بطانتها حرير فالمعتبر الظهارة هاهنا لأن الجبة منسوبة إلى الظهارة عادة والبطانة في النسبة تبع للظهارة ثم الإيجاب له كان باسم الجبة .
وهذا الاسم لا يتناول الظهارة بدون البطانة فلهذا استحق الكل .
بخلاف ما سبق فالإيجاب هناك باسم الثوب والظهارة بدون البطانة تسمى ثوباً .
ولو قال : من أصباب ذهباً فهو له فأصاب ديباجاً منسوجاً بالذهب فإن كان الذهب مستعملاً في سدي الثوب فليس له منه شيء .
بمنزلة القز الذي هو سدي الثوب .
وإن كان الذهب فيه بيناً يرى فإنه يستحق الذهب دون غيره .
والطريق فيه البيع كما ذكرنا لأن المعتبر هو اللحمة دون السدي .
ألا ترى أن ما يكون سداه قزاً وإبريسماً يحل لبسه للرجال كالعتابى وما يكون لحمته إبريسماً لا يحل لبسه للرجال .
يوضحه أنه باللحمة يصير ثوباً .
فعرفنا أنه منسوب إلى اللحمة دون السدي .
ولو قال : من أصاب حريراً فأصاب جبة لبنتها من حرير أو ثوباً عمله من حرير لم يكن له منه شيء لأن هذا تبع محض .
ألا ترى أنه لا بأس بلبس هذا الثوب للرجال وكذلك لو قال : من أصاب ذهباً فأصاب ياقوتاً فيه مسمار ذهب أو خاتم فضة في فصها مسمار ذهب لم يكن له من ذلك شيء لأنه مضبب وتبع محض .
ألا ترى أنه لو أصاب أسيراً مضبب الأسنان بالذهب لم يكن له ذلك الذهب .@(2/213)
ولو أصاب أسيراً قد اتخذ أنفاً من ذهب كان له الذهب لأن الأنف بائن من جسده فإنه يربطه بخيط وينزعه متى شاء فلم يكن تبعاً محضاً .
بخلاف الأسنان وهذا كله استحسان .
وفي القياس : يستحق ذلك كله لبقاء الاسم حقيقة .
ولو قال : من أصاب ثوب خز فهو له .
فأصاب جبة خز بطانتها سمور أو فنك لم يكن له إلا الظهارة لأنه أوجب باسم الثوب .
وقد بينا في هذا أن البطانة لا تكون تبعاً للظهارة في القز .
فكذلك في الخز ولو كان التنفيل باسم الجبة كان الجواب كذلك ههنا .
لأن السمور والفنك لا يكون تبعاً للخز في النسبة بحال .
وكذلك لو قال : من أصاب ثوب فتك فله الفنك دون الظهارة لأن اسم الثوب والجبة يتناول الفنك بدون الظهارة والظهارة لا تتبع البطانة في النسبة .
ولو قال : من أصاب شيئاً من البزيون .
فأصاب جبة البدن منها بزيون والكمان والدخاريص ديباج فله البدن خاصة لأن بعض هذا ليس يتبع للبعض .
فلو كانت كلها بزيوناً إلا اللبنة فهي للمصيب كلها لأن اللبنة تبع محض .
ولو قال : من أصاب جبة بزيون فأصاب جبة بدنها بزيون وما سوى البدن ديباج أو على عكس ذلك للم يكن له منها شيء لأن ما أصاب ليس بجبة بزيون .
ألا ترى أنه إذا نزع منها الديباج لا يسمى ما بقي جبة .
وإنما جعل الشرط إصابة جبة بزيون .
ولو قال : من أصاب فضة أو ذهباً .
فأصاب قصعة مضببة بهما .
فإن كان جعل ذلك للزينة فله الذهب والفضة .
وعلامة ذلك أنها لو نزعت تبقى قصعة .
وإن كانت الضبة جعلت لكسر القصعة@(2/214)
بحيث لو نزعت لم تكن قصعة أو سقط منها كسرة .
فهذا بمنزلة المسامير لأنها استعملت فيها للمنفعة لا للزينة .
فكانت تبعاً محضاً .
ولو قال : من أصاب شعراً فهو له فأصاب جلود معز عليها الشعر أو أنماط شعر أو ستر شعر أو مسوحاً لم يكن له ذلك لأن اسم الشعر لا يتناول غير المحلوق من الجلد عادة ولا يتناول الثوب المتخذ من الشعر .
بمنزلة اسم القطن والكتان فإنه لا يتناول الثوب المتخذ منه .
ألا ترى أنه لا مجانسة بين مثل هذا الثوب وبين الأصل الذي اتخذ منه فعرفنا أنه بالصنعة صار شيئاً آخر .
ولو قال : من أصاب خزاً فأصاب جلود خز أو خزاً قد فإن قيل : بعد الحلق أينسب الجلد إلى الخز فيقال : هو خز بخلاف جلود المعز والضأن فإنها لا تنسب إلى ما عليها من الشعر والصوف لأن أحداً لا يقول جلد الصوف .
ولو أصاب ثوب خزز فهو له لأن الثوب منسوب إلى الخز مطلقاً بخلاف ما لو قال : من أصاب صوفاً أو بزيوناً فأصاب ثوب بزيون أو ثوب صوف لأن بعد النسج لا يسمى صوفاً ولا بزيوناً مطلقاً بل مقيداً بالثوب بمنزلة القطن والكتان .
ولو أصاب خزاً مغزولاً كان له لأن بعد الغزل يسمى خزاً مطلقاً بخلاف القطن والكتان فصار الحاصل في الخز أن الاسم ينطلق عليه على أي وجه كان .
ولو قال : من أصاب جبة خز أو جبة مروية فهي له فأصاب جبة بطانتها وظهارتها فنك أو سمور فهي غنيمة وكذلك لو كانت ظهارتها مروية وبطانتها من فنك أو سمور لأن هذه تنسب عادة إلى الفنك والسمور دون الخز والمروي .
على معنى أن الاسم ينطلق على الفنك والسمور مقصوداً دون الظهارة فإنه يسمى جبة ولا ينطلق على الخز والمروي .
على معنى أن الاسم ينطلق على الفنك والسمور مقصوداً دون الظهارة فإنه يسمى جبة ولا ينطلق على الخز والمروي الذي هو ظهارة بدون البطانة .
فإنما الأصل في النسبة ما يتناوله الاسم وحده دون ما لا يتناوله الاسم وحده .
وإن أصاب جبة خز بطانتها مروية أو قوهية .@(2/215)
كانت له الظهارة دون البطانة .
من قبل أن هذه الجبة لا تنتسب إلى البطانة إذ البطانة بانفرادها لا تسمى جبة .
وقد ينطلق اسم الجبة على الظهارة من الخز بغير البطانة .
فلهذا يستحق الظهارة دون البطانة .
وقد ذكر قبل هذا في الحرير أنه يستحق الظهارة والبطانة جميعاً .
فقيل : فيه روايتان وقيل : بينهما فرق لأن الظهارة من الحرير بدون البطانة لا تسمى جبة حقيقة ولا مجازاً ومن الخز تسمى جبة وإن كان مجازاً .
فإذا كانت البطانة من سمور أو فنك يستعمل اللفظ حقيقة فيسقط اعتبار المجاز .
وإذا كان مروياً فقد تعذر استعمال اللفظ حقيقة فيستعمل بطريق المجاز ويجعل له الظهارة خاصة .
ألا ترى أنه لو قال : من أصاب جبة خز أو سمور أو فنك .
فأصاب شيئاً من ذلك ظهارته وشي أو حرير لم يكن له الظهارة وكان له ما سوى ذلك لأن اسم الجبة يتناول ما سوى الظهارة إما حقيقة أو مجازاً والظهارة لا تكون تبعاً للبطانة بحال .
ولو قال : من أصاب قلنسوة ظهارتها على ما قال وبطانتها وحشوها من غير ذلك كان له الكل لأنها لا تكون قلنسوة بدون البطانة والحشو .
ولو صمد الجبة على رجل بعينه فقال : من أصاب هذه الجبة الخز فهي له .
فأصابها إنسان فإذا هي مبطنة بفنك أو سمور فالكل للمصيب هاهنا لأنه بنى الاستحقاق هنا على اليقين بالإشارة دون الاسم والنسبة فكل واحد منهما للتعريف .
إلا أن التعريف بالإشارة يسقط اعتبار النسبة لأن الإشارة أبلغ بخلاف جميع ما سبق .
واستوضح هذا بالوصية بجبة الخز والجواب فيه كالجواب في النفل .
ولو قال : من أصاب جبة مروية فهذا على الظهارة .
لما بينا أن النسبة إلى الظهارة وهي لا تسمى جبة بدون البطانة@(2/216)
والحشو يتبع لهما فيستحق الكل .
ولو قال : من أصاب جبة خز فاصاب جبة خز بطانتها غير الخز وهي محشوة بقز أو قطن فله الظهارة خاصة لأن الظهارة من الخز تسمى جبة بانفرادها مجازاً .
فلا يستحق البطانة بهذا الاسم وإذا لم يستحق البطانة لم يستحق الحشو .
ولو قال : من أصاب قباء مروياً فأصاب قباء بطانته غير مروي وحشوه كذلك فله الظهارة وحدها هناك تسمى قميصاً لا جبة .
ولو كانت الظهارة والبطانة مرويتين والحشو من غيره استحق الكل لأنه لما استحق الظهارة والبطانة استحق الحشو تبعاً .
الا ترى أنه لو قال : من أصاب قباء استحق الحشو تبعاً للظهارة والبطانة وإن لم يكن الحشو قباء فكذلك عند التقيد يستحق الحشو وإن لم يكن مروياً .
والسروايل بمنزلة القباء في جميع ما قلنا لأنه لا يسمى سراويل مبطناً كان أو غير مبطن .
باب النفل من أسلاب الخوارج وأهل الحرب يقاتلون معهم بأمان أو بغير أمان
قال : أمان الخوارج لأهل الحرب جائز كأمان أهل العدل لأنهم مسلمون من أهل فئة ممتنعة وبيان هذا الوصف في قوله تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الحجرات : 9 وفي قول @(2/217)
علي رضي الله عنه : إخواننا بغوا علينا ثم أمان الواحد من المسلمين كأمان جماعتهم لأن أهل الحرب لا يقفون على السبب الموجب للقتال بين أهل العدل وأهل البغي حتى يميزوا أهل العدل من أهل البغي فيستأمنوا منهم فإذا استأمنوا من أهل البغي فقد سالمونا على أن ينجزوا فينا وذلك أمان نافذ .
فلا ينبغي لأهل العدل أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم .
إن كانوا في منعة أو يبلغوهم مأمنهم إن كانوا في غير منعة .
ولو استعان الخوارج بأهل الحرب على قتال أهل العدل فخرجوا إليهم فظهر عليهم أهل العدل سبوا أهل الحرب ولا يكون استعانة الخوارج بهم أماناً لهم .
من أصحابنا من قال : كان ذلك أماناً لهم .
ولكنهم حين قاتلوا أهل العدل صاروا ناقضين لذلك الأمان وهذا غلط فإنهم لو أمنوهم ثم قاتلوا معهم أهل العدل لم يكن ذلك نقضاً للأمان إذا كانوا تحت راية الخوارج على ما ذكره بعد هذا ولكن .
الوجه فيه أنهم ما خرجوا مسالمين للمسلمين إنما خرجوا مقاتلين .
أما في حق أهل العدل فغير مشكل وأما في حق الخوارج فلأنهم انضموا إليهم ليعينوهم لا ليكونوا في أمان منهم .
ألا ترى أن الجيش في دار الحرب يعين بعضهم بعضاً من غير أن يكون بعضهم في أمان من بعض فإذا ظفرنا بهم كانوا فيئاً سواء قاتلونا مع الخوارج أو لم يقاتلونا .
ولكن إن أراد الخوارج قتلهم وأخذ معهم أهل العدل أو لا يتمكنون من ذلك إلا بهذا .
ومن ضمن لغيره شيئاً فعليه الوفاء بذلك .
فإن سبوهم وأخذوا أموالهم لم يحل لنا أن نشتري شيئاً من ذلك لأنها جعلت لهم بسبب حرام شرعاً .@(2/218)
ولو اشتراها مشتر جاز شراؤه لأن العصمة ليست لعصمة المحل بل لمعنى الغدر .
فلا يمنع ذلك ثبوت الملك وصحة الشراء من المتملك .
وهو بمنزلة مسلم يدخل إليهم بأمان كأنه لا يكون معطياً لهم أماناً بهذا ولكن يكره له أن يسبي بعضهم ويأخذ شيئاً من مالهم لما فيه من معنى الغدر .
فإن فعل ذلك أمر برده ولم يجبر عليه في الحكم وإن اشترى رجل منه ذلك المال جاز الشراء مع الكراهية .
فإن قاتلوا فقال أمير أهل العدل : من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل رجل قتيلاً من الخوارج لم يكن له سلبه لأنهم مسلمون وأموالهم محرزة بدار الإسلام فلا تكون غنيمة .
وإن قتل حربياً فله سلبه لأنهم مسلمون وأموالهم محرزة بدار الإسلام فلا تكون غنيمة .
وإن قتل حربياً فله سلبه لأن ماله مباح الاغتنام إذا لم يكن له أمان من جهة أحد من المسلمين .
فإن أخذ أهل الحرب رقيقاً وأموالاً من أهل العدل فأحرزوها بمنعة الخوارج ثم أسلموا فعليهم رد جميع ما أخذوا لأنهم لم يحرزوها بدارهم وإنما يملكون أموالنا بالإحراز بدارهم .
ولو كانت المنعة لهم في دارنا فأحرزوا المال بها لم يملكوها .
فإذا كانت للخوارج فأولى أن لا يملكوها .
فإن كانوا أدخلوها دارهم ثم أسلموا أو صاروا ذمة فهي له لأنهم ملكوها بتمام الإحراز .
وقال عليه السلام : " من أسلم على مال فهو له " .
ولو أصابوا من نساء أهل العدل وصبيانهم لم يسع الخوارج تركهم يذهبون بهم إلى دار الحرب لأنهم ظالمون في حبس أحرار المسلمين .
وليس عليهم الوفاء لهم بالتقرير على الظلم ولكنهم يأمرونهم بتخلية سبيلهم .
فإن أبوا قاتلوهم لاستنقاذ ذراري المسلمين من أيديهم لم يسعهم غير ذلك .
ألا ترى أن المسلمين في دار الحرب@(2/219)
إذا تمكنوا من استنقاذ ذراري المسلمين من أيديهم لم يسعهم غير ذلك .
وكذلك لو أرادوا إدخال الأموال دارهم فالواجب على الخوارج أخذ ذلك منهم ليردوها على أهلها لأنهم لم يملكوها قبل الإحراز فهم ظالمون في حملها بخلاف المستأمن في دار الحرب لأن هناك قد ملكوا المال بالإحراز وهو قد ضمن أن لا يتعرض لهم في أخذ أموالهم فلا يسعه أن يأخذها وإذا علم هذا الحكم في الأموال في حق الخوارج ففي الإحراز أولى .
وإن كانوا استهلكوا ما أخذوا من أموال أهل العدل ثم أسلموا لم يضمنوا شيئاً من ذلك لأنهم فعلوه وهم محاربون ولأنهم حين انضموا إلى أهل البغي كانوا بمنزلتهم في هذا الحكم وأهل البغي إذا استهلكوا أموال أهل العدل ثم تابوا لم يضمنوا فكذلك أهل الحرب .
وعلى هذا لو كان الذين أعانوهم على المسلمين لم يكونوا خوارج ولكنهم لصوص غير متأولين لأن في حق أهل الحرب حكم سقوط الضمان لا يختلف بالتأويل وعدم التأويل إنما ذلك فيما بين المسلمين .
فأما أهل الحرب فلا يضمنون في الوجهين لأنهم فعلوه وهم محاربون .
ولو استعار بعضهم من بعض السلاح ثم قال أمير أهل العدل : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فقتل خارجي عليه سلاح حربي أو على عكس ذلك لم يكن السلب للقاتل في الوجهين .
أما إذا كان سلاح الخارجي على الحربي فلأن هذا المال ليس بمحل للاغتنام .
وأما إذا كن سلاح الحربي على الخارجي فلأنه حين استعاره منه وأثبت يده على ذلك المال فقد ثبت حكم الأمان فيه .
ألا ترى أنهم لو بعثوا إلى أهل الحرب فاستعار منهم سلاحاً أو كراعاً فأخرجوه إليهم أنه يثبت حكم الأمان في ذلك المال لحصوله في يد الخوارج حتى لا يكون غنيمة فكذلك ما سبق إلا أن أهل العدل@(2/220)
إذا ظفروا بذلك لم يردوه على أهل الحرب .
ولكنهم يبيعونه ويقفون ثمنه حتى يجيء أصحابه من أهل الحرب فيأخذون الثمن .
ومن استهلك من أهل العدل شيئاً لم يضمن كما هو الحكم في أموال أهل البغي إذا وقعت في يد أهل العدل .
وهذا لأن ثبوت الأمان في هذا المال بثبوت يد أهل البغي عليه .
واليد لا تكون فوق الملك .
ولو ملكوها من أهل البغي كان الحكم فيه هذا ولو لم يبع ذلك أهل العدل حتى تفرق الخوارج ثم جاء أصحاب السلاح والكراع من أهل الحرب يطلبون ذلك ففي القياس : يرد عليهم ذلك ليردوهم إلى دارهم لأن حكم الأمان كان ثابتاً في هذا المال من جهة بعض المسلمين ولأنه بمنزلة مال الخوارج وهو مردود عليهم بعدما تفرق جمعهم ولم يبق لهم فئة .
وفي الاستحسان يجبرون على بيعه في دار الإسلام وأخذ ثمنه لأنه صار محبوساً في يد أهل العدل والكراع والسلاح بعدما صار محتبساً في دار الإسلام لا يمكن الكافر من رده إلى دار الحرب فيتقوى به على المسلمين .
وهو قياس ما لو كانوا عبيداً فأسلموا .
يوضحه أن هذا المال لو كان للخوارج لم يجز رده عليهم مع بقاء توهم الاستعانة على قتال المسلمين إن كانت منعتهم باقية فكذلك لا يجوز رده على أهل الحرب ليستعينوا به على قتال المسلمين فإن منعة أهل الحرب باقية .
ولو أن الخوارج أمنوا تجاراً دخلوا عسكرهم من أهل الحرب ثم استعاروا منهم كراعاً أو سلاحاً أو أخذوا منهم غضباً ثم قتل رجل من الخوارج عليه ذلك السلاح بعد تنفيل الإمام فإن سلبه لا يكون للقاتل لأن بأمانهم صار هذا المال معصوماً من الاغتنام فإن أمانهم في ذلك كأمان أهل العدل يبيعون ما أصابوا م ذلك ويقفون ثمنه حتى يجيئوا فيأخذوه .
وإن احتاج أهل العدل إلى أن يقاتلوا بشيء من ذلك فلا بأس للإمام أن يدفع إليهم ليقاتلوا به عند الحاجة @(2/221)
لأن هذا المال لو كان عنده للمسلمين جاز له أن يفعل ذلك عند الحاجة فإذا كان للمستأمنين فأولى .
ولأن المستأمنين حين أعاروهم هذا المال ليقاتلوا به أهل العدل فقد رضوا بأن يكون هذا بمنزلة أموال الخوارج في حقنا .
ولو ظفرنا بأموال الخوارج جاز أن نفعل به هذا فكذلك في أموال المستأمنين إذا كانوا هم الذين أعاروهم .
وإن كانوا أخذوا ذلك منهم غصباً فليس ينبغي لإمام أهل العدل أن يدفعه إلى أحد من أهل العدل ليقاتل لأنه لم يوجد من المستأمنين الرضا بأن يقاتل أحد بمالهم .
والعصمة ثابتة في أموالهم بسبب الأمان بخلاف الأول فقد رضوا هنالك بأن يقاتل بمالهم .
وعلى هذا لو استهلك بعض أهل العدل ذلك المال هنا ضمنه للمستأمنين وفي الفصل الأول لم يضمنه كما لا يضمن مال الخوارج .
وكذلك لا ينبغي لأمير أهل العدل أن يبيع هذا المال هنا إلا أن يخاف التلف عليه فيبيعه حينئذ لأن عين المال محفوظ على المستأمنين كما هو محفوظ على المسلم .
فهذا بمنزلة مال لبعض أهل العدل في يده وصاحبه غائب فيحفظ عينه إلا أن يتعذر ذلك فيبيعه ويحفظ ثمنه عليه .
فإن تفرق الخوارج قبل أن يبيع الإمام ذلك فإنه يرد المال في الفصلين على أصحابه ليردوه إلى دار الحرب لأن هذا بمنزلة مال الخوارج .
وهناك يرد عليهم عين مالهم بعد ما تفرقوا .
ولأنهم أعطوا المال هنا إلى الخوارج بعدما ثبت العصمة فيها بالأمان فلا يحبس في دارنا بمنزلة ما لو كان الأمان لهم من أهل العدل ثم أعاروا الخوارج كراعهم وسلاحهم .
ولو أن الخوارج أمنوا قوماً من أهل الحرب على أن يقاتلوا معهم أهل@(2/222)
العدل فخرجوا فقاتلوا أو لم يقاتلوا حتى ظهر أهل العدل عليهم فليس يقع على أهل الحرب سبي ولا تكون أموالهم غنيمة لأنهم حين أعطوهم الأمان فقد ثبت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم وبسبب القتال لا ينبذ ذلك الأمان لأنهم قاتلوا بمنعة الخوارج .
فكما أن القتال من الخوارج لا يكون نقضاً لأمانهم فكذلك القتال من المستأمنين معهم لا يكون نقضاً للأمان .
ولكن حكمهم كحكم الخوارج فيما يحل منهم وما يحرم وفي حكم التنفيل في السلب .
وهذا بخلاف ما سبق إذا قالوا لهم : اخرجوا فقاتلوا معنا ولم يذكروا الأمان لأن أولئك لم تثبت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم فإن انضمامهم إلى الخوارج للقتال معنا لا يوجب ذلك .
ولو أن الخوارج كانوا هم الداخلين عليهم في دار الحرب فأمن القوم بعضهم بعضاً ثم ظهر عليهم أهل العدل فإن كان أهل الحرب في عزهم ومنعتهم فهم فيء .
ومن قتل منهم قتيلاً فله سلبه لأنهم في عزهم ومنعتهم لا يكونون مستأمنين وإنما الخوارج هم المستأمنون إليهم ولأنهم حين قاتلوا في منعتهم ودارهم فقد انتبذ الأمان الذي كان بيننا وبينهم فكانوا أهل حرب ظفرنا بهم .
وإن كانوا خرجوا إلى عسكر الخوارج بأمان وكانوا غير ممتنعين إلا بمنعة الخوارج فإنه لا يقع على أحد منهم سبي لأنهم مستأمنون في منعة الخوارج والمستأمن في عسكر المسلمين في دار الحرب كالمستأمن في دار الإسلام في حكم العصمة .
ولأن الأمان لم ينبذ بقتالهم حين لم يكونوا أهل منعة بأنفسهم .
ولو أن الخوارج طلبوا إلى تجار أهل الحرب مستأمنين فيهم أن يعينوهم على أهل العدل فأنعموا لهم وعلم ذلك أهل العدل لم@(2/223)
يحل لهم التعرض لهم بقتل ولا أخذ مال حتى ينصبوا الحرب لأهل العدل لأنهم مستأمنون فحكمهم كحكم أهل الذمة ولو أن أهل الذمة قصدوا أن يقاتلوا المسلمين فما لم يظهروا ذلك لا يحل التعرض لهم ولأنهم حين أنعموا للخوارج كانوا بمنزلة الخوارج والخوارج ما لم ينصبوا لقتال أهل العدل لا يحل التعرض لهم في نفس أو مال .
فإن قاتلوا فحكمهم كحكم الخوارج فيما يحل ويحرم لأنه قاتلوا تحت راية الخوارج فلا ينتبذ أمانهم بذلك .
ولو كان أهل الحرب قالوا لمسلم : أنت آمن فادخل إلينا فدخل لم يحل له أن يتعرض لشيء من أموالهم إن كان من أهل العدل أو من الخوارج لأنه ضمن أن لا يتعرض لهم وعليه الوفاء بما ضمن لقوله عليه السلام : " وفاء لا غدر فيه " .
وكذلك إن لم يدخل إليهم حتى أمنهم وأمنوه وهذا أظهر من الأول في حقه لأنهم في أمان صحيح من جهته .
إلا أن في هذا الفصل ليس لإمام المسلمين أن يعرض لهم بشيء ولا أخذ مال حتى ينبذ إليهم فإن فعل ذلك كان ضامناً لجميع ما استهلك بخلاف الأول لأن القوم هنا في أمان صحيح من جهة واحدة من المسلمين .
فإنه أمنهم وهو في منعة المسلمين فصح أمانه وفي الأول للإمام أن يقاتلهم من غير نبذ لأنه أمنهم المسلم ولكنهم أمنوه إلا أن من ضرورة كونه في أمانهم أن لا يعرض لهم كما لا يعرضون له وليس من ضرورته أن يكونوا في أمان من المسلمين .
ولو سأل الخوارج من أهل الحرب أن يعينوهم على أهل العدل فقاتلوا : لا نعينكم إلا أن يكون الأمير منا ويكون حكمنا هو الجاري .
ففعلوا ذلك .
ثم ظهر عليهم أهل العدل فأهل الحرب وأموالهم فيء .
أما إذا كانت الخوارج لم يؤمنوهم فالجواب ظاهر .
لأنهم أهل حرب لا أمان لهم .
وأما إذا كانوا أمنوهم@(2/224)
حتى خرجوا فلأنهم نقضوا ذلك الأمان حين قاتلوا أهل العدل لمنعتهم وتحت رايتهم بخلاف ما تقدم فهناك إنا قاتلوا تحت راية الخوارج وكان حكم الخوارج هو الجاري فلم يكن ذلك نقضاً لأمانهم .
وأما أموال أهل البغي فهي مردودة عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها لأن مال المسلم لا يكون غنيمة في دار الإسلام للمسلمين بحال .
وحكم تنفيل السلب على هذا .
حتى إذا قتل خارجي وعليه سلاح حربي فهو للقاتل لأنه لا عصمة في أموال أهل الحرب هنا .
فإن قتل خارجي لم يكن للقاتل لأنه مال معصوم عن الاغتنام .
واستوضح هذا بما : لو اجتمع قوم من المستأمنين في دار الإسلام فأمروا عليهم أميراً أو امتنعوا وقاتلوا المسلمين فإنه يكون ذلك نقضاً لأمانهم .
بخلاف ما إذا لم يكونوا أهل منعة ففعلوا ذلك .
وحكمهم في هذا كحكم أهل الذمة .
وكذلك إن كان أهل الحرب الذين دخلوا لإعانة الخوارج قاتلوا أهل العدل من ناحية وقاتلهم الخوارج من ناحية أخرى .
فإن كان أهل الحرب أميرهم منهم وهم ممتنعون بغير منعة الخوارج فهم فيء إذا ظهرنا@(2/225)
عليهم لأنهم صاروا ناقضين للأمان باعتبار منعتهم .
وإن كانت منعتهم بالخوارج فحكمهم حكم الخوارج وإن كان أميرهم منهم لأن التمكن من القتال بالمنعة لا بالأمير .
ولو أن عشرة من الخوارج لا منعة لهم آمنوا عشرة من أهل الحرب على أن يخرجوا فيغيرون معهم فهؤلاء إذا وقع الظهور عليهم لا يجري عليهم السبي .
ولا تكون أموالهم غنيمة لأنهم في أمان قوم من المسلمين .
وما نقضوا ذلك الأمان بالإغارة والقتال حين لم يكونوا أهل منعة .
ولكنهم يؤخذون بجميع ما استهلكوا من الأموال ويقتلون بمن قتلوه عمداً لأنهم بمنزلة اللصوص حين لم يكن لهم منعة .
ألا ترى أن في حق الخوارج يثبت هذا الحكم باعتبار أنه لا منعة لهم فكذلك في حق المستأمنين معهم .
ولو كانوا لم يؤمنوهم وإنما قالوا لهم : اخرجوا فأغيروا معنا والمسألة بحالها فالجواب في حق الخوارج في هذا والأول سواء .
وأما أهل الحرب فهم فيء وجميع ما معهم ولا يقتلون بمن قتلوا ولا يضمنون ما استهلكوا لأنهم لا أمان لهم من جهة أحد من المسلمين ولكنهم لصوص من أهل الحرب ولصوص أهل الحرب لا فرق بين أن يقع الظهور عليهم في دار الإسلام وبين أن يقع في دار الحرب في هذا الحكم .
وعلى هذا يبتنى حكم التنفيل في السلب .
فإن أموالهم لما كانت فيئاً كان للقاتل منهم السلب بالتنفيل .
فصار الحاصل إن المستأمنين من جهة الخوارج والمستأمنين من جهة أهل العدل سواء في حكم التلصص وقطع الطريق وفيما يكون نقضاً للعهد إذا كانوا أهل منعة حين قاتلوا .
ولو أن@(2/226)
الخوارج صالحوا أهل الحرب ووادعوهم ثم دخل رجل منهم إلى أهل العدل بغير أمان كان آمناً بتلك الموادعة لأنهم بمنزلة أهل العدل في الموادعة مع أهل الحرب .
ألا ترى أن في عقد الذمة وإعطاء الأمان هم بمنزلتهم فكذلك في الموادعة .
ولا ينبغي لأهل العدل أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم كما لو كانت الموادعة من جهتهم فإن استعان بهم الخوارج فخرجوا وقاتلوا معهم أهل العدل فوقع الظهور عليهم لم يسب أحد منهم لأن تلك الموادعة كانت بمنزلة إعطاء الأمان لهم .
وقد بينا أن من يكون في أمان من الخوارج إذا قاتل أهل العدل تحت راية الخوارج لم يكن ذلك نقضاً للأمان فهؤلاء كذلك وحالهم كحال الخوارج فيما يحل ويحرم منهم ومن أموالهم .
وإن كانوا خرجوا على أن يكون الأمير من أهل الحرب يحكم فيهم بحكم أهل الشرك والمسألة بحالها ثم وقع الظهور عليهم فهم فيء لأنهم صاروا ناقضين لتلك الموادعة حين قاتلوا بمنعتهم أهل العدل وحكم التنفيل في السلب على هذا يخرج في الفصلين .
وكذلك إن كانوا خرجوا هم من ناحية ليقاتلوا أهل العدل والخوارج من ناحية أخرى فإن كان أمير أهل الحرب منهم فهم فيء لأنهم قاتلوا تحت رايتهم بمنعتهم .
وإن كان الخوارج بعثوا إليهم أميراً منه فحكمهم كحكم الخوارج لأنهم قاتلوا تحت راية الخوارج .
ولو خرج من الموادعين قوم لا منعة لهم فأغاروا في دار الإسلام فوقع الظهور عليهم فهم بمنزلة اللصوص في حكم الضمان والقصاص لأنهم ما قاتلوا عن منعة لهم فلا يكون ذلك نقضاً منهم للموادعة .
ولو أن قوماً من أهل الحرب أمنهم واحد من المسلمين ثم نبذ الإمام إليهم فأمنهم ذلك المسلم أيضاً@(2/227)
فهم آمنون لأن المعنى الذي لأجله صح أمان المسلم في المرة الأولى موجود في المرة الثانية .
فإن قال لهم الأمير : إن هذا قد أمنكم غير مرة فلا تلتفتوا إلى أمانه فإنه كلما أمنكم فقد نبذنا إليكم كان ذلك صحيحاً منه لأن نبذ الأمان تأثيره في إطلاق الأمان والاستغنام فيجوز تعليقه بالشرط كالطلاق ولأن النبذ يحتاج إليه لنفي الغرور وذلك يحصل بالنبذ بهذه الصفة .
ولو أن مسلماً أمن حربياً فكره الإمام مقامه في دار الإسلام فإنه يتقدم إليه في الخروج .
ولأن للإمام ولاية النبذ بعد صحة الأمان فلا يكون ذلك إلا بعد أن يبلغه مأمنه فيتقدم إليه في الخروج ويجعل له من المهلة ما يتمكن فيها من الخروج بغير ضرر بمنزلة المستأمن إذا طال المقام في دارنا وقد تقدم بيان الحكم فيه .
ولو قال الإمام لحربي : لا تدخل دارنا بأمان فلان فإنك إن دخلت بأمانه فأنت فيء ثم دخل بأمانه لم يكن فيئاً لأن حجر المسلم عن إعطاء الأمان باطل فإنه لا تنعدم بحجره العلة المصححة لأمانه فيكون حجره إبطالاً لحكم الشرع ولا يمكن جعل كلامه نبذاً لأمان وهو في دارنا لأن نبذ الأمان بعد إعطاء الأمان لا يصح ما لم يبلغ مأمنه فكذلك قبل إعطاء الأمان .
وبه فارق المواعدين لأن أولئك في منعتهم ونبذ الأمان صحيح لو حصل مه بعد الأمان فكذلك قبله فأما هذا في دارنا فلا يملك أحد نبذ أمانه ما لم يبلغ مأمنه .
والإمام وغيره فيه سواء .
ولو قال الإمام لأهل الحرب : من دخل منكم دارنا بأمان فلان فهو ذمة لنا .
فدخل رجل قد علم تلك المقالة بأمان فلان فهو ذمة ولا يترك يرجع إلى دار الحرب لأن دخوله بعد العلم بمقالة الأمير دلالة الرضا بقبول الذمة والدلالة في هذا كالصريح بمنزلة مقام الذمي الذي يقدم إليه الإمام في دارنا بعد مضي المدة .
وهذا بخلاف قوله : فهو فيء لأن ذلك نبذ الأمان فلا يصح إذا لم يكن في منعته وهذا تأكيد للأمن الثابت بذلك الأمان وليس نبذاً وعلى هذا لو قال للمحصورين : إن أمنكم فلان فقد نبذت إليكم فخذوا حذركم ثم أمنهم فلان@(2/228)
كان ما تقدم نبذاً صحيحاً وحل به قتالهم لأنهم في منعتهم .
ولو قال : من خرج منكم بأمان فلان فهو فيء أو : فقد حل دمه .
فخرج رجل فهو آمن لأن النبذ إليه وهو في منعتنا باطل .
ولو قال : من خرج منكم بأمان فلان فهو ذمة لنا فهذا صحيح لأنه ليس فيه نبذ الأمان إنما فيه تقرير حكم الأمن .
فكونه في منعتنا لا يمنع منه .
والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=26 - TOP#TOPباب من نفل الخيل ما يكون على العرب دون البراذين
وإذا قال الأمير من قتل قتيلاً فله فرسه فقتل مسلم رجلاً من المشركين وله فرس مع غلامه فإنه لا يستحق فرسه لأن إيجاب فرس القتيل له من أبين الدلائل على أن مراده قتل من هو فارس في حال ما يقتله وهذا لم يكن فارساً في حال ما قتله بالفرس الذي مع غلامه والغلام ليس بحاضر عنده .
ألا ترى لو قتل آخر الغلام وهو على ذلك الفرس استحق الفرس بقتله فعرفنا أن الأول إنما قتل راجلاً لا فارساً .
ولأن الإمام خص الفرس من بين سائر الأشياء الذي يعلم أن الحربي حمله مع نفسه ولا فائدة في هذا التخصص سوى أن يكون مراده الفرس الذي يقاتل عليه وأنه كان قصده التحريض على قتل فرسانهم لتنكسر به شوكتهم .
وإن كان قد نزل عن فرسه وهو معه يقوده في القتال فله فرسه لأنه فارس بما معه من الفرس فإنه يتمكن من القتال عليه في الحال .
وإنما كان نزوله لزيادة جد في الحرب أو لضيق الطريق أو كثرة الزحام .
فلا يخرج به من أن يكون@(2/229)
فارساً حين قتل .
ولو قتل رجلاً على برذون أو برذونة فله ذلك لأنه فارس سواء كان على برذون أو فرس أو عربي .
ألا ترى ان مثله من المسلمين يستحق سهم الفرسان .
فإن قيل : هذا فيما إذا كان الفرس مع غلامه في المعسكر موجوداً .
قلنا : لا كذلك فإن في حق المسلمين غلامه بهذا الفرس لا يستحق سهم الفرسان فيتمكن أن يجعل هو فارساً به وهنا في حكم التنفيل غلامه فارس بهذا الفرس فلا يكون هو فارساً به ولو قتل رجلاً على بغل أو حمار أو بعير لم يكن له لأنه غير فارس بهذا المركوب ولأن اسم الفرس لا يتناوله بحال .
ولو قال : من قتل قتيلاً فله فرسه .
فقتل راجلاً أو فارساً فله من الغنيمة فرس عربي وسط أو قيمته .
ولا يكون له برذون لأنه أطلق اسم الفرس فيما أوجبه نفلاً له ومطلقه يتناول العربي خاصة وبمطلق التسمية يستحق الوسط من عين المسمى أو قيمته بخلاف ما سبق فقد أضاف الفرس هنا إلى القتيل بحرف الهاء وبه يتبين أن مراده ما يكون القتيل فارساً به .
وذلك يعم البرذون والفرس العربي .
وعلى هذا لو قال : من دخل من باب المدينة على فرسه أو من قاتل على فرسه فله مائة درهم .
فهذا على العراب والبراذين جمعياً .
ولو قال : على فرس فهو على العراب خاصة .
وكذلك لو قال : من نزل عن فرسه فقاتل راجلاً فله مائة .
فهذا على العراب والبراذين .
ولو قال : على فرس ففي القياس : لا يستحق النفل إلا من نزل عن فرس عربي لأنه أطلق اسم الفرس فلا يتناول إلا العربي كما في الفصول المتقدمة .
وفي الاستحسان : كل من نزل عن برذون أو فرس عربي فقاتل راجلاً فله@(2/230)
نفله لأن مقصود الأمير هنا التحريض على مباشرة القتال راجلاً .
ألا ترى أن من نزل عن فرس عربي ولم يقاتل لا يستحق النفل وفيما هو المقصود لا فرق بين أن ينزل عن برذون أو عن فرس عربي .
ولأنه وغن أطلق الفرس فقد علمنا أن المراد فرسه إذ الإنسان ينزل عن فرسه لا عن فرس غيره فكان هذا وقوله : عن فرسه سواء .
واسم البرذون في التنفيل يتناول الذكر والأنثى ولا يتناول الفرس العربي بحال لأن هذا اسم نوع خاص من الخيل فلا يتناول نوعاً آخر بمنزلة ما لو قال : من قتل رجلاً على فرس عربي .
فإن ذلك على الذكر والأنثى من ذلك النوع خاصة .
دون البراذين بخلاف الفرس فإنه يستعمل في البراذين وفرس العرب جميعاً كالخيل .
وإن كان الاسم حقيقة في العربي فعند الإطلاق يحمل على الحقيقة وعند الإضافة يعتبر عرف الاستعمال والفرس الشهري من نوع البراذين دون العراب .
ولو قال : من قتل قتيلاً فله دابته .
فاسم الدابة يتناول الخيل والبغال والحمير .
كما قال تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } النخل : 16 .
ولهذا لو حلف لا يركب دابة يتناول الاسم هذه الأشياء الثلاثة .
وإن قتل رجلاً على بعير أو ثور لم يكن له ذلك .
إلا أن يكونوا قوماً دوابهم الإبل والثيران .
فباعتبار الحال يصير معلوماً أن مراد الإمام ذلك .
والكلام يتقيد بدلالة الحال واسم البغل في التنفيل يتناول الذكر والأنثى وكذلك اسم البغلة لأن الهاء تستعمل فيه لعلامة الوحدان لا لعلامة التأنيث كاسم البقرة يتناول الذكر والأنثى واسم الحمار والبعير يتناول الذكر والأنثى جميعاً .
فأما اسم الأتان فلا يتناول إلا الأنثى وكذلك اسم حمارة لأنه لا تستعمل الهاء هنا إلا لعلامة التأنيث .
واسم الجمل والبعير يتناول الذكر والأنثى أيضاً .
فأما اسم الناقة فلا يتناول إلا الأنثى خاصة وقد بينا هذا في الجامع .
ولو قال : من قتل فارساً فله دابته فقتل رجلاً على حمار أو بغل أو بعير لم يكن له شيء لأنه ما كان فارساً بدابته وإنما شرط الاستحقاق أن يقتل فارساً .
ولو قتل رجلاً على برذون ذكر أو أنثى استحق دابته لأنه فارس بدابته .@(2/231)
وإذا قال : من قتل قتيلاً فله سلبه فالقياس أن يكون السلب للقاتل واحداً كان أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك لأن " من " من أسماء العموم فيتناول المخاطبين على سبيل الاجتماع والانفراد جميعاً .
ولكن الأخذ بالقياس في هذا قبيح إذ يؤدي إلى القول بأن العسكر كلهم لو اجتمعوا على قتل رجل واحد استحقوا سلبه .
وقد علمنا أن الإمام لم يرد ذلك بالتنفيل لأن معنى التحريض يفوت به .
ولكن للاستحسان فيه وجوه .
أحدها أنه إن قتله رجل أو رجلان فلهما السلب وإن قتله ثلاثة لم يكن لهم سلبه لأن الثلاثة أدنى الجمع المتفق عليه .
فإن الكلام وحدان وتثنية وجمع فبه يبين أن الجمع غير التثنية .
ثم أدنى الجمع المتفق عليه كأعلى الجمع ومراد الإمام بهذا تحريض الآحاد على القتال لا تحريض الجماعة .
ولأنه يجوز للمسلم أن يفر من الثلاثة ولا يحل له أن يفر من الواحد ولا من الاثنين .
قال تعالى : { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ } فيه تبين الفرق بين الاثنين والثلاثة وأن حكم الاثنين كحكم الواحد .
ولكن هذا إذا لم يكن معه السلاح وهو يطمع في أن ينتصف من اثنين فأما إذا لم يكن معه سلاح ولا يطمع في أن ينتصف منهما فلا بأس بأن ينحاز إلى فئة ولا يلقي بيده إلى التهلكة .@(2/232)
والوجه الثاني للاستحسان : أنه إن قتله قوم لا منعة لهم من المسلمين فلهم السلب .
وإن قتله قوم لهم منعة لم يكن لهم السلب لأن الذين لا منعة لهم حكمهم حكم الواحد .
ألا ترى أنهم لو دخلوا دار الحرب على وجه التلصص لم يخمس ما أصابوا بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة في حكم التنفيل لأنه بصحة التنفيل فيه يبطل حق أرباب الخمس عنه .
والوجه الثالث : أنه إن قتله قوم يرى الإمام والمسلمون أن ذلك القتيل كان ينتصف منهم لو خلى بينه وبينهم فلهم سلبه وإن كان لا ينتصف منهم لم يكن لهم سلبه لأن المقصود التحريض وإنما يتحقق معنى التحريض على قتل من ينتصف منهم دون من لا ينتصف .
قال : وكل هذا واسع إن أمضاه الإمام ورآه عدلاً .
وليس مراده أن كل هذا حق وإنما مراده أن كل هذا طريق الاجتهاد .
وهو نظير قول ابن مسعود رضي الله عنه : فيما صنع مسروق وجندب : " كلاكما أصاب " يعني طريق الاجتهاد .
قال : وأحسن الوجوه عندي وأقربها من الحق الوجه الأخير لأن فيه تحقيق ما هو المقصود بالتنفيل وهو التحريض .
ألا ترى أنهم لو انتهوا إلى مطمورة فقال الأمير : من ناهضها أي قام بأخذها فله ما فيها بعد الخمس ففعل ذلك جماعة منهم فإن كان ينتصف منهم أهل المطمورة استحق النفل وإن اجتمع على المطمورة من العسكر من يعلم أن أهل المطمورة لا ينتصفون منهم لم يكن لهم النفل .
لمراعاة@(2/233)
التحريض .
ولو قتل رجل قتيلين أو أكثر بضربة واحدة فله سلبهم جميعاً كما لو قتلهم بضربات مختلفة لأن كلمة من عامة فيتعمم به المقتولون أيضاً .
وإذا دخل الأمير مع العسكر أرض الحرب فقال لهم قبل أن يلقوا قتالاً : من قتل منكم قتيلاً فله سلبه .
فهذا جائز .
ويبقى حكم هذا التنفيل إلى أن يخرجوا من دار الحرب لأن المقصود تحريضهم على الإمعان والطلب فيتقيد مطلق كلامه بهذا المقصود .
حتى إذا انتهى مسلم إلى مشرك نائم أو غافل في عمله فقتله فله سلبه .
بمنزلة ما لو لقوا العدو فقتله في الصف أو بعد ما انهزموا لأن تنفيل الإمام عم المقتولين على أي حال كانوا بعد أن يكونوا بحيث يحل قتلهم .
وكذلك عم القاتلين ممن يكون لهم سهم في الغنيمة أو رضخ كالنساء والصبيان والعبيد .
فأما إذا قال الأمير هذه المقالة بعدما اصطفوا للقتال فهذا على ذلك القتال حتى ينقضي لأن الحال دليل عليه .
وهذا لأنه لما أخر الكلام إلى أن حضر القتال فقد علمنا أن مقصوده التحريض على ذلك القتال بخلاف الأول فهناك إنما تكلم به حين دخلوا دار الحرب فعرفنا أن مراده التحريض على الجد في الدخول والطلب .
ثم إن بقوا في ذلك القتال أياماً فحكم ذلك التنفيل باق .
وكذلك إن دخل المنهزمون حصنهم فتحصنوا فيه وأقام المسلمون يقاتلونهم فقتل رجل قتيلاً فله سلبه لأن ذلك القتال باق إذا لم يتركوه حيناً ولا حصل مقصودهم به وهو تمام القهر .
وإن لم يتبعهم@(2/234)
المسلمون بعد ما انهزموا حتى لحقوا بحصونهم ثم مروا بعد ذلك بحصونهم فقتل مسلم رجلاً ممن كان انهزم منهم أو من غيرهم لم يكن له سلبه لأنهم حين تركوا أتباعهم فقد انقضت تلك الحرب حقيقة وحكماً والتنفيل كان مقيداً بها .
ولو كانوا على إثرهم فمروا بحصن آخر فقتل رجل منهم قتيلاً لم يكن له سلبه لأن النفل كان على الحرب الأولى وهي ما كان بينهم وبين أهل هذا الحصن .
إنما كانت بينهم وبين الذين حضروا .
فهذا إنشاء حرب أخرى لم يكن التنفيل متناولاً لها .
ولو أن أصحاب الحرب الأولى انهزموا فدخلوا حصناً آخر والمسلمون في إثرهم فإن كان الغالب في هذا الحصن غير المنهزمين والمنعة منعتهم ثم قتل مسلم قتيلاً لم يستحق سلبه سواء كان المقتول من المنهزمين أو من غيرهم لأن هذه حرب سوى الأولى .
وإن كان عظم القوم الذين انهزموا من المسلمين والمنعة لهم فحكم ذلك التنفيل باق وأهل الحصن الثاني بمنزلة مدد لحقهم .
فتبقى الحرب الأولى .
ومن قتل من المنهزمين أو من غيرهم فله سلبه .
وهذا ملا بينا أن الحكم للمنعة والغلبة .
ولو جاء ملكهم الأعظم بجنده فانحاز إليه الذين كانوا يقاتلون المسلمين ثم قتل مسلم منهم قتيلاً لم يكن له سلبه لأن هذه منعة أخرى والتنفيل كان مقيداً بالحرب الأولى فبعدما حدث لهم منعة أخرى تكون الحرب غير الأولى .
فإذا لم يجدد الإمام تنفيلاً لم يستحق القاتل السلب وإن جدد الإمام التنفيل فسمعه بعض الناس دون البعض .
فكل من قتل قتيلاً استحق سلبه الذي سمع والذي لم يسمع فيه سواء لأن هذا محض منفعة في حق القاتلين .
ولأن كلام الإمام لما اشتهر في الناس فذلك بمنزلة الواصل إلى جماعتهم في الحكم .@(2/235)
وأهل الحرب الأسراء وإذا قال الأمير : من دلنا من المسلمين على عشرة من الرقيق فله رأس .
فدلهم رجل بكلام ولم يذهب معهم .
فذهبوا إلى ذلك الموضع وجاءوا بالرقيق كما قال .
فلا شيء له من النفل .
وكان ينبغي في القياس أن يستحق النفل لأنه شرط عليه الدلالة وقد فعل .
ألا ترى أن الدلالة على الصيد من المحرم بهذه الصفة يلزمه الجزاء ولكنه استحسن فقال : استحقاق النفل يكون بالعمل لا بمجرد الكلام والمقصود به التحريض وإنما يكون التحريض على عمل هو من جنس الجهاد والقتال .
وبمجرد وصف الموضع بكلامه لا يحصل ذلك العمل إذا لم يذهب معهم فلا يستحق النفل .
ولو أمنوا حربياً على أن يدلهم على مثله فدلهم بكلامه فهو دال .
أرأيت لو كان المسلم في منزلة بالكوفة أو الشام فقال : إن دللتكم على عشرة أرؤس في موضع من دار الحرب قد مررت بهم أتجعلون لي رأساً فقالوا : نعم فدلهم ولم يذهب معهم أكان يستحق النفل@(2/236)
فكذلك إذا دلهم وهو في دار الحرب فهو شريكهم بسهم في الغنيمة إلا أنه إذا ذهب معهم في دار الحرب فهو شريكهم بسهمه في الغنيمة بمنزلة ما لو لم تسبق الدلالة والتنفيل .
ولو ذهب معهم حتى دلهم على عشرة أرؤس فله منهم رأس لأنه باشر عملاً يجوز أن يستحق النفل به وهو الذهاب .
وإنما يعطيه رأساً وسطاً .
وكذلك لو دل على مائة رأس بهذه الصفة فله من كل عشرة رأس وسط .
ولو دلهم على خمسة كان له نصف واحد من أوساطهم لأنه أوجب له ذلك بمقابلة عمل فيه منفعة للمسلمين فيكون هذا بمنزلة قوله : من جاء بعشرة أرؤس فله رأس .
وقد تقدم بيان هذا الفصل .
ولو أسر الأمير أسراء من أهل الحرب فقال : من دلنا منكم على عشرة أرؤس فهو حر فدلهم رجل بكلام ولم يذهب معهم فوجدوا الأمر كما وصف لهم فهو حر لأن هذا تعليق عقته بالشرط فيراعى وجود الشرط فيه حقيقة .
وبالدلالة بالوصف يتم الشرط حقيقة .
وهذا لأن الإمام ما أوجب له هنا شيئاً لا يستحق إلا بعمل فلا حاجة بنا إلى ترك حقيقة الدلالة هنا بخلاف الأول فقد أوجب له هناك نفلاً لا يستحق إلا بالعمل .
فلأجله تركنا حقيقة لفظ الدلالة وحملناه على نوع من المجاز .
ثم لا يترك هذا الأسير يرجع إلى داره ولكنه يخرج إلى دارنا ليكون ذمة لنا لأنه بالأسر قد احتبس عندنا وإنما أوجب له بالدلالة الحرية وليس من ضرورته التمكن من الرجوع إلى داره .
ويستوي في هذا الحكم إن ذهب معهم أو لم يذهب .
إلا أن يقول : إن دللتكم فأنا حر وتدعوني أرجع@(2/237)
إلى بلادي .
فحينئذ يوفى له بالشرط ويمكن من الرجوع إلى بلده إن أحب لأن هذا بمنزلة صلح جرى بين الإمام وبينه وفي الصلح يجب الوفاء بشرط .
إلا أنه لا ينبغي للأمير أن يفعل هذا إلا أن يكون فيه حظ للمسلمين لأنه نصب ناظراً فلا يدع الأسير ليعود حرباً لنا إلا بمنفعة عظيمة للمسلمين فيما يدل عليه أكثر من حظهم في أسره فحينئذ لا بأس بإجابته إلى ذلك .
وإن دلهم الأسير على تسعة وذهب معهم أو لم يذهب لم يكن له شيء من رقبته لأن عتقه هنا باعتبار الشرط والشرط يقابل المشروط جملة .
فما لم يأت بكمال الشرط لا يستحق العتق .
أو هذا صلح من رقبته على شرط التزمه فما لم يأت بذلك الشرط بكماله لم يتم الصلح ولا يستحق شيئاً مما وقع الصلح عليه بخلاف المسلم فإن استحقاقه للنفل كان باعتبار عمل فيه منفعة للمسلمين فبقدر ما يحصل من المنفعة بعمله يستحق النفل .
وكذلك لو كان الأمير قال للأسير : إن دللتنا على عشرة فأنت آمن من أن نقتلك .
فدل على تسعة .
كان له أن يقتله لأنه علق الأمان له بالشرط فما لم يتم الشرط لا يستفيد الأمن .
وكذلك لو أن أهل حصن نزل عليهم المسلمون قالوا : إن دللناكم على عشرة من البطارقة أتؤمنوننا وترجعون عنا فقالوا : نعم فدلوهم على خمسة أو على تسعة فليسوا بآمنين وليس على المسلمين أن يرجعوا عنهم لأن الشرط لم يتم فلا ينزل شيء من الجزاء .
ولو قالوا للمسلمين :@(2/238)
نعطيكم مائة من الرءوس أو ألف دينار على أن تؤمنونا وترجعوا عنا عامكم هذا ثم أعطوا بعض المال فللمسلمين أن يقاتلوهم لأن الأمان تعلق بأداء جميع المال فلا يثبت بأداء بعض المال .
ولكن إن أرادوا قتالهم فليردوا عليهم ما أخذوا ثم ينابذوهم للتحرز عن الغدر ودفع الضرر عنهم .
فإنهم إنما أعطوا مالهم على سبيل الدفع عن نفوسهم .
وهذا بخلاف ما سبق من الدلالة على عشرة من الطارقة فإنه هناك إن دلوا على بعضهم فلنا أن نقاتلهم من غير رد شيء عليهم لأنا ما تملكنا عليهم شيئاً من المال بمقابلة ما وعدنا لهم من الأمان ولو قاتلناهم من غير رد شيء لا يؤدي إلى الإضرار بهم بطريق إهدار ملكهم وهاهنا تملكنا المال بمقابلة ما شرطنا لهم فيجب الرد عليهم إذا لم يحصل لهم منفعة الأمان به .
وإن أبى الإمام أن يرد عليهم فليرجع عنهم ولا يقاتلهم إظهاراً للمسامحة وإتماماً للوفاء بالشرط وإن هلك بعض السبي المأخوذ منهم ثم أردنا قتالهم فلا بد من رد ما بقي من السبي وقيمة من هلك منهم لأن المقصود بالرد دفع الضرر والخسران عنهم و التحرز عن الغدر .
وذلك يحصل برد القيمة عند تعذر رد العين كما يحصل برد العين .
ولو صالحوهم على مائة رأس على أن يؤمنوهم سنتهم هذه وينصرفوا عنهم ثم رأوا أن النظر لهم في قتالهم فليردوا المال ثم ينبذوا إليهم وهم في منعتهم لأنه مع بقائهم حرباً لنا لا يحرم قتالهم لإعزاز الدين وإنما يحرم الغدر وبالنبذ إليهم وهم في منعتهم ينتفي معنى الغدر .
ولكن المال مأخوذ منهم بطريق الجعل .
فإذا لم يسلم لهم المشروط وجب رده عليهم .@(2/239)
بمنزلة العوض يجب رده إذا لم يسلم المعوض .
فإن كان أسلم السبي فليرد عليهم قيمتهم لأنه تعذر رد عينهم بعدما أسلموا لأن تمليك المسلم من الحربي لا يحل .
فصار كما لو تعذر ردهم بالهلاك .
ولو كانوا لم يقبضوا منهم المال حتى بدا لهم أن ينبذوا إليهم فلا بأس بذلك لأنهم يختارون ما فيه النظر للمسلمين والحال فيما يرجع إلى النظر يتبدل ساعة فساعة .
فكما أنه لو كان النظر في الابتداء في القتال لم يميلوا إلى الصلح فكذلك إذا صار النظر في القتال كان لهم أن ينقضوا الصلح .
ألا ترى أنه لو وادعهم على أن يؤدوا إليه كل سنة مائة رأس من رقيقهم ثم بدال له بعد مضي سنة أو سنتين أن يقاتلهم لأنه رأى بالمسلمين قوة فلا بأس بأن ينبذ إليهم .
ولو وادعهم على أن يعطوهم مائة من أسراء المسلمين .
ليرجعوا عنهم عامهم هذا فأعطوهم تسعين فلا بأس بالنبذ إليهم وقتالهم لانعدام تمام الشرط الذي علق الأمان به ولا يرد عليهم شيء من المأخوذ لأن الأحرار من الأسراء ما كانوا في ملكهم قط ولا تملكناهم عليهم بطريق الجعل فلا يكون في الامتناع من الرد معنى الإضرار بهم وإنما فيه كف عن الظلم .
وكذلك إن أعطوا ذلك من مدبرين أو مكاتبين أو أمهات أو أولاد كانوا للمسلمين أسرى في أيديهم لأنهم لم يتملكوا شيئاً من ذلك فإن ثبوت حق العتق في المحل كثبوت حقيقة العتق في إخراجه من أن يكون محلاً للتمليك بالقهر .
ولكنا نردهم على مواليهم بغير شيء .
وإن أعطوا ذلك من عبيد مسلمين كانوا أسرى في أيديهم رد عليهم قيمتهم لأنهم كانوا تملكوا العبيد بالإحراز ثم تملكنا عليهم بطريق الجعل فيجب ردهم إذا لم يسلم لهم المشروط ولكن يتعذر رد عينهم لإسلامهم فيجب رد قيمتهم .
وإن ردوا المائة كما شرطوا ممن لا@(2/240)
يملكونهم من الأسراء فللإمام أن يقاتلهم بعد النبذ إليهم من غير رد شيء عليهم لأنا نتملك عليهم شيئاً كانوا يملكونه .
ولكن الأفضل له أن يفي لهم .
كما وفوا له بالمشروط ليطمئنوا إليه فيما يستقبل فإنه إن لم يفعل لم يركنوا إلى مثل ذلك في المستقبل بناء على ما عندهم أن هذا غدر في تخليص الأسارى من أيديهم وإن لم يكن غدراً في الحقيقة .
وإن انصرف عنهم بعدما أخذ المشروط منهم فإن كانوا أحراراً خلى سبيلهم وإن كانوا مدبرين ردهم على الموالي بغير قيمة وإن كانوا عبيداً فإن وجدهم الموالي قبل القسمة والبيع أخذوهم بغير شيء وإن وجدوهم بعد القسمة أو البيع أخذوهم بالقيمة أو الثمن إن أحبوا لأن التمليك عليهم بطريق الجعل بمنزلة التملك بطريق القهر ألا ترى أن المأخوذ فيء يجب قسمته بينهم في الوجهين .
ولو قال الأمير للأسراء : من دلنا على عشرة من المقاتلة فهو حر فدلهم أسير على عشرة ممتنعين في قلعة لا يقدر عليهم لم يكن حراً لأنا علمنا أنه لم يكن هذا مقصود الإمام وإنما كان مقصوده دلالة فيها منفعة للمسلمين ولم يحصل .
فإن قيل : إنما يعتبر ظاهر كلامه وهو قوله عشرة من المقاتلة والمقاتل من يكون ممتنعاً .
قلنا : نعم .
ولكن مقصوده دلالة يستفيد بها علماً لم يكن حاصلاً له قبل الدلالة وذلك لا يحصل بهذه الدلالة فكم من عشرة مقاتلة لا يقدر عليهم يعلمهم الأمير والمسلمون في دار الحرب .
فعرفنا بهذا أن مراده الدلالة على عشرة يتمكنون من أخذهم .
فإن دلهم على عشرة غير ممتنعين إلا أنهم دروا بهم فهربوا فإن هربوا قبل وصول المسلمين إلى موضع يقدرون على أخذهم فليست هذه أيضاً@(2/241)
بدلالة لأن ما هو المقصود وهو التمكن من الأخذ لم يحصل بها .
وإن كانوا قد قدروا على أخذهم ففرطوا في ذلك حتى هربوا فالأسير حر لأنه قد أتى بالمشروط عليه من الدلالة وهو التمكن من أخذ العشرة فالتفريط الذي يكون منا بعد ذلك لا يكون محسوباً عليه .
وإن دل على العشرة في موضع فقاتلوا حتى نجوا فليست هذه بدلالة لأنه إنما دل على قوم ممتنعين إذ لا فرق بين أن يكون امتناعهم بقوة أنفسهم أو بحصن كانوا فيه .
إلا أن يكونوا إنما نجوا لتفريط من المسلمين في أخذهم بعد القدرة عليهم فحينئذ يكون للدال ما شرط له .
وإن قاتل العشرة التي دل عليهم المسلمون فقتلوا بعضهم ثم ظفر المسلمون بهم فالأسير حر لأنهم إنما تمكنوا من أخذهم وأسرهم بدلالته .
وإن لم يتمكن المسلمون من أسرهم ولكن قاتلوهم حتى قتلوا فليست هذه بدلالة لأن ما هو المقصود وهو التمكن من الأسر لم يحصل بهذه الدلالة وهذا لأن مثل هذه العشرة كانوا يجدونهم قبل دلالته فعرفنا أن المقصود بالدلالة غير هذا .
ولو قتل المسلمون منهم واحداً وظفروا بالبقية فإن كانوا قتلوا ذلك الواحد وهم ممتنعون لم يكن الأسير حراً لأن التمكن إنما حدث بعد قتله والباقون بعد قتله تسعة .
فكأنه دلهم ابتداء على تسعة نفر وإن كانوا قتلوه بعدما ظفروا بالعشرة فهو حر لأنهم تمكنوا بدلالته من أخذ العشرة .
وكذلك إن كانوا قتلوا بعض المسلمين ثم ظفروا بهم أحياء لأنهم تمكنوا من أسر@(2/242)
العشرة بدلالته وإن كان ذلك بعد جهد وقتال .
فإن انتهى إليهم المسلمون ولا سلاح عليهم ففرطوا في أخذهم حتى تسلحوا أو امتنعوا فالأسير حر لأنه مكنهم بالدلالة من أخذ العشرة وإنما جاء التقصير من المسلمين .
ولو كان الأسير قال : أدلكم على عشرة على أني إن دللتكم عليهم فامتنعوا أنو لم يمتنعوا فأنا حر .
فرضي المسلمون بذلك فهو حر .
إذا دل عليهم وإن امتنعوا لأنه أتى بما التزمه بالشرط نصاً وإنما تعتبر دلالة الحال والمقصود بالكلام إذا لم يوجد التنصيص بخلافه .
ولو قال الأمير للأسراء : من دلنا على حصن كذا أو على عسكر فلان البطريق أو على عسكر الملك فهو حر فدلهم رجل ثم لم يظفروا بهم فالأسير حر لأنه أتى بما شرط عليه من الدلالة .
والمشروط عليه الدلالة على قوم ممتنعين هنا وقد أتى به بخلاف ما تقدم والغالب أن المراد هناك الدلالة على عشرة غير ممتنعين .
ألا ترى أنه لو قال : من دلنا على عشرة من السبي من نساء أو صبيان فهو حر فدلهم رجل على ذلك بين يدي جند يمنعونهم أنه لا يعتق لأن الغالب أن المراد الدلالة عليهم في غير منعة وإنما يحمل مطلق الكلام في كل موضع على ما هو الغالب .
ولو تحير الأمير في رجوعه إلى دار الإسلام فقال للمسلمين : من دلنا منكم على الطريق فله رأس أو قال : فله مائة درهم فدلهم رجل بوصف ذكره فمضوا على دلالته حتى أصابوا الطريق ولم يذهب هو معهم فلا شيء له لأن@(2/243)
ما أوجب كان على سبيل الأجرة لا على سبيل التنفيل .
إذ التنفيل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز .
وإرشاد المتحير إلى الطريق ليس من الجهاد ليستحق عليه النفل فعرفنا أنه إجازة واستحقاق الأجر بعمل لا بقول .
فلهذا لا يستحق شيئاً إذا لم يذهب معهم .
وإن ذهب معهم حتى دلهم على الطريق فله أجر مثله في ذهابه معهم لأنه أتى بالعمل بحكم إجارة فاسدة .
فإن المقصود عليه من العمل لم يكن معلوماً حين لم يتبين إلى أي موضع يذهب معهم وربما يوصلهم إلى الطريق بعشرة خطى وربما لا يوصلهم إلا بمسيرة عشرة أيام .
وجهلة المعقود عليه تفسد العقد .
ثم إن كان المشروط له مائة درهم فإنه يستحق به أجر المثل لا يجاوز به مائة .
كما هو الحكم في الإجارة الفاسدة إذا كان المسمى معلوماً .
وإن كان المشروط له رأساً من السبي فله أجر مثله بالغاً ما بلغ لأن تسمية الرأس مطلقاً في
باب الإجارة لا يكون تسمية صحيحة .
وهذا لأنه إنا لا يجاوزه المسمى لتمام الرضا به وذلك يتحقق في المائة ولا يتحقق في الرأس لأن الرءوس تتفاضل في المالية ولو قال : من دلنا على الطريق حتى يبلغ بنا موضع كذا فله مائة درهم أو فله هذا الرأس بعينه فذهب رجل معهم إلى ذلك المكان فله المسمى لأن المعقود عليه معلوم هنا فإن قيل : المخاطب بالعقد مجهول فكيف ينعقد العقد صحيحاً قلنا : إنما ينعقد العقد حين يأخذ في الذهاب معهم ويستوجب الأجر بحسب ما يأتي به من العمل وعند ذلك لا جهالة فيه .
ولو لم يتحير الإمام ولكن قال : من ساق هذه الأرماك منكم حتى يبلغ الطريق فله مائة درهم ففعل ذلك قوم استحقوا أجر المثل لا يجاوز به المائة لأن المعقود عليه من العمل مجهول لجهالة المسافة .
ولو كان قال : إلى موضع كذا فلهم المسمى لأن المعقود عليه معلوم والبدل معلوم .
وإن خاطب قوماً@(2/244)
بأعيانهم فسمع قوم آخرون فساقوها إلى ذلك المكان فلا شيء لهم لأن العقد إنما كان بينه وبين من خاطبهم به فغيرهم يكون متبرعاً في إقامة العمل .
ولو نادى بذلك في جميع أهل العسكر فساقها قوم سمعوا النداء فلهم الأجر لأنهم أقاموا العمل على وجه الإجارة .
ولو ساقها قوم لم يسمعوا النداء فلا شيء لهم لأنهم أقاموا العمل متطوعين لا على وجه الإجازة حين لم يسمعوا النداء وبهذا تبين أن الاستحقاق هنا ليس على وجه التنفيل .
ولو أن الأمير أخطأ الطريق فتحير .
فقال الأسير في يده : إن دللتنا على الطريق فلك أهلك وولدك فدلهم بصفة أو بذهاب معهم حتى أوقفهم على الطريق كان على حاله فيئاً للمسلمين مع أهله وولده لأن الأمير لم يذكر نفسه بشيء في الجزاء فيبقى هو أسيراً على حاله وإذا كان هو عبداً للمسلمين فما يكون له يكون للمسلمين أيضاً أهله وولده وغيرهم في ذلك سواء .
ولو كان قال : لك نفسك وأهلك وولدك والمسألة بحالها فهو حر لا سبيل عليه لأنه جعل له نفسه جزاء على دلالته .
وقد أتى بها فكان حراً وله أهله وولده أيضاً أهله وولده أيضاً .
لأنه شرط له ذلك .
إلا أنه لا يدخل في اسم الأهل هنا إلا زوجته .
بخلاف ما تقدم في فصول الأمان لأنهم هنا قد صاروا مملوكين بالأسر فلا يزول الملك عنهم إلا بيقين وهذا اليقين في زوجته خاصة .
وكذلك في اسم الولد لا يدخل هنا إلا ولد لصلبه وأما ولد ولده فهم فيء لأن اليقين في ولد الصلب خاصة .
وهذا الاستحقاق له يبتنى على المتيقن به .
وإن لم يكن في الأسراء ولد لصلبه فله أولاد بنيه لأنهم قائمون مقام أبيهم في هذا الاسم فيتناولهم عند عدم آبائهم .
ولا يكون ولد بناته@(2/245)
من ذلك في شيء إلا أن يسميهم لأنهم ليسوا من أولاده ثم لا يترك يرجع إلى دار الحرب ولكنه يخرجهم إلى دار الإسلام ليكونوا ذمة للمسلمين لأنه بعد تقرر الأسر لا يجوز تمكينهم من الرجوع إلى دار الحرب .
ويستوي إذا كان دلهم بكلام أو ذهب معهم .
بخلاف ما تقدم من دلالة المسلمين .
فإن ذلك على وجه الإجارة فلا يثبت بالكلام .
وهذا على وجه الصلح والأمان فيعتبر فيه وجود الشرط حقيقة .
فإن كان الأمير قسم السبي في دار الحرب أو باعهم ثم تحي فقال للأسراء : من دلنا على الطريق فهو حر .
أو قال : فله مائة درهم ففعل ذلك بعضهم فإن كان شرط له مائة فله أجر مثله لا يجاوز به المائة ويكون ذلك لمولاه لأن الملك قد تعين فيهم هنا فما أوجبه يكون على وجه الإجازة دون الصلح والأمان .
ولهذا لو دلهم بمجرد كلام ولم يذهب معهم لم يستحق شيئاً وإن كان قال : فهو حر فهذا باطل لأن الأمير لا يملك أن يعتق أرقاء الملاك بعدما تعين ملكهم فيهم .
ولو تحير قبل قسمتهم فقال : من دلنا منكم على الطريق فهو حر فدلهم أسير على طريق بين إلا أنه طريق يأخذ إلى دار الحرب لا إلى دار الإسلام .
فإن كانوا تحيروا في الدخول فهذه دلالة والأسير حر .
وإن كانوا تحيروا في الانصراف فليست هذه بدلالة .
وإن دلهم على طريق يأخذ إلى دار الإسلام لا إلى دار الحرب فالتقسيم فيه على عكس هذا لأن مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال وقد علمنا أن مراده في حالة الدخول على طريق يوصله إلى مقصده من دار الحرب وفي الانصراف مقصوده الدلالة على@(2/246)
طريق يوصله إلى مقصده من دار الإسلام .
وإن قال : إن دللتنا على طريق حصن كذا فأنت حر ولذلك الحصن من ذلك المكان طريق فدلهم على طريق آخر هو أبعد من الطريق المعهود فله شرطه لأن كل واحد من الطريقين طريق ذلك الحصن إذا كان بحيث يعتاد الناس الذهاب إلى ذلك الحصن من ذلك الطريق .
والأمير أطلق اللفظ ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل .
وليس في كلامه ذلك .
وإن دلهم على طريق ليس بطريق إلى ذلك الحصن ولكنه طريق إلى غيره إلا أنهم يقدرون على أن يدوروا من ذلك المكان حتى يأتوه ليست هذه بدلالة لأن الإنسان قد يتمكن من أن يأتي من هذا الموضع كاشغر ثم يدور حتى يأتي بخارى ثم لا يعد أحد الطريق من هنا إلى كاشغر طريق بخارى .
فعرفنا أنه ما أتى بالمشروط عليه فلا يكون حراً .
وإن قال : إن دللتنا على طرق حصن كذا وهو الطريق الذي كان يقال له كذا فدلهم على طريق غيره حتى أقامهم على الحصن .
فإن كانت لهم منفعة في الطريق الذي عينوا له من حيث قرب الطريق أو أمنه أو كثرة العلف أو كثرة القرى أو كثرة ما يجدون من السبي فهو فيء على حاله لأنه ما وفى بالشرط فإنهم عينوا له طريقاً وكانت لهم فيه منفعة .
والتعيين متى كان مفيداً يجب اعتباره .
وإن كان الذي دلهم عليه أكثر منفعة من الذي عينوا له فهو فيء في القياس أيضاً لأنه ما أتى بالمشروط .
وفي إيجاب العباد يعتبر اللفظ دون المعنى لجوازه أن يخلو كلامهم عن حكمة وفائدة حميدة .
وفي الاستحسان : هو حر لأنه أتى بمقصودهم وزيادة .
وإنما يعتبر التعيين إذا كان مفيداً .
فإذا علم أن فائدتهم فيما أتى به أظهر سقط اعتبار التعيين لكونه غير مفيد .
وإن لم يعلم أيهما أنفع فهو فيء على حاله لأن التعيين كلام من عاقل فيكون معتبراً في@(2/247)
الأصل ما لم يعلم بخلوه عن الفائدة .
ولم يعلم بذلك .
وعلى هذا لو قال : من دلنا على طريق درب الحدث فهو حر .
فدلهم رجل على طريق المصيصة أو على طريق ملطية .
فإن كان ذلك أقرب وأكثر منفعة فهو حر .
وإن كان ليس كذلك أو لا يدرى أهو كذلك أم لا فهو فيء لأنه ما أتى بالمشروط عليه .
أرأيت لو ذهب بهم إلى طريق غير ما ذكروا له فكان فيه الملك وجنده .
فقاتلهم وقتل منهم أو ذهب بهم في طريق لا علف فيه فهلكت دوابهم أو ماتوا جوعاً أكان يوفى له بشرطه وإنما قصده بهذا بيان أن التقييد متى ما كان مفيداً يجب اعتباره .
باب ما يجوز من النفل في السلاح وغيره
وإذا رأى أمير العسكر دروع المسلمين قليلة عند دخولهم دار الحرب فقال : من دخل بدرع فله من النفل كذا أو فله به سهم كسهمه في الغنيمة .
فهذا جائز لا بأس به لأن هذا التنفيل يقع منه العدو فيجوز أن ينفل على ذلك لتحريضهم على تحمل هذه المؤنة لإرهاب العدو .
ألا ترى أن الشرع أوجب للغازي السهم لفرسه لهذا المعنى وهو أنه يحتمل المؤنة فيما يحصل به إرهاب العدو فللإمام أن يوجب ذلك بطريق النفل اعتباراً بما أوجبه الشرع .@(2/248)
وكذلك لو قال : من دخل بدر عين فله كذا لأن المبارز قد يظاهر بين درعين إذا أراد القتال على ما روي أن النبي عليه السلام ظاهر بين درعين يوم أحد .
فكان هذا منه على وجه النظر والاجتهاد .
وإن قال : من دخل بدرع ومن دخل بدرعين فله مائتان ومن دخل بثلاثة دروع فله ثلاث مائة .
وساق الكلام هكذا .
فليس ينبغي له أن ينفل هكذا ولا يجوز منه هذا التنفيل في أكثر من درعين لأن هذا لا يقع على وجه الاجتهاد والنظر والمقاتل لا يمكنه أن يلبس أكثر من درعين عند القتال لأن ذلك يثقل عليه ولا يمكنه أن يقاتل معه .
فعرفنا أنه ليس في التنفيل على أكثر من درعين منفعة .
فإن قيل : معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يتحقق في الثالث والرابع والخامس .
قلنا : ليس كذلك .
فإن الإرهاب بالدارع لا بالدرع يقال : انفصل كذا وكذا دارع وكذا وكذا حارس .
فيحصل به الإرهاب .
والدارع هو وحده لأنه ما حمل الدروع مع نفسه ليعطيها غيره وإنما حمل للبس عند القتال .
وذلك لا يتأتى منه في أكثر من درعين .
وعلى هذا لو قال لأصحاب الخيل بتجفاف فله كذا .
فإن معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يحصل بالتجفاف للخيل كما يحصل بالدروع للفارس فيجوز أن ينفل على تجفاف وتجفافين .
ولا يجوز أكثر من ذلك لأن التجفاف للفرس فالتنفيل عليه بمنزلة التنفيل على الفرس .
ولو كن الأمير ممن لا يرى أن يسهم إلا لفرس واحد فقال : من دخل بفرسين فله كذا كان ذلك تنفيلاً صحيحاً ولا يجوز أن ينفل على أكثر من فرسين لأن المبارز قد يقاتل بفرسين ولا يقاتل بأكثر منهما فإنما يجوز من تنفيله ما يكون فيه منفعة دون ما لا منفعة فيه .
إلا أن يكون أمراً معروفاً قد يحتاج الرجل فيه إلى ثلاثة أفراس .
فحينئذ يجوز تنفيله لثلاثة أفراس في ذلك .@(2/249)
وكذلك لثلاثة تجافيف لأنه يكون على كل فرس تجفاف ومتى علم أن تنفيله كان على وجه النظر يجب تنفيذه مما أصاب من الغنائم بعد التنفيل .
ولو لم يقل شيئاً لهم حتى حاصروا حصناً فقال : من تقدم إلى الباب دارعاً فله كذا .
أو قال : من تقدم متجففاً فله كذا أو قال : من تقدم مظاهراً درعين فله كذا فلذلك تنفيل صحيح لأن فيه منفعة للمسلمين من حين إظهار الجلادة والقوة وإيقاع الرعب في قلوب المشركين والتنفيل على مثله يكون .
ولو لم يقل ذلك حتى فتحوا الحصن ثم أراد أن ينفل منه للدارع والمتجفف على قدر العناء فليس له أن ينفله لأن التنفيل ما يكون قبل الإحراز فأما بعد الإحراز فيكون صلة لا تنفيلاً وليس للإمام أن يخص بعض الغانمين بالصلة من الغنيمة بعدما ثبت حقهم فيها .
فإن نفل الإمام بعد الإحراز على قدر العناء والجزاء فكان ذلك من رأيه فهو نافذ لأنه أمضى باجتهاده فصلاً مختلفاً فيه فليس لأحد من القضاة أن يبطل ذلك .
ويحل للمنفل أن يأخذ ذلك وإن كان هو ممن لا يرى التنفيل بعد الإصابة لأن الرأي يسقط اعتباره إذا جاء الحكم بخلافه فإن قضاء القاضي ملزم غيره ومجرد الاجتهاد غير ملزم غيره وهو نظير ما لو قال لامرأته : أنت طالق ألبتة .
ومن رأيه أن ذلك تطليقة بائنة فقضى القاضي بأنها تطليقة رجعية كما هو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه ينفذ قضاؤه ويسعه أن يقيم عليها ولكن هذا على قول محمد وأما على قول أبي يوسف : فالمجتهد لا يدع رأيه إذا كان ذلك أشد عليه بقضاء القاضي بخلافه .
وقد بينا ذلك في شرح المختصر في آخر الاستحسان والله أعلم .@(2/250)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=27 - TOP#TOPباب ما يجوز من النفل بعد إصابة الغنيمة
ومن يجوز ذلك منه قال : ولو أن سرية في دار الحرب أصابوا غنائم فعجزوا عن حملها إلى دار الإسلام وأراد الأمير إحراقها أو تركها ثم بدا له فقال للمسلمين : من أخذ منها شيئاً فهو له فهذا جائز .
ومن تكلف منهم فأخرج شيئاً فهو له ولا خمس فيه لأن هذا تنفيل وقع على وجه النظر وإنما كرهنا التنفيل بعد الإصابة لما فيه من إبطال حق بعض الغانمين بعدما ثبت حقهم في المصاب .
والإبطال إنما يكون عند التمكن من الحفظ وتأكيد حقهم بالإخراج .
فأما بعد تحقق العجز عن ذلك فهذا لا يكون إبطالاً لحق أحد .
يوضحه : أن له إحراق الجمادات منها وذبح الحيوانات ثم الإحراق أو تركها في مضيعة .
وفي ذلك إبطال حق الكل .
فمن ضرورة جواز ذلك جواز إبطال حق البعض بتخصيص البعض بطريق التنفيل .
ولأن في الإحراق إبطال حق لا منفعة فيه لأحد من المسلمين وفي التنفيل توفير المنفعة على بعضهم .
فكان الميل إلى هذا الجانب أولى .
فأما إذا كان قادراً على الإخراج أو البيع أو البيع أو القسمة فهو متمكن من إيصال المنفعة إلى جماعتهم .
فلا ينبغي له أن يبطل حق بعضهم .
وكذلك لو قال عند العجز : من أخذ شيئاً فهو له بعد الخمس أو قال : فله نصف ما أخذ قبل الخمس أو بعده فلذلك كله صحيح .
ينبغي له أن يفعل من ذلك ما يكون أقرب إلى النظر ثم القسمة بعد الإخراج@(2/251)
على ما أوجبه الأمير بالتنفيل .
وإن أحد وجد منهم شيئاً كان المسلمون يقدرون على إخراجه ولم يكن للإمام علم به من جوهر أو غير ذلك فإن هذا يخمس الباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن صحة هذا التنفيل لضرورة العجز عن الإحراز .
والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها فلا يتناول هذا التنفيل ما لم يتحقق فيه الضرورة .
وإذا ثبت هذا الحكم فيما أخذوا من أموالهم ثبت فيما لم يأخذوه بطريق الأول حتى إذا مروا ببناء من بنائهم فيه السلاح والرخام وماء الذهب ولم يقدروا على أخذه وإخراجه فقال الأمير : من أخذ منه شيئاً فهو له .
فذلك صحيح .
ومن خرب شيئاً من ذلك وأخرجه اختص به .
لأنهم وإن كانوا قادرين على هدمه فقد كانوا عاجزين عن إخراجه ولهم أن يتركوه فيصح تنفيل أميرهم في ذلك أيضاً ويستوي إن كان ذلك مما يقدر على حمله بعد الهدم أو لا يقدر عليه لأن التنفيل من الأمير قبل الهدم وإنما صار بحيث يقدر على حمله بعد الهدم أو لا يقدر عليه لأن التنفيل من الأمير قبل الهدم وإنما صار بحيث يقدر على حمله بما أحدث فيه من الهدم بعد تنفيل الإمام .
إلا أن يكون شيئاً من ذلك موضوعاً نائياً عن البناء يقدرون على إخراجه حين نفل الإمام ولم يعلم به فإن ذلك يقسم بين الجماعة وإن أخرجه واحد منهم لأن التنفيل لم يتناوله .
ولو أن الأمير لم ينفل أحداً ولكنه أمرهم بإحراق ذلك فتكلف بعضهم إخراجها على دوابهم إلى دار الإسلام فذلك يخمس ويقسم بين جميع السرية .
لأن تخصيص البعض بتنفيل الإمام ولم يوجد إنما@(2/252)
الموجود الأمر بالإحراق ولا تأثير له في تخصيص بعضهم بشيء وأدنى الدرجات أن الذي أخرج أحيا بفعله ما كان مشرفاً على الهلاك مما كان مشتركاً بينه وبين غيره فلا يكون ذلك سبباً لقطع الشركة وتخصيصه به .
ولو قسم ما أصاب في أرض الحرب أو باعه من التجار أو أخرجه إلى دار الإسلام فلحقهم العدو وابتلوا بالهرب فينبغي أن يحرقوا ذلك بالنار لينقطع منفعة العدو عنه .
فإن في ذلك معنى الكبت لهم وإن كان يجوز للغزاة أن يفعلوا ذلك بما ثقل عليهم من متاعهم وسلاحهم في دار الحرب لئلا ينتفع به العدو كما فعله جعفر فإنه حين أيس من نفسه عقر فرسه .
فلأن يجوز ذلك فيما أخذوا من أمتعة أهل الحرب كان أولى .
فإن نبذوا ذلك ليحرقوه فقال الأمير : من أخذ شيئاً فهو له فأخذ ذلك قوم وأخرجوه من المهلكة فذلك كله مردود إلى أهله لأنه بالقسمة والبيع قد تعين الملك فيه .
وليس للإمام ولاية التنفيل في أملاك الناس بحال .
وكذلك بالإخراج إلى دار الإسلام وقد تأكد الحق فيه لهم على وجه يورث عنهم فلا يبقى للإمام فيه ولاية التنفيل أصلاً .
بخلاف ما قبل الإحراز .
فالثابت هناك حق ضعيف ثبت بالإحراز بالدار فالحق قد يتأكد بتمام السبب بالإحراز بالدار فلا يبطل ذلك بالإلقاء للإحراق .
فلا يكون للإمام فيه ولاية التنفيل وهذا بعد القسمة .
والبيع أظهر لأن الملك@(2/253)
قد تعين فيه .
ألا ترى أنهم لو طرحوا ذلك في دار الحرب فلم يقطن بها أهل الحرب حتى دخلت سرية أخرى فأخرجوها وأخذها أهل الحرب التي لم تؤخذ منهم .
ولو طرحوها للإحراق بعد القسمة والبيع ثم تركوها مخافة العدو ولم يعلم بها المشركون حتى جاءت سرية أخرى فأخذوها وأخرجوها فهي مردودة على الملاك لبقاء ملكهم فيها .
وإن أخذها المشركون ثم استنفذها من أيديهم سرية أخرى فإن وجدها الملاك قبل القسمة أخذوها بغير شيء .
وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة بمنزلة سائر أموالهم إذا أصابها أهل الحرب وأحرزوها وكذلك بعد الإحراز بدار الإسلام .
وإن طرحوها ثم جاءت سرية أخرى فأخذوها ولم يعلم بها أهل الحرب فهي مردودة على السرية الأولى لتأكد حقهم فيها وإن أحرزها أهل الحرب ثم أخذها منهم سرية أخرى فإن وجدها السرية الأولى قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن وجدوها بعد القسمة فلا سبيل لهم عليها .
وهذه هي الرواية الثانية التي بينا أنها أصح في هذه المسألة لأنهم لو أخذوها بالقيمة وحقهم قبل القسمة في المالية .
إذ لا ملك لأحد في العين ولهذا كان للإمام أن يبيعها ويقسم الثمن فلا يكون الأخذ بالقيمة مفيداً لهم شيئاً وإنما ثبت لهم حق الأخذ إذا كان مفيداً .
ولو أن المشترين أو الذين وقع ذلك في سهامهم .
أو الذين رموا@(2/254)
بمتاعهم قالوا حين رموا به : من أخذ شيئاً فهو له .
فأخذ ذلك قوم من المسلمين فهو لهم أخرجوه أو لم يخرجوه لأن هذا هبة من الملاك للآخذين .
وقد تمت الهبة بقبضهم .
فإن أرادوا الرجوع فيه فلهم ذلك قبل أن يخرجه الآخذون إلى دار الإسلام كما هو الحكم في الهبة .
وإن أخرجوه أو بلغوه موضعاً يقدر فيه على حمله لم يكن لهم أن يرجعوا فيه لأنه حدث فيه زيادة بصنع الموهوب له .
فإنه كان مشرفاً على الهلاك في مضيعة وقد أحياه بالإخراج من ذلك الموضع فالزيادة في عين الموهوب تمنع الواهب من الرجوع ولكن هذا الحكم فيما إذا أخذه من سمع مقالة المالك منه أو ممن بلغه فأما من لم يسمع ذلك أصلاً إذا أخذ شيئاً فأخرجه كان عليه أن يرده إلى مالكه لأن من علم بمقالته فإنما أخذه على وجه الهبة .
فيكون ذلك قبضاً متمماً للهبة ومن لم يعلم ذلك فهو إنما أخذه لا على وجه الهبة بل على وجه الإعانة لمالكه في الرد عليه .
فلا يثبت الملك له بهذا الأخذ .
فإن قيل : هذا إيجاب لمجهول فكيف يصح بطريق الهبة قلنا : لأن هذه جهالة لا تقضي إلى المنازعة .
فالملك إنما يثبت عند الأخذ وعند ذلك الأخذ متعين معلوم وكان الملك بهذا اللفظ أباح أخذه على وجه الهبة منه وهذه الإباحة تثبت مع الجهالة .
أصله : ما رواه عبد الله بن قرط الثمالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الأيام يوم النحر .
ثم يوم القر " يعني الثاني من أيام النحر لأن الحاج يقون فيه بمنى .
قال : وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمساً أو ستاً فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فملا وجبت جنوبها قال كلمة لا أفهمها .
فسألت بعض من يليه :@(2/255)
ماذا قال رسول الله فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شاء اقتطع " .
فهذه إباحة الأخذ على وجه التمليك والانتفاع بالمأخوذ أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجهالة .
فما يكون من هذا الجنس يتعدى إليه حكم هذا النص .
يقرره أن مجرد الإلقاء بغير كلام يفيد هذا الحكم .
فإن الإنسان ينثر السكر والدراهم في العرس وغيره وكل من أخذ شيئاً من ذلك يصير مملوكاً له ويجوز له أن ينتفع به من غير أن يتكلم الناثر بشيء .
وقيل : بأن الحال دليل على الإذن في الأخذ فإذا وجد التصريح بالإذن في الأخذ فلأن يثبت هذا الحكم كان أولى .
وعلى هذا لو وضع الإنسان الماء والحمد على داره فإنه يباح الشرب منه لكل من مر به من غني أو فقير لوجود الإذن دلالة .
وإذا غرس شجرة في موضع لا ملك فيه لأحد وأباح للناس الإصابة من ثمارها فإنه يجوز لكل من مر بها أن يأخذ من ثمارها فيتناوله .
وكل ذلك مأخوذ من الحديث الذي روينا .
ولو أن الأمير بعد انهزام المشركين نظر إلى قتلى منهم عليهم أسلابهم وهو لا يدري من قتلهم فقال : من أخذ سلب قتيل فهو له .
فأخذها قوم فلذلك لهم نفل لأن المسلمين لم يأخذوها فيكون هذا في معنى التنفيل قبل الإصابة والأصح أن نقول : هذا تنفيل بعد الإصابة .
ولكن الإمام أمضاه باجتهاده والمختلف فيه بإمضاء الإمام باجتهاده يصير كالمتفق عليه حتى إذا مات أو عزل وولي غيره لم يسترد من الآخرين شيئاً من ذلك .
وإن لم يأخذوا حتى عزل الأول وجاء أمير آخر ثم أخذوا ذلك قبل أن يعلموا بعزله أو بعد ذلك فإن الثاني يأخذ كله منهم فيرده في الغنيمة لأن التنفيل الأول قد بطل بعزله قبل حصول المقصود فالمقصود هو الأخذ فإذا بطل تنفيله قبل حصول هذا المقصود صار كأن لم يكن وقد تقدم نظيره فيما إذا نفل قبل الإحراز ثم مات أو عزل قبل الإصابة واستعمل غيره فإنه يبطل حكم ذلك التنفيل .
ففي التنفيل بعد الإصابة هذا أولى .
وهو بمنزلة قضاء لم ينفذه قاض حتى عزل واستقضى غيره ممن يرى خلاف ذلك ثم فرع على الأصل الذي بينا أن التنفيل عند حضرة القتال يكون على ذلك القتال خاصة وعند دخول@(2/256)
دار الحرب قبل أن يلقوا قتالاً يكون باقياً إلى أن يخرجوا إلى دار الإسلام .
يقول : فإن خرجوا إلى دار الإسلام ثم قفلوا إلى دار الحرب فقتل رجل قتيلاً من المشركين فلا سلب له لأن حكم ذلك التنفيل قد انتهى بخروجهم إلى دار الإسلام وهذه دخلة أخرى فإن لم يجدد الإمام تنفيلاً غيرها ثم يكن للقاتل السلب .
ألا ترى أنهم لو أقاموا سنة ثم رجعوا لم يكن للقاتل السلب بالتنفيل الأول ولو بلغهم أن العدو دخلوا دار الإسلام فخرجوا يريدونهم فقال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه .
فهذا على ما أصابوا في وجههم ذلك في دار الإسلام ودار الحرب إلى أن يرجعوا إلى منازلهم .
وإن لقوا العدو في دار الإسلام ثم قال الأمير ذلك فهذا على ذلك القتال خاصة .
لما بينا أن المطلق من الكلام يتقيد بما هو الغالب من دلالة الحال في كل فصل .
ولو أن الأمير بعث في دار الحرب سرية إلى حصن وقال : ما أصبتم منه فلكم الربع من ذلك فأقاموا عليهم أياماً يقاتلون ثم لحقهم العسكر فقاتلوا معهم حتى فتحوا الحصن فلا نفل للأولين لأنه إنما أوجب لهم النفل فيما يصيبون من قتالهم دون من بقي من العسكر .
والمقصود كان تحريضهم على فتح الحصن والإصابة .
ولم يحصل ذلك بهم .
ألا ترى أن العسكر لو فتحوا الحصن دون أهل السرية لم يكن لأهل السرية من النفل شيء وإن كان الفتح بمحضر منهم فكذلك إذا كان الفتح بقتال جميع أهل العسكر .
قال : ولو بعث الإمام سرية من دار الإسلام وعليهم أميرهم ثم عزل أميرهم وبعث أميراً آخر .
وقد نفل الأول قوماً نفلاً فأخذوه فإن كانوا أخذوا ذلك قبل علمه بعزله فذلك سالم لهم وكذلك إن كان ابتداء التنفيل منه قبل أن يعلم بالعزل@(2/257)
لأنه أمير ما لم يعلم بعزله أو يأتيه من هو صارفه ويخبره بعزله .
فأما إذا نفل الأول بعدما جاء الثاني وأخبره بعزله فتنفيله باطل لأنه التحق بسائر الرعايا .
وإن جاءه الكتاب بأن الإمام قد بعث فلاناً أميراً على السرية فما لم يقدم عليه فلان فهو أمير على حاله يجوز تنفيله .
ألا ترى أنه لو كان أمير مصر كان له أن يصلي الجمعة إلى أن يقدم صارفه .
وهذا لأنه لا يجوز ترك المسلمين سدى ليس عليهم من يدبر أمورهم في دار الإسلام ولا في دار الحرب .
فما لم يقدم الثاني كان التدبير إلى الأول فيصح منه التنفيل إلا أن يكون الإمام كتب إليه : إنا قد عزلناك واستعملنا فلاناً أو لم يذكر هذه الزيادة فحينئذ يصير هو معزولاً لا يجوز تنفيله بعد ذلك لأنه صار أميراً بخطاب الأمير إياه عند التقليد فيصير معزولاً بخطابه إياه بالعزل والخطاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا .
ولو كان الأمير الأول حين استعمل أمر بأن يدخل بالقوم أرض الحرب فلم يدخل بهم حتى جاءه كتاب الإمام : إنا قد أمرنا فلاناً فلا يبرح حتى يأتيك .
فعجل فدخل بهم أرض الحرب ونفل لهم نفلاً فذلك باطل لأن نهي الإمام إياه عن دخول أرض الحرب قد وصل إليه بكتابه فصار كما لو واجهه به .
ولو واجهه بذلك فدخل بهم دار الحرب بغير أمره ولم يكن أميراً فلا يجوز تنفيله .
ولو كان الكتاب أتاه : إنك الأمير فادخل بهم فإذا أدركك فلان فهو الأمير دونك@(2/258)
فجميع ما صنع الأول من النفل جائز حتى يلقاه الأمير الآخر لأنه علق عزله بالتقائه مع الثاني فما لم يلتقيا فهو الأمير على حاله .
وبعدما التقيا صار الأمير هو الثاني إن نفل جاز تنفيله دون الأول .
ولو كتب إليه : أنت الأمر حتى يلقاك فلان فهذا والأول سواء لأنه جعل لولايته غاية ومن حكم الغاية أن يكون ما بعده بخلاف ما قبله .
ويستوي إن كان قلده قبل هذا مطلقاً أو لم يقلده لأن بعد التقليد مطلقاً له ولاية العزل فله ولاية التوقيت في ذلك التقليد أيضاً .
وإذا ثبت التوقيت بهذا الكتاب صار كأنه هو صرح بقوله : فإذا أتاك فلان فهو الأمير دونك .
ولو أن قوماً من المسلمين لهم منعة أمروا أميراً ودخلوا دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأصابوا غنائم خمس ما أصابوا وكان ما بقي بينهم على سهام الغنيمة لأنه باعتبار منعتهم يكون المال مأخوذاً على وجه إعزاز الدين فيكون حكمه حكم الغنيمة .
فإن نفل أميرهم فذلك جائز منه على الوجه الذي كان يجوز من أمير سرية قلده الإمام وبعثه لأنهم رضوا به أميراً عليهم ورضاهم معتبر في حقهم فصار أميرهم باتفاقهم عليه .
ألا ترى أن الإمامة العظمى كما تثبت باستخلاف الإمام الأعظم تثبت باجتماع المسلمين على واحد والأصل فيه إمامة الصديق رضي الله عنه فكذلك الإمارة على أهل السرية تثبت باتفاقهم كما تثبت بتقليد الإمام .
ألا ترى أن أهل البغي لو أمروا عليهم أميراً ودخلوا دار الحرب فنفل أميرهم شيئاً ثم تابوا جاز ما نفله أميرهم باعتبار المعنى الذي ذكرنا .
ولو أن الخليفة غزا بجند فمات في دار الحرب أو قتل فقالت طائفة من الجند : نؤمر فلاناً@(2/259)
فأمروه واعتزلوا .
وقالت طائفة أخرى : نؤمر فلاناً فأمروه واعتزلوا فأخذت كل طائفة وجهاً في أرض العدو فأصابوا غنائم ونفل كل أمير نفلاً لقومه قبل الخمس أو بعد الخمس ثم التقوا في أرض الحرب واصطلحوا فالخليفة الذي قام مقام الأول ينفذ تنفيل كل أمير .
باعتبار أن قومه قد رضوا به أميراً عليهم وهم الذين أصابوا ما أصابوا من الغنيمة .
فيجوز تنفيل كل أمير سواء التقوا في دار الحرب أو بعد ما خرجوا إلى دار الإسلام إلا أنهم إذا التقوا في دار الحرب فما بقي بعد النفل يقسم بين الفريقين على سهام الغنيمة لا هم اشتركوا في الإحراز .
ولو بعث الخليفة عاملاً على الثغور ولم يذكر له النفل بشيء .
فله أن ينفل قبل الخمس وبعد الخمس لأنه إنما استعمل على الثغور ليحفظها ويغزو أهل الحرب حتى ينقطع طمعهم عنها والنفل من أمر الحرب فإنه تحريض على القتال فمن ضرورة تفويض أمر الحرب إليه وجعل التدبير في ذلك إلى رأيه أن يكون أمر التنفيل مفوضاً إليه .
إلا أن ينهاه الخليفة عن النفل فحينئذ لا يجوز له أن ينفل لأن الدلالة يسقط اعتبارها إذا جاء التصريح بخلافها بمنزلة تقديم المائدة بني يدي الإنسان فإنه أذن في التناول دلالة إلا أن ينهاه عن ذلك .
فإن استعمل هذا العامل عاملاً آخر فنفل الثاني فإن كان الخليفة لم ينه الأول عن التنفيل جاز التنفيل من الثاني .
وإن كن نهى الأول عن ذلك لم يجز التنفيل من الثاني لأنه عامل للعامل الأول فيقوم مقام الأول .
ألا ترى أن القاضي إذا استخلف وقد نهى عن القضاء في الحدود لم يكن لخليفته أن يقضي فيها وإن لم ينه عن ذلك كان لخليفته أن يقضي فيها@(2/260)
فكذلك فيما سبق .
ولو أن هذا العامل بعث سرية من الثغور وأمر عليهم أميراً فنفل أميرهم في دار الحرب للسرية سلب القتلى فذلك جائز منه كما يجوز من العامل لو غزا بنفسه لأنه فوض إليه أمر الحرب وجعله نافذ الأمر على أهل السرية .
وإنما بعثهم من دار الإسلام فكان أميرهم كأمير العسكر .
وتنفيل أمير العسكر جائز وإن لم يؤمر به نصاً لأن الحق في المصاب لمن تجب ولايته خاصة فكذلك تنفيل أمير السرية .
ولو نهاه العامل أن ينفل أحداً شيئاً فنفل لم يجز تنفيله لأن من قلده صرح بالنهي عن التنفيل فيكون حاله في التنفيل كحال العامل إذا نهاه الخليفة عن التنفيل ولأنه ليس بأمير عليهم فيما لم يوله العامل فكان تنفيله كتنفيل سائر الرعايا .
ويستوي إن رضي الجند بذلك أو لم يرضوا .
وكان ينبغي أن يجوز تنفيله إذا رضوا به كما تثبت الإمارة له عليهم بعد موت أميرهم إذا رضوا به .
ولكن الفرق بينها أن هناك رضاهم لم يحصل على مخالفة أمر العامل بل حصل فيما لم يأمر العامل فيه بشيء فكان معتبراً .
وهاهنا حصل رضاهم على مخالفة ما أمر به العامل فلا يكون معتبراً .
كما لو أرادوا عزل أميرهم وتقليد غيره .
فإن نفل أميرهم ثم لم يقسموا الغنائم حتى أخرجوها وأخبر أميرهم العامل بما نفل فرأى أن يجيز ذلك فليس ينبغي له أن يفعله لأن إجازته بمنزلة تنفيله بعد الإصابة .
فإن أجاز ذلك جاز النفل وحل لمن أصابه أن يأخذ ما أصاب لأن هذا حكم من جهته في فصل مجتهد فيه وهو التنفيل بعد الإصابة فيكون نافذاً .
فإن قيل : أصل التنفيل كان باطلاً وإجازة ما كان باطلاً يلغو وإن حصل ممن يملك الإنشاء@(2/261)
كمما لو طلق رجل امرأة الصبي ثم بلغ الصبي فأجاز ذلك كانت إجازته لغواً وإن كان هو يملك إنشاء الطلاق الآن وعن هذا الكلام جوابان .
أحدهما : أن هناك أصل الإيقاع لم يكن موقوفاً لأنه لا مجيز له عند ذلك وهاهنا أصل التنفيل حين وقع كان موقوفاً حتى لو أجازه العامل قبل أن يصيبوا الغنايم كان صحيحاً .
فإن أراد أن يجيزه بعد الإصابة قلنا بأنه يجوز أيضاً .
والثاني : أن إجازته هاهنا إنما تتم بالتسليم إلى من نفل له الأمير فيجعل هذا التسليم بمنزلة الإنشاء لا قوله أجزت ووزانه من الطلاق أن لو قال الصبي بعد البلوغ : جعلت ذلك تطليقة واقعة فإنه يجعل ذلك إنشاء للطلاق منه وأوضح هذا لمن اشترى شيئاً إلى العطاء فإن الشراء فاسد فإن رأى القاضي أن يجيز هذا البيع حين خوصم فيه إليه نفذ البيع بإجازته وحل للمشتري إمساكه وإن كان أصل البيع فاسداً عندنا .
ولو كان العامل دخل دار الحرب مع العسكر ثم بعث سرية ولم يأمر أميرهم بالتنفيل ولم ينهه عن ذلك فنفل أصحاب السرية نفلاً ثم جاءوا بالغنيمة إلى العسكر فإن تنفيل أمير السرية يجوز في نصيب أصحاب السرية خاصة لأن الجيش شركاء أصحاب السرية في المصاب هنا وليس لأمير السرية ولاية على الجيش إنما ولايته على أهل السرية خاصة فيجوز تنفيله في نصيبهم خاصة .
وإن كان العامل حين بعثهم نفل لهم نفلاً ثم نفل أميرهم أيضاً نفلاً فجاءوا بالغنائم فما نفل لهم العامل يرفع مزن رأس الغنيمة ويقسم ما بقي حين تبين حصة أصحاب السرية ثم ينفذ ما نفل أمير السرية من حصتهم من الغنيمة ومما نفل هلم العامل لأن ذلك كله لهم خاصة ولأميرهم ولاية عليهم فينفذ تنفيله فيما لهم خاصة .
بخلاف الأول فهناك السرية مبعوثة من دار الإسلام ولا شركة لغيرهم معهم في المصاب حتى لو أن هذه السرية لم ترجع إلى العسكر@(2/262)
ولكنهم خرجوا إلى دار الإسلام من جانب آخر فإنه يكون الحكم كالحكم في السرية المبعوثة من دار الإسلام لأنه لا شريك لهم في المصاب .
وفي الوجهين لو أصابوا طعاماً كان لهم أن يأكلوا من ذلك ما أحبوا .
ألا ترى أنهم بعدما رجعوا إلى العسكر يباح لهم التناول من الطعام كما يباح لأهل العسكر وفي إباحة تناول الطعام المصاب كالباقي على أصل الإباحة بخلاف حكم التنفيل .
ولو أنهم أصابوا غنماً أو بقراً أو رمكاً فاستأجر الأمير من يسوقها إلى العسكر فذلك جائز في حق أصحاب السرية وحق أهل العسكر لأنه نظر لهم فيما صنع ومنفعة فعله يرجع إليهم جميعاً بخلاف النفل فالمنفعة فيه للمنفلين خاصة فلهذا لا يجوز تنفيله في حصة أهل العسكر .
ولو أن العامل كان نفلهم الربع ثم نفلهم أميرهم حين لقوا العدو على وجه الاجتهاد منه ثم لم يرجعوا إلى العسكر حتى رجعوا إلى دار الإسلام فإن نفل العامل لهم باطل ونفل أميرهم لهم جائز لأنهم حين خرجوا إلى دار الإسلام قبل أن يلقوا العسكر منهم في المصاب بمنزلة السرية المبعوثة من دار الإسلام وإنما نفل العامل لجماعتهم بالسرية وهذا التنفيل باطل على ما ورد به الأثر ولا نفل للسرية الأولى .
فأما نفل أميرهم لهم فحصل على وجه الاجتهاد لبعض الخواص فيكون ذلك صحيحاً لاختصاصهم بالحق في المصاب .
وإن رجعوا إلى العسكر جاز نفل العامل لهم لأن العسكر شركاؤهم في المصاب فكان في هذا التنفيل إبطال شركة العسكر معهم فيصح وإن كان يتعدى إلى إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل .
وأما نفل أميرهم فإنما يجوز فيما هو حقهم خاصة دون ما يكون حصة أهل العسكر على ما بينا وإن كان العامل نهى أمير السرية@(2/263)
عن التنفيل فنفله باطل لنهي العامل إياه عن ذلك .
ونفل الإمام لهم جائز إن رجعوا إلى العسكر .
وإن خرجوا من جانب آخر إلى دار الإسلام فذلك أيضاً باطل ويخمس جميع ما أصابوا والباقي بينهم على سهام الغنيمة لأن الحق في المصاب لهم خاصة .
فليس في هذا التنفيل إلا إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل وذلك باطل .
والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=27 - TOP#TOPباب من النفل الذي يكون للرجل في الشيء الخاص
ولا يدري ما هو وإذا قال الأمير : من جاء بعشرة أثواب فله ثوب .
فجاء بعشرة أثواب مختلفة الأجناس فله عشر كل ثوب منها لأنه أوجب له بالتنفيل عشر ما يأتي به .
فإن معنى كلامه : فله ثوب منها وإن لم ينص عليه .
وهذا لا وجه لتصحيح كلامه إلا هذا فإن إيجاب الثوب مطلقاً لا يصح في شيء من العقود لاختلاف أجناس الثياب ثم ليس بعض الأثواب بأن يجعل له نفلاً بأولى من البعض والثياب إذا كانت مختلفة الأجناس لا تقسم قسمة واحدة فلهذا كان له عشر كل ثوب منها .
وكذلك لو قال : من جاء بثلاثة من الدواب فله دابة لأن هذا الاسم يتناول الأجناس المختلفة كالثياب .
ولو جاء بالكل من جنس واحد فله واحد منها وسط لأن الجنس الواحد محتمل للقسمة .
وعلى الأمير أن يراعي النظر للغانمين ولمن جاء به وتمام النظر في أن يعطيه الوسط مما جاء به .
ولو قال : من جاء بدابة@(2/264)
فله ثلثها فجاء ببقرة أو جاموس أو بعير لم يكن من ذلك شيء لأن اسم الدابة لا يتناول إلا الحمار والفرس والبغل استحساناً .
ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة لا يتناول يمينه غير هذه الأنواع الثلاثة وحقيقة اللفظ هاهنا غير معتبر بلا شبهة .
فإن أحداً لا يقول لو جاء بجارية يستحق النفل منها .
واسم الدابة يتناولها في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا } فعرفنا أنه إنما يبنى هذا على معاني كلام الناس .
فإن كان القوم في موضع دوابهم الجواميس أو البقر إياها يركبون وإياها يسمون الدواب فهو على ما يتعارفونه .
فأما في ديارنا فالدواب هي الخيل والبغال والحمير .
ولو قال الأمير : من أصاب جزورة فهي له .
فجاء رجل بجزور أو بقرة لم يكن له من ذلك شيء وإن جاء بشاة ماعز أو ضأن فهي له لأن هذا الاسم وإن كان حقيقة في كل ما يجزر لكن الناس اعتادوا استعماله في الغنم خاصة فإن الواحد منهم إذا قال لغيره : اجزرني من نعمك فإنما يفهم منه سؤال الشاة دون الإبل والبقر .
ولو قال : من جاء بجزور فهو له لم يستحق بهذا اللفظ البقر والغنم وإنما يستحق الإبل خاصة .
وإن كان كل ذلك مما يجزر ولكن اسم الجزور لا يستعمل إلا في الإبل .
ثم في القياس : إذا جاء ببعير قد ركب أو ناقة قد ركبت لم يستحق منها شيئاً لأن الجزور اسم لما يكون معداً من هذا النوع للكر دون الركوب .
وإنما ذلك قبل أن يركب .
فأما ما ركب فهو لا ينحر للأكل عادة بعد ذلك .
وفي الاستحسان : له النفل إذا جاء بذلك كله لأن الاسم يطلق استعمالاً على ذلك كله في العرف .
ولو قال : من جاء ببعير أو جمل فهو له فجاء ببختي فهو له لأن الاسم يتناول الكل .
بخلاف ما لو قال : من جاء ببختي أو بختية فجاء بجمل عربي أو ناقة لأن البختي اسم خاص لجمال العجم فلا@(2/265)
يتناول العربي .
كما أن اسم العجمي في التنفيل لا يتناول العربي واسم البختي يتناول الذكر والأنثى كما أ اسم الجمل يتناول الذكر والأنثى من الإبل العربي واسم البقر في التنفيل لا يتناول الجاموس فكان ينبغي على هذا القياس أن يتناوله لأنه اسم جنس .
ألا ترى أنه يكمل نصاب البقر به في الزكاة وأنه يتناول قوله عليه الصلاة والسلام : " في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة " لكنه اعتبر العرف .
وفي العرف ينفى عن الجاموس اسم البقر ولا يطلق عليه هذا الاسم إلا مقيداً كما يقال بالفارسية كاؤميش بخلاف اسم البعير والجمل فإنه يطلق على البختير في كل لسان .
ولو قال : من جاء بشاة فهي له .
فذلك يتناول الذكر والأنثى معزاً كان أو ضاناً وكان ينبغي على هذا القياس أن لا يدخل فيه الماعز لأنه يختص باسم آخر وينفي عنه اسم الشاة كما في الجاموس ولكن اعتبر فيه معنى أخرى وهو أنه يخلط البعض بالبعض عادة .
ويعد الكل شيئاً واحداً فيطلق اسم الشاة والغنم على الكل وهذا الوجه بخلاف الجواميس .
واسم الكبش والتيس لا يتناول النعجة لأنه اسم نوع خاص واسم الدجاج يتناول باكرت حاجتها الدجاج بسحرة لأعل منها حين هب نيامها وقال آخر : لما مررت بدير الهند أرقني صوت الدجاج وضرب بالنواقيس فأما اسم الدجاجة فلا يتناول الديك واسم الديك لا يتناول الدجاجة أيضاً وقد بينا هذا في أيمان الجامع فيما إذا قال : لا آكل لحم دجاج .
فأكل لحم ديك حنث ولو عقد اليمين باسم الدجاجة لم يحنث .
ولو عقد اليمين باسم الديك لم يحنث إذا أكل دجاجة .
لحكم التنفيل في قياس اليمين .
والله أعلم .@(2/266)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=27 - TOP#TOPباب من التنفيل في العسكرين يلتقيان
وإذا دخل العسكران من المسلمين أرض الحرب من طريقين فبعث أمير كل عسكر سرية ونفل لهم الثلث أو الربع .
فالتقت السريتان عند حصن وأصابوا الغنائم ثم أرادوا أن يتفرقوا حتى ترجع كل سرية إلى عسكرهم .
فإن الغنيمة تقسم بينهم على سهام الغنيمة .
كأنه لا نفل فيها ولا مستحق لها سواهم لأن كل أمير إنما نفل سريته مما أصابت ولا يتبين مصاب كل سرية إلا بالقسمة .
فلهذا يقسم بين السريتين على سهام الخيل والرجالة من غير أن يرفع الخمس أولاً .
إذ ليست إحدى السريتين بأن تذهب بالخمس بأولى من الأخرى ثم ترجع كل سرية بما أصابها من القسمة إلى العسكر فيعطيهم أميرهم النفل من ذلك ويضم ما بقي إلى غنائمهم .
فيخرج الخمس منها ويقسم ما بقي بين السرية وأهل العسكر .
حتى إذا كانت إحدى السريتين ثمانمائة : أربعمائة فرسان وأربعمائة رجالة والسرية الأخرى أربعمائة : مائة فرسان وثلاثمائة رجالة .
فإنما يقسم المصاب في الابتداء على خمس مائة فرسان وسبع مائة رجالة .
ثم ما أصاب الفرسان يقسم أخماساً : خمس ذلك للسرية التي هي قليلة العدد وأربعة أخماسه للسرية الأخرى .
وما أصاب الرجالة يقسم أسباعاً : ثلاثة أسباعه للقليلة@(2/267)
وأربعة أسباعه للأخرى .
فبهذا الطريق يتبين حصة كل سرية من المصاب .
ويستوي في هذا الحكم إن كان الأميران كل واحد منهما نفل لسريته أو لم ينفل واحد منهما أو نفل أحدهما دون الآخر لأن تنفيل كل أمير لا يجوز فيما هو حصة السرية الأخرى .
فإنهم من أهل العسكر لا ولاية له عليهم . والله أعلم .@(2/268)
باب النفل لمن يجب إذا جعله الأمير جملة
وإذا قال الأمير : من خرج من أهل العسكر فأصاب شيئاً فله من ذلك الربع فهذا اللفظ يتناول كل من له في الغنيمة سهم أو رضخ من مسلم أو ذمي رجل وامرأة حر أو عبد صغير أو بالغ تاجر أو مقاتل قاتل قبل هذا أو لم يقاتلن لأن المقصود التحريض على القتال والإصابة وكل هؤلاء يتحقق فيهم معنى التحريض .
ألا ترى أنهم يستحقون السهم أو الرضخ من الغنيمة للتحريض والتاجر وإن لم يقاتل قبل هذا فقد قاتل الآن حين أصاب شيئاً وجاء به فلهذا استحق النفل من ذلك كله .
فأما المستأمن فإن كان خرج بغير إذن الإمام فلا شيء له من ذلك لأنه لا حق له في الغنيمة رضخاً و لا سهماً .
وإن كان خرج بإذن الإمام فهو بمنزلة الذمي في ذلك .
ولو أن أسيراً من أهل الحرب سمع هذه المقالة من الأمير فخرج وأصاب سيئاً فذلك كله للمسلمين لأن الأسير فيء لهم وما أصابه فهو كسبه وكسب العبد لمولاه فلهذا كان هو مع ما جاء به فيئاً للمسلمين .
ولو كانوا مستأمنين في عسكر المسلمين من أهل تلك الدار فلما سمعوا هذه المقالة خرجوا فأصابوا غنائم فأتوا بها العسكر فإن كانوا وصلوا@(3/3)
إلى موضع قد أمنوا فيه من المسلمين ثم أصابوا هذا المال فعادوا واستأمنوا عليها أماناً مستقبلاً فذلك كله لهم لا خمس فيها لأنه بوصولهم إلى ذلك الموضع قد انتهى حكم الأمان بيننا وبينهم فهم أهل حرب أغاروا على أموال أهل الحرب فملكوها ثم استأمنوا عليها .
وإن كانوا أصابوا ذلك كله للمسلمين إن كانوا خرجوا بغير إذن الإمام وإن كانوا خرجوا بإذنه فلهم النفل من ذلك لأن الأمان بيننا وبينهم باق ما لم يبلغوا إلى مأمنهم فحكمهم في هذا كحكم المستأمنين في عسكرنا من أهل دار أخرى .
والذي يوضح الفرق بين الذين خرجوا بإذن الأمير والذين خرجوا بغير إذنه : أنه يجب على الأمير والمسلمين نصرة الخارجين بإذنه من المستأمنين إذا بلغوا أن العدو أحاطوا بهم كما يجب نصرة أهل الذمة ولا يجب عليهم نصرة الخارجين بغير إذنه فكذلك في حكم التنفيل الذين خرجوا فإذنه بمنزلة أهل الذمة دون الذين خرجوا بغير إذنه والله أعلم بالصواب .@(3/4)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=216&CID=29 - TOP#TOPباب النفل في دخول المطورة
وإذا وقف المسلمون على باب مطمورة فيها العدو يقاتلون فقال الأمير : من دخل من باب المطمورة فله نفل مائة درهم فاقتحم الباب قوم من المسلمين فإذا للمطمورة باب آخر دون ذلك الباب مغلق وإذا ليس بين البابين أحد فقاتل عامة المسلمين على الباب الثاني حتى اقتحموا فاللذين اقتحموا الباب الأول نفلهم لكل إنسان مائة درهم لأن لإمام أوجب لهم ذلك فإن كلمة من توجب العموم على أن يتناول كل واحد على سبيل الانفراد .
فإن قال جماعة المسلمين : لا نعطيهم النفل فإنه لم يكن بين البابين أحد وقد اجتمعنا على القتال على باب المطمورة .
قيل لهم : إن الأمير حرض الداخلين على باب الدخول الأول بما أوجب لهم فكانت الحاجة إلى التنفيل ماسة يومئذ فإنكم كنتم لا تدرون أن وراء الباب باباً آخر وأنه ليس بين البابين أحد .
فإن قيل : هذا لو قال الإمام : من دخل من هذا الباب وهو ما صمد لباب بعينه وإنما قال : من دخل من باب المطمورة وباب المطمورة الباب الأقصى .
قلنا : لا كذلك فإن باب المطمورة عند الأمير والمسلمين حين نفل كان الباب الأول وكانوا لا يتجاسرون على الدخول فيه فالذين دخلوه بعد التنفيل خاطروا بأنفسهم وأتوا بما أوجب لهم الإمام النفل عليه .
فإن قيل : ينبغي أن يعطي جماعتهم مائة درهم فإنه إنما أوجب الإمام ذلك للداخلين .
قلنا : مطلق الكلام محمول على ما يتسارع إلى الإفهام وهو أن يكون@(3/5)
لكل رجل مهم المائة نقلاً فإن نكر المائة وذلك دليل على أن المستحق لكل واحد منهم غير المستحق لصاحبه
وكذلك لو قال : من دخل قله الربع من الغنيمة - فدخل عشرة فلهم الربع بينهم لأن هناك عرف ما أوجب للداخلين بالإضافة إلى الغنيمة والغالب أن مراده الإشراك بين الداخلين في الجزء المسمى ألا ترى أن الداخلين يزيدون على الأربعة عادة ولا تكون الغنيمة إلا أربعة أرباع فبهذا يتبين أن مراده الإشراك بينهم الربع وإن كثروا .
وإن دخل واحد ثم واحد هكذا حتى كملوا عشرة فالربع بينهم بمنزلة ما دخلوا معاً لأنه أوجب النفل على الدخول من غير أن يتعرض بجمع أو ترتيب .
ولكن هذا لكل من دخل قبل أن يتنحى العدو من الباب فإذا تنحوا أو علم أنه ليس بين البابين أحد فلا نفل لمن يدخل بعد ذلك لأن المقصود هو التحريض على الدخول وذلك يختص بحال بقاء الخوف .
وكذلك إن فتح المسلمون الباب وهابوا أن يدخلوا مخافة كمين خلف الباب فهذا والأول سواء لأن المقصود التحريض على الدخول فيتقيد بحال بقاء الخوف وكذلك لو قال : من دخل فله بطريق المطمورة فدخل العشرة معاً أو على الترتيب حال قيام الخوف لأنع عرف البطريق بالإضافة فعرفنا أن مراده الإشراك بين الداخلين فيه .
ولو قال : فله بطريق من بطارقتهم فلكل داخل بطريق أن ما أوجبه هناك منكر .
إلا أنه إذا لم يكن في المطمورة إلا بطريقان أو ثلاثة فذلك بينهم بالسوية لا يعطون شيئاً آخر لأن صحة الإيجاب باعتبار المحل فلا يصح إلا في@(3/6)
مقدار الموجود في المحل .
وعلى هذا لو قال : فله جارية من جواريهم ثم لم يوجد فيهم إلا ثلاث جوار فذلك بينهم بالسوية لأنه ليس بعضهم بأولى من البعض .
ولا يعطون شيئاً آخر لأن التنفيل لم يوجد فيما سوى الجواري الموجودات فيها .
بخلاف ما لو قال : فله جارية ولم يقل من جواريهم فإن هناك يعطي كل داخل جارية أو قيمة جارية وسط من المال الموجود فيها لأنه سمي لكل داخل جارية مطلقاً وهذه التسمية توجب الحق في مالية جارية إما عينها أو قيمتها .
ولكن يتقيد بالمال الموجود بالمطمورة لأن المقصود إيصال المنفعة إلى المسلمين وإنما يتحقق ذلك إذا تقيد النفل بالمال الموجود فيها .
حتى إذا لم يجدوا في المطمورة شيئاً فلا شيء للداخلين لانعدام المحل الذي أوجب الإمام حقهم فيه وأوضح هذا الفرق بالوصية : فإن من قال : أوصيت لفلان بجارية من جواري فمات وليس له جوار لم يكن للموصى له شيء .
ولو قال بجارية أعطي قيمة جارية من ماله فإن مات ولا مال له فلا شيء للموصى له فكذلك حكم التنفيل إن لم يوجد في المطمورة شيء وأصابوا غنائم من موضع آخر لم يكن لهم النفل لأن ما يقيد من الكلام بمقصود المتكلم بمنزلة ما يتقيد بتنصيص المتكلم عليه .
فإن دخل واحد من المسلمين ونادى أنه ليس خلف هذا الباب@(3/7)
أحد ثم دخل جماعة فالنفل للأول خاصة أنه تقيد بحال بقاء الخوف وقد زال ذلك حين سمعوا النداء من الأول
بخلاف ما إذا كانت المطمورة مظلمة ولم يسمعوا م الأول كلاماً حتى دخلوا على إثره قبل أن يستبين لهم شيء لأنهم دخلوا في حال بقاء الخوف فهم كالداخل أولاً في استحقاق النفل .
ولو دخل قوم من بابها وتدلى قوم من فوقها دلاهم غيهم بإذنهم حتى دخلوا وسطها فلكل واحد منهم النفل إذا كان الأمير قال : من دخلها لأنه شرط الدخول مطلقاً وقد ذلك من كل واحد منهم بخلاف قوله : من دخل م باب المطمورة لأن هناك قيد الكلام باشتراط الدخول من الباب .
ألا ترى أن من قال لزوجته : إن خرجت من هذا الباب فخرجت من باب السطح لم يقع عليها شيء بخلاف ما إذا قال : إن خرجت من الدار .
فإن الذين تدلوا جعلهم أنفسهم في قدور من حديد ثم أمروا أصحابهم فدلوهم وكانوا معلقين بين السماء والأرض يقاتلون أهل المطمورة حتى فتح المسلمون الحصن فلهم النفل لأنهم انتهوا إلى الموضع الذي كان مقصود الأمير وهو موضع القتال وما انتفع المسلمون بما صنعوا فلا شيء لهم من النفل .
ولو انقطعت الحبال حين دلوهم فوقعوا في الحصن وأخذوا النفل .
لأنهم دولهم بأمرهم@(3/8)
فكأنهم طرحوا أنفسهم فيها فيستحقون النفل لإتيانهم بما شرط عليهم .
فإن كان الذين دلوهم قطعوا الحبال بغير أمرهم فوقعوا في المطمورة فقاتلوا حتى فتحوا لم يكن لهم من النفل شيء لأنهم ما دخلوها وإنما ألقوا فيها لأن القطع إذا كان بغير أمرهم لا يكون فعل القاطع مضافاً إليهم بخلاف ما إذا كان بأمرهم .
ألا ترى أنهم لو عطبوا في هذا الفصل من وقعتهم ضمن القاطعون دياتهم وفي الأول لا يضمنون شيئاً بمنزلة ما لو ألقوا أنفسهم فيها فكيف يستقيم أن يجمع لهم بين النفل والديات .
ولو زلقت رجل أحد من الواقفين فوق المطمورة وهو يقاتل فيها فله النف لأنه هو الذي وضع قدمه في ذلك الموضع وما طرأ على فعله فعل آخر معتبر فيكون حصوله فيها مضافاً إلى فعله كأنه دخلها قصداً ولو دفعه إنسان فيها لم يكن له من النقل شيء لأنه طرأ عل فعله فعل معتبر فيكون هو ملقى فيها لا داخلاً إلا أن يكون أمر بعض أصحابه بأن يرمي به فيها فإن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه وهذا لأنه المقصود إظهار الجرأة وذلك يحصل فيما لو فعل به غيره بأمره ولا يحصل إذا فعل به بغير أمره .
ولو أن أصحابه دلوه فيها فقطع أهل الحرب الحبال بالسيوف فوقع فيها وقاتل حتى فتحت المطمورة فله النفل لأنه قد بلغ موضع القتال حيث وصلت السيوف إلى الحبال فقطعوها أو إلى القدور فكسروها .
فإن كان في موضع من الهواء أعلى من أن يصل سلاح العدو إليه فتوهقه أهل الحرب بوهق حتى رموا به في المطمورة لم يكن له من النقل شيء لأنه ملقى في المطمورة بفعل فاعل معتبر وليس بداخل فيها على وجه يكون في إظهار الجرأة فلا يستحق النفل .
ولو أن أهل المطمورة طلبوا الصلح على أن يؤمنوا الرجال ويأخذوا الأموال والذرية وأدخلوا الناس من @(3/9)
المسلمين فنظروا فإن عدة الرجال خمسون فأجابوهم إلى ما التمسوا من الصلح ثم لما دخلوا فيها ألف رجل فإذا المطمورة أميال في الأرض إلا أن بابها الذي يخرج أهلها منه إلى الأرض واحد فهذه المطمورة واحدة وجميع من فيها من الرجال آمن لا سبيل عليهم لأن باب المطمورة على وجه الأرض واحد فتكون مطمورة واحدة بمنزلة دار على وجه الأرض فيها حجر ومقاصير ولكن بابها إلى السكة واحد فإنها تكون بمنزلةدار واحدة ثم قد أمنوا الرجال الذين هم في المطمورة وإنما ظنوا قلة عددهم ولا يبنى الحكم على الظن وإنما يبنى على ما صرحوا به فكانوا جميعاً آمنين .
وإن كان لأقصى المطمورة من الجانب الآخر باب يخرج إلى أعلى الأرض فهاتان مطمورتان باختلاف المدخل بمنزلة دار على وجه الأرض عظيمة لكل جانب منها باب فإنها تجعل في حكم دارين .
ثم الأمان أيضاً وقع على المطمورة التي تلي المسلمين فمن وجد فيها من الرجال فهو آمن ومن وجد في المطمورة الأخرى من الرجال فهو فيء .
فإن قالوا : نح من المطمورة الأولى لم يلتفت إلى كلامهم لأنهم وجدوا في غير موضع الأمان فلا يقبل قولهم فيما يدعون من الأمان .
إلا أن يعرفوا بأعيانهم .
بمنزلة أهل الذمة إذا دخلوا قرية من قرى أهل الحرب ثم ظفر المسلمون بها فهم فيء أجمعون إلا من عرف أنه ذمي .
ومن وجد في المطمورة الأولى فهو آمن لأنه وجد في موضع الأمن .
إلا من عرف أنه من أهل المطمورة الأخرى بمنزلة قوم من@(3/10)
أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة فلا سبيل للمسلمين على استرقاق واحد منهم إلا من عرف بعينه أنه من أهل الحرب .
ثم إن كان بين المطمورتين حائط وعليه باب يصل بعضهم إلى بعض فالحائط هو المفرق بين المطمورتان .
وإن لم يكن بينهما حاجز ينقطع منه وصول بعضهم إلى بعض فهذه كلها مطمورة واحدة .
بمنزلة مدينة على وجه الأرض لها أبواب فإن باختلاف الأبواب لا يخرج من أن يكون الكل مدينة واحدة .
والمطامير تحت الأرض بمنزلة الأبنية فوقها يدخل في الأمان جميع من فيها من الرجال .
والله الموفق .
باب من النفل يفضل فيه بعضهم على بعض بالتقدم
وإذا وقف المسلمون على باب حصن فقال الأمير : من دخل منكم أولاً فله ثلاثة أرؤس الثاني رأسان وللثالث رأس .
فهذا تنفيل صحيح حصل من الإمام على وجه النظر يحسب الجزاء والعناء فعناء الداخل أولاً أكثر من عناء الثاني وعناء الثاني@(3/11)
أكثر من عناء الثالث .
فإذا دخل ثلاثة تباعاً كان للأول ثلاثة أرؤس وللثاني رأسان وللثالث رأس .
وكذلك لو قال : من دخل منكم فله ثلاثة أرؤس وللثاني رأسان وللثالث رأس لأن بالعطف بلفظ الثاني والثالث عرفنا مراده من أول كلامه من دخل منكم أول فكأنه صرح بذلك .
وكذلك لو قال : أيكم دخل لأن أي كلمة جمع تتناول كل واحد من المخاطبين على سبيل الانفراد بمنزلة كلمة من .
وإنما يستحق الثاني والثالث النقل إذا دخلوا في الفصلين في حال بقاء الخوف فأما من دخل بعد زوال الخوف فلا شيء له .
وإن دخل في هذه الفصول الثلاثة جميعاً معاً بطل نفل الأول والثاني وإنما الثلث وهو رأس بينهم أثلاثاً لأن الأول اسم لفرد سابق والثاني اسم لفرد هو تال للسابق والثالث : اسم لفرد هو تال للسابق الثاني هذا هو الحقيقة ولكن مقصود الإمام التنفيل بحسب إظهاره الجلادة والقوة وما كان من الجلادة التي تحصل بدخول أول القوم لا تحصل إذا دخل اثنان فلهذا يبطل نفل الأول وكذلك ما يحصل من الجلادة بدخوله بعد واحد لا يحصل بدخوله مع اثنين .
فأما ما يحصل بدخوله بعد اثنين يحصل معهما بيقين أو أكثر من ذلك فلهذا يجب نفل الثالث .
ثم ليس أحدهم بأن يجعل ثالثاً بأولى من صاحبيه ولهذا كان نفل الثالث بينهم بالسوية أثلاثاً .
فإن قيل : لماذا لا يعطى لكل واحد منهم ترأس على أنه ثالث .
قلنا : لأن الإمام أوجب للثالث رأساً واحداً وقد بينا أن اسم الثالث لا يتناول إلا الفرد فلا يمكن أن يجعل الإيجاب بهذا اللفظ عاماً أو متناولاً لهم جميعاً وإنما يتناول أحدهم بغير عينه ثم المشاركة بينهم في المستحق باعتبار المعارضة والمساواة@(3/12)
في سبب الاستحقاق .
ولو دخل اثنان معاً ثم ثالث بعدهما بطل نفل الأول لأنه لا أول بينهما ويكون لهما نفل الثاني .
وذلك رأسان لأن الثاني فيهما يتعين فجزاء كل واحد منهما في الدخول مع صاحبه أظهر جزائه في الدخول بعد صاحبه .
وللثالث رأس لأنه دخل بعد اثنين فهو الثالث بعينه .
ولو دخل اثنان معاً ثم اثنان معاً فللأولين نفل الثاني لما قلنا .
ولا شيء للآخرين لأنه دخل مع الثلث رابع والثلث اسم لفرد يدخل بعد اثنين ولم يكن واحد منهما بهذه الصفة لكون صاحبه معه وإن دخل أربعة من القوم معاً لم يكن لهم شيء لأنه ليس فيهم أول ولا ثان ولا ثالث فإن الرابع مزاحم لهم .
أرأيت لو دخل عشرون معاً أو دخل العسكر جميعاً أكانوا يستحقون شيئاً ولو دخل أول مرة واحداً ثم اثنان فالداخل أولاً يستحق نفل الأول لأنه فرد سبق بالدخول .
وبطل نفل الثاني لأنه يأتي في الآخرين ولكن لهما نفل الثالث لأنا تيقناً أن الثالث فيهما ولو دخل واحد ثم واحد ثم اثنان فلا شيء للآخرين لأنه لا ثالث فيهما .
فكل واحد منهما رابع مع صاحبه الإمام ما أوجب للرابع شيئاً ولو صمد الأمير لرجل بعينه فقال : لست أطمع في أن تدخل أولاً ولكن إن دخلت ثانياً فلك رأسان فدخل أول القوم فلا شيء له في القياس لأن الإمام ما أوجب للأول شيئاً وإنما أوجب له التنفل بشرط أن يدخل ثانياً ولم يوجد ذلك الشرط .
وفي الاستحسان له رأسان لأنا نتيقن أنه صنع ما طلب الإمام منه زيادة في إظهار القوة والجلادة فإن ما تقدم من قول الإمام : لست أطمع في أن تدخل أولاً .@(3/13)
يتبين أنه لم يكن مراده أن يشترط عليه الدخول ثانياً وإنما مراده التحريض على إظهار الجد في القتال وقد أتى به على أكمل الوجوه .
وهذا بخلاف ما إذا لم يذكر هذه المقدمة ولكن قال : إن دخلت ثانياً فلك رأسان فدخل أولاً إبقاء على نفسه فإنه علم أنه يقتحم المهالك فأراد أن لا يدخل وحده حتى يدخل غيره قبله أو معه ليكون أقوى له فإذا لم يدخل وحده حتى يدخل غيره قبله أو معه ليكون أقوى له فإذا لم يدخل بتلك الصفة لا يستحق النقل .
ثم هذا المعنى الذي قلنا محتمل والمعنى الأول الذي ذكرنا في وجه الاستحسان محتمل أيضاً ولكن لا يتعين أحد المحتملين إلا بدليل وقد وجد الدليل في الفصل الأول وهو المقدمة التي جرت ولم يوجد الدليل في الفصل الثاني فيبقى الاحتمال ومع الاحتمال لا يثبت الاستحقاق .
ولو دخل مع آخر فله رأسان لأنه دخل ثانياً كما شرط عله الأمير .
ولو دخل ثلاثة هو أحدهم لم يستحق شيئاً بإيجاب النفل له إذا دخل ثانياً فإن أوجب له نفلاً إن دخل ثالثاً استحق ذلك أنه ثالث في الدخول إذا دخل مع اثنين كما هو ثالث إذا دخل بعدهما .
ولو قال للقوم : من دخل منكم ثانياً فله رأس فدخل واحد أولاً لم يستحق شيئاً لأنه أوجب النفل الثاني دون الأول .
فإن قيل : فأين ذهب قولكم إن معنى العناء والقوة في الدخول أولاً أكثر فإن هذا الرجل قد أتى بأفضل مما كان شرط قلنا : نعم ولكن هذا إنما يعتبر فيما إذا كان الإيجاب لشخص بعينه فأما إذا كان لغير معين فلا بد من اعتبار الوصف الذي رتب الإيجاب عليه .
أرأيت لو استحق هذا النفل لأنه صنع خيرا ًمما طلب منه ثم دخل الثاني بعد ذلك هل يستحق شيئاً فلا يجوز القول بأنه لا يستحق لأنه أتى بالوصف الذي أوجب الإمام النفل به وإذا ثبت الاستحقاق له عرفنا أنهلا شيء للأول ومثل هذا لا يتحقق فيما إذا كان التنفيل لمعين .
ولو قال لثلاثة نفر بأعيانهم : من دخل منكم@(3/14)
أولاً فله ثلاثة أرؤس فدخل رجل منهم مع رجل من المسلمين من غير الثلاثة فللداخل من الثلاثة ثلاثة أرؤس لأنه أوجب له النفل على أن يكون أول الثلاثة دخولاً لا على أن يكون أول الناس دخولاً وهو أول الثلاثة حين لم يدخل معه صاحباه فلا يبطل نفه بدخول قوم معه من غير الثلاثة .
ولو كان قال : من دخل منكم قبل الناس فله ثلاثة أرؤس والمسألة بحالها لم يكن له شيء لأنه شرط أن يكون منفرداً بالدخول سابقاً على الناس كلهم ولم يوجد حين دخل معه غيره وفي الأول شرط أن يكون سابقاً لصاحبه وقد وجد ذلك .
وكذلك لو دخل اثنان من الثلاثة معاً في هذا الفصل لم يكن لهما شيء لأنه أوجب النفل لفرد يسبق الناس كلهم ولم يوجد .
ولو قال : من دخل من الشبان أولاً فله رأسان وللثاني رأس ومن دخل من الشيوخ أولاً فله ثلاثة أرؤس وللثاني رأسان فدخل شاب وشيخ معاً كان للشاب رأسان لأنه أول شاب دخل فإن الذي معه ليس بشاب فعرفناه أنه أول الشبان دخولاً وللشيخ ثلاثة أرؤس لأنه أول الشيوخ دخولاً والذي معه ليس بشيخ ولو دخل شابان وشيخ فللشيخ ثلاثة أرؤس لأنه أول شيخ دخل .
وبطل نفل الشاب الأول لأنه أول فيهما فصاحب كل واحد منهما يزاحمه .
ولكن لهما نفل الثاني رأس بينهما نصفان لأن فيهما الثاني .
وعلى هذا لو دخل شابان وشيخان معاً فللشيخين أيضاً نفل الثاني من الشيوخ لأن كل واحد منهما مزاحم@(3/15)
لصاحبه فلا يكون فيهما أول شيخ دخولاً .
ولو قال : من دخل من أهل الشام أولاً فله كذا فدخل رجل من غير أهل الشام ثم دخل شامي فله النفل لأنه أول شامي دخل وهو الذي شرطه الإمام .
إلا أن يكون قال في كلامه أول الناس فحينئذ لا يستحق شيئاً لأنه ليس بأول الناس دخولاً وعلى هذا لو قال : من دخل من الأحرار أولاً أو قال : من أول الناس أو قال : من دخل من المسلمين أولاً أو قال : أول الناس فهو على ما ذكرنا من الفرق ألا ترى أنه لو قال : أول عبد مسلم أشتريه فهو حر فاشترى نصرانياً ثم اشترى مسلماً عتق المسلم .
ولو قال : أو ل عبد مسلم أشتريه أول العبيد والمسألة بحالها لم يعتق وكذا لو قال : من دخل من عبيد الأتراك أولاً الدار فهو حر فدخل هندي ثم دخل تركي عتق التركي .
ولو قال : أول عبيدي لم يعتق .
وكان الفرق ما ذكرنا .
ولو قال : أي فارس دخل فله رأس فدخل راجل ثم فارس كان له النفل لأنه أوجب لأول فارس يدخل وهذا أول فارس وإن قال : أول الناس ولم يكن له شيء لأنه ليس بأول داخل من الناس فالراجل الذي دخل قبله من الناس وكذلك لو قال : أي حاسر دخل أول فدخل دارع ثم حاسر فله النفل لأنه أراد أن يجري الحسر بالتنفيل وهو أول حاسر دخل .
بخلاف ما إذا قال : أول الناس فكذلك لو قال : أي دارع دخل أولاً لأنه أراد بهذا القوة في القتال فإن الدارع يعمل ما لا يعمل الحاسر فسواء دخل دارع أو حاسر معاً أو دخل الدارع بعد الحاسر فللدارع النفل إلا أن يكون قال : أول الناس .
وكذلك لو قال : أي ناشب رمى أول فرمى نابل ثم ناشب@(3/16)
لأن هذا أول ناشب رمى .
إلا أن يكون قال : أول الناس فحينئذ لا شيء لواحد منهما .
ولو قال : أي فارس دخل أول فله رأس وأي راجل دخل أول فله رأس فدخل فارس وراجل فلكل منهما رأس سواء دخلا معاً أو أحدهما قبل صاحبه لأن أحدهما أول فارس دخل والآخر أول راجل دخل في الوجهين جميعاً .
فلو دخل فارسان وراجلان معاً لم يكن لهم شيء لأنه ليس فيهما فرد سابق مطلق وقوله : أي فارس أو راجل دخل اولاً فدخل فارس وراجل معاً لم يكن لواحد منهما شيء لأنه ليس فيهما فرد سابق مطلق وقوله : أي فارس أو راجل إنما يتناول فرداً سابقاً مطلقاً بخلاف ما تقدم فأخذ الكلاميين هناك يتناول فرداً سابقاً مقيداً بالفرسان خاصة والآخر مقيداً بالرجالة خاصة وعلى هذا مثله الشامي والخرساني .
ولو قال : لكل من دخل منكم هذا الحصن أول فله رأس فدخل خمسة معاً فلكل واحد منهم رأس لأن كلمة كل تجمع الأسماء على أن يتناول كل واحد منهم على الانفراد فعند ذكره يجعل كل واحد من الداخلين كأن اللفظ تناوله خاصة وكأنه ليس معه غيره
فلكل واحد منهم رأس .
ولو دخلوا متواترين كان للأول النفل خاصة لأن كل الداخل أولاً هو فإن من دخل بعده ليس بأول حين سبقه غيره بالدخول وفي الفصل الأول لم يسبق كل واحد منهم غيره بالدخول وعلى اعتبار إفراد كل واحد منهم كما هو موجب كلمة كل يكون كل واحد منهم أول داخل .
وهذا بخلاف قوله : من دخل منكم أول فإن هناك إذا دخل منكم أول فإن هناك إذا دخل الخمسة معاً لم يكن لهم شيء لأن كلمة من توجب عموم الجنس ولا توجب أفراد كل واحد من الداخلين كأنه ليس معه غيره@(3/17)
وعلى اعتبار معنى العموم ليس فيهم أول فأما كلمة كل فتوجب تناول كل واحد على الانفراد كأنه ليس معه غيره .
ألا ترى أنه لو قال : كل رجل دخل أول فدخل خمسة معاً كلن لكل واحد منهم رأس .
وكلمة كل قد توجب العموم أيضاً ولكن لو حملناها على معنى العموم لم يبق لها فائدة لأن ذلك ثابت بقوله : من دخل ولا بد من أن يكون لها فائدة وليس ذلك إلا ما قلنا وهو أنها توجب الجمع في كل داخل لم يبقه غيره على أن يتناول كل واحد على الانفراد وهذا بخلاف كلمة أي فإنها لا توجب الجمع وغنما توجب العموم فيكون قوله : أي رجل دخل أول وقوله : من دخل أولاً سواء حتى إذا دخل خمسة معاً لم يكن لأحد منهم شيء .
ولو قال : جميع من دخل أول فدخل خمسة معاً فلهمم رأس واحد بينهم على السوية لأن ما ألحق بكلمة من هاهنا يدل على الجمع دون الإفراد فيصير باعتبار جميع الداخلين كشخص واحد فإنهم أول فلهم رأس واحد فكلمة كل تقتضي الجمع على سبيل الإفراد فيجعل باعتبارها كأن كل واحد من الداخلين تناوله الإيجاب خاصة .
ولو قال : من دخل منكم خامساً فله رأس فدخل خمسة معاً فلهم رأس بينهم أخماساً لأن الخامس فيهم بيقين وليس بعضهم بالنفل الذي أوجبها للخامس بأولى من البعض .
وإن دخلوا متواترين فالرأس للخامس خاصةً لأنه مختص بالاسم الذي أوجب النفل له لا مزاحمة معه فيه لمن سبقه بالدخول .
وإن دخل ثلاثة ثم اثنان فالرأس بين الاثنين لأن الخامس فيهما دون الثلاثة .
وإن دخل ثلاثة ثم ثلاثة لم يكن لأحد منهم شيء لأن كل واحد منهم سادس داخل بانضمام صاحبيه إليه وما أوجب النفل للسادس .
ولو قال : كل من دخل منكم خامساً فدخل خمسة متواترين كان النفل للخامس لأنه مختص باسم الخامس حين سبقه أربعة@(3/18)
بالدخول .
وإن دخل الخمسة معاً فلكل واحد منهم رأس لأن كل توجب الجمع على وجه الإفراد فيكون كل واحد منهم خامساً لوجود الأربعة معه كما يكون خامساً أن لو دخلوا قبله .
ولو قال : جميع من دخل منكم خامساً فدخل خمسة معاً كان لهم رأس واحد لأنه ليس في لفظه ما يوجب إفراد كل واحد منهم فإنما يتناولهم الإيجاب جملة وذلك رأس واحد بينهم بخلاف كلمة كل .
ولو قال : كل من دخل منكم خامساً فله رأس فدخل خمسة معاً ثم خمسة معاً والخوف قائم على حاله فلكل واحد منهم رأس حتى يأخذوا عشرة أرؤس لأن معنى هذا الكلام : كل من دخل منكم خامس خمسة وكل واحد من الفريق الأول خامس خمسة وكذلك ك واحد من الفريق الثاني خامس خمسة وإنما جعلنا تقدير كلامه هذا لأنه أوجب للخامس ونحن نعلم أنه لا يكون الخامس إلا في خمسة .
ولو دخل أربعة ثم اثنان معاً لم يكن لأحدهم شيء لأن كل واحد من الآخرين سادس ستة .
فإن دخل اثنان بعد ذلك معاً ثم دخل واحد فلهذا الآخر النفل لأن الأربعة الأولى لا يحتسب لهم إذ لم يوجد بعدهم خامس فيسقط اعتبار دخولهم بقي اثنان ثم اثنان ثم واحد فهذا الواحد خامس خمسة فله النفل .
ولو دخل أربعة معاً في الابتداء ثم خمسة معاً كان لكل واحد من الخمسة رأس لأنه لا يحتسب بالأربعة لما بينا فإذا سقط اعتبار دخولهم صار كأن الخمسة دخلوا ابتداءً فكل واحد منهم خامس خمسة .
ولو قال : كل من دخل منكم عاشراً فدخل تسعة معاً أو متواترين ثم دخل بعدهم اثنان لم يكن لواحد منهم شيء لأنه لا عاشر فيهم فكل واحد من الآخرين مع أصحابه واحد من أحد عشر لا من عشرة .@(3/19)
فإن قيل : هذا يستقيم فيما إذا دخل تسعة معاً فأما إذا دخلوا متواترين فينبغي أن يسقط اعتبار الأول حتى يكون كل واحد من الاثنين عاشر عشرة كما فعلتم في الأربعة .
قلنا : فعلنا في الأربعة ذلك لأن الذي تأخر دخوله وحده فيكون خامس خمسة فأما هاهنا فإنما دخل اثنان معاً آخراً وكما يمكن إثبات عاشر العشرة منهم بإلغاء الأول يمكن إثباته بإلغاء أحدهما وليس أحد الجانبين بأولى من الآخر .
فإن دخل بعد الاثنين ثمانية فلكل واحد من الثمانية رأس لأن التسعة يسقط اعتبارهم حين لم يجيء بعدهم العاشر بقي اثنان ثم ثمانية فكل واحد من الثمانية عاشر عشرة .
ولو دخل بعد الاثنين عشرة معاً كان لكل واحد من العشرة رأس .
لأنه يسقط اعتبار الاثنين هاهنا كما يسقط اعتبار تسعة يبقى دخول العشرة معاً فيكون كل واحد منهم عاشر عشرة فيستحق النفل والله أعلم بالصواب .
باب من الاستئجار في أرض الحرب والنفل فيه
ولو أقام المسلمون على المطمورة في أرض الحرب فقال الأمير : كل رجل يحفظ المطمورة الليلة حتى لا يخرج منها العدو فله دينار وأقام عليها مائة رجل حتى أصبحوا فإن كان الدينار جعله لكل رجل منهم مما يصيبون من المطمورة فهو نفل صحيح لأن أهل المطمورة ممتنعون والحاجة إلى التحريض على حفظهم بالتنفيل ماسة وحفظهم حتى لا يهربوا من الجهاد فلهذا صح التنفيل .
وإن كان الأمير جعل لهم ذلك من الغنائم التي أصابها المسلمون فذلك باطل لأنه لا يمكن ذلك لهم@(3/20)
بطريق التنفيل فإن بعد الإصابة لا يجوز و لا بطريق الأجرة لأن هذا العمل من الجهاد واستئجار المسلم على الجهاد باطل .
وهذا لأنهم على عمل الجهاد يستحقون السهم من الغنيمة فكيف يستحقون الأجر مع ذلك .
ولأن الجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فكل من باشره يكون مؤدياً فرضاً والاستئجار على أداء الفرض باطل كالاستئجار على الصلاة .
وإن لم يبين الأمير من أي موضع يعطيهم ذلك فهذا تنفيل صحيح من المطمورة لأن مطلق كلام العاقل محمول على الوجه الذي يصح شرعاً لا على الوجه الذي يكون باطلاً شرعاً .
وإن لم يكن في المطمورة مقاتلة وإنما فيها الذراري والأموال والمسألة بحالها فلكل واحد منهم دينار في الغنيمة هاهنا لأن حفظهم ليس بجهاد هاهنا وإنما استئجار على عمل معلوم ببدل معلوم .
فكل من سمع مقالة الأمير وأقام العمل فله الأجر ومن يسمع مقالته فلا أجر له لأنه ما أقام العمل على وجه الإجارة ولكن على وجه التبرع حين لم يسمع بمقالة الأمير .
وإنما هذا نظير قوله : كل من ساق هذه الأرماك إلى موضع كذا فله دينار فساقها قوم سمعوا مقالته فلكل رجل منهم أجرة دينار يبدأ به من الغنيمة قبل كل نفل وقسمة وإن ذهبت الغنائم كلها لم يكن للأجراء على الإمام شيء لأنه استأجرهم على وجه الحكم منه لمنفعة الغانمين فإنما أجرهم في الغنيمة ولم يبق بيده شيء من الغنيمة والإمام فيما يحكم به على وجه النظر لا يكون ملتزماً للعهد فلا يلزمه إذاً شيء من مال نفسه ولا يرجع على الغنيمة بشيء لأن ولايته عليهم مقيدة بتوفير المنفعة دون الإضرار بهم ولأنهم لم يملكوا الغنيمة بعد .
ألا ترى أن للإمام أن يقتل الأسارى وإنما يجب البدل عليهم بالعقد إذا سلم العمل إليهم ولم يوجد ذلك حقيقة ولا حكماً بالتسليم إلى ملكهم .
ولو قال الأمير : من نصب رماح المسلمين حول العسكر فله دينار ففعل ذلك رجل استحق الدينار لأن هذا ليس من الحرب ولا مما يجب على ذلك الرجل أن يفعله فيجوز استئجار الإمام إياه على ذلك بأجر معلوم .
ولو قال : من نصب رمحه فله دينار أجر له لم يجز ذلك لأن ما يفعله في ملك نفسه لا يكون فيه@(3/21)
أجيراً لغيره ولأن نصب رمحه من عمل الحرب كالطعن به فلا يستحق الأجر عليه بخلاف نصب رماح غيره من المسلمين .
ولو قال : من قتل قتيلاً وجاء برأسه فله دينار فهذا تنفيل صحيح ويعطى الدينار من فعل ذلك من الغنائم التي تصاب بعد هذا أو من بيت المال إن رأى الإمام ذلك فأما مما أحرز من الغنائم قبل هذا فلا لأنه لا تنفيل بعد الإصابة فلا يمكنه أن يعطيه الدينار من ذلك نفلاً ولا أجرة لأن قتل أهل الحرب من الجهاد فلا يستحق المسلم عليه الأجر .
وكما يثبت هذا الحكم في حق المقاتلة من المسلمين فكذلك في حق التجار والعبيد من المسلمين لأن فعلهم ذلك من الجهاد أيضاً ولهذا يستحق التاجر إذا فعل ذلك السهم من الغنيمة والعبد الرضخ .
وأما أهل الذمة إذا فعلوا ذلك وقد استعان بهم الإمام وأوجب لهم مالاً معلوماً على عمل من ذلك معلوم فلهم الأجر لأن فعلهم ليس بجهاد فإن الجهاد ينال به الثواب والكافر ليس بأهل لذلك والجهاد ما يتقرب العبد به إلى ربه وهم لا يتقربون بذلك بخلاف المسلم .
قال : ألا ترى أن رجلاً لو خرج بآخر يجاهد في سبيل الله بديلاً عن إنسان لم يكن له أجر لأنه يتقرب إلى الله تعالى فأجره على الله تعالى والمتقرب إلى الله تعالى عامل لنفسه فكيف يكون له الأجر على غيره وعند إصابة الغنيمة السهم يكون له دون من استأجره فعرفنا أنه عامل لنفسه .
ثم بين أن : الاستئجار على الجهاد بمنزلة الاستئجار على الحج وعلى الأذن والإقامة .
وقد بينا الكلام في الاستئجار على الطاعات في شرح المختصر .
ولو حاصر المسلمون حصناً ولأهل الحصن ملاعب وكنائس خارج منه وليس فيها أحد فاستأجر الإمام على@(3/22)
تخريبها قوماً من المسلمين بأجرة معلومة فذلك جائز لأن تخريب ذلك ليس من عمل الجهاد وقد حصل في أيدي المسلمين ولا تحتاج إلى قتال .
بخلاف ما إذا استأجرهم على تخريب حصن أهله ممتنعون فيه أو كسر باب لأن ذلك من عمل الجهاد يحتاج في إقامته إلى القتال .
ولو أن قوماً من أهل الحرب أقبلوا في سفنهم يريدون المسلمين فاستأجر الإمام قوماً من المسلمين من أحرارهم أو عبيداً للمسلمين كفاراً أو مسلمين يرمونهم بالمحرقات فلا أجر لهم لأن هذا من عمل الجهاد وإنما يعتبر فيه دين المولى لا دين العبد لأن المسلم يكون مجاهداً بعبيده كما يكون مجاهداً بفرسه .
وإن جعل ذلك نفلاً لهم مما يصيبون فهو جائز للحاجة إلى التحريض .
وكذلك لو استأجر قوماً في البر يرمون بالمجانيق الحصون وإن استأجر قوماً من أهل الذمة على ذلك جاز لأن عملهم ليس بجهاد لانعدام الأهلية فيهم .
ولو استأجر قوماً من المسلمين يجذفون بهم في البحر فهذا جائز لأن هذا ليس من عمل الجهاد وهو عمل معلوم يجوز الاستئجار عليه .
ألا ترى أنهم يفعلون ذلك إذا لقوا العدو أو لم يلقوهم وأن الملاحين يأخذون الأجر على ذلك وهو حلال لهم .
ولو ظفر المسلمون بغنائم متفرقة وليس معها من يمنعها فقال الأمير : من جمعها فله دينار فهذا جائز لأنه ليس من عمل الجهاد وهو معلوم في نفسه فيجوز إجارة فاسدة إلا أن يبين المدة فيقول : استأجرتك عشرة أيام بكذا لتبيع الغنائم لأن بيان المدة العقد يتناول@(3/23)
منافعه ولهذا استحق الأجر بتسليم النفس باع أو لم يبع وإذا لم يبين المدة فالمعقود عليه البيع وهو مجهول وقد يتم البيع بكلمة واحدة وقد لا يتم بعشر كلمات فكذلك لا يتهيأ منه البيع بدون مساعدة المشتري فلهذا كان الاستئجار على البيع فاسداً وليس هذا فيمن يبيع الغنائم خاصة ولكن في جميع الباعة الحكم هكذا .
وكذلك لو استأجر من يقسم الغنائم بين الغانمين بأجر معلوم فذلك جائز لأن القسمة عمل معلوم يتم بالقسام ويجوز أخذ الجر عليه .
على أنه كان لعلي رضي الله عنه قاسم يقسم بالأجر ويستوي أن يبين المدة هاهنا أو لم يبين لأن العمل معلوم بنفسه .
ثم يبدأ بأجره قبل النفل والغنيمة لأن هذا دين وقسمة الغنيمة كقسمة الميراث والنفل فيه كالوصية والدين مقدم عليهما .
فإن كان استأجر بأكثر من أجر مثله نظر فإن كانت الزيادة يسيرة فذلك جائز وإلا لم يكن له إلا مقدار أجر مثله لأن الأمير في هذا التصرف ناظر فتتقيد ولايته بشرط النظر كولاية الأب والوصي في الاستئجار لليتيم .
فإن استرد منه الفضل على أجر مثله فقال الأجير : أنا أرجع بذلك على من استأجرني لم يكن له ذلك لأن الذي استأجره ما عقد العقد لنفسه وإنما عقد للمسلمين على وجه الحكم منه إلا أنه أخطأ في ذلك فلا يلزمه شيء من العهدة بخلاف الوكيل بالاستئجار فإنه إذا باشر العقد بأكثر من أجر المثل فذلك كله لازم عليه ليس على الأمير منه بشيء وأما الأمير فالعقد لا ينفذ عليه لأنه لا تلحقه العهدة فيما يحكم به وإنما يشبه الأمير هاهنا القاضي إذا استأجر رجلاً يعمل لليتيم عملاً بأجر معلوم فإذا فيه غبن فاحش فإنه يعطي الأجير أجر مثله ويرد ما بقي على اليتيم ولا شيء على القاضي لأن استئجاره منه كان على وجه الحكم منه .
ولو قال الأمير والقاضي : فعلنا ونحن نعلم أنه لا ينبغي لنا أن نفعله فجميع@(3/24)
الأجر عليهما في ماليهما قال : لأنهما تعمدا الجور فصارً فيه حاكمين .
وبهذا اللفظ يستدل من يزعم أن الحاكم ينعزل بالجور وليس هذا بمذهب لنا وقد بينا ذلك فيما أملينا من شرح الزيادات في باب التحكيم .
وإنما تأويل ما ذكر هاهنا : أن حكمه إنما ينفذ إذا صدر عن دليل شرعي وهذا الحكم خلا عن ذلك فهو بمنزلة القاضي إذا قضى بغير حجة أو قضى برأيه مخالفاً للنص لا ينفذ قضاؤه وهو قاض على حاله فإذا لم ينفذ قضاؤه بهذا الطريق نفذ عقده عليه على ما هو الأصل أن العقد متى وجد نفاذاً على العاقد ينفذ عليه .
وقد ذكرنا في آداب القاضي أن القاضي إذا أخطأ في قضائه فإن كان ذلك في حقوق العباد فعزم ذلك على من قضى له وإن كان ذلك في حدود الله فخطأه على بيت المال وإن قال : تعمدت ذلك كان الغرم عليه من ماله فكذا ما صنعه الأمير يكون الحكم فيه ذلك ولو استأجر الأمير قوماً يسوقون الأرماك فساقوها فعطب منها شيء من سياقهم أو هلكت في أيديهم فإن كان ذلك وهم في دار الحرب قبل أن ينتهوا إلى دار الإسلام فلا ضمان عليهم في شيء من ذلك سواء تلفت بعملهم أو بغير عملهم لأنهم لو استهلكوا الغنائم في دار الحرب لم يضمنوها باعتبار أن الحق لم يتأكد فيها للغانمين بعد .
وإن كان ذلك بعد ما وصلوا إلى دار الإسلام فحالهم كحال الأجير المشترك .
وقد بينا في شرح المختصر أن ما تلف في يد الأجير المشترك بغير صنعه لم يكن عليه ضمانه في قول أبي حنيفة - رحمه الله - سواء تلف بسبب يتأنى الاحتراز عنه أو لا يتأنى وعندهما هو ضامن له إلا أن يتلف بسبب لا يمكن الاحتراز عنه وما تلف بجناية يده فهو ضامن له في قول علمائنا الثلاثة بمنزلة ما لو استهلكه فهاهنا أيضاً ما عطب بسياقهم أو بتناطحها فذلك من جناية يد الأجراء فعليهم ضمان قيمة ذلك .
ولكن إنما يضمنون قيمته في المكان الذي تلف فيه ويكون لهم الأجر إلى ذلك الموضع بخلاف القصار وغيره فهناك لصاحب المتاع الخيار إن شاء ضمنه قيمته معمولاً وله الأجر لأن هناك فسخ العقد باعتبار تفرق الصفقة على العاقد@(3/25)
ممكن فإن إيجاب الضمان على الأجير من وقت القبض بهذا الطريق يتأتى لأنه لو استهلكه عند ذلك كان ضامناً فأما هنا لا يمكن بإيجاب الضمان عليهم باعتبار وقت التسليم إليهم لأنهم لو استهلكوا عند ذلك وهم في دار الحرب لم يضمنوا شيئاً فلا بد من إبقاء العقد بقدر ما أوفوا من العمل ليتأتى إيجاب الضمان عليهم فلهذا كان لهم الأجر إلى ذلك الموضع .
وكذلك هذا الفرق لهما فيما يتلف بغير صنعهم فيما يتأنى الاحتراز عنه ولو تلف شيء من ذلك في دار الحرب فلا ضمان عليهم لما قلنا ولكن على قول أبي حنيفة : إن تلف بغير صنعهم فلهم أجر بقدر ما أتلفوا من العمل لأنهم ما صاروا مستردين لما سلموا حين هلك بغير صنعهم .
وإن هلك يصنعهم فلا أجر لهم لأنهم صاروا كالمستردين للعمل ولأنه لم يسلم للغانمين بعملهم شيء حين لم يجب الضمان عليهم فلا يجب الأجر أيضاً لهم بخلاف ما إذا أعطب من فعلهم في دار الإسلام والضمان قد وجب عليهم هاهنا فعرفنا أن العمل قد سلم للغانمين بهذا الطريق .
وأما على قولهما فلا أجر لهم فيما يتلف في دار الحرب بغير صنعهم أيضاً لأنه فيما يمكن الاحتراز عنه بكون التلف مضافاً إليهم حكماً ولهذا لو كان في دار الإسلام ضمنوا قيمته .
فبهذا الطريق يثبت استرداد ما أقاموا من العمل حكماً فلا يكون لهم الأجر على ذلك .
وشبه هذا بمن استأجر رجلاً في دار الإسلام يحمل له جلود ميتة ليدبغها فحملها فعثر في فسقطت فاحترقت أو أحرقها الذي حملها بالنار لم يكن عليه ضمان لأنه ليس بمال متقوم ولا أجر له لأن صار مسترداً لعمله بما فعله من الإتلاف فلا يستوجب الأجر .
فكذلك حكم الغنائم فيما وصفنا إذا تلف في دار الحرب شيء منها بصنعه أو بغير صنعه .
وإن كان أخذ العدو ذلك منهم مجاهرة فلهم الأجر إلى ذلك المكان لأن التلف هاهنا حصل بما لا يتأتى لهم الاحتراز عنه فلا يكونوا به مستردين لما أقاموا إلا أنهم إذا ادعوا ذلك فعلى قول أبي حنيفة القول قولهم مع اليمين لأن أصل قبضهم كان على وجه الأمانة عنده فكان القول قول الأمين على اليمين .
وعندهما لا يصدقون على ذلك إلا ببينة لأن قبضهم قبض ضمان عندهما ولهذا لو تلف بعد الخروج إلى دار الإسلام كانوا ضامنين والضامن لا يقبل قوله إلا بحجة بمنزلة الغاصب .
ولو استأجر أمير العسكر رجلاً يحمل رقيقاً وسبياً من الغنيمة صغاراً أو كباراً على دوابه إلى مكان معلوم فحملهم فعطبوا في دار@(3/26)
الحرب من سياقه بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان عليه .
وكذلك إن هلكوا في دار الإسلام إذا لم يعلم من جهته استهلاك أو تضييع أو عنف في سوق الدابة .
بخلاف ما إذا كان المحمول متاعاً سوى بني آدم فهناك يضمن ما عطب من سياقه في دار الإسلام .
وهذا الضمان الواجب في الآدمي ضمان جناية وهو ليس من جنس ضمان العقد ووجوب الضمان على الأجير المشترك باعتبار العقد ولا يمكن اعتبار العقد عليه يصير مسلماً إلى الراكب إذا كان من بني آدم فيخرج من ضمان الأجير بخلاف الأمتعة .
ثم يكون له الأجر إلى الموضع الذي حملهم إليه لأن المعقود عليه صار مسلماً إلي من أمر المستأجر بالتسليم إليه ولأنه لما لم يجب الضمان على الأجير عرفنا أنه لم يصر مسترداً شيئاً .
وأما إذا عنف عليهم في السوق أو استهلكهم فإن فعله في دار الحرب فلا ضمان عليه .
لعدم تأكد الحق للغانمين .
ولا أجر له لأنه صار مسترداً لما سلم بما أحدث من فعل الاستهلاك .
والأمير يؤدبه فيما صنع لأنه متعد بإتلاف ما ثبت حق الغانمين فيه .
فإن فعل ذلك في دار الإسلام فهو ضامن قيمة ما استهلك .
لتأكد الحق فيه بالأحرار .
وله الأجر إلى الموضع الذي حملهم إليه لأنه إنما يضمن القيمة في هذا المكان وذلك يقرر تسليمه لا أن يجعله مسترداً .
إلا الرجال من الأسراء فإنه لا ضمان عليه فيهم لأن الحق فيهم لا يتأكد بالإحراز .
ألا ترى أن للإمام أن يقتلهم فكان فعله ذلك في دار الإسلام وفي دار الحرب سواء ولا أجر له في حملانهم لأنه صار مسترداً لعمله في حملهم حتى لم يجب عليه الضمان فيهم .
ولو أن الأمير استأجر قوماً مياومة أو مشاهرة لسوق الأرماك فهو جائز لأنه عقد العقد على منفعة معلومة ببدل معلوم .
ثم لا ضمان@(3/27)
على الجير هاهنا فيما يعطب من سياقه أو لا من سياقه في دار الحرب أو في دار الإسلام لأنه أجير الوحد وأجير الوحد لا يضمن ما جنت يده إذا كان فعله حاصلاً على الوجه المعتاد لأن المعقود عليه منافعه .
ألا ترى أن سلم النفس في المدة استوجب الأجر ومنافعه في حكم العين فلا يعتبر فيه صفة سلامة العمل عن العيب بخلاف الأجير المشترك .
فإن عنفوا في السوق أو استهلكوا في دار الإسلام كانوا ضامنين .
لوجود التعدي منهم بعد تأكد الحق .
ولهم أجورهم لما مضى لأنه تقرر الأجر بتسليم النفس في المدة فلا يبطل حقهم بوجود التع ي منهم وأوضح هذا الفرق فقال : ألا ترى أن للأمير هنا أن يزيد عليهم أرماكاً بعد أرماك بقدر ما يطيقون ولو مات بعضها كان له أن يخلف مكانها مثلها وفي الأجير المشترك ليس له أن يفعل شيئاً من ذلك .
فبه يتبين أن العقد هناك يتناول العمل وبقضية المفاوضة تثبت صفة السلامة عن العيب وهاهنا العقد يتناول المنفعة دون العمل .
ولو قال الأمير لمسلم حراً أو عبداً إن قتلت ذلك الفارس من المشتركين فلك على أجر مائة دينار فقتله لم يكن له أجر لأنه لما صرح بالأجر لا يمكن أن يحمل كلامه على التنفيل والفعل الذي حرضه على جهاد والاستئجار على الجهاد لا يجوز .
وإن قال ذلك لرجل من أهل الذمة فكذلك الجواب .
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ولأبي يوسف رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله للذمي الأجر المسمى .
وأصل هذه المسألة : أن الاستئجار على القتل لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف سواء كان بحق أو بغير حق حتى لو استأجر ولي الدم رجلاً ليستوفي القصاص في النفس لم يكن له أجر عندهما وفي قول محمد : يجوز الاستئجار على@(3/28)
القتل لأنه عمل معلوم يقدر الأجير على إقامته فيجوز الاستئجار عليه كذبح الشاة وقطع بعض الأعضاء فإن الإمام لو استأجر رجلاً ليقطع يد السارق أو من له القصاص في الطرف إذا استأجر في الطرف إذا استأجر رجلاً ليستوفي ذلك جاز بالاتفاق .
وبيان ذلك الوصف : القتل يكون بجز الرقبة وفي قدرة الأجير على ذلك لا فرق بين إبانة الرأس من البدن وبين إبانة الطرف من الجملة .
وجه قوهما : أن القتل ليس من عمله لأن القتل إنما يحصل بزهوق الروح وذلك مصان عن محل قدرته فلا يكون من عمله بمنزلة حصول الولد ونبات الزرع والإضافة إلي باعتبار أنه يحصل بكسبه لا باعتبار أنه من عمله .
ألا ترى أن فعله الضرب بالسيف وقد يفعل ذلك ولا يحصل القتل به وإنما يجوز الاستئجار على منافعه أو على ما يكون من عمله وهذا بخلاف الذبح لأن الاستئجار على ما يحصل به الزكاة وهو مميز الطاهر من النجس وذلك قطع الحلقوم والأوداج وذلك من عمله وكذلك قطع الأطراف فإنه ليس في ذلك من إزهاق الروح شيء ولكنه فصل الجزء من الجملة وهذا من عمله بمنزلة قطع الحبل والخشبة .
ولو كان الأسراء قتلى فقال الأمير : من قطع رؤوسهم فله أجر عشرة دراهم ففعل ذلك مسلم أو ذمي كان له الأجر لأن ليس من عمل الجهاد وهو عمل معلوم في محل قدرة الأجير فيجوز استئجاره عليه كقطع الخشبة أو الحبل .
ولو نظر الأمير إلى فارس من أهل الحرب فقال لمسلم حر أو عبد : إن جئتني بسلبه فلك أجر عشرة دنانير فقتله وجاء بسلبه وأفلت منه فلا شيء له لأنه استأجره على عمل الجهاد .
وإن قال ذلك لذمي فله الأجرف منه لأن فعله ليس بجهاد .
وكذلك لو قال : إن قطعت يده فلك كذا لأن قطع يد الممتنع المقاتل من الجهاد فلا يستوجب المسلم عليه أجراً ويكون عليه للذمي الأجر لأن فعله ليس بجهاد .
ولو أراد قتل الأساري فاستأجر على ذلك مسلماً أو ذمياً فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الاستئجار على قتل المقضي عليه بالقصاص .
ولو قال الأمير لقوم من أهل العسكر : : احفروا هذا الموضع من هذا النهر إلى@(3/29)
موضع كذا حتى ينبثق الماء فيغرق أهل هذه المدينة ولكم أجر مائة دينار ففعلوا ذلك فإن كان على ذلك الموضع قوم من أهل الرحب يقاتلون ويمنعون من ذلك فلا شيء للأجراء إذا كانوا مسلمين لأن ما استئوجروا عليه من عمل الجهاد .
وإن كانوا من أهل الذمة فلهم الأجر وإن كانوا عشرين نفراً : عشرة مسلمين وعشرة ذميين فلأهل الذمة نصف الأجر لأنه يجعل في حق كل فريق كان الفريق الثاني مثلهم .
وإن لم يكن في ذلك الموضع من يقاتل من أهل الرحب فلهم الأجر المسمى لأن حفر الأرض ليس من عمل الجهاد فيستوجب المسلم الأجر عليه كما يستوجب الذمي وهو نظير ما تقدم من تخريب الملاعب والكنائس الخارجة عن الحصن بعد ما صارت في أيدي المسلمين .
وكذلك إن استأجرهم لقطع الأشجار فهو على هذا التقسيم لأن ما استأجروا عليه عينه ليس بجهاد وإنما يصير في معنى الجهاد إذا كان هناك من يمنعك عنه حتى يحتاج إلى أن تجاهده في إتمام ذلك العمل فإذا لم يكن هناك من ينابذك لم يكن من الجهاد في شيء .
ولو استأجر قوماً يرمون بالمنجنيق فإن كانوا من أهل الذمة فلهم الأجر وإن كانوا مسلمين أحراراً أو عبيداً فلا أجر لهم لأن هذا من عمل الجهاد فالرمي بالمنجنيق لتخريب الحصن الذي هم فيه ممتنعون وعلى الدفع عنه يقاتلون بمنزلة الرمي بالسهم لإصابة النفوس ولا يقال : إنهم يرمون في منعة المسلمين فلا يكون فعلهم جهاداً لأنهم وإن كانوا في منعة المسلمين فالرمية وقعت في منعة المشركين وهو المقصود .
فإن قيل : ففي حفر النهر إذا لم يكن هناك من يمنع يوجد هذا المعنى لأن الماء يسيل في ذلك الموضع حتى يغرقهم في منعتهم كما أن ما يرمى من المنجنيق يذهب حتى يخرب ويقتل في منعتهم .
قلنا : نعم ولكن المنجنيق والسهم عمل القوم بأيديهم على معنى : أن ما حصل يكون مضافاً إليهم بالمباشرة وأما الغرق فلا يصير مضافاً إلى حافر النهر بالمباشرة وإنما عملهم هناك@(3/30)
الحفر فقط وتبين هذا الفرق في فعل هو جناية فإن من وقف في ملك نفسه ورمى سهماً إلى إنسان فقتله كان قاتلاً له مباشرةً مستوجباً للقصاص وبمثله من الحفر نهراً في ملكه فغلبه الماء وانبثق على أرض جار له فغرق الزرع لم يكن على الحافر في ذلك ضمان فبهذا تبين الفرق .
والله أعلم بالصواب .
باب الأنفال بالأثمان والهبات
وإذا قال الأمير : من جاء برمكة فهي له بيعاً بعشرة دراهم فذهب المسلمون وجاءوا بذلك فإن هذا البيع باطل لنهي النبي عليه السلام عن البيع الغرر وعن بيع ما ليس عند الإنسان .
فإن المراد بيع ما ليس في ملكه والأمير هاهنا باع ما ليس في ملكه ولا في يده وهو على خطر الحصول في يد المسلمين مجهول في نفسه ولو كان معلوماً لم ينجز البيع فيه إذا لم يكن عنده فكيف إذا كان مجهولاً .
ولكن إن رغب الذي جاء به أن يأخذه بذلك الثمن فعلى الإمام أن يتقبل بيعاً منه بذلك الثمن لأنه ذكر ذلك على وجه التنفيل والقصد تحريض المسلمين على المجيء بها .
فليس له أن يرجع عن التنفيل بعد ما أتوا بما شرط عليهم ولكن يحصل مقصودهم بطريق صحيح شرعاًً وهو البيع ابتداءً .
وإن لم يرغب فيه الذي جاء به أخذه الأمير منه فجعله في الغنيمة وليس على الرجل شيء من ثمنه لأن التنفيل لمراعاة حقه وذلك ينعدم إذا لم يرض به .
وأصل الثمن لم يكن واجباً عليه بما تقدم من السبب ولو كان واجباً كان@(3/31)
له الخيار في رده لأنه اشترى ما لم يره فكيف إذا لم يكن البيع صحيحاً أصلاً .
ثم لا نفل له لأن التنفيل كان في ضمن البيع فيبطل ببطلانه بمنزلة الوصية بالمحاباة فإنه لما ثبت في ضمن البيع بطل ببطلان البيع بالرد .
وعلى هذا لو قال : من جاء برمكة بعناها إياه بعشرة فهذا والأول سواء لأنه وعد البيع هاهنا ولكن فيه معنى التنفيل فعليه أن يفي به إذا رغب فيه الذي جاء بها .
ألا ترى أ ه لو قال : وهبناها له أو وهبنا له نصفها فإنه يلزمه أن يفي لمن جاء بذلك بما وعد له إلا أنه لا يصير مالكاً لذلك ما لم يجعلها الأمير له بخلاف ما لو قال : فهي له لأنه إذا قال : فهي له فهذا تنفيل منفذ فبنفس الإصابة يصير له .
وإذا قال : وهبناها له فهذا تنفيل موعود فعيه الوفاء بما وعد ولكن لا يثبت المال له قبل أن يهبها منه حتى لو كانت جارية وأعتقها لم يجز عتقه وإن قال : فهي له هبة أو فهي عليه صدقة فذلك لمن جاء بها من غير تمليك جديد من الأمير لن قوله : فهي له تنفيل تام وقوله : هبة يكون تأكيداً لقوله : فهي له فلا يتغير حكمه .
وإن قال : من جاء بسيف وهبناه له أو بعناه منه بعشرة دراهم فجاء رجل بذلك ثم رأى الإمام أن لا يسلمه له لشدة حاجة المسلمين إليه فلا بأس بأن ينعه منه ولكن بشرط أن يعطيه قيمته إذا كان الموعود هبة وإذا كان بيعاً يعطيه قيمته لكن يرفع من ذلك الثمن المشروط عليه لأن التمليك موعود هاهنا غير منفذ والإمام ناظر للكل فإذا رأى بالمسلمين حاجة إلى ذلك فلو أعطاه المشروط تضرر به المسلمون ولو أعطاه القيمة توفر عليه مقصوده وارتفعت حاجة المسلمين من ذلك@(3/32)
العين فيعتدل النظر من الجانبين بهذا الطريق .
وإن لم يكن بالمسلمين حاجة فليسلمه له على ما شرط لأن ذلك الشرط كان على وجه التنفيل منه فعليه الوفاء بذلك لقوله عليه السلام : " المسلمون عند شروطهم " .
ولو جمعت الغنائم فقال الأمير : من أخذ جبنة فعليه ثمنها درهم ومن أخذ شاة فعليه خمسة دراهم ومن أخذ جارية فهي له بمائة درهم فأخذ رجل شاة فذبحها وأكلها وأخذ آخر جبنة فأكلها وأخذ آخر جارية فأعتقها فعلى كل واحد قيمة ما أخذه لأن هذا الكلام من الأمير ليس على وجه التنفيل فإن التنفيل بعد الإصابة لا يجوز ولكنه على وجه البيع وهو فاسد لجهالة المبيع عند العقد فكل من أخذ شيئاً ولم يستهلكه فللإمام أن يسترده منه لفساد البيع أو يسلمه له بذلك الثمن بيعاً مستقبلاً إن رضي به المشتري لأنه بأخذه قد تعين فيجوز بيعه منه ابتداءً ولكن ابتداء البيع يعتمد التراضي من الجانبين وإن استهلكها فعليه ضمان القيمة كما هو الحكم في المشترى شراءً فاسداً إذا استهلكه المشتري بعد القبض ولهذا نفذ العتق في الجارية لأنه قبضها بحكم بيع فاسد فتملكها حتى لو باعها جاز البيع وغرم قيمتها فكذلك إذا أعتقها .
فإن قيل : كيف يضن القيمة وهو لو أكل الجبنة أو بح الشاة فأكلها قبل هذا كان مباحاً له ولم يكن عليه ضمان في ذلك وكذلك لو أتلف الجارية في دار الحرب لم يكن ضامناً شيئاً .
قلنا : لأن هذا الكلام لم يتأكد حق الغانمين فيها فأما بعد هذا القول فقد تأكد حق الغانمين فيها لأن البيع الفاسد معتبر بالجائز وبيع الإمام الغنائم في دار الحرب بمنزلة الإحراز في تأكد حق الغانمين فيها .
يوضحه أنه قد تملك المأخوذ هاهنا بالأخذ بجهة العقد ولهذا لو باعه جاز@(3/33)
بيعه فيه والتمليك بعقد المعاوضة لا يكون إلا بعوض وذلك بالقيمة إذا لم يتأكد قبل الإحراز .
ولو كان الآخذ لم يسمع مقالة الأمير حتى أكل الشاة لم يضمن شيئاً ولو باعها لم يجز بيعه لأنه ما أخذها على وجه البيع حين لم يسمع مقالة الأمير فكان هو بمنزلة ما لو أخذها قبل مقالة الأمير فأما السامع فإنما أخذها على جهة البيع والملك وهذا بخلاف ما لو قال قبل إحراز الغنيمة : من جاء بجارية فهي له بيعاً بألف درهم فجاء رجل بجارية فأعتقها لم يجز عنقه لأن ذلك البيع لم يكن منعقداً أصلاً لأن البيع بدون المحل لا ينعقد لا جائزاً ولا فاسداً وهاهنا المحل كان موجوداً لكنه كان مجهولاً حين أوجب البيع فينعقد البيع بصفة الفساد ويثبت الملك بالقبض .
ولو قال : من جاء بشاة فهي له بيعاً بدرهم فجاء رجل بشاة فذبحها وأكلها لم يكن عليه فيها ضمان لأن البيع لم يكن منعقداً هاهنا فكأنه أخذها قبل مقالة الأمير وأكلها فلهذا لا يضمن شيئاً .@(3/34)
باب سهمان الخيل والرجالة
وإذا أصاب المسلمون الغنائم فأحرزوها وأرادوا قسمتها فعلى قولي أبي حنيفة رضي الله عنه : يعطى الفارس سهمين سهماً له وسهماً لفرسه والراجل سهماً .
وقال : لا أجعل سهم الرفس أفضل من سهم الرجل المسلم وهو قول أهل العراق من أهل الكوفة والبصرة لأن تفضيل البهيمة على الآدمي فيما يستحق بطريقة الكرامة لا وجه له والاستحقاق باعتبار إرهاب العدو وذلك بالرجل أظهر منه بالفرس .
ألا ترى أن الفرس لا يقاتل بدون الرجل والرجل يقاتل بدون الرفس وكذلك مؤنة الرجل قد تزداد على مؤنة الفرس فالفرس لا يجتري بالحشيش وما لا قيمة له ومطعوم الآدمي لا يوجد إلا بثمن مع أنه لا يعتبر بالمؤنة فإن السهم لا يستحق بالبغل والبعير والحمار وصاحبه يلتزم مؤنة مثل مؤنة الفرس أو أكثر وبالفيل لا يستحق السهم ومؤنته أكثر من مؤنة الفرس .
وبهذا تبين أن استحقاق السهم بالفرس ثابت بخلاف القياس بالنص لأن الفرس آلة للخرب وبالآلة لا يستحق السهم ومجرد حصول إرهاب العدو به لا يوجب استحقاق السهم به كالفيل ولكن تركنا القياس في الفرس بالسنة وإنما اتفقت الأخبار على استحقاق سهم واحد بالفرس فيترك القياس فيه لكونه متيقناً وفيما تعارض فيه الأثر يؤخذ بأصل الرفس .
وعلى قول أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وهو قول أهل الحجاز وأهل والشام .
قال محمد : وليس في هذا تفضيل البهيمة على الآدمي فإن @(3/35)
السهمين لا يعطيان للفرس وإنما يعطيان للفارس فيكون في هذا تفضيل الفارس على الراجل وذلك ثابت بالإجماع ثم هو يستحق أحد السهمين بالتزام مؤنة فرسه والقيام بتعاهده والسهم الآخر لقتاله على فرسه والسهم الثالث لقتاله ببدنه وقال : أرجح القول لأنه اجتمع عليه فريقان وقد بينا أنه يرجح بهذا في مسائل الكتاب وعلل فيه فقال : لأنه أقوى مما تفرد به فريق واحد يعني : طمأنينة القلب إلى ما اجتمع عليه فريقان أظهر .
وهو نظير ما قال في الاستحقاق إذا أخبر مخبر بنجاسة الماء وأخبر اثنان بطهارته فإنه يؤخذ بقول الاثنين لأن طمأنينة القلب في خبر الاثنين أظهر .
ثم بين أن الآثار جاءت صحيحة مشهورة لكل قول وروى الأخبار بالأسانيد في الكتاب فالحاجة إلى التوفيق والترجيح لكل واحد من الفريقين .
فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال : أوفق بين الأخبار فأحمل ما روى : أنه أعطى الفرس سهمين على أن أحد السهمين للفارس لفرسه والآخر كان من الخم لحاجته أو كان نفل لذلك قبل الإصابة أو المراد بذكر الفرس الفارس لعلمنا أنه إنما أعطى الفارس وعليه حمل حديث خبير في قوله : وكانت الرجال ألفاً وأربعمائة والخيل مائتي فرس .
فقال : الماد بالرجال : الرجالة وبالخيل : الفرسان قال الله تعالى : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم@(3/36)
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أي : بفرسانك ورجالتك ووجه الترجيح أن السهمين للفارس متيقن به لاتفاق الآثار عليه وفيما يكون مستحقاً بخلاف القياس لا يثبت إلا المتيقن به وهما قالا : المثبت للزيادة من الأخبار أولى من النافي .
ووجه التوفيق : أن المراد بما يروي أنه أعطى الفارسين سهمين : بيان ما فضل الفارس به على الراجل لا بيان جملة ما أعطاه .
ثم ذكر حديث قسمة غنائم خبير أنها كانت على ثمانية عشر وقال في آخر ذلك الحديث : ولم يكن قسمها النبي إنما كانت فوضى وكان الذي قسمها وأرفها عمر بن الخطاب لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا ومعنى قوله : أرفها عمر بن الخطاب أي أخرج القرعة ووضعها على كل سهم .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا سهم للرجل إلا لفرس واحد وإن حضر بأفراس وبه أخذ محمد لأنه اجتمع على هذا القول أهل العراق وأهل الحجاز فأما أهل الشام فيقولون بسهم لفرسين ويجعل ما وراء ذلك جنيبة وبه أحذ أبو يوسف رحمه الله لأن المبارز قد يحتاج إلى فرسين ليقاتل عليهما ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا : لا يقاتل عادة إلا على فرس واحد فكأن@(3/37)
الثاني والثالث غير محتاج إليه عادة .
وهذا نظير اختلافهم في نفقة الخادم أيضاً فإن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله : القاضي لا يفرض النفقة إلا لخادم واحد من خدم المرأة وعند أبي يوسف يفرض لها نفقة خادمين وقد بينا ذلك في كتاب النكاح من شرح المختصر .
ثم جاءت الآثار بما يشهد كل قول على ما رواها في الكتاب بالأسانيد والتوفيق والترجيح من كل جانب .
على نحو ما ذكرنا في المسألة الأولى وذكر : عن مالك بن عبد الله الخثعمي قال : كنت بالمدينة فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : هل هاهنا من أهل الشام أحد فقلت : نعم يا أمير المؤمنين قال : فإذا أتيت معاوية فأمره إن فتح الله عليه أن يأخذ خمسة أسهم ثم يكتب في أحدها الله ثم يقرع فحيث ما وقع فليأخذه .
وفي هذا بيان أنه لا ينبغي للأمير أن يتخير إذا ميز الخمس من الأربعة الأخماس ولكنه يميز بالقرعة وقد دل عليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء ثم يسهم عليها فما كان للنبي فهو له ولا يتخير .
فكأن المعنى فيه : أن كل أمير مندوب إلى مراعاة قلوب الرعية وإلى ني تهمة الميل والأثرة عن نفسه .
وذلك إنما يحصل باستعمال القرعة عند القسمة ولهذا تستعمل القرعة في قسمة الأربعة الأخماس بين العرفاء ثم يستعمل كل عريف القرعة في القسمة بين من القسمة بين من تحت رايته فكذلك يستعمل القرعة في تمييز الخمس من الأربعة الأخماس .
والأصل فيه ما روى : " أن النبي عليه السلام كان إذا@(3/38)
أراد سفراً أقرع بين نسائه " وقد كان له أن يسافر بمن شاء منهن بغير اقراع فإنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج ومع هذا كان يقرع تطييباً لقلوبهم ونفياً لتهمة الميل عن نفسه فكذا ينبغي للأمير أن يفعل في القسمة أيضاً .
باب سهمان البراذين
قال علماؤنا رحمهم الله : البرذون في استحقاق السهم كالفرس كذا الهجين والمقرف هو قول أهل العراق وأهل الحجاز .
فالفرس : اسم لفرس العربي والبرذون للفرس العجمي .
والهجين : ما يكون الفحل عربياً والأمر من أفراس العجم .
والمقرف على عكس هذا .
ثم في استحقاق السهم من الغنيمة العربي والعجمي سواء فكذلك في الاستحقاق بالخيل وهذا لأن الاستحقاق بالخيل لإرهاب العدو به قال الله تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } واسم الخيل يتناول البرذاين على ما روي : أنه سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال : أو في الخيل صدقة وقال ابن عباس رضي الله عنه : " الفرس والبرذون@(3/39)
سواء " إذا الاستحقاق بالقتال على الفرس وأهل العلم بالحرب يقولون : البرذون أفضل في القتال عند اللقاء من الفرس فإنه ألين عطفاً وأشد متابعة لصاحبه على ما يريد وأصبر في القتال فما يفضلها العراب إلا للطلب والهبر ففي كل واحد منهما نوع زيادة فيما هو من أمر القتال فيستويان إذ الاستحقاق بالتزام مؤنة الفرس ومؤنة البرذون لا تكون دون مؤنة الفرس .
فأما أهل الشام فيقولون : لا سهم للبرذون إلا أن يكون مقارباً للفرس ويستدلون في ذلك بما روي : أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر رضي الله عنه : أما بعد فأنا أصبنا من خيل القوم خيلاً دكاً عراضاً فما يرى أمير المؤمنين في إسهامها .
فكتب إليه : إن ذلك يسمى البراذين فانظر فما كان منها مقارباً للخيل فأسهمها سهماً وألغ ما سواها .
وهكذا روي عن عمر بن عبد العزيز فإنه قال لعامله : فإن كان برذونا رائع الجري والمنظر فأسهم له ولا تسهم لما سوى ذلك .
وأتى خال بن الوليد رض الله عنه بهجين فقال : لئن أستف التراب أحب إلي من أن أقسم له .
وعن كلثوم بن الأقمر قال : أغارت الخيل بالشام فأدركت العرب من يومها وأدركت الكوادن ضحى الغد وعليهم المنذر بن أبي حمصة الوادعي فقال : لا أجعل@(3/40)
ما أدرك سابقاً كما لم يدرك فكتب إليه عمر رضي الله عنه : هبلت الوادعي أمه لقد أذكت به أي : أتت به ذكياً .
وفي رواية : لقد أذكرته أي : أتت به ذكراً فأمضوها على ما قال .
إلا أنا نقول : هذه الآثار تحمل على ما لا يكون صالحاً للقتال مما يعد لحمل الأمتعة عليه دون القتال به .
وقد نقل ذلك مفسراً عن عمر بن عبد العزيز قال : ما كان من فرس ضرع أو بغل فاجعلوا صاحبه بمنزلة الرجالة .
ثم في حديث المنذر ما يدل على أن الإسهام للبراذين كان معروفاً بينهم فإن عمر تعجب من صنيعه وما تعجب إلا أنه لم يكن صنع ذلك قبل هذا ثم المنذر كان عاملاً فحكم فيما هو مجتهد فيه وأمضى عمر حكمه لهذا لا لأن رأيه كان موافقاً لذلك ونحن هكذا نقول : إن الحاكم إذا قضى في المجتهد بشيء فليس لمن بعده من الحكام أن يبطل ذلك .
ثم قال بعض أهل الشام : يسهم للبرذون سهماً لفرس سهمين .
وهكذا ذكر قبل ذلك مفسراً في حديث المنذر .
وقال بعضهم : لا يسهم للبرذون أصلاً .
كما ذكره في حديث خال بن الوليد .
وقال : صاحب البرذزن بمنزلة صاحب الحمار والبغلة .
وذكر عن عمر رضي الله عنه قال : إذا جاوز الفرس الدرب ثم نفق أسهم له .
وبه أخذ علماؤنا فقالوا : معنى إرهاب العدو يحصل بمجاوزة الدرب فارساً فإن الواوين إنما تدون والأسامي إنما تكتب عند مجاوزة الدرب ثم ينتشر الخبر في دار الحرب بأنه جاوز كذا كذا راجل فلحول معنى الإرهاب به يستحق السهم .
ولا يعارض هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغنيمة لمن يشهد الوقعة لأن عندنا من نفق فرسه بعد مجاوزة الدب فإنما يأخذ الغنيمة إذا شهد الوقعة .
على أن دخول دار الحرب فارساً بمنزلة شهود الوقعة@(3/41)
فارساً ولذلك جعلنا للمدد شركة مع الجيش في المصاب وإن لم يشهدوا الوقعة .
وهذا لأن إعزاز الدين يحصل بدخول دار الحرب على قصد الجهاد قال علي رضي الله عنه : ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .
ولا يسهم عندنا لصبي ولا يقاتلوا ويرضخ لمن سواهم إذا قاتلوا وللنساء إذا خرجن لمداواة الجرحى والطبخ والخبز للغزاة .
وأهل الشام يقولون : يسهم للمرأة والصبي والعبد واستدلوا فيه بحديث مكحول : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم حنين للنساء والصبيان " .
وفي صحة هذا الخبر نظر .
والمشهور أن القسمة يومئذ كانت على ألف وثمانمائة سهم فكان الرجال ألفاً وأربعمائة والخيل مائتي فرس ولم يذكر في ذلك امرأة ولا صبي ولو كانوا لكان ينبغي أن يقال : كانت الرجال كذا كذا والصبيان كذا والنساء كذا لاستحالة أن يقال : ذكرت الخيل ولم تذكر النساء والصبيان والدليل على ضعف الحديث ما اشتهر من قول الكبار من الصحابة فإن عمر رضي الله عنه كان يقول : ليس للعبد في المغنم نصيب .
وقال ابن عباس : لا يسهم للنساء ولكن يخدين من الغنائم أي : يعطي لهن رضخاً .
هكذا رواه سعيد بن المسيب عن رسول الله عليه السلام .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسهم للعبيد@(3/42)
والصبيان " .
وعن فضالة بن عبيد قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسهم للمملوكين " .
وروي : أن شقران - غلام النبي عليه السلام - شهد بدراً معه فلم يسهم له واستعمله على الأسارى حتى كان حظه كحظ رجل من الثمانية من بني هاشم وسماهم في الكتاب .
وعن عمير - ولى أبي اللحم - قال : شهدت خبير وأنا مملوك فلم يسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني من خرثي المتاع .
فبهذا يتبين أن المراد بالحديث أنه رضخ لهؤلاء يوم خبير وبه نقول : إنه يرضخ لهم وهذا لأنهم اتباع ولا يسوى بين التبع والمتبوع في الاستحقاق بخلاف الخيل فإنه لا يستحق شيئاً وإنما المستحق صاحبه فلا يتحقق فيه معنى المساواة بين التبع والمتبوع .
وكذلك أهل الذمة أتباع فإن فعلهم لا يكون جهاداً فيرضخ لهم ولا يسهم إلا أن عطاءً كان يقول : إن خرج الإمام بهم كرهاً فلهم أجر مثلهم .
وابن سيرين كان يقول : يضع عنهم الجزية ومرادهم من ذلك بيان الرضخ أنه يكون بحسب العناء والقتال .
وكان الزهري يقول : يسهم لهم كما يسهم للمسلمين .
وروي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بأناس من اليهود فجعل لهم سهماناً مثل سهمان المسلمين " .
ولأجل هذا الاختلاف قال محمد رحمه الله : ولو أن والياً جعل لهؤلاء السهم كما للمسلمين نفذ حكمه حتى لو رفع إلى وآل آخر يرى خلافة فعليه أن يمضي ذلك الحكم وليس له أن يبطله لأنه أمضى الحكم في فصل مجتهد به والحكم في المجتهدات نافذ بالإجماع ففي إبطاله مخالفة الإجماع وذلك لا يجوز .
ولا يسهم للأجير الذي يستأجره غاز فيخدمه أنه أخذ على خروجه مالاً فلا يستوجب لهذا الخروج شيئاً من الغنيمة .@(3/43)
والأصل فيه ما روى أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - استأجر أجيراً بثلاثة دنانير فلما طلب سهمه من الغنيمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه الدنانير حظك في الدنيا والآخرة " وعن عكرمة أن أجيراً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلم يسهم له شيئاً وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه يسهم للأجير .
وتأويل هذا أنه إذا قاتل وترك العمل الذي استأجره فإنه لا يستحق الأجر في ذلك الوقت فيستحق السهم وإذا لم يفعل ذلك فهو يستحق الأجر فلا يستحق السهم وحاله كحال التاجر في العسكر : إن قاتل استحق السهم وإن لم يقاتل لا يستحق السهم .
والله أعلم .
باب سهمان الخيل في دار الحرب
قد بينا أن من نفق فرسه بهد مجاوزة الدرب فهو يستحق سهم الفرسان .
قال : ألا ترى أنه لو عقر فرسه في القتال أو قتل أو قتل استحق سهم الفرسان .
وإن كانت إصابة@(3/44)
الغنائم بعد ذلك في حال ما كان هو راجلاً .
كذلك لو أخذ العدو فرسه وأحرزوه .
إذ لو قلنا يحرم سهم الفرس بهذا امتنع الناس من القتال على الخيل مخافة أن تبطل سهامهم بها .
وإنما ينبغي للإمام أن يفعل ما فيه زيادة تحريض للمسلمين .
ثم الاستحقاق بالتزام مؤنة الفرس في دار الحرب على قصد القتال لا بمباشرة القتال فارساً .
ألا ترى أن قتالهم لو كانت في المغائض أو على أبواب الحصون أو في السفن فإن من كان فارساً منهم استحق سهم الفرسان .
وقد أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين للفرسان وكانت حصوناً افتتحوها بالقتال رجالة .
فعرفنا أن المعتبر التزام مؤنة الفرس في دار الحرب لا القتال عليه .
ولو ضن بفرسه فربطه في المعسكر على آري فقاتل راجلاً استحق سهم الفرسان .
فإذا أصيب فرسه في القتال لأن يستحق سهم الرجالة .
وفي رواية ابن المبارك - رحمه الله - يستحق سهم الفرسان لأنه التزم مؤنة الفرس في دار الحرب للقتال عليه ولأن مجاوزة الدرب بمنزلة القتال حكماً .
فإذا كان يستحق به سهم الفرسان فلأن يستحق بحقيقة القتال فارساً كان أولى .
ووجه ظاهر الرواية أن انعقاد سبب الاستحقاق يكون مجاوزة الدرب وقد@(3/45)
انعقد له سبب استحقاق سهم الراجل فلا يتغير بعد ذلك .
وهذا لأنه يشق على الإمام مراعاة حال كل واحد من الغزاة في كل وقت فيجب اعتبار حال مجاوزة الدرب تيسيراً لأن العادة أن عرض الجيش عند ذلك يكون في حال الدخول والخروج .
فمن أثبت فارساً في الديوان عند ذلك يستحق سهم الفرسان وإن تغير حاله .
ومن أثبت في ديوان الرجالة لا يستحق إلا سهم راجل وإن تغير حاله .
فإن دخل بفرس لا يستطيع القتال عليه لضعف كبر أو مهر لم يركب لم يضرب له بسهم فارس لأن ما دخل به ليس بصالح للقتال عليه فعرفنا أنه دخل راجلاً وحاله دون حال من دخل ببغله أو حمار أو بعير وقد بينا أنه أن لا يسهم له إلا سهم راجل .
فإن كان الفرس مريضاً لا يستطاع القتال عليه حين قتل به فلم يغنم المسلمون غنيمة حتى صح الفرس ففي القياس لهم سهم راجل لأنه عند مجاوزة الدرب لم يكن معه فرس صالح للقتال عليه وإنما صار بعد ذلك حين صح فيجعل كما لو اشترى فرساً في هذه الحالة أو دخل بمهر ثم طال مقامهم حتى صار بحال يركب .
ولكنه استحسن فقال : يضرب لهم بسهم فارس في كل غنيمة أصابوها قبل برئه أو بعد برئه لأنه ما دخل بهذا الفرس إلا للقتال عليه وما التزم مؤنته إلا لذلك فإنه كان صالحاً للقتال عليه إلا أنه تعذر ذلك بعارض على شرف الزوال فإذا زال صار كأن لم يكن بخلاف المهر فإنه ما كان صالحاً للقتال عليه وإنما صار صالحاً لذلك ابتداءً في دار الحرب فيكون حاله كحال من اشترى فرساً في دار الحرب .
والذي يوضح هذا الفرق أن الصغيرة لا تستوجب النفقة على زوجها لأنها لا تصلح لخدمة الزوج والمريضة التي لا يجامع مثلها لا تستوجب النفقة عليه لأنها كانت صالحة لخدمته وإنما تعذر ذلك بعارض على شرف الزوال .
فكذلك الفرس إذا ضلع أو مرض عند مجاوزة الدرب بخلاف ما إذا كان ضعفه لكبر فإن ذلك ليس على شرف الزوال .
ولو أن مسلماً دخل دار الحرب فارساً فقتل فرسه وأخذ أسيراً قبل أن تصاب الغنائم ثم أصاب الجيش الغنائم فلم يخرجوها حتى انفلت فلحق بهم فله سهم الفرسان لأنه انعقد له بسبب استحقاق معهم عند مجاوزة الدرب@(3/46)
وشاركهم في إحراز الغنائم بدار الإسلام فيجعل في الحكم .
كأنه لم يفارقهم لأنه ابتلى بمفارقتهم بعارض على شرف الزوال فإذا زال صار كأن لم يكن .
ولو كان خرج ذلك الجيش ودخل جيش آخر فانفلت إليهم راجلاً ثم أصابوا غنائم بد ما لحق بهم فله في ذلك سهم راجل ولا يشركهم فيما أصابوا قبل أن يلتحق بهم لأنهما انعقد له سبب الاستحقاق معهم وقد تم ذلك السبب الذي انعقد له بخروج ذلك الجيش إلى دار الإسلام ولم يكن هو معهم فبطب ذلك الاستحقاق ثم قد انعقد له باللحوق بالجيش الثاني سبب الاستحقاق الآن ابتداءً فيعتبر حاله في هذا الوقت .
فإن لحق بهم راجلاً استحق سهم الرجالة وإن لحق فارساً استحق سهم الفرسان بمنزلة من أسام في دار الحرب والتحق بالجيش أو كان تاجراً مستأمناً في دار الحرب فالتحق بالجيش ولهذا لا شركة له فيما أصيب قبل ذلك لأن سبب لاستحقاق ما كان منعقداً له حين أصيب ذلك .
إلا أن يبتلي المسلمون بقتال فيقاتل معهم عند بك فحينئذ يستحق الشركة فيهم بسهم راجل إن التحق بهم راجلاً وبسهم فارس إن التحق بهم فارساً على فرس اشتراه من أهل الحرب أو وهبوه له لأن ذلك الفرس له على الخلوص فيكون به فارساً .
وإن كان أخذ ذلك الفرس من أهل الحرب بغير طيب أنفسهم فهو راجل وذلك الفرس يكون نيئاً لأنه أحرزه بمنعة الجيش فكان من جملة الغنيمة ويشاركه فيه الجيش وهو لا يكون فارساً بفرس هو من الغنيمة .
ألا ترى أنه لا يكون له أن يقاتل على ذلك الفرس .
ولو كان ارتد ولحق بالعدو ثم أسلم ولحق بالعسكر فهو بمنزلة الأسير@(3/47)
والذي أسلم في دار الحرب في جميع ما ذكرنا .
فإن لم يتنبهوا إلى العسكر حتى نفقت خيولهم فهم رجالة لأن حالة اللحوق بالعسكر في حقهم بمنزلة مجاوزة الدرب في حق من دخل دار الإسلام .
إلا أن يكونوا قد قربوا من العسكر بحيث يكون العسكر رداءاً لهم بغيثونهم إن طلبوا الغياث ثم نفق الفرس فحينئذ يستحقون سهم الفرسان لأنهم وصلوا إلى العسكر فرساناً فكأنهم خالطوهم ثم نفقت أفراسهم بعد ذلك .
ولو دخل مسلم دار الحرب بأمر الإمام فارساً على إثر العسكر فنق فرسه ثم أدركهم راجلاً يضرب له بسهم فارس لأنه دخل دار غازياً على فرس فذلك بمنزلة لحوقه الجيش في استحقاق أصل الشركة على ما بينا أن المدد بمنزلة من شهد الوقعة في استحقاق السهم فكذلك في صفة الاستحقاق وهذا مدد حين دخل بإذن الإمام .
فإن كان الإمام نهى الناس لأن يدخلوا بعد العسكر والمسألة بحالها فإنما ينظر الآن إلى حاله يوم لحوقهم لأنه دخل لصاً مغيراً وما دخل غازياً حين دخل بغير إذن الإمام .
ألا ترى أنه لو أصاب وحده شيئاً لم يخمس ذلك بخلاف من دخل بإذن الإمام وأن هذا لا يشارك الجيش فيما أصابوه قبل أن تلتحق بخلاف الأول فيكون حال هذا كحال الأسير .
.
والذي أسلم في دار الحرب في أنه يعتبر حاله وقت اللحوق لأنه صار غازياً حينئذ .
ولو أن التجار في عسكر من المسلمين أو من أهل الذمة كانوا فرساناً فقاتلوا مع المسلمين فإنما ينظر إلى حالهم حين قاتلوا لأن سبب الاستحقاق ينعقد لهم ابتداء في هذا الوقت فإنهم كانوا تجار قبل هذا لا غزاة .
فمن كان من المسلمين في هذه الحالة فارساً استحق سهم الفرسان ومن كان من أهل الذمة فارساً استحق الرضخ بحسب ذلك ومن كان منهم راجلاً استحق الرضخ بحسب ذلك ولو أسلموا ثم قاتلوا معهم فإنما يعتبر حالهم في صفة استحقاق السهم حين قاتلوا معهم لأن حالهم كحال الأسراء والذين أسلموا من أهل الحرب من حيث أن سبب الاستحقاق ينعقد لهم الآن .@(3/48)
ولو لحقوا بالعسكر وهم على يدنهم فجعلوا يقاتلون معهم ثم أسلموا فمن كان منهم فارساً حين لحقوا بالمسلمين فله سهم الفرسان ومن كان منهم راجلاً فله سهم الرجالة .
وكذلك لو دخلوا من دار الإسلام مع الجيش للقتال فرساناً أو رجالة ثم أسلموا قبل إصابة الغنائم أو بعدها فمن كان منهم راجلاً حين دخل استحق سهم الرجالة ومن كان منهم فارساً استحق سهم الفرسان .
وقد طعنوا في هذين الفصلين وقالوا : قبل الإسلام ما انعقد لهم سبب استحقاق السهم لأنهم ليسوا بأهل لذلك وانعقاد السبب بدون أهلية المستحق لا يكون فينبغي أن يعتبر حالهم بعد الإسلام لا حال مجاوزة الدرب وحال اللحوق بالجيش إذا كانوا في دار الحرب .
ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لأنهم من أهل أن يستحقوا شيئاً من الغنيمة .
ألا ترى أن قبل الإسلام يستحقون الرضخ وذلك شيء من الغنيمة .
فيه يتبين انعقاد سبب الاستحقاق لهم عند اللحوق بالجيش أو مجاوزة الدرب على قصد القتال ثم إذا أسلموا قبل تمام الاستحقاق بإحراز الغنائم بدار الإسلام يجعل بمنزلة ما لو كانوا مسلمين عند ابتداء السبب في صفة الاستحقاق لأن الصفة تتبع الأصل فيبتنى عليه .
وعلى هذا لو دخلوا مدداً للجيش بإذن الإمام ثم اسلموا قبل أن يلحقوا الجيش أو بعد ما لحقوهم قبل الإحراز .
ولو أن عبداً دخل دار الحرب مع مولاه فارساً يريد القتال بإذن مولاه فغنموا غنائم ثم أعتقه مولاه ووهب له ذلك الفرس فغنموا غنائم بعد ذلك فإنه يرضخ لمولاه مما غنم المسلمون قبل أن يعتق العبد ولا يبلغ بذلك الرضخ سهم فارس ولا بأس بأن يزاد على سهم الراجل لأن العبد في حكم الرضخ كالذمي ولا يبلغ برضخ@(3/49)
الذمي إذا كان فارساً سهم فارس من المسلمين .
لأنه لا يوجد من أهل الذمة مقاتل إلا وفي المسلمين من هو أقوى منه فكذلك حال العبد إلا أنهما يفترقان من حيث إن المستحق للعبد وهو الرضخ ولا يتغير بعتقه فيما أصيب قبل ذلك والمستحق للذمي يتغير حين يستحق السهم في جميع ذلك .
لأن بإسلام الذمي لا يتبدل المستحق فهو المستحق للسهم والرضخ جميعاً فيمكن أن يجعل إسلامه كالموجود عند ابتداء السبب .
ويعتق العبد يتبدل المستحق لأن الرضخ يكون لمولاه مستحقاً بالعبد كما يكون السهم مستحقاً له بالفرس وبعد العتق الاستحقاق للعبد فلا يمكن أن يجعل العتق كالموجود عند ابتداء السبب لأن ذلك يبطل استحقاق المولى أصلاً ولهذا المعنى قلنا يبقى حكم الرضخ فيما أصيب قبل عته وفيما يصاب بعد العتق يكون للعبد سهم الفرسان لأنه كان فارساً عند انعقاد أصل السبب وإن كان الفرس لغيره بمنزلة من دخل فارساً على فرسه عارية أو هو بعد العتق حين وهب له المولى الفرس بمنزلة من التحق بالعسكر فارساً من أسير أو تاجر فيستحق سهم الفرسان .
قال : وكذلك الذمي والمكاتب يدخلان فارسن ثم يصيب المسلمون غنائم ثم يعتق المكاتب ويسلم الذمي ثم يصيبون غنائم بعد ذلك فإنه يرضخ لهما في الغنيمة الأولى رضخ فارسين ويعطيان بعد العتق والإسلام سهمين فارسين .
وهذا الجواب غير صحيح في الذمي فقد أجاب قبل هذا أن له السهم في جميع ذلك .
وهذا مخالف لذلك وهو تناقض بين وإنما يقع مثل هذا الغلط من المكاتب والصحيح في حق الذمي الجواب الأول لما بينا من المعنى .
فأما في حق المكاتب : فمنهم من يقول : الجواب أيضاً غير صحيح لأن المكاتب هو المستحق لكسبه دون مولاه فبعتقه لا يتبدل المستحق بل يكون حاله كحال الذمي وقد نص عليه بعد هذا في الباب في الموضعين بخلاف العبد .
ومنهم من يقول : بل هو صحيح لأن كسب المكاتب دائر بينه وبين مولاه لكل واحد منهما فيه حق الملك .
ألا ترى أنه ينقلب حقيقة ملك المولى عجز المكاتب فيثبت معنى تبدل المستحق بعتقه من هذا الوجه فلهذا يعتبر الرضخ فيما كان قبل العتق وأما بعد العتق فله سهم الفارس فلا يكون فرسه دون الفرس المستعار .
ولو جعل راجلاً بعد العتق أدى@(3/50)
إلى أن يكون استحقاقه بعد العتق دون استحقاقه قبله لأن رضخ الفارس قد يزداد على سهم الراجل ومعلوم أن العتق يزيده خيراً لا شراً فعرفنا أن يستحق سهم الفارس بعد العتق .
ولو كان العبد غير مأذون في القتال وإنما دخل للخدمة مع مولاه فقاتل فلا شيء له في القياس لأنه ليس من أهل القتال وإنما يصير أهلاً فيكون حال كحال الحربي المستأمن إن قاتل بإذن الإمام استحق الرضخ وإلا فلا .
وفي الاستحسان يرضخ له لأنه غير محجوز عن الاكتساب وعما يتمحص منفعته واستحقاق الرضخ بهذه الصفة .
فيكون هو كالمأذون فيه من جهة المولى دلالة .
وهو نظير القياس والاستحسان في العبد المحجوز إذا أجر نفسه وسلم من العمل ثم بين أن المكاتب لا ينبغي له أن يغزو إلا بإذن مولاه كالقن لأنه في الغزو يعرض نفسه للخطر وهو مملوك للمولى فلا يجوز له أن يخاطر بنفسه بغير إذنه كالعبد بخلاف الخروج للتجارة إلى دار الحرب فإن ذلك من باب الاكتساب فيلتحق هو بالحر .
وإن شرط عليه مولاه في الكتابة أن لا يخرج إلى دار الحرب فإن شرطه لغو .
وقد بيناه في كتاب المكاتب .
فإن قاتل بغير إذن مولاه وأبلى بلاء فإنه يرضخ له على قدر بلائه إن كان فارساً أو راجلاً لأن فعله هذا كان اكتساباً للمال وعند الكتابة يطلق ذلك له فإذا ثبت في حق المكاتب فهو كذلك في حق العبد إذا قاتل بغير إذن مولاه .
ولو أن عبداً دخل دار الحرب مع مولاه فأعتقه ووهب له فرساً ثم لحق بالجند فإنما يعتبر حاله حين لحق بهم .
فإن كان فارساً فله سهم الفرسان وإن كان راجلاً فله سهو الرجالة فيما يصيبون بعدما يلحق بهم ولا شركة له فيما أصابوا قبل ذلك إلا أن يقاتل معهم لأن سبب الاستحقاق ما انعقد له حين دخل لا على قصد القتال وإنما ينعقد له السبب حين@(3/51)
يلتحق بالجيش فيكون حاله كحال التاجر والذي أسلم في دار الحرب .
ول كان مكاتباً حين دخل فأعتقه المولى أو أدى بدل الكتابة قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام فإنما ينظر إلى حاله ين دخل فإن كان فارساً استحق سهم الفرسان فيما أصابوا قبل عتقه وبعده لأن دخوله كان على قصد القتال سواء أذن له المولى في الغزو أو لم يأذن .
إذ لا خدمة للمولى عليه .
وقصده إلى القتال يكون معتبراً في حقه فانعقد له السبب بالدخول وقد كمل حاله قبل تمام الإحراز فيلتحق بما لو كان كامل الحال عند الدخول .
وبهذا تبين أن ما ذكر من الجواب قبل هذا في المكاتب غلط من المكاتب .
فإن لم يعتق حتى قسمت الغنائم أو بيعت فليس له في تلك الغنائم إلا الرضخ لأن الحق تأكد فيها قبل كماله لحاله فإن القسمة والبيع وقد تأكد الحق في الغنيمة كالإحراز .
ولهذا ينقطع بها شركة المدد .
فيكون هذا وما لو عنق بعد الإحراز بدار الإسلام سواء والرضخ الواجب يكون له لأنه كسب المكاتب فيسلم له بعد العتق .
وإن خاصمه مولاه في دار الحرب في المكاتبة يفسخ القاضي الكتابة لأنه أخل ببعض النجوم .
وفي القياس لا يستحق شيئاً إن كان دخل بغير إذن مولاه لأن الكتابة لما انفسخت صارت كأن لم تكن وكأنه حاله كحال العبد الداخل بغير إذن مولاه على قصد القتال وقد بينا أن هناك في القياس لا يستحق الرضخ وفي الاستحسان يستحق ويكون ذلك لمولاه فهذا مثله .
ولو مات عاجزاً أو عن وفاء .
فإن كان ذلك قبل قسمة الغنائم أو الإخراج لم يكن له ولا لمولاه من ذلك شيء وإن أديت كتابته لأن استحقاق الرضخ لا يكون أقوى من استحقاق السهم وموت الغازي قبل الإحراز والقسمة يبطل سهمه من الغنيمة فموت المكاتب أولى .
وإن كان ذلك بعد القسمة أو البيع والإخراج فله نصيبه منها كما لو مات الحر في هذه الحالة إلا أنه إذا مات عاجزاً كان ذلك لمولاه إلا@(3/52)
أن يمون فيه وفاء بالمكاتبة فيقبضه المولى من مكاتبه ويحكم بحريته .
وإن كان مات عن وفاء فذلك لورثته .
فإن قيل : عتقه يستند إلى حال حياته فعلى هذا ينبغي أن يستحق السهم .
بمنزلة ما لو عتق قبل الإحراز في حياته .
قلنا : على إحدى الطريقتين لا يستند عتقه وإنما يجعل هو حياً حكماً إلى وقت أداء بدل الكتابة وعلى الطريق الأخرى هذا الإسناد لأجل الضرورة .
فلا يظهر فيما وراء ما تحققت فيه الضرورة وهو حكم الكتابة فأما استحقاق السهم فليس من ذلك في شيء .
ولو كان عبداً مأذونا له في القتال أو غير مأذون فمات قبل الإحراز والقسمة فلا شيء لمولاه من ذلك اعتبار بموت من له سهم .
فإن قيل : استحقاق الرضخ هاهنا للمولى بسبب عبده كاستحقاق السهم للفارس بفرسه ثم بموت الفرس في دار الحب لا يبطل سهم الفارس فكذلك بموت العبد ينبغي أن لا يبطل ح المولى في الرضخ .
قلنا : لا كذلك ولكن الاستحقاق للعبد هاهنا ثم يخلفه المولىفي ملك المستحق كما يخلفه في سائر أكسابه وهذا لأن العبد آدمي مخاطب وهو من أهل أن ينعقد له سبب الاستحقاق على أن يخلفه مولاه في ملك المستحق .
أترى أنه لو مات العبد بعد مجاوزة الدرب قبل القتال لم يستحق مولاه الرضخ بخلاف الفرس وإن كان موته بعد الإحراز والقسمة فرضخه يكون لمولاه لأن سبب استحقاقه قد تأكد فلا يبطل بموته ولكن يخلفه مولاه فيه كما يخلف الوارث المورث .
وإن باعه مولاه قبل الإحراز فإنه لا يبطل رضخه لأنه لم يخرج من أن يكون أهلاً للاستحقاق وإن تحول الملك فيه من شخص إلى شخص فيكون رضخه لمولاه الأول .
أما إذا باعه بعد الإحراز فظاهر وأما قبل فلأن سب الاستحقاق انعقد له في ملك المولى الأول ويثبت أصل الاستحقاق بالإصابة فلا يبطل حق المولى فيه يبيعه كما في سائر أكسابه .
ألا ترى أن المأذون إذا اشترى شيئاً بشرط الخيار ثم باعه مولاه فإن المشتري يكون للبائع دون المشتري .
فإن غنموا غنيمة أخرى بعدما باعه مولاه فنصيبه من الغنيمة الثانية للمشتري لأن الاستحقاق إنما يثبت له عند الإصابة وعند ذلك هو ملك المشتري فيخلفه المشتري في الملك المستحق .
ولو كان حراً دل دار الحرب عاقلاً ثم صار معتوهاً قبل الإحراز فإنه لا يمنع نصيبه من@(3/53)
الغنيمة لأنه أحرزت وهو حي من أهل الاستحقاق وإن كان معتوهاً بخلاف ما إذا مات قبلاً قبل الإحراز .
ولو لم يصر معتوهاً ولكنه ارتد وخرج مع المسلمين فإن أبي أن يسلم حتى قتل فإن نصيبه لورثته المسلمين يرضخ له من ذلك رضخاً كما يصنع بالذمي لأن المرتد بمنزلة الكافر الأصلي وإنما أحرزت الغنائم وهو أهل لاستحقاق الرضخ دون السهم لكونه من أهل دارنا .
قال : وهذا يدلك على أن الذمي إذا سلم أو عتق المكاتب قبل إحراز الغنائم أنه يضرب لهما بسهم كامل لأنه إنما ينظر إلى حالهما يوم تحرز الغنائم بالدار أو تقسم أو تباع وبهاذ تبين أيضاً أن جوابه الأول في الذمي والمكاتب جميعاً غلط كمل بينا .
ولو لحق بدار الحرب مرتداً بعد إصابة الغنيمة ثم رجع مسلماً قبل الإحراز أو بعده فليس له من ذلك شيء لأنه التحق بحربي الأصل والحربي إذا أسلم ولحق بالجيش بعد الإحراز أو قبله ولكن لم يلقوا قتالاً بعد ذلك لم يكن له شركة في المصاب فالمرتد مثله وكيف يستحق الشركة في غنائم المسلمين وقد صار بحال لو أصيب ماله كان فيئاً ولو أخذ من الغنيمة شيئاً فأحرزه ثم أسلم كان له .
فعرفنا أنه صار كحربي الأصل .
ولو لم يلتحق بدار الحرب بعد الردة حتى أحرزت الغنائم أو قسمت أو بيعت فنصيبه منها ميراث لورثته لأن حقه قد تأكد فيها فهو كسائر أمواله ولحاقه في هذه الحالة بدار الحرب مرتداً كموته .
ولو لم يرتد ولكن المشركين أسروه قبل الإحراز ولم يقتلوه فإنه ينبغي للمسلمين أن يعزلوا نصيبه فيما غنموا قبل أن يؤسر لأن حقه ثبت فيه وبالأسر لم يخرج من أن يكون أهلاً لتقرر حقه بالإحراز .
ولا شيء له فيما غنموا بعد ما أسر لأن المأسور في يد أهل الحرب ر يكون مع الجيش حقيقة ولا حكماً .
فهو لم يشاركهم في إصابة هذا ولا في إحرازه بالدار .@(3/54)
فإن لم يدر ما فعلوا به حين أسر قسمت الغنائم ولم يوقف له منها قليل ولا كثير لأن تمام الاستحقاق إنما يكون بالإخراج والمفقود كالميت فيما يستحقه ابتداء حتى إذا مات قريب له لم يرثه ولم يوقف لأجله شيء فهذا مثله .
وإن قسمت الغنائم ثم جاء بعد ذلك حياً مسلماً لم يكن له شيء لأن حق الذين قسم بينهم قد تأكد بالقسمة وثبت ملكهم فيها ومن ضرورته إبطال الحق الضعيف .
وإن بيعت الغنائم أو أخرجت وتخلف هو في دار الحرب لحاجة بعض المسلمين فاسر فإنه يوقف نصيبه حتى يجيء فيأخذه أو يظهر موته فيكون لورثته لأن حقه قد تأكد في المصاب بالإحراز في البيع فيكون الحكم فيه ما هو الحكم في مال المفقود .
M0ا سهمان الخيل في دار الإسلام والشركة في الغنيمة ولو أن جيشاً من دار الحرب دخلوا دار الإسلام فقاتلهم المسلمون حتى ظفروا بهم فإنما الغنيمة لمن شهد الوقعة .
هكذا روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة .
وهذا لأن الاستحقاق بالجهاد والمجاهد في دار الإسلام من شهد الوقعة خاصة بخلاف ما إذا دخل المسلمون دار الحرب فهناك للمدد شركة في@(3/55)
المصاب وإن لم يشهدوا الوقعة لأنهم دخلوا دار الحرب على قصد الجهاد وكانوا مجاهدين بذلك .
ولأن دار الحرب موضع القتال فكل من حصل في دار الحرب على قصد القتال يجعل في الحكم كمن شهد الوقعة ودار الإسلام ليس بموضع القتال فإنما المقاتل فيها من شهد الوقعة خاصة وهو بمنزلة ما لو وقف في المسجد بالبعد من الإمام واقتدى به فإنه يصح الاقتداء لأن المسجد مكان الصلاة .
فيجعل هو كالواقف خلف الإمام بخلاف ما إذا كان في الصحراء .
ولو أن عسكراً من المسلمين افتتحوا بلدة وصيروها دار الإسلام ثم لحق بهم مدد قبل قسمة الغنائم فلا شركة لهم في المصاب لأن الغنائم بما صنعوا صارت محرزة بدار الإسلام .
فكأنهم أخرجوها ثم لحقهم مدد وهذا لأن استحقاق الشركة للمدد باعتبار أنهم شاركوهم في الإحراز وذلك غير موجود هنا .
وكذلك لو قسموا الغنائم في دار الحرب أو باعوها ثم أصابهم مدد لأن بالقسمة والبيع يتأكد الحق كما بالإحراز .
وإنما الشركة للمدد فيما إذا لحقوا بهم في دار الحر قبل أن يتأكد حقهم فيها استدلالاً بالأثر المروي عن الصديق - رضي الله عنه - في أهل النجير باليمن .
وقد بينا في السير الصغير .
ولو أن عسكراً من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام فانتهوا إلى مدينة مثل المصيصة أو المليطة فخرج قوم من أهلها وقاتلوهم حتى ظفروا بهم فالغنيمة لهم دون أهل المدينة .
وإن قال أهل المدينة : قد كنا ردءاً لكم لم يلتفت إلى ذلك لأنهم ما كانوا مجاهدين إنما كانوا مستوطنين في مساكنهم والشركة في المصاب لمن كان مجاهداً ولأنهم لم يشاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز .
فإن كانوا تسلحوا وركبوا الخيل وأتوا باب المدينة فتضايق الناس على الباب فخرج بعضهم في المدينة فهم شركاء في المصاب هاهنا لأنهم قد شهدوا الوقعة وكانوا مجاهدين حين تسلحوا وأتوا باب المدينة على قصد القتال .
ألا ترى أن القوم يلقون العدو محصرين فلا يلي القتال منهم إلا قوم قليل ثم تكون الغنيمة@(3/56)
مشتركة بين جماعتهم لأنهم جميعاً شهدوا الوقعة فهذا مثله .
وإن كان المسلمون بلغوا باب رجل من المسلمين قد خرج من داره متسلحاً فمنعه ذلك الزحام من المضي إلى باب المدينة فهو شريكهم في المصاب لأنه مجاهد فيما صنع شاهد للوقعة .
وإن كان واقفاً على باب داره أو في جوف داره فارساً أو راجلاً إذا لم يمنعه من المضي إلا الزحام فإن كان باب داره مفتوحاً كان له سهم من الغنيمة .
وإن كان باب داره مغلقاً عليه لم يكن له من الغنيمة نصيب لأن هذا متحصن بمنزله ليس بمتوجه إلى موضع القتال على قصد القتال بخلاف ما إذا كان باب داره مفتوحاً .
قال : ولو كان لهذا سهم لكان لغيره ممن هو مع امرأته في جوف بيته يجامعها .
وبعض هذا قريب من البعض ولكن إنما يؤخذ فيه بالاستحسان ومل يقع عليه من أمور الناس .
وإن كانوا على سور المدينة يرمون أو يصيحون بما فيه تحريض للمسلمين وإرهاب للمشركين كانوا شركاءهم في الغنيمة لأنهم من جملة من شهد الوقعة وجاهد نوعاً من الجهاد .
وإن كان الأمير أمرهم بالكينونة على سورها ليمنعوا العدو من دخول المدينة إن هزموا المسلمين ونهاهم أن يعينوا المسلمين بشيء فهم شركاء في الغنيمة أيضاً لأنهم شهدوا الوقعة واشتغلوا بما فيه قوة المسلمين وهو فراغ قلوبهم من أن يظفر العدو بمدينتهم .
والأصل فيه ما روى عن النبي عليه السلام أنه أمر الرماة يوم أحد أن لا يبرحوا@(3/57)
مراكزهم .
ولا شك كانوا من جملة من شهد الوقعة شركاء في المصاب أن لو أصابوا الغنائم .
ولو خرج المسلمون إلى باب المدينة وقاتلوهم رجالة وقد سرجوا خيولهم في منازلهم لم يضرب لهم إلا بسهم الرجالة لأنهم ما قاتلوا على الأفراس حقيقة ولا حكماً فإسراج الفرس ليس من عمل القتال في شيء .
وإن كان خرجوا من منازلهم على الخيل ثم نزلوا في المعركة وقاتلوا رجالة استحقوا سهم الفرسان لأنهم شهدوا الوقعة فرساناً وإنما ترجلوا لضيق المكان أو لزيادة جد منهم في القتال فلا يحومون به سهم الفرسان .
وكذلك من حضر المعركة راجلاً ومعه غلام يقود من فرسه إلى جنبه فإنه يستحق سهم الفرسان لأنه مقاتل بفرسه حكماً لتمكنه من أخذه من يد الغلام والقتال عليه .
ولو حضر فارساً ثم أمر غلامه أن يرد فرسه إلى منزله فرده وقاتل راجلاً فله سهم الراجل فقط لأن الغلام حين رد فرسه فكأنه ما أحضره موضع القتال أصلاً .
ألا ترى أنه لو احتاج إلى القتال عليه لم يتمكن منه .
ولو أن أهل الحرب لم يدنوا من المدينة ولكنهم عسكروا على أميال منها فخرج المسلمون إليهم رجالة وفرساناً حتى هزموهم وأصابوا الغنائم فمن كان منهم فارساً يستحق سهم الفرسان سواء قاتل راجلاً بخلاف الأول فهناك الفرس في منزله على آريه فلا يكون هو مجاهداً به لا حقيقة ولا حكماً .
وإن كان المسلمون حين عسكروا بحذائهم يتنحى@(3/58)
المشركون عن معسكرهم فاتبعهم المسلمون حتى لحقوهم فقاتلوهم رجالة وخيولهم في المعسكر فإن كانوا لقوهم في موضع يقدر من المعسكر على أن يعينهم وإن أرادوا أن يبعثوا إلى خيلهم بعثوا إليهم فهم شركاء في المصاب للفارس منهم سهم الفارس لأنهم جميعاً في الحكم قد شهدوا الوقعة لقرب المعسكر من موضع الوقعة .
وإن كانوا قد تباعدوا من المعسكر فليس لمن في المعسكر معهم شركة وليس لأحد منهم سهم الفرسان إلا لمن حضر المعركة على فرسه لأنهم ما كانوا متمكنين من القتال على الفرس .
ألا ترى أنهم لو ركبوا الإبل في آثارهم حتى ساروا أياماً كانوا رجالة ولم ينظر إلى ما كان لهم من الخيل في المعسكر لأن في دار الإسلام الاستحقاق بشهود الوقعة فيعتبر في حق من يستحق .
وما يستحق بشهود الوقعة بالحضور حقيقة .
أو بأن كانوا بالقرب منه حكماً على وجه لو استغاثوا بهم أمكنهم أن يغيثوهم فيكونون كالردء لهم فأما إذا انعدم ذلك لم يكونوا من جملة من شهد الوقعة .
ولو خرجوا إلى عسكرهم فرسانا فنفق فرس بعضهم كان لهم الفارس لأنه حضر المعسكر فارساً فيصير به مجاهداً بفرسه إذا كان القتال في ذلك الموضع أو بالقرب منه وهذا في حق هؤلاء بمنزلة مجاوزة الدرب فارساً أن لو كان القتال في دار الحرب .
وإن كان خرج إلى العسكر راجلاً فلم يلق قتالاً حتى أتى بفرسه أو اشترى فرساً فله الفارس أيضاً وذلك لو اصطف الفريقان للقتال وهو راجل ثم أتى بفرسه أو اشترى فرساً فله سهم الفرسان لأن المعتبر هنا شهود الوقعة وحقيقة شهود الوقعة إنما تكون عند القتال فحضور المعسكر وإن أقيم مقامه حكماً لا يسقط به اعتبار الحقيقة .
فإن التحم القتال وهو راجل ثم أصاب فرساً بعد ذلك لم يكن له إلا سهم راجل لأن شهود الوقعة حقيقة وحكماً قد وجد منه وهو راجل فلا يتغير حاله بإصابة الفرس بعد ذلك .
ألا ترى أنه لو قتل بعضهم وأخذ فرسه فقاتل عليه لم يضرب له إلا بسهم راجل .@(3/59)
ومن مات من المسلمين أو قتل في حال تشاغلهم بالقتال قبل أن ينهزم العدو فلا شركة لهم في المصاب لأن الإصابة لا تتم مع بقاء القتال فإن المشركين ممتنعون بعد دافعون عن أموالهم .
وإن مات أو قتل بعد ما انهزموا ضرب له بسهم في الغنيمة لأن القتال في دار الإسلام فبانهزام العدو يتأكد سبب الاستحقاق وتصير الغنائم في حكم المحرزة بدار الإسلام وقد بينا أن من مات بعد الإحراز لا يبطل نصيبه فهذا مثله .
ولو أصاب مسلم في حال تشاغلهم بالقتال فرساً هبة أو شراء فقاتل عليه وغنموا غنيمة ورجعوا إلى عسكرهم لم يضرب له فيها إلا بسهم راجل لأن المعتبر حال شهود الوقعة وذلك عند أول القتال وقد كان راجلاً .
فإن عادوا من الغد للقتال وعاد معهم فارساً وأصابوا غنيمة ضرب له فيها بسهم فارس لأن هذه وقعة أخرى غير الأولى وقد شهدها فارساً فالأولى قد انقضت حين كف بعضهم من بعض .
ألا ترى أن لو كان أصاب الفرس قبل القتال في المرة الأولى كان له سهم فارس في المصاب في المرة الأولى فكذلك في المرة الثانية .
ولو قاتلوا المشركين فلم يصيبوا شيئاً حتى جاء قوم من المدينة مدداً لهم فرساناً أو رجالة فقاتلوا معهم أو وقفوا ردءاً لهم حتى أصابوا غنيمة شاركوهم فيها فمن كان فارساً ضرب له بسهم فارس ومن كان راجلاً ضرب له بسهم راجل لأنهم شهدوا الوقعة قبل إصابة الغنيمة فكان حالهم كحال من خرج مع الجيش .
وكذلك لو انتهوا إلى عسكرهم فأقاموا فيه ولم يأتوا موضع القتال أو عسكروا قريباً منهم حيث يقدرون على أن يغيثوهم لأنهم فارقوا منازلهم على قصد الجهاد وعلى أ يكونوا مدداً للجيش يقاتلون معهم فإذا وصلوا إلى موضع لو استغاثوا بهم أغاثوهم قبل إصابة الغنيمة كانوا ردءاً لهم والدرء كالمباشرة في استحقاق المصاب وكذلك لو@(3/60)
.
كانوا قد غنموا غنائم قبل أن يأتوهم وغنائم بعدما أتوهم لأن القتال ما دام قائماً بين الفريقين فإصابة لا تتم .
إذا المشركون قاصدون إلى الاستنقاذ من أيدي المسلمين فإنما تمت الإصابة في الكل بقوة الذين أتوهم ردءاً .
ولو كانوا حين غنموا غنائم كفوا عن القتال فأتى كل فريق عسكره ثم داء المدد لم يشاركوهم في شيء من تلك الغنائم لأن الوقعة التي أصيب فيها تلك الغنائم قد انقضت فإنما الشركة لمن شهد الوقعة حقيقة وحكماً ولأن الإصابة قد تمت في تلك الغنيمة حقيقة بتفريق الفريقين وحكماً بالإحراز بدار الإسلام لأنهم إنما يقاتلون العدو في دار الإسلام .
ولا شركة للمدد بعد الإحراز حقيقة وحكماً .
فإن عادوا إلى العدو من الغد وقاتلوهم وأصابوا غنائم شاركوهم في الغنيمة الثانية لأنهم شهدوا الوقعة فيها وإنما صارت محرزة بمباشرتهم القتال أو قربهم بأن كانوا ردءاً للجيش وإن كانوا حين لقوا العدو من الغد قاتلوهم فأنهزم المسلمون إلى خندقهم فمنعهم المدد الذين جاءوا حتى هزموا عنهم المشركين فقالوا : نشارككم في الغنائم الأولى لأنا دفعنا المشركين عنها بالقتال لم يلتفت إلى قولهم لأنها صارت محرزة بدار الإسلام قبل هذا القتال والقتال للدفع عن المال في الغنائم المحرزة بالدار كالقتال للدفع عن ثياب الجيش وأسلحتهم فلا يكون موجباً لهم الشركة فيها .
وإن كان المشركون حين هزموا المسلمين أخذوا تلك الغنائم فاستنقذها منهم المدد فإنهم يردونها إلى أهلها لأن حقهم كان تأكد فيها بالإحراز بدار الإسلام والتحقت بأموالهم فيجب الرد عليهم ولأن المشركين وإن أخذوا لم يحرزوها بدارهم فبقيت حقاً للأولين كما كانت .
بخلاف ما لو كانت هذه الحادثة في دار الحرب لأن حق الأولين هناك لم يتأكد لانعدام الإحراز وإحراز أهل الحرب لها بالأخذ يتم فيبطل حق الأولين عنها ويلتحق بالغنائم التي يصيبونها الآن ابتداء .
ولو كان العدو في السفن@(3/61)
في البحر في أرض الإسلام فركب المسلمون البحر في السفن وحملوا معهم الخيل رجاء أن يخرجوا إلى البر فيقاتلوهم فالتقوا في البحر فاقتتلوا فأصابوا غنائم فإنهم يقسمونها على الخيل والرجالة لأنهم التزموا مؤنة الفرس لقصد الجهاد عليه فلا يحرمون سهم الفرسان بقتالهم رجالة في موضع لم يتمكنوا من القتال على الفرس .
ألا ترى أنهم لو لقوهم في بعض المضايق فترجلوا أو قاتلوا رجالة استحقوا سهم الفرسان وكذلك لو قاتلوهم على باب حصن رجالة استحقوا سهم الفرسان لهذا المعنى كذلك هنا .
فإن كانوا تركوا تباعدوا من خيولهم حتى لو كانوا في البر لم يكن لمن تخلف في المعسكر على الساحل شركة معهم لأنهم لو كانوا يشهدوا الوقعة فكذلك إذا كانوا في البحر .
وإن كانوا لقوا العدو قريباً من المعسكر حيث يغيثوهم إن أرادوا غنائمهم فلهم الشركة ويضرب لأصحاب الخيل فيها بسهام الخيل لأنهم شهدوا الوقعة وصاروا بقربهم من موضع القتال كأنهم في موضع القتال .
وإنما انهزم العدو وظفر المسلمون بقوة من كان في المعسكر فيشاركونهم .
ألا ترى أن المشركين لو كانوا في جزيرة في أرض المسلمين وبين عسكر المسلمين وبينهم شيء يشير مثل عرض الدجلة .
فركب المسلمون في السفن حتى أصابوا غنائم فإن من في العسكر يشاركهم فيها إذا رجعوا إليهم فكذلك في الأول .
وعلى هذا لو دخل المسلمون غيضة في دار الإسلام مثل غياض@(3/62)
طبرستان فلم يقدر المسلمون على أن يدخلوها على الخيل فدخلوها رجالة .
وقاتلوا العدو قريباً من معسكرهم حيث يسمعون صهيل خيولهم فإن أهل العسكر شركائهم فيما غنموا ولأصحاب الخيل سهم الفرسان لأن الكل للقرب من موضع القتال كالحضور في ذلك الموضع وإن أمعنوا في الغيضة على إثر العدو حتى اقتتلوا في موضع لو طلبوا الغياث لم يغثهم أصحابهم فلا شركة لمن في المعسكر معهم في المصاب لأنهم لم يشهدوا الوقعة ولا حكماً لبعدهم من موضع القتال .
وكذلك لو تحصن المسلمون في قلعة في أرض الإسلام أو في جبل لا تقدر الخيل على صعود ذلك الموضع أو تحصنوا في حصن وجعلوا الماء في الخندق حتى صار ما حول المدينة شبه البحيرة فركبوا السفن حتى انتهوا إلى الحصن وصعدوا القلعة رجالة حتى فتحوا القلعة وأصابوا الغنائم فإن أهل العسكر شركائهم فيها ولأصحاب الخيل سهم الفرسان لأن الذين ظفروا بالعدو بقوة أهل العسكر حين كانوا بالقرب منهم .
إلا أن يكون المعسكر نائياً عن القلعة والحصن بحيث لا يغيثونهم ولا يكونون ردءاً لهم فحينئذ لا شركة معهم لأهل العسكر لأن تمكنهم من الإصابة بقوة أنفسهم لا بقوة من في المعسكر والإصابة تتم قبل الرجوع إلى المعسكر هاهنا وتصير الغنيمة محرزة بدار الإسلام فلا يشاركونهم فيها .
ألا ترى أنهم لو فعلوا هذا في دار الحرب ثم لم يرجعوا إلى المعسكر ولكنهم خرجوا من جانب آخر إلى دار الإسلام فإن أهل المعسكر لا@(3/63)
يشاركونهم فيها إلا إذا كانوا بالقرب منهم حين اقتتلوا وأصابوا على وجه لو استغاثوا بهم أغاثوهم فكذلك إذا كان القتال في دار الإسلام .
إلا أن دار الحرب من كان من أصحاب السرية خلف فرسه في المعسكر استحق سهم الفرسان وإن كانت الإصابة بعدما بعدوا من المعسكر بخلاف ما إذا كان القتال في دار الإسلام لأن هناك سبب الاستحقاق له قد انعقد بمجاورة الدرب فارساً .
ألا ترى أنه لو نفق فرسه استحق سهم الفرسان فكذلك إذا خلفه في المعسكر ولكن هذا المعنى غير معتبر في حق المستحق .
ألا ترى أن من مات من الجند في دار الحرب لم يضرب له بسهم فلهذا لا شركة لمن تخلف في المعسكر ومن كان من أهل السرية خلف فرسه في المعسكر استحق السهم به .
فأما إذا كان القتال في دار الإسلام فإنما ينعقد سبب الاستحقاق هاهنا بشهود الوقعة فارساً وحين كان فرسه بالبعد منه في موضع لا يتمكن من القتال عليه إن لو احتاج إليه فهو ما
باب دخول المسلمين دار الحرب بالخيل ومن يسهم له منهم في الغضب والإجارة والعارية والحبس
قال : قد بينا فيما سبق أنه ينبغي للأمير أن يعرض الجيش حين دخل دار الحرب فيكتب أصحاب الخيل بأسمائهم وأسماء آبائهم وحلاهم ويكتب الرجالة كذلك لأن سبب الاستحقاق ينعقد لهم الآن وهو محتاج إلى معرفة حال كل واحد منهم عند ذلك ليتمكن من القضاء بينهم بالحق .
ثم إذا رجعوا إلى ذلك الموضع عرضهم أيضاً لأن القسمة إنما تكون بعد الإحراز بدار الإسلام فلا بد أن يعرضهم عند ذلك ليتمكن من القسمة بينهم وهذا لأنه يشق عليه عرضهم في كل يوم فلدفع المشقة يكتفي@(3/64)
بالعرض عند انعقاد السبب ابتداء وعند تأكد الحق بالإحراز .
فمن مر به في العرض الثاني راجلاً وقد كان في العرض الأول فارساً سأله عن فرسه ما حاله .
فإن قال : عقر أو نفق أو أخذه المشركون فالقول قوله مع يمينه لأنه يتمسك بما عرف ثبوته وانعقاد سبب الاستحقاق له معلوم وأصحابه بقولهم : إنه باع فرسه يدعون عليه ما يبطل استحقاقه من معنى هو عارض وهو منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه حتى يثبت العارض المسقط .
فإن شهد شاهدان من المسلمين أنه باع فرسه قبل إصابة الغنيمة فقد ثبت بالحجة العارض المسقط لاستحقاقه والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عايناه أنه باع فرسه قبل إصابة الغنيمة لم يستحق به السهم .
إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة برواية الحسن .
وقد بينا هذا في " شرح المختصر " .
ويستوي إن كان الشاهدان من أهل العسكر أو من التجار لأن شركتهم في الغنيمة قبل القسمة شركة عامة .
فإنهم لا يملكون شيئاً قبل القسمة وبمثل هذه الشركة لا تتمكن التهمة في الشهادة كما في مال بيت المال .
فإذا حضر الرجل بفرسه دار الحرب غازياً فغضب مسلم فرسه وأدخله دار الحرب ثم وجد المغضوب منه فرسه في دار الحرب وأقام عليه البينة فأخذه ففي القياس ليس له إلا سهم الرجالة لأنه كان راجلاً حين انعقد له سبب الاستحقاق بدخول دار الحرب إذا لم يكن في يده فرس يتمكن من القتال عليه إن لو احتاج إليه وقد أثبت اسمه في ديوان الرجالة فلا يتغير حاله بعد ذلك بعود الفرس إلى يده وتمكنه من القتال عليه في دار الحرب بمنزلة ما لو اشترى فرساً .
وفي الاستحسان له سهم الفرسان لأنه التزم مؤنة الفرس للقتال عليه حين خرج من أهله@(3/65)
فارساً وقاتل وهو فارس أيضاً فلا يحرم سهمه بعارض غضب فيما بن ذلك يزيل تمكنه من القتال عليه كما لو مرض فرسه .
أرأيت أنه لو بقي بينه وبين دخول دار الحرب مقدار نصف ميل فنزل ليقضي حاجته ودخل دار الحرب فاتبعه الرجل فأخذه أكان يحرم سهم الفرس أرأيت لو أنه حين عار الفرس أخذه مسلم فركبه أو لم يركبه .
حتى دخل دار الحرب ثم وجد صاحبه فأخذه منه أكان يحرم سهم الفرس لا يستجيز أحد أن يقول : بهذا القدر يحرم سهم الفرس .
فكذلك الأول ولكنه إن مر بالذي يعرضهم وهو راجل وأخبره هذا الخبر لم يصدقه على قوله وكتبه راجلاً لأنه يعلمه راجلاً حقيقة وما أخبر به محتمل للصدق والكذب فلا يدع الحقيقة لأجله .
فإن كتبه راجلاً ثم مر به في العرض الثاني وهو فارس فقال : هذا الفرس الذي كنت أخبرتك خبره لم يصدقه بقوله لأنه يدعي استحقاق سهم الفرس بسبب لم يعرف والاستحقاق بمجرد قوله لا يثبت فيحتاج إلى إقامة البينة على ما ادعى من ذلك وإذا أقام البينة كان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة .
ولو أن الغاصب حين أدخل فرس الغازي دار الحرب قاتل عليه حتى غنم المسلمون وخرجوا فإنه يضرب له في الغنيمة بسهم الفارس لأنه التزم مؤنة الفرس للقتال عليه وحقق ذلك بالقتال فإن مؤنة المغصوب على الغاصب ما لم يرده .
ولا فرق في التمكن من القتال حساً بين الفرس المغصوب والفرس المملوك له ثم يرد الفرس إلى صاحبه ويغرم له ما نقص إن كان نقص شيء لأن ما استحق من السهم إنما استحقه لقتاله على الفرس فهو بمنزلة ما لو أجر المغصوب وأخذ الأجر فإنه يكون مملوكاً له وليس للمغصوب منه على الأجر سبيل و إنما له نقصان الفرس إن تمكن فيه نقصان فهذا مثله .
ولا يضرب لصاحب الفرس في الغنيمة إلا بسهم راجل لأنه ما كان متمكناً من القتال على الفرس في موضع من دار الحرب ولأن بالفرس الواحد لا يستحق رجلان كل واحد منهما السهم الكامل وقد استحق الغاصب السهم بهذا الفرس فلا يستحق@(3/66)
المالك به شيئاً .
ولو كان غصبه منه بعدما دخل دار الحرب والمسألة بحالها فلصاحب الفرس سهم فارس لأن زوال تمكنه من القتال على الفرس بالغصب بعدما جاوز الدرب كزوال تمكنه بموت الفرس .
والغاصب لا يضرب له إلا بسهم راجل لأن المالك لما جعل فارساً بهذا الفرس فغيره لا يكون فارساً به أيضاً .
ولأنه لو اشترى فرساً في دار الحرب لم يستحق به سهم الفرسان فإذا غصب فرساً أخرى أن لا يستحق به سهم الفرسان أولى .
ولو غصب الفرس قبل مجاوزة الدرب ثم أصابوا في دار الحرب غنائم والفرس قي يد الغاصب ثم استحقه المالك وأصابوا غنائم بعد ذلك بقتال أو بغير قتال .
ففي الغنائم الأولى يضرب للغاصب بسهم فارس لأنه انفصل إلى دار الحرب فارساً وقاتل حين أصيبت تلك الغنائم وهو فارس فيستحق سهم الفرسان .
ويضرب فيها لصاحب الفرس بسهم راجل .
لما بينا أنه لا يكون بالفرس الواحد فارسان .
وما أصابوا من الغنائم بعدما استحق صاحب الفرس فرسه فإنه يضرب لصاحب الفرس فيه بسهم الفارس لأنه استرده قبل هذه الوقعة فهو قياس ما لو استرده قبل أن يلقوا قتالاً فيما أصيب بعد ذلك ويضرب للغاصب فيها بسهم راجل لأن صاحب الفرس لما كان فارساً في هذه الغنيمة بهذا الفرس لم يكن غيره فارساً بها ولأن الفرس أخذ من يده بحق مستحق كان سابقاً على دخوله دار الحرب ولو أخذ بحق مستحق اعترض بعد دخوله بأن باعه يخرج من أن يكون فارساً فيما يصاب بعد ذلك فهاهنا أولى .
وكذلك إن لقوا قتالاً فقاتل صاحب الفرس عن الغنائم الأولى بعدما استرد فرسه فإنه لا يضرب له فيها إلا بسهم راجل .
لأن حقه كان ثابتاً في الغنائم الأولى بقدر سهم راجل فهو ما قاتل إلا دفاعاً عن ذلك الحق فلا يزداد به حقه ولا يبطل ما كان مستحقاً للغاصب من سهم فرسه .
ولو كان صاحب الفرس حين جاء يريد@(3/67)
دخول دار الحرب أعار مسلماً فرسه وقال : قاتل عليه في دار الحرب .
فلما أدخله المستعير دار الحرب بدا للمعير فأخذه منه قبل لإصابة الغنيمة أو بعدها فلصاحب الفرس في جميع ذلك سهم راجل لأنه أزال الفرس عن يده باختياره قبل مجاوزة الدرب وإنما انعقد له سبب الاستحقاق عند مجاوزة الدرب وهو راجل ثم لا يتغير بعد ذلك باسترداد الفرس كما لا يتغير بشراء الفرس .
وليس هذا نظير ما استحسنا فيه من فصل الغصب فإن هناك ما أزال يده باختياره وبينهما فرق .
ألا ترى أنه لو دخل دار الحرب 6 فارساً ثم أخذ المشركون فرسه استحق سهم الفرسان ولو باع فرسه لم يستحق سهم الفرسان .
وما كان الفرق إلا بهذا إن تمكنه في أحد الموضعين زال في أحد الموضعين لا باختياره وفي الموضع الآخر وأما المستعير فله سهم الفارس له وهو فارس والإصابة وجدت وهو فارس أيضاً وقد قررنا هذا في الغاصب ففي المستعير أولى .
وأما ما أصيب بعد رد الفرس في ذلك سهم راجل لأن الفرس أخذ منه بحق مستحق سابقاً على دخوله دار الحرب وذلك يخرجه من أن يكون فارساً فيما يصاب بعد ذلك .
ولو نفق الفرس عند المستعير ضرب له في الغنائم كلها بسهم فرس لأنه كان فارساً حين انعقد له السبب ثم لم يؤخذ منه بحق حتى نفق في يده فيكون هو كالمالك في ذلك .
وإن أخذه المشركون من يده فأحرزوه ثم أخذه المسلمون فردوه عليه فإنه يعود إلى يده كما كان حتى إذا أصابوا غنائم ثم قبل أن يردوه على المعير كان له سهم الفرسان في ذلك .
وإن رده إلى المعير ثم أصيبت الغنائم بعد ذلك فله سهم راجل وذلك بمنزلة ما لو لم يأخذه المشركون أصلاً .
ولو كان صاحب@(3/68)
الفرس دخل بالفرس أرض الحرب ثم أعاره غيره فلم يزل معه يقاتل عليه حتى نفق وقد أصاب المسلمون غنائم قبل ذلك وبعده فلصاحب في ذلك كله سهم فارس لأنه دخل دار الحرب ملتزماً مؤنة الفرس للقتال عليه فإن بإعارته الفرس من غيره للقتال بعدما دخل دار الحرب لا يخرج من أن يكون قصده القتال على الفرس بخلاف ما إذا باعه فإنه يتبين بالبيع أن قصده كان التجارة لا القتال عليه وإذا ثبت أن للمعير سهم الفارس في جميع ذلك ثبت أن للمستعير سهم الرجالة لأنه لا تكون بالفرس الواحد فارسان ولأن استعارة الفرس في دار الحرب لا يكون فوق شراء الفرس .
ولو لم يدخل صاحب الفرس دار الحرب حتى أعاد رجلاً فرسه ليركبه من غير أن يقاتل عليه فركبه حتى دخل أرض الحرب ثم رده على صاحبه فصاحب الفرس في ذلك كله فارس لأنه دخل دار الحرب وهو متمكن من القتال على الفرس إن لو احتاج إليه فإنه يسترده من المستعير متى شاء وقد استرده وقاتل فارساً فيستحق سهم الفرسان .
والمستعير راجل في ذلك كله لأنه ما كان متمكناً من القتال على الفرس عند مجاوزة الدرب فإنه استعاره للركوب لا للقتال عليه .
بخلاف الأول فإن هناك إذا قاتل حتى أصيبت الغنائم قبل الرد استحق سهم الفرسان لكونه متمكناً من القتال على الفرس .
وبهذا يتضح الفرق أيضاً في حق المعير .
فإن في الفصل الأول المستعير لما كان فارساً بهذا الفرس عرفنا أن المعير ليس فارساً به وفي الفصل الثاني وهو الإعارة للركوب المستعير لم يصر فارساً به في استحقاق السهم فجعلنا المعير فارسا ًبه لتمكنه من أخذه متى شاء .
ولو كان المستعير حين دخل دار الحرب ادعى أن الفرس له وجحد حق صاحبه وقاتل على الفرس حتى أصيبت الغنائم ثم أقام المعير البينة وأخذ فرسه فصاحب الفرس فارس في ذلك كله لأن المستعير بالجحود صار غاصباً@(3/69)
وإنما جحد في دار الحرب فكان هذا بمنزلة ما لو غصب الفرس من صاحبه في دار الحرب ابتداء .
وقد بينا صاحب الفرس بهذا الغصب لا يخرج من أن يكون فارساً والغاصب به لا يصير فارساً فكذلك هاهنا .
ولو كان صاحب الفرس آجره من رجل أياماً ليركبه حين يدخل دار الحرب وانقضت الإجازة قبل إصابة الغنائم أو بعدها فصاحب الفرس راجل في جميعها لأنه حين دخل دار الحرب لم يكن متمكناً من القتال على الفرس فقد أوجب للمستأجر فيه حقاً مستحقاً وبه فارق الإعارة .
فإذا استرده بعد انقضاء المدة في حكم المشتري للفرس الآن فلا يصير به فارساً والمستأجر راجل أيضاً في جميع الغنائم لأنه ما استأجره للقتال عليه وإنما استأجره للركوب فلم يصر به متمكناً من القتال على الفرس أن لو احتاج إليه فهو بمنزلة ما لو استأجره ليحمل عليه ثقله .
ولو استأجره شهراً أو أكثر ليركبه ويقاتل عليه والمسألة بحالها فصاحب الفرس راجل في جميع ما يصاب إلى أن يخرجوا إلى دار الإسلام .
لما بينا أنه دخل دار الحرب ولغيره حق مستحق في فرسه فلا يكون متمكناً من القتال عليه .
وأما المستأجر فهو فارس فيما أصيب قبل انقضاء الإدارة لأنه دخل دار الحرب على فرس هو متمكن من القتال عليه حقيقة وحكماً وأصيبت الغنائم في حال بقاء تمكنه .
فأما ما أصيب بعد انقضاء مدة الإجازة فليس له فيها إلا سهم راجل لأن الفرس أخذ من يده بعد انقضاء المدة بحق مستحق كان سابقاً على دخوله دار الحرب فيخرج من أن يكون فارساً به .
ولو كان صاحب الفرس دخل به أرض الحرب فأصابوا غنائم ثم آجره من رجل للركوب أو القتال عليه مدة معلومة وأصابوا غنائم ثم استرده بعد انقضاء المدة فأصابوا غنائم أيضاً فإن المستأجر راجل في جميع ذلك لأن استئجاره@(3/70)
الفرس بعد دخوله دار الحرب لا يكون أقوى من شرائه .
وأما صاحب الفرس فهو فارس فيما أصيب قبل أن يؤجر فرسه لأنه دخل الدار فارساً وأصيبت تلك الغنائم وهو فارس أيضاً فاستحق سهم الفرسان ثم إجازة الفرس بعد ذلك لا تكون أقوى من بيعه .
وهو فارس أيضاً فيما أصيب بعد انقضاء المدة لأن بالإجازة لم يخرج الفرس من ملكه وقد باشر القتال عليه فارساً كما انعقد له سبب الاستحقاق حين جاوز الدرب .
فأما فيما أصيب في مدة الإجازة فهو راجل لأن الفرس أخذ منه بحق أوجبه لغير باختياره وقد زال به تكنه من القتال عليه فيجعل كأنه باعه فيما أصيب في هذه المدة إذ الإجازة كالبيع في إزالته تمكنه من القتال عليه .
وكذلك إن لقوا قتالاً بعد انقضاء المدة فقاتل فارساً عن ذلك المصاب لأن له فيها سهم راجل وإنما قاتل دفعا عن سهمه فلهذا لا يزداد حقه في تلك الغنائم بهذا القتال .
وإذا صب مسلم من مسلم فرساً ولم يكن من قصد صاحبه أن يدخل دار الحرب بالفرس .
فأدخله الغاصب دار الحرب .
ثم بدا للمغصوب منه فاتبعه وأخذ الفرس منه وقد كانوا أصابوا غنائم قبل أن يأخذ فرسه وأصابوا بعد ذلك فصاحت الفرس راجل في جميع ذلك لأنه دخل دار الحرب راجلاً ثم استرداده الفرس في دار الحرب بمنزلة شرائه وهذا بخلاف المستحسن المذكور في أول الباب فإن هناك كان ملتزماً مؤنة الفرس لجل القتال عليه حتى دنا من دار الحرب ثم أخذه الغاصب بغير اختياره فإذا استرده منه جعل ما اعترض كأن لم يكن وهاهنا ما كان ملتزماً مؤنة الفرس للقتال عليه قبل أن يدخل دار الحرب ولا عند دخوله دار الحرب فلم يكن فارساً به أصلاً وإنما صار ملتزماً مؤنته للقتال عليه حين استرده في دار الحرب فكأنه اشتراه الآن .
وأما الغاصب فهو فارس@(3/71)
فيما أصيب قبل استرداد الفرس منه لأنه دخل الدار فارساً وأصيبت هذه الغنائم وهو فارس فثبت له فيها سهم الفرسان .
ثم لا يتغير ذلك باستحقاق الفرس من يده وهو راجل فيما أصيب بعد ذلك لأن الفرس أخذ منه بحق .
وكذلك لو كان صاحب الفرس أعاره إياه ليقاتل عليه ثم بدا له فغزا بنفسه فلما التقيا في دار الحرب استرد الفرس منه فهذا كالأول في جميع ما ذكرنا لأن صاحب الفرس دخل دار الحرب راجلاً فيكون راجلاً إلى أن يخرج وهذا لأنه حين دخل الغزو لم يكن الفرس في يده أصلاً ولا كان هو ملتزماً مؤنته فإن مؤنة المستعار على المستعير حتى يرده على صاحبه .
ولو كان أعاره إياه للركوب لا للقتال عليه .
والمسألة بحالها فهذا والأول في حق صاحب الفرس سواء وأما المستعير فهو راجل في جميع الغنائم هاهنا لأنه ما كان متمكناً من القتال على هذا الفرس فقد استعاره للركوب لا للقتال عليه .
فإن غدر صاحبه حين دخل دار الحرب فقاتل عليه فهو راجل أيضاً لأنه صار غاصباً للفرس بالقتال عليه بعدما دخل دار الحرب وقد بينا أن من غصب فرساً بعدما دخل دار الحرب قاتل عليه لم يستحق به سهم الفرسان .
وأما صاحب الفرس فهو راجل في جميع الغنائم لأن الإعارة للركوب والإعارة للقتال قبل قصد الغزو في حقه سواء .
فإنه في الموضعين لم يصر ملتزماً مؤنة الفرس للقتال عليه إلا بعد دخول دار الحرب فلهذا لا يكون له إلا سهم راجل في جميع ذلك ولأنه حين قصد الغزو ما كان يدري أنه يصيب فرسه أو لا يصيبه .
وإنما استحسنا فيما إذا حضر ليدخل دار الحرب غازيا ًثم أعاره غيره ليركبه فجعلناه فارساً إذا استرده منه بعدما دخل دار الحرب .
وجعلنا هذا بمنزلة ما لو مر براجل لا يقدر على المشي فحمله على فرسه أميالاً حتى دخلوا دار الحرب ثم أنزله وأخذ فرسه فلا إشكال في هذا الفصل أنه يكون هو فارساً .@(3/72)
فكذلك فيما يكون في معناه .
ولو كان آجره ليركبه ولا يقاتل عليه أو يقاتل والمسألة بحالها فصاحب الفرس راجل في جميع الغنائم لأنا قد بينا إذا كان حضر يريد الدخول للقتال ثم أجر فرسه حتى أدخله المستأجر دار الحرب أن صاحب الفرس يكون راجلاً في جميع الغنائم فهاهنا أولى لأنه ما بدا له قصد الغزو إلا والفرس في يد المستأجر بحق مستحق .
وأما المستأجر فإن كان استأجره للركوب فكذلك الجواب .
وإن كان استأجره للقتال عليه فهو فارس فيما يصاب قبل انقضاء مدة الإجازة راجل فيما يصاب بعد ذلك لأن الفرس أخذ منه بحق مستحق .
إلا أن يكون منع الفرس من صاحبه بعد انقضاء المدة أو جحد إياه فحينئذ هو فارس في جميع الغنائم وكذلك المستعير لأنهما دخلا فارسين فكانا فارسين حتى يؤخذ الفرس منهما بحق وهذا لأنهما صارا غاصبين بالمنع .
وقد بينا أن ابتداء سبب الاستحقاق ينعقد له بالفرس المغصوب إذا قاتل عليه فلأن يبقى له ما كان منعقداً من السبب بالفرس المغصوب كان أولى فإن حالة البقاء أسهل من حالة الابتداء .
ولو أن رجلاً آجر فرساً يغزوا عليه على أن يكون سهم الفرس لصاحب الفرس فهذا إجارة فاسدة لأن ما يصاب مجهول الجنس جهالة فاحشة .
ثم الإجارة الفاسدة تعتبر بالجائزة في الحكم فيكون سهم الفرس للمستأجر ولصاحب الفرس أجر مثله بالغاً ما بلغ لأن المستأجر استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد .
وكذلك لو كان أعاره إياه بهذا الشرط لأن هذا اشتراط الأجر عليه وعند اشتراط الأجر لا فرق بين لفظ الإجارة ولفظ الإعارة .
ولو لم يصيبوا شيئاً حتى خرجوا كان على المستأجر مثله ايضاً لأنه استوفى المعقود عليه بحكم@(3/73)
إجارة فاسدة فيلزمه أجر المثل أصاب شيئاً أو لم يصب وهو بمنزلة المضارب في المضاربة الفاسدة إذا عمل فإنه استوجب أجر المثل حصل الربح أو لم يحصل .
ولو استأجر رجلاً يغزو عنه مدة معلومة بأجر مسمى أو لم يذكر المدة وقال : هذه الغزوة إلى حيث يبلغ المسلمون فهذا العقد باطل .
لما بيننا أن الجهاد من باب العبادات فإنه سنام الدين والاستئجار على الطاعات باطل .
وهو فرض كفاية فمن باشره مؤدياً فرضاً عليه .
ثم السهم الأخير للأجير شرطه المستأجر لنفسه أو لم يشترط لأن الاستئجار لما بطل صار كأن لمن فيكون السهم للغازي .
وإن كان أخذ الأجر من المستأجر رده عليه لأن العقد باطل وبالعقد الباطل لا يجب الأجر أصلاً ولأنه في الغزو كان عاملاً لنفسه فلا يستوجب الأجر على غيره .
وإن كان دفع إليه سلاحه وفرسه فعلى الأجير أجر مثل فرسه وأجر مثل سلاحه بالغاً ما بلغ وإن كان الشرط بينهما أن السهم للمستأجر لأنه شرط لنفسه بإزاء منفعة الدابة والسلاح عوضاً مجهولاً وقد استوفى الأجير تلك المنفعة بعقد فاسد فعليه أجر المثل .
وإن كان المستأجر لم يشترط السهم لنفه فليس على الأجير من أجر السلاح والدابة شيء لأن المستأاجر ما شرط لنفسه عوضاً مالياً فيكون هو معير الفرس والسلاح منه أو باذلاً ليقاتل به في سبيل الله فلا يستوجب أجراً على من استعمله في القتال .
ولو استأجر فرساً ليركبه ويقاتل عليه مدة معلومة أو استأجر غلاماً لخدمه في دار الحرب مدة معلومة ببدل معلوم فهو جائز سواء مسمي لكل يوم أجراً على حدة أو لم يسم لأن المعقود عليه معلوم ببيان المدة والبدل معلوم وليس في هذا العقد من معنى الطاعة وإقامة الفرض فيصح الاستئجار .
وإن لم يبين المدة ولكن قال : استأجره لغزاتي هذه حتى أرجع إلى موضع كذا فهذا فاسد .
لأن المعقود@(3/74)
عليه مجهول فإنه لا يدري إلى أين يبلغ المسلمون ويطول مقامهم أو يقصر ولو استوفى المنفعة على هذا الشرط فله أجر المثل على المستأجر لأن العقد هاهنا منعقد لوجود المعقود علي .
ولكنه فاسد للغرور والجهالة .
فيستوجب أجر المثل بالغاً ما بلغ لأن الأجر وإن كان مسمى فصاحب الدابة يقول : أنا ما رضيت بهذا المسمى إلى الموضع الذي انهيتم إليه وقد كان عندي أنكم ترجعون قبل الوصول إلى ذلك الموضع فلهذا يستحق أجر المثل بالغاً ما بلغ .
ولو أن رجلاً في يده أفراس حبس في سبيل الله فأعطى أقواماً منها أفراساً يغزون عليها في سبيل الله والذي في يده كان القيم في ذلك يعطى من شاء ويأخذ ممن شاء فلما دخلوا دار الحرب أخذها منهم ودفعها إلى غيرهم وقد كان السلمون أصابوا غنائم قبل أن يأخذوها وغنائم بعد ذلك فهم سهم الفرسان فيا أصيب قبل أخذ الأفراس منهم ولهم سهم الرجالة فيما أصيب بعد ذل .
والمراد بالأفراس الحبس الموقوفة للجهاد وذلك جائز .
أما على أصل محمد ظاهر كثياب الجنازة والآلات التي يغسل بها الموتى فكذلك يجوز في الأفراس التي يقاتل عليها في سبيل الله .
والأصل فيه ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه حين قبض كان في يده ثلاثمائة فرس مكتوب على أفخاذها : حبس في سبيل الله .
ثن الغازي على مثل هذا الفرس قد دخل دار الحرب وهو متمكن من القتال على الفرس ودام تمكنه إلى أن أصيبت الغنائم فيستحق سهم الفرس بمنزلة المستعير .
ثم أخذ الفرس منه بعد ذلك@(3/75)
بحق مستحق فلا يبقي فارساً فيما يصاب بعد ذلك كالمستعير ويستوي إن كان القيم هو الذي يسترده منه في دار الحرب أو الواقف .
ثم لا يصير الواقف ولا القيم به فارساً لأنه إنما استرده في دار الحرب وهذا لا يكون أقوى في حقه من شراء الفرس فكذلك إن دفعه إلى راجل آخر لم يصر به فارساً كما لو اشتراه في دار الحرب .
ولو أن رجلاً في يده خيل حبس آجرها ليقاتل عليها في سبيل الله وهي له أو ليست له فقد أساء فيما صنع لأن من جعلها حبساً فقد جعلها لله خالصاً بمنزلة من جعل أرضه مسجداً فلا يجوز التصرف فيها بالإجارة لاكتساب المال بعد ذلك .
لأن صاحبها إنما أعدها لاكتساب الأجر في الآخرة بالقتال عليها في سبيل الله فاكتساب القيم المال بها في الدنيا يكون تغييراً للشرط .
وقال الله تعالى : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } فإن قاتل عليها المستأجرون فلهم سهام الفرسان لأنهم حصلوا في دار الحرب فرساناً وتمكنوا من القتال عليها واستحقاق سهم الفرس به ويكون عليهم أجور الخيل لأنهم استوفوا المنفعة التي تناولها العقد وحالهم كحال من استأجر الخيل من الغاصب لأن القيم أو الواقف فيما صنع لا يكون أسوأ حالاً من الغاصب والغاصب يستوجب الأجر إذا استوفى المستأجر المنفعة بعقده وينبغي للذي آجرها أن يتصدق بأجرها ولا يأكله لأنه اكتسبه بسبب خبيث فإنه ممنوع من هذه الإجازة لحق الشرع .
وسبيل مثله التصدق به .
وإن عطبت تحت بعض من استأجرها أو عقرها العدو ضمن الذي آجرها قيمة الفرس وإن شاء الوالي ذلك وإن شاء ضمن المستأجر القيمة لأن كل واحد منهما متعد بمنزلة الغاصب يؤاجر المغصوب فيتلف في استعمال المستأجر .
فإن ضمن المستأجر رجع بالقيمة على الأجر لأنه صار مغروراً من جهته بسبب عقد ضمان .
وإن ضمن الآجر لم يرجع على المستأجر بشيء ثم يشتري بهذه القيمة فرساً مكانه فيجعل حبيساً لأنه قائم مقام الأول@(3/76)
فإن القيمة إنما تسمى قيمة لقيامها مقام العين .
والعين حبيساً في سبيل الله فيجعل بله بتلك الصفقة أيضاً كما لو قتل وغرم القاتل القيمة .
وإنما يصير البدل بتلك الصفة إذا اشترى به الفرس فجعل حبيساً لأن الفرس والسلاح لا يكون حبيساً حتى يخرجه صاحبه من يده لأن هذا بمنزلة الوقف والتسليم إلى المتولي شرط لتمام الوقف في قول محمد - رحمه الله - وهو قول ابن أبي ليلى .
فإذا سلمه إلى القيم لم يكن له أن يرجع فيه وإن كان اشترط الذي جعله حبيساً أن التدبير فيه إليه بعد موت القيم أو يكون هو القيم فيه حتى يموت فذلك جائز لأن التسليم شرط لإتمام الوقف وقد وجد فالعود إلى يده بعد ذلك لا يضر .
واستدل على جواز الحبس في العراك والسلاح بما بلغه عن علي وابن مسعود والشعبي والنخغي - رضي الله عليهم - إنما أجازوا ذلك .
فإن أعطي رجلاً فرساً حبيسا ًيغزو عليه فدخل دار الحرب وأصابوا الغنائم ثم أخذ الفرس منه ثم أصابوا غنائم بعد ذلك فإنما يضرب له في الغنيمة الأولى بسهم الفارس وفي الغنيمة الثانية بسهم الراجل لأن الفرس أخذ منه بحق .
وأما القيم إذا لم يكن في يده فرس آخر حين دخل دار الحرب فإنه يضرب له بسهم راجل في جميع الغنائم لأنه دخل الدار راجلاً فلا يصير فارساً بعد ذلك بأخذ الفرس من يد الغازي كما لا يصير فارساً بشراء فرس .@(3/77)
باب ما يبطل فيه سهم الفارس في دار الحرب وما لا يبطل
رجل وهب لرجل فرساً في دار الإسلام فقبضه الموهوب له ودخل به مع العسكر دار الحرب فأصابوا غنائم ثم أراد الواهب أن يرجع فرسه فله ذلك لأن الموهوب قائم عند الموهوب له على حاله ولم يصل إلى الواهب عوض من جهته فيثبت له حق الرجوع فيه لتمكن الخلل في مقصوده .
فإن رجع فيه ثم أصابوا غنائم بع ذلك وقد كان الواهب دخل الدار راجلاً فالواهب راجل في الغنائم كلها لأنه انفصل إلى دار الحرب راجلاً ولا معتبر بتحصيل الفرس في دار الحرب في استحقاق السهم به .
وأما الموهوب له فهو فارس في الغنائم الأولى لأنه انفصل فارساً وأصيبت تلك الغنائم وهو فارس .
وهو راجل في الغنائم الأخرى لأن الفرس أخذ من يده بحق مستحق .
فإن حق الواهب ثابت في الرجوع شرعاً ما لم يتصل إليه العوض .
فإن قيل : قد انفصل هو على فرس مملوك له ثم أزيل ملكه في دار الحرب لا باختياره فينبغي أن لا يخرج به من أن يكون فارساً كما لو أخذه أهل الحرب فأحرزوه .
قلنا : إنما أخذ الفرس منه بحق مستحق شراعاً .
وذلك الحق كان سابقاً على دخوله دار الحرب فيخرج من أن يكون متمكناً من القتال على الفرس مطلقاً وإنما كان تمكنه من القتال على الفرس مقيداً بما قبل رجوع الواهب .
ولهذا لو رجع الواهب قبل أن يصيبوا شيئاً لم يكن الموهوب له فارساً بعد رجوعه وكذلك إذا رجع بعدما أصيب بعض الغنائم ولو@(3/78)
.
جعل هو فارساً بهذا المقدار أدى إلى القول بأن من كان معه عشرة أفراس فوهب من كل رجل من الرجالة فرساً حتى دخلوا عليها دار الحرب ثم استرد الأفراس منهم أن يكونوا فرساناً بذلك القدر فيما يصيبون وهذا بعيد فإن من قال بهذا البعد لم يجد بداً من أن يقول : إذا أعاد الأفراس منهم ثم استردوها في دار الحرب كانوا فرساناً أيضاً إذ في كل واحد من الموضعين عند الانفصال كانوا متمكنين من القتال على الأفراس إلى أن يرجع فيها صاحبها وعلى هذا لو اشترى فرساً فاسداً فقبضه ودخل عليه دار الحرب لأن حق البائع في الاسترداد ثابت لفساد البيع كحق الواهب في الرجوع بل أظهر .
فالبائع هاهنا مأمور بالاستيراد شرعاً والواهب منهي من الرجوع ندباً .
ثم هناك بالاسترداد يخرج الموهوب له من أن يكون فارساً فيما يصاب بعد ذلك فهاهنا أولى .
ولو كان البيع صحيحاً ثم استحق الفرس من يد المشتري في دار الحرب بالحجة فهذا بمنزلة البيع الفاسد لأنه أخذ منه بحق مستحق كان ثابتاً قبل دخوله دار الحرب ولأنه تبين بالاستحقاق أنه كان غاصباً للفرس فإذا استرده المغصوب منه يخرج هو من أن يكون فارساً به .
وكذلك رجلان اشترى أحدهما من صاحبه فرساً ببغل وتقاضيا فلما دخلا دار الحرب وجد العيب بأحدهما فرد بالعيب بقضاء أو بغير قضاء .
فما كانوا غنموا قبل التراد يضرب فيه لمشتري الفرس سهم الفرس سواء كان هو الراد أو المردود عليه وما أصيب بعد التراد يضرب له فيه بسهم راجل لأنه إن كان هو الراد فقد @(3/79)
أزال الملك عن فرسه باختياره .
وإن كان هو المردود عليه فقد أخذ الفرس من يده بحق فأما مشتري البغل فهو راجل في الغنيمتين جميعاً لأنه دخل دار الحرب راجلاً .
وعلى هذا لو تقايلا البيع أو كان أحدهما لم ير ما اشترى فرده بخيار الرؤية او كان مشتري الفرس قبض الفرس ولم يسلم البغل حتى هلك عنده فرد الفرس في دار الحرب بعدما أصاب بعض الغنائم لأن ملكه أزيل بسبب مستحق فيخرج به من أن يكون فارساً فيما يصاب به بعد ذلك .
ولو رهن في دار الإسلام فرساً من رجل بدين له عليه ثم دخلا دار الحرب مه العسكر فقضي الراهن المرتهن ماله وأخذ الفرس فقاتل عليه فهما راجلان : أما المرتهن فلأنه لم يكن متمكناً من القتال على الفرس المرهون فلا يكون هو فارساً به .
وأما الراهن فلأنه لم يكن متمكناً من القتال على فرسه حين دخل دار الحرب لأن عقد الرهن يوجب ملك اليد للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من إثبات يده على المرهون ما لم يقض دينه .
ولو كان إنما رهن الفرس في دار الحرب بعد إصابة بعض الغنائم ثم أصيبت غنيمة أخرى ثم قضى الدين واسترد الفرس ثم أصيبت غنيمة أخرى فهو فارس في الغنيمة الأولى والآخرة راجل في الغنيمة الوسطى لأنه أزال تمكنه من القتال على الفرس باختياره مع قيام ملكه فيكون بمنزلة ما لو آجره في دار الحرب وقد بينا الإجازة في هذا الفصل وقررنا المعنى فيه فالرهن قياسه لأن كل واحد من العقدين يوجب استحقاق اليد على صاحب الفرس مع قيام ملكه .@(3/80)
ولو باع فرسه في دار الحرب بعد إصابة بعض الغنائم ثم أصيبت غنيمة أخرى ثم وجد المشتري به عيباً ورده بقضاء أو بغير قضاء ثم أصيبت غنيمة أخرى فصاحب الفرس فارس في الغنيمة الأولى والأخرى راجل في الغنيمة الوسطى لأنه أزال تمكنه من القتال عليه بإخراجه من ملكه فسواد عاد إليه بسبب هو فسخ من كل وجه أو بسبب هو فسخ في حقه بيع جديد في حق غيره لا يتبين به أنه كان متمكناً من القتال عليه حين أصيبت الغنيمة الوسطى .
فإن قيل : كان ينبغي أن يكون راجلاً في الغنيمة الثالثة أيضاً لأن البيع يتبين أن التزامه مؤنة الفرس كان لقصد التجارة لا لقصد القتال عليه فبعد ذلك وإن عاد الفرس إلى يده يجعل كالمشتري للفرس الآن ابتداء ولو دخل دار الحرب راجلاً ثم اشترى فراً لم يستحق سهم الفرسان .
قلنا : بيعه الفرس في دار الحرب محتمل يجوز أن يكون لقصد التجارة ويجوز أن يكون لقصد استبدال هذا الفرس بفرس آخر يكون أقوى منه في القتال عليه فما انعقد له من سبب الاستحقاق لا يبطل بهذا المحتمل وإنما يبطل بما هو متيقن به وهو زوال تمكنه من القتال على الفرس .
وإنما وجد ذلك في الغنيمة الوسطى خاصة .
وعلى هذا قال : لو لم يرد عليه ذلك الفرس ولكن اشترى فرساً آخر مكانه أو وهب له فرس آخر والمسألة بحالها فإنه لا يكون راجلاً إلا في الغنيمة الوسطى لأنها أصيبت وهو لم يكن متمكناً من القتال على الفرس يومئذ .
فأما في الغنيمة الأولى والآخرة فهو فارس لأنه كان متمكناً من القتال على الرفس حين أصيبت بعدما انعقد له سبب الاستحقاق بالانفصال إلى دار الحرب فارساً .
وكذلك إن قاتل المشركون المسلمين@(3/81)
على الغنيمة الوسطى ليستردها فقاتل هو معهم على الفرس الثاني لأنه قاتل وله فيها نصيب وهو سهم الراجل فلا يزداد بهذا القتال حقه فيها .
وكذلك لو كان الفرس الذي اشترى دون الذي باعه إلا أنه بحيث يقاتل عليه لأنه لو دخل على هذا دار الرحب في الابتداء استحق سهم الفرسان وحالة البقاء أسهل فإذا جاز أن ينعقد له سبب الاستحقاق بهذا الفرس فالبقاء به يكون أجوز .
ولو كان رجلان لكل واحد منهما فرس فتبادلا أو باع كل واحد منهما صاحبه فرساً بدراهم فهما فارسان على حالهما لأن كل واحد منهما دخل دار الحرب فارساً ودام تمكنه من القتال على الفرس .
إما بما باعه أو بما اشتراه .
ول دخل دار الحرب فارساً فقتل مسلم فرسه وضمن له قيمته فلم يشتر بها صاحب الفرس فرساً حتى أصابوا غنائم فصاحب الفرس فارس في جميع ذلك لأن سبب الاستحقاق قد انعقد له وما أزال الفرس عن ملكه بعد ذلك باختياره وإنما تلف بغير صنع من جهته فهو كما لو مات .
فإن قيل : حين ضمن المتلف قيمته فقد ملكه بما استوفى من القيمة فلماذا لا يجعل هذا كبيعه منه .
قلنا : هو ما قصد التمليك منه وإنما دفع الخسران عن نفسه باسترداد القيمة منه بعد تعذر استرداد العين إلا من شرط تقرر ملكه في القيمة انعدام ملكه في الأصل لكيلا يجتمع البدلان في ملك واحد فكان التمليك هاهنا ثابتاً بطريق الضرورة لا باعتبار قصد أو فعل كان من جهة صاحب الفرس فلا يبطل به حقه .
وعلى هذا لو قتله مسلم ثم فر فلم يقدر عليه أو غصبه منه مسلم فغيبه وضمن له قيمته أو هرب عليه فأخرجه إلى دار الإسلام فهو بمنزلة الأول في جميع ما ذكرنا .
ولو كان الغاصب غيبه فقضى القاضي عليه بقيمته ثم ظهر الفرس في يده وقد كانوا أصابوا غنائم قبل غصب الفرس وبعده وبعدما ظهر الفرس فما كان من غنيمة قبل غصب الفرس وبعده قبل أن يضمن الغاصب القيمة فالمغصوب منه في ذلك فارس لأن ملكه@(3/82)
بالغصب لم يزل وإنما زال تمكنه من القتال عليه لا باختياره .
وما أصيب بعدما ضمن الغاصب القيمة قبل أن يظهر الفرس أو بعده فاللمغصوب منه في ذلك كله شهم راجل لأن زوال تمكنه من القتال عليه في هذه الحالة كان باختياره وقد كان متمكناً من أن يتلوم ولا يعجل بتضمين القيمة لعل فرسه يظهر فيأخذه فإذا لم يفعل ذلك ولكنه طلب القيمة وقضى له بها فقد صار في حكم البائع لفرسه فيجعل زوال تمكنه من القتال على فرسه مضافاً إلى اختياره .
أرأيت لو غصبه إنسان ساعة من نهار فضمنه قيمته ثم ظهر الفرس لكان هذا فارساً بعد هذا .
وقد أخرجه من ملكه باختياره إلا أن يكون حين استوفى القيمة اشترى بها فرساً آخر قبل إصابة الغنائم فحينئذ هو يكون فارساً في جميع ذلك لقيام تمكنه من القتال على الفرس .
ولو دخل دار الحرب فارساً فأصابوا غنائم ثم باع فرسه واستأجر فرساً وقاتل عليه فأصابوا غنائم أيضاً فهو فارس في الغنائم الأولى راجل في الغنائم الثانية لأن سبب الاستحقاق إنما انعقد له بفرس مملوك له والمستأجر لا يكون مملوكاً له فلا يصلح أن يكون قائماً مقام الأول في إبقاء سبب الاستحقاق المنعقد بالفرس الأول ولا ينعقد يه سبب آخر ابتداء لأنه حصل في دار الحرب .
وكذلك لو استعار فرساً .
فإنه مثل الاستئجار أو دونه .
فأما إذا وهب له فرس أو تصدق به عليه وقبضه فهو فارس في جميع الغنائم لأن الموهوب ممولك له فيصلح أن يكون قائماً مقام الأول في إبقاء ما انعقد به من سبب الاستحقاق .
يوضحه : أن باستئجار الفرس والاستعارة لا يتبين أنه لم يكن مقصوده التجارة بالتزام مؤنة الفرس الأول وبالشراء يتبين أنه لم يكن مقصوده ذلك فيمكن إقامة المشتري مقام ما باع ثم يجعل الموهوب كالمشتري لأن كل واحد من السببين يثبت له الملك في غير الفرس .
ولو كان في الابتداء دخل على فرس مستأجر فأصابوا غنائم ثم انقضت@(3/83)
الإجازة فأخذه صاحبه ثم أصابوا غنائم ثم استأجر فرساً آخر فقاتل عليه فأصابوا غنائم فهو فارس في الغنائم الأولى والأخيرة راجل في الغنيمة الوسطى لأن سبب الاستحقاق لنعقد له باعتبار فرس هو متمكن من القتال عليه من غير أن يكون مالكاً الاستحقاق انعقد له باعتبار فرس هو متمكن من القتال عليه من غير أن يكون مالكا ًلعينه والثاني مثل الأول في هذا فيقوم مقامه في إبقاء ذلك الاستحقاق به كما قام المشتري مقام الفرس الذي كان مملوكاً له وإنما لا يستحق سهم الفارس فيما أصيب في حال لم يكن هو متمكناً من القتال على الفرس وهو الغنيمة الوسطى فقط .
ثم لا فرق في هذا المعنى بين أن ينتهي العقد بمضي المدة أو ينتقض بموت المؤاجر أو بتقايل الإجارة في المدة .
ولو كان استعار فرساً والمسألة بحالهم لم يكن له إلا سهم راجل فيما أصيب بعد ذلك لأن الاستعارة دون الاستئجار في الاستحقاق فإن الاستئجار يثبت له استحقاقه المنفعة وبالاستعارة لا يثبت فلا يمكن إبقاء ما انعقد له من السبب باعتبار الفرس من المستأجر بهذا الفرس المستعار .
ولو كان اشترى فرساً حين انقضت الإجارة أو وهب له فهو فارس في جميع الغنائم لأنه لو استأجر كان فارساً فإذا اشترى أو وهب له كان أولى .
إذا قد وجد في الثاني المعنى الذي لأجله انعقد له سبب الاستحقاق وزيادة .
ولو كان الفرس في يده حين دخل الحرب عارية وأصابوا غنائم ثم استرده المعير فأصابوا غنائم ثم استعار فرساً آخر ليقاتل عليه فأصابوا غنائم فإن كان الذي أعاره الفرس ممن يستحق السهم بسبب الفرس الذي أعار فقد بينا أنه لا يبطل استحقاقه بالإعارة للقتال لأنه يزول به تمكنه من القتال على الفرس فإذا بقي هو مستحقاً@(3/84)
للسهم باعتبار هذا الفرس فلا يستحق المستعير باعتباره شيئاً لأن بالفرس الواحد لا يكون رجلان فارسين وإنما يضرب وإن كان المعير معه خيل كثير وهو يستحق سهم الفرس بغير هذا الفرس فللمستعير سهم الفرس في الغنائم الأولى والأخيرة وله سهم راجل في الغنيمة الوسطى لأن الثاني مثل الأول الذي انعقد له سبب الاستحقاق باعتباره فيجعل ذلك السبب باقياً ببقاء ما هو مثله كما يجعل باقياً عينه .
ألا ترى أنه لو استعار ذلك الفرس بعينه ثانياً وقاتل عليه كان فارساً وكذلك لو أنه اشترى فرساً أو وهب له أو استأجره لأن الثاني فوق الأول في المعنى الذي انعقد به سبب الاستحقاق له فيبقى ذلك الاستحقاق باعتباره .
ويستوي إن كان الذي استأجره فرساً كان صاحبه فارساً أو لم يكن لأن بالإجازة يخرج صاحبه من أن يكون فارساً به بخلاف الإعارة وهذا لأن بالإجارة يزول تمكن صاحبه من القتال عليه بما أوجب من الحق للمستأجر وبالإعارة لا يزول ذلك .
ألا ترى لو أنه آجر نفسه للخدمة مدة معلومة في دار الحرب لم يكن له سهم ولو أعان غازياً وخدمه في دار الحرب لا يبطل به سهمه فكذلك الحكم في سهم فرسه .
ولو اشترى في دار الإسلام فرساً ولم يقبضه حتى دخلا دار الحرب ثم نقد الثمن وقبض الفرس فكل واحد منهما راجل في جميع الغنائم .
أما البائع فلأن الفرس زال من ملكه قبل أن يدخل دار الحرب فهو قد دخل وليس له فرس وأما المشتري فلأنه دخل وهو غير متمكن من القتال على فرسه لكونه محبوساً عند البائع بالثمن بمنزلة المرهون وإنما صار متمكناً حين نقد الثمن في دار الحرب ابتداء فكأنه اشترى الفرس الآن ولو كان فقد الثمن قبل أن يدخل دار الحرب ولم يقبض الفرس حتى دخل أو كان الثمن إلى أجل ففي القياس المشتري راجل فيما أصيب من@(3/85)
الغنائم لأن القتال على الفرس تصرف وملك التصرف يحصل للمشتري عند القبض ابتداء وإنما ملك القتال عليه في دار الحرب بعدما قبضه .
يوضحه : إن الفرس في ضمان ملك البائع وإن كان المشتري قد نقده الثمن بدليل أنه لو هلك يهلك على ملكه والبائع إذا وجد الثمن زيوفاً فرده يكون له أن يحبسه إلى استيفاء الثمن فعرفنا أن المشتري حين دخل دار الحرب لم يكن متمكناً من القتال عليه مطلقاً فلا يستحق به سهم الفارس كما قبل نقد الثمن .
وفي الاستحسان للمشتري سهم الفرس لأن انعقاد سبب الاستحقاق له باعتبار تمكنه من القتال على الفرس عند مجاوزة الدرب وهذا ثابت باعتبار ملكه وخلوه عن حق الغير وتمكنه من الأخذ متى شاء بإقرار البائع له بذلك وقد تقرر هذا التمكن بقبضه فيستحق سهم الفرس به .
كما لو أعار فرسه غيره للركوب أو أودعه منه .
ولو دخل مسلمان دار الحرب بفرس مشترك بينهما يقاتل عليه هذا مرة وهذا مرة فهما راجلان في الغنائم كلها لأن كل واحد منهما لا يتمكن من القتال عليه بغير إذن صاحبه فلا يكون فارساً باعتباره .
فإن كان أحدهما أجره من صاحبه أو أعاده في دار الإسلام فالمستعير والمستأجر فارس به لأنه انفصل وهو متمكن من القتال عليه .
إلا أن يأخذ المعير حصته أو تنقضي الإجازة فحينئذ يكون هو راجلاً فيما يصاب بعد ذلك لأنه زال تمكنه من القتال عليه بحق مستحق كان سابقاً على دخوله دار الحرب .
ولو دخلا بفرسين بينهما نصفين وطيب كل واحد منهما لصاحبه في دار الحرب أن يقاتل على فرس منهما بعينه أو بغير عينه فهما راجلان لأن كل واحد منهما انفصل وهو غير متمكن من القتال على الفرس وإنما صار متمكناً من ذلك بسبب حادث في دار الحرب وهو أن صاحبه طيب@(3/86)
له ذلك وذلك لا ينفعه شيئاً .
ولو كان طيب كل واحد منهما لصاحبه قبل دخول دار الحرب فهما فارسان إلى أن يرجع كل واحد منهما عما أذن لصاحبه فيه لأن كل واحد منهما انفصل وهو متمكن من القتال على الفرس فينعقد له سبب الاستحقاق به ما بقي تمكنه فإذا أرجعا عن ذلك التمكن فيكون كل واحد منهما راجلاً بعد ذلك .
وكذلك إذا تهايئاً على الركوب قبل دخول دار الحرب .
فإن المهايأة قسمة المنفعة .
وقد بنا الخلاف في التهايؤ على ركوب الدابتين في كتاب الصلح من شرح المختصر .
ولا خلاف أن أحدهما إذا طلب ذلك وأبى صاحبه فإنه لا يجبر كل واحد منهما على المهيأة على الركوب للقتال لأن اعتبار المعادلة في ذلك غير ممكن فلا يجري فيه الإجبار .
ولكن إن اجتمعا عليه فلهما ذلك بوجود التراضي منهما ويجبران على التهايؤ على الركوب لغير الحرب عند محمد - رحمه الله - لأن اعتبار المعادلة فيه ممكن فإذا طلب أحدهما أجبر الآخر عليه اعتباراً لقسمة المنفعة بقسمة العين .
ثم لا يستحق واحد منهما بذلك سهم فارس لأن واحداً منهما لا يصير متمكناً من القتال على الفرس بالمهايأة على الركوب .
ولو كان كل واحد منهما أذن لصاحبه في ركوب أي الفرسين شاء ولم يدفع إلى صاحبه فرساً بعينه فكل واحد منهما راجل سواء كان هذا الإذن منهما في دار الإسلام أو في دار الحرب لأن إعارة نصيبه من صاحبه لا تتم بمجرد الإذن ما لم يسلم إليه .
ولو دخل مسلم دار الحرب بأفراس فباعها كلها إلا واحداً منها لم يحرم سهم الفارس لأن متمكن من القتال على الفرس بما بقي عنده ولأنه@(3/87)
تبين بما صنع أنه قصد التجارة فيما باع فيسقط اعتبار ذلك في استحقاق السهم به ويجعل في الحكم كأنه حين دخل لم يكن معه إلا هذا الفرس .
وهذا لأن ما زاد على الواحد فضل هو غير محتاج إليه إنما يبنى حكم الاستحقاق ثبوتاً وبقاء على ما يحتاج إليه خاصة .
ألا ترى أنه لو رجع بعض الشهود لم ينتقض نصاب الشهادة برجوع من رجع فإن القاضي لا يمنع من القضاء بالشهادة لهذا المعنى ولو كان بعد القضاء لم يجب شيء من الضمان على الراجعين .
ول نفق منها واحد أو عقر في دار الحرب ثم باع بقية خيله فهو فارس أيضاً لأنه لو نفق بعد بيع البعض بقي فارساً باعتباره فكذلك قبله وهذا لأن ما باع صار كأن لم يكن فكأنه دخل بفرس واحد ثم نفق قبل القتال عليه أو بعده وهو يستحق سهم الفرسان في هذا .
ولو دخل مراهق دار الحرب فارساً أو راجلاً فأصابوا غنائم فله الرضخ على التفسير الذي قلناه .
فإن لم يخرجوا إلى دار الإسلام ولم يقسموا الغنائم حتى بلغ الغلام ضرب له بسهم فارس إن كان فارساً وبسهم راجل إن كان راجلاً سواء لقوا قتالاً بعد ذلك أو لم يلقوا لأن سبب الاستحقاق قد انعقد له حين جاوز الدرب ثم قبل تمام الاستحقاق كمل حاله فيجعل ما اعترض كالمقترن بأصل السبب في استحقاقه السهم الكامل بمنزلة الذمي إذا أسلم وقد بيناه فيما مضى .
أشار هاهنا إلى حرف آخر فقال : من العلماء من يقول يسهم له وإن لم يبلغ وللذمي وإن لم يسلم فاختلافهم في استحقاق السهم الكامل قبل البلوغ والإسلام يكون اتفاقاً منهم على استحقاق ذلك إذا كان بالغاً مسلماً عند تمام الاستحقاق .
والله أعلم .@(3/88)
باب مما يختلف فيه صاحب الفرس وصاحب المقاسم فيما يجب للفرس
ولو أن غازياً باع فرسه في دار الحرب فله سهم الفرسان فيما أصيب قبل بيعه وفيما أصيب بعد البيع له سهم الرجالة .
فإن قال الذي يلي المقاسم : إنما بعت فرسك قبل الإصابة وقال الغازي : ما بعته إلا بعد الإصابة .
فالقول قول الذي يلي المقاسم .
وكان ينبغي أن يكون القول قول الغازي لأن سبب الاستحقاق قد انعقد له بمجاوزة الدرب ولأن البيع حادث فإنما يحال بحدوثه على أقرب الأوقات ما لم يثبت سبق التاريخ بالحجة ولكنه قال : سبب الرحمان قد ثبت بإقراره وهو بيع الفرس فلا يثبت@(3/89)
له الاستحقاق بعد ذلك إلا بحجة .
ألا ترى أن مسلماً لو مات وله أخ مسلم فجاء ابنه مرتداً وزعم أنه ارتد بعد موت أبيه فالميراث له وقال الأخ : إنما ارتد في حياته فالقول قول الأخ وإن كان يدعي تاريخاً سابقاً في ردته لأن سبب حرمانه ظاهر فلا يثبت استحقاقه بعد ذلك إلا بحجة .
وكذلك لو كان ابنه نصرانياً فزعم أنه أسلم قبل موت أبيه لأن سبب حرمانه وهو المخالفة في الدين معلوم فلا يثبت الاستحقاق إلا بحجة .
يوضحه : أن سبب الاستحقاق التزام مؤنة الفرس عند مجاوزة الدرب على قصد القتال .
وبالبيع في دار الحرب قد صار ذلك محتملاً فلا يثبت استحقاقه إلا بترجيح جانب القصد إلى القتال .
وهو يعلم أنه باعه بعد القتال وإصابة الغنائم .
فما لم يثبت ذلك بالبينة لا يثبت سبب استحقاقه .
فأما الإحالة بالبيع على أقرب الأوقات فهو نوع من الظاهر وبالظاهر يدفع الاستحقاق ولا يثبت الاستحقاق .
وإن أقام البينة من الجند على أنه باعه بعد الإصابة قبلت بينته لخلوها عن التهمة .
وإن شهد بذلك شاهد واحد فالحاجة لا تتم بشهادته فإن قال المشهود له : أشارك هذا الفارس الذي شهد لي في نصيبه لإقراره لم يكن له ذلك لأنه لم يكن لواحد منهما ملك في شيء من الغنيمة قبل القسمة وإقرار من ردت شهادته إنما يعتبر إذا صادف ملكه أو كان أقر بملك للغير فيه ولم يوجد ذلك هاهنا فلهذا لا يشاركه في نصيبه .
وإن قال الفارس : نفق فرسي أو عقر .
وقال الذي يلي المقاسم : أراك بعته فالقول للفارس وله سهم الفرسان لأن سبب الاستحقاق له معلوم وما يبطل حقه وهو بيع الفرس مختلف فيه صاحب المقاسم يدعيه والغازي ينكره فالقول قوله مع يمينه بمنزلة ما لو ادعى الأخ المسلم على الابن أنه ارتد في حياة أبيه ثم أسلم بعد موته وقال الابن : ما ارتددت قط فإنه يكون القول قول الابن والميراث له فإنه قال : دخلت بفرس فنفق وقال صاحب المقاسم : ما أدخلت بفرس أم لا فهو راجل حتى يعلم أنه دخل بفرس لأن الغازي هاهنا يدعي سبب استحقاق سهم الفرس وهو غير معلوم فلا يستحق شيئاً إلا بحجة .
بمنزلة ما لو ادعت امرأة ميراث ميت وزعمت أنه كان تزوجها في حياته لم تصدق إلا بحجة وإن علم صاحب المقاسم والمسلمون أنه كان فارسا وأنه استهلك فرسه بعد إصابة بعض الغنائم ببيع أو هبة ولكنهم لا يدرون ما أصابوا قبل@(3/90)
استهلاكه ولا ما أصابوا بعده فله في ذلك سهم راجل إلا ما علم أن إصابته كان قبل استهلاكه لأن السبب المبطل لحقه هاهنا عن البعض معلوم فلا يعطي إلا القدر المتيقن به ولأن كل جزء من المصاب يحتمل أن يكون مصاباً بعد استهلاكه .
ويحتمل أن يكون قبله وبالاحتمال لا يثبت الاستحقاق وصار كل جزء هاهنا كجميع المصاب في مسألة أول الباب .
ولا يمين على صاحبت المقاسم في شيء من هذا لأنه ليس بخصم وإنما هو بمنزلة الحاكم .
وإن كان باع فرسه واشترى فرساً آخر فقد بينا أنه فارس في كل مصاب إلا ما كان بعد بيعه الفرس قبل شرائه الفرس الثاني .
فإن اختلفوا في ذلك لم يضرب له إلا بسهم راجل في جميع ذلك لبقاء الاحتمال في كل جزء من المصاب حقه إلا بحجة .
ولأنا علمنا أنه كان راجلاً في دار الحرب في وقت فلا يستحق سهم الفرسان ما لم يعلم أن الإصابة كانت في غير ذلك الوقت بمنزلة الابن الذي علم أنه كان نصرانياً في وقت فجاء مسلماً بعد موت الأب وزعم أنه كان أسلم في حياته لم يصدق إلا بحجة .
وكذلك لو علم أن الابن كان مرتداً في وقت فقال : أسلمت قبل موت الأب .
وقال الأخ : أسلمت بعد موته فإنه لا يستحق الميراث ما لم يثبت بالبينة إسلامه قبل موت أبيه .
ولو أقر بأنه بادل فرسه بهذا الفرس الذي في يده وقال صاحب المقاسم : أظنك بعت فرسك ثم اشتريت هذا الفرس فالقول قول الغازي مع يمينه لأنه لم يعلم كونه راجلاً في دار الحرب في وقت من الأوقات .
فقد بينا أن مبادلة الفرس بفرس آخر لا تجعله في حكم الراجل .
فصاحب المقاسم هاهنا يدعي السبب المبطل لحقه وهو منكر .
فالقول قوله مع يمينه .
بخلاف الأول ومن لحق .@(3/91)
أو حربي أسلم في دار الحرب أو عبد كان يخدم مولاه فأعتقه فقد بينا أن له الشركة فيما يصاب بعدما التحق بهم ولا شركة فيما أصيب قبل ذلك .
إلا أن يلقوا قتالاً فيه فيقاتل دفعاً عن ذلك فإن لم يعلم ما أصابوا قبل أن يلحق بهم ولا ما أصابوا بعدما لحق بهم ولم يلقوا قتالاً بعد الإصابة فلا شيء له ما لم يقم البينة على شيء أنه قد أصيب بعدما لحق بهم لأن الاحتمال قائم في كل جزء من المصاب .
وبالاحتمال لا يثبت الاستحقاق ابتداء .
فإن سهد له بذلك .
لما بينا أنهم لم يشهدوا بملك له في شيء .
ألا ترى أنه لو قبلت شهادتهم لم يملك شيئاً قبل قسمة الغنائم وحق الاشتراك ينبني على الملك فيما هو خاص .
ألا ترى أن جيشاً لو اقتسموا غنائم ثم ادعى رجل أنه كان معهم فأقر بذلك بعض الجيش لم يشارك المقر في نصيبه وهذا مما لا يشكل فإنه لو علم أنه كان مع الجيش لم يكن له سبيل على ما أصاب كل واحد منهم استحساناً ولكن إن بقيت من الغنيمة بقية .
أعطاه الإمام نصيبه من ذلك وإن لم يبق أعطاه عوض نصيبه من بيت المال .
فإذا لم يعلم كان أولى .
وهذا نوع استحسان باعتبار أن الغرم مقابل بالغنم .
ولو بقي شيء تتعذر قسمته بين الغانمين يجعل في بيت المال .
فكذلك إذا ظهر سهو يجعل ذلك على بيت المال .
وكذلك لو ادعى هذا الرجل أن المسلمين لقوا قتالاً بعدما لحق بهم أنه قاتل دفعاً عن المصاب معهم وقد علم المسلمون أنهم لقوا قتالاً بعد الإصابة ولكن لا يدرون أن ذلك القتال كان قبل أن يلحق بهم هذا الرجل أو بعده فلا شركة له معهم حتى تقوم البينة من المسلمين على ما يدعي من ذلك لأن سبب استحقاقه هاهنا المقاتلة معهم دفعاً عن المصاب وذلك لا يظهر بقوله فلا بد من إقامة البينة عليه .@(3/92)
باب دفع الفرس باشتراط السهم وإعادته وإيداعه في دار الحرب
قال : وإذا دخل الغازي في دار الحرب فارساً ثم دفع فرسه إلى رجل ليقاتل عليه على أن سهم الفرس لصاحبه فهذا جائز لأنه شرط موافق لحكم الشرع وقد بينا أن إعادة الفرس في دار الحرب لا يبطل استحقاقه وأنه لو لم يشترط هذا كان له سهم الفرس له والشرط لا يزيده إلا وكادة .
ولو كان شرط أن سهم الفرس وسهم الراجل الذي قاتل عليه كله لصاحب الفرس فذها فاسد لأنه شرط لنفسه ما هو حق الذي يقاتل على فرسه فيكون هذا إجازة منه لفرسه بما شرط عليه .
وهذه إجازة فاسدة لجهالة البدل المشرط عليه .
فيكون له أجر مثله على الذي قاتل عليه ولا سهم هاهنا .
أما الذي قاتل عليه فإنه استأجر في دار الحرب إجازة فاسدة ولو استأجره إجارة صحيحة أو اشتراه لم يستحق به شيئاً فهذا أولى .
وأما صاحب الفرس فلأنه لو أجره إجارة صحيحة بطل به حقه كما لو باعه في دار الحرب .
فكذلك إذا آجره إجارة فاسدة لأن العقد الفاسد معتبر بالجائز في الحكم ولأنه استحق عوضاً عن منفعة فرسه وهو أجر المثل فلا يستحق به السهم مع ذلك .
ولو كان مع صاحب الفرس فرس غير هذا فله سهم فارس باعتبار الفرس الآخر سواء بقي في يده أو نفق لأن الذي آجره بهذه الصفة صار كأن لم يكن .
ولو لم يدخلوا دار الحرب حتى أعطى فرسه رجلاً على أن يكون سهم الفرس لصاحبه فإن سهم الفرس هاهنا للذي أدخله دار الحرب لأن سبب الاستحقاق قد انعقد له وهو الانفصال فارساً .
فيكون صاحب الفرس مؤاجراً فرسه ببذل مجهول فيستوجب عليه أجر المثل وليس له من سهم الفرس@(3/93)
شيء لأنه انفصل راجلاً فإن كان معه فرسان فصنع هذا بأحدهما والمسألة بحالها فله سهم الفارس باعتبار فرسه الذي بقي له وأما سهم الفرس الآخر فهو للذي قاتل عليه ولصاحب الفرس عليه أجر المثل في قول محمد وهو قياس قول أبي حنيفة لأن من أصلهما أن الغازي لا يستحق السهم إلا بفرس واحد وإن قاد بأفراس فكان في هذا الشرط معنى إجازة الفرس كما بينا .
فأما في قياس قول من يقول بسهم لفرسين وهو قول أبي يوسف فينبغي أن يكون الشرط صحيحاً والسهم كله لصاحب الفرس لأنه بدون هذا الشرط كان يستحق سهم الفرسين فالشرط لا يزيده إلا وكادة .
لكن هذا إذا كان الإعطاء بهذا الشرط فالشرط لا يزيده إلا وكادة .
لكن هذا إذا كان الإعطاء بهذا الشرط في دار الحرب فأما إذا كان في دار الإسلام فسهم الفرس للذي قاتل عليه ولصاحب الفرس عليه أجر مثله في الوجهين لأنه ما انعقد لصاحب الفرس سبب استحقاق السهم بهذا في دار الإسلام وإنما انعقد ذلك لمن كان فارساً به عند الانفصال فيكون معنى الإجازة متقرراً بينهما هاهنا .
وإن كان لكل واحد من الرجلين فرس غير الفرس الذي أعطى أحدهما صاحبه بهذا الشرط .
ففي قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - : لا يسهم لهذا الفرس ولا شيء لصاحبه على من أخذه منه لأن كل واحد منهما فارس عند الانفصال بالفرس الآخر دون هذا الفرس .
وأما في قول أبي يوسف فللذي قاتل على الفرس سهم فرسين لأنه انفصل إلى دار الحرب ومعه فرسان فيكون لصاحب الفرس عليه أجر مثله باعتبار الشرط الذي جرى بينهما في دار الإسلام .
وإذا أودع المسلم فرسه في دار الحرب مسلماً أو ذمياً ثم خرج راجلاً في سرية فأصابوا غنائم ورجعوا إلى العسكر أو خرجوا من جانب آخر إلى دار الإسلام فصاحب الفرس فارس في ذلك الوجهين لأن سبب استحقاق سهم الفرس قد انعقد@(3/94)
له ثم يبطل ذلك بإيداعه إياه من رجل معه في المعسكر لبقاء تمكنه من الأخذ بعد الإيداع وقد قررنا هذا في الإعارة .
فهو بمنزلة ما لو تركه مع غلامه في المعسكر .
فكما لا يبطل هناك سهمه لا يبطل هاهنا .
ألا ترى أن العدو لو حضروا العسكر فخرج إليهم راجلاً وهو محتاج إلى فرسه ولكن تركه إبقاء عليه كان له سهم الفرس فكذلك إذا خرج في سرية وتركه في المعسكر عند بعض أصحابه ليقوم عليه ويسمنه وهو محتاج إلى ذلك أو غير محتاج .
ولو كان الإمام نفل للفرسان من السرية نفلاً فليس لهذا الرجل من النفل شيء لأنه قصد بالتنفيل تحريضهم على إخراج الأفراس معهم إلى الموضع الذي وجههم إليه فمن ترك فرسه في المعسكر لا يدخل في هذا التنفيل حتى لو خرج القوم كلهم رجالة وتركوا الأفراس في المعسكر لم يكن لهم من نفل الفرسان شيء لهذا المعنى .
ولو مر عسكر المسلمين بحصن من حصونهم ممتنعين من أهل الإسلام فأودع مسلم فرسه من رجل كان ساكناً في الحصن مسلماً مستأمناً أو ذمياً أو أسيراً أو حربياً بينه وبينه قرابة ثم قاتل راجلاً وهو بالقرب من باب الحصن أو بالبعد منه فليس له فيما يصاب إلا سهم راجل لأنه صار مضيعاً فرسه حين جعله في منعة أهل الحرب فهو بمنزلة ما لو استهلك فرسه وهذا لأنه أزال تمكنه من القتال على الفرس باختباره .
فإن أهل الحرب إذا منعوه منه لا يتمكن من إثبات يده على الفرس بقوته .
ولا بقوة الإمام إذ لا ولاية له على من هو في منعة أهل الحرب بخلاف ما سبق .
فهناك إنما جعل الفرس في يد مسلم من أهل العسكر وهو متمكن من الاسترداد منه متى شاء فلا يزول به تمكنه من القتال عليه .
فإن رجع إليهم بعد إصابة الغنائم وأخذ فرسه لم يكن له فيها إلا سهم راجل سواء لقوا قتالاً بعد ذلك أو لم يلقوا .
أما إذا لم يلقوا قتالاً فلا أشكال .
وحاله كحال من باع فرسه ثم اشترى فرساً بعد إصابة الغنيمة .@(3/95)
وأما إذا لقوا قتالاً فلأن له في المصاب سهم راجل .
وإنما قاتل دفعاً عن ذلك فلا يزداد به سهمه وكذلك لو دخل مدينة من مدائنهم بأمان مع فرسه فأصابوا غنائم ثم خرج إلى المعسكر بعد ذلك فلا نصيب له في تلك الغنيمة لأنه خرج من أن يكون مقاتلاً حين دخل في منعتهم بأمان فلا يكون هو ممن شهد الوقعة حقيقة ولا حكماً ولكن حاله كحال من كان من المسلمين مستأمناً في هذه المدينة فخرج والتحق بالعسكر فلا شركة له فيما أصيب قبل ذلك إلا أن هاهنا إن لقي المسلمون قتالاً فقاتل معهم دفعاً كان له سهم الفارس فيما أصيب قبل ذلك لأنه ما كان مستحقاً لشيء من هذا المصاب حتى يكون قتاله دفعاً عن ذلك فيثبت الحق له بهذا القتال وإنما التحق بهم فارساً فيستحق سهم الفرسان بخلاف ما سبق .
ولو كان أسر على فرسه والمسألة بحالها كان له سهم الفارس سواء التحق بهم فارساً أو راجلاً لأنه انعقد له سبب الاستحقاق معهم بدخول دار الحرب للقتال ثم لم يعترض بعد ذلك ما يبطله فإنه أسر بغير اختياره ولم يخرج به من أن يكون محارباً .
ألا ترى أنه يجوز له قتلهم وأخذ أموالهم إن قدر على ذلك بخلاف الأول فهناك ترك القتال معهم باختياره .
ألا ترى أنه لا يحل له قتلهم ولا أخذ أموالهم ما دام مستأمناً فيهم .
ول كان الأمير بع إليهم رسولاً في بعض حوائج المسلمين فلما دخل الرسول إليهم بأمان أصاب المسلمون غنائم بعد ذلك ثم خرج الرسول فإنه يستحق سهم الفرسان معهم إن كان فارساً سواء خرج إليهم فارساً أو راجلاً لأن الرسول لم يترك المحاربة معهم .
وإنما أتاهم ليدبر أمر الحرب فهو بمنزلة من يكون في المعسكر بخلاف المستأمن إليهم لحاجة نفسه .
ألا ترى أن الرسول@(3/96)
الجانبين يكون آمناً من غير استئمان لاعتبار هذا المعنى ولأن الرسول إنما أتاهم لمنفعة المسلمين فمن يكون ساعياً فيما ترجع منفعته إلى المسلمين لا يكون مفارقاً لهم حكماً والمستأمن ما أتاهم لمنفعة المسلمين بل منفعة له خاصة فيصير به مفارقاً للعسكر حكماً .
والأصل في هذا الباب ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لطلحة بن عبيد الله من غنائم بدر وقد كان وجهه إلى ناحية الشام لمنفعة المسلمين ولم يكن حاضراً عند القتال .
وروي أنه بعث محصية الأنصاري إلى أهل فدك وهو محاصر خيبر ففتحها وهو غايب ثم جاء فضرب له سهم .
فعرفنا أن من كان سعيه في توفير المنفعة على المسلمين فهو في الحكم كأنه معهم .
ولو أن رجلين من المسلمين أو من أهل الذمة دخلا يريدان القتال فقاتلا مع المسلمين فلم يصيبوا شيئاً حتى استأمنا إلى المشركين ثم رجعا إلى العسكر بآخرين لا يريدان قتالاً فأصاب المسلمون غنائم لم يكن لهم فيها شيء لأنهما حين استأمنا إلى أهل الحرب فقد تركا المحاربة معهم .
ويكون حالهما بعد ذلك كحال من كان تاجراً فيهم بأمان والتحق بالعسكر على قصد القتال وإذا ثبت هذا فيما إذا العسكر لا على قصد القتال ثبت فيما إذا كانا مستأمنين في دار الحرب بطريق الأولى .
ألا ترى أنهما لو لم يستأمنا إليهم ولكنهما تركا القتال واشتغلا بالتجارة في المعسكر وتبين ذلك للمسلمين ثم أصاب المسلمون الغنائم بعد ذلك لم يكن لهما شركة فيها فبعد الاستئمان إليهم أحرى أن لا يكون لهما شركة .
ولو دخل مسلم فارساً مع الجيش وليس له اسم في الديوان فلما أصابوا غنائم قال : دخلت للقتال متطوعاً وقال المسلمون : دخلت تاجراً .
فالقول قوله مع يمينه لأن المسلم محارب@(3/97)
للمشركين في الأصل فإن مخالفته إياهم في الدين والدار تحمله على المحاربة معهم فما لم يظهر منه خلاف ذلك يكون هو محارباً والمسلمون بقولهم : دخلت تاجراً يدعون عليه سبب الحرمان وهو منكر فالقول قوله مع يمينه .
وإن كان الداخل ذمياً أو عبداً أو صبياً أو امرأة والمسألة بحالها فلا شيء لأحد منهم ما لم يعلم أنه دخل للقتال وأن المرأة دخلت لمداواة الجرحى لأن هؤلاء باعتبار الأصل غير مقاتلين فليس للمرأة والصبي بينة صالحة للمحاربة والعبد محجور عن القتال لحق مولاه والذمي موافق لهم في الاعتقاد وذلك يمنعه من المحاربة معهم فما لم يعلم بالحجة قصدهم إلى المحاربة لا يكون لهم في النصاب شيء بخلاف ما سبق .
والدليل على الفرق أن من لا يعلم حاله من أهل الحرب إذا كان رجلاً بالغاً يباح قتله وإنما يباح لكونه محارباً ومن كان صبياً منهم أو امرأة لا يباح قتله ما لم يوجد منه مباشرة القتال .
يوضحه : أن من قاتلوا فعرفنا أنهم ليسوا مقاتلين في الأصل .
ولو أن فارساً في دار الحرب أعار فرسه بعض التجار أو رسولاً أرسله الأمير إلى الخليفة فركب المستعير وانطلق إلى دار الإسلام فأصاب أهل العسكر غنائم بعد ذلك فإن كان المستعير خرج إلى دار الإسلام قبل إصابة تلك الغنائم فليس للمعير فيها إلا سهم راجل لأنه جعل فرسه في دار الإسلام باختياره فيزول به تمكنه من القتال عليه حقيقة وحكماً ويبعد أن يكون هو في دار الحرب فارساً بفرس له في دار الإسلام .
ألا ترى أنه لو رد الفرس مع غلامه إلى الإسلام فأتى به أهله لم يكن هو فارساً به فكذلك ما سبق .
وإن كان المستعير لم يخرج إلى دار الإسلام فهو فارس فيما أصيب لأن سبب استحقاق سهم الفرس قد انعقد له بالانفصال إلى دار الحرب على قصد القتال عليه فما بقي فرسه في دار الحرب يبقى ذلك الاستحقاق وإن لم يكن من القتال عليه@(3/98)
حقيقة لبعده منه .
ألا ترى أنه لو أعاره في المعسكر ثم خرج في سرية راجلاً وبعد من المعسكر كان له سهم الفارس في المصاب وإن لم يرجع إليهم فكذلك ما سبق .
أرأيت لو بدا للمستعير فرجع إلى العسكر قبل أن يخرج إلى دار الإسلام فرد الفرس عليه أما كان له سهم الفرسان فيما أصيب قبل رجوعه وهو فارس في جميع ذلك .
وهذا لأن دار الحرب في حكم موضع واحد فيما يبتني عليه استحقاق الغنيمة ولهذا فهاهنا ما دام فرسه في دار الحرب يجعل في الحكم كأنه حاضر معه بخلاف ما بعد إخراجه إلى دار الإسلام وهو نظير المسجد في حكم صحة الاقتداء بالإمام وإن لم تكن الصفوف متصلة مع الموضع الذي هو خارج المسجد .
ولو عاد المستعير بالفرس إلى المعسكر بعدما خرج إلى دارالإسلام فللمعير سهم الفارس فيما أصيب بعد دخول المستعير دار الحرب كما أن له سهم الفارس فيما أصيب قبل خروج المستعير من دار الحرب .
وأما فيما أصيب بعد خروج المستعير إلى دار الإسلام فله سهم الرجالة خاصة .
للمعنى الذي بينا .
فإذا لم يعلم متى كانت الإصابة وقد علم أن الفرس وصل إلى دار الإسلام فليس للمعير إلا سهم الراجل .
لما بينا أ كل جزء فيه احتمال أن يكون إصابته بعدما حصل الفرس في دار الإسلام فلا يعطي إلا قدر المتيقن به .
وإن قال صاحب الفرس : لم يخرج الفرس من دار الحرب .
وصدقه المستعير في ذلك أو كذبه فالقول قوله لأن سبب استحقاقه معلوم وما يبطله وهو حصول الفرس في دار الإسلام غير معلوم بل هو منكر لذلك فالقول قوله وكما لا يصدق صاحب المقاسم عليه فيما يبطل حقه لا يصدق المستعير إذا كذبه لأن قول المستعير ليس بحجة عليه وإن كان الفرس عنده وبدون الحجة لا يثبت سبب الحرمان .
وأما المستعير فهو يكون فارساً بهذا الفرس في شيء من الغنائم سواء حصل في دار الإسلام أو لم يحصل لأنه@(3/99)
استعاره للركوب لا للقتال عليه فلايكون هو متمكناً من القتال عليه أصلاً .
ولوكان الفرس نفق في يد المستعير فإن كان قبل أن يخرج إلى دار الإسلام فالمعير فارس في الغنائم كلها لأن موته في يد المستعير في دار الحرب كموته في يد المعير ف بالإعارة لا يصير مبطلاً استحقاقه بالفرس .
وإن كان نفق في دار الإسلام فهو فارس في كل غنيمة أصيبت قبل إخراج الفرس إلى دار الإسلام لأن حصول الفرس في دار الإسلام باختياره مانع من استحقاق السهم به غير مبطل لما استحقه قبل ذلك فإنما يكون هو راجلاً فيما يصاب بعد خروجه إلى دار الإسلام .
وإن كان بعدما رده المستعير إلى دار الحرب فهو فارس فيما يصاب بعدما رده إلى دار الحرب .
لزوال المانع .
وموت الفرس في يد المستعير كموته في يد المعير ولو مات بعدما سلمه إلى المعير كان هو فارساً إلا فيا أصيب حال كون الفرس في دار الإسلام فهذا مثله وأما بيان سهم المستعير فنقول : إن يعث رسولاً إلى دار الإسلام فله السهم فيما أصيب قبل خروجه إلى دار الإسلام عاد إلى الحرب أو لم يعد لأنه وإن بعد من العسكرفهو في دار الحرب وإنما ذهب لمنفعة العسكر فيجعل في الحكم كأنه معهم سواء عاد إليهم أو لم يد .
وما أصيب بعدما دخل دار الإسلام فإن عاد هو إلى دار الحرب قبل أن يقتسموا أو يبيعوا فهو شريكهم فيها بمنزلة المدد وإن لم يعد أو عاد بعدما اقتسموها أو باعوها لم@(3/100)
يكن له شركة فيها لأنه بعدما حصل في دار الإسلام التحق هو بمن لم يدخل دار الحرب قبل هذا في الشركة فيما يصاب كيف يكون له الشركة في ذلك وهو عند امرأته وولده في منزله حيث أصيب ذلك .
وإن لم يكن رسولاً فله سهمه فيما أصيب حال كونه مع الجيش أو بالقرب منهم على وجه يمكنه أن يغيثهم لو احتاجا إليه فأما ما أصيب بعدما بعد منهم أو بعدما خرج إلى دار الإسلام فلا سهم له في ذلك إذا لم يعد إليهم لأنه فارقهم لا منفعة ترجع إليهم فيخرج به من أن يكون شاهداً للوقعة معهم حكماً .
كما لو اشتغل بالتجارة وترك القتال .
إلا أن يعود إليهم قبل القسمة والبيع .
فحينئذ يكون هو بمنزلة المدد يشاركهم في جميع ذلك وهكذا كان القياس في الرسول ولكنا استحسنا باعتبار أن الرسول إنما بعد عنهم في أمر اترجع منفعته إليهم وهو نط ر الاستحسان الذيقلنا .
فيما دخل منعه أهل الحرب رسولاً أو مستأمناً إليهم لحاجة نفسه فالفرق الذي ذكرنا هناك هو الفرق بين الفصلين هاهنا .
ولو أودع الغازي فرسه بعض من في منعة أهل الحرب فقد بينا أن يصير مضيعاً فرسه بما صنع فلا يضرب له فيما يصاب بعد ذلك إلا بسهم راجل .
كما لو باع فرسه وإن غنم المسلمون فرسه فردوه عليه قبل القسمة بغير شيء أو باعه الإمام فأخذه من الشمتري بالثمن ثم غنمنوا غنائم بعد ذلك فهو فارس فيما أصيب بعد عود الفرس إليه راجل فيما أصيب قبل ذلك بمنزلة ما لو اشترى فرساً ابتداءً لأنه بما صنع في الابتداء صار مبطلاً استحقاقه حين أزال تمكنه من القتال على الفرس فما لم يعد الفرس إلى يده لا يعود تمكنه من القتال عليه .
ولو كان لو يودع الفرس أحداً ولكنه غنمه المشركون والمسألة بحالها فهو@(3/101)
فارس فيما يصاب بعد ذلك لأنه زال تمكنه باختياره فهو بمنزلة ما لو نفق الفرس في يده وكذلك إن أبى أن يأخذه بالثمن من يد المشتري من العدو فهو فارس حكماً فيما يصاب بعد ذلك لأنه لا يتوصل إلا بالثمن وهو غير مجبر على إعطاء الثمن .
بمنزلة ما لو نفق فرسه فلم يشتر فرساً آخر في دار الحرب مع تمكنه منه ولو أعر فرسه مسلماً ليخرج إلى دار الإسلام وأمره أن يسلمه إلى أهله فأخرجه المستعير ثم ركبه راجعاً إلى دار الحرب فالمعير راجل في كل غنيمة أصيبت والمستعير في دار الإسلام أو بعدما رجع إليهم قبل أن يعود الفرس إلى يده .
أما ما أصيب والفرس في دار الإسلام فقد بينا الحكم فيه .
وأما في المصاب بعد الرجوع فلأن المستعير يستحق سهم الفرسان باعتبار هذا الفرس لأنه مدد التحق بالجيش على فرس مغصوب فإنه بالرد صار غاصباً ضامناً ما لم يسلمه إلى صاحبه .
وإذا كان المستعير فارساً به فالمعير لا يكون فارساً به .
وفيما أصيب بعد ما أخذ المعير فرسه فالمستعير راجل لأن الفرس أخذ منه حق مستحق والمعير فارس لأنه عاد تمكنه من القتال عليه كما لو اشترى فرساً آخر .
ولو لم يرده المستعير إلى دار الحرب حتى ظهر عليه المشركون في دار الإسلام فأحرزوه فالمعير راجل فيما يصاب بعد حصول الفرس في دار الإسلام وبعد إحراز أهل الحرب إياه لأنهم أحرزوه لأنفسهم فلا يعود تمكنهم من القتال عليه .
إلا أن يأخذه المسلمون فيردونه عليه قبل القسمة بغير شيء أو بعد@(3/102)
البيع بالثمن فحينئذ يكون هو فارساً فيما يصاب بعد ذلك لأنه عاد تمكنه من القتال عليه .
كما كان قبل أن يبعث به إلى دار الإسلام ولو كان الغازي خلف فرسه في دار الإسلام ودخل مع الجيش راجلاً ثم أحرز المشركون فرسه بدارهم ثم ظهر المسلمون على الفرس فردوه عليه فهو راجل لأن سبب الاستحقاق انعقد له بالانفصالوهو راجل فلا يتغير بعد ذلك بوصول الفرس إلى يده في دار الحرب .
كما لو اشترى فرساً ابتداء بخلاف الأول فهناك انعقد له السبب وهو فارس ثم اعترض ما نع باختياره فزال به تمكنه من القتال على الفرس فإذا ارتفع ذلك المانع صار كأن لم يكن وكذلك لو أنه دخل راجلاً ثم كتب إلى أهله حتى بعثوا إليه فرسه فهو راجل في جميع الغنائم بمنزلة ما لو اشترى فرساً آخر وهذا لأن التمكن من القتال على الفرس لا يصلح أن يكون مغيراً لما انعقد من السبب ويصلح أن يكون مقرراً له رافعاً للمانع الذي كان يمنع ظهور الحكم بعد انعقاد السبب .
ولو كان دخل فارساً ثم رد فرسه إلى دارالإسلام واشترى فرساً آخر فله سهم الفرسان في جميع الغنائم لأنه كان متمكناً من القتال على الفرس بعدما لنعقد له سبب الاستحقاق .
وإن وقعت المنازعة بينه وبين صاحب المقاسم فقال هو ما وصل فرسي إلى دار الإسلام حتى اشتريت هذا الفرس وقال صاحب المقاسم : لا أدري لعله كان وصل فرسك إلى دار الإسلام قبل أن تشتري هذا الفرس فأصبنا غنائم فالقول فيه قول الغازي مع يمينه لأنه ما لم يصل فرسه إلى دار@(3/103)
الإسلام لا يصير هو في حكم الراجل .
وصاحب المقاسم يدعي عليه شيئاًيصير به في حكم الراجل وهو منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه بمنزلة ما لو باع فرسه واشترى فرساً ثم قال : اشتريت هذا الفرس قبل أن أبيع فرسي أو بادلت بفرسي هذا الفرس فإنه يكون القول قوله مع يمينه لأنه لم يقر بكونه راجلاً في دار الحرب في شيء من الأحوال فهو منكر ما يدعي عليه من سبب الحرمان .
ولو دخل مع العسكر راجلاً فأصابوا غنائم ثم رجع وحده إلى دار الإسلام فركب فرسه وكر إلى العسكر راجعاً فهو فارس في جميع ما أصيب إلا في غنيمة أصيبت قبل خروجه إلى دار الإسلام فإنه راجل في تلك الغنيمة لأنه استحق سهم الرجالة سهم الرجالة في تلك الغنيمة بالدخول الأول فلا يتغير ذلك بالدخول الثاني .
وإن صار هو مدداً للجيش ملتحقاً بهم لأن التحاق المدد بالجيش لا يكون أقوى من القتال وقد بينا أن من له سهم الرجالة في غنيمة فقاتل عليها فارساً لا يستحق سهم الفرسان .
وإذا قاتل فارساً عن غنيمة لا حق له فيها استحق سهم الفرسا فكذلك حكم التحاقه بالجيش .
فإنه لا حق له فيما أصيب بعد خروجه فيستحق بهذا الالتحاق سهم الفرسان في ذلك وفيما أصيب قبل الخروج كان له سهم الرجالة .
فلا يتغير ذلك وعلى هذا الأصل قال : لو دخل معه رجل من المسلمين فارساًفإن لهذا الثاني سهم الفارس في جميع الغنائم لأنه ما كان له حق فيها قبل أن يلتحق بالجيش .
فإذا التحق بهم فارساً استحق سهم الفرسان في جميع ذلك بخلاف الأول على ما قررنا وهذا لأن الأول عاد ليحرز ما هو شريك فيه والثاني جاء ليحرز ما لم يكن له فيه شركة وإنما يصير هو شريكاً الآن ابتداءً فيراعى في صفة الشركة حاله الآن .@(3/104)
ولو أعار الغازي فرسه في دار الحرب مسلماً ليخرج إلى دار الإسلام فيقضي حاجته ثم يرده إليه فلما دخل المستعير دار الإسلام لم يقدر على الرجوع إلى دار الحرب فدفعه إلى غيره ليبلغه صاحبه في دار الحر .
فجاء به الرجل فدفعه إليه فإن كان الذي جاء به بعض من في عيال المستعير فلا ضمان عليه ولا علي الذي جاء به لأن يد من في عياله إلا فيما أصيب حال كون الفرس في دار الإسلام فهذا مثله .
وإن لم يكن المدفوع إليه من عيال المستعير فالمعير راجل في كل ما أصيب بعد خروج الفرس إلى دار الإسلام إلى أن يعود إلى يده لأن الذي جاء به الآن غاصب للفرس فلا تكون يده عليه في دار الحر كيد المعير .
ألا ترى أنه لو نفق الفرس في يد الذي جاء به كان للمعير الخيار إن شاء ضمن المستعير ولا يرجع هو على أحد بشء وإن شاء ضمن الذي جاء به ويرجع هو بما ضمن على المستعير وعلل فقال : لأنه بمنزلة الوديعة له في يده فهذاتنصيص على أنه ليس للمستعير أن يودع .
وإذا فعله صار ضامناً بخلاف الإعارة فإن للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به .
وقد بينا اختلاف المشايخ في هذا الفصل في شرح الجامع الصغير وقررنا الفرق بين الإعارة والإيداع في حق المستعير .
وأما الذي جاء به ليرده على صاحبه فهو راجل في جميع الغنائم وإن كان قصده القتالحين دخل وكان ينبغي أن يكون فارساً باعتبار أنه ضامن للفرس كالغاصب ولكن قال : هو ما أدخل الفرس ليغزوا عليه ولكن أدخله ليرده على صاحبه ولأ نالضمان غير مستقر .
ألا ترى أن يرجع على المستعير إذا ضمنهفكيف يصير هو فارساً بفرس لو لحقه فيه ضمان يرجع به علعلى غيره .
ألا ترى أن من كان راجلاً من الغزاة إذا أودعه@(3/105)
رجل فرساً فأدخله مع نفسه دار الحرب لم يكن هو فارساً به فكذلك هذا .
ولو كان المستعير أعاره هذا الداخل ليقاتل عليه والمسألة بحالها فالداخل فارس في كل غنيمة إلا فيما أصيب قبل خروج الفرس إلى دار الإسلام لأن الداخل الآن ضامن للفرس ضماناً يستقر عليه ولا يرجع به على أحد فيكون في حكم الغاصب وإنما دخل فارساً ليقاتل على الفرس فكان ينبغي على هذا أن يكون فارساً في كل غنيمة إلا أن فيما أصيب قبل حصول الفرس في دار الإسلام للمستعير سهم الفارس بسبب هذا الفرس فلا يستحق الغاصب فيه سهم الفارس أيضاً بهذا الفرس لاستحالة أن يستحق رجلان كل واحد منهما السهم بفرس واحد .
وأما المستعير فلا شيء له في الغنائم إلا فيما أصيب قبل أن يبعد هو من العسكر فإن له في ذلك سهم راجل لأنه كان دخل مع الجيش راجلاً .
وفيما سوى ذلك لا حق له لأنه لم يعد إلى العسكر ولم يشاركهم في الإصابة ولا في الإحراز ولا حكماً .
ولو أراد الأمير أن يرسله رسولاً إلى دار الإسلام في شيء من أمر المسلمين فسأل فارساً أن يعطيه فرسه ففعل ذلك صاحب الفرس طائعاً ثم أصابوا غنائم والفرس في دار الإسلام فالمعير راجل في تلك الغنائم رجع إليه فرسه أو لم يرجع لأنه أزال تمكنه من القتال على الفرس باختياره .
وإن أبى أن يعطيه الفرس ولم يجد الإمام بداً من أن يأخذ الفرس منه فيدفعه إلى الرسول لضرورة جاءت للمسلمين فلا بأس بأن يأخذه منه كرهاً لأنه نصب ناظراً وعند الضرورة يجوز له أن يأخذ مال الغير بشرط الضمان كمن أصابه مخمصة .
ثم المعير يكون فارساً في جميع الغنائم هاهنا لأنه ما زال تمكنه من القتال على الفرس باختياره وإنما أخذ الفرس منه بغير اختياره فلا يصير هو مضيعاً للفرس .
بمنزلة ما لو أخذه المشركون بل أولى لأن هناك لا منفعة للمسلمين في ذلك الأخذ وهاهنا لهم منفعة في ذلك فإذا لم يسقط هناك سهمه وإن زال تمكنه فهاهنا أولى أن لا يسقط سهمه .
والله الموفق .@(3/106)
باب من يرضخ له ومن لا يرضخ له من الأدلاء وغيرهم
وإذا دخل العسكر دار الحرب ومعهم قوم من أهل الذمة يدلونهم على الطريق ولا يقاتلون معهم فإنه ينبغي للإمام أن يرضخ لهم م الغنيمة ولا يسهم له كسهام الخيل .
ولا كسهام الرجالة لأنهم غير مجاهدين حكماً .
ولا مقاتلين مع المسلمين حساً ولكنهم جاءوا لأمر فيه منفعة للمسلمين وهو الدلالة على الطريق فيرضخ لهم من مال المسلمين بحسب عملهم ليرغبوا في مثله في كل وقت حتى إذا كانت في دلالتهم منفعة عظيمة للمسلمين فلا بأس بأن يرضخ لهم على قدر ما يرى وإن كان أكثر من سهام الفرسان والرجالة لأن سبب استحقاقهم هاهنا ليس من جنس السبب في حق المقاتلين ولكنه منفعة أخرى فإنما يرضخ لهم بحسب ما يكون من المنفعة بدلالتهم .
وإن كان جعل لهم على الدلالة نفلاً مسمى من الغنيمة فلا بأس بذلك أيضاً لأن التنفيل في الأصل للتحريض على ما فيه منفعة للمسلمين .
فإن أصابوا غنائم بدأ بنفلهم قبل القسمة لأن النفل في الغنائم كالوصية في التركة يبدأ بها قبل الميراث .
وإن لم يصيبوا شيئاً إلا قدر النفل فذلك سالم لهم لأنه مقدم في جميع الغنيمة بمنزلة الدين في التركة .
وإن لم يصيبوا شيئاً أصلاً فلا شيء لهم لانعدام حقهم كما لا شي للغريم@(3/107)
والموصى له إذا لم توجد التركة أصلاً .
فإن خرجوا في غزاة أخرى وسموا لهم أيضاً نفلاً على الدلالة وأصابوا غنائم أعطوهم من ذلك النفل الآخر دون الأول لأن استحقاقهم بالتسمية الثانية فأما الأولى فقد بطلت الغنائم لانعدام محلها حين رجعوا قبل أن يصيبوا شيئاً .
إلا أن يصيبوا شيئاً .
إلا أن يكونوا شرطوا لهم أن يعطوهم مما يغنمون النفل الأول والثاني فحينئذ يجب الوفاء بذلك لأن في هذا الشرط تنصيصاً على تسمية الكل فيستحقون جميع ذلك بهذه التسمية .
كما لو لم يكن الأول .
وفيما يستحقه الذمي والحربي والمستأمن بطريق التنفيل على الدلالة لا فرق بين أن يذهب معهم وبين أن يدلهم بخبره من غير أن يذهب معهم إذا وجدوا الأمر على ما قال لأنه سمى ذلك على الدلالة والدلالة بالخبر تتحقق .
إلا أنه إذا لم يذهب معهم فليس ينبغي للإمام أن يعطيهم رضخاً ولا نفلاً مما أصيب قبل دلالته لأنه لا نفل مما أصيب من الغنائم قبل التنفيل وإنما يجوز إعطاء الأجر من ذلك وبالدلالة بالخبر من غير ذهاب لا يستحق الأجر .
فإن رضي المسلمون بأن يعطيه ذلك أعطاه من أنصبائهم دون الخمس لأن رضاهم يعتبر في حقهم لا في حق أرباب الخمس .
وإن استأجره الإمام على أن يدله على موضع كذا فدله بخبره ولم يذهب معه فلا أجر له لما بينا أن استحقاق الأجر بالعمل لا بمجرد الكلام وهو لم يعمل للمسلمين شيئاً إنما أخبرهم بخبر .
فإن أصابوا غنائم في ذلك المكان فرأى الإمام أن يرضخ له للدلالة فلا بأس بذلك بمنزلة ما لو دل عليه من غير اشتراط الأجر وقد بينا أن هناك للإمام أن يرضخ له مما أصاب بدلالته قدر ما يرى@(3/108)
فهذا مثله .
فإن كان الإمام قال له : اذهب معنا إلى موضع كذا ولك من الأجر كذا فذهب معهم فله الأجر المسمى لأنه وفى بالعمل المشروط عليه .
ثم يعطيه الإمام أجره مما أصابوا بعد دلالته أو قبل دلالته بخلاف النفل والرضخ فإن الاستحقاق هاهنا بعقد لازم وهو عقد الإجارة فلا يختص به بعض المصاب دون البعض كما لو استأجر قوماً لسوق الغنم والرمك .
فأما استحقاق الرضخ والنفل باعتبار منفعة المسلمين فيتعين له المصاب بدلالته وعمله لأن ذلك منفعة عمله .
وإن لم يصيبوا شيئاً من الغنائم فإنه ينبغي للإمام أن يعطي الأجير أجره من بيت المال لأنه في هذا الاستئجار كان ناظراً للمسلمين وهو لا يلحقه العهدة فيما يباشر من العقود للمسلمين ولكنه يرجع به في مال المسلمين وهو مال بيت المال .
ولو استأجر مسلماً أو ذمياً أو حربياً ليدخل معهم دار الحرب فيدلهم على الطريق فقد بينا أن الإجارة فاسدة على هذا بخلاف التنفيل لأن في الإجارة لا بد من بيان مقدار المعقود عليه وإذا لم يسم له مكاناً فالمعقود عليه لم يصر معلوماً وفي التنفيل لا حاجة إلى إعلام المقدار فيما سمى النفل للتحريض عليه .
ثم إذا ذهب معهم على الإجارة الفاسدة فلا سهم له في الغنيمة وإن كان مسلماً لأنه لم يدخل على قصد القتال .
ولكن له أجر مثله لا يجاوز به ما سمي لأنه أقام العمل المشروط عليه وقد وجد منه الرضى بالمسمى فلا يزاد على ذلك وإن مثله أكثر منه .
ولو أن الأجير من أهل الذمة أو المستأمنين لم يدلهم على الموضع الذي طلبوا منه ولكن هجم بهم على العدو فلا أجر له .
سواء ذهب معهم أو لم يذهب لأنه ما أتى بالعمل المشروط عليه .
وليس للإمام أن يقتله وإن تعمد ذلك لأن المسلم لو فعل هذا لم يكن به ناقضاً لإيمانه فكذلك إذا فعله صاحب العهد لا يصير ناقضاً لأمانه .
ولكن للإمام@(3/109)
أن يؤدبه بقدر ما يرى إن رأى أنه كما يؤدب المسلم على مثله لأنه قصد إلحاق الضرر بالمسلمين .
إلا أن يكون الحربي المستأمن إنما أمنوه على شرط ذلك فحينئذ للإمام أن يقتله لا باعتبار أنه ناقض للأمان ولكن لأن الأمان كان معلقاً بالشروط فيكون معدوماً قبل الشرط .
وإن جعل الإمام للدليل نفلاً من غنيمة وقد أصابها المسلمون على أن يذهب معه إلى موضع كذا حتى يدله ففعل ذلك فلا بأس بأن يعطيه ذلك بغير رضى المسلمين لأن هذا بمنزلة الإجازة وقد استأجره على عمل معلوم ببدل معلوم فيعطيه ذلك من الغنيمة لأنه استأجر لمنفعة المسلمين .
ولو دله بخير ولم يذهب معه فليس له أن يعطيه فيما أصيب قبل الدلالة شيئاً إلا برضى المسلمين وعند وجود الرضى يعطيه ذلك من أنصبائهم دون الخمس لأنه لا يستحق الأجر إلا على مجرد الخبر من غير أن يذهب معهم .
ولو بعث الأمير بشيراً إلى الخليفة ليخبره بما صنع بالعدو بعدما أصابوا الغنائم فليس له أن يعطي البشير إلا سهمه من الغنيمة فارساً كان أم راجلاً لأن الغنيمة قد صارت مستحقة للغانمين فلا ينبغي للإمام أن يعطي منها أحداً شيئاً بغير رضى المسلمين .
والأصل فيه حديث الكبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل : " أما نصيبي منها فهو لك " فحين تحرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجعل له الكبة من الشعر مع حاجته إلى ذلك وسؤاله إياه وكان لا يمنع أحداً شيئاً سأله عرفنا أن ذلك لا يجووز لأحد بغده إلا أن البشير إن كان محتاجاً فلا بأس لإمام أن يعطيه من الخمس شيئاً لحاجته لأن الخمس مصروف إلى المحتاجين وهو محتاج .
وقد كان يجوز له أن يدفعه من غير أن يرسله بشيراً فبعد إرساله أولى .
فإن رضي المسلمون بما يعطي الإمام البشراء فإن كانوا أهل حاجة فلا بأس بأن يعطيهم ذلك من جميع الغنيمة وإن كانوا أغنياء أعطاهم ذلك من الأربعة الأخماس دون الخمس لأن رضاهم إنما يعتبر في نصيبهم دون الخمس .
وإن كانوا محتاجين فقد كان له أن يعطيهم من الخمس بغير رضا الغانمين ورضاهم معتبر في نصيبهم أيضاً فإذا قدم البشراء على الخليفة فرأى أن يعطيهم جائزة من بيت المال على @(3/110)
وجه النظر والاجتهاد فلا بأس بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيز الرسل والوفود الذين ينزلون عليه .
وهذا لأن بيت المال معد لنوائب المسلمين والصرف إلى ما فيه منفعة المسلمين بخلاف الغنيمة فإنها مستحقة للغانمين .
ألا ترى أنه يقسم الغنائم بين الغانمين ولا يقسم نال بيت المال بين الأغنياء من المسلمين ولكنه يعده لنوائب المسلمين .
وكذلك لو أتى أمير العسكر رسول من ملك الحرب فليس ينبغي أن يجيزه بشيء من الغنيمة إلا برضى المسلمين لأنه إذا لم يجز له أن يخص بعض المسلمين بشيء منها فلأن لا يجوز له أن يخص حربياً بذلك كان أولى .
فإن رضي المسلمون بذلك أجازه من أنصبائهم دون الخمس لأنه لا حق للحربي في الخمس ورضاهم إنما يعتبر في نصيبهم خاصة .
فإن أجاز الأمير البشراء والرسل من الغنيمة على وجه الاجتهاد ثم رفع ذلك إلى قاض من قضاة المسلمين فإنه ينفذ ما صنع وإن كان رأيه مخالفاً لذلك لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء وقد أمضاه باجتهاده فلا يبطله حد بعد ذلك وقد قررنا هذا في التنفيل بعد الإصابة .
واستدل عليه أيضاً بما لو جعل الأمير للمقاتلين من أسلاب القتلى من غير تنفيل ثم رفع ذلك إلى من يرى خلاف رأيه فإنه لا يبطل شيئاً مما فعله لأنه أمضى باجتهاده فصلاً مختلفاً فيه .
ألا ترى أنه فيما هو أهم من ذلك وهو حرمة الفرج ينفذ قضاء القاضي باجتهاده فليس لأحد أن يبطله بعد ذلك وإن كان مخالفاً لرأيه حتى إذا قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة فإن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - قالا : يقع به تطليقه رجعية .
وقال علي - رضي الله عنه - : ثلاث تطليقات .
فإن قضى قاض بأحد القضاءين ثم رفع إلى من يرى خلاف ذلك لم يبطل قضاؤه لأنه حصل في محل مختلف فيه وإبطال القضاء في المجتهدات يكون قضاء بخلاف الإجماع فيكون باطلاً وإذا ثبت هذا في تحريم الفرج مع كونه مبنياً على الاستقصاء ثبت في النفل بطريق الأولى والله أعلم .@(3/111)
باب كيفية قسمة الغنيمة وبيان من يستحقها
ممن جاء بعد الإصابة وإذا وقع القتال في دار الإسلام بين المسلمين وأهل الحرب فالغنيمة لمن شهد الوقعة ولا شيء لمن جاء بعد الفراغ من القتال لأن بنفس الإصابة تصير محرزة بدار الإسلام فمن يلحق بعد ذلك مدداً فهو لم يشارك الجيش في الإصابة ولا في الإحراز .
وكذلك لو فتح المسلمون أرضاً من أرض العدو حتى صارت في أيديهم وهرب أهلها عنها لأنها صارت دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها فتصير الغنائم محرزة بدار الإسلام قبل لحوق المدد .
وكذلك لو أصابوا غنائم فأخرجوها إلى دار الإسلام ثم لحقهم مدد لأن بالإحراز باليد قد تأكد حقهم فيها .
ولهذا لو مات بعضهم كان نصيبهم ميراثاً .
فأما إذا أصابوا الغنائم في دار الحرب ثم لحقهم مدد قبل الإحراز وقبل القسمة والبيع فإنهم يشاركونهم في المصاب عندنا لأن الحق لا يتأكد بنفس الأخذ فإن سبب ثبوت الحق القهر وهو موجود من وجه دون وجه لأنهم قاهرون يداً مقهورون داراً .
ألا ترى أنهم لا يتمكنون من القرار في تلك البقعة وتصييرها دار الإسلام فإنما تم السبب بقوة المدد وكانوا شركاءهم ولهذا قلنا من مات منهم في هذه الحالة لا يورث نصيبه وهو قول علي - رضي الله عنه - لأن الإرث في@(3/112)
المتروك بعد الوفاة والحق الضعيف لا يبقى بعد موته ليكون متروكاً عنه .
وعلى قول عمر - رضي الله عنه - يورث نصيبه لأن وارثه يخلفه فيما كان حقاً مستحقاً له ثم استدل على هذه الجملة بالآثار منها : ما روى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث عكرمة بن أبي جهل في خمسمائة نفر مدداً لأبي أمية وزياد بن لبيد البياضي فأدركوهم حين افتتحوا النجير فأشركهم في الغنيمة وبه يستدل من يقول من أهل الشام إن للمدد شركة وإن أدركوهم بعد الفتح .
ولكنا نقول : النجير هذا اسم قرية وهي كانت تابعة للبلدة فما لم تفتح البلدة لا تصير القرية دار الإسلام أو يحتمل أنهم أدركوا على أثر الفتح قبل إظهار حكم الإسلام فيها .
وفي مثل هذا تثبيت الشركة عندنا فأما بعد تمام الفتح فلا على ما روى عن طارق بن شهاب قال : لما فتحت ماه دينار أمد أهل الكوفة بأناس عليهم عمار .
فأراد أن يشاركوهم في الغنيمة .
فقال رجل من بني عطارد : أيها العبد الأجدع ! أتريد أن تشاركنا في غنائمنا فقال : خير أذني سبب وإنما قال ذلك لأن إحدى أذنيه قطعت في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر : إن الغنيمة بين من شهد الوقعة وإنما قال ذلك لأن ماه دينار صارت دار الإسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها .
ألا ترى إلى ما روى أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد بن أبي وقاص : من وافاك من الجند ما لم تتفقأ القتلى فأشركة في الغنيمة أي ما لم يتشقق القتلى بتطاول الزمان أو معناه ما لم يتميز قتلى المشركين من قتلى المسلمين بالدفن وفي بعض الروايات ما لم تتقفا القتلى أي تجعلهم على قفاك بالانصراف إلى@(3/113)
دار الإسلام والأشهر هو الأول فإن الفقأ عبارة تفقأ فوقه القلع السواري وجن الخازباز به جنونا وذكر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لجعفر بن علي بن أبي طالب ولمن معه من أهل السفينتين والدوسيين فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو مع سهمان أهل خيبر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم المسلمين في حقوقهم أن يدخلوهم فسلوا فأسهم لهم هكذا روي مفسراً وفي هذا بيان أن من لحق بعد الفتح لم يكن له شركة لأنه لو كان شريكاً ما احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يسترضي المسلمين إلى أن يسهم لهم .
وروي أن أبان بن سعيد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية من المدينة قبل نجد فقدموا عليه بخيبر بعد الفتح فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله فقال : " اجلس يا أبان " .
ولم يقسم لهم ففي هذا دليل على أن من أدرك بعد الفتح لم يكن له شرطة إلا أ يكون رسولاً بعثه الإمام في بعض حوائج أهل العسكر وقد بينا أنه في الحكم كالحاضر معهم .
وقد روي أنه أسهم لمحيصة وأصحابه من غنائم خيبر لأنه كان أرسلهم إلى فدك حين كان محاصراً أهل خيبر فرجعوا إليه بعد الفتح فأسهم.@(3/114)
لهم في الشق والنطاة وأطعمهم طعمة سوى ذلك من الخمس في الكتيبة جارية عليهم .
وقيل في ذلك تأويل آخر وهو أن غنائم أهل خيبر كانت عدة من الله تعالى لأهل الحديبية كما قال الله تعالى : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } فكل من كان من أهل الحديبية أسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم خيبر من شهد فتحها ومن لم يشهد وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - من غنائم بدر وكان تخلف بالمدينة على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ليمرضها .
وأسهم لطلحة بن عبيد الله ولسعيد بن زيد وكان بعثهما نحو الشام يتجسسان أخبار عير قريش وأسهم لخمسة من الأنصار - وقد سماهم في الكتاب - وقد كان ردهم إلى المدينة لخبر بلغه عن المنافقين وفي تأويل ذلك وجوه أحدها : أن المدينة يومئذ ما كان لها حكم دار الإسلام بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها لكثرة اليهود والمنافقين بها فكانوا جميعاً في دار الحرب مشغولين بما فيه منفعة للمسلمين وبما فيه فراغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إن غنائم بدر كان الأمر فيها مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من يشاء ويحرم من شاء كما قال - تعالى - : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ }
فلهذا أسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر أن المنهزمين يوم حنين قد كانوا بلغوا إلى مكة ثم جاءت النصرة فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم وأن حرب حنين كان بعد فتح مكة فقد وصلوا إلى دار الإسلام ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم فبهذا تبين أن للمدد شركة مع الجيش إذا أدركوا قبل إحراز@(3/115)
الغنيمة بدار الإسلام .
قال : ولا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم ولا يبيعها حتى يخرجها إلى دار الإسلام لأن بالقسمة تنقطع الشركة في حق المدد فيكون فيها تقليل رغبة المدد في اللحوق بالجيش وفيها تعريض المسلمين لوقوع الدبرة عليهم بأن يتفرقوا ويشتغل كل واحد منهم بحمل نصيبه فيكون عليهم العدو ثم القسمة والبيع تصرف والتصرف إنما يكون بعد تأكد الحق بتمام السبب وذلك لا يكون إلا بعد الإحراز بالدار .
وإن قسمها في دار الحرب جاز لأنه أمضى فصلاً مختلفاً فيه باجتهاده .
ثم استدل بحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بالمدينة مع غنائم أهل نخلة وكانت تلك غنيمة أصيبت قبل بدر فوقفها رسول الله صلى عليه وسلم ومضى إلى بدر ثم رجع فقسم الغنيمتين بالمدينة جملة وفي رواية قال : قسمها بسبر وهي شعب بمضيق الصفراء فإن كانت القسمة بالمدينة فهو دليل ظاهر لما قلنا .
وإن كانت بسبر فقد بينا أن دار الإسلام يومئذ كان الموضع الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
لأنه ما كان للمسلمين يومئذ منعة سوى ذلك .
فأما غنائم خبير فإنه لم يقسمها حتى أتى الجعرانة .
وروي أنهم طالبوه بالقسمة حتى ألجثوه إلى سمرة فتعلق بها رادؤه ثم جذبوا رادءه فتخرق فقال : اتركوا إلى ردائي فوالله لو كانت هذه العضاة إبلا وبقراً وغنماً لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني جباناً ولا بخيلاً .
فقد أخر القسمة مع كثرة سؤالهم حتى انتهى إلى دار الإسلام فإن جعرانة قرية من قرى مكة وقد صارت مفتوحة بفتح مكة ففي هذا بيان@(3/116)
أنها لا تقسم في دار الحرب .
ثم بين أن : من شهد الوقعة فهو شريك في الغنيمة قاتل أو لم يقاتل مريضاً كان أو صحيحاً والأصل فيه حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ! أرأيت الرجل يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه وترزقون إلا بضعفائكم ! .
ونظير هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن ربه : " لولا الصبيان الرضع والشيوخ الركع لصببت عليكم العذاب صباً " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أطيب كسب المؤمن سهمه في سبيل الله - تعالى - وصفقة يده وما تعطيه الأرض في هذا دليل على أنه ينبغي للغازي أن يظهر الرغبة في سهمه غنياً كان أو فقيراً قل سهمه أو كثر فإنه أطيب كسبه على معنى أنه مصاب بطريق فيه إعلاء كلمة الله - تعالى - وإعزاز الدين وذلك أشرف جهات إصابة المال والمراد بصفقة يده التجارة ولكنها بشرط أداء الأمانة ومراعاة حدود الشرع وما تعطيه الأرض المراد الزراعة فهي تجارة على ما قال عليه السلام : " الزارع يتاجر ربه " .
وإذا أراد الإمام قسمة الغنائم ينبغي أن يجعل عليها رجلاً من المسلمين عدلاً وصياً عالماً بالأمور مجرباً لها فإذا ميز الخمس جعل على الخمس أيضاً رجلاً أميناً حافظاً كاتباً عالماً لأنه يعجز بنفسه على مباشرة القسمة لكثرة أشغاله فيستعين بغيره ويختار لذلك من يكون أقدر على ما هو مقصود من الحفظ والقسمة وذلك بأن يكون مستجمعاً للشرائط التي قالها .@(3/117)
والأصل فيه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل محمية ابن جزء الزبيدي على خمس بني المصطلق وكانت تجمع إليه الأخماس وكانت الصدقات على حدة لها أهل وللفيء أهل وكان يعطي من الصدقة اليتيم والضعيف والمسكين .
فإذا احتلم اليتيم وجب عليه الجهاد نقل إلى الفيء وإن كره الجهاد لم يعط من الصدقة شيئاً وأمر بأن يكسب لنفسه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع سائلاً شيئاً فأتاه رجلان يسألانه عن خمس بني المصطلق فقال : إن شئتما أعطيتكما منه ولاحظ فيه لغني ولا لقوي مكتسب .
ثم روي أن عبيدة السلماني كان يقسم أعطيات قومه ففضل بين رجلين درهم فقال : اقترعا أيكما يأخذه .
فقام إليه رجل فساره .
فقال : أتأمرهما أيهما يذهب بنصيب صاحبه .
فقال : اذهبا فاشتريا وبه شيئاً بينكما فاقتسما .
وبه نقول أنه لا يجوز الإقراع في تعيين المستحق وأن المشترك إذا كان بحيث لا يحتمل القسمة بنفسه فإما أن يمسكه الشريكان مشتركاً بينهما نصفان أو يشتريا به شيئاً به فيقسمانه نصفين وكذلك إذا لم يعلم أنه لأيهما فإنه يجعل بينهما نصفين لاستوائهما في سبب الاستحقاق .
وذكر عن الأحنف بن قيس قال : كنا بباب عمر - رضي الله عنه - فمرت جارية فتخشخش لها القوم أي تحركوا وأوسعوا لها .
فقالوا : لعلها من أمهات أولاد أمير المؤمنين .
فقالت : إني لا أحل لأمير إني من خمس مال الله - تعالى - .
فقلنا فيما بيننا : ما يحل لأمير المؤمنين من مال الله - تعالى - الحديث إلى أن .@(3/118)
قال عمر - رضي الله عنه - : إني أستحل من مال الله - تعالى - حلتين حلة بالشتاء وحلة بالصيف وظهري الذي أحج عليه وأعتمر .
وقوت أهلي وقوتي قوت أهل رجل من قريش ولا وكس ولا شطط ثم أنا شريك المسلمين بعد ففي هذا دليل على أن الإمام إنما يأخذ مقدار الكفاية من مال المسلمين ثم هو يساويهم فيما سوى ذلك .
لأنه بمنزلة الوصي في مال اليتيم وقال - تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ } هاشم وبني عبد المطلب حتى كلمه عثمان بن عفان وجبير بن مطعم .
وقد بينا تمام ذلك في السير الصغير والذي زاد هاهنا .
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما : إن بني عبد المطلب وبنو هاشم شيء واحد ففي هذا تنصيص على أن المراد قرب النصرة بالانضمام إليه في حال ما هجره الناس لأقر بالقرابة .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار جبريل عليه السلام في ذلك فأشار عليه أن يقسمه بين بني هاشم وبين بني المطلب .
وذكر عن مجاهد قال : كان خمس الخمس لذوي القربى لأنهم كانوا لا يأكلون الصدقة .
والأول أصح لأن حرمة الصدقة عليهم كان بطريق الإكرام لهم فما كانوا يحتاجون إلى عوض ذلك ثم حرمة الصدقة في حق بني هاشم خاصة .
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب أيضاً فعرفنا أن السبب قرب النصرة لما بيناه والله أعلم .@(3/119)
باب ما يستعمل في دار الحرب ويؤكل ويشرب
وإن أصاب المسلمون غنائم في دار الحرب فليس ينبغي لواحد منهم أن ينتفع من ذلك بشيء إلا المأكول والمشروب لهم ولدوابهم ولا بأس بأن يذبحوا البقر والغنم ليأكلوا بغير خمس لأن حاجتهم إلى الطعام والعلف حاجة ماسة ولا يمكنهم أن يستصبحوا ذلك من دار الإسلام ولا يجدونها في دار الحرب بشراء وما يأخذون يكون غنيمة .
فلأجل الحاجة يصير ذلك مستثنى من شركة الغنيمة فيبقى على أصل الإباحة كما كان قبل الإصابة .
وهو نظير شركة المفاوضة فإنه يستثنى منها ما يشتري كل واحد منهما من الطعام والكسوة لنفسه وعياله حتى يختص بذلك العلم بوقوع الحاجة إلى ذلك في مدة الشركة .
والأصل فيه حديث عمر - رضي الله عنه - حيث كتب إلى عاماه جواب كتابه أن دع الناس يأكلوا ويعلفوا فمن باع شيئاً من ذلك فقد وجب فيه خمس الله وسهام المسلمين وروي هذا المعنى أيضاً عن فضالة بن عبيد وبه نأخذ .
فنقول : إنما يباح التناول من ذلك للحاجة دون التجارة فما يدخل تحت التجارة بالبيع يكون بدله كسائر الغنائم فلا ينبغي لأحد أن يخص نفسه بذلك .
وذكر حديث سلمان حين أتاه غلامه بسلة يوم نهاوند .
فقال : هاتها فإن كان مالاً دفعناه إلى هؤلاء وإن كان طعاماً أكلناه فإذا فيها أرغفة حواري وجبنة وسيكن فجعل سلمان @(3/120)
.
يطرح لأصحابه من ذلك الخبز ويقطع لهم من جبنه فيأكلون ويخبرهم كيف يصنع الجبن ثم ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه رخص في الأكل وقال : فإن خرجوا بشيء منه تصدقوا به والمراد إنما يتصدقون إذا قسمت الغنائم فأما قبل القسمة فيرد ذلك في المغنم لأن قبل القسمة يتيسر إيصاله إلى مستحقه بالإلقاء في الغنيمة وبعد القسمة يتعذر ذلك فيكون سبيله التصدق به كاللقطة .
إلا أن يكون محتاجاً فيأكله وإن أكله وهو غني تصدق بقيمته كما هو الحكم في اللقطة .
وقد روى ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنه - .
وذكر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى اله عليه وسلم قال يوم خيبر : " ردوا الخيط والمخيط .
وكلوا واعلفوا ولا تحملوا " ففيه دليل على أن ما سوى المأكول والمشوب يكون غنيمة لا يحل لأحد أن يختص بشيء منه فأما المأكول والمشروب فمستثنى في حكم الأكل خاصة لا في حكم الحمل والتصرف فيه ولهذا قال سليمان بن يسار : بيع الطعام إذا خرج من أرض العدو من الغلول وكذلك بيعه في أرض العدو من الغلول إن لم يرد ثمنه في الغنيمة .
وذكر عن ابن أبي أوفى قال : لم يخمس الطعام يوخيبر وكان الرجل يأخذ منه ما شاء ففي هذا دليل أنه مستثنى من أصل شركة الغنيمة حتى لا يجب فيه الخمس ويستوي في ذلك ما يكثر وجوده في ذلك الموضع وما يعز وجوده فيه بخلاف ما يقوله بعض أهل الشام أن هذه الإباحة تختص بطعام يكون في ذلك الموضع واعتمادنا فيه على حديث مكحول : أن رجلاً نحر جزوراً بأرض الروم ثم نادى في الناس : هلموا إلى هذا اللحم فخذوا منه فقال مكحول لرجل من غسان : ألا تقوم فتأتينا من لحم هذا الجزور فقال : إنها نهبى أي لم@(3/121)
تخمس فقال مكحول : إنه لا نهبى في المأذون فيه .
ومعلوم أن الإبل مما لايكون بأرض الروم وقد جوز نحورها والأكل منها فدل أن الأكل في ذلك سواء .
وعن مكحول قال : كل ما حمل من أرض العدو مما لا قيمة له هناك فحمله في حاجة نفسه فهو له .
وهذا عندنا صحيح فيما لا قيمة له في دارنا أيضاً .
فعليه أن يرده في الغنيمة لأن بمجرد النقل من مكان إلى مكان لم تتبدل العين وإنما تمكن من إخراجه بقوة المسلمين فهو من جملة الغنائم .
وكأن مكحولاًَ جعل النقل محدثاً صفة التقوم فيه بمنزبة الصنعة حتى قال : فا اقتطعت من شجر العدو فعلمته قدحاً أو مزرية أو مزادة فلا بأس به وما وجدت من ذلك معمولاً فرده في الغنيمة وبهذا نأخذ .
فإن المعمول مال متقوم بصنعته وقبل العمل لا يكون مالاً متقوماً فإذا صيره مالاً متقوماً بصنعته فهو لهخاصة بمنزلة من اتخذ الكوز من تراب غيره لكنا نفرق بين الصنعة والنقل لأن بالصنعة تتبدل العين فيكون المتقوم شيئاً آخر هو حادث بصنعته فأما بالنفل فلا تتبدل العين .
ثم روي أن الرسول صلى اله عليه وسلم قال : " إياكم وربا الغلول " .
وفس ذلك بأن يركب دابة من الفيء حتى إذا أعجفها ردها في المغنم أو يلبس ثوباً حتى إذا خلق رده في المغنم أو ينكح الجارية قبل أن تحيض وبهذا نأخذ .
فإن ليس له أن يختص بشيء من هذه الأعيان قبل القسمة فكذلك بمنافعها .
وبالجزء الذي يفوت من عينها لتمكن النقصان باستعماله .
وذكر عن أبي الدرداء قال : لا بأس بما أصابت السرية من الطعام أن يرجعوا به إلى أهلهم فأكلون ويهدون ما لم يبيعوا فكأنه جعل الإهداء من جملة الحاجة كالأكل ولسنا نأخذ بهذا فإن الأكل من أصول الحوائج تتحقق فيه الضرورة والإهداء ليس من أصول الحوائج فهو كسائر التصرفات .
وذكر أن البراء بن مالك أخذ سيفاً مما أصابوا يوم الزارة وقاتل به وبه نأخذ عند الحاجة بأن ينكسر سلاحه فأما إذا أراد الإبقاء على سلاحه@(3/122)
والقتال بسلاح أخذه من العدو فهو من ربا الغلول لأن ما أخذه يكون غنيمة ولكن عند الضرورة لا بأس بأن يستعمله عند الضرورة في القتال .
ألا ترى أنه لو ضربه المشرك بسيف أخذه من يدهه وضربه به لم يكن به بأس قال : ولا بأس بأ يوقح دابته ويدهن رأسه من المغنم وإنما أراد أن يفعل ذلك بما يؤكل من الزيت والسمن فإن له أن يختص بذلك العين أكلاً فكذلك له أن يختص به انتفاعاً بوجه أخر .
فأما سوى ذلك من الأدهان كالبنفسج والزنبق والخيري فليس له أن يدهن بشيء من ذلك لأن هذا مما لا يؤكل .
ألا ترى أنه لو وجد غالية أو باناً لم يكن له أن يستعمل هذا لأن هذا مما لا يؤكل وأما الزيت ونحوه فلا بأس بأن يأكله أويستصبح به في السراج فكذلك لا بأس بأن يدهن به .
وذكر أن رجلاً من المسلمين وجد يوم خبير دراهم في خربة فأخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وبهذا نأخذ فإن واحداً من الغانمين إذا وجد في دار الحرب راكازاً أو معدناً فهو غنيمة لأنه ما توصل إلى ذلك المكان واستخراج ذلك المال إلا بقوة المسلمين .
فإن نهى الإمام الجيش أن يأكلوا من البقر أو الغنم أو غيرهما وأقسم عليهم أن لا يفعلوا ذلك حتى يقسم فعلتهم طاعته ولا يحل لهم أن يتعرضوا لشيء منه لأن الإمام مجتهد فيما يأخذ عليهم الميثاق به وبتنصيصه ينعدم معنى الاستثناء في هذا المال من شركة الغنيمة فيكون حكمه كحكم سائر الغنائم .
إلا أنه ينبغي للإمام أن ينظر لهم فإذا عرف حاجتهم إلى ذلك أخذ منه الخمس وقسم ما بقي ليتناول كل واحد منهم من نصيبه فإن الحاجة إلى ذلك قد تحققت وعند الضرورة تجوز القسمة في دار الحرب والله أعلم .@(3/123)
قال : الإمام بالخيار في الرجال من أسارى المشركين بين أن يقتلهم وبين أن يخمسهم ويقسم بين من أصابهم وكان الحسن - رضي الله عنه - يكره قتل الأسير إلا في الحرب ليهيب به العدو وحماد بن أبي سليمان - رحمه اتلله - كان يكره قتل الأسير بعدما وضعت الحرب أوزارها .
وجه قولهما إن إباحة القتل لدفع محاربتهم .
قال الله - تعالى - : { فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وقد اندفع ذلك بالأسر وانقضاء الحرب فليس في القتل بعد ذلك إلا إبطال حق المسلمين بعدما ثبت في رقابهم حق لا يجوز .
واستدلوا على ذلك بما روي أن عبد الله بن عامر بعث إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - بأسير ليقتله فقال : أما والله مصرواً فلا أقتله .
يعني بعدما شددتموه وأسرتموه فلا أقتله وقال الله - تعالى - : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } وإنما أمرنا بالقتال إلى غاية الأسر ثم جعل الحكم بعد ذلك المن أو الفداء .
ودليلنا على جواز القتل بعد الأسر قصة بني قريظة .
فقد قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأسر وبعدما وضعت الحرب أوزارها وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بالأثيل وكان من أساري بدر@(3/124)
وقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معبد بن وهب وقد كان أسره أو بردة ابن نيار يوم بدر فسمعه يقول : يا عمر ! أتحسبون أنكم غلبتم ! كلا واللآت والعزى .
فقال : أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبي بردة وضرب عنقه ولأن الأمن عن القتل إنما يثبت بالأمان أو بالإيمان وبالأسر لا يثبت شيء من ذلك فبقي مباح الدم علي ما كان قبل الأسر وهو بالأسر لم يخرج من أن يكون محارباً ولكنه عجز عن المحاربة لكونه مقهوراً في أيدينا مع قيام السبب الذي يحمله على ذلك وهو المخالفة في الدين .
فيجوز قتله كالمرتد المقهور في أيدينا وقوله - تعالى - : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } منسوخ .
هكذا نقل عن السدي أنه نسخه قوله - تعالى - : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }
وتأويل حديث ابن عمر أنه كره قتله مشدود اليدين لا أن يقال : تحرز عن قتله يعدما أسر ونحن هكذا نقول : الأولى أن لا يقتل مشدود اليدين إذا كان لا يخاف أن يهرب أو يقتل بعض المسلمين ثم يستوي في ذلك ما بعد الإحراز بدار الإسلام وما قبله لانعدام السبب الموجب لحرمه دمائهم .
فإن الحق لا يتأكد للمسلمين في الأساري بعد الإحراز بالدار ألا ترى أن للإمام أن يجعلهم أحرار الأصل بأن يمن عليهم برقابهم وأراضيهم ويضع الجزية عليهم والخراج على أراضيهم كما فعل عمر - رضي اللهعنه - بالسواد .
وإذا لم يتأكد الحق فيهم كان الحكم فيهم بعد الإحراز كالحكم قبله والإمام ناظر للمسلمين فإن رأى الصواب في قسمتهم قسمهم وإن رأى الصواب في قتلهم لدفع فتنتهم .
قال الله - تعالى - :@(3/125)
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ومن أسلم منهم حرم قتله لقوله - تعالى - : { فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }
وقد خرج بالإسلام من أن يكون ظالماً وقال عليه السلام : فإذا قالها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم ولكنه يقسم بين المسلمين لأن الإسلام يؤمنه من القتل ولكن لا يبطل الحق الثابت فيه للمسلمين وقد كان الإمام مخيراً بين القتل والقسمة فإذا تعذر أحدهما بالإسلام تعين الآخر .
وأيما مسلم قتل أسيراً قبل أن يسلم أو يباع أو يقسم فلا شيء عليه لأنه أراق دماً مباحاً فهو كمن قتل مرتداً أو مقضياً عليه بالرجم .
ولكن يكره له ذلك لأنه إن كان الأسير غيره فهو بالقتل يفوت عليه يده فيه وذلك ممنوع .
بحديث جابر - رضي الله عليه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه إذا أخذه قبله فيقتله " ولكن مع هذا لا شيء عليه لأنه أزال يده عما ليس بمال متقوم لحقه فهو كمن أراق خمراً على مسلم وهو يمسكه للتخليل .
وإن كان هو الذي أسره فهو في القتل يفتات على رأي الإمام ويبطل الخيار الثابت له وذلك مكروه وقال عليه السلام : " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " إلا أن يعالجه الأسير ويقصد الانفلات@(3/126)
من يده حتى يعجزه عن أن يأتي به الإمام فحينئذ لا بأس بأن يقتله قد فعل ذلك غير واحد من الصحابة وإن أسلم في يده فهو آمن من القتل وهو رقيق فإن قسم الإمام الأسارى أو باعهم حرمت دماؤهم لأنه آمنهم بما صنع فإنه ملكهم من الذين وقعوا في سهامهم والملك يكون محترماً بحرمة المالك .
فمن قتلهم بعد ذلك خطأ فعليه قيمة من قتل والكفارة كما هو الحكم في قتل غيرهم من عبيد المسلمين بخلاف ما قبل القسمة والبيع فهناك الملك لم يثبت لمن في يده الأسير فإذا قتله غيره لا يلزمه شيء وإنكره ذلك لحرمة يد المسلم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " لا تخبروا سعداً بقتل أخيه فيقتل كل أسير في أيديكم " وذكر عن محمد بن إبراهيم التيمي قال : ردت الغنائم في المغنم يوم بدر وأقرت الأساري في أيدي من أسرهم والأسلاب في أيدي من قتلهم .
وإنما فعل ذلك لأن التنفيل كان قد سبق من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " من قتل قتيلاً فله سبله ومن أسر أسيراً فهو له " فأما إذا لم يسبق التنفيل من الأمير بذلك فكل ذلك مردود في المغنم .
وإن رأى الإمام قتل الأساري فينبغي له أن لا يعذبهم بالعطش والجوع ولكنه يقتلهم قتلاً كريماً يعني لا ينبغي أن يمثل بهم فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور .
وقال عليه السلام في بني قريظة بعدما احترق النهار في يوم صائف : " لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح قيلوهم حتى يبردوا فقتلوهم حتى أبردوا ثم راحوا ببقيتهم فقتلوهم وقد كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر فنثرت بين أيديهم@(3/127)
فكانوا يكدمونها كدم الحمر قال : وليس ينبغي للإمام أن يمن على القتيل فيتركه ولا يقتله ولا يقسمه لأنه لو أراد إبطال حق المسلمين عنه بأن يختص به أحدهم لم يكن له ذلك فإذا أراد إبطال حق جميع المسلمين بالمن عليه أولى أن يكون ممنوعاً منه .
وهذا لأن في المن تمكينه من أن يعود حرباً للمسلمين بعد الظهور عليه وذلك لا يحل .
وقد بينا أن حكم المن الثابت بقوله - تعالى .
{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } قد انتسخ بقوله - تعالى - { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي غزة الجمحي يوم بدر فقد كان ذلك قبل انتساخ حكم المن ألا ترى أنه لما وقع أسيراً يوم أحد وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أبى وقال : " لا تحدث العرب بأني خدعت محمداً مرتين ثم أمر به فقتل " وذكر محمد - رحمه الله - للحديث تأويلاً آخر وهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل عبدة الأوثان من العرب وأولئك ما كان يجري عليهم حكم السبي وإنما من على بعض الأسراء لأنه ليس فيه إبطال حق ثابت للمسلمينفي رقابهم .
ونحن نقول به في مثلهم من المرتدين وعبدة الأوثان من العرب الذين لا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام فإنهم إن أسلموا كانوا أحراراً وإن أبوا قتلوا وإن رأى@(3/128)
الإمام النظر للمسلمين في المن عليهم على بعض الأسارى فلا بأس بذلك أيضاً لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثالة الحنفي حين أسره المسلمون وربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما وراءك يا ثمامة " فقال : إن عاقبت عاقبت ذا ذنب وإن مننت على شاكر وإن أردت المال فعندي من المال ما شئت فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن يقطع الميرة عن أهل مكة ففعل ذلك حتى قحطوا والدليل عليه أن له أن يمنعلى الرقاب تبعاً للأراضي لأن فيه منفعة للمسلمين من حيث الجزية والخراج فعرفنا أنه يجوز ذلك عند المنفعة للمسلمين وذكر : عن جابر - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فنزلنا منزلاً للمقيل ثم دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وعنده رجل جالس فقال عليه السلام : " إن هذا جاء وأنا نائم فسل سيفي ثم قال : يا محمد من يمنعك مني اليوم فقلت : الله ثم قال : يا محمد ! من يمنعك مني اليوم فقلت : الله ثم شام السيف .
وهاهو جالس .
فما قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا عاقبة وتأويل ذلك أنه حين سقط السيف من يده وتبين له الحق أسلم فلهذا لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إنما تمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد إلهي لا بقوة المسلمين فرأى أن يمن عليه رجاء أن يسلم .
وإذا قال الأمير : من أخذ أسيراً فهو@(3/129)
له فوجد الأسير في يد رجلين كل واحد منهما يدعيه فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق .
إلا أن يكون عقره أحدهما بعينه وأخذه الآخر فإنه إن كان عقر عقراً لا يقدر على البراح فهو للذي عقره لأنه صار مأخوذاً بفعله .
وإن كان يقدر معه على الفرار فهو للذي أخذه لأنه لم يصر مأخوذاً بفعل الأول ونظيره الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه ثم أخذه آخر .
وروى حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال : رميت يوم بدر سهيل بن عمرو فانقطع نساه ثم اتبعت أثر الدم حتى وجدته في يد مالك بن الدخشم وقد جز ناصيته فاختصمنا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منا وإنما أخذه منهما لما بينا أن غنائم بدر كانت مخالفة لسائر الغنائم كمن حيث إن الأمر فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من شاء ويحرم من شاء .
وذكر عن يحيى بن أبي كثير : قال : قلت للحسن البصري : أرأيت رجلاً من المسلمين اشترى أسيراً من المسلمين أيصلح له أن يربح فيه قال : لا وبه نأخذ .
فإن المسلم وإن وقع أسيراً فهو حر على حاله ومن اشتراه من العدو لا يملكه فكيف يربح عليه ولكن إن اشتراه بغير أمره فهو متطوع فيما أدى من فدائه فعليه أن يخلي سبيله وإن اشتراه بأمره فإنه يرجع عليه بالثمن الذي اشتراه به وهذا استحسان وفي القياس لا يرجع عليه إلا أن يشترط ذلك نصاً لأن مجرد الأمر متنوع قد يكون لطلب الإحسان والأخذ بمكارم الأخلاق@(3/130)
وقد يكون للاستقراض ولكنه عين جهة الاسقراض للعادة الظاهرة فيه بمنزلة من أمر غيره أن ينفق على عياله من مال نفسه ثم يصير هذا رواية في فصل اختلف فيه المشايخ وهو أن السلطان إذا صادر رجلاً فأمر الرجل غيره أن يؤدي المال فقد قال هناك بعض مشايخنا : لا يثبت له حق الرجوع إلا بشرط لأن المال ما كان واجباً على الآمر وإنما كان مظلوماً فيه ومن دفع ظلماً عن غيره بسؤاله لم يرجع عليه بشيء ولكن الأصح أن يرجع عليه فإن أهل الحرب ظالمون في حبس الأسير أيضاً ومن اشتراه منهم فقد دفع ظلمهم عنه ومع ذلك يثبت له حق الرجوع عليه إذا كان بأمره .
وذكر عن بشر بن غالب : قال : سئل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - متى يجب السهم للمولود قال : إذا استهل يريد به نصيبه من الميراث .
فإنه إنما يستحق ذلك إذا انفصل حياً وإنما يعلم ذلك بالاستهلال .
وسئل عن فكاك الأسير فقال على الأرض التي يقاتل عنها يعني من خراج تلك الأرض لأنه قبل الأسر كان يذب عن أهل تلك الأرض فهم أولى بفكاكه ليكون الغرم بمقابلة الغنم وإنما يفك من الخراج لأنه معد لنوائب المسلمين وسد خلة المحتاجين منه .
وهذا من جملة ذلك .
وسئل عن الشرب قائماً فحلب ناقة ثم ضرب قائماً وإنما قصد البيان بفعله أنه لا بأس بذلك وقد اقتدى فيه بأبيه علي - رضي الله عنه - فإنه حين بلغه عن قوم أنهم يكرهون الشرب قائماً توضأ في رحبة المسجد بالكوفة ثم أخذ الإناء وشرب فضلة فيها قائماً وكان قصده من ذلك رد قولهم في كراهة شرب الماء قائماً .
وذكر أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أتى بأسير يوم صفين فقال : لا تقتلني قال : لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين وجعل سلاحه للذي جاء به .
وإنما جعل ذلك ليتقوى به على العدو حتى إذا وضعت الحرب أوزارها رده على صاحبه أن كان حياً وعلى ورثته إن كان ميتاً وهو أيضاً تأويل ما نقل عن الشعبي - رضي الله عنه - أن علياً - رضي الله عنه - لم يغنم من أموال أهل الجمل إلا الكراع والسلاح أي دفع ذلك إلى أصحابه ليتقووا به على عدوهم من غير أن يملكهم ذلك فإن مال المسلم لا يصير غنيمة للمسلمين بحال .
ألا ترى أنه لم يخمس شيئاً من ذلك وأنهم لما طالبوه@(3/131)
القسمة بينهم قال : فمن يأخذ منكم عائشة وإنما قال ذلك على وجه الإنكار عليهم فعرفنا أنه دفع السلاح إلى من دفع لحاجته حتى يقاتل به ثم يرده على صاحبه بعدما وضعت الحرب أوزارها .
وإذا وقع الظهور على قوم من مشركي العرب فقد بينا أنه لا يقبل من رجالهم إلا السيف أو الإسلام .
فأما نساؤهم وصبيانهم فهم فيء لا يجبرون على الإسلام لقوله عليه السلام : " اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم " والمراد بالاستحياء الاسترقاق قال الله - تعالى - : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ }
والمراد بالشرخ النساء والصبيان ثم قد بينا أن حالهم كحال المرتدين والنساء والذراري من المرتدين بعدما صاروا أهل حرب يسترقون بخلاف الرجال إلا أن أولئك يجبرون على الإسلام لأن حكم الإسلام قد لزمهم فأما عبدة الأوثان من العرب فلم يسبق منهم الإقرار بالإسلام فلهذا لا يجبر على الإسلام من استرق من ذراريهم .
ثم كل من يجوز استرقاقه من الرجال يجوز أخذ الجزية منه بعقد الذمة كأهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم ومن لا يجوز استرقاقه لا يجوز أخذ الجزية منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لأن في كل واحد منهما إبقاء الكافر بمنفعة تحصل للمسلمين من حيث المال والأصل فيه حديثان أحدهما : حديث الزهري قال : لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من أحد من أهل الأوثان من العرب الجزية إلا الإسلام أو القتل@(3/132)
والثاني : حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : " لو ثبت على أحد من العرب ولاء أو رق لثبت اليوم ولكن إنما هو القتل أو الفداء وقد بينا أن حكم الفداء قد انتسخ فبقي القتل إلا أن يسلم " .
وإذا وقع السبي في سهم رجل من المسلمين فأخرج مالاً كان معه لم يعلم به فينبغي للذي وقع في سهمه أن يرده في الغنيمة لأن الأمير إنما ملكه بالقسمة رقبة الأسير لا ما معه من المال فإن ذلك لم يكن معلوماً له وهو مأمور بالعدل في القسمة وإنما يتحقق العدل إذا كانت القسمة لا تتناول إلا ما كان معلوماً له .
فإن تفرق الغانمون وذلك السبي مما لا يحتمل القسمة لقلته فليتصدق به على المساكين لأنه عجز عن إيصاله إلى صاحبه فيكون بمنزلة اللقطة في يده يتصدق به هكذا نقل عن مكحول : أنه قال لمن ابتلى بذلك : ما أرى وجها أحسن من أن يتصدق به والذي روى إن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أعطى ذلك من وقع الأسير في يده .
فتأويله أنه إنما أعطاه لأنه لم يعلم أن ذلك لم يكن معلوماً للذي قسم الغنيمة بين الغانمين .
وإنما حسب أن الذي قسم أعطاه ذلك بنصيبه مع الأسير الذي أعطاه إياه .
وذكر أن رجلاً اشترى جارية من المغنم فلما رأت أنها قد خلصت له أخرجت حلياً كان معها فقال الرجل : ما أدري هذا وأتى سعد بن أبي وقاص فأخبره فقال : اجعله في غنائم المسلمين وانطلق آخر يغتسل فأمر الماء التراب عن لبنة من ذهب فأتى سعداً فأخبره فقال : اجعلها في غنائم المسلمين وبه نأخذ فإن المال الذي مع الأسير كان غنيمة وبيع الأمير إنما تناول الرقبة دون المال فيبقى المال غنيمة .@(3/133)
ومن وجد في دار الحرب كنزاً وقد دخل مع الجيش فإن ذلك يكون غنيمة لأنه ما تمكن من ذلك المال إلا بقوة المسلمين .
وإذا وقعت الجارية من السبي في سهم رجل فقالت : أنا جارية ذمية سباني أهل الحرب ثم أخذني المسلمون ولا يعلم ذلك إلا بقولها لم يقبل قولها لأنها صارت رقيقة حين سبيت من أرض العدو فلا يقبل قولها في إسقاط الرق عنها .
ولا بأس بأن يطأها مولاها بالملك ويبيعها حتى تقوم البينة العادلة على ما قالت لأن كل مسلم مأمور باتباع الظاهر ما لم يتبين غير ذلك بالحجة وذكر عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قال للسائل في هذه الحادثة : لا تقع عليها وبعها فإنما كره مواقعتها على طريق التنزه لا لأنه لم يرها حلالاً له ألا ترى أنه أمره ببيعها ولو رآها حرة كما زعمت ما أمر ببيعها .
وإذا ظهر الإمام على أرض من أرض المشركين فهو بالخيار إن شاء خمسها وخمس أهلها وقسم أربعة أخماس ذلك بين من أصابها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بخيبر وأن فعل ذلك كانت الأراضي أرض عشر لأن المسلم لا يبتدىء بتوظيف الخراج عليه وإنما يوضع عليه العشر لأن فيه معنى الصدقة .
وإن شاء تركها وأهلها يؤدون منها الخراج كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وأرض الشام وما خالفه في ذلك إلا نفر يسير ولم يحمدوا على خلافه حتى دعا عليهم فقال : اللهم اكفني بلالاً وأصحابه فما حال الحول وفيهم عين تطرف يعني@(3/134)
.
مالوا في الطاعون وقد بينا تمام هذا في السير الصغير .
وذكر أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد بن أبي وقاص : أما بعد فقد بلغني كتابك يذكر أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم فانظر ما أجلب الناس عليك من كراع أو سلاح فاقسمه بين من حضر من المسلمين واترك الأرض والأنهار لعمالها وبه نأخذ وإنما أصيب قبل لفتح والظهور وقد تحقق انفصاله عن أهل الأرض وخروجه من أيديهم فيجب قسمة ذلك بين الغانمين ولا يبطل ذلك بفتح الأرض والمن على أليها قال : وانظر أن لا توله والدة عن ولدها أي لا تفرق بين الصغير ووالدته وبنحو هذا جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جارية والهة في الغنيمة فقال : ما حالها فقال : بيع ولدها قال : لا توله والدة بولدها .
قال : ولا تمس امرأة حتى يطيب رحمها أي حتى يستبريها وهو نظير ما جاء في الأثر .
ولا الحبالى حتى تستبرئن بحيضة .
قال : ولا تتخذ أحداً من المشركين كاتباً على المسلمين فإنهم يأخذون الرشوة في دينهم ولا رشوة في دين الله وبه نأخذ فإن الوالي ممنوع من أن يتخذ كاتباً من غير المسلمين لقوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } ثم قال : ولا عشر على مسلم ولا على صاحب ذمة إنما العشور على أهل الحرب إذا استأذنوا أن يتجروا في أرضنا وفي هذا نظر فقد اشتهر عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر عماله أن يأخذوا من أهل الذمة نصف العشر فإن صح هذا الحديث فالمراد أنه ليس على أهل الذمة العشر الكامل في أموال التجارة إذا مروا به على العاشر وإنما ذلك على أهل الحرب خاصة فأما أهل الذمة فعليهم نصف العشر .
وذكر عن مجاهد قال : أيما مدينة فتحت فأسلم أهلها قبل أن تقسم فهم أحرار وتأويل ذلك فيما إذا كانوا مرتدين أو عبدة الأوثان من العرب أو كان رأي الإمام أن يدعهم في أرضهم يؤدون الخراج فأما إذا رأى الإمام أن يقسمهم وأرضهم فهم عبيد لما بينا أنهم أسلموا بعد تمام القهر وذلك يؤمنهم من القتل ولا يبطل حق المسلمين عن رقابهم والله أعلم بالصواب .@(3/135)
باب ما يحمل عليه الفيء وما يركبه الرجل من الدواب
وما يجوز فعله بالغنائم في دار الحرب من القسمة وغير ذلك قال رضي الله عنه : قد بينا أنه لا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم في دار الحرب ولا يبيعها وإن كان لو فعل ذلك نفذ منه إلا أن يحتاج المسلمون إليها فعند الحاجة تقسم الثياب والسلاح بينهم بعد رفع الخمس لأن ما يشبه القسمة يجوز له أن يفعله قبل الإصابة عند الحاجة أجوز لأنه إنما لا يقسم مراعاة لحق المدد كي لا تقل رغبتهم في اللحوق بالجيش وعند الحاجة مراعاة جانب الذين هم معهم أولى .
فأما الرقيق فلا تتحقق الحاجة إلى قسمتهم في دار الحرب فلا يتأكد الحق فيهم أيضاً حتى حل للإمام قتلهم فلا ينبغي له أن يقسمهم قبل الإحراز بالدار فإن لم يكن معه ظهر يحمل عليه الغنائم نظر فإن كانت في الغنائم دواب فليحمل عليها الغنائم وإن لم يكن وكان مع عامة الجيش فضل حمولة حمل الغنائم عليها لأن الغنائم حقهم والدواب كذلك لهم ففي الحمل عليها مراعاة النظر لهم فلا يمتنع ذلك لأجل الخمس فإنه تبع لحق الغانمين على أنه يستحق بإصابتهم وثبوت الحكم في البيع كثبوته في الأصل .
وإن كانت فضل الحمولة مع@(3/136)
خواص منهم فإن طابت أنفسهم بأن تحمل الغنائم عليها فعل وإن أبوا لم يكرههم على ذلك لأن الدواب للخاص منهم والغنيمة لعامتهم فاعتبار جانب غير صاحب الدابة يمنعه من حملها على دابته بغير رضاه وليس حق البعض تبع لحق البعض .
ألا ترى أنه لو أراد أن يحمل بعضهم على دواب البعض لم يكن له ذلك بينهم حتى يتولى كل واحد منهم حمل نصيبه بالطريق الذي يمكنه لأن الحاجة قد تحققت إذ لو لم يقسم في هذه الحالة احتاج إلى تركها وفيه أبطال حقهم عنها أصلاً .
وإن كان بحضرته تجار يشترون ذلك فلا بأس بأن يبيعها منهم لأنه لما جاز له القسمة في هذه الحالة جاز البيع فإن كل واحد منهما له تصرف يبتني على تأكد الحق .
ثم بعد البيع يقسم الثمن بين الغانمين ولا يؤخر ذلك إلى الخروج من دار الحرب لأن نفوذ البيع يتأكد حق الغانمين وتنقطع شركة المدد معهم في الثمن فلا معنى لتأخر القسمة بعد ذلك كما بعد الإحراز بدار الإسلام .
وإن رأى الإمام لأن يستأجر الحمولة من أصحابها تاجر معلوم فذلك صحيح ويكون الأجر من الغنائم يبدأ به قبل الخمس لأن في هذا الاستئجار منفعة للغانمين فهو كالاستئجار لسوق الغنم والرماك .
وحق أصحاب الحمولة في ذلك لا يمنع من صحة الاستئجار لأنه لا ملك لهم فيها قبل الإحراز والقسمة وشركة الملك هو الذي يمنع من صحة الاستثمار لا شركة الحق كما في حال بيت المال .
ويستوي في ذلك إن رضي به أصحاب الحمولة أو أبوا كان بهم غنى تلك الحمولة لأنهم بهذا الإباء قصدوا التعنت فإن في هذا الاستئجار منفعة لهم@(3/137)
من حيث إنه لم يحصل لهم الأجرة بمقابلة منفعة لا تبقى لهم بدون هذا الاستئجار وفيه منفعة للغانمين أيضاً فكانوا متعنتين في الإباء والقاضي لا يلتفت إلى إباء المتعنت ولأن ابتداء الاستئجار وبقاء الإجارة عند تحقق الحاجة صحيح من غير الأمير فمن الأمير أولى .
وبيانه في استئجار السفينة مدة معلومة إذا انتهت المدة أو مات صاحب السفينة والسفينة في لجة البحر .
وكذلك استئجار الأوعية لحمل المائع فيها مدة معلومة إذا انتهت المدة وهم في المفازة وكذلك إذا استأجر دابة لحمل أمتعة من موضع إلى موضع مدة معلومة فانتهت المدة وهم في المفازة أو مات صاحب الدابة فإنه يبتدأ بالعقد بعد انتهاء المدة ويبقى بعد الموت في هذه المواضع بأجر المثل وبالمسمى في حالة البقاء وكان ذلك لأجل الحاجة فكذلك في الغنائم إذا تحققت الحاجة إلى حملها إلا أن يكون الإمام يقدر على حمل الغنيمة بغير إجبار منه لأصحاب فضل الحمولة فحينئذ لا يتعرض لحمولتهم لأن الحاجة لم تتحقق وقال عليه السلام : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " وإن كانت الغنيمة سبياً يقدر على أن يمشيهم فعل ذلك ولم يجبر أصحاب الحمولة لأنه ليس في هذا أكثر من أن السبي يلحقهم تعب في المشي ولأجل ذلك لا يجوز له إجبار أصحاب الحمولة على ما لا تطيب به نفوسهم .
وإن لم يقدر على ذلك ولم يكن مع أحد فضل حمولة فإنه ينبغي له أن يحرق بالنار ما يحترق من غير الحيوان وما لا يحترق كالحديد يدفنه في موضع لا يطلع عليه أهل الحرب ومن كان من رجال السبي يضرب أعناقهم وما كان من النساء والصبيان خلى سبيلهم في موضع يعلم أنهم يضيعون فيه وما كان من حيوان ذبحه@(3/138)
ذبحاً ثم أحرقه بالنار ولا ينبغي له أن يحرق شيئاً من ذلك وفيه الروح لأن ذلك مثلة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يعذب بالنار إلا ربها " والحاصل أنه بعد ما وقع في يده أحدهما : قطع منفعة المشرين عن ذلك أصلاً والآخر إيصال المنفعة للمسلمين فإن قدر عليهما فليأت بهما وإن عجز عن أحدهما فليأت بالآخر وهاهنا قد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر وهو قطع منفعتهم عنا لكيلا يتقووا بها على المسلمين بحال .
ولأنه مأمور بأن يفعل ما فيه الكبت والغيظ للعدو وفي جميع ما قلنا تحقيق معنى الغيظ والكبت لهم ثم لا يكون هو متلفاً للصبيان وللنساء بتركهم في مضيعة ولكن يكون ممتنعاً من الإحسان إليهم بالنقل إلى العمران وترك الإحسان لا يكون إساءة .
ألا ترى أن من مر بامرأة أو صبي في مفازة وهو يقدر على نقله إلى العمران فلم يفعل لم يكن ضامناً شيئاً من بدله وكذلك يصنع بما قام على المسلمين من دوابهم وبما ثقل عليهم من متاعهم .
وإذا اشترى الرجل دابة في دار الإسلام وغزا عليها فوجد بها عيباً في دار الحرب فإن كان البائع معه في العسكر خاصمه حتى يردها عليه .
لأنه صار مظلوماً من جهته بتدليس العيب فله أن ينتصف منه .
وإن لم يكن حاضراً فإنه ينبغي له أن لا يركبها ولكن يسوقها معه في العسكر خاصمه حتى يردها عليه .
لأنه صار مظلوماً من جهته بتدليس العيب فله أن ينتصف منه .
وإن لم يكن حاضراً فإنه ينبغي له أن لا يركبها ولكن يسوقها معه حتى يخرجها فيردها لأن الركوب بعد العلم بالعيب يكون رضى منه بها فليتحرر من ذلك إلا أن يركبها ليسقيها أو ليسوقها إلى معلفها أو حمل عليها علفها فإن هذا لا يكون رضى منه بالعيب لأنه لا يتمكن من ردها إلا بأن يسقيها ويعلفها فربما لا تنقاد له في ذلك ما لم يركبها فلا يكون ذلك دليل الرضى منه وأما الركوب لحاجة نفسه أو لحمل أمتعته عليها فدليل الرضا منه من حيث إنه انتفاع بملكه فيكون ذلك آية رضاه بتقرر ملكه .
ويستوي في ذلك إن لم يجد دابة@(3/139)
أخرى أو وجدها لأن العذر الذي له غير معتبر فيما يرجع إلى حق البائع والركوب لحاجته دليل الرضا فيكون بمنزلة التصريح بالرضا .
فإن أتى الإمام وأخبره خبرها فقال له الإمام : اركبها فركبها بأمره لم يستطع ردها أيضاً لأنه هو الذي التمس ذلك من الإمام وقد كان متمكناً منه قبل أمره فلا يتغير الحكم باعتبار أمره بعد أن يركبها طائعاً .
فإن أكرهه الإمام على ذلك حين خاف الهلاك عليه فإن نقصها ركوبه فكذلك الجواب بمنزلة ما لو تعيبت في يده بآفة سماوية وإن لم ينقصها ركوبه فله أن يردها بالعيب .
لأن عند الإكراه ينعدم الفعل من المكره ويصير آلة له إن كان الإكراه بالقتل وإن كان بالحبس والقيد ينعدم به الرضا وإنما كان لا يستطيع درها بعد الركوب لوجود دليل الرضا فإذا انعدم ذلك في الركوب مكرها يتمكن من ردها .
وإن لم يكرهه ولكن قال : اركبها وأنت على ردك لها فركبها لزمته وكان هذا القول من الأمير باطلاً لأنه فتوى بخلاف حكم الشريعة وليس بقضاء من جهته لأن القضاء مستدع مقضياً له ومقضياً عليه .
فإذا رفعها إلى قاض يعد ذلك فردها بالعيب على طريق الاجتهاد لما قال له الأمير ذلك ثم رفعت إلى قاض آخر يرى ما صنع الأول خطأ فإنه يمضي قضاء الأول ولا يرده لأن القضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فإن ظاهر النصوص الموجبة لطاعة الأمير تخرج ركوبه من أن يكون رضا بالعيب .
وكذلك التنصيص من الأمير بقوله : وأنت على ردك يسقط اعتبار دليل الرضا بالعيب منه عند الركوب لأن الدليل إنما يعتبر إذا لم يوجد التنصيص بخلافه .
ثم إذا تعذر ردها فإن كان ذلك لوجود دليل الرضا منه لو يرجع بحصة العيب من الثمن وإن كان لنقصان دخلها بأن كان ركبها@(3/140)
مكرهاً فإنه يرجع بحصة العيب من الثمن إلا أن يرضى البائع بالرد عليه وهذا لأن دليل الرضا كصريحه ولو أكره على الرضا بالعيب صريحاً لم يسقط به حقه في الرد فكذلك إذا أكره على ما يكون دليل الرضا فإذا انعدم الرضا بقي اعتبار النقصان فكان ذلك حصل بغير صنيع أحد وذلك يمكنه من الرجوع بنقصان العيب إلا أن يرضى البائع بالرد عليه .
وإذا أصاب المسلمون غنائم فكان فيها مصحف لا يدري أن المكتوب فيه توراة أو إنجيل أو زبور أو كفر فليس ينبغي للأمير أن يبيع ذلك من المشركين مخافة أن يضلوا به فيكون هو المسبب لفتنتهم وإصرارهم على الكفر وذلك لا رخصة فيه وكذلك لا يبيع من مسلم لأنه لا يأمن أن يبيع ذلك منهم أيضاً فيفضلوا بسببه .
وكذلك لا يقسم بين الغانمين لأنه لا يأمن على من وقع في سهمه أن يبيعه من المشركين فيفضلوا بسبب .
ولا ينبغي له أن يحرق بالنار ذلك أيضاً لأن من الجائز أن يكون فيه شيء من ذكر الله - تعالى - ومما هو كلام الله وفي إحراقه بالنار من الاستخفاف ما لا يخفى .
والذي يروى أن عثمان - رضي الله عنه - فعل ذلك بالمصاحف المختلفة حين أراد جمع الناس على مصحف واحد لا يكاد يصح فالذي ظهر منه من تعظيم الحرمة لكتاب الله - تعالى - والمداومة على تلاوته آناء الليل والنهار دليل على أنه لا أصل لذلك الحديث ولكنه ينظر في ذلك فإن كان لورقه قيمة محي الكتاب وجعل الورق في الغنيمة وإن لم يكن لورقه قيمة فليغسل ورقة الماء حتى يذهب الكتاب ثم يحرقه بعد ذلك إن أحب لأنه لا كتاب فيه وربما يكون في إحراقه بعد غسله المكتوب فيه معنى الغيظ لهم وهو المشركون فلا بأس بأن يفعله@(3/141)
.
ولا ينبغي له أن يدفن شيئاً من ذلك قبل محو الكتاب لأنه لا يأمن أن يطلبه المشركون فيستخرجونه يأخذون بما فيه فيزيدهم ذلك ضلالاً إلى ضلالهم .
وفي هذا التعليل إشارة إلى أنه كان يأمن ذلك فلا بأس بأن يدفنه فيكون دليلاً لقول من يقول من أصحابنا فيما إذا انقطع أوراق المصحف إنه لا بأس بدفنه في مكان طاهر والغسل بالماء أحسن الوجوه فيه على ما ذكر .
وإن أراد شراءه رجل ثقة من المسلمين يؤمن عليه أن لا يبيعه من المشركين فلا بأس بأن يبيعه منه الإمام لأنه مال متقوم ولهذا لو باعه جاز بيعه إلا أن كراهة بيعه لخوف الفتنة وذلك ينعدم هاهنا فهو نظير بيع العصير ممن يعلم أنه لا يتخذه خمراً قال مشايخنا : وكذلك الجواب فيما يجده المسلم من كتب الباطنة وأهل الأهواء المضلة فإنه يمنع من بيع ذلك مخافة أن يقع في يد أهل الضلالة فيفتتنوا به وإنما يفعل به ما ذكرنا في هذا الموضع .
ولو وجدوا في الغنائم صليباً من ذهب أو فضة وتماثيل أو دراهم أو دنانير فيها التماثيل فإنه ينبغي للإمام أن يكسر ذلك ويجعله تبراً لأنه لو قسمه أو باعه كذلك ربما يبيعه من يقع سهمه من بعض المشركين بأن يزيدوا له في ثمنه رغبة منهم في لباسه أو في أن يعيدوه فليتحرز عن ذلك بكسر الصليب والتماثيل .
والذي يروى أن معاوية بعث بها لتباع بأرض الهند فقد استعظم ذلك مسروق على ما ذكر محمد في كتاب الإكراه ثم بينا ذلك الحديث في شرح المختصر .
فأما الدراهم والدنانير فلا بأس بقسمتها وبيعها قبل أن تكسر لأن هذا مما لا يلبس ولكنه يتبدل في المعاملات .
ألا ترى أن المسلمين يتبايعون بدراهم الأعاجم فيها التماثيل بالتيجان ولا يمتنع أحد عن المعاملة بذلك وإنما يكره هذا فيما يلبس أو يعبد من دون الله من الصليب ونحوها وحكم هذه الأشيلء كحكم ما لو أصابوا برابط وغيرها من المعازف فهناك ينبغي له@(3/142)
أن يكسرها ثم يبيعهل أو يقسمها حطباً قال : إلا أن يبيعها قبل أن يكسرها ممن هو ثقة من المسلمين لا يعلم أنه يرغب فيها للحطب لا للاستعمال على وجه لا يحل فحينئذ لا بأس بذلك لأنه مال منتفع به فيجوز بيعه للانتفاع به بطريق مباح شرعاً .
وما وجدوا في الغنائم من كلب صيد أو فهد أو بازي فلا بأس بقسمة ذلك بين المسلمين لأنه مال متقوم يجوز الانتفاع به بطريق مباح شراعاً ولهذا جوز علماؤنا رحمهم الله ببيعه واستدل عليه بحديث إبراهيم قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البيت القاصي في الكلب يتخذونه يعني للحرس " .
ثم شبه الكلب بالهرة وبيع الهرة جائز لأنه منتفع به وإن ككان لا يحل أكله فالكلب المنتفع به مثله .
ومن وجد الغزاة في دار الحرب فهداً أو بازياً لأو صقراًغير مملوك لأحد فأخرجه إلى دار الإسلام فإنه يجعل ذلك في الغنيمة لأن هذا مال متقوم بعد إخراجه وهو لم يتوصل إلى المكان الذي أخذ ذلك فيه إلا بقوة المسلمين فعليه أن يجهل ذلك في الغنائم .
بمنزلة ما لو أخذه من بعض المشركين ونظيره ما تقدم فيما إذا وجد كنزاً أو معدناً في دار الحرب واستخرج منه مالاً .
وكذلك لو استخرج من البحر لؤلؤاً أو عنبراً في موضع من دار الحرب فإنه يرد ذلك كله في الغنيمة لأنه ما توصل إلى ذلك إلا بقوة المسلمين .
وكذلك إن أصاب سمكاً في ذلك الموضع إلا أنه لا بأس بأن يتناول السمك ويطعم أصحابه كما هو@(3/143)
الحكم في طعام الغنيمة .
وكذلك لو اصطاد بكلب أو فهد أو بازي من الغنيمة فإن ما يصاد به يكون من جملة الغنيمة إلا أنه لا بأس بأن يتناوله كسائر الأطعمة .
وأهل الشام يفرقون بين ما يكون من ذلك مملوكاً للعدو يأخذه منهم وبين ما لا يكون مملوكاً فيقولون فيما لا يكون مملوكاً : هو سالم له لظاهر قوله عليه السلام : الصيد لمن أخذه ولأن الغنيمة اسم لمال مصاب بطريق فيه أعلاه كلمة الله وإعزاز الدين وذلك فيما يتملك على المشركين بطريق القهر أما ما يؤخذ من المال المباح الذي هو تافه بين الناس فإنه لا يكون غنيمة وبهذا الحرف يفرقون بين هذه الأشياء وبين ما ليس بتافه كالذهب والفضة والعنبر واللؤلؤ .
ألا ترى أن ما يوجد في دار الإسلام مما يكون تافهاً كالصيد والحطب والحشيش لا يجب فيه الخمس وما لا يكون تافهاً كالذهب والفضة المستخرجة من المعادن يجب فيها الخمس وكذلك اللؤلؤ والعنبر على قولهم بخلاف السمك .
إلا أن نقول : ما أصيب في دار الحرب بقوة الجيش فإنه يكون من جملة الغنيمة وفي هذا يستوي ما كان مملوكاً لهم وما لم يكن مملوكاً لهم لأن دار الحرب موضع ولايتهم وفي إصابة ذلك في موضع ولايتهم معنى المغايظة بهم فإذا حصلت تلك الإصابة بمنعة الجيش يكون حكمها حكم الغنيمة .
ألا ترى أن الغزاة لو استخرجوا من بعض جبالهم الياقوت والزبرجد فإنه يكون ذلك ذلك غنيمة وإن كان المسسلم لو لو وجد شيئاً من ذلك في جبال أرض الإسلام لم يكن فيه خمس على ما قال عليه السلام : ليس في الحجر زكاة وهذا كله حجر إلا أن بعض الأحجار أضوأ من بعض فعرفنا أن ما يوجدم ذلك في دار الحرب فيخرج بقوة الجيش لا يكون قياس ما وجد في دار الإسلام .
ولو أراد الغازي أن يصطاد بكلب أو فهد أو بازي من الغنيمة فذلك مكروه له لأنه@(3/144)
انتفاع بما هو من الغنيمة من غير حاجة فهو بمنزلة ركوب الدابة ولبس الثوب من الغنيمة .
فإن أرسله فذهب ولم يعد إليه فلا ضمان عليه فيه لأن أكثر ما فيه أنه بالإرسال مستهلك له ومن استهلك شيئاً من الغنائم في دار الحرب لم يضمن .
ولكنه يؤدب على ذلك إن فعله بغير إذا الأمير فهذا مثله .
ولو وجد في الغنائم فرس مكتوب عليه : حبيس في سبيل الله - تعالى - فإن كانوا إنما وجدوا ذلك في عسكر المسلمين أو بالقرب منه بحيث يكون أغلب الرأي فيه أنه للمسلمين فهو بمنزلة اللقطة فالسبيل فيه التعريف بمنزلة ما لو وجد ذلك فبدار الإسلام ولا يكون حبيساً بما عليه من السمة لأن السمة ليست بحجة حكيمة ألا ترى أنه لا يستحق بها الملك ولا اليد .
وإن وجدوا ذلك في موضع هو في يد أهل الحرب مما يكون غالب الرأي فيه أنه للمشركين فإن هذا غنيمة كسائر الغنائم لأن بهذه السمة لا يثبت استحقاق شيء في الحكم فوجدها كعدمها فيحتمل أن يكون المشركون فعلوا ذلك ليلبسوا على المسلمين إذا خرج بعضهم إلى المعسكر عيناً يتجسس أخبار المسلمين والمحتمل لا يكونحجة .
والدليل عليه أن مثل هذا الفرس لو كان في يد مسلم يبيعه لم يمنع من بيعه باعتبار هذه السمة فبهذا يتبين أن السمة لا تكون حجة في الأحكام .
ولكن لو شهد قوم من المسليمين أنه من الخيل الحبس وقد حضر صاحبه الذي كان في يده فإن الإمام يرده إليه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأن على قول م يجيز الوقف الفرس الحبيس كالوقف في الحكم لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا يتملكه المشركون@(3/145)
بالإحراز ولا المسلمون بالأخذ منهم فيجب رده على القيم الذي كان في يده وتعويض من وقع في سهمه قيمته من بيت المال ورد الثمن على المشتري إن كان باعه الإمام ويكون الحكم فيه كالحكم في المدبر يأسره المشركون ثم يصيبه المسلمون .
فأما على قول أبي حنيفة - رحمه الله - فالحكم في هذا كالحكم في غيره من أفراس المسلمين يحرزها المشركون لأن عنده هذا محل للتمليك بالإرث والبيع فيكون محل التمليك بالاغتنام أيضاً .
وإذا قسم الإمام الغنائم في دار الإسلام وعزل الخمس ثم أغار العدو على ما عزله للخمس فأحرزه ثم ظهر عليه المسلمون فإن عرف ذلك قبل القسمة رد في الخمس كما كان لأن حق أرباب الخمس تأكد في الخمس كما أن حق الغانمين قد تأكد في الأربعة أخماس .
وإن كان لم يعرف ذلك حتى قسم بين الغانمين فهو سالم لهم لأن الإمام لو أخذه لأرباب الخمس بعد القسمة أخذه بالقيمة ولا فائدة لهم في ذلك .
ولو كان باعه قبل القسمة ثم علم أنه من الخمس فإن كان باعه بقسمته أو أكثر فهو سالم للمشتري لأنه لو أخذه من يده أخذه بالثمن ولا فائدة لأرباب الخمس .
وإن كان باعه بأقل من قيمته فله أن يأخذه بالثمن لأن الأخذ هاهنا مفيد لأرباب الخمس .
فإنه يعطي الثمن من الخمس ويجعل ما بقي مقسوماً بينهم وما وجد المسلمون من متاع على ساحل البحر و وجدوا سفينة قد ضربتها الريح فرمت بها على الساحل وفيها أمتعة فإن كان ذلك الموضع الذي وجد فيه من أرض الحرب فهو فيء يخمس سواء كان ذلك المتاع مما يتخذه المسلمون أو المشركون لأنهم إنما توصلوا إلى ذلك الموضع بقوة الجيش فيكون المصاب غنيمة وبأن كان ذلك من متاع المسلمين لا يخرج به من أن@(3/146)
يكون غنيمة .
كما لو وجدوا ذلك في حصن من حصونهم وهذا لأنه يتوهم أن يكونوا اشتروا ذلك من تجار المسلمين أو أخذوه من المسلمين قهراً أو أحرزوه .
وإن وجدوا ذلك في موضع من الساحل هو من أرض أهل الإسلام فالحكم فيه ما هو الحكم في اللقطة ويستوي إن كان ذلك من متاع يتخذه المسلمون أو المشركون إلا أن يكون أكثر الرأي منه أنه كان للعدو فحينئذ يخمس وما بقي يكون للغانمين لأن ما يوجد على ظاهر ذلك الموضع بمنزلة ما يوجد في باطنه .
ولو استخرجوا كنزاً من موضع هو من دار الحرب يكون حكمه حكم الغنيمة .
وإن استخرجوا ذلك من موضع من دار الإسلام يجب الخمس فيه ويكون ما بقي لمن أصابه سواء كان الموجود من دراهم الأعاجم أو غير ذلك إلا أن يكون أكبر الرأي أن ذلك من وضع أهل الحرب وهذا لأن البناء على الظاهر فيما يتعذر الوقوف فيه على الحقيقة وغالب الرأي بمنزلة اليقين فيما لا يمكن إثباته بحجة أخرى .
فإذا دخل المسلمون دار الحرب فدلوا على قبور الكفار فيها الأموال والسلاح قد دفنت معهم فلا بأس بأن يحفروا تلك القبور ويستخرجوا ما فيها وهذه عادة بعض أهل الحر أنهم يدفنون الأبطال منهم بأسلحتهم وأعيان أموالهم ثم في استخراج ذلك منفعة للمسلمين فإنهم يتقوون بتلك السلحة على قتالهم وحرمه قبورهم لا تكون فوق حرمة بيوتهم فإذا جاز الهجوم عليهم في@(3/147)
بيتهم لأخذ ما فيها من الأموال فكذلك يجوز حفر قبورهم وهذا لأن هذه الأموال ضائعة والموضع الذي تدفن فيه الأموال يكون كنزاً لا قبراً وبه فارق ما لو أرادوا حفر القبور لنبش أكفان الموتى لأن ذلك ليس بمال ضائع بل هو مصروف إلى حاجة الميت .
ثم من استخرج شيئاً من هذه الأموال فهو غنيمة بخمس لأنه ما يوصل إليه إلا بقوة العسكر .
وما وجدوا من متاع المشركين أو المسلمين شيئاً قد سقط منهم مثل الوسط والحذاء والحبل فإنه لا يحل لمن كان غنياً أن ينتفع بشي من ذلك ولكنه إن كان من متاع المشركين فهو غنيمة وإن كان من متاع المسلمين فهو بمنزلة اللقطة فإن كان محتاجاً إلى ذلك انتفع به وهو ضامن لما نقصه إذا جاء صاحبه بمنزلة ما لو وجد ذلك في دار الإسلام فإن قيل : فقد جاءت الرخصة في السوط ونحو ذلك كما في حديث ابن معبد الضبي على ما رواه في كتاب اللقطة قلنا : تأويل ذلك في السوط المنكسر ونحوه مما لا قيمة له ولا يطلبه صاحبه بعدما سقط منه وربما ألقاه واستبدل به فأما إذا كان شيئاً له قيمة ويعلم أن صاحبه ما ألقاه بل سقط عنه وهو في طلبه فحكمه حكم اللقطة اعتبار القليل بالكثير .
ألا ترى إلى ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا الخيط والمخيط " فقيل له : إن فلاناً أخذ قبالين من شعر فقال : " قبالين من نار " وإذا كان هذا الحكم في الغنيمة فما ظنك في مال المسلمين وقد أشار في الكتاب إلى أن له مخالفاً في المسألة وهم بعض أهل الشام فإنهم يرخصون في السوط ونحوه ثم بين فساد مذهبهم فقال : أرأيت لو كان سوطاً يساوي عشرة دراهم أكان يجوز له أن يتملكه وهو بحيث لو سرقه من صاحبه قطعت يده فيه أرأيت لو كان عشرون سوطاً بهذه الصفة فعرفنا أن الذي لا بأس بأن ينتفع به هو ما ليس بمتقوم ولا يطلبه صاحبه مثل النوى وقشور الرمان وبعر الإبل وجلد الشاة الميتة وما أشبه ذلك فأما ما يعلم أن صاحبه يطلبه فهو بمنزلة اللقطة في يده والدابة.@(3/148)
العجفاء التي يعلم أن صاحبها تركها إذا أخذها إنسان فأخرجها فعليه ردها ولا يجعل ذلك بمنزلة السوط يلقيه صاحبه والقايس في الكل واحد إلا أنا استحسنا في السوط لأن صاحبه ألقاه رغبه عنه فقد كان قادراً على حمله وما ترك الدابة رغبة عنها وإنما تركها لعجزه عن إخراجها فلا يزول ملكه عنها بذلك .
أرأيت لو كانت جارية مريضة تركها لعجزه عن إخراجها فأخذها إنسان وأحسن إليها حتى برئت من مرضها كان يحل له أن يطأها من غير سبب من أسباب الملك له فيها فلهذا وشبهه أخذنا في الحيوان بالقياس .
ولو ادعى الذي في يده الدابة على صاحبها : إنك قلت حين خلت سبيلها : من أخذها فهي له وجحد ذلك صاحبها فالقول قوله مع يمينه لأن دعواه هذا السبب عليه كدعواه منه .
فإن أقام البينة أو نكل صاحبها عن اليمين سلمت الدابة للذي أخذها سواء كان حاضراً حين قال صاحبها هذه المقالة أو لم يكن .
للحديث الذي روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهدايا : " من شاء فليقتطع " وقد تقدم بيان هذا الجنس من المسائل وبعد صحة الهبة لما صلحت في يد الموهوب له وسمنت فليس للواهب أن يرجع فيها لأن الزيادة المتصلة تمنع الرجوع في الهبة .
باب قسمة الغنائم التي يقع فيها الخطأ
وإذا رأى صاحب المقاسم أن يقسم الأجناس المختلفة بين الغانمين فيعطي كل واحد منهم جنساً بنصيبه فذلك جائز بعد أن يعتبر المعادلة في المالية لأن حق الغانمين في المالية دون العين ألا ترى أن له أن يبيع الكل ويقسم الثمن بينهم وفي القسمة بهذه الصفة اعتبار معنى المعادلة فيما هو حقهم .
وهذا بخلاف قسمة المال المشترك الموروث @(3/149)
والمشتري فإن هناك عند اختلاف الجنس لا يجيز القاضي الشركاء على القسمة جملة واحدة لأن الشركة هناك ثابتة في العين ألا ترى أنه لو أراد أن يبيع العين ويقسم الثمن لم يكن له ذلك دون رضاهم يوضحه أن الملك هناك ثابت لكل واحد منهم في كل جنس ولهذا لو عتق بعضهم نفذ عتقه في نصيبه فيتحقق معنى المعوضة في قسمة الأجناس جملة واحدة .
وهاهنا لا ملك للغانمين قبل القسمة ولهذا لو أعتق بعضهم شيئاً من الرقيق لم ينفذ عتقه ولو استولد جارية منها في سهم رجل فأقامت البينة أنها حرة ذمية قد سباها المشركون فإن كان شهودها من أهل الذمة لم تقبل شهاتهم لأن هذه الشهادة تقوم على المسلم في إبطال ملكه .
وإن كان شهودها مسلمين قبلت الشهادة وقضى بأنها حرة ثم في القياس يرجع المستحق عليه على الجند فيأخذ منهم حصته مما أخذوا كما في قسمة الميراث إذ استحق نصيب بعض الشركاء ولكنه استحسن وقال : الإمام يعوض الذي وقعت في سهمه قيمتها من بيت مال المسلمين ولا ينتقض بتلك القسمة وكذلك لو قامت البينة أنها مدبرة لمسلم أو أم ولد له وهذا من نوائب المسلمين ولأنه لو بقي شيء من الغنيمة مما يتعذر قسمته فإنه يوضع ذلك في بيت المال فكذلك إذا لحقه غرم يجعل ذلك على بيت المال لأن الغرم مقابل بالغنم ولأن هذا خطأ من الإمام فيما عمل فيه للمسلمين فيكون في@(3/150)
بيت مال المسلمين .
وكذلك إن استحقت جاريتان أو ثلاثة أو نحو ذلك مما لا يكون فيه ضرر بين في بيت المال وكذلك لو أغفل رجلاً أو رجلين عند القسمة فهذا وما لو استحق نصيبهم سواء .
فأما إذا قامت البينة على ألف رأس أو أكثر أنهم من أهل الذمة وقضي بحريتهم فإن القاضي لا يعوض المستحق عليهم من بيت المال ولكن يقول لهم : ائتوني بمن قدرتم عليه من الجند حتى أدركم عليهم بحصصكم من الغنيمة لأنه كما يجب دفع الضرر عن المستحق عليهم يجب دفع الضرر عن عامة المسلمين وفي التزام التعويض من بيت المال عند كثرة المستحق إضرار بالمسلمين في بيت مالهم وربما يأتي ذلك على جميع بيت مال المسلمين أو يزيد على ذلك فلهذا أخذ بالاستحسان إذا قل المستحق وعاد إلى القياس إذا كثر المستحق .
وأي رجل جاءوا به قد أخذ من الغنيمة شيئاً أعطاهم بحصتهم مما في يده وأعطى أيضاً نصيبهم من الخمس إن لم يقسم ذلك بين المساكين وإن كان قسم أعطاهم ذلك من أموال الصدقات فإن لم يكن في بيت المال من أموال الصدقات شيء كان ذلك ديناً فيما يأتيه من ذلك لأن حقهم كان ثابتاً فيما دفعه للخمس وفيما دفعه إلى غيرهم فلا يسقط حقهم عن ذلك إلا بسلامة نصيبهم لهم من محا آخر وقد تبين أنه لم يسلم .
فإن جاءوا بقوم كثير ممن أخذوا الغنائم وقال للأمير : اجمع ما في أيديهم فاقسمه بيننا وبينهم بالسوية لأنا وإياهم شرعاً سواء لم يفعل ذلك ولكن ينظر إلى حصتهم مما في أيدي الذين أحضروهم فيعطيهم ذلك القدر لأن التمليك من الإمام بالقسمة قد صح من كل واحد منهم فلا يبطل@(3/151)
ذلك إلا في قدر ما يتقين بالسبب المبطل فيه وذلك مقدار حصتهم من ذلك وما وراء ذلك من حقهم في يد سائر الغانمين فما لم يحضروهم لا يقضي لهم به .
وهذا بخلاف ما إذا كان المقسوم بينهم جنساً واحداً من المكيل والموزون فإن هناك يقسم ما في يد الذين أحضروهم بين جماعتهم كأن الغنيمة لم تكن إلا ذلك وكأنهم الغانمون خاصة لأن القسمة في المكيل والموزون تمييز محض ألا ترى أنه ينفرد به بعض الشركاء وأن تلك القسمة بين المشترين لا تمنع كل واحد منهم من بيع نصيبه مرابحة فالذي لم يقدر عليهم قد أخذوا مقدار حقهم وزيادة فتجعل الزيادة كالتساوي فأما في العروض والأجناس المختلفة فيتمكن معنى المعارضة في القسمة .
ألا ترى أنه لا ينفرد به بعض الشركاء وأنه ليس لواحد من المشترين بعد القسمة أن يبيع نصيبه مرابحه على قدر ما غرم فيه من الثمن فلهذا يعتبر مقدار نصيب المستحق عليهم فيما في يد الذين أحضروهم في الأصل فيردهم عليهم بذلك القدر .
قال : ألا ترى أن رجلاً لو مات عن ثلاثة أعبد وثلاث بنين فقسم القاضي العبيد بينهم وأخذ كل واحد منهم عبداً ثم استحق نصيب أحدهم أو ظهرت حريته فوجد أحد صاحبيه لم يأخذ مما في يده إلا قدر نصيبه في الأصل وهو الثلث من العبد الذي في يده ولو كان الموزون بينهم مكيلاً أو موزوناً والمسألة بحالها فإنه يأخذ منه نصف ما في يده والفرق بينهما ما ذكرنا فإذا كان هذا الحكم في القسمة التي تبتنى على الملك وهي لا تتضمن التمليك ابتداء ففي القسمة التي تبتنى على الحق وفيها تمليك العين ابتداء أولى .
ولو سمع بهذا الاستحقاق بقية الجند الذين أخذوا الرقيق فهم في سعة من بيع ما في أيديهم وجماع الأمة التي أصابت كل واحد منهم ما لم يقض الحكم عليه لمن استحق نصيبه@(3/152)
بحصته مما في يده لأنه تملكها بالقسمة بتمليك الإمام ابتداءً منه فلا يبطل ملكه في شيء منها ما لم يقض القاضي بإبطال ذلك التمليك عليه وهذا بخلاف الميراث فإن هناك لا يحل لمن لم يستحق نصيبه أن يطأها ولا يبيعها بعدما استحق نصيب أحدهم لأن هناك القسمة كانت تمييزاً للملك لا تمليكاً ابتداءً ويمكن فيها معنى المعاوضة بحيث أن ما أخذ كل واحد منهم أخذ بعضه بنصيبه فيها وبعضه عوضاً عن نصيبه فيما أخذه صاحبه .
فإذا ثبت بالبينة حرية الأصل الاستحقاق في نصيب أحدهم فقد بطلت تلك القسمة وعاد الحكم فيها كما كان قبل القسمة فلهذا لا يحل له وطؤها ولا بيع نصيب شريكه منها وحقيقة هذا الفرق تتبين بما قدمنا أنه لا ملك للغانمين قبل القسمة حتى لو استولد لم يصح استيلاده فعرفنا أن الملك يثبت بالقسمة ابتداء وفي الموروث الملك ثابت للشركاء حتى ينفذ العتق والاستيلاد فيه من بعضهم قبل القسمة فإذا بطلت القسمة بالاستحقاق كان المستحق عليه مالكاً لنصيبه مما في يد صاحبه قبل قضاء القاضي كما كان قبل القسمة وفي الغنيمة المستحق عليه بعد بطلان القسمة لا يملك شيئاً مما في يده قبل قضاء القاضي كأن لم يكن مالكاً قبل القسمة يوضحه أن في الغنيمة لو رأى الإمام أن لا تبطل القسمة وأن يعوض المستحق عليه قيمة نصيبه من بيت المال كان له ذلك وفي الميراث لو أراد القاضي أن يفعل ذلك لم يتمكن منه وكان للمستحق عليه أن يرجع بنصيبه فيما أخذه شريكه شاء الحاكم أو أبى وبه اتضح الفرق بين الفصلين .
ولو أن المولى لقسمة الغنائم عزل الخمس والأربعة الأخماس ولم يعط أحداً شيئاً حتى سرق الخمس أو هلك@(3/153)
أو سرقت الأخماس الأربعة فإنه يستقبل القسمة فيما بقي ويجعل ما هلك كأن لم يكن لأن القسمة لا تتم بتمييزه البعض من البعض قبل التسليم فالواحد لا يكون مقاسماً مع نفسه وإنما تتم القسمة بين اثنين فلهذا كان هلاك ما هلك قبل التمييز وبعده سواء .
ولو أعطى المساكين االخمس ثم سرقت الأخماس الأربعة فقد سلم للمساكين ما أخذوا ولم يكن للغانمين أن يرجعوا عليهم بشيء لأن القسمة قد تمت هنا بينه وبين أربا الخمس يدفع نصيبهم إليهم على اعتبار أنه كالوكيل من جهة الغزاة وبينه وبين أربا الخمس بدفع نصيبهم إليهم على اعتبار أنه كالوكيل للمساكين فإنه يصلح للنيابة من الجانبين وهو بمنزلة ما لو أوصى الرجل بثلب ماله للمساكين فقسم القاض وأعطى الثلثين للورثة ثم ضاع الثلث في يده أو أعطى المساكين الثلث ثم ضاع نصيب الورثة في يده فإن القسمة تكون ماضية ولا رجوع لأحد الفريقين على الآخر بشيء باعتبار أن القاضي كالنائب عن الذين بقي نصيبهم في يده فوصول نصيبهم إلى نائبهم بمنزلة وصوله إليهم فيكون هلاكه بعد ذلك عليهم .
وكذلك لو كان قسم الأخماس الأربعة وجزأها على سهام الخيل والرجالة ولكن لم يعط أحداً شيئاً حتى ضاع بعض ما عزل فإن القسمة تنتقض ويقسم ما بقي بينهم قسمة ميتقبلة فالقسمة لا تتم .
لأنه لا يكون مقاسماً بنفسه عليهم ولكن ما هلك يهلك من نصيب جماعتهم وما بقي لجماعتهم .
ولو كان أعطى الرجالة سهامهم وبقيت سهام الخيل ولم يعط المساكين الخمس أيضاً ثم ضاعت سهام الخيل جاز للرجالة ما أخذوا لأن القسمة في حقهم تمت على اعتبار أن الإمام نائب عن@(3/154)
أصحاب الخيل .
ثم ينبغي له أن يقسم ما في يده في الخمس على حق أرباب الخمس وعلى سهام الخيل لأن القسمة لم تتم فيما بين أرباب الخمس وأصحاب الخيل حين لم يعط واحداً من الفريقين نصيبه فما يتوى يتوى عليهم وما يبقى يبقى لهم .
وكذلك لو كان الذي ضاع ما عزله للخمس فإنه يقسم ما عزله لأصحاب الخيل بينهم وبين أربا الخمس على مقدار حقهم ولا يرجع على الرجالة بشيء .
لأن القسمة قد تمت في حقهم حين قبضوا نصيبهم وفرق بين هذه المسائل وبين ما إذا استحق نصيب البعض لحرية أو غير ذلك على ما بينا وووجه الفرق أن بالاستحقاق يتبين أن القاسم أخطأ وأن القسمة كانت فاسدة وأما هاهنا فبهلاك البعض لم يتبين خطأ القاسم فلهذا كانت القسمة باقية في نصيب من تمت القسمة في حقه والله أعلم .
قال : قد بينا أن الإمام لو قسم الغنائم في دار الحر أو باعها ثم لحقهم مدد لم يشاركوهم فيها لأن بالقسمة قد ثبت الملك لكل واحد منهم في نصيبه فلو ثبت للمدد شركة لثبت بطريق الغنيمة فالمسلم لا يثبت له الحق في ملك المسلم بطريق الغنيمة .
وكذلك بالبيع قد ثبت الملك للمشتري فتعذر اثبات الشركة للمدد في المبيع ولا يثبت لهم الشركة في الثمن أيضاً سواء قبض من المشتري أو لم يقبض لأن وجوب@(3/155)
الثمن للغانمين بالبيع .
والشركة في الغنيمة لا فيما صار مستحقاً لهم بالعقد .
ولأن العقد يقتضي تقابل البدلين في الملك وكما ثبت الملك للمشتري في المبيع يثبت للغانمين في الثمن فكان ذلك أقوى في قطع الشركة من تأكد حقهم بالإحراز لأن الإمام نائب عنهم في البيع فكأنهم باعوه بأنفسهم ونفوذ البيع من جهتهم أية تأكد حقهم فيه فكأنه قسمها بينهم وباع كل واحد منهم نصيبه .
فلو أن المشترين لم ينقدوا الثمن وقبضوا ما اشتروا ثم لحقهم المشركون وقد علم الأمير أنه لا طاقة للمسلمين بهم فأمر منادياً فنادى : من اشترى منا شيئاً فليطرحه وتجمعوا حتى تبلغوا مأمنكم من دار الإسلام ففعلوا ذلك ثم طالبهم الأمير بالثمن بعد ما خرجوا فقالوا : قد طرحنا ما اشترينا بأمرك فلا ثمن لك علينا أو قالوا : اضمن لنا قيمته فإذا كانوا طرحوا ذلك طائعين فلا شيء لهم على الأمير وعليهم ما التزموا من الثمن لأن حكم البيع في المبيع قد انتهى بالتسليم والتحق بسائر أملاكهم فهم قوم أتلفوا ملكهم طوعاً والأمير أشار عليهم بمشورة فلا يوجب ذلك غرماً لهم عليه ولا يسقط به الثمن الذي تقرر ديناً في ذمتهم .
وإن كان أكرههم على ذلك بوعيد متلف نظر الخليفة في ذلك فإن علم أنه فعل ذلك نظراً لهم لم يضمن لهم شيئاً مما طرحوا لأنه كان مأموراً من جهته بالنظر لهم وقد فعل لأنه أكرههم على ما يحق عليهم فعله شرعاً فإن المسلم مأمور عند الضرورة بأن يجعل ماله وقاية لنفسه وهو ما أمرهم إلا بذلك والمكره بحق يكون محسناً وما على المحسنين من سبيل .
وإن علم أن أكرههم لا على وجه النظر لهم ضمن لهم قيمة ما طرحوا لأنه ما كان متعدياً فيما أكرههم عليه فخالفاً لأمر الخليفة فكانوا بمنزلة الآلة له بعد تحقق الإكراه فكأنه أخذ المال منهم وطرحه فيضمن لهمن@(3/156)
يمته .
والثمن واجب على المشترين في الوجيهين لأنه تقرر ذلك ديناً في ذمتهم وإتلاف البيع بعد تقرر الثمن وانتهاء العقد لا يسقط الثمن سواء حصل بفعل المشتري أو بفعل البائع .
ولو كان قال : ليطرح كل واحد منكم ما اشترى مني وهو بريء من الثمن أو على أنه بريء من الثمن أو إن طرحه فقد أبرأته من الثمن فطرحوها طائعين أو مكرهين فالثمن واجب عليهم لأن هذه الزيادة من الأمير باطل فإنه ليس له ولاية الإبراء عن الثمن فيما باعه للغانمين أما عند أبي يوسف رحمه الله فظاهر لأنه بمنزلة الأب والوصي أو الوكيل في ذلك وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلأنه مما لا يتزم العهدة في هذا التصرف لأنه بمنزلة الحكم منه فيكون كالرسول في البيع لا يملك الإبراء من الثمن .
وكذلك لو كانوا في السفينة فاحتاجوا إلى أن يخففوها فأمرهم بالطرح في الماء فهو كالأول في جميع ما ذكرنا وكذلك لو كان بائع الأطعمة في السفينة متصرفاً لنفسه ثم ناداهم : من طرح شيئاً مما اشتراه مني في الماء فهو بريء من ثمنه أو اطرحوا على أنكم برآء من الثمن فهذا باطل وعليهم الثمن له وكان ينبغي أن لا يجب الثمن هان لأنه كان مالكاً للإبراء عن الثمن ولكن نقول : إنه علق الإبراء بالشرط والإبراء لا يحتمل التعليق بالشرط كالعقد .
ولو قال لهم رجل آخر : اطرحوا على أن علي ثمنه أو قيمته لكم لم يصح ذلك ولك يلزمه شيء وكذلك إذا قال البائع ذلك وهذا لأن المبيع قد صار في ملكهم وضمانهم فمن يناديهم بالطرح بعد ذلك يكون مشيراً عليهم بما يفعلونه في ملكهم وذلك لا يكون سبباً في الضمان عليه إذا فعل المرء في ملك نفسه لا ينتقل إلى من أشار عليه فيبقى الإبراء أو العقد متعلقاً بالشرط وذلك باطل وبهذا الطريق يتضح الكلام في بيع الأمير الغنيمة ولو كان@(3/157)
.
الأمير أمر المنادي فنادى : أيها الناس إنا قد أقلنا المشترين العقد فيما اشتروا منا فمن كان اشترى شيئاً فليطرحه ففعلوا ذلك لم يكن عليهم من الثمن شيء لأنه أقالهم البيع وذلك صحيح منه كأصل البيع ألا ترى أن الأب والوصي يصح منهما الإقالة فيما باعه لليتيم كما يصح أصل البيع وبعد صحة الإقالة لا يبقى الثمن على المشتري ثم البيع عاد كما كان غنيمة وقد طرحوه بأمر الأمير فكأنه طرحه بنفسه فلا يجب عليهم شيء بسببه وهو بمنزلة ما لو اشترى ثوب رجل فقال له البائع : قد أقلتك البيع فاقطعه لي قميصاً ففعل ذلك أو كان المشتري طعاماً فقال : قد أقلتك البيع فيه فتصدق به عني على هؤلاء المساكين ففعل ذلك فإن الإقالة تكون صحيحة وعلى البائع رد الثمن وهذا لأن الإقالة معتبرة بأصل العقد .
ولو قال : قد اشتريت منك هذا الطعام بكذا فتصدق به عني أو هذا الثوب بكذا فاقطعه لي قميصاً ففعل الرجل ذلك كان البيع صحيحاً بينهما وعلى الآمر الثمن فكذلك الإقالة .
أرأيت لو أن المشترين وجدوا عيباً بالمبيع فقبل الأمير منهم بغير قضاء لم يكن ذلك صحيحاً والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء يكون بمنزلة الإقالة فيه فتبين أن يصح الإقالة منه معهم في حق الغانمين وهذا لأن حقهم قد تأكد في الثمن ولكن لم يتعين ملكهم قبل القسمة وذلك لا ينفي ولاية التصرف للأمير كما في الغنائم المحرزة بالدار وكما في مال الخراج إذا أخذ الإمام في ذلك ثياباً أو باعها ثم رأى أن يقبل المشتري العقد فيها صحت الإقالة منه فكذلك ما سبق .
وإن لم يطرحوا ذلك حين سمعوا النداء حتى إذا ساروا منقلة أو منقلتين عملوا عملاً آخر مما يستدل به على قطع المجلس طرحوا ذلك فعليهم الثمن لأن الإقالة معتبرة بأصل البيع وكما أن إيجاب البيع يبطل بالتفرق قبل القبول فكذلك في المجلس لم تثبت الإقالة وبقي الثمن عليهم .
وإن ادعى المشترون أنهم طرحوا كما سمعوا ولا يعلم ذلك إلا بقولهم لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة لأنهم ادعوا ما يسقط الثمن عنهم بعد تقرر السبب الموجب فهو كما لو ادعوا قبول الإقالة في المجلس@(3/158)
والبائع منكر ذلك فلا يقبل قولهم إلا بحجة .
ولو كان أمر المنادين حتى قال : من طرح منكم المتاع الذي اشترى مني فقد أقلته البيع فيه فهذا في القياس لا يصح لأنه تعليق الإقالة بالشرط .
وفي الاستحسان هو صحيح لأن المقصود تحقيق الإقالة والحث لهم على الطرح .
وكذا لو قال : أقلتكم على أن تطرحوا أو اطرحوا على الإقالة منكم لي وكذا غير الأمير من باع متاعه فهو على قياس الأمير وهو نظير القياس والاستحسان في أصل البيع إذا قال : إن أديت إلي كذا درهماً ثمن الثوب فقد بعته منك فأدى الثمن في المجلس فإنه يكون ذلك بيعاً صحيحاً استحساناً فكذلك الإقالة .
ولو كان سمع النداء من المنادي بعض الناس ثم أخبروا بذلك من لم يسمع النداء فهذا وما لو سمعوا جميعاً من المنادي سواء لأن الأمير أذن بتبليغ كلامه إلى من لم يسمع دلالة لكل من سمع كما أنه أذن للمنادي في ذلك أيضاً وهذا بخلاف ما لو كان البائع تاجراً باع متاعه في السفينة فإن هناك إذا لم يسمع كلامه في إيجاب الإقالة بعض المشترين وأخبره بذلك من سمع فطرح معهم فإنه يجب عليه الثمن لأن المبلغ لم يرسله البائع ولم يأمره بالتبليغ صريحاً ودلالة فصار كأنه لم يسمع أصلاً فأما الأمير فإنه أذن في التبليغ دلالة لأن مبنى كلام الأمير فيما يخاطب به رعيته على الانتشار والاستفاضة ومثل هذا لا يوجد في كلام التاجر الذي يتصرف لنفسه ثم الإقالة تعتبر بالعقد .
ولو قال التاجر : قد بعت عبدي هذا من فلان بكذا فبلغه من سمع منه ذلك الكلام من غير أن يجعله رسولاً إليه فقبل لم ينعقد البيع به ولو قال : فأبلغه يا فلان فذهب فأبلغه كان ذلك بيعاً صحيحاً إذا قبله .
وكذلك لو ذهب رجل آخر فأبلغه لأنه حين قال : فأبلغه يا فلان فقد أظهر من نفسه الرضا بالتبليغ إليه فكل من بلغه فقبل البيع كان البيع صحيحاً وإذا ثبت هذا العقد فكذلك في الإقالة وبه يتضح فصل الأمير حين أمر المنادي به لأنه قد صرح بالأمر بالتبليغ للمنادى فتبليغه وتبليغ غيره بعد ذلك سواء .
وكذلك لو قال الأمير نفسه : قد أقلتكم @(3/159)
البيع فاطرحوا ما اشتريتم مني وليبلغ شاهدكم غائبكم .
فهذا والأول سواء لأنه نص على الأمر بالتبليغ فعبارة كل مبلغ تكون بمنزلة عبارته .
ولو كان الأمير لم يذكر هذه الزيادة ففي القياس لا يبرأ من الثمن إلا من سمع مقالة الأمير كما في حق البائع لنفسه ولكنه استحسن فقال : هم براء من الثمن إذا طرحوا حين بلغهم مقالة الأمير .
لما بينا أن مبنى كلام الأمير على الانتشار والظهور عادة والعادة تعتبر في تقييد مطلق الكلام فكان هذا التصريح بقوله فليبلغ شاهدكم غائبكم سواء والله أعلم .
ولو أن الأمير في دار الحرب عزل الخمس من الأربعة الأخماس ولم يفع إلى أحد شيئاً حتى أتاهم جيش آخر مدد أقلهم الشركة لما بينا أن الأمير لا يقاسم نفسه وأن الملك لا يثبت لأحد في شيء بهذا العزل .
ألا ترى أنه لو سرق المعزول للخمس كان الباقي مشتركاً بين الغانمين وأرباب الخمس أخماساً بمنزلة ما لو سرق البعض قبل العزل وإذا ثبت أهذ لم يكن قسمة فقد ظهر أن المدد لحقوهم قبل القسمة والبيع وكانوا شركاء الجيش في الأخماس الأربعة .
ولو كان الأمير أعطى الخمس المساكين ولم يقسم الأخماس الأربعة بين الجند حتى لحقهم المدد فلا شركة لهم مع الجيش في الأخماس الأربعة هاهنا لأن القسمة قد تحققت بتسليم الخمس إلى أرباب الخمس وقد ثبت الملك لهم ألا ترى أن الأخماس الأربعة لو هلكت بعد ذلك لم يكن على الغانمين@(3/160)
رجوع على أرباب الخمس بشيء .
وقد بينا أنه لا شركة للمدد بعد القسمة فإن قيل : شركة المدد إنما تثبت في الأخماس الأربعة بعد الخمس ولم توجد القسمة فيما هو محل حقهم فكيف تنقطع شركتهم بقسمة وقعت لا في محل حقهم قلنا : لا كذلك فإن القسمة لا يتصور وقوعها من أحد الجانبين دون الآخر فمن ضرورة تقرر القسمة في المصروف إلى أرباب الخمس ثبوت حكم القسمة في الأخماس الأربعة يوضحه أن المدد لو استحقوا الشركة فإنما يستحقون ذلك بطريق الغنيمة وإذا صار نصيبهم كالغنيمة ابتداءً فلا بد من إيجاب الخمس فيها إذ الخمس يجب في كل ما يصاب بطريق الغنيمة وهذا لا وجه له هاهنا ثم أدنى درجات هذه القسمة هاهنا أن تجعل الأخماس الأربعة بمنزلة التنفيل لأنه لا يتمكن إيجاب الخمس فيما يجعل للمدد من ذلك فيكون بمنزلة النفل .
ولو أن الأمير نفل سرية بعض ما أصابوا ثم لحقهم المدد بعد الإصابة لم يكن له شركة مع السرية في النفل وكذلك هاهنا لا يكون للمدد شركة في الأخماس الأربعة إذا لحقوهم بعدما صرف الخمس إلى أربابها .
وكذلك لو كان الأمير قسم الأخماس الأربعة بين أهلها ولم يقسم الخمس حتى لحق المدد أو كان أخذ بعض القوم سهامهم وبقي الخمس وسهام بعضهم فلا شركة للمدد لثبوت حكم القسمة بما صنعه الأمير ولو لم يصنع شيئاً من ذلك ولكنه عجل لرجل أو رجلين نصيبهما من الغنيمة ثم لحقهم جيش آخر شركوهم في المصاب ولو عجل ذلك لأناس كثيرة لم يشركهم المدد بعد ذلك والقياس في الفصلين واحد أنه لا شركة للمدد فقد وجد منه نوع القسمة ولكنه فرق بين القليل والكثير على طريقة الاستحسان وهو نظير ما سبق إذا ظهر الاستحقاق في نصيب واحد أو اثنين لم تبطل القسمة ويعوض المستحق عليه قيمة نصيبه من بيت المال بخلاف ما إذا استحق نصيب جماعة منهم فلما فصل بين@(3/161)
القليل والكثير في بعض القسمة بالاستحقاق فكذلك في ابتداء القسمة يفصل بين أن يعجل لنفر يسير نصيبهم أو لجمع كثير فلا يجعل تعجيله للواحد والمثنى قسمة لأن الشركة في الغنيمة شركة عامة فلا يتغير ذلك بما صنعه مع واحد أو اثنين وإنما يتغير إذا صنع ذلك في حق جمع عظيم منهم لتحقق معنى العموم فيما صنعه أرأيت لو أعطى نصيب الفرسان وبقيت الرجالة أو أعطى نصيب أكثر الجند وبقي في يده نصيب مائة رجل أو نحو ذلك أكان للمدد شركة إذا لحقوا بعد ذلك هذا مما لا يقول به أحد .
ولو أن المدد دخلوا دار الحرب قبل القسمة ولكنهم لم يصلوا إلى الجيش حتى قسم الإمام بين الغانمين فلا شركة للمدد إذا لحقوهم بعد ذلك لأن ثبوت الشركة للمدد عند اللحوق بالجيش ألا ترى أنهم لو دخلوا دار الحرب ولم يلحقوا بهم حين خرجوا من جانب آخر إلى دار الإسلام لم يكن للمدد معهم شركة فعرفنا أن المعتبر حال لحوقهم بهم لا حال دخولهم دار الحرب وعند اللحوق بهم إنما يستحقون الشركة في الغنيمة لا في ملك الغانمين وقد تعين الملك بالقسمة هاهنا قبل أن يلحقوا بهم .
ولو كانوا نزلوا قريباً منهم قبل القسمة حتى يكونوا عوناً لهم إن احتاجوا إليهم إلا أنهم لم يخالطوهم فهم شركاؤهم فيها لأن ثبوت الشركة للمدد في الغنيمة باعتبار أن الجيش يتقوون بهم وفي هذا المعنى لا فرق بين ما إذا خالطوهم وبين ما إذا نزلوا بالقرب منهم .
فإن قسم الإمام الغنيمة بين أهل العسكر الأول بعد ذلك ولم يعط العسكر الثاني من ذلك شيئاً ثم رفع العسكر الثاني الأمر إلى الخليفة فإنه يمضي ما صنع الأول لأن ثبوت الشركة للمدد مع الجيش إذا لم يشهدوا الوقعة مختلف فيه بين العلماء والأمير الأول فيما يصنع القسمة بمنزلة الحاكم وحكم الحاكم في المجتهد نافذ إذا رفع إلى حاكم آخر يرى خلافة لم ينقضه فكذلك ما صنعه الأمير هاهنا .
ولو كان الأمير باع الغنائم في دار الحرب شرط المشترون الخيار لأنفسهم أو كانوا لم يروا فردوا بخيار @(3/162)
الرؤية أو بخيار الشرط أو ردوا ذلك بعيب قبل القبض أو بعده ثم لحقهم المدد لم يكن لهم شركة في تلك الغنيمة لأن البيع فيها قد نفذ ولزم من الأمير ألا ترى أن الملك ثبت للمشترين مع خيار الرؤية والعيب عندهم جميعاً ومع خيار الشرط عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وعند أبي حنيفة رحمه الله : المشترون إن لم يملكوا فقد صاروا أحق بالتصرف فيها بحكم الشراء فيتبين بهذا أنها خرجت من أن تكون غنيمة والتحقت بسائر أملاك المسلمين فلا يكون للمدد فيها شركة بعد ذلك ألا ترى أنهم لو لحقوا بهم والمشترون على خيارهم لم ينقضوا البيع لم يكن لهم شركة في الثمن إذا تم البيع فكذلك لا يكون لهم شركة في المبيع إذا نقض البيع وصاروا عوده إلى يد الإمام ينقض البيع ببعض هذه الأسباب بمنزلة العود بالإقالة إذا التمس ذلك المشترون منه .
ولو قسم الأمير الخمس وأعطى للمساكين ثم رأى أن يبيع الأخماس الأربعة ويقسم ثمنها فذلك جائز منه لأن القسمة وإن تحققت بين الغزاة وأربا الخمس فالملك لم يثبت للغزاة في نصيبهم قبل القسمة بينهم .
ألا ترى أنهم لو باعوا ذلك لم يجز بيعهم وما لم يثبت الملك لهم كانت ولاية الإمام في البيع وقسمة الثمن باقية .
ألا ترى أنه لو قسم الأخماس الأربعة بينهم ثم باع الخمس كان ذلك جائزاً منه فكذلك الأول .
ولو كان الإمام شرط الخيار لنفسه في البيع ثلاثة أيام ثم لحقهم المدد بع نقض البع أو قبله فهم شركاء الجيش في المبيع إن انتقض البيع في الثمن وفي الثمن إن تم البيع لأن الملك لا يثبت للمشتري مع خيار الشرط للبائع فكذلك لا يثبت لهم حق التصرف في المبيع فلم يخرج به من أن يكون باقياً على حكم الغنيمة بخلاف الأول وهذا لأن البيع بشرط الخيار للبائع في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبل وجود الشرط وإنما يثبت حكم البيع ابتداءً عن إسقاط الخيار ولهذا لو كان لمشتري أعتق قبل ذلك لم ينفذ عتقه فيكون هو كالبائع ابتداء بعدما لحقهم المدد .
ولو أن الأمير عزل الخمس وأعطاه المساكين ولم يقسم الأخماس الأربعة حتى أعتق رجل جارية من الغنيمة أو استولدها لم يصح شيء من ذلك منه لأن الملك لم يثبت بهذه@(3/163)
القسمة للغانمين وبدون الملك في المحل لا يثبت الاستيلاء والإعتاق وبأن لا يكون للمدد شركة إذا لحقوا في هذه الحالة فإن ذلك لا يدل على ثبوت الملك لهم كما يعد الإحراز بالدار قبل القسمة فإن الملك لا يثبت لهم حتى لا ينفذ العتق والاستيلاء .
وإن كان لو لحقهم المدد لم يشاركوهم ولهذا وجب العقر على الوطء هاهنا لأن بما صنع الإمام صارت هذه كالغنائم المحرزة بالدار في تأكد الحق فيها وقد سقط الحد عن الواطئ للشبهة فيجب العقر وتكون الجارية مع ولدها في الغنيمة تقسم بينهم ولأن الأخماس الأربعة في هذه الحالة بمنزلة النفل والاستيلاء والإعتاق من بعض أصحاب النفل لا يكون صحيحاً .
وإن لم يكن للمدد منهم شركة فكذلك هذا وإن كان الأمير قسم الأخماس الأربعة بين العرفاء وأهل الرايات ثم أعتق بعضهم عبداً فقد بينا أن عتقه ينفذ هاهنا استحساناً فيكون الحكم فيه كالحكم في العبد المشترك يعتقه بعضهم .
وعلى هذا الأصل لو مات بعض الغانمين بعدما أعطى الأمير الخمس للمساكين فإن نصيبه يصير ميراثاً لأن نفوذ القسمة فيما يرجع إلى تأكد الحق بمنزلة البيع أو الإحراز بالدار والإرث يجري في الحق المتأكد كما يجري في الملك .
وكذلك لو ظهر المشركون على الأخماس الأربعة وأحرزوها بالدار ثم ظهر جيش آخر عليها بعد ذلك فإن وجدها الجيش الأول قبل القسمة فهم أحق بها بغير شيء وإن وجدها بعد القسمة فلا سبيل لهم عليها كما هو الحكم في الغنائم المحرزة بالدار قبل القسمة وهذا لأن الجيش الثاني ملكوها بالقسمة والجيش الأول ما كانوا يملكونها فلا يثبت لهم@(3/164)
حق الأخذ مجاناً ولا بالقيمة لأن ذلك لا يفيدهم شيئاً فأما قبل القسمة فالجيش الثاني لا يملكونها وإن تأكد حقهم فيها بالإحراز وقد كالحق لأولين متأكداً فيها فيترجحون بالسبق .
وإن كان حضور الجيش الأول بعد قسمة الأمير الخمس بين المساكين فهم أحق بالأخماس الأربعة لأنها لم تصر ملكاً للجيش الثاني بهذه القسمة .
ولا سبيل لهم على ما أخذه المساكين لأنها قد صارت ملكاً لهم .
ولو كان قسم الأخماس الأربعة بين الجند الثاني وبقي الخمس فالجيش الأول يأخذون الخمس بغير شيء ولا سبيل لهم على الأخماس الأربعة لثبوت الملك فيها للجند الثاني .
وإن لم يفعل شيئاً من ذلك ولكن باع الغنائم كلها قبل الإحراز أو بعده ثم حضر الجيش الأول فلا سبيل لهم عليها .
لأنها بالبيع صارت ملكاً للمشترين فنفذ فيها عتقهم وليس للأولين ولاية أبطال الملك المتعين لمكان ملك حق كان لهم فيها ولم يصر ملكاً بعد .
ولو كان الإمام خمسها وقسمها بين أهل الرايات وبين الأشخاص من الجند الأول ثم ظهر المشركون عليها وأحرزوها ثم استنفذها من أيديهم جيش آخر فأخرجوها وحضر أصحابها الأولون فإن حضروا قبل القسمة أخذوها بغير شيء وإن حضروا بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن شاءوا لأن الملك كان ثبت لعم بالقسمة بين الأشخاص أو ببين أهل الرايات حتى كان ينفذ تصرفهم فيها والاستيلاء الوارد عليها بعد ذلك بمنزلة الاستيلاء الوارد على سائر أملاكهم والله أعلم بالصواب .@(3/165)
باب العيب يوجد في بعض الغنيمة بعد القسمة أو قبلها
وإذا عزل الأمير الخمس على حدة والأخماس الأربعة على حدة وعدل في القسمة ثم وجد ببعض الرقيق الذين جعلهم في أحد القسمين عيباً قبل دفع نصيب كل فريق إليهم فإن كان ذلك عيباً يسيراً أمضى القسمة على حالها لأن قسمة الغنائم مبنية على التوسع والعيب اليسير فيما بني على التوسع غير معتبر كما في الصداق وبدل الخلع ألا ترى أنه لو وجد هذا العيب بعد تمام القسمة لم يلتفت إليه فكذلك إذا وجده قبل تمام القسمة قلنا : لا يمتنع لأجله إتمام القسمة .
وإن كان ذلك عيباً فاحشاً وجده ببعضهم أو عيوباً كثيرة غير فاحشة وجدها بجماعة الرقيق بحيث إذا جمعت كانت بمنزلة العيب الفاحش فإنه لا ينقض القسمة أيضاً ولكن ينظر إلى هذا النقصان فيجمعه ثم يزيد عليه من القسم الآخر حتى تحصل المعادلة لأن العيب الفاحش معتبر لما في اعتبار الفائدة فيما بني على التوسع وفيما بني على الضيق إلا أنه لا حاجة به إلى نقض ما باشره من عمل القسمة والمقصود هو المعادلة وذلك يحصل بالزيادة من أحد القسمين في القسم الآخر فلا ينبغي أن ينقض ما صنعه من غير حاجة فإن قيل : القسمة لا تقع قبل التسليم فينبغي أن يؤمر بالاستئناف على وجه يعتدل فيه النظر من الجانبين .
قلنا : ما أتى بهمن العزل هو من عمل القسمة وإن لم يتم فبظهور العيب الفاحش تبين أنه أقام بعض العمل دون البعض فإنما يشتغل بمباشرة ما لم يأت به من العمل لا بنقض ما قد أتى به .
وكذلك لو وجد بعض الرقيق الذين@(3/166)
جعلهم للخمس حراً مسلماً أو ذمياً أو أم ولد مسلم فإنه لا ينقض ما صنع من القسمة ولكنه يأخذ من الأخماس الأربعة مقدار أربعة أخماس هذا الذي وجده حراً لأن المعادلة بذلك تحصل .
وفي هذا الجواب نظر .
فإن خمس هذا الذي وجده حراً من نصيب أرباب الخمس وأربعة أخماسه من نصيب الغانمين كما كان قبل القسمة إذا القسمة لا تؤثر فيه فأما إذا أخذ أربعة أخماس قيمته مما بقي وجعله لأرباب الخمس يزداد نصيبهم لا أن يحصل به المعادلة .
ولكنا نقول : هو حين جعل هذا في حصة أرباب الخمس فقد جعل خمسه لأرباب الخمس باعتبار أصل حقهم وأربعة أخماسه لهم عوضاً عما سلمه للغانمين من نصيب أرباب الخمس فيما دفعه إليهم فإنما يكون له الرجوع عند استحقاق المعوض بالعوض .
وكذلك إن كان وجد ذلك بعدما قسم الخمس بين أهله دون الأخماس الأربعة فإنه لا ينقض القسمة ولكته يرجع بقدر ما يحصل به المعادلة عند الكثرة وعند القلة يصير إلى التعويض من مال بيت المال إن كان وقع ذلك في قسم الغانمين وإن كان وقع ذك في قسم الخمس يرجع بحصته فيما صار للغانمين ثم إن شاء أعطى ذلك من كان دفع إليه وإن شاء أعطاه مسكيناً آخر لأن بظهر الحرية فيه تبين أنه لم يصح دفعه فيما دفعه إليه فيبقى رأيه في اختيار المصرف في ذلك القدر كما لو لم يدفعه إلى أحد وكذلك في الرجوع بنقصان العيب الفاحش فالرأي إليه في أن يصرفه إلى ذلك المسكين أوغيره.@(3/167)
باب ما يجوز لصاحب المقاسم أن يأخذ لنفسه وما لا يجوز وما يكون قبضاً في البيع وما لا يكون وإذا باع المولى للقسمة الغنائم في دار الحرب أو في دار الإسلام بأقل من قيمتها فإن كان النقصان بقدر ما يتغابن الناس في فبيعه جائز وإن كان مما لا يتغابن الناس فيه فبيعه مردود لأن فعل المولى كفعل الإمام بنفسه والمعنى في الكل واحد وهو أن الغنيمة حق الغانمين ونفوذ البيع فيه من غير رضاهم باعتبار النظر لهم في ذلك والبيع بالغبن الفاحش لا يتحقق فيه معنى النظر فأما بالغبن اليسير فيتحقق فيه معنى النظر لأن ذلك مما لا يستطاع الامتناع منه عدة .
ألا ترى أن الأب والوصي يملكان بيع مال الصغير بالغبن اليسير ولا يملكان ذلك بالغبن الفاحش .
فإن قيل : لمن باشر البيع في الغنيمة نصيب وله ولاية البيع في نصيبه مطلقاً فينبغي أن ينفذ بيعه فيه على كل حال .
قلنا : لا ملك له في شيء منه قبل القسمة .
ألا ترى أنه لا ينفذ بعه في شيء إذا لم يوله الإمام ذلك فعرفنا أن تنفيذ بعه في الكل باعتبار معنى النظر .
يوضحه : أن المحاباة الفاحشة ممن لا يملك الهبة بمنزلة الهبة وهو لو وهب شيئاً من ذلك لم تصح هبته في الكل .
فكذلك إذا باع بغبن فاحش واستدل عليه بحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فإنه حين افتتح العراق باع من المسور بن مخرمة طستاً بألف درهم فباعها المسور بألفي درهم فقال له سعد : لا تتهمني ورد الطست فإني أخشى أن يسمع ذلك عمر - رضي الله عنه - فيرى أني قد جابيتك فرده ثم ذكر لعمر - رضي الله عنه - فقال : الحمد لله الذي جعل رعيتي تخافني في آفاق الأرض وما زادني على ذلك@(3/168)
شيئاً ولو كان هذا البيع جائزاً لأمر عمر - رضي الله عنه - برد الطست عليه .
فإن اشترى المولى شيئاً من الغنيمة لنفسه بأقل من قيمته أو أكثر فإن ذلك لا يجوز لأنه لا يكون مشترياً من نفسه ولا بائعاً منها فإن الواحد لا يتولى العقد من الجانبين لما فيه من تضاد الأحكام .
من أصحابنا من يقول هذا الجواب قول محمد - رحمه الله - فأما على قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله - فينبغي أن يجوز ذلك إذا اشتراه بأكثر من قيمته على وجه يكون فيه منفعة ظاهرة للغانمين بمنزلة الوصي يشتري من مال اليتيم لنفسه والأصح أنه قولهم جميعاً لأن بيعه هذا بمنزلة الحكم ولهذا لا يلزمه العهدة في ذلك فيكون هذا قضاء منه لنفسه والإنسان لا يكون قاضياً في حق نفسه عندهم جميعاً ولو لا هذا المعنى لكان ينبغي أن يجوز البيع عندهم جميعاً وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة لأن الوصي إنما لا يبيع من نفسه لأن العهدة تلحقه فيؤدي إلى ضاد الأحكام وذلك لا يجوز .
فإن كان المشترى جارية وأشهد أنه يأخذها لنفسه بثمن قد سماه فحبلت منه وولدت ردت في الغنيمة مع عقرها لأن البيع كان باطلاً وقد سقط الحد للشبهة فعليه اعقر .
وفي القياس الولد مردود في الغنيمة أيضاً ولا يثبت نسبه منه كما لو كان فعل هذا قبل الشراء لنفسه .
ولكنه استحسن فجعل الولد حراً بالقيمة ثابت النسب منه لأجل الغرور الثابت باعتبار النظر للمولى عليه وهذا القدر يكفي لإثبات حكم الغرور فلهذا كان ابنه حراً بالقيمة .
فيجعل ذلك كله في الغنيمة إن لم يقسمها وإن كان قسمها وقسم الثمن الذي غرم مع ذلك فإن الإمام يعطيه الثمن من قيمة الولد الذي غرم ومن العقر لأن ذلك دين عليه للغانمين والثمن الذي في الغنيمة لبطلان البيع فيجعل أحدهما قصاصاً@(3/169)
بالآخر .
وإن لم يكن في ذلك وفاء بالثمن باع الجارية فأوفاه بقية الثمن ثم أخذ ما بقي فجعله في بيت المال لأن هذا من جملة الغنيمة وقد تعذر قسمته بين الغانمين لتفرقهم ثم بين الحيلة للمولى إذا أراد أن يشتري شيئاً لنفسه .
فقال : ينبغي ذلك ممن يثق به بأقصى ثمنه ويسلمه إليه ثم يشتريه من لنفسه بعدما يقبض الثمن من كله إن أراد أن يشتريه منه لنفسه بعدما يقبض الثمن منه كله إن أراد أن يشتريه بأقل من ذلك الثمن وإن أراد أن يشتريه بمثل ذلك الثمن أو أكثر فلا حاجة إلى قبض الثمن .
لأن حاله في هذا كحال القاضي فيما يريد أن يشتريه لنفسه من مال اليتيم ثم استدل علي أنه لا يملك الشراء من نفسه لنفسه بحديث عثمان - رضي الله عنه - .
فإن إبلاً من إبل الصدقة أتى بها عثمان فأعجبته فأقامها في السوق حتى بلغت أقصى ثمنها ثم أخذها بذلك فأتى الناس عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأخبروه بما صنع فأتاه وقال له : هل رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صنع من ذلك شيئاً وأمره برد ذلك وكان هذا أول ما عيب على عثمان - رضي الله عنه - فإذا كان هذا يرد على مثل عثمان فعلى غيره ممن يلي المقاسم أولى ولو أن المولى للقسمة جزأها وبين نصيب كل رجل وأقرع عليها فخرج نصيبه فيما خرج جاز قبض المولى لنصيب نفسه وإن هو الذي ولي القسمة كما يجوز القبض من غيره في نصيب نفسه لأنه لا يكون منهما في تمييز نصيب نفسه بالقرعة وإنما تتمكن التهمة فيما يخص به نفسه لا فيما تستوي نفسه فيه بغيره وقد بينا هذا في التنفيل يوضح الفرق بين القسمة والبيع أن القسمة بهذه الصفة لا تتم بهد وحده بل به وبالمسلمين فإنهم يقبضون أنصباءهم كما@(3/170)
يقبض هو نصيبه ولا تتم القسمة إلا بالقبض فإذا كان تمام القسمة بهم جميعاً كان مستقيماً فأما البيع لو صح كان تمامه به وحده والبيع لا يتم بالواحد مباشرة من الجانبين .
ألا ترى أن أحد الورثة لو قسم التركة برضاء سائر الورثة وقبض كل واحد منهم نصيبه بعد الإقراع جاز وبمثله لو اشترى أحد الورثة نصيب سائر الورثة من التركة من نفسه برضاهم لم يجز ذلك فكذلك حال المولى للقسمة في الغنيمة .
ولو أن المولى لبيع الغنائم جعل رمكاً في حظيرة ثم باع رمكة بعينها وقبض الثمن وقال للمشتري : ادخل الحظيرة فأقبضها فقد خليت بينك وبينها فدخل الرجل وعالجها فانفلتت منه وخرجت من باب الحظيرة فيطالبه المشتري برد الثمن لأنه لم يقبضها فالأصل في جنس هذه المسائل أن قبض المعقود عليه يكون من المشتري تارة بالتمكن منه بعد تخلية البائع بينه وبينها وتارة يكون بمباشرة التسليم إليه ففي التخلية يعتبر التمكن من إثبات اليد عليه ليصير قابضاً وفي مباشرة التسليم إليه لا يعتبر التمكن من تقرير اليد فيه لأن هذا تسليم حقيقة وحقيقة الشيء تثيت بوجوده والأول تسليم من طريق الحكم فيستدعي التمكن من قبضه .
إذا عرفننا هذا فنقول : إذا كانت الرمكة في الحظيرة بحيث يقدر المشتري على أخذها إلا أن ذلك ربما يصعب عليه إلا بتوهيق أو نحوه وكانت لا تقدر أن تخرج من الحظيرة قبل فتح الباب فهذا قبض من المشتري لتمام التسليم من البائع بالتخلية فإنه صار متمكناً من قبضها .
وإن كانت بحيث لا يقدر على أخذها أو كانت في موضع تقدر أن تنفلت منه ولا يضبطها فليس هذا بقبض من المشتري لأن التخلية لم توجد حكماً فإنها تمكين من القبض والتمكين لا يتحقق بدون التمكن .
وإن كان المشتري لا يقدر على أخذها وحده ويقدر على ذلك إن كان معه أعوان فكذلك الجواب لأنه ما صار متمكناً من قبضها فإن تمكن الإنسان من شيء عند وجود أعوان له على ذلك لا يكون دليلاً عل تمكنه منه بنفسه ألا ترى أنه@(3/171)
قد يتمكن من نقل الخشبة الثقيلة بأعوان يعينونه على ذلك ولا يدل ذلك على تمكنه منه بنفسه وكذلك إن كان يقدر على أخذها وحده ولو كان معه حبل وإنما انفلتت لأنه لم يكن معه حبل فهذا لا يكون قبضاً لأن تمكنه من الشيء بوجود آلته لا يدل على أنه متمكن منه مع انعدام تلك الآلة فإن كان يقدر على أخذها بغير حبل ولا عون أو بحبل ومعه حبل أو بعون ومعه عون وقد خلي بينه وبينها فالثمن لازم عليه لأنه قد تمكن من قبضها فإذا لم يفعل حتى انفلتت كان مضيعاً لها بعد القبض فتهلك من ماله .
وإن كانت الرمكة في يد البائع هو ممسك لها فقال المشتري : هاك الرمكة فوضعها في يده فهي من مال المشتري لأنه أثبت يده عليها حقيقة حين وضعها في يده وتقرر الثمن على المشتري باعتبار أصل القبض دون استدامته والمستحق على البائع بالعقد التسليم إلى المشتري لإبقاء يده فيها .
فإن كانت في يد البائع على حالها ويد المشتري جميعاً والبائع يقول : قد خليت بينك وبينها ولست أمسكها منعاً مني لها إنما أمسكها حتى تضبطها فانفلتت فهذا أيضاً قبض من المشتري والبائع قد أثبت يده عليها وهو في استدامة يد نفسه معين للمشتري على تقرير يده عليها لا مانع لها منه فلا يمنع ذلك صحة قبض المشتري فإن قيل : كانت الرمكة في يد البائع فبقاء يده فيها تمنع ثبوت اليد للغير بمنزلة المغصوبة فإنه ما بقي يد المالك عليها لا تدخل في ضمان الغاصب قلنا : بقاء يده عليها يمنع يد الغير على طريق المنازعة والمقاتلة فأما على طريق التمكين إياه فلا ثم وجوب الضمان في الغصب إنما يكون بتفويت يد المالك لا بمجرد إثبات اليد لنفسه وهاهنا دخول المبيع في ضمان المشتري باعتبار ثبوت يده عليه ولهذا يدخل في ضمان المشتري بالتخلية قبل النقل في حكم البيع ولا تدخل في ضمانة بالتخلية في حكم الغصب حتى لو هلك قبل النقل ثم جاء مستحق لم يكن له أن يضمن المشتري شيئاً .
وإن كانت الرمكة في يد البائع : قد خليت بينك@(3/172)
وبينها فاقبضها فإني أمسكها لم فانفلتت لم يكن هذا قبضاً من المشتري وإن كان يقدر على أخذها وضبطها لأن للبائع فيها يد حقيقة ولا ينسخ حكم ذلك اليد إلا ما هو مثلها وتمكن المشتري من قبضها بالتخلية لا يكون مثل حقيقة يد البائع فيها وهذا بخلاف ما إذا وضع البائع المبيع بين يدي المشتري بأن كان نائباً فرضعها بين يديه وقال : خليت بينك وبينها ثم هلكت لأن هناك لم يبق للبائع عليه يد حقيقية وقد صار المشتري متمكناً من قبضها حتى إذا كان البائع يمسكها بيده وقال للمشتري : خليت بينك وبنها فاقبضها فإنه لا يصير قابضاً إلا أن تصل إلى يد المشتري فحينئذ تكون يده فيها حقيقة معهارضة ليد البائع فيجعل قابضاً لذلك .
ولو كان البائع وضع الثوب بالبعد من المشتري وناداه أن قد خليت بينك وبينه فاقبضه فإنه لم يصر قابضاً حتى يقرب منه فيصير بحيث تصل يده إليه لأن هذا تسليم بطريق التمكين فلا يتحقق بدون التمكن وتمكنه من القبض لا يكون إلا بعد أن يقرب منه فبل ذلك وجود الخلية كعدمها .
إلا بعد فتح الباب ففتح الباب ليأخذ بعضها فغلبته وخرجت من الحظيرة فالثمن لازم للمشتري سواء كان يقدر على أخذها إذا دخل الحظيرة أو لا يقدر على ذلك لأنها كانت محرزة بالباب المسدود وقد تناول البيع كلها ثم صار المشتري بفتح الباب مستهلكاً لها واستهلاك المشتري للمعقود عليه بمنزلة القبض منه ومن أصحابنا من يقول : هذا قول محمد - رحمه الله - فإن فتح الباب عنده استهلاك بطريق المتسبب حتى قال : إذا فتح باب الاصطبل فندت الدابة من ساعتها فهو ضامن من قيمتها لما ذكرنا .
فأما على قول أبي حنيفة - رحمه الله - ينبغي أن لا يجب الثمن على المشتري لأنه لا يجعل فتح الباب استهلاكاً وإنما يحيل بهلاك الدابة على الفعل الموجود منها ولهذا لا يضمن به ملك الغير والأصح أن هذا قولهم@(3/173)
جميعاً لأن أبا حنيفة - رحمه الله - يجعل فعله تسبباً ولكن في حكم الضمان يقول : قد طرأ على ذلك التسبب فعل معتبر لأن فعل الدابة يعتبر في إزالة السبب الموجب للضمان وإن كان لا يعتبر في إيجاب الضمان .
ألا ترى أم من ساق دابة في الطريق فجالت يمنة أو يسرة والسائق ليس معها فأصابت شيئاً لم يكن السائق ضامناً لها باعتبار ما أحدثت الدابة من السير باختيارها لا على نهج سوق السائق وإذا ثبت أن فتح الباب كان تسبباً منه لإتلاف الدابة فقد تقرر عليه الثمن بحكم العقد ثم فعل الدابة لا يصلح مزيلاً لذلك فيبقى ضامناً للثمن .
وإن كان الذي فتح الباب رجلاً آخر فإن كان المشتري قد صار بحال لو دخل الحظيرة واجتهد تمكن من قبضها فعليه الثمن لأنه لم يوجد منه الإتلاف تسبباً ولا مباشرة فإنما يعتبر لتقرر الثمن عليه تمكنه من قبضها بتخلية البائع بينه وبينها قبل فتح الباب .
ألا ترى أن البائع لو كان هو الذي فتح الباب ولم يكن المشتري متمكناً من قبض شيء منها لم يكن عليه من الثمن شيء فكذلك إذا فتح الباب أجنبي آخر وهو نظير ما لو باع طيراً يطير في بيت عظيم وخلي بينه وبين البيت فإن كان المشتري هو الذي فتح الباب فطار كان عليه الثمن وإن فتح غيره الباب أو فتحت الريح الباب فخرج الطير لم يكن عليه من الثمن شيء .
إذ لم يكن متمكناً من أخذها .
فكذلك الرمك وبعض هذا قريب من بعض وإنما يؤخذ بالاستحسان في كل فصل .
ولو أن المولى باع الغنائم ولم يقبض الثمن فسأله الإمام أن يضمن الثمن عن المشتري ففعل ذلك فهو جائز .
وهذا بخلاف الوكيل بالبيع إذا ضمن الثمن للموكل عن المشتري لأن الوكيل في حقوق العقد كالعاقد لنفسه ولهذا لو ظهر الاستحقاق أو العيب كانت الخصومة معه فإذا ضمن الثمن عن المشتري فهو إنما يضمن لنفسه عن غيره في الحكم وذلك لا يجوز فأما المولى فهو نائب محض في هذا العقد ليس عليه من حقوق العقد شيء بمنزلة الرسول فيكون هو في ضمان الثمن عن المشتري كغيره من الأجانب إن ضمن بأمره رجع عليه إذ أدى وإن ضمن بغير@(3/174)
أمره لم يرجع عليه بشيء إذا أدى والدليل على الفرق أن المولى لو أبرأ المشتري عن الثمن هاهنا لم يصح إبراؤه والوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري على الثمن صح إبراؤه في حق المشتري وإن كان يصير ضامناً مثله للموكل .
ثم المولى في هذا البيع بمنزلة القاضي في بيع مال اليتيم والوكيل بمنزلة الوصي في بيع مال اليتيم ولو أن قاضياً باع مال اليتيم ثم عزل واستقضى آخر فضمن القاضي الأول للقاضي الثاني الثمن من المشتري أو كبر اليتيم فضمن له القاضي الأول ذلك وهو قاض على حاله كان ضمانه جائزاً ولو كان الوصي هو الذي باع مال اليتيم ثم ضمن الثمن للقاضي عن المشتري أو لليتيم بعدما كبر فإن ضمانه يكون باطلاً وكذلك الوالد إن كان هو الذي باع ثم ضمن الثمن والفرق ما ذكرنا أن الأب والوصي يلزمهما العهدة ويكون خصومة المشتري في العيب والاستحقاق معهما والقاضي لا يلزمه العهدة ولا يكون للمشتري معه خصومة في شيء من ذلك وأمي القاضي بمنزلة القاضي في أنه لا تلحقه العهدة فيصح ضمانه عن الثمن عن المشتري فكذلك المولى يبيع الذي وقع الحق له ليأخذ منه الثمن وفي العيب الإمام ينصب للمشتري خصماً إن شاء ذلك المولى وإن شاء غيره حتى إذا ثبت حق المشتري رجع بالثمن في غنائم المسلمين إن كانت لم تقسم وإن قسمت غرم ذلك للمشتري من بيت المال وليس على الذي باشر البيع عهدة في شيء من ذلك ولهذا صح ضمانه للثمن والله أعلم .@(3/175)
باب المسلم يخرج من دار الحرب ومعه مال فيما يصدق فيه ما لا يصدق
... ولو أن مستأمناً من المسلمين في دار الحرب التحق بعسكر المسلمين ومعه مال فزعم أن أهل الحرب ملكوه ببعض الأسباب أو أنه أدخله معه من دار الإسلام فالقول قوله لأن يده ثابتة على المال وهي يد محترمة ولأن الظاهر شاهد له فإنه دخل إليهم تاجراً ليعاملهم والتاجر لا يدخل إليهم إلا مع مال في العادة .
... وما يصل إليه من مالهم فإنما يكون وصوله ببعض الأسباب التي تبتنى على المرضاة لأن عقد الأمان يقتضي ذلك والقول قول من يشهد له الظاهر .
... وإن قال : غصبته منهم فهو فيء وينبغي للأمير أن يأخذه منه فيرده إلى أهل الحرب لأنه تملكه بطريق القهر وإنما تم ذلك بقوة الجيش حين التحق بهم وشاركوه في الإحراز .
ألا ترى أنه لو لم يكن مستأمناً فيهم كان ذلك المال غنيمة بينهم وبثبوت حق الجيش فيه تثبت الولاية للأمير في ذلك المال وقد حصله بسبب حرام شرعاً وهو غدر الأمان لأنه حين استأمن@(4/3)
إليهم فقد لزمه ألا يغدر بهم وألا يأخذ شيئاً من أموالهم بغير طيبة أنفسهم .
... وما حصل بسبب خبيث فالسبيل رده فلهذا كان على الأمير أن يرده إليهم سواء كانوا في دار الحرب أو بعد ما خرجوا فإن أسلم بعض الرقيق باعه الأمير وبعث بالثمن إليهم أو كتب إليهم حتى يأتوه فيأخذوه لأن بالإسلام تعذر رد عينه عليهم فيجب بعه ورد ثمنه عليهم كالمستأمن إذا أسلم عبده في دارنا وهو هاهنا أو قد رجع إلى داره .
... وإن كانوا أحراراً قد أخذهم قهراً فأخرجهم فإن أسلموا فهم أحراراً لا سبيل عليهم لأنه ما تم قهره حين كان ممنوعاً من أخذهم شرعاً بسبب الأمان فيكون حكمهم في حقه كحكم المستأمنين في دارنا لا يملكون بالقهر فإذا أسلموا فقد تأكدت حريتهم بالإسلام .
... وإن لم يسلموا أو قالوا : نصير ذمة فإن كانوا أحراراً فلهم ذلك لبقاء صفة الحرية لهم بعد ما حصلوا في دارنا وإن كانوا عبيداً لأهل الحرب لم يلتفت إلى قولهم لأن الحق فيهم لمواليهم ووجوب الرد لحق المولى فحكمهم كحكم سائر الأموال ترد عليهم العين .
... فإن تعذر عليهم ذلك أو خيف الضيعة على شيء من ذلك فإنه يباع ويبعث إليهم بثمنه أو يوقف حتى يجيء صاحبه فيأخذه .
... ولو كان هذا امستأمن أخذ شيئاً مما كانوا أحرزوه من أموال المسلمين فهذا وما سبق سواء لأنهم بالإحراز قد ملكوه حتى لو أسلموا كان لهم فحكمه كحكم سائر أموالهم إلا أن الرقيق يباع هاهنا لأنهم كانوا من أهل دار الإسلام فلا يرد إليهم أعيانهم وإنما يملكونه بالقهر ولكن يباع ويبعث إليهم بالثمن .
... وإن كان شيئاً مما لا يملك بالقهر من رقاب المسلمين فهو مردود على حاله كما كان@(4/4)
لأنهم بالقهر ما تملكوه حتى لو اسلموا وجب عليهم قصر اليد عنه وبه يتبين أن هذا الرجل محسن فيما صنع حيث قصر عنهم يد الظلم فعليه أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه من قبل ولا يكون هذا من غدر الأمان في شيء .
... ولو كان هذا المستأمن أحرز المأخوذ منهم غصباً بدار الإسلام والمسألة بحالها فإن كان شيئاً مما لم يملكه أهل الحرب فهذا وما سبق سواء لأنه إنما يتملك عليهم بالإحراز ما كان مملوكاً لهم وما يكون محلاً للتملك بالقهر .
... وإن كان ذلك شيئاً مما هو مملوك لهم وكان بحيث يسلم لهم لو أسلموا فإن الإمام يفتيه بالرد عليهم ولا يجبره على ذلك في الحكم لأنه تفرد بإتمام سبب الملك فيه هاهنا وهو الإحراز بدار الإسلام فلا يثبت فيه حق المسلمين وولاية الإمام فيه تبتنى على ثبوت حق المسلمين فإذا لم يثبت لا يمكنه أن يجبره على الرد بخلاف الفصل الأول .
... إلا أنه حصل هذا المال بسبب حرام شرعاً فيفتيه بالرد فيما بينه وبين ربه وهذا لأنه أخفر ذمة نفسه لا ذمة المسلمين فإن أهل الحرب ما كانوا في أمان من المسلمين وإنما كانوا في أمان منه خاصة .
... ألا ترى أنه كان يباح لغيره من المسلمين أخذ هذا المال من أيديهم فعرفنا أنه ما أخفر أمان المسلمين حتى يثبت للإمام عليه ولاية الإجبار في الرد لمراعاة ذلك الأمان ولكنه أخفر أمان نفسه وذلك بينه وبين ربه والطريق في مثله الفتوى دون الإجبار فإن الإجبار يبتنى على الخصومة ولا خصومة لأحد معه في ذلك .
... ولكن لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يشتري ذلك منه لأنه كسب خبيث وفي شرائه منه تقرير لمعنى الخبث فيه ولأنهم إذا امتنعوا من الشراء كان فيه زجر له عن العود إلو مثل هذا الصنع وحث له على الرد كما هو المستحق عليه .
... وإن اشترى إنسان منه ذلك جاز الشراء وإن كان مسيئاً لأنه ملك نفسه فإن فساد السبب شرعاً لا يمنع ثبوت الملك بعد تمامه والنهي عن هذا الشراء ليس لمعنى في عينه .
... وبعد ما جاز الشراء يؤمر فيه المشتري بمثل ما كان يؤمر به البائع من الرد على أهل الحرب لأن@(4/5)
المعنى الموجب للرد لا يزول بهذا الشراء وهذا بخلاف المشتري شراء فاسداً إذا باعه المشتري من غيره بيعاً صحيحاً فإن المشتري الثاني لا يؤمر بالرد وإن كان البائع مأموراً بذلك لأن هناك المعنى الموجب للرد قد زال ببيعه من غيره لأن وجوب الرد لفساد البيع حكم مقصود على ملك المشتري وقد انقطع ملكه بالبيع من غيره أما هنا فوجوب الرد إنما لمراعاة ملكهم في ذلك المال ولأجل غدر الأمان وهذا المعنى قائم في ملك المشتري كما هو في ملك البائع الذي أخرجه فلهذا يفتي بالرد كما كان يفتي به البائع وهو نظير المشتري من المكره إذا باعه من غيره فإن للمكره حق الاسترداد من الثاني كما هو له ذلك قبل شرائه لأن حقه لا يتغير ببيع المشتري وثبوت حق الاسترداد كان لعدم رضاه به ولو كان هذا الرجل أمنهم وهو في دار الإسلام أو عسكر المسلمين والمسألة بحالها فإنه يؤخذ ذلك المتاع منه فيرد عليهم لأن أمانة وهو في منعة المسلمين كأمان جماعة المسلمين فهو إنما أخذ مال ? ولا يملك مال المستأمن بالقهر فكان مجبراً على رده وفي الأول هو ما أخذ مال المستأمنين لأنه كان فيهم بأمان وما كانوا مستأمنين منه إلا أن غدر ذلك الأمان كان حراماً عليه شرعاً وتمكن الخبث بهذا السبب ولكن يثبت الملك له في المال لكونه محل التملك بالقهر فلا يجبر على رده في الحكم ولأنه غدر بأمان المسلمين .
... ألا ترى أن حكم ذلك الأمان ثابت في حق جميع المسلمين حتى لا يحل لأحد منهم أخذ شيء من أموالهم وللإمام ولاية المنع للغادر بأمان المسلمين وإذا كان هو الذي دخل إليهم فإنما غدر بأمان نفسه خاصة .
... ألا ترى أنه كان لسائر المسلمين حق أخذ هذا المال من أيديهم فلهذا يفتيه بالرد ولا يجبره عليه .
... وإن كان الذي أخرجه هذا المستأمن إليهم متاعاً للمسلمين قد أحرزوه بدارهم فأراد صاحبه أن يأخذه منه بالقيمة لم يقض له الإمام بذلك لأن في القضاء به تقرير ملكه فإن القيمة لا تسلم إلا على وجه قيامها مقام العين وملكه غير متقرر شرعاً ما دام هو مأموراً بالرد عليهم فليس فلإمام أن يقرره بقضائه .
... ألا ترى أنه لو رده عليهم ثم أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً ولا سبيل عليه للمالك القديم بخلاف ما إذا وهبوه له لأن ملكه هناك ملك متقرر شرعاً فلهذا كان للمالك القديم أن يأخذه بالقيمة بقضاء القاضي ولأن المالك القديم بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه وما يعطى من القيمة هو فداء يفدي به@(4/6)
ملكه بمنزلة العبد الجاني يفديه مولاه بالدية وفي إعادته إلى ملكه إبطال حقهم عنه لا محالة وفيه تقرير ما كان منه غدر من الأمان .
... ولو كان هو الذي باعه من مسلم كان البيع جائزاً وإذا خوصم فيه إلى القاضي فإن القاضي ينفذ ذلك البيع لأنه ليس فيه إبطال حقهم فإن الثاني إنما يتملكه ملكاً جديداً ويؤمر من ملكه بالرد كما كان يؤمر به البائع وأما المالك القديم إنما يعيده إلى قديم ملكه وذلك سابق على ثبوت حقهم فيه فعرفنا أن في القضاء به إبطال حقهم ثم المالك القديم إن أراد أن يأخذه بالقيمة أو بالثمن من المشتري الثاني لم يقض له الإمام بذلك لأن في هذا القضاء إعادته إلى قديم ملكه كما بينا .
ولو كان الذي جاء به عبداً أو أمة مسلمة لم يكن لمولاه أن يأخذه بقيته لما بينا أن حق أهل الحرب لم ينقطع عنه وما لم ينقطع حقهم عن المستولى عليه لا يثبت للمالك القديم حق الأخذ .
ألا ترى أن المستولي لو دخل إلينا بأمان ومعه ذلك العبد فإنه يجبر على بيعه لإسلامه ولا يكون لمولاه القديم أن يأخذه منه بقيمة ولا ثمن .
... ولو كان هذا المستأمن أحرز هذا المتاع بمنعة الجيش في دار الحرب فلا سبيل لمالكه القديم على أخذه بثمن ولا قيمة لأن حقهم لم ينقطع عنه ولكن الإمام يبيع الرقيق ويقف الثمن مع سائر الأموال حتى يأتوه فيأخذوه لأن بقاء حقهم هاهنا أبين من الفصل الأول فإن الإمام هاهنا يجبر على الرد عليهم وفي الفصل الأول يفتى بذلك فإذا لم يثبت هناك للمولى القديم حق الأخذ بالقيمة ولا بالثمن فهاهنا أولى .
... ولو كان المسلم الخارج من دار الحرب أسيراً فيهم والمسألة بحالها فإن كان خرج إلى دار الإسلام فجميع ما أخرج سالم له لأنه ما كان مستأمناً فيهم بل كان مقهوراً وكان متمكناً من قتلهم وأخذ أموالهم لو قدر على ذلك فما أحرز من أموالهم يكون طيباً له .
وإن كان شيء من ذلك مما أحرزوه من متاع المسلمين فللمالك القديم أن@(4/7)
يأخذ منه بالقيمة إن شاء لأن حقهم انقطع بإحرازه عليهم واختص هو بملكه فيكون هو بمنزلة ما لو أصاب بسهمه في الغنيمة يأخذ مولاه بالقيمة إن شاء .
... وإن كان جاء به إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فقال : وهبه لي أهل الحرب أو اشتريته منهم لم يصدق وكان ما جاء به فيئاً لأهل العسكر لأن الظاهر يكذبه فيما يقول فإنه كان مقهوراً فيهم وهم لا يعاملون الأسراء بمثل هذه المعاملة عادة فلهذا لا يصدق .
ويجعل هذا بمنزلة ما لو أخرجه غصباً فيكون فيئاً لأن أهل العسكر يشاركونه في الإحراز بدار الإسلام وتمام القهر به يكون إلا ن يقيم بينة عادلة من المسلمين على ما يدعي فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة .
... ولو عايناهم وهبوا له شيئاً وخلوا سبيله لم يكن لأهل العسكر معه شركة في ذلك لأن الملك يثبت له بطريق المراضاة والشركة في المصاب بطريق القهر لأن ذلك السبب يتم بقوة الجيش فأما تمام الهبة والشراء لا يكون بقوة الجيش .
ولو كان الخارج إلى العسكر أسيراً أو مستأمناً والمسألة بحالها ففيما في يد المستأمن القول قبوله فيما يدغي من الهبة والشراء إذا حلف على ذلك وفيما في يد الأسير لا يصدق هو إلا ببينة من المسلمين اعتباراً لحال اجتماعهما بحال انفراد كل واحد منهما .
وإن قالا دخلنا بها معنا من دار الإسلام فالمستأمن يصدق فيما في يده مع يمينه والأسير لا يصدق سواء أقام البينة أو لم يقم البينة لأنهم أحرزوه بدارهم وأحرزوا ما معه من المال أيضاً فيملكون بهذا الإحراز ما يكون محلاً للتمليك ويلتحق هذا المال بالمال الذي كان لهم في الأصل .
فإذا أحرزه الأسير بمنعة الجيش كان فيئاً إلا أن يكون ذلك شيئاً يخفى عليهم نحو درة قال الأسير : كانت في فمي أو كنت ابتلعتها فكانت في بطني فإنه في@(4/8)
القياس لا يصدق على ذلك أيضاً لأنه مال محتمل للتمليك أيضاً وقد كان معه حين صار مقهوراً حين تم إحرازهم فيه فلا يبقى مملوكاً له كسائر الأموال ولكنه استحسن فقال : يسلم له ذلك المال إذا أثبت أنه أدخله معه من دار الإسلام .
لأن إحرازهم يكون بالقهر وذلك إنما يثبت حساً لا حكماً فإن دار الحرب ليست بدار حكم ومن حيث الحس إنما يتحقق قهرهم فيما يعلمون به دون ما لا يعلمون وما كان في فمه أو بطنه فلا علم لهم بذلك وإذا لم يثبت الملك لهم فيه بطريق القهر وقد ثبت بالبينة أنه كان مملوكاً له في الأصل فهو على ذلك الملك ولا شركة للجيش معه فما كان في الأصل مملوكاً له .
فإن قيل : هذا إذا ثبت ما أخبر به أنه كان في بطنه أو في فمه قلنا : هو أمين فيما يخبر به مما يكون محتملاً ولا يكذبه الظاهر فيه .
ولو كان الخارج إلى العسكر رجلاً أسلم في دار الحرب فالقول قوله فيما يقول : إن أهل الحرب وهبوه لي أو أنه كان ملكاً لي في الأصل لنه أمين أخبر بخبر محتمل فيما في يده فيكون الثابت بخبره كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك كان المال سالماً له ولا شركة للجيش معه فيه .
وإن قال : قد اغتصبته منهم فالمال فيء .
لأهل العسكر لا يرد على أهل الحرب بخلاف المستأمن كان ممنوعاً عن الغدر بهم وأخذ شيء من المال بغير طيبة من أنفسهم فأما الذي أسلم منهم فهو غير ممنوع من ذلك لأنه باق فيهم على ما كان في الأصل وقبل الإسلام ما كان بعضهم في أمان من بعض ولكن كان لا يتعرض بعضهم لبعض لأجل الموافقة في الدين فيكون هو فيما يأخذ من أموالهم غصباً بمنزلة الأسير فإن قيل : فكان ينبغي ألا يصدق في قوله : وهبوه لي كما لا يصدق الأسير في ذلك قلنا : إنما لا يصدق الأسير لأن الظاهر يكذبه فيما يقوله باعتبار كونه مقهوراً فيهم فأما الذي أسلم منهم في أيديهم فالظاهر غير مكذب له فيما يقول لأنه ما كان مقهوراً في أيديهم وما كانوا يعلمون بإسلامه وقبل العلم بذلك ما كانوا قاصدين إلى التعريض له ولماله بل كانوا يعاملونه على الوجه الذي يعامل بعضهم بعضاً فلهذا صدقناه فيما يخبر به .
ولو كان هذا الرجل خرج إلى دار الإسلام فجميع ما جاء به سالم له لأنه تقرر ملكه بإحرازه بالدار .
وإن كان فيما@(4/9)
جاء به من متاع المسلم وقد كانوا أحرزوه فإان صاحبه يأخذه بالقيمة إن شاء لأن تملكه عليهم بالقهر كتملك مسلم آخر إلا أن يكون هو المستولي على ذلك المتاع فحينئذ يكون سالماً له لقوله صلى الله عليه وسلم : " من أسلم على مال فهو له " ولأن حقه قد تقرر بإسلامه وقد بينا أن حق المولى القديم إنما يثبت إذا انقطع حق المستولي .
يوضحه : الفرق بين هذا وبين الأسير أن المسلمين لو ظهروا على الدار قبل أن يخرج الأسير وهذا الذي أسلم فإن ما كان من مال الذي أسلم في يده يكون سالماً له وما كان من مال الأسير يكون غنيمة للمسلمين لأن أهل الحرب قد تملكوا ذلك بالإحراز فيكون كسائر أموالهم فإن قهروا هذا الذي أسلم فيهم واستعبدوه فحاله كحال الأسير في جميع ما ذكرنا .
ولو أن قوماً من الجيش في دار الحرب خرجوا في العلاقة وجاءوا بمتاع فقالوا : اشتريناه من أهل الحرب أو وهبوه لنا لم يصدقوا وكان ذلك فيئاً لأن الظاهر يكذبهم فإنهم محاربون لأهل الحرب قصدوهم للغارة عليهم لا للمعاملة معهم فإذا أقاموا بينة عادلة من المسلمين على ما قالوا فإن شهد الشهود أن أهل الحرب فعلوا ذلك بهم وهم ممتنعون منهم فذلك سالم لهم لأنه تبين بالحجة أنهم ملكوه بسبب تم المراضاة .
فإن قالوا : فعلوا ذلك وهم غير ممتنعين منهم كان ذلك فيئاً لأنهم لما صاروا غير ممتنعين منهم فقد تثبت اليد بطريق القهر عليهم وعلى ما في أيديهم وتثبت الشركة فيه لأهل العسكر فلا يتغير ذلك بالهبة منهم بعد ذلك .
فإن قالوا : قد كنا آمناهم وهم ممتنعون ثم فعلوا ذلك بنا لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة عادلة لأن دعواهم الأمان حين كانوا ممتنعين منهم وقد بينا أنهم لا يصدقون في ذلك إلا بحجة فكذلك في هذا .
فإن شهد لهم بذلك قوم من أهل العسكر فردت شهادتهم لفسقهم كان ذلك فيئاً لأن الحجة ما قامت لهم فيما ادعوا .
فإن وقع شيء من ذلك في سهام الذين شهدوا أخذه منهم المشهود لهم لأنهم ملكوا ما أقروا بملكه لغيرهم ومن أقر بالملك لآخر في عين ثم ملكه بعد ذلك أمر بالتسليم إليه لأن إقراره حجة عليه .
ولو قالوا : هذا المتاع مما كان معنا أدخلناه من دار@(4/10)
الإسلام حين دخلنا فإن كان ذلك مما يشكل على المسلمين ولا يدري لعلهم صادقون فيه فالقول قولهم مع إيمانهم لأن الظاهر غير مكذب لهم فيما أخبروا به فإن الغازي يستصحب طائفة من ماله في دار الحرب لحاجته إليه .
وإن كان ذلك مما لا يشكل فإنه يكون ذلك من الغنيمة لأن الظاهر يكذبهم فيما أخبروا به لأن البعير وغيره مما لا يمكن إخفاؤه .
ولو كان ذلك معهم قبل أن يخرجوا في العلاقة لعلم المسلمون به ومن أخبر بما يكذبه الظاهر فيه لم يكن مصدقاً فإن كان فيما جاءوا به رقيق وهم مشكلون فإنه يرجع إلى قول الرقيق فإن صدقوهم بما قالوا فالقول قولهم لأنهم في أيدي أنفسهم فلا بد من الرجوع إلى قولهم إذا زعم هؤلاء أنهم ملكهم أدخلوهم من دار الإسلام ألا ترى أنهمك لو ادعوا ذلك في دار الإسلام كان يجب الرجوع فيه إلى قول الرقيق .
وإن قال الرقيق : نحن قوم أحرار من أهل الحرب قد أسرنا هؤلاء فالقول قولهم وهم فيء لجماعة المسلمين لأنهم كذبوهم في دعوى الملك عليهم .
ولو كانوا ادعوا ذلك عليهم في دار الإسلام فكذبوهم وزعموا أنهم أحرار كان القول قولهم فكذلك إذا ادعوا ذلك عليهم في دار الحرب وإذا ثبت بقولهم إنهم أحرار من أهل الحرب كانوا فيئاً لجماعة المسلمين لأنهم صاروا مقهورين في أيدينا بغير أمان .
وإن قالوا : كنا عبيداً لأهل الحرب فأخذنا هؤلاء فالقول قول الذين جاءوا بهم لأنهم قد أقروا بأنهم أرقاء وأنهم لا يد لهم في أنفسهم ولا قول فلا يصدقون على أن يصرفوا ملكهم إلى غيرهم بخلاف الأول وهو نظير ما لو ادعى على مجهول الحال وهو في يده أنه ملكه فقال مجهول الحال : أنا عبد لفلان فإنه لا يصدق والقول قول قول ذي اليد ولو قال :@(4/11)
أخبروا به لو كان معلوماً في الوجهين فوقع للإمام فيهم رأي المن كانوا أحراراً في الفصل الأول وكانوا عبيداً في الفصل الثاني يردون على مواليهم فيه يتضح الفرق .
وإن كان فيهم غلام لم يبلغ فإن كان ممن يعبر عن نفسه فالقول قوله كالبالغ وإن كان ممن لا يعبر عن نفسه فالقول قول الذي في يده مع يمينه بمنزلة متاع آخر وإن كان مع الصبي أحد أبويه وهو معروف بذلك فإن كان الصبي يعبر عن نفسه فالقول قوله في نفسه وإن كان ممن لا يعبر عن نفسه فالقول قول والده لأنه في يد والده وهو تابع له في الحكم ألا ترى أنه لا يحكم بإسلامه إذا سببي مع والده .
وإن كان ممن يعبر عن نفسه فقال قولاً ثم رجع عن ذلك إلى قول آخر فالأمر على القول الأول لأنه في القول الثاني مناقض ولأنه إن قال أولاً : أنا حر فقد ثبت فيه حق العسكر فلا يصدق بعد ذلك في إبطال حق لهم وإن قال : أنا عبد فقد تقرر فيه ملك ذي اليد فلا يقبل قوله بعد ذلك في إبطال ملكه .
ولو قال الذين جاءوا بالمتاع : قد اشترينا في دار الحرب من مسلم كان مستأمناً فيهم أو أسيراً أو كان أسلم منهم لم يصدقوا على ذلك إلا بحجة لأنهم ادعوا خلاف ما يشهد به الظاهر لأنهم ذهبوا للإغارة لا للمعاملة ولأن وجود الذين زعموا أنهم عاملوهم في ذلك الموضع غير ظاهر فلا يصدقون إلا بحجة .
فإذا أقاموا بينة من المسلمين كان المتاع لهم إن زعموا أنهم اشتروا ذلك المتاع من مستأمن أو ممن أسلم منهم لأن ثبوت ذلك بالبينة كالثبوت بالمعاينة .
وإن زعموا أنهم اشتروا ذلك من أسير فإن ذلك فيء لأهل العسكر لأن المشترين في إخراج هذا المتاع @(4/12)
قاموا مقام البائع في الفصلين جميعاً .
ولو كانوا قالوا : لقينا قوماً من المسلمين مستأمنين أو أسراء أو اسلموا من أهل الحرب فأودعونا هذا وأمرونا أن نخرجه إلى دار الإسلام فصدقهم الرقيق في ذلك لم يصدقوا لأن الرقيق قد أقروا برقهم فلا قول لهم بعد ذلك والذين جاءوا بهم أخبروا بما لا ظاهر يصدقهم فيه فلا يقبل قولهم إلا بحجة .
فإن أقاموا بين على ذلك فما كان من وديعة أو عارية للمستأمنين أو الذين أسلموا في دار الحرب فلا سبيل لأهل العسكر عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولا شك أن أهل العسكر لا يثبت حقهم في ملك المستأمنين وكذلك في ملك الذين أسلم في دار الحرب لأن يد مودعه كيده فيكون إحرازه في هذا المال أسبق من إحراز المسلمين وما كان أودعهم الأسير أو أهل الحرب أو مرتدون في دار الحرب فهو فيء كله لأن يد المودع وهو بنفسه لو أحرز ذلك بمنعة الجيش كان فيئاً فكذلك إذا جاء به مودعه إلا في خصلة واحدة إن شهد الشهود أنهم آمنوه وهو ممتنع ثم أودعهم فحينئذ للمسلمين أن يتعرضوا لشيء من ذلك لأنه قد ثبت بالبينة أنه مال مستأمن وهو لو جاء بنفسه مستأمناً إلينا لم يكن لنا أن نعرض لشيء من ماله فكذلك إذا جاء به مودعه .
وإن كان الأسير من المسلمين آمنه حين دفع ذلك إليهم فهو فيء لأن أمان الأسير إياه وهو مقهور في أيديهم باطل فكان وجوده كعدمه أو يجعل في الحكم كأن الأسير هو الذي جاء بنفسه فأودعهم هذا المال حتى رجع .
ولو زعم الذين جاءوا بالمال أنهم غصبوه من مستأمن مسلم أو ممن أسلم من أهل دارهم أو من حربي فقامت البينة على ذلك فإن المغصوب من المستأمن مردود عليه لأن ماله ليس بغرض التملك بالقهر للمسلمين والمغصوب من الحربي فيء والمغصوب من الذي أسلم في دار الحرب في قياس أبي حنيفة - رحمه الله - يكون فيئاً لأن من أصله أن إسلامه يوجب العصمة في نفسه وماله في الآثام دون الأحكام ألا ترى أنه لو قتله قاتل لم تلزمه إلا الكفارة إذا كان خطأ ولو أتلف ماله إنسان في دار الحرب لم يضمن@(4/13)
شيئاً وكذلك في المعاملة بالربا أو غيره يتبين هذا الحكم .
وكذلك لو ظهر المسلمون على الدار فإن عقاره يكون فيئاً وما ليس في يده من المنقول ولا في يد محترمة قائمة مقام يده فهو فيء أيضاً في القضاء وإنما لا يكون فيئاً ما يكون في يده من المنقول أو في يد مسلم أو معاهد قد أودعه لأنه قد سبق إحرازه باعتبار ملك اليد فأما ما يكون في يد غاصب غصبه منه فهو فيء وإذا كان ذلك الغاصب مسلماً أو معاهداً لأن يد الغاصب لا تكون كيد المغصوب منه في حكم الإحراز فإذا كان هذا هو الحكم فيما غصبه منه مسلم أو معاهد فكذلك فيما غصبه منه الذين لقوه في دار الحرب من المسلمين إلا أن يكونوا غصبوا ذلك منه بعدما صار في منعتهم فحينئذ يكون مردوداً عليه لأنه صار محرزاً لذلك المال منعتهم فكانت يده إليه أسبق من يد غيره بمنزلة مال في يده حين ظهر المسلمون على الدار ثم أخذه منه بعض المسلمين وذلك مردود عليه فهذا مثله .
وفقهه في هذا كله أن العصمة المقومة إنما يثبت بالإحراز باليد لا بالدين وتمام الإحراز باليد إنما يكون بمنعة المسلمين أو بدارهم وبدون هذه العصمة لا يخرج المال من أن يكون محلاً للأغنام أما على قول محمد - رحمه الله - : فحال الذي أسلم في دار الحرب كحال المستأمن فيهم في ظهور حكم العصمة في ماله ولهذا لا تجوز معاملة من عامل معه من المسلمين على وجه الربا وفيما يغضبه الذين خرجوا في العلاقة من المستأمنين لا يثبت حق أهل العسكر بل يجب رده عليه فكذلك فيما يغصبونه من الذي أسلم في دار الحرب وكذلك أيضاً إذا ظهر المسلمون على الدار فما في يده من المنقول أو ما غصبه من مسلم أو معاهد فهو مردود عليه إلا ما غصبه منه أهل الحرب فإن هذا يكون فيئاً لأنهم قد تملكوه عليه بالاستيلاء حتى لو أسلموا كان ذلك سالماً لهم فأما ما أودعه مسلماً أو معاهداً أو حربياً فإنه لم يملك عليه حتى لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج وترك أمواله فلم يعرض له أهل الحرب حتى ظهر المسلمون على الدار فللمسلم جميع ماله في قول محمد - رحمه الله - بخلاف ما إذا خرج إلينا بأمان ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على ماله فإنه يكون فيئاً .
لأنه لم يحرز ماله بإسلامه في دار الإسلام فإنه أسلم ولا ولاية له على ماله ولا يتحقق الإحراز بدون الولاية والتمكن من المال وفي الأول صار محرز المال بإسلامه لأنه كان تحت ولايته حين أسلم وكان متمكناً منه .
ألا ترى أنه حين أسلم في دارنا فأولاده الصغار الذين في دار الحرب لا يحكم لهم بالإسلام تبعاً له حتى إذا ظهر المسلمون عليهم كانوا فيئاً @(4/14)
ولكن يجبرون على الإسلام لأنهم بعدما حصلوا في دارنا لزمهم حكم الإسلام تبعاً للأب .
ولو كان أسلم في دار الحرب كان أولاده الصغار مسلمين بإسلامه حتى إذا وقع الظهور عليهم كانوا أحراراً لا سبيل عليهم وبأن لم يجب الضمان على من أتلف ماله في دار الحرب فذلك لا يدل على أنه لا يكون محرزاً له بإسلامه كرقبته فإن من قتله عمداً أو خطأ لم يلزمه قصاص ولا دية ومع ذلك كان محرزاً رقبته بإسلامه حتى لا يملك بالاستيلاء عليه .
وكذلك أموال أهل البغي ورقابهم لا يملكوا أهل العدل بالاستيلاء وإن كانوا لا يضمنون لو أتلفوا شيئاً من ذلك فالذي مكث في دار الحرب بعد إسلامه لا يكون أعظم جرماً من الخوارج وأهل البغي .
وأيد جميع ما قلينا قوله صلى الله عليه وسلم : " أيما رجل أسلم في دار الحرب ثم خرج إلى المسلمين ثم اتبعه ماله فهو له " و المراد بماله هاهنا عبده فلو لم يكن محرزاً له بإسلامه لكان عبده حراً إذا خرج بعده كما يكون حراً .
إذا خرج قبل إسلامه مسلماً مراغماً له والحرف الذي ذكرنا لأبي حنيفة - رحمه الله - يجيب عن كلام محمد - رحمه الله - فإن دفع التملك في الأموال يكون بالإحراز المقوم للمال وذلك يكون بالدار لا بالدين بخلاف النفوس فإنها في الأصل ليست بعرضة التملك وإنما تصير عرضة للتملك جزاء على الجريمة وبالإسلام تنعدم تلك الجريمة ولو كان هذا محرزاً لماله بإسلامه لكان المتلف له ضامناً بمنزلة المستأمن في دار الحرب إذا استهلك إنسان ماله ومحمد - رحمه الله - فرق بين المستأمن وبين الذي أسلم في دار الحرب في استهلاك المال كما فرق الكل بينهما في قتل النفس فإن قتل المستأمن في دار الحرب يوجب الدية في ماله عمداً قتله أو خطأ لا العاقلة لا تعقل ما كان في دار الحرب والقود لا يجب باعتبار سبب كان في دار الحرب لتمكن الشبهة فيه وهذا لأن تقوم الدم والمال يكون بالإحراز بالدار فإن الدين دافع في حق من يعتقد لا في حق من لا يعتقد ومنعة الدار دافعة في حق من يعتقد وبدخول المسلم إليهم بأمان لا يسقط سبب إحرازه نفسه وماله بالدار والذي أسلم في دار الحرب لو بوجد منه إحراز النفس والمال بالدار فباعتبار هذا المعنى يقع الفرق بينهما في حكم الضمان عند الاستهلاك وعلى هذا قال : ولو أن رجلاً من أهل العسكر أغار في دار الحرب فأخذ مالاً من مال الذي أسلم@(4/15)
في دار الحرب ثم إن المسلم المأخوذ ماله لحق بالمسلمين فذلك مردود عليه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأنه بمنزلة المستأمن في أن المسلمين لا يملكون ماله بالاستيلاء ويمنعون من استهلاك ذلك المال أشد المنع إلى أن يأتي صاحبه فيأخذه ولو جاء صاحبه إلى عسكر المسلمين ثم استهلك إنسان ذلك المال كان ذامناً له لأن صاحبه لما صار في منعة المسلمين فقد تقومت نفسه حتى لو قتله قاتل فإنه يغرم على الوجه الذي يغرم لو قتل غيره من أهل العسكر فكذلك يغرم ماله بالاستهلاك بخلاف ما قبل لحقوق المسلم بالعسكر فإنه لو قتله
قاتل لا يغرم شيئاً فكذلك إذا استهلك لم يكن ضامناً إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله - يقول : المال صار محرزاً بمنعة العسكر قبل خروجه فإن كان هذا الإحراز له فينبغي أن يضمن متلفه ما لو أحرز نفسه بها وإن لم يكن له فهو إحراز لأهل العسكر فينبغي أن يكون المال فيئاً لهم .
والقياس ما ذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله - لا إلا أن محمداً - رحمه الله تعالى - استحسن القول بأن مال المسلم لا يكون فيئاً للمسلمين أبداً وأشار فقال : قد كان هو مأموراً بأداء الزكاة عن ماله بعد إسلامه إذا استجمع شرائطه ويرثه المسلمون من ورثته إذا مات فكيف يجتمع حكم الزكاة والتوريث للمسلمين من الورثة وحكم الاغتنام في مال واحد ولو أن رسولاً لإمام المسلمين دخل إليهم فأخذ متاعاً من متاعهم غصباً أو رقيقاً وأخرجه إلى عسكر المسلمين في دار الحرب أخذه الأمير ورده على أهله لأن الرسول فيهم كالمستأمن وقد بينا هذا الحكم في المستأمن إذا أحرزه بمنعة الجيش فكذلك الرسول .
فإن لم يعلم الأمير بذلك حتى قسم بين الغانمين مع الغنائم ثم علم به فإنه يأخذه ويرده لأن المعنى الذي لأجله كان الرد مستحقاً فيه وهو غدر الأمان لا ينعدم بقسمته فإن كان.@(4/16)
أعتقه الذي وقع في سهمه نظر فإن كان الذي أخرجه حراً من أحرارهم فعتقه باطل ويقال للمعتق : الحق حيث شئت لأن باعتبار غدر الأمان الذي كان منه يمنع ثبوت الملك في رقبته ألا ترى أنه لو علم بحاله قبل القسمة كان حراً آمناً يخلى سبيله حتى يعود إلى بلاده فكذلك إذا علم بعد القسمة ولو كان ذلك عبداً من عبيد المشركين فالعتق نافذ من الذي وقع في سهمه لأن الإمام ملكه بالقسمة وله هذه الولاية ألا ترى أنه لو كان عالماً بحاله كان له أن يملكه غيره بالبيع ويبعث ثمنه إلى مولاه فكذلك قبل ان يعلم بحاله إذا ملكه بالبيع أو بالقسمة غيره يكون ذلك تمليكاً صحيحاً وينفذ العتق من الملك فيه لمصادفته ملكه ثم يبعث بقيمته إلى مولاه لمراعاة أمانه .
فإذا فعل ذلك وقبض مولاه القيمة لم يترك المعتق يرجع إلى دار الحرب لأن ملك المسلم قد تقرر فيه حين انتهى بالعتق وقد وصل عوضه إلى دار الحرب فارتفع به حكم غدر الأمان حسبما يرتفع برده إلى دار الحرب .
فإن أبى مولاه أن يأخذ قيمته قيل للمعتق : إن شئت فأقم وإن شئت فالحق بأرض الحرب لأن رده إلى دار الحرب كان مستحقاً لأجل ذلك الأمان ولم يبطل ذلك الاستحقاق بعوض قائم مقامه إلا أنه صار حراً بإعتاق المسلم إياه كما بينا فيكون الرأي إليه في الرجوع إلى دار الحرب .
ألا ترى أن قبل العتق إذا أبى مولاه أن يأخذ القيمة فإن الأمير ينقض فيه القسمة والبيع ويرده إلى دار الحرب فكذلك بعد الإعتاق يكون الرأي إليه في ذلك .
ولو كان الرسول لم يحرزه بمنعة الجيش ولكنه أدخله دار الإسلام فهو له ويفتى برده إلى دار الحرب من غير أن يجبره عليه في الحكم لأنه بمنزلة المستأمن إليهم وإنما أخفر بذمته خاصة .
فإن لم يرده ولكن باعه كان بيعه جائزاً مكروهاً سواء كان الذي أخرجه حراً منهم أو مملوكاً ذكراً كان أو أنثى لأنه تم إحرازه له وهو محل للتمليك فيصير مملوكاً له بخلاف ما سبق فهناك ولاية الأمير في رده إلى دار الحرب ثابتة فذلك يمنع تمام@(4/17)
الإحراز فيه .
فإن أعتقه الذي أخرجه أو الذي اشتراه منه نفذ عتقه لمصادفته ملكه وله أن يرجع إلى دار الحرب إن شاء لأن رده كان مستحقاً شرعاً ولهذا كان هو مأموراً برده قبل الإعتاق إن لم يكن مجبراً عليه في الحكم فإذا صار المعتق مالكاً أمر نفسه فله أن يرجع إلى دار الحرب .
ولو كان دبره أو كاتبه أو كانت أمة فاستولدها فأرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يمنعها المسلمون من ذلك وإن منعها مولاها لم يحل المسلمون بينه وبين ذلك لأن ملكه قائم بعد هذه التصرفات بخلاف ما بعد الإعتاق فهناك لم يبق له عليها ملك فيكون هو ظالماً في منعها وعلى المسلمين أن يمنعوه من الظلم .
وإن أرادت أن تذهب بولدها لم تترك وذلك لأن ولدها مسلم على دين أبيه .
وصار حاصل هذه المسائل أن في كل موضع وصل العرض إلى المولى في دار الحرب فإنه لا يبقى للمعوض حق الرجوع إلى دار الحرب بحال وفي كل موضع لم يصل عوضه إلى دار الحرب فإنه يكون متمكناً من الرجوع إلى دار الحرب إلا أن مالكه إذا منعه ففي كل موضع هو مجبر على دره في الحكم لا يلتفت إلى منعه وفي كل موضع لا يجبر على رده في الحكم فإنه لا يعرض له فيما يحدث من المنع إبقاء لملكه فأما بعد زوال ملكه فلا حق له في المنع وهو في ذلك كغيره من الناس والله أعلم .@(4/18)
وإذا قسم الأمير غنيمة فبقي منها شيء يسير لا يستقيم أن يقسم لكثرة الجند وقلة ذلك الشيء فإن الإمام يتصدق بذلك على المساكين ولا يجعله في بيت مال المسلمين وقد أشار قبل هذا في تعليل بعض المسائل أن يجعل ذلك في بيت المال وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع المسألة هناك فيما إذا لم يأخذ الخمس من ذلك الشيء أصلاً حتى لم يكن داخلاً تحت القسمة وموضوع المسألة هاهنا فيما إذا أخذ الخمس من جميع الغنيمة أو لا ثم بقي شيء يسير مما هو نصيب الجند وهذا قد دخل تحت القسمة وصار حقاً للجند خاصة فإذا تعذر إيصاله إليهم كان بمنزلة اللقطة في يد الإمام فسبيله التصدق به إلا أن في اللقطة يعرفها سنة لأنه على رجاء من أن يأتي صاحبها فيتمكن من ردها عليه ولا يرجو مثل ذلك هاهنا فلا معنى لتأخير التصديق به أو الاشتغال بتعريفه فلهذا يتصدق به في الحال .
ولو أن قوماً أتوا صاحب المقاسم وقالوا : إن منازلنا بعيدة ولسنا نقدر على المقام إلى أن تقسم فأعطنا حصصنا من الغنيمة على الحزر والظن وأنت في حل فأعطاهم وذهبوا ثم تبين بالقسمة أن حصة القوم كانت بأكثر مما أخذوا فإن ما تبقى من فضل نصيبهم في يد صاحب المقاسم يكون بمنزلة اللقطة فإما أن يتركها الإمام في يده أو يأخذها فيعرفها حولاً ويخبر بذلك المسلمين لعل ذلك ينتهي إلى أهلها لأن@(4/19)
هذا الفضل معلوم أنه حق الذين غابوا ويرجى حضورهم إذا انتهى الخبر إليهم .
فيكون حكمه كحكم اللقطة في التعريف ثم التصديق به بعد مضي مدة التعريف والرأي في ذلك إلى الأمير لا إلى صاحب المقاسم لأن الأمير إنما ولاه القسمة فقط وقد انتهت ولايته بإتمام القسمة فيكون هو كغيره من الناس فيما يجعله الأمير في يده من نصيب بعض الغانمين لا يتصدق به .
إلا أن يأذن له الأمير في ذلك وإن تصدق به بغير إذن الأمير كان للأمير أن يضمنه ذلك لأنه وصل إلى يده من جهته فإذا باشر فيه فعلاً سوى ما أمر به كان خائناً ضماناً في حق من أعطاه ذلك بمنزلة المودع إذا أتلف المال فإنه يكون للمودع أن يضمنه قبل أن يحضر صاحبه وإن أخذ الأمير منه ذلك وتصدق به كان جائزاً .
فإن حضر أصحابه بعد ذلك كان لهم أن يضمنوا الأمير مثل ذلك من ماله ولا يرجع به الأمير في بيت مال المسلمين لأن حاله في ذلك كحال الملتقط إذا تصدق باللقطة ثم جاء صاحبها فإنه يتخير بين الأجر والضمان فهذا مثله وإنما لم يرجع الأمير به في بيت المال لأن تصدقه به لم يكن على وجه الحكم وإنما كان على وجه تصدق الملتقط باللقطة ولو كان على وجه الحكم لم يتصدق به أبداً ولكن بعزله في بيت مال المسلمين وحتى يأتي صاحبه فيأخذه أو يبقى في بيت مال المسلمين أبداً فعرفنا أنه إنما تمكن من التصدق به لا على وجه الحكم وفيما يفعله يرجع لا على وجه الحكم لا يكون عاملاً للمسلمين فإذا لحقه فيه ضمان لا الأمير في بيت مالهم .
فإن رأى الإمام أن يستقرضه للمساكين ويقسمه بينهم على هذا الوجه فهو جائز منه لأنه في هذا الاستقراض ناظر لأصحاب هذا المال وللمساكين وهو منصوب للنظر .
فإن جاء له طالب بعد هذا رجع فيما في يده من أموال المساكين حتى يدفع ذلك إلى طالبه لأن@(4/20)
تصرفه نفذ عن ولاية والأمير في هذا كالقاضي إذا وصلت اللقطة إلى يده فكما أن تصدقه هناك لا يكون على وجه الحكم حتى إذا صاحبه ضمنه ولم يرجع بشيء مما يضمن على أحد فكذلك حال الأمير لأن الخليفة هو الذي ولاه فهو فيما ولاه الخليفة كالقاضي بخلاف صاحب المقاسم فإن ما فعل ليس من الصدفة في شيء لأنه ما ولاه لأخذ ذلك .
ولو أن جنداً عظيماً أصابوا غنائم بسيرة فأخرجوها ثم تفرقوا لقلة غنائمهم وبقي بعضهم فإن الأمير يعطي من بقي حصته ويقف حصة الباقين سنة لأنه دخل تحت الغنيمة فيكون بمنزلة اللقطة في يده والحكم فيه مثل ما بينا فيما سبق .
وإن أراد أن يمضي فيه ما هو الحكم حقيقة فليضعه في بيت المال موقوفاً ويكتب عليه أمره ولمن هو وما قضيته فيكون في بيت المال أبداً إلى أن يحضر طالبه وكذلك يصنع باللقطة إذا أراد أن يصنع ما هو الحكم فيه حقيقة لأن جواز التصدق بعد التعريف باللقطة رخصة فأما العزيمة فهو الكف عن مال الغفير وحفظه عليه إلى أن يأتي هو أو وارثه فيأخذه .
وإن كان شيئاً مما يخاف عليه الفساد باعه ووقف ثمنه لأن حفظه لا يتأتى إلا بهذا الطريق ثم هذا البيع يكون منه على وجه الحكم حتى إذا حضر صاحبه لم يكن له أن يضمنه قيمته بخلاف التصدق به فإن بيعه تقرير لما هو الحكم فيه وهو حفظ المالية على صاحبه بحسب الإمكان فإن التصدق به لا يكون تقريراً لحفظ المالية عليه ولكنه إيصال لثوابه إليه إن رضي به فلهذا لم يكن ذلك واقعاً منه على وجه الحكم .
ولو أن رجلاً غل شيئاً من الغنائم ثم ندم فأتى به الإمام بعد القسمة وتفرق الجيش فللأمام في ذلك رأي إن شاء كذبه فيما قال وقال : أنا لا أعرف صدقك وقد التزمت وبالاً بزعمك وأنت أبصر فيما التزمه حتى توصل الحق إلى مستحقه وإن شاء أخذ ذلك منه وجعل خمسه لمنسمى الله - تعالى - لأنه وجد المال في يده وصاحب المال@(4/21)
مصدق شرعاً فيما يخبر به من حال من في يده وباعتبار صدقه خمسه لأرباب الخمس فيصرف إليهم والباقي يكون بمنزلة اللقطة في يده إن طمع في أن يقدر على أهله فالحكم فيه ما ذكرنا وإن لم يطمع في ذلك قسمه بين المساكين إن أحب وإلا جعله موقوفاً في بيت المال وكتب عليه أمره وشأنه ولو أن صاحب الغلول لم يأت به الإمام ولكنه تاب من الغلول وهو في يده فإن لم يطمع في أن يقدر على أهله فالمستحب له أن يتصدق به وإن طمع في ذلك فالحكم فيه ما هو الحكم في اللقطة في جميع ما ذكرنا ودفعه ذلك إلى الإمام أحب إلي كما هو الحكم في القطة أيضاً وبعد ما دفعه إليه فالإمام بالخيار في تصديقه إلا أنه ينبغي له ألا يدع الخمس في يده لأنه قد أقر أن خمس ما في يده لمن سمى الله - تعالى - في كتابه وإقراره فيما في يده صحيح في حقه فينبغي له أن يأخذ الخمس منه ويصرفه إلى المصارف حتى لا يكون مضيعاً حق أرباب الخمس والله أعلم .
باب الحكم في الأساري عبيدهم وأحرارهم
في أمورهم حكم الأساري بعد الأخذ قبل القسمة حكم العبيد قبل الإحراز ويعد الإحراز لأن الرق قد ثبت فيهم بالقهر وإن لم يتعين الملك فإن الرق عبارة عن الضعف وقد كان الضعف موجوداً فيهم قبل الأخذ باعتبار أنهم عرضة للتملك لكنه كان لا يظهر ذلك@(4/22)
للقوة الموجودة من طرريق الحس باعتبار المنعة وقد زال ذلك بالأسر فثبت الرق فيهم .
وإن توقف ثبوت الملك على القسمة أو البيع حتى وجد قتيل من المسلمين فشهد منهم نفر على رجل منهم أنه قتله بالسيف عمداً فإن شهادتهم لم تقبل لأن الرقيق ليس من أهل الشهادة فإنها نوع ولاية والرق يعدم الولاية .
ولكن للإمام أن يقتل المشهود عليه لأنه أسير لا أمان له حتى إذا قسمه أو باعه لم يكن له أن يقتله بعد ذلك كما لو لم يشهد عليه المشهود بشيء .
ولو شهدوا على امرأة منهم بذلك لم يقبلها الإمام لأنه لا شهادة لهم عليها فيكون حالها بعد هذه الشهادة كحالها قبلها وواضح هذا بما نقل عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن واحداً من الجند لو أعتق منهم نصيبه من عبد أو أمة أو استولدها فإن ذلك ينفذ في القياس ولا ينفذ في الاستحسان ولو لم يثبت الرق فيهم لم يكن للقياس والاستحسان في نفوذ العتق والاستيلاد لهم معنى ولو ظهر الإمام على دار أهل الحرب فصيرها دار الإسلام فهو بالخيار بين أن يخمسها ويقسمها بين الغانمين وبين أن يمن على أهلها فيجعلهم ذمة يؤدون الجزية عن جماعتهم والخراج عن أراضيهم كما فعله - رضي الله تعالى عنه - بالسواد فإن لم يفرق له فيهم رأي حتى شهد بعضهم على رجل منهم أنه قتل امرأة منهم عمداً أو خطأ ثم فرق له فيهم أحد الرأيين فشهادتهم الأولى باطلة لأنهم شهدوا وهم بمنزلة العبيد لكونهم مقهورين .
وإن عادوا تلك الشهادة فإن كان الإمام قد قسمهم لم تقبل شهادتهم أيضاً لأن الملك قد تعين فيهم بالقسمة .
وإن من عليهم قبل شهادتهم الثانية لأنه قد تقرر فيهم@(4/23)
حكم الحرية بالمن عليهم فقد جعلهم أحراراً الأصل والعبد إذا شهد في حال رقه فردت شهادته ثم أعادها بعد الحرية وجب قبولها ثم يغرم القاتل الأقل من قيمته ومن قيمة المقتولة في ماله فيكون ذلك لأوليائها على القاتل عمداً كان أو خطأ ولا قود في ذلك لبقاء شبهة الهدر في دمها حين قتلها ولاشتباه المستحق للقود حين قتلها ولاشتباه المستحق للقود حين قتلها لتردد حالها ثم حال القاتل والمقتول عند القتل كحال المكاتب فإن كل واحد منهما رقيق متردد الحال بين أن يتقرر الملك فيه بالقسمة أو الحرية بالمن فيكون كالمكاتب والمكاتب إذا قتل مكاتباً على وجه العمد لا يجب فيه القود فإنه يجب فيه الأقل من قيمة القاتل ومن قيمة المقتول ويكون ذلك في كسب القاتل لورثة المقتول إذا حكم بحريته بأداء بدل الكتابة فكذلك هاهنا وكذلك لو أن أحدهم قتل حراً من المسلمين خطأ فإن قسمهم الإمام دفع به وإن جعلهم ذمة غرم القاتل قيمته لأولياء المقتول كما هو الحكم في المكاتب يقتل حراً خطأ .
وإن كان المقتول رجلاً منهم فلا شيء على قاتله لأن دمه حلال ومن أراق دماً حلالاً لم يجب عليه الضمان .
ولو أسلم منهم قوم قبل أن يفرق له فيهم رأي فشهدوا بشهادة لم تجز شهادتهم على أحد لأن الرق الذي ثبت فيهم بالقهر لا يزول بالإسلام ألا ترى أن للإمام أن يقسمهم فحالهم كحال مكاتب مسلم شهد بشهادتهم وإذا رد الإمام شهادتهم ثم جعلهم في أراضيهم يؤدون عنها الخراج فذلك جائز لأنه كان له فيهم هذا الرأي قبل أن يسلموا فبعد الإسلام أولى فإن قيل : كيف يضع الخراج على أراضيهم والمسلم لا يبتدأ بالخراج .
ألا ترى أنه لو قسمها بين الغانمين لم يجعل عليهم الخراج في الأراضي ولكن يجعلها أرض عشر لأن أهلها مسلمون قلنا : لأنه إذا أولى فإن قيل : كيف يضع الخراج على أراضيهم والمسلم لا يبتدأ بالخراج .
ألا ترى أنه لو قسمها بين الغانمين لم يجعل عليهم الخراج في الأراضي ولكن يجعلها أرض عشر لأن أهلها مسلمون قلنا : لأنه إذا قسمها فقد ملكها الغانمين ابتداءً فكان هذا توظيفاً على المسلم ابتداءً في أرضه فأما إذا من بها على أهلها فقد قرر ملكهم فيها على ما كان وقد كان ثبت له حق توظيف الخراج على هذه الأراضي في ملك أهلها قبل أن يسلموا فيكون هذا إبقاء لما ثبت من الحق وإبقاء الخراج في أرض المسلم مستقيم .
ألا ترى أنه لو وظف عليهم الخراج ثم أسلموا بعد ذلك فإنه يسقط عنهم خراج الرءوس ولا يسقط عنهم خراج الأراضي فكذلك هذا فإن أعادوا تلك الشهادة قبلها الإمام لأن حريتها قد تقررت وهو بمنزلة ما لو قسمها ثم أعتقهم الموالي فأعادوا تلك الشهادة .
فإن أسلم بعضهم قبل أن يفرق له فيهم الرأي وفيمن أسلم رجل له أب مسلم من أهل دار الإسلام فمات@(4/24)
أحدهما ولا وارث له غير صاحبه ثم رأى أن يجعلهم ذمة فإن كان الميت غير الأسير منهما لم يرثه الأسير وإن كان الميت هو الأسير منهما ورثه المسلم الآخر .
لأن الأسير بمنزلة المكاتب لتردد حاله بين الرق والحرية والمكاتب لا يرث أحداً ويرثه قريبه المسلم إذا حكم بحريته بعد موته بمنزلة مكاتب يموت عن وفاء فيؤدي كتابته ويحكم بحريته .
وإن كان أحد الأسراء الذين أسلموا مات ووارثه أسير في المسلمين أيضاً فرأى الإمام أن يمن عليهم فإنه يجعل مال الميت ميراثاً لوارثه المسلم لأنه تقرر حكم الحرية في الوارث والموروث باعتبار سبب واحد فهو بمنزلة مكاتب يموت وله مولود في كتابته ثم يؤدي كتابته بعد موته بخلاف ما سبق فهناك حين مات الذي هو من أهل دار الإسلام فحريته حين مات متقررة والأسير متردد في الحال فلا يمكن تورثته عنه وإن ظهرت حريته بعد ذلك .
لأن حكم التوريث في ذلك المال يتقرر بنفس الموت وهاهنا الميت كان متردد الحال عند الموت كالوارث فإنما يتقرر حكم الحرية فيها وحكم الإرث في المال في وقت واحد .
فإن قيل : في المكاتب الحرية تستند إلى حالة الحياة أو يجعل هو كالحي حكماً إلى وقت أداء بدل الكتابة ولا يمكن تحقق ذلك المعنى هاهنا فكيف يجري الإرث بينهما قلنا : ذلك المعنى هاهنا أظهر لأن هاهنا إذا جعلهم ذمة فقد قرر فيهم حرية كانت وهناك عند الأداء ثبتت حرية لم تكن حرية لم تكن موجودة قط في المكاتب فإذا صح أن يجعل حياً حكماً لإثبات الحرية فيه ابتداءً لحاجته إليه فلأن يصح ذلك هاهنا لتقرير حكم الحرية فيه كان أولى وكذلك إن كان له ورثة مسلمون من أهل دارنا مع هذا الأسير فالميراث بينهم بالحصص بمنزلة المكاتب يموت وله ولد حر وولد مولود في الكتابة .
ولو أن مسلماً قتل رجلاً من الأسراء الذين أسلموا عمداً أو خطأ ثم جعلهم الإمام ذمة فإن القاتل يغرم قيمته إن كان عمداً ففي ماله وإن كان خطأ فعلى عاقلته لأن صفة الحل في دمه قد زالت بإسلامه وهو بمنزلة المكاتب إلا أنه لا يجب القود على القاتل لاشتباه المستحق فإن الإمام إن يجعلهم ذمة كان المستحق ورثته وإن بدا له القسمة لم يكن لورثته حق في استيفاء القود فلاشتباه المستحق لا يجب القود@(4/25)
ولكن تجب قيمته في ماله إن كان عمداً وعلى عاقلته إن كان خطأ ويكون ذلك ميراثاً لجميع ورثته لأن بدل نفسه بمنزلة سائر أملاكه في التوريث .
فإن مات بعض ورثته الذين هم من أهل دار الإسلام بعده ومات بعض ورثته من الأسراء بعده ثم جعلهم الإمام ذمة فإن ما تركه الأسير الأول يرثه ورثته من الأسراء وممن هو من أهل دارنا لأنه كان حياً عند موته وبعدما حكم بحريته يستند الإرث إلى ذلك الوقت .
ولا يرث الأسير الذي مات آخر ممن هو من أهل دارنا ولا يرثه أيضاً من هو من أهل دارنا لأن من هو أهل دارنا قد مات قبله فكيف يرثه والأسير وإن كان حياً عند موته ولكنه كان متردد الحال بين الرق والحرية فلا يرث شيئاً ممن هو متيقن الحرية عند موته وهو نظير مكاتب مات عند وفاء وترك ابناً حراً أو ابناً مولوداً في الكتابة ثم مات ابنه الحر عن مال ثم مات المولود في الكتابة عن مال ثم أديت كتابته فإن بقي من كسب الأب يرثه الابنان جميعاً ولا يرث واحد من الابنين من صاحبه لما بينا .
ولو أن بعض الأسراء كاتب عبداً له فإن تصرفه موقوف لأن ملكه متردد بين أن يسلم بالمن وبين أن يبطل بالقسمة فيتوقف تصرفه لتوقف ملكه فإن قيل : لماذا لم يجعل بمنزلة المكاتب في تصرفه في كسبه قلنا : لأن هناك المولى جعله أحق بكسبه وأطلق عنه الحجر في التصرف في كسبه وهاهنا الحجر بسبب القهر ثابت في كسبه كما هو ثابت في نفسه فلهذا يتوقف تصرفه في كسبه فإن جعلهم الإمام ذمة نفذ تصرفه .
فإن كان المكاتب أدى إليه الكتابة ثم جعلهم ذمة فإن كانت المكاتبة في يد المولى لم يستهلكها فهو حر لأن حكم قبضه كان موقوفاً وقد نفذ ذلك بالمن .
ألا ترى أن يسلم له المقبوض فيجعل ذلك بمنزلة ما لو استوفاه منه بعد المن فيحكم بعتقه .
وإن كان قد استهلك المقبوض لم يعتق المكاتب إلا بأداء المال مرة أخرى لأن الكتابة إنما نفذت بعد المن ولا بد من قبض بدل الكتابة بعد نفوذ العقد حقيقة أو حكماً ولم يوجد ذلك فإن حكم التوقف لا يبقى@(4/26)
في المقبوض بعد الاستهلاك لأنه فات لا إلى بدل فإنه غير مضمون على القابض سواء قسمهم الإمام أو جعلهم ذمة .
وإن كان أعتق العبد أو دبره أو تصدق به ثم جعلهم الإمام ذمة فجميع ما صنع من ذلك باطل لأنه كان بمنزلة المكاتب أو دونه في حكم التصرف وجهة البطلان في هذه التصرفات من المكاتب متعين لأنها تعتمد حقيقة الملك وليس له بحقيقة الملك فيما في يده فكذلك من الأسير بخلاف البيع والكتابة .
ولو ظهر الإمام على دارين من أهل الحرب فلم يقسمهم ولم يجعلهم ذمة حتى مات بعضهم وترك ورثة من أهل داره وورثة من أهل الدار الأخرى ثم جعلهم الإمام ذمة فيمراث الميت لورثته من أهل داره خاصة لأن أهل الدارين من أهل الحرب لا يتوارثون فيما بينهم لانقطاع الولاية بتباين المنعة فيما بينهم وهذا المعنى يبقى إلى أن يجعلهم الإمام ذمة أو يقسمهم .
وإنما حالهم في هذا الوجه كحال المكاتبين هم إخوة ومكاتبتهم واحدة ولبعضهم ابن مكاتبته على حدة فمات الأب عن مال ثم أدى ابنه فعتق ثم أديت مكاتبة الميت فإن إخوته يرثونه دون ابنه لأن الابن كان مكاتباً على حدة فلا تستند ما استندت إليه حرية أبيه فكذلك ما سبق من أهل دارين مختلفين .
وإن كان الإمام صيرهم ذمة قبل موت الرجل توارثوا جميعاً لأنهم جميعاً من أهل دار الإسلام .
وإن صير من إحدى الدارين ذمة ثم مات رجل من أهل الدار الأخرى ثم صيرهم ذمة بعد ذلك ورث الميت جميع ما ورثته من أهل الدارين أما من كان الميت من أهل داره فغير مشكل وأما من كان من أهل الدار الأخرى فلأنهم صاروا أحراراً من أهل دارنا قبل موته فيرثونه والله أعلم .@(4/27)
باب الشركة في الغنيمة
وإذا بعث الإمام سرية من دار الإسلام إلى حصن وسرية أخرى إلى حصن آخر فدخلت السرية الأولى وظفروا بأهل حصنهم وغنموا أموالهم ثم مرت بهم السرية الأخرى وظفروا بأهل حصنهم وغنموا أموالهم ثم لم تلتق السريتان بعد ذلك حتى خرجتا إلى دار الإسلام فجميع ما غنمت السرية الأولى يشترك فيها السريتان وما غنمت السرية الثانية فهو لهم خاصة .
لأن السرية الثانية حين التقت بالسرية الأولى في دار الحرب بعد إصابة الغنيمة فقد ثبت لهم في الشركة في المصاب لأنهم بمنزلة المدد لهم ثم لا تبطل تلك الشركة بإمعانهم في دار الحرب وخروج السرية الأولى قبلهم إلى دار الإسلام وما أصابت السرية الثانية فهم الذين تفردوا فيها بالإصابة والإحراز وما لقيهم السرية الأولى بعد هذه الإصابة في موضع من دار الحرب فلا يشاركونهم فيها .
ولو كانوا التقوا جميعاً في دار الحرب اشتركوا في جميع الغنائم لأنهم اشتركوا في إحرازها بدار الإسلام فيجعل كأنهم اشتركوا في الإصابة في حق كل غنيمة .
ولو كانت السرية الثانية لم يبعثها الإمام تقاتل الروم ولكنه بعثهم يقاتلون عدواً غير الروم وطريقهم في ارض الروم والمسألة بحالها لم يشرك بعضهم بعضاً فيما أصابوا هاهنا بخلاف ما تقدم ويستوي إن التقوا في دار الحرب أو لم يلتقوا لأن السرية@(4/28)
الثانية هاهنا ما قصدوا قتال الروم فلا يكونون في حكم المدد للسرية المبعوثة لقتال الروم بل كل سرية في حق ما أصابت السرية الأولى بمنزلة التجار في أرض الحرب فلا يشرك بعضهم بعضاً في المصاب وإن التقوا في دار الحرب وفي المسألة الأولى قصد كل سرية قتال أهل الدار التي تقاتلها السرية الأخرى فكان بعضهم مدداً لبعض إذا التقوا في دار الحرب وهذا لأن أهل الدار الواحدة إذا قهر بعضهم بظهر أثر ذلك القهر في حق الباقين منهم وأهل الدارين المختلفين لا يصير بعضهم مقهورين بقهر البعض وربما يزدادون قوة بذلك .
فإذا بعثت السريتان لقتال أهل دار واحدة يمكن جعل إحداهما مدداً للأخرى باعتبار أن قصد كل واحدة منهما قهر أهل تلك الدار وذلك لا يتأتى فيما إذا بعثت كل واحدة لقتال أهل دار أخرى فإذا التقت السريتان في دار الحرب بغنائم فلقوا جنداً من الروم فقاتلوهم عن غنائمهم فهزموا أهل الروم وأصابوا غنائم ثم خرجوا اشتركوا في جميع ذلك لأن المال صار محرزاً بقتالهم ونصرتهم جميعاً وحالهم الآن كحال التجار إذا لحقوا بالجيش في دار الحرب وقاتلوهم معهم دفعاً عن الغنائم فإن قيل : كان ينبغي ألا يكون للسرية الأولى شركة مع السرية الثانية فيما أصابوا من غير الروم لأنهم أخرجوا ذلك من الدار التي أصابوا فيها قبل أن تلحق بهم السرية الأولى فلا يشاركونهم فيها بمنزلة ما لو التحق المدد بالجيش بعد الإحراز بدار الإسلام ثم قاتلوا معهم العدو دفعاً عن تلك الغنائم قلنا : لا كذلك فإن حقهم لا يتأكد في المصاب بالإخراج إلى تلك الدار ما داموا في دار الحرب وإنما يتأكد حقهم بالإحراز بدار الإسلام وهذا لأن حكم اختلاف الدار فيما بينهم فأما في حق المسلمين الكل في حكم واحد لأن حق المسلمين إنما يتأكد إذا تم السبب وذلك بأن يصيروا قاهرين يداً وداراً وهذا المعنى لا يحصل وإن أخرجوها إلى دار حرب أخرى ما لم يحرزوها بدار الإسلام .
ألا ترى أن الإمام لو بعث جنداً إلى عدو خلف الروم ثم عمى عليهم خبرهم فبعث جنداً آخر في طلبهم لنصرتهم فوجودهم في أرض الروم ومعهم الغنائم قد جاءوا بها من الموضع الذي بعثوا إليه فإنهم يشاركونهم فيها للمعنى الذي قلنا فكذلك ما سبق .
ولو بعث سرية إلى أرض الروم فأصابوا فيها@(4/29)