أخذهما، وإن ندّا في المصر فيتحقق العجز، والصيال كالند إذا كان لا يقدر على أخذه حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد الذكاة حل أكله.
قال: والمستحب في الإبل والنحر، فإن ذبحها جاز ويكره، والمستحب في البقر والغنم الذبح فإن نحرهما جاز ويكره أما الاستحباب فيه فلموافقة السنة المتوارثة، ولاجتماع العروق فيها في المنحر، وفيهما في المذبح والكراهة لمخالفة السنة، وهي لمعنى في غيره فلا تمنع الجواز والحل، خلافا لما يقوله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخذه حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد الذكاة حل أكله) ش: قال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي ": وحكي في " المنتقى " وفي البعير إذا صال على إنسان فقتله وهو يريد الذكاة حل أكله إذا كان لا يقدر على أخذه، وضمن قيمته فجعل الصول بمنزلة الند.
[النحر للإبل]
م: (قال: والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز ويكره، والمستحب في البقر والغنم الذبح) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذبح هو قطع العروق التي في أعلى العنق حتى اللحين، ولا خلاف بين أهل العلم أن النحر في الإبل مستحب، والذبح فيما سواها.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي الجزور. وقال سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وهو الكبش؛ «ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين فذبحهما بيده، ونحر بدنة أي جزورا» . متفق عليه.
م: (فإن نحرهما جاز ويكره) ش: أي فإن نحر البقر والغنم جاز ويكره فعله إلا المذبوح. م: (أما الاستحباب فيه فلموافقة السنة المتوارثة) ش: وهي ما رواه البخاري في " صحيحه " بإسناده عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع بدنات بيده قياما، وذبح بالمدية كبشين أملحين أقرنين» . وروى مسلم بإسناده «عن جابر قال: كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذبح البقرة عن سبعة» م: (ولاجتماع العروق فيها) ش: أي في البقر، والغنم م: (في المنحر، وفيهما في المذبح) ش: وهو موضع الذبح.
م: (والكراهة) ش: بالرفع عطفا على قوله الاستحباب أي الكراهة الحاصلة في نحر البقر والغنم وذبح الإبل م: (لمخالفة السنة) ش: وهي التي ذكرناها؛ ولأنه زيادة ألم لا يحتاج إليه في الذكاة كما لو جرحها في موضع آخر م: (وهي) ش: أي الكراهة م: (لمعنى في غيره) ش: أي في غير الذبح والنحر لمخالفته السنة لا لذات ذبح ما ينحر.
م: (فلا تمنع الجواز والحل) ش: أي إذا كان كذلك فلا يمنع النحر في موضع الذبح أو الذبح في الموضع النحر جواز الفعل، وحل المذبوح. م: (خلافا لما يقوله مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يحل) ش: قال في " شرح الأقطع ": وعن مالك إذا ذبح البدن لم يؤكل وهذا بخلاف ما قاله أبو القاسم بن(11/569)
قال: ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر والحسن بن زياد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إذا تم خلقته أكل، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجلاب في كتاب " التفريع "، والاختيار ذبح البقر، والغنم، ونحر الإبل، فإن ذبح بعيرا من ضرورة فلا بأس بأكله، وإن كان من غير ضرورة أكلها، ومن نحر شاة ضرورة أكلت، وإن كانت من غير ضرورة كره أكلها، ومن نحر من غير ضرورة أو من ضرورة فلا بأس بأكلها انتهى.
[الحكم لو نحر ناقة أو بقرة فوجد بها جنينا]
م: (قال: ومن نحر ناقة، أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر) ش: أي القدوري: أشعر الجنين: إذا نبت شعره، مثل أعشب المكان إذا نبت عشبه م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر والحسن بن زياد - رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إذا تم خلقته أكل، وهو الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وأحمد، ومالك.
وفي " المبسوط ": إلا أنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يؤكل الجنين إذا أشعر وتمت خلقته، فأما ما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا يؤكل، وبه قال مالك، والليث، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال ابن الجلاب في " التفريغ ": وقال: إذا ذبحت الذبيحة فإذا وجد في جوفها جنين ميت فلا بأس بأكله إذا تمت خلقته، ونبت شعره، فإذا لم تتم خلقته، ولم ينبت شعره لم يجز أكله، فإن انفصل منها حيا، أو استهل خارجا انفرد بحكم نفسه، ولم يجز أكله بذكاة أمه فإن ذكي جاز أكله، وإن مات قبل ذكاته لم يجز أكله. وقال الخرقي: الحبلى ذكاتها ذكاة جنينها أشعر أو لم يشعر م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ش: هذا الحديث رواه أحد عشر نفسا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: أبو سعيد الخدري: أخرج حديث أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن مجالد عن أبي الوداك عن الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهذا لفظه، ورواه ابن حبان في " صحيحه " وأحمد في " مسنده " عن موسى بن إسحاق عن أبي الوداك به. ورواه الدارقطني في " سننه "، وزاد أشعر أو لم يشعر، فقال: الصحيح أنه موقوف. قال الحافظ: وقال المنذري: إسناده حسن،(11/570)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويونس وإن تكلم فيه، فقد احتج به مسلم في " صحيحه ".
الثاني: جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد القداح عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وعبيد بن أبي زياد فيه مقال: ورواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا عبد الأعلى، حدثنا حماد بن شعيب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا نحوه.
الثالث: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخرج حديثه الحاكم في " المستدرك " عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرفوعا، وقال: إسناده صحيح وليس كما قال: فإن عبد الله بن سعيد المقبري متفق على ضعفه. وأخرجه الدارقطني عن عمر بن قيس عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة، وقال عبد الحق: لا يحتج بإسناده. قال ابن القطان: وعلته عمر بن قيس وهو المعروف بسندل، فإنه متروك.
الرابع: ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج حديثه الحاكم عن محمد بن الحسن الواسطي، عن محمد بن إسحاق، وهو مدلس ولم يصرح بالسماع فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في " الضعفاء ". . وروى له هذا الحديث، وله طريق آخر عنه الدارقطني عن عصام بن يوسف عن مبارك بن مجاهد، عن عبيد الله بن عمر عن نافع به.
وقال ابن القطان: وعاصم رجل لا يعرف له حال، وقال في " التنقيح ": مبارك بن مجاهد ضعفه غير واحد.
الخامس: أبو أيوب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه الحاكم عن شعبة عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أيوب مرفوعا.
السادس: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج حديثه الدارقطني عن علقمة قال: أراه رفعه، ورجاله رجال الصحيح. إلا أن شيخ شيخه أحمد بن الحجاج بن الصلت، قال(11/571)
ولأنه جزء من الأم حقيقة لأنه يتصل بها حتى يفصل بالمقراض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيخنا الذهبي في ميزانه: هو آفة.
السابع: عبد الله بن عباس، وموسى بن عثمان الكندي عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس، وموسى هذا قال ابن القطان: مجهول.
الثامن: كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " عن إسماعيل بن مسلم عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرفوعا نحوه. قال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": إسماعيل بن مسلم المكي أبو ربيعة ضعيف، ضعفه ابن المبارك، وتركه يحيى، وليس هذا إسماعيل بن مسلم البصري العبدي صاحب المتوكل، ذاك ثقة.
التاسع: أبو أمامة.
العاشر: أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أخرج حديثهما البزار في " مسنده " عن بشر بن عمارة، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء، وأبي أمامة - رحمهما الله -، قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وقال البزار: وقد روى هذا الحديث من وجوه عن أبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وغيرهما. وعلى من رواه أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ورواه الطبراني في " معجمه "، إلا أنه قال: عن راشد بن سعد، عوض خالد بن معدان، وكذلك فعل ابن عدي في " الكامل " ولين بشر بن عمارة، ثم قال: وهو عندي حديثه إلى الاستقامة أقرب، ولا أعرف له حديثا منكرا.
الحادي عشر: علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أخرج حديثه الدارقطني، عن الحارث عنه. والحارث معروف، وفيه موسى بن عثمان الكندي، قال ابن القطان: مجهول، قال عبد الحق في " أحكامه ": هذا حديث لا يحتج بأسانيده كلها، وأقره ابن القطان عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الجنين م: (جزء من الأم حقيقة لأنه يتصل بها حتى يفصل بالمقراض) .(11/572)
ويتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها. وكذا حكما حتى يدخل في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها. وإذا كان جزءا منها فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته كما في الصيد وله: أنه أصل في الحياة حتى يتصور حياته بعد موتها، وعند ذلك يفرد بالذكاة ولهذا يفرد بإيجاب الغرة
ويعتق بإعتاق مضاف إليه، وتصح الوصية له وبه وهو حيوان دموي، وما هو المقصود من الذكاة، وهو التمييز بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم، إذ هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي حتى يفصل الجنين عن أمه بقطع سرته بالمقراض م: (ويتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها) ش: أي بغذاء أمه، وهذا كله دليل على كونه جزءا من الأم.
م: (وكذا حكما) ش: أي وكذا جزء من الأم حكما من حيث الحكم م: (حتى يدخل في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها) ش: أي يعتق الجنين بإعتاق أمه في بني آدم، وقال في " الأسرار ": لو قال: أعتقت الأمة إلا ما في البطن عتق ما في البطن كما لو قال: أعتقتها إلا يدها.
م: (وإذا كان جزءا منها) ش: أي وإذا كان الجنين جزءا من الأم حقيقة وحكما م: (فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته) ش: أي عند عدم القدرة على ذكاة الاختيار في الجنين م: (كما في الصيد) ش: إذا لم يوجد القدرة على ذكاة الاختيار، اكتفي بذكاة الاضطراب وهي الجرح في أي موضع كان، كما في البعير الناد. فكذا اكتفي بذكاة الأم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي الجنين م: (أصل في الحياة حتى يتصور حياته بعد موتها) ش: أي بعد موت الأم، ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال وبعد موت الأصل.
م: (وعند ذلك) ش: أي عند كونه أصلا في الحياة م: (يفرد بالذكاة) ش: يعني ذكر على حدة ولا يذكى بذكاة أمه م: (ولهذا) ش: أي ولكونه أصلا في الحياة م: (يفرد بإيجاب الغرة) ش: يعني إذا أتلف الأم ومات الجنين من ذلك يضمن التالف، ودية الأم وغرة الجنين. ولو كان جزء الأم لكان بمنزلة اليد والرجل. ولا يجب في هذه الأعضاء شيء بعد إيجاب الدية.
م: (ويعتق) ش: أي الجنين م: (بإعتاق مضاف إليه) ش: أي إلى الجنين دون الأم.
م: (وتصح الوصية له وبه) ش: أي للجنين وبالجنين فلهذه الأشياء كلها أحكام النفوس لا الأجزاء م: (وهو) ش: أي الجنين م: (حيوان دموي) ش: مثل أمه، فلا يكون ذكاة أمه سببا بخروج الدم منه م: (وما هو المقصود من الذكاة، وهو التمييز) ش: أي التمييز وهكذا هو في بعض النسخ أي الفصل من الرطوبات السائلة النجسة. واللحم طاهر أشار إليه بقوله: م: (بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم) ش: قوله: لا يحصل خبر لقوله: وما هو المقصود م: (إذ هو) ش: الجنين م:(11/573)
ليس بسبب لخروج الدم عنه، فلا يجعل تبعا في حقه بخلاف الجرح في الصيد؛ لأنه سبب لخروجه ناقصا، فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر. وإنما يدخل في البيع تحريا لجوازه كيلا يفسد باستثنائه، ويعتق بإعتاقها كيلا ينفصل من الحرة ولد رقيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ليس بسبب لخروج الدم عنه) ش: أي عن الجنين م: (فلا يجعل تبعا في حقه) ش: أي فلا يجعل الجنين تبعا لأمه في حق خروج الدم.
م: (بخلاف الجرح في الصيد) ش: هذا جواب عن قولهما: كما في الصيد، تقريره أن يقال: إن القياس على الصيد غير صحيح؛ لأن أصل الجرح وجد في الصيد م: (لأنه) ش: أي الخروج في الصيد م: (سبب لخروجه ناقصا) ش: أي لخروج الدم عنه حال كونه ناقصا لكونه من غير الذبح م: (فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر) ش: أي عند عدم القدرة على الأصل وهو الذبح في الحلق. فأقيم السبب الذي هو الجرح وإسالة الدم مقام المسبب. بخلاف الجنين فإن لم يوجد فيه الجرح أصلا.
م: (وإنما يدخل في البيع) ش: جواب عن قولهما حتى يدخل في البيع الوارد على الأم، تقريره إنما يدخل الجنين في بيع أمه م: (تحريا) ش: أي طلبا م: (لجوازه) ش: البيع م: (كيلا يفسد) ش: أي البيع م: (باستثنائه) ش: أي باستثناء الجنين لأن استثناءه يفسد البيع. م: (ويعتق بإعتاقها) ش: جواب عن قولهما: ويعتق بإعتاقها، أي يعتق الجنين بإعتاق الأم م: (كيلا ينفصل من الحرة ولد رقيق) ش: والولد يتبع الأم في الحرية والرقية.
ولم يجب على قولهما: وتغذى بغذائها، فجوابه أن يقال: لا نسلم ذلك، ولكن هل يبقيه الله تعالى في بطن أمه من غير غذاء؟ . ويوصل الله سبحانه وتعالى الغذاء إليه كيفما شاء فإن قدرته الباهرة لا تعجز عن ذلك.
فإن قلت: هل لأبي حنيفة أثر في ذلك؟
قلت: روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار " قال: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم قال: لا تكون ذكاة نفس ذكاة نفسين، يعني الجنين، وإذا ذبحت أمه لم يؤكل حتى تذكر ذكاته.
فإن قلت: كيف جاز له ترك الحديث المرفوع الصحيح، والعمل بأثر التابعي. قال: قلت: في " الأسرار ": لعل هذا الحديث لم يبلغ أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه لا تأويل له في " المبسوط "، لا يكاد يصح هذا.
قلت: فيه نظر لأننا قد بينا أن الحديث صحيح وما نقله في " الأسرار " حسن. واستدل(11/574)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم لأبي حنيفة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» بين أن جنس الذكاة في الحلق واللبة لأنه ذكرهما بلام التعريف. ولا معهود إن كان لتعريف الجنس. فلو حل الجنين بدون ذكاة في اللبة والحلق لا يكون الجنس منحصرا فيه.
وقال ابن حزم: لا يترك نفس القرآن وهو قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] بالخبر المذكور، واختار في ذلك قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختاره أيضا زفر والحسن بن زياد كما ذكرناه.
وبهذا قال ابن المنذر، ولم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا بإنشاء الذكاة فيه، إلا ما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا أحسب أن أصحابه وافقوه عليه، وكيف يقول هذا وقد وافقه من أصحابه زفر والحسن بن زياد وقال به إبراهيم النخعي كما بينا.
فإن قلت: لم لا يجيب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحديث.
قلت: قال صاحب " العناية ": لأنه لا يصح الاستدلال، لأنه يروى ذكاة أمه بالرفع والنصب فإن كان منصوبا فلا إشكال أنه شبيه، وإن كان مرفوعا فكذلك، لأنه أقوى في التشبيه من الأول.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمراد من الحديث التشبيه لا الإنشاء أي ذكاة الجنين كذكاة أمه كقول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظيم الساق منك دقيق
أي عيناك شبيهة بعيني الجنية، ولولا المراد به بما قالوا لقال: " ذكاة الأم ذكاة الجنين " كما يقال: لسان الوزير لسان الأمير، وإن كان يحتمل ما قاله أو يحتمل ما قلنا أيضا فكان من المشترك، فلا يبقى حجة.
قلت: قول صاحب " العناية ": روي ذكاة أمه بالرفع والنصب فيه نظر لأن الحافظ المنذري قال: فإن قلت: ما يقول في رواية أبي داود في حديث أبي سعيد الخدري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي الذي(11/575)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرناه قال «قلنا: يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آل وأصحابه وسلم ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ فقال: " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» .
قلت: هو يعارض كتاب الله وهو قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] والجنين الذي خرج ميتا ميتة ومتحقق، وشرط المعارضة المساواة، ولا مساواة بين الكتاب وخبر الواحد فيحمل ذلك على النسخ ويؤول في بطنها الجنين قريب من الموت.(11/576)
فصل فيما يحل أكله وما لا يحل،
قال: ولا يجوز أكل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب من الطيور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يحل أكله وما لا يحل]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان م: (فيما يحل أكله) ش: من الحيوانات م: (وما لا يحل) ش: ولما ذكر أحكام الذبح شرع في تفصيل المأكولات منها وغيره، إذ المقصود الأصلي من شرعية الذبح التوصل إلى الأكل وقدم الذبح لأنه شرط المأكول. والشرط مقدم.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأنسب أن يذكر مسائل هذا الفصل جميعها في كتاب الصيد، لأن كل ما ذكره من الصيد إلا الفرس والبغل والحمار.
قلت: لا يلزم أن يكون كل ما ذكره من الصيد وقد يكون من جهة غير الصيد. والمقصود بيان ما يؤكل وما لا يؤكل فيها لضرورة أن كلا منهما يحتاج إلى الذبح. فالأول للحل والثاني ليطهر لحمه وجلده فيكون موضعها كتاب الذبائح.
[أكل كل ذي ناب من السباع]
م: (قال: ولا يجوز أكل كل ذي ناب من السباع) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " مختصره ": لا يجوز أكل صاحب الناب من السباع وهو قول الشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وأكثر أهل العلم، وعن بعض أصحاب مالك هو مباح، وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير - رحمهما الله - لعموم قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] ولقوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . والمراد من ذي ناب السبع الذي يفترس بنابه ومن ذي مخلب هو الذي يصطاد بمخلبه، وهو المراد بالإجماع لأن كل صيد لا يخلو عن مخلب.
وقال الكرخي في " مختصره ": فذو الناب من السباع: الأسد والذئب والنمر والفهد والضبع والثعلب والسنور البري والأهلي. م: (ولا ذي مخلب من الطيور) ش: أي ولا يجوز أيضا أكل ذي مخلب من الطير، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم.
وقال مالك والليث والأوزاعي ويحيى بن سعيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يحرم من الطير شيء. وهو قول أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لعموم الآيات المحلة، وذي مخلب من الطير: الصقر، والعقاب، والباز والشاهين، والنسر، والغراب والأبقع والأسود وإن كان يأكل الجيف على ما يجيء والمخلب للطائر كالظفر للإنسان والمراد به مخلب وهو سلاح.(11/577)
«لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور، وكل ذي ناب من السباع» وقوله: من السباع ذكره عقيب النوعين، فينصرف إليها فيتناول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: «لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور، وكل ذي ناب من السباع» ش: هذا الحديث رواه [ستة] من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الأول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه مسلم في " الصيد " عن ميمون بن مهران عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السبع وعن كل ذي مخلب من الطير» . وقال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كتابه ": وهذا الحديث لم يسمعه ميمون بن مهران من ابن عباس بل بينهما سعيد بن جبير.
هكذا رواه أبو داود في " سننه " من حديث علي بن الحكم عن ميمون بن مهران عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
الثاني: خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود عنه مرفوعا: وحرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
الثالث: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه أحمد في " مسنده " عن عاصم بن ضمرة عنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» .
الرابع: أبو ثعلبة الخشني ولكن روى شطر الحديث أخرجه الأئمة الستة من حديثه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع» .
الخامس: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك روى شطره أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديثه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام» .
السادس: جابر بن عبد الله أخرج حديثه الكرخي في " مختصره " بإسناده إليه: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» وهذه الأحاديث نص صريح يخصص عموم الآيات.
م: (وقوله: من السباع) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السباع في آخر الحديث الذي م: (ذكره عقيب النوعين) ش: أي عقيب ذي مخلب وذي ناب م: (فينصرف إليهما) ش: أي إلى النوعين م: (فيتناول(11/578)
سباع الطيور والبهائم لا كل ما له مخلب أو ناب، والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة. ومعنى التحريم والله أعلم: كرامة بني آدم كيلا يعدو شيء من هذه الأوصاف الذميمة إليهم بالأكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سباع الطيور والبهائم) ش: فكأنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير إنما انصرف قوله: " من السباع " إليهما لا إلى الجملة الأخيرة لكون الخبر واحدا وهي " نهى " فيكون بمنزلة الجملتين المعقبتين بالشرط، فالشرط ينصرف إليهما لا إلى الأخيرة.
كما إذا قال: امرأته طالق، وعبده حر إن كلم فلانا م: (لا كل ما له مخلب أو ناب) ش: أي لا يتناول كل حيوان له مخلب كالحمامة أو ناب كالبعير، ويميل هذا التقرير وشيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح المبسوط " من هذا الموضع ولكن فيه نظر قوي؛ لأنه لم يذكر قط في الحديث في روايات الثقات، لفظة: " من السباع " إلا مقدمة على أكل ذي مخلب من الطير، فإن سبب صدق ذلك [ ... ] الأحاديث التي مرت آنفا.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني الذي هو أقواها وأصحها لم يذكر فيه ذو مخلب، فإذا تقرير المصنف، وشيخ الإسلام خواهر زاده بناء على غير أصل.
فإن قلت: لم لا يجوز أن تكون الرواية التي ذكرها صحيحة؟
قلت: لو كان كذلك لنقلها الثقات في كتبهم، وإنما الآفة من التقليد، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو صحت تلك الرواية فيمتنع انصراف قوله إلى النوعين جميعا؛ لأن قوله: «وكل ذي ناب» أولى بالانصراف إليه لكونه أقرب.
م: (والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة) ش: إنما ذكر أوصاف السبع بشيء من ذلك قوله: كيلا يعدو شيء إلى آخره. ومختطف من الخطفة، ومنتهب من النهب، والفرق بينهما أن الاختطاف من فعل الطيور والانتهاب من فعل البهائم والسباع، فلما كان السبع مقابلا وصف السبع بهذين الوصفين.
قال في " المبسوط ": المراد بذي الخطفة ما يخطف بمخلبه من الهواء كالباز والعقاب. ومن ذي النهبة ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذئب. قوله: عادة من عدى عليه عدوا أصله عادى فاعل إعلال قاض وقوله: عادة نصب على الظرف.
م: (ومعنى التحريم والله أعلم: كرامة بني آدم كيلا يعدو شيء من هذه الأوصاف الذميمة إليهم بالأكل) ش: أي المعنى الذي ورد التحريم لأجله في ذي مخلب من الطير، وذي ناب من السباع هو كرامة بني آدم بيانه أن الاختطاف والانتهاب والقتل عادة أوصاف ذميمة فحرم الشرع سباع(11/579)
ويدخل فيه الضبع والثعلب، فيكون الحديث حجة على الشافعي في إباحتهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البهائم كيلا يعدو شيء من هذه الذميمة إلى الآكل لأن العدو أثر في ذلك كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يرضع لكم الحمقى فإن اللبن يعدي» وكانت الحرمة كرامة لبني آدم كما كانت الإباحة كذلك أو كان معنى التحريم الإيذاء والخبث تارة يكون بالناب، وتارة يكون بالمخلب والخبث يكون خلقة كما في الهوام والحشرات، أو بعارض كما في الجلالة.
م: (ويدخل فيه الضبع والثعلب) ش: أي في التحريم لأنها ذو ناب من السباع م: (فيكون الحديث حجة على الشافعي في إباحتهما) ش: أي الحديث المذكور وإباحتهما مصدر مضاف إلى مفعوله وطوى ذكر الفاعل، والتقرير في إباحتهما، وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في الضبع، وأحمد أيضا في الثعلب في رواية، وفي أكثر الروايات عنه أنه حرام، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قولنا. واحتجوا في ذلك بما أخرجه الترمذي في الحج والأطعمة، والنسائي في الصيد والذبائح، وابن ماجه في الأطعمة، كلهم «عن عبد الرحمن بن أبي عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الضبع: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: أنت سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال في " علله ": قال البخاري: حديث صحيح، ورواه ابن حبان في " صحيحه " بهذا السند. ورواه الحاكم في " المستدرك " عن إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه كبش مسن ويؤكل» وقال: حديث صحيح، ولم يخرجاه.
وأخرجه أبو داود بسند " السنن "، ولم يذكر فيه الأكل، ولفظه قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع فقال " هو صيد ويجعل فيه كبش إذا اصطاده المحرم» " وأخذوا من هذا اللفظ إباحة أكله زاعمين أن الصيد اسم للمأكول، ومنشأ الخلاف في قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قتل السبع ونحوه مما لا يؤكل لا يجب عليه شيء. وعندنا: يجب عليه الجزاء لأن الصيد اسم للممتنع المتوحش في أصل الخلقة، قالوا: لو كان هذا مرادا لخلا عن الفائدة إذ كل أحد يعرف أن الضبع ممتنعة متوحشة. فإنما سأل جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن أكلها سيما وقد ورد التصريح بأكلها.(11/580)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: هذا ينعكس عليهم، لأنه لما سأله أصيد هي؟ قال له: نعم، ثم قال: سألته آكلها؟ قال: نعم، فلو كان الصيد هو المأكول لم يعد السؤال.
واستدل الإمام فخر الدين في " تفسيره " على أن الصيد اسم للمأكول بقوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] قال: فهذا يقتضي حل صيد البحر دائما وحل صيد البر في غير وقت الإحرام. وفي البحر ما لا يؤكل كالتمساح. وفي البر ما لا يؤكل كالسباع.
قال: قلت: إن الصيد اسم للمأكول، قلت: الصيد في الآية مصدر بمعنى الاصطياد، ويكون الإضافة بمعنى في أي أحل لكم الاصطياد في البحر وحرم عليهم الاصطياد في البر. بدليل أن المحرم يجوز له أكل لحم اصطياده حلالا عندنا وعندهم. فعلم أن المراد بالصيد في الآية الاصطياد لا الحيوان.
وقد أشار إليه المصنف فيما بعد في مسألة أكل السمك وقال: إن المراد بالصيد في قوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الاصطياد لا الحيوان.
والجواب عن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال في الابتداء ثم نسخ بقوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . ولأن حديثنا مشهور لا شك في صحته ولا يعارضه حديث جابر إن كان مشهورا صحيحا على ما قالوا. لأن حديثنا مروي من عدة طرق، فلا يعارض به حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه أفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس هو بمشهور بنقل أهل العلم ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. كذا قال صاحب " التمهيد ".
فإن قلت: رواه البيهقي أيضا من طريق عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
قلنا: في ذلك الطريق شخصان فيهما كلام وهما حسان بن إبراهيم عن إبراهيم بن ميمون الصائغ، أما حسان فقد ذكره النسائي في " الضعفاء " وقال: ليس بقوي.
أما الصائغ فقد ذكره الذهبي في كتاب " الضعفاء "، وقال: قال أبو حاتم لا يحتج به على أن لنا أحاديث أخرى تدل على تحريم الضبع.
منها ما أخرجه الترمذي في كتاب " الأطعمة " عن إسماعيل بن مسلم المكي عن عبد الكريم بن أبي المخارق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حبان بن جزء عن أخيه «خزيمة بن جزء قال: سألت رسول الله(11/581)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الضبع، فقال: " أويأكل الضبع أحد فيه خير» .
وأخرج ابن إسحاق عن عبد الكريم بن أبي المخارق به، فقال: «ومن يأكل الضبع» وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه "، وكذا في " تاريخ البخاري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - و " معرفة الصحابة " لابن المنذر.
فإن قلت: هذا حديث ضعيف لأن الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي ولا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن ابن أبي المخارق، وقد تكلم بعضهم فيهما، وضعفه ابن حزم بأن إسماعيل بن مسلم ضعيف. وابن أبي المخارق ساقط. وحبان بن جزء مجهول.
قلت: قال ابن معين: إسماعيل بن المخزومي المكي ثقة. وقال مرة: إسماعيل بن مسلم المخزومي أصله بصري وكان بمكة وهو ضعيف. وقال ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحاديثه غير محفوظة إلا أنه ممن يكتب حديثه، وقال: عمر بن علي كان صدوقا يكثر الغلط. وعبد الكريم ابن أبي المخارق وثقه بعضهم وإن كان الجمهور على تضعيفه وحبان بن جزء معروف، وابن حزم ذكره في باب: الجرح والتعديل، وهو أخو خزيمة بن جزء، وقال ابن [....] يروي عن حبان عن أبيه جزء، وعن أخيه خزيمة، ولهما صحبة ورواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال عبد الكريم بن أمية: فإن كان الأمر كذلك لا يسقط الاحتجاج بالكلية ولا سيما إذا اعتمدنا خبرا أصح منه، وحبان بكسر الحاء، وتشديد الباء الموحدة. وجزء بالجيم والراء المعجمة، وأصحاب الحديث يكسرون الجيم، قاله الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال الخطيب: بسكون الراء، ولم يذكر حركة الجيم. وقال عبد الغني: جزء بفتح الجيم، وكسر الراء، وخزيمة بضم الخاء، وفتح الزاء المعجمتين ومنه ما رواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " حدثنا جرير - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن يزيد السعدي رجل من بني سعد بن بكر، قال: «سألت سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ناسا من قومي يأكلون الضبع، فقال: إن أكلها لا يحل. وكان عنده شيخ أبيض الرأس(11/582)
والفيل ذو ناب فيكره.
واليربوع وابن عرس من السباع الهوام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واللحية، فقال الشيخ: يا عبد الله ألا أخبرك بما سمعت أبا الدرداء يقول فيه؟ فقلت: نعم، قال: سمعت أبا الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل ذي خطفة، ونهبة، ومجثمة، وكل ذي ناب من السباع، فقال سعيد: صدق» .
ومنها ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه " عن الثوري عن سهيل بن أبي صالح، قال: سأل رجل ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أكل الضبع فنهاه، فقال: إن قومك يأكلونها. فقال: إن قومي لا يعلمون. قال سفيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا القول أحب إليَّ. قلت لسفيان: فأين ما جاء عن عمر، وعلي وغيرهما، فقال: أليس قد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل كل ذي ناب من السباع» فتركها أحب إلي. وبه أخذ عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[حكم الفيل]
م: (والفيل ذو ناب فيكره) ش: فإن قلت: إن لم يكن من السباع فلا يكره.
قلت: الناس لا يعدونه من السباع، ولكن فيه معنى السبعية، وإلحاقه بالسباع يكون بنوع من الاجتهاد، فهذا استعمل لفظ الكراهة، كذا قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: المراد من الكراهة التحريم، فأكله حرام. وبه قال: أكثر أهل العلم إلا الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه رخص في أكله، لعموم قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية. وبه قال أصحاب الظاهر، وللعامة أنه ذو ناب فيدخل في عموم الحديث؛ لأنه مستخبث فيدخل في الخبائث.
[حكم اليربوع وابن عرس]
م: (واليربوع وابن عرس من السباع الهوام) ش: اليربوع بفتح الياء، دويبة تحفر الأرض وتجعل لها موضعا تحت الأرض، وتجعل لهم بابين أحدهما يسمى القاطعا وهي التي تنقطع فيها أو تدخل وللأخرى يسمى الناقص [ ... ] فإذا أتى صياد من قبل القاطع هربت وأتت في الناقص فدفعتها برأسها وخرجت منها، ويسمى بالفارسية موشى وشتى، يعنى فأرة الصحراء، أو ابن عرس، بالإضافة، دويبة.
قال الليث: دويبة دون السنور أشتر أصلم أسك، وربما ألف البيت فيوكر فيه، والجمع بنات عرس، هكذا يجمع ذكرا كان أو أنثى، وأهل مصر يسمونه عرسة، يكثر في بيوتها ويأخذ أفراخ الدجاج، والإوز، والحمام ونحوها ولا تأكلها ويسمى بالفارسية راسواو، الهوام بتشديد الميم، جمع الهامة وهي الدابة من دواب الأرض، وجمع الهوام، نحو اليربوع وابن عرس.
والقنفذ: ما يكون سكناه بالأرض والحدر مكروه أكله.
أما اليربوع فعند الشافعي، وأحمد في ظاهر الرواية، وأبي ثور: مباح، لأن عمر - رضي(11/583)
وكرهوا أكل الرخم والبغاث؛ لأنهما يأكلان الجيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله تعالى عنه - حكم فيه [ ... ] ، ولأن الأصل فيه الإباحة، ولم يرو فيه تحريم، وأما ابن عرس فعند الشافعي مباح؛ لأنه لا ناب له كالضب. قلنا: إنهما من سباع الهوام فيدخلا في عموم النهي، وأنها من الخبائث، والخبائث حرام بلا خلاف؛ لأنه ينهش بنابه، وكذا ابن آوى، وبه قال أحمد، وللشافعي فيه قولان لأن ابن آوى يشبه الكلب، ورائحته كريهة، فيدخل في عموم قوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] والكلب حرام عندنا، وعند أكثر أهل العلم.
وعن مالك أنه يكره ولا يحرم كما في السباع، والقرد حرام بلا خلاف، قال ابن عبد البر: ولا أعلم بين المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه.
وروى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحم القرد؛» لأنه سبع وهو ممسوخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة.
وأما الدواب من السباع المحرمة، فعن أحمد: إن كان ذا ناب يغرس به فهو محرم. فإن لم يكن له ناب أيضا فلا بأس به.
والوابر دويبة مثل ابن عرس أكحل العين وهو حرام عندنا، وعند الشافعي، وأحمد، وأبي يوسف في رواية: مباح لأنه مثل الأرنب يعتلف النبات والبقول فكان مباحا. قلنا: له ناب يفترس به، فيدخل في عموم الحديث.
[أكل الرخم والبغاث]
م: (وكرهوا أكل الرخم والبغاث؛ لأنهما يأكلان الجيف) ش: أي كره العلماء أكل الرخم بفتح الراء، والخاء المعجمة. وهو جمع رخمة. قال أبو حاتم السجستاني في كتاب " أسماء الطير وصفاتها ": الرخمة طائر يأكل الجيف ولا يصطاد، ولونه أبيض [مبقع بسواد] ، ويقال له الأنوق، والجمع الرخم.
ويقال في أمثال العرب: أبعد من بيض الأنوق، وربما خالط لونها السمار يعني النقط الصغار، ألا ترى أن الرخمة تعظم العقاب، ويقال لها: أم جعدات، وأم رسالة، وأم قيس، وحفصة، وأم عجيبة، والذكر منها العديل، والفراغ، والمعانق، ولا يلبث إلا في أرفع موضع يقدر عليه، وفي " الصحاح ": الرخمة طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، قيل: هي تأكل عظام الميتات.
وأما البغاث فهو طائر أبغث اللون إلى الغبرة دون الرخمة، لا يصيد شيئا. وقال أبو حاتم: قال أبو الخطاب: مما لا يصيد الطيور والرخام، والبغاث. وقال أبو عبيده:
البغاث من الطير صفاتها ... وإذا بغثها ألوانها(11/584)
قال: ولا بأس بغراب الزرع لأنه يأكل الحب ولا يأكل الجيف، وليس من سباع الطير.
قال: ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغداف. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بأكل العقعق لأنه يخلط، فأشبه الدجاجة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البغاث أولاد الرخم.
وقال الأصمعي: البغاث لئام الطير مثل للعرب، والبغاث بأرضنا يستنسر أي يتشبه بالنسور. يضرب مثلا للئام الناس إذا تكبروا. وقال الأصمعي: إن البغاث بكسر الباء وتستنسر بالتاء. فقال: وقال أبو عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من جعل البغاث واحدا، قال في الجمع بغثان، ومن أجراه مجرى النعائم، وقال بغثانة وبغاث.
قال [....
.....] وفي " العباب ": وفي المثل: إن البغاث بأرضنا تستنسر، [
] ، وأسنده أبو تمام للعباس بن مرداس السلمي وهو لمعاوية بن مالك يعد الحكماء بغاث الطير أكثرها فراخا، وأم الصقر [ ... ] ، ثم قال: والثانية ثلاث حركات، قلت: مادته باء موحدة وغين معجمة، وثاء مثلثة، والأبغث قريب من الأغير.
[غراب الزرع]
م: (قال: ولا بأس بغراب الزرع) ش: أي قال القدوري: ولا خلاف فيه ويقال الزاع. قال في " العباب ": الزاع غراب صغير يضرب إلى البياض م: (لأنه يأكل الحب) ش: والجمع زيعان مثل طاق وطيقان. وقال الأزهري: الزاع هذا الطاعم، وجمعه زيعان لا أدري عربي هو أم لا؟ م: (ولا يأكل الجيف، وليس من سباع الطير) ش: فلم يكن من الخبائث، ولا يدخل تحت النهي في قوله: أي في الحديث المذكور.
[الغراب الأبقع الذي يأكل الجيف والغداف]
م: (قال: ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغداف) ش: أي الغراب الأبقع الذي يأكل الجيف والميتات، وقال الولوالجي في " فتاواه ": وأما الغراب الأبقع والأسود فعلى ثلاثة أوجه:
إن كان يأكل الجيف يكره، وإن كان لا يأكل الجيف، ويأكل الحب والزرع لا يكره، وإن كان يأكل الجيف ويأكل الحب يؤكل عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لا يؤكل، أي وكذا الغداف وهو غراب القيظ يعني يجيء في زمان القيظ، ويكون ضخم الجناحين، والجمع غدقان، قال في " العباب ": فربما سموا النسر بالكسر المرسل: غدافا قلت: يعني غراب القيظ، يعني يجيء في زمن القيظ، وهو شدة الحر.
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بأكل العقعق؛ لأنه يخلط فأشبه الدجاجة) ش: العقعق طائر معروف أبلق بسواد وبياض، أديب يعقعق بصوته، يشبه صوته العين والقاف إذا صات.
قال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي "، قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن العقعق فقال: لا بأس به، فقلت: إنه يأكل الجيف، فقال: إنه يخلط بشيء آخر،(11/585)
وعن أبي يوسف: أنه يكره لأن غالب أكله الجيف.
قال: ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها؛ أما الضبع فلما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فحصل في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ما يختلط لا يكره أكله بدلالة الدجاج.
م: (وعن أبي يوسف: أنه يكره؛ لأن غالب أكله الجيف) . أي غالب أكل العقعق الجيف. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أكل الجيف. وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأسبيجابي في " شرح الكافي ": لا خير في أكل النسور والعقاب وأشباهه؛ لأنه ذو مخلب من الطير، ولأنه يأكل الجيف فيفسد لحمه، وكذلك البازي والصقر والقعقع - يريد به اللقلق - لأنه يأكل الجيف، وأما العقعق والسودانة وما أشبه ذلك مما لا مخلب له فلا بأس به، وكذلك غراب الزرع لأنه يتوقى الجيف، ولا يأكل الحب. وقد قيل: إن العقعق يأكل الجيف، وإن صح كره أكله.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال أبو يوسف في السنجاب [ ... ] والسنور والدلف: كل شيء من هذا سبع مثل الثعلب، وابن عرس لا يؤكل لحمه.
وفي " فتاوى الولوالجي ": أكل الخطاف، والفاختة والعقعق لا بأس به؛ لأنه ليس بذي ناب من السباع، ولا ذي مخلب من الطيور، وأكل الهدهد لا بأس به؛ لأنه ليس بذي مخلب من الطيور.
وقال فخر الدين قاضي خان " فتاواه ": ولا يؤكل الخفاش، لأنه ذو ناب، وفيه نظر؛ لأن كل ذي ناب ليس بمنهي عنه إذا كان لا يصطاد بنابه، وفي " الدراية ": والفاختة تؤكل، والدبسي بضم الدال وكذلك الخطاف ولا خلاف فيه لأكثر العلماء. وأما الخفاش فقد ذكر في موضع أنه يؤكل، وفي موضع أنه لا يؤكل وبه قال أحمد، وعن أحمد: الخطاف محرم [ ... ] لا تؤكل بلا خلاف، وعن أبي يوسف يؤكل البوم لأنه يعتلف البقول.
[حكم أكل الحشرات وهوام الأرض]
م: (قال: ويكره أكل الضب والضبع والزنبور والسلحفاة والحشرات كلها) ش: أي قال القدوري إلا الزنبور والسلحفاة، وليسا في القدوري، وفي " العباب ": الضب دويبة والجمع ضباب وأضبة ومضبة على مفعلة، كما قالوا: الشيوخ مشيخة، وفي المثل: أغر من ضب، لأنه ربما أكل حسوله، والأنثى ضبة، والضب لا يشرب.
والزنبور بضم الزاي، والسلحفاة بضم السين، وفتح اللام، وسكون الحاء. قال تاج الشريعة: هي من حيوان الماء. قلت: لا تكون في البحر وكذلك تكون في البر، والحشرات جمع حشرة وهي صغار دواب الأرض.
م: (أما الضبع فلما ذكرنا) ش: أشار بقوله: إلا أنه ذو ناب يدخل فيه الضبع، يعني أنه ذو(11/586)
وأما الضب فلأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين سألته عن أكله. وهو حجة على الشافعي في إباحته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ناب، وقد استوفينا الكلام فيه هناك.
،: (وأما الضب فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حين سألته عن أكله) ش: هذا رواه محمد بن الحسن عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدي له ضب، فلم يأكله، فسألته عن أكله، فنهاها عن أكله، فجاء سائل على الباب فأرادت عائشة أن تعطيه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تعطيه ما لا تأكليه» والنهي يدل على التحريم، وروي عن عبد الرحمن بن شبل أخرجه أبو داود في الأطعمة عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحم الضب» .
فإن قلت: قال البيهقي: تفرد به ابن عياش، وليس بحجة، وقال المنذري: إسماعيل بن عياش، وضمضم فيهما مقال، وقال الخطابي: ليس إسناده بذاك، قلت: ضمضم شامي وابن عياش إذا روى عن الشاميين كان حديثه صحيحا، كذا قاله البخاري، ويحيى بن معين، وغيرهما.
كذا قال البيهقي في باب ترك الوضوء من الدم في " سننه "، وكيف يقول: هنا وليس بحجة، ولهذا لما أخرج أبو داود هذا الحديث سكت عنه وهو حسن عنده على ما عرف، وقد صحح الترمذي لابن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أُمَامَة، وشرحبيل شامي.
وروى الطحاوي في " شرح معاني الآثار " مسندا إلى عبد الرحمن بن حسنة قال: «نزلنا أرضا كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها، وإن القدر لتغلي بها إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ما هذا؟ " فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: " إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض إني أخشى أن تكون هذه فأكفئوها» .
م: (وهو حجة على الشافعي في إباحته) ش: أكل الضب أي حديث عائشة - رضي الله تعالى(11/587)
والزنبور من المؤذيات، والسلحفاة من خبائث الحشرات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنها - حجة على الشافعي في إباحته أكل الضب.
فالمصدر مضاف إلى فاعله، والفاعل محذوف أو يكون مضافا إلى مفعوله ويكون ذكر مطويا.
وبقوله قال مالك، وأحمد، والطحاوي في " شرح الآثار "، [و] رجح إباحة أكل الضب ثم قال: لا بأس بأكل الضب، فقال: وهو القول عندنا، واستدلوا بما روى البخاري، ومسلم «عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دخل مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ميمونة وهي خالته فوجد عندها ضبا محنوذا فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما قدمتن له، فقلن: هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده، فقال خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: " لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " فأحترزته فأكلته ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر فلم ينهني.»
ومما أخرجناه أيضا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «أهدت خالتي أم جفيد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطا، وسمنا، وضبا فأكل من الأقط، والسمن، وترك الضب تقذرا، قال ابن عباس: وأكل على مائدته ولو كان حراما لما أكل على مائدة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وبما أخرجاه عن الشعبي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معه فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب، فنادت امرأة من نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه لحم ضب. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلوا، فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي» .
وبما رواه أبو يعلى في " مسنده " حدثنا زهير، حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن يزيد بن الأصم، عن خالته ميمونة، قالت: «أهدي لنا ضب، وعندي رجلان من قومي فصنعته ثم قربته إليهما فأكلا منه، ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهما يأكلان فوضع يده فيه فقال: " ما هذا؟ قلنا له: ضب، فوضع ما في يده، وأراد الرجلان أن يضعا ما في أفواههما، فقال لهما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تفعلا إنكم أهل نجد تأكلونها، وإنا أهل تهامة نعافها» .
والجواب عن هذا: أنه يدل على الإباحة. وما استدللنا به يدل على الحرمة، والتاريخ مجهول، فيجعل للحرم مؤخرا عن المبيح، فيكون ناسخا له تعليلا للنسخ.
[الزنبور والسلحفاة]
م: (والزنبور من المؤذيات) ش: لأنه من ذوات السم م: (والسلحفاة من خبائث الحشرات) ش: قال داود: السلحفاة حلال. وقال ابن الجلاب في " التفريع ": ولا بأس بأكل السرطان،(11/588)
ولهذا لا يجب على المحرم بقتله شيء، وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب؛ لأنه منها.
قال: ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسلحفاة والضفدع، وقال أيضا: ولا بأس بأكل الطير كلها ما كان منها ذا ناب مخلب، وغير ذي مخلب كالبزاة والعقاب، والرخم، والحدأة، والغربان، وسائر سباع الطيور، وهي في ذلك بخلاف سباع الوحوش. وفي " الحلية ": والخنافس والعناكب، والقطاع، [ ... ] من الخبائث.
[ ... ] : دويبة كالسمك تسكن بالرمل ثقلة الجلد يعرض مقدمها، ويدق مؤخرها إذا أحست بإنسان غارت بالرمل. وكذا الخنفسة، أو سام أبرص [
] فسان، والزنانير، والذباب، وما أشبه ذلك، وما كان في بلاد العجم، وليس له شبيه فيما يحل ولا يحرم، فيه وجهان، وقال مالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي في ذلك كله الإباحة. وقال مالك: [ ... ] مباح إذا ذكيت واحتجوا بالعمومات المبيحة من قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية.
ولنا قوله سبحانه وتعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] م: (ولهذا) ش: أي ولكون الزنبور من المؤذيات والسلحفاة من الحشرات م: (لا يجب على المحرم بقتله شيء) ش: أي بقتل كل واحد منهما.
م: (وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب؛ لأنه منها) ش: أي لأن الضب من الحشرات. فإذا رتب الحكم على الجنس صحت على جميع أفراده كما إذا قال طبيب للمريض: لا تأكل لحم البعير، يتناول الكلام عن أكل جميع أفراده.
[أكل الحمر الأهلية والبغال]
م: (قال: ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال) ش: أي قال القدوري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قيد بالأهلية لأن في الحمر الوحشية لا خلاف لأحد في إباحتها، قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أو في " الكافي "، وغيره من كتب أصحابنا كان بشر المريسي ومالك يبيحان أكل الحمر، ولم أعثر على ذلك في كتبهم، وكتب أصحاب الشافعي، وأحمد - رحمهما الله.
وقال في " المغني " لابن قدامة: قال ابن عبد البر: لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمه، وإنما حكي عن ابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إباحته بظاهر قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ} [الأنعام: 145] الآية، انتهى.
قلت: ذكر في " التفريع " للمالكية: ولا بأس بأكل لحوم الحمر الأهلية، والبغال، ويكره أكل الخيل.(11/589)
لما روى خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام في " شرح الكافي ": وتكره لحوم الحمر، والبغال، وقال مالك وبعض فقهاء الشام: لا بأس به، انتهى.
وأراد ببعض فقهاء الشام الأوزاعي، وبه صرح فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير " وقد احتجوا بما أخرجه أبو داود في الأطعمة: عن منصور بن عبيد أبي الحسن، عن عبد الرحمن، عن غالب بن أبجر قال: «أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيته فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابتنا السنة، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان الحمر، وإنك حرمت الحمر الأهلية، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» .
ورواه الطحاوي بلفظ: «أطعم أهلك من سمين مالك» " قوله: جوال القرية بالجيم وتشديد اللام، جمع جالة بمعنى جلالة، وهي آكلة العذرة.
وللجمهور الكتاب، قوله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] (النحل: الآية 8) ، خرجت مخرج الامتنان، وقد من الله سبحانه وتعالى بمنفعة الركوب والزينة، ولو كان الأكل من هذه الأشياء حلالا لمن بذلك أيضا؛ لأن منفعة الأكل أكثر من منفعة الركوب والزينة لأن الإنسان يحيى بلا ركوب وزينة، ولا يحيى بلا أكل. ألا ترى أنه سبحانه وتعالى بدأ بذكر الأنعام قبل ذكر الزينة وحمل الأثقال. فقال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] إلى: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] فلم يذكر هنا منفعة الأكل مع أنه فوق منفعة الركوب والزينة دال أنه إنما لم يذكره لأن هذه الأشياء غير مأكولة اللحم.
والسنة وهي ما رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أشار إليه بقوله.
م: (لما روى خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمر» ش: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن بقية، حدثني ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد -(11/590)
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الخيل والبغال والحمير» هذا لفظ ابن ماجه.
ولفظ أبي داود قال: «غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم الحمر الأهلية، وخيلها، وبغالها، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وعنده بقية عن ثور لم يقل فيه حدثني.
وكذلك رواه الواقدي في " المغازي ": حدثني ثور بن يزيد عن صالح، به بلفظ أبي داود، ثم قال الواقدي: ثبت عندنا أن خالدا لم يشهد خيبر وأسلم قبل الفتح، هو وعمرو بن العاص، وعثمان بن أبي طلحة، أول يوم من صفر سنة ثمان، انتهى كلامه.
ورواه أحمد في " مسنده "، والطبراني في " معجمه "، والدارقطني في " سننه ". قال أبو داود: هذا منسوخ. وقال النسائي: لا أعلم رواه غير شعبة ويشبه إن كان صحيحا أن يكون منسوخا لأن قوله في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأذن في لحوم الخيل دليل على ذلك، وأخرجه عن صالح، به، وأخرجه الدارقطني عن الواقدي، حدثنا ثور بن يزيد، به، ونقل عن موسى بن هارون، أنه قال: لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه ولا بجده وهذا حديث ضعيف.
وزعم الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم بعد فتح خيبر. ثم أخرجه عن عمرو بن هارون البلخي حدثنا ثور بن يزيد عن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكره، قال: لم يذكر في إسناده صالحا، وهذا إسناد مضطرب، وقال البخاري في " تاريخه ": صالح بن يحيى بن المقدام فيه نظر، وقال البيهقي في " المعرفة ": إسناده مضطرب وهو مخالف لحديث الثقات، انتهى.
ومنهم علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أشار إليه قوله: م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ش: أخرجه البخاري، ومسلم عن عبد الله، والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأنسية» .(11/591)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكره البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " غزوة خيبر "، ومسلم في " الذبائح "، وأخرجاه في " النكاح " أيضا كذلك، وفي لفظ البخاري عام خيبر، وفي لفظ له: زمن خيبر.
ومنهم عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندا إلى سالم، ونافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر،» ومنهم البراء، وابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثهما البخاري أيضا بإسناده إليهما، قالا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية» ومنهم أبو ثعلبة أخرج البخاري أيضا حديثه قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحوم الحمر الأهلية» .
ومنهم عبد الله بن عمر بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه أبو داود عن طاوس عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، وعن ركوبها، وأكل لحمها» .
ومنهم عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه الطحاوي بإسناده إلى مجاهد، عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية» .
ومنهم أبو سليط، وكان بدريًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي أيضا بإسناده إلى عبد الله بن أبي سليط عن أبيه وكان بدريا، قال: «لقد أتانا نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل لحوم الحمر ونحن [ ... ] وإن القدور تفور بها فأكفأناها على وجوهها» .
ومنهم أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي أيضا بإسناده إلى ابن سيرين عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «لما افتتح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر أصابوا حمرا فطبخوا منها، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أن الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهيانكم عنها فإنها نجس فأكفئت القدور» .
وأخرجه البيهقي أيضا في " سننه "، ومنهم أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الترمذي عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع، والمجثمة، والحمر الإنسية» . وقال: حديث حسن صحيح.(11/592)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم المقداد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه البيهقي أيضا من حديث معاوية بن صالح، حدثني ابن جابر أنه سمع المقدام صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء يوم خيبر ومنها الحمار الأهلي» . وقال الذهبي: إسناده قوي.
ومنهم سلمة [بن الأكوع]- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرجه حديثه البخاري، ومسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه قال: «لما قدمنا خيبر رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نيرانا توقد قال: علام توقد هذه النيران؟ قالوا له: على لحوم الحمر الأهلية، قال: " أهريقوا، واكسروها " فقيل: يا رسول الله: " أونهريقها ونغسلها؟ " قال: أو ذاك» .
ومنهم جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما يأتي عن قريب فهؤلاء الأربعة عشر صحابيا رووا تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، والجواب عن حديث غالب بن الحر أنه حديث في إسناده اختلاف كثير، منهم من يقول: عن عبيد الله بن الحسن، منهم من يقول: عن عبد الرحمن بن معقل، ومنهم من يقول: عن ابن معقل، وغالب بن الحر ويقال: الحر بن غالب، ومنهم من يقول: غالب بن ذريح بن غالب، ومنهم من يقول: عن أناس من مزينة أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنهم من يقول أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه الاختلافات بعضها في " معجم الطبراني " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبعضها في " مصنف " ابن أبي شيبة، وبعضها في " مصنف " عبد الرزاق، وبعضها في " مسند البزار "، وقال البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعلم لغالب بن الحر غير هذا الحديث.
وقد اختلف فيه فبعض أصحاب عبيد بن الحسن يقول: عن غالب بن الحر، ومنهم من يقول: عن الحر بن غالب، ومنهم من يقول: عن غالب بن ذريح، انتهى.
وكذلك اختلف في الميتة. فمنهم من يقول: كل من سمين مالك، وقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المعرفة " وحديث غالب بن الحر إسناده مضطرب وإن صح فإنما رخص له عند الضرورة حيث يباح الميتة. وقال في " سننه الكبرى ": ومثل هذا لا يعارض الصحاح المصرحة بالتحريم، انتهى.
قلت: الدليل على أنه أباح ذلك عند الضرورة ما حدث الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " مسندا إلى غالب بن ذريح، «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه أصابتنا سنة، وإن سمين مالنا في الحمر فقال: كلوا من سمين مالكم» فأخبر أن ما كان أباح لهم ذلك في عام سنة ضرورة، ولا يدل(11/593)
قال: ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول مالك. وقال أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس بأكله لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك على الإباحة، ونقول: ما روى غالب بن الحر يدل على الإباحة، وما روى غيره يدل على التحريم، والتاريخ مجهول فيجعل دليل الحرمة مؤخرا تغليبا للنسخ، أو يقال: معنى قوله: «كل من سمين مالك» ؛ أي كل ثمنه، كما يقال: أكل فلان عقاره أي ثمنه، قال الشاعر:
إن لنا حمرا عجافا ... يأكل كل ليلة أكانا
والمراد ثمن الأكان لا يقال حرمها لقلة الحمير يوم خيبر بل لأنها [ ... ] لم تخمس لأن ابن أبي أوفى يعني ابن [
] له ذلك، فقال له: حرمها البتة فتبين أنه ما حرمها لقلة الحمر؛ ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإكفاء القدور بعد ما صار لحما ما بقي فيه منفعة الحمر وصار هو مأكولا وفيه منفعة القائمين بالطعام فلا بأس بالإكفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما البغال فكذلك حرام أكلها لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ} [النحل: 8] كما قد ذكرنا؛ ولأن الولد قد يتبع الأم في الحل والحرمة، وأما البغل، أو الفرس، أو الحمار، وأيا ما كان فالبغل مكروه لأن الأم مكروهة الأكل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال ظهير الدين الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه ": أما البغال إن كان الفرس نزا على الحمار يكره لأن لما للإناث غيره بالجماع، وأما الحمار إذا نزا على الرمكة فكذلك قيل هذا قول أبي حنيفة، وأما على قولهما: فلا بأس به لأنه ليس لماء الفحل غيره فبقي ماء الأم، وعندهما لا بأس بأكل الأم وينكر أن يسمى بغلا، والظاهر أن الأول قول الكل.
[لحم الفرس]
م: (قال: ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": م: (وهو قول مالك) ش: أي قول أبي حنيفة هو قول مالك، وبه قال الأوزاعي، وأبو عبيد م: (وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس بأكله) ش: وبه قال أحمد، وأبو ثور، وابن المبارك، وابن سيرين، وابن الزبير، والحسن، وعطاء، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري في غزوة خيبر، وفي الذبائح. وأخرجه مسلم في " الذبائح " عن عمرو بن دينار - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل» . ولفظ البخاري: «ورخص في لحوم الخيل» .(11/594)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها. والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها) ش: أي من أعلى منافع الخيل م: (والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها) ش: قد قررنا معنى هذا الكلام عن قريب.
فإن قلت: إنما لم يذكر؛ لأنه يفهم الأعلى بذكر الأدنى بالطريق الأولى كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يفهم منه حرمة الضرب، والشتم بالطريق الأولى دون العكس.
قلت: إنما يصح ذلك إذا كان البيان بطريق الكفاية وما نحن بصدده من قبيل بيان النهاية ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى فيما سبق: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5] . ثم عطف عليها، والخيل، والبغال، والحمير من غير ذكر شيء آخر من المنافع فلما قال: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] علم أن حكم المعطوف عليه حكم المعطوف.
فإن قلت: إنما يستقيم هذا إذ لو كان المقصود من النص الامتنان بمطلق النعمة المخصوصة، فلا يستقيم هذا، وإن سلمنا. لكن لم قلتم إن منفعة الأكل في الخيل يتعلق بها البقاء في الجملة، ولكن غيره يسد مسده في تعليق إبقائه هو البقر، والغنم، وغيرهما. ومنفعة الركوب، والزينة في الخيل تحصل على وجه لا يحصل بغيره من الحيوانات.
فكانت منفعة الركوب والزينة في الجملة بترك الامتنان في منفعة الأكل في الخيل لا يدل على حرمة الأكل، كترك الامتنان بنعمة الدار، والنسل، والبيع.
قلت: وجه الامتنان لا يتعلق باختصاص هذه المنافع بهذه الأشياء إنما يتعلق برجوع هذه المنافع إلى العباد؛ لأن وجه النعمة في ذلك لا في اختصاصها ومنفعة الأكل في الخيل بالإضافة إليها فوق منفعة الركوب والزينة في كونها نعمة.
على أنا نقول: إن منفعة الركوب والزينة لا تختص بهذه الحيوانات بل توجد في غيرها، وهو البقر، والإبل وغير ذلك فلا يكون القصد منه ذكر المنافع بها.
أما قوله: لم قلتم إن منفعة الأكل في الحيوانات يتعلق بها البقاء على ما ذكرنا. ومنفعة الركوب والزينة لا يتعلق بها البقاء ".
وأما قوله: غيره يسد مسده في تعليق البقاء، قلنا: ذلك لا يخرج كون منفعة الأكل من أن يكون فوق منفعة الركوب والزينة.
وأما منفعة البيع والحمل فقد ذكرها دلالة، وإن لم يذكرها صريحا؛ لأنه متى تبين كونه(11/595)
ولأنه آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له، ولهذا يضرب له بسهم في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث جابر معارض بحديث خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والترجيح للمحرم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منتفعا به في ذاته ثبت أنه مال متقوم، ويحل للبيع.
فإن قلت: الآية نزلت بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة أكل جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الحمار، والفرس إلى يوم خيبر، فلو كانت الآية دالة على الحرمة لما جاز أكلهم ولما صح سكوت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيان في مثل هذه الصورة.
قلت: إنما لم يبين - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل فتح خيبر؛ لأنه يمكن أنه لم يطلع على فعلهم، فلما اطلع يوم خيبر نهى وإنما أكلوا لعدم وقوفهم على هذه الدلالة لعمومها.
فإن قلت: ترك ذلك الحمل عليه وينبغي أن لا يحمل عليه وهو فاسد.
قلت: الكلام في أن ترك أعلام النعم والذهاب إلى ما دونه دليل حرمة الأعلى والحمل وليس كذلك.
م: (ولأنه) ش: أي الفرس: (آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له) ش: أي احتراما له لأن ما كان بسبب لإخافة العدو يستحق الإكرام، وفي ذبحه إهانة له.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه آلة لإرهاب العدو م: (يضرب له بسهم في الغنيمة) ش: لأن الفارس إنما يستحق السهمين بواسطة فرسه م: (ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد) ش: أي لأن في أكله تقليل مادة الجهاد وهو حرام، ولا شك أن منفعة حياته تربوا على منفعة لحمه بوجوه م: (وحديث جابر معارض بحديث خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والترجيح للمحرم) ش: أراد بحديث جابر المذكور في معرض استدلال أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد، وبحديث خالد المذكور في تعرض الاستدلال في تحريم الحمر الأهلية، قيل: فيه نظر؛ لأن حديث جابر صحيح، وحديث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - متكلم فيه إسنادا، ومتنا.
منهم من ادعى نسخه، بحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه قال فيه: فأذن، وفي لفظ: ورخص. قال الحازمي في كتابه: والإذن والرخصة يستدعي سابقة المنفع، ولو لم يرد هذا اللفظ لتعذر القطع بالنسخ لعدم التاريخ، فوجب المصير إليه.
وقيل: ليس فيه نسخ، ولكن الاعتماد على أحاديث الإباحة بصحتها ولكثرة رواتها.
وحديث خالد هذا ورد في قضية معينة وهو أن سبب التحريم في الخيل متحد وفي البغال،(11/596)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحمير مختلف. وذلك أنه نهي عن البغال، والحمير لذاتها، وعن الحمير لأنهم سارعوا إلى طبخها يوم خيبر قبل أن تخمس، فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإكفائها تغليظا عليهم. فلما رأوا نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تناول لحوم الخيل والبغال والحمير، اعتقدوا أن سبب التحريم واحد. وحتى «نادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله تعالى ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس» .
فحينئذ فهو أن سبب التحريم مختلف وأن الحكم بتحريم الحمار الأهلي على التأبيد، وأن الخيل إذا كان عن تناول ما لم ينجس فيكون قوله: إذن، أو رخص دفعا لهذه الشبهة.
قلت: مسند حديث خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيد، ولهذا أخرجه أبو داود، وسكت عنه فهو حسن عنده. وقال النسائي: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرني بقية أخبرني ثور بن يزيد عن صالح فذكره بسنده، وقد صرح فيه بقية بالحديث عن ثور، وثور حمصي أخرج له البخاري، وغيره وبقية: إذا صرح بالحديث كان سنة حجة. كذا قال ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، وغيرهم، خصوصا إذا كان الذي حدث عن بقية عاما.
قال ابن عدي: إذا روى بقية عن أهل الشام فهو ثبت، وصالح، وذكره ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثقات، وأبو يحيى ذكره الذهبي في " الكاشف " وقال: وثق وأبوه المقدام بن معد يكرب صحابي فهذا سند جيد كما ترى. فكيفما كان كذلك صحت المعارضة. فإذا تعارضا ترجح المحرم كما ذكرنا ولا يصح الاستدلال على نسخ حديث خالد بقوله: أذن أو رخص؛ لأنه يحتمل أن يكون إذنه في حالة المخمصة إذ هي أغلب أحوال الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وفي " الصحيح ": أنهم ما وصلوا إلى خيبر إلا وهم جياع، فلا يدل على الإطلاق.
فإن قلت: لو كانت الإباحة للمخمصة لما اختصت بالخيل.
قلت: يمكن أن يكون في زمن الإباحة بالفرس ما أصابوا البغال والحمير.
فإن قلت: قال ابن حزم في حديث خالد دليل الوضع لأن فيه عن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر. وهذا باطل لأن خالدا لم يسلم إلا بعد خيبر بلا خلاف.
قلت: ليس كما قال بل فيه خلاف فقيل: هاجر بعد الحديبية، وقيل: بل كان إسلامه بين الحديبية وخيبر، وقيل: بل كان إسلامه سنة خمس بعد فراغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني قريظة وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وخيبر بعدها سنة سبع، ولو سلم أنه أسلم بعدها فغاية ما فيه أنه أرسل الحديث، ومراسيل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم، عن الصاحبة كما ذكره ابن الصلاح وغيره.(11/597)
ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم، وقيل: كراهية تنزيه والأول أصح، وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به، لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يشكل عن قوله سؤرة فإنه طاهر.
قلت: ذكر خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه أن الحسن روى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤره [ ... ] مثل سؤر الحمار.
فإذا أخذنا بهذا فالسؤال ساقط ولئن سلمنا فالجواب عنه أن حرمة أكل لحمه إنما كانت للاحترام لا للنجاسة فصار كسؤر الآدمي.
فإن قلت: يشكل على قوله بقوله لأنه كبول ما يؤكل لحمه عنده.
قلت: إنما جعله كذلك للتحقيق لعموم البلوى وقد علم أن له أثرا في التحقيق فافهم.
م: (ثم قيل: الكراهية عنده كراهية تحريم) ش: أي كراهية لحم الفرس عند أبي حنيفة كراهية تحريم.
ثم قال صاحب المنظومة: وأكل لحم الخيل، وقال: ويكره، والمراد الحرمة لا التنزيه واختلف المشايخ في معنى الكراهية في معنى الكراهية لاختلاف اللفظ المروي عنه؛ لأنه ذكر في " المبسوط " في كتاب " الصيد " قال أبو حنيفة: رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله.
وما قال في الجامع يكره الخيل عنده، يدل على أن المراد كراهية التحريم؛ لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التحريم.
وحكي عن عبد الرحيم الكرمني أنه قال: كنت مترددا في هذه المسألة فرأيت أبا حنيفة في المنام يقول لي كراهية تحريم يا عبد الرحيم.
م (وقيل: كراهية تنزيه) ش: ذكره فخر الإسلام وأبو المعين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جامعيهما ": الصحيح أنه كراهية تنزيه لأن كراهته تعني كرامته، لئلا يحصل تقليل آلة الجهاد بإباحته، ولهذا كان سؤره طاهرا في ظاهر الرواية، وفي " الفتاوى الصغرى " قال قاضي خان أنه كراهية تنزيه؛ لأنه ذكر في كتاب " الصلاة " وسوى بين بوله وبول ما يؤكل لحمه.
م: (والأول أصح) ش: أي القول بكراهية التحريم أصح وأشار به إلى اختياره. هكذا قال صاحب [ ... ] ، وكذا قال [في] " التتمة ": الأصح أنه كراهية تحريم.
م: (وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به؛ لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد) ش: ولبن الفرس هو(11/598)
قال: ولا بأس بأكل الأرنب لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أكل منه حين أهدي إليه مشويا وأمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالأكل منه:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي يسمى " قمز " في لغة الترك بكسر القاف والميم وفي آخره زاي معجمة، وسماه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الحدود " مباحا. وقال: السكر المباح لا يوجب الحد كالبنج ولبن الرماك.
وقال فخر الدين قاضي خان: فأما الألبان فلبن المأكول حلال ولبن الرماك كذلك في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، ويكره في قول أبي حنيفة واختلفوا في كراهيته فقال بعضهم: مكروه كراهية التنزيه لا كراهية التحريم.
وذكر شمس الأئمة السرخسي في أثناء الكلام أنه مباح كالبنج، وعامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: قالوا مكروه كراهية التحريم إلا أنه لا يحد وإن زال عقله كما لو تناول البنج وارتفع إلى رأسه حتى زال عقله يحرم ذلك ولا يحد فيه؛ لأنه ليس في شربه أي شرب اللبن تقليل آلة الجهاد وفي " الخلاصة ": وهو الأصح.
قال الكاكي: وعلى هذا قيل أكله حلال في هذا الزمان في ديار التبر لأن [ ... ] يبق
[أكل الأرنب]
م: (قال: ولا بأس بأكل الأرنب) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا خلاف فيه لأحد من العلماء.
قال الكرخي في " مختصره ": ولم يروا جميعا بأسا بأكل الأرنب قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما الوهر فلا أحفظ فيه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - شيئا وهو عند مثل الأرنب وهو يعتلف البقول والنبت، انتهى.
وفي الجمهرة: والوهر دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها توجد في البيوت ويجمع على وهار.
م: (ولأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أكل منه حين أهدي إليه مشويا وأمر أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالأكل منه) ش: هذا الذي ذكره مركب من حديثين.
الأول: رواه البخاري في " صحيحه - في كتاب الهبة " عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك قال: «أهيجنا أرنبا بمر الظهران، فسعا القوم فبلغوا، فأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها، وبعث بوركها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: فخذيها - فقبله، قلت: وأكل منه؟ قال وأكل منه، ثم قال بعد قبله» .
أخرجه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج قال: ثنا شعبة(11/599)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن هشام بن زيد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلفظه سواء وفي آخره: قال حجاج: قال شعبة: فقلت له أكله؟ قال نعم: أكله، ثم قال لي بعد: قبله.
رواه البخاري في " الذبائح " فلم يذكر فيه الأكل.
والحديث الثاني: رواه النسائي في " سننه " - في الصوم " عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرنب قد شواها، فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يأكل، وأمر القوم أن يأكلوا» وزاد في لفظ: «فأني لو اشتهتها أكلتها» .
رواه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، والبزار في " مسنده " ورواه إسحاق ابن راهويه في " مسنده "، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن موسى بن طلحة عن ابن الحوتكية عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن أعرابيا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرنب يهديها إليه، فقال: " ما هذا؟ " قال هدية، - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكل منها من أجل الشاة التي أهديت إليه بخيبر - فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل " قال: إني صائم، قال " تصوم ماذا؟ " قال: ثلاثا من كل شهر، قال: " فاجعلها في البيض الغر: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ". قال: فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده إلى الأرنب ليأخذ منها. فقال الأعرابي: أما إني رأيتها تدمي - أي تحيض - فقال للقوم: " كلوا ". ولم يأكل» .
وروى ابن حبان أيضا في صحيحه " عن عاصم الأحول عن الشعبي «عن محمد بن صفوان الأنصاري أنه صاد أرنبين، فمر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معلقهما فقال: يا رسول الله إني أتيت غنم أهلي فاصطدت هاتين فلم أجد أذكيهما بها فذكيتهما بمروة أفأطعمهما؟ قال: نعم» .
ورواه الترمذي في " علله الكبرى "، حدثنا محمد بن يحيى القطعي البصري حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد عن قتادة عن الشعبي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أن رجلا من قومه صاد أرنبين، الحديث.(11/600)
ولأنه ليس من السباع ولا من أكلة الجيف فأشبه الظبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه "، عن يزيد بن عياض، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أهدي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرنبا وأنا نائمة فخبأ لي منه العجز فلما قمت أطعمني» . ويزيد ابن عياض ضعيف. وروى البيهقي في " سننه " من حديث محمد بن خالد بن الحويرث قال: سمعت أبا خالد بن الحويرث قال: أخبرنا عبد الله بن عمرو، وكان بالصفاح - مكان في مكة -، «وأن رجلا جاءنا بأرنب قد صادها، فقال يا عبد الله بن عمرو ما تقول؟ قال قد جيء بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها، وزعم أنها تحيض» .
ورواه أيضا أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله أهيجنا أي أثرنا، وعدينا هو مادته هاء، وياء، وجيم، قوله بمر الظهران بفتح الميم وتشديد الراء وهو موضع قريب من عرفة.
م: (ولأنه) ش: أي الأرنب م: (ليس من السباع ولا من أكلة الجيف فأشبه الظبي) ش: فلا يرحم الأكل والجيف جمع جيفة.
فإن قلت: إذا كان كذلك فلم قال: لا بأس بأكل الأرنب، ولم يقل: يحل نحره؟
قلت: لأن له شبهان شبها بالحمار، فإن أذنه تشبه أذن الحمار، والحمار حرام، وشبه بالآدمي في كونه يحيض فيحرم أكله كما يحرم أبو حنيفة الفرس لأن له شبها بالآدمي من حيث إنه يستحق سهما مقدرا من الغنيمة كالرجل. ولكن لما نطقت الأحاديث المذكورة بإباحة أكله لم يحرم قطعا، ولكن لما ذكرنا استعمل فيه لفظة، " لا بأس ".
قال تاج الشريعة: وإنما استعمل كلمة " لا بأس " لأنه روي أن الأرنب كانت امرأة لا تغتسل من الحيض فمسخت، انتهى.
قلت: لم يصح مسخ هذا ولئن مسخ لم يبق من نسل الممسوخ شيء. وكان جنسه موجودا قبل المسخ والله سبحانه وتعالى أعلم.
فوائد: القنفذ عندنا حرام ومالك وأحمد، ورخص فيه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فكأنه ما جعله من الخبائث ولا من السباع. قلنا: «إن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ذكر القنفذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حسبه من الخبائث» .(11/601)
قال: وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده ولحمه
إلا الآدمي والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما. أما الآدمي فلحرمته وكرامته، والخنزير لنجاسته كما في الدباغ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في من أكل الجلالة من الشاة والبقر والبعير. وبه قال الشافعي: وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: حرام وتزول الكراهة بحبسها بلا خلاف.
وعندنا وأحمد يكره ركوبها مدة الحبس، في الدجاجة ثلاثة أيام، وفي البقرة والبعير أربعون يوما، وقيل سبعة أيام في الشاة وعن أحمد ثلاثة أيام في الكل.
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ويكره لحوم الجلالة والعمل عليها وذلك حالها إلى أن تحبس أياما وتعلف لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الجلالة» ولأن تناول النجاسات توجب فساد لحمها فتقرر سنته في فساد أكله. وليس الدجاج كذلك لأن الأثر جاء في الجلالة وليس لها علف غير ذلك. والدجاج يخلط بالعذرة غيره، حتى إذا علم أنها لا تتناول غير النجاسات فقلنا بحرمة أكلها إلى أن تحبس.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": ولم يقدر في ذلك مقدارا في الكتاب. وروي في غير رواية الأصول أنه قدر في الإبل شهرا وفي البقر عشرين وفي الشاة عشرة أيام وفي الدجاجة ثلاثة أيام.
وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه "، ذكر في " النوادر ": لو أن جديا غذي بلبن الخنزير فلا بأس بأكله لأنه لم يتغير لحمه وما غذي صار مستهلكا لم يبق أثره. وعلى هذا يقال: لا بأس بالدجاجة التي تختلط بالعذرة، لأنه لا يغير لحمه. والرأي يروي بحبس الدجاجة ثلاثة أيام فذلك على سبيل التنزيه.
وفي الدراية: والزرع والثمار السفه بالنجاسات لا يكره، ولا يحرم عند أكثر الفقهاء.
[طهارة جلد ملا يؤكل لحمه بالذكاة]
م: (قال: وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه، طهر جلده ولحمه) ش: أي قال القدوري إذا ذبح حيوان مما لا يؤكل لحمه من ذي الناب يطهر لحمه وجلده.
وقال الحاكم في " الكافي "، ولا يكره الصلاة على جلد ما يكره أكله من ذي الناب إذا ذبح أو دبغ. وهذا الذي قاله هو الذي اعتمد عليه عامة أصحابنا على قول نصير بن يحيى وابن جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز بيعه. وقد مر بيانه في أول الكتاب.
[جلد الآدمي والخنزير]
م: (إلا الآدمي والخنزير فإن الذكاة لا تعمل فيهما. أما الآدمي فلحرمته وكرامته، والخنزير لنجاسته كما في الدباغ) ش: أي كما في حكم الدابغ. فإن المدباغ يطهر جلد كل حيوان إلا الآدمي لكرامته لا يستعمل. والخنزير لنجاسة عينه، أو لعدم قبول الدباغ كما(11/602)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا
وفي طهارته وطهارة جلده تبعا، ولا تبع بدون الأصل وصار كذبح المجوس. ولنا: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات
والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم، فإذا زالت طهر كما في الدباغ، وهذا الحكم مقصود في الجلد كالتناول في اللحم وفعل المجوسي إماتة في الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرنا في أول الكتاب مستوفى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك) ش: أي في اللحم والجلد وسائر الأجزاء م: (لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا) ش: أي لأن الذكاة والتذكية بتأويل الذبح يؤثر في إباحتها اللحم من حيث الأصالة.
م: (وفي طهارته وطهارة جلده تبعا) ش: أي ويؤثر في إباحتها طهارة اللحم وطهارة الجلد من حيث التبعية. م: (ولا تبع بدون الأصل) ش: إذا قام بالأصل وهاهنا لم تفد الذكاة الأصل الذي هو إباحة اللحم فكذا لا يفيد التبع م: (وصار كذبح المجوسي) ش: حيث لا يفيد إباحة الأكل ولا غيره وكذا ذبح الوثني م: (ولنا: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات) ش: احترز بها عن دم اللحم فإنه طاهر وهي النجسة أي الرطوبات.
م: (والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم فإذا زالت) ش: أي تلك الرطوبات والدماء السيالة النجسة م: (طهر) ش: أي المذبوح أي جلده ولحمه م: (كما في الدباغ) ش: أي يطهر في الدباغ بزوال تلك الرطوبات النجسة م: (وهذا الحكم مقصود في الجلد) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تأثر الذكاة في إباحة اللحم أصل، وفي الطهارة اللحم والجلد تبع، فقال: هذا أي الطهارة حكم مقصود في الجلد م: (كالتناول في اللحم) ش: يعني كما أن التناول حكم مقصود بالذات في اللحم، وكذلك الطهارة.
وحكم مقصود في الجلد والحاصل؛ أن طهارة الجلد واللحم غير تابعة لطهارة اللحم بل كل منهما حكم مقصود بالذات، فإذا حصلت الذكاة فإن كان المذكى من الحيوان الذي يؤكل، تحصل الطهارة في جميع أجزائه بالأصالة. وإن كان مما لا يؤكل يحصل في لحمه وجلده ثم لا يلزم في حصول الطهارة إباحة الأكل كما عرف م: (وفعل المجوسي، إماتة في الشرع) ش: هذا جواب، عن قياس الشافعي تقريره: أن ذبح المجوسي ليس بمشروع فيكون إماتة، وهذا؛ لأن الفعل، إنما يقع متطهرا إذا أنفق بالحسن لإفادة الأثر الحسن، والحسنات محل الثواب فلا يصير المجوسي أهلا لها.
فإن قيل: كما أن المجوسي ليس من أهل الذكاة فكذا الكلب ليس من جنس ما يذكى ولا(11/603)
فلا بد من الدباغ، وكما يطهر لحمه يطهر شحمه حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده خلافا له، وهل يجوز الانتفاع به في غير الأكل؟ قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل، وقيل: يجوز كالزيت إذا خالطه ودك الميتة، والزيت غالب لا يؤكل وينتفع به في غير الأكل.
قال: ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرق بين أن يكون الذبح من غير أهل الذكاة وبين أن يكون المذبوح من جنس المذكى ألا ترى أن المسلم لو ذبح خنزيرا لا يحل أكله كما أن المجوسي لو ذبح شاة لا يحل أكلها.
قلنا: قد اتفقا في أن المجوسي أيضا على أنه ليس من أهل الذكاة فلم يتفق على أن الكلب والفهد ليس من جنس المذكى بل هو من جنس الذكاة؛ لأنه مختلف في إباحة أكله كذا في " مختصر الأسرار ".
م: (فلا بد من الدباغ) ش: يعني إذا كان ذبح المجوسي إماتة في الشرع فلا بد من الدباغ في جلد ما ذكاه لعدم حصول الطهارة بذبحه ثم أعلم أنهم اختلفوا في أن الموجب لطهارة ما لا يؤكل لحمه مجرد الذبح والذبح مع التسمية قبل مجرد الذبح؛ لأنه يؤثر في إزالة الدم المسفوح وقيل الذبح مع التسمية لأن المطهر هو الذكاة ولا ذكاة بدون التسمية كما في غريب [ ... ] للفربري م: (وكما يطهر لحمه يطهر شحمه حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده) ش: قيد بالقليل لأن الكثير لا يفسد بلا خلاف خصوصا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن عنده إذا بلغ الماء قلتين لا ينجس إلا باليقين والقلتان عنده كثير.
م: (خلافا له) ش: للشافعي، أن شحمه أيضا لا يطهر كما لا يطهر لحمه وجلده، م: (وهل يجوز الانتفاع به في غير الأكل؟) ش: أي نحو الاستصباح، ودهن الجلود، ونحوها.
م: (قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل، وقيل: يجوز كالزيت إذا خالطه ودك الميتة) ش: الودك بفتح الواو والدال وهو الدسم م: (والزيت غالب) ش: أي والحال أن الزيت غالب م: (لا يؤكل) ش: أي الزيت مما إذا لم يجز أكله فيما إذا كان الزيت غالبا، ففيما إذا كان مغلوبا بالطريق الأولى.
(وينتفع به) ش: أي بالزيت المذكور م: (في غير الأكل) ش: كالاستصباح ونحوه كما ذكرنا.
[حيوان البحر من السمك ونحوه]
م: (قال: ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كره أصحابنا كل ما في البحر إلا السمك خاصة فإنه حلال أكله إلا ما طفى منه فإنهم كرهوه. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: ويكره أكل ما سوى السمك من دواب البحر عندنا كالسرطان، والسلحفاة، والضفدع وخنزير الماء. م:(11/604)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة من أهل العلم بإطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أطلق ذلك كله، والخلاف في الأكل والبيع واحد لهم: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] من غير فصل، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . ولأنه لا دم في هذه الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء، والمحرم هو الدم فأشبه السمك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة من أهل العلم) ش: ابن أبي ليلى والشافعي في قوله وأصحاب الظاهر م: (بإطلاق جميع ما في البحر) ش: أي إباحة جميع ما في البحر من الحيوان م: (استثنى بعضهم) ش: أي بعض الجماعة المذكورة وأراد به الشافعي؛ لأنه قال: جميع ما في البحر يؤكل.
م: (الخنزير والكلب والإنسان) ش: أي خنزير البحر وكلبه وإنسانه وهو قول الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أطلق ذلك كله) ش: أي جميع ما في البحر وبه قال أحمد في رواية عن الشافعي يؤكل جميع ما في البحر إلا الضفدع. وبه قال أحمد في رواية، وقال ابن الجلاب البصري في " التفريع ": وصيد البحر حلال أكله ويكره أكل كلب الماء وخنزيره من غير تحريم له.
م: (والخلاف في الأكل والبيع واحد) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين مالك وجماعة والشافعي سواء في جواز الأكل وجواز البيع م: (لهم) ش: أي للشافعي م: (قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] من غير فصل) ش: أي من غير فرق بين السمك وغيره، فإطلاق الآية يتناول الكل م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من طريق مالك عن صفوان عن سعيد بن سلمة من آل الأزرق عن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حديث حسن صحيح.
م: (ولأنه لا دم في هذا الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء) ش: لأن طبع الدم يضاد طبع الماء لأن الدم حار والماء بارد م: (والمحرم هو الدم فأشبه السمك) ش: أي فأشبه ما في البحر من الحيوانات كلها كالسمك في عدم الدم الذي هو المحرم إلا الضفدع استثناه الشافعي في قول: «لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتله،» رواه النسائي.(11/605)
ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وما سوى السمك خبيث، ونهى رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن دواء يتخذ فيه الضفدع ونهى عن بيع السرطان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وما سوى السمك خبيث) ش:؛ لأن الخبيث ما يستخبثه الطبع السليم، وما سوى السمك يستخبثه الطبع السليم فيحرم.
م: «ونهى رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن دواء يتخذ فيه الضفدع» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في " الطب " وفي " الأدب ". والنسائي في " الصيد " عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب «عن عبد الرحمن بن عثمان القرشي أن طبيبا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضفدع يجعلها في دواء فنهى عن قتلها» .
ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في " مسانيدهم " والحاكم في " المستدرك - في الطب " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال البيهقي: هو أقوى ما ورد في الضفدع.
وقال الحافظ المنذري: فيه دليل على تحريم أكل الضفدع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله والنهي عن قتل الحيوان إما لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله كالصرد والهدهد والضفدع ليس بمحترم فكان النهي منصرفا إلى الوجه الآخر.
م: (ونهى عن بيع السرطان) ش: أي «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع السرطان» وهو ليس بموجود في الكتب المشهورة في الحديث وليس له أصل.
فإن قلت: روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره مسندا إلى جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا جرابا من تمر لم يجد له غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء، فنأكله. وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة، ولا تحل لنا، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم إليه فكلوا، فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، فلما قدمنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرنا ذلك له، فقال: " هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا [منه] ) ؟ " فأرسلنا [منه] إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكل» .(11/606)
والصيد المذكور فيما تلا محمول على الاصطياد وهو مباح فيما لا يحل، والميتة المذكورة فيما روي محمولة على السمك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا يدل على إباحة ما في البحر سوى السمك.
قلت: المراد منها السمك والدليل عليه ما رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة، فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم ير مثله يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر وأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، والخبط بفتحتين الورق.
م: (والصيد المذكور فيما تلا محمول على الاصطياد) ش: جواب عن استدلالهم فيما ذهبوا إليه في قوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] .
تقريره: أن المراد من لفظ الصيد هو المصدر وهو الاصطياد فيتناول ما يحل وما يحرم وليس المراد منه الاسم، وقد قررناه فيما مضى.
فإن قلت: لو كان يستقيم حمله لكانت الكناية من قوله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] لا يستقيم حمله على الاصطياد فإنها راجعة إلى الصيد.
قلت: الطعام المذكور محمول على السمك لأن المتعارف أنه طعام البحر والكناية تنصرف إلى البحر قوله: " فيما تلا " الصواب " فيما تلي " على صيغة المجهول وهكذا هو في النسخ الصحيحة.
م: (وهو) ش: أي الاصطياد م: (مباح فيما لا يحل) ش: لمنافع أخرى غير الأكل م: (والميتة المذكورة فيما روي محمولة على السمك) ش: هذا أيضا، جواب على استدلالهم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أي الميتة المذكورة في الحديث، محمولة على السمك. وقوله: روي على صيغة المجهول أيضا على ما لا يخفى على الفطن.
فإن قلت: هذا خبر آحاد فكيف يجوز تخصيص الكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] .
قلت: هذا خبر مشهور قد تأيد بالإجماع فيجوز تخصيص الكتاب به، على أن حكم السمك ثبت بقوله سبحانه وتعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] . مع أنه لا تعارض بين الكتاب والخبر لأن الميتة المحلاة باللام جنس إذا لم يكن معهودا، والميتة من الدمويات المعهودة بدليل قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فعلم أن الميتة تكون ميتة باعتبار الدم المسفوح، ولا دم للسمك فيصرف إلى العهد فلا يبقى التعارض.(11/607)
وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو حلال مستثنى من ذلك) ش: أي السمك حلال مستثنى عما لا يحل م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» .
ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب " الأطعمة " عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحلت لنا.» . " إلى آخره.
ورواه أحمد والشافعي وعبد بن حميد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسانيدهم ". ورواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الضعفاء " وأعله بعبد الرحمن، وقال: إنه كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المراسيل، فاستحق الترك.
وأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن عبد الله وعبد الرحمن ابني زيد بن أسلم عن أبيهما. وأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن عبد الله فقط.
وعبد الله وعبد الرحمن ضعيفان إلا أن أحمد وثق عبد الله، وأسند ابن عدي إلى أحمد أنه قال: عبد الله ثقة، وأخواه عبد الرحمن وأسامة ضعيفان.
وقال ابن عدي: وهذا الحديث يدور على هؤلاء الإخوة الثلاثة، وأسند ابن معين أنه قال: ثلاثتهم ضعفاء قال ليس حديثهم بشيء في " التنقيح " هو موقوف في حكم المرفوع.
وقال الدارقطني في " علله ": وقد رواه المسور بن الصلت عن زيد بن أسلم.
وقال ابن عدي: وابن وهب يرويه عن سليمان بن بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوفا فرواه عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا، وعن ابن زيد بن أسلم يرويه عن زيد بن أسلم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - موقوفا وهو الصواب.
قال في " التنقيح " وهذه الطريق رواها الخطيب بإسناده إلى المسور بن الصلت. والمسور ضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وقال النسائي متروك الحديث، انتهى.
قلت: وله طريق آخر قال ابن مردويه في " تفسيره - في سورة الأنعام " حدثنا عبد الباقي(11/608)
قال: ويكره أكل الطافي منه وقال مالك والشافعي - رحمهما الله - لا بأس به لإطلاق ما رويناه ولأن ميتة البحر موصوفة بالحل بالحديث، ولنا ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي (- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) أنه قال: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن قانع حدثنا محمد بن بشر بن مطر حدثنا داود بن راشد حدثنا سويد بن عبد العزيز حدثنا أبو هشام الأيلي قال: سمعت زيد بن أسلم يحدث عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحل من الميتة اثنتان ومن الدم اثنان، فأما الميتة فالسمك والجراد، وأما الدم فالكبد، والطحال» . .
[أكل الطافي من السمك]
م: (قال: ويكره أكل الطافي منه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - " منه أي من السمك، والطافي هو الذي يموت فيعلو على وجه الماء ويظهر، من طفى الشيء يطفو طفوا إذا علا.
هكذا قال معنى الطافي اسم فاعل كالقاضي من قضاء، وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه من غير سبب معلوم ويعلو على وجه الماء.
م: (وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا بأس به) ش: أي الطافي وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحاب الظاهر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وبعض التابعين.
م: (لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . فإنه مطلق يفصل بين ما إذا مات بآفة أو بغير آفة. م: (ولأن ميتة البحر موصوفة بالحل بالحديث) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان» الحديث.
م: (ولنا ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا» ش: هذا الحديث، بهذا اللفظ غريب.
ولكن أبا داود وابن ماجه أخرجا عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه» .
فإن قلت: ضعف البيهقي هذا الحديث وقال: يحيى بن سليم كثير الوهم وقد رواه غيره موقوفا.(11/609)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم ذلك فإن يحيى بن سليم أخرج له الشيخان فهو ثقة وزاد فيه الرفع. ونقل ابن القطان في كتابه عن ابن معين قال: هو ثقة ولكن في حفظه شيء ومن أجل ذلك تكلم الناس فيه.
فإن قلت: قال ابن الجوزي: إسماعيل بن أمية متروك. قلت: ليس كذلك لأنه ظن أنه إسماعيل بن أمية أبو الصلت الذارع وهو متروك الحديث وأما هذا فهو إسماعيل بن أمية القرشي الأموي والذي في ظنه ليس في طبيعته.
فإن قلت: قال أبو داود: رواه الثوري وأيوب [وحماد] عن أبي الزبير موقوفا على جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد أسند من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما صطدتموه وهو حي فكلوه، وما وجدتم ميتا طافيا فلا تأكلوه» .
وقال الترمذي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس بمحفوظ، ويروى عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلاف هذا ولا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئا.
قلت: قول البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئا هو على مذهبه في أنه يشترط لاتصال الإسناد ثبوت السماع. وقد أنكر مسلم ذلك إنكارا شديدا وزعم أن المتفق عليه أنه يكفي للاتصال إمكان اللقاء، وابن أبي ذئب أدرك زمان أبي الزبير بلا خلاف، فسماعه منه ممكن.
فإن قلت: قال البيهقي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورواه بعد العزيز بن عبد الله، عن وهب بن كيسان، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به.
قلت: أخرج الحاكم في " المستدرك " في أبواب " الأحكام " حديثا عنه وصحح سنده.
وأخرج حديثه هذا الطحاوي في " أحكام القرآن " فقال: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي بن أشد ابن موسى، حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني عبد العزيز بن عبد الله عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما جزر البحر وما أبقى فكل وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل» .(11/610)
وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] عام خص منه غير الطافي من السمك بالاتفاق وبالحديث المشهور. والطافي مختلف فيه فبقي داخلا في عموم الآية.
قوله: " وما نضب " بالنون والضاد المعجمة والباء الموحدة من النضوب وهو ذهاب الماء.
قوله " ولفظه " أي رماه لأن اللفظ في اللغة الرمي، يقال: لفظت الرحى الدقيق أي رمته وقوله: وما طفا أي على وجه الماء.
م: (وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا) ش: أي وروى عن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا أن الطافي لا يحل وقد روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " كراهية الطافي عن جابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وكذا عن ابن المسيب وأبي الشعثاء، والنخعي وطاوس والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا نقل عبد الرزاق في " مصنفه " وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كل ما جزر عنه الماء وما قذف به، ولا تأكل ما طفا. يقال جزر الماء يجزر إذا قل ماؤه والجزر ضد الماء ومادته جيم ثم زاء معجمة.
فإن قلت: روى البيهقي من حديث الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: السمك الطافي حلال لمن أراد أكله. وزاد فيه وكيع عن سفيان: الطافية على الماء. وروى أيضا من حديث هشام حدثنا قتادة عن جابر بن زيد أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجراد والنون ذكي كله.
وروى غيره أيضا عن الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الحيتان والجراد ذكي كله.
وروى غيره عن أبان عن ابن عباس عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ما طفا البحر» .
قلت: روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن علي بن مسهر عن الأجلح عن ابن أبي الهذيل سأل رجل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إني آتي البحر فأجده قد جعل سمكا كثيرا فقال: كل ما لم تر سمكا طافيا.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " عن الثوري عن الأجلح عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: لا تأكل طافيا.
وحديث عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا ينافيا حديث جابر. وأما حديث أبان فإنه(11/611)
وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة.
قال: ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع من السمك والجراد من غير ذكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منكر جدا، قال شعبة لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أروي حديث أبان بن أبي عياش.
ذكره الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكام القرآن ".
[ميتة البحر تعريفها وحكمها]
م: (وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة) ش: هذا جواب عما تمسكوا من قولهم أن ميتة البحر موصوفة بالحل.
يعني ميتة البحر ما لفظه أي رماه البحر حتى يكون موته مضافا إلى البحر لأنه إذا رماه البحر ومات، يكون موته بسبب رمي البحر إياه، فيطلق عليه أنه ميتة بخلاف ما إذا مات في البحر من غير آفة. فإن مات حتف أنفه فإن موته لا يضاف إلى البحر.
[أكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد من غير ذكاة]
م: (وقال: ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد من غير ذكاة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والجريث بكسر الجيم وتشديد الراء بعده آخر الحروف ساكنة وفي آخره ثاء مثلثة.
قال في كتب اللغة: هو نوع من السمك. وفي " الغاية " الجريث الجري. وقال الكاكي الجريث بالفارسية ما هي بأي جوشق.
قلت: الجريث السمك السود والمارماهي السمكة التي تكون في صورة الحية، وما هي هو السمك وإنما أحل أنواع السمك لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان» . الحديث.
وروى محمد في الأصل عن عمرو بن وهب عن عمرة بيان الطبيخ قالت: خرجت مع وليدة لنا فاشترينا جريثة بقفيز حنطة فوضعناه في زنبيل فخرج رأسها من جانب وذنبها من جانب آخر، فمر بنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: بكم أخذت؟ قال: فأخبرته. فقال: أطعمه ما أرخصه وأوسعه للعيال، فيه دليل على أن الجريث يؤكل لأنه نوع من السمك فيجعل كسائر الأنواع. وهذا الحديث حجة لنا على بعض الرافضيين وأهل الكتاب فإنهم يكرهون أكل الجريث ويقولون: إنه كان ديوثا يدعو الناس إلى حليلته فمسخ به.
وهو متروك بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كذا قال خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه " وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن الجريث فقال: أما نحن فلا نرى به بأسا، وأما أهل الكتاب فيكرهون. فإذا صح عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن(11/612)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه ويشويه لأنه صيد البر، ولهذا يجب على المحرم بقتله جزاء يليق به فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره والحجة عليه ما روينا. وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها الميت وغيره، فقال: كله كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إباحة الجريث ولم يرد عن غيرهما خلاف حل ذلك محل الإجماع.
وكذا الجراد حلال سواء مات حتف أنفه أو قتله الآخذ بأن قطع رأسه.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه ويشويه لأنه صيد البر ولهذا يجب على المحرم) ش: أي ولأجل كونه صيدا يجب على المحرم م: (بقتله جزاء يليق به) ش: أما كونه صيدا فلا خلاف فيه لأنه متوحش، وأما جزاؤه فهو أن يتصدق بما شاء كما في قتل القمل وقد مر في باب الحج.
م: (فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره) ش: أي إذا كان كذلك، فلا يحل، إلا بالقتل كما في سائر الصيد حتى قالوا: إنه إذا غفل عنه حتى مات حتف أنفه، أو جعل الكل في غراره، وماتوا؛ فإنه لا يحل. كذا ذكره الشيخ الإمام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي شرح كتاب " الصيد " م: (والحجة عليه ما روينا) ش: أي على مالك، أراد بقوله: ما رويناه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان» الحديث. ولا يرد علينا كراهة الطافي لأنه مخصوص بالحديث الآخر.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: بلغنا عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ذكاة السمك والجراد واحدة. م: (وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها الميت وغيره فقال: كله كله) .
ش: هذا ذكره محمد في الأصل، وقد بلغنا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن الجراد إلى آخره فدل على حل الجراد مطلقا سواء مات حتفه أنفه أو مات بعلة بأن أصابه المطر في الطريق فمات.
وفي " الكافي ": ولأن موته لا بد أن يكون بسبب فإنه يجري الأصل مجرى المعاش كما قيل: إن بيض السمك إذا انحشر عليه الماء يصير جرادا. فإذا مات في البر فقد مات في غير موضع أصله، وإذا مات في الماء فقد مات في غير موضع معاشه وذلك سبب لموته. وروى ابن مريم سألت لحما هينا فرزقت الجراد، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يأكل الجراد.(11/613)
وهذا عد من فصاحته ودل على إباحته وإن مات حتف أنفه بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي،
ثم الأصل في السمك عندنا أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ،
وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل كالطافي وتنسحب عليه فروع كثيرة بيناها في كفاية المنتهى، وعند التأمل يقف عليه المبرز منها: إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما أبين وما بقي؛ لأن موته بآفة، وما أبين من الحي وإن كان ميتا فميتته حلال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كله، كله م: (عد من فصاحته) ش: حيث أجاب بلفظتين متجانستين في اللفظ مختلفتين في المعنى. فإن قوله كله، أمر من أكل، يأكل، والضمير فيه يرجع إلى الجراد.
وقوله: كله، تأكيد لما بعده، وهو من ألفاظ التوكيد المعنوي. م: (ودل على إباحته وإن مات حتف أنفه) ش: أي على إباحة أكل الجراد وإن مات من غير آفة م: (بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي) ش: وهو حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم: وحديث جابر لم يكن فرق بين السمك والجراد فافهم.
[السمك إذا مات بآفة أو حتف أنفه]
م: (ثم الأصل في السمك عندنا: أنه إذا مات بآفة) ش: كالصدمة وإلقائه الماء على طرف ونحو ذلك م: (يحل كالمأخوذ) ش: هذا أصل في اشتراط الآفة في موت السمك لتصير حلالا، وهو أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ، أي كالسمك المأخوذ من الماء، فإن أخذه سبب لموته.
فإن قلت: يتوهم فيما ينبذه الماء ما كان طافيا قبل النبذ.
قلت: لم يعتبر هذا الوهم منا وإنما يعتبر في غير السمك من الحيوانات، فإنه إذا توارى عنه الصير، ولم يتبع لا يحل لاحتمال أنه مات من هوام الأرض.
والقياس أن لا يعتبر التوهم في موضع، وإنما اعتبرناه بالنص في ماء السمك، ولم يعتبر هنا لأنه قال: ما لفظ البحر كله.
م: (وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل) ش: لعدم الشرط وهو الآفة، ولهذا قال م: (كالطافي) ش: لأنه ميت حتف أنفه بغير آفة م: (وتنسحب عليه) ش: أي يمتد على الأصل المذكور م: (فروع كثيرة بيناها في كفاية المنتهي وعند التأمل يقف عليها) ش: أي على الفروع م: (المبرز) ش: بالتشديد، من برز الرجل، فإنه أصحابه فضلا أو شجاعة، وثلاثية من برز الرجل يبرز بروزا، أي ظهر، وقوله سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم: 21] أي ظهروا.
م: (منها) ش: أي من الفروع م: (إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما أبين وما بقي؛ لأن موته بآفة، وما أبين من الحي وإن كان ميتا) ش: يعني في سائر الحيوانات م: (فميتته حلال) ش: أي(11/614)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ميتة السمك حلال بخلاف غيره من الحيوانات.
ومنها: وجد في بطنها سمكة أخرى أو قتلها طير الماء، فلا بأس بأكلها لأن الموت يحال إلى سبب ظاهر وهو ابتلاع السمك أو قتل الطير.
ومنها: إذا ألقى سمك في جب ماء فماتت فيه، فلا بأس بأكلها، لأنها ماتت بسبب ضيق المكان عليها، فكان موتها بآفة ظاهرة فيحل دمها إذا جمعها في حظيرة لا يستطيع الخروج منها، وهو يقدر على أخذها بغير صيد، لأن الجمع في مكان ضيق سبب لموتها، وإن كانت تؤخذ بغير صيد، فلا خير في أكلها لانعدام سبب ظاهر يحال الموت إليه، فكان موتها حتف أنفها، فلا يحل.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في السمك إذا كان بعضها في الماء، وبعضها على الأرض إن كان رأسها في الأرض، أكلت لأنه موضع نفسها.
وإذا كان خارجا من الماء، فإن الظاهر أنها ماتت بسبب. وإن كان رأسها وأكثرها في الماء لم تؤكل لأنه موضع حياتها فكان الظاهر أنها ماتت بغير سبب وإن كان رأسها في الماء وأكثرها في الأرض، أكلت لأنه ليس موضع حياتها، فعلم أن موتها بسبب.
وقد شنع ابن حزم على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا فقال: هذا قول مخالف للقرآن والسنة، ولأقوال العلماء، والقياس والمعقول. قيل في جوابه: هذا من غاية تعصبه لأن محمدا قال ذلك بالاستدلال من حديث جابر ووجه ما مر.
وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " فتاواه ": إذا ماتت السمكة في الشبكة وهو لا يقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكله فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأنها ماتت بآفة.
وفي " الفتاوى الصغرى " ناقلا عن " الجامع الصغير ": إذا وجد السمك ميتا على الماء وبطنه من فوق، لم يؤكل لأنه طافٍ. وإن كان ظهره من فوق أكل لأنه ليس بطاف. وفي " الذخيرة ": لو وجد سمكة في بطن طائفة يؤكل، وإن كانت الطافية لا تؤكل. ولو وجد في حوصلة طائر يؤكل وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يؤكل لأنه كالرجيع، ورجيع الطائر عنده نجس.
قلنا: إنما يصير رجيعا إذا تغير. وفي السمك الصغار التي تقلى من غير أن يشق(11/615)
وفي الموت بالحر والبرد روايتان، والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جوفها، قال أصحابنا: لا يحل أكله لأن رجيعته نجس. وعندنا وسائر أجزائه تحل. م: (وفي الموت بالحر والبرد روايتان) ش: أي في موت السمك بحرارة الماء أو برودته روايتان.
إحداهما: أنه لا يؤكل لأنه مات بسبب حادث، فهو كما لو ألقاه الماء على اليبس، والرواية الأخرى: لا يؤكل لأن الحر والبرد صفة من صفات الزمان، فليست من الموت غالبا.
وأطلق القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه مختصر الكرخي الروايتين ولم ينسبها إلى أحد وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الصيد ": وقد ذكره في غير رواية الأصول خلافا، وقال على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل، وعلى قول محمد: يحل. فكذلك قال في " العيون " حيث قال: وقال أبو حنيفة: إذا قتلها برد الماء أو حره لم يؤكل، فهو في منزلة الطافي.
وقال محمد: يؤكل لأنه مات بآفة. فوائد: وفي " الكافي " للحاكم ولا يحل صيد المجوسي ولا ذبيحته إلا فيما يحتاج إليه من التذكية من سمكة أو جرادة وبيضة يأخذها، وما أشبه ذلك، وكذلك المرتد، ولا بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي المعلم، كما يذبح بسكينه، ولو ذبح شاة أو بقرة فتحركت بعد الذبح أو خرج منها دم تحل، وإن لم تتحرك ولم يخرج منها الدم، لم تحل، وهنا إذا لم يدرك حياته وقت الذبح، فإن علم حل. ولو ذبح الموقوذة أو المسفوفة البطن أو المريضة وفيها حياة، حل في ظاهر المذهب، بقوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فيما ذبح، ولا يفصل في ظاهر الرواية.
وفي " المحيط ": وعليه الفتوى. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان بحال يعيش يوما لولا الذكاة يحل وإلا لا.
وعن أبي يوسف: إذا كان بحال يعيش أكثر اليوم لولا الذكاة يحل وإلا لا.
وفي " المحيط " ذبح شاة وقيل: إن كان أكثر رأيه أنها حية أكل، وإلا لا.
وقيل: إن تحركت أكل خرج الدم أو لا، وإن خرج الدم ولم يتحرك لم يؤكل تم الجزء الحادي عشر من البناية في شرح الهداية. ويليه الجزء الثاني مبتدئا بكتاب الأضحية.(11/616)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الأضحية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الأضحية]
[تعريف الأضحية]
م: (كتاب الأضحية)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأضحية، وجه المناسبة بين الكتابين من حيث اشتمال كل منهما على الذبح، إلا أن الذبح أعم من الأضحية. والخصوص يكون بعد العموم.
وفي اللغة اسم ما يذبح في يوم الأضحى، على وزن أفعلة وكان أصلها أضحوية اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وكسرت الحاء لتناسب الياء، ويجمع على أضاحي بتشديد الياء كالياء في جمع أروية، هي أنثى من الوعل.
قال الأصمعي: فيها أربع لغات: أضحية بضم الهمزة وكسرها، وضحية بفتح الضاد على وزن فعلية كهدية وهدايا، وأضحاة وجمعها أضحى كأرطاة وأرطى قال الفراء: الأضحية تذكر وتؤنث. وفي " الشريعة ": عبارة عن ذبح حيوان مخصوص في وقت مخصوص وهذا يوم الأضحى وشرائطها تذكر في أثناء الكتاب، وسببها الوقت وهو أيام النحر؛ لأن السبب إنما يعرف بنسبة الحكم إليه.
وتعلقت به إذ الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكون سببا، وكذا الأزمنة فيتكرر بتكرره كما عرف في الأصول، ثم الأضحية تكررت بتكرر الوقت، وهو ظاهر، وقد أضيف المسبب إلى حكمه فقال: يوم الأضحى، فكان كقولهم يوم الجمعة ويوم العيد ولا نزاع في أن سببه ذلك، ومما يدل على سببية الوقت امتناع التقديم عليه كامتناع تقديم الصلاة عليها.
فإن قلت: لو كان الوقت سببا لوجبت على الفقير؟
قلت: الغنى شرط الوجوب وهي واجبة بالقدرة الممكنة بدليل أن الموسر إذا اشترى شاة للأضحية في أول يوم النحر ولم يضح حتى مضت أيام النحر ثم افتقر كان عليه أن يتصدق بعينها أو بقيمتها ولا تسقط عنه الأضحية، ولو كانت بالقدرة الميسرة لكن دوامها شرطا كما في الزكاة والعشر والخراج بهلاك النصاب والخراج واصطلام الزرع آفة.
فإن قلت: أدنى ما يتمكن به المؤمن إقامتها تملك قيمة ما يحصل الأضحية ولا تجب إلا بملك النصاب، فدل على أن وجوبها بالقدرة الميسرة.
قلت: اشتراط النصاب لا ينافي وجوبها بالمكنة كما في صدقة الفطر، وهذا لأنها وظيفة مالية نظرا إلى شرطها وهو الحرية فيشترط فيه الغنى كما في صدقة الفطر.
فإن قلت: لو كان كذلك لوجب التمليك وليس كذلك لأن القرب المالية قد تحصل(12/3)
قال: الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه، وعن ولده الصغار. أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وعنه: أنها سنة ذكره في " الجوامع "، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالإتلاف كالإعتاق، وللمضحي أن يتصدق باللحم فقد حصل النوعان أعني التمليك والإتلاف بإراقة الدم وإن لم يتصدق حصل الأخير، وأما حكمها فالخروج عن عهدة الواجب في الدنيا والوصول إلى الثواب في العقبى بفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته، وشريعتها بالكتاب وهو قوله سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] .
قيل: المراد منه صلاة العيد والتضحية كذا في " الكشاف "، وروى ذلك عن ابن عباس في تفسيره أي: أصل الصلاة العيد والنحر والجزور، كذا ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه ".
والسنة هو ما روى البخاري عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين» " وعلى ذلك انعقد الإجماع
[حكم الأضحية]
م: (قال: الأضحية واجبة) ش: أي قال القدوري في " مختصره "، ذكر الأضحية وأراد بها الضحية لأن الوجوب في صفات الفعل، وإنما قال هذا تسمية للحال باسم المحل.
م: (على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى) ش: إنما شرط الحرية لأنها قربة مالية لا يصح أداؤها بلا ملك ولا ملك للرقيق، وشرط الإسلام؛ لأنها قربة ولا يتصور في الكافر، وشرط الإقامة؛ لأن المسافر يلحقه المشقة في أدائها، وشرط اليسار؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد سعة ولم يضح» على الوجوب بالسعة للفقير على ما يجيء ذلك مفصلا.
م: (عن نفسه وعن ولده الصغار) ش: يتعلق بقوله واجبة وولده بضم الواو وسكون اللام والولد جمع ولد تتناول الذكر والأنثى.
م: (أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك والليث وربيعة والثوري والأوزاعي، وروي الوجوب عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وهشام بن عبد الله الرازي.
م: (وعنه: أنها سنة) ش: أي وعن أبي يوسف: أن الأضحية سنة م: (ذكره في " الجوامع ") ش: وهو اسم كتاب في الفقه صنفه أبو يوسف م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول أحمد، وبه قال أكثر أهل العلم. م: (وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو الشيخ الإمام الحافظ أبو جعفر أحمد بن مسلم بن سلمة الأزدي الطحاوي الجنزي القومي ابن أخت المزني(12/4)
أن على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - سنة مؤكدة: وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف، وجه السنة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أراد أن يضحي منكم فلا يأخذ من شعره، وأظفاره شيئا» والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب الشافعي.
م: (أن على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - سنة مؤكدة وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف) ش: أي الاختلاف في وجوب الأضحية وسنتها حيث قالوا إنها واجبة على قول أبي حنيفة على قولهما.
م: (وجه السنة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أراد منكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئا» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري، عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من رأى هلال ذي الحجة منكم وأراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» " انتهى.
أراد لا يحلق شعره ولا ينتف إبطه ولا يقلم أظافره إلى يوم النحر تشبيها بالمحرمين، وإليه ذهب بعض العلماء.
م: (والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب) ش: التعليق بالإرادة وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أراد " فإن " من " شرطية وأراد فعلها.
وكذا قول الشافعي، وفي هذا الحديث دليل على عدم وجوب الأضحية لأنه علقه بالإرادة وهو ينافي الوجوب وبذلك أسند ابن الجوزي في " التحقيق " لمذهب أحمد.
[....
]
قلت: روى أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه " وسكت عنه من حديث أبي جناب الكلبي يحيى بن حبة عن عكرمة عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " «ثلاث هن علي فرائض وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وصلاة الضحى» .
وقال الذهبي في " مختصره ": سكت الحاكم وفيه أبو جناب الكلبي وقد ضعفه النسائي والدارقطني، وأخرجه الدارقطني عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: «كتب(12/5)
ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر؛ لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة وصار كالعتيرة.
ووجه الوجوب قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على النحر ولم يكتب عليكم» وجابر الجعفي يضعف، قال صاحب " التنقيح ": وروي من طريق آخر وهو ضعيف على كل حال.
م: (ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر؛ لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة) ش: احترز به عن الوظائف البدنية كالصوم والصلاة فإنهما مختلفان فيهما؛ لأن المسافر لحقه المشقة في أدائها.
م: (وصار كالعتيرة) ش: أي صار حكم الأضحية كحكم العتيرة يعني أنها لم تجب على المسافر لا تجب على المقيم، فكذا الأضحية لما لم تكن واجبة على المسافر لا تكون واجبة على المقيم والجامع في كل واحدة منهما قربة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، فصار كقوله: كالزكاة والعتيرة، لبيان العكس والعكس مرجع ومؤكد للعلة. وهذا كما قلنا ما يلزم بالشروع بالنذر كالحج والصلاة وما يلزم بالشروع لا يلزم بالنذر كالوضوء وصلاة الجنازة، وهي شاة تذبح في الجاهلية في رجب يتقرب بها أهل الجاهلية والمسلمون في صدر الإسلام ثم نسخ، وفي " الإيضاح ": العتيرة أول ولد الناقة، فالشاة تذبح وتؤكل وتطعم، وقال الثلاثة، وما كانت في الجاهلية الرخسة والعتيرة والعقيقة نسختها الأضحية.
[من وجد سعة ولم يضح]
م: (ووجه الوجوب قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن زيد بن الحباب عن عبد الله بن عباس عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن(12/6)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، والدارقطني في " سننه " والحاكم في " المستدرك " في سورة الحج، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرجه في الضحايا عبد الله بن يزيد المقري حدثنا عبد الله بن عياش به مرفوعا وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه في الضحايا، ثم رواه من حديث ابن وهب أخبرني عبد الله بن عباس فذكره موقوفا، قال: هكذا وقفه ابن وهب والزيادة عن الثقة مقبولة، وعبد الله بن يزيد المقري فوق الثقة.
وقال في " التنقيح ": حديث ابن ماجه كلهم رجال الصحيحين إلا عبد الله بن عباس النسائي فإنه من أفراد مسلم، قال: وكذلك رواه حيوة بن شريح وغيره عن عبد الله بن عباس مرفوعا، ورواه ابن وهب عن عبد الله بن عباس به موقوفا.
وكذلك رواه جعفر بن ربيعة وعبد الله بن أبي جعفر بن ربيعة وعبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة موقوفا وهو أشبه بالصواب.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": وهذا الحديث لا يدل على الوجوب كما في حديث: «من أكل الثوم فلا يقربن مصلانا» . قوله: سعة بفتحتين أي غنى ويسار، وقيل: مما يدل على الوجوب حديث أخرجه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن يسار «قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن عندي جذعة؟ قال: " اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك ".» ومثل هذا لا يستعمل إلا في الواجب.
وقال ابن الجوزي: معناه يجري في إقامة الشدة بدليل أنه ورد في الحديث: «فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا» ، قبل حديث آخر أخرجه الدارقطني عن ابن المسيب بن شريك حدثنا عبد الملك بن شعبة عن مسروق عن علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نسخ الأضحى كل ذبح ورمضان كل صوم» وقال البيهقي: إسناده ضعيف بمرة، والمسيب بن شريك متروك.
وقال في " التنقيح ": قال الفلاس أجمعوا على ترك حديث المسيب بن شريك. قيل: أخرجه الدارقطني أيضا عن هريرة بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج «عن عائشة -(12/7)
ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب ولأنها قربة يضاف إليها وقتها. يقال: يوم الأضحى، وذلك يؤذن بالوجوب؛ لأن الإضافة للاختصاص وهو بالوجود، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أستدين وأضحي؟ قال: " نعم وإنه دين مقتضى ".» قال: وهو ضعيف ولم يدرك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -.
م: (ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب) ش: لأنه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لم يضح عن سعة عن قربان مصلاه يدل على أنه فعل أمرا عظيما وهو ترك التضحية، فدل على أنها واجبة، وفيه نظر على ما ذكرنا.
فإن قلت: أليس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك سنتي لم ينل شفاعتي» ؟
قلت: ذلك محمول على الترك اعتقادا، والترك أصلا حرام، لهذا تجب المقابلة مع جماعة تركوا الأذان وإن كان الأذان سنة؛ لأن إحياء السنة واجب.
م: (ولأنها) ش: ولأن الأضحية م: (قربة يضاف إليها وقتها يقال: يوم الأضحى) ش: كما يقال: يوم الجمعة م: (وذلك يؤذن بالوجوب) ش: أي الإضافة يعلم بالوجوب وتذكير الإشارة باعتبار المذكور م: (لأن الإضافة للاختصاص) ش: أي الاختصاص المضاف إليه م: (وهو بالوجود) ش: أي الاختصاص المضاف بالمضاف إليه إنما يثبت بوجود المضاف إليه؛ لأنه إذا لم يوجد فيه لا يكون متعلقا به فضلا عن الاختصاص.
م: (والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس) ش: أي جنس المكلفين لجواز أن يجتمع الناس على ترك ما ليس هو واجب ولا يجتمعون على ترك الواجب، واعترض بأن السنة أيضا تفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس لأن الناس لا يجتمعون على ترك السنة، فأجيب بأن الوجوب انتفى إلى الوجود لاستحقاق العقاب لتركه.
م: (غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها) ش: هذا جواب عن قولهم: ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر، تقريره: أن الأضحية تختص بأسباب أي بشرائط وهي تحصيل شاة خالية من العيوب المانعة ورعاية فراغ الإمام عن الصلاة في حق أهل المصر على وجه لم يبق عليه من واجباتها.
ورعاية طلوع الفجر الثاني من يوم النحر في حق أهل السواد فهذا يشق على المسافر(12/8)
ويفوت بمضي الوقت، فلا تجب عليه بمنزلة الجمعة، والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم: ما هو ضد السهو لا التخيير، والعتيرة منسوخة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استحضارها أي تحصيلها والضمير يرجع إلى الأسباب فإذا كان كذلك سقطت عن المسافر تخفيفا كما سقط عنه الوضوء وجاز التيمم عند الزيادة على ثمن المثل، فهذا أولى بالسقوط لأنه أقوى حرجا من زيادة ثمن الماء؛ ولأن المسافر لو فرضنا أنه وجد شاة تصلح للأضحية فإنها يحتاج إلى حفظها إلى أن يجيء وقتها ويتعسر عليه ذلك فسقطت عنه دفعا للحرج ولم يوجد حالة السفر هذا المعنى في المقيم لم يسقط عنه قياسا على المسافر لعدم الجامع.
م: (ويفوت) ش: أي الأضحية م: (بمضي الوقت) ش: أي أيام النحر وهي ثلاثة أيام م: (فلا تجب عليه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك على ما ذكرنا فلا تجب الأضحية على المسافر م: (بمنزلة الجمعة) ش: حيث سقطت عن المسافر لأمور يشق عليه استحضارها بخلاف المقيم كما ذكرنا.
م: (والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم) ش: هذا جواب عما استدلوا به من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أراد أن يضحي منكم» تقريره أن المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أراد م: (ما هو ضد السهو) ش: وهو القصد م: (لا التخيير) ش: أي ليس المراد التخيير بين الترك والإباحة فصار كأنه قال من قصد أن يضحي منكم، وهذا لا يدل على نفي الوجوب كما في قوله: «من أراد الصلاة فليتوضأ» وقوله: «من أراد منكم الجمعة فليغتسل» أي من قصد، ولم يرد التخيير فكذا هذا.
م: (والعتيرة منسوخة) ش: هذا جواب عن قولهم: وصار كالعتيرة، يعني: أنها لما كانت منسوخة لا يلزم من عدم وجوبها عدم وجوب ما ليس منسوخا، وروى الأئمة الستة في كتبهم من حديث الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، قال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا فرع ولا عتيرة» وزاد أحمد في " مسنده ": " في الإسلام " وفي لفظ النسائي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الفرع والعتيرة» ، وفي الصحيحين: الفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه لطواغيتهم والعتيرة في رجب.
وأسند أبو داود عن سعيد بن المسيب قال: الفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه، وقال الترمذي: والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب، يعظمونها؛ لأنها أول الأشهر الحرام، والفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه.
وأخرج الدارقطني ثم البيهقي في " سننيهما " في الأضحية عن المسيب بن شريك عن عقبة بن اليقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نسخت الزكاة كل صدقة ونسخ صوم رمضان كل صوم ونسخ غسل الجنابة كل غسل ونسخت(12/9)
وهي شاة تقام في رجب على ما قيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأضحى كل ذبح» وضعفاه، قال الدارقطني: المسيب بن شريك وعقبة بن اليقظان متروكان، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " في أواخر النكاح موقوفا على علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
م: (وهي) ش: أي العتيرة م: (شاة تقام في رجب) ش: أي كانوا يذبحونها في رجب تعظيما له على ما مر، وفي " الصحاح ": العتيرة شاة كانوا يذبحونها لأصنامهم، وفي " العباب ": العتيرة الصنم الذي كان تعتر عنده العتاير. كان الرجل إذا أعتر عتيرة رمى رأسه من بدنه ونصبه إلى حيث الصنم فوق شرف من الأرض ليعلم أنه إنما ذبح لذلك.
والعقر أيضا العقيرة مثال الذبح وذبيحة م: (على ما قيل) ش: أشار به إلى أن في تفسير العتيرة اختلافا وقد ذكرناه.
قلت: قد مر أن هذا حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، ولئن صح فالمكتوبة: الفرض، ونحن نقول: إنها غير فرض، وإنما هي واجبة.
فإن قلت: قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» - "، وقد أطلق السنة.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث كتبت علي» الحديث يدل على الوجوب؟
قلت: هذا الحديث أخرجه البيهقي عن محمد بن سلمة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سلام بن مسكين عن عبد الله المحاسبي عن أبي داود الشعبي عن زيد بن أرقم. «قلنا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هذه الأضاحي؟ قال: " سنة أبيكم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " قلنا: فما لنا فيها؟ قال: " بكل شعرة حسنة " قلنا: فالصوف؟ قال: " بكل شعرة من الصوف حسنة» .
وقال الذهبي: وقال البخاري: لا يصح هذا، واسم أبي داود نفيع وأخرج ابن ماجه عن سلام بن مسكين عن عائذ الله بن عبد الله المحاسبي عن أبي داود الشعبي عن زيد بن أرقم «قلنا يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما هذه الأضاحي؟ قال: " سنة أبيكم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " قالوا: ما لنا(12/10)
وإنما اختص الوجوب بالحرية؛ لأنها وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك، والمالك هو الحر، وبالإسلام لكونها قربة، وبالإقامة لما بينا، واليسار لما روينا من اشتراط السعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها؟ قال: " بكل قطرة حسنة» انتهى.
ولئن صح مع قوله: «ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم» فيقول: إنه مشترك الإلزام.
فإن قوله: ضحوا فإنها سنة أبيكم إبراهيم أي طريقته، فالسنة هي الطريقة المسلوكة في الدين.
قلت: روي: " أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة ".
فإن قلت: روى البيهقي عن الثوري عن أبيه ومطرف وإسماعيل عن الشعبي عن أبي شريحة الغفاري قال: أدركت أو رأيت أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لا يضحيان في بعض حديثهم كراهة أن يقتدى بهما. وأبو شريحة صحابي.
وروي أيضا عن معمر عن إسماعيل بن أبي خالد عن مطرف عن عامر عن حذيفة بن أسد قال: رأيت أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وما يضحيان عن أهلهما خشية أن يستن بهما. قال الفلاس. قلت: ليحيى بن سعيد: إن معتمرا حدثنا قال: حدثنا مطرف عن الشعبي عن أبي شريحة؟ فقال: هذا مثل حديثه عن الشعبي عن عمر الحملي يريد به يحيى أنه أخطأ في هذا كما أخطأ في ذاك. انتهى.
ولئن صح فجوابه أنهما كانا لا يضحيان في حالة الإعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين.
[على من تجب الأضحية]
م: (وإنما اختص الوجوب بالحرية) ش: هذا بالشروط المذكورة في أول الكتاب م: (لأنها) ش: أي لأن الأضحية م: (وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك، والمالك هو الحر) ش: لأن العبد لا يملك شيئا م: (وبالإسلام) ش: أي اختص الوجوب بالإسلام م: (لكونها قربة) ش: والكافر ليس من أهلها، م: (وبالإقامة) ش: أي اختص الوجوب بالإقامة أيضا، م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: غير أن الأداء يختص بأسباب إلى آخره م: (واليسار) ش: بالجزء أي واختص الوجوب أيضا باليسار م: (لما روينا من اشتراط السعة) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد سعة» ... " الحديث.(12/11)
ومقداره ما يجب به صدقة الفطر، وقد مر في الصوم، وبالوقت وهو يوم الأضحى؛ لأنها مختصة به، وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى.
وتجب عن نفسه؛ لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه، وعن ولده الصغير؛ لأنه في معنى نفسه فيلحق به كما في صدقة الفطر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومقداره) ش: أي مقدار اليسار في هذا الباب م: (ما يجب به صدقة الفطر) ش: وهو أن يملك مقدار مائتي درهم فاضلا عن منزله وأثاثه وكسوته وخادمه وسلاحه، وفي " الأجناس " نقل عن الهارونيات: أنه جاء يوم الأضحى وله مائتا درهم وأكثر لا مال له غيره صرف ذلك أو أداه لم يجب عليه الأضحية وإن جاء يوم الأضحى ولا مال له ثم استفاد مائتي درهم ولا دين له قبل مضي الوقت وجبت عليه الأضحية.
وذكر أبو علي الدقاق الرازي صاحب كتاب " المحيط ": إن في العقارات والمبيعات إذا كان ملكا للرجل لا ينظر إلى قيمته وإنما ينظر إلى دخله. وفي " أضاحي علي الرازي " و " أبي القاسم الحربي " و " أبي عبد الله الزعفراني ": أنه يعتبر قيمتها لا دخلها كما في سائر الأمتعة.
قال أبو علي الدقاق: ولو كان خبازا عنده حطب قيمته مائتا درهم فجاء يوم الأضحى وذلك عنده عليه الأضحية، ولو كان له مصحف قرآن قيمته مائتا درهم وهو ممن يقرأ فيه ولا مال له غيره فلا أضحية عليه، ولو كان له مصحف قرآن قيمته مائتا درهم وهو ممن يقرأ فيه ولا مال له غيره فلا أضحية عليه وإن كان لا يقرأ فيه عليه الأضحية فإن كان ممن يحسن أن يقرأ إلا أنه يتهاون فيه فلا يقرأه ولا يستعمله، فلا أضحية عليه، وإن كان عنده كتب فقه وحديث قيمتها مائتي درهم، وهو من أهل العلم ممن ينفعه ويستعمله فلا أضحية عليه. وإن كان عنده ولا يحسن ذلك فعليه الأضحية، إلى هنا من الأجناس، وصاحب كتب الطب والنجوم والأدب، غنى بها أن كان قيمتها مائتي درهم.
م: (وقد مر في الصوم) ش: أي وقد مر بيان حكم اليسار في باب صدقة الفطر. م: (وبالوقت) ش: بالحر أي واختص الوجوب بالوقت أيضا. م: (وهو يوم الأضحى؛ لأنها مختصة به) ش: أي لأن الأضحية مختصة بيوم الأضحى م: (وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى) ش: أي مقدار الوقت.
[الأضحية عن نفس المكلف]
م: (وتجب عن نفسه) ش: أي يجب الأضحية عن نفس المكلف، م: (لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله ويجب على كل حر مسلم.
م: (وعن ولده الصغير؛ لأنه في معنى نفسه) ش: أي لأن وليه الصغير في معنى نفسه لأنه جزؤه والشيء ملحق بكله م: (فيلحق به كما في صدقة الفطر) ش: لأن كل واحد منهما قربة مالية تعلقت بيوم العيد فكانا نظيرين في هذا الوجه.(12/12)
وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله -. وروي عنه: أنه لا يجب عن ولده وهو ظاهر الرواية بخلاف صدقة الفطر؛ لأن السبب هناك رأس يمونة ويلي عليه. وهما موجودان في الصغير وهذه قربة محضة، والأصل في القرب أن لا تجب على الغير بسبب الغير ولهذا لا تجب عن عبده وإن كان يجب عنه صدقة فطره. وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله -) ش: أي الوجوب على الأب عن ولده الصغير رواية رواها الحسن في المجرد عن أبي حنيفة، وما ثبت الإشارة باعتبار الرواية م: (وروي عنه) ش: أي عن أبي حنيفة في الأصل، م: (أنه لا يجب عن ولده) ش: أي أن ذبح الأضحية لا تجب على الأب.
م: (وهو ظاهر الرواية) ش: أي هذا هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة قال قاضي خان: وعليه الفتوى، م: (بخلاف صدقة الفطر) ش: حيث تجب عليه عن ولده، م: (لأن السبب هناك) ش: أي لأن سبب الوجوب في باب صدقة الفطر م: (رأس يمونة ويلي عليه) ش: أي رأس بمؤنة الرجل، أي تجب عليه مؤنته ويلي عليه أن يتولى أمره.
م: (وهما موجودان في الصغير) ش: أي المؤنة والولاية موجودان في الصغير، م: (وهذه) ش: أي الأضحية م: (قربة محضة) ش: أي خالصة لأن الإراقة من العبد للرب من غير شائبة ومشاركة، ولا كذلك التصدق بالمال لأن المال كما يتقرب به إلى الله تعالى، يتقرب به إلى العباد، فلا يكون في صدقة الفطر قربة محضة، فجاز أن يجب على الغير بسبب الغير إذ أقام الدليل وقد قام صدقة الفطر.
م: (والأصل في القرب) ش: بضم القاف وفتح الراء جمع قربة م: (أن لا تجب على الغير بسبب الغير. ولهذا) ش: أي ولكون عدم الوجوب عليه بسبب الغير م: (لا تجب عن عبده) ش: أي لا يجب الأضحية على المولى عن عبده.
م: (وإن كان يجب عنه) ش: أي عن العبد م: (صدقة فطره) ش: لما قلنا: إنها ليست بقربة محضة فيجوز أن يجب عليه بسبب الغير م: (وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك ولكن لا يتصدق باللحم لأن الواجب هو إراقة الدم وأما التصدق باللحم فإنه تطوع.
وقال الصغير: لا يحتمل التطوع فينبغي أن يطعم الصغير ويستبدل لحمه بالأشياء التي ينتفع بها الصغير مع بقاء أعيانها، كما في جلد الأضحية كذا في " التحفة ".(12/13)
وقال محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يضحي من مال نفسه لا من مال الصغير فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر، وقيل: لا تجوز التضحية من مال الصغير في قولهم؛ لأن القربة تتأدى بالإراقة، والصدقة بعدها تطوع، فلا يجوز ذلك من مال الصغير. ولا يمكنه أن يأكله كله، والأصح أن يضحي من ماله ويأكل منه ما أمكنه، ويبتاع مما بقي ما ينتفع بعينه،
قال: ويذبح عن كل واحد منهم شاة، أو يذبح بقرة، أو بدنة عن سبعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: يضحي من مال نفسه من مال الصغير) ش: لأنها في نفس الأمر إتلاف، ومال الصغير يحفظ عن هذا.
م: (فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر) ش: وفي بعض النسخ بالواو، أي الخلاف في وجوب الأضحية على الأب عن ولده الصغير كالخلاف في صدقة الفطر.
وقال القدوري في شرح " مختصر الكرخي ": تكلم أصحابنا المتأخرون في هذه المسألة فمنهم من قال: إنها محمولة على صدقة الفطر فيجب في مال الصغير عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يجب عند محمد وزفر. ومنهم من قال: لا تجب في قولهم جميعا؛ لأن الواجب في الأضحية إراقة الدم، فالصدقة بها تطوع وذلك لا يجوز في مال الصغير، ولا يقدر الصغير في العادة أن يأكل جميعها، ولا يجوز أن تباع فكذلك لم تجب. والصحيح أن يقال: إنها تجب، ولا يتصدق بها؛ لأن ذلك تطوع، ولكن يأكل منها الصغير وبدخوله قدر حاجته، ويبتاع له بالباقي ما ينتفع به، كما يجوز أن يبيع البائع جلد الأضحية.
م: (وقيل لا يجوز التضحية من مال الصغير في قولهم) ش: جميعا أي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأن القربة تتأدى بالإراقة، والصدقة بعدها تطوع) ش: أي بعد الإراقة وتذكير الضمير باعتبار بعد الذبح م: (فلا يجوز ذلك من مال الصغير) ش: أي التصدق من مال الصغير؛ لأنه تبرع.
م: (ولا يمكنه أن يأكله كله) ش: أي ولا يمكن للصغير أن يأكل كل ما ذبح له فيصير ضائعا وماله محفوظ عن ذلك م: (والأصح أن يضحي من ماله) ش: أي من مال الصغير م: (ويأكل منه) ش: بالنصب، أي ويأكل من الذي يضحي له م: (ما أمكنه) ش: أكله أي الذي أمكنه أكله كله م: (ويبتاع) ش: بالنصب أيضا ويشتري م: (مما بقي ما ينتفع بعينه) ش: كالمنخل والغربال ونحو ذلك، ولا يتصدق باللحم أيضا أصلا؛ لأن مال الصغير لا يحتمل ذلك.
[من تجزيء عنه الأضحية وحكم الإشتراك في الأضحية]
م: (قال: ويذبح عن كل واحد منهم شاة) ش: أي قال القدوري: من كل واحد عن نفسه وأولاده شاة م: (أو يذبح بقرة أو بدنة عن سبعة) ش: أي سبعة أنفس، واعلم أن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد وأنها أقل ما تجب، وذكر الأترازي أن هذا إجماع وقال الكاكي: وقال مالك وأحمد(12/14)
والقياس: أن لا تجوز إلا عن واحد؛ لأن الإراقة واحدة، وهي القربة إلا أنا تركناه بالأثر؛ وهو ما روي «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نحرنا مع رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - البقرة عن سبعة، والبدنة عن سبعة.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والليث والأوزاعي: يجوز الشاة عن أهل بيت واحد، وكذا بقرة أو بدنة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما ضحى كبشين وقرب أحدهما، قال: " اللهم هذا عن محمد، وأهل بيته " وقرب الآخر وقال: " إن هذا منك ولك عمن وجد من أمتي» .
وعن أبي هريرة لما ضحى بالشاة جاءت ابنته وتقول: عني فقال: وعنك. قلت: هذا لا يدل على وقوعه من اثنين بل هذا هبته ثوابه.
وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه قال: الشاة عن واحد، انتهى.
والبدنة تجزئ عن سبعة إذا كانوا يريدون بها وجه الله سبحانه وتعالى، وكذلك البقرة، وإن كان أحدهم يريد اللحم لم يجز عن الكل، وكذا لو كانت نصيب أحدهم أقل من السبع لم تجز، وأما إذا كانوا أقل من سبعة ونصيب أحدهم الثلث والآخر الربع جاز بعد أن لا يكون نصيب أحدهم أقل من السبع، هذا إذا اشتروا بالشركة أو اشترى أحدهم بنية الاشتراك ثم اشتراك بعد ذلك، يجوز الأضحية ولكن يضمن قيمة ما باع ويستوي الجواب إذا كان الكل من جنس واحد ومن أجناس مختلفة أحدهم يريد جزاء الصيد والآخر هدي المتعة والآخر الأضحية، بعد أن يكون الكل لوجه الله تعالى ويجوز استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (والقياس: أن لا تجوز إلا عن واحد؛ لأن الإراقة واحدة، وهي القربة إلا أنا تركناه بالأثر وهو ما روي «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نحرنا مع رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن مالك عن أبي الزبير عن جابر وقال: «نحرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» وأخرج أبو داود في الأضحية والنسائي في الحج عن قيس عن عطاء عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البقر عن سبعة والجزور عن سبعة» .
وإن قلت: أخرج الترمذي في " جامعه " والنسائي في " سننه " وأحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي الجزور(12/15)
ولا نص في الشاة، فبقي على أصل القياس.
وتجوز عن خمسة، أو ستة، أو ثلاثة، ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل "؛ لأنه لما جاز عن سبعة فعمن دونهم أولى، ولا تجوز عن ثمانية أخذا بالقياس فيما لا نص فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عشرة» . وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
قلت: قال البيهقي: حديث أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في اشتراكهم وهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجزور سبعة أصح، أخرجه مسلم، على أن اشتراكهم في العشرة محمول على أنه في القسمة لا في التضحية. م: (ولا نص في الشاة فبقي على أصل القياس) ش: أي لم يرد نص على أن يكون الشاة عن أكثر من واحد فاقتصر على أصل القياس وهو أن الإراقة واحدة فلا يجوز إلا عن واحد.
فإن قلت: كيف يقول ولا نص في الشاة، وقد روى الحاكم عن أبي عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام، «وكان قد أدرك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صغير فمسح رأسه ودعا له، قال: " كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله» وقال: صحيح الإسناد.
قلت: هذا لا يدل على وقوعه من الجماعة، بل معناه أنه كان يضحي ويجعل ثوابه هبة لأهل بيته كما ذكرناه آنفا.
[إذا ذبحت البقرة عن خمس أو ستة أو ثلاثة هل تجزئهم]
م: (وتجوز عن خمسة، أو ستة، أو ثلاثة) ش: أي تجوز البقرة والبدنة، ذكره تفريعا على مسألة القدوري م: (ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ") ش: حيث قال: إذا ذبحت البقرة عن خمس أو ستة أو ثلاثة هل تجزئهم؟ قال: نعم م: (لأنه لما جاز عن سبعة فعمن دونهم أولى) ش: أي لأن ذبح الأضحية إذا جاز عن سبعة أنفس فما دونها بالطريق الأول، وكان فائدة التقييد بالسبعة يمنع الزيادة والنقصان. م: (ولا تجوز عن ثمانية) ش: يعني لا تجزئ البقرة أو البدنة أكثر من سبعة عن عامة العلماء.
قال القدوري: قال مالك: يجزئ عن أهل البيت وإن زادوا عن سبعة، ولا يجزئ عن البيتين وإن كانوا أقل من سبعة ويجيء بيانه الآن م: (أخذا بالقياس فيما لا نص فيه) ش: أخذا(12/16)
وكذا إذا كان نصيب أحدهم أقل من السبع، ولا تجوز عن الكل؛ لانعدام وصف القربة في البعض، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجوز عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة ولا تجوز عن أهل بيتين، وإن كانوا أقل منها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقياس، أخذا بمعنى مأخوذا نصب على الحال أي حال كون عدم الجواز مأخوذا بالقياس في الذي لم يرد فيه نص ويجوز أن يكون التقدير آخذين بالقياس والعامل محذوف تقديره: قلنا: هذا حال كون آخذين بالقياس، ويجوز أن يكون نصبا على التعليل، أي لأجل الأخذ بالقياس م: (وكذا إذا كان نصيب أحدهم أقل من السبع) ش: بضم السين.
م: (ولا تجوز عن الكل؛ لانعدام وصف القربة في البعض) ش: يعني لا يجوز من صاحب الكثير كما لا يجوز من صاحب القليل، كما إذا مات الرجل وخلف امرأة وابنا، وترك بقرة يضحياها، فلم يجز؛ لأن نصيب المرأة أقل من السبع؛ لأن نصيبها الثمن، وإذا لم يجز في نصيبها لم يجز في نصيب الابن. م: (وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أي سنبين الأصل في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
[الأضحية عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة]
م (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تجوز عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة، ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل منها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عون عن أبي رملة حدثنا نحيف بن سليم قال: «كنا وقوفا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات فقال: " يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هي التي يقول الناس لها: الرجبية» وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون.
ورواه أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى الموصلي، والبزار في " مسانيدهم " والبيهقي في " سننه "، والطبراني في " معجمه "، وقال عبد الحق: إسناده ضعيف، وقال ابن القطان: وعلته الجهل بحال أبي رملة واسمه عامر، فإنه لا يعرف إلا بهذا يرويه عنه ابن عون، وقد رواه عنه أيضا حبيب بن محنف وهو مجهول أيضا.
قلت: ورواه من هذا الطريق عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا ابن جريج أخبرني عبد(12/17)
قلنا: المراد منه - والله أعلم - قيم أهل البيت؛ لأن اليسار له يؤيده ما يروى: «على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة»
ولو كانت البدنة بين اثنين نصفين تجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكريم عن حبيب بن محنف بن سليم عن أبيه قال: انتهيت «إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة وهو يقول: هل تعرفونها؟ فلا أدري ما رجعوا إليه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على كل أهل بيت أن يذبحوا شاة في رجب وفي كل أضحى شاة» ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في " معجمه " بسنده ومتنه.
م: (قلنا: المراد منه - والله أعلم - قيم أهل البيت؛ لأن اليسار له) ش: هذا جواب بطريق التسليم وهذا إنما يكون إذا فتش عن حال حديث الخصم، وعرف حقيقته، فإن ظهر صحيحا، فحينئذ يشتغل بالجواب عنه، والحديث المذكور غير صحيح، ولئن صح فجوابه ما ذكره.
وقال البيهقي في " المعرفة ": إن صح هذا فالمراد به على طريق الاستحباب بدليل أنه فرق بين الأضحاة والعتيرة، والعتيرة غير واجبة بالإجماع.
م: (يؤيده ما يروى: «على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة» ش: أي: يؤيد التأويل المذكور هذه الرواية، وفيه نظر؛ لأن هذه الرواية لم تثبت، والعجب العجاب من الشراح، حيث قالوا: وهذا محكم وما رواه محتمل فحملناه على المحكم، كيف يكون محكما، ولم يثبت بهذه الرواية، فهي غير صحيحة.
وقيل في جوابه: إن المراد من الأضحاة البدنة والبقرة؛ لأن الإجماع دل على أن الشاة لا تجوز إلا عن واحد.
قلت: هذا ساقط بمرة؛ لأنا ذكرنا أحاديث تدل على أن الشاة تجوز عن أكثر من واحد، وذكرنا أنه مذهب جماعة من العلماء، فكيف يقال: إن الإجماع دل على أن الشاة لا تجوز إلا عن واحد؟!
م: (ولو كانت البدنة بين اثنين نصفين تجوز) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، وقد اختلف المشائخ فيه، قال في " النوازل ": سئل أحمد بن محمد القاضي عن جزور بين اثنين ضحيا به، قال: لا يجوز إذا كان الجزور بينهما نصفين؛ لأنه صار لكل واحد منهما ثلاثة أسباع ونصف سبع، وصار السبع نصفين ونصف السبع لا يجوز عن الأضحية وإذا بطل السبع بطل الكل، ألا ترى لو أراد أحدهما بنصيبه لحما لا يجوز الكل.(12/18)
في الأصح؛ لأنه لما جاز ثلاثة الأسباع جاز نصف السبع تبعا له، وإذا جاز على الشركة فقسمة اللحم بالوزن؛ لأنه موزون، ولو اقتسموا جزافا لا يجوز إلا إذا كان معه شيء من الأكارع والجلد اعتبارا بالبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال أبو الليث: لا نأخذ بهذا بل تجوز الأضحية إذا كان بينهما نصفان، أو على التفاوت؛ لأنه أراد نصف السبع التقرب وليس كالذي أراد اللحم؛ لأن هناك لم يرد به التقرب، أشار إليه بقوله م: (في الأصح) ش: وبه أخذ الصدر الشهيد أيضا.
م: (لأنه لما جاز ثلاثة الأسباع جاز نصف السبع تبعا له) ش: لأن ذلك النصف وإن لم يصر أضحية، لكنه صار قربة تبعا للأضحية، وكم من شيء ثبت ضمنا ولا يثبت قصدا وله نظائر كثيرة منها إذا ضحى شاة فخرج من بطنها جنين حي، فإنه يجب عليه أن يضحيها وإن لم تجز أضحيته ابتداء.
م: (وإذا جاز على الشركة فقسمة اللحم بالوزن) ش: وإذا جاز ذبح الأضحية على الشركة فقسمة لحمها لا يكون إلا بالوزن. م: (لأنه موزون) ش: أي لأن اللحم موزون م: (ولو اقتسموا جزافا لا يجوز) ش: لأن في القسمة معنى التمليك فلم يجزيه إلا مجازفة عند وجود الجنس والوزن لاحتمال الربا.
فإن قلت: بالتمليك يجوز هذا؟
قلت: لا يجوز التمليك أيضا؛ لأنه في معنى الهبة وهبة المشاع فيما يقسم لا يجوز. إليه أشار في " الإيضاح ".
فإن قلت: جزافا منصوب بماذا؟.
قلت: يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، أي: ولو اقتسموا اقتساما جزافا ويجوز أن يكون حالا بمعنى مجازفين فافهم.
م: (إلا إذا كان معه) ش: أي مع أحد الشركاء م: (شيء من الأكارع والجلد) ش: فحينئذ يجوز لكون بعض اللحم مع الأكارع ومع الآخر البعض مع الجلد حتى يصرف الجنس إلى الجنس م: (اعتبارا بالبيع) ش: أي قياسا على البيع يعني الجنس بالجنس مجازفة لا يجوز إلا إذا كان مع كل واحد من العوضين شيء خلاف ذلك الجنس حتى يصرف الجنس إلى خلافه، كما لو باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم، والأكارع جمع أكرع، وأكرع جمع كراع، والكراع في الغنم والبقر بمنزلة الانطلاق في الفرس والبعير، وهو الساق يذكر ويؤنث، وفي " المثل ": أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا؛ لأن الذراع في اليد وهو اتصل من الكراع في الرجل.(12/19)
قال: ولو اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه، ثم اشترك فيها ستة معه جاز استحسانا، وفي القياس: لا يجوز، وهو قول زفر؛ لأنه أعدها للقربة، فيمنع عن بيعها تمولا، والاشتراك هذه صفته، وجه الاستحسان: أنه قد يجد بقرة سمينة يشتريها ولا يظفر بالشركاء وقت البيع، وإنما يطلبهم بعده، فكانت الحاجة إليه ماسة فجوزناه دفعا للحرج. وقد أمكن؛ لأن بالشراء للتضحية لا يمتنع البيع، والأحسن أن يفعل ذلك قبل الشراء ليكون أبعد عن الخلاف وعن صورة الرجوع في القربة. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكره الإشراك بعد الشراء لما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه، ثم اشترك فيها ستة معه]
م: (قال: ولو اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه، ثم اشترك فيها ستة معه جاز استحسانا) ش: هذا من مسائل الأصل ذكره تفريعا على مسألة القدوري.
م: (وفي القياس: لا يجوز، وهو قول زفر؛ لأنه أعدها للقربة) ش: أي لأن المشتري لما اشترى البقرة أعدها للتقرب؛ لأنه نوى بها التقرب.
م: (فيمنع عن بيعها تمولا) ش: أي إذا كان كذلك فيمنع عن بيع البقرة لأجل التمول م: (والاشتراك هذه صفته) ش: وفي بعض النسخ والاشتراك، قوله: هذه إشارة إلى المبادلة التي ذكر عليها سياقا والضمير في صفته يرجع إلى الاشتراك، وحاصل المعنى إذا وقع الاشتراك صار مبادلة؛ لأنه أعطي بدلا مالا وأخذ مالا، فقوله: والاشتراك مبتدأ وهذه مبتدأ ثاني وصفته خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول، فهذا هو تحقيق هذا التركيب والنظر إلى الشروح ترى أنها بمعزل عن هذا.
م: (وجه الاستحسان: أنه) ش: أي في المضحي م: (قد يجد بقرة سمينة يشتريها ولا يظفر بالشركاء وقت البيع، وإنما يطلبهم بعده) ش: أي بعد الشراء م: (فكانت الحاجة إليه) ش: أي إلى الاشتراك م: (ماسة فجوزناه) ش: أي الاشتراك بعد الشراء م: (دفعا للحرج) ش: لأن الحرج مرفوع شرعا.
م: (وقد أمكن) ش: أي دفع حاجة في هذه الصورة م: (لأن بالشراء للتضحية لا يمتنع البيع) ش: ذكره في " المبسوط " بنفس الشراء لا يمنع البيع ولا يتعين في الأضحية وبه قالت الثلاثة، ولهذا لو اشترى أضحية، ثم باعها، فاشترى مثلها، لم يكن به بأس.
م: (والأحسن أن يفعل ذلك) ش: أي الاشتراك مع غيره م: (قبل الشراء ليكون أبعد عن الخلاف) ش: ويقع أضحية على وجه التعيين م: (وعن صورة الرجوع في القربة) ش: وليكون أيضا أبعد عن صورة الرجوع عن نية التقرب في شراء البقرة للتضحية.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يكره الإشراك بعد الشراء لما بينا) ش: أشار به على قوله: لأنه أعدها للتقرب فيمتنع بيعها تمولا، ثم إذا جاز عنه وعن شركائه، فهل يجب عليه(12/20)
قال: وليس على الفقير والمسافر أضحية لما بينا وأبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس على المسافر جمعة ولا أضحية.
قال: ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذبح بسبب الأسباع التي باعها، ما بقي الوقت والتصدق بها بعد فوات الوقت أم لا؟، لم يذكره محمد في " الأصل "، وقد قال شيخ الإسلام المؤذن بخواهر زاده في شرح " الأصل ": حكي عن بعض مشايخ بلخ أنهم قالوا: عليه الذبح، ستة أسباع بقرة مثل الأولى في القيمة يشتري مع عتيرة فيذبح أو يشتري في ستة شاة، وفي الستة مثل قيمة ستة أسباع البقرة أو أكثر ويذبحها وإن مضى الوقت فإنه يتصدق بقيمة ستة أسباع البقرة غنيا كان أو فقيرا.
وقال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي ": وهذا الذي ذكره محمد من جواز الاشتراك بعد الشراء للأضحية، محمول على الغني إذا اشترى بقرة الأضحية؛ لأن ملكه لا يزول بالشراء، وإنما يقيمها عند الذبح مقام ما وجب عليه فإذا بقي منها سبع وكأنه اشترى ذلك في الأصل، إلا أنه يكره؛ لأنه حين اشتراها ليضحي بها فقد وعد وعدا، فلا ينبغي أن يرجع فيه.
وأما الفقير الذي أوجبها بالشراء فإنه لا يجوز أن يشترك فيها؛ لأنها تعينت بالوجوب فلم يسقط عنه ما لو أوجب على نفسه، ثم قال القدوري: وقد قالوا في مسألة الغني إذا اشترك بعدما اشتراها: ينبغي أن يتصدق بالثمن وإن لم يذكره محمد.
[الأضحية على الفقير والمسافر]
م: (قال: وليس على الفقير والمسافر أضحية) ش: أي قال القدوري م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: واليسار ولما روينا والإقامة لما بينا م: (وأبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين) ش: هذا لم يثبت عنهما بهذه العبارة، ولا ذكره أهل الحديث، وإنما الذي ذكره عن أبي شريحة الغفاري أنه قال: أدركت أو رأيت أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يضحيان. وقد ذكرناه فيما مضى وهذا أعم من الإقامة والسفر م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس على المسافر جمعة ولا أضحية) ش: هذا أيضا لم يثبت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قيل: هذا مقدم في الجمعة.
قلت: هذا ليس بصحيح، وإنما الذي يقدم في الجمعة إنما هو حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مرفوعا: «لا جمعة ولا تشريق ولا أضحى ولا فطر إلا في مصر جامع» ولم يتقدم غيره.
[وقت الأضحية]
م: (قال: ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر) ش: أي قال القدوري: وقال إسحاق، وأحمد، وابن المنذر: إذا مضى من نهار يوم العيد قدر ما تحل الصلاة فيه والخطبات جازت الأضحية سواء صلى الإمام أو لم يصل، وسواء كان في المصر أو في القرى(12/21)
إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين» ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة، ثم الأضحية» . غير أن هذا الشرط في حق من عليه الصلاة، وهو المصري دون أهل السواد؛ لأن التأخير لاحتمال التشاغل به عن الصلاة، ولا معنى للتأخير في حق القروي، ولا صلاة عليه. وما روينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد) ش: أي أهل القرى م: (فيذبحون بعد الفجر) ش: ولا يسقط فيهم صلاة الإمام م: (والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين» ش: أي الأصل فيه ترتيب الأضحية على الصلاة.
الحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «- قال: ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تلك شاة لحم " فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عندي جذعة من المعز؟، فقال: " ضح بها، ولا يصلح لغيرك " ثم قال: " من ضحى قبل الصلاة لا يجوز، ومن ضحى بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين» .
وأخرجه البخاري عن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ذبح قبل الصلاة فليعد، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وقد أصاب سنة المسلمين» .
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة، ثم الأضحية» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، بمعناه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أول ما يبتدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» .
م: (غير أن هذا الشرط) ش: وهو كون ذبح الأضاحي بعد صلاة الإمام م: (في حق من عليه الصلاة) ش: أي صلاة العيد، وهو المصري، أي الذي عليه الصلاة م: (وهو) ش: الرجل م: (المصري دون أهل السواد) ش: لأنه لا صلاة عليهم.
م: (لأن التأخير) ش: أي تأخير ذبح الأضاحي عن صلاة الإمام م: (لاحتمال التشاغل به عن الصلاة) ش: أي بالذبح عن صلاة العيد مع الإمام.
م: (ولا معنى للتأخير في حق القروي ولا صلاة عليه) ش: أي والحال أنه لا صلاة عليه فلا يحصل التشاغل بالمذكور. م: (وما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ذبح قبل الصلاة» .... "(12/22)
حجة على مالك والشافعي - رحمهما الله - في نفي الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث. م: (حجة على مالك والشافعي - رحمهما الله - في نفي الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام) ش: مذهب الشافعي ليس كذلك؛ لأنه ما يشترط نحر الإمام، ولكنه اشترط فراغ الإمام عن الخطبة فمن هذا الوجه يكون حجة عليه، لا من الوجه الذي ذكره، ولذلك قال في " المحلى ": لا معنى لمنع الشافعي التضحية قبل تمام الخطبة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحدد وقتا لتضحيته بذلك، فإنما مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الذي شرط نحر الإمام.
واختلف أصحاب مالك في الإمام الذي لا يجوز أن يضحى قبل تضحيته. قال بعضهم: هو أمير المؤمنين، وقال بعضهم: أمير البلد، وقال بعضهم: هو الذي يصلي بالناس صلاة العيد.
وقال ابن حزم: وقول مالك فلا حجة به، وخلاف الخبر أيضا، إذ لم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقدر المراعاة قدر لصحة الغير وما يعرف في مراعاة تضحية الإمام عن أحد قبله. قيل في جوابه: فقد أخبر أبو الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
والجواب عن هذا: أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أول نسكنا في هذا اليوم....» الحديث، يدل عل أن الوقت نحر الإمام، وقيل الصلاة، لإضافة النسك إلى اليوم، وهو من أول طلوع الفجر، إلا أن في المصر شرط الصلاة بجوازها لحديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي ذكره عن قريب.
فإن قلت: المعارضة لا تندفع مما ذكرت.
قلت: تندفع بحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا لا يساوي حديث البراء، لصحة حديث البراء، ولعدم تبين صحة ذلك.
وفي " الدراية ": ولو كانت بلدة لا يصلى فيها لوقوع الفتنة، ولغلبة أهل الفتنة، أو لعدم السلطان أو نائبه يضحون بعد الزوال لا قبله؛ لأن قبل ذلك الصلاة مرجوح.
وفي " فتاوى الولوالجي ": بلدة وقع فيها فتنة ولم يبق فيها وال ليصلي بهم صلاة العيد، فضحى بعد طلوع الفجر جاز. وهو المختار؛ لأنه صارت البلدة في حق هذا الحكم كالسواد.
وفي " الفتاوى الكبرى ": ولو كانت الصلاة إما سهوا أو عمدا جاز لهم التضحية في هذا اليوم، ولو خرج الإمام إلى الصلاة من الغد فضحى الناس قبل أن يصلي الإمام، جاز؛ لأن الوقت المسنون فات من زوال الشمس من اليوم الأول فبعده الصلاة على وجه القضاء فلا تظهر(12/23)
ثم المعتبر في ذلك مكان الأضحية حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر يجوز كما انشق الفجر، ولو كان على العكس لا يجوز إلا بعد الصلاة وحيلة المصري إذا أراد التعجيل أن يبعث بها إلى خارج المصر فيضحي بها كما طلع الفجر؛ هذا لأنها تشبه الزكاة من حيث إنها تسقط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حق التضحية.
ولو صلى الإمام صلاة العيد بغير وضوء، ولم يعلم به حتى ذبح الناس جازت أضحيتهم سواء أعلموا قبل أن يتفرق الناس أو بعده، ومتى علم الإمام ونادى للصلاة ليعيدها فمن ذبح قبل العلم بالنداء جاز، وبعده لا. ولو خرج بعد الزوال جاز؛ لأنه مضى مدة وقت الإعادة. كذا في " الذخيرة "، و " فتاوى قاضي خان ".
[سافر رجل فأمر أهله وهم في المصر أن يضحوا عنه]
م: (ثم المعتبر في ذلك) ش: أي في الذبح م: (مكان الأضحية حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر) ش: أي: وكان الذي يضحي في المصر م: (يجوز كما انشق الفجر) ش: لدخول الوقت م: (ولو كان على العكس) ش: وهو ما إذا كانت الأضحية في المصر والمضحي في السواد م: (لا يجوز إلا بعد الصلاة) ش: لعدم دخول الوقت قبل الصلاة، قال الكرخي في " مختصره ": إن كان رجل من أهل السواد، وسكنه فيه دخل المصر لصلاة الأضحى، وأمر أهله أن يضحوا عنه، فإنه يجوز أن يذبحوا عنه بعد طلوع الفجر.
وإن سافر رجل فأمر أهله وهم في المصر أن يضحوا عنه، فإنه لا يجوز أن يذبحوا عنه إلا بعد صلاة الإمام وطلوع الفجر.
قال محمد: أنظر إلى موضع الذابح ولا أنظر إلى موضع المذبوح عنه، وروي ذلك عن ابن سماعه في " نوادره "، وكذلك روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: يعتبر المكان الذي يكون فيه الذبح، ولا يعتبر الموضع الذي يكون فيه المذبوح عنه.
وقال الحسن: إن كان الرجل في المصر، وأهله في آخر لم يذبحوا حتى يصلى في المصرين جميعا، فإن ذبحوا قبل ذلك لم يجزه.
وقال محمد: يؤخر الذبح حتى يصلى في المصر الذي فيه الذبيحة ولا ينتظر بذلك صلاة المصر الآخر، فإن صلى الإمام العيد ولم يخطب أجزئ من الذبح، وقال محمد: إن أخر الإمام صلاة العيد فليس للرجل أن يذبح الأضحية حتى ينتصف النهار.
م: (وحيلة المصري إذا أراد التعجيل أن يبعث بها) ش: أي بالأضحية م: (إلى خارج المصر فيضحي بها كما طلع الفجر) ش: لأن الاعتبار لمكان الأضحية كما مر. م: (هذا) ش: أشار إلى كون مكان الأضحية معتبرا. م: (لأنها) ش: أي الأضحية م: (تشبه الزكاة من حيث إنها تسقط(12/24)
بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة بهلاك النصاب، فيعتبر في الصرف مكان المحل، لا مكان الفاعل اعتبارا بها بخلاف صدقة الفطر؛ لأنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر.
ولو ضحى بعدما صلى أهل المسجد، ولم يصل أهل الجبانة أجزأه استحسانا؛ لأنها صلاة معتبرة حتى لو اكتفوا بها أجزأتهم، وكذا على عكسه. وقيل: هو جائز قياسا واستحسانا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة) ش: تسقط م: (بهلاك النصاب فيعتبر في الصرف) ش: أي صرف الواجب م: (مكان المحل) ش: أي محل الذبح م: (لا مكان الفاعل اعتبارا بها) ش: أي بالزكاة حيث يؤدى في موضع المال دون موضع صاحبه.
م: (بخلاف صدقة الفطر) ش: حيث يعتبر فيها مكان الفاعل وهو المؤدي م: (لأنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر) ش: فحينئذ يعتبر مكان صاحب الذمة وهو المؤدي.
[ضحى بعدما صلى أهل المسجد ولم يصل أهل الجبانة]
م: (ولو ضحى بعدما صلى أهل المسجد، ولم يصل أهل الجبانة) ش: بفتح الجيم وتشديد الباء وبعد الألف نون، وهو المصلى الذي يتخذ في قفار المصر ليصلى فيها العيد، ونحوه، وهذا من مسائل " الأصل " ذكره تفريعا على مسألة القدوري، وصورته: ما ذكره الكرخي في " مختصره ": وإذا كان الإمام قد خلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد وفي المصر، ويخرج بالآخرين إلى المصلى فصلى في أحد المسجدين أيهما كان جاز ذبح الأضحى، انتهى.
وهو معنى قوله: م: (أجزأه استحسانا؛ لأنها صلاة معتبرة حتى لو اكتفوا بها) ش: أي بالصلاة في المسجد في المصر م: (أجزأتهم) ش: حتى لا يجب عليهم الذهاب إلى الجبانة، ولو لم تكن معتبرة يجب عليهم الذهاب إلى الجبانة في القياس لا يجوز؛ لأنها عبارة دارت بين الجواز وعدمه، فيبقى أن لا تجوز احتياطا وهذا لأنه من حيث كونها بعد الصلاة يجوز من حيث كونها قبل الصلاة التي تؤدى في الجبانة لا تجوز.
م: (وكذا على عكسه) ش: أي: وكذا يجوز استحسانا لا قياسا عكس الحكم المذكور وهو أن يصلي أهل الجبانة دون أهل المسجد. م: (وقيل: هو) ش: أي العكس م: (جائز قياسا واستحسانا) ش: لأن أداء الصلاة في المسجد أخص منها بالجبانة.
قال الحلواني: هذا إذا ضحى رجل ممن صلى. أما إذا ذبح رجل من الذين لم يصلوا لم يجز قياسا واستحسانا.
قال الزعفراني: يجري القياس والاستحسان في الذبح بعد أحد الصلوات مطلقا بعدما تصلي إحدى الطائفتين.
فإن قلت: أصل هذه المسألة: فإذا قلت صورها محمد على هذا الوجه؛ لأن علي بن أبي(12/25)
قال: وهي جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يستخلف بالكوفة من يصلي صلاة العيد بالصفة في المسجد الجامع، وكان يخرج مع الأقرباء إلى الجبانة، كذا ذكره شيخ خواهر زاده في " شرح الأصل ".
وقالوا في " شرح الجامع الصغير " في كتاب الحج: دونت المسألة على أن صلاة العيد في مصر واحد في موضعين تجوز بخلاف صلاة الجمعة فإنها لا تجوز في موضعين في مصر واحد؛ لأنها سميت جمعة لاجتماع الناس وفي ذلك تفرقهم.
[أيام النحر وأفضل هذه الأيام]
م: (قال: وهي جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده) ش: أي قال القدوري: الأضحية جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر أولها، والثاني والثالث: وهما يومان بعد يوم النحر.
وبه قال مالك، وأحمد، والثوري، وهو قول ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وهم عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال ابن سيرين: لا يجوز إلا في يوم النحر خاصة؛ لأنها وظيفة عيد فلا يجوز إلا في يوم واحد كأداء الفطرة يوم الفطر.
وبقوله قال سعيد بن جابر، وجابر بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أهل الأمصار، وبقولنا في أهل منى، وقال أهل الظاهر: يجوز التضحية إلى هلال محرم، وبه قال سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار. وروى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وسليمان بن يسار أنهما قالا بلغنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأضاحي إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني ذلك» .
قلت: روى ذلك أبو داود في " المراسيل ".
فإن قلت: " المراسيل " عندكم حجة، وكذا عند المالكية فكان ينبغي أن يقول به.
قلت: قول الصحابة الذين لم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافه أولى بأن يقال به. وعن قريب يتبين أقوالهم.
وقال صاحب " الاستذكار ": روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم يختلف فيه عن أبي هريرة وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الأصح عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو مذهب أبي حنيفة والثوري ومالك، وفي " نوادر الفقهاء " لابن بنت نعيم: أجمع الفقهاء أن التضحية في اليوم الثالث عشر غير جائز إلا الشافعي فإنه أجازها فيه.(12/26)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثلاثة أيام بعده لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيام التشريق كلها أيام ذبح» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " التفريع ": قال مالك: وقتها يوم النحر ويومان بعده، ولا يضحى في اليوم الرابع ولا يضحى بليل، وقال الحربي: وإذا مضى نهار من يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا ولا يجوز ليلا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثلاثة أيام بعده) ش: أي بعد يوم النحر، فالجملة أربعة أيام عنده، وبه قال عطاء والحسن.
وقال أصحاب الشافعي: أول الوقت بانقضاء وقت الكراهة بعد طلوع الشمس يوم العيد وبعد مقدار خطبتين وركعتين خفيفتين، وقيل: بل طويلتين على العادة، وآخره غروب الشمس ثالث أيام التشريق، ويجزئ بالليل وفي اليوم الثالث من أيام التشريق.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيام التشريق كلها أيام ذبح» ش: هذا الحديث أخرجه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه " من حديث عبد الرحمن بن أبي جبير عن جبير بن مطعم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل أيام التشريق ذبح وعرفة كلها موقف......» الحديث وقد مر في الحج ورواه البيهقي أيضا.
والجواب عن هذا: أن فيه اضطرابا كثيرًا بين صاحب الشعر وبين البيهقي أيضا بعضه.
قال: ورواه سويد بن عبد العزيز وهو ضعيف عند بعض أهل النقل.
قلت: هو ضعيف عند كلهم أو أكثرهم، وقد ذكره في كتابه في باب المعتكف يصوم فقال: ضعيف بمرة لا يقبل منه ما ينفرد به، ورواه البزار في " مسنده "، وقال ابن أبي حسين: لم يلق جبير بن مطعم فيكون منقطعا؛ لأنه يرجحه.
فإن قلنا: أخرجه أحمد أيضا والبيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: قال البيهقي سليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم فيكون منقطعا.
فإن قلت: أخرج ابن عدي في " الكامل " عن معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام التشريق كلها ذبح» .(12/27)
ولنا: ما روي عن عمر وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها. وقد قالوه سماعا؛ لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير. وفي الأخبار تعارض، فأخذنا بالمتيقن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: معاوية بن يحيى ضعفه النسائي وابن معين وعلي بن المديني، وقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل ": فإن هذا حديث موضوع بهذا الإسناد.
فإن قلت: أخرج البيهقي من حديث طلحة بن عمر وعن عطاء وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأضحى ثلاث أيام بعد أيام النحر.
قلت: أخرج الطحاوي بسند جيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الأضحى ثلاثة أيام ويومان بعد يوم النحر.
م: (ولنا ما روي عن عمر وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها) ش: قال الزيلعي في " تخريج أحاديث الهداية ": هذا غريب جدا، يعني عن هؤلاء الأصحاب الثلاثة، وليس كذلك.
قال الكرخي: قال في " مختصره ": حدثنا أبو بكر محمد بن الجنيد قال: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا ابن أبي ليلى عن المنهال ابن عمرو عن زر بن حبيش وعباد بن عبد الله الأسدي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان يقول: أيام النحر ثلاثة أيام أولهن أفضلهن. وعن ابن عباس وعن ابن عمر مثله قال: " النحر ثلاثة أيام أولها أفضلها ".
وروي: " النحر ثلاثة أيام " عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وعن الحسن وعن إبراهيم النخعي.
وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: الأضحى ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده.
وحديث مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الموطأ " عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: الأضحى يومان بعد يوم الأضحى.
وفي " سنن البيهقي " عن قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الذبح بعد يوم النحر يومان.
م: (وقد قالوه سماعا؛ لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير) ش: لأن تخصيص العبادات بوقت لا يعرف إلا سماعا وتوقيتا. فالمروي عنهم كالمروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وفي الأخبار تعارض فأخذنا بالمتيقن) ش: أراد بالأخبار ما رواه الشافعي - رضي الله(12/28)
وهو الأقل، وأفضلها أولها كما قالوا؛ ولأن فيه مسارعة إلى أداء القربة، وهو الأصل إلا لمعارض،
ويجوز الذبح في لياليها إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - من حديث جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وما رواه الكرخي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الصحابة المذكورين، وجه التعارض: أن الحديث يقتضي جواز الأضحية في اليوم الرابع من النحر، والأخبار تقتضي الاقتصار على ثلاثة أيام.
م: (وهو الأقل) ش: أي المتيقن هو الأقل.
فإن قلت: إذا كان الأخذ بالمتقين أولى كان ينبغي أن يؤخذ بقول ابن سيرين، حيث لم يجوز إلا يوم النحر خاصة كما ذكرناه.
قلت: ترك هذه المخالفة قول الصحابة الكبار فلا يعتبر على ما ورد عن هؤلاء الذين ذكرناه م: (وأفضلها أولها كما قالوا) ش: أي أفضل الأيام الثلاثة أولها وهو يوم النحر كما قال عمر وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
م: (ولأن فيه) ش: أي في أول الأيام م: (مسارعة إلى أداء القربة) ش: فيكون أفضل لقوله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] الآية.
م: (وهو الأصل) ش: أي المسارعة إلى أداء القربة هو الأصل. وذكر الضمير باعتبار التنازع م: (إلا لمعارض) ش: أي إلا لأجل عرض يؤخذ كما في الإسفار بالفجر والإبراد بالظهر. وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر وأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
م: (ويجوز الذبح في لياليها) ش: أراد الليلتين المتسوطتين لا ليلة الرابع عندنا لخروج وقت التضحية بغروب الشمس، من اليوم الثاني عشر، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يبقى، أما ليلة العاشر وهي ليلة العيد لا يجوز بإجماع العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فبقولنا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد وأصحاب الظواهر. وقال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في رواية: لا يجوز في الليل؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] (الحج: الآية 28) . ولنا أن الليل تبيع اليوم فصار وقتا للذبح، ولهذا يجوز الرمي فيه بالإجماع فيكون وقتا للذبح. م: (إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل) ش: أي في الذبح أو في الشاة من أنها له أو لغيره. أو لغلط مع شاة فإن فيها بعض الشروط.
فإن قلت: «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الذبح بالليل» .(12/29)
وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير، وآخرها تشريق لا غير. والمتوسطان: نحر وتشريق. والتضحية فيها أفضل من التصدق بثمن الأضحية؛ لأنها تقع واجبة، أو سنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في سنده ميسر بن عبيد وهو مذكور بوضع الحديث عمدا.
فإن قلت: روى البيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسن «أنه قال لقيم له خديجة بالليل: ألم تعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن حداد الليل وحرام النحل أو قال: حصار النحل» . قال الثوري: يكون بالنهار ويحصره المساكين. فسألوا جعفرا عن الأضحى بالليل فقال: لا.
وروى البيهقي من حديث أشعب بن عبد الملك عن الحسن قال: «نهى عن حداد الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل» .
قلت: قال البيهقي: إنما كان ذلك من شدة حال الناس، كان الرجل يفعله ليلا فنهي، ثم رخص في ذلك.
م: (وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير) ش: يعني غير تشريق م: (وآخرها تشريق لا غير) ش: يعني وآخر أيام الأربعة تشريق من غير نحر م: (والمتوسطان) ش: وهما الحادي عشر والثاني عشر من الشهر م: (نحر وتشريق) ش: فيساويان في يومين ويشابهان في يومين.
وقال القدوري في " شرحه ": هذه الأيام الثلاثة عندنا تدخل فيها المعلومات والمعدودات. لأن أبا يوسف قال: إن المعلومات أيام التشريق وأيام النحر من المعدودات وليس من المعلومات، وآخر أيام التشريق من المعلومات وليس من المعدودات، واليوم الثاني والثالث من المعدودات والمعلومات.
م: (والتضحية فيها) ش: أي في أيام النحر م: (أفضل من التصدق بثمن الأضحية؛ لأنها) ش: أي التضحية م: (تقع واجبة) ش: على ظاهر الرواية الذي هو قول أبي حنيفة م: (أو سنة) ش: أي أو تقع سنة على رواية أخرى، وهي قولهما والشافعي وأحمد؛ لأن إراقة الدم في هذه الأيام أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بعده ضحوا فيها. ولو كان التصدق أفضل لاشتغلوا به.(12/30)
والتصدق تطوع محض فتفضل عليه، ولأنها تفوت بفوات وقتها. والصدقة يؤتى بها في الأوقات كلها، فنزلت منزلة الطواف والصلاة في حق الآفاقي، ولو لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه، أو كان فقيرا، وقد اشترى شاة للتضحية تصدق بها حية، وإن كان غنيا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر؛ لأنها واجبة على الغني، وتجب على الفقير بالشراء بنية التضحية عندنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[لم يضح حتى مضت أيام النحر]
م: (والتصدق تطوع محض) ش: وإتيان السنة المؤكدة أفضل من إتيان التطوع م: (فتفضل عليه) ش: أي تفضل الأضحية على الصدقة، ولو قال " عليه " أي على التصدق لكان أولى؛ لأنه هو المذكور م: (ولأنها) ش: أي التضحية م: (تفوت بفوات وقتها والصدقة يؤتى بها في الأوقات كلها فنزلت منزلة الطواف والصلاة في حق الآفاقي) ش: فإن طواف التطوع في حقه أفضل من صلاة التطوع بمكة، بخلاف المكي، لما ذكرنا من المعنى ولا يعلم فيه خلاف.
م: (ولو لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه) ش: بأن قال: لله تعالى علي أن أضحي بها أو أذبحها أو نحو ذلك سواء كان الموجب غنيا أو فقيرا.
وقال الكاكي: قيد الإيجاب غير مفيد؛ لأنه لو كان واجبا بدون الإيجاب على نفسه والحكم كذلك.
قلت: بل هو مفيد؛ لأنه إذا كان فقيرا واشترى من غير نية الأضحية، ومضت أيام النحر لم يجب عليه التصدق.
م: (أو كان فقيرا) ش: أي أو كان الرجل فقيرا م: (وقد اشترى شاة للتضحية تصدق بها حية) ش: يعني الفقير.
م: (وإن كان غنيا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر؛ لأنها واجبة على الغني، وتجب على الفقير بالشراء بنية التضحية عندنا) ش: خلافا للشافعي وأحمد، واعلم أن الشاة تتعين للأضحية بأن نذر أن يضحي بها أو نوى عند الشراء وأن يضحي بها، وكان المشتري فقيرا. هذا ظاهر الرواية.
وروى الزعفراني عن أصحابنا: أن التضحية بعينها لا تجب إلا بالنذر ولا تجب التضحية بعينها بنية الشرى للأضحية، وإن كان المشتري فقيرا، وهو القياس، وهو قول الشافعي. لأن القرب يلزم بأحد الأمرين: إما بالشروع أو بالنية، لم يوجد بالشراء مع نية الأضحية لا هذا ولا ذاك فلا يلزمه كما لو اشترى مالا بنية التصدق، أو عبدا بنية العتق.
وجه الاستحسان: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى حكيم بن حزام دينارا يشتري له بها أضحية(12/31)
فإذا فات الوقت يجب عليه التصدق إخراجا له عن العهدة، كالجمعة تقضى بعد فواتها ظهرا، والصوم بعد العجز فدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فاشترى بها ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار فجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بذلك فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بارك الله لك في صفقة يمينك " وأمره أن يضحي بالشاة ويتصدق بالدينار.» فلولا أن الأضحية لزمته بمجرد النية لما أمر بالتصدق وفيه دليل على جواز بيع الأضحية.
[وقت ذبح الأضحية]
م: (فإذا فات الوقت يجب عليه التصدق إخراجا عن العهدة) ش: فيتصدق بالشاة إن كانت حية وكان فقيرا، وإن كان غنيا يتصدق بقيمة شاة اشترى أو لا، كما ذكرنا حتى لو ذبح الغني أو الفقير ولم يتصدق بعينها لا يحل له تناولها ويضمن فضل ما قيمتها مذبوحة وغير مذبوحة. كذا في " الأوضح ".
م: (كالجمعة تقضى بعد فواتها ظهرا) ش: إذ الجامع بينهما من حيث إن قضاء ما وجب عليه في الأداء غير جنس الأداء بطريق الاحتياط، وهذا لأن التضحية، وإن ثبتت قربة في أيامها بالنص، إلا أنه احتمل أن يكون التصدق بعين الشاة أو بقيمتها أصلا؛ لأنه هو المشروع في باب المال. كما في سائر الصدقات. وإنما نقل إلى التضحية تطيبا لطعام الضيافة.
فإن قلت: لو كان التصدق أصلا لكان أحب من التضحية في أيامها.
قلت: هذا موهوم، فلم يعتبر مقابلة المنصوص المتيقن، فإذا فات المتيقن عملنا بالموهوم احتياطا، كما في الفدية، إذا عجز عن الصوم، أشار إليه بقوله: (والصوم بعد العجز فدية) ش: أي كالصوم يقضى بعد العجز فدية.
فإن قلت: فدية منصوب بماذا؟
قلت: على التمييز يعني من حيث الفدية وكذا انتصاب ظهرا فافهم. وفي " الذخيرة " من كان موسرا في آخر الوقت فلم يضح ومضى الوقت وجب عليه التصدق بقيمة شاة حتى يلزمه الإيصاء بها وفيها.
ومن نذر أن يضحي شاة بأن قال: لله علي أن أضحي شاة. فإن كان موسرا فعليه أن يضحي بشاتين إلا أن يعين ما يجب عليه. ولو كان فقيرا فعليه شاة، فإن أيسر كان عليه شاتان، فأوجب بالنذر وما وجب باليسر.
وفي " الإيضاح ": لا يأكل مما وجب بالنذر شاة بعينها يصدق بينها بعد مضي الوقت.
وفي " الأصل " لخواهر زاده: ولو باع ما اشترى للأضحية واشترى غيرها وضحى بها في(12/32)
قال: ولا يضحي بالعمياء والعوراء والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك، ولا العجفاء لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجزئ في الضحايا أربعة: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيام النحر فإن كانت الثانية مثل الأولى أو خير منها جاز ولا شيء عليه؛ لأنه أدى الواجب بالمثل وزيادة فإن كانت الثانية أقل قيمة من الأولى وقد اشترى الأولى بنية التضحية.
وإن كان المشتري غنيا فإنه يجزيه ولا يلزمه التصدق بشيء، وإن كان فقيرا ضحى بالثانية يجزيه ويتصدق إلى تمام قيمة الأولى؛ لأن الثانية بنية الأضحية يجعل كالنذر من الفقير، ولو نذر أن يضحي بالأولى ثم باعها واشترى الأخرى وضحى بها، فإنه يجوز التضحية بالأخرى، كان عليه أن يتصدق إلى تمام قيمة الأولى فكذا هذا.
[مالا يجزئ في الأضحية]
[التضحية بالعمياء]
م: (قال: ولا يضحي بالعمياء) ش: أي قال القدوري، وقال داود الأصفهاني: يجوز العمياء لأن الشرع ورد في العوراء ولم يرد في العمياء والقياس عندي ليس بحجة، وقالت العامة: الشرع لم يجوز العوراء والعمياء عور وزيادة فيكون النص الوارد في العوراء، وأراد في العمياء بدلالة النص كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] .
م: (والعوراء) ش: وهي الذاهبة إحدى العينين. م: (والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك) ش: بفتح الميم وسكون دون كسر السين، وهو الموضع الذي يذبح فيه والقياس فيه فتح من نسك لله نسكا ومنسكا إذا ذبح لوجهه. وقال القدوري في شرح " مختصر الكرخي ": إن العرج إذا لم يمنعها من المشي بنفسها جازت، وإن كان لا تمشي فإنه لا يجوز.
م: (ولا العجفاء) ش: أي المهزولة، من عجف يعجف من باب علم يعلم م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجزئ في الضحايا أربعة: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة عن شعبة أخبرني سليمان بن عبد الرحمن سمعت عبيد بن فيروز قال: «سألت البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه من الأضاحي؟ فقال: قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصابعي أقصر من أصابعه وأناملي أقصر من أنامله فقال: " أربع لا تجوز في الضحايا العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقى» .(12/33)
وقال: ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب، أما الأذن فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «استشرفوا العين والأذن»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الترمذي: العجفاء عوض الكسير، وقال: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ورواه أحمد في " مسنده "، ومن طريق أحمد رواه الحاكم في " المستدرك " في الحج.
ورواه مالك في الحج ورواه مالك في " الموطأ " عن عمرو بن الحارث عن عبيد بن فيروز عن البراء وقال: «العجفاء» ... ". وأخرجه الحاكم أيضا عن أيوب بن سويد حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن البراء بمثله وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إنما أخرج مسلم حديث سليمان بن عبد الله عن عبيد بن فيروز عن البراء وهو مما أخذ على مسلم اختلاف الناقلين فيه، وأصحه حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن أبي سالم بن أيوب بن سويد. انتهى كلامه. قال الذهبي في " مختصره ": وأيوب بن سويد ضعفه أحمد. انتهى.
قلت: وعلى الحاكم هنا اعتراضان، أحدهما: إن حديث عبيد بن فيروز عن البراء لم يروه مسلم، وإنما رواه أصحاب السنن، والآخر: أنه صح حديث أيوب بن سويد ثم أخرجه، قوله: «العوراء البين عورها» أي التي قد انتخست وذهبت؛ لأنها قد ذهبت عينها، والعضو عضو مستطاب، ولو كان على عينها بيان ولم يذهب جازت التضحية؛ لأن عورها ليس ببين، ولا ينقص ذلك لحمها. قوله: والمريضة البينة مرضها أي التي يبين أثر المرض عليها؛ لأن ذلك ينقص لحمها. وبه قال أحمد في الأصح.
وقال الشافعي والقاضي الحنبلي: المراد بالمريضة الجرباء؛ لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر، وهذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم بلا دليل، قوله: التي لا تنقى أي التي ليس بها نقي أي مخ من شدة الهزال وهو بكسر النون وسكون القاف.
[التضحية بمقطوعة الأذن والذنب]
م: (وقال: ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب) ش: أي قال القدوري م: (أما الأذن فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «استشرفوا العين والأذن» ش: هذا الحديث رواه اثنان من الصحابة أحدهما: علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(12/34)
وإن بقي أكثر الأذن والذنب جاز؛ لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا، ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مقدار الأكثر، ففي " الجامع الصغير " عنه: وإن قطع من الذنب أو الأذن أو العين أو الإلية الثلث أو أقل أجزأه، وإن كان أكثر لم يجزه؛ لأن الثلث تنفذ فيه الوصية من غير رضا الورثة فاعتبر قليلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن بقي أكثر الأذن والذنب جاز؛ لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا) ش: أي من حيث البقاء ومن حيث الذهاب، فإن كان الباقي كثيرا والذاهب قليلا يجوز، وإن كان الباقي قليلا والذاهب كثيرا لا يجوز.
م: (ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا) ش: لأن في اعتباره حرجا وهو مرفوع بالنص م: (واختلفت الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مقدار الأكثر ففي " الجامع الصغير " عنه) ش: أي عن أبي حنيفة.
م: (وإن قطع من الذنب أو الأذن أو العين أو الإلية الثلث أو أقل) ش: أي من الثلث م: (أجزأه وإن كان أكثر) ش: أي من الثلث م: (لم يجزه) ش: وفي بعض النسخ لا يجوز م: (لأن الثلث تنفذ فيه الوصية من غير رضا الورثة فاعتبر قليلا) ش: وهو رواية هشام عن محمد قال الصدر الشهيد: وهو الأصح؛ لأنه ظاهر الرواية.
قال محمد في " الأصل ": أرأيت إن كان ذهب من العين والأذن والطرف أقل من الثلث، هل يجزي؟ قال: نعم، وهذا لأن على ظاهر الرواية الثلث وما دونه من حد القلة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يمتنع الجواز.
وقال في " الأصل " أيضا: رأيت إن كان ذهب أكثر من الثلث هل يجزئ؟ قال: لا. قال شيخ الإسلام في شرح " الأصل " وهذا عند أبي حنيفة لأن ما زاد على الثلث كثير عند أبي حنيفة، باتفاق الروايات. وقال في " الأصل " أيضا: أرأيت إن كان ذهب الثلث سواء، هل يجزئ؟ قال: نعم حسن صحيح، ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: إسناده صحيح. ورواه أيضا أبو داود عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بنحوه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " المستدرك " وصحح إسناده أيضا، [....
.] يحتج الشيخان بحجية بن عدي وهو من كبار أصحاب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والآخر حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حذيفة البزار في " مسنده " والطبراني في " معجمه الأوسط " عن محمد ابن كثير الملائي حدثنا أبو سنان سعيد بن سنان عن أبي إسحاق الشيباني عن صلة بن زفر عن(12/35)
أي اطلبوا سلامتهما، وأما الذنب؛ فلأنه عضو كامل مقصود فصار كالأذن.
قال: ولا التي ذهب أكثر أذنها وذنبها وفيما زاد لا تنفذ إلا برضاهم فاعتبر كثيرا. ويروى عنه: الربع؛ لأنه يحكي حكاية الكمال على ما مر في الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حذيفة قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن» . انتهى بلفظ البزار.
وقال الطبراني: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استشرف العين ". وقال: لا يروى عن حذيفة إلا بهذا الإسناد وكذلك قال البزار رواه، قال: وقد روي عن علي من غير وجه م: (أي اطلبوا سلامتهما) ش: من آفة مخرج أو عور، والمعنى اطلبوهما شريفتين بالتمام والسلامة. م: (وأما الذنب فلأنه عضو كامل مقصود فصار كالأذن) ش: حيث لا يجوز إذا كانت مقطوعة.
[التضحية بالشاة التي ذهب أكثر أذنيها]
م: (قال: ولا التي ذهب أكثر أذنها وذنبها) ش: أي قال القدوري: ولا تجزئ الشاة التي ذهب أكثر أذنيها أو ذهب أكثر أذنها، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك: إذا ذهب كل الأذن لا يجوز ولو ذهب دونه يجوز وبه قال عطاء.
ولنا ما رواه أبو داود مسندا إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن» ، قال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه، وهذا يدل على أن العيب الكبير في العين والأذن يمنع من الأضحية، فأما اليسير من العين فلا يمنع؛ لأن الغنم لا تخلو من ذلك، ألا ترى أنه يفعل فيها على طريق المسمنة والعلاقة، فلو منع الأضحية لشق على الناس، وإذا كان الكثير مانعا والقيل غير مانع اختلفت الروايات في الحد الفاصل بينهما، عن أبي حنيفة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وهذا لأن عند أبي حنيفة الثلث في ظاهر الرواية في حد العلة م: (وفيما زاد) ش: أي على الثلث م: (لا تنفذ) ش: أي الوصية م: (إلا برضاهم) ش: أي برضاء الورثة م: (فاعتبر) ش: أي ما زاد على الثلث م: (كثيرا) ش: نصب على الحال على ما لا يخفى.
م: (ويروى عنه) ش: أي عن أبي حنيفة م: (الربع؛ لأنه يحكي حكاية الكمال على ما مر في الصلاة) ش: من انكشاف ربع العورة، وتقدير النجاسة بربع الثوب، وهذه الرواية رواية شجاع عن أبي حنيفة، وقد ذكر ابن شجاع في كتاب " المناسك ": أن الربع إذا ذهب لم يجز.(12/36)
ويروى الثلث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث الوصية: «الثلث، والثلث كثير» ، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه اعتبارا للحقيقة على ما تقدم في الصلاة، وهو اختيار الفقيه أبي الليث. وقال أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة فقال: قولي هو قولك، قيل: هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف. وقيل: معناه: قولي قريب من قولك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويروى الثلث لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث الوصية: «الثلث، والثلث كثير» ش: هذا الحديث رواه الجماعة عن سعيد بن أبي وقاص قال: «قلت: يا رسول الله إن لي مالا كيرا وإنما ترثني ابنتان وأنا أوصي بمالي كله؟ قال: " لا "، قال: بالثلثين؟ قال: " لا "، قال: فالبنصف؟ قال: " لا "، فبالثلث؟ قال: " الثلث، والثلث كثير» ، وسيجيء من بعد الكلام في كتاب الوصية.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه اعتبارا للحقيقة) ش: لأن القليل والكثير في الأسماء المتقابلة فما دون النصف يكون قليلا م: (على ما تقدم في الصلاة) ش: يعني إذا كان أكثر من نصف الساق يمنع وعن أبي يوسف في ذلك ثلاث روايات: في رواية يجزئه ما دون النصف ويمنع بما زاد عليه، وفي رواية " الجامع ": يمنع النصف، وفي رواية كقولهما يمنع الربع لا ما دونه ويمنع ما فوقه مطلقا.
م: (وهو اختيار الفقيه أبي الليث) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد وهو الذي اختاره أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " وإليه رجع أبو حنيفة.
م: (وقال أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة فقال: قولي هو كقولك) ش: يعني أخبرت بقولي في النصف فقال أبو حنيفة: قولي هو قولك، قيل: معناه أحدث بقولك، وقيل معناه: أن تقديري بالثلث اجتهاد كتقديرك بالنصف، كذا في " المختلف ".
م: (قيل: هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف) ش: أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأبي يوسف قولي هو قولك، رجوع من قوله إلى قول أبي يوسف؛ لأنه كان يقول أولا بالثلث قليلا، والكثير ما زاد على الثلث، ثم رجع وقال: الكثير النصف وما زاد عليه كقولهما.
م: (وقيل: معناه: قولي قريب من قولك) ش: لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الأكثر من النصف وأبا حنيفة اعتبر الأكثر من الثلث والثلث أقرب إلى النصف من الربع وغيره. وقال الكاكي: أي قولي الأول وهو أن الأكثر من النصف، الثلث مانع لا ما دونه، أقرب إلى قولك الذي هو أن الأكثر من النصف إذا نفى أجزأه بالتشبه إلى قول من يقول إن الربع أو الثلث مانع.(12/37)
وفي كون النصف مانعا روايتان عنهما، كما في انكشاف العضو عن أبي يوسف، ثم معرفة المقدار في غير المعين متيسر وفي العين قالوا: تشد العين المعيبة بعد أن لا تعتلف الشاة يوما أو يومين، ثم يقرب العلف إليها قليلا قليلا، فإذا رأته من موضع أعلم على ذلك المكان، ثم تشد عينها الصحيحة، وقرب إليها العلف قليلا قليلا حتى إذا رأته من مكان أعلم عليه، ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما، فإن كان ثلثا، فالذاهب الثلث، وإن كان نصفا، فالنص`ف قال: ويجوز أن يضحي بالجماء، وهي التي لا قرن لها؛ لأن القرن لا يتعلق به مقصود، وكذا مكسورة القرن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي كون النصف مانعا روايتان عنهما) ش: أي عن أبي يوسف ومحمد في رواية مانع لأن القيل عفو، والنصف ليس بقليل لأن ما يقابله ليس بكثير، وفي رواية: غير مانع لأن المانع هو الكثير والنصف غير كثير لأن ما يقبله ليس بقليل. وفي " المبسوط ": النصف مانع مطلقا، فقال: لما استوى المانع والمجوز يرجح المانع احتياطا.
م: (كما في انكشاف العضو عن أبي يوسف) ش: أي كما جاءت روايتان عن أبي يوسف في انكشاف نصف العضو وقد ذكرناه الآن م: (ثم معرفة المقدار في غير العين متيسر) ش: لأنه محسوس ظاهر.
م: (وفي العين قالوا: تشد العين المعيبة بعد أن لا تعتلف الشاة يوما أو يومين، ثم يقرب العلف إليها قليلا قليلا، فإذا رأته من موضع أعلم على ذلك المكان) ش: أي جعل عليه علامة م: (ثم تشد عينها الصحيحة، وقرب إليها العلف قليلا قليلا حتى إذا رأته من مكان أعلم عليه، ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما، فإن كان ثلثا) ش: أي إن كان التفاوت، أراد به المسافة ما بين الرؤية الأولى والثانية ثلثاه. م: (فالذاهب الثلث) ش: أي فالذي ذهب من عينها الثلث م: (وإن كان نصفا) ش: أي وإن كان التفاوت بين الرؤيتين نصفا، م: (فالنصف) ش: أي فالذاهب من عينها النصف، فهذا هو الحلية في معرفة أنه كم ذهب من العين وكم بقي.
[التضحية بالجماء]
م: (قال: ويجوز أن يضحي بالجماء وهي التي لا قرن لها) ش: أي قال القدوري: ولا خلاف فيه لأحد م: (لأن القرن لا يتعلق به مقصود) ش: لأنه ينتفع به في الأضحية وليس منصوص عليه فلا يؤثر، م: (وكذا مكسورة القرن) ش: أي يجوز.
م: (لما قلنا) ش: أن القرن لا يتعلق به مقصود، وبه قال الشافعي، وقال أحمد: إن انكسر أكثر من نصف القرن لا يجوز، وما دونه يجوز، لما روينا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه «قال: نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بعضباء الأذن والقرن» والعضب الكثير من النصف، فكرهت ذلك رواه أبو داود. وقال مالك: إن كان قرنها يدمي كثيرا لم يجزه، وإلا جاز(12/38)
لما قلنا والخصي؛ لأن لحمها أطيب، وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين موجوءين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن ما لا دماء لها تعتبر كالمريضة.
وفي " اللباب " حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا يخلو من أن يكون مقدما على حديث البراء، وهو ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها.....» . الحديث، فيكون منسوخا بحدث البراء متأخرا، فيكون حديث علي زائدا عليه، وما علمنا ثبوته لم يجعله منسوخا بالشك فيكون واجب العمل، وهذا فيه توضيح قول أحمد ولكن أصحابنا قالوا: إن العيب اليسير لا يمنع بالإجماع وبهذا جازت الوجوه؛ لأنه لا يسر في المقصود وهو اللحم، فكسر القرن كذلك.
وعن عبيد بن فيروز قال: قلت للبراء: فإني أكره النقص من القرن؟، فقال: أكره لنفسك ما شئت وإياك أن تضيق على الناس، فيحمل على الاستحباب، كما حمل حديث الشركاء على الاستحباب ويدل عليه إنكار البراء على ابن فيروز.
وقال الكرخي في " مختصره ": قال هشام: سألت أبا يوسف عن السعية التي لا قرن لها فقال: السكاء: إن كان بها أذن فهي تجزئ، وإن كانت صغيرة الأذن أو إن لم يكن لها أذن فإنها لا تجزئ، وهو قول أبي يوسف، وتجزئ الشاة وإن لم يكن لها قرن عندهم جميعا.
وقال محمد في " الأصل ": لو كسر بعض قرنها أو جميعه أجزأت وأما السكاء وهي التي لا أذن لها خلقة فإن كانت الأذن صغيرة والعضو موجود وصغير الأعضاء لا يمنع وإن لم يكن لها أذن بينة فإن الأذن مقصودة في الخلقة بدلالة النص عليها فعدمها أكثر من نقصانها.
[التضحية بالخصي]
م: (والخصي) ش: بالجر، أي ويجوز أن يضحي بالخصي وهو منزوع الخصيتين م: (لأن لحمها أطيب) ش: وأن لحمه أوجه على ما لا يخفى.
م: (وقد صح: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين موجوءين» ش: هذا الحديث رواه خمسة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: جابر بن عبد الله، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش المعافري عن جابر بن عبد الله قال: «ذبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين» .(12/39)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أبو هريرة أخرج حديثه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة ابن المبارك عنه عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: «ضحى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين موجوءين» وقال: مشهور من [غير] وجه، غريب من حديث يحيى.
الثالث: أبو رافع أخرج حديثه أحمد وإسحاق بن راهويه في " مسنديهما " والطبراني في " معجمه " عن شريك بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن علي بن حسين عن أبي رافع قال: «ضحى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين موجوءين خصيين» . الحديث.
الرابع: أبو الدرداء: أخرج حديثه أحمد في " مسنده " عنه قال: «ضحى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين جذعين موجوءين» .
الخامس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، أخرج حديثها ابن ماجه في " سننه " من طريق عبد الرزاق أخبرنا سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي سلمة عن عائشة أو أبي هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين موجوءين ... » - الحديث.
ورواه أحمد في " مسنده " أيضا: حدثنا إسحاق بن يوسف أخبرنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عائشة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.....، حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة
.. فذكره.
وبهذا الإسناد الأخير رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق أحمد وسكت عند قوله أملحين، وهو الكبشين فيه سواد وبياض، وقيل: يقال: كبش أملح أي فيه ملحة، وهي بياض مشوبة شعرات سود وهي من لون الملح.
وفي " العباب ": الملحة من الألوان وهي بياض يخالطه سواد. قلت: هو بضم الميم وسكون اللام. قوله: موجوءين الموجوء على وزن مفعول من الوجاء، بكسر الواو وبالمد، وهو عارض البيضتين حتى يتفضخ فيكون بتها بالخصي.
وفي " المغرب ": هو أن يضرب العروق بحديدة ويطعن فيها من غير إخراج البيضتين. وقال الحافظ المنذري: في " حواشيه ": المحفوظ موجوءين أي منزوعي [....
....] ؛ قاله أبو موسى(12/40)
والثولاء وهي المجنونة، وقيل: هذا إذا كانت تعتلف؛ لأنه لا يخل بالمقصود. أما إذا كانت لا تعتلف لا تجزئه، والجرباء إن كانت سمينة جاز؛ لأن الجرب في الجلد ولا نقصان في اللحم، وإن كانت مهزولة لا تجوز؛ لأن الجرب في اللحم فانتقص، وأما الهتماء وهي التي لا أسنان لها، فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر في الأسنان الكثرة، والقلة، وعنه: إن بقي ما يمكن الاعتلاف به أجزأه لحصول المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصبهاني. وقال في " النهاية ": ومنهم من يرويه موجيين بغير همز على التخفيف ويكون من وجيته وجيا فهو موجي.
قال تاج الشريعة: فإن قلت: كيف يجمع الكبوشية مع الوجاء؟
قلت: جاز أن يكون الكبوشية باعتبار ما كانت، والوجاء باعتبار الحال - انتهى.
قلت: الكبوشية لا تزول عنه أصلا فلا حاجة إلى هذا السؤال والجواب.
[التضحية بالجرباء والثولاء]
م: (والثولاء) ش: أي قال القدوري: ويجوز أن يضحي بالثولاء م: (وهي المجنونة) ش: لأن العقل غير مقصود في البهائم.
وقال الكرخي في " مختصره ": قال هشام: وسألته عن الجرباء والثولاء؛ قال: إذا كانا سمينتين أجزأتا، وإن كانا عجفاوين لم يجزئا، وهو قول أبي يوسف.
م: (وقيل: هذا إذا كانت تعتلف) ش: أي ما ذكر من الجواز إنما يكون إذا كانت المجنونة تأكل العلف م: (لأنه لا يخل بالمقصود) ش: أي لأن الجنون لا يخل بالمقصود وهو الانتفاع باللحم م: (أما إذا كانت لا تعتلف لا تجزئه) ش: لأنه ينتقص به اللحم.
م: (والجرباء إن كانت سمينة جاز؛ لأن الجرب في الجلد ولا نقصان في اللحم، وإن كانت مهزولة لا تجوز؛ لأن الجرب في اللحم فانتقص) ش: والأصل عند العلماء كل عيب يؤثر في اللحم يمنع وإلا فلا.
م: (وأما الهتماء وهي التي لا أسنان لها فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر في الأسنان الكثرة والقلة) ش: وهو من اللحم وهو كسر الثنايا من أصلها يقال: ضربه ضربة هشم، فإذا ألقى مقدم أسنانه، وإنما اعتبر أبو يوسف الكثرة والقلة في هذه الرواية؛ لأن الأسنان عضو كالأذن فيعتبر فيه بقاء الأكثر.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف م: (إن بقي ما يمكن الاعتلاف به أجزأه لحصول المقصود) ش: لأن المقصود من الأسنان الأكل بها فاعتبر بقاء المقصود دون غيره. قال القدوري في " شرحه ": من أصحابنا لأن الهتماء التي يكسر أطراف أسنانها.(12/41)
والسكاء وهي التي لا أذن لها خلقة لا تجوز، إن كان هذا؛ لأن مقطوع أكثر الأذن إذا كان لا يجوز، فعديم الأذن أولى وهذا الذي ذكرناه إذا كانت هذه العيوب قائمة وقت الشراء، ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع، إن كان غنيا عليه غيرها، وإن كان فقيرا تجزئه هذه؛ لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداء، لا بالشراء، فلم تتعين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعتبر أبو يوسف فيها أن تعتلف؛ لأن الأسنان باقية وإنما نقصت، فإذا لم يؤثر في الأكل لم يمنع وإذا كانت متعلفة الأسنان فاعتبر بقاء الأكثر.
[التضحية بالسكاء]
م: (والسكاء وهي التي لا أذن لها خلقة لا تجوز) ش: لأنها فائتة العضوين المقصودين م: (إن كان هذا) ش: يعني إن وجد هذا الذي ذكره والمعنى أنه لا يكون هكذا فإن وقع هذا نادرا فلا يجوز؛ لأنه فائت الأذنين من الأصل وإنما قال هذا؛ لأن السكاء لا يكون إلا في الطير، يقال: سليم السلا والعامة سكاء وجميع الطير يسك ويستعمل أيضا في صغير الأذنين وقال: جدي أسك وجدية سكاء إذا كانت صغيرة الأذنين.
فإن كان المراد من السكاء المعنى الأول وهو المعنى الأصلي فإنها لا تجوز لما ذكرنا. وإن كان المعنى الثاني: فإنها تجوز كما ذكرنا في ما مضى عن أبي يوسف أنه قال: السكاء إن كانت صغيرة الأذن فإنها تجزئ وإن كانت ليس لها أذن فإنها لا تجزئ، فافهم، فإنه موضع غض الشراح فيه أعينهم.
م: (لأن مقطوع أكثر الأذن إذا كان لا يجوز، فعديم الأذن أولى) ش: بأن لا يجوز م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: أشار به إلى ما ذكره من الأحكام التي بعضها يجوز بعضها لا يجوز م: (إذا كانت هذه العيوب) ش: من العماء والعور والعرج والعجف وانقطاع الأذن أو الإلية أو انقطاع أكثرهما م: (قائمة وقت الشراء) ش: فإنها تمنع الأضحية، وإنما إذا حدث بعده فالجواب على التفضيل أشار إليه بقوله: م: (ولو اشتراها سليمة) ش: لو اشترى الشاة أو نحوها حال كونها سليمة عن العيب.
م: (ثم تعيبت بعيب مانع) ش: من جواز التضحية م: (إن كان غنيا عليه غيرها) ش: وعند الثلاثة، أجزته هذه المعيبة ولا يلزم عليه أخرى بناء على أن الأضحية غير واجبة، وكذلك لو أوجبها بالنذر فكذلك عندهم وبقولهم قال الزبيري والثوري والنخعي والحسن وعطاء.
م: (وإن كان فقيرا تجزئه هذه) ش: أي المعيبة م: (لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداء) ش: يعني قبل الشرع، حاصله أن الغني لا يتعين عليه بالشراء بل الواجب عليه قبل الشراء م: (لا بالشراء فلم تتعين) ش: أي لا الوجوب عليه بسبب الشراء إذا كان كذلك فلم يتعين عليه بالشراء.(12/42)
وعلى الفقير بشرائه بنية الأضحية فتعينت، ولا يجب عليه ضمان نقصانه كما في نصاب الزكاة، وعن هذا الأصل. قالوا: إذا ماتت المشتراة للتضحية على الموسر مكانها أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أوجب على نفسه أضحية بغير عينها فاشترى صحيحة ثم تعيبت]
م: (وعلى الفقير بشرائه بنية الأضحية فتعينت) ش: أي والوجوب على الفقير بسبب شرائه بنية الأضحية، فتعينت الأضحية بسبب ذلك، بخلاف ما يقوله الزعفراني: إنه لا يتعين بالشراء أصلا، فإذا تعينت بشرائه تجزئه أن يضحي بها، بخلاف الغني؛ لأن الواجب عليه أضحية كاملة ابتداء فلا يخرج عن العهدة بالناقص وكذلك الحكم في الفقير إذا أوجب على نفسه أضحية بغير عينها، فاشترى صحيحة ثم تعيبت قبل الذبح عيبا مانعا فضحى لا يسقط عنه الواجب، كذا في " التحفة " وفي " الذخيرة "، قال بعض مشائخنا: تصير واجبة بنية الأضحية موسرا كان المشتري أو معسرا.
وذكر شيخ الإسلام: إذا كان المشتري موسرا لا تصير واجبة بالشراء بنية الأضحية باتفاق الروايات. وإن كان معسرا ففي ظاهر الروايات تجب وبه قال مالك.
وروى الزعفراني: أنها لا تجب، وإليه أشار شمس الأئمة واتفقوا على أنها لا تجب بمجرد النية للأضحية حتى كانت له شاة فنوى أن يضحي بها ولم يذكر بلسانه شيئا لا تصير واجبة للأضحية، ثم إذا أوجبت عليه بإيجابه أو بشرائه بنية الأضحية، وهو معسر فعلى قول من قال بوجوبها أن يصدقه بعينها في أيام النحر ولم يضحها فعليه مثلها؛ لأن الواجب عليه الإراقة وإنما ينتقل إلى التصدق عند العجز، وذلك بعد أيام النحر.
فإذا تصدق بما وجب عليه لزمه مثلها في أيام النحر وبعدها تصدق بقيمتها ولا تجزيه الصدقة الأولى التي في أيام النحر؛ لأنها وقعت قبل وجوب التصدق، فتجب بعينها حية بعد أيام النحر احتياطا كما ذكر في الأصول، فلو لم يتصدق بعينها في أيام النحر تصدق بعينها حية بعد أيام النحر كما ذكرنا.
م: (ولا يجب عليه ضمان نقصانه) ش: في بعض النسخ: ولا يجب عليه الضمان لنقصانه أي لا يجب على الفقير ضمان نقصان العيب م: (كما في نصاب الزكاة) ش: أي كما لا يجب النقصان في نصاب الزكاة إذا انتقص بعد الوجوب فإن الزكاة تسقط عنه بقدره، ولا يجب ضمان ذلك القدر، والجامع بقيمتها أن محل الوجوب فيهما جميعا المال لا الذمة. فإذا هلك المال سقط الوجوب م: (وعن هذا الأصل) ش: أي الأصل المذكور، وهو أن الوجوب على الغني بالشرع لا بالشراء، فلم يتعين الشاة، فلما لم يتعين كان عليه أخرى، والوجوب على الفقير بالشراء، فتعينت فلم يجب عليه أخرى.
م: (قالوا: إذا ماتت المشتراة للتضحية على الموسر مكانها أخرى) ش: أي قال المشائخ -(12/43)
ولا شيء على الفقير.
ولو ضلت أو سرقت فاشترى أخرى، ثم ظهرت الأولى في أيام النحر على الموسر ذبح إحداهما، وعلى الفقير ذبحهما، ولو أضجعها فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحها أجزأه استحسانا عندنا، خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله - لأن حالة الذبح ومقدماته ملحقة بالذبح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا ماتت الشاة المشتراة؛ لأن التضحية على الغني مكان هذه شاة أخرى.
م: (ولا شيء على الفقير) ش: يعني إذا ماتت المشتراة؛ لأنها كانت متعينة وماتت كما ذكرنا
م: (ولو ضلت) ش: أي ذهبت المشتراة للضحية م: (أو سرقت فاشترى أخرى) ش: أي شاة أخرى.
م: (ثم ظهرت الأولى) ش: وهي التي ضلت أو سرقت م: (في أيام النحر على الموسر ذبح إحداهما) ش: أي أحد الشاتين، لعدم التعيين لشرائه م: (وعلى الفقير ذبحهما) ش: أي ذبح الشاتين التي ضلت والتي عوضت عنها لتعيينها بشرائه، وتعويضه بالشراء أيضا هذا على ظاهر الرواية، لا على رواية الزعفراني، واختيار شمس الأئمة، واختار في " فتاوى الظهيرية " ظاهر الرواية.
م: (ولو أضجعها) ش: أي ولو أضجع رجل شاته التي عينها للتضحية. م: (فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحها أجزأه استحسانا عندنا، خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله -) ش: وبقولهما قال أحمد، وأصحاب الظاهر؛ لأنها صارت معيبة قبل الذبح فلم يجز تضحيته.
وقال الكاكي: لا فائدة في تخصيص انكسار الرجل؛ لأنها لو تعيبت بكل عيب مانع من الأضحية فالحكم كذلك وبه صرح في " المبسوط ".
وقال صاحب " العناية ": قوله: " فانكسرت رجلها " من باب ذكر الخاص وإرادة العام، فإنه إذا أصابها عيب مانع غير الانكسار بالاضطراب حالة الإضجاع للذبح كان الحكم كذلك.
قلت: هذا خارج مخرج الغالب فإن الحيوان عند الاضطجاع للذبح يخبط برجله الأرض غالبا فربما ينكسر رجل أو يد فلذلك ذكره، وإلا فالحكم عام فافهم.
وفي شرح " الأصل ": كذا إذا انقلبت منه السكين فأصابت عينه فذهبت، وفيه أيضا هذا إذا ذبح في مكانه ذلك، فأما إذا انقلبت الشاة ثم أخذت بعد ذلك وذبحت هل يجوز؟ لم يذكر هذا في ظاهر الرواية وقد ذكر في غير رواية الأصول خلافا بين أبي يوسف ومحمد. يقال على قول أبي يوسف إن أخذ من فوره ذلك جاز، وإن لم يؤخذ من فوره لا يجوز. وعند محمد: يجوز في الحالين بعد أن يكون التضحية في وقت الأضحية.
م: (لأن حالة الذبح ومقدماته ملحقة بالذبح) ش: وهذا إشارة على وجه الاستحسان، ووجهه(12/44)
فكأنه حصل به اعتبارا وحكما، وكذا لو تعيبت في هذه الحالة؛ فانفلتت ثم أخذت من فوره، وكذا بعد فوره عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لأبي يوسف؛ لأنه حصل بمقدمات الذبح.
قال: والأضحية من الإبل، والبقر، والغنم؛ لأنها عرفت شرعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن الشاة تضطرب في حالة الذبح فيلحقه العيوب من اضطرابها فصار ذلك مما لم يكن الاحتراز عنه؛ لأنه في حالة الذبح ومقدماته، وذلك ملحق بالذبح ولو لحقها عيب حالة الذبح كان عفوا فكذلك حالة الاضطجاع، أشار إليه بقوله م: (فكأنه حصل به) ش: أي فكان حصل بالذبح م: (اعتبارا) ش: أي قياسا فإن الذبح متلف جميع الأعضاء م: (وحكما) ش: أي ومن حيث الحكم كأنه حصل تلف الرجل بالذبح.
نظيره إذا أعتق نصف عبده عن كفارة ظهاره ثم أعتق النصف الثاني يجوز، وإن انتقص النصف بالإعتاق؛ لأن الانتقاص يثبت في ملكه لأجل الكفارة فلا يمنع كذلك. هاهنا يثبت الانكسار في حالة الذبح فلا يمنع.
م: (وكذا لو تعيبت في هذه الحالة) ش: أي وكذا يجوز لو تعيبت الشاة في حالة الاضطجاع م: (فانفلتت) ش: أي نسيت وهربت م: (ثم أخذت من فوره) ش: أي من ساعته من غير تأخير، والضمير في فوره يرجع إلى الوقت الذي دل عليه القرينة.
م: (وكذا بعد فوره) ش: أي وكذا يجوز لو أخذت بعد ساعة م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف) ش: لم يذكر دليل أبي يوسف، ودليله أن الفور لما انقطع خرج الفعل الذي تعيبت به من أن يكون سببا من أسباب الذبح الذي وجد بعد الفور فصار بمنزلة ما حصل بفعل آخر وأشار إلى دليل محمد بقوله م: (لأنه حصل بمقدمات الذبح) ش: أي لأن الذي حصل بمقدمات الذبح فيلحق بالذبح.
[ما يجزئ في الأضحية من الأنعام]
م: (قال: والأضحية من الإبل والبقر، والغنم) ش: أي قال القدوري: الأضحية من هؤلاء الثلاثة لا غير، وبه قالت الثلاثة، وقالت الظاهرية: يجوز بكل حيوان وبكل وحشي وإنسي وكذا بكل طائر يؤكل لحمه وحشي وإنسي، لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مثل المهاجر إلى الجمعة كمثل من يهدي بدنة ثم كمن يهدي بقرة ثم كمن يهدي شاة ثم كمن يهدي دجاجة ثم كمن يهدي بيضة والعصفور قريب إلى البيضة» .
وحكي عن الحسن بن صالح أن بقرة الوحشي تجزئ عن سبعة، والظبي عن واحد وأشار إلى دليلنا بقوله م: (لأنها) ش: أي لأن الإبل والبقر والغنم م: (عرفت شرعا) ش: أي عرفت(12/45)
ولم تنقل التضحية بغيرها من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قال: ويجزئ من ذلك كله الثني فصاعدا إلا الضأن؛ فإن الجذع منه يجزئ؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر على أحدكم فليذبح الجذع من الضأن» . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعمت الأضحية الجذع من الضأن» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جواز الأضحية منها من حيث الشرع.
م: (ولم تنقل التضحية بغيرها) ش: أي بغير هذه الثلاثة م: (من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: لأنه لم يرو حديث ولا أثر بجوازها من غير هذه الثلاثة، واستدلال الظاهرية بالحديث المذكور فاسد؛ لأن المراد منه بيان قدر الثواب لأنه تجوز التضحية، ولهذا لم يجوز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير الجذع من الضأن فعلى قياس قولهم ينبغي أن يجوز.
م: (قال: ويجزئ من ذلك كله الثني فصاعدا) ش: أي قال القدوري، أي يجوز من المذكور من هذه الثلاثة كلها الثني.
فإن قلت: فصاعدا نصب بماذا؟
قلت: على الحال. والتقدير فذهب الحكم فصاعدا أي حال كونه ثمانيا على ذلك؛ لأنه لا زائد عليه متجاوزا عنه، والفاء للعطف.
م: (إلا الضأن؛ فإن الجذع منه يجزئ) ش: قيد بالضأن؛ لأنه لا يجوز من غيره وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والزهري لا يجزئ الجذع من الضأن كما لا يجزئ من غيره، وبقولنا قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: ولا يجزئ من الضأن إلا التي في السنة الثانية، ومن المعز إلا التي في السنة الثانية. كذا في " وجيزهم ".
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر على أحدكم فليذبح الجذع من الضأن» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تذبحوا إلا مسنة أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» .
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعمت الأضحية الجذع من الضأن» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي عن عثمان بن واقد عن كدام بن عبد الرحمن «عن أبي كباش قال: جلبت غنما جذعانا إلى المدينة فكسرت علي فلقيت أبا هريرة فسألته فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " نعم - أو نعمت - الأضحية الجذع من الضأن " قال: " فانتهبه الناس» وقال: حديث غريب.(12/46)
قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة، بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بعيد. والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر في مذهب الفقهاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد روي عن أبي هريرة موقوفا. وقال في " علله الكبرى ": سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: رواه عثمان بن واقد فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورواه غيره فوقفه عن أبي هريرة، وسألته عن أبي كباش فلم يعرفه، والعجب من الأترازي أنه نسب الحديث الأول إلى صاحب " السنن "، وهو لصاحب " الصحيح " كما ذكرنا، وإن كان أصحاب السنن أخرجوه أيضا.
وقال في الحديث الثاني: قال أصحابنا في كتبهم: عن أبي هريرة، وأظهر العجز عن نسبته إلى الترمذي.
م: (قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة) ش: أي قال المشائخ: جواز الأضحية بالجذع من الضأن إذ كانت الجذع عظيمة م: (بحيث لو خلط بالثنيات) ش: بضم الثاء المثلثة، جمع ثني، وكان يقول ينبغي أن يقول لو خلطت م: (يشتبه على الناظر من بعيد) ش: أنه ثني أو جذع.
م: (والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر) ش: وقال القدوري في شرحه: قال الفقهاء الجذع من الغنم ابن ستة أشهر والثني من الغنم ابن سنة، والجذع من البقر ابن سنة، والثني ابن سنتين، والجذع من الإبل ابن أربع سنين والثني ابن خمس.
وقال الناطفي في كتاب " الأجناس "، قال في كتاب " الضحايا ": لأن القاسم الحرمي الرازي قال: سمعت أبا علي الدقاق قال: الجذع من الضأن هو ما تمت له ثمانية أشهر وطعن في الشهر التاسع، وفي " أضاحي أبي عبد الله الزعفراني " ما تمت له سبعة أشهر وطعن في الشهر الثامن.
ويجوز في الأضحية إذا كانت الشاة عظيمة الجثة وهي جذع وإذا كانت صغيرة الجثة لا يجوز إلا أن يتم لها سنة وطعنت في السنة الثانية، وأما المعز لا يجوز إلا ما تمت له سنة وطعنت في الثانية، وأما البقر لا يجوز إلا ما تمت له سنتان وطعنت في السنة الثالثة سواء كانت عظيمة الجثة أو لا.
والإبل فلا يجوز في الأضحية، إلا ما قد تمت له خمس سنين وطعن في السنة السادسة. ذكره الخصاف من أصحابنا في " ضحاياه " م: (في مذهب الفقهاء) ش: قيد به؛ لأن عند أهل اللغة الجذع من الشاة ما تمت له سنة وطعنت في الثانية.
وفي الثني الجذع من البهائم قبل الثني، إلا أنه في الإبل قبل السنة الخامسة وفي البقر(12/47)
وذكر الزعفراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ابن سبعة أشهر، والثني منها ومن المعز ابن سنة، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإبل ابن خمس سنين، ويدخل في البقر الجاموس؛ لأنه من جنسه، والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم؛ لأنها هي الأصل في التبعية، حتى إذا نزا الذئب على الشاة يضحى بالولد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشاة في السنة الثانية، وفي الخيل في الرابعة.
وعن الأزهري: من المعز لستة ومن الضأن لثمانية أشهر ثم الثني من الإبل الذي سنه هو ما استكمل الخامسة ودخل في السادسة، ومن الحافر ما استكملت الثالثة ودخل في الرابعة وهو في كلها بعد الجذع. قال الشاعر:
الثنايا ابن حول وابن ضعف ... وابن خمس من ذوي ظلف وخف
م: (وذكر الزعفراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي الجذع من الضأن م: (ابن سبعة أشهر) ش: وقد ذكرناه من " الأجناس " و " الزعفراني "، والجذع قبل الثني، والأنثى جذعة ويجمع على جذاع وجذعان وأجذاع، وزاد يونس جذاع بالضم.
م: (والثني منها) ش: أي من الضأن م: (ومن المعز ابن سنة) ش: قال الجوهري: الثني الذي يلقى سنة ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة، وفي الخف في السنة السادسة والجمع سنان، ورواه: الأنثى سنة والجمع المعزى بكسر الميم اسم جنس وكذلك المعر والمعز والعور وفي " العباب ": المعز مثال يهز ويهز في الغنم خلاف الضأن. وقيل الماعز الذكر، والأنثى ماعزة وهي العين والجمع مواعز وقيل واحد المعز ماعز.
م: (ومن البقر) ش: أي والثني من البقر م: (ابن سنتين، ومن الإبل) ش: أي الثني من الإبل م: (ابن خمس سنين) ش: وطعن في السادسة م: (ويدخل في البقرة والجاموس؛ لأنه من جنسه) ش: كما في الزكاة فإنه يؤخذ من نصاب الجاموس ما يؤخذ من نصاب البقر، وقال في " خلاصة الفتاوى ": والجاموس يجوز في الهدايا والضحايا استحسانا.
[التضحية بالمولود بين الأهلي والوحشي] 1
(والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم) ش: أي الذي ولد بين الحيوانات الأهلي، كالشاة مثلا وبين الحيوان الوحشي كالظبي مثلا يتبع أمه م: (لأنها هي الأصل في التبعية) ش: لأنها جزء الأم فإن بالفحل صار مستهلكا بحضانتها، والمنفصل من الفحل هو الماء ومن الأم هو الحيوان فلذلك اعتبرت.
م: (حتى إذا نزا الذئب على الشاة يضحى بالولد) ش: اعتبارا بالأم وفي بعض النسخ حتى إذا نزا الذئب على الشاة، ولو نزا الكبش على الظبية لا يضحى بولدها اعتبارا بها، وعند الثلاثة لا يجوز كل منهما؛ لأنه ليس من بهيمة الأنعام.(12/48)
قال: وإذا اشترى سبعة بقرة ليضحوا بها فمات أحدهم قبل النحر، وقالت الورثة: اذبحوها عنه وعنكم أجزأهم، وإن كان شريك الستة نصرانيا، أو رجلا يريد اللحم لم يجز عن واحد منهم. ووجهه أن البقرة تجوز عن سبعة، لكن من شرطه أن يكون قصد الكل القربة وإن اختلفت جهاتها كالأضحية والقران والمتعة عندنا لاتحاد المقصود وهو القربة، وقد وجد هذا الشرط في الوجه الأول؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا ما ذكرنا في " جوامع الفقه " و " فتاوى الولوالجي ": الاعتبار بالمتولد للأم في الأضحية والحبل. وقيل: يعتبر بنفسه فيهما حتى ولدت الشاة ظبيا لم تجز الأضحية ولو ولدت الرمكة حمارا لم يجز ولم يؤكل.
وفي " الذخيرة " لو نزا الحمار على الرمكة فالمتولد منها مكروه بالاتفاق، فقيل لا يكره عندهما اعتبارا للأم.
وفي " خلاصة الفتاوى ": لو نزا الكلب على الشاة فولدت قال عامة الفقهاء: لا يجوز، قال الإمام الجنزاري: إن كان يشبه الأم تجوز ولو نزا شاة على ظبي. قال الإمام الجنزاري: إن كان يشبه الأب يجوز، ولو نزا ظبي على شاة قال عامة العلماء: يجوز وقال الإمام الحراحري: العبرة للمشابهة.
م: (قال: وإذا اشترى سبعة بقرة ليضحوا بها فمات أحدهم قبل النحر، وقالت الورثة: اذبحوها عنه وعنكم أجزأهم) ش: أي قالت ورثة الميت: اذبحوا البقرة عن الميت وعنكم أجزأهم ذلك.
م: (وإن كان شريك الستة نصرانيا، أو رجلا يريد اللحم لم يجز عن واحد منهم) ش: أراد أن سابع السبعة كان نصرانيا أو كان يريد اللحم، غير مريد الأضحية فإنه لا يجوز عن الجميع، والشركة في البقرة والبدنة جائزة عندنا، وقال مالك لا يجوز الاشتراك في الهداية لو أراد واحد منهم اللحم لا يجوز عن الكل عندنا. وقال الشافعي وأحمد: يجوز، وعند زفر: لا يجوز إذا اختلفت جهات القربة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
م: (ووجهه) ش: أي بين المسألتين وفي بعض النسخ ووجه أي وجه الفرق م: (أن البقرة تجوز عن سبعة، لكن من شرطه أن يكون قصد الكل القربة وإن اختلفت جهاتها كالأضحية والقران والمتعة) ش: بأن أراد أحدهم المتعة الأضحية وأراد الآخرون القران وأراد الآخرون المتعة فإن ذلك لا يضر.
م: (عندنا) ش: خلافا لزفر فعنده اتحاد القربة شرط م: (لاتحاد المقصود وهو القربة) ش: وإن كانت هي مختلفة في نفسها م: (وقد وجد هذا الشرط) ش: وهو وجود القربة م: (في الوجه الأول) ش: وهو ما إذا مات أحد السبعة وقالت ورثته: اذبحوها عنه وعنكم.(12/49)
لأن التضحية عن الغير عرفت قربة. ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضحى عن أمته على ما روينا من قبل، ولم يوجد في الوجه الثاني؛ لأن النصراني ليس من أهلها، وكذا قصد اللحم ينافيها. وإذا لم يقع البعض قربة، والإراقة لا تتجزأ في حق القربة لم يقع الكل أيضا فامتنع الجواز. وهذا الذي ذكره استحسان، والقياس أن لا يجوز، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأنه تبرع بالإتلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن التضحية عن الغير عرفت قربة) ش: كان هذا جواب عما يقال: كيف يكون الأضحية عن الغير قربة لأنها تقوم بالفعل؟، فقال: عرفت قربة بالنص.
م: (ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضحى عن أمته) ش: على ما روى مسلم في الضحايا عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد فأتي ليضحي به فقال لها: " يا عائشة هلمي المدية "، ثم قال: " اشحذيها بحجر " ففعلت فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه وقال: " بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ثم ضحى» وقد ذكرنا أحاديث كثيرة مثل هذا في الذبائح.
وإليها أشار بقوله: م: (على ما روينا من قبل) ش: وهو الذي ذكره في الذبائح بقوله لما روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال بعد الذبح: «اللهم تقبل هذه عن أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ» .
م: (ولم يوجد في الوجه الثاني) ش: أي لم يوجد الشرط وهو القربة فيما إذا كان شريك الستة نصرانيا أو مريد اللحم م: (لأن النصراني ليس من أهلها) ش: أي من أهل القربة.
م: (وكذا قصد اللحم ينافيها) ش: أي ينافي القربة م: (وإذا لم يقع البعض قربة والإراقة لا تتجزأ في حق القربة لم يقع الكل أيضا) ش: أي لم يقع الكل قربة أيضا لعدم التجزؤ.
م: (فامتنع الجواز) ش: أي إذا كان كذلك امتنع جواز الأضحية.
فإن قلت: ينبغي أن يجوز؛ لأن البدنة لما قامت مقام سبع شياه، فلو اشترى سبعة أنفس سبع شياه وذبح أحدهم للحم يجوز الستة عن الأضحية كذا هذا؟.
قلت: البدنة أقيمت مقام سبع شياه بخلاف القياس بالنص، والنص إنما أقامها مقام السبع إذا وجدت الإراقة بنية القربة عن الكل ففي غير مورد النص نفي على أصل القياس.
م: (وهذا الذي ذكره استحسان) ش: أي هذا الذي ذكره محمد استحسان. م: (والقياس أن لا يجوز، وهو رواية) ش: أي القياس رواية م: (عن أبي يوسف؛ لأنه) ش: أي لأن إذن الورثة بالإراقة م: (تبرع بالإتلاف) ش: لأن نصيب الميت صار ميراثا فالتضحية عنه تبرع بالإتلاف ولهذا لو فعله الغاصب يضمن.(12/50)
فلا يجوز عن غيره كالإعتاق عن الميت، لكنا نقول: القربة قد تقع عن الميت كالتصدق بخلاف الإعتاق؛ لأن فيه إلزام الولاء على الميت. ولو ذبحوها عن صغير في الورثة، أو أم ولد جاز لما بينا أنه قربة ولو مات واحد منهم فذبحها الباقون بغير إذن الورثة لا يجزيهم؛ لأنه لم يقع بعضها قربة، وفيما تقدم وجد الإذن من الورثة فكان قربة.
قال: ويأكل من لحم الأضحية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يجوز عن غيره) ش: أي فلا يجوز من الوارث عن الميت م: (كالإعتاق عن الميت) ش: حيث لا يجوز؛ لأنه تبرع بالإتلاف م: (لكنا نقول: القربة قد تقع عن الميت) ش: هذا وجه الاستحسان وتقريره أن الورثة لما أذنوا صار ذلك أيضا قربة فوقع الكل قربة، فالقربة قد تقع عن الميت.
م: (كالتصدق) ش: عن الميت والحج عنه، فإن الورثة يملكون أن يتقربوا بنحو ذلك عن الميت، فحينئذ صار نصيب الميت للقربة كأنصاب الباقين.
م: (بخلاف الإعتاق) ش: هذا جواب عن قوله كالإعتاق عن الميت، وتقريره أن الإعتاق عن الميت إنما لم يجز م: (لأن فيه إلزام الولاء على الميت) ش: لأن الولاء لمن أعتق، وليس للوارث الإلزام على الميت، بخلاف الأضحية عنه فإنها جازت لعدم الإلزام.
م: (ولو ذبحوها عن صغير في الورثة، أو أم ولد جاز) ش: وفي بعض النسخ: ولو ذبحها أي ولو كان أحد الشركاء صغيرا أو أم فضحى عنه أبوه أو مولاه جاز م: (لما بينا أنه قربة) ش: أشار به إلى وجه الاستحسان وفي القياس: لا يجوز؛ لأن الإراقة لا تتجزأ، وبعض الإراقة وقع نفلا أو لحما فصار الكل كذلك.
م: (ولو مات واحد منهم) ش: أي من الشركاء م: (فذبحها الباقون بغير إذن الورثة لا يجزيهم) ش: وقال الشافعي وأحمد: يجزيهم، لما ذكر من عدم اشتراط نية الكل قربة عندهما، وعندنا يشترط فلا يجوز م: (لأنه لم يقع بعضها قربة، وفيما تقدم) ش: وهو المسألة الأولى م: (وجد الإذن من الورثة فكان قربة) ش: فإذا كان قربة فقد جازت.
[الأكل من الأضحية]
م: (قال: ويأكل من لحم الأضحية) ش: أي قال القدوري: هذا في غير المنذورة. أما في المنذورة فلا يأكل الناذر سواء كان معسرا أو موسرا وبه قالت الثلاثة، وعن أحمد في رواية: يجوز الأكل من المنذورة أيضا وفي " الذخيرة ": ولا يجوز أن يأكل الغني في المنذورة؛ لأن سببها التصدق وليس للمتصدق أن يأكل من صدقته، حتى لو أكل يجب عليه قيمة ما أكل.
وقال في " شرح الطحاوي ": لا يجوز الأكل من الدماء إلا من أربعة من الأضحية ودم المتعة ودم القران ودم التطوع، إذا بلغ محله، يعني لا يجوز الأكل من دماء الكفارات والنذور وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله، انتهى.(12/51)
ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها، وادخروا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم الأكل من أضحيته مستحب عند أكثر العلماء، وعند الظاهرية: واجب، وحكي ذلك عن أبي حفص الوكيل من أصحاب الشافعي.
م: (ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا» ش: هذا الحديث رواه ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: جابر بن عبد الله أخرج حديثه مسلم عن ابن زهير عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: " كلوا وتزودوا وادخروا» .
الثاني: أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه مسلم أيضا، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا أهل المدينة لا تأكلوا لحم الأضاحي فوق ثلاث " فشكوا إلى رسول الله أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال: " كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا» ووهم الحاكم في " المستدرك "، فرواه، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
الثالث: عائشة الصديقة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها مسلم أيضا، عنها: «قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجعلون فيها الودك قال: " وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث. قال: " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا» .
الرابع: سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه البخاري، عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء " فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: " كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها» .
الخامس: نبيشة الهذلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود عنه قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إني كنت نهيتكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاثة لكن ليسعكم الله بسعة فكلوا وادخروا واتجروا، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» .
السادس: بريدة أخرج حديثه مسلم، عن الثوري عن علقمة بن مرثد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام وإنما أردت ذلك ليوسع أهل السعة على من لا سعة لهم فكلوا إنما هذا لكم وادخروا» .(12/52)
ومتى جاز أكله وهو غني، جاز أن يؤكل غنيا. قال: ويستحب أن لا ينقص الصدقة عن الثلث؛ لأن الجهات ثلاث: الأكل والادخار لما روينا، والإطعام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فانقسم عليها أثلاثا.
قال: ويتصدق بجلدها؛ لأنه جزء منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومتى جاز أكله وهو غني) ش: أي ومتى جاز أكل لحم الأضحية، والحال أنه غني م: (جاز أن يؤكل غنيا) ش: أي أن يطعم غنيا مثله بدلالة النص م: (قال: ويستحب أن لا ينقص الصدقة عن الثلث) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره " أي من ثلث الأضحية م: (لأن الجهات ثلاث: الأكل والادخار لما روينا) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فكلوا منها وادخروا» .
م: (والإطعام) ش: بالرفع عطفا على قوله والادخار م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ش: القانع السائل، من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعا، والمعتر المتعرض للسؤال، والقانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير السؤال، من قنعت قنعا وقناعة، والمعتر للسؤال كذا في " الكشاف ".
قلت: الأول: من باب فعل يفعل بالفتح فيهما. والثاني: من باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر.
وفي " المغرب ": القانع السائل من القنوع لا من القناعة يقال: يقنع قنوعا إذا سأل، وقنع قناعة إذا رضي. والمعتر الذي يتعرض للسؤال ولا يسأل؛ " وتفسير الزمخشري ". م: (فانقسم عليها أثلاثا) ش: أي إذا كان كذلك فانقسم لحم الأضحية على هذه الأشياء الثلاثة وهي الأكل والادخار والإطعام أثلاثا. كل واحد ثلث.
فإن قلت: الأشياء الثلاثة مذكورة في الأحاديث التي مضت فلم استدل على كون الطعام ثلثا للآية المذكورة؟.
قلت: اعتمد في ذلك على ما نقله في الحديث، فإنه لم يذكر فيه الإطعام، ولم يذكر فيه إلا الأكل والادخار، فكذلك استدل على الإطعام بالآية، ولكن الأحاديث الصحاح والحسان كلها مشتملة على الأقسام الثلاثة، ولم أدر من أخرج مثل ما ذكره من أصحاب هذا الشأن.
وقال الشافعي في " القديم ": يجعلها نصفين يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وقال في " الجديد ": يستحب أكل الثلث كما قال أكثر أهل العلم.
م: (قال: ويتصدق بجلدها) ش: أي قال القدوري، وفي غالب النسخ ليس فيه لفظة قال. وكذلك قال الأترازي: هذا لفظ القدوري في " مختصره ". ولم يقل: " قال القدوري " كما هو عادته، أي ويتصدق بجلد الأضحية م: (لأنه جزء منها) ش: أي لأن الجلد جزء من(12/53)
أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت كالنطع والجراب والغربال، ونحوها؛ لأن الانتفاع به غير محرم، ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع بعينه في البيت، مع بقائه استحسانا، وذلك مثل ما ذكرنا؛ لأن للبدل حكم المبدل، ولا يشتري به ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه كالخل والأبازير، اعتبارا بالبيع بالدراهم، والمعنى فيه أنه تصرف على قصد التمول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأضحية م: (أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت) ش: أي ويعمل المضحي من الجلد آلة يستعمل في البيت م: (كالنطع والجراب والغربال ونحوها) ش: كالمنخل والدلو والسفرة والمطهرة، والقربة م: (لأن الانتفاع بها غير محرم ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع بعينه في البيت مع بقائه استحسانا) ش: أي لا بأس بأن يشتري بجلد الأضحية الذي ينتفع بعينه مع بقاء عينه كالجرب والغربال، وقال الأوزاعي: يجوز بكل ما يصادر في البيت مثل الفأس، والقدر والمنخل والميزان، وقال الشافعي وأحمد: لا يجوز بأي شيء كان؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يعطى أجر الجزار منها، والنهي عنها نهي عن البيع؛ لأنه في معنى البيع، وعندنا لا بأس من بيعه بما ذكرنا، وبه قال مالك.
وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في " شرح الكافي ": ولا بأس بأن يشتري بجلد الأضحية متاعا للبيت؛ لأنه أطلق له الانتفاع دون البيع فكل ما كان في معنى الانتفاع يجوز، وما لا فلا. قال محمد في " نوادر هشام ": ولا يشتري به الخل والبذر، وله أن يشتري ما لا يؤكل مثل الغربال والثوب؛ لأنا أطلقنا الانتفاع، يجوز ذلك في استبدال الشيء بما ينتفع به من جنسه، كالغربال فإنه ينتفع به مع بقاء عينه فيجوز استبداله بالجلد ولو اشترى باللحم خبزا جاز؛ لأنه ينتفع به كما ينتفع باللحم، إذ اللحم لا يؤكل مفردا وإنما يؤكل مع الخبز. ولو اشترى باللحم متاع البيت لا يجوز.
وقال محمد: والقياس في الكل سواء معناه أنه لا يجوز بيع الكل؛ لأنه خرج من جهة التمول. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه ": وأما اللحم فالجواب فيه كالجواب في الجلد، إن باعه بالدراهم تصدق بثمنه، وإن باعه بشيء آخر ينتفع به كما في الجلد.
م: (وذلك مثل ما ذكرنا) ش: أي الذي ينتفع بعينه مع بقائه مثل النطع والجراب ونحوهما م: (لأن للبدل حكم المبدل) ش: المبدل هو الجلد الذي يشترى به، لما كان البدل من الحكم فهو للمبدل كذلك. م: (ولا يشتري به) ش: أي بالجلد م: (ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه كالخل) ش: والخل بالخاء المعجمة والمهملة أيضا، فالأول معروف، والثاني هو دهن السمسم م: (والأبازير) ش: وهي التوابل، جمع إبزار، بالفتح وهو جمع بزر، يقال: بذرت القدر إذا ألقيت فيها التوابل. م: (اعتبارا بالبيع بالدراهم) ش: أي قياسا على بيع الجلد بالدراهم حيث لا يجوز.
م: (والمعنى فيه: أنه تصرف على قصد التمول) ش: أي المعنى في اشتراء ما لا ينتفع به إلا بعد(12/54)
واللحم بمنزلة الجلد في الصحيح، فلو باع الجلد، أو اللحم بالدراهم، أو بما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه تصدق بثمنه؛ لأن القربة انتقلت إلى بدله، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من باع جلد أضحيته فلا أضحية له» . يفيد كراهة البيع. أما البيع فجائز لقيام الملك والقدرة على التسليم.
قال: ولا يعطي أجرة الجزار من الأضحية؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استهلاكه، أنه تصرف على قصد التمول، وهو قد خرج عن جهة التمول، فإذا تمولته بالبيع وجب التصدق؛ لأن هذا الثمن حصل بفعل مكروه، فيكون خبيثا فيجب التصدق.
م: (واللحم بمنزلة الجلد في الصحيح) ش: يعني إذا باعه بالدراهم يتصدق به، وإن باعه بشيء آخر ينتفع به، كما في الجلد، ولو اشترى ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه لا يجوز، احترز بقوله في الصحيح، عما روي في " الأجناس " قال: وإنما في اللحم أن يأكل ويطعم وليس له غيره فيه، وفي الجلد له أن يشتري الغربال والمنخل ويتخذ منه مسكا.
وفي " فتاوى قاضي خان ": ولو اشترى بجلدها جرابا يجوز ولو اشترى بلحمها جرابا لا يجوز، ولو اشترى بجلدها لحما للأكل لا يجوز إلا في رواية عن محمد. وروى ابن سماعة عن محمد: ولو اشترى بلحمه ثوبا فلا بأس بلبسه.
م: (فلو باع الجلد أو اللحم بالدراهم، أو بما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه تصدق بثمنه؛ لأن القربة انتقلت إلى بدله) ش: لأن التملك بالبدل من حيث التمول ساقط، فلم يبق إلا جهة القربة، وسبيلها التصدق.
وقال الكرخي في " مختصره ": وإن باع الجلد بورق أو ذهب أو فلوس تصدق به. روى هذا أحمد البازي عن محمد م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " من باع جلد أضحيته فلا أضحية له " يفيد كراهة البيع. أما البيع فجائز لقيام الملك والقدرة على التسليم) ش: هذا الحديث رواه الحاكم في " المستدرك " في تفسير سورة الحج، من حديث زيد بن الحباب عن عبد الله بن عباس المصري عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ سواء، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورواه البيهقي في " سننه الكبرى ".
قوله: فلا أضحية له محمول على نفي الكمال، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ولذلك قلنا: يفيد الحديث الكراهة في البيع، وأما الجواز فلقيام الملك والقدرة على تسليمه.
[أجرة الجزار]
م: (قال: ولا يعطي أجرة الجزار من الأضحية) ش: أي من الأضحية هذا عند عامة أهل العلم ورخص الحسن وعبيد الله بن عبد الله بن عمر في إعطائه الجلد.
ولنا ما ورواه علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أشار إليه بقوله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -(12/55)
لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «تصدق بجلالها وخطامها، ولا تعط أجر الجزار منها شيئا» . والنهي عنه نهي عن البيع أيضا؛ لأنه في معنى البيع.
قال: ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها؛ لأنه التزم إقامة القربة بجميع أجزائها بخلاف ما بعد الذبح؛ لأنه أقيمت القربة بها كما في الهدي. ويكره أن يحلب لبنها فينتفع به كما في الصوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لعلي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «تصدق بجلالها وخطامها، ولا تعط أجر الجزار منها شيئا» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنته وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئا " وقال: " نحن نعطيه من عندنا» انتهى.
والجلال بكسر الجيم جمع جل الحيوان والخطم بضمتين جمع خطام وهو الزمام، أي المقود، وقيل هو: حبل يجعل في عنق البعير ومشافر خطمه أي أنفه.
م: (والنهي عنه) ش: أي عن إعطاء الجزار منها م: (نهي عن البيع أيضا لأنه) ش: أي لأن الإعطاء منها للجزار م: (في معنى البيع) ش: حيث أصل العين للمنفعة وهو عقد معاوضة وقد احتج ابن الجوزي بظاهر هذا على التحريم في البيع. قيل: احتجاج المصنف به على كراهته بيع جلد الأضحية خلاف ظاهر اللفظ.
قلت: هذا مبني على أصل، وقيل عنه هنا المعترض، وهو أن النهي إذا كان لمعنى في غيره لا ينافي مشروعية الأصل، وقد علم هذا في موضعه.
م: (قال: ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها) ش: هذا من مسائل " الأصل " ذكره تفريعا على مسألة القدوري: وعن أحمد: إن كان الجز أنفع لها بأن كان في الربيع لا يكره. م: (لأنه التزم إقامة القربة بجميع أجزائها بخلاف ما بعد الذبح؛ لأنه أقيمت القربة بها) ش: أي بالأضحية م: (كما في الهدي) ش: أي كما لا ينبغي، أن يجز الصوف في الهدي لكونه قربة مع أجزائه.
م: (ويكره أن يحلب لبنها) ش: أي لبن الأضحية م: (فينتفع به كما في الصوف) ش: بالنصب أي لأن ينتفع به أي باللبن. وقال الشافعي وأحمد: إن كان الحلب يضر بها أو ينقص لحمها، لم يكن له حلبه وإلا فله حلبه، والانتفاع باللبن، وعندنا إذا كان يضر بها لا يحلبها ولكن يرش على الضرع بالماء، وقالوا: هذا إذا كان يقرب من أيام النحر، أما إذا كان بالبعد منها لا يفيد الرش بل يحلبها ويتصدق باللبن، ثم هذه الكراهة في الحلب وجز الصوف في التي عينها العرق، أما في غيرها لا.
وقال القدوري في " شرحه ": من أصحابنا من قال: هذا في التي أوجبها وليست واجبة(12/56)
قال: والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح. وإن كان لا يحسنه، فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مثل المعسر إذا اشترى أو الموسر إذا اشترى ثانية؛ لأن الإيجاب يتعين فيها، فلم يجز الرجوع في جزء منها، أما الموسر إذا عين أضحيته فلا بأس أن يحلبها أو يجزها؛ لأن الوجوب لم يتعين فيها وإنما هو في ذمته ويسقط بالذبح ما يثبت في الذمة.
فإذا كان عند الذبح بصفة الجواز فكأنه ابتدأ شراءها على هذه الصفة، فأما إذا ذبحها في وقتها جاز له أن يحلب لبنها فيأكله ويجز صوفها فينتفع بها في الوجهين؛ لأن القربة تعينت فيها بالذبح فجاز الانتفاع بلبنها وصوفها كما يجوز بلحمها.
وقال الكرخي في " مختصره ": ولا ينبغي أن يحلبها قبل الذبح وإن فعل تصدق باللبن.
[ما يستحب في الأضحية]
م: (قال: والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح) ش: أي قال القدوري: - وليس في النسخ الصحيحة لفظة قال - م: (وإن كان لا يحسنه) ش: أي الذبح م: (فالأفضل أن يستعين بغيره) ش: لئلا يتلف أضحيته.
م: (وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه) ش: أي أن يحضر أضحيته بنفسه م: «لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب» ش: هذا الحديث رواه ثلاثة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن عمران بن الحصين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ... " إلى قوله: " من المسلمين ". قال عمران: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا لك ولأهل بيت خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: " بل للمسلمين عامة» . ورواه البيهقي في " سننه " والطبراني في " معجمه ". وقال البيهقي: في إسناده مقال، وقال الذهبي في " مختصره للمستدرك " أبو حمزة الثمالي ضعيف جدا.
ورواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " أخبرنا يحيى بن آدم وأبو بكر بن عياش عن ثابت عن أبي إسحاق عن عمران بن الحصين فذكره، وأخرجه الكرخي أيضا في " مختصره " بإسناده(12/57)
قال: ويكره أن يذبحها الكتابي؛ لأنه عمل هو قربة وهو ليس من أهلها. ولو أمره فذبح جاز؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى عمران نحوه.
الثاني: أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم، من حديث عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها أن يغفر لك ما سلف من ذنبك " فقالت فاطمة: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا لنا أهل البيت خاصة أو لنا وللمسلمين عامة؟ وسكت عنه» . رواه البزار في " مسنده ".
وقال الذهبي: عطية واه، وقال البزار: لا نعلم له طريقا عن أبي سعيد أحسن من هذه الطريق، وعمرو بن قيس كان من أفاضل الكوفة وعبادهم، ممن يكتب حديثه.
الثالث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه أبو القاسم الأصفهاني في كتاب " الترغيب والترهيب "، وأبو الفتح سليم بن أيوب، الفقيه الشافعي عن مسلم بن إبراهيم حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن خالد مولى بني هاشم عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا فاطمة..... " الحديث.
وقال أبو الفتح: سعيد بن زيد، هو أخو حماد بن زيد، وأخرجه الكرخي في " مختصره " بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا فاطمة بنت محمد، قومي واشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب أما أنه يؤتى بها بدمها ولحمها فيوضع في ميزانك وسبعون ضعفا» .
م: (قال: ويكره أن يذبحها الكتابي) ش: أي قال القدوري. - وليس في النسخ الصحيحة لفظة قال -: م: (لأنه عمل هو قربة وهو ليس من أهلها) ش: أي الكتابي ليس من أهل القربة، وفي بعض النسخ؛ لأنه عمل قربة، بإضافة العمل إلى القربة. قال القدوري في " شرحه ": إذا أمر مسلم نصرانيا أو يهوديا أن يذبح أضحيته ففعل، أجزأه؛ لأنه من أهل الذبح فصار ذبحه وذبح المسلم سواء، إلا أنه يكره؛ لأن الذبح للأضحية من أمور الدين، ولا ينبغي أن يستعان بالكافر فيما هو من أمور الدين، انتهى.(12/58)
لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته، بخلاف ما إذا أمر المجوسي؛ لأنه ليس من أهل الذكاة فكان إفسادا.
قال: وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما، والضمان عليهما، وهذا استحسان. وأصل هذا أن من ذبح أضحية غيره بغير إذنه لا يحل له ذلك، وهو ضامن لقيمتها، ولا يجزئه عن الأضحية في القياس، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي الاستحسان: يجوز، ولا ضمان على الذابح، وهو قولنا. وجه القياس: أنه ذبح شاة غيره بغير أمره، فيضمن كما إذا ذبح شاة اشتراها القصاب، وجه الاستحسان أنها تعينت للذبح لتعينها للأضحية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال مالك: لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم، وهكذا روى مسلم عن أحمد لما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «لا يذبح ضحاياكم إلا طاهر» وقال جابر: " لا يذبح النسك إلا مسلم ولنا ما قلنا ".
م: (ولو أمره فذبح جاز؛ لأنه) ش: أي ولو أمر الكتابي فذبح أضحيته جاز؛ لأن الكتابي م: (من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته) ش: أي بإنابة المسلم الكتابي ونية المسلم أيضا بالأضحية، م: (بخلاف ما إذا أمر المجوسي) ش: حيث لا يجوز بلا خلاف.
م: (لأنه ليس من أهل الذكاة. فكان إفسادا) ش: حيث أمر بذبحها من ليس له ملة التوحيد إلا أنه لا يضمن؛ لأن من فعل ذلك بالأمر بخلاف ما لو أمر مسلما فذبح وترك التسمية عمدا فإنه يضمن؛ لأنه خالف أمر الآمر حيث ترك التسمية عمدا.
م: (قال: وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما والضمان عليهما) ش: أي قال القدوري: وليس في النسخ الصحيحة لفظة قال. وإذا كانت المسألة من مسائل القدوري م: (وهذا استحسان) ش: أي الجواز استحسان العلماء م: (وأصل هذا) ش: أي أصل ما ذكر من الحكم م: (أن من ذبح أضحية غيره بغير إذنه، لا يحل له ذلك، وهو ضامن لقيمتها، ولا يجزئه من الأضحية في القياس، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول الثلاثة.
م: (وفي الاستحسان: يجوز) ش: أي عن الأضحية م: (ولا ضمان على الذابح وهو) ش: أي الاستحسان م: (قولنا) ش: أي قول أئمتنا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد م: (وجه القياس: أنه ذبح شاة غيره بغير أمره) ش: وفي بعض النسخ: بغير إذنه م: (فيضمن) ش: لأنه متعد م: (كما إذا ذبح شاة اشتراها القصاب) ش: فإنه يضمن وإن كان القصاب اشتراها للذبح؛ لأنه متعدٍّ حيث فعل بغير أمره وقياسا على ما لو ذبح في غير أيام الأضحية. وقياسا على ما لو قال له لا يذبح.
م: (وجه الاستحسان: أنها) ش: أي الشاة المشتراة للأضحية م: (تعينت للذبح لتعينها للأضحية) ش: إما بنفس الشراء بنية الأضحية بل إذا كان فقيرا، أو بالنذر بعينها، فلا يضمن(12/59)
حتى وجب عليه أن يضحي بها بعينها في أيام النحر، ويكره أن يبدل بها غيرها فصار المالك مستعينا بكل من يكون أهلا للذبح آذنا له دلالة؛ لأنها تفوت بمعنى بهذه الأيام، وعساه يعجز عن إقامتها بعوارض فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها. فإن قيل: يفوته هو أمر مستحب وهو أن يذبحها بنفسه، أو يشهد الذبح فلا يرضى به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قياسا على القصاب إذا شد رجل شاة وقد أضجعها، ثم جاء رجل وذبح فإنه لا يضمن؛ لأنه ذبح شاة عينها المالك للذبح، فكذا هذا، فلما تعينت للذبح شرعا صار الذبح مأذونا فيه عرفا.
والإذن الثابت عرفا كالإذن الثابت بالنطق، بدلالة أن من دعا قوما إلى وليمة فقدم لهم طعاما فإنه يكون آذنا بتناوله ذلك في العرف أما شاة القصاب فإنما وجب ضمانها؛ لأنها لم تتعين للذبح؛ لأنه ربما يبيعها حية وربما يبيعها مسلوخة، والأضحية تعينت للذبح إما بنفس الشراء بنيته للأضحية إذا كان فقيرا كما ذكرنا، أو بالنذر بعينها.
م: (حتى وجب عليه أن يضحي بها بعينها في أيام النحر) ش: لتعينها بعينها م: (ويكره أن يبدل بها غيرها) ش: يعني إذا كان غنيا، وأما في الفقير فلا يجوز الاستبدال ولكن يجوز استبدالها بخير منها عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد، وعند مالك: في المنذورة وغيرها وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف، وأبي الخطاب الحنبلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأنه قد جعلها لله سبحانه وتعالى فلم يملك أن يتصرف فيها بالاستبدال كالوقف.
ولنا ما روي: " «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجته، وقدم علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من اليمن فأشركه فيه» ، رواه مسلم، وهذا نوع من الهبة.
م: (فصار المالك مستعينا بكل ما يكون أهلا للذبح) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فصار مالك الأضحية مستعينا أي طالبا للعتاق من كل من كان أهلا للذبح احترز به عن المجوسي ونحوه.
م: (آذنا له دلالة) ش: أي حال كونه دلالة بكل من كان أهلا للذبح من حيث الدلالة، كما في القصاب إذا أضجعها وشد رجلها كما ذكرنا. وقوله: " آذنا " يجوز أن يقرأ على وزن الفاعل وإن قرئ على وزن المصدر فالتقدير أن يكون باسم الفاعل أيضا فافهم، وعلى الوجهين حال كما ذكرنا.
م: (لأنها تفوت بمعنى بهذه الأيام وعساه) ش: أي عسى المالك. وعسى هنا بمعنى لعل، أي لعله م: (يعجز عن إقامتها بعوارض) ش: أي لأجل عوارض تعرض له م: (فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها) ش: أي صار حكم المسألة في أن الذابح فيها مأذون، دلالة لحكم الرجل الذي ذبح شاة قصاب، كان قد أضجعها وشد رجلها للذبح. وقد ذكرناه.
م: (فإن قيل: يفوته هو أمر مستحب وهو أن يذبحها بنفسه أو يشهد الذبح فلا يرضى به) ش:(12/60)
قلنا: يحصل له مستحبان آخران: صيرورته مضحيا لما عينه، وكونه معجلا به فيرتضيه.
ولعلمائنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من هذا الجنس مسائل استحسانية، وهي: أن من طبخ لحم غيره، أو طحن حنطته، أو رفع جرته فانكسرت، أو حمل على دابته فعطبت. كل ذلك بغير أمر المالك يكون ضامنا. ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون، والحطب تحته. أو جعل الحنطة في الدورق وربط الدابة عليه أو رفع الجرة وأمالها إلى نفسه، أو حمل على دابته فسقط في الطريق. فأوقد هو النار فيه فطبخه، أو ساق الدابة فطحنها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاصل السؤال أن المستحب هو أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، أو يشهد إن لم يحسن ذبحها وكلاهما فوات هاهنا، أما الأول فظاهر، والثاني أنه لو علم به فربما كان لا يرضى به.
م: (قلنا) ش: وفي بعض النسخ. قلت م: (يحصل له مستحبان آخران: صيرورته مضحيا لما عينه) ش: يعني وإن كان لفوته أمران أحدهما مستحب فقد حصل له أمران مستحبان: أحدهما: كونه مضحيا لما عينه والتضحية حتى يكره الإبدال لما ذكرنا م: (وكونه معجلا به فيرتضيه) ش: والآخر: كون المالك معجلا التضحية فيرتضيه بسبب ذلك.
م: (ولعلمائنا من هذا الجنس مسائل استحسانية) ش: يعني استحسنها المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على خلاف القياس م: (وهي: أن من طبخ لحم غيره، أو طحن حنطته، أو رفع جرته فانكسرت، أو حمل على دابته فعطبت) ش: أي هلكت م: (كل ذلك) ش: يعني من طبخ اللحم وطحن الحنطة ورفع الجرة والحمل على الدابة م: (بغير أمر المالك يكون ضامنا) ش: للتعدي على ما يأتي.
م: (ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون) ش: أي وضع القدر على الكانون م: (والحطب تحته) ش: أي وضع الحطب تحت القدر. م: (أو جعل الحنطة في الدورق) ش: بفتح الدال وسكون الواو وفتح الراء في آخره قاف والمراد به هنا شيء في صفته صندوق مطاول يعلق فوق الرحى يوضع فيه الحنطة ينزل منه إلى قطب الرحى ليطحن، وفي " الأصل " هو مكيل التراب قاله في " ديوان الأدب ". وقال ابن دريد: وإنما الدورق الذي يستعمل فأعجمي معرب م: (وربط الدابة عليه) ش: يعني حول الرحى حتى تدور بها.
م: (أو رفع الجرة وأمالها إلى نفسه، أو حمل على دابته فسقط) ش: أي حملها م: (في الطريق) ش: من ظهر الدابة م: (فأوقد هو النار فيه فطبخه) ش: هذا الحديث لف ونشر مرتب. فإن قوله: فأوقد يرجع إلى المسألة الأولى، وهو قوله: ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون والحطب تحته، يعني فأوقد رجل غيره النار في الكانون يطبخ اللحم. م: (أو ساق الدابة فطحنها) ش: يرجع إلى المسألة الثانية وهي قوله: أو جعل الحنطة في(12/61)
أو أعانه على رفع الجرة فانكسرت فيما بينهما، أو حمل على دابته ما سقط فعطبت لا يكون ضامنا في هذه الصورة كلها استحسانا، لوجود الإذن، دلالة. إذا أثبت هذا فنقول في مسألة الكتاب: ذبح كل واحد منهما أضحية غيره بغير إذنه صريحا فهي خلافية زفر بعينها وسيأتي فيها القياس والاستحسان كما ذكرنا، فيأخذ كل واحد منهما مسلوخة نفسه عن صاحبه ولا يضمنه؛ لأنه وكيله فيما فعل دلالة فإن كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزيهما؛ لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز وإن كان غنيا فكذا له أن يتحلله في الانتهاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدورق، وربط الدابة عليه يعني وساق الدابة غيره فطحنها.
م: (أو أعانه على رفع الجرة فانكسرت فيما بينهما) ش: يرجع إلى المسألة الثالثة وهي قوله: أي رفع الجرة وأمالها إلى نفسه معنى أو أعانه رجل غيره على رفع الجرة فانكسرت بينهما أي بين المالك والمعني.
م: (أو حمل على دابته ما سقط فطبت) ش: يرجع إلى المسألة الرابعة وهي قوله حمل على دابته فسقط يعني حمل رجل غيره على دابته ما سقط منها من الحمل الذي حمله إياها مالكه فعطبت الدابة أي هلكت م: (لا يكون ضامنا في هذه الصورة كلها) ش: جواب المسائل المذكورة.
والضمير فيها لا يكون يرجع إلى موقد النار، وسائق الدابة، والحامل باعتبار كل واحد فافهم.
م: (استحسانا) ش: يعني من حيث الاستحسان م: (لوجود الإذن دلالة) ش: والثابت دلالة كالثابت نصا.
م: (إذا أثبت هذا) ش: أي المذكور من الحكم والمذكور من الأصل والمذكور من الاستحسان في المسائل المذكورة.
م: (فنقول في مسألة الكتاب: ذبح كل واحد منهما أضحية غيره بغير إذنه صريحا فهي خلافية زفر بعينها) ش: أي فيهما خلاف بين أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه خالفهم.
م: (وسيأتي فيها القياس والاستحسان كما ذكرنا) ش: فإنه ذكر وجه كل منهما عن قريب م: (فيأخذ كل واحد منهما مسلوخة عن صاحبه) ش: أي إذ كان الأمر كذلك فيأخذ كل من الرجلين المذكورين مسلوخة نفسه عن صاحبه م: (ولا يضمنه) ش: أي ولا يضمن أحدهما الآخر م: (لأنه وكيله فيما فعل دلالة) ش: أي من حيث الدلالة فصار كوكيله نصا.
م: (فإن كانا قد أكلا ثم علما) ش: فإنهما قد ذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه م: (فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزيهما) ش: أي يجزي كل واحد منهما من أضحيته وهذا من مسائل " النوادر " ذكره تفريعا على مسألة القدوري.
م: (لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز وإن كان غنيا فكذا له أن يتحلله في الانتهاء) ش: أي لأن(12/62)
وإن تشاحا فلكل واحد منهما أن يضمن لصاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة؛ لأنها بدل عن اللحم فصار كما لو باع أضحيته، وهذا لأن التضحية لما وقعت عن صاحبها كان اللحم له، ومن أتلف لحم أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه،
ومن غصب شاة فضحى بها ضمن قيمتها، وجاز عن أضحيته؛ لأنه ملكها بسابق الغصب بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها؛ لأنه يضمنه بالذبح، فلم يثبت الملك له إلا بعد الذبح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل واحد منهما لو أطعم صاحبه في ابتداء الأمر من أضحيته في غير صورة الغلط كان يجوز ذلك وإن كان صاحبه غنيا فكذا له ذلك في الانتهاء بأن يحلله؛ لأن حكم الابتداء حكم الانتهاء.
م: (وإن تشاحا) ش: بالحاء المهملة، أي تنازعا وتخاصما ولم يحلل كل منهما صاحبه م: (فلكل واحد منهما أن يضمن لصاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة؛ لأنها) ش: أي لأن القيمة م: (بدل عن اللحم فصار كما لو باع أضحيته) ش: يعني لو باع أضحيته واشترى بثمنها غيرهما فإن كان غيرها أنقص من الأولى يتصدق بما فضل عن الثانية، ولو لم يشتر حتى مضت أيام النحر يتصدق بثمنها م: (وهذا لأن التضحية لما وقعت عن صاحبها كان اللحم له) ش: يعني أن تضحية كل واحد منهما وقعت عن صاحبه لا عن نفسه فكان اللحم لصاحبه أيضا، فلما أكل المضحي ذلك كان متلفا لحم أضحية غيره فيضمن.
م: (ومن أتلف لحم أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه) ش: وهو تضمين قيمة اللحم والتصدق بها.
[غصب شاة فضحى بها]
م: (ومن غصب شاة فضحى بها ضمن قيمتها وجاز عن أضحيته) ش: وقال زفر وأبو يوسف - رحمهما الله - في رواية، والثلاثة: لا يجوز عن أضحيته؛ لأنها وقعت في غير ملكه فصار كعتاق الغاصب ثم ملكه بأداء الضمان حيث لا ينفذ عتقه وأشار إلى دليلنا بقوله: م: (لأنه ملكها بسابق الغصب) ش: أي لأن الغاصب ملك الشاة التي ضحى بها مسندا إلى الغصب السابق فكانت التضحية واردة على ملكه.
وكذا يكفي للتضحية ولكن قبل هذا إذا أدى الضمان في أيام النحر بخلاف الإعتاق فلأنه يستدعي كمال الملك؛ لأن الملك فيه مفوض ولا كذلك الأضحية ولا يقال: الاستناد يظهر في القائم لا في الهالك؛ لأن ذلك بمعزل منافاة الإراقة ليست من المملوك بشيء؛ لأنها ليست بصفة الشاة ليظهر أثره فيه، فإن الملك يثبت في المذبوحة ثم يسند إلى الوقت الغاصب، فيظهر أن الأربعة حاصلة في ملكه كذا في " الفوائد الشاهية ".
م: (بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها) ش: حيث لا تجزيه م: (لأنه يضمنه بالذبح فلم يثبت الملك له إلا بعد الذبح) ش: فيكون غير مالك عند التضحية بوجه ونقل الناطفي في كتاب(12/63)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الأجناس " عن اختلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو غصب شاة فذبحها عن المتعة أو ضحى بها ضمن قيمتها أنه يجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -.
وفي " نوادر ابن رستم " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يجز عن أضحيته وإن عزم القيمة.
وفي " أضاحي الإيلاء ": رواية بشر بن الوليد: لو غصب شاة وذبحها عن الأضحية ثم أدى قيمتها لا يجزيه؛ لأن لصاحب الأضحية أن يأخذها مذبوحة ولا يضمنها قيمتها فهذه الرواية توافق قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلى هنا لفظ " الأجناس "، والله أعلم.(12/64)
كتاب الكراهية قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تكلموا في معنى المكروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الكراهية]
[معنى المكروه]
م: (كتاب الكراهية)
ش: قالت الشراح: أورد الكراهية بعد الأضحية؛ لأن عامة مسائل كل واحد لم يجز من أصل أو فرع يرد فيه الكراهية كما قلنا من كراهية جز الصوف وذبح الكتابي وغيرها.
قلت: قل في كتاب من الكتب السابقة [أن] تخلو من هذا فلم يتحقق بذلك وجه المناسبة، والأولى أن يقال: عامة مسائل الذبائح بالآثار والأخبار، وكذلك عامة مسائل الكراهية بالسنة والآثار. فلذلك ذكرهما متباينين.
ثم عبارات الكتب اختلفت في ترجمة هذا الباب فخصه بلفظ الكراهية في " الجامع الصغير " و " شرح الطحاوي "، وتبعهما المصنف، وبلفظ الحظر والإباحة في القدوري و " الإيضاح " و " التتمة " و " التحفة " وفي " فتاوى قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - والكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ".
وبلفظ الاستحسان في " الشرط " و " المحيط " و " الذخيرة " و " المغني " و " الكافي " للحاكم الشهيد وإنما خصوه بالاستحسان وإن كان القياس ثابتا في مقابلته أن المعمول به جهة الاستحسان. ثم الكراهية على وزن فعالية مصدر، وقولهم كره الشيء يكره كرها وكراهية إذا لم يرده.
قال في " الميزان ": هي ضد المحبة والرضى.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] .
فالمكروه خلاف المندوب والمحبوب لغة، والكراهية ليست بضد الإرادة عندنا، فإن الله سبحانه وتعالى كاره للكفر والمعاصي أي ليس براض بهما ولا يوجب لهما، فإن الكفر والمعاصي بإرادة الله سبحانه وتعالى بمشيئته، وعند المعتزلة ضد الكراهية الإرادة أيضا كما عرف في أصول الكلام.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (تكلموا في معنى المكروه) ش: أي تكلمت العلماء في معنى الكراهية فقيل: ما يكون تركه أولى من تحصيله وقيل: ما يكون الأولى أن لا يفعله.(12/65)
والمروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نصا: أن كل مكروه حرام، إلا أنه لما لم يوجد فيه نص قاطع لم يطلق عليه لفظ الحرام، وعن أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه إلى الحرام أقرب،
وهو يشتمل على فصول منها: فصل في الأكل والشرب، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تكره لحوم الأتن وألبانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نصا: أن كل مكروه حرام، إلا أنه لما لم يوجد فيه نص قاطع لم يطلق عليه لفظ الحرام) ش: الحاصل أنهم اختلفوا في مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من المكروه. فقالوا: كل مكروه حرام، كذلك روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نصا، إلا أن إذا وجد نصا ثبت القول في المنصوص بالتحريم والتحليل وفي غير المنصوص بقوله: في الحل لا بأس وفي الحرمة مكروه.
م: (وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه إلى الحرام أقرب) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه رواية شاذة؛ لأنه ذكر في " المبسوط ": أن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال لأبي حنيفة: إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ قال: التحريم.
وفي " المحيط " لفظ الكراهية عند الإطلاق يراد بها: التحريم.
قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قلت لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قلت في شيء " أكرهه ": فما رأيك فيه؟ قال: التحريم، وفي " الحقائق " قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشبهة إلى الحرام أقرب.
[فصل في الأكل والشرب]
م: (وهو يشتمل على فصول) ش: أي كتاب الكراهية يجتمع على فصول م: (منها) ش: أي من الفصول م: (فصل في الأكل والشرب) ش: أي في بيان أحوال الأكل والشرب م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تكره لحوم الأتن وألبانها) ش: الأتن بضمتين، جمع أتان هي الحمارة وإنما خص الأتن مع كراهة لحم سائر الحمير يستقيم، عطف الألبان عليه إذ اللبن لا يكون إلا من الأتان.
فقال الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبشر المريسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحوم الحمر الأهلية حرام وقد ذكرناه مستقصى في كتاب الذبائح فإذا ثبت حرمة اللحم عندنا ثبت له حكم اللبن؛ لأنه متولد منه.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في شرح " الجامع الصغير ": اتفق أصحابنا على أن الحمار إذا ذبح يطهر لحمه وأنه لا يؤكل، وأما شحمه فلا يؤكل وهل ينتفع به في غير وجه الأكل اختلفت فيه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فقال بعضهم: لا يحل كما لا يحل الأكل، وقال بعضهم بل ذلك جائز.(12/66)
وأبوال الإبل. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - لا بأس بأبوال الإبل. وتأويل قول أبي يوسف: أنه لا بأس بها للتداوي. وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة، والذبائح فلا نعيدها، واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه.
قال: ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب، والفضة للرجال والنساء لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأبوال الإبل) ش: أي يكره أبوال الإبل أيضا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بأس بأبوال الإبل، وتأويل قول أبي يوسف) ش: لأنه ذكر مطلقا في " الجامع الصغير " حيث قال محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال: أكره شرب أبوال الإبل وأكل لحم الفرس، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بأس بذلك كله.
قال المصنف: تأويل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه لا بأس بها للتداوي) ش: لا مطلقا كما هو مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة) ش: في كتاب الطهارات في فصل البئر م: (والذبائح) ش: أي في كتاب الذبائح، وأراد به حكم لحوم الأتن م: (فلا نعيدها) ش: أي من التكرار.
م: (واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه) ش: أي فيما لم يختلف ما هو المقصود من كل واحد منهما، ولا بد من ذلك القيد وإلا يلزم نقضا على هذا الأصل لبن الفرس على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية هذا الكتاب: جعل شرب لبنه حلالا لما أن المقصود من تحريم لحمه تعليل آلة الفن ولا يوجد ذلك في اللبن.
[الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة]
م: (قال: ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء) ش: أي قال القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في " مختصره ": قبل: صورة الادهان المحرم أن يأخذ الإناء ويصب على رأسه، أما إذا أدخل يده فيها وأخذ الدهن ثم صب على رأسه من اليد لا يكره ذلك في " الجامع " و " الذخيرة " و " المحيط ".
وكذا لو دفع الطعام ووضعه على الخبز وأكله لأنه يحل لانقطاعه عن آنية الفضة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
وفي لفظ لمسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من يشرب في إناء ذهب أو فضة» وفي لفظ له: «الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة» .(12/67)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يذكر البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأكل ولا ذكر الذهب، أخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأشربة، ومسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول اللباس.
وأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يحيى بن محمد الجاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر نحوه، وزاد فيه: «آنية الذهب والفضة» أو فيه شيء من ذلك، ويحيى الجاري فيه، فقال: أخرجاه في الطهارة.
وروى البخاري أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «كان حذيفة بالمدائن فاستقى الماء وأتى دهقان بقدح فضة فرمى به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: " هي لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة» ".
وقال الخطابي: أصل الجرجرة هدير الفحل إذا اهتاج ويقال: جرجر الفحل إذا هدر في شقشقته، ومثله جرجرة الرحى. وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته ومعناه يرددها في بطنه.
وقال صاحب " العناية ": و " نار " منصوب على ما هو محفوظ من الثقات.
قلت: روى الزمخشري أيضا بالنصب في تابعه واقتصر عليه وقال: أي يرددها فيه من حرز الفحل إذا ردد الصوت في حنجرته. انتهى. ذلك يجوز فيه الوجهان.
قال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي إعرابه وجهان: أحدهما: إن رفع النار، أي كأنه يصوت في جهة بطنه نار جهنم، والوجه الآخر: أن ينصب النار، أي كأنه يجرع في شربه نار جهنم: كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] انتهى.
قلت: التحقيق في إعراب هذا الحديث الذي قوله: الذي: مبتدأ موصول، وقوله: يشرب من إناء الذهب: صلة، قوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم: خبر المبتدأ، وهي جملة وفيها العائد إلى الاسم للأول، ثم قوله: يجرجر سواء رفعت النار أو نصبت على بناء الفاعل، ولكن معناه في النصب متعدد في الرفع لازم، ونار جهنم في النصب تردد وفي الرفع متردد، والأصل هذا الفعل لازم، ولكن يتعدى في النصب؛ لأنه يكون معنى يتجرع وهو من باب التضمين وفيه يصير اللازم متعديا، فافهم.
وهكذا فسره الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في النصب بقوله: أي يرددها؛ لأنها حينئذ تتضمن جرجر معنى ردد، وردد متعد وإلا فأصله لازم لأنك تقول جرجر الرحى إذا سمع منه(12/68)
وأتي أبو هريرة بشراب في إناء فضة فلم يقبله، وقال: نهانا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا ثبت هذا في الشراب، فكذا في الادهان ونحوه؛ لأنه في معناه، ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين. وقال في " الجامع الصغير ": يكره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صوت فتردد.
م: «وأتي أبو هريرة بشراب في إناء فضة فلم يقبله، وقال: نهانا عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ش: هذا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غير صحيح، وهو في الكتب الستة عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: «استسقى حذيفة فسقاه مجوسي في إناء من فضة فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» أخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأشربة والأطعمة واللباس، ومسلم في الأطعمة، وأبو داود والترمذي في الأشربة، وابن ماجه في الأشربة واللباس، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزينة والوليمة.
م: (وإذا ثبت هذا) ش: أي عدم الجواز م: (في الشراب فكذا في الادهان ونحوه) ش: أي فكذا ثبت عدم الجواز في الادهان ونحوه مثل التداوي يداوي فيه والإسقاط والإنحار والاختتان م: (لأنه في معناه) ش: أي لأن الادهان في معنى الشرب منه؛ لأن كل واحد استعمال للمحرم والمحرم الاستعمال بأي وجه كان.
م: (ولأنه تشبه بزي المشركين) ش: أي ولأن كل من الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة، تشبيه بأفعال المشركين؛ لأنهم لا يستعملون من الأشياء إلا في أواني الذهب والفضة، ولا سيما ملوك الروم والغجر.
م: (وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين) ش: المترف - بضم الميم وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الراء وفي آخره فاء -، وهو المنعم، يقال: أترفه أي نعمه وأترفته النعمة أي أطغته، كذا في " الديوان ".
ومنه قوله سبحانه وتعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] .
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تنعم المترفين أي الطاغين.
قال سبحانه وتعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] والإسراف المجاوزة عن الحد في استعمال الأشياء.
م: (وقال في " الجامع الصغير ": يكره) ش: حيث قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كان يكره الأكل والشرب والادهان في آنية الذهب، وكان لا يرى(12/69)
ومراده التحريم، ويستوي فيه الرجال والنساء لعموم النهي. وكذلك الأكل بملعقة الذهب، والفضة والاكتحال بميل الذهب والفضة، وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا، قال: ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبللور والعقيق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره؛ لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به. قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة،
. قال: ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والركوب في السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة ومعناه: يتقي موضع الفم، وقيل: هذا وموضع اليد في الأخذ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأسا بالإناء المفضض م: (ومراده التحريم) ش: هذا كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله يكره: كراهة التحريم؛ لأنه ثبت بالنص القاطع، م: (ويستوي فيه) ش: هذا كلام المصنف أي في الحكم المذكور م: (الرجال والنساء لعموم النهي) ش: حيث لم يخص طائفة منهم.
م: (وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة) ش: أي لا يجوز م: (والاكتحال) ش: بالرفع أي وكذا لا يجوز الاكتحال م: (بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما) ش: نحو المجمرة والملقط والمسقط، وكذا الركاب واللجام والثغر والكرسي والسرير ونحوهم.
م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: ولأنه تشبه بزي المشركين م: (قال: ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبللور والعقيق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره؛ لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به) ش: أي بكل واحد من هذه الأشياء.
وقال الأقطع في " شرحه ": وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره؛ لأنه في معنى الذهب والفضة من ذلك كأن نافس عينا بجنسه كالبللور.
م: (قلنا: ليس كذلك) ش: أي ليس كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي الشأن م: (ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة) ش: أي من عادة المشركين أو المترفين والأصل في الأشياء الإباحة. قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] .
[الشرب في الإناء المفضض]
م: (قال: ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: والمفضض المرصع وبالفارسية سيم كوفته م: (والركوب في السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة) ش: أي يجتنب موضع الفضة م: (ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتقي موضع الفضة م: (يتقي موضع الفم) ش: عن الشرب من الإناء المفضض م: (وقيل: هذا، وموضع اليد في الأخذ) ش: أي قبله يتقي(12/70)
وفي السرير والسرج موضع الجلوس، وقال أبو يوسف: يكره ذلك. وقول محمد: يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف، وعلى هذا الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما،
وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرأة، أو جعل المصحف مذهبا، أو مفضضا وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موضع الفم وموضع اليد عند الأخذ، فعرفت أن هذا في موضع النصب على المفعولية. وقوله وموضع اليد بالنصب عطف عليه.
م: (وفي السرير والسرج موضع الجلوس) ش: أي ويتقي في السرج والسرير موضع الجلوس.
م: (وقال أبو يوسف: يكره ذلك) ش: وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف) ش: يعني قوله مضطرب.
روى الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مع أبي حنيفة، وروى أبو عامر العامري أنه مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى هذا الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما) ش: أي بالذهب والفضة، يقال: بأن يضبب أي مشدد، وبالضبان جمع ضبة وهي حديد به الفريضة التي يضبب بها ومنه يضبب استناصه بالفضة إذا شدها.
كذا في " المغرب " و " الذخيرة ": الضبة الذهب العريضة أو الفضة العريضة يجعل على وجه الباب وما أشبه ذلك.
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالجلوس على الكرسي المضبب والسرير المضبب إذا لم يقعد على موضع الذهب.
م: (وكذا إذا جعل ذلك) ش: وكذا الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا جعل التضبيب م: (في السيف والمشحذ) ش: أي في المسن. وفي بعض النسخ: والمسجد، والمراد به سقف المسجد م: (وحلقة المرأة) ش: والمراد من الحلقة التي تكون على خوال المرأة لا ما تأخذه المرأة بيدها، فإن ذلك مكروه بالاتفاق م: (أو جعل المصحف مذهبا أو مفضضا) ش: يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الشافعي وأحمد في تحلية المسجد والمصحف بالذهب والفضة: له وجهان، فذكر بعض أصحابه أنه يجوز إعظاما ونصه أنه حرام.
م (وكذا الاختلاف) ش: يعني بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (في اللجام والركاب والثفر) ش: بفتح الثاء المثلثة والفاء وفي آخره راء، وهو الذي يجعل تحت ذنب الدابة م: (إذا كان مفضضا) ش: أي كل واحد منهما.(12/71)
وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا، وهذا الاختلاف فيما يخلص، وأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع. لهما: أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ذلك تابع ولا معتبر بالتوابع فلا يكره كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، ومسمار الذهب في الفص.
قال: ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال: اشتريته من يهودي أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا) ش: أي على الخلاف المذكور، وكذا الخلاف إذا كان في نصل السكين فضة أو قبضة السيف قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أخذ من السكين موضع الفضة يكره وإلا فلا، خلاف لأبي يوسف والثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وهذا الاختلاف فيما يخلص) ش: أي يتميز من الآنية م: (وأما التمويه الذي لا يخلص) ش: بالإذابة فلا يتميز م: (فلا بأس به بالإجماع) ش: أراد بالإجماع اتفاق أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن فيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والتمويه هو التطلية بماء الذهب أو الفضة وهو مصدر موهت السكين إذا طليته.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة) ش: حيث يكره بالإجماع ولعموم النهي أيضا م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن ذلك تابع) ش: أي استعمال ذلك الجزء هو تابع إلى الاستعمال، قصد الجزء الذي يلاقيه العضو وما سواه تبع في الاستعمال م: (ولا معتبر بالتوابع فلا يكره كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، ومسمار الذهب في الفص) ش: فصار كمن شرب من كفه وفي أصبعه خاتم فضة.
وحكي أن هذه المسألة وقعت في دار أبي جعفر الدرانقي بحضرة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأئمة عصره فقالت الأئمة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يكره، فقيل لأبي حنيفة: ما تقول؟ فقال: إن وضع فمه على الفضة يكره وإلا فلا، فقيل له: ما الحجة فيه؟ فقال: رأيت لو كان في الأصبع خاتما من فضة فشرب من كفه لا يكره، فوقف كلهم وتعجب أبو جعفر، كذا في " الجامع المحبوبي ".
وفي " المجتبى " قيل: الجلوس على سرير من ذهب أو فضة يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - ويكره عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختلافهم في الجلوس على الحرير، والصحيح أنه يكره بالاتفاق. وفي " العيون ": قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس بأن يكون في بيته شيء من الديباج لا يقعد عليه ولا ينام، وأواني الذهب للتجمل لا يشرب فيها.
[أرسل أجيرا له فاشترى لحما فقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم]
م: (قال: ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال: اشتريته من يهودي، أو(12/72)
نصراني أو مسلم وسعه أكله؛ لأن قول الكافر مقبول في المعاملات؛ لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد في حرمة الكذب، والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات. قال: وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه، معناه: إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصراني أو مسلم وسعه أكله) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": وفي بعض النسخ: وسعه أكله. م: (لأن قول الكافر مقبول في المعاملات) ش: لأجل الضرورة، فإن المعاملات يكثر وقوعها بين الناس ولا يوجد في كل خبر عدل يرجع إليه.
م: (لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات قال: وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه) ش: أي غير ما قال: اشتريته من يهودي أو نصراني بأن قال: اشتريته من مجوسي فلم يسعه الأكل حينئذ أشار إلى هذا المعنى بقوله م: (معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان غير ذلك م: (إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله) ش: أي قول الأجير المجوسي م: (في الحل أولى أن يقبل في الحرمة) ش: لوجوب الاحتياط في باب الحرمة.
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني إذا قال العبد أو الصبي: أن هذا الشيء هدية أهداها مولاي أو أبي إليك، أو قال: أنا مأذون في التجارة يعتمد على قوله في " الجامع الصغير " أي روى محمد في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا جاءت أمة رجل إلى رجل وقالت: بعثني مولاي إليك بهدية، قال: يسعه أن يأخذها. انتهى.
وأصله أن خبر الواحد حجة في المعاملات لإجماع المسلمين على ذلك بالكتاب والسنة.
فإن الله تعالى جعل خبر الواحد حجة في كتابه. قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وقال الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] .
وقد توارثنا السنة عن الصحابة والتابعين بذلك، وقال أبو نصر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح القدوري ": وهو الذي ذكره استحسانا والقياس أن لا يقبل لما لم يكن لهما قول صحيح، وإنما تركوا القياس للعادة الجارية، أنهم ليقبلون قولهما في الهدية والإذن في سائر الأعصار من غير نكير، فإنهم لو اعتبروا في ذلك خبر الحر البالغ لشق على الناس فجوزوا ذلك وقد قالوا: يجب أن يعمل على ذلك بغلبة الظن في جواز من السامع في صفات المخبر فإذا رأى العبد يبيع شيئا حتى يسأل عنه، فإذا ذكر أن مولاه أذن له في ذلك، وكان ثقة فلا بأس بشرائه منه، وكذا إن(12/73)
لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في السوق، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج. وفي " الجامع الصغير ": إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها لما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: هذا أهداه إلي مولاي فإن كان أكبر رأيه أنه كاذب أو لم يكن له رأي لم يتعرض لشيء منه؛ لأن الأصل أنه محجور عليه وهو الإذن صار فلا يجوز إثباته بالشك.
وإنما قلنا: قول العبد إذا كان ثقة في الإذن؛ لأنه من أخبار المعاملات وهو أضعف من أخبار الديانات.
فإذا قيل: قوله في أخبار الدين ففي أخبار المعاملات أولى. وقد قالوا في رجل في يده شيء أخبر أنه لغيره وأنه وكله ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه فإن كان مسلما ثقة صدق فيما قال: إن كان أكبر رأيه أنه صادق، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يصدق، وهذا إذا لم يعلم الملك لغير البائع إلا من جهة؛ لأن الناس في سائر الأعصار يقبلون قول الوكلاء والدلالين من غير نكير. وعلى هذا إذا علم أن الشيء لغير البائع له من جهة، اعتبر في جوازه غلبة الظن.
وقد قالوا فيمن باع شيئا ولم يخبر أن ذلك لغيره فلا بأس بأن يشتري منه ويقبل قوله أنه له وإن كان غير ثقة إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك الشيء وأوجب إلى أن يسترده منه ولا يتعرض بشراء أو لا غيره وإنما جاز الشراء؛ لأن اليد والتصرف دليل الملك إلا أن يعلم غيره، ولأن الناس يشترون في سائر الأعصار من الثقات وغير الثقات من غير نكير فدل على جوازه.
وأما إذا كان مثل ذلك الرجل لا يملك ذلك كالفقير يبيع جواهر قيمة وما أشبه ذلك فإن الظاهر ينفي أن يكون مثل ذلك له ولم يدع وقاله من جهة الغير، فيرجع إلى قوله، فكان الأولى الثمرة في ذلك.
م: (لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم) ش: أي العبد والجارية والصبي م: (استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض) ش: أراد به السفر م: (والمبايعة في السوق فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج) ش: وهو مدفوع شرعا م: (وفي " الجامع الصغير " إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها) ش: أي وبإهداء المولى نفسها م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج، وقيل: أشار به إلى قوله: لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وأتى برواية " الجامع الصغير " لأن الهدية فيها نفس الجارية.(12/74)
قال: ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ويقبل في المعاملات قول الفاسق ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يقبل إلا القول العدل في المعاملات مثل البيع والشراء والشهادات ونحوها.
والديانات: جمع ديانة وهي التي يتدين بها العبد من العبادات ونحوها، ومن صورها أن يخبر رجل مسلم ثقة بنجاسة الماء فإنه لا يجوز له أن يتوضأ به، وإن كان غير ثقة وغلب على ظنه صدقه فالأولى أن يتنزه وإن توضأ به جاز.
ومنها رجل تزوج امرأة فأخبرهما ثقة أن بينهما رضاعة فالأولى أن يفارقها؛ لأن شهادة الواحد لا تثبت بها الرضاعة ولكن يلزمه التنزه.
كذا في " شرح الأقطع "، والحاصل إنما يحصل الخبر فيه حجة أربعة أقسام: أحدها: أحكام الشرع التي هي فروع الدين وهي نوعان: عبادات فخبر الواحد العدل فيها صحة مع اشتراط الضبط والعقل والعقوبات. فقد روي في " الأمالي " عن أبي يوسف أن خبر الواحد فيها حجة أيضا وهو اختيار الجصاص - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون حجة.
والقسم الثاني: حقوق العباد الذي فيها إلزام محض ويشترك فيها أهل المال فلا يثبت بخبر الواحد بل يشترط فيها العدد والعدالة والأهلية وتعيين لفظة الشهادة.
فمن القسم الأول: الشهادة على رؤية الهلال كرمضان إذا كان بالسماء علة.
ومن القسم الثاني: في الشهادة على هلال الفطر لأن فيه حق العباد ولأن فيه منفعة لهم، ومن ذلك الإخبار بحرمة الرضاع في ذلك النكاح أو ملك اليمين؛ لأنه يبتنى على زوال الملك أي ملك المنفعة بخلاف طهارة الماء ونجاسته، وحل الطعام والشراب وحرمته فإنه من القسم الأول فإن الحل لا يبتنى ثمة على زوال الملك ضرورة.
والقسم الثالث: حقوق العباد الذي ليس فيه إلزام كالوكالة للمضاربات والإذن للعبد والشراء من الوكلاء والملاك، فخبر الواحد فيها حجة إذا كان مميزا عدلا كان أو غير عدل صبيا كان أو بالغا، كافرا أو مسلما.
والقسم الرابع من حقوق العباد: ما فيه إلزام من وجه دون وجه، كعزل الوكيل وحجر العبد المأذون، وفيه إلزام؛ لأنه يلزم العهدة على الوكيل بعد العزل، ويلزم فساد العقد بعد الحجر، وفيه عدم الإلزام أيضا؛ لأن الموكل أو المولى فيصرف في حقه، فصار كالإذن.(12/75)
ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد فيها عدلا كان أو فاسقا، كافرا كان أو مسلما، عبدا كان أو حرا، ذكرا كان أو أنثى، دفعا للحرج، أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات، فجاز أن يشترط فيها زيادة شرط فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم بخلاف المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة، ولا يتهيأ به المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها، فكان فيه ضرورة فيقبل، ولا يقبل فيها قول المستور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشترط في هذا القسم أحد شطري الشهادة، إما العدد أو العدالة خلافا لهما حتى إذا أخبر واحد فضولي فاسق أن مولاه حجر عليه، أو موكله عزله، ثبت الحجر والعزل عندهما خلافا لأبي حنيفة.
م: (ووجه الفرق) ش: بين الفصلين أحدهما بقوله: قول الفاسق في المعاملات. والآخر اشتراط العدالة في الديانات. م: (أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس) ش: في المسلم الصالح والمسلم الفاسق والذمي والمستأمن والذكر والأنثى والحر والعبد م: (فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج) ش: والحرج مدفوع الشرط الزائد اشتراط العدالة فقبل فحينئذ م: (فيقبل قول الواحد فيها) ش: أي في المعاملات م: (عدلا كان أو فاسقا، كافرا كان أو مسلما، عبدا كان أو حرا، ذكرا كان أو أنثى، دفعا للحرج) ش: أي قيل ذلك لأجل الدفع للحرج، فباعتبار العدالة فيه حرج عظيم، ألا ترى أن في سائر الأعصار يقبلون أقوال الدلالين والمنادين والسماسرة، ويرجعون إلى أقوالهم وإن كانت السلعة لغيرهم.
م: (أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات) ش: أي قدر وقوع المعاملات، أراد أن الديانات بالنسبة إلى المعاملات قليلة م: (فجاز أن يشترط فيها) ش: أي في الديانات م: (زيادة شرط) ش: وهي العدالة م: (فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم) ش: لأن في قبول قوله إلزام المسلم فلا يجوز. م: (بخلاف المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا) ش: أي لا يمكنه الإقامة في دار الإسلام سواء كان ذميا أو حربيا م: (إلا بالمعاملة) ش: لأن المعاش لا يكون إلا بها.
م: (ولا يتهيأ له المعاملة) ش: أي ولا يتيسر للكافر المعاملة م: (إلا بعد قبول قوله فيها) ش: أي في المعاملة م: (فكان فيه ضرورة فيقبل) ش: أي فوجد في قبول قوله ضرورة. وضرورة مرفوع؛ لأنه اسم كان، وهي تامة فلا يحتاج إلى خبر م: (ولا يقبل فيها قول المستور) ش: أي في الديانات وهو الذي لا يعلم ما حاله ولم يظهر عدالته ولا فسقه.(12/76)
في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يقبل قوله فيها جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به، وفي ظاهر الرواية: هو والفاسق سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي. قال: ويقبل فيها قول العبد والحر، والأمة، إذا كانوا عدولا؛ لأن عند العدالة الصدق راجح، والقبول لرجحانه فمن المعاملات ما ذكرناه ومنها التوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل قوله فيها) ش: أي قول المستور في الديانات م: (جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به) ش: أي لأجل الجري على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز القضاء بقول المستور.
وقال شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - السرخسي في " أصوله ": وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة أنه بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة له ظاهرا بالحديث المروي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «المسلمون عدول بعضهم على بعض» .
ولهذا جوز أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القضاء بشهادة المستور فيما ثبت بالشبهات إذا لم يطعن الخصم. قال: ولكن ما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا فإن الفسق غالب في أهل هذا الزمان فلا تعتمد رواية المستور ما لم يبين عدالته، كما لا تعتمد شهادته في القضاء قبل أن يظهر عدالته.
م: (وفي ظاهر الرواية: هو والفاسق سواء حتى يعتبر فيهما) ش: أي في المستور والفاسق: م: (أكبر الرأي) ش: فإن كان غالب الرأي صدقهما يقبل قولهما وإلا فلا، مثلا إذا أخبر بنجاسة الماء يحكم فيه بأكبر الرأي.
م: (قال: ويقبل فيها قول الحر والعبد والأمة إذا كانوا عدولا) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليس في النسخ الصحيحة لفظة قال، أي يقبل في الديانات قول العبد إلى آخره م: (لأن عند العدالة الصدق راجح) ش: الصدق منصوب؛ لأنه اسم إن فافهم.
م: (والقبول لرجحانه) ش: أي قبول قول واحد من المذكورين لكونه مرجحا بالعدالة.
م: (فمن المعاملات ما ذكرناه) ش: أراد به الهدية والإذن م: (ومنها) ش: أي ومن المعاملات م: (التوكيل) ش: بأن قال وكلني فلان فإنه يقبل قوله وإذا كان مميزا سواء كان عدلا أو غير عدل صبيا كان أو بالغا، كافرا كان أو مسلما كما ذكرناه.(12/77)
ومن الديانات: الإخبار بنجاسة الماء، حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم، ولو كان المخبر فاسقا أو مستورا تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط. ومع العدالة يسقط احتمال الكذب، فلا معنى للاحتياط بالإراقة، أما التحري فمجرد ظن ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري، وهذا جواب الحكم، فأما في الاحتياط يتيمم بعد الوضوء لما قلنا، ومنها: الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الإخبار بنجاسة الماء]
م: (ومن الديانات: الإخبار بنجاسة الماء، حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم) ش: أي لم يتوضأ بذلك الماء بل يتيمم لوجود العمل بأخباره في باب الدين م: (ولو كان المخبر) ش: بنجاسة الماء م: (فاسقا أو مستورا تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به) ش: لأن غلبة الظن دليل شرعي م: (وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط) ش: أي أفضل وأشد للاحتياط؛ لأنه إذا تيمم في الصورة المذكورة وكان المخبر في نفس الأمر كاذبا، يكون متيمما مع وجود الماء، فإذا أراقه كان عادما للماء فيكون تيممه على الوجه المشروع.
م: (ومع العدالة يسقط احتمال الكذب فلا معنى للاحتياط بالإراقة) ش: لأن الأمر الذي ذكرناه ينعدم عند العدالة فلأجل هذا لا تبقى فائدة في الاحتياط بإراقة الماء.
م: (أما التحري فمجرد ظن ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري) ش: لأن للخبر جانبان جانب الصدق وجانب الكذب، وقد يترجح جانب الكذب بتحري المخبر له.
فإن قلت: ينبغي أن يتيمم أيضا للاحتياط وللتعارض بين خبر الفاسق والتحري كما في سؤر الحمار يجمع بينهما لتعارض الأدلة.
قلت: النص حكم بالتوقف في خبر الفاسق والأمر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان خلاف النص، ولما بقي التوقف في خبره بقي أصل الطهارة فلا حاجة إلى ضم التيمم.
م: (وهذا جواب الحكم) ش: أي المذكور من قولنا: يتوضأ به ولا يتيمم جواب الحكم.
م: (فأما في الاحتياط يتيمم بعد الوضوء لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: أما التحري فمجرد ظن.
فإن قلت: لم يترجح أحد الوجهين؟
قلت: قيل: الأصل الطهارة.
م: (ومنها) ش: أي ومن الديانات م: (الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك) ش: يعني(12/78)
وفيها تفاصيل وتفريعات ذكرناها في " كفاية المنتهى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقبل في الحل والحرمة خبر الواحد إذا لم يكن فيه زوال الملك كما إذا قال: هذا الطعام أو هذا الشراب حلال أو حرام، فإذا تضمن زوال الملك لا يقبل إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، كما إذا أخبر امرأة أو رجل عدل أن الزوجين ارتضعا من امرأة واحدة لا تثبت الحرمة؛ لأن ثبوتها زوال ملك المتعة، فيشترط العدد والعدالة جميعا، فإذا كان كذلك فلا يجب التفريق ولا يقبل خبرها إلا على قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يقبل خبر المرضعة فقط.
وفي " فتاوى قاضي خان " و " الكافي ": والأفضل أن يتنزه؛ لأن شهادة الواحد حجة في التنزيه، فشهادة رجل عدل بالطلاق البائن أو الثلاث فالحاكم يحول بينهما.
وإن كان لا يقتضي زوال الملك كذلك هنا.
فإن قلت: قد تقدم من قوله؛ لأنه لما قيل له: إن قول المجوسي في الحل والحرمة يقبل وهو يدل على أن العدالة في الخبر بالحل والحرمة غير شرط فكان كلامه متناقضا.
قلت: ذاك كان ضامنا وكم من شيء ثبت ضمنا لا يثبت قصدا، فلا يتناقض؛ لأن المراد هنا ما كان قصديا.
م: (وفيها) ش: أي وفي " أخبار الديانات " وغيرها م: (تفاصيل) ش: يعني في كل مسألة منها تفصيلا في البيان م: (وتفريعات) ش: للمسائل مثل مسألة أن الماء نجس، ومثل مسألة أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي ومثل مسألة رؤية الهلال في رمضان أو الفطر ومثل مسألة أن الزوجين ارتضعا من واحدة ونحو ذلك.
م: (ذكرناها في " كفاية المنتهى ") ش: أي ذكرنا تلك التفاصيل والتفريعات في الكتاب الموسوم " بكفاية المنتهى ".
ومن جملة التفريعات: ما لو اشترى مسلم لحما فأخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي يكره له بيعه وأكله؛ لأنه أخبره بحرمة العين وهو خبر ديني فتمت الحجة بخبر الواحد، وتبقى العين مملوكة متقومة؛ لأن نقض الملك لا يجوز بخبر الواحد وحرمة الأكل تنفصل عن زوال الملك كالدهن النجس.
وكالمباح له الطعام إذ نهي من أكله يحرم عليه الأكل بدون زوال الملك فهذا الاعتبار يوجب الحرمة لكن الحل في هذا العين ثبت بسببه الملك لا بسبب الإباحة كما في النكاح. فإذا اجتمع ما يوجب الحل وما يوجب الحرمة أثبتنا أمرا بين أمرين وهو الكراهة، بخلاف النكاح فإذا أثبتنا فيه(12/79)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التنزه لا غير لما قلنا أن الحرمة لا تنفصل عن زوال الملك.
وفي " المحيط ": رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون ويشربون فدعوه إليهم، فقال مسلم قد عرفه ثقة: هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب خالطه خمر، فقال الذي دعاه: ليس الأمر كما قال بل هو حلال، فإنه ينظر في حالهم، فإن كانوا عدولا، لا يلتفت إلى قول المخبر بالحرمة؛ لأن خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة، فإن خبر الواحد حجة في الديانات والأحكام، وخبر الواحد ليس بحجة في الأحكام، ولأن الظاهر من حال المسلمين التحرز عن ذبيحة المجوسي وعن مخالطة خمر، فيكون خبر الواحد في معارضة خبرهم خبرا مستنكرا فلا يقبل، وإن كانوا متهمين فإنه يؤخذ بقول المخبر ولا يسعه التناول؛ لأن خبر الواحد باعتبار حاله مستقيم صالح، ولا معتبر بخبرهم في حكم العمل به لفسقهم.
وإن كان في القوم رجلان ثقتان أخذ بقولهم؛ لأن خبر الواحد لا يعارض خبرهم، فإن كان فيهم واحد ثقة يعمل فيه بأكثر رأيه، فإن لم يكن له رأي واستوت الحالات عنه فلا بأس بأن يأكل ويشرب ويتوضأ.
فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان أخذ بقولهما لاستواء الحر والعبد في الخبر الديني.
ولو أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة وبالآخر ثقة عمل فيه بأكثر الرأي للمعارضة بين الحر والعبد فيصار إلى الترجيح بأكبر الرأي.
وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان يأخذ بقول الحرين؛ لأن الحجة تتم بقولهما دون المملوكين فعند التعارض بترجح قول الحرين. وإن أخبره بأحد الأمرين ثلاثة عبيد ثقات وبالأمر الآخر مملوكان ثقتان يأخذ بقول العبيد.
وكذلك إن أخبره بأحد الأمرين رجل وامرأتان وبالآخر رجلان يأخذ بقول رجل وامرأتان.
والحاصل في جنس هذه المسائل: أن خبر المملوك والحر في الأمر الديني على السواء بعد الاستواء في العدالة، فيطلب الترجيح أولى من حيث العدد، وإن استوى العدد أن يطلب الترجيح لكونه حجة في الأحكام في الجملة، فإذا استويا، طلب الترجيح من حيث التحري، فعلى هذا إذا كان المخبر بأحد الأمرين من أربعة من الأحرار، وبالأمر الآخر حرين يؤخذ بقول الأربعة انتهى.
ومن التفاصيل ما ذكره الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكافي ": إذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء وأخبره رجل أنه قذر وهو عند مسلم مرضي لم يتوضأ به،(12/80)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك إذا كان المخبر عبدا أو امرأة حرة أو أمة.
فإن كان المخبر غير ثقة أو كان لا يدري أنه ثقة أو غير ثقة نظر فيه، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولم يتوضأ به، وإن كان عنده غير صادق توضأ ولم يلتفت إلى قوله وأجزأه ذلك ولا يتيمم.
ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حين ورد حياض ماء المدينة فقال عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرجل من أهل الماء: أخبرنا عن السباع أتردكم هذا؟ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لا تخبرنا عن شيء نكره أن يخبر، ولولا أنه عد خبره خبرا ما نهى، فإن كان الذي أخبره بنجاسته رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله، وإذا وقع في قلبه أنه صادق فأحب إلي أن تهريق الماء ثم يتيمم ويصلي فإن توضأ به وصلى أجزأه؛ لأن هذا شيء من الدين ولا يلزم به الحجة فيه إلا بمسلم.
وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان.
ومنها: رجل تزوج امرأة فجاء مسلم ثقة فأخبرهما أنهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلي أن تنزه منها فطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وأحب إلي أن لها أن لا يأخذ منه صداقا وإن تنزه منه إن كان لم يدخل بها وإن أقاما على نكاحهما لم يحرم ذلك عليهما.
ومنها رجل اشترى جارية فأخبره عدل ثقة أنها حرة لأبوين أو أنها أخته من الرضاعة فإن تنزه عن وطئها فهذا أفضل وإن لم يفعل ذلك واسع له.
وإنما فارق هذا ما قاله في الوضوء والطعام؛ لأن جميع ذلك يحل بغير ملك. ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك.
ولو قال: جاريتي هذه فقد أذنت لك فيها، أو قال له تلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء حتى يتزوج الحرة أو يملك الأمة.
ومنها: اشترى رجل طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد أن هذا الفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأوجب إلينا أن يتنزه عن أكله وشربه ووطئ الجارية، وإن لم يتنزه كان في سعة.
وكذلك طعام أو شراب في يد رجل أذن له في أكله وشربه، وقال له مسلم ثقة هذا غصب في يديه من فلان والذي في يديه يكذبه ويزعم أنه له وهو متهم غير ثقة، فأحب إلينا أن يتنزه(12/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه فإن أكله أو شربه أو توضأ به كان في سعة، وإن لم يجد وضوء غيره وهو في سفر توضأ ولم يتيمم.
ومنها: أن رجلا مسلما شهد عند رجل أن هذه الجارية التي في يد فلان المقر له بالرق أمة لفلان غصبها، والذي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون فأحب إلي أن يشتريها، وإن اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك؛ لأن هذا أخبر في موضع المنازعة فوجب الإجشان منه ديانة لا قضاء، ولو أخبره أنها حرة الأصل، وإنها كانت أمة لهذا الذي في يديه فأعتقها، والذي أخبره بذلك مسلم ثقة فأحب إلي أن لا يفعل.
وإن كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر فأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها الأولى أن يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه إلى ملك وهذا الذي في يده بشراء أو هبة أو صدقة أو يعلم أنه قد وكله بيعها، وإن قال الذي هو في يديه: إني قد اشتريتها منه أو وهبها أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها، فإن كان القائل لذلك عدلا فلا بأس أن يصدقه على ذلك ويشتريها منه.
وكذلك إن وهبها له أو تصدق بها عليه حل له قبولها أو وطئها وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه فيه أنه صادق، فكذلك أيضا، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يقع له أن يتعرض لشيء من ذلك.
1 -
وكذلك الطعام والشراب في جميع ذلك، وكذلك لو لم يعلم أن ذلك الشيء لغير الذي هو في يده حتى أخبره الذي هو في يديه أنه لغيره، وإن وكله ببيعه أو تصدق به عليه أو وهبه أو اشتراه.
فإن كان مسلما ثقة صدقه فيما قاله وإن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق فيه صدقه أيضا، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب فيه لم يقبل ذلك ولم يشتره. وإن كان لم يخبره أن ذلك الشيء لفلان فلا بأس بشرائه وقبوله منه. وإن كان غير ثقة إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك فأوجب له أن يشتريه منه ولا يتعرض له بشراء ولا غيره، وإن اشترى وهو لا يعلم أنه لغيره أو أخبره أنه له وجوز أن يكون في سعة من شرائه وقبوله التنزه عنه أفضل.
فإن كان الذي أتى به عبدا أو امرأة لم يسع له أن يشتريه ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك، فإن ذكر له أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأذون فلا بأس بشرائه منه وقبوله، وإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قاله صدقه بقوله، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتعرض لشيء من ذلك، وإن كان لا رأي له فيه لم يتعرض لشيء من ذلك.(12/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو مملوكا فيه بحر أنه أذن له ببيعه أو أن فلانا أرسل إليه معه هدية أو صدقة فإن أكبر رأيه أنه صادق، وسعه أن يصدقه عن مولاه، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ أن يقبل منه شيئا.
وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة يصدقه من مولاه.
ولو أن رجلا علم أنها جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يدي آخر يبيعها ويزعم أنها كانت في يدي فلان وذلك كان يدعيها أنها له وكانت مقرة له بالرق غير أنها كانت لي وإنما أمرتها بذلك لأمر خصته وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه.
وإن كان عنده كاذب فيما قال لم يبلغ له أن يشتريها منه ولا يقبلها ولو لم يقل هذا، ولكنه قال: ظلمني وغصبني فأخذها لم تسع له أن يتعرض له بشراء ولا قبول؛ لأنه خبره متى وقع في موضع المنازعة كان دعوى، والعدالة غير مرعية في باب الدعوى والخصومات.
وإن قال: إنه كان غصبني وظلمني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلي فإن كان عنده أنه ثقة مأمون فلا بأس بتصديقه؛ لأنه أخبر عن انقطاع المنازعة، وإن قال: خاصمته إلى القاضي فقضى لي بها ببينة أقمتها عليه أو ينكر له عن اليمين، فكذلك إن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يشترها منه.
وكذلك في جميع هذه الوجوه إن قال: قضى لي القاضي عليه فأخذها منه ودفعها إلي، أو قال: قضى لي بها فأخذها من منزله أو بغير إذنه؛ لأنه أخبر عن انقطاع المنازعة، وإن كان قضى لي بها فجحد في قضائه فأخذها منه لم يسع له أن يشتريها منه؛ لأنه أخبر عن قيام المنازعة وإنما هذا بمنزلة قوله اشتريتها منه ونقدته ثمنها ثم أخذتها بغير أمره من منزله فهذا لا بأس بشرائها منه إذا كان عنده أنه صادق في قوله.
وإن قال: اشتريتها منه ونقدته الثمن فجحد في الشراء وأخذتها من منزله بغير إذنه لم يسع له أن يشتريها منه، ولو قال: اشتريتها من فلان وقبضتها بأمره ونقدته الثمن وكان ثقة عنده بأمرها جاز الشراء منه.
ولو قال له رجل آخر: إن فلانا قد جحد هذا الشراء وزعم أنه لم يبع بهذا شيئا والذي قال هذا أيضا ثقة مأمون لم يبلغ له أن يتعرض لشيء من ذلك بشراء ولا بغيره.
وكذلك إن كان الذي أخبره الخبر الثاني غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه صادق، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب، وإن كان غير ثقة فلا بأس بشرائها منه وقبولها.(12/83)
قال: ومن دعي إلى وليمة أو طعام، فوجد ثمة لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ابتليت بهذا مرة فصبرت، وهذا لأن إجابة الدعوة سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كان جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشيء من ذلك؛ لأن هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس ولو لم يعلم في هذا إلا بشاهدين لضاق الأمر على الناس.
ألا ترى أن تاجرا لو قدم بلدا بجواز أو طعام أو ثياب فقال: أنا مضارب فلان أو قال: أنا شريكه، وسع للناس أن يشتروا منه ذلك، وكذلك العبد يقدم على بلد للتجارة ويدعي أن مولاه أذن له في التجارة.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك سمعت أبا حنيفة يقول في المأذون، وهذه الجملة كلها من " الكافي " للحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[يدعى إلى الوليمة والطعام فيجد ثمة اللعب والغناء]
م: (قال: ومن دعي إلى وليمة) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والوليمة طعام الزفاف م: (أو طعام) ش: هذا أمر في عطف العام على الخاص؛ لأن الطعام أعم من أن يكون وليمة أو غيرها. والوليمة خاص وهو طعام العرس كما ذكرنا.
والوكرة طعام البناء، والحرس طعام الولادة وما يطعمه النفساء بعينها حرسه. والأعزاز طعام الختان، والبعيصة طعام القادم من سفره وعلى كل طعام صنع له دعواه حاربة وماربة جميعا، والدعوة الخاصة البقري والعامة الجعلي والأجيلي.
م: (فوجد ثمة) ش: أي هناك م: (لعبا أو غناء) ش: بكسر الغين المعجمة وبالمد يثبت بالألف، والغني بالكسر، والفضل ضد الفقر يثبت بالياء، ومنه قول ابن زيد في المقصور والممدود ورأي الغني يدعو المغني للملاهي والغناء م: (فلا بأس بأن يقعد ويأكل وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت بهذا مرة فصبرت) .
ش: وروي في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يدعى إلى الوليمة والطعام فيجد ثمة اللعب والغناء قال: لا بأس بأن يقعد فيأكل منها.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ابتليت بهذا مرة إلى آخره، وهذه من الخواص، وذلك لأن الطعام حلال وإجابة الدعوة سنة والحرام غير ذلك، فلا تترك السنة لأجل حرام اقترن بها وهو في غيرها على ما يجيء الآن.
م: (وهذا) ش: أي جواز القعود هناك والأكل فيه م: (لأن إجابة الدعوة سنة) ش: سواء كانت وليمة أو غيرها، وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله - في رواية، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إجابة وليمة العرس واجبة وغيرها مستحبة، وبقه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية:(12/84)
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم غير الوليمة من الدعوات فالإجابة إليها مستحبة عندنا والشافعي. وعند أحمد ومالك: جائزة غير مستحبة، وأما دعوة يقصد بها قصدا مذموما من التطاول وابتغاء المحمدة والشكر وما أشبه ذلك فليس ينبغي إجابتها، لاسيما أهل العلم؛ لأن في الإجابة إذلال أنفسهم قبل وما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذل له.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم، بأثم منه ولكن لفظه: «من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» . أخرجه في (كتاب النكاح) عن ثابت بن عياض عن الأعرج - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شر الطعام طعام الوليمة؛ يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» . هكذا رواه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرفوعا، ورواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه موقوفا من حديث ابن شهاب عن الأعرج - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: «شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» أخرجه البخاري وابن ماجه - رحمهما الله - في " كتاب النكاح " وأبو داود في الأطعمة، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الوليمة، ولكنه موقوف في حكم المرفوع.
حديث آخر رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأطعمة: حدثنا مسدد بن مسرهد عن درست بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا» . وأبان بن طارق: قال أبو زرعة: هو شيخ مجهول، وقال ابن عدي: لا يعرف إلا بهذا الحديث ولا الحديث إلا به.
ودرست بن زياد أيضا لا يحتج بحديثه، وقيل: هو درست بن حمزة، وقيل: بل هما اثنان ضعيفان. قاله المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لكن رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده ": حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد الله بن عمر عن نافع - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجبها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» .(12/85)
فلا يتركها لما اقترنت به من البدعة من غيره كصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة، فإن قدر على المنع منعهم وإن لم يقدر يصبر، وهذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين. والمحكي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي له أن يقعد وإن لم يكن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يتركها) ش: أي إجابة الدعوة م: (لما اقترنت به من البدعة من غيره) ش: كان حق الترتيب أن يقول: لما اقترن بها من البدعة من غيرها، المعنى: أنه لا يترك السنة لأجل حرام اقترن بها وهو في غيرها. والضمير في اقترنت يرجع إلى الدعوة والذي في به وغيرها يرجع إلى ما في قوله وكله من بيانته.
م: (كصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة) ش: فلا يترك لأجل النياحة التي في غيرها، لا يقال قياس السنة على الواجب وهو غير مستقيم فإنه لا يلزم من يحمل المحظور لإقامة الواجب يحمل المحظور لإقامة السنة؛ لأننا نقول: هذه سنة في قوة الواجب لورود الوعيد على تاركها كما ذكرنا في الأحاديث المذكورة، ويجوز أن يقال: وجه التشبيه اقتران العبادة بالبدعة مع قطع النظر على صفة تلك العبادة.
م: (فإن قدر على المنع منعهم) ش: بأن كان صاحب شوكة أو ذا جاه أو عالما مقتدى مسموع الكلمة فإنه يجب عليه منعهم؛ لأن إزالة المنكر واجبة م: (وإن لم يقدر يصبر) ش: أي وإن لم يقدر على منعهم فإن كان ضعيف الحال غير مسموع الكلمة يصير ولا يخرج لما قلنا م: (وهذا) ش: أي الصبر م: (إذا لم يكن مقتدى به) ش: لأنه لأبويه له م: (فإن كان مقتدى) ش: أي فإن كان مقتدى م: (ولم يقدر على منعهم) ش: بسبب استيلاء المظلمة على المجلس م: (يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين) ش: أي قبحا للدين م: (وفتح باب المعصية على المسلمين) ش: لأن الناس ينعقدون به ويجلسون مجالس اللعب والغناء والفسق، فإذا منعوا يحتجون بحضور المقتدى، ففيه مفسدة عظيمة م (والمحكي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به) ش: هذا جواب عما يقال: إنكم قلتم: إنه إذا كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج.
وقد ذكر في الكتاب - أي في " الجامع الصغير ": أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتلي بمرة وصبر ولم يخرج ذلك الجواب أن ذلك قبل أن يصير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقتدى فإنه في ذلك الوقت ما كان يقتدى به فلا يصير حجة.
م: (ولو كان ذلك) ش: أي اللعب والغناء م: (على المائدة لا ينبغي له أن يقعد وإن لم يكن(12/86)
مقتدى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] . وهذا كله بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة بخلاف ما إذا هجم عليه؛ لأنه قد لزمه ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقتدى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] ش: لأنه إذا كان على المائدة وقعد يكون قاعدا مع الظالمين، وكذا إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد؛ لأن الغيبة أشد من اللهو. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغيبة أشد من الزنا» .
م: (وهذا كله بعد الحضور) ش: أي هذا الذي ذكرناه كله إذا كان بعد الحضور والدخول في المنزل م: (ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة) ش: لأن إجابتها إنما تلزم إذا كانت على وجه السنة وسواء كان مقتدى أو لا، وبه قالت الثلاثة.
وعن أبي حفص الكبير: إن كان مما لا يحترم ولا يترك المعصية لأجله فترك الإجابة أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كثر سواد قوم فمنهم» . وإن كان محترما ويتركون المعصية لأجله يحضر.
م: (بخلاف ما إذا هجم عليه) ش: أي بغتة غير عالم بذلك حين دعي إلى الوليمة م: (لأنه قد لزمه) ش: بحضوره فتعذر فيه لعدم علمه م: (ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام) ش: لأن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق اسم اللعب والغناء بقوله: فوجد ثمة اللعب والغناء، واللعب وهو اللهو حرام بالنص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: تأديبه فرسه، وفي رواية ملاعبته فرسه، ورميه عن قوسه، وملاعبته مع أهله» .
وهذا الذي ذكرناه ليس من هذه الثلاثة فيكون باطلا. م: (حتى التغني بضرب القضيب) ش:(12/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال تاج الشريعة: عنى به قصب الحارس، أراد أن التحريم لا يختص بالمزامير، وإن الضرب بالقصب والتغني مع ذلك حرام أيضا.
قلت: أهل الحجاز ومصر يضربون بالقصب كثيرا، وأما أهل الحجاز فإنهم يأخذون قصبتين طويلتين طول كل واحدة قدر باع في غلظ إبهام فحين يضربون بعضها ببعض ويغنون به ولا يحسن كل واحد منهم أن يفعل ذلك؛ لأنه يحتاج في ذلك إلى معرفة مواقع الضرب بعضهما ببعض مع علمه بالأصول.
وعند أهل الروم نوع من ذلك ولكن بغير هذه الصفة، وهو أنهم يأخذون أربع قطع خشبات بطول قدر شبر في غلظ أصبعين، وهي منحوتة مصقولة، فيأخذ المغني منهم من الرجال والنساء كل قضيب في يد ويحركها ويضرب بعضها ببعض بأصول، ويسمى بالفارسية جهارباره "، والكل حرام بالنص.
ثم قال بعض المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: دلت المسألة على أن مجرد الغناء والاستماع إليه معصية، لما روى صدر الشهيد في الكراهية في كتاب " الواقعات " عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها من الكفر» . وإنما قال ذلك على وجه التشديد.
وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صوت اللهو والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت النبات بالماء.
وروي في " فردوس الأخبار " عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: " احذروا الغناء، فإنه من قبل إبليس، وهو شرك عند الله، ولا يغني إلا الشيطان " فلهذا قال مشائخنا: استماع القرآن بالألحان معصية، والتالي والسامع آثمان.
وقال بعضهم: إذا كان يغني بشد نظم القوافي، أو يدفع الوحشة عن نفسه فلا بأس به.
وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمكروه إذا كان على سبيل اللهو، بحديث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان من صغار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وكان يغني في مرضه وكان لا يفعل ذلك تلهيا ولكن يدفع الوسواس عن نفسه.(12/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع ذلك مكروه عند علمائنا؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] جاء في التفسير: أن المراد به الغناء.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان ينشد الأشعار المباحة وهي التي فيها الموعظة والحكمة ولا بأس بإنشاد هذه الأشعار، ولو كان في الشعر صفة امرأة إن كانت بعينها وهي حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره، وإن كانت غير معينة لا يكره.
كذا في " الذخيرة "، وفي " فتاوى قاضي خان " و " جامع المحبوبي ": وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: قراءة القرآن بالألحان حرام، وفصل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في ذلك فقال: إن كان الألحان لا يغير الحروف عن موضعها ونظمها جاز، وإن كانت تغير لا يجوز، وكذا قال مشائخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأنه يباح السماع ولكن ترد شهادة القوال والرقاص.
وفي " التتمة ": ومن السحت ما يأخذ الشاعر على الشعر والضحك للناس أو السخرية منهم ويحدث بمغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، لا سيما بأحاديث العجم مثل الرستم وأسفنديار، وما تأخذه المغنية والنائحة والكاهنة، والواشمة، والواشرة، والمقامر، والمتوسط لعقد النكاح، والقواد، والمصلح بين المتشاحنين، وثمن الخمر والمسكر، وعسب التيس، وثمن جلود الميتات قبل الذبائح، ومهر البغي، وأجر الحجام بشرط. والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جوز أجر الحجام، ولكن قال الآبي: وإن ينزه وأصحاب جميع المحارف ولا يعلم فيه خلاف.
وفي " الأجناس " قال في كتاب الكراهية: لما سألت أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الدف أنكره في غير العرس، مثل المرأة في منزلها والصبي. قال: فلا أكرهه وأنا الذي يحسب منه اللعب الفاحش والغناء فإني أكرهه، ولو بنى الرجل بامرأته ينبغي أن يولم، والوليمة حسنة، ويدعو الجيران والأصدقاء، ويصنع لهم طعاما ويذبح لهم، ولا بأس أن يكون ليلة العرس دف يضرب به يشتهر ذلك ويعلن به النكاح، وينبغي للرجل أن يجيب، وإن لم يفعل فهو آثم، وإن كان صائما أجاب ودعا، وإن كان غير صائم أكل، ولا بأس يدعو يومئذ ومن الغد وبعد الغد ثم انقطع العرس.
وفيه أيضا نقل عن كتاب الكراهية - إملاء -: كره للرجل أن يدع دعوة جاره وقريبه إذا كانت عندهم العيدان والمزامير، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أحبه إلى أن لا يجيبهم وليس لهؤلاء حرمة الدعوة.(12/89)
وكذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ابتليت؛ لأن الابتلاء بالمحرم يكون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: وإن كان ذلك في جانب المنزل وأنت في جانب؟ قال: أحب إلي أن لا يجيبهم.
م: (وكذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت) ش: هذا معطوف على قوله: ودلت المسألة. وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابتليت على أن الملاهي كلها حرام م: (لأن الابتلاء بالمحرم يكون) ش: يعني في المباح لا يقول ابتليته. والله أعلم.(12/90)
فصل في اللبس قال: لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في اللبس]
[لبس الحرير للرجال]
م: (فصل في اللبس)
ش: هذا فصل في بيان أحكام اللبس.
م: (قال: لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء) ش: قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": الحرير هو الإبريسم المصنوع يسمى الثوب المتخذ منه حريرا. وفي " جمع التفاريق ": الحرير ما كان مضمنا.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» ش: هنا حديثان: فالأول: أخرجه الجماعة عن حذيفة وعن البراء بن عازب. فحديث حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» . وقد تقدم قريبا.
وحديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع ونهانا عن سبع " وفيه: " وعن الديباج والحرير» .
والثاني: أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - عن نافع عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رأى حلة سيراء على باب المسجد فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ".
ثم جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها حلل فأعطى منها حلة لعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت ما قلت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني لم أكسكها لتلبسها " فكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخا له مشركا» انتهى.
وهذا الأخ كان أخا لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أمه، صرح بذلك في الحديث عند " النسائي " قال: فكساها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخا له من أمه مشركا قيل: إن اسمه عثمان بن حكيم، فأما أخوه زيد بن الخطاب فإنه أسلم قبل عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.(12/91)
وإنما حل للنساء بحديث آخر، وهو ما رواه عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، منهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خرج وبإحدى يديه حرير، وبالأخرى ذهب، وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم ". ويروى " حل لإناثهم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه في الجمعة واللباس قوله: " ولا الديباج " أي ولا تلبسوا الديباج وهو اسم الثوب سداه ولحمته إبريسم، وقيل حرير غليظ.
قوله: " من لا خلاق له " أي من لا نصيب له.
قوله: " في صحفها " جمع صحفة وهي القصعة.
قوله: " حلة سيراء " بكسر السين المهملة وفتح الياء آخر الحروف والراء المخففة وبالمد، وهي التي تكون فيها خطوط. فهذه الأحاديث بعمومها تدل على حرمة لبس الحرير للرجال والنساء جميعا ولكن رخص للنساء بأحاديث أخر على ما يأتي.
وقال بعض الناس: يحل للرجال القباء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وعليه قباء من حرير، وفي حديث مخرمة: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليلة وعليه قباء ديباج مزود بذهب فقال: " يا مخرمة هذا خبأته لك " فأعطاه إياه» . وأخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار ".
قلنا: هذا منسوخ بما ذكرنا.
م: (وإنما حل للنساء بحديث آخر) ش: أي وإنما حل لبس الحرير للنساء م: (وهو ما رواه عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي الحديث الآخر ما رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، يدل على أن لبسه حلال للنساء فتكون الأحاديث المذكورة مخصوصة على ما يأتي.
وقال بعضهم: حرام للنساء أيضا لعموم النهي. وللعامة أحاديث عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (منهم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب وقال: هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم» ويروى «حل لإناثهم» .)(12/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه في اللباس، والنسائي في الزينة، وأحمد في " مسنده ".
وابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه " عن عبد الله بن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله فقال: " إن هذين حرام على ذكور أمتي» .
زاد ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «حل لإناثهم» .
واعلم أن حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا له وجهان: أحدهما: من جهة الليث، فاختلف عليه فيه، فرواه قتيبة عنه عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي أفلح الهمداني، عن عبد الله بن زرير أنه سمع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هكذا أخرجه أبو داود والنسائي - رحمهما الله -، ورواه ابن المبارك عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن أبي الصعبة، عن رجل من همدان يقال له: أبو أفلح عن أبي زرير، هكذا أخرجه النسائي وقال: حديث ابن المبارك أولى بالصواب إلا قوله: عن " أفلح " فإن أبا أفلح أولى بالصواب.
الوجه الثاني من جهة أبي إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد العزيز بن أبي الصعبة عن أبي أفلح الهمداني، ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن هارون ومن جهته أخرجه النسائي وعبد الرحيم بن سليمان، ومن جهته أخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال عن أبي الأفلح بالتعريف.
وذكر عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكامه ": هذا الحديث من جهة النسائي، ونقل عن ابن المديني أنه قال فيه: حديث حسن ورجاله معروفون، وقال ابن القطان في كتابه: أبو أفلح مجهول، وعبد الله بن زرير مجهول الحال. وقال الشيخ في " الإمام ": وعبد الله بن زرير ذكره ابن سعد في " الطبقات " ووثقه وقال: توفي سنة إحدى وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان.
ومن الصحابة الذين رووا حل الحرير للنساء: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع وعقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه البزار في " مسنده " وقال: حدثنا داود بن سليمان أبو سليمان المؤدب قال: حدثنا عمرو بن جرير، عن إسماعيل بن خالد(12/93)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، عن قيس بن أبي حازم، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عليهم وفي إحدى يديه حرير وفي الأخرى ذهب فقال: " هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» . وهذا الحديث لا نعلم رواه غير إسماعيل عن قيس عن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن عمرو بن جرير لين الحديث وقد احتمل حديثه. وقد روي هذا الكلام عن غير عمر ولا يعلم فيما روي عن ذلك حديثا ثابتا عند أهل النقل.
وأما حديث أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه الترمذي والنسائي عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم» .
قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن أبي شيبة في " مصنفه "، وقال ابن حبان في " صحيحه ": خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح.
وقال الدارقطني في كتاب " العلل ": وقد رواه أسامة بن زيد عن سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل عن أبي موسى - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ورواه عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن رجل عن أبي موسى قال: وهذا أشبه بالصواب؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى المقبري عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووهم في موضعين: في قوله: سعيد المقبري وإنما هو سعيد بن أبي هند، ورواه سويد بن عبد العزيز، عن عبيد الله عن سعيد بن أبي هند - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي تركه نافعا من الإسناد.
وأما حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، وابن أبي شيبة في " مصنفه "، والطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي إحدى يديه ثوب من حرير وفي الأخرى ذهب فقال: «إن هذين محرم على ذكور أمتي حل لإناثهم» .(12/94)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فأخرجه البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا إبراهيم بن زياد الصائع، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بنحوه سواء. ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن إسماعيل بن مسلم به.
وأما حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، ثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، أخبرنا بن أرقم: أخبرتني أنيسة بنت زيد عن أبيها قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب والحرير حل لإناث أمتي، حرام على ذكورها» .
وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه "، حدثنا إسماعيل بن قيراط، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، حدثتني أسماء بنت واثلة، عن أبيها: بنحو حديث زيد بن أرقم سواء.
وأما حديث عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه أبو سعيد بن يونس في " تاريخ مصر "، حدثنا أحمد بن حماد زغبة حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني الحسن بن ثوبان وعمرو بن الحارث، عن هشام بن أبي رقية، سمعت مسلمة بن مخلد - رَحِمَهُ اللَّهُ - سمعت عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بلفظ حديث زيد بن أرقم. انتهى.
ولما روى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وقال: في الباب عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعقبة بن عامر، وأم هانئ، وأنس وحذيفة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر، وابن ريحانة، وابن عمر، والبراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انتهى.
فالجميع يكون سبعة عشر صحابيا وقد ذكرنا أحاديث ثمانية وهم: علي بن أبي طالب،(12/95)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعمر بن الخطاب، وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع، وعقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وبقي منهم تسعة أنفس وهم: أنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن الزبير، وجابر بن عبد الله، وأبو ريحانة، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وأم هانئ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وبعض الناس كره للنساء أيضا؛ لما حدث الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي بكرة، عن أبي داود عن شعبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الله - قال: أخبرني أبو ديسان قال: سمعت ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يخطب، يقول: يا أيها الناس لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» ، قال ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من لا يلبسه في الآخرة لا يدخل الجنة، ومراده: أن الجواب منه الرجال دون النساء، وليس المراد منه العموم بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حل لإناثهم» .
فإن قلت: المحرم مع النسخ إذا اجتمعا يجعل المحرم متأخرا كيلا يلزم النسخ مرتين، وهنا لو تأخر قوله: " هذان حرامان " الحديث يلزمه النسخ مرتين في حق الإناث، فجعل قوله " حل لإناثهم " مقدما.
قلت: في قوله " إنما يلبسه " يحتمل أن يكون بيانا؛ لقوله: " حرامان على ذكور أمتي "؛ لأن هذا وعيد لا بيان حكم فيحمل عليه تعليلا للنسخ ".
ولأن قوله: " هذان " الحديث نص لبيان التفرقة في حق الحل والحرمة للذكور والإناث.
وقوله: " إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة " لبيان الوعيد في حق من لبس الحرير، فكانا كالظاهر، والنصح راجح على المظاهر، أو نقول: الدليل على أن يقتضي الحل للإناث متأخر، وهو استعمال الإناث من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير وهذا آية قاطعة على تأخره وتكرار النسخ إذا كان بدليل غير ممتنع.
فإن قلت: وقع التعارض بين قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذان حرامان " الحديث وبين نهيه عن لبس الحرير والديباج فلم تركتم العام بالخاص.
قلت: لما تعارضا وجعل التاريخ جعل كأنهما وردا معا. وإذا جعلا تعارضان يجعله الخاص بيانا للعام ولا يثبت العام في قدر ما يتناوله العام كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .(12/96)
قال: إلا أن القليل عفو، وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة كالأعلام والمكفوف بالحرير لما روي أنه " - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة، أو أربعة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذان حرامان " إشارة إلى حرمتين، فمن أين العموم؟.
قلت: المراد الجنس ولئن كان شخصا فغيره ملحق به بالدلالة.
[العلم في عرض الثوب]
م: (قال: إلا أن القليل عفو) ش: هذا استثناء من قوله: «لا يحل للرجال لبس الحرير» م: (وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة) ش: أي مقدار العفو ثلاثة أصابع أو أربعة أصابع، وفي الغنية عمامة طرفها قدر أربع أصابع أبريسم من أصابع عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فاللبس لسريد مرخص، وقال تاج الشريعة أخو حسام الدين الشهيد: المعتبر قدر أربع أصابع على هاهنا كما هي لا أصابع السلف، وقال الكرماني: أربع أصابع منشورة.
وقال الكرابيسي: هذا أولى. وقال الحلواني وأبو حامد - رحمهما الله -: لا يجمع.
وقال تاج الشريعة: مضمومة لا منشورة، وقال الأسبيجابي: في الغابرة كذلك، وقال محمد: لا يمنع في القلنسوة؛ لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رخص في العلم في عرض الثوب، وقال صاحب " المجتبى ": وهذا يدل على أن القليل في طوله يكره، وقال محمد في " السير الكبير ": العلم عفو أي مقدار كان.
م: (كالأعلام والمكفوف بالحرير) ش: والأعلام جمع علم الثوب، ويقال: ثوب مكفوف كف جيبه وأطراف كمه توشي من الديباج، م: (لما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن قتادة عن الشعبي، عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خطب بالجابية فقال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع» .
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يرفعه عن الشعبي غير قتادة، وهو مدلس، فأصله بلغه عنه. وقد رواه بيان، وداود بن أبي هند، وابن أبي السفر، عن الشعبي عن سويد بن غفلة، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله: ورواه النسائي موقوفا.(12/97)
أراد الأعلام، وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "
«أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير» . قال: ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أراد الأعلام) ش: أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: إلا موضعين أصبعين أو ثلاث أو أربع الأعلام. والدليل عليه ما أخرجه الجماعة إلا الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: عن ابن عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير إلا هكذا وأشار بأصبعيه التي تليان الإبهام» . قال أبو عثمان فيما علمنا يعني: الأعلام، وزاد أبو داود وابن ماجه فيه إلا هكذا وهكذا أصبعين أو ثلاثة أو أربعة.
م: (وعنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: «أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمر عن مولى بنت أبي بكر قال: قالت: رأيت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في السوق وقد اشترى ثوبا شاميا فرأى فيه خيطا أحمر فرده فأتيت أسماء فذكرت ذلك لها فقالت: يا جارية ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخرجت لي جبة طاليسة كسروانية بها لبنة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج فقالت: كانت هذه عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - حتى قبضت، فلما قبضت أخذتها، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى فيستشفى بها.
ورواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولفظه فأخرجت لي جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج.
ورواه البخاري في كتابه " الأدب المفرد " ولفظه ": أخرجت لي أسماء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج وأن فرجاها مكفوفان به، فقالت هذه جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبسها للوفد وللجمعة.
قوله: " جبة طيالسة " والدليل عليه الرواية الأخرى.
وقوله: كسروانية " نسبة إلى كسرى وزيدت فيه النون على غير القياس.
قوله لها " لبسه " بضم اللام - ومن " الصحيح ": اللبسة حرمان القميص، وفي " العباب ": جريان القميص بالضم والتشديد، وهو فارسي معرب، وهو بالفارسية كسريون.
[توسد الحرير والنوم عليه]
م: (قال: ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: ولا بأس بتوسد الحرير، وهو أن يتخذه وسادة، أي مخدة، يقال: توسدت الشيء إذا جعلته تحت رأسك، والنوم عليه، إذا جعله فراشا ينام عليه أو يقعد.(12/98)
وقالا: يكره وفي " الجامع الصغير ": ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ. وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب لهما: العمومات، ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا: يكره) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: يكره ذلك ويستوي فيه الرجل والمرأة بخلاف اللبس ذكره في " الخلاصة ".
وقالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأكثر أهل العلم: حرام للرجال دون النساء.
م: (وفي " الجامع الصغير " ذكر قول محمد وحده ولم يذكر قول أبي يوسف) ش: وصورته في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة: أنه لا يكره ذلك كله، ولم يذكر فيه قول أبي يوسف كما ترى وهو من الخواص.
م: (وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ) ش: ذكره الكرخي في " مختصره " قول أبي يوسف مع محمد - رحمهما الله - وتبعه القدوري على ذلك، وكذا ذكره أبو عاصم القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذكره الفقيه أبو الليث قول أبي يوسف مع أبي حنيفة - رحمهما الله - في " شرح الجامع الصغير " م: (وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب) ش: يعني لا بأس به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد.
م: (العمومات) ش: أي عمومات الأحاديث التي مر ذكرها في تحريم الحرير؛ لأنها تشمل اللبس والتوسد والافتراش جميعا م: (ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام) ش: أي ولأن كل واحد من التوسد والنوم عليه من زينة الأكاسرة، وهو جمع كسرى بفتح الكاف وكسرها، وهو اسم كل من ملك فارس من العجم والجبابرة جمع جبار وهو المنكسر. والتشبه بهم حرام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تشبه بقوم فهو منهم» .(12/99)
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إياكم وزي الأعاجم، وله ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جلس على مرفقة حرير» . وقد كان على بساط عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفقة حرير؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إياكم وزي الأعاجم) .
هذا الأثر رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: أخبرنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: " أما بعد فتدثروا وارتدوا فتعلوا وارموا بالخفاف واقطعوا السراويلات وعليكم بلبس أبيكم، وإياكم والتعمم وزي العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتعددوا وأحسوا شنوا وأحلوا لغوا وارموا الأغراض وامشوا ما بينهما وانزوا الخيل على الخيل، وإن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهانا عن الحرير إلا هكذا " وضم أصبعه السبابة والوسطى» .
وأخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شعب الإيمان " عن الحاكم بسنده عن الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو النصري، حدثنا شعبة بن سواد، وأخرجه مسلم في " صحيحه " بلفظ: «وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير» انتهى.
ولو استدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - منها بحديث حذيفة لكان أولى، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن أبي ليلى عن أبي حذيفة قال: «نهانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل، وعن لبس الحرير والديباج وأن يجلس عليه» ، وهو من آداب البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولم أجد الحميدي ذكره، وذكره عبد الحق " في الجمع بين الصحيحين ". وهذا صريح في تحريم الجلوس عليه، فإذا كان الجلوس عليه حراما فالتوسد مثله.
قوله " معددا ": أي تشهد بعد الفسق والخصومة.
قوله: " أحسوا شنوا ": أحسوا من الشيء إذا أسدن حسوسه، وهو صيغة المبالغة.
وقوله: " وأحلوا لغوا ": من أحلولة الرسم إذا استوى بالأرض.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " جلس على مرفقة حرير ") ش: هذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلا ولا ذكره أحد من أرباب النقل لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف.
والمرافقة، بكسر الميم، وسادة الاتكاء.
حديث حذيفة الذي ذكرناه حديث صحيح يروي هذا.
م: (وقد كان على بساط عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفقة حرير) ش: هذا أخرجه(12/100)
ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام، فكذا القليل من اللبس والاستعمال، والجامع كونه نموذجا على ما عرف.
قال: ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا سعد عن راشد مولى بني عامر قال: رأيت على فراش ابن عباس مرفقة من حرير.
أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا نسر بن أبي المقدام عن موزث بني زاودعة قال: دخل على عبد الله بن عباس وهو متكئ على مرفقة حرير وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عند رجليه وهو يقول له: انظر كيف يحدث عني فإنك حفظت عني كثيرا.
م: (ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام، فكذا القليل من اللبس والاستعمال) ش: وهو التوسيد والافتراش؛ لأنه ليس باستعمال كامل م: (والجامع كونه نموذجا على ما عرف) ش: أي الجامع بين القيل من اللبس والقليل من الملبوس كونه نموذجا يريد به أن المستعمل يعلم بهذا المقدار وما وعد له في الآخرة منه ليرغب في تحصيل سبب توصله إليه، والنموذج بفتح النون معرب نموده، وكذا الأنموذج بفتح الهمزة، وفي العباب النموذج مثال الشيء الذي يعلم عليه وبغير الهمزة وهو الصواب.
فإن قيل: الجلوس على كرسي الفضة لا يحل ولا يحل افتراشه أيضا في الأصح وقد حل القليل منه وهو لبس الخاتم.
قلنا: ما أطلقنا القليل إلا ليكون أنموذجا، فإذا انقلب مقصودا يكون حراما كالخمر، وهذا لأن الحرير لباس أهل الجنة قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ، فوجب إطلاق القليل منه، وهو العلم، والقليل من لبسه وهو الافتراش، ليكون أنموذجا إلى ذلك الكثير الكامل.
فأما الفضة فلا يكون لباسا في الدار الآخرة. وإنما يكون منها الكراسي ونحوها. فلو أطلقها لصار عينها مطلقا، وعين الشيء لا يصلح أنموذجا.
وفي " الحقائق ": وأكثر مشائخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أخذوا بقولهما؛ لأن مآله للتخير، ونقل فخر الإسلام عن " نوادر هشام " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: أكره ما يكره الديباج والإبريسم.
وفي " الفتاوى الصغرى ": ولا بأس سكة الحرير عند أبي حنيفة.
[لبس الحرير والديباج في الحرب]
م: (قال: ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما) ش: أي قال القدوري: وقد مر(12/101)
لما روى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رخص في لبس الحرير، والديباج في الحرب» . ولأن فيه ضرورة، فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح وأهيب في عين العدو لبريقه، قال: ويكره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا فصل فيما رويناه. والضرورة اندفعت بالمخلوط وهو الذي لحمته حرير، وسداه غير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير الحرير والديباج، قوله: عندهما، أي عند أبي يوسف ومحمد م: «لما روى الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب ") » ش: هذا لم يثبت عن الشعبي واسمه عامر بن شراحبيل، وهو من التابعين الكبار، ونسبه إلى شعب جبل باليمن ذو شعبي وكان مولده بست سنين مضت من خلافة عثمان ومات سنة خمس ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة. لكن روى ابن عدي في " الكامل " من حديث بقية عن عيسى بن إبراهيم بن طهمان الهاشمي، عن موسى بن حبيب، عن الحكم بن عمير، وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لباس الحرير عند القتال» .
وأعله عبد الحق في " أحكامه " بعيسى هذا، وقال: إنه ضعيف عندهم. بل متروك.
وقال ابن القطان في كتابه: وبقية لا يحتج به وعيسى ضعيف وموسى بن أبي حبيب ضعيف أيضا، وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عبد الرحمن بن عوف، أخبرنا القاسم بن مالك المزني عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: " كان المسلمون يلبسون الحرير في الحرب ".
م: (ولأن فيه ضرورة) ش: أي في لبس الحرير في الحرب م: (فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح) ش: أي شدته وقيل المعرة المار الأدي مفعله من العرر وهو الحرب أو من عره إذا ألطخه بالمعرة وهو السرقين وهو بضم العين المهملة وتشديد الواو.
وفي " العباب " المعرة والعرا البعر والسرحين وسلخ الطير. م: (وأهيب في عين العدو لبريقه) ش: ولمعانه، وبقولهما قال ابن الماجشون المالكي. ورخص ابن القاسم المالكي الأعلام منه في أرض العدو.
م: (قال: ويكره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا فصل فيما رويناه) ش: أراد به قوله: هذان حرامان على ذكور أمتي يعني أنه عام ولم يفصل بين الحرب وغيره.
م: (والضرورة اندفعت بالمخلوط وهو الذي لحمته حرر وسداه غير ذلك) ش: فلا حاجة إلى(12/102)
والمحظور لا يستباح إلا بالضرورة. وما رواه محمول على المخلوط.
قال: ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يلبسون الخز، والخز مسدى بالحرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المصير إلى الحرير الخالص والمخلوط، وإن كان حريرا في الحكم فيه شبه العزل فكان دون الحرير الخالص، والضرورة اندفعت بالأدنى فلا يصار إلى الأعلى.
والبريق يكون بظاهره واللحمة يكون على الظاهر وبه تندفع معرة السلاح م: (والمحظور لا يستباح إلا بالضرورة) ش: أي الحرام لا يباح إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا لأنها تندفع بالمخلوط كما ذكرنا.
م: (وما رواه محمول على المخلوط) ش: هذا جواب عما روياه من حديث الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وإنما حمل على المخلوط توفيقا بين الدليلين هذا الذي ما فيه الشراح ولكن الجواب عنه أنه غير صحيح ولا ثابت أصلا نعم يجاب بما ذكروا من حديث الحكم بن عمير وأثر الحسن عن تقدير صحتهما، وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال أكثر أهل العلم.
[ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز لبسه في الحرب وغيره]
م: (قال: ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والخز - بفتح الخاء وتشديد الزاي المعجمتين - وهو صوف حيوان من الماء.
وقال تاج الشريعة: الخز ثوب سداه حرير ولحمته شعر حيوان يكون في الماء.
وقيل: الخز مسديا بالحرير كما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وهذا الحكم لا خلاف فيه لأحد من الأئمة م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يلبسون الخز، والخز مسدى بالحرير) ش: فيه آثار منها ما رواه البخاري في كتابه " الأدب المفرد " في القراءة خلف الإمام: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن زرارة قال: رأيت عمران بن الحصين يلبس الخز، ومنها ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ". حدثنا إسماعيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ابن علية عن يحيى بن أبي إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت على أنس بن مالك مطرف خز. ورواه عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري، قال: رأيت على أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جبة خز وكساء خز وأنا أطوف بالبيت مع سعيد بن جبير.
ومن طريق عبد الرزاق رواه البيهقي في " شعب الإيمان "، ومنها ما رواه ابن أبي شيبة أيضا: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت حسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وعليه كساء خز.(12/103)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه البزار في " معجمه " حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمامي، حدثنا المطلب بن زياد - عن السدي - قال: رأيت الحسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وعليه عمامة خز وقد أخرج شعره من تحت العامة.
ومنها: ما أخرجه الحاكم في " مستدركه " عن سفيان عن عمرو بن دينار سمع صفوان بن عبد الله بن صفوان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: استأذن سعد على ابن عامر وتحته مرافق من حرير فأمر بها فرفعت، فدخل سعد وعليه مطرف خز فقال له ابن عامر: استأذنت علي وتحتي مرافق من حرير فأمرت به فرفعت فقال له: نعم الرجل أنت يا ابن عامر. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يخرجاه.
ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبد الله بن عمر العمري، أخبرني وهب بن كيسان قال: رأيت ستة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبسون الخز: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وأنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
ومنها: ما أخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الشعب " عن عبد السلام بن حرب، عن مالك بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يلبس الخز، وقال: إنما يكره المصمت من الحرير.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا أبو داود الطيالسي عن عمران القطان، أخبرني عمار قال: رأيت على أبي قتادة مطرف خز، ورأيت على أبي هريرة مطرف خز، ورأيت على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما لا أحصي.
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا: حدثنا علي بن مسهر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الشيباني، ورأيت على عبيد بن أبي أوفى مطرف خز، ورواه ابن سعد في " الطبقات ": أخبرنا عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمامي عن أبي سعد البقال قال: رأيت عبد الله بن أبي أوفى وعليه برنس خز.
ومنها: ما أخرجه بن أبي شيبة أيضا، حدثنا وكيع عن عيينة بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه قال: كان لأبي بكرة مطرف خز سداه حرير فكان يلبسه، ورواه ابن سعد في " الطبقات "، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه.
ومنها: ما أخرجه الطبراني في " معجمه "، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا زيد(12/104)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أحزم، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن يونس عن عمار بن أبي عمار قال: رأيت زيد بن ثابت وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأبا هريرة، وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يلبسون مطارف الخز، ذكره في ترجمة أبي قتادة واسمه الحارث بن ربعي.
ومنها: ما أخرجه البيهقي في " الشعب " عن عبد الله بن محمد بن أسماء قال: حدثني جويرية بن أسماء عن نافع أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان ربما يلبس المطرف الخز ثمنه خمسمائة درهم.
ومنها: ما أخرجه إسحاق بن راهوية في " مسنده " أخبرنا الفضل بن موسى، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، قال: رأيت السائب بن يزيد وهو ابن أربع وسبعين سنة وكان جدلا معتدلا، وكان عليه كساء خز وجبة خز وقطيفة خز ملتحفا بها.
ومنها: ما أخرجه إسحاق أيضا. أخبرنا العقل بن دكين الملائي، حدثنا قطر بن خليفة مولى عمرو بن حريث قال: رأيت على عمرو بن حريث - رَحِمَهُ اللَّهُ - مطرف خز.
ومنها: ما أخرجه النسائي في كتاب " الكنى "، أخبرنا أحمد بن علي بن سعيد، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا محمد بن يزيد، أخبرنا أبو بلج جارية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت أنا رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه مطرف خز.
ومنها: ما أخرجه ابن سعد في " الطبقات "، أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت البناني: أن عائذ بن عمرو كان يلبس الخز.
ومنها: ما أخرجه الطبراني في كتاب " مسند الشاميين "، حدثنا يحيى بن عبد الباقي، حدثنا إدريس بن أبي الرباب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا رديح بن عطية، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة قال: رأيت أبا أبي بن أم حرام، وأخبرني أنه صلى إلى القبلتين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه كساء خز، وابن أم حرام اسمه: عبد الله وهو ابن امرأة عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
أخبرنا الواقدي ومنها: خبر رواه فيه أيضا، حدثنا موسى بن عيسى بن المنذر - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا أبي، حدثنا بقية عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: أدركت رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقال له: الأفطس؛ فرأيت عليه ثوب خز.
ومنها: ما أخرجه ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. أخبرنا الواقدي، حدثنا ابن أبي سبرة عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى حدثني الأعرج عن محمد بن ربيعة بن الحارث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت على عثمان بن عفان - رضي الله(12/105)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى عنه - مطرف خز ثمنه مائتي درهم.
ومنها: ما أخرجه أبو داود وفي " سننه " من حديث عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه قال: رأيت رجلا ببخارى على بغلة بيضاء عليه عمامة خز سوداء وقال: كسانيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكره عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أحكامه " من جهة أبي داود وسكت عنه. وتعقبه ابن القطان فقال: وعبد الله بن سعد وأبوه والرجل الذي ادعى الصحبة كلهم لا يعرفون، أما سعد ولد عبد الله: فلا يعرف روى عنه غير ابنه عبد الله هذا الحديث الواحد.
وأما ابنه عبد الله: فقال روى عنه جماعة وله ابن يقال له عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي مروزي، صدوق، وله ابن اسمه أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو شيخ لأبي داود، يروى عنه هذا الحديث. الأحاديث المرفوعة: أخرجه أبو داود في " سننه " عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير، وسدا الثوب فلا بأس به» ، وخصيف بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضعفه غير واحد.
فإن قلت: أخرج أبو داود أيضا في " سننه " عن عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير» ، وذكر كلاما، قال: «يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» .
وذكره البخاري في " صحيحه " تعليقا فقال: في " كتاب الأشربة ": وقال هشام بن عمار - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حدثنا صدقة بن خالد عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس عن عبد الرحمن بن غنم به.
قيل: ورواه البرقاني والإسماعيلي في " صحيحيهما المخرجين على الصحيح " بهذا الإسناد.(12/106)
ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدى.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره ثوب القز يكون القز بين الفرو والظهارة، ولا أرى بحشو القز بأسا؛ لأن الثوب ملبوس، والحشو غير ملبوس. قال: وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير لا بأس به في الحرب للضرورة. قال: ويكره في غيره لانعدامها، والاعتبار للحمه على ما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال عبد الحق في " أحكامه ": وقد روي هذا بوجهين «يستحلون الحر» بحاء مهملة وراء مهملة، وقال: وهو الزنا، وروي بخاء وزاي قال: والأول هو الصواب.
وقال الأصمعي: الحر بكسر الحاء وتخفيف الراء المهملتين، وأصله الفرج فيقتصر في الواحد ويستوي في الجمع.
وقالوا: إخراج فإن كانت رواية المهملتين صحيحة فلا كلام، وإن كانت غيرها فالجواب: أنه محمول على ما كان سداه خزا ولحمته حرير فهذا حرام؛ لأن الاعتبار للحمة.
والذي ذكر في " الآثار " ما كان سداه حريرا ولحمته على ما قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والخز سدى بالحرير وهو الذي يباح لبسه فافهم.
م: (ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج، والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدي) ش: لأن الشيء إذا تعلق وجوده بعلة ذات وصفين يضاف إلى آخرهما وجودا. وقال في تعليل هذه المسألة: أن السدى يصير مستورا باللحمة، فكان بمنزلة الحشو، بخلاف ما لو كانت لحمته من الحرير؛ لأن اللحمة تكون على ظاهر الثوب ترى وتشاهد ويلاقي الحشوة فكان تدينا باللبس، هذا نقل عن الإمام أبي منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وهذه النكتة تقتضي أن السداء إذا كان ظاهرا كالعتابي يكره لبسه. وهذه النكتة الأولى تقتضي إباحة العتابي ونحوه.
[لبس ما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكره ثوب القز يكون القز بين الفرو والظهارة) ش: بكسر الظاء، وهو ضد البطانة بكسر الباء، والقز اسم للحرير التي تصنعها دود القز.
وفي " العباب ": القز من الإبريسم يعرب، وقال ابن دريد عربي م: (ولا أرى بحشو القز بأسا؛ لأن الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس) ش: أراد بالحشو الذي يحشى بي الظهارة والبطانة.
م: (قال: وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": قوله: غير حرير مثل القطن ونحوه.
م: (لا بأس به في الحرب) ش: أي فلا بأس بلبسه في الحرب م: (للضرورة. قال: ويكره في غيره لانعدامها) ش: أي في غير الحرب لانعدام الضرورة م: (والاعتبار للحمه على ما بينا) ش: أراد به قوله: لأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج باللحمة.(12/107)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة ": ذكر هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يرد باللباس المرتفع جدا، وقال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم، ودخل عليه رجل من أصحابه وعليه رداء آخر فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى آثار نعمته عليه» .
وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار، وأباح الله سبحانه وتعالى الزينة بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] .
قيل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أليس أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان يلبس قميصا كان عليه كذا وكذا رقعة؟ قال: ذلك كالحكمة وهو أمير المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلو لبس ثيابا نفيسة أو اتخذ لنفسه ألوانا من الطعام لعماله وحشمه يقتدوا به في ذلك، وربما لا يكون لهم فيأخذوه ظلما، فاختار ذلك لهذه المصلحة.
وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره للرجال لبس الثوب المعصفر والمزعفر، وقيل لا بأس به.
وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير ": لا بأس أن ينقش بيته ويتجمل بالثياب الفاخرة والأواني، ثم لا يجعله كأستار الكعبة ولكن يؤزر بإزار، وعند الثلاثة بالإبريسم: لا يجوز إلا في أستار الكعبة، والستر الذي فيه صور الحيوان.
وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان للحاجة لا بأس به كستر على الباب وكذا لو كانت الصورة صغيرة لا تبدو للناظر، يجوز التجمل بالأواني من الذهب والفضة بشرط أن لا يريد التفاخر والتكابر؛ لأن فيه إظهار نعم الله تعالى ولا يكره النكتة من الحرير.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره، وبه قال مالك: واختلف في عصب الخراج بالحرير. وقيل: لا يحل استعمال منطقة وفي وسطها ديباج، وقيل: يحل إذا لم يبلغها عرضها قدر أصابع، كذا في " المجتبى ".
وفي " القنية ": قال القاضي عبد الجبار: أما العمامة الطويلة ولبس الثياب الواسعة يباح في حق الفقهاء الذين هم أعلام الهدى دون النساء.(12/108)
قال: ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب لما روينا. قال: ولا بالفضة؛ لأنها في معناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[التحلي بالذهب للرجال]
م: (قال: ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب) ش: أي قال القدوري في " مختصره " م: (لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذان حرامان على ذكور أمتي» . ومن الناس من أباح التختم بالذهب لما روى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى محمد بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قال: رأيت في يد البراء - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاتما من ذهب فقيل له: يقال: قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسنة، وقال: " البس ما كساك الله - عز وجل - ورسوله» .
وحديث الطحاوي أيضا بإسناده إلى مصعب بن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: رأيت في يد طلحة بن عبد الله خاتما من ذهب، وحدث الطحاوي بإسناده، ورأيت في يد صهيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خاتما من ذهب، ورأيت في يد سعد خاتما من ذهب. وحديث الطحاوي أيضا بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قيل: وفي يده خاتم من ذهب، ولأن النهي عن استعمال الذهب والفضة والشرب في آنية الذهب والفضة سواء، ثم لإجازة التختم بالفضة دل على جواز التختم بالذهب لعلة وجه قول العامة.
فحدث البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الصحيح " مسندا إلى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذا خاتما من ذهب، جعل فصه مما يلي باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم اتخذوها رمى به وقال: لا ألبسه أبدا. ثم اتخذ خاتما من فضة، فاتخذ الناس خواتم الفضة ". قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلبس الخاتم بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى وقع من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بئر أريس» .
وروى الطحاوي أيضا بإسناده إلى البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب» ورواه أيضا بإسناد إلى عمران بن الحصين وإلى أبي هريرة قالا: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن خاتم الذهب» ، والترجيح للمحرم وما رووا كان قبل النهي ولباس التختم بخاتم الذهب والترجيح للمحرم بالذهب على التختم بالفضة فاسد، فإن جواز التختم بالفضة عرف بالنص أو يكون نموذجا وهي تندفع بالفضة فبقي الذهب على الحرمة.
م: (قال: ولا بالفضة) ش: أي ولا يجوز للرجال التحلي بالفضة م: (لأنها في معناه) ش: أي(12/109)
قال: إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن التحلي بالفضة في معنى التحلي بالذهب م: (قال: إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة) ش: هذا استثناء من قوله: " ولا يجوز للرجال إلخ) أي إلا التختم بالخاتم، والمنطق بالمنطقة بكسر الميم وهي التي تسمى بالحياصة.
واتخاذ حلية السيف قوله: من الفضة بيان فللثلاثة المذكورة. أما الخاتم من الفضة فلما رواه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من فضة له فص حبشي ونقش فيه محمد رسول الله» ورواه الأئمة الثلاثة أيضا إلا ابن ماجه، عن قتادة، عن أنس: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يكتب إلى بعض الأعاجم، فقيل: إنهم لا يقرءون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان في يده حتى قبض، وفي يد أبي بكر حتى قبض، وفي يد عمر حتى قبض، وفي يد عثمان حتى سقط منه في بئر أريس. ثم أمر به فنزحت فلم يقدر عليه» وقد ذكر الآن حديث ابن عمر فيه.
وأما المنطقة من الفضة فلما روى الواقدي في كتاب " المغازي ": حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله عن عمر بن الحكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: «ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذين أغاروا على الذهب يوم أحد فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقي معه من ذلك شيء رجع حيث غشينا المشركون إلا رجلين أحدهما: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا شدها على حقويه تحت ثيابه. وعباد بن بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - جاء بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا فنفلهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك ولم يخمسه» فإن هذا لا يدل على إباحة المنطقة؛ لأنه لا يجوز أن يكون هذا نظير ما أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الديباج الذي أهدي له، ونظير ما أعطى عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حريرا، وأمره أن يقطعه خمرا للفواطم الأربع.
والخمر جمع خمار وهي ما تغطي المرأة بها رأسها، والفواطم: جمع فاطمة، وهي أم علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - واسمها فاطمة، وفاطمة الزهراء، وفاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة بن ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -.
قلت: هذا احتمال، والأصل أن يكون قد أعطاه للاستعمال ولئن سلمنا بقول الراوي شدها على حقويه يدل على إباحة استعمالها، وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه هكذا، ولم ينكر عليه، إذ لو كان حراما لأنكره عليه، على أن الشيخ أبا الفتح ابن سيد الناس المعمري ذكر في كتاب " عيون(12/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأثر ": وقال: كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منطقة من أديم مبشور حلقها وإبزيمها وطرفيها فضة.
وأما حلية السيف فلما روى أبو داود، والترمذي في الجهاد، والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزينة، عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: كانت قبيعة سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضة» .
وفي لفظ للنسائي: «كان نعل سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبيعة سيفه فضة، وما بين ذلك حلق، وفضة» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن غريب، وهكذا رواه همام عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبعضهم رواه عن قتادة عن أنس، وبعضهم رواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت قبيعة سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» .
وحديث همام الذي أشار إليه هو عند النسائي، أخرجه عن عمرو بن عاصم، عن همام، وجرير، عن قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال النسائي: هذا حديث منكر، والصواب قتادة عن سعيد مرسلا، وما رواه عن همام غير عاصم بن عمرو. انتهى.
وهذا المرسل الذي أشار إليه أخرجه أبو داود، والنسائي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كانت فتذكرة.
وقال عبد الحق في " أحكامه ": الذي أسنده ثقة، وهو جرير بن حازم. انتهى.
وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " علله ": هذا حديث قد اختلف فيه على قتادة، فرواه جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان حلية سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» وكذلك رواه عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن أنس، ورواه هشام الدستوائي، ورواه نضر بن طريف، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، أخي الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرسلا. انتهى.
وأخرج الترمذي أيضا عن طالب بن حجير، عن هود بن عبد الله بن سعد عن جده مزيدة العصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح، وعلى سيفه ذهب وفضة.» وقال: حديث حسن غريب.(12/111)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن القطان في كتابه: وإنما حسنه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يقبل المسانيد على عادته في ذلك، وهو عند ابن القطان ضعيف لا حسن، فإن هود بن عبد الله بن سعيد بصري، لا مزيد فيه على ما في الإسناد من رواية عن جده، ورواية طالب بن حجير عنه، فهو مجهول الحال.
وطالب بن حجير أبو حجير كذلك، وإن كان روى عنه أكثر من واحد، وسئل عنه الذاريان فقالا: شيخ ليس من أهل العلم، وإنما هو صاحب رواية، وقال الذهبي في " ميزانه ": صدق ابن القطان في تضعيفه لهذا الحديث فإنه منكر، فيه طالب بن حجير عنه، فهو مجهول الحال، وطالب من قال: حلية سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهبا.
وأخرج الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن محمد بن حماد، حدثنا أبو الحكم، «حدثني مرزوق الصيقل: أنه صقل سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذا الفقار، وكانت له قبيعة من فضة وحلقة من فضة» .
وأخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه الكبرى "، وقال الذهبي في " مختصره ": إسناده ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " من الجهاد «عن جعفر بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائمته من فضة، ونعله من فضة، وبين ذلك حلق من فضة، وهو عند هؤلاء - يعني بني العباس -» .
وأخرج البخاري في " صحيحه " عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: كان سيف ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محلا بفضة، وكان سيف عروة محلى بفضة. وأخرج البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن المسعودي قال: رأيت في بيت القاسم بن عبد الرحمن سيفا قيعته من فضة، فقلت: سيف من هذا؟ قال: سيف عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وأخرج البيهقي أيضا عن عثمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أنه تقلد سيف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وكان محلى، قلت: كما كانت حليته؟ قال: أربعمائة.
قوله: بئر أريس بفتح الهمزة، وكسر الراء بعدها ياء آخر الحروف، وسين مهملة، وهي بئر مشهورة في المدينة.(12/112)
تحقيقا لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب، إذ هما من جنس واحد، كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار.
وفي " الجامع الصغير ": ولا يتختم إلا بالفضة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: مبشورة من بشرت الأديم أبشره وأبشره إذا أبشرت بشرته. وقال ابن السكيت: بشر الأديم وهو أن يوجه باطنه بعنوة.
قوله: كان نعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفتح النون وسكون العين المهملة، وفي آخره لام وهو ما يكون في أسفله حفنة من حديد، أو فضة.
قوله: قبيعة بفتح القاف، وكسر الباء الموحدة، وهو ما على مقبض السيف من فضة أو حديد م: (تحقيقا لمعنى النموذج) ش: أي لأجل التحقيق بمعنى النموذج، وقد فسرنا معناه عن قريب.
م: (والفضة أغنت عن الذهب) ش: لأن الضرورة إذا اندفعت بالأدنى لا يصار إلى الأعلى كما قدمناه.
م: (إذ هما) ش: أي الذهب والفضة م: (من جنس واحد) ش: جعل كونهما من جنس واحد علة للاستغناء بالفضة عن الذهب، والجنسية بينهما في " التحية " كذا لا في الذات م: (كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار) ش: يعني كيف لا يستغنى بالفضة عن الذهب، والحال أنه قد جاء في إباحة التختم بالفضة، أخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد ذكرناها الآن مفصلة.
فإن قلت: كما جاء بالفضة جاء أيضا بالذهب على ما رواه الترمذي الذي ذكرناه آنفا؟.
قلت: قد ذكرنا أنه منكر لا يعمل به.
فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية عامة تقتضي جواز ذلك، وأخبار الآحاد كيف تعارضها؟.
قلت: أخبار التحريم بالذهب، والفضة للرجال مشهورة صحيحة تلقتها الأمة بالقبول، فجاز التقييد بها.
[التختم بالحجر والحديد والصفر]
م: (وفي " الجامع الصغير ": ولا يتختم إلا بالفضة) ش: إنما أتى بلفظ أداة الحصر فيه. وصورته محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا يتختم إلا بالفضة، وكان لا يرى بأسا بالفص، يكون فيه الحجر فيه مسمار ذهب انتهى. وهي من الخواص.(12/113)
وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام، «ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل خاتم صفر، فقال: " ما لي أجد منك رائحة الأصنام ". ورأى على آخر خاتم حديد " فقال: " ما لي أرى عليك حلية أهل النار» . ومن الناس من أطلق في الحجر الذي يقال له: يشب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي المذكور في " الجامع الصغير " م: (نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام) ش: لأنه ذكر فيه بكلمة الحصر فينحصر الجواز في الفضة. والصفر بضم الصاد، وقال أبو عبيد: بكسرها، وهو الذي يتخذ منه الأواني.
م: «ورأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل خاتم صفر، فقال: " ما لي أجد منك رائحة الأصنام» ش: أخرجه أبو داود في كتاب " الخاتم "، والترمذي في " اللباس "، والنسائي في " الزينة " عن زيد بن الخباب، عن عبد الله بن مسلم السلمي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار، ثم جاءه وعليه خاتم من شبه، فقال: ما لي أرى منك ريح الأصنام، قال: يا رسول الله من أي شيء اتخذه؟ قال: " اتخذه من ورق لا تتمنه مثقالا» .
زاد الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم جاءه وعليه خاتم من ذهب، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة، وقال: صفر موضع شبه، وقال: حديث غريب.
وعبد الله بن مسلم يكنى أبا طيبة، رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسانيدهم "، وابن حبان في " صحيحه "، وذكر فيه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - زيادة الترمذي دون الباقين.
م: (ورأى على آخر خاتم حديد، فقال: «مالي أرى عليك حلية أهل النار» ش: هذا ليس كذلك، بل هو رجل واحد كما هو في الحديث.
م: (ومن الناس من أطلق في الحجر الذي يقال له: يشب) ش: أي: ومن العلماء منهم شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جواز استعمال الخاتم من الحجر الذي يقال له: يشب بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الشين المعجمة، وفي آخره باء موحدة، ويقال له: يشم أيضا بالميم عوض الباء.(12/114)
لأنه ليس بحجر، إذ ليس له ثقل الحجر. وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه.
قال: والتختم بالذهب على الرجال حرام، لما روينا. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: نهى عن التختم بالذهب "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شمس الأئمة في " شرح الجامع الصغير ": ثم الظاهر لفظ الكتاب، كره بعض مشائخنا التختم باليشب، والأصح أنه لا بأس به، وإن مراده كراهة التختم بالذهب، والحديد على ما ورد به الأثر أنه زي أهل النار، قلنا: يشب ونحوه فلا بأس بالتختم به كالعقيق «. وقد ورد الأثر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم بالعقيق وقال: " تختموا به فإنه مبارك ".» م: (لأنه) ش: أي لأن اليشب م: (ليس بحجر إذ ليس له ثقل الحجر) ش: وفيه نظر لأنه لا يلزم من خفته أن لا يكون حجرا، فإن العقيق أيضا خفيف مع أنه من أنواع الحجر.
م: (وإطلاق الجواب في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (يدل على تحريمه ") ش: أي تحريم اليشب؛ لأنه قد يتخذ منه الصنم، فيؤخذ منه ريح الأصنام وهو المعول عليه في النهي على تحريم الصفر، على ما وقعت الإشارة النبوية إليه.
وفي " الأجناس ": لا بأس للرجل أن يتخذ خاتما من فضة فصه منه، وإن جعل فصه من جزع أو عقيق أو فيروز، أو ياقوت أو زمرد، فلا بأس إن نقش عليه اسمه، واسم أبيه، أو ما بدا له كقوله: ربي الله، أو نعم القادر الله فلا بأس.
وقال بعضهم: نقش الخاتم بالعربية يكره، وبغير العربية لا بأس به، وقد صح أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقش على خاتمه ثلاثة أسطر: " محمد " سطر، و " رسول " سطر، و " الله " سطر. وفي " السمة ": ولا ينبغي أن ينقش فيه مثال المناف أو طير.
[التختم بالذهب على الرجال]
م: (قال: والتختم بالذهب على الرجال حرام لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذان حرامان» الحديث.
م: (وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن التختم بالذهب» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري، من حديث عبد الله بن حنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي، والمعصفر، وعن القراءة في الركوع، والسجود» .(12/115)
ولأن الأصل فيه التحريم، والإباحة ضرورة الختم أو النموذج، وقد اندفعت بالأدنى وهو الفضة، والحلقة هي المعتبرة؛ لأن قوام الخاتم بها، ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر، ويجعل الفص إلى باطن كفه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الأربعة أيضا عن هبيرة بن يريم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب، وعن القسي، وعن الميثرة الحمراء» وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وأخرج مسلم أيضا عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خاتم الذهب» .
وأخرج البخاري ومسلم - رحمهما الله - أيضا عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع، ونهانا عن سبع، وفيه: نهانا عن خواتيم، أو عن التختم بالذهب» .
قوله: القسي: بفتح القاف، وكسر السين، وتشديد الياء، وهو ثوب رقيق النسج منسوب إلى قرية بأرض مصر تسمى قسا، والمسرة مسرة السرج، وفي " العباب ": وهو غير مهجورة لأنها من الوباثرة، والجمع مباثر، ومواثر.
م: (ولأن الأصل فيه التحريم) ش: أي في استعمال الذهب، والأولى أن يقال في كل واحد من الذهب والفضة؛ لأن كليهما حرام للرجال، إلا ما استثنى منه الخاتم من الفضة؛ لأجل الضرورة، أشار إليه بقوله: م: (والإباحة ضرورة الختم) ش: أي إباحة استعمال الفضة في الخاتم لضرورة التختم م: (أو النموذج) ش: أي لأجل النموذج م: (وقد اندفعت) ش: أي الضرورة م: (بالأدنى وهو الفضة) ش: فلا يصار إلى الأعلى فبقي الذهب على حكم التحريم. وذكر المحبوبي أنهم قالوا: إن قصد به التزين يكره، وإلا فلا.
م: (والحلقة هي المعتبرة لأن قوام الخاتم بها) ش: أي بالحلقة م: (ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر) ش: أي حجر كان على ما ذكرنا من " الأجناس ".
وفي " الدراية ": وحلقة العظم والحديد والنحاس وفي المنطقة لا يكره.
م: (ويجعل الفص إلى باطن كفه) ش: لا إلى ظاهره لما روى مسلم من حديث الزهري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «اتخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتما من فضة في يمينه فيه فص حبشي كان يجعل(12/116)
بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصه مما يلي كفه» .
م: (بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن) ش: لأنه ذكر أنه لضرورة التختم، وذلك لا يكون إلا في الرجال. وفي النساء ليس للضرورة بل هو زينة لهن، فيجعل فصه إلى ظاهر الكف، ولم يذكر هل تتختم في اليمين أو في اليسار.
فقال في " الأجناس ": وينبغي أن يلبس خاتمه في خنصره اليسرى ولا يلبس في اليمين ولا في غير خنصره اليسرى من أصابعه. وسوى الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " بين اليمين واليسار.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو الحق؛ لأنه اختلفت الروايات عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.
وروي في " السنن " بإسناده إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم في يمينه» .
وروى أيضا بإسناده إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتختم في يساره وكان فصه في باطن كفه» .
وروى أصحاب " السنن " بإسناده إلى محمد بن إسحاق قال: رأيت على الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتما في خنصره اليمنى فقلت: ما هذا؟ قلت: " رأيت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لبس خاتمه هكذا، وجعل فصه على ظهرها، ولا يخال ابن عباس إلا قد كان يذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس خاتمه كذلك ".
وما قال بعضهم: إن التختم في اليمين من علامات أهل البغي، ليس بشيء؛ لأن النقل الصحيح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفي ذلك. انتهى كلامه.
قلت: الحق أن اليسار أفضل لما روى مسلم في صحيحه من حديث ثابت عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كأني أنظر إلى وميض خاتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأومأ بيساره» وفي لفظ: «وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى» نعم وقد ثبت أيضا في " الصحيح ": «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختم في اليمين، ولكن استقر الأمر على اليسار» .(12/117)
وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم، فأما غيرهما فالأصل أن يترك لعدم الحاجة إليه.
قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص أي في ثقبه؛ لأنه تابع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " من حديث سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تختم خاتما من ذهب في يده اليمنى على خنصره ثم رجع إلى البيت فرماه فما لبسه، ثم تختم خاتما من ورق فجعله في يساره، وأن أبا بكر وعمر وعليا والحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يتختمون في يسارهم» .
وذكر في " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وما قال للنعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذه في اليمين ولا تزده على مثقال كان في ابتداء الإسلام ثم صار من علامات أهل البغي لقسمة الحكمين.
م: (وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم فأما غيرهما فالأصل أن يترك لعدم الحاجة إليه) ش: قال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": ثم التختم إنما يكون سنة إذا كان له حاجة إلى التختم بأن يكون سلطانا أو قاض، أما إذا لم يكن محتاجا إلى التختم فالترك أفضل. انتهى.
وقال قوم: كره لبس الخاتم لغير السلطان أو القاضي لما روي عن أبي ريحانة أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبوس الخاتم إلا لذي سلطان» .
قلنا: المراد من النهي التنزيه على تقدير صحة الحديث، وروي أن كثيرا من الصحابة تختموا.
م: (قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص أي في ثقبه) ش: قال في " الجامع الصغير ": والحجر - بضم الجيم وسكون الحاء المهملة - وقد فسرناه بالثقب وهو بالفارسية، سوارخ "، والمراد الفض الذي يجعل فيه الفص.
قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي لا بأس بأن يسمر للفص بمسمار الذهب ليحفظ به، والمسمار في الأصل كالوتد من الحديد، يقال: سمر الباب أي أوثقه بالمسمار م: (لأنه تابع) ش: أي لأن مسمار الذهب تابع فصار كالمستهلك، أو كالأسنان المتخذة من الذهب على حواشي خاتم الفضة، فإن الناس يجوزونه من غير نكير ويلبسون ذلك الخواتيم.(12/118)
كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالذهب أيضا. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول كل منهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له) ش: فإن العلم في الثوب تابع للثوب، قوله " لا يعد لابسا " لا يجوز أن يرجع إلى مسمار الذهب ويجوز أن يرجع إلى العلم ويجوز أن يرجع إلى الجميع فافهم.
[شد الأسنان بالذهب الفضة]
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": أراد بالأسنان المتعلقة م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي المذكور هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالذهب أيضا وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول كل منهما) ش: أي مثل قول كل واحد من أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - البزدوي: قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما أشار إليه في " الجامع ". وروي عنه في " الإملاء " مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قوله الآخر الذي رجع إليه.
وذكر في " الأمالي " عن أبي حنيفة: أنه لم ير بالذهب بأسا أيضا، وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الأشربة من " الإملاء ": ولو أن رجلا تحركت ثنيته ولم تسقط فخاف سقوطها فشدها بذهب أو فضة لم يكن به بأس في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وفي قول أبي يوسف: وليس هذا يشبه المسمار في الفص، ثم قال الكرخي فيه: فإن سقطت ثنية رجل فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يكره أن يعيدها ويشد بفضة أو ذهب، ويقول: هي كسن ميتة أخذها فشدها مكانها ولكن يأخذ من شاة زكية يشدها مكانها.
وخالفه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: لا بأس أن يشد ثنيته في موضعها ولا يشد منه بسن ميت استحسن ذلك، وبينهما فصل وإن لم يحضر ذلك، ثم قال الكرخي: وقال بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف في " نوادر أبي يوسف ": قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بشدها بالفضة ما لم تقع فإن وقعت فلا خير أن يشدها يذهب ولا فضة، فإذا لم يقع فإنه يكره الذهب وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم رجع أبو يوسف وقال: لا بأس أن يشدها بالذهب. وقال: سوغه في موضع آخر من " نوادره "، قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به؛ لأنه ليس بحلية، فلا بأس أن يشدها إذا وقعت، ولا بأس أن يعيد إذنه، انتهى.(12/119)
لهما: «أن عرفجة بن أسعد الكناني " أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن فأمره النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن يتخذ أنفا من ذهب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونقل في " الأجناس " في كتاب الكراهية: أما لو قطع قطعة من الأذن محيطة والتأمت تترك بحالها ولا تقلع.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: «أن عرفجة بن أسعد الكناني أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن فأمره النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن يتخذ أنفا من الذهب» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في الخاتم، والترمذي في اللباس والنسائي في الزينة، عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن جده عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتخذ أنفا من ذهب» .
هكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن أبي الأشهب به، ورواه أيضا عن إسماعيل ابن علية عن أبي الأشهب به، ورواه أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة بنحوه، وزاد: قال يزيد: فقلت لأبي الأشهب: أدرك عبد الرحمن بن طرفة جده عرفجة؟ قال: نعم.
وأخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي بن هاشم بن البريد عن أبي الأشهب عن عبد الرحمن بن طرفة عن عرفجة قال: أصيب أنفي، فذكره، وعن محمد بن يزيد الواسطي عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نحوه. وقال: حديث حسن وإنما نعرفه من حديث حسن، وإنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طرفة، ورواه عنه أبو الأشهب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن حبان في " صحيحه "، عن أبي الوليد الطيالسي حدثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة أن جده عرفجة.
ورواه أبو داود الطيالسي في " مسنده "، حدثنا أبو الأشهب جعفر بن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه فقال ابن القطان في كتابه: وهذا حديث لا يصح، فإنه من رواية أبي الأشهب - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف [فيه] قال: أكثره يقول عنه، عن عبد الرحمن بن طرفة بن عرفجة، عن جده، وابن علية يقول عنه، عن عبد الرحمن بن نافع عن أبيه عن عرفجة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: فعلى: طريقة المحدثين ينبغي أن تكون رواية الأكثرين منقطعة فإنها معنعنة. وقد زاد فيها ابن علية واحدا.
قلت: حسن الترمذي رواية الحديث وصححه ابن حبان وكفى بها حجة على أنه قد روى(12/120)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في هذا الباب أحاديث وأخبار غير ذلك.
منها: ما أخرجه الطبراني في " معجمه الأوسط "، حدثنا موسى بن زكريا، حدثنا شيبان بن فروخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا أبو الربيع السمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، «عن عبد الله بن عمر: أن أباه سقطت ثنيته فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشدها بذهب» وقال: لم يروه عن هشام - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ابن عروة إلا أبو الربيع السمان.
ومنها: ما أخرجه ابن قانع في " معجم الصحابة ": حدثنا محمد بن الفضل بن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حدثنا إسماعيل بن علية ذرارة، حدثنا عاصم بن عمارة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال: «انقدت ثنيتي يوم أحد فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أتخذ ثنية من ذهب» .
وفي " الأخبار ": ما رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا يزيد بن هارون القزاز، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا محمد بن سعدان عن أبيه قال: رأيت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يطوف به بنوه حول الكعبة على سواعدهم، وقد شدوا أسنانه بذهب.
ومنها: ما رواه في " مسند " أحمد عن واقد بن عبد الله التميمي عمن رأى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه " ضببت أسنانه بذهب " وليس من رواية أحمد.
ومنها: ما رواه النسائي في كتاب " الكنى "، حدثنا النفيلي، حدثنا هشيم، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن أبو سهيل مولى موسى بن طلحة قال: رأيت موسى بن طلحة بن عبيد الله قد شد أسنانه بذهب.
ومنها: ما رواه ابن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الطبقات " في ترجمة عبد الملك بن مروان: أخبرنا حجاج عن ابن جريج أن ابن شهاب الزهري سئل عن شد الأسنان؟ فقال: لا بأس به، قد شد عبد الملك بن مروان أسنانه بالذهب.
قوله: يوم الكلاب - بضم الكاف وتخفيف اللام -: وهو اسم واد بين الكوفة البصرة، كانت فيه وقعة عظيمة للعرب.(12/121)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأصل فيه التحريم، والإباحة للضرورة وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى، فبقي الذهب على التحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الجوهري: الكلاب اسم ما كانت عنده وقعة، وللعرب فيها أشعار كثيرة، منها قول امرئ القيس بن حجر الكندي:
وقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وأعلم أنني عما قليل ... سأنشب في شبا طرف وباب
كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى ثقيلا بالكلاب
الإياب الرجوع، قوله: سأنشب أي سأتعلق، وشبا - بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة - وهو حد كل شيء.
وقال شيوخ منهم عدس بن سعد وسفيان الذي ورد الكلاب، وقال الفرزدق: هما أن كلاب ابن عمي اللذان مالك للملوك وفك الأغلال، وقال الأخطل:
وأخوهما السفاح كما خيلة ... حتى وردن حتى الكلاب نهالا
[وفي هذا المحل سقط من نسخة المؤلف روح الله روحه]
يخرجن من ثغر الكلاب عليهم ... حب السباع تبادر الأشبالا
وقال في " ديوانه ": أحد عميه أبو حسن قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمر آكل المرار يوم الكلاب الأول والآخر: روكس بن الغدوكس والسفاح وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير سمي به؛ لأنه لما دنى من الكلاب عمد إلى جرار أصحابه وسعفها وسفح ماءها، وقال: ما لكم إلا القوم فقاتلوا أو دعوا، قوله جبى الكلاب - بكسر الجيم وفتح الباء الموحدة - وهو مادة من جبه إذا جمعته، والنهار العطاش، والأوشال جمع وشل - بفتح الواو والشين المعجمة - هو الماء في الجبل ينحدر انحدارا ضعيفا.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأصل فيه التحريم) ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرامان على ذكور أمتي» وهذا عام على قبوله راجح على الخاص المختلف في قبوله، ولعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص عرفجة بذلك كما خص الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بلبس الحرير لحكة كانت به.
م: (والإباحة للضرورة وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى) ش: فلا يصار إلى الأعلى م: (فبقي الذهب على التحريم) ش: لاندفاع الضرورة بدونه.(12/122)
والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير؛ لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس، حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها.
قال: وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن) ش: يعني لما كانت الإباحة للضرورة، والضرورة لم تندفع في حديث عرفجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دونه، أي دون الذهب؛ لأنه أنتن، فلذلك أمره بالذهب.
ومسألة الأنف على الاتفاق إذا أنتن أو خيف ذلك. وأما تضبيب الأسنان فتحال عن هذا القدر.
وقال تاج الشريعة: يعني أن الضرورة لم تندفع بالفضة؛ لما روي من النتن ولو كان كذلك فأبو حنيفة يجوز ذلك أيضا، هكذا أشار إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير ".
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز تحلية الصبيان، وعن بعض الصحابة: لا يجوز كما قلنا. وكذا عندنا: يكره أن يخضب يده أو رجليه بالحناء من غير حاجة، كما يكره للرجل.
وفي " فتاوى العتابي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " الدراية ": وعن الثلاثة: لا بأس بتحلية الصبي م: (لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس، حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها) ش: وهذا ظاهر. وفي شرح " الأقطع ": لأن الصبي يجوز أن يعرف ما يجوز في الشريعة دون ما لا يجوز ليألف ذلك، أما ترى إنما يمنعهم من شرب الخمر ويأخذهم بالصوم الصلاة ليألفوا ذلك. وكذلك يمنعهم لبس الحرير والذهب ليألفوا ذلك.
[الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق]
م: (قال: وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته محمد عن يعقوب: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كان يكره هذه الخرقة التي يمسح بها العرق وهذه من الخواص.
قال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وكذلك الخرقة التي يمسح بها الوضوء محدثة بدعة يجب أن تكره لأنها لم تكن في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد من الصحابة والتابعين قبل ذلك وإنما كانوا يتمسحون بأطراف أرديتهم.
وقد قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار ": وأخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الرجل يتوضأ ويمسح وجهه بالثوب، قال: لا بأس، ثم(12/123)
لأنه نوع تجبر وتكبر. قال: وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يتمخط بها وقيل: إذا كان عن حاجة لا يكره وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: أرأيت لو اغتسل بالماء البارد في ليلة باردة أيقوم حتى يجف قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه نأخذ ولا نرى بذلك بأسا، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأنه نوع تجبر وتكبر) ش: لأنه يشبه زي العجم فيكره، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير "، وكان الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إنما يكره ذلك إذا كان شيئا نفيسا؛ لأن في ذلك فخر أو تكبر، وأما إذا لم تكن الخرقة نفيسة فلا بأس؛ لأنه لا يكون فيه كبر.
م: (قال: وكذا التي يمسح بها الوضوء) ش: أي وكذا تكره الخرقة التي يمسح بها الوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به م: (أو يتمخط بها) ش: أي بالخرقة م: (وقيل: إذا كان عن حاجة لا يكره) ش: أي حمل الخرقة واستعمال المنديل عقيب الوضوء إذا كان عن ضرورة التنشيف لا يكره م: (وهو الصحيح) ش: أي هذا القول هو الصحيح.
وكذا قال في " جامع قاضي خان " و " المحبوبي "، وذلك لأن المسلمين قد استعملوا في عامة البلدان مناديل الوضوء، كيف وقد روى الترمذي في " جامعه ": حديث سفيان بن وكيع، قال حدثنا عبد الله بن وهب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن زيد بن حباب عن أبي معاذ عن الزهري، عن عروة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرقة ينشف بها بعد الوضوء» .
ثم قال: وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الباب شيء.
ثم قال أبو عيسى: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كره فإنما كرهه من قبل أنه قيل: إن الوضوء يوزن، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري - رحمهما الله - وقال الزهري: إنما أكره المنديل بعد الوضوء فإن الوضوء يوزن.
م: (وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس) ش: فإن كان يفعله تجبرا أو(12/124)
قال: ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة ويسمى ذلك الرتم والرتيمة، وكان ذلك من عادة العرب، قال قائلهم:
لا ينفعنك اليوم إن هممت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تكبرا فيكره، وأن يفعله للضرورة والحاجة فلا يكره.
وقد روى أبو داود مسندا إلى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس» . وكذلك الاتكاء إن كان تكبرا يكره، وإن كان لضرورة فلا.
م: (قال: ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة) ش: هذه من خواص " الجامع الصغير " صورتها فيه محمد عن يعقوب، عن أبي حنيفة: أنه كان لا يرى بأسا بربط الرجل في أصبعه الخيط أو في خاتمه للحاجة انتهى.
وذلك لأنه لو كره إنما يكره لكونه عبثا وهذا ليس بعبث؛ لأنه تعلق به ضرب فائدة وهو التأكيد في رعاية حق المسلمين ليكون ذلك أقرب للذكر وأبعد عن النسيان والتقصير، فلما كان كذلك لم يكن به بأس. م: (ويسمى ذلك الرتم والرتيمة) ش: أي ويسمى ذلك الخيط الذي يعقد على الأصبع للتذكرة الرتم - بفتح الراء وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره ميم - وهو الجمع رتمة - بالفتحات أيضا - وكذلك سمي رتيمة - بالياء آخر الحروف بع الميم - ويجمع على رتائم، يقال: أرتمت الرجل إرتاما، إذا عقدت في أصبعه خيطا يستذكره حاجة، كذا قال أبو عبيد في " غريب المسند ".
وقال ابن دريد في " الجمهرة ": والرتمة شيء كان يفعله أهل الجاهلية كان الرجل إذا أراد سفرا عمدا إلى شجرتين متقاربتين فعقد غصنين منهما، فإذا رجع من سفره فإذا كان الغصان بحالهما علم أنه لم يخن في أهله، وإن كانا منحلين ظن بأهله ظن السوء يقال ارتمت رتمت إذا فعلت ذلك.
م: (وكان ذلك من عادة العرب) ش: أي ربط الخيط على الأصبع للتذكرة كان من عادة العرب، م: (قال قائلهم) ش: أي قائل العرب، قال الكاكي: قائل شعر الكتاب ابن السكيت وليس كذلك بن قائلة من العرب، وإنما استشهد به ابن السكيت:
م:
(لا ينفعنك اليوم إن هممت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم)(12/125)
وقد روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بعض أصحابه بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استدل أبو عبيد بهذا البيت على أن الرتم. والرتيمة هو الخيط الذي يعقد على الإصبع للتذكرة كما قد ذكره الآن.
وقال ابن السكيت: الرتم شجرة ثم أنشد هذا البيت ثم قال: كان الرجل إذا أراد سفرا عمد إلى هذه الشجرة فعقد بعض أغصانها ببعض فإذا رجع من سفره وأصابها على تلك الحالة قال: لم تخن امرأتي، وإن أصابه قد انحل قال: خانتني امرأتي.
ومعنى البيت: هل منعتك أن همت امرأتك أن تخونك وصيتك لها وإقامتك من يحفظها وبعقادك الشجرة، قوله إن هممت بهم أي بشيء تريده، يعني أنها إن كانت عفيفة حفظت نفسها وإن لم يكن كذلك لا حيلة فيها. كذا قال أبو محمد يوسف بن الحسن بن عبيد الله السيرافي كتاب " الربيع شرح الاصطلاح ".
وقوله: بعقاد الرتم، التعقاد - بفتح التاء - مصدر بمعنى على وزن التفعال كالمتعلقات والتشهاد، وهو مضاف إلى الرتم، والرتم مجرور بالإضافة، ثم البيت المذكور مروي عن الثقات.
هل ينفعنك بلفظ هل الاستفهامية وهو القياس؛ لأن الأصل في نون التأكيد أن لا يدخل النفي. والفقهاء يردونه بحرف النفي كما في رواية المصنف كذلك وقال بعضهم: بالغ الإنكار فيه.
قلت: لا مجال للإنكار في ذلك؛ لأن حرف التوكيد قد يدخل النفي أيضا في الشعر كما في قول العمر بن مولت:
فلا إيجاره الدنيا بها بلحيتها
فهذه نون التوكيد بعد لا النافية.
ثم اعلم أن قوله: إن هممت بتاء التأنيث في رواية الثقاة، وقد رواه بعضهم همت بتاء الخطاب المذكر وحذف أحد الميمين وهمت على لغة من يقول: ظلت من ظللت، ومست من مست وأحست من أحسست. قال الشاعر:
أحسنت إليه سوس
أي أحسن به.
م: (وقد روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أمر بعض أصحابه بذلك) ش: أي بالرتم يعني عقد الخيط في الأصبع للتذكرة، ولم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ولكنه قد روي فيه أحاديث كلها ضعيفة.
منها: ما رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " من حديث سالم بن عبد الأعلى عن نافع(12/126)
ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح، وهو التذكر عند النسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أشفق من الحاجة أن ينساها ربط في أصبعه خيطا ليذكرها» ، ورواه ابن عدي في " الكامل "، والعقيلي في " الضعفاء "، وابن حبان أيضا في " الضعفاء " وأسند ابن عدي عن ابن معين والبخاري والنسائي: في سالم هذا أنه متروك، وأسنده العقيلي عن البخاري فقط، وقال ابن حبان: كان سالم هذا يضع الحديث، لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه.
وقال الترمذي في " علله الكبرى ": سألت البخاري عن هذا الحديث: يقال: سالم بن عبد الأعلى، ويقال سالم بن غيلان منكر الحديث. وقال ابن أبي حاتم في " علله ": سألت أبي عن هذا الحديث قال: حديث باطل، وسالم هذا ضعيف وهذا منه.
ومنها ما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " عن بشر بن إبراهيم الأنصاري: حدثنا الأوزاعي عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد الحاجة أوثق في خاتمه خيطا» .
ورواه ابن عدي في " الكامل "، وأعله ببشر هذا، وقال: إنه عندي ممن يضع الحديث.
ومنها ما رواه الطبراني في " معجمه " عن غياث بن إبراهيم الكوفي، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن سعيد المقبري، عن رافع بن خديج - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربط في أصبعه خيطا، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: " شيء أستذكر به» .
وذكر ابن الجوزي في " الموضوعات " الأحاديث الثلاثة، ونقل في الأول كلام ابن حبان في سالم، ونقل في الثاني كلام ابن عدي في بشر، ونقل في الثالث عن السعدي وابن حبان في غياث هذا أنه كان يضع الحديث، وعن أحمد والبخاري: أنه متروك الحديث.
فإن قلت: أخرج ابن عدي في " الكامل " عن بشر بن حسين الأصبهاني، عن الزبير بن عدي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حول خاتمه أو عمامته أو علق خيطا لتذكره، فقد أشرك بالله، إن الله هو يذكر الحاجات» .
قلت: هذا أيضا حديث ضعيف؛ لأن ابن عدي أعله ببشر بن الحسين فإذن ليس الدليل إلا ما ذكره بقوله م: (ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح، وهو التذكر عند النسيان) ش: والفعل إذا تعلق بغرض صحيح لا يكره ولا يمنع، وقد جرت بذلك عادة الناس من غير نكير والله أعلم.(12/127)
فصل: في الوطء والنظر واللمس قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا إلى وجهها وكفيها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الوطء والنظر واللمس]
[النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها]
م: (فصل في الوطء والنظر واللمس) ش: هذا فصل في بيان أحكام الوطء وأحكام النظر والمس والقبلة. وقد فصل الأكل لكثرته، ثم فصل اللبس قدم على هذا الفصل لكثرة شدة الاحتياج إليه بالنسبة إلى هذا الفصل.
م (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": أي إلى المرأة الأجنبية. وبه قال مالك والشافعي - رحمهما الله - والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .
وموضع الزينة الرأس؛ لأنه موضع الإكليل. والشعر؛ لأنه موضع الفصاص الدريهمات. والأذن؛ لأنها موضع القرط. والعنق؛ لأنه موضع القلادة. والصدر؛ لأنه موضع الوشاح. والعضد؛ لأنه موضع الدملج. والذراع؛ لأنه موضع السوار. والساق؛ لأنه موضع الخلخال، وذكر الزينة وأراد موضعها من قبيل ذكر الحال وإرادة المحل للمبالغة في الستر.
م: (إلا إلى وجهها وكفيها) ش: استثناء من قوله: لا يجوز، والمعنى يجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] ش: أي لا يظهرن أي النساء أي مواضع زينتهن وقد بينتها الآن.
م: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ش: استثنى من قوله: ولا يبدين، إلا ما ظهر من الزينة، ثم اختلفوا فيها: يعني فيما ظهر ما هو؟ فقال بعضهم: المراد الملاءة والبرقع والخفاف لا يحل النظر للأجانب إلا إلى ملاءتها وبرقعها وخفيها الظاهرة، وهو قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
وقد روى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: " وما ظهر منها: الثياب والجلبات " وقال بعضهم: هو ما فوق الدرع. روى الطحاوي بإسناده إلى أبي منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إبراهيم قال: هو ما فوق الدرع. وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: المراد منه إحدى عينيها؛ لأنها مضطرة إلى(12/128)
قال علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما ظهر منها الكحل والخاتم. والمراد موضعهما وهو الوجه والكف. كما أن المراد بالزينة المذكورة موضعها؛ ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كشف عين واحدة للمشي، ولا ضرورة في غير ذلك، فلا يباح بها إلا بدا ولا بغيرها النظر إلا في عين واحدة للمشي.
واختار العلماء قول علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فكذلك اختاره المصنف وقال: م: (قال علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما ظهر منها الكحل والخاتم) .
ش: أخرج الطبراني في رواية ابن عباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "تفسيره" وقال: حدثنا أبو كريب حدثنا مروان بن معاوية حدثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال: هي الكحل والخاتم. وأخرجه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن جعفر بن عون: أخبرنا مسلم الملائي به، ثم أخرجه عن المراد بالضعيف هو عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: نحوه سواه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" في النكاح، عن عكرمة وأبي صالح وسعيد بن جبير - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من قولهم: وأما الرواية عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فغريب.
م: (والمراد موضعهما) ش: أي موضع الكحل والخاتم كما قلنا من قبيل ذكر الحال وإرادة المحل م: (وهو الوجه والكف) ش: أي موضع الكحل هو الوجه، وموضع الخاتم الكف.
م: (كما أن المراد بالزينة المذكورة موضعها) ش: أراد بالمذكورة في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] كما ذكرناه. م: (ولأن في إبداء الوجه) ش: أي في إظهارهما وهذا دليل معقول م: (والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء) ش: أي من حيث الأخذ ومن حيث الإعطاء م: (وغير ذلك) ش: مثل كشف وجهها عند الشهادة، وعند المعرض لمن يريد نكاحها، وعند المحاكمة. ومثل كشف الكفين عند الخبز ونحوه.
ولو استدل في ذلك بالحديث المرفوع لكان أولى وأحسن وهو ما رواه أبو داود في "سننه" بإسناده إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "يا أسماء إذا(12/129)
وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يباح؛ لأن فيه بعض الضرورة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة.
قال: فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بلغت المرأة المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفه. وأخرجه البيهقي أيضا في "سننه".
م: (وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها) ش: أراد به أن ما روي عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - تنصيص على عدم إباحة النظر إلى قدمي الأجنبية.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يباح؛ لأن فيه بعض الضرورة) ش: هذه رواية ابن شجاع عن أبي حنيفة؛ لأن القدم موضع الزينة الظاهرة. م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة) ش: خصوصا إذا جردت نفسها للخبز والطبخ، ذكره شمس الأئمة البيهقي في "كفايته".
م: (قال: فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها) ش: أي قال القدوري والحاصل أن الذي ذكره من جواز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها إذا أمن الشهوة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ، وأما إذا لم يأمن الشهوة لم يجز النظر إلى وجهها أيضا ولا إلى كفيها. والدليل على ما رواه البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: رأيت أسسه باللمم.
قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» .
وأخرج مسلم وأبو داود -رحمهما الله- من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، يدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذب» .(12/130)
إلا لحاجة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة» . فإن خاف الشهوة لم ينظر من غير حاجة تحرزا عن المحرم، وقوله: لا يأمن يدل على أنه لا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان أكبر رأيه ذلك، ولا يحل أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقيام المحمر وانعدام الضرورة والبلوى بخلاف النظر؛ لأن فيه بلوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا لحاجة) ش: كالشهادة وحكم الحاكم والتزويج، فعند هذه الأشياء يباح النظر إلى وجهها، وإن يخاف الشهوة للضرورة.
وقال الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه ينظر إلى الوجه والكف منها ما أمن الشهوة فإذا أشقها لم ينظر إلا أن يكون دعي إلى شهادة عليها وأراد تزويجا وكان حاكما فينظر ليخبر إقرارها وتشهد الشهود على معرفتها، فلا بأس بالنظر إليهما وهذه المواضع م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه شمس الأئمة الحلواني في شرح "الكافي " ولكنه غير صحيح والمعروف: «من استمع إلى حديث قوم له كارهون صب في أذنيه الأنك يوم القيامة» أخرجه البخاري في "صحيحه " في كتاب التعبير، وعن أيوب السجستاني، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا: «من تحكم بحكم لم يره كلف أن يعقد بين شعر بير ولن يفعل، ومن استمع إلى قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ» .
قوله محاسن: جمع حسن ضد القبح على خلاف القياس وكأنه جمع محسن والأنك بفتح الهمزة وضم النون وفي آخره كاف وهو: الأشرب. قال الجوهري وأفعل من ألسنة الجمع ولم يجيء عليه الواحد الأنك وفيه نظر.
م: (فإن خاف الشهوة لم ينظر من غير حاجة تحرزا عن المحرم) ش: أي لأجل الاحتراز عن الوقوع في المحرم م: (قوله: لا يأمن يدل على أنه لا يباح إذا شك في الاشتهاء) ش: أي قال القدوري: فإن كان لا يأمن الشهوة يدل على أن النظر إلى وجهها لا يباح إذا شك في الشهوة م: (كما إذا علم) ش: أي كما إذا تيقن وجود الشهوة، م: (أو كان أكبر رأيه ذلك) ش: أي وجود الشهوة.
م: (ولا يحل أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقيام المحرم) ش: وهو النص على ما يأتي م: (وانعدام الضرورة والبلوى) ش: في مس وجهها وكفيها؛ لأنه أبيح النظر إلى الوجه والكف لدفع الحرج، ولا حرج في ترك مسها فبقي على أصل القياس م: (بخلاف النظر؛ لأن فيه بلوى) ش: وهي الحاجة إليه كما ذكرنا.(12/131)
والمحرم قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة» ، وهذا إذا كانت شابة تشتهى، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى، فلا بأس بمصافحتها ولمس يدها؛ لانعدام خوف الفتنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مصافحة العجوز التي لا تشتهى ولمس يدها]
م: (والمحرم) ش: -بكسر الراء- أراد به المحرم الذي قال في قوله لقيام المحرم م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة» ش: وهذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكره أحد من أرباب الصحاح والحسان.
م: (وهذا إذا كانت شابة تشتهى) ش: أي هذا الذي ذكرنا من حرمة وجه الأجنبية وكفيها إذا كانت شابة تشتهي منها الرجال، م: (أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ولمس يدها لانعدام خوف الفتنة) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن قلت هذا تعليل في مقابلة النص وهو ما ذكرناه في الكتاب من مس كف امرأة. الحديث.
قلت: المرأة أمرة تدعو النفس إلى مسها أما إذا هربت العين من رؤيتها واترادى يجد الحاثر من لعابها فلا إثم.
ثم قال: أباح للرجال المس هنا إذا كانت عجوزا ولم يشترط كون المساس لا يجامع مثله ولا يشتهى مثله.
وقد ذكر مثل هذا ووضع المسألة فيما إذا كانت المرأة هي الماسة لما فوق الإزار فقال: إن كانت المرأة عجوزا لا تجامع مثلها والرجل شيخ كبير لا يجامع مثله لا بأس فالمصافحة حينئذ.
فصار في المسألة روايتان، في رواية: أباح المصافحة إذا لم يشته أحدهما، وفي رواية: يشترط أن يكون كل واحد منهما لا يشتهي.
وجه الأولى: أن العجوز ألحقت بالصغيرة ويجوز مصافحتها وإن اشتهى الماس.
وجه الأخرى: وهو الفرق بينهما أن أحد المصافحين إذا كان صغيرا لا تؤدي المصافحة، إلى الاشتهاء من الجانبين، أما في حق البالغ فلأنه غير بالغ مسته وأما في حق الصغيرة فلأنها لا تعلم الاشتهاء. أما إذا كان بالغين فالشاب إن لم يشته بمس العجوز فهي تشتهي بمس الشاب؛ لأنها قد علمت بذلك فتؤدي إلى الاشتهاء وهو حرام ما يؤدي إليه كذلك.
ثم قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد كنت سمعت من بعض أساتذتنا طيب الله ثراه أبياتا يليق استشهادها في هذا الموضع فأوردتها تذكرة، طيب الله مرقد الماضين آمين (شعر) .(12/132)
وقد روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم، وكان يصافح العجائز. وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استأجر عجوزا لتمرضه، وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه. وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهي عجوز ترجى أن تكون فتنة ... وقد يبس الجنبان واحتدب الظهر
تروح إلى العطار تبغي شبابها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وما غرني إلا خضاب بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
بنيت بها قبل المحاق بليلة ... فصار محاق كله ذلك الشهر
قلت: هذا الذي ذكره تاج الشريعة كله من " المبسوط " و " الذخيرة ". م: (وقد روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم وكان يصافح العجائز) ش: هذا غريب لم يثبت وإنما الذي روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنهما كانا يزوران أم أيمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت حاضنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه البيهقي وغيره.
م: (وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استأجر عجوزا لتمرضه وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه) ش: هذا أيضا غريب لم يثبت قوله تمرضه من التمريض يقال: مرضه أي قام عليه في مرضه. قوله: تفلي من فلى رأسه تفلي إذا أخذ القمل منه وفلى يفلو أيضا وفليت الشعر إذا تدبرته واستخرجت معائنه والمناسب هنا أن يكون قوله تفلي رأسه من المعنى الثاني على معنى أنها كانت تدبر شعر ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتصلحه وتدهنه وتسرحه لأن هذا هو المناسب بحاله؛ لأنه كان ملكا ادعى الخلافة بأرض الحجاز فمن كانت هذه صفته لا تقمل رأسه فافهم.
م: (وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها) ش: أي وكذا لا بأس بمصافحتها إذا كان الرجل شيخا كبيرا يأمن على نفسه وعلى نفس المرأة؛ لأن الشيخ الكبير لم يبق له إربة كالصغير. قال سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] . وروى البيهقي في "سننه " عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: هو الرجل يتبع القوم وهو مغفل في غفلة لا يكترث النساء ولا يشتهيهن. وروي عن التيمي أنه قال: هو الذي ليس له إرب أي حاجة في النساء. ولا شك أن الشيخ الكبير ليس له إرب في النساء كما قلنا.(12/133)
لما قلنا، وإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة. والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة.
قال: ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها، وللشاهد إذا أراد الشهادة عليها النظر إلى وجهها، وإن خاف أن يشتهي للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه، وهو قصد القبيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لما قلنا) ش: أراد به قوله: لانعدام خوف الفتنة م: (وإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة. والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة) ش: لأنه ليس لبدنها حكم العورة، ولأن العادة ترك التكليف بستر عورتها إن لم تبلغ حد الشهوة كذا في " المبسوط ".
فإن قلت: ما حكم الأمر؟
وقلت: روى البيهقي عن بقية من الوصيين عن بعض المشيخة قال: يكره أن يحد النظر إلى الغلام الأمرد الجميل الوجه، وقد روي هذا عن بقية الوازع وهو ضعيف عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا والمشهور بقية عن الوصيين.
وقد روى أبو حفص الطحان في معناه حديثا موضوعا عن الثوري عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا، قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفتنة الأمرد ظاهرة لا يحتاج إلى خبر، وقد أفتى الشيخ محيي الدين النووي بمنع النظر إليه سواء كان بشهوة أو بغير شهوة. وبعضهم فصلوا فقالوا: إن كان بشهوة لا يباح وإن كان بغير شهوة فلا بأس.
قلت: الأولى في هذا الزمان أن يفتي بقول الشيخ محيي الدين لظهور الفسق والشناعة بين الناس.
وذكر في " فتاوى الإمام ناصر الحسامي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ": الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحا فحكمه حكم الرجال وإن كان صبيحا فحكمه حكم النساء وهو عورة من قرنه إلى قدمه. قال العبد الضعيف: لا يحل النظر إليه عن شهوة فأما الخلوة به والنظر إليه لا عن شهوة لا بأس به ولهذا لم يأمر بالتقارب.
[نظر القاضي للمرأة للحكم عليها]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها، وللشاهد إذا أراد الشهادة عليها النظر إلى وجهها، وإن خاف أن يشتهي للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه، وهو قصد القبيح) ش: هذا كالظاهر، وهكذا كما يجوز للشهود النظر إلى الصورة عند الزنا ليقيموا الشهادة وكما يجوز للمسلمين أن يرموا صبيان المسلمين وأسرابهم(12/134)
وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى، قيل: يباح، والأصح: أنه لا يباح؛ لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة بخلاف حالة الأداء.
، ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيه: «أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا اندس بهم الكفار ولكن يقصدون المشركين وإن علموا أنه يصيب المسلمين.
م: (وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى، قيل: يباح) ش: ولكن يقصد عمل الشهادة لا قضاء الشهوة كشهود الزنا م: (والأصح: أنه لا يباح؛ لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة بخلاف حالة الأداء) ش: لأنه التزم هذه الأمانة بالتحمل وهو متعين لأدائها.
[نظر الخاطب]
م: (ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيه: «أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي في النكاح عن عاصم بن سليمان، عن أبي بكر بن عبد الله المزني، «عن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب امرأة فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» وقال الترمذي: حديث حسن.
قوله أبصرها: الخطاب للمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو أمر من أبصر يبصر إبصارا أي أنظرها، وهكذا هو في رواية الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي رواية الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الفائق ": «لو نظرت إلهيا فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» . والضمير فإنه يرجع إلى الإبصار الذي دل عليه قوله أبصرها، كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل أقرب.
قوله: أن يؤدم: أصله بأن يؤدم، فحذفت الباء وحذفها مع أن كثير، والمعنى فإن الإبصار أحرى أي أولى بالمؤادمة منكما، أي بالموافقة، من أدم الطعام إذا أصلحه بالإدام وجعله موافقا للطعام. وأن مصدرية فكذلك أولت الوادم بالمؤادمة ويجوز أن يكون الضمير فإنه للشأن، وعلى التقديرين: الضمير اسم أن، وقوله أحرى أن يؤدم خبرها فتكون هذه الجملة محلها الرفع. وعلى رواية" الفائق ": أو بمعنى ليت فلذلك دخلت الفاء في جوابها كأنه قيل ليت ليتك نظرت إليها، والغرض الحث على النظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما أخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث قال: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ومحمد بن سلمة وأبي جند.(12/135)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: «خطب رجل امرأة من الأنصار فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اذهب فانظر إلهيا فإن في أعين الأنصار شيئا» . وأما حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عبد الرحمن، «عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" فخطبت جارية فكنت أتخفى لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها» .
قال ابن القطان: هذا حديث لا يصح فإن واقدا هذا لا يعرف حاله، وواقد المعروف إنما هو واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ أبو عبد الله الأنصاري الأشهلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذي يروي عنه يحيى بن سعيد وداود بن الحصين ومحمد بن زياد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وغيرهم من المدنيين.
وروى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يحيى بن سعيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه وهدمه في ثقة، قاله أبو زرعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما واقد بن عبد الرحمن فلا أعرفه.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه "، وقال: على شرط الشيخين وأحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي وعبد بن حميد والدارمي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في "مسانيدهم". والطبراني في "معجمه " والدارقطني في "سننه "، كلهم من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس: «أن المغيرة بن شعبة خطب امرأة فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» .
وأما حديث محمد بن سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه ابن حبان في "صحيحه "، أخبرنا أبو يعلى، حدثنا محمد بن حازم «عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة عن عمه محمد بن سلمة -(12/136)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطب امرأة فجعلت أتخفى إليها حتى نظرت إليها في نخل فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئ منكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها» .
وأخرج الحاكم من حديث إبراهيم بن صرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة [عن عمه سهل بن أبي حثمة] قال: " كنت جالسا مع محمد بن سلمة فمرت ابنة الضحاك فجعل يطاردها ببصره ". الحديث. وقال: هذا حديث غريب وإبراهيم بن صرمة ضعفه الدارقطني. وأخرج البيهقي من حديث أبي شهاب عبد ربه عن حجاج عن ابن أبي مليكة، عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة عن عمه سهل بن أبي حثمة، قال: رأيت محمد بن سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يطارد امرأة ببصره على إجار يقال لها: ثبيتة بنت الضحاك أخت أبي جبيرة. الحديث.
وقال الذهبي في "مختصره ": حجاج لين، وإسناده مختلف فيه، وأخرجه ابن ماجه عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن سليمان، الحديث.
ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "مصنفيهما" في اسم المرأة، في " مسند أحمد ": نبيهة بنت الضحاك وسماها عند ابن أبي شيبة نبيشة، كما سماها في " مسند البيهقي "، وفي نسخة أخرى: بثنية.
وأما حديث أبي حميد فأخرجه الطبراني في "معجمه "، حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا زهير بن معاوية، حدثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة» . ورواه إسحاق بن(12/137)
ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة.
ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها للضرورة، وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
راهويه في "مسنده " من حديث عبد الله بن عيسى الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة) ش: فيعتبر المقصود وهو إقامة النكاح المسنون لا قضاء الشهوة النهي المحرم.
[نظر الطبيب للمرأة الأجنبية]
م: (ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها) ش: أي من المرأة م: (للضرورة) ش: لأن للضرورة تأثير في إباحة المحرمات بدليل إباحة الميتة والخمر عند الضرورة وخشية التلف م: (وينبغي أن يعلم المرأة مداواتها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها) ش: أي يتعذر بالضرورة أراد بأن يكون بقدر الضرورة ولا يتجاوز عنها لاندفاع الحاجة بقدرها.
وفي " فتاوى الولوالجي ": لا يحل النظر إلى ما تحت السرة إلى الركبة من الرجل والمرأة لأحد من غير عذر، فإذا جاء العذر حل النظر. والأعذار:
منها حالة الولادة فلا بأس للقابلة أن تنظر إلى فرجها.
ومنها حالة الاختتان: للرجل أن ينظر من الرجل موضع الاختتان منه عند الحاجة.
ومنها: إذا أصابه قولنج واحتيج إلى حقنه.
ومنها: إذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل للرجال أن ينظر إليها وعملت المرأة ذلك لتداويها وإن لم تعلم أو لم يجدوا امرأة وخافوا عليها أن تهلك أو يصيبها بلاء، أو دخل من ذلك وجع لا تتحمله، ولم يكن للعلاج بد من الرجل، يباح للرجل أن ينظر لكن يستر منها كل شيء إلا موضع القرحة؛ لأن الضرورة تندفع بها وسواء فيها ذات المحرم وغيرها.
ومنها: امرأة العنين إذا قالت بعد سنة: لم يصل إلي وأنا بكر، فالقاضي يريها النساء.
ومنها: رجل اشترى جارية على أنها بكر فقبضها فقال: وجدتها ثيبة فأراد ردها على البائع بيمينه على أنه باعها وسلمها وهي بكر، نظر إليها النساء، فإن قلن: إنها بكر فلا يمين على البائع، وإن قلن: هي ثيب استحلف البائع على أنه باعها وسلمها وهي بكر فإن حلف لم ترد عليه. وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في " شرح الكافي ": قال بعض مشائخنا: هذا(12/138)
وصار كنظر الخافضة والختان
وكذا يجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل؛ لأنه مداواة
ويجوز للمرض. وكذا للهزال الفاحش على ما روي عن أبي يوسف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب إنما يستقيم فيما إذا اختلفا قبل القبض، أما بعده فلا؛ لأنه يجعل زوال البكارة عند المشتري فلا فائدة في أن ترى النساء إن وقع الاختلاف بعد القبض؛ لأنه يحتاج إلى توجيه الخصومة، ولا يمكن من ذلك إلا بعد ظهور الحال فكان في إرائه فائدة.
م: (وصار كنظر الخافضة والختان) ش: إليه يعني صار نظر الطبيب إلى موضع لا يحل النظر إليها كنظر الخافضة والختان إليه، أي إلى ما لا يجوز النظر إليه كالعورة الغليظة فإن النظر إليها لا يجوز إلا في حالة العذر، والختان عذر؛ لأنه سنة مؤكدة من شعائر الإسلام لا يجوز تركها في حق الرجل والمرأة جميعا، فكذا نظر الطبيب لأجل العذر. والخافضة فاعلة من الخفض وهو قطع بظر المرأة كالختان في حق الرجل، وهو قطع جلدة الحشفة، يقال امرأة مخفوضة ورجل مختون.
[النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل]
م: (وكذا يجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل؛ لأنه مداواة) ش: أي لأن الاحتقان مداواة يحصل بها إسهال الفضلات والإخلاطة الروية وإذا جاز الاحتقان يجوز للحاقن النظر إلى موضع الاحتقان.
م: (ويجوز للمرض) ش: أي يجوز الاحتقان لأجل المرض م: (وكذا للهزال الفاحش) ش: أي وكذا يجوز الاحتقان للهزال الفاحش؛ لأن آخره الدق م: (على ما روي عن أبي يوسف) ش: احترز به عما روي عن شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الحقنة إنما تجوز إذا كان يخشى من الهزال المتلو وإلا فلا.
وفي " الكافي ": والصحيح ما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نوع مرض يكون آخره الدق والسل.
وقال الحلواني: فلو كان في الحقنة منفعة ولا ضرورة فيها بأن يتقوى على الإجماع لا يحل عندنا.
وذكر أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن مقاتل: أنه لا بأس أن يتولى صاحب الحمام عورة إنسان بيده عند التنوير إذا كان يغض بصره. كما أنه لا بأس به إذا كان يداوي جرحا أو قرحا.
قال أبو الليث: هذا في حالة الضرورة وينبغي لكل أحد أن يتولى عانته إذا تنور، كذا في " الذخيرة ".(12/139)
لأنه إمارة المرض. قال: وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا إلى ما بين سرته إلى ركبته؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته".» ويروى: «ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه» وبهذا ثبت أن السرة ليست بعورة، خلافا لما يقوله أبو عصمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه إمارة مرض) ش: أي لأن الهزال علامة المرض وهو السل كما ذكرنا.
[ما ينظر إليه الرجل من الرجل]
م: (قال: وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا إلى ما بين سرته إلى ركبته) ش: أي قال القدوري وقال الكرخي -رحمهما الله- في "مختصره ": لا ينبغي أن ينظر الرجل من الرجل إلى ما بين سرته وركبته ولا بأس أن ينظر إلى سرته، ويكره النظر منه إلى الركبة. وكذلك المرأة من المرأة.
وبلغنا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه كان إذا ائتزر أبدى عن سرته، انتهى.
وقال أبو القاسم بن الجلاب المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " التفريع ": وعورة الرجل فرجاه وفخذاه ويستحب له أن يستر من سرته وركبتيه.
وقال في " وجيز الشافعية ": وعورة الرجل ما بين السرة والركبة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» .
ش: وروى الدارقطني في "سننه " عن يوسف بن يعقوب بن بهلول: حدثنا جدي عن أبيه، عن سعيد بن راشد، عن عباد بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما في الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة» . وسعيد بن راشد ضعيف. م: (ويروى: ما دون سرته حتى يجاوز ركبته) ش: وهذه الرواية إن صحت تدل على أن كلمة "إلى" في الرواية السابقة بمعنى مع عملا بالحديثين مم: (وبهذا) ش: أي بالحديث المذكور م: (ثبت أن السرة ليست بعورة) ش: لأن في كل واحدة من الروايتين يكون ابتداء العورة من تحت السرة، فتكون السرة خارجة من العورة م: (خلافا لما يقوله أبو عصمة) ش: وهو سعد بن معاذ المروزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من كبار أصحابنا. وقد قال أبو عصمة: السرة عورة؛ لأنها حد إحدى العورة فيكون من العورة كالركبة.(12/140)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
والركبة عورة خلافا لما قاله الشافعي،
والفخذ عورة خلافا لأصحاب الظواهر. وما دون السرة إلى منبت الشعر عورة خلافا لما يقوله الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الكماري - رَحِمَهُ اللَّهُ - معتمدا فيه العادة؛ لأنه لا معتبر بها مع النص بخلافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: بالرفع عطفا على أبي عصمة، أي وخلافا لما يقوله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا كما يقول أبو عصمة.
قيل: عطف الشافعي على أبي عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير مستقيم؛ لأن هذا التعليل إنما يستقيم على قول من يقول الركبة عورة وهو لا يقول به. وهذا ساقط؛ لأن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعلل بهذا التعليل في هذا الكتاب، وإنما ذكر المذهب فيجوز أن يكون مذهبهما واحدا والمأخذ متعددا فالمذكور يكون تعليلا لأبي عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتعليل الشافعي غير ذلك وهي أن السرة محل الاشتهاء.
[عورة الرجل]
م: (والركبة عورة خلافا لما قاله الشافعي) ش: فإنه يقول: الركبة ليست بعورة واستدل بما روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ما أبدى ركبة بين جليس قط» إنما قصد بهذا ذكر الشمائل، فلو كانت الركبة عورة لم يكن هذا من الشمائل؛ لأن ستر العورة فرض على كل أحد.
[والفخذ هل تعتبر عورة أم لا]
م: (والفخذ عورة خلافا لأصحاب الظواهر) ش: فإنهم قالوا: الفخذ ليس بعورة واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22] ، والمراد منها العورة الغليظة.
م: (وما دون السرة إلى منبت الشعر عورة خلافا لما يقوله الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الكماري - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول: ما دون السرة إلى منبت شعر العانة ليس بعورة، إنما قال ذلك حال كونه م: (معتمدا فيه العادة) ش: لأن الإزار قد ينحط في العمل إلى ذلك الموضع إن كان فيه ضرورة فأبيح النظر إلى ذلك للتعامل.
وكما روي: -بضم الكاف وتخفيف الميم بعدها ألف ساكنة-، وهو اسم قرية ببخارى نسب إليها الإمام المذكور أبو بكر.
لأنه لا يعبر بها مع النص بخلافه. هذا جواب عما يقوله الإمام أبو بكر المذكور ويتعلق بقوله ودون السرة إلى منبت الشعر عورة م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن لا اعتبار بالعادة مع وجود النص بخلافها، وفي بعض النسخ؛ لأنها أي لأن العادة م: (لا معتبر بها مع النص بخلافه) ش: والمعتبر -بضم الميم-، مصدر ميمي بمعنى الاعتبار.(12/141)
وقد روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «الركبة من العورة» ، وأبدى الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سرته فقبلها أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال لجرهد: «وار فخذك، أما علمت أن الفخذ عورة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقد روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه قال: «الركبة من العورة» ش: هذا جواب على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ودليل على كون الركبة عورة، ولكن الحديث غريب لم يثبت عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنما روي من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عند الدارقطني وفيه ضعيف أيضا وقد تقدم في شروط الصلاة.
م: (وأبدى الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سرته فقبلها أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا بقوله جواب عما يقوله أبو عصمة والشافعي والحديث أخرجه أحمد في "مسنده "، وابن حبان في "صحيحه "، والبيهقي في "سننه " عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: كنت أمشي مع الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في بعض طرق المدينة فلقينا أبو هريرة فقال للحسن. اكشف لي عن بطنك -جعلت فداك- حتى أقبل حيث رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبله. قال: وكشف عن بطنه فقبل سرته ولو كانت من العورة ما كشفها، انتهى.
وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده " وفي " معجم الطبراني " خلاف هذا، حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو عاصم عن أبي عون عن عمير بن إسحاق: أن أبا هريرة لقي الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فقال له: ارفع ثوبك حتى أقبل حيث رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل، فرفع عن بطنه ووضع يده على سرته.
م: «وقال لجرهد: وار فخذك، أما علمت أن الفخذ عورة» ش: هذا جواب عن قول أهل الظاهر. والحديث أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الحمام" من طريق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي النظر عن زرعة «عن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه قال: كان جرهد من أصحاب الصفة أنه قال: جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندنا وفخذي منكشفة فقال: "أما علمت أن الفخذ عورة» . وأخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الاستئذان". عن سفيان، عن أبي النضر، عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن جده جرهد قال: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجرهد في المسجد، وقد انكشف فخذه فقال: "إن الفخذ عورة» وقال: حديث حسن وما أرى إسناده بمتصل.(12/142)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم أخرجه عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي الزناد قال: «أخبرنا ابن جرهد عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به وهو كاشف عن فخذه فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "غط فخذك فإنها من العورة» . وقال أيضا: حديث حسن، ثم أخرجه عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن جرهد الأسلمي عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفخذ عورة» وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وبسند أبي داود رواه أحمد في " مسنده " وابن حبان في " صحيحه "، وزرعة بن عبد الرحمن بن جرهد الأسلمي وثقه النسائي وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: من زعم أنه زرعة بن مسلم بن جرهد فقد وهم، ورواه الدارقطني في "سننه في آخر الطهارة " من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، وحدثني آل جرهد عن مجاهد. ورواه الحاكم في " المستدرك "في كتاب "اللباس " عن سفيان عن سالم بن أبي النضر عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن جده جرهد فذكره وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال ابن القطان في "كتابه ": وحديث جرهد له علتان: إحداهما: الاضطراب المؤدي لسقوط الثقة به وذلك أنهم يختلفون فيه، فمنهم من يقول: زرعة بن عبد الرحمن، ومنهم من يقول: زرعة بن عبد الله، ومنهم من يقول: زرعة بن مسلم، ثم من هؤلاء من يقول: عن أبيه، عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من يقول: عن أبيه عن جرهد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من يقول: زرعة عن آل جرهد عن جرهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: وإن كنت لا أرى الاضطراب في الإسناد علة فإنما ذلك إذا كان من يدور عليه الحديث ثقة، فحينئذ لا يضره اختلاف الثقة فيه إلى مرسل ومسند، أو رافع وواقف، أو واصل وقاطع. وأما إذا كان الذي اضطرب عليه الحديث غير ثقة أو غير معروف فالاضطراب يوهنه أو يزيده وهنا وهذه حال هذا الخبر.
والعلة الثانية: أن زرعة وأباه غير معروفي الحال ولا مشهوري الرواية، انتهى. قلت: قال البيهقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذه أسانيد صحيحة. وقال الذهبي في "مختصره " لا تصل إلى الصحة بل هي صالحة الحجر بانضمام بعضها إلى بعض. فإن قلت: قد قال القاضي علاء الدين في " الجواهر ": النفي في حديث جرهد ثلاث علل، أحدها: أن في سنده اضطراب وقد بينه ابن القطان، والثانية: أن زرعة مجهول الحال، والثالثة: أن الترمذي أخرجه ثم قال ما أرى إسناده متصل.
قلت: الجواب ما قاله الذهبي الذي ذكرناه الآن على أن في هذا الباب أحاديث أخرى.(12/143)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منها: ما أخرجه أبو داود عن حجاج عن ابن جريج قال: أخبرت عن حبيب عن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» .
وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث فيه نكارة، وأخرجه ابن ماجه في "الجنائز" عن زوج ابن عبادة، عن ابن جريج، عن حبيب به.
وقال الشيخ في " الإمام ": ورواية أبي داود تقتضي أن ابن جريج لم يسمعه من حبيب وأن بينهما رجلا مجهولا، انتهى.
ورواه الحاكم في "مستدركه في اللباس" وسكت عنه، ورواه الدارقطني في "سننه " في آخر الصلاة، وفيه: أخبرني حبيب بن أبي ثابت. وقال ابن القطان في "كتابه ": وقد ضعف أبو حاتم هذا الحديث في "علله".
وقال: إن ابن جريج لم يسمعه من حبيب ولا حبيب من عاصم، وعاصم وثقة العجلي وابن المديني وابن معين. وقال النسائي: ليس به بأس وتكلم فيه ابن عدي وابن حبان -رحمهما الله.
ومنها: ما أخرجه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفخذ عورة» . وقال: حديث حسن غريب.
وأخرجه الحاكم في " المستدرك " ولفظه: قال: «مر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجل فرأى فخذه مكشوفة فقال: "غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته» . وسكت عنه.
وقال ابن القطان في "كتابه ": وأبو يحيى القتات اختلف في اسمه فقيل: زاذان، وقيل: دينار، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: غير ذلك، ضعفه شريك، ويحيى في رواية، ووثقه في رواية أخرى وقال: أحمد روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جدا. وقال النسائي: ليس(12/144)
ولأن الركبة ملتقى عظم الفخذ والساق، فاجتمع المحرم والمبيح، وفي مثله يغلب المحرم، وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، وفي الفخذ أخف منه في السوءة،
حتى إن كاشف الركبة ينكر عليه برفق، وكاشف الفخذ يعنف عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقوي، وقال ابن حبان: فحش خطؤه وكثر وهمه حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات.
ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده "، والبيهقي في "سننه " والطبراني في "معجمه ".
ومنها: ما أخرجه أحمد في "مسنده ": حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن أبي كثير مولى محمد بن عبد الرحمن بن جحش «عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمر على معمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو جالس على باب داره وفخذه مكشوفة فقال: "يا معمر غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة» وهذا مسند صالح، ورواه الطبراني في "معجمه " في ست طرق دائرة على العلاء، ورواه الطحاوي، وصححه، ورواه الحاكم في "المستدرك " في "الفضائل" وسكت عنه. ورواه البخاري في "تاريخه الكبير ".
فإن قلت: يخالف هذه كلها ما رواه البخاري في "صحيحه "، عن عبد العزيز بن صهيب، «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فجرى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دخل القرية قال: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» .
قلت: المراد من الحسر الانحسار بغير اختياره لضرورة الجري، والدليل على صحة ذلك ما رواه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلفظ: فانحسر الإزار. وقال النووي في "الخلاصة ": وهذه الرواية تبين رواية البخاري، أن المراد بالحسر الانحسار بغير اختياره كضرورة الجري، مثل ما قلنا والله سبحانه وتعالى أعلم.
م: (ولأن الركبة ملتقى عظم الفخذ والساق، فاجتمع المحرم والمبيح) ش: هذا دليل على أن الركبة عورة، أراد بالمحرم: عظم الفخذ، وبالمبيح: عظم الساق. م: (وفي مثله) ش: أي في مثل اجتماع المحرم والمبيح م: (يغلب المحرم) ش: احتياطا في أمور الدين م: (وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، وفي الفخذ أخف منه في السوءة) ش: أراد بها العورة الغليظة وهي الفرجان.
م: (حتى إن كاشف الركبة ينكر عليه برفق) ش: وبين لوجود المعنيين وهما دليل الإباحة ودليل الحظر، م: (وكاشف الفخذ يعنف عليه) ش: أي إن كاشف الفخذ يغلظ عليه في الإنكار،(12/145)
وكاشف السوءة يؤدب إن لج.
وما يباح النظر إليه للرجل من الرجل يباح المس؛ لأنهما فيما ليس بعورة سواء.
: ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه إذا أمنت الشهوة
. لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة كالثياب والدواب، وفي كتاب الخنثى من "الأصل ": أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه؛ لأن النظر إلى خلاف الجنس أغلظ، فإن كان في قلبها شهوة أو أكبر رأيها أنها تشتهي أو شكت في ذلك -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يضرب إن ألج؛ لوجود الاختلاف، م: (وكاشف السوءة يؤدب إن لج) ش: أي وإن كاشف العورة الغليظة يؤدب بضرب إن علمه ولم يسمع؛ لأن حرمتها يجمع عليه.
[ما يباح النظر إليه للرجل من الرجل]
م: (وما يباح النظر إليه للرجل من الرجل يباح المس) ش: يعني إذا كان المس بغير شهوة. وبه صرح في " التحفة " م: (لأنهما فيما ليس بعورة سواء) ش: أي لأن النظر والمس فيه سواء فلما يجوز النظر إليه يجوز مسه بغير شهوة. وفي " المجتبى ": اختلف في غمز الرجل فخذ الرجل فوق الإزار قيل: يجوز إذا كان الإزار كشفا، وبه أخذ الحلواني والاحتياط تركه. ومس ما تحت الإزار على ما اعتاد الجهلة في الحمام حرام ولو نظر إلى عورة غيره وهي غير بادية لم يأثم.
[ما تنظر إليه المرأة من الرجل الرجل]
م: (قال: ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه إذا أمنت الشهوة) ش: أي قال القدوري في "مختصره ": يعني يجوز للمرأة الحرة الأجنبية أن تنظر إلى ما ينظر الرجل إليه منه أي من الرجل، والضمير في إليه يرجع إلى ما في قوله: ما ينظر الرجل، وقيد بقوله: إذا أمنت الشهوة؛ لأنها إذا لم تأمن لم يجز لها النظر إليه.
وفي " فتاوى الولوالجي ": أما إذا نظرت إلى الرجل فوقعت في قلبها شهوة أو كان ذلك أكب رأيها أو شكت في ذلك فالمستحب أن تغض بصرها منه. وفي الرجل إذا نظر إلى المرأة فوقع في قلبه شهوة، أو كان ذلك أكبر رأيه، أو شك يحرم عليه النظر، ويجيء الفرق بينهما عن قريب إن شاء الله سبحانه وتعالى.
[نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي]
م: (لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة) ش: وهذا التعليل خلاف ما ذكر الولوالجي، ويجيء الآن وجه ما ذكره م: (كالثياب والدواب) ش: أي كنظرها إلى الثياب والدواب ونحو ما ليس بعورة، فإن الرجل والمرأة في ذلك متساويان.
م: (وفي كتاب الخنثى من " الأصل ") ش: أي " المبسوط " م: (أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه) ش: يعني لا ينظر إلى ظهره وبطنه م: (لأن النظر إلى خلاف الجنس أغلظ) ش: ألا ترى أنه لا يحل للمرأة غسل الرجل الأجنبي بعد موته ويحل للرجل ذلك. م: (فإن كان في قلبها شهوة أو أكبر رأيها أنها تشتهي أو شكت في ذلك) ش: أي في الاشتهاء والشك(12/146)
يستحب لها أن تغض بصرها. ولو كان الناظر هو الرجل إليها وهو بهذه الصفة لم ينظر، وهذا إشارة إلى التحريم، ووجه الفرق أن الشهوة عليه غالبة، وهو كالمتحقق اعتبارا. فإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين، ولا كذلك إذا اشتهت المرأة؛ لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارا، فكانت من جانب واحد، والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق من جانب واحد.
قال: وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استواء الطرفين م: (يستحب لها أن تغض بصرها. ولو كان الناظر هو الرجل إليها وهو بهذه الصفة) ش: أي كان في قلبه شهوة أو كان في أكبر رأيه أنه يشتهي أو شك في الاشتهاء م: (لم ينظر) ش: يعني لا يجوز له النظر إليها. م: (وهذا) ش: وفي بعض النسخ: وهذه، أشار به إلى قوله: لم ينظر م: (إشارة إلى التحريم) ش: أي تحريم نظره إليها في هذه الصورة بخلاف المرأة.
م: (ووجه الفرق) ش: أي بين الرجل والمرأة حيث كان النظر إلى الرجل مراما وغض بصرها مستحب هو م: (أن الشهوة عليهن غالبة وهو كالمتحقق اعتبارا) ش: أي الغالب المتحقق من حيث الاعتبار.
م: (فإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين) ش: أي من جانب الرجل وجانب المرأة، أما من جانب الرجل فحقيقة لوجودها، وأما من جانب المرأة فكالمتحقق باعتبار الغلبة فيقتضي ذلك إلى زيادة القبح.
م: (ولا كذلك إذا اشتهت المرأة) ش: يعني ليس الأمر كما ذكر إذا وجدت الشهوة من المرأة حقيقة م: (لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارا) ش: أما حقيقة فظاهر وأما اعتبارا فلعدم غلبة الشهوة فيه م: (فكانت) ش: أي الشهوة م: (من جانب واحد) ش: فلا يؤدي إلى زيادة قبح.
م: (والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق من جانب واحد) ش: فكذلك قالوا لها الاستحسان في جانب المرأة وبالحرمة في جانب الرجل.
[نظر المرأة من المرأة]
م: (قال: وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا، والغالب كالمتحقق في شرح "الكافي "، وكرهه بعض الناس وقال: إنه لا ضرورة إليه.
قلنا: المراد تحتاج إلى دخول الحمام وأن تعمل في نفسها والنساء يدخلن عليها فلو لم يجز ذلك لأدى إلى تضييق الأمر على الناس فقلنا بالجواز كما في نظر الرجل إلى الرجل.(12/147)
لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه، بخلاف نظرها إلى الرجل؛ لأن الرجال يحتاجون إلى زيادة الانكشاف للاشتغال بالأعمال، والأول أصح.
قال: وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها، وهذا إطلاق في النظر إلى سائر بدنها عن شهوة وغير شهوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي في الحمام فصار كغسلها بها بعد موتها، وعن بعض الناس يمنعن عن الدخول في الحمام؛ لأنه - «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الدخول في الحمامات بمئزر وغير مئزر» .
قلنا: العرف ظاهر في جميع البلدان بناء الحمامات للنساء، وحاجتهن للدخول فوق حاجة الرجال على الخصوص في أيام البرد، فإن الرجل متمكن من الاغتسال في الحياض والأنهار، والمرأة لا. ولأن المقصود من الدخول تحصل الزينة والمرأة إليها أحوج كذا في " المبسوط ".
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه) ش: يعني لا تنظر المرأة إلى المرأة إلى ظهرها وبطنها أيضا بخلاف نظرها إلى الرجل أي بخلاف نظر المرأة إلى المرأة إلى ظهرها وبطنها أيضا (بخلاف نظرها إلى الرجل) ش: أي بخلاف نظر المرأة إلى الرجل حيث جاز نظرها إلى ظهر الرجل وبطنه م: (لأن الرجال يحتاجون إلى زيادة الانكشاف للاشتغال بالأعمال والأول أصح) ش: وهو جواز نظر المرأة إلى ظهر المرأة وبطنها لئلا يضيق الأمر على الناس.
[نظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته]
م: (قال: وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها) ش: أي قال القدوري م: (وهذا إطلاق في النظر) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إطلاق في نظر الرجل م: (إلى سائر بدنها عن شهوة وغير شهوة) ش: واستدل الأترازي في ذلك بما رواه البخاري في "صحيحه " بإسناده إلى عروة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد من قدح يقال له الفرق» . والفرق مكيال يسع ستة عشر رطلا، فلو لم يجز النظر لم يتجردا في مكان واحد.
قلت: لا يتم الاستدلال بهذا؛ لأنه لا يلزم أن يكون اغتسالهما مقابل بجوار أن يكونا(12/148)
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك» . ولأن ما فوق ذلك من المسيس والغشيان مباح، فالنظر أولى إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع، ولا يتجردان تجرد العير» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متعاقبين ولكن في ساعة واحدة، ولئن سلمنا فلا يدل ذلك على أن كلا منهما كان ينظر إلى فرج الآخر، وكيف وقد روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أنها قالت: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ير مني ولم أر منه» .
وقيد بقوله: من أمته التي تحل له، احترازا عن الأمة المجوسية والأمة التي هي أخته من الرضاعة؛ لأن حكمهما في النظر كأم الغير.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في وجه ستر العورة حال الخلوة: واجب كمنا يجب على أعين الناس م: (والأصل فيه) ش: أي في جواز نظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها.
م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة: أبو داود في "الحمام"، والترمذي في "الاستئذان"، والنسائي في "عشرة النساء ":، وابن ماجه في "النكاح"، «عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ومعاوية بن حيدة قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: قلت يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها" قال: قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحي من الناس» . قال الترمذي: حديث حسن. ورواه الحاكم في "المستدرك في اللباس" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
م: (ولأن ما فوق ذلك من المسيس والغشيان مباح، فالنظر أولى) ش: هذا دليل معقول، أي ولأن ما فوق النظر من الجماع والغشيان مباح، فالنظر الذي هو أدنى منه أولى أن يكون مباحا.
م: (إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير» ش: هذا الحديث رواه خمسة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.(12/149)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: عتبة بن عبد السلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أخرج حديثه ابن ماجه في "النكاح"، حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي عن الوليد بن قاسم الهمداني، عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه وراشد بن سعد وعبد الأعلى بن عدي، عن عتبة بن عبد الله السلمي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العير» .
رواه الطبراني في "معجمه " حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا بشر بن عمارة، عن الأحوص بن حكيم عن عبد الله بن عامر عن عتبة بن عبد.
الثاني: عبد الله بن سرجس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه النسائي في "عشرة النساء"، عن صدقة بن عبد الله السمين عن زهير بن محمد عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم أهله فليلق على عجزه وعجزها شيئا ولا يتجردان تجرد العيرين» . وقال: حديث منكر، وصدقه ضعيف.
ورواه ابن عدي في "الكامل " عن زهير بن محمد، عن ابن جريج، عن عاصم الأحول به، وأعله عبد الحق في "أحكامه" بصدقة وقال: إنه ليس بالقوي، وأعله ابن القطان بعده بزهير وقال: إنه ضعيف. ورواه الطبراني في "معجمه "، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا زيد بن أخرم، حدثنا محمد بن عباد الهنائي، حدثنا عباد بن كثير عن عاصم الأحول به.
الثالث: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه ابن أبي شيبة والبزار في "مسنديهما"، وابن عدي والعقيلي في "كتابيهما"، والطبراني في "معجمه " عن مندل بن علي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله مرفوعا بلفظ النسائي، وقال البزار: لا نعلم رواه عن الأعمش هكذا إلا مندل بن علي فأخطأ فيه، وذكر شريك أنه كان عند الأعمش وعنده عاصم ومندل فحدث به عاصم عن أبي قلابة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه في النكاح"، حدثنا الثوري عن عاصم به كذلك، وأعله(12/150)
ولأن ذلك يورث النسيان لورود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن عدي بمندل، وأسند تضعيفه عن ابن معين والسعدي والنسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال ابن أبي حاتم في "علله ": قال: أبو زرعة: أخطأ فيه مندل ونقل العقيلي عن الأعمش أنه كذب فيه مندل بن علي، وقال: أنا أخبرت به عن عاصم عن أبي قلابة، انتهى.
قلت: رواه الطبراني في "معجمه "، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو غسان، حدثنا إسرائيل عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا باللفظ المذكور سواء.
الرابع: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج الطبراني في "معجمه الأوسط "، حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبد الله بن زحر عن ابن المسيب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر؛ فإنه إذا لم يستتر استحيت الملائكة فخرجت وبقي الشيطان، فإذا كان بينهما ولد كان للشيطان فيه نصيب» . ورواه البزار في"مسنده "، حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني حدثنا سعيد بن أبي مريم، وقال: إسناده ليس بالقوي ولا نعلمه يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا بهذا الإسناد.
الخامس: أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه " حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عفير بن معدان، عن سليم بن عامر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحد أهله فليستترا ولا يتجردان تجرد العيرين» .
قوله: العير - بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء مهملة -وهو الحمار الوحشي، وخص بذكره؛ لأن في الأهلي نوع ستر من الألعاب والشعر، وقيل: هو الأهلي أيضا، وهذا كما ترى وقع في رواية بعضهم بلفظ الواحد، وفي رواية البعض بلفظ التثنية.
م: (ولأن ذلك يورث النسيان) ش: أي ولأن النظر إلى الفرج يورث النسيان م: (لورود(12/151)
الأثر وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: "الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأثر) ش: وهو ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه قال: "من أكثر النظر إلى عورته عوقب بالنسيان " هكذا ذكر في كتبنا، ولم أر من ذكره من أرباب النقل. وقد ورد حديثان ضعيفان: بأنه يورث العمى هكذا أخرجه، أحدهم [أخرجه] ابن عدي في " الكامل "، وابن حبان في كتاب " الضعفاء " عن بقية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جامع أحدكم زوجته فلا ينظر إلى فرجها فإن ذلك يورث العمى» وجعلاه من منكرات بقية.
ومن طريق ابن عدي رواه ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: قال ابن حبان: كان بقية يروي عن كذابين وثقات ويدلس، وكان له أصحاب يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فيشبه أن يكون سمع هذا من بعض الضعفاء عن ابن جريج، ثم دلس عنه فالتزق به وهذا موضوع.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديث موضوع وبقية كان يدلس.
والحديث الآخر رواه ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق أبي الفتح الأزدي: ثنا زكريا بن يحيى المقدسي، حدثنا إبراهيم بن محمد الفريابي حدثنا محمد بن عبد الرحمن القشيري، عن جعفر بن كدام، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جامع أحدكم فلا ينظر إلى الفرج فإنه يورث العمى، ولا يكثر الكلام فإنه يورث الخرس» . ثم قال: قال الأزدي: إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ساقط.
م: (وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: "الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة ") ش: هذا لم يثبت عن ابن عمر أصلا لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سألت أبا حنيفة عن الرجل يمس فرج امرأته وهي تمس فرجه ليتحرك عليهما فما ترى بذلك بأسا. قال: "إني لأرجو أن يعظم الأجر". كذا في " الذخيرة " وفي جميع التفاريق. قال أبو بكر الرازي: لا بأس بوطء المنكوحة بمعاينة الأمة دون العكس، ولا بأس بالوطء ومعه قوم نيام إذا ظن أنهم لا يعلمون. وفي " القيمة ": كره محمد(12/152)
قال: وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية، والمراد والله أعلم مواضع الزينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجمع بين المرأتين والأمتين في فراش واحد ويطأ إحداهما بمرأى الأخرى. وقال أبو يوسف: لا بأس به.
[نظر الرجل من ذوات محارمه]
م: (قال: وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الكرخي في "مختصره ": قال محمد بن الحسن: لا بأس بأن ينظر الرجل من أمه وأخته البالغة ومن كل ذات رحم محرم منه، ومن كل محرم من رضاع أو نكاح أو وطء، وكذلك ما حرم بوطء ابنه وأبيه أو نكاح ابنه وإن لم يكن بينهما رحم إلى شعرها، وإلى صدرها، وإلى ثديها، وعضدها، وساقها، وقدمها.
ولا ينبغي أن ينظر إلى بطنها، ولا إلى ظهرها، ولا إلى ما بين سرتها حتى يجاوز الركبة، وإن كان ينظر إلى شيء من ذلك بشهوة فليس له أن ينظر إلى ذلك، وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه إن نظر اشتهى. فينبغي له أن يغض بصره، وإن أمن على نفسه فلا بأس.
ولا بأس أن يسافر بها ويكون محرما لها، أو تسافر معه لا محرم غيره، فإن خاف على نفسه لا يسافر معها ولا يخلو بها، ولا ينبغي لها إن خافت ذلك منه أن تخلو معه في بيت، ولا تسافر معه فإذا أمنا ذلك، أو كان غلبة أكبر رأيهما فلا بأس بالخلوة معها والسفر بها. وكل شيء من هذا الذي وصفت لك مما لا بأس بالنظر إليه من أمته أو من ذات محرم، فلا بأس من مسه منها، ولا بأس أن يمس شعر رأسها ويقبله ويدهنه، ويمس ساقها ورجلها، أو يغمز ذلك منها، ويمس صدرها وثديها وعضدها ووجهها وذراعها وكفها.
ويكره أن يمس ما كرهنا النظر إليه إذا كان مجردا وإن كانت غير مجردة واحتاج إلى حملها والنزول بها، فلا بأس أن يحملها وينزلها، ويأخذ بطنها وظهرها، وإن كان يخاف أن يشتهي أن يمس شيئا من ذلك أو كان غلبة أكبر رأيه يتحسب ذلك ويجهده، انتهى.
م: (ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها) ش: وكذا لا يجوز مسها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "القديم" يجوز مسها. وبقولنا قال القاضي حسين من أصحابه حيث قال: ولا يجوز أن يمس ذات الرحم وإن لم يكن عورة في حقه.
م: (والأصل فيه) ش: أي في جواز ما جاز وعدم جواز ما لم يجز. م: (قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية والمراد والله أعلم مواضع الزينة) ش: ذكر الحال وأراد المحل مبالغة في النهي عن الإبداء؛ لأن الإبداء كان منفصلا إذا كان منهيا عنه فإبداء المتصل أولى م:(12/153)
وهي ما ذكرنا في الكتاب،
ويدخل في ذلك الساعد والأذن والعنق والقدم؛ لأن كل ذلك مواضع الزينة، بخلاف الظهر والبطن والفخذ؛ لأنها ليست مواضع الزينة ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان، واحتشام، والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وهي ما ذكرنا في الكتاب) ش: أي مواضع الزينة هي التي ذكره القدوري من الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين.
م: (ويدخل في ذلك) ش: أي في مواضع الزينة م: (الساعد والأذن والعنق والقدم؛ لأن كل ذلك مواضع الزينة) ش: أما الرأس فلأنه موضع التاج والإكليل، والشعر موضع العقاص، والعنق موضع القلادة، والصدر كذلك، والأذن موضع القرط، والعضد موضع الدملج، والساعد موضع السوار، والكف موضع الخاتم والخضاب، والساق موضع الخلخال، والقدم موضع الخضاب.
فإن قلت: ينبغي أن ينظر إلى ظهرها؛ لأنه موضع القراميل، كما في هذه المواضع.
قلت: القراميل فوق اللباس عادة، ولا يجوز النظر إلى ثوبها الواقع على بطنها وظهرها للأجنبي فضلا عن المحارم م: (بخلاف الظهر والبطن والفخذ؛ لأنها ليست مواضع الزينة) ش: الظاهرة ولا الباطنة، ولأنه لا ضرورة في النظر إلى ذلك.
ثم اعلم أن معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] أي لا يظهر مواضع زينتهن الظاهرة والباطنة إلا لأزواجهن. والبعولة جمع بعل وهو الزوج أو آباؤهن ويدخل في الأجداد وآباء بعولتهن وقد صاروا محارم، أو أبنائهن، ويدخل فيهم النوازل أو أبناء بعولتهن فقد صاروا محارم أيضا، أو إخوانهن، أو بني أخواتهن، ويدخل فيهن نوازل الإخوة والأخوات أيضا، وإذا ثبت في هؤلاء المحارم ثبت في سائر المحارم من الأعمام والإخوان، وفي المحارم بالرضاع؛ لأن ذكر بعضهم تنبيه على سائرهم كذا في " التيسير ".
م: (ولأن البعض يدخل على البعض) ش: أي ولأن بعض المحارم يدخل بعضهم على بعض م: (من غير استئذان واحتشام، والمرأة في بيتها) ش: أي والحال أن المرأة قاعدة في بيتها م: (في ثياب مهنتها عادة) ش: أي في ثياب خدمتها وخلقانها، والمهنة بكسر الميم وفتحها، وعن الأصمعي: لا يجوز إلا الفتح.
م: (فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج) ش: لأن ثياب المهنة لا تستر لجميع بدنها لأنها في أعمال بيتها فيها، ففي تحريم النظر إليها حرج ومشقة عظيمة.(12/154)
وكذا الرغبة تقل للحرمة المؤبدة، فقلما تشتهى بخلاف ما وراءها؛ لأنها لا تنكشف عادة، والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه. وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح في الأصح لما بينا.
قال: ولا بأس بأن يمس ما جاز أن ينظر إليه منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الرغبة تقل) ش: ما تشتهى بل ينعدم أصلا بالكلية عند أرباب الدين والطبع السليم م: (للحرمة المؤبدة، فقلما تشتهى) ش: فلا يحرم م: (بخلاف ما وراءها) ش: أي ما وراء المواضع المذكورة م: (لأنها لا تنكشف عادة) ش: فلا يكون في منع النظر إليها حرجا م: (والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها) ش: أي بين الرجل والمرأة م: (على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه) ش: أي في المحرم، وأراد بالمعنيين الحرج، وقلة الرغبة.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يقطع من إذا سرق من بيت أمه من الرضاع بجواز الدخول من غير احتشام واستئذان فوقع نقصان في الحرز.
قلت: لا يقطع عند البعض، وأما جواز الدخول من غير احتشام واستئذان فممنوع، ذكر خواهر زاده أن المحارم من جهة الرضاع لا يكون لهم الدخول من غير استئذان ولهذا يقطعون بسرقة بعضهم من بعض.
م: (وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح) ش: أي زنا م: (في الأصح) ش: احترز به عن قول بعض المشائخ فإنهم قالوا: إذا كانت حرمة المصاهرة بالزنا لا يحل النظر والمس؛ لأن ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزاني لا بطريق النعمة.
والأصح: أنه لا بأس بذلك لأنه حرمة على التأبيد م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لوجود المعنيين؛ لأن بالمصاهرة ثبت المحرمية كيف ما كانت وبالمحرمية تعلل الرغبة، فلو حرم النظر لأدى إلى الحرج.
[يمس الموضع الذي يجوز له النظر إلى ذلك الموضع من ذوات المحارم]
م: (قال: ولا بأس بأن يمس ما جاز له أن ينظر إليه منها) ش: أي قال القدوري، أي لا بأس للرجل أن يمس الموضع الذي يجوز له النظر إلى ذلك الموضع من ذوات المحارم. وبه قالت الثلاثة. وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي: لا يجوز مسها، وإن لم تكن عورة في حقه لما فيه من خوف الفتنة.
ولنا ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل رأس فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ويقول: "أجد منها ريح الجنة"، وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها، وقبل رأسها» . وعن الحسن بن علي -(12/155)
لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة وقلة الشهوة للمحرمية، بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس، وإن أبيح النظر؛ لأن الشهوة متكاملة إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة فحينئذ لا ينظر ولا يمس، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه كان يقبل رأس أمه.
وعن محمد ابن الحنيفة: أنه كان يمشط شعر أمه. وفي " شرح الكافي ": وعن محمد بن المنكدر أنه قال: بت أغمز رجل أمي، وبات أخي يصلي، وما أحب أن تكون ليلتي بليلته.
م: (لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة) ش: أي المس في المسافرة؛ لأنه يحتاج إلى إركابها وإنزالها وخدمتها. وتخصيص المسافرة باعتبار الغلبة، وإلا في الحضر أيضا، وربما تتحقق الحاجة.
م: (وقلة الشهوة للمحرمية) ش: أي ولتحقق قلة الشهوة لأجل تحقق المحرمية م: (بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس، وإن أبيح النظر؛ لأن الشهوة متكاملة) ش: فلو جوز المس أدى إلى الفساد م: (إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة فحينئذ لا ينظر ولا يمس) ش: هذا استثنى من قوله: وينظر الرجل من ذوات محارمه. إلخ.
وقال صاحب " العناية ": هذا استثناء من قوله: ولا بأس وفيه نظر؛ لأنه إذا كان استثناء من هذا يلزم أن لا يجوز المس عند الخوف، ولكن يجوز النظر، وليس كذلك، بل عند الخوف لا يجوز كلاهما، كما صرح المصنف بقوله: فحينئذ لا ينظر ولا يمس إذا كان الاستثناء على ما ذكرنا، يجوز نظر الرجل من ذوات محارمه إلى كذا، وكذا إلا إذا خاف لا ينظر، فإذا انتفى النظر عند الخوف فالمس بطريق الأولى، وذلك حذرا عن الوقوع في الفساد.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم في "كتاب القدر" عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه الكلام، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى،(12/156)
وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب، ولا بأس بالخلوة والمسافرة بهن لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم منها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» .
وأخرج البخاري، ومسلم فيه، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم: مما قال أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» .
[الزنا بذوات المحارم]
م: (وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب) ش: أي النظر والمس عند الخوف لأنه ربما يوقعه في الزنا، والزنا بالمحرم أغلظ من الزنا بالأجنبية.
م: (ولا بأس بالخلوة والمسافر بهن) ش: أي بذوات محارمه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم منها» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن قزعة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها» وفي لفظ له: ثلاثا.
ورواه البخاري بلفظ: يومين، وأخرجا عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعا: «لا تسافر المرأة فوق ثلاث» . وفي لفظ للبخاري: «ثلاثة أيام» وأخرجا عن أبي سعيد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله، واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها» . وفي لفظ لمسلم: «مسيرة ليلة» وفي لفظ: " يوم"، وفي لفظ لأبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «بريدا» وهي عند ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال المنذري في " مختصر السنن ": في هذه الروايات تباين.
وقد أخرج الطحاوي هذه الروايات كلها في " شرح معاني الآثار " ثم قال: وفي توقيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالثلاث دليل على ما حل دون الثلاث بخلافها، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقد اتفقت الآثار على مسافرتها بلا محرم مسيرة مدة ثلاثة أيام ولياليها. واختلفت فيما دونها، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه. انتهى.
قلت: أشار بذلك إلى اختلاف العلماء في هذا الباب حيث قال بعضهم: لا يجوز لها السفر قريبا، أو بعيدا إلا بذي رحم، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى أبي سعيد مولى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يقول: قال ابن عباس -(12/157)
وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل، فإن ثالثهما الشيطان» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس فقال: «لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو رحم، ولا يدخل عليها إلا ومعها ذو رحم محرم» .
وقال بعضهم: كل سفر دون البريد، واحتجوا بلفظ أبي داود الذي ذكرناه. وقال بعضهم: كل سفر دون اليوم فلها أن تسافر بلا محرم، وكل سفر يوما فصاعدا ليس لها أن تسافر إلا بمحرم، واحتجوا بلفظ لمسلم مسيرة يوم كما ذكرناه.
وقال بعضهم: كل سفر يكون دون ليلتين فلها أن تسافر بغير محرم. واحتجوا بلفظ البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "يومين" الذي ذكرناه، واحتج أصحابنا بلفظ "الثلاث" كما ذكرناه.
وكلمة: "فوق" في قوله: "فوق ثلاث" صلة، إذ حرمة المسافرة ثابتة في الثلاث أيضا فصار كقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] . م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل، فإن ثالثهما الشيطان» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وليس في حديث واحد منهم: "ليس منها بسبيل": منهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أخرج حديثه الترمذي في "أوائل الفتن"، والنسائي في "عشرة النساء"، عن عبد الله بن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خطب بالجابية، وقال: "يا أيها الناس قمت فيكم، كما قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل، ولا يستحلف، يستشهد الشاهد ولا يشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» وقال: حديث حسن صحيح غريب.
وأخرج ابن حبان في "صحيحه "، والحاكم في "مستدركه في كتاب العلم"، وسكت عنه. وأعاده عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكره، وقال: صحيح الإسناد.
ومنهم جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه " عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما» مختصر.(12/158)
والمراد إذ لم يكن محرما، فإن احتاجت إلى الإركاب والإنزال، فلا بأس بأن يمسها من وراء ثيابها، ويأخذ ظهرها وبطنها، دون ما تحتهما إذا أمنا الشهوة، فإن خافها على نفسه أو عليها تيقنا أو ظنا أو شكا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم عامر بن ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده " عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه مرفوعا نحوه.
ومنهم عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط "، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعا بنحوه. وقال: تفرد به حجاج بن محمد.
ومنهم جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه مسلم، وهو معنى حديث الكتاب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحها أو ذا محرم» .
م: (والمراد إذا لم يكن محرما) ش: أي المراد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة» إذا لم يكن الرجل محرما.
م: (فإن احتاجت إلى الإركاب والإنزال فلا بأس أن يمسها من وراء ثيابها) ش: أي فإن احتاجت المرأة في السفر إلى من يركبها على الدابة وينزلها عنها فلا بأس لمحرمها بأن يمس من خارج ثوبها.
م: (ويأخذ ظهرها وبطنها دون ما تحتهما) ش: إلى الركبة حيث لا يجوز مسه فوق الثياب؛ لأن الإباحة للضرورة، وهي ترتفع بمس الظهر والبطن لأن ما تحت السرة عورة في حق جميع الناس، بخلاف الظهر والبطن فإنهما ليسا بعورة في حق النساء، والضرورة ترتفع بالأدنى، فلا يثبت الإباحة في الإعلاء الحرمتين، كذا في " الذخيرة ".
وقيد بقوله: م: (إذا أمنا الشهوة) ش: لأنها إذا لم يأمنا لا يأخذ ظهرها وبطنها م: (فإن خافها على نفسه أو عليها) ش: أي فإن خاف المحرم الشهوة على نفسه، أو على نفس المرأة م: (تيقنا أو ظنا أو شكا) ش: أي من حيث اليقين، أو من حيث الظن، أو من حيث الشك، وأشار بهذا إلى أن الكل سواء عند الخوف، واليقين هو الأمر الجازم، والظن الطرف الراجح، والشك هو استواء الطرفين، والطرف المرجوح هو الوهم.(12/159)
فليتجنب ذلك بجهده. ثم إن أمكنها الركوب بنفسها يمتنع عن ذلك أصلا، وإن لم يمكنها يتكلف بالثياب كيلا تصيبه حرارة عضوها. وإن لم يجد الثياب يدفع الشهوة عن قلبه بقدر الإمكان.
قال: وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز له أن ينظر إليه من ذوات محارمه؛ لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه، وهي في ثياب مهنتها فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخلة في حق محارم الأقارب. وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة، وقال: ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فليتجنب ذلك بجهده) ش: أي فحينئذ فليمتنع من المس بقدر جهده وطاقته تحرزا عن الوقوع في الفتنة.
م: (ثم إن أمكنها الركوب بنفسها يمتنع عن ذلك أصلا) ش: أي إن أمكن المرأة الركوب على الدابة بنفسها يمنع الرجل المحرم عن مسها بالكلية.
م: (وإن لم يمكنها بالثياب كيلا تصيبه حرارة عضوها) ش: أي إن لم يكن في مقدور المرأة الركوب بنفسها، يتكلف المحرم في مسها بالثياب حتى لا يصيبه شيء من حرارة جسمها م: (وإن لم يجد الثياب يدفع الشهوة عن قلبه بقدر الإمكان) ش: أي وإن لم يجد المحرم الثياب ليمتنع بها وصول شيء من حرارة عضوها، يركبها ويتدبر أمرها، ولكن بدفع الشهوة عن قلبه مهما أمكن للضرورة.
[نظر الرجل من مملوكة غيره]
م: (قال: وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز له أن ينظر إليه من ذوات محارمه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": وما يجوز أن ينظر منه إلى محارمه وهو الوجه، والرأس، والصدر، والساقان، والعضدان كما مر.
م: (لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه، وهي في ثياب مهنتها) ش: أي خدمتها، وهي الثياب الخلقة التي تلبس لأجل الخدمة. م: (فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخله) ش: أي فصار حال الأمة خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة الحرة داخل البيت م: (في حق محارم الأقارب) ش: حيث يجوز للمحارم والأقارب أن ينظروا إلى المواضع المذكورة من المرأة.
م: (وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة، وقال: ألق عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر) ش: وروى أبو عبيد القاسم بن سلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - بمعناه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -رأى جارية مكمكمة، فسأل عنها، فقالوا: أمة آل فلان، فضربها بالدرة، وقال: يا لكع، أتتشبهين بالحرائر.(12/160)
ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها خلافا لما يقوله محمد بن مقاتل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه يباح إلا ما دون السرة إلى الركبة؛ لأنه لا ضرورة كما في المحارم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج البيهقي عن نافع: أن صفية بنت أبي عبيد حدثته قالت: خرجت امرأة مختمرة متجلببة، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: من هذه المرأة؟ فقيل: جارية لفلان، لرجل من بيته، فأرسل إلى حفصة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، فقال لها: ما حملك على أن تخمري هذه الأمة، وتجلببيها، حتى هممت أن أقع بها، لا أحسبها إلا من المحصنات؟ لا تشبهوا الإماء بالمحصنات.
وقال الذهبي في "مختصره ": سنده قوي.
قوله: متقنعة: أي متلففة في مقنعة.
قوله: علاها بالدرة: أي ضرب على رأسها بالدرة. والخمار: بكسر الخاء المعجمة: ما تخمر به المرأة رأسها أي تعصبها، قوله: يا دفار بفتح الدال المهملة، يعني: يا منبتة من الدفر وهو النتن، وهو على وزن فعال مبني على الكسر.
قوله: مختمرة: أي لابسة الخمار. متجلببة: أي لابسة الجلباب.
قوله: مكمكمة: أي متقنعة متلففة في ثيابها لا يبدو منها شيء، وذلك من شأن الحرائر. قوله: لكنا، بمعنى لكاع بمعنى تسمية.
وقال أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي هذا الحديث من الفقه: أنه رأى أن تخرج الأمة بلا قناع، فإذا برزت الناس كذلك فينبغي أن تكون في الصلاة بلا قناع. ولهذا قال إبراهيم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صلاة الأمة: تصلي كما تخرج إلى الأسواق، ويدل عليه أيضا ما روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مر بجارية تباع فضرب في صدرها ذراعها، وقال: اشتروا.
وكذا في المس ضرورة؛ لأن في أمة امرأة الرجل يحتاج إلى أن تخدم زوج مولاتها وتغمز رجله، وكذا أمة الابن يحتاج إلى أن تخدم المولى فمست الضرورة إلا الإباحة.
[النظر إلى ظهر الأمة الأجنبية]
م: (ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها) ش: أي إلى ظهر الأمة الأجنبية وبطنها م: (خلافا لما يقوله محمد بن مقاتل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يباح إلا ما دون السرة إلى الركبة) ش: أراد أن حكمها في النظر كحكم الرجل عند محمد بن مقاتل الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وبه قال الشافعي في ظاهر مذهبه، لما روينا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه قال في حديث طويل: ومن أراد أن يشتري جارية فلينظر إليها إلا موضع الإزار، ولتعامل أهل الحرمين. ولنا ما ذكره بقوله: م: (لأنه لا ضرورة كما في المحارم) ش: أي لا ضرورة في النظر(12/161)
بل أولى لقلة الشهوة فيهن وكذلك في الإماء ولفظة المملوكة تنتظم المدبرة والمكاتبة وأم الولد لتحقق الحاجة، والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما عرف. وأما الخلوة بها والمسافر معها، فقد قيل: يباح كما في المحارم، وقد قيل: لا يباح لعدم الضرورة. وفي الإركاب والإنزال اعتبر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل الضرورة فيهن، وفي ذوات المحارم مجرد الحاجة.
قال: ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء وإن خاف أن يشتهي كذا ذكره في " المختصر ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى الظهر، والبطن من الأمة كما لا ضرورة في المحارم م: (بل أولى) ش: أي في الأمة م: (لقلة الشهوة فيهن، وكذلك في الإماء) ش: أي لقلة الشهوة في المحارم، وكمال الشهوة في الإماء.
م: (ولفظة المملوكة) ش: أي في عبارة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: وينظر الرجل من مملوكة غيره م: (تنتظم المدبرة والمكاتبة وأم الولد لتحقق الحاجة) ش: فيهن كما في القنة. ولا خلاف لأحد في المدبرة. وعن ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن أم الولد مثل الحرة حتى تصل منفعة. وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويحكى عن أحمد مثله.
م: (والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن عنده الإعتاق يتحرى وعندهما حرة وعليها دين، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما عرف) ش: في كتاب الإعتاق.
م: (وأما الخلوة بها) ش: أي بأمة الغير م: (والمسافرة معها فقد قيل: يباح كما في المحارم) ش: أي كما يباح في المحارم ولكن إذا أمن عليه وعليها م: (وقد قيل: لا يباح لعدم الضرورة) ش: أي للأجنبي في السفر معها م: (وفي الإركاب والإنزال اعتبر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل الضرورة فيهن) ش: يعني إذا لم تقدر الأمة الأجنبية على الركوب إلا بمشقة وضرر يلحقها فحينئذ يركبا الأجنبي وينزل بها، وهو معنى قوله: اعتبر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل أي في " المبسوط ": الضرورة فيهن أي في الإماء.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد الضرورة التي لا مدفع بها.
م: (وفي ذوات المحارم مجرد الحاجة) ش: أي اعتبر محمد في ذوات المحارم مجرد الحاجة يعني بمجرد حاجتها إلى الركوب والنزول سواء كان في ركوب نفسها ونزولها ضرورة أو لا.
[مس الأمة إذا أراد شراءها]
م: (قال: ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء وإن خاف أن يشتهي) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا بأس للأجنبي أن يمس المواضع التي يجوز النظر إليها إذا أراد شراءها وإن خاف على نفسه الشهوة م: (كذا ذكره في " المختصر ") ش: أي كذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(12/162)
وأطلق أيضا في " الجامع الصغير " ولم يفصل. قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يباح النظر في هذه الحالة وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنه نوع استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة.
: وإذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد، ومعناه: بلغت وهذا موافق لم بينا أن الظهر والبطن منها عورة. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها إذا كانت تشتهى ويجامع مثلها فهي كالبالغة لا تعرض في إزار واحد لوجود الاشتهاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"مختصره " م: (وأطلق أيضا في " الجامع الصغير " ولم يفصل) ش: يعني بين الاشتهاء وعدمه؛ لأنه قال في " الأصل الجامع ": عن محمد عن يعقوب، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يريد شراء جارية فلا بأس بأن يمس ساقها، وصدرها، وذراعها، وينظر إلى ذلك كله مكشوفا، انتهى. فدل على جواز من يريد الشراء بالاشتهاء؛ لأن إطلاق اللفظ يشمل ذلك.
م: (قال مشايخنا: يباح النظر في هذه الحالة) ش: أي حالة الشراء م: (وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك) ش: أي الاشتهاء م: (لأنه نوع استمتاع) ش: أي لأن المس نوع استمتاع؛ لأن المس بشهوة جماع معنى، والجماع حقيقة حرام، وإن أراد الشراء فكذا الجماع معنى. م: (وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة) ش: فإذا كانت بشهوة لا يباح شيء من ذلك. وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الجامع الصغير ": وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد: أنه يكره للشاب مس شيء من ذلك؛ لأن النظر كفاية، ولم ير أبو حنيفة بأسا لضرورة العلم ينسر بها.
م: (قال: وإذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ". م: (ومعناه: بلغت) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإذا حاضت: بلغت، وذلك لأن الحيض رديف البلوغ، فأراد به المردوف كناية.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا من باب إطلاق السبب على المسبب؛ لأن غالب بلوغهن بالحيض.
وقوله: لم تعرض في إزار واحد، يعني تؤمر بلبس القميص لأن ظهرها وبطنها عورة. والمراد بالإزار ما يستر به من السرة إلى الركبة.
م: (وهذا) ش: أي عدم جواز عرضها في إزار واحد م: (موافق لما بينا أن الظهر والبطن منها عورة) ش: أي من الأمة.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها إذا كانت تشتهى ويجامع مثلها فهي كالبالغة لا تعرض في إزار واحد لوجود الاشتهاء) ش: فيه بهذا على أنها إذا كانت لا تشتهى ولا يجامع مثلها، فلا(12/163)
قال: والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الخصاء مثلة فلا يبيح ما كان حراما قبله؛ ولأنه فحل يجامع، وكذا المجبوب؛ لأنه يساحق وينزل،
وكذا المخنث في الرديء من الأفعال؛ لأنه فحل فاسق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأس بعرضها في إزار واحد لعدم الاشتهاء.
[نظر الخصي إلى الأجنبية]
م: (قال: والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والخصي، منزوع الخصيتين، من خصاه إذا نزع خصيته. قال: خصيت الفحل خصاء ممدودا: إذا سللت خصيته.
م: (لقوله عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الخصاء مثلة) ش: هاهنا إيرادان على المصنف: الأول: إن هذا لم يثبت عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وإنما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه "، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فقال: حدثنا أسباط بن محمد، ابن فضل عن مطرف، عن رجل، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خصاء البهائم مثلة ثم تلا: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] . وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه "، عن مجاهد وعن شهر بن حوشب: "الخصاء مثلة ". ذكره في "كتاب الحج".
الثاني: أن هذا لا يدل على مدعاكم، فإن كون الخصاء مثلة لا يدل على أن نظر الخصي إلى الأجنبية كالفحل؛ لأنه فحل وشهوته موجودة، فصار كغير الخصي في الحالتين. قوله الخصاء: على وزن فعال بكسر الخاء من خصاه وأخصى بزيادة الهمزة خصاء قوله بضم الميم.
م: (فلا يبيح ما كان حراما قبله) ش: أي فلا يبيح الخصاء ما كان حراما قبله، يعني أن الحرام موجود في الحالتين.
م: (ولأنه فحل يجامع) ش: أي ولأن الخصي فحل يجامع حتى قيل أشد الجماع جماع الخصي؛ لأن آلته لا تفتر.
[نظر المجبوب إلى الأجنبية] 1
م: (وكذا المجبوب) ش: وهو مقطوع الذكر والخصيتين، من جبه إذا قطعه، أي كذا المجبوب في النظر إلى الأجنبية كالفحل م: (لأنه يساحق وينزل) ش: أي المني من الإنزال، وبهذا لو جاءت امرأته بولد ثبت نسبه منه، فصار هو والفحل بمنزلة واحدة.
وإن كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص بعض مشائخنا الاختلاط بالنساء لوقوع الأمن من الفتنة. وقد قال سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] قيل: هو المجبوب الذي جف ماؤه، والأصح: أنه لا يحل لعموم النصوص.
[نظر المخنث إلى الأجنبية]
م: (وكذا المخنث في الرديء من الأفعال؛ لأنه فحل فاسق) ش: أراد به المخنث الذي يمكن(12/164)
والحاصل: أنه يؤخذ فيه بحكم كتاب الله المنزل فيه، والطفل الصغير مستثنى بالنص.
وقال: لا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا إلى ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غيره من نفسه، وقيد به؛ لأن المخنث الذي في أعضائه لين، وفي لسانه تكسر، ولا يشتهي النساء أصلا وبه عنانة. فإنه قد رخص بعض مشائخنا في ترك مثله مع الفساد وهو أحد تأويل قوله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] ، وقيل المراد: الأبله الذي لا يدري ما يصنع بالنساء، إنما همه بطنه، والأصح أنه في المثابة.
م: (والحاصل: أنه يؤخذ فيه بحكم كتاب الله تعالى) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وهذا محكم، وقوله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] متشابه فيؤخذ بالحكم دون المشابهة. ويدل على صحة هذا ما روي في " صحيح البخاري " وغيره مسند إلى هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها «أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يدخلن هؤلاء عليكم» .
قال أبو عبيدة في " غريب الحديث ": قوله: «تقبل بأربع وتدبر بثمان» ، يعني أربع عكن في بطنها، فهي تقبل بهن، وقوله تدبر بثمان يعني أطراف هذه العكن الأربع، وذلك لأنها محيط بالجانبين حتى لحقت بالردفين من مؤخرها، من هذا الجانب أربع أطراف، ومن الجانب الآخر مثلها، فهذه ثمان.
والعكن - بضم العين وفتح الكاف-: جمع عكنة وهي الطي الذي يكون في البطن من السمن.
وفي " صحيح البخاري " عن ابن جريج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن اسم المخنث بهيت وقيل: اسمه نافع.
فإن قلت: ما كان وجه دخوله على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قلت: كان عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أولي الإربة من الرجال، لقوله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] وبهذا كان تركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل على نسائه. فلما وصف الذي وصف من المرأة، علم أنه ليس من أولئك وأمر بإخراجه ونهى عن دخوله. م: (المنزل فيه، والطفل الصغير مستثنى بالنص) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] .
[نظر العبد إلى سيدته]
م: (وقال: لا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا إلى ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها) ش:(12/165)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو كالمحرم، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] . ولأن الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استئذان. ولنا: أنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت، والمراد بالنص الإماء. قال سعيد والحسن وغيرهما: "لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قال القدوري: والضمير في إليه يرجع إلى ما في قوله ما يجوز: والذي في "منها" إلى السيدة، وفي بعض النسخ "النظر منه إليها" أي من الأجنبي إلى المرأة.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو كالمحرم، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي العبد كالمحرم من سيدته، وفي بعض النسخ كالمحارم م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] ش: لأن كلمة ما عامة، تتناول الذكور والإناث فيحل لهن إبداء مواضع زينتهن إلى مماليكهن.
م: (ولأن الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استئذان) ش: أي لدخول العبد على سيدته، وهي كاشفة شعرها، وقدمها، ونحو ذلك: فلو لم يجز النظر أدى إلى الحرج.
م: (ولنا: أنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة) ش: يعني حرمة نكاحها عليه ليست للتأبيد، والذي يؤثر في التحريم في محل النظر ما كان على التأبيد، ولم يوجد، فحرم الخلوة معها، والنظر إلى مواضع زينتها، أنهما داعيان إلى الفساد ولتحقق الشهوة في العبد ومولاته.
م: (والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت) ش: هذا جواب عن قوله: ولأن الحاجة تتحقق، وتقديره أن العبد يخدم ظاهر البيت لا داخل البيت عادة وعرفا، فلم تمس الحاجة إليه.
م: (والمراد بالنص الإماء) ش: هذا جواب عن استدلال مالك والشافعي رحمهما الله: أنه أي المراد من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] إلا ما دون الغلمان.
م: (قال سعيد والحسن وغيرهما: لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور) ش: أما قول سعيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه في كتاب النكاح" وقال: حدثنا أبو أسامة، حدثنا يونس عن ابن أبي إسحاق عن طارق، عن سعيد بن المسيب قال: لا تغرنكم الآية {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] إنما عني به الإماء ولم يعن به العبيد.
وأما قول الحسن البصري - فأخرجه أيضا بمعناه وقال: حدثنا عبد الأعلى عن هشام، عن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كره أن يدخل المملوك على مولاته بغير إذنه.
قوله: وغيرهما، أي غير أبي سعيد والحسن مثل الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو عامر بن(12/166)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرحبيل، فقد أخرج الطحاوي في " شرح الآثار ": حدثنا صالح بن عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا مغيرة عن الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويونس عن الحسن: أنهما كرها أن ينظر العبد إلى شعر مولاته.
ونقل نجم الدين النسفي في "تفسيره "، عن سمرة بن جندب، مثل قول سعيد. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا فيه نظر؛ لأنه لو كان صحيحا - وسمرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنقل عنه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لشدة سفر في "الأخبار والآثار"
قلت: هذا نظر عليه غشاوة لأن عدم نقل الطحاوي لا يدل على عدم صحة ما روي عن سمرة، ولا شدة سفره يستلزم وقوفه على جميع الأخبار، وقال السفناقي: أطلق السعيد ولم يقيده بالنسبة يتناول السعيد بن أبي سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومعه على ذلك الكاكي وصاحب " العناية ". وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه نظر؛ لأنه يلزم حينئذ أن يكون للمشترك عموم في موضع الإثبات وهو فاسد.
قلت: نظره وارد، ولكن تعليله غير مستقيم، أما وروده فلأنه لم يستعمل أحد من السلف لفظ سعيد من غير تشبه، وإرادته سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير. وأما تعليله غير مستقيم، فإنه ادعى فيه لزوم عموم المشترك، ولا نسلم الاشتراك هاهنا؛ لأن الاشتراك ما وقع لمعنى، وهنا شيء آخر نزل كلام السغناقي، وهو أن قول سعيد بن المسيب أخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا.
وأما قول سعيد بن جبير مثل قول سعيد بن المسيب، لم ينقله أحد لا بسند صحيح، ولا بسند ضعيف، فكيف يذكر المصنف سعيدا دون نسبة ويريد به السعيد؟. والحق هنا أن يقال: أما أن النساخ أسقطوا ابن المسيب، واستمرت النسخ على سعيد بغير نسبة، أو مصطلح على ذلك، حيث ذكر سعيدا على الإطلاق، وأراد به سعيد بن المسيب، كما قال المحدثون وغيرهم: قال: " عبد الله " من غير نسبة، ويريدون به عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن كان يتناول غيره بحسب الظاهر.
وكذلك يقولون: قال ابن عمر، ونحو ذلك، ويريدون به عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، مع أن عمرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له أولاد غير عبد الله، فافهم ذلك.
فإن قلت: نظر الإماء إلى نسائهن استفيد من قوله سبحانه وتعالى في تلك الآية: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] ، فلو حملت هذه الآية على الإماء لزم التكرار.(12/167)
قال: ويعزل عن أمته بغير إذنها، ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وقال لمولى أمة: «اعزل عنها إن شئت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقلت: دعوى التكرار غير مسلم، فإن المراد من قوله: أو نسائهن الحرائر المسلمات التي في صحبتهن؛ لأنه ليس لمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية، كذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
فإن قلت: لو لم يكن مراده من قوله: أو نسائهن، وجب أن لا يكون مراده من قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] أيضا؛ لأن البيان بالحكم إنما يكون في موضع الإشكال ولا يشكل لأحد أن للأمة أن تنظر إلى سيدتها كالأجنبيات، والمالك إن لم يرد توسعة فلا أقل أن لا يزيد تضييقا.
قلت: الموضع موضع الإشكال؛ لأن حالة الأمة يقرب من حالة الرجال حتى تسافر من غير محرم، فكان يشكل أنه يباح لها التكشف بين يدي أمتها، ولم يزل هذا الإشكال بقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء.
[العزل عن الأمة بغير إذنها]
م: (قال: ويعزل عن أمته بغير إذنها، ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها) ش: أي قال القدوري م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في "سننه في النكاح"، عن إسحاق بن عيسى عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن محرز بن أبي هريرة عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» . ورواه أحمد في "مسنده "، والدارقطني ثم البيهقي في "سننيهما"، قال الدارقطني: تفرد به إسحاق الطباع عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن محرز بن أبي هريرة، عن أبيه، عن عمر، قال: ووهم فيه أيضا خالفه عبد الله بن وهب فرواه عن ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ووهم فيه أيضا. والصواب عن حمزة عن عمر ليس فيه عن أبيه، وقال الذهبي في "مختصره ": الحديث ضعيف.
م: (وقال لمولى أمة: «اعزل عنها إن شئت» ش: أي: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا الحديث أخرجه مسلم في "النكاح"، عن أبي الزبير عن جابر. قال: «جاء رجل من الأنصار إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن لي جارية أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها". فلبث الرجل. ثم أتاه فقال: "إن الجارية قد حملت، قال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» . وأخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا.
فالحديث دل على أن له أن يعزل بلا إذن الأمة لأنه فوض المشيئة إلى المولى.(12/168)
ولأن الوطء حق الحرة قضاء للشهوة، وتحصيلا للولد ولهذا تخير في الجب والعنة، ولا حق للأمة في الوطء، فلهذا لا ينقص حق الحرة بغير إذنها ويستبد به المولى، ولو كانت تحته أمة غيره، فقد ذكرناها في النكاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الوطء حق الحرة قضاء للشهوة، وتحصيلا للولد) ش: يعني في المرأة الأولى بطريق الوجوب، وفي الثانية بطريق الاستحباب والديانة، والعزل يحل بلذة الجماع إليهما م: (ولهذا) ش: أي كون الوطء حقها لأجل قضاء الشهوة وتحصيل الولد م: (تخير) ش: أي المرأة م: (في الجب والعنة) ش: يعني فيما إذا وجدت زوجها مجبوبا أو عنينا م: (ولا حق للأمة في الوطء فلهذا) ش: أي فلأجل الوطء حق الحرة، ولا حق للأمة م: (لا ينقص) ش: أي الزوج م: (حق الحرة) ش: يعني في الوطء بأن يعزل عنها م: (بغير إذنها) ش: أي بغير إذن الحرة. م: (ويستبد به المولى) ش: أي يستقل بالعزل المولى.
م: (ولو كانت تحته أمة غيره فقد ذكرناها في النكاح) ش: هل يعزل بإذن مولاها أم لا؟ وقد ذكرناه هناك مستوفى فلا فائدة في إعادته، والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/169)
فصل في الاستبراء وغيره قال: ومن اشترى جارية فإنه لا يقربها، ولا يلمسها، ولا يقبلها، ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يستبرئها. والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في سبايا أوطاس: «ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الاستبراء وغيره]
[تعريف الاستبراء]
م: (فصل في الاستبراء وغيره) ش: أي: هذا فصل في بيان أحكام الاستبراء: وهو طلب براءة الرحم عن الحمل، وأراد بغيره مسألة المعانقة، والمصافحة، والقبلة. وأخر فصل الاستبراء لأنه احترز عن وطء مقيد فالمقيد بمنزلة المركب، والمركب مؤخر عن المفرد.
وفي فتاوى " قاضي خان ": اختلف فيمن أنكر وجوب الاستبراء، هل يكفر. قيل: لأنه أنكر إجماع المسلمين. وقال عامة المشائخ: لا يكفر لأن ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] يقتضي إباحة الوطء مطلقا. وعرف وجوب الاستبراء بالخبر فلا يكفر جاحده.
م: (قال: ومن اشترى جارية فإنه لا يقربها، ولا يلمسها، ولا يقبلها، ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يستبرئها) ش: أي قال في " الجامع الصغير "
قوله: لا يقربها أي لا يطأها. ولا يمسها من اللمس باليد من باب نصر، وضرب، وقوله: بشهوة يرجع إلى أصل المجموع. م: (والأصل فيه) ش: أي في وجوب الاستبراء م: «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحبالى حتى يستبرئن بحيضة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في "النكاح"، عن شريك، عن قيس بن وهب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ورفعه أنه «قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» .
رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وأعله ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - بشريك، وقال: إنه مدلس، وهو ممن ساء حفظه بالقضاء، وعن الحاكم: رواه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السنن "، وفي " المعرفة ".
وروى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: حدثنا النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، «عن حنش الصنعاني: أن رويفع ابن ثابت الأنصاري قام فينا خطيبا فقال: أما إني ما أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(12/170)
أفاد وجوب الاستبراء على المولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقول يوم حنين: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره -يعني إتيان الحبالى- ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله، واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم» .
حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية عن بن إسحاق بهذا الحديث، وقال: «حتى يستبرئها بحيضة» ، وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [الحيضة] ليست بمحفوظة، ورواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه ".
وأخرج ابن أبي شيبة في"مصنفه " حدثنا حفص عن حجاج، عن عبد الله بن زيد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن توطأ الحامل حتى تضع أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة» .
وأخرج الدارقطني في "سننه "، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مسلم الجنهدر، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن توطأ الحامل حتى تضع، أو حائل حتى تحيض» .
قوله: في سبايا أوطاس، السبايا جمع سبية، وهي الجارية التي تسبى، وأوطاس: اسم موضع على ثلاث مراحل من مكة، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزوة مشهورة وهي غزوة حنين، وكلمة إلا للسبية.
والحبالى جمع حبلى، والأصل في الجمع كسر اللام؛ لأن كل جمع ثالثه ألف يتكرر الحرف الذي بعدها، نحو مساجد وجوامع، ومن ثم أبدلوا من الياء المنقلبة من ألف التأنيث ألفا. وقالوا: حبالى بالفتح ليفرقوا بين الألفين، كما قلنا في الصحاري.
قوله: ولا الحيالى بالياء آخر الحروف بعد الحامل جمع حايل وهي التي لا حمل بها جاء على خلاف القياس للأزواج الحبالى، والقياس حوايل كما فعلوا ذلك في الغدايا والعشايا، والقياس الغدوات.
قوله: حتى يستبرأ، أن الهمز لا غير من استبراء الجارية، وهو طلب براءة رحمها.
م: (أفاد وجوب الاستبراء على المولى) ش: لأن النهي عن الوطء مع الملك المطلق يدل على(12/171)
ودل على السبب في المسبية، وهو استحداث الملك واليد؛ لأنه هو الموجود في مورد النص، وهذا لأن الحكمة فيه التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط، والأنساب عن الاشتباه، وذلك عند حقيقة الشغل، أو توهم الشغل بماء محترم، وهو أن يكون الولد ثابت النسب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجوب الاستبراء، أو لأنه لو لم يجب لما منع المالك عن استيفاء حقه، والنفي أبلغ من النهي، أو لأن حل الوطء بقي إلى غاية وجود الاستبراء فكان الحل موقوفا على وجوده م: (ودل على السبب في المسبية) ش: أي ودل الحديث أيضا على سبب وجوب الاستبراء في الجارية المسبية.
م: (وهو استحداث الملك واليد) ش: أي المسبب هو استحداث الملك واليد م: (لأنه هو الموجود في مورد النص) ش: وهو قوله: لا توطأ الحبالى، ليس إلا استحداث الملك، واليد فيكون هو السبب. م: (وهذا) ش: أي وجوب الاستبراء كون استحداث الملك سببا م: (لأن الحكمة فيه) ش: أي في وجوب الاستبراء م: (التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط) ش: بغيرها م: (والأنساب) ش: أي وصيانة الأنساب، م: (عن الاشتباه) ش: أي عن استيهانها، ولا يجوز أن يكون الحكمة موجبة؛ لأنها متعقبة، والعلة سابقة فحينئذ تعلق الحكم شرعا بالسبب الظاهر، وهو حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة فيدار الحكم عليه فتستبرأ.
وذكر البزدوي في "مبسوطه ": إن علة وجوب الاستبراء إرادة الوطء فإنه متى أراد الوطء لا يحل إلا في محل فارغ يجب أن يعرف براءة الرحم حتى لا يصير ساقيا ماءه زرع غيره، وفيه حكمة صيانة الولد عن إرادة الوطء لا يوقف عليها حقيقة، فيضاف الحكم إلى التمكن من الوطء، فأقيم التمكن منه مقام إرادة الوطء، وذلك إنما يتحقق بالملك والقبض، ولهذا لا يخبر بالحقيقة قبل القبض من الاستبراء لما إنه لم يوجد علة.
م: (وذلك) ش: إشارة إلى شرط وجوب الاستبراء م: (عند حقيقة الشغل) ش: بفتح الشين بأن يكون حاملا م: (أو توهم الشغل بماء محترم وهو) ش: أي توهم الشغل بماء محترم م: (أن يكون الولد ثابت النسب) ش: احترز به عن الزنا، ولمعنى أن يمكن إثبات نسبه من الغير لتقدم ملك الغير في المحل، فمن استحدث ملك الوطء بملك اليمين من قبل الغير بأي سبب استحداث، وتمكن منه حقيقة بالقبض وجب عند ذلك وجوب الاستبراء، وشرطه فيجب عليه الاستبراء، لا يقال: الموجب كونها مبيتة إضافة، والإضافات لا مدخل لها في العلة؛ لأنه لو اعتبر ذلك انسد باب القياس، وأنه مفتوح بالنصوص فلم يبق هاهنا إلا كونها مملوكة رقبة ويدا، وهو المؤثر كما ذكر في الكتاب، وإنما قيده بماء محترم، وإن كان الحكم في غير المحترم كذلك. فإن الجارية إذا كانت حاملا من الزنا لا يحل وطئها؛ لأنه أخرج الكلام مخرج أوضاع الشرع؛ لأنه وضع لا يكون إلا في الحلال.(12/172)
ويجب على المشتري لا على البائع؛ لأن العلة الحقيقية إرادة الوطء، والمشتري هو الذي يريده دون البائع، فيجب عليه غير أن الإرادة أمر مبطن فيدار الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا كما قلنا في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث، والحكم في الترك عامدا كذلك. إلا أن الظاهر لما كان من حال المسلم أن لا تفوت منه الصلاة إلا بالنسيان فذكره، هكذا كذلك هاهنا.
وعلم من كلامه وجوب الاستبراء، وسببه، وعلته، وحكمته، أما الوجوب: ففيها الحديث المذكور، وأما سببه: فاستحداث الملك، واليد، وأما علته: فإرادة الوطء، وأما حكمته: فالتعريف عن براءة الرحم، ولكن لما كانت الإرادة خفية أقيم دليلها الظاهر وهو التمكن عن الوطء بالملك، واليد قائما مقامها تيسرا فجعل استحداث الملك، واليد علة كما في السفر مع المشقة، ثم تعدى الحكم إلى سائر باب ملك اليمين، ملك حتى وجب عليه الاستبراء بأي سبب ملك سواء كان شراء أو هبة أو وصية، أو ميراثا أو خلعا، أو كتابة، وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرم الوطء حرم دواعيه أيضا من اللمس والقبلة والنظر إلى الفرج بشهوة.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": روي عن أبي مطيع: أنه كان لا يرى بالقبلة، والملامسة بأسا، وذلك لأن القربان إنما لا يجوز لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وليس في القبلة والملامسة هذا المعنى، قلنا: قياسا على الطهارة، وكما في غير الملك لأنها تفضي إليه، وسبب الحرام حرام.
وقال فخر الإسلام: روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يحل الدواعي لأنها لا تحتمل الوقوع في غير الملك؛ لأن المالك الأول لا يملك الدعوى، وإنما حرم الوطء بمعنى السقي زرع غيره، وهذا لا يوجد في الدواعي.
[على من يجب الاستبراء]
م: (ويجب على المشتري لا على البائع) ش: أي يجب الاستبراء على المشتري دون البائع، وبه قالت الثلاثة، وقال النخعي، والثوري، والحسن البصري، وابن سيرين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجب على البائع دون المشتري؛ لأنه الصيانة كما تجب على المشتري تجب على البائع.
وقال الليثي: هذا صيانة عن ماء البائع فيجب عليه. ولنا ما أشار إليه بقوله: م: (لأن العلة الحقيقة إرادة الوطء) ش: لأن الشارع نهى عن الوطء، والنهي إنما يستقيم عند تمكن الوطء، وتمكن للمشتري لأنه هو المتملك لا البائع، وهو معنى قوله: م: (والمشتري هو الذي يريده) ش: الوطء لتمكنه منه م: (دون البائع فيجب عليه) ش: أي على المشتري م: (غير أن الإرادة أمر مبطن) ش: أي خفي على ما ذكرنا؛ لأن بعض الناس يريد الوطء، وبعضهم لا يريده م: (فيدار الحكم(12/173)
على دليلها، وهو التمكن من الوطء، والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا وأدير الحكم عليه تيسيرا، فكان السبب استحداث ملك الرقبة المؤكد باليد وتعدي الحكم إلى سائر أسباب الملك، كالشراء والهبة والوصية والميراث والخلع والكتابة وغير ذلك، وكذا يجب على المشتري من مال الصبي، ومن المرأة، ومن المملوك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على دليلها) ش: أي على دليل الإرادة م: (وهو التمكن من الوطء، والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا) ش: أي انتصب التمكن سبب في الوطء لوجوب الاستبراء.
م: (وأدير الحكم عليه) ش: أي على التمكن من الوطء م: (تيسيرا) ش: أي لأجل التيسير.
فإن قلت: الإرادة ليست بأمر مبطن، ولهذا جعلت إرادة الصلاة سببا لوجوب الطهارة.
قلت: لأن إرادة الصلاة متحققة كفرضية الصلاة، ولا كذلك إرادة الوطء.
م: (فكان السبب استحداث ملك الرقبة المؤكد باليد) ش: أي إذا كان ذلك سبب وجوب الاستبراء استحداث سبب ملك يمين الرقبة الذي تأكده باليد م: (وتعدى الحكم إلى سائر أسباب الملك كالشراء) ش: بأن اشترى أمة م: (والهبة) ش: بأن وهب له رجل أمة م: (والوصية) ش: بأن أوصى له رجل بأمة فقبضها بعد موته م: (والميراث) ش: بأن مات مورثه فورث منه أمة م: (والخلع) ش: بأن خالع امرأة على أمة فقبضها م: (والكتابة) ش: بأن كاتب عبده على جارية فإنه لا يحل للزوج والمولى وطء الجارية قبل الاستبراء م: (وغير ذلك) ش: بأن تصدق عليه بجارية فإنه لا يطأها حتى يستبرئها، أو أجر داره إلى سنته وجعل الأجرة جارية وقبضها، فإنه لا يحل له الوطء إلا بعد الاستبراء، أو دفع إليه الجاني جارية عوض أرش الجناية. فكذلك لا يحل له الوطء إلا بعد الاستبراء.
م: (وكذا يجب على المشتري من مال الصبي) ش: يعني إذا باع أب الصبي، أو وصية جارية الصبي، فإنه يجب على المشتري الاستبراء م: (ومن المرأة) ش: أي وكذا يجب على المشتري من المرأة م: (ومن المملوك) ش: أي وكذا يجب على المشتري من المملوك بأن يشتري من عبده المأذون، وعليه دين مستغرق.
وفي " المبسوط ": لو اشترى من عبده المأذون الاستبراء عليه، إن كانت قد حاضت بعدما اشتراها. ولا دين عليه؛ لأن المالك ملك رقبتها من وقت الشراء فتكفي تلك الحيضة كما في يد الوكيل. وإن كان على العبد دين محيط برقبته وكسبه فكذلك الجواب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستبرئها استحسانا.
وفي القياس: لا؛ لأن المولى أحق بها حتى يملك استخلاصها لنفسه بقضاء الدين من(12/174)
وممن لا يحل له وطؤها.
وكذا إذا كانت المشتراة بكرا لم توطأ؛ لتحقق السبب وإدارة الأحكام على الأسباب دون الحكم لبطونها، فيعتبر تحقق السبب عند توهم الشغل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مواضع أخرى يجبر بتلك الحيضة. والعبد لا يثبت له الحل ولا الغرماء في الاستحسان يجب استبراءها؛ لأن المولى قبل الشراء لا يملك رقبتها عنده حتى لو أعتقه لا ينفذ عتقه. وإنما حدث له ملك الحل بسبب ملك الرقبة.
وفي " شرح الطحاوي ": ولو اشترى من ابنه الصغير وجب عليه الاستبراء م: (وممن لا يحل له وطؤها) ش: أي وكذا لا يجب الاستبراء على المشتري ممن لا يحل له وطؤها، كما لو اشتراها أخوها من الرضاع أو ورثها من أبيه، وأبوه استمتع بها، أو كان البائع مكاتبا أو جاريته وطئ البائع أمها أو باع الابن موطوءة أبيه، والأب موطوءة ابنه، أو كانت مجوسية.
فإن قلت: الموجب ورد في السببية على خلاف القياس لتحقق المطلق كما ذكرتم فهل لا اقتصر عليها؟.
قلت: غيرها في معناه حكما وعلة وسببا فألحق بها دلالة.
[الاستبراء إذا كانت الأمة المشتراة بكرا لم توطأ]
م: (وكذا إذا كانت المشتراة بكرا لم توطأ) ش: أي وكذا يجب الاستبراء إذا كانت الأمة المشتراة بكرا لم توطأ. وبه قال الشافعي وأحمد.
وقال مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن كانت ممن يوطأ مثلها لزمه الاستبراء، وإن كانت ممن لا توطأ مثلها لا يجب الاستبراء. وقال داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت بكرا لا يجب لعدم توهم الشغل، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيما إذا تيقن بفراغ رحمها من ماء البائع، لا يجب الاستبراء.
وقال في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال الاستبراء في البكر، م: (لتحقق السبب) ش: وهو استحداث الملك م: (وإدارة الأحكام على الأسباب دون الحكم) ش: -بكسر الحاء وفتح الكاف- جمع حكمة، يعني أن العلة في وجوب الاستبراء استحداث ملك اليمين واليد. والحكمة تعرف ببراءة الرحم، والحكمة تدور على السبب لا على الحكمة م: (لبطونها) ش: أي لبطون الحكم، أراد به حقيقته كما ذكرنا م: (فيعتبر تحقق السبب عهد توهم الشغل) ش: كماء محترم كما ذكرنا.
فإن قلت: كيف يتوهم الشغل في الصور الثلاث؟
قلت: يحتمل أن يكون جارية الصبي أو المرأة موطوءة بشبهة فيثبت النسب من الوطئ، فيثبت توهم الشغل أيضا لهذا الطريق.(12/175)
وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي اشتراها في أثنائها، ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء أو غيره من أسباب الملك قبل القبض، ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن السبب استحداث الملك واليد، والحكم لا يسبق السبب. وكذا لا يجتزأ بالحاصل قبل الإجازة في بيع الفضولي، وإن كانت في يد المشتري،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي اشتراها في أثنائها) ش: وكذا لا يكتفى بالحيضة التي كانت في حالة البيع، يعني اشتراها وهي حائض فطهرت من تلك الحيضة فلا تجزئها. م: (ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء) ش: أي وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي رأتها بعد الشراء قبل القبض؛ لأن الحكم لا يسبق السبب.
وروي عن أبي يوسف: أنه كان يقول: تجزأ بتلك الحيضة. كذا في " شرح الطحاوي ". م: (أو غيره من أسباب الملك) ش: مثل الهبة والصدقة، والوصية، والإرث ونحو ذلك.
م: (قبل القبض) ش: قيد للمسألتين جميعا م: (ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض) ش: أي ولا يجزء أيضا بالولادة الحاصلة بعد أسباب الملك مثل البيع والهبة ونحوهما قبل القبض، بأن اشترى أمة، وأن وهبت له، أو تصدق بها عليه، أو ورثها فولدت قبل قبضها، فإنه لا بد من الاستبراء.
م: (خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده تجزأ بتلك الحيضة. وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه؛ لأن تباين فراغ رحمها يحصل بتلك الحيضة. ثم الشراح كلهم صرفوا قوله خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى قوله: وكذا لا تجزأ تماما الحيضة التي استبرأها في أثنائها مع أن المذكور ثلاث مسائل: الأولى: قوله: وكذا لا تجزأ بالحيضة التي اشتراها. والثانية: قوله: ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء، والثالثة: قوله: ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض. ولكن تعليل تاج الشريعة لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على أن خلافه في الكل، حيث قال: يعني أن عنده لا يجب الاستبراء إذا كان يتيقن فراغ رحمها من ماء البائع لحصول المقصود وهو فراغ الرحم، كما في المطلقة قبل الدخول لا يلزمها العدة، كذا هذا فافهم.
م: (لأن السبب استحداث الملك واليد) ش: وقد وجد هذا جواب الاسبتراء، وفي المسائل الثلاث أي لأن سبب وجوب الاستبراء استحداث الملك واليد وقد وجد م: (والحكم لا يسبق السبب) ش: أراد بالحكم الاستبراء، وبالسبب هو استحداث الملك؛ لأن المعلول لا يسبق العلة على ما عرف م: (وكذا لا يجتزأ بالحاصل قبل الإجازة في بيع الفضولي، وإن كانت في يد المشتري) ش: أي وكذا لا يكتفي بالاستبراء الحاصل قبل إجازة البائع في عقد الفضولي.
وإن كانت الجارية في يد المشتري وصورته: فضولي باع جارية فقبضها المشتري.(12/176)
ولا بالحاصل بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراء صحيحا لما قلنا.
ويجب في جارية للمشتري فيها شقص فاشترى الباقي؛ لأن السبب قد تم الآن، والحكم يضاف إلى تمام العلة، ويجتزأ بالحيضة التي حاضتها بعد القبض وهي مجوسية أو مكاتبة بأن كاتبها بعد الشراء، ثم أسلمت المجوسية أو عجزت المكاتبة؛ لوجودها بعد السبب، وهو استحداث الملك واليد، إذ هو مقتض للحل والحرمة لمانع كما في حالة الحيض، ولا يجب الاستبراء إذا رجعت الآبقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحاضت عنده حيضة، ثم أجاز البائع البيع لا يكتفي بتلك الحيضة؛ لأن العلة هي استحداث الملك واليد ولم يوجد قبل الإجازة م: (ولا بالحاصل بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراءا صحيحا) ش: لعدم وجود العلة، وحكم الشيء لا يسبق عليه فكان الاستبراء قبل السبب كأن لم يكن م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: ولأن السبب استحداث الملك واليد أو الحكم لا يسبق السبب.
م: (ويجب في جارية للمشتري فيها شقص) ش: أي يجب الاستبراء في جارية للمشتري فيها نصيب م: (فاشترى الباقي) ش: صورته جارية مشتركة بين اثنين أو أكثر فاشترى أحد الشريكين أو الشركاء بقية الجارية يجب عليه الاستبراء م: (لأن السبب قد تم الآن) ش: لأن حدوث الملك الحل مسبب ملك الرقبة وإذا يملك جميع الرقبة؛ لأن تملك بعض الرقبة سبب له بعض العلة.
م: (والحكم يضاف إلى تمام العلة) ش: فإذا ملك جميع الجارية تمت العلة وترتب عليها الحكم وهو وجوب الاستبراء م: (ويجتزأ بالحيضة التي حاضتها بعد القبض وهي مجوسية) ش: أي تكتفي بالحيضة التي رأتها الأمة بعد قبض المشتري والحال أنها مجوسية م: (أو مكاتبة بأن كاتبها بعد الشراء، ثم أسلمت المجوسية أو عجزت المكاتبة) ش: صورته اشترى رجل أمة مجوسية فحاضت عنده في مجوستها حيضة ثم أسلمت أجزأت تلك الحيضة تلك الحيضة من الاستبراء أو اشترى أمة مسلمة فكاتبها قبل أن تستبرأ ثم حاضت في حال كتابتها ثم عجزت عن الكتابة وردت إلى الرق أجزأت تلك الحيضة من الاستبراء.
م: (لوجودها بعد السبب) ش: أي لوجود الحيضة بعد السبب م: (وهو استحداث الملك واليد، إذ هو مقتض للحل والحرمة لمانع) ش: أي الحرمة كانت لمانع وهو التمجس أو الكتابة، وذا لا يمنع الاعتداد بالاستبراء كما لو اشترى أمة محرمة فحاضت من حال إحرامها م: (كما في حالة الحيض) ش: أي كما كانت الحرمة في حالة الحيض لمانع وهو الحيض م: (ولا يجب الاستبراء إذا رجعت الآبقة) ش: أي الجارية الآبقة.
وفي " فتاوى قاضي خان ": هذا إذا أبقت، ولم تخرج من دار الإسلام، فلو دخلت بدار(12/177)
أو ردت المغصوبة أو المؤاجرة، أو فكت المرهونة لانعدام السبب، وهو استحداث الملك واليد، وهو سبب متعين فأدير الحكم عليه وجودا وعدما، ولها نظائر كثيرة كتبناها في " كفاية المنتهى ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحرب ثم خرجت بغنيمة، أو اشترى، ثم أخذها المولى لا يجب الاستبراء عند أبي حنيفة وعندهما، وبه قالت الثلاثة.
م: (أو ردت المغصوبة) ش: أي الجارية المغصوبة إلى مولاها م: (أو المؤاجرة) ش: أي الجارية المستأجرة - بفتح الجيم- إلى مولاها المؤجر. م: (أو فكت المرهونة) ش: أي الجارية المرهونة م: (لانعدام السبب، وهو استحداث الملك واليد، وهو سبب متعين فأدير الحكم عليه وجودا وعدما) ش: أي من حيث الوجود ومن حيث العدم والمعنى كلما وجد السبب. واستحداث الملك يدار عليه الحكم وهو الاستبراء كلما عدم لما ترتب عليه شيء؛ لأن هذا بيان السبب والمسبب.
م: (ولها نظائر كثيرة كتبناها في " كفاية المنتهى ") ش: أي لهذه المسائل نظائر وأخوات كتبناها في كتابنا الموسوم " بكفاية المنتهى " منها: أن فرج الأمة إذا حرم عليه ولكن لم يخرج من ملكه كما في الحيض والنفاس والردة والكتابة ثم زالت هذه العوارض، حلت له بغير استبراء.
وعند الثلاثة: يجب في الكتابة إذا عجزت وردت إلى الرق، ومنها: إذا باع جارية من رجل ثم تقايلا البيع قبل التسليم فعادت إلى القياس أنه يجب على البائع الاستبراء لوجود العلة. وفي الاستحسان: لا يجب، لأن ملك المشتري لم يكن ثم عليها. وروي عن أبي حنيفة: أنه أخذها بالقياس، ولو تقايلا بعد القبض وجب على البائع الاستبراء قياسا واستحسانا. وكذا في " شرح الطحاوي ".
ومنها: أن الجارية إذا ردت على البائع بخيار رؤية أو عيب، وجب عليه الاستبراء؛ لأن خيار العيب، وخيار الرؤية، لا يمنعان وقوع الملك للمشتري. وأما إذا ردت إلى البائع بخيار الشرط، فإن كان الخيار للبائع، فلا يجب عليه الاستبراء؛ لأنها لم تخرج عن ملكه، ويجب على المشتري بعد إجارة البائع المبيع بعد القبض، وإذا حاضت قبل ذلك تجزأ بتلك الحيضة. وإن كان خيار الشرط للمشتري فسخ، وعادت الجارية إلى ملك البائع، فإن كان الفسخ قبل القبض، لم يجب على البائع بالإجماع، وإن كان بعده. فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يجب على البائع.
ومنها: أن البيع إذا كان فاسدا أو فسخ البيع وردت على البائع، فإن كان قبل القبض فلا استبراء على البائع في قولهم، وإذا كان بعده فعلى البائع الاستبراء في قولهم. كذا في " شرح الطحاوي ".
ومنها: إذا أسرها لعدد ثم عادت إليه بعد الإحراز بدار الحرب فعليه الاستبراء، ولو(12/178)
وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرمة الوطء، حرم الدواعي لإفضائها إليه أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخذت من العبد وقبل الإحراز بدراهم، فردت إلى صاحبها فلا استبراء عليه.
ومنها: إذا اشترى جارية وهي في عدة من زوج، أو عدة وفاة، أو عدة طلاق، وقد بقي من عدتها يوم أو بعض يوم، أو انقضت عدتها بعد قبض المشتري، فلا استبراء عليها. وإن انقضت قبل القبض فلا تحل إلا بالاستبراء.
ومنها: إذا نقل الإمام الجند وقال: من أصاب منكم جارية فهي له، فأصاب واحد من الجند جارية فاستبرأها بحيضة، فأراد أن يطأها في دار الحرب، أو قسم الإمام الغنائم في دار الحرب، فأصاب واحد منهم جارية، فاستبرأ بحيضة وأراد أن يطأها، أو باع الإمام الجارية من الغنيمة من رجل فاستبرأها المشتري بحيضة، وأراد أن يطأها في دار الحرب، قال أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله-: يكره أن يطأها قبل الإحراز بالدار، فإذا أحرزها بالدار، فعليه أن يستبرئها ثم يطأها.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس أن يطأها.
وإذا خل واحد غازيا فغنم جارية واستبرأها بدار الحرب، فليس له وطؤها بالإجماع.
ومنها: إذا تزوج أمة فطلقها قبل الدخول يستبرئها المولى؛ لأن ملك المتعة زائل، وفي رواية لا يستبرئها وهو الصحيح؛ لأن ملك اليمين لم يحدث.
ومنها: أنه لو باع مدبرته وقبضها المشتري ثم ردها لا يستبرئها البائع؛ لأن الملك لم يثبت للمشتري، ولهذا لو أعتقها لا ينفذ إعتاقه، المسألتان في " الشامل ".
ومنها: ذمي اشترى أمة لا يستبرئ؛ لأنه واجب حقا لله - سبحانه وتعالى-، وإنه غير مخاطب، فإن أسلم قبل أن يطأها استبرأها إن لم تكن حائضة استحسانا؛ لأنه صار من أهله وقت الاستبراء فيخاطب به حتى لو وطئها. لم يجب؛ لأن الوقت فات.
ومنها: إذا زنت أمته فلا استبراء عليه، خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعدم سببه، وهو استحداث الملك واليد.
ومنها إذا باع جارية أو أعادها لا يجب الاستبراء لعدم سببه.
م: (وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرمة الوطء، حرم الدواعي) ش: وحرم القبلة واللمس والنظر بشهوة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه م: (لإفضائها إليه) ش: أي لإفضاء الدواعي إلى الوطء، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحرم، وبه قال أكثر الفقهاء م: (أو(12/179)
لاحتمال وقوعها في غير الملك على اعتبار ظهور الحبل ودعوة البائع، بخلاف الحائض حيث لا تحرم الدواعي فيها؛ لأنها لا تحتمل الوقوع في غير الملك؛ ولأنه زمان نفرة، فالإطلاق في الدواعي لا يفضي إلى الوطء والرغبة في المشتراة قبل الدخول أصدق الرغبات فتفضي إليه، ولم يذكر الدواعي في المسبية. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها لا تحرم؛ لأنها لا يحتمل وقوعها في غير الملك؛ لأنه لو ظهر بها حبل لا تصح دعوى الحربي، بخلاف المشتراة على ما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لاحتمال وقوعها) ش: أي وقوع الدواعي م: (في غير الملك على اعتبار ظهور الحبل ودعوة البائع) ش: بأن تكون قد حبلت من البائع فتصير أم ولده بدعواه والبيع باطل، فتصير الدواعي في غير ملكه.
م: (بخلاف الحائض حيث لا تحرم الدواعي فيها) ش: أي في الحائض م: (لأنها لا تحتمل الوقوع في غير الملك) ش: لا تحتمل الدواعي في غير الملك في الحائض؛ لأنها في ملكه، يعني في ملك المتعة، م: (ولأنه زمان نفرة) ش: الطبيعة لأجل الدم م: (فالإطلاق في الدواعي لا يفضي إلى الوطء) ش: لوجود النفرة م: (والرغبة في المشتراة قبل الدخول أصدق الرغبات) ش: وأقواها؛ لأنها جديدة كما ملكها وفي قلبها منه حركات، فلو أبيح له الدواعي ربما يوقعه في الجماع وهو معنى قوله م: (فتفضي إليه) ش: أي فتفضي الرغبات إلى الوطء م: (ولم يذكر الدواعي في المسبية) ش: يعني لم يذكر الدواعي في ظاهر الرواية في المسبية.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها لا تحرم؛ لأنها لا يحتمل وقوعها في غير الملك؛ لأنه لو ظهر بها حبل لا تصح دعوة الحربي) ش: فلا تقع الدواعي في غير الملك متخل واستشكل حيث تعدى الحكم من الأصل وهي المسبية إلى الفرع وهو غيرها بغير خبث حرمة الدواعي في غير المسبية، ودونها واجبها بأن ذلك باعتبار اقتضاء الدليل المذكور في الكتاب وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن التعدي إن كان بالقياس فالجواب المذكور غير دافع؛ لأن عدم التغير شرط القياس كما عرف في موضعه، وانتفاء الشرط أن يلزم انتفاء المشروط.
والثاني: أن ما دل على حرمة الدواعي في غير المسبية الأمر أن الاقتضاء والوقوع في غير الملك، وإن لم يحرم بالثاني فتحرم بالأول، إذ الحرمة توجد بالاحتياط، ويمكن أن يجاب عنه بأن التعدية هاهنا بطريق الدلالة كما تقدم، ولا يبعد أن يكون اللاحق دلالة حكم الدليل لم يكن ليلحق به لعدم الدليل هاهنا؛ لأن حرمة الدواعي في هذا الباب مجتهد فيه لم يقبل بها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأكثر الفقهاء، فلما كان علتها في المسبية أمرا واحدا لم يعتبر فلما كان في غيرها أمران تفاضلا اعتبرت.
م: (بخلاف المشتراة على ما بينا) ش: أشار به إلى قوله: والرغبة في المشتراة أصدق(12/180)
والاستبراء في الحامل بوضع الحمل لما روينا. وفي ذوات الأشهر بالشهر؛ لأنه أقيم في حقهن مقام الحيض كما في المعتدة، وإذا حاضت في أثنائه بطل الاستبراء بالأيام للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل كما في المعتدة فإن ارتفع حيضها تركها حتى إذا تبين أنها ليست بحامل وقع عليها، وليس فيه تقدير في ظاهر الرواية. وقيل: يتبين بشهرين أو ثلاثة، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أربعة أشهر وعشرة أيام، وعنه: شهران وخمسة أيام اعتبارا بعدة الحرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرغبات.
[استبراء الحامل]
م: (والاستبراء في الحامل بوضع الحمل لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا الحبالى حتى يضعن» . وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت حاملا تحيض استبراؤها بقرء، وفي القرء قولان عنده، في قوله: ثلاث حيض، وهو الأصح، وفي قول: ثلاثة أطهار، والأصل عنده: أن الحامل تحيض، والعجب منه أن خالف النص الصريح.
م: (وفي ذوات الأشهر بالشهر) ش: أي والاستبراء في ذوات الأشهر بشهر واحد، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول: وقال في آخر ثلاثة أشهر م: (لأنه أقيم في حقهن مقام الحيض) ش: لأن الشهر أقيم في حق ذوات الأشهر مقام الحيض م: (كما في المعتدة) ش: أي كما أن الشهر يقوم مقام الحيض في حق المعتدة إذا كانت من ذوات الأشهر.
م: (وإذا حاضت في أثنائه) ش: أي في أثناء الشهر م: (بطل الاستبراء بالأيام للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل) ش: يبطل حكم الحلف م: (كما في المعتدة) ش: أي كما في المرأة إذا كانت عدتها بالأشهر فرأت الدم في خلالها، يجب عليها الاعتداد بالحيض، فكذا هذا يجب الاستبراء بالحيضة. م: (فإن ارتفع حيضها) ش: فإن صارت ممتدة الطهر م: (تركها حتى إذا تبين أنها ليست بحامل وقع عليها) ش: أي واقعها، أي جامعها.
م: (وليس فيه) ش: أي مقدار الترك م: (تقدير في ظاهر الرواية) ش: لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ -روى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي حنيفة أنه قال: لا يطأها حتى يعلم أنها غير حامل ولم يقدر ذلك بشيء، وفي " المبسوط ": وهو الأصح؛ لأن ينصب المقادير بالرأي لا تجوز، وفيه نص.
م: (وقيل: يتبين بشهرين أو ثلاثة وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أربعة أشهر وعشرة أيام) ش: لأنه أقضى ما يقع به الاستبراء بالشهور أربعة، فإذا مضت ولم يظهر الحمل حل الوطء.
م: (وعنه) ش: أي وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (شهران وخمسة أيام اعتبارا بعدة الحرة(12/181)
والأمة في الوفاة. وعن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سنتان، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال: ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء عند أبي يوسف خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد ذكرنا الوجهين في الشفعة، والمأخوذ قول أبي يوسف فيما إذا علم البائع لم يقربها في طهرها ذلك، وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا قربها، والحيلة إذا لم تكن تحت المشتري حرة أن يتزوجها قبل الشراء، ثم يشتريها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأمة في الوفاة) ش: قوله اعتبارا بعدة الحرة يرجع إلى قوله: أربعة أشهر وعشر. وقوله: أو الأمة يرجع إلى قوله: شهران وخمسة أيام بطريق اللف والنشر، وقوله: في الوفاة، يرجع إلى الحرة والأمة جميعا.
وفي " الأسبيجابي ": وفي " فتاوى قاضي خان ": وخمسة أيام بطريق اللف وعليه الفتوى.
م: (وعن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنتان) ش: لأن الاستبراء يجوز أن يكون خوفا من أن تكون حاملا ولأثر زوال الحمل إلا بأكثر مضي مدته وجب اعتبار ذلك م: (وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال الثوري، وعند أبي مطيع البلخي: أنه قدر بتسعة أشهر، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قدر بثلاثة أشهر.
[الحيلة في إسقاط الاستبراء]
م: (قال: ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء عند أبي يوسف خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (وقد ذكرنا الوجهين في الشفعة) ش: أي وجهين قول أبي يوسف وقول محمد -رحمهما الله-، يعني سبيل الإشارة هما قالا في الشفعة وهو: أن هذا منع عن وجوب الاستبراء ودفع لثبوته، فلا يكره الاحتيال في الإسقاط عند أبي يوسف وجه قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إنما يجب صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط والاشتباه فيكره م: (والمأخوذ قول أبي يوسف) ش: أي المفتى به قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (فيما إذا علم البائع لم يقربها في طهرها ذلك، وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا قربها) ش: أي المأخوذ قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا علم أن البائع قربها في طهرها م: (والحيلة) ش: في صورة الحيلة في إسقاط الاستبراء م: (إذا لم تكن تحت المشتري حرة أن يتزوجها) ش: أي الأمة التي يريد شراؤها م: (قبل الشراء، ثم يشتريها) ش: قبل الشراء ثم يشتريها فيبطل النكاح ويحل له وطئها من ساعته ويسقط الاستبراء.
وفي " الفتاوى الصغرى " ناقلا عن بيوع واقعات الناطفي: الحيلة في إسقاط الاستبراء: أن يزوج البائع الجارية أولا من الذي يريد شراءها إن لم يكن له امرأة حرة ثم يبيعها منها فيبطل(12/182)
ولو كانت فالحيلة أن يزوجها البائع قبل الشراء، أو المشتري قبل القبض ممن يوثق به، ثم يشتريها ويقبضها، أو يقبضها ثم يطلق الزوج؛ لأن عند وجود السبب وهو استحداث الملك المؤكد بالقبض إذا لم يكن فرجها حلالا له لا يجب الاستبراء، وإن حل بعد ذلك؛ لأن المعتبر أوان وجود السبب كما إذا كانت معتدة الغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النكاح ويحل له وطئها من ساعته ويسقط الاستبراء. ثم قال فيها: قال ظهير الدين: رأيت في كتاب الاستبراء لبعض المشائخ أنه إنما يحل للمشتري وطئها في هذه الصورة أن لو تزوجها ووطئها ثم اشتراها؛ لأنه حينئذ يملكها وهي في عدتها، أما إذا اشتراها قبل أن يطأها، فكما اشتراها بطل النكاح ولا نكاح حال ثبوت الملك فيجب الاستبراء لتحقيق سببه وهو استحداث حل الوطء بملك اليمين.
قال: وهذا لم يذكر في الكتاب وهو دقيق حسن م: (ولو كانت) ش: أي حرة تحت المشتري م: (فالحيلة أن يزوجها البائع قبل الشراء، أو المشتري قبل القبض) ش: أي أو تزوجها المشتري قبل القبض م: (ممن يوثق به) ش: أي يعتمد عليه ولا يخاف عليه أن لا يطلقها؛ لأنه إذا لم يوثق به ربما لا يطلقها.
وفي " فتاوى قاضي خان ": ولو وقع أن لا يطلقها الزوج بعد قبض المشتري إذ الشرطان أن يكون طلاق زوجها بعد قبض المشتري فإن في طلاقها قبل قبضه لا فائدة لوجوب الاستبراء بعد القبض في الأصح، الحيلة: أن يزوجها على أن يكون أمرها بيدها يطلقها متى شاء. م: (ثم يشتريها ويقبضها، أو يقبضها) ش: هذا لف ونشر يعني يشتريها ويقبضها إذا زوجها البائع أو يقبضها إذا تزوجها المشتري قبل القبض.
م: (ثم يطلق الزوج) ش: يعني بعد القبض وقيد به؛ لأنه إن طلقها قبله كان على المشتري الاستبراء إذا قبضها في أصح الروايتين عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا طلقها قبل القبض، فإذا قبضها والقبض بحكم العقد بمنزلة العقد فصار كأنه اشتراها في هذه الحالة، وليست في نكاح ولا عدة فيلزمه الاستبراء.
م: (لأن عند وجود السبب وهو استحداث الملك المؤكد بالقبض إذا لم يكن فرجها حلالا له لا يجب الاستبراء وإن حل بعد ذلك) ش: لأن القبض إذ ذاك ليس ممكنا من الوطء والممكن منه جزء العلة، ألا ترى أن تزويج المشتري وإن كان قبضا حكما لم يعتبر لكونه مزيلا للتمكن.
م: (لأن المعتبر أوان وجود السبب كما إذا كانت) ش: أي الأمة م: (معتدة الغير) ش: يعني: إذا اشترى أمة معتدة وقبضها وانقضت مدتها بعد القبض لا يجب الاستبراء؛ لأن استحداث الملك المؤكد بالقبض لم يكن فرجها حلالا للمشتري فلما لم يجب وقت الإحداث لم يجب بعده(12/183)
قال: ولا يقرب المظاهر،
ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يكفر؛ لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفر حرم الدواعي للإفضاء إليه؛ لأن الأصل أن سبب الحرام حرام كما في الاعتكاف والإحرام، وفي المنكوحة إذا وطئت بشبهة بخلاف حالة الحيض والصوم؛ لأن الحيض يمتد شطر عمرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لعدم تجرد السبب. ثم اعلم أنه إذا تزوجها قبل الشراء، ثم اشتراها يسقط عنه جميع المهر، وفيها إذا تزوجها غير المشتري قبل قبضه يجب نصف المهر على الزوج إذا طلقها قبل دخول المولى الجارية وله أن يبرئه من ذلك.
م: (قال: ولا يقرب المظاهر) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": المراد من عدم القربان ترك الجماع.
فإن قلت: هذه المسألة ليست من مسائل الاستبراء فلم يذكر هاهنا بدون المناسبة.
قلت: ذكرها في " الجامع الصغير " استطرادا: فإن الكلام لما انساق في الاستبراء إلى حرمة الدواعي، وفي هذه المسألة أيضا حرمة الدواعي، وذكرها المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذلك اتباعا له، وقد قيل: يجوز أن يقال: صدر هذا الفصل بالاستبراء وغيره، وهذه من غيره وفيه نظر؛ لأن مراده من غير أن يكون من جنسه وقد بينا منه.
[لمس المظاهر وتقبيله قبل التكفير]
م: (ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يكفر؛ لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفر) ش: لقوله - سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقد أوجب كفارة قبل المسيس: وهو الوطء، فإذا وطئها قبل الكفارة يلزم ترك المأمور به قطعا، فكان حراما، فلما حرم الوطء إلى أن يكفر، م: (حرم الدواعي للإفضاء إليه) ش: أي إلى الوطء م: (لأن الأصل أن سبب الحرام حرام) ش: لا محالة؛ لأنه لو كان السبب حلالا كان السبب أيضا حلالا؛ لأن المقصود من شرعية السبب هو المسبب م: (كما في الاعتكاف) ش: لما حرم الوطء ودواعيه م: (والإحرام) ش: أي كما في حالة الإحرام لما حرم الوطء حرم الدواعي أيضا.
م: (وفي المنكوحة) ش: أي وكما في المنكوحة م: (إذا وطئت بشبهة) ش: حرم وطئها قبل انقضاء العدة، وكذلك حرم الدواعي م: (بخلاف حالة الحيض والصوم) ش: حيث يحرم الوطء فيها ولا يحرم الدواعي، ولكن في الصوم إذا أمن الصائم على نفسه وعليها، م: (لأن الحيض يمتد شطر عمرها) ش: أي يمتد قريب شطر عمرها، وهو الثلث، والمراد من الشطر: البعض، أي لبعض عمرها فتحريم الدواعي يفضي إلى الحرج.
وقال السغناقي: أي يقرب من شطر عمرها، وهو عشرة أيام في كل شهر، فكان قريبا(12/184)
والصوم يمتد شهرا فرضا وأكثر العمر نفلا، ففي المنع عنها بعض الحرج ولا كذلك ما عددناها، لقصور مددها، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كان يقبل وهو صائم ويضاجع نساءه وهن حيض.»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخمسة عشر يوما، وهي نصف الشهر.
وقال صاحب " العناية ": وفيه نظر؛ لأنه يشير إلى أن الشطر هو النصف ويتقوى بذلك استدلال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - علينا بالحديث على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما.
قلت: لم يشر السغناقي إلى أن الشطر من النصف، بل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الذي أشار إلى ذلك، والنظر وارد عليه؛ لأن شطر الشيء في اللغة كنصفه، وقد قال: يمتد شطر عمرها فأوقع الشطر مفعول يمتد، ولكن كلامه أول بما ذكرنا؛ لأنهم كثيرا ما يطلقون الشطر على أقل من النصف.
م: (والصوم يمتد شهرا فرضا وأكثر العمر نفلا) ش: أي يمتد أكثر العمر حال كونه نفلا م: (ففي المنع عنها) ش: أي عن الدواعي حالة كونها في حالة الحيض والصوم م: (بعض الحرج) ش: والحرج مدفوع شرعا م: (ولا كذلك ما عددناها) ش: وهي الطهارة والاعتكاف والإحرام والموطوءة بشبهة م: (لقصور مددها) ش: أي مدد هذه الأشياء؛ لأنها تقع في أوقات مخصوصة.
م: (وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كان يقبل وهو صائم» «ويضاجع نساءه وهن حيض» ش: هذان حديثان، الأول: رواه الجماعة في "كتبهم": عن الأسود وعلقمة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلا ابن ماجه فإنه أخرجه عن القاسم بن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنها، قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم ولكنه أملككم لإربه» .
وأخرجوه إلا البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن ميمونة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل في شهر رمضان» .
وفي لفظ لهما بهذا الإسناد، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل في رمضان وهو صائم» .
وأخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حفصة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم» . وأخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم» ، وأخرج أبو داود عن محمد بن دينار، عن سعد بن أوس عن مصدع أبي يحيى، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم ويمص(12/185)
قال: ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة، فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح، أو يعتقها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لسانها» . وبوب عليه: "باب الصيام ويبتلع الريق"، فهو منازع في ذلك وإذ لا يلزم من المص الابتلاع، فقد يمكن أن يمصه ويمجه، هكذا قيل: وفيه نظر؛ لأن الذي يمص لسان شخص إنما يمصه من غاية المحبة، وكيف يمص لسانه ثم يبصق فإن هذا بعيد جدا، فإن الشخص إنما يبصق شيئا يكرهه غاية الكراهية، ولو كره لما مصه. ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده " وهو حديث ضعيف.
قال ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويمص لسانه لا يقوله إلا محمد بن دينار وقد ضعفه يحيى بن معين، وسعد بن أوس قال ابن معين فيه أيضا: بصري ضعيف، قال عبد الحق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "أحكامه ": هذا حديث لا يصح، فإن ابن دينار وابن أوس لا يحتج بهما، وقال ابن الأعرابي: بلغني عن أبي داود أنه قال: هذا حديث غير صحيح، انتهى كلام عبد الحق. وأعله ابن القطان في "كتابه " بمصدع فقط. وقال: قال السعدي: كان مصدع زائغا حائدا عن الطريق، يعني في التشيع.
وقال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " العلل المتناهية ": محمد بن دينار، وسعد بن أوس ومصدع: ضعفاء الحديث.
الثاني: أخرجه الجماعة أيضا عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ثم يضاجعها، وفي لفظ ثم يباشرها» . وأخرج البخاري ومسلم عن زينب بنت أم سلمة عن أمها «أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: بينما أنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مضطجعة معه في الجميلة، حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الجميلة» .
[له أمتان أختان فقبلهما بشهوة]
م: (قال: ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": أيضا هذه ثلاثة أوجه: إما قبلها أو لم يقبلها، أو قبل إحداهما، فإن لم يقبلهما أصلا كان له أن يقبل ويطأ أيهما شاء سواء إن كان اشتراهما(12/186)
وأصل هذا: أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ولا يعارض بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] لأن الترجيح للمحرم، وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص؛ ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل، فإذا قبلهما فكأنه وطأهما، ولو وطأهما ليس له أن يجامع إحداهما، ولا أن يأتي بالدواعي فيهما، فكذا إذا قبلهما، وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجيهما بشهوة لما بيناه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معا أو على التعاقب وإن كان قبل إحداهما كان له أن يطأ المقبلة دون الأخرى، وأما إذا قبلها بشهوة وقيد بذلك؛ لأنه إذا لم يكن بشهوة لا يكون معتبرا.
[الجمع بين الأختين المملوكتين]
م: (وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا) ش: أي من حيث الوطء لا يجوز م: (لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ش: والمراد تحريم العقد والوطء بالإجماع، والمعطوف يشارك المعطوف عليه في الحكم تحقيقا لقضية العطف، وهو المروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وعليه أكثر الصحابة.
م: (ولا يعارض بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] لأن الترجيح للمحرم) ش: أراد بذلك أن قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] يدل على الحل، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] على الحرمة والمحرم مع المباح إذا اجتمعا، فالمحرم أولى؛ لأن الحرام يجب تركه، والمباح لا يجب فعله، ومذهب عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه يجوز؛ لأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية.
والأصل في الأبضاع الحل بعد وجود سبب الحل، وقد وجد وهو سبب ملك اليمين.
فإن قلت: الأصل في الدلائل الجمع، وأمكن هنا بأن يحمل قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] على النكاح. وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] على ملك اليمين.
قلت: المعنى الذي يحرم الجمع بين الأختين نكاحا وجد هنا وهو قطيعة الرحم فيثبت الحكم، هذا أيضا؛ لأن قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] مخصوص إجماعا، فإن أمه وأخته من الرضاع، والأمة المجوسية حرام، فلا يعارض ما ليس بمخصوص وهو المحرم للجمع.
م: (وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص، ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل) ش: أشار به إلى قوله: لأن الأصل أن سبب الحرام حرام م: (فإذا قبلهما فكأنه وطأهما، ولو وطأهما ليس له أن يجامع إحداهما، ولا أن يأتي بالدواعي فيهما، فكذا إذا قبلهما وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجيهما بشهوة لما بيناه) ش: أشار به إلى(12/187)
إلا أن يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها؛ لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا. وقوله: بملك أراد به: ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره. وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل؛ لأن الوطء يحرم به، وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها. وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله، وبرهن إحداهما وإجارتها وتدبيرها لا تحل الأخرى؛ ألا ترى أنها لا تخرج بها عن ملكه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: لأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء م: (إلا أن يملك فرج الأخرى غيره بملك) ش: بأن يبيعها أو يهديها أو يتصدق بها م: (أو نكاح) ش: بأن يزوجها غيره م: (أو يعتقها؛ لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا) ش: بين الأختين.
م: (وقوله: بملك أراد به: ملك يمين) ش: أي قول القدوري في "مختصره ": حتى يملك فرج الأخرى بملك أراد بملك يمين م: (فينتظم التمليك بسائر أسبابه) ش: أي ينتظم التمليك بسائر أسباب التمليك م: (بيعا أو غيره) ش: أي من حيث البيع أو غيره نحو الهبة والصدقة.
م: (وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل) ش: أي تمليك بعض الأخرى في هذا الباب كتمليك كلها م: (لأن الوطء يحرم به) ش: أي بتمليك الشقص. م: (وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها) ش: أي وكذا إعتاق بعض من إحداهما كإعتاق كلها لحرمة الوطء به.
م: (وكذا الكتابة كالإعتاق) ش: أي وكذا لو كاتب إحداهما فإن الكتابة كالإعتاق لثبوت حرمة الوطء بها حتى لو وطئها يعزم العقد لها.
وقال صاحب " العناية ": وكلمة كذا زائدة.
قلت: زيادة كذا في كلام العرب غير مشهورة م: (في هذا) ش: أي في أنه تحل الأخرى.
فإن قلت: بالكتابة لم يخرج من ملك المولى حتى يستلزمه استبراء جديد بعد العجز، ولم يجعل فرجها للغير، فكان ينبغي أن لا يحل له وطء الأخرى.
قلت: الحل يزول بالكتابة كما ذكرنا، فجعل زوال الحل عنها بالكتابة كزواله بالتزويج، فيحل له أن يطأ الأخرى م: (لثبوت حرمة الوطء بذلك كله) ش: أي كما ذكرنا في الصور، وهو تمليك الشقص وإعتاق البعض والكتابة.
م: (وبرهن إحداهما) ش: أي إحدى الأمتين الأختين م: (وإجارتها) ش: أي إجارة إحداهما م: (وتدبيرها) ش: أي تدبير إحداهما م: (لا تحل الأخرى ألا ترى أنها) ش: أي لأن التي رهنها أو أجرها أو دبرها م: (لا تخرج بها) ش: أي بالأشياء المذكورة م: (عن ملكه) ش: فيكون جامعا.(12/188)
وقول: أو نكاح أراد به النكاح الصحيح. أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا، لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه؛ لأنه يجب العدة عليها، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم. ولو وطئ إحداهما حل له وطء الموطوءة دون الأخرى؛ لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة. وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فيما ذكرناه بمنزلة الأختين.
قال: ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه، أو يعانقه، وذكر الطحاوي أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس بالتقبيل والمعانقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقول: أو نكاح) ش: أي وقول القدوري: أو نكاح م: (أراد به النكاح الصحيح. أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه) ش: أي في النكاح الفاسد.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يجب العدة عليها، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم) ش: على المولى فيجعل له حينئذ أن يطأ أختها م: (ولو وطئ إحداهما) ش: أي لو وطأ إحدى الأمتين الأختين م: (حل له وطء الموطوءة دون الأخرى) ش: أي غير الموطوءة م: (لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة) ش: أي لأن بالوطئ إنما يصير جامعا بين الأختين، إذا جمعت الأخرى، أما إذا اقتصر على وطء الموطوءة لا يصير جامعا، وهذا ظاهر.
م: (وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا) ش: أي من حيث النكاح كما إذا كانت إحداهما عمة الأخرى أو خالتها م: (فيما ذكرناه بمنزلة الأختين) ش: يعني تكونان بمنزلة الجمع بين الأختين في قضاء الشهوة، فإذا قبلهما أو لمسهما، أو نظر إلى فرجهما بشهوة، لا يجوز له وطء واحدة منهما حتى يحرم فرج الأخرى عليه بوجه من الوجوه، وكذا الحكم فيما إذا كانت إحداهما أم الأخرى أو بينهما لا يجوز الجمع بينهما في قضاء الشهوة.
[يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه أو يعانقه]
م: (قال: ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه أو يعانقه) ش: قال في " الجامع الصغير ": وصورتها فيه: محمد عن يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: أكره أن يقبل الرجل من الرجل فمه، أو يده، أو شيئا منه، وأكره المعانقة ولا أرى بالمصافحة، ولم يذكر الخلاف كما ترى، ولهذا قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وذكر الطحاوي) ش: أي في " شرح الآثار ": م: (أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس بالتقبيل والمعانقة) ش: ذكره الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى «أنس بن مالك قال: قالوا يا رسول الله: "أينحني بعضنها بعضا إذا التقينا؟ قال: "لا"، قالوا: فيعانق بعضنا بعضا؟ قال: "لا"، قالوا: فيصافح بعضنا بعضا؟ قال: "تصافحوا» . قال الطحاوي:(12/189)
لما «روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عانق جعفرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذهب قوم إلى هذا فكرهوا المعانقة، منهم أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-، وخالفهم آخرون ولم يروا به بأسا، منهم أبو يوسف، وأخذ الطحاوي يقول أبي يوسف في " شرح معاني الآثار " فمن أراد ذلك فليعاود إليه في " شرح الآثار "، وقد أمعنا الكلام في هذا الباب في " شرح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار ": فمن أراد ذلك فليعاود إليه.
م: (لما روي أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عانق جعفرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه» ش: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، منهم: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أخرج حديثه الحاكم في "مستدركه "، عن حيوة ابن شريح، عن يزيد بن أبي حبيب عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إلى بلاد الحبشة، فلما قدم منها اعتنقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل بين عينيه» . قال الحاكم: إسناده صحيح.
ومنهم جابر أخرج حديثه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الحاكم أيضا عن الأجلح، عن الشعبي عن جابر قال: «لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خيبر، وقدم جعفر من الحبشة، تلقاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل جبهته، وقال: "والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر وسكت عنه» .
ثم أخرجه عن سفيان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، وزكريا بن أبي زائدة عن الشعبي قال: لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحديث، وقال: هذا مرسل صحيح، وأخرجه الطحاوي أيضا مرسلا، ورواه البيهقي في " دلائل النبوة في باب: غزوة خيبر "، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا الحسن بن إسماعيل أبي العلوي، حدثنا أحمد بن محمد البيروني، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة حدثني مكي بن إبراهيم الرعيني حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكره، وقال: في إسناده إلى الثوري من لا يعرف.
ومنهم أبو جحيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(12/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"معجمه الأوسط والصغير "، حدثنا أحمد بن خالد بن مسرح الحراني، حدثنا عمي الوليد بن عبد الملك بن مسرح، حدثنا مخلد بن يزيد، حدثنا مسعر بن كدام، عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة فقيل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعانقه» وقال: تفرد به الوليد بن عبد الملك.
وأخرجه ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكامل ": محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «لما قدم جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه قبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين عينيه وقال: "ما أدري أبقدوم جعفر أسر أو بفتح خيبر؟» . ومنهم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أخرج حديثها الدارقطني في "سننه " عنها قالت: «لما قدم جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأصحابه استقبله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبله بين عينيه» .
ومن طريق ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -رواه البيهقي في " شعب الإيمان "، وروى البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده "، حدثنا أحمد، حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا إسماعيل بن أبي أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك حدثنا عبد الرحمن بن أبي مليكة، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه قال: «لما قدم جعفر من الحبشة، أتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبل بين عينيه، وقال: "ما أنا بفتح خيبر أشد فرحا مني بقدوم جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . وقال: لا نعلمه يروى عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من هذا الوجه، وقد رواه الشعبي عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ورواه البيهقي في " شعب الإيمان "، أخبرنا أبو الحسين بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، أخبرنا إسماعيل بن الفضل، حدثنا خليفة بن خياط، حدثنا زياد بن عبد الله البهي، حدثنا مجاهد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما قدم جعفر من الحبشة استقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبل شفتيه» .(12/191)
ولهما ما «روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن المكامعة وهي المعانقة؛ وعن المكاعمة وهي التقبيل» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هكذا وجدته، والمعروف: بين عينيه.
وحديث آخر رواه الترمذي، وفي "الاستئذان" حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عباد المديني، حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عريانا يجر ثوبه، والله ما رأيته عريا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبله» قال: حديث حسن غريب.
ورواه أبو نعيم في " دلائل النبوة " بالإسناد المذكور، قال: «بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امرأة من بني فزارة يقال لها: " أم قرفة " جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت: اذهبوا إلى المدينة فاقتلوا محمدا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهم أثكلها بولدها"، وبعث إليهم بزيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فالتقوا، فقتل زيد بني فزارة وقتل أم قرفة وولدها. فأقبل زيد حتى قدم المدينة» . الحديث.
الآخر رواه ابن سعد في " الطبقات ": أخبرنا الواقدي حدثني يعقوب بن عمر، عن نافع العدوي عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم العدوي، قال: «أسلم نعيم بن عبد الله بن النحام بعد عشرة، وكان يكتم إسلامه ثم هاجر إلى المدينة في أربعين نفر من أهله، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعتنقه وقبله» .
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المكاعمة وهي التقبيل» ش: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" و"مسنده " جميعا، حدثنا زيد بن الحباب حدثني يحيى بن أيوب المصري، أخبرني عياش بن عباس الحميري، عن أبي الحصين الهيثم، عن عامر الحجري، قال: سمعت أبا ريحانة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كان رسول(12/192)
وما رواه محمول على ما قبل التحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مكامعة". أو مكاعمة: المرأتين ليس بينهما شيء. وعن مكامعة، أو مكاعمة الرجلين ليس بينهما شيء» .
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريبه ": حدثني أبو النضر عن الليث بن سعد عن عياش بن عباس رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن نهى عن المكامعة والمكاعمة» . قال أبو عبيد: والمكاعمة أن يلثم الرجل فاه صاحبه، مأخوذ من كعام البعير، وهو أن يشد فاه إذا هاج والمكامعة أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد. وكذلك قيل لزوج المرأة: كميع. قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي تفسير المكامعة بالمواثقة فيه نظر؛ لأن المضاجع هوالمعانق غالبا، ولا يضاجع أحدا غيره إلا والغالب أنه يعانقه. قوله: عياش بن عباس، الابن - بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة-، والأب - بالباء الموحدة والسين المهملة-. وأبو الحصين - بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين-، واسمه: الهيثم بن شفي.
قوله: عن عامر الحجري، ويقال: أبو عامر الحجري، وهو الصواب، واسمه عبد الله بن جابر الحجري، وقيل: المعافري. والحجري: -بفتح الحاء المهملة، وسكون الجيم- نسبة حجر عين من اليمن. ثم اعلم أن أبا داود والنسائي: - رحمهما الله- أخرجا حديث المكامعة فقط، فأبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخرجه في "اللباس"، والنسائي في "الزينة" عن المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن أبي الحصين الهيثم بن شفي، عن أبي عامر المعافري، عن أبي ريحانة، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عشرة: عن الوشر والوشم والنتف، ومكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم، وأن يجعل على منكبيه حريرا، وعن النهي وركوب النمور، ولبس الخاتم إلا لذي سلطان» .
ورواه أحمد في "مسنده "، ورواه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابن أبي شيبة بسنده المتقدم سواء: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان ينهى عن ركوب النمور» ، وأخطأ الحافظ عبد العظيم المنذري في عزوه الحديث بتمامه لابن ماجه، ولكنه قلد أصحاب " الأطراف ".
م: (وما رواه) ش: أي أبو يوسف م: (محمول على ما قبل التحريم) ش: أي كان قبل تحريم التقبيل والمعانقة، والشيخ أبو منصور وفق بين الأحاديث فقال: المكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، أشار إليه المصنف بقوله.(12/193)
قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد، أما إذا كان عليه قميص أو جبة فلا بأس بها بالإجماع وهو الصحيح،
قال: ولا بأس بالمصافحة؛ لأنه هو المتوارث. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبهما» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[المعانقة في إزار واحد]
م: (قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد) ش: أي قال المشايخ منهم: أبو منصور الخلاف المذكور فيما إذا عانق رجلا في إزار واحد؛ لأنه سبب يفضي إلى الشهوة م: (أما إذا كان عليه) ش: أي على المعانق م: (قميص أو جبة فلا بأس بها) ش: أي بالمعانقة ذكر الضمير باعتبار العناق. م: (بالإجماع) ش: بين أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وهو الصحيح) ش: أي للذي قاله المشائخ هو الصحيح؛ لأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكون على وجه البر والكرامة، وهو أمر ممدوح بين الناس.
م: (قال: ولا بأس بالمصافحة) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (لأنه هو المتوارث) ش: أي لأن المصافحة هو التوارث بين الناس أراد به سنة قديمة بين الناس في البيعة وغيرها. وذكر الضمير باعتبار التصافح.
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبهما» ش: رواه الطبراني في "معجمه الأوسط "، عن أحمد بن رشدين، عن يعقوب الخريقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر» .
وأخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " عن صفوان بن سليم، عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، حدثنا ابن أبي ليلى، عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا نحوه سواء.
وأخرج أيضا عن «يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرحب بي وأخذ بيدي ثم قال: "يا براء أتدري لم أخذت بيدك؟ " قال: قلت: خيرا يا رسول الله، قال: "لا يلقى مسلم مسلما فيرحب به ويأخذه بيده، إلا تناثرت الذنوب بينهما، كما يتناثر ورق الشجر» .
وأخرج أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - والترمذي، وابن ماجه، عن الأجلح، عن أبي(12/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إسحاق، عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا» .
وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه أحمد في "مسنده "، والأجلح: اسمه يحيى بن عبد الله أبو حجية. فيه مقال.
وأخرج أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن «رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أريد أن أسألك عن حديث، هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: "ما لقيته قط إلا صافحني» . وفيه مجهول.
وأخرج الترمذي عن خيثمة، عن رجل، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «من تمام التحية الأخذ باليد» . وقال: غريب.
وسألت محمد بن إسماعيل عنه فلم يعده محفوظا.
قلت: وفيه مجهول أيضا.
وأخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته، ومن تمام التحية المصافحة» وقال: إسناده ليس بقوي، وعلي بن يزيد ضعيف.
وفي "الصحيحين" في حديث كعب بن مالك: «فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ولا أنساها لطلحة» ، وعند البخاري عن قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قلت لأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
ثم اعلم أن الكلام في هذا الباب على فصول:
الأول: في أنواع القبل.
قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير ": يقال: القبلة على خمسة أوجه: قبلة تحية، وقبلة شفقة، وقبلة رحمة، وقبلة مودة، وقبلة شهوة.(12/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأما قبلة التحية: فكان المؤمنون يقبل بعضهم بعضا على اليد. وقبلة الرحمة: الوالد لولده، والوالدة لولدها على الخد. وقبلة الشفقة: قبلة الولد لوالده أو لوالدته يقبله على الرأس. وأما قبلة المودة: يقبل أخاه وأخته على الخد. وأما قبلة الشهوة: قبلة الزوج لزوجته على الفم.
وفي " كفاية" تاج الشريعة: وزاد بعضهم قبلة ديانة، وهي القبلة على الحجر الأسود، انتهى.
قلت: روى أحاديث كثيرة منها ما أخرجه أبو داود في "الجهاد" و"الأدب" والترمذي في "الجهاد"، وابن ماجه في "الأدب"، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -...."، فذكر قصته، قال: فدنونا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبلنا يده» .
قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد. ولم يذكر ابن ماجه القصة.
ومنها ما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة بنت طلحة، عن «عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قالت: "ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فاطمة ابنته - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: وكانت إذا دخلت عليه قام إليها يقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل عليها قامت له فقبلته وأجلسته في محلها» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.
ومنها: ما أخرجه الترمذي في "الاستئذان"، والنسائي في السير، وابن ماجه عن عبد الله بن سلمة - بكسر اللام-، عن صفوان بن عسال: «أن قوما من اليهود قبلوا يد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجليه» . وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح. قال النسائي: حديث منكر. وقال المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكان إنكاره له من جهة عبد الله بن سلمة فإن فيه مقالا.
ومنها: ما أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، عن مطر(12/196)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن عبد الرحمن الأعتق، حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع، عن جدها «الزارع بن عامر قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا، ونقبل يد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجله» . ورواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه " الأدب المفرد "، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا مطر، به.
ومنها: ما أخرجه الترمذي وابن ماجه في "الجنائز" عن عاصم بن عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فأكب عليه وقبله ثم بكى حتى رأيت دموعه تسيل على وجنتيه» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم في "المستدرك " وقال: إن الشيخين لم يحتجا بعاصم بن عبد الله. وشاهده: حديث ابن عباس، وجابر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: «أن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ميت» . ثم أعاده في " الفضائل " بالسند المذكور، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في "مختصره " وقال: سنده واه.
ومنها: ما أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن «أسيد بن حضير قال: "بينا هو يحدث القوم يضحكهم وكان فيه مزاج إذ طعنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خاصرته بعود فقال: أصبرني يا رسول الله، قال: اصطبر. قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص فرفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، وقال: إنما أردت هذا يا رسول الله» .
قوله: اصطبرني؛ أي أقدني، وقوله: اصطبر: استقد.
ومنها: ما أخرجه الحاكم في "مستدركه في البر والصلة" عن عاصم بن حبان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن «رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرني شيئا أزداد به يقينا، فقال: اذهب إلى تلك الشجرة فادعها، فذهب إليها فقال لها: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوك، فجاءت حتى سلمت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لها: ارجعي. فرجعت".(12/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: ثم أذن له فقبل رأسه ورجليه، وقال: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» ، وقال: صحيح الإسناد. وتعقبه الذهبي فقال: صالح بن حبان متروك، ورواه البزار في "مسنده " وقال فيه: " فقبل رأسه ويديه ورجليه " وقال: لا يعلم في تقبيل الرأس غير هذا الحديث.
قلت: هذا عجيب منه كيف غفل عن حديث الإفك؟!
«قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: "قومي فقبلي رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الحديث.
وقال الحافظ المنذري في "مختصره ": وقد صنف الحافظ أبو بكر الأصبهاني المعروف بابن المقرئ جزء في الرخصة في تقبيل اليد ذكر فيه أحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآثار عن الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين.
فعلم من مجموع ما ذكرنا إباحة قبلة اليد والرجل والرأس والكشح، كما علم من الأحاديث المتقدمة إباحتها من الجبهة المتقدمة وبين العينين وعلى الشفتين، كما علم من حديث عبد الله بن جعفر الذي أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان ".
وقد ذكرناه عن قريب في جملة أحاديث التقبيل ولكن كل ذلك إذا كان على وجه المبرة والإكرام، وأما إذا كان على وجه الشهوة لا يجوز إلا في حق الزوجين.
وذكر في " الواقعات " تقبيل يد الإمام أو السلطان العادل جائز لما روى سفيان أنه قال: "تقبيل يد العالم والسلطان العادل سنة" فقام عبد الله بن المبارك وقبل رأسه وقال: "من يحسن هذا غيرك ".
[تقبيل الأرض بين يدي العلماء] 1
وأما تقبيل يد غيرهم فتكلموا فيه، فمنهم من قال: إن كان الرجل يأمن على نفسه وينوي حسنة وهي تعظيم المسلم وإكرامه، ولا بأس به.
ثم قال في " الواقعات ": والمختار أنه لا رخصة فيه عن المتقدمين.
قلت: هذا خلاف في الأحاديث، وفي " الغاية ": وأما تقبيل الأرض بين يدي العلماء وغيرهم، قالوا: إنه حرام لا إشكال فيه والفاعل والراضي به كذلك آثم؛ لأنه يشبه عبادة الوثن.
وفي " شرح الطحاوي ": وأما ما يفعله الجهال من تقبيل يد نفسه إذا لقي غيره: فهو مكره فلا رخصة فيه.(12/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الكافي ": ورخص بعض المتأخرين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تقبيل يد العالم والمتورع.
قلت: كذلك تقبيل يد الوالدين والأستاذ وكل من يستحق التعظيم والإكرام.
الفصل الثاني: في قيام الرجل اختلفوا فيه، فمنهم من منع ذلك لما روى أبو داود بإسناده إلى أبي أمامة قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متكئا على عصا فقمنا له، فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم عظم بعضهم بعضا» .
ومنهم من أباحه استدلالا بقيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنته فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وهو الذي ذكرناه عن قريب.
ومنهم من فضل على من قال في " قاضي خان ": قوم يقرؤون القرآن أو واحد، فدخل عليهم واحد من الأشراف، فقالوا: إن دخل عليه عالم أو أبواه أو أستاذه جاز أن يقوم لأجله، وفيما سوى ذلك لا يجوز، انتهى.
ومنهم من قال: إن كان الداخل على قوم أو على أحد ممن يتوقع القيام له ينبغي أن يقوم حتى لا يتضرر بتركه، وإن كان يتوقع ذلك يتركه. كما حكي عن الشيخ أبي القاسم السمرقندي الحكيم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كان إذا دخل عليه أحد من الأغنياء يقوم له ويعظمه ولا يقوم للفقراء وطلبة العلم، فقيل له في ذلك، فقال: لأن الأغنياء يتوقعون مني التعظيم فلو تركت تعظيمهم انزعجوا، والفقراء وطلبة العلم لا يطمعون في ذلك وإنما يطمعون جواب السلام والتكلم معهم في العلم ونحوه فلا يتضررون بترك القيام.
الفصل الثالث: في السجود لغير الله: ذكر المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح؛ "الجامع الصغير ": أما السجود لغير الله سبحانه وتعالى فهو كفر إذا كان من غير إكراه وما يفعله الجهال من الصوفية بين يدي شيخهم فحرام محض أقبح البدع فينهون عن ذلك لا محالة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تفعلوا، لو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق» ، أخرجه أبو داود وغيره، أي: لا تسجدوا، وذلك حين قالوا له: أنت أحق أن نسجد لك.(12/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الواقعات ": إذا قيل للمسلم: اسجد للملك وإلا قتلناك، فالأفضل أن لا يسجد، لأنه كفر، والأفضل أن لا يأتي بما هو كفر صورة. وإذا كان في حالة الإكراه، وإن كان السجود سجود التحية، فالأفضل أن يسجد، لأنه ليس بكفر، وهذا دليل على أن السجود إذا كانت سنة التحية، إذا كان خائفا لا يكون كفرا، فعلى هذا القياس لا يصير من سجد عند السلطان على وجه التحية كافرا، انتهى ألفاظ " الواقعات ".
قلت: في هذا الزمان لا يسجدون لسلطان إلا تعظيما وإجلالا فلا يشك في كفرهم.
وفي " فتاوى الحسيني ": التواضع لغير الله حرام.
وفي " الكافي ": قال شمس الأئمة السرخسي: السجود لغير الله في وجه التعظيم كفر.(12/200)
فصل في البيع قال: ولا بأس ببيع السرقين، ويكره ببيع العذرة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين، فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ. ولنا: أنه منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع بخلاف العذرة؛ لأنه ينتفع بها مخلوطا، ويجوز بيع المخلوط هو المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح.
وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في البيع]
[ببيع السرقين]
م: (فصل في البيع) ش: أخر هذا الفصل عن فصل الأكل والشرب واللمس والوطء لأن أمر تلك الأفعال متصل ببدن الإنسان، وهذا لأن ما كان أكثر اتصالا كان أحق بالتقديم. م: (قال: ولا بأس ببيع السرقين) ش: أي قال في " الجامع الصغير " والسرقين بكسر السين هو السرجين، ويقال له: العوة بضم العين المهملة وتشديد الواو والهاء. وفي حديث سعيد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أنه كان بدليل أرضه بالعوة. أي يصلح أرضه ويحسن معالجتها، ومنه سمى الدمال لأن الأرض تصلح به. وفسر العوة في الفائق: بالسرجين، وفسرها الأصمعي بعذرة الناس. وقال في " الجمهرة ": العودة البعر وما أشبه مما تشابه الأرض. م: (ويكره ببيع العذرة) ش: وهو رجيع الآدمي م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ) ش: وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله.
م: (ولنا: أنه) ش: أي السرقين م: (منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع بخلاف العذرة؛ لأنه ينتفع به مخلوطا) ش: لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها إلا مخلوطا بالتراب أو الرماد م: (ويجوز بيع المخلوط) ش: لأنه مال ونجاسة العين يمنع الأكل ولا يمنع الانتفاع م: (هو المروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح) ش: واحترز به عن ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس ببيع غير المخلوط أيضا.
[الانتفاع بالمخلوط]
م: (وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح) ش: احترز به عما روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا بأس بالانتفاع بالعذرة الخالصة.
والروايتان نقلهما الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الجامع الصغير ". م: (والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة) ش: أي الخلوط من العذرة بالتراب بمنزلة زيت خالطته النجاسة حيث يجوز بيعه والانتفاع به كالاستصباح ونحوه اتفاقا فذلك العذرة المخلوطة بالتراب الغالب يجوز بيعه قياسا عليه، والجامع كونهما منتفعا بها لأن الناس ينتفعون بها مخلوطة.(12/201)
قال: ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها، وقال: وكلني صاحبها ببيعها، فإنه يسعها أن يبتاعها ويطأها؛ لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له، وقول الواحد في المعاملات مقبول على أي وصف كان لما مر من قبل. وكذا إذا قال: اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا، وهذا إذا كان ثقة، وكذا إذا كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق؛ لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر. وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها، وقال: وكلني صاحبها ببيعها، فإنه يسعه أن يبتاعها ويطأها) ش: أي قال في " الجامع الصغير "؛ م: (لأنه أخبر بخبر صحيح) ش: لأنه صدر عن عقل ودين مع اعتقاد حرمة الكذب م: (لا منازع له) .
م: (وقول الواحد من المعاملات مقبول على أي وصف كان) ش: يعني حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، رجلا كان أو امرأة، عدلا كان أو غير عدل، صبيا كان أو بالغا، بعد أن كان عاقلا مميزا م: (لما مر من قبل) ش: أي في فصل الأكل والشرب أن قول الواحد يقبل في المعاملات دفعا للحرج.
م: (وكذا إذا قال: اشتريتها منه) ش: أي وكذا الحكم إذا قال الذي في يده الجارية: اشتريتها من فلان وهو الذي كان يعلم الرجل أنها له م: (أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا) ش: أشار بها إلى قوله لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له. م: (وهذا) ش: أي قبول قوله، وصحة العمل به م: (إذا كان ثقة) .
فإن قلت: هذا مناقض قوله: على أي وصف كان؟. قلت: معنى قوله ثقة، أن يكون من يعتمد كلامه، وإن كان فاسقا يجوز أن لا يكذب الفاسق لمروءته ولوجاهته.
م: (وكذا إذا كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق) ش: أي وكذا الحكم إذا كان المخبر غير ثقة، والحال أن أكبر رأيه أن المخبر صادق. م: (لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر) ش: أي في فصل الأكل والشرب. م: (وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك) ش: وفي ضبط تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسع له أن يعرض، ثم فسره بقوله: أن يتعرض. وفي "شرح الأترازي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يسع له أن يعزم بشيء موضع قوله: لا يسع له أن يتعرض لشيء من ذلك. ثم فسره بقوله: أي يقصد بشيء من الانتفاع والوطء يعني لا يشتريها ولا يطأها.(12/202)
لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين، وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان، وأنه وكله ببيعها أو اشتراها منه والمخبر ثقة قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي؛ لأن إخباره حجة في حقه، وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء، فإن كان عرفها للأول لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني؛ لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك له أن يشتريها، وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال في " الكافي ": وكذلك الطعام والشراب في جميع ذلك م: (لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين) ش: فيما هو أعظم من هذا كالفروج.
ألا ترى أن من تزوج امرأة فأدخلها عليه إنسان، وأخبره أنها امرأته فله أن يعتمد على خبره ويطأها إذا كان ثقة عنده، أو كان أكبر رأيه أنه صادق.
وكذا إذا دخل رجل على غيره ليلا شاهرا سيفه فلصاحب المنزل أن يقتله، وإن كان أكبر رأيه أنه لص قصد قتله وأخذ ماله، وإن كان أكبر رأيه أنه هارب من لص لم يعجل بذلك، مؤيده ما ذكرنا من قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] جعل أكبر الرأي بمنزلة اليقين إذ العلم بإيمان الغير يقينا لا يكون إلا بأكبر الرأي فاسقا أو عدلا، «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوابصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حاك في صدرك فدعه وإن أفتاك الناس به» .
م: (وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان) ش: أي وكذا الحكم إذا لم يعلم الرجل أن الجارية لفلان، ولكن الذي في يده أخبره أنها لفلان. م: (وأنه) ش: أي وأن فلانا م: (وكله ببيعها أو اشتراها منه) ش: أي وأخبره أنه اشترى الجارية من فلان م: (والمخبر ثقة) ش: أي والحال أن المخبر ثقة م: (قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي؛ لأن إخباره حجة في حقه) ش: أي في حق نفسه فيما يرجع إليه وهو قوله، ليس لي، بل لفلان، ولكن غير حجة فيما لا يرجع إليه وهو قوله: وكلني أو اشتريت منه، فلا بد من حجة وهو أكبر الرأي.
م: (وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء، فإن كان عرفها للأول) ش: هذا أيضا في الصورة المذكورة وهو أن يعلم بجارية أنها لفلان مثلا ثم رآها في غير يده ولم يخبره بشيء، فإنه لا يشتريها حتى يعلم انتقالها إليه، وهو معنى قوله: فإن كان عرفها للأول، م: (لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني) ش: بشيء من أسباب الملك. م: (لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك) ش: أي كونها للأول.
م: (له أن يشتريها، وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل) ش: يعني هذا التركيب أن يد المتصرف دليل شرعي للملك وفي حق هذا الدليل الفاسق والعدل(12/203)
ولم يعارضه معارض، ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر، إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك، فحينئذ يستحب له أن يتنزه ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك لاعتماده الدليل الشرعي،
وإن كان الذي أتاه بها عبدا، أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له، فيعلم أن الملك فيها لغيره، فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي. وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سواء حتى إذا تنازعه اثنان فالقول له، وكان حق التركيب أن يقول: لأن اليد دليل الملك في حق الفاسق والعدل. أو نقول: لأن يد الفاسق دليل الملك والفاسق والعدل فيه سواء.
م: (ولم يعارضه معارض) ش: فيعتمد على كلامه يشتريها ويطأها م: (ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر) ش: لأن الدليل الظاهر أقوى من أكبر الرأي م: (إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك) ش: كدرة في يد الفقير لا يملك شيئا أو كتاب في يد جاهل لم يكن في إيابه وهو أهل لذلك م: (فحينئذ يستحب له أن يتنزه) ش: ويترك الشراء لأنه وقع التردد في حالة يوجب التنزه والاحتياط م: (ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك) ش: أي من الشراء م: (الشرعي) ش: وهو اليد ظاهر لأن صاحب اليد يزعم أنه مالك. فالقول قوله شرعيا فيما زعم فالذي يريد الشراء يعتمد دليلا إلا أن حاله يخالف هذا الدليل فلم يثبت الجواز وعلة لذلك.
[بيع وشراء الصبي]
م: (وإن كان الذي أتاه بها عبدا أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل) ش: وإن كان الذي أتى الرجل بالجارية عبدا أو أمة وقال: وهاهنا شك لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل عن ذلك لأنه عالم أنها لغيره واليد من حق الملك ليس بمطلق للتصرف م: (لأن المملوك لا ملك له) ش: فلا يصلح يده دليلا للملك لأن الرق منان للملك، م: (فيعلم أن الملك فيه لغيره) ش: أي فهو يعلم أن الملك في الذي أتاه به وهو الجارية لغيره لكونه مملوكا.
وكان الواجب أن يقول: فيعلم أن الملك فيها لغيره، ولكن تأويله ما ذكرناه.
م: (فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل) ش: قوله لأن الاسم الواحد مقبول في المعاملات، وهذا إخبار في غير موضع المنازعة فيقبل م: (وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي) ش: فإن كان أكبر رأيه أنه صادق صدقه. وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتعرض لشيء من ذلك م: (وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل) ش: بالراء المهملة؛ لأن الرق حاجر عن التصرف أي مانع عنه، فما لم يوجد نوع دليل لا يعمل مجرد اليد.
وفي " الكافي " للحاكم: وكذا الصبي الذي لم يبلغ حرا كان أو مملوكا فيما يخبر أنه أذن(12/204)
قال: ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا، أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا، إلا أن أكبر رأيها أنه حق، يعني بعد التحري، فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج؛ لأن القاطع طارئ، ولا منازع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له وسعه، وأن فلانا بعث إليه معه هدية أو صدقة، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه أن يصدقه، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع أن يقبل منه شيئا وذلك لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين.
وقال شمس الأئمة السرخسي في " شرح الكافي ": كان شيخنا الإمام يقول يعني شمس الأئمة الحلواني: الصبي إذا أتى بقالا بفلوس يشتري منه، وأخبره أن أمه أمرته بذلك فإن طلب الصابون ونحوه، فلا بأس ببيعه منه، وإن طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة لا ينبغي أن يبيعه منه؛ لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقوله، وقد عثر على فلوس أمه، فأراد أن يشتري بها حاجة نفسه. وفي العيون ولو أن صبيا جاء إلى القاضي بفلوس أو بخبز وغير ذلك فإن طلب منه شيء ينتفع به في البيت مثل الملح والفلفل ونحو ذلك فلا بأس أن يبيع منه، ولو أراد أن يشتري منه جوازا أو فستقا مثل ما يشتري به الصبيان فالأفضل أن لا يبيع منه حتى يسأل هل أذن له أبوه في ذلك أم لا.
[أخبرها ثقة أو غيره أن زوجها الغائب مات عنها أو طلقها ثلاثا]
م: (قال: ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا، أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا، إلا أن أكبر رأيها أنه حق يعني بعد التحري) ش: يعني بعد أن تحرت علمت أنه كتابه حق م: (فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج؛ لأن القاطع طارئ) ش: لأن القاطع للزوجية طارئ أي عارض، وهو الموت أو الطلاق والزوجية السابقة لا تنازعه؛ لأنها لا تدل على البقاء وهو معنى قوله م: (ولا منازع) ش: يعني ولا منازع موجود هنا.
وفي بعض النسخ فلا منازع بالفاء، فيكون شرط محذوف أي إذا كان كذلك القاطع طارئا فلا منازع حينئذ. وقيد بقوله طارئ لأن القاطع إذا كان مقارنا فلا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. والأصل أن الأصل إذا لم يكن له منازع ولا يلزم عن الغير مفسد سواء كان المخبر رجلا أو امرأة، عبدا كان أو أمة، عدلا أو فاسقا. أما في المنكوحة فالإلزام يكون ضمنا لا قصدا.
فإن قلت: إن خبر جعل الواحد في إفساد النكاح بعد الصحة من هذا الوجه، فوجه آخر فيه يوجب عدم القبول، وهو أن الملك للزوج ثابت، والملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبر الواحد.
قلت: إن ذلك كان ثابتا بدليل موجب وملكه فيها ليس كذلك بل باستصحاب الحال،(12/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وخبر الواحد أقوى منه ثم هذا الذي ذكره في الأخبار، أما في الشهادة فلا يصح، وإن كان الشاهد اثنين حتى لا يقضي القاضي بالفرقة لأنه قضاء على الغائب ذكره في " الفصول " للأستروشني، وفي " التتمة ": إذا شهد اثنين أن فلانا طلق امرأته والزوج غائب لا يقبل، وإن شهد عند المرأة حل لها أن تعتد وتتزوج بآخر، وكذا إذا شهد عندها رجل عدل ووقع في قلبها أنه صادق.
وفي " شرح الكافي " رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبر مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام، فإن كان المخبر عدلا ثقة حل له أن يتزوج بأختها أو بأربع نسوة سواها لعدم المنازع في أمر يتصور وقوعه وإن غلب على ظنه أنه كاذب لا يعمل بخبره. وكذا إذا كانت صغيرة فأخبر أنها ارتضعت من أمه أو أخته؛ لأن هذا من باب الديانة فقبل في خبر الواحد، ولو قال تزوجتها يوم تزوجتها وهي مرتدة أو معتدة أو بعدما ارتضعت من أهلك لم يسعه أن يتزوج بأختها أو أربع سواها. وإن كان المخبر عدلا لأن هذا الخبر في موضع المنازعة لأن الظاهر من حال العاقل أنه يدعي صحة عقده وهذا يدعي فساده فلا يقبل إلا إذا شهد عنده شاهدان عدلان على ذلك.
ولو قالت المرأة لرجل: قد طلقني زوجي وانقضت عدتي يحل له أن يتزوجها إذا غلب على ظنه صدقها. وكذلك المطلقة ثلاثا إذا أخبرت أنها استحلت بزوج ثان وطلقها وانقضت عدتها حل للزوج أن يتزوجها لأنها أخبرت عن أمر لا منازع لها فيه. ولو أتاها رجل فأخبر أن أصل نكاحها فاسد، وإن زوجها كان أخاها من الرضاعة، أو مرتدا، لم يسعها أن تتزوج بزوج آخر، وإن غلب على ظنها؛ لأنه في موضع المنازعة إذ الزوج يدعي صحة العقد، فلا يكون مقبولا.
وكذلك جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يدي رجل يدعي أنها له فلما كبرت، لقيها رجل فقالت: إن سيدي أعتقني، حل له أن يزوجها. ولو قالت: أنا حرة الأصل لم تحل له أن يتزوجها لأن الخبر الأول في غير موضع المنازعة، والثاني في موضع المنازعة.
وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها كان فاسدا لم يحل له أن يتزوجها، ولو ادعت أنه طلقها، حل لمن سمع مقالتها أن يتزوجها لهذا المعنى.
وكذلك لو قالت ارتد عن الإسلام بعد ما تزوجني أو أقر بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني؛ لأنها ادعت أمرا عارضا في غير محل التنازع فيقبل.
وقد أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى هذه المسائل على ما يأتيك مفصلة، وهذه المسائل من(12/206)
وكذا لو قالت الرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول. وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني لأن القاطع طارئ، ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان، وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها، حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده، فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ والإقدام الأول لا يدل على انعدامه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: ولو أن امرأة أخبرها ثقة إلى قوله وإذا باع المسلم خمرا، من مسائل كتاب " الاستحسان "، ذكرها تفريعا على مسائل " الجامع الصغير ". وكذا لو قالت لرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول. وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني لأن القاطع طارئ، ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان، وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها، حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده، فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ والإقدام الأول لا يدل على انعدامه.
قوله: ولو أن امرأة أخبرها ثقة إلى قوله وإذا باع المسلم خمرا، من مسائل كتاب "الاستحسان"، ذكرها تفريعا على مسائل " الجامع الصغير ".
م: (وكذا لو قالت لرجل: طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس أن يتزوجها) ش: المخبر إذا غلب على ظنه صدقها.
[قالت انقضت عدتي وتزوجت بآخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي]
م: (وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث: انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي، ثم طلقني وانقضت عدتي، فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول) ش: لأنها أخبرت عن أمر لا منازع فيه. م: (وكذا لو قالت جارية: كنت أمة لفلان فأعتقني) ش: يحل للمخبر له أن يتزوجها م: (لأن القاطع طارئ) ش: أي القاطع للرقبة، عارض وهو العتق ولا منازع.
م: (ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا، أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان) ش: لأن هذا خبر في موضع المنازعة.
م: (وكذا إذا أخبره مخبر: أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة، لم يتزوج بأختها أو أربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن) ش: للعقد. م: (والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده) ش: أي العقد. م: (فثبت المنازع بالظاهر) ش: فلا يقبل قوله. م: (بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه) ش: أي في الإخبار بالارتضاع م: (لأن القاطع طارئ) ش: أي القاطع للزوجة عارض وهو الرضاع. م: (والإقدام الأول) ش: وهو ما تقدم من صحة عقد النكاح بدليل موجب له وهو العقد الذي م: (لا يدل على انعدامه) ش: أي على انعدام الارتضاع دل عليه قوله ارتضعت م:(12/207)
فلم يثبت المنازع. فافترقا، وعلى هذا الحرف يدور الفرق،
ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له، فلما كبرت لقيها رجل في بلد آخر، فقالت: أنا حرة الأصل، لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد، بخلاف ما تقدم.
قال: وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به، والفرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فلم يثبت المنازع) ش: فلم يقبل قوله.
فإن قلت: ينبغي أن لا يقبل لما أن الملك الثابت فيها للغير لا يبطل بخبر الواحد، كما لو اشترى لحما، ثم أخبر واحدا أنه ذبيحة مجوسي حيث لا يبطل بهذا الخبر ملك المشتري ولا يرجع بالثمن على البائع؛ لأن ملك الغير لا يبطل بخبر الواحد.
قلت: قد أجيب لك في السؤال الماضي: أن ملك الغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال، وخبر الواحد أقوى منه. أما الخبر بكون ذبيحة المجوسي بخبر بالمقصد الطارئ، بل هو خبر بفساد البيع من الأول والإقدام على الشراء منازعة منه بصحة البيع فلا يقبل خبر الواحد بدون شهادة شاهدين.
م: (فافترقا) ش: أي حكم هذه المسألة. وحكم الشيء قبلها لوجود المنازعة في الأولى دون هذه فافهم. م: (وعلى هذا الحرف يدور الفرق) ش: أي على هذه الثلاثة يدور الفرق بين هذه المسائل التي فيها قبول قول الواحد، والتي ليس فيها ذلك، يعني إذا كان الإخبار في غير موضع المنازعة، ويقبل قول الواحد، وإذا كان في المنازعة لا يقبل.
م (ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له، فلما كبرت) ش: بكسر الباء، يقال كبر بالكسر في السن، وكبر بالضم في الجثة والشرف. م: (لقيها رجل في بلد آخر، فقالت: أنا حرة الأصل، لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد، بخلاف ما تقدم) ش: أراد به قوله أنها لو قالت: كنت أمة لفلان فأعتقني، حيث يقبل قولها؛ لأن الخبر الأول في غير موضع المنازعة.
وفي " النوازل " اشترى أمة فقالت: أنا حرة لا يرد بها على البائع، ولكن يتزوجها وحل له وطئها؛ لأنها أمة أو امرأة. وكان شداد إذا اشترى أمة يتزوجها ويقول: لا أدري لعلها حرة أو لعل جرى كلام الحرية على لسان أنسبائها هذا بطريق الاحتياط، ولكن لا يعتق بذلك.
م: (قال: وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به) ش: أي قال في " الجامع الصغير " م: (والفرق) ش: بين(12/208)
أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع. وفي الوجه الثاني: صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي، فملكه البائع فيحل الأخذ منه.
قال: ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجهين م: (أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع) ش: يعني أن العقد على الخمر غير منعقد في حق المسلمين فيكون الثمن المقبوض مستحق الرد على البائع شرعا، فصار كالمغصوب في يده، ومن قضى بالدراهم المغصوبة لا يحل للقابض أن يقبضه إذا علم به فهذا مثله.
م: (وفي الوجه الثاني: صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي، فملكه البائع فيحل الأخذ منه) ش: لأن الخمر لهم كالعصير لنا لأنه رخص لهم في البيع.
قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ولو هم ببيعها وأخذوا العشر من أثمانها.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان القضاء والاقتضاء بالتراضي، فأما إن كان بالقضاء بأن قضى القاضي عليه بهذا الثمن، ولم يعلم القاضي بكونه ثمن الخمر يطيب له ذلك بقضائه، وإنما حرم عند الاقتضاء بالتراضي.
وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل مات وكسبه من بيع البازق إن تورع الورثة عن أخذ ذلك كان أولى، ويردون على أربابها؛ لأنها ممكن فيه نوع حيث وإن لم يعرفوا أربابها تصدقوا بها، وكذلك الجواب فيما أخذ رشوة وظلما إن تورع الورثة كان أولى. وأما المغني والنائحة والقول والأمل فيه أيسر؛ لأن فيه أعطى بالرضا من غير شرط وعقد، وأما الإهدار والضيافة فينظر إن كان غالبا المهدي والضيف لا يقبله ما لم يجز أن ذلك المال حلال، وإن كان غالب ماله حلالا فلا بأس بأن يقبل حتى يتبين عنده أنه حرام.
رجل مات وابنه يعتمد أنه كان يكتسب من حيث لا يحل لكن لا يعلم ذلك بعينه ليرد عليه، فالميراث له حلال في الحكم لوجود المطلق وانعدام المانع بعينه فيتصرف فيه حيث شاء ولا يؤمر بالتصدق، فإن تورع وتصدق كان أولى لكن يصدق بينه خصى أبيه.
رجل جمع المال وهو مطرب مغن، هل يباح له ذلك إن كان أخذ المال من غير شرط يباح له لأنه أعطى المال عن طوع، كذا في " فتاوى الولوالجي ".
وفي " الدراية " ولو قضى دينه بدراهم أو دنانير مغصوبة لا يحل للقابض قبضه إذا علم.
[الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم]
م: (قال: ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله)(12/209)
وكذلك التلقي. فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون".»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والاحتكار الجمع والحبس، يقال: احتكر الطعام وغيره إذا جمعه يتربص به الغلاء، كذا في " ديوان الأدب ". وفي " المجمل ": الحكر حبس الطعام إرادة غلائية وهو الحكر، والحكر أيضا.
وفي " الكافي ": الاحتكار حبس الطعام للغلاء، افتعال من حكر، إذا ظلم. وقيل حبس وحكر الشيء إذا استبد به وحبسه عن غيره.
وفي اصطلاح أهل الشرع: حبس أقوات الناس والبهائم عن البيع يتربص الغلاء شهرا فما زاد فيهما اشتراه في المصروفية إضرارا بالناس.
م: (وكذلك التلقي) ش: أي وكذا يكره التلقي: الجلب، إذا كان في بلد يضر أهله، وإلا فلا، والمراد منه أن يخرج من البلدة إلى القافلة التي جلبت الطعام، فاشتراها خارج البلد، يكره وإلا فلا، إذا كان لا يضر فلا بأس به.
م: (فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به) ش: وكذا التلقي كما ذكرنا م: (والأصل فيه) ش: أي في كون الاحتكار مكروها، وفي التلقي أيضا، والأحسن أن يقال: والأصل في كون كل واحد من الاحتكار والتلقي مكروها إذا كانا يضران بالبلد.
فإن قلت: كيف يقول الأحسن هذا؟ والحديث لا يدل على كراهته الاحتكار وحديث التلقي باي.
قلت: علة كراهة الاحتكار، التضييق على الناس وهي موجودة في التلقي، فصح أن يكون حديث الاحتكار أصلا في البابين، وحديث التلقي الذي يأتي فيما بعد يكون زيادة بيان وتوضيح لأنه صريح في بابه فافهم.
م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في التجارات، عن علي بن سالم بن ثوبان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» .
رواه إسحاق بن راهويه والدارمي، وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم"(12/210)
ولأنه تعلق به حق العامة، وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبيهقي في " شعب الإيمان ".
ورواه العقيلي في كتاب " الضعفاء "، وأعله بعلي بن سالم وقال: لا يتابعه عليه أحد بهذا اللفظ. وقد روي بغير هذا السند، والمتن عن معمر بن عبد الله العدوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يحتكر إلا خاطئ» . وحديث معمر هذا أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه " باللفظ المذكور في كتاب "البيوع".
روى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الحاكم في "المستدرك في البيوع" ولم يذكر فيه الجالب. ورواه إبراهيم الحربي في كتاب " غريب الحديث " عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا أبو خيثمة حدثنا يحيى بن أبي بكير عن إسرائيل، عن علي بن سالم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عثمان بن عفان مثله سواء.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " تنبيه الغافلين ": وروي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» .
قال الفقيه أبو الليث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "وأراد بالجالب الذي يشتري الطعام للبيع فيجلبه إلى بلده، فيبيعه فهو مرزوق لأن الناس ينتفعون به فيناله بركة دعاء المسلمين، والمحتكر يشتري الطعام للمنع ويضر بالناس لأن في ذلك تعنيفا على المسلمين.
فإن قلت: ما معنى اللعن هنا؟
قلت: اللعن هنا على نوعين، أحدهما: الطرد عن رحمة الله سبحانه وتعالى، وذلك لا يكون إلا للكافر، والثاني: الإبعاد عن درجة الأبرار، ومقام الصالحين، وهو المراد هنا؛ لأن عند أهل السنة والجماعة: المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب الكبيرة.
م: (ولأنه تعلق به حق العامة) ش: أي ولأن الشيء الذي احتكره المحتكر تعلق به حق الناس جميعهم.
م: (وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك) ش: أي الاحتكار أو الحبس م: (بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره) ش: لأن العلة هي الإضرار، فإذا انتهى الإضرار ينبغي(12/211)
وكذا التلقي على هذا التفصيل؛ لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن تلقي الجلب، وعن تلقي الركبان» ، قالوا: هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة، فإن لبس فهو مكروه في الوجهين؛ لأنه غادر بهم، وتخصيص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكراهة.
[تلقي الركبان]
م: (وكذا التلقي على هذا التفصيل) ش: يعني أن أضر بأهل البلدة يكره، وإلا فلا م: (لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن تلقي الجلب» ، «وعن تلقي الركبان» ش: هذان حديثان، فالأول أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي الجلب» . وفي لفظ: «لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشتراه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» . الثاني أخرجه البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لبادي» ، انتهى.
والجلب، بفتح الجيم بمعنى المجلوب، ومن جلب الشيء جلبه من بلد إلى بلد التجارة جلبا وجلبا والركبان الجماعة من أصحاب الإبل في السفر، وكذلك الركبان أصحاب الإبل دون الدواب، وهم العشرة فما فوقها والجمع أراكب، والركبة أقل من الركب والأركوب أكثر من الركب.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فلو كانت الرواية على طريق الجمع يكون ذكر الأول على سبيل العموم، وذكر الثاني على الخصوص كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ولو لم يكن كذلك يكون حديثين، ويكون التقدير نهى عن تلقي الركبان قيل في معنى تلقي الركبان، يستقبل الركب فيشتري الطعام منهم بما دون السعر في المصر، وهم لا يشعرون بذلك ثم يبيع بما هو سعر المصر فيكون للضرر بالناس انتهى كلامه.
قلت: قد بينا أن هذين حديثان لا اختلاط لأحدهما بالآخر، الأول رواه أبو هريرة والثاني ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما بينا، فلا يحتاج إلى التكلف الذي ذكره. م: (قالوا: هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة، فإن لبس فهو مكروه في الوجهين) ش: أي قال المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هذا الذي ذكرناه من الكراهة فيما إذا أضر بأهل البلدة، وعدم الكراهة فيما إذا لم يضر بهم، فيما إذا اشترى المتلقي بلا تلبيس السعر على التجار، وأما إذا لبس عليهم فإنه يكره سواء أضر بأهل البلدة أو لم يضر، وهو معنى قوله في الوجهين أي في صورة الإضرار وعدم الإضرار.
م: (لأنه غادر بهم) ش: أي لأن المتلقي حينئذ غادر بهم بالتجارة والغدر حرام م: (وتخصيص(12/212)
الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا احتكار في الثياب، فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر حقيقة الضرر، إذ هو المؤثر في الكراهة، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الضرر المعهود المتعارف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتكار بالأقوات) ش: أي تخصيص القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالاحتكار بالأقوات وهو جمع قوت.
م: (كالحنطة والشعير والتبن والقت) ش: بفتح القاف وتشديد التاء.
قال في " العباب ": هو الفصفصة إذا جفت وهو جمع قتة كتمر وتمرة.
ثم قال في باب الفصفصة الرطبة وأصلها بالفارسية أمست.
قلت: المراد منه الفرط اليابس وهو الذي يسميه أهل مصر الدريس، ويسمون الرطب الفرط والبرسيم.
م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: خبر لقوله و"تخصيص الاحتكار" م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا احتكار في الثياب) ش: قال الكرخي في "مختصره ": وقال ابن سماعة، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الاحتكار في كل ما يضر بالعامة احتكاره.
قال: والاحتكار أن يحبسه عنده أكثر من سنة فإن حبسه عنده شهرا أو نحو ذلك فإثمه على قدر ما يحبسه. وقال هشام: الحكرة في الحنطة والشعير والتمر الذي هو قوت الناس والقت الذي هو قوت البهائم، وليس في الثياب حكرة، ولا في العسل، ولا في الثمن، ولا في الزيت حكرة.
وقال أبو يوسف: في الزيت حكرة م: (فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر حقيقة الضرر إذ هو المؤثر في الكراهة) ش: أي وحقيقة الضرر موجودة في كل شيء ولعموم النهي أيضا.
م: (وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الضرر المعهود المتعارف) ش: غالبا بين الناس، وذكر في " الكافي " محمد مع أبي حنيفة -رحمهما الله- قال: وعليه الفتوى. والحاصل أنهما اعتبرا الأمر الغالب العام، وذلك لا يكون إلا فيما هو ضرر مطلق.
وقال القدوري: في " شرح الكرخي ": وأما قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن حبس الأرز ليس باحتكار فهو محمول على البلاد التي لا يتقوتون به، وأما الموضع الذي هو قوتهم مثل(12/213)
ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر، ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طبرستان فهو احتكار، وأما الثياب فلأن قوام الأبدان وبقاء الحياة لا يقف عليها. وقوت الحياة ما كان قيامه به من المأكول.
م: (ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر، ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه» .
ش: هذا الحديث أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في "مسانيدهم"، والحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المستدرك "، والدارقطني في " غرائب مالك "، والطبراني في "معجمه الأوسط "، وأبو نعيم في " الحلية " كلهم من حديث أصبغ بن زيد حدثنا أبو بشر عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة الحضرمي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله» .
وكلهم رووه عن يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد إلا الحاكم فإنه أخرجه عن عمرو بن الحصين، عن أصبغ بن زيد، به ... وأصبغ بن زيد مختلف فيه فوثقه أحمد والنسائي وابن معين، وضعفه ابن سعد وذكره ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكامل " وساق له ثلاثة أحاديث منها هذا الحديث، وقال: ليس بمحفوظ.
قال: ولا أعلم روى عنه يزيد بن هارون وقال الذهبي في "الميزان ": قلت: روى عنه عشرة أنفس، وقال في " مختصر المستدرك ": عمرو بن الحصين تركوه، وأصبغ بن يزيد فيه لين.
وقال ابن حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد به سندا أو متنا؟ فقال أبي: هذا حديث منكر وأبو بشر لا أعرفه.(12/214)
وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل والشهر وما فوقه كثير آجل، وقد مر في غير موضع.
ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العسرة، وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله. وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا، أما يأثم وإن قلت المدة. والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة.
قال: ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر، أما الأول فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة. ألا ترى أن له أن لا يزرع، فكذلك له أن لا يبيع. وأما الثاني: فالمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: بالشهر) ش: أي قيل هي مقدرة بالشهر. م: (لأن ما دونه قليل عاجل والشهر وما فوقه كثير آجل) ش: لهذا سقط الصوم بالجنون شهرا بخلاف ما دونه، وكذا إذا جن الوكيل والموكل جنونا مطبقا بطلت الوكالة، وحده شهرا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو قال: لا قصير دينه عن قريب، فهو ما دون الشهر لأن الأشهر، وما زاد عليه بعيد، ولهذا كان الشهر أدنى الأجل في الحكم وما دونه في حكم الحال.
م: (وقد مر في غير موضع) ش: أي قد مر بيان أن الشهر كثير وما دونه قليل في غير موضع من الكتاب في الصلاة، والسلم والوكالة واليمين وغيرها.
م: (ويقع التفاوت في المأثم) ش: أي الإثم وهو مصدر أثم م: (بين أن يتربص العسرة) ش: أي بين أن يترقب ثمرة الطعام م: (وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله) ش: أراد أن إثم من يتربص القحط أعظم من إثم من يتربص عسرة الطعام وهي الغلاء.
م: (وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا) ش: يعني ضرب المدة في الاحتكار لأجل المعاقبة في الدنيا يعني يقدر الإمام المحتكر ويهدده م: (أما يأثم وإن قلت المدة) ش: تقديره أما الإثم فإنه يأثم.
وإن قلت: المدة وهذا تركيب تأباه قواعد العربية إلا بالتأويل.
م: (والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة) ش: يعني بطريق الاحتكار، أما الاسترباح فيه بلا احتكار فلا بأس به كذا في الفوائد الشاهية.
[احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر]
م: (قال: ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أما الأول) ش: وهو ما إذا احتكر غلة ضيعته م: (فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة. ألا ترى أن له أن لا يزرع فكذا له أن يبيع) ش: فإذا كان كذلك لا يكون مبطلا حق العامة. م: (وأما الثاني) ش: وهو ما جلبه من بلد آخر م: (فالمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلبه إلى فنائها) ش: بكسر الفاء، وفي غير ذلك لا يتعلق حقهم.(12/215)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره لإطلاق ما روينا. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب، فهو بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار فيه لتعلق العامة به بخلاف ما إذا كان البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره لإطلاق ما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والمحتكر ملعون» .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب، فهو بمنزلة فناء المصر، يحرم الاحتكار فيه لتعلق حق العامة به بخلاف ما إذا كن البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة) . ش: وذكر الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الجامع الصغير ": أن هذا على ثلاثة أوجه: في وجه: لا بأس به، وفي وجه: مكروه، وفي وجه: اختلفوا فيه. فأما الذي هو مكروه: هو: أن يشتري طعاما في مصر ويمتنع عن مبيعه، وفي ذلك ضرر بالناس فإنه مكروه. وروي عن محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: أجبره على البيع فإن امتنع عن ذلك أغره ولا أشعره ويقول: بعه كما يبيعه الناس. وأما الذي لا بأس به: فهو: ما إذا كان له طعام دخل من ضيعته أو حمله من مصر آخر، أو اشترى من مصر، ولا يضر ذلك بالناس.
يعلم من هذا أن ما ذكره صاحب " الهداية " بقوله: والمذكور قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره، يعني فيما جلبه من بلد آخر فيه نظر؛ لأن الفقيه أورده في القسم المتفق عليه.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في كتاب " التقريب ": روى هشام عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن جلب طعاما ثم احتكره لم يكره وكره وإنما الحكرة أن يشتري في المصر وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن جلبه من نصف ميل فليس بحكرة، فإذا لم يكن في هذه حكرة؟ فيكف يكون فيما إذا جلبه من مصر آخر؟ نص عليه الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ".
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا جلبه من نصف ميل فليس بحكرة. وأما الوجه الذي اختلفوا فيه فهو: أنه إذا اشتراه من الرساتيق وحبسه في المصر، قال الفقيه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه: قال لا بأس به.
وفي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو محتكر، لأن أهل المصر يتوسعون بالرساتيق فصار حكمها حكم المصر.(12/216)
قال: ولا ينبغي للسلطان أن يعسر على الناس، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تسعروا فإن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه نأخذ.
[تسعير الوالي]
م: (قال: ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب التسعير على الوالي
دفعا للضرر
عن العامة، هكذا نقل خلافه الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التسعير لا يحل بلا خلاف للعلماء فيه إلا في صورة تعدي أرباب الطعام فإنه لا يكره عندنا، والصواب ما ذكره الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لقوله عليه الصلاة السلام: «لا تسعروا، فإن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة: الأول، أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه أبو داود والترمذي في البيوع، وابن ماجه في التجارات، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، ثلاثتهم عن أنس «قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله هو المسعر، القابض، الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه الدارمي، والبزار، وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم"، ورواه ابن حبان في "صحيحه "، ولم يذكر فيه: "السعر" هكذا وجدته في نسختين.
الثاني: أبو جحيفة، أخرج حديثه الطبراني في "معجمه "، حدثنا عبد الله بن محمد بن عزيز الموصلي، حدثنا غسان بن الربيع، حدثنا أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي جحيفة قال: «قالوا يا رسول الله سعر لنا، فقال: "المعسر هو الله، وإني لأرجو أن ألقى الله ولس أحد منكم يطالبني بعرض ولا مال» . الثالث: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الصغير "، حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الوارث، حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي، حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش، عن أبي سالم بن أبي الجعد، عن أبي كريب، عن ابن عياش بلفظ حديث أبي جحيفة.(12/217)
ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما نبين. وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك، وينهاه عن الاحتكار فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس،
فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة، فإذا فعل ذلك وتعدى رجل عن ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط "، حدثنا محمد بن محمد التمار، حدثنا أبو معن الرقاشي، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال: "إن الله هو المسعر، إني لأرجو الله أن ألقاه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دين ولا دنيا» .
م: (ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة) ش: بأن يتعدى المعتاد تعديا فاحشا يبيع ما يساوي خمسين بمائة
فحينئذ يمنع منه دفعا للضرر عن المسلمين
، وأما المتعارف فليس به بأس م: (على ما نبين) ش: يعني عن قريب بعد سطرين م: (وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر) ش: يعني الأمر الذي وقع بين الناس من الاحتكار م: (يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك) ش: يعني في قوله: وقوت أهله. م: (وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له،
ودفعا للضرر
عن الناس) ش: وذلك حتى يمتنع عن سوء عمله لأنه ارتكب أمرا محرما. وقوله: زجرا ودفعا كلاهما منصوبان على التعليل، وإنما ذكر العاطف، لأن زجرا تعليل للتغرير ودفعا تعليل الزجر وليس فيه حد مقدر فيعذر بحسب ما يراه الحاكم.
[عجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير]
م: (فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا) ش: بأن يبيعوا قفيزا بمائة مشتراه خمسون. م: (وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فحينئذ لا بأس به) ش: أي بالتسعير م: (بمشورة من أهل الرأي والبصيرة) ش: أي البصيرة والمشورة بفتح الميم وبضم الشين وهو استخراج ما في البطن بالرأي، ومحل الياء فيها النصب على الحال من الضمير المجرور في به.
م: (فإذا فعل ذلك) ش: أي القاضي م: (وتعدى رجل عن ذلك) ش: أي عن التسعير الذي(12/218)
وباع بأكثر منه أجازه القاضي، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر، وكذا عندهما إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع،
وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون وقيل: يبيع بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى الحجر لدفع ضرر عام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سعره م: (وباع بأكثر منه) ش: أي من الذي سعره م: (أجازه القاضي) ش: يعني لا ينقضه م: (وهذا ظاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الذي ذكرناه من إجازة القاضي ببيعه، ظاهر عند أبي حنيفة م: (لأنه لا يرى الحجر على الحر) ش: وفي إبطال بيعه رأي حجر عليه م: (وكذا عندهما) ش: أي وكذا هو ظاهر عندهما، لأنهما وإن رأيا الحجر، ولكن على حر معين أو قوم بأعيانهم، أما على قوم مجهولين فلا، وهاهنا كذلك فلا يصح، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وفي " المحيط ": سعر السلطان، وقال: لا تنقصوا فاشترى أحد شيئا والخيار يخاف إن نقص ذلك يضربه السلطان لا يحل أكله وحيله يعني أن يقول المشتري بعني بما تجب.
م: (إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم) ش: وهذا استثناء من محذوف تقديره، وكذا عندهما لا يكون الحجر إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم، وقد ذكرنا أن الحجر على قوم مجهولين لا يصح.
م: (ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع) ش: وقال الكرخي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجبر المحتكر على بيع ما احتكره وأعزره ولا أسعر عليه. وقوله: بع له كما يبيع الناس وبزيادة فيما يتغابن الناس بينهم، ولا أتركه يبيع القفيز بمائة وهو يباع بأربعين.
وقال القدوري في "شرحه ": وينبغي أن يكون قوله أجبره على قولهما على أصلهما في جواز الحجر على الحر. وأما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب أن لا يجبر على البيع، لأن الحجر على الحر لا يجوز.
[هل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه]
م: (وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون) ش: أشار به إلى اختلاف المشائخ فيه قال بعضهم: لا يبيع على مذهب أبي حنيفة ويبيع على قولهما في بيع مال المديون المفلس إذا امتنع عن البيع.
م: (وقيل: يبيع بالاتفاق) ش: وإليه ذهب القدوري في "شرحه " م: (لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى الحجر
لدفع ضرر عام
) ش: كالحجر على الطيب الجاهل والمكاري المفلس والمفتي الماجن(12/219)
وهذا كذلك.
قال: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة، معناه: ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبيب إلى المعصية، وقد بيناه في " السير "، وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك؛ لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك.
قال: ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا؛ لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغييره بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة؛ لأن المعصية تقوم بعينه.
قال: ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر بالسواد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن ضررهم يرجع إلى العامة.
م: (وهذا كذلك) ش: أي وهذا الحكم وهو بيع القاضي طعام المحتكر بغير رضاه كالحجر
لدفع ضرر
عام لأن ضرره يرجع على العامة.
[بيع السلاح في أيام الفتنة]
م: (قال: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة) ش: أي قال القدوري: م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري يكره بيع السلاح في أيام الفتنة م: (ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبب إلى المعصية) ش: وهو الإعانة على العدوان وقد نهينا عنه، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
م: (وقد بيناه في " السير ") ش: أي في آخر كتاب " السير " م: (وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك، لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك) ش: لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والاستقامة، فصار كبيع الحرير والديباج إلى الرجل، وإن جاز أن يلبسه لاحتمال أن يرفعه إلى امرأته وأولاده الإناث.
[ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا]
م: (قال: ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن المعصية لا تقام بعينه) ش: أي بعين العصير م: (بل بعد تغييره) ش: واستحالته إلى الخمر م: (بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة؛ لأن المعصية تقوم بعينه) ش: أي بعين السلاح.
وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل له عبد أمرد أراد أن يبيعه من فاسق يعلم أنه يعصي الله فيه، يكره هذا البيع لأنه إعانة على المعصية.
[أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار) ش: للمجوس م: (أو كنيسة) ش: للنصارى م: (أو بيعة) ش: لليهود م: (أو يباع فيه الخمر) ش: لأهل الذمة أو الفسقة من المسلمين م: (بالسواد) ش: يتعلق بالجميع تقديره: من أجر بيتا في السواد ليتخذ فيه بيت نار وكذلك البواقي، وإنما قيد بالسواد لأن أهل الذمة يمنعون عن إحداث البيع، والكنائس وبيع الخمر في الأمصار ولا يمنعون عن ذلك في السواد لأن عامة شعائر الإسلام من الجمع والجماعات والأعياد وإقامة الحدود وغير ذلك يختص بالأمصار، ففي هذه الأشياء(12/220)
فلا بأس به، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك، لأنه إعانة على المعصية. وله: أن الإجارة ترد على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استحقاق بالمسلمين بخلاف السواد.
وقالوا أيضا في سواد الكوفة، لأن الغالب فيها أهل الذمة والروافض، أما في سوادنا فيمتنعون عن إحداث ذلك، لأن الغلبة في سوادنا لأهل الإسلام فيمنعون عن ذلك في السواد والأمصار جميعا.
م: (فلا بأس به) ش: أي بما ذكر من الأشياء م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا الذي ذكرناه من الجواز عند أبي حنيفة.
م: (وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك) ش: أي يؤجره، يقال: أكراني داره أو دابته، أي أجرنيها، والمعنى: أنه لا يجوز أن يكري بيته بشيء من الذي ذكرناه، وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه إعانة على المعصية) ش: والمعين على المعصية عاص.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن الإجارة ترد على منفعة البيت ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه) ش: أي في إجارة البيت م: (وإنما المعصية بفعل المستأجر وهو مختار فيه) ش: أي المستأجر مختار في فعل المعصية يعني أن ذلك باختياره، م: (فقطع نسبته عنه) ش: أي قطع نسبة المعصية عن العقد. وفي بعض النسخ: فيقطع نسبه عنه، وهذا كما إذا أخذ من هرب ممن قصده بالقتل حتى قتله لا شيء على الآخر لتخلل فعل فاعل مختار، وكذلك هذا الإثم على الآخر بهذا المعنى.
وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب الإجارة الفاسدة من " الأصل ": وهو كمن باع جارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها من غير المأتى لم يأثم من فعل المشتري. وكذا قوله: فيمن باع غلاما قصد الفاحشة.
فإن قلت: ألا ترى أن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] الآية، حرم المسبب وإن تخلل فعل فاعل مختار.
وقلت: الكلام في المسبب المحض، أما إذا كان سببا بعمل العلة فلا وسب الكافر والضم كذلك، لأنه يبعث لهم ذلك على الفعل القبيح، بخلاف إجارة البيت، لأنه لا يحمل المستأجر على اتخاذه بيت نار، ولهذا لو أجر داره ليضع فيها متاعا، أو ليكن تحت الأجرة، لأنه لم يتعلق الإجارة بما قال، بخلاف بيع السلاح من أهل الفتنة، لأن البائع يعمل العلة، لأنهم لا يتمكنون من إنارة الفتنة إلا بالسلاح ليكون البيع منهم بمنزلة علة العلة.(12/221)
وإنما قيده بالسواد؛ لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار، لظهور شعائر الإسلام فيها بخلاف السواد، قالوا: هذا كان في سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل الذمة، فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيها ظاهرة، فلا يمكنون فيها أيضا وهو الأصح.
قال: ومن حمل لذمي خمرا، فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: يكره له ذلك، لأنه إعانة على المعصية، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن في الخمر عشرا: حاملها، والمحمول إليه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإنما قيده بالسواد؛ لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار، لظهور شعائر الإسلام فيها) ش: أي في الأمصار وهي الجمع والجماعات والأعياد، وإقامة الحدود على ما ذكرنا عن قريب. م: (بخلاف السواد) ش: أي أهل القرى، لأنه ليست فيه شعائر الإسلام كالأمصار.
م: (قالوا) ش: أي المشائخ م: (هذا كان في سواد الكوفة؛ لأن غالب أهلها أهل الذمة، فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيه ظاهرة، فلا يمكنون فيها أيضا وهو الأصح) ش: وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، عند الفضلي: لا يمنعون من ذلك في السواد، واحترز بقوله: " في الأصح " عن قوله.
[استأجر من مسلم دابة أو سفينة لينقل عليها خمرا]
م: (قال: ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال في " الجامع الصغير ".
م: (وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: يكره له ذلك) ش: وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يجوز العقد عندهم أصلا، وعلى هذا الخلاف إذا استأجر من مسلم دابة أو سفينة لينقل عليها خمرا أو استأجره ليرعى خنازيره، ذكره شيخ الإسلام م: (لأنه إعانة على المعصية وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لعن في الخمر عشرا: حاملها والمحمول إليه» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
الأول: عبد الله بن عمر، أخرج أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه " حديثه عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي وأبي علقمة مولاهم أنهما سمعا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله: الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وآكل ثمنها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمول إليه» .(12/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والبزار في "مسانيدهم".
قال المنذري في "مختصره ": وسئل ابن معين عن عبد الرحمن الغافقي قال: لا أعرفه. وذكره ابن يونس في "تاريخه " وقال: إنه روى عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عياض، وأنه كان أمير الأندلس، قتله الروم بالأندلس سنة خمسة عشر ومائة، وأبو علقمة مولى ابن عباس ذكر ابن يونس أنه يروي عن ابن عمر وغيره من الصحابة وأنه كان على قضاء أفريقية وكان أحد فقهاء الموالي، انتهى.
وأخرجه الحاكم في " المستدرك في الأشربة" من طريق ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن ابن شريح الخولاني عن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه قصة وقال: صحيح الإسناد.
ورواه إسحاق بن ر اهويه في "مسنده "، أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، سمعت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لعن: الخمر وغارسها لا يغرسها إلا للخمر، ولعن مجتنيها ولعن حاملها إلى المعصرة وعاصرها، وشاربها وبائعها وآكل ثمنها ومدرها» .
الثاني: أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الترمذي وابن ماجه عن أبي عاصم عن شبيب بن بشر عن أنس بن مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن في الخمر عشرة....» فذكره إلا أن فيه عوض: الخمر والمشتراة له. قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث غريب من حديث أنس.
الثالث: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه " عن مالك بن سعيد التجيبي أنه سمع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أتاني جبرائيل فقال لي: يا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله لعن الخمر» فذكره باللفظ الأول، إلا أن فيه عوض: «آكل ثمنها والمسقاة له» .
ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وشاهده(12/223)
وله: أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به. والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية.
قال: ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا، وهذا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم أخرج حديث عمر، ورواه أحمد في "مسنده ".
الرابع: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه أحمد والبزار - رحمهما الله- في "مسنديهما"، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، حدثنا عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي، عن علقمة عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا بلفظ أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن المعصية في شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل) ش: لأن الشرب قد يوجد بدون الحمل، والحمل قد يوجد بلا شرب بل يكون الحمل للإراقة أو للصب في النخل ليتخلل فلم تكن المعصية من لوازمه، بل المعصية توجد باختيار الفاعل، فلا يوجب كراهية الحمل، فصار كما لو استأجره لعصر العنب أو لقطعه.
م: (ولا يقصد به) ش: أي لا يقصد الحامل بالحمل شرب الذمي، بل تحصيل الأجرة.
م (والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية) ش: هذا جواب عن استدلالهما بالحديث، والمقرون بقصد المعصية هو شرب الخمر. ولنا كلام فيه، فإن ذلك مكروه.
قلت: محمد هذا التأويل رواية إسحاق بن راهويه، فليتأمل فإنه موضع نظر
[بيع أرض مكة]
م: (قال: ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ويكره بيع أرضها) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي كراهية بيع أرض مكة عند أبي حنيفة وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله- في رواية.
م: (وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله- في رواية.
م: (وهذا رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قولهما رواية عن أبي حنيفة. وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن بيع دور مكة جائزة فيها الشفعة، كذا ذكره الكرخي في(12/224)
لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن بيع دور مكة جائز فيها الشفعة، كذا ذكره الكرخي في "مختصره ".
وقال في كتاب " التقريب ": روى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رحمهما الله-: أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غير الموسم.
وكذلك قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال هشام: أخبرني محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم، ويقول: لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان فيها فضل، وإن لم يكن فيها فلا، وهو قول محمد، انتهى.
وقال الطحاوي في "مختصره ": وكره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيع أرض مكة، وهو قول مالك، ورواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد روى غيره عن أبي يوسف: أن ذلك لا بأس به.
وقال أبو جعفر: هذا أجود، والطحاوي أخذ بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جواز بيع الأرض في " شرح الآثار "، كما أخذ بقوله في "مختصره". ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ في كتاب " الآثار " بقول أبي حنيفة: أنه لا يجوز بيعها.
م: (لأنها) ش: أي لأن أرض مكة م: (مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها، فصار كالبناء) ش: أراد بالاختصاص الشرعي التوارث، وقسمتها في المواريث من الصدر الأول إلى يومنا، يريد بما رواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرح الآثار " بإسناده «عن أسامة بن زيد أنه قال: يا رسول الله انزل في دارك بمكة، فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» أخرجه البخاري ومسلم ولفظهما: «هل ترك لنا عقيل منزلا» ، وكان عقيل ورث أبا طالب ولم يرثه جعفر ولا علي، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول من أجل ذلك: "لا يرث المؤمن الكافر ". ففي هذا الحديث ما يدل على أن أرض مكة تملك، وتورث. لأنه قد ذكر فيها ميراث عقيل وطالب لما تركه أبو طالب فيها من رباع ودور. الرباع جمع ربع وهو دار الإقامة.
وذكر البيهقي في "المعرفة ": أخبرنا الحاكم بسنده عن إسحاق بن راهويه قال: كنا بمكة ومعي أحمد بن حنبل فقال لي أحمد يوما: تعال أريك رجلا لم تر عيناك مثله، يعني الشافعي، فذهب معه، فرأيت من إعظام أحمد للشافعي، فقلت له: إني أريد أن أسأله عن مسألة، فقال: هات. فقلت للشافعي: يا أبا عبد الله ما تقول في أجور بيوت مكة؟ فقال: لا(12/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- بأس به، قلت: وكيف وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يا أهل مكة لا تجعلوا على دوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء، وكان سعيد بن جبير ومجاهد ينزلان ويخرجان ولا يعطيان أجرا، فقال: السنة في هذا أولى بنا، فقلت. قال: أو في هذا سنة؟ قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهل ترك لنا عقيل منزلا» لأن عقيلا ورث أبا طالب ولم يرثه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنهما كانا مسلمين، فلو كانت المنازل في مكة لا تملك كيف كان يقول: «وهل ترك لنا عقيل؟» وهي غير مملوكة. قال: فاستحسن ذلك أحمد وقال: لم يقع هذا بقلبي، فقال إسحاق وللشافعي: أليس قد قال الله سبحانه وتعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] ؟ فقال له الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اقرأ أول الآية: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] إذ لو كان كما تزعم لما جاز لأحد أن ينشد فيها ضالة، ولا ينحر فيها بدنة، ولا يدفع فيها الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة، قال: فسكت إسحاق.
وروى الواقدي في كتاب " المغازي ": حدثني معاوية بن عبد الله عن أبيه، عن أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل مكة يوم الفتح: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيل منزلا؟ ". وكان عقيل قد باع منزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل له: فانزل في بعض بيوت مكة فأبى، وقال: "لا أدخل البيوت" فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون» .
قال السهيلي في " الروض الأنف ": وقد اشترى عمر بن الخطاب الدور من الناس الذي ضيقوا الكعبة وألصقوا دورهم بها، ثم هدمها وبنى المسجد الحرام حول الكعبة، ثم كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اشترى دورا بأغلى ثمن وزاد في سعة المسجد، وهذا دليل على أن رباع مكة مملوكة لأهلها بيعا وشراء.
وقال أبو الفتح اليعمري في "سيرته عيون الأثر ": وهذا الخلاف هنا يبتني على خلاف آخر، وهو أن مكة هل فتحت عنوة أو أخذت بالأمان؟ فذهب الشافعي إلى أنها مؤمنة، يعني فتحت بالأمان، وهو كالصلح يملكها أهلها فيجوز لهم كراءها وبيعها وشراءها، لأن المؤمن يحرم دمه وماله وعياله.
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى المسلمين أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم وقال: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» إلا الذين استثناهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان هذا أمان منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة.(12/226)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأكثر أهل العلم إلى أنها فتحت عنوة، لأنها أخذت بالخيل والركاب.
وجاء في حديث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - من طريق إبراهيم بن مهاجر: في «مكة: أنها مناخ من سبق» ، ولا خلاف في أنه لم يجر فيها قسم ولا غنيمة ولا شيء من أهلها أخذ لما عظم الله من حرمتها.
قال أبو عمر: والأصح، والله سبحانه وتعالى أعلم: أنها بلدة مؤمنة آمن أهلها على أنفسهم وكانت أموالهم تبعا لهم، انتهى.
وكذلك قال ابن الجوزي في " التحقيق ": بيع رباع مكة مبني على أنها إن فتحت عنوة فيكون وقفا على المسلمين فلا يجوز بيعها، وإن فتحت صلحا فهي باقية على أهلها فيجوز، انتهى.
قلت: حديث: «مكة مناخ من سبق» ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قلت: يا رسول الله: ألا نبني لك بيتا - يعني بمكة -؟ قال: " لا، إنما هي مباح لمن سبق» .
وقال الحاكم في "مستدركه " عقيب حديث عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل نارا» : وقد صحت الروايات أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة صلحا.
فمنها: ما حدث وأسند -يعني الحاكم - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سار إلى مكة ليفتحها قال لأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اهتف بالأنصار، فقال: يا معشر الأنصار أجيبوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجاءوا، فكأنما كانوا على ميعاد.
ثم قال: اسلكوا هذا الطريق، فساروا، ففتحها الله عليهم، وطاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت، فصلى ركعتين، ثم خرج من الباب الذي يلي الصفا، فصعد الصفا، فخطب الناس، والأنصار أسفل منه، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فقد أخذته رأفة بقومه ورغبة في قرابته، قال: "فمن أنا إذا؟ كلا والله، إني عبد الله ورسوله حقا، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم".(12/227)
ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها، ولا تورث» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: والله يا رسول الله: ما قلنا ذلك إلا مخافة أن يعادونا. قال: "أنتم صادقون عند الله وعند رسوله". فقال: والله ما منهم أحد إلا بل نحره بالدموع» .
قلت: قال الشيخ محيي الدين النووي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء، وأهل السير: ففتحت عنوة، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " احصروهم حصرا "، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ ... ] وبتسمية هذه الغزوة غزوة الفتح، [ومما] يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] ، وقوله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] والمراد بهما عند الجمهور فتح مكة، وهذا اللفظ لا يستعمل في الصلح، إنما يستعمل في الغلبة والقهر، وأيضا فإن أهل السير عدوا الفتح من جملة الغزوات التي قاتل فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعدها ابن سعد تسعا منها الفتح، وادعى الماوردي أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - انفرد بقوله: فتحت صلحا.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها، ولا تورث» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه " في "البيوع"، والدارقطني في "سننه "، عن إسماعيل ابن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة مناخ، لا تباع رباعها، ولا يؤاجر بيوتها» . وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وقال الدارقطني: إسماعيل بن مهاجر ضعيف ولم يروه غيره، وذكره ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "كتابه " من جهة الدارقطني وأعله بإسماعيل بن مهاجر، قال: قال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث.
ورواه ابن عدي، والعقيلي في "كتابيهما"، وأعلاه بإسماعيل وأبيه، قالا في إسماعيل: لا يتابع عليه.
وقال صاحب " التنقيح ": إسماعيل بن مهاجر هذا هو البجلي الكوفي، وهو من رجال مسلم.
وقال النووي: لا بأس به، وضعفه ابن معين، وكذلك أبوه ضعفوه. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أبوه أقوى منه.(12/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الحاكم، والدارقطني أيضا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم مكة، فحرم بيع رباعها، وأكل ثمنها» .
وقال: «من أكل من أجر بيوت مكة فإنما يأكل نارا» . وفي لفظ الدارقطني قال: «مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها» . سكت عنه الحاكم، وجعله شاهدا لحديث مهاجر.
وقال الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، ووهم في موضعين: أحدهما قوله: عبيد الله بن أبي يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والثاني: في رفعه، والصحيح أنه موقوف.
ثم أخرجه عن عيسى بن يونس، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد حدثني أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال: «الذي يأكل كراء بيوت مكة، إنما يأكل في بطنه نارا» .
وذكر ابن القطان حديث أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من رواية محمد بن الحسن، عنه، وقال: علته ضعف أبي حنيفة، ووهم في قوله " عبيد الله بن أبي يزيد "، وإنما هو " ابن أبي زياد "، فلعل الوهم من صاحبه محمد بن الحسن. انتهى.
قلت: أخرجه الدارقطني في آخر "الحج" عن أيمن بن نايل، عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبيد الله بن عمر، ورفع الحديث. قال: «من أكل كراء بيوت مكة أكل الربا» .
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه "، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن مجاهد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة حرام حرمها الله، لا يحل بيع رباعها، ولا إجارة بيوتها» .
حدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، وعطاء، وطاوس: كانوا يكرهون أن يباع شيء من رباع مكة، وأما قول الدارقطني: هكذا رواه أبو حنيفة، ووهم في موضعين غير صحيح ولا مسلم، لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه في " الآثار " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو، به، وليس فيه وهم، وبهذا أيضا سقط كلام ابن القطان حيث نسب الوهم إلى محمد بن الحسن.
وأما قوله: والثاني في رفعه والصحيح موقوف، فمردود أيضا لأن رفع الثقات صحيح،(12/229)
ولأنها حرة محترمة؛ لأنها فناء الكعبة، وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها، حتى لا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، فكذا في حق البيع بخلاف البناء؛ لأنه خالص ملك الباني،
ويكره إجارتها أيضا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أجر أرض مكة فكأنما أكل الربا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا سيما مثل هذا الإمام.
وأما قول ابن القطان: وعلته ضعف أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإساءة أدب، وقلة حياء منه، فإن مثل الإمام الثوري، وابن المبارك وأضرابهما وثقوه وأثنوا عليه خيرا، فما مقدار من يضعفه عند هؤلاء الأعلام الأشنان، وقد أشبعنا الكلام فيه، وفي مناقبه التي جمعناها في "تاريخنا الكبير".
م: (ولأنها) ش: أي ولأن مكة م: (حرة) ش: أي خالصة لله تعالى ووقف الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - موضع الحرم م: (محترمة) ش: أي لها حرمة عظيمة، وقد حرمها إبراهيم الخليل - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وسلامه-. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن مكة حرام منذ خلق الله السماوات والأرضين» الحديث.
م: (لأنها فناء الكعبة) ش: أي لأن مكة فناء الكعبة م: (وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها) ش: أي قد ظهر أثر تعظيم الكعبة في مكة م: (حتى لا ينفر صيدها) ش: أي لا يزعج من موضعه ولا يخوف م: (ولا يختلى خلاها) ، ش: الخلاء مقصور الرطبة من الحشيش الواحدة خلاة.
ومعنى قوله: «لا يختلى خلاها» ، أي لا يقطع خلاها م: (ولا يعضد شوكها) ش: أي لا يقطع من العضد. وهو القلع فيما إذا ظهر في هذا، فلأن يظهر في حرمة البيع كان أولى، لأن جعلها عرضة التمليك والتملك أبلغ في الإنابة من عضد الشوك وأصل الخلاء، وشغر الصيد أشار إليه بقوله: م: (فكذا في حق البيع) ش: أي فكذا يظهر في أثر تعظيمها في حق البيع م: (بخلاف البناء لأنه خالص ملك الباني) ش: فيجوز بيعه، وكمن غرس شجرا في أرض الحرم أو في أرض الوقف، أو في طريق العامة يجوز بيعه.
[إجارة بيوت مكة]
م: (ويكره إجارتها أيضا) ش: أي إجارة بيوت مكة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أجر أرض مكة فكأنما أكل الربا» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما روى محمد بن الحسن في " الآثار " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا» . وتتقدم حديث الدارقطني عن أيمن بن نابل.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا ابن جريح قال: كان عطاء ينهى أن تؤجر بيوت(12/230)
ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله -- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من احتاج إليها سكنها، ومن استغنى عنها أسكن غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكة، وقال: أخبرنا معمر عن منصور، عن مجاهد أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء. قال معمر: وأخبرني بعض أهل مكة، قال: لقد استخلف معاوية وما لدور مكة باب قال: وأخبرني من سمع عطاء يقول {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25] ، قال: ينزلون حيث شاءوا.
م: (ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره) ش: السوائب جمع سائبة، وهي التي لا مالك لها ينتفع من شاء.
وروى الطحاوي بإسناده إلى علقمة قال: «توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ورباع مكة تدعى السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن» .
وروي أيضا بإسناده إلى علقمة بن نضلة قال: «كانت الدور على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ما تباع ولا تكرى، ولا تدعى إلى السوائب» .
وأخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: «كانت الدور والمساكن حين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر وعثمان وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن» .
وكذلك رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" و"مسنده "، ومن طريقه رواه الطبراني في "معجمه " والدارقطني في "سننه "، ورواه أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي في كتابه " تاريخ مكة ": حدثني جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، حدثنا يحيى بن سليم، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: " «كانت الدور والمساكن بمكة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ما تكرى ولا تباع ولا تدعى إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن» .
قال يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فقلت لعمر إنك تكري قال: قد أحل الميتة للمضطر إليها.(12/231)
ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه شاء يكره له ذلك؛ لأنه ملكه قرضا جر به نفعا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا، ونهى رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن قرض جر نفعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج الدارقطني أيضا عن معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن علقمة بن نضلة الكناتي قال: «كانت بيوت مكة تدعى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السوائب، لا تباع، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن» .
فإن قلت: قال البيهقي: هذا الحديث فيه انقطاع ورفعه وهم، والصحيح وقفه.
قلت: فهذا ابن ماجه أخرجه بسند صحيح على شرط مسلم وأخرجه الطحاوي والدارقطني وغيرهما، وعلقمة هذا صحابي، كذا ذكره على هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام كان مرفوعا على ما عرف، وفيه تصريح عثمان بالسماع من علقمة فأين الانقطاع!.
[وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما يشاء]
م: (ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما يشاء يكره له ذلك) ش: البقال هو الذي يبيع قوابل الطعام وغيرها، وهذا في اصطلاح تلك البلاد، وأهل الشام يسمونه: القاضي وأهل مصر: الزيات.
م: (لأنه ملكه قرضا وجريه نفعا وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا) ش: أي لأن وضع الدرهم ملك البقال ذلك الدرهم من حيث القرض.
فإن قلت: قوله: عند بقال يدل على أنه وديعة لأنه عنه للوديعة فلا فرق حينئذ بين صورة الوديعة والقرض، مع أنه فرق بينهما.
قلت: يجوز أن يكون قوله يأخذ منه ما شاء خارجا مخرج الشرط، يعني وضعه بشرط أن يأخذ منه ما شاء، وأما إذا وضعه ولم يشترط شيئا فهو وديعة إن هلك لا يضمن البقال شيئا.
م: «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قرض جر نفعا» ش: روى سعيد بن منصور في "سننه "، ثم البيهقي من حديث إسماعيل بن عياش عن عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك فقلت: يا أبا حمزة: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى إليه طبقا فلا يقبله، أو حمله على دابة فلا يركبها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك»(12/232)
وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض حتى لو هلك لا شيء على الآخذ، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخرج البيهقي هذا من رواية الحسن بن علي العامري، عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش، ثم قال العامري: قال هشام: يحيى بن أبي إسحاق والهنائي، وما أراه إلا وهم. وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: ذكر الذهبي في إخراجه هذا الحديث من رواية يحيى بن إسحاق الهنائي وعزاه إلى ابن ماجه ثم ذكر يحيى بن يزيد الهنائي، وأخرج له حديثا عن أنس وعزاه إلى مسلم وأبي داود، وهو غير هذا الحديث.
وذكرهما الذهبي في " الكاشف " في ترجمتين، وعلم لابن أبي إسحاق الهنائي علامة ابن ماجه، ولابن يزيد الهنائي علامة مسلم وأبي داود. وذكر عبد الحق في "الأحكام " هذا الحديث من طريق [ ... ] مخلد عن هشام بن عمار وفيه يحيى بن إسحاق الهنائي، وبهذا ظهر أن الحديث لابن أبي إسحاق، ولابن يزيد.
وأخرج البيهقي أيضا من حديث إدريس بن يحيى عن عبد الله بن عياش حدثنا يزيد بن حبيب، عن أبي مرزوق النخعي عن فضالة بن عبيد أنه قال: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا.
م: (وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض حتى لو هلك، لا شيء على الأخذ والله أعلم) ش: لأنه أمانة لم يوجد فيه القعدي.
ومعنى قوله: هلك، ضاع حتى لو استهلك هو يضمن لأنه يتعدى. وفي " النوازل ": عجل البقال درهما فيأخذ منه شيئا فشيئا لا بأس به، ما لم يشترط عليه، لأنه إنما يدفعه ليأخذ منه متفرقا، ولو أقرضه بلا شرط لا بأس به، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.(12/233)
"مسائل متفرقة "
قال: ويكره التعشير والنقط في المصحف، لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جردوا القرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل متفرقة]
[التعشير والنقط في المصحف]
م: (مسائل متفرقة) ش: أي هذه مسائل متفرقة وارتفاع مسائل على أنه خبر مبتدأ محذوف ومتفرقة صفتها. وأراد بالمتفرقة: من أنواع شتى.
م: (قال: ويكره التعشير والنقط في المصحف) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": والتعشير جمع العواشر في المصحف، وهو كتابة العلامة عند منتهى عشر آيات.
والنقط: بفتح النون وسكون القاف مصدر من نقط المكتوب ينقط وبعضهم ضبطه بضم النون وفتح القاف، وقال: جمع نقطة، وهو تصحيف على ما لا يخفى.
م: (لقول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جردوا القرآن) ش: رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " في فضائل القرآن، حدثنا وكيع عن سفيان، عن الأعمش عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: جردوا القرآن.
حدثنا سهيل بن يوسف عن حميد الطويل، عن معاوية بن قرة، عن أبي المغيرة، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فذكره.
حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جردوا القرآن، ولا تلحقوا به ما ليس منه. وبهذا السند رواه عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "مصنفه " في أواخر الصوم، أخبرنا الثوري عن سلمة بن كهيل - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في "معجمه ".
ومن طريق ابن أبي شيبة رواه إبراهيم الحربي في كتابه " غريب الحديث " وقال: "قوله جردوا القرآن " يحتمل فيه أمران أحدهما: أي جردوه في التلاوة لا تخلطوا به غيره. والثاني: أي جردوه في الخط من النقط والتعشير.
قلت: التأويل الثاني أولى، لأن الطبراني أخرج في "معجمه " عن مسروق عن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير في المصحف.
وأخرج البيهقي في كتاب " المدخل "، عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل به: جردوا القرآن. قال أبو عبيد: كان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصحف ويروى عن عبد الله: أنه كره(12/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعشير في المصاحف.
وروى أبو عبيد بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال: جردوا القرآن، أرى فيه صغيركم عند كبيركم، فإن الشيطان يخرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
وقال أبو عبيد: اختلف الناس في تفسير قوله: جردوا القرآن، فكان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف، ويقول: جردوا القرآن ولا تخلطوا به غيره وإنما يرى كره ذلك مخافة أن ينشأ نشئ يدركون المصاحف منقوطة، فيرون أن النقط من القرآن. ولهذا كره من كره الفواتح والعواشر.
وقال أبو عبيد: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كره التعشير في المصاحف، وقيل: إن رجلا قرأ عنده، فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال عبد الله: "جردوا القرآن ".
وقد ذهب كثير من الناس إلى أن يتعلم القرآن وحده ويترك الأحاديث.
قال أبو عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا باطل وليس له عندي وجه، وكيف يكون عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد به هذا؟ وهو يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأحاديث كثيرة، لكنه عندي ما ذهب إليه إبراهيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وما ذهب إليه عبد الله نفسه. وفيه وجه آخر وهو عندي من أحسن هذه الوجوه و [هو:] أنه حثهم على أن لا يتعلم شيء من كتب غيره، لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى، وليسوا بها معرفين عليها، وذلك بين في أحاديث:
حدثنا محمد بن عبيد، عن هارون بن عبيدة، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة صحيفة، فانطلقنا إلى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلنا: هذه صحيفة فيها حديث حسن. قال، فجعل عبد الله يمحوها بيده ويقول: نحن نقص عليك أحسن القصص.
ثم قال: هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. وكذا حديثه الآخر: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيحدثوكم بحق فتكذبوا أو باطل فتصدقوا؛ فإنه كيف يهدونكم وقد أضلوا أنفسهم؟!.(12/235)
ويروى: جردوا المصاحف، وفي التعشير والنقط ترك التجريد؛ لأن التعشير يخل بحفظ الآي، والنقط يحفظ الإعراب اتكالا عليه فيكره. قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالة. فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران القرآن، فيكون حسنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم حديث «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أتاه عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب فغضب فقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب!» ، انتهى كلامه.
وفي " الفائق " ومعناه: خصوا القرآن بأن ينشأ على تعلمه صغاركم وبأن لا يتباعد عن تلاوته وتدبره كباركم، فإن الشيطان لا يقر في مكان يقرأ فيه القرآن.
وما كره أبو حنيفة التعشير والنقط لأحد الوجوه التي ذهب إليها إبراهيم في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن التعشير أمر غير مقيد إلا للتقصير في حفظ الآيات ومعرفته اعتمادا على الخط.
م: (ويروى: جردوا المصاحف) ش: هذه رواية غريبة ليس لها وجود في الكتب المشهورة.
م: (وفي التعشير والنقط ترك التجريد؛ لأن التعشير يخل بحفظ الآي) ش: حيث يعتمد عليه، م: (والنقط يحفظ الإعراب اتكالا عليه) ش: أي لأجل الاتكال على النقط م: (فيكره) ش: أي إذا كان كذلك يكره كل واحد من التعشير والنقط.
م: (قالوا) ش: أي المشائخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (في زماننا لا بد للعجم من دلالة) ش: يدل على الإعراب لأنه ليس في وسع العجم معرفة الإعراب من غير دلالة على ذلك.
م: (فترك ذلك) ش: أي ترك ما يدل على الإعراب م: (إخلال بالحفظ وهجران القرآن) ش: لأنه تعشير عليه فيتركه م: (فيكون حسنا) ش: أي كل واحد من النقط والإعراب يكون حسنا لما ذكرنا. وكذلك التعشير، لأن بالتعشير يحفظ الآي، وبالنقط والإعراب يحفظ الكلام من التغيير فكانا حسنين، وعلى هذا أكتب أسماء السور وعدد الآي فهي وإن كن إحداثا فهو بدعة حسنة، وكم من شيء يختلف باختلاف الزمان، كذا ذكره التمرتاشي.
وفي " شرح الطحاوي " لأبي بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكان الشيخ أبو الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يكره ما تليت من تراحم التواسم حسب ما جرت به العادة، لأن في ذلك أمان عن معنى السورة، وهو بمنزلة كتابة التسمية في أوائلها للفصل.
وفي " المحيط ": قراءة القرآن أشرف الأذكار، ولهذا قالوا: إنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كره دفع(12/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصوت عند قراءة القرآن عند الجنائز. ومن عادة أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهة رفع الصوت عند الجنائز وقراءة القرآن والذكر. ومن المشائخ من قال: قراءة القرآن بالجماعة بالأجزاء الثلاثين مكروهة لما فيه من الغلط.
وفي " المجتبى ": والعامة جوزوه بدعة حسنة ضرورة إحراز فضل الختم في ساعة، وقراءة القرآن للدنيا مكروهة، والأفضل أن لا يعطى القارئ شيئا.
وفي " الواقعات ": يمنع القارئ والآخذ والمعطي آثمان، وكتابته على الجدران والمحاريب ليس بمستحسن، والذكر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أفضل من قراءة القرآن. وقيل: تستحب القراءة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ولو تغنى بالقرآن ولم يخرج بإلحاقه عن قدر صحيح في العربية مستحسن. وقال فخر الإسلام: قراءة الماشي والمحترف يجوز إذا لم يشغله ذلك، ولا بأس بقراءة الإمام عقيب الصلاة آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة جهرا، والإخفاء أفضل. ومد الرجل إلى مصحف ليس بحذائه أو معلق فوقه لا يكره.
وقراءة الفاتحة لغير الصلاة للمهمات بدعة، لكنها مستحسنة للعادة، ولا يجوز المنع منها، ويجوز كتابة الآية والآيتين بالفارسية، والأكثر منها لا يجوز.
وقال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا فالمجنون يشد والزنديق يقتل.
ويكره كتابة التعشير بالفارسية في المصحف كما يعتاده البعض، ورخص فيه الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وما كتب سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الفاتحة بالفارسية كان للضرورة لأهل فارس.
وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: القصص مكروه أو يحدث الناس بما ليس له أصل معروف في أحاديث الأولين أو يزيد أو ينقص أو يعظ الناس بما لا يتعظ به وقلبه ساه، فأما ما سواء فغير مكروه.
قال نجم الدين الحفصي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يريد به الزيادة في أصله والنقصان منه أما التزيين بالعبارات اللطيفة المرفقة، والشرح للفوائد التي يتضمنها الكلام فذلك حسن، ولا بأس بسبك الدراهم التي كتب فيها اسم الله ولا بأس بوضع القرطاس الذي كتب فيه اسم الله تعالى تحت الطقسة.(12/237)
قال: ولا بأس بتحلية المصحف لما فيه من تعظيمه وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب، وقد ذكرناه من قبل.
قال: ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره ذلك. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره في كل مسجد، للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة؛ لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها، والجنب يجنب المسجد، وبهذا يحتج مالك، والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " جامع شمس الأئمة ": الرسائل والآثار والكتب التي لا منفعة فيها يمحى عنها اسم الله وملائكته ورسله، ويحرق بالنار فلو ألقاها في الماء الجاري أو دفنها لا بأس به.
والدفن أحسن كما في الأنبياء والأولياء إذا ماتوا، وكذا جميع الكتب إذا بليت وخرجت عن الانتفاع.
[تحلية المصحف]
م: (قال: ولا بأس بتحلية المصحف لما فيه من تعظيمه وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب، وقد ذكرناه من قبل) ش: أي في كتاب الصلاة قبل باب صلاة الوتر.
[دخول أهل الذمة المسجد الحرام]
م: (قال: ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام) ش: أي قال في " الجامع الصغير ".
م: (وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره ذلك) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره في كل مسجد) ش: يعني سواء كان في المسجد الحرام أو غيره.
م: (للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ش: والنجس مصدره ومعناه، فهم أنجاس ولا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية، بعد حج عامهم هذا: وهو عام تسع من الهجرة.
وكذا في " الكشاف " ومذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظاهر، لأن ظاهر الآية يدل على النهي لهم أن يقربوا المسجد الحرام لا غير.
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ بقول الزهري، وكذا قال الفقيه أبو الليث.
م: (ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها) ش: أي عن الجنابة لأنه لا يراعي الكيفية المسنونة، ولا يزال جنبا م: (والجنب يجنب المسجد) ش: أي يبتعد عنه تطهيرا له عن القذر.
م: (وبهذا) ش: أي بقوله: ولأن الكافر لا يخلو عن الجنابة إلى آخره، م: (يحتج مالك) ش: وفي بعض النسخ احتج مالك. م: (والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها) ش: لأن اجتناب كل مسجد عن النجاسة واجب فتعليل مالك يعم سائر المساجد، فلا يجوز قبوله في(12/238)
ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار ولأن الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى تلويث المسجد، والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سائر المساجد.
م: (ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود في "سننه " في كتاب الخراج في باب خبر الطائف عن حماد بن سلمة، عن حميد عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص: أن «وفد ثقيف لما قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع» . ورواه أحمد في مسنده حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة به. وكذلك الطبراني في "معجمه ".
وقال المنذري في "مختصره ": قيل: إن الحسن البصري قد سمعه من عثمان بن أبي العاص. ورواه أبو داود في "مراسيله " عن الحسن: أن «وفد ثقيف جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد لينظروا إلى صلاة المسلمين، فقيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتنزلهم في المسجد وهم مشركون؟ فقال: "إن الأرض لا تنجس، إنما ينجس ابن آدم» .
وأخرجه الطبراني في "معجمه " عن محمد، عن عيسى بن عبد الله بن مالك، عن عطية بن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: «قدم وفد ثقيف في رمضان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في المسجد فلما أسلموا صاموا معه، قوله: لا تحشروا أي إلى الجهاد والنفر له. وقيل: أي إلى المصدق ولكن تؤخذ منهم الصدقة في مواطنهم قولهم "ولا تعشروا": أي ولا يأخذ عشر أموالهم» .
قولهم: ولا تجثوا قال الخطابي: أي ولا يصلون وأصل التجثية أن يكتب الإنسان على مقدمه ويرفع. وفي " الصحاح " التجثية أن يقوم قيام الراكع.
م: (ولأن، الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى تلويث المسجد) ش: ولا تلويث هاهنا لأن المنهي عنه تلويث المسجد م: (والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء) ش: هذا جواب عما استدل به(12/239)
أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية.
قال: ويكره استخدام الخصيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي من الآية المذكورة فأجاب عنه نحوا بين الأول: أن الآية محمولة على منعهم أن يدخلوها مستولين عليها ومستعلين على أهل الإسلام من حيث التدبير والقيام بعبادة المسجد.
فإن قيل: قبل الفتح كانت الولاية والاستعلاء لهم، ولم يبق ذلك بعد الفتح.
وقوله: استيلاء واستعلاء منصوبان على التمييز، ويجوز أن يكونا حالين. والتقدير كما قلنا مستولين ومستعلين.
فإن قلت: المساق والحال؟
قلت: هو فاعل المصدر المحذوف لأن تقديره: قوله على الحضور، على حضورهم، فافهم الجواب النافي في قوله.
م: (أو طائفين عراة) ش: أو الآية محمولة على كونهم طائفين بالكعبة حال كونهم عراة. م: (كما كانت عادتهم في الجاهلية) ش: فإنهم كانوا يطوفون بها عراة فأراد الله سبحانه وتعالى تنزيه المسجد الحرام عن ذلك لا على أن نفس الدخول ممنوع، والدليل عليه ما رواه البخاري في "صحيحه " بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: «أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بعثه في حجته التي أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حجة الوداع في رهط يؤذن الناس: ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان» .
[استخدام الخصيان]
م: (قال: ويكره استخدام الخصيان) ش: أي قال القدوري: أي استعمالهم في الخدمة المعهودة منهم وهو الدخول في الحرم لأن ذلك لا يخلو عن اطلاعهم على ما وراء الوجه والكف والقدمين من النساء، وذلك حرام. فكان هذا الاستخدام سببا للحرام، وما كان سببا للحرام فهو حرام.
والخصيان، بضم الخاء، جمع خصي كالصبيان جمع صبي.
م: (لأن الرغبة في استخدامهم حث الناس على هذا الصنيع) ش: أي على الاختصاء.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لولا استخدام الناس إياهم لما أخصاهم الذين يخصونهم.
وقال الشافعي: في " الأجناس " عن كتاب "الحج" لمحمد بن الحسن على أهل المدينة، قال محمد: لا بأس باقتناء الخصيان وأن يدخلوهم على النساء ما لم يبلغوا الخبث واقتناء الواحد والكثير سواء.
وفسره الناطفي في "واقعاته " بخمس عشرة سنة.(12/240)
لأن الرغبة في استخدامهم، حث الناس على هذا الصنيع، وهو مثلة محرمة.
قال: ولا بأس بإخصاء البهائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو مثلة محرمة) ش: أي وهذا الصنيع مثلة وهي حرام بالإجماع ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا خصاء في الإسلام» . وإليه ذهب بعض المفسرين في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] ، كذا في " الكشاف " وغيره، وهو قول عكرمة.
وقال الحافظ في كتاب "الخصيان" بعد ندمتهم: فأي ذي مروءة وغيرة على أهل وحشم وأي ذي دين ينزع نفسه إلى اتخاذ هؤلاء الأرض برحلبان العقل وما شعر ثوب الغفلة فلا يكن منهم واثق، هذه الأمة الملعونة التي أول أمرها معصية الله حين يخرجون من حد الرجال إلى حد لا هم رجال ولا هم نساء، انتهى.
ورأيت في بعض المجاميع أن الخصيان مخصوصون بأمور: منها أنهم لا يخرجون من صلب مسلم ولا يخرج من صلبهم مسلم، ومنها أنهم أقوياء على تأديبهم غيرهم وهم أقل الناس أدبا ومنهم أنهم لا يكونون قط في مجلس من مجالس النساء إلا يتمنون لو كانوا نساء.
منها أنهم أشد الناس حرصا على جمع المال، وأكثرهم بخلا مع علمهم بعدم الأولاد.
[خصاء البهائم]
م: (قال: ولا بأس بإخصاء البهائم) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس في النسخ الكثيرة لفظه.
قال: واعلم أن خصاء البهائم إذا كان لإرادة صلاحها فهو مباح في قول عامة العلماء، وقال قوم: لا يحل خصاء البهائم من الفحول.
روى الطحاوي في " شرح الآثار " مسندا إلى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه نهى أن تخصى الإبل والبقر والغنم، وكان يقول: منها نشأت الخلق، فلا تصلح الإناث إلا بالذكور.
ووجه الإباحة ما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين حرين» وهو المنصوص خصاهما، والمفعول به ذلك منقطع النسل لا محالة، فلو كان ذلك مكروها لما ضحى بهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينتهي الناس عن ذلك ولا يفعلوه، والجواب عن حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أنه موقوف عليه، ولئن صح فالمراد منه الخصاء بحيث لا يبقى شيء من ذكور البهائم فذلك مكروه لانقطاع النسل.
وروى الطحاوي بإسناده إلى عروة عن أبيه: أنه أخصى بغلا له.(12/241)
وإنزاء الحمير على الخيل؛ لأن في الأول منفعة البهيمة والناس، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ركب البغلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى أيضا بإسناده إلى طاوس: أن أباه أخصى جملا له.
وروى أيضا بإسناده إلى هشام بن عطاف قال: لا بأس بإخصاء الفحل إذا خشي عضه.
وفي " الجواهر " للمالكية: أن مالكا لا يبيح ذلك في الخيل، وقال: لأنه يضعفها في الغزو وهو المقصود الأعظم ويقطع نسلها.
وفي " الفتاوى ": لا بأس بكي البهائم للعلامة لأن فيه منفعة، ولا بأس بنصب آذان الأطفال من البنات لأنهم كانوا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير إنكار وكذا لا بأس بكي الصبيان إذا كان لداء أصابهم لأن ذلك مداواة.
[إنزاء الحمير على الخيل]
م: (وإنزاء الحمير على الخيل) ش: أي ولا بأس بإنزاء الحمير على الخيل، والإنزاء ارتكاب الحمر على الخيل وثلاثيته: نزاء، ينزا. نزاء، يقال نزء الذكر على الأنثى إذا وثب وركب عليها وإنزاه غيره.
م: (لأن في الأول منفعة البهيمة والناس) ش: أراد بالأول خصاء البهائم ومنفعة البهائم تسمينها ومنفعة الناس إزالة جماحها وشماسها.
م: (وقد صح أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ركب البغلة» ش:. أخرج الطحاوي ومسلم في "الجهاد"، عن أبي إسحاق قال: «سمعت البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين.
فقال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفر وكانت هوازن يومئذ رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فلقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته البيضاء، وأن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقوده وهو يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» .
وأخرج مسلم أيضا في "الجهاد"، عن «كثير بن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فلزمت أنا وأبا سفيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم نفارقه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة الجذامي.
فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركض بغلته قبل الكفار.(12/242)
فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبها؛ لما فيه من فتح بابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنا آخذ بلجام بغلته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعباس آخذ بركابه، إلى أن قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا حتى حمى الوطيس" ثم أخذ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيده حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة".
قال: فما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى أمرهم مدبرا حتى هزمهم الله، فكأني أنظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يركض خلفهم على بغلته» ، مختصر.
وأخرج في "الفضائل" عن «سلمة بن الأكوع قال: "لقد قدت نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - على بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا قدامه وهذا خلفه» .
وأخرج في آخر التوبة قبيل الفتن: عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حائط لبني النجار على بغلة له فذكره، وفيه قال: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» ، مختصر.
وأخرج البخاري عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته دينارا ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» . ولم يخرج مسلم لعمرو بن الحارث شيئا غيره.
وفي " سيرة ابن إسحاق ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب بغلته الدلدل في أسفاره وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أسنانها، وكان يجش لها الشعير وماتت بالبقيع في زمن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» .
قوله: الوطيس - بفتح الواو وكسر الطاء المهملة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره سين مهملة-: وأراد به الحرب، وفي " الأصل ": هو اسم للتنور المحمى بالنار.
م: (فلو كان هذا الفعل) ش: أي إنزاء الحمير على الخيل م: (حراما لما ركبها) ش: أي لما ركب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البغلة والتذكير باعتبار المذكور وباعتبار البغل م: (لما فيه من فتح بابه) ش: أي لما في ركوب البغلة من فتح باب إنزاء الحمير على الخيل.
فإن قيل: رواه أبو داود في "الجهاد" مسندا إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «أهديت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغلة فركبها.(12/243)
قال: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني؛ لأنه نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال علي: "لو حملت الحمير على الخيل لكانت لنا مثل هذه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» .
قلت: قد صح ركوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البغلة بما ذكرنا من الأحاديث، فلو كان الإنزاء مكروها لم يركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يمتنع الناس عن إنزاء الحمير.
ومعنى قوله: يفعل ذلك الذين لا يعلمون أن الخيل قد جاء في ارتباطها الأجر ولم يرد مثل ذلك في البغال وكانت الخيل في بني هاشم قليلة، فأحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكثر فيهم. كذا ذكر الطحاوي في "شرح الآثار ".
[عيادة اليهودي والنصراني]
م: (قال: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وهذه من الخواص قيد باليهودي والنصراني لأن في عيادة المجوسي اختلافا، قيل: لا بأس به لأنهم من أهل الذمة كاليهود والنصارى. ونص محمد في المجوسي على: أنه لا بأس بعيادته.
وقيل: لا يجوز لأن المجوسي أبعد عن الإسلام من اليهود والنصارى، ألا ترى أنه لا يباح ذبيحة المجوسي ولا نكاحهم بخلاف اليهود والنصارى.
وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: الإسلام شرط لجواز عيادة المريض. قال صاحب " الحلية ": والصواب عندي أن يقال: عيادة الكافر جائزة والقربة فيها موقوفة على أنواع حرمة يقترن بها من جواز أو قرابة انتهى.
واختلفوا في عيادة الفاسق أيضا، والأصح: أنه لا بأس به لأنه مسلم، والعيادة من حقوق المسلمين.
وفي " النوادر ": لو مات يهودي أو مجوسي جاز لجاره أو قريبه أن يعزيه ويقول: أخلف الله عيك خيرا منه وأصلحك، يعني أصلحك بالإسلام ورزقك ولدا مسلما.
فإن قلت: لم قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس بعيادة اليهودي؟
قلت: إشارة إلى أن تركها أفضل. م: (لأنه نوع بر في حقهم) ش: أي لأن عيادتهم نوع إحسان في حقهم، وتذكير الضمير باعتبار المذكور، وإن العيادة مصدر فيستوي فيه التذكير والتأنيث.
م: (وما نهينا عن ذلك) ش: أعني البر في حقهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] بيانه أن الله تعالى قال: أن تبروهم بالآية، فكان البر مشروعا، والعيادة والتواصل فتكون(12/244)
وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عاد يهوديا مرض بجواره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مشروعة: بخلاف الحربي فإنا نهينا عن بره بالآية التي بعدها.
م: (وقد صح أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عاد يهوديا مرض بجواره» ش: هذا أخرجه البخاري في صحيحه في الجنائز، عن حماد بن يزيد، عن ثابت عن أنس قال: «كان غلام يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمرض، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: "أطع أبا القاسم " فأسلم فخرج وقد أعتقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يقول: "الحمد لله الذي أعتقه من النار» .
ورواه الحاكم في "المستدرك " في الجنائز أيضا وزاد: «فلما مات قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا على صاحبكم» . وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووهم في ذلك. فقد رواه البخاري في الموضعين في الجنائز وفي الطب. ورواه أحمد في "مسنده " ولفظه: «كان غلام يهودي يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع له وضوءه ويناوله بغلته وليس في ألفاظه أنه كان جاره» ولكن رواه ابن حبان في "صحيحه " بالإسناد المذكور: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاد جارا له يهوديا» انتهى.
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " في كتاب "أهل الكتاب": أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن عبد الله بن عمرو بن علقمة عن ابن أبي الحسين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له جار يهودي، فمرض فعاده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه، فعرض عليه الشهادتين ثلاث مرات فقال له أبوه في الثالثة: افعل ما قال لك ففعل ثم مات. فأرادت اليهود أن تليه فقام له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكفنه وحنطه وصلى عليه» .
وروى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة يزيد عن أبيه قال: «كنا جلوسا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لنا: "قوموا بنا نعود جارنا اليهودي"، قال: فأتيناه. فقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كيف أنت يا فلان؟ " وعرض عليه الشهادتين ثلاث مرات فقال أبوه في الثالثة: يا بني اشهد، فشهد. فقال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار» . ومن طريقه رواه ابن السني في كتاب " عمل اليوم والليلة ".(12/245)
قال: ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك وللمسألة عبارتان: هذه، ومقعد العز. ولا ريب في كراهية الثانية؛ لأنه من القعود، وكذا الأولى؛ لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث، والله تعالى بجميع صفاته قديم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج البيهقي في " شعب الإيمان ": أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، حدثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، حدثنا بشر بن محمد، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا يونس بن بكير، حدثني سعيد بن ميسرة القيسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سمعت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يقول: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا عاد رجلا على غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: "كيف أنت يا يهودي؟ وكيف أنت يا نصراني؟ " بدينه الذي هو عليه» .
[يقول الرجل في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك]
م: (قال: ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". قوله: معقد العز: أي موضع عقده.
م: (وللمسألة عبارتان) ش: أي للمسألة المذكورة لفظان: م: (هذه) ش: أي إحدى العبارتين هذه، وهي قوله: أسألك بمعقد العز من عرشك، بتقديم العين.
م: (ومقعد العز) ش: العبارة الثانية، وهي قوله: أسألك بمقعد العز من عرشك، بتقديم القاف على العين، من القعود.
م: (ولا ريب في كراهية الثانية؛ لأنه من القعود) ش: أي لا شك في كراهية العبارة الثانية، وهي قول: أسألك بمقعد العز من عرشك لأنه من القعود، وهو التمكن على العرش، وذلك قول المجسمة وهو باطل.
م: (وكذا الأولى) ش: أي: وكذا تكره العبارة الأولى وهي: أسألك بمقعد العز من عرشك بتقديم العين على القاف. م: (لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث) ش: أي العرش محدث، م: (والله تعالى بجميع صفاته قديم) .
ش: فإذا علق عزه القديم بالعرش الحادث يتوهم أن عزه حادث لتعلقه بالحادث.(12/246)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به، وبه أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مأثور عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - روي أنه كان من دعائه: «اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا بأس به) ش: أي بالقول الأول وهو أسألك بمعقد العز، بتقديم العين على القاف. م: (وبه أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي: وبما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -. نص عليه في " شرح الجامع الصغير ".
م: (لأنه مأثور عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي: لأن القول الأول أجابه الأثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أشار إليه بقوله: م: (روي أنه «كان من دعائه: "اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» ش: وفي بعض النسخ: "من دعائه" موضع "في دعاء" كل المتقدمين اسم كان هو قوله اللهم، وقوله: "في دعائه" أو "من دعائه" هو الخبر ثم الأثر المذكور.
ورواه البيهقي في كتاب " الدعوات الكبير ": وأخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو عثمان البصري، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا عامر بن خداش - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا عمر بن هارون البلخي، عن ابن جريج عن داود، عن ابن أبي عاصم، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار وتتشهد" بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم قال: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وكلماتك التامة، ثم اسل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينا وشمالا، ولا تعلمها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجاب» .
ورواه ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الموضوعات " من طريق أبي عبد الله الحاكم، حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الرحمن العتكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا محمد بن أشرس، حدثنا عامر بن خداش به مسندا ومتنا.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده مخبط كما ترى.
وفي إسناده عمر بن هارون قال ابن معين فيه: كذاب.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات، ويدعي شيوخا لم يرهم، وقد صح «عن(12/247)
ولكنا نقول: هذا خبر الواحد فكان الاحتياط في الامتناع. ويكره أن يقول في دعائه: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي عن القراءة في السجود» . انتهى.
وعزاه السروجي " للحلية " وليس فيها، والعجب العجائب من " شراح الهداية "، وهم أئمة أجلاء كيف يغضون أبصارهم ويمرون في مثل هذه المواضع والبعدى لشرح كلام الناس لا يكون كذلك.
أما الأترازي الذي له دعوى عريضة في الباب فلم يتعرض قط لهذا ولا ذكر اسم الصحابي الذي رواه، بل قال: لأنه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يدعو بذلك، وهذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدعو بذلك لا بسند صحيح ولا بسند ضعيف.
وأما الكاكي وتاج الشريعة -رحمهما الله- والسغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا: روي عن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اثنتي عشرة ركعة من صلاها في ليل أو نهار قصر في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة وتشهد في كل ركعتين وسلم ثم سجد بعد التشهد من الركعتين الأخيرتين قبل السلام يقرأ فاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسي سبع مرات ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم يقول: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى، وكلماتك التامة أن تقضي حاجتي، فإن الله يقضي حاجته". ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تعلموها السفهاء، لأنها دعوة مستجابة» ولكن الذي ذكره تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير ما ذكره حيث قال: روي عن ابن مسعود أنه قال: «اثنتا عشرة ركعة من صلاها في ليل أو نهار وقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب سبع مرات وآية الكرسي سبع مرات، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات ثم يقول إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم، وجدك الأعلى وكلماتك التامة أن تقضي حاجتي، فإن الله عز وجل يقضي حاجته".
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تعلموها السفهاء فإنها دعوة مستجابة» .
وأما صاحب " العناية " فلم يذكر المسألة رأسا فضلا عن بيان حال الحديث.
م: (ولكنا نقول: هذا خبر الواحد فكان الاحتياط في الامتناع) ش: أراد أن الاحتياط واجب في هذا لما فيه من الإبهام، فتعلق عزه بالعرش بما ذكرنا، ولا يلزم الحكم في مثل هذا بالخبر الواحد، وكذا نص عليه في " جامع قاضي خان " والمحبوبي والتمرتاشي.
م: (ويكره أن يقول في دعائه: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على(12/248)
الخالق. قال: ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو؛ لأنه إن قامر بها، فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر بها، فهو عبث ولهو، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخالق) ش: وكذا الحق والمشعر الحرام هذا مما توهم أن على الله حقا للمخلوقين، وإن كانت عادة الناس جرت بذلك.
وفي " الكافي ": ولو قال رجل لغيره بحق الله أو بالله أن تفعل كذا لا يجب على ذلك الغير أن يفعل ذلك شرعا، وإن كان الأولى أن يأتي به.
[اللعب بالشطرنج والنرد]
م: (قال: ويكره اللعب بالشطرنج والنرد) ش: أي قال في " الجامع الصغير " والشطرنج بكسر الشين. وقد يقال بكسر الشين المهملة.
وفي " العباب ": ولا يقال بالفتح وهو من الشطار أو من الشطر لأنه يعبأ ويشطر.
والنرد، قال ابن دريد: هو فارسي معرب، ويقال له: النردشير، كما جاء في الحديث على ما نبين إن شاء الله سبحانه وتعالى.
م: (والأربعة عشر) ش: قيل: هو شيء يستعمله اليهود، ويجوز أن يراد به اللعب الذي يلعبه عوام الناس، وهو قطعة لوح يخط عليه أربعة عشر خطا في العرض وثلاثة خطوط في الطول، فيصير جملة العيون سبعين عينا، ويرد في كل طوفة خمس عشرة حصاة بالجملة ثلاثون حصاة، والقوم الذين يلعبون به فرقتان: كل فرقة من ناحية متقابلين، ويسمون هذا طابا، وربما يسمى طاب ودك.
م: (وكل لهو) ش: أي ويكره كل اللعب بكل اللهو، وهذا يعم سائر أنواع اللعب والملاهي ما خلا الأشياء الثلاثة التي استثناها في الحديث على ما يأتي.
م: (لأنه) ش: أي لأن اللعب م: (إن قامر بها) ش: أي بهذه الأشياء المذكورة م: (فالميسر حرام بالنص) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] والذي فيه الإثم يكون حراما م: (وهو اسم لكل قمار) ش: الميسر اسم لكل قمار م: (وإن لم يقامر بها، فهو عبث ولهو) ش: أي وإن لم يقامر بهذه الأشياء فهو عبث واشتغال بما لا يفيد وهو لهو، واللهو باطل بالحديث، أشار إليه بقوله: م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:(12/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط "، من حديث المنذر بن زياد الطائي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل لهو يكره، إلا ملاعبة الرجل زوجته، ومشيته بين الهدفين، وتعليمه فرسه» .
ورواه ابن حبان في كتاب "الضعفاء "، وأعله بالمنذر وقال: إنه يقلب الأسانيد وينفرد بالمناكير عن المشاهير. لا يحتج به إذا انفرد.
الثاني: عقبة بن عامر الجهني - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الأربعة: أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر، والترمذي وابن ماجه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام عن عبد الله بن الأزرق، عن عقبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ليس من اللهو ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعدما علمه فإنها نعمة تركها" أو قال "كفرها» . ورواه أحمد في "مسنده " بالسندين المذكورين، وكذلك الطبراني في "معجمه ".
الثالث: جابر بن عبد الله أخرج حديثه النسائي في عشرة النساء من ثلاث طرق دائرة على عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان فمل أحدهما فقال الآخر: أكسلت قال: نعم. فقال أحدهما للآخر: أما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب» وفي لفظ: «فهو سهو ولهو إلا أربعة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديب الرجل فرسه ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة» .
ورواه إسحاق بن راهويه في "مسنده ": حدثنا محمد بن سلمة الجزري عن أبي عبد الرحمن خالد بن أبي يزيد، عن عبد الوهاب بن بخت المكي، عن عطاء بن أبي رباح به.
ومن طريق إسحاق رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "معجمه "، وكذلك رواه البزار في "(12/250)
وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسنده "، وجعله من مسند جابر بن عمير، وكذلك ابن عساكر.
الرابع: أبو هريرة، أخرج حديثه الحاكم في "مستدركه " في الجهاد عن سويد بن عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة انتضالك بقوسك، وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك، فإنهن من الحق» .
وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وتعقبه الذهبي في "مختصره ".
وقال: سويد بن عبد العزيز متروك.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل ": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سويد بن عبد العزيز، عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال، فذكره.
فقالا: هذا خطأ وهم فيه سويد، وإنما هو عن ابن عجلان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال، فذكره هكذا.
رواه الليث وحاتم بن إسماعيل وجماعة وهو الصحيح مرسلا.
قال أبي: ورواه ابن عيينة، ابن أبي حسين، عن رجل، عن أبي الشعثاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أيضا مرسل. قال: والمناضلة وهي المراماة بالنبل.
م: (وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام) ش: أي لما في اللعب بالشطرنج من تشحيذ الخواطر وهو من شحذت السكين، شحذه شحذا، أي حده. والشحيذ: المسن، ومادته: الشين معجمة وحاء مهملة وذال معجمة، ومن فعل يفعل بالفتح فيهما.
م: (وهو محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي القول المذكور محكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال سهل بن محمد الصعلوكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح إذا أسلمت اليد من الخسران، والصلاة من النسيان، واللسان من الهذيان، فهو إذن بين الحلال.(12/251)
ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الحلية ": ويكره اللعب بالشطرنج ولا يحرم إذا لم يكن على عوض: ولم يترك به فرض صلاة ويتكلم سحق.
وهو معنى قول الصعلوكي، ولو أكثر به ردت شهادته. وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وكذا لو لعب به على الطريق ومع الأوباش يحرم، أما لو لعب به مع الأمناء ففيه تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام من غير إدمان لا يحرم.
وفي " المجتبى ": قول الشافعي رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير» ش: هذا الحديث في مسلم، ولكن ليس فيه ذكر الشطرنج، أخرجه عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنردشير فكأنما أصبغ يده في لحم خنزير ودمه» .
وأخرج العقيلي في " الضعفاء "، عن مطهر بن الهيثم، حدثنا شبل المصري عن عبد الرحمن بن معمر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: "ما هذه الكوبة ألم أنه عنها، لعن الله من يلعب بها» .
وأعله بمظهر بن الهيثم، وقال: لا يصح حديثه.
قال: وشبل وعبد الرحمن مجهولان.
وذكره ابن حبان في كتاب " الضعفاء " وأعله بمظهر وقال: إنه منكر الحديث، يروي عن الثقات ما ليس بحديث الأثبات.
وروى ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الضعفاء ": عن محمد بن الحجاج، حدثنا حزام بن يحيى، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة لا ينظر فيها إلى صاحب الشاه» يعني الشطرنج.
ثم قال: ومحمد بن الحجاج أبو عبد الله المصغر: منكر الحديث جدا، لا تحل الرواية عنه.
ورواه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " من طريق الدارقطني، عن ابن حبان بسنده المذكور، ثم قال: ومحمد بن الحجاج يقال له: أبو عبد الله المصغر.(12/252)
ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر» . ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط؛ لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- التسليم عليهم تحذيرا لهم، ولم ير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - به بأسا ليشغلهم عما هم فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الإمام أحمد: تركت حديثه.
وقال يحيى: ليس بثقة.
وقال مسلم والنسائي والدارقطني: متروك.
وروى ابن موسى محمد بن أبي بكر المدني في كتاب " الأمالي في أسامي الرجال " بإسناده إلى حية بن مسلم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ملعون من لعب بالشطرنج والناظر إليها كالآكل لحم الخنزير» .
قلت: أحسن ما يستدل به على تحريمه أنه لهو وأنه خارج عن الثلاث التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن اللعب بالشطرنج م: (نوع لعب يصد) ش: أي يمنع، م: (عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر» ش: هذا الحديث غير مرفوع على ما رواه أحمد في كتاب الزهد، من قول القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: حدثنا ابن نمير، حدثنا حفص عن عبيد الله عن القاسم بن محمد قال: «كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر» .
ورواه البيهقي في " شعب الإيمان ": أخبرنا أبو الحصين بن بشران، أخبرنا ابن صفوان، حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا أبو معاوية عن عبد الله بن عمر أنه قال للقاسم بن محمد: هذه النرد تكرهونها فما بال الشطرنج؟
قال: «كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر» ، انتهى. أي قمار، والقمار حرام. م: (ثم إن قامر به تسقط عدالته) ش: ولا تقبل شهادته م: (وإن لم يقامر لا تسقط) ش: أي عدالته وتقبل شهادته.
م: (لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- التسليم عليهم) ش: أي على اللاعبين بالشطرنج م: (تحذيرا لهم) ش: أي لأجل تحذيرهم عما هم فيه.
م: (ولم ير أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - به بأسا ليشغلهم عما هم فيه) ش: أي لم ير أبو حنيفة بأسا بالسلام عليهم حتى يشغلهم عما هم فيه.(12/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: كره أبو يوسف ذلك إهانة لهم.
وأورد الفقيه أبو الليث في " شرح الصغير " سؤالا وجوابا:
فإن قيل: إذا لعب بالشطرنج، يريد بذلك تعلم الحرب. قيل له: يكون وزره أشد لأنه اتخذ آيات الله هزوا يرتكب المعصية، ويظهر في نفسه أنه يريد الطاعة.
ثم اعلم أن المسابقة في الخيل والإبل والرمي جائز بالسنة وإجماع الأمة. فإن شرط المال من جانب واحد بأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي، وحكي عن مالك: لا يجوز لأنه قمار.
وإن كان اشتراط العرض من الإمام يجوز بالإجماع لأن هذا مما يحتاج إليه، لأنه حث على الجهاد. وحرم لو شرط المال من الجانبين بالإجماع، إلا إذا أدخلا ثالثا بينهما، وقال للثالث إن سبقتنا فمالك، وإن سبقناك فلا شيء لك، هو فيما بينهما أيهما سبق أخذ الجعل عن صاحبه.
وسأل أشهب مالك عن المحلل؟ [فقال:] لا أحبه.
ولنا ما رواه أبو هريرة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق، فليس قمارا. وإن أمن أن يسبق فهو قمار» رواه أبو داود.
فلهذا يشترط أن يكون فرس المحلل أو بغيره مكافئا لفرسهما أو بغيرهما، وإن لم يكن مكافئا بأن كان أحدهما أبطأ: فهو قمار.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أدخل الثالث أن يكون حيلة، إذا توهم سبقه، كذا في " التتمة ". ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة، وكذا في المناضلة بالرمي. والمسابقة بالأقدام تجوز إذا كان المال مشروطا من جانب واحد.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وقال في المنصوص: لا يجوز.
وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- إذا كان يجعل لما روى أبو هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» .
رواه أبو داود: فبقي السبق في الأقدام من غير الثلاثة.(12/254)
قال: ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته، وتكره كسوته الثوب وهديته الدراهم والدنانير، وهذا استحسان، وفي القياس: كل ذلك باطل؛ لأنه تبرع، والعبد ليس من أهله وجه الاستحسان أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل هدية سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وصارع ركانة» . وراوي الحديث أبو هريرة: أنه لا حاجة في المسابقة في الجهاد إلا في هذه الثلاثة.
وقال مالك وأحمد -رحمهما الله-: ممكن أن يكون المراد نفي الجعل، ولا يجوز المسابقة في البغال والحمير.
وبه قال الشافعي في قول وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا كان يجعل.
وقال الشافعي في قول: يجوز.
وفي " الذخيرة " و" التتمة ": إذا قال واحد منهم لآخر إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئا يجوز.
والقياس: كله باطل ويجوز استحسانا لما فيه حيث معنى يرجع إلى الجهاد، وكذا في " التتمة " حث على الجهد في التعلم.
[قبول هدية العبد التاجر]
م: (قال: ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، وأراد به الهدية اليسيرة. م: (وإجابة دعوته) ش: أي ضيافته، فأراد به البشيرة.
ولم يقدر محمد مقدار ما يتخذ من الضيافة. وروي عن محمد بن سلمة أنه قال: على قدر مال تجارته، فإن كان مال تجارته مثل عشرة آلاف درهم فاتخذ مقدار ضيافة عشرة دراهم كان يسيرا. وإن كان مال تجارته عشرة دراهم كان دانق كثيرا. وقد مر الكلام فيه في كتاب " المأذون ".
م: (واستعارة دابته) ش: أي دابة العبد التاجر للعرف والعادة.
م: (وتكره كسوته الثوب) ش: أي تمليكه م: (وهديته الدراهم والدنانير) ش: لعدم الضرورة في ذلك م: (وهذا استحسان. وفي القياس: كل ذلك باطل) ش: وبه قالت الثلاثة، إلا أن أحمد يجوز دعوته فقط. م: (لأنه تبرع) ش: أي لأن المذكور في هذه الأشياء تبرع، م: (والعبد ليس من أهله) ش: لعدم ملكه.
م: (وجه الاستحسان: «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل هدية سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -(12/255)
حين كان عبداً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حين كان عبدا» ش: حديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. رواه ثلاثة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:
الأول: من نفس سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وله طرق:
منها: ما أخرجه ابن حبان في "صحيحه " عن عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي قرة الكندي «عن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: كان أبي من الأساورة وكنت أختلف إلى الكتاب، وكان معي غلامان إذا رجعا من الكتاب دخلا على قس فأدخل معهما، فلم أزل أختلف إليه معهما حتى صرت أحب إليه منهما وكان يقول لي: يا سلمان إذا سألك أهلك: من حبسك؟ فقل: معلمي. وإذا سألك معلمك: من حبسك؟ فقل: أهلي.
فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فلما مات واجتمع إليه الرهبان والقسيسون فسألت فقلت: يا معشر القسيسين، دلوني على عالم أكون معه، قالوا: ما نعلم في الأرض أعلم من رجل كان يأتي بيت المقدس وإن انطلقت الآن وجدت حماره على باب بيت المقدس. قال: فانطلقت فإذا أنا بحمار، فجلست عنده حتى خرج فقصصت عليه القصة فقال: اجلس حتى أرجع إليك.
قال: فلم أره إلى الحول، وكان لا يأتي بيت المقدس في السنة إلا مرة في ذلك الشهر. فلما جاء قلت له: ما صنعت في أمري؟ قال: أنت إلى الآن هاهنا بعد؟ قلت: نعم. قال: والله لا أعلم اليوم أحدا أعلم من يتم خرج من أرض تهامة وإن انطلقت الآن توافيه، وفيه ثلاثة أشياء: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وعند غروة كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل البيضة، لونه لون جلده.
قال: فانطلقت ترفعني أرض وتخفضي أخرى حتى أصابني قوم من الأعداء فأخذوني فباعوني حتى وقعت بالمدينة فسمعتهم يذكرون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان الطعام عزيزا. فسألت قومي أن يهبوني يوما، ففعلوا فانطلقت فاحتطبت فبعته بشيء يسير ثم صنعته طعاما واحتملته حتى جئت به فوضعته بين يديه. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما هذا؟ " فقلت: صدقة. فقال لأصحابه: "كلوا" وأبى هو أن يأكله. فقلت في نفسي: هذه واحدة.
ثم مكثت ما شاء الله، ثم استوهبت قومي يوما آخر ففعلوا. فانطلقت، فاحتطبت، فبعته بأفضل من ذلك، فصنعت طعاما وأتيته به فقال: "ما هذا؟ ". فقلت: هدية. فقال بيده "باسم الله، كلوا" فأكل وأكلوا معه. وقمت إلى خلفه، فوضع رداءه على كتفه، فإذا خاتم النبوة كأنه بيضة قلت: أشهد أنك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(12/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: " وما ذاك؟ " فحدثته حديثي، ثم قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القس الذي أخبرني أنك نبي يدخل الجنة؟ قال: " لن تدخل الجنة إلا نفس مسلمة ". فقلت: إنه زعم أنك نبي. قال: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» .
ومنها طريق آخر: أخرجه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل عن علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب «عن زيد بن صوجان أنه سأل سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كيف كان بدء إسلامك؟ فقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كنت يتيما من رامهرمز فذكره مطولا - إلى أن قال: فقال لي: - يعني الراهب الذي لازمه سلمان -: يا سلمان إن الله عز وجل باعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة، علامته: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم، وهذا زمانه فقد تقارب.
قال: فخرجت في طلبه، فكلما سألت عنه قالوا إلى أمامك، حتى لقيني ركب من كلب فأخذوني فأتوا بي بلادهم فباعوني لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها وقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء وأتيته به، فوضعته بين يديه، وحوله أصحابه وأقربهم إليه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: " ما هذا " قلت: صدقة. قال للقوم: " كلوا " ولم يأكل.
ثم لبثت ما شاء الله وذهبت وصنعت مثل ذلك، فلما وضعته بين يديه فقال: " ما هذا؟ ". قلت: هدية، قال: " بسم الله " فأكل وأكل القوم.
ودرت خلفه ففطن لي فألقى ثوبه فرأيت الخاتم في ناحية كتفه الأيسر ثم درت فجلست بين يديه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال: " من أنت؟ " قلت: مملوك. قال: " لمن؟ " قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني في حائط لها، فسألني فحدثته بجميع حديثي. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر. " يا أبا بكر اشتره " واشتراني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأعتقني» . مختصرا.
وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه.
قال الذهبي في " مختصره ": بل مجمع على ضعفه، ثم أخرجه الحاكم عن عبد الله بن(12/257)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد القدوس عن عبيد المكتب، حدثني أبو الطفيل، حدثني سلمان فذكره بزيادات ونقص. وقال: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: وابن عبد القدوس ساقط.
ومنها: طريق أخرجه أبو نعيم في " دلائل النبوة "، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا القاسم بن فورك، حدثنا عبد الله ابن أخي زياد، حدثنا سيار بن حاتم، حدثنا موسى بن سعيد الراسبي أبو معاذ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: ولدت برامهرمز ونشأت بها وكان أبي من أهل أصبهان، وكان لأمي غناء وعيش قال: فأسلمتني إلى الكتاب فكنت أنطلق إليه كل يوم مع غلمان فارس وكان في طريقنا جبل فيه كهف فمررت يوما وحدي. فإذا أنا فيه برجل طوال عليه ثيابه شعر، فأشار إلي فدنوت منه، فقال لي: أتعرف المسيح عيسى بن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؟. فقلت له: لا ولا سمعت به. فقال: هو روح الله من آمن به أخرجه الله من غم الدنيا إلى نعيم الآخرة وقرأ علي شيئا من الإنجيل. قال: فعلقه قلبي، ودخلت حلاوة الإنجيل في صدري، وفارقت أصحابي، وجعلت كلما ذهبت ورجعت قعدت نحوه. إلى أن قال: فخرجت إلى القدس، فلما دخلت بيت المقدس، إذا أنا برجل في زاوية من زواياه عليه مسوح. قال: فجلست له: وقلت له: أتعرف فلانا الذي كان بمدينة فارس، فقال لي: نعم أعرفه، وأنا أنتظر نبي الرحمة الذي وصفه لي. قلت: كيف وصفه لك؟. فقال: وصفه لي فقال له: إن نبي الرحمة يقال له محمد بن عبد الله، يخرج من جبال تهامة. يركب الحمار والبغلة، الرحمة في قلبه وجوارحه، يكون الحر والعبد عنده سواء، ليس للدنيا عنده مكان، بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة الحمامة، مكتوب في باطنه: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهره: توجه حيث شئت فإنك منصور، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، ليس بحقود ولا حسود، ولا يظلم مؤمنا ولا كافرا. فمن صدقه ونصره كان يوم القيامة معه من الأمر الذي يعطاه.
قال سلمان: فقمت من عنده وقلت: لعلي أقدر على هذا الرجل. فخرجت من بيت المقدس غير بعيد، فمر بي أعراب من كلب فاحتملوني إلى يثرب وسموني ميسرة. قال: فباعوني لامرأة يقال لها: حليسة بنت فلان حليف بني النجار، بثلاثمائة درهم وقالت لي: سق هذا الجوص واسع علينا فيه.
قال: فمكثت على ذلك ستة عشر شهرا حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فسمعت به وأنا في أقصى المدينة ألتقط الخلال.
فجئت إليه أسعى حتى دخلت إليه في بيت أبي أيوب الأنصاري فوضعت بين يديه شيئا(12/258)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الخلال فقال لي: " ما هذا؟ ". قلت: صدقة قال: " إنا لا نأكل الصدقة " فرفعته من بين يديه.
ثم تناولت من إزاري شيئا آخر، فوضعته بين يديه، فقال: " ما هذا؟ " قلت: هدية، فأكل منها وأطعم من حوله.
ثم نظر إلي فقال لي: " أحر أنت أم مملوك؟ ". فقلت: مملوك. فقال: " لم وصلتني بهذه الهدية؟ ". قلت: كان لي صاحب من أمره كيت وكيت، وذكرت له قصتي كلها.
فقال لي: " إن صاحبك كان من الذين قال الله في حقهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ} [القصص: 53] الآية.
قال لي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل رأيت فيما قال لك؟ ". قلت: نعم، إلا شيئا بين كتفيك. قال: فألقى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رداءه عن كتفيه، فرأيت الخاتم مثلما قاله فقبلته ثم قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم قال لعلي بن أبي طالب: " يا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اذهب مع سلمان إلى حليسة فقل لها: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لك: إما أن تبيعي هذا وإما أن تعتقيه فقد حرمت عليك خدمته ".
فقلت: يا رسول الله إنها لم تسلم. فقال: " يا سلمان إنك لم تدر ما حدث بعدك عليها، دخل عليها ابن عم لها يعرض عليها الإسلام، فأسلمت ".
قال سلمان: فانطلقنا إليها أنا وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فرأيناها تذكر محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخبرها علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت له: اذهب فقل له: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن شئت فأعتقته وإن شئت فهو لك. قال: فأعتقني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصرت أغدو إليه وأروح» . مختصرا. ثم رواه من طريق آخرى مرسلة فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كان قد خالط أناسا من أصحاب دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأرض فارس قبل الإسلام فسمع بذكر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته منهم فإذا في حديثهم: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة. فأراد أن يلحق به فسجنه أبوه ما شاء الله، ثم هلك أبوه ثم خرج إلى الشام، فكان هناك في كنيسة. ثم خرج يلتمس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذه أهل تيماء فاسترقوه ثم خرج، ثم قدموا به إلى(12/259)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المدينة، فباعوه ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة لم يهاجر إلى المدينة.
فلما قدم المدينة أتاه سلمان بشيء فقال " ما هذا يا سلمان؟ ". قال: صدقة فلم يأكل منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جاء من الغد بشيء آخر فقال: " ما هذا يا سلمان؟ ". قال: هدية، فأكل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منه، ونظر سلمان إلى خاتم النبوة بين كتفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكب وقبله ثم أسلم.
ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه عبد مملوك فقال له: كاتبهم يا سلمان، فكاتبهم سلمان على مائتين ودية، فرماه الأنصار من ودية ووديتين حتى أوفاهم» وهذا مرسل.
الثاني بريدة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
أخرج حديث الحاكم في " المستدرك " في كتاب " البيوع "، عن زيد بن الحباب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أخبرنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: «أن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لما قدم المدينة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائدة عليها رطب فقال له: " ما هذا يا سلمان؟ " قال: صدقة أتصدق بها عليك وعلى أصحابك. قال: " إنا لا نأكل الصدقة ".
حتى إذا كان من الغد جاء بمثلها فوضعها بين يديه وقال: " يا سلمان ما هذا؟ ". فقال: هدية. قال: " كلوا "، وأكل، ونظر إلى خاتم النبوة في ظهره ثم قال له: إنه ملك لقوم قال فاطلب إليهم أن يكاتبوك على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم وتقوم عليها أنت حتى تطعم. قال: ففعلوا.
فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغرس النخل كلها بيده وغرس عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - منها نخلة فأطعمت كلها في السنة إلا تلك النخلة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من غرس هذه؟ " فقالوا: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فغرسها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده فحملت من سنتها» انتهى.
ورواه إسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي والبزار في " مسانيدهم ". قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال البزار: لا نعلمه يروى إلا عن بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ورواه الطبراني في " معجمه ".
الثالث: ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم أيضا من طريق ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: حدثني «سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، وكان أبي(12/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دهقان قريته وكنت أحب الخلق إليه، وكنت أجتهد في المجوسية، أوقد النار لا أتركها تخمد أبدا اجتهادا في ديني.
فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له في بعض عمله، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون فدخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون، فأعجبني ما رأيت من دينهم، ورغبت عن ديني.
فلما رجعت إلى أبي أخبرته الخبر فأخافني وجعل في رجلي قيدا وحبسني في بيتي أياما، ثم أخبرت بقوم من النصارى خرجوا تجارا إلى الشام، قال فألقيت القيد من رجلي وخرجت معهم حتى قدمت الشام فسألت عن الأسقف من النصارى، فدلوني عليه في كنسية فجئت إليه وخدمته ولازمته وكنت أصلي معه. فلم يلبث أن مات وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة، فإذا جمعوا له شيئا أخذه لنفسه ولم يعط المساكين شيئا. فلما جاءوا ليدفنوه أخبرتهم بخبره ودللتهم على موضع كنزه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة، فصلبوه ورجموه بالحجارة.
ثم جاءوا بآخر فوضعوه مكانه، فما رأيت أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة ولا أدوم في العبادة ليلا ونهارا منه. فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فأوصى بي إلى رجل بنصيبين فلحقت به فلزمته، فوجدته على أمر صاحبه فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فأوصى بي إلى رجل في عمورية من أرض الروم.
فلحقت به فوجدته على هدي أصحابه، فلم يلبث أن حضرته الوفاة، فسألته فقال: والله يا بني ما أعلم أصبح اليوم على أمرنا أحد من الناس ولكنه قد أظللك زمان نبي بأرض العرب يبعث بدين إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات ودفن، فمكثت بعمورية ما شاء الله ثم مر بي قوم تجار، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري وغنمي، فقد اكتسبت بقرا وغنما. فقالوا: نعم.
فأعطيتهم وحملوني حتى إذا قدموا بي على وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده ما شاء الله، إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة فأقمت بها وبعث الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، فأقمت بها ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة فذهبت إليه، فدخلت عليه فقلت له: بلغني أنك رجل صالح وأصحابك غر حاجة ومعي شيء عندي للصدقة رأيتك(12/261)
وقبل هدية بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وكانت مكاتبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحق به ثم قربته إليه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " كلوا " وأمسك يده ولم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة ومضيت. ثم جئته من الغد ومعي شيء آخر، فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمك بها فأكل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر أصحابه، فأكلوا. قال: قلت في نفسي: هاتان ثنتان.
قال: ثم جئت يوما وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي. فعرف الذي أريد فألقى رداءه على ظهره فنظرت الخاتم بين كتفيه فقبلته ثم تحولت فجلست بين يديه فقصصت عليه حديثي، فأعجبني أن يسمعه أصحابه، ثم قال لي: " يا سلمان كاتب عن نفسك "، فقال: فكاتبت هؤلاء عن نفسي بثلاثمائة نخل وأربعين أوقية ورجعت إليه فأخبرته فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: " أعينوا أخاكم " فجعل الرجل يعينني بثلاثين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، والرجل بقدر ما عنده حتى جمعوا إلي ثلاثمائة ودية. فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معي، فجعلت أقرب له الودي وهو يغرسه بيده.
قال: وبقي علي المال. قال: فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل بيضة الدجاجة من الذهب. وقال لي يا سلمان خذ هذه فأدها بما عليك، فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأين تقع هذه مما علي؟، قال: خذها فإنها ستؤدي عنك، قال سلمان: فوالذي نفس سلمان بيده لقد وزنت لهم منها بيدي أربعين أوقية وأوفيتهم حقهم. وعتق سلمان.
وشهدت الخندق حرا ثم لم يفتني مشهد» مختصرا من كلام طويل.
ورواه أبو نعيم في " دلائل النبوة " وابن سعد في " الطبقات " في ترجمة سلمان. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الأموال "، مختصرا بالإسناد المذكور عن سلمان قال: «أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطعام وأنا مملوك، فقلت له: هذه صدقة، فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل. ثم أتيته بطعام آخر فقلت: هذا هدية أهديه لك أكرمك به، فإني لا أراك تأكل الصدقة فأمر أصحابه أن يأكلوا وأكل معهم» والله سبحانه وتعالى أعلم.
م: (وقبل هدية بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وكانت مكاتبة) ش: هذا الحديث في الكتب الستة: عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: «كان في بريرة ثلاث سنن، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " اشتريها ثم أعتقيها فإن الولاء لمن أعتق "(12/262)
وأجاب رهط من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعتقت فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من زوجها، فاختارت نفسها، وكان الناس يتصدقون عليها وتهدي لنا، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " هو عليها صدقة، ولنا هدية» . أخرجه البخاري في النكاح والطلاق. ومسلم في العتق. وأبو داود في الطلاق، والنسائي فيه وفي العتق، أربعتهم عن القاسم عن عائشة. والترمذي في الرضاع، وابن ماجه في الطلاق. عن الأسود، عن عائشة وألفاظها متقاربة.
وأخرجا نحوه عن قتادة، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه مسلم في الزكاة وليس في شيء من طرق الحديث: أن الهدية وقعت حين كانت مكاتبة. ولكن روى عبد الرزاق في " مصنفه " في الطلاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع عروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: «جاءت وليدة لبني هلال يقال لها: بريرة فسألت عائشة في كتابتها، فسامت عائشة بها أهلها، فقالوا: لا نبيعها إلا ولنا ولاؤها، فتركتها.
فقالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يقبلون بيعها إلا ولهم الولاء. قال: " لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق "، فابتاعتها عائشة وأعتقتها، وخيرت بريرة فاختارت نفسها، وقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة فأهدت لعائشة منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عندكم من طعام؟ " قالت: لا، إلا من الشاة التي أعطيت بريرة. ثم نظر ساعة ثم قال: " قد وقعت موقعها هي عليها صدقة ولنا هدية " فأكل منها. قال: وزعم عروة أنها ابتاعتها مكاتبة على ثمانية أواق ولم تعط من كتابتها شيئا.» ورواه البزار في " مسنده " كذلك. وروى عبد الرزاق في المكاتب: أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير، عن عروة: أن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - ابتاعت بريرة مكاتبة على ثمان أواق لم تعط من كتابتها شيئا» .
م: (وأجاب رهط من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا) ش: أبو أسيد اسمه أسيد بن ربيعة الساعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصحابي، ذكره ابن أكول - بضم الهمزة وفتح السين -. ثم قال: ذكر أحمد بن حنبل عن أبي مهدي، عن سفيان عن أبي الزناد عن أبي سلمة، عن أبي أسيد الساعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني بفتح الهمزة وكسر السين -.
وقال أبو عبد الله: قال عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووكيع - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأبو أسيد، - يعني بضم الهمزة وكسر السين -، وهو الصواب. ومولاه اسمه: أسد بن علي بن عبيدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: هو أبوه، والأكثر أنه مولاه وهو -بفتح الهمزة وكسر السين - وقيد فيه بالضم. وذكر " شرح الجامع الصغير " عنه أنه قال: «أعرست وأنا عبد، فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فأجابوني» .(12/263)
ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها، ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته، ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس.
قال: ومن كان في يده لقيط لا أب له، فإنه يجوز قبضه الهبة، والصدقة له وأصل هذا التصرف أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة. نوع هو من باب الولاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو استدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك بالحديث المرفوع لكان أولى وأجدر. وهو ما أخرجه الترمذي في الجنائز، وابن ماجه في الزهد: عن مسلم الأعور عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار. ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خطامه حبل من ليف، وتحته أكان من ليف» .
وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا نعرفه إلا من حديث مسلم بن كيسان: الأعور، وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم في " المستدرك في الأطعمة " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
م: (ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها) ش: أي لا يجد عنها معازفة وانقطاعا. م: (ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته) ش: لأن التاجر يجتمع عنده في دكانه جمع من الناس، فلا يخلو من أن يطلب واحد منهم شربة ماء أو نحوه، فلو امتنع من ذلك ينسبونه إلى البخل ولا يختلفون إليه وينسد باب التجارة، فتكون هذه الأشياء من ضروريات التجارة.
م: (ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس) ش: وهو أن العبد ليس من أهل التبرع. وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو تصدق المأذون بقدر حبة أو نصف دانق وجب أن يحرز.
[قبض الملتقط اللقيط الهبة أو الصدقة]
م: (قال: ومن كان في يده لقيط لا أب له، فإنه يجوز قبضه الهبة والصدقة له) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". وقوله: لا أب له، قيد اتفاقي غير لازم، فإن الصغيرة لو كانت عند زوجها يعولها ولها أب فالزوج يقبض الهبة لها، يجوز لأنها نفع محض، فلا يشترط الولاية، كذا ذكر فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وأصل هذا التصرف) ش: أي هذا الحكم وهو: صحة قبض الملتقط اللقيط الهبة أو الصدقة م: (أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة: نوع من باب الولاية) ش: أي الأول: نوع(12/264)
لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية؛ لأن الولي هو الذي قام مقامه بإنابة الشرع، ونوع آخر: ما كان من ضرورة حال الصغار، وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه
وإجارة الأظآر، وذلك جائز ممن يعوله وينفق عليه كالأخ والعم والأم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هو من باب الولاية على الصغار م: (لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية) ش: - بكسر القاف، وسكون النون، وفتح الياء آخر الحروف، وفي آخره تاء - وهي: أصل إبل للنسل لا للتجارة، وأصلها من قنى: إذا حفظ.
م: (لأن الولي هو الذي قام مقامه) ش: أي مقام الصغير م: (بإنابة الشرع) ش: مثابة. م: (ونوع آخر) ش: وهو النوع الثاني م: (ما كان من ضرورة حال الصغار، وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه) ش: أي بيع ما لا بد منه.
م: (وإجارة الأظار) ش: قال الأترازي: وفي بعض النسخ، وإجارة الصغار، والنسخة الأولى هي الصحيحة، لأن إجارة الصغار ليس من ضرورات حال الصغار لا محالة، ولهذا لم يذكرها الصدر الشهيد وفخر الدين قاضيخان في " شرحهما ".
فأما إجارة الأظارة فمن ضرورات حال الصغار كسرا، ما لا بد للصغير منه كالطعام والكسوة، وأيضا يلزمه التناقض على رواية " الجامع الصغير "، لأنه صرح فيه: أن الملتقط لا يجوز له أن يؤاجر الملتقط، نعم على رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز ذلك لتثقيف الصبي وحفظه عن الضياع. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: وإجارة الصغار تناقض ذكره بعد النظر، ولا يجوز للملتقط، ولا يجوز للعم.
قلت: فيه روايتان، الأصح: الولاية.
وقال السغناقي: لا يقال هذه المسألة مناقضة كرواية تذكر بعدها بقوله، ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، لأن كل واحدة محمولة على حالة، فجواز إجارته محمولة على حالة الضرورة، بدليل عدها من الضرورة، وعدم جوازها في غير حالة الضرورة، أو في المسألة روايتان. أو يقال المراد بقوله وإجارة الصغار تسليمهم للصناعة حتى يكون من حبس ما لا بد للصغار منه. وبعضهم لم يقدروا على رفع المناقضة غير، ولفظ الكتاب بقوله وإجارة الأظار. والأول أصح.
قلت: هذا يناقض كلام الأترازي، ولكن كلامه أوجه بالتعليل الذي ذكره.
قال الأترازي: وفي بعض النسخ إجارة الإظارة للصغار، وهو أوضح. م: (وذلك جائز) ش: أي هذا النوع جائز م: (ممن يعوله وينفق عليه) ش: أي على الصغير م: (كالأخ والعم والأم(12/265)
والملتقط إذا كان في حجرهم، وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي في حجره. ونوع ثالث: ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة، والقبض فهذا يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل؛ لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي، فيملك بالعقل والولاية والحجر وصار بمنزلة الإنفاق.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها، ولا يجوز للعم ذلك؛ لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدامه، ولا كذلك الملتقط والعم. ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز؛ لأنه مشوب بالضرر إلا إذا فرغ من العمل؛ لأن عند ذلك تمحض نفعا فيجب المسمى، وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والملتقط إذا كان في حجرهم، وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي الصبي في حجره) ش: بخلاف الأخ والعم والأم والملتقط فإنه يشترط أن يكون الصغير في حجرهم كما ذكره.
م: (ونوع ثالث: ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة والقبض، فهذا) ش: النوع م: (يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل؛ لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي، فيملك بالعقل والولاية) ش: في الولي م: (والحجر) ش: في العم ونحوه م: (وصار بمنزلة الإنفاق) ش: أي صار هذا النوع بمنزلة الإنفاق على الصغير لكونه نفعا محضا فيملك بهذه الأشياء.
[حكم إجارة الملتقط]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره) ش: أي قال في " الجامع الصغير " م: (ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها، ولا يجوز للعم ذلك) ش: أي إجارة أباه، والحاصل أن إجارة الملتقط والعم لا تجوز مطلقا وإجارة الأم تجوز إذا كان في حجرها.
م: (لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدامه) ش: يعني أن الأم تملك إتلاف منافعه من غير عوض ولأن يملك بعوض كان أولى. ولا يقال: الصبي يملك إتلاف منفعة نفسه بغير عوض، فينبغي أن يملك الإجارة كالأم، لأنا نقول: لزوم العقد لا يكون بدون الولاية، والأم من أهلها في الجملة من حيث الشهادة وغيره ولا كذلك الصبي.
م: (ولا كذلك الملتقط والعم) ش: أي لا يملكان إتلاف منافع الصغير من غير عوض، فلا يملكان إجارته. م: (ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز؛ لأنه مشوب) ش: أي مختلط م: (بالضرر إلا إذا فرغ من العمل) ش: يعني: ومع هذا لو أجر نفسه وأدى العمل المستحق عليه وجب المسمى استحسانا م: (لأن عند ذلك تمحض نفعا) ش: أي لأن عند فراغه من العمل صار ما عمله نفعا محضا في حقه م: (فيجب المسمى) ش: أي إذا كان كذلك يجب الذي سمى له في العقد م: (وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه) ش: أي الصبي الذي يؤاجر نفسه حيث لا يجوز لانعدام الإذن(12/266)
وقد ذكرناه.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية، ويروى الداية وهو طوق الحديد الذي منعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار، فيكره كالإحراق بالنار ولا يكره أن يقيده؛ لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الدعارة. فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه، وصيانة لماله.
قال: ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي؛ لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيام الحجر، ومع هذا لو أجر نفسه ولا فرغ من العمل صح استحسانا، لأنه انقلب نفعا محضا، م: (وقد ذكرناه) ش: أي في باب إجارة العبد.
[الرجل يجعل في عنق عبده الراية]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": بالراء المهملة وهو ما يجعل في عنق العبد من الحديد علامة على أنه آبق م: (ويروى الداية) ش: بالدال المهملة. قال الشراح هذا غلط من الكتاب.
قلت: بتاني غلط الكاتب في نفس حرف الداية، بأن تصحيف الراء دالا.
وأما قوله: ويروي كيف يزيله من عنده، وبعضهم قد صحح هذه اللفظة. م: (وهو طوق الحديد الذي منعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار، فيكره كالإحراق بالنار) ش: لأنه أمر محدث وشر الأمور محدثاتها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": وكان هذا في الزمن الأول، أما في زماننا هذا فقد جرت العادة في الراية إذا خيف منه، وقد يحتاج إليه وخاصة في العبد الهندي. م: (ولا يكره أن يقيده) ش: أي العبد م: (لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الدعارة) ش: بالدال المهملة المفتوحة، وهو الفساد والخبث، ومنه الداعر الخبيث المفسد من دعر، يدعر، دعارة. م: (فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه وصيانة لماله) ش: أي لأجل الاحتراز عن هربه، ولأجل الصيانة أي لحفظ ماله.
[حكم التداوي]
م: (قال: ولا بأس بالحقنة) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (يريد به التداوي) ش: أي: يريد المحتقن بالحقنة التداوي قيد به، لأنه إذا أراد بها التسمين لا يباح. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس به لأن الإزال إذا تناهى يورث السل، وإنما ذكر الضمير في: به على تأويل الاحتقان.
م: (لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث) ش: يشير بذلك إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(12/267)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«تداووا؛ فإن الله عز وجل جعل لكل داء دواء» . وقد رواه ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -:
الأول: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبد بن حميد في " مسنديهما " قال: الأول: حدثنا الفضل بن موسى. وقال الثاني: حدثنا محمد بن عبيد، قالا: حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أيها الناس تداووا فإن الله عز وجل لم يخلق داء إلا وقد خلق له شفاء إلا السام» . والسام: الموت.
ورواه الطبراني في " معجمه " عن طلحة بن عمرو. به ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان) من طريق عبد الله بن وهب، عن طلحة.
الثاني: عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، أخرج حديثه البيهقي في " شعب الإيمان "، حدثنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا الحسن بن علي بن المتوكل، حدثنا أبو الربيع، حدثنا أبو وكيل الجراح بن مليح، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رجل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتتداوى. قال: " نعم تداووا، فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء» .
وقال البيهقي: وقد تابعه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأيوب بن عابد عن قيس في دفعه.
قلت: كذلك أخرجه أبو نعيم في كتابه المفرد في " الطب " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - النعمان بن ثابت الكوفي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وأيوب بن عابد الطائي عن قيس - رَحِمَهُ اللَّهُ - منه مرفوعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الثالث: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج القضاعي حديثه في " مسند الشهاب "، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الصفار، أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا سعيد بن غياث بن أبي سمينة، حدثنا ابن بكار، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تداووا فإن الله عز وجل أنزل الداء وأنزل الدواء» . رواه أبو نعيم في كتاب " الطب " من حديث معتمر بن سليمان، عن طلحة بن عمر(12/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن عطاء، عن أبي هريرة مرفوعا نحو هذا سواء.
الرابع: أسامة بن شريك - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه الأربعة، عن زياد بن علاقة، «عن أسامة بن شريك، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كأنما على رءوسهم الطير فسلمت ثم قعدت فجاء الأعراب من هنا وها هنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟. فقال: " تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء الهرم» قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد وابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم "، ولفظ ابن راهويه فيه: «فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل الله له دواء إلا الموت ". قالوا: يا رسول الله فما أفضل ما أعطي العبد. قال: " خلق حسن ". قال: فلما قاموا من عنده جعلوا يقبلون يده. قال شريك: فضممت يده إلي فإذا أطيب من المسك» .
وبلفظ السنن رواه البخاري في كتاب " المفرد من الأدب "، والطبراني في " معجمه " وابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه ". والحاكم في " المستدرك " في كتاب العلم وقال: حديث صحيح، ولم يخرجاه.
وعلته عندهما أن أسامة بن شريك، لا يروي عنه غير زياد بن علاقة، قال: وله طرق أخرى نذكرها في كتاب " الطب " عن مسعر بن كدام، عن زياد بن علاقة به، وقال: صحيح الإسناد.
وقد رواه عشرة من أئمة المسلمين وثقاتهم عن زياد بن علاقة، مالك بن مغول، وعمر بن قيس الملائي وشعبة ومحمد بن حجادة، وأبو حمزة محمد بن ميمون السكري، وأبو عوانة، وسفيان بن عيينة، وعثمان بن حكيم الأودي، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي وورقاء بن عمر والسكري وزهير بن معاوية، وإسرائيل بن يونس السبيعي، ثم أخرج أحاديثهم الجميع.
ثم قال: فانظر هل يترك مثل هذا الحديث اشتهاره، وكثرة رواته بأن لا يوجد له عن الصحابي إلا تابعي واحد. قال: وسألني الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني: لم أسقط الشيخان حديث أسامة بن شريك من الكتابين؟. فقلت له: لأنهما لم يجدا لأسامة بن شريك(12/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
راويا غير زياد بن علاقة. فقال لي أبو الحسن وكتبه لي بخطه: قد أخرجا جميعا حديث قيس بن أبي حازم عن عدي بن عميرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استعملناه على عمل» الحديث، وليس لعدي بن عميرة راو غير قيس.
وأخرجا أيضا حديث الحسن عن عمرو بن تغلب، وليس له راو غير الحسن. وأخرجا أيضا حديث مجزأة بن زهير الأسلمي، عن أبيه، عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النهي عن لحوم الحمر الأهلية» . وليس لزهير راو غير مجبرا.
وقد أخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يذهب الصالحون أسلافا» وليس لمرداس راو غير قيس. وقد أخرج البخاري أيضا حديثين عن زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام بن زهرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس لعبد الله راو غير زهرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وحديث أسامة بن شريك أصح وأشهر وأكثر رواة من هذه الأحاديث، مع أن أسامة بن شريك قد روى عنه، عن علي بن الأقمر ومجاهد. وقال الحاكم في " المستدرك في كتاب الإيمان "، في حديث أبي الأحوص عن أبيه مرفوعا: «إن الله تعالى إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن ترى عليه» .
لم يخرج الشيخان هذا الحديث إلا أن مالك بن نضلة ليس له راو غير ابنه أبي الأحوص وقد أخرج عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، وليس له راو غير أبيه، وكذلك ابن مالك الأشجعي عن أبيه، وليس له راو غير أبيه.
الخامس: أبو الدرداء، أخرج حديثه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن إسماعيل بن عياش عن ثعلبة بن مسلم، عن ابن عمر، عن الأنصاري عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام» .
السادس: أنس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخرج حديثه أحمد في " مسنده "، وابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في " مصنفه "، قالا: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون قال: سمعت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله عز وجل(12/270)
ولا فرق بين الرجال والنساء إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث خلق الداء خلق الدواء، فتداووا» . وعن ابن أبي شيبة رواه يعلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده ".
م: (ولا فرق بين الرجال والنساء) ش: لعموم الآثار فلذلك لم يفرق بين الرجال والنساء. وفي " الجامع الصغير " فيجوز لهما التداوي جميعا بالحقنة لأنه لا يستعمل المحرم فيها. م: (إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام) ش: لما مر، لأن في حديث أبي الدرداء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ولا تتداووا بالحرام» .
وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله -، وفي " التهذيب " للبغوي: يجوز للتعليل شرب البول والدم والميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم أن شفاءه فيه، ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. وإن قال الطبيب يتعجل شفاؤك؟ فيه وجهان، وهل يجوز شرب القليل من الخمر للتداوي؟ فيه وجهان، انتهى.
وقال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فعل الاستشفاء بالحرام إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاء، أما إذا علم أن فيه شفاء وليس له دواء آخر غيره، يجوز الاستشفاء به.
وقال في " الفتاوى ": التداوي بلبن الأتان إذا أشار إليه لا بأس به. وفي " خلاصة الفتاوى " رجل استضعف بدنه ورمدت عيناه فلم يعالج حتى أضعفه ومات لا إثم عليه بخلاف ما إذا صام ولم يأكل وهو قادر حتى مات فإنه يأثم وذلك لأن الأكل قدر قوته فرض فإذا ترك متلفا نفسه والصحة بالمعالجة غير معلومة لا يقال: إن التداوي ينافي التوكل، ونحن أمرنا بالتوكل، لأنا نقول الأمر بالتوكل محمول على اكتساب الأسباب. قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] والله سبحانه وتعالى يقدر على أن يرزقها من غير هذا، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بقوله شعر:
توكل على الرحمن ثم اطلب الغنى ... فإني رأيت الفخر في ترك الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء مال الجذع من غير هزها ... إليها ولكن الأمور لها سبب
توكل على الرحمن في كل حاجة ... ولا تتركن الجهد في كثرة التعب(12/271)
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس برزق القاضي؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: في الحقيقة كشف العورة؟.
قلت: لا نسلم ذلك فإنها قد تيسر بدون ذلك ولئن سلمنا بكشف العورة فهو يباح للضرورة.
[حكم رزق القاضي]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا بأس برزق القاضي) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له» .
ش: قلت: صح بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به إلى مكة، وأما فرضه له فقد قال الزيلعي في " التخريج [الأحاديث الهداية "] : هذا غريب، ثم قال: روى الحاكم في " مستدركه " في كتاب الفضائل من طريق إبراهيم الحربي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: «استعمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - على مكة، وتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عامله عليها، ومات عتاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمكة في جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة» .
ثم أسند إلى عمرو بن أبي عقرب قال: سمعت عتاب بن أبي أسيد وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول: والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ثوبين معقدين فكسوتهما مولاي.
وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة عتاب: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، حدثنا إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: سمعت عمر بن عبد العزيز في خلافته يقول: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعتاب بن أسيد عامله على مكة كان ولاه يوم الفتح فلم يزل عامله عليها حتى توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى.
وأصحابنا هم الذين ذكروا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض له أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما.
قلت: كيف يقول هذا غريب وقد أخرج البيهقي في " سننه "، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، حدثنا إسماعيل بن أمية عن الزهري قال: «رزق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عتاب بن أسيد حين استعمله على مكة أربعين أوقية في كل سنة» .
فإن قلت: قال الذهبي في " مختصره ": لم يصح هذا؟(12/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: روى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في " سننه "، من حديث إسحاق بن الحصين الرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثنا سعيد بن مسلم عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على مكة. وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة.»
وينبغي أن لا يشك في صحة هذا فإن الذي يعمل عملا يحتاج إلى كفايته وكفاية عياله، فإن لم يرزق من جهة عمله وإلا يضيع ماله ولا يرضى أحد بعمل على جهة فتفرغ أحوال المسلمين، والدليل على صحة ما ذكره البخاري في باب: رزق الحكام والعاملين عليها. وكان شريح يأخذ على القضاء أجرا قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يأكل الوصي بقدر عمالته، وأكل أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وفي " مصنف " عبد الرزاق: أخبرنا الحسن بن عمارة، عن الحكم: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رزق شريحا، وسلمان بن ربيعة الباهلي على القضاء، وروى ابن سعد في " الطبقات " في ترجمة شريح: أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا الحسن بن صالح عن ابن أبي ليلى قال: بلغني أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رزق شريحا خمسمائة. وروى في ترجمة زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن نافع قال: استعمل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا.
وقال أيضا: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: بويع أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يوم قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وكان رجلا تاجرا يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع فلما بويع للخلافة قال: والله ما يصلح للناس إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم ولا بد لعيالي ما يصلحهم فترك التجارة وفرض من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، وكان الذي فرضه له في كل سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاة قال لهم: ردوا ما عندنا إلى مال المسلمين، وإن أرضي التي هي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال: لقد والله أتعبت من بعدك.
فإن قلت: من أي مال فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن يومئذ الدواوين ولا بيت المال وإنما كانت الدواوين في زمان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.(12/273)
وبعث عليا إلى اليمن وفرض له، ولأنه محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم، وهو مال بيت المال، وهذا لأن الحبس من أسباب النفقة، كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا فيما يكون كفاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هي له ذلك من الفيء، وقيل: مما أخذه من نصارى نجران ومن الجزية التي أخذت من مجوس هجر. قال أبو يوسف في كتاب " الخراج " بإسناده إلى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس أهل هجر، انتهى. وعتاب: بفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوق، وفي آخره باء موحدة -، وأسيد - بفتح الهمزة وكسر السين المهملة - وهو ابن العيص بن أمية بن عبد شمس وأخوه خالد بن أبي أسيد وهما صحابيان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
م: «وبعث عليا إلى اليمن وفرض له» ش: بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا إلى اليمن صحيح وأما فرضه له فلم يثبت عند أهل النقل، ولكن الكلام فيه كالكلام في قصة عتاب بن أسيد. أما بعثه فقد رواه أبو داود عن شريك عن سماك، عن حسن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟. فقال: " إن الله يستهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يبين لك القضاء " فما زلت قاضيا أو ما شككت في القضاء بعد» . ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في " مسانيدهم ". ورواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد مر الكلام فيه من ذلك في " أدب القاضي ".
م: (ولأنه) ش: أي القاضي م: (محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم وهو مال بيت المال) ش: قالوا هذا إذا كان بيت المال حلالا، فأما إذا كان حراما جمع بباطل لم يحل أخذه بحال لأن سبل الحرام والغصب رده على أهله وليس ذلك بمال عامة المسلمين.
م: (وهذا) ش: أي كون نفقته منه بحبسه لمصالح المسلمين م: (لأن الحبس من أسباب النفقة، كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة) ش: لأنهما يحبسان أنفسهما بمال اليتيم ومال رب المال وكذلك نفقة المرأة سواء كانت في العصمة أو في العدة لأنها محبوسة بحق الزوج.
م: (وهذا فيما يكون كفاية) ش: أي هذا الذي ذكره محمد في " الجامع الصغير " من قوله: ولا بأس برزق القاضي فيما إذا كان كفاية ومؤنة للنفقة.(12/274)
فإن كان شرطا فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة، إذ القضاء طاعة، بل هو أفضلها. ثم القاضي إذا كان فقيرا، فالأفضل، بل الواجب الأخذ؛ لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته. وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع على ما قيل رفقا ببيت المال. وقيل: الأخذ، وهو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان. ونظرا لمن يولي بعده من المحتاجين؛ لأنه إذا انقطع زمانا يتعذر إعادته ثم تسميته رزقا تدل على أنه بقدر الكفاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن كان شرطا) ش: ومعاقدة في ابتداء الأمر بأن قال: لا أقبل القضاء إلا إذا رزقني الوالي في كل سنة كذا وكذا بمقابلة قضائي، م: (فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة إذ القضاء طاعة، بل هو أفضلها) ش: والقضاء طاعة بل أفضلها، أي أفضل الطاعات لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القضاء أشرف العبادات» ، فإذا بطل الاستئجار على سائر الطاعات فعلى هذا أولى.
ألا ترى أن حكم القاضي بالرشوة لا ينفذ، وإن كان القاضي لا ينعزل عنها بالجور والفسق والارتشاء، ولكن يستحق العزل فيعزله، خلافا للمعتزلة فإن عندهم يعزل بالفسق، وهو رواية للأصحاب.
م: (ثم القاضي إذا كان فقيرا، فالأفضل بل الواجب الأخذ) ش: أي أخذ رزقه وكفايته م: (لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته) ش: أي يؤخره عن إقامة فرض القضاء ولاشتغاله بالكسب كما ذكرنا في قصة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن قريب. م: (وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع) ش: عن أخذ الرزق في بيت المال م: (على ما قيل رفقا ببيت المال) ش: أي لأجل الرفق ببيت مال المسلمين.
م: (وقيل: الأخذ، وهو الأصح
صيانة
للقضاء عن الهوان) ش: أي
لأجل
صيانة القضاء عن الهوان، أي لأجل صيانة القضاء عن الذلة، لأنه إذا لم يأخذ لا يلتفت إلى أمور القضاء كما ينبغي لاعتماده على غنائه، فإذا أخذ يلزمه حينئذ إقامة أمور القضاء.
م: (ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين) ش: أي ولأجل النظر في حق من يأتي بعده من القضاة الفقراء م: (لأنه إذا انقطع) ش: أي لأن رزق القاضي وهو معلومة إذا انقطع من بيت المال بترك القاضي الغني وامتناعه عنه م: (زمانا يتعذر إعادته) ش: لأن متولي أمور بيت المال يحتج عليه بعدم جري العادة فيه منذ زمان فيتضرر القاضي الفقير.
م: (ثم تسميته رزقا) ش: أي ثم تسميته، قال محمد في " الجامع الصغير ": معلوم القاضي رزقا م: (تدل على أنه بقدر الكفاية) ش: له ولعياله ولا يعطى أكثر من الكفاية لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] الآية، وإن كان نزولها في وصي اليتيم لكون الوصي عليها ليتيم حابسا نفسه، لذلك الحكم لكل من يعمل لغيره بطريق الحسبة.(12/275)
وقد جرى الرسم بإعطائه في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ من أول السنة وهو يعطى منه، وفي زماننا الخراج يؤخذ من آخر السنة، والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية هو الصحيح. ولو استوفى رزق سنة وعزل قبل استكمالها، قيل: هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت في السنة بعد استعجال نفقة السنة، والأصح: أنه يجب الرد.
ة قال: ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم؛ لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقد جرى الرسم بإعطائه) ش: أي وقد جرت العادة بإعطاء رزق القاضي م: (في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ من أول السنة وهو يعطى منه) ش: أي القاضي يعطى من الخراج، هذا كان في أول الزمان.
م: (في زماننا الخراج يؤخذ في آخر السنة، والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية) ش: أي أن الذي يأخذه الإمام من الخراج في أول السنة هو خراج السنة الماضية وعليه الفتوى، أشار إليه بقوله: م: (هو الصحيح) ش: قال الكاكي: أيضا عليه الفتوى.
م: ولو استوفى) ش: أي القاضي م: رزق سنة وعزل قبل استكمالها) ش: أي قبل تمام السنة م: (قيل: هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت) ش: أي الزوج م: (في السنة بعد استعجال نفقة السنة) ش: حيث يجب رد ما بقي من السنة عند محمد خلافا لأبي يوسف، وإليه أشار الخصاف في " نفقاته "، فكذلك يجب على القاضي رد ما بقي عند محمد خلافا لأبي يوسف، وكذا الكلام في موت القاضي في أثناء السنة، م: (والأصح: أنه يجب الرد) ش: كذا ذكر الصدر الشهيد وفخر الدين قاضي خان.
[سفر الأمة وأم الولد بغير محرم]
م: (قال: ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": م: (لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم) ش: أي لأن الأجانب في حق الإماء كالمحارم في حق الجوار في حق النظر والمس، فجاز السفر بهما مع الأجانب كما جاز للحرائر مع المحارم.
وقيل: هذا في زمانهم. وأما في زماننا: لا يحل لغلبة أهل الفسق، كذا في " المحيط " و " التتمة "، وأجمعوا على أن العجوز الحرة لا تسافر مع غير محرم، ولا تخلو برجل م: (على ما ذكرنا من قبل) ش: أشار به إلى ما ذكر قبل فصل الاستبراء بقوله: وأما الخلوة بها والمسافر فقد قيل: يباح كما في المحارم.
م: (وأم الولد أمة لقيام الملك فيها) ش: هذا جواب عما يقال: إنكم قلتم إن الأجانب في حق الإمام كالمحارم وأم الولد ليست بأمة، لأن ولدها ابنتها؟.(12/276)
وإن امتنع بيعها، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأجاب: بأن أم الولد أمة لقيام الملك فيها، ولهذا أجاز استخدامها وحل وطؤها بلا نكاح، ولا يحل الوطء بأحد الملكين.
م: (وإن امتنع بيعها) ش: واصل بما قبله، يعني امتناع بيعها لا يخرجها عن قيام الملك فيها، لأن امتناع البيع لاستحقاقها الحرية.(12/277)
كتاب إحياء الموات قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه، أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة، سمي بذلك لبطلان الانتفاع به. قال: فما كان منها عاديا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب إحياء الموات]
[تعريف إحياء الموات]
م: (كتاب إحياء الموات) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام إحياء الموات، قال الشراح: مناسبة هذا الكتاب بكتاب الكراهة. يجوز أن يكون من حيث أن في مسائل هذا الكتاب ما يكره وما لا يكره. وهذا ليس بشيء، لأنه قل كتاب من الكتب أن يخلو عما يكره وما لا يكره، وأبعد من هذا ما قاله الكاكي. أو لأن إحياء الأرض إحياء صورة فكان فيه التسبب للحياة النامية فكان قريبا إلى حقيقة الإحياء.
كما أن الكراهة حرمة صورة وقريب إلى الحرمة القطعية والأوجه أن يقال إن هذا الكتاب فيه بيان الموات وهو أن من الأراضي ما لا ينتفع به، وكذلك الذهب والفضة والحرير ما لا ينفع له شرعا حيث يحرم الأكل والشرب ونحوهما في الذهب والفضة في حق الرجال والنساء جميعا، ويحرم لبس الحرير وافتراشه وتوسده في حق الرجال فحكم هذه الأشياء كالموات في عدم الانتفاع به عادة في الموات، وشرعا: في الأشياء المذكورة، وكذلك كل مكروه فيه كالموات حيث لا ينتفع به شرعا.
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الموات ما لا ينتفع به من الأراضي) ش: أي قال القدوري في " مختصره ". وقوله: الموات: ما لا ينتفع به، وهو المعنى اللغوي، وقوله: من الأراضي إنما زيد إشارة إلى معناه الشرعي وأشار إلى علة عدم الانتفاع به لقوله: م: (لانقطاع الماء عنه) ش: الضمير في عنه يرجع إلى ما لا ينتفع به، ومن الأراضي بيان له وكذلك الضمير في به، كذلك في عليه في قوله م: (أو لغلبة الماء عليه) ش: بأن غطاه حتى لم يبق محلا للزراعة. م: (أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة) ش: بأن صار سبخة أو غلب عليها الرمال فصارت زراعتها متعذرة م: (سمي بذلك لبطلان الانتفاع به) ش: أي سمي الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لأجل بطلان الانتفاع به، تشبيها بالحيوان إذا مات بطل الانتفاع به، وإحياؤه عبارة عن جعله منتفعا به.
م: (قال: فما كان منها عاديا) ش: أي قال القدوري: وقال الشراح المراد من العادي ما كان خرابة قديما ولا يعرف له ملك إلا أن يكون منسوبا لعاد. لأن جميع الأراضي الموات لم تكن لعاد وإنما كني بذلك عن القديم خرابا، لأن عادا كان في قديم الأيام، وكذا ذكره المصنف على ما يأتي.(12/278)
لا مالك له، أو كان مملوكا في دار الإسلام، لا يعرف له مالك بعينه، وهو بعيد من القرية بحيث إذا وقف إنسان في أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه فهو موات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا شك أن العادي بتشديد الياء، هو نسبة إلى عاد، وإنما لم يكن جميع الأراضي الموات منسوبة لعاد فأكثره منسوب إليه. وقد ذكر أهل التاريخ أن عادا استولى على كثير من بلاد الشام والعراق والهند، وهو عاد بن أوص بن أرم بن سام بن نوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. أو يكون هذه النسبة أن كل أثر قديم ينسب إلى عاد وقومه لقدمهم فتكون النسبة صحيحة على كل حال م: (لا مالك له أو كان مملوكا في دار الإسلام لا يعرف له مالك بعينه، وهو بعيد من القرية) .
ش: أي والحال أنه بعيد من القرية، وهذا الذي شرطه القدوري هو اختيار الطحاوي وهو غير ظاهر الرواية لا يشترط البعد من القرية. وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": الأصل أن من ملك شيئا من مسلم أو ذمي بأي سبب ملك، فإنه لا يزول ملكه عنه بالترك كما إذا ملك دارا أو أرضا ثم خربها فمضت عليه السنون والقرون فهو على ملك مالكه الأول لا تكون تلك الأرض موات.
وأرض الموات: التي لم تملك ملكا لأحد ولم تكن من مرافق البلدة وكانت خارج البلدة، قربت من البلدة أو بعدت. حتى إن بحرا خارج البلدة قريبا منها لو حرز ماؤه، أو أكمة عظيمة لم يكن ملكا لأحد كانت تلك الأرض أرض موات في ظاهر الرواية. وقال الطحاوي: وما قرب من العامر فليس بموات.
وفي " خلاصة الفتاوى ": وأما في بخارى ليست بموات، لأنها دخلت في القسمة ويصرف لأقصى مالك أو منتفع في الإسلام أو إلى ورثته، فإن لم يعلم فالتصرف إلى القاضي. وفي " الذخيرة ": الأراضي المملوكة في دار الإسلام إذا انقرض أهلها فهي كاللقطة فلا يجوز إحياؤها، وبه قال الشافعي في قول، وأحمد في رواية، لأن لها مالكا فلم يجز إحياءها كما لو كان مالكها معينا. وقيل: كالموات فيملك بالإحياء وبه قال الشافعي في قول، وأحمد في رواية ومالك لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» .
م: (بحيث إذا وقف إنسان في أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه) ش: هذا تفسير لقوله، هو بعيد من القرية. هكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فالحد الفاصل بين القريب والبعيد على ما روي عنه: أن يقوم رجل جهري الصوت أقصى العمرانات، على مكان عال فينادي بأعلى صوته. فالموضع الذي يسمع منه صوته يكون قريبا منه، وإذا كان لا يسمع صوته منه يكون بعيدا من العمرانات، م: (فهو موات) ش: جملة في محل الرفع على أنها خبر عن قوله فما كان عاديا ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط.(12/279)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هكذا ذكره القدوري. ومعنى العادي ما قدم خرابه، والمروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها لتكون ميتة مطلقا. فأما التي هي مملوكة لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا، وإذا لم يعرف مالكه يكون لجماعة المسلمين، ولو ظهر له مالك يرد عليه
ويضمن الزارع نقصانها والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هكذا ذكره القدوري) ش: أي قال المصنف؛ هكذا ذكر القدوري في " مختصره ". م: (ومعنى العادي ما قدم خرابه) ش: معنى قول القدوري، فما كان عاديا ما كان خرابه قديما وقد مر الكلام فيه آنفا م: (والمروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها) ش: أي مع انقطاع الانتفاع بها. قال خواهر زاده في " شرح كتاب الشرب ": قال محمد: كل أرض لا يملكها أحد وقد انقطع عنها الماء وارتفاق أهل المصر والقرية بها كان مواتا وإن كانت قريبا من العمرانات. وأراد بقوله أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي، أنه إذا كان مملوكا لها فصار خرابا وانقطع عنها الماء وارتفاق الناس بها من حيث المرعى والاحتطاب فإنه لا يكون مواتا حتى لا يملك بإذن الإمام عندهما جميعا، لأن ما كان مملوكا لمسلم أو ذمي لا يزول الملك عنها بالخراب وانقطاع الماء والمرافق. على ما بينا عن قريب.
م: (لتكون ميتة مطلقا) ش: يعني بشرط مدة الشروط لتكون الأرض الميتة على الإطلاق لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الميتة على الإطلاق ومطلق الاسم يتصرف إلى الكامل، والكامل في المسمى أن لا يكون الأرض مملوكة لأحد م: (فأما التي هي مملوكة) ش: - هذا من تتمة قول محمد - أي فأما الأرض التي هي مملوكة م: (لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا، وإذا لم يعرف مالكه يكون لجماعة المسلمين) ش: كمن مات وترك مالا ولم يترك وارثا فلا يكون لواحد أن يتملك على التخصيص فكذا هذا م: (ولو ظهر له مالك يرد عليه) ش: أي ظهر للموات مالك بعد أن أحياه رجل يرد على مالكه؛ لأنه أحق به من غيره.
[شرط إحياء الموات]
م: (ويضمن الزارع نقصانها) ش: أي النقصان الذي حصل بالزراعة بعد الإحياء. لا يقال: المنافع حصلت بفعل فلا يضمن بإتلافها لأنا نقول أنه تبرع في ذلك فيصير لصاحب الأرض، لأنها صارت صفة لأرضه ولهذا لو ظهر لها مالك قبل الزراعة فعلى المحيي أن يسلمها إلى مالكها.
ولا يقال: إنه فعل بإذن الشرع فلا يضمن، لأن إذن الشرع لا ينافي الضمان، فإن الجمل الصائل يباح قتله بإذن الشرع ثم يضمن والملتقط يجب عليه التصدق ويضمن إذا ظهر صاحبها م: (والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه) ش: البعد مرفوع بالابتداء وخبره قوله شرطه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد(12/280)
فيدار الحكم عليه. ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة، وإن كان قريبا من القرية، كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتمد على ما اختاره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثم من أحياه بإذنه الإمام ملكه، وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يملكه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بسطنا الكلام فيه عن قريب.
م: (فيدار الحكم عليه) ش: أي على القرب الذي هو دليل الارتفاق أراد أن عدم الارتفاق وانقطاعه أمر خفي لا يطلع بعض الناس، فجعلنا الدليل الظاهر وهو بعض الأرض من العامر قائما مقامه فأدير الحكم عليه فلم يعتبر انقطاع الارتفاق حقيقة كما اعتبر محمد.
والحاصل: أن عند أبي يوسف يدار الحكم على القريب والبعيد، وعند محمد على حقيقة الارتفاق وعدمها وبه قالت الثلاثة وهو معنى قوله: م: (ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة، وإن كان قريبا من القرية، كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده) ش: واسمه: محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن البخاري المعروف بخواهر زاده صاحب " المبسوط "، مات في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة م: (وشمس الأئمة السرخسي اعتمد على ما اختاره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني أخذ بقوله: وهو أن ما قرب من العامر لا يكون مواتا وعليه اعتمد القدوري أيضا وشمس الأئمة اسمه محمد بن أحمد بن أبي سهل أبو بكر السرخسي الإمام الكبير صاحب " المبسوط " المشهور في خمسة عشر مجلدا. توفي في حدود الأربعة مائة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: ثم من أحياه) ش: أي الموات م: (بإذن الإمام ملكه وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فهذه أيضا من مسائل القدوري.
م: (وقالا: يملكه) ش: يعني مطلقا وبه قال الشافعي وأحمد وأصبغ وسحنون المالكي، وقال مالك: إن كان قريبا من العامر في موضع يتسامح الناس فيه افتقر إلى الإذن من الإمام وإلا فلا، م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» ش: هذا الحديث رواه تسعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الأول: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " عن عمر بن رباح عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرفق ظالم حق» رواه ابن عدي في " الكامل "، وقال: عمر بن رباح مولى بن طاوس يحدث عنه بالبواطيل لا يتابع عليه. ثم أسند عن البخاري أنه قال: عمر بن رباح هو ابن أبي عمر العبدي دجال، وكذلك(12/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نقل عن الفلاس ووافقهما.
الثاني: عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أخرج حديثها البخاري في " صحيحه " في المزارعة عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها» . وقال عروة: قضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خلافته به، ورواه أبو يعلى الموصلي بلفظ المصنف وقال: حدثنا زهير حدثنا إسماعيل عن أبي أويس حدثني عن أبي هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرف ظالم حق» وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده ".
حدثنا رفعة بن صالح عن الزهري عن عائشة مرفوعا بلفظ أبو يعلى، ومن طريق الطيالسي رواه الدارقطني في " سننه ".
ورواه ابن عدي وابن زمعة وقال أرجو أنه لا بأس به. والثالث سعيد بن زيد أخرج حديثه أبو داود في " الخراج " والترمذي في " الأحكام " والنسائي في " الموات " عن عبد الوهاب بن السقفي عن أيوب عن هشام بن عروة عن سعيد بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرف ظالم حق» وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقد رواه بعضهم عن هشام عن عروة مرسلا.
ورواه البزار في " مسنده " وقال: لا نعلم أحدا روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد إلا عبد الوهاب عن أيوب عن هشام والمرسل الذي أشار إليه الترمذي أخرجه أبو داود. من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال قتله، وزاد: قال عروة: فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها.
فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالقوس» . وفي لفظ آخر: «فقال رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكبر ظني أبو سعيد -: فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول النخل» وأخرجه النسائي أيضا عن الليث عن يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: الحديث مرسلا كذلك ورواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الموطأ " في كتاب الأقضية أخبرنا هشام(12/282)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن عروة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الرابع: جابر أخرج حديثه الترمذي والنسائي أيضا عن عبد الوهاب النفعي عن أيوب عن هشام عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» وقال الترمذي حديث حسن صحيح وفي لفظ النسائي بهذا الإسناد: «من أحيا أرضا ميتة فهي له فيها أجر وما أكلت العاقبة منها فهو له صدقة» . ورواه ابن حبان في " صحيحه " بهذا اللفظ عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: وفي هذا الخبر دليل على أن الذمي إذا أحيا أرضا ميتة لم تكن له، لأن الصدقة لا تكون إلا لمسلم وأعاده في النوع الثالث قال أربعين من القسم الثالث وقال: إن هذا الخطاب للمسلمين لأن الصدقة إنما تكون منهم -والعاقبة: طلاب الرزق - ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة، عن ابن أبي رافع عن جابر بن عبد الله مرفوعا.
الخامس: عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه الأوسط " حدثنا أحمد بن القاسم بن مسادر حدثنا محمد بن عبد الوهاب الحارثي، حدثنا مسلم بن خالد الرياحي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر مرفوعا بحديث سعيد بن زيد، وقال: تفرد به مسلم بن خالد عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن عمرو.
السادس: فضالة بن عبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن بحيرة الحويطي، حدثنا يحيى بن صالح الوطاطي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأرض لله والعباد عباد الله، من أحيا أرضا مواتا فهي له» .
السابع: مروان بن الحكم، أخرج حديثه الطبراني في " معجمه الأوسط " حدثنا موسى بن هارون حدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا موسى بن داود، حدثنا نافع بن عمر الحمي عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن عبد الملك بن مروان عن عمران بن الحكم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلفظ حديث فضالة، وقال: تفرد به حجاج بن الشاعر.
الثامن: عمرو بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه بن أبي شيبة والبزار في " مسنديهما " والطبراني في " معجمه " عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده(12/283)
ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه، كما في الحطب والصيد. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرفوعا بحديث سعيد بن زيد، ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بكثير وضعفه عن أحمد وعن النسائي وابن معين جدا.
التاسع: سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطحاوي بإسناده إليه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط على شيء فهو له» .
م: (ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه) ش: فلا يفتقر إلى إذن الإمام م: (كما في الحطب والصيد) ش: يعني لو أخذ حطبا أو صيدا أو حشيشا يملكه بدون إذن الإمام وكذا لو وجد معدنا أو ركازا في موضع لا حق فيه يكون له بدون إذنه م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به» ش: هذا الحديث أخرجه الطبراني من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه ضعف، وقد تقدم في السيرة والأولى أن يستدل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما أخرجه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه المسمى " بالخراج "، عن ليث عن طاوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعدي فمن أحيا أرضا ميتة فهي له وليس للمحتجر حق بعد ثلاث سنين» ورواه أيضا سعيد بن منصور في " سننه " وأبو عبيد والبيهقي في " سننه " من حديث فضيل عن ليث عن طاووس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعدي فمن أحيا شيئا من موتان الأرض فله رقبتها» ، وروي أيضا من حديث معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن ابن طاووس عن أبيه.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتان الأرض لله ولرسوله، فمن أحيا منها شيئا فهي له» . تفرد معاوية بوصله وقال الذهبي: هذا مما أنكر عليه وجه الاستدلال به: أنه إضافة إلى الله وإلى الرسول، وكل ما أضيف إلى الله ورسوله لا يجوز أن يختص أحد بشيء منه إلا بإذن الإمام كالخمس في باب القيمة، إنما أضيف إلى الله ورسوله لم يخص أحد بشيء منه إلا بإذن الإمام، فعلم أن المراد من قوله «من أحيا أرضا ميتة فهي له» : ما إذا كان بإذن الإمام لأنه ليس فيه ما ينفي هذا الشرط، فيكون المراد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا» الحديث لبيان السبب وبه نقول وقد دل الدليل على اشتراط الإذن وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» لأن السبق على رأي الإمام والأخذ بطريق التغالب في معنى عرف ظالم فينبغي أن يشترط. وقال الطحاوي: إن رجلا بالبصرة قال لأبي موسى: أقطعني أرضا لا تضر بأحد من المسلمين ولا أرض خراج(12/284)
وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع، ولأنه مغنوم لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب، فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام كما في سائر الغنائم، ويجب فيه العشر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن أتخذها قضبا وزيتونا، فكتب أبو موسى إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إليه: أقطعه إياها فإن رقاب الأرض لنا، فدل أن رقاب الأرض لأئمة المسلمين وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا حكم إلا لله ورسوله " متفق عليه، فدل أن حكم الأراضي للإمام.
م: (وما روياه) ش: جواب عما استدلا به أي ما رواه أبو يوسف ومحمد، م: (يحتمل أنه أذن لقوم) ش: يعني يحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لقوم مخصوص م: (لا نصب لشرع) ش: أي لأنه نصب لشرع ابتداء وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» فإنه ليس نصب لشرع بل لتحريض بعض المقاتلة على القتال، حتى لو قتل الغازي في زماننا لا يكون السلب له إلا أن يفعله الإمام كذا هذا.
فإن قلت: العبرة لعموم اللفظ.
قلت: إذا سلم عن المعارض وهذا وجد المعارض وهو ما رواه أبو حنيفة، ولئن سلمنا أن ما رويناه يحتمل نصب الشرع ولكنه يحتمل فلم يصح معارضا لما رواه، لأنه لا يحتمل إلا وجها واحدا فيحمل ذلك على الإذن عملا بالدليلين.
فإن قلت: ما روياه عام خاص منه الحطب والحشيش وما روياه لم يخص فيكون العمل به أولى قلت الحطب والحشيش لا يحتاج فيه إلى إذن الإمام فلم يتناولهما عموم الحديث فلم يصر مخصوصا، والأرض مما يحتاج فيها إلى رأي الإمام لأنها صارت من الغنائم بإيجاف الحد والضياع الركاب كسائر الأموال أشار إليه المصنف بقوله: م: (ولأنه مغنوم) ش: أي: ولأن الموات مغنوم، لأنه كان في أيدي المشركين ثم صار الركاب في أيدي المسلمين بإيجاف الخيل والركاب وهو معنى قوله:
م: (لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب) ش: بأن الإيجاف مصدر وجف قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] أي ما علمتم وثلاثيه وجفه، ووجيف: هو ضرب من سير الخيل والإبل.
م: (فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام) ش: أي بالموات م: (كما في سائر الغنائم) ش: يعني قبل القسمة وفي بعض النسخ: كما في سائر المغانم م: (ويجب فيه العشر) ش: ذكره تفريعا(12/285)
لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج؛ لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء،
فلو أحياها ثم تركها، فزرعها غيره فقد قيل: الثاني أحق بها، لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها، فإذا تركها كان الثاني أحق بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على مسألة القدوري أي يجب في الموات الذي أحياه وزرعه العشر.
م: (لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج؛ لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء) ش: قال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": وإذا ملك أرض الموات بإذن الإمام أو بغير إذنه على الاختلاف فررعها وإنه ينظر إن زرعها بماء السماء فهي أرض العشر وإن زرعها بماء هو من أنهار المسلمين فعلى قول أبي يوسف حكمها: حكم تلك الأرض التي فيها ذلك إن كانت من أرض الخراج فهي من أرض الخراج وإن كانت من أرض العشر فهي من أرض العشر. وعند محمد: إن كان الماء الذي ساقه إليها من الأنهار العظام كالنيل والفرات وما أشبههما فهي أرض العشر، وإن كان ذلك الماء من نهر حفرها الإمام من ماء الخراج فهي أرض خراج، وبه أخذ الطحاوي، انتهى.
وفي كتاب " الخراج ": قال أبو يوسف: ومن أحيا أرضا مواتا مما كان المسلمون افتتحوها فما كان في أيدي أهل الشرك عنوة، وقد كان الإمام قسمها بين الجند الذين افتتحوها وخمسها فهي أرض عشر فيؤدي عنها الذي أحياها العشر، كما يؤدي هؤلاء الذين قسمها الإمام بينهم.
وإن كان الإمام حين افتتح تركها في أيدي أهلها ولم يكن قسمها بين من افتتحها كما كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ترك السواد في أيدي أهله ففي أرض الخراج الذي أحيا منها شيئا يؤدي عنها الخراج، كما يؤدي الذي كان الإمام أخرها في أيديهم.
وأيما رجل أحيا أرضا من أراضي الموات من أرض الحجاز أو أراضي العرب التي أسلم أهلها عليها فهي أرض عشر وهي له، وإن كانت من الأرضين التي افتتحها المسلمون مما كان في أيدي أهل الشرك فإن أحياها وساق الماء من المياه التي كانت في أيدي أهل الشرك فهي أرض خراج، وإن أحياها بغير ذلك الماء ببئر حفرها فيها أو عين استخرجها منها فهي أرض عشر، وإن كان يستطيع أن يسوق الماء إليها التي كانت في أيدي الأعاجم فهي أرض خراج ساقه أو لم يسقه. إلى هنا لفظ أبي يوسف في كتاب " الخراج ".
[من أحيا أرضا ميتة هل يملك رقبتها]
م: (فلو أحياها) ش: أي أرض الموات م: (ثم تركها فزرعها غيره فقد قيل: الثاني أحق بها) ش: وهو قول الفقيه أبي القاسم أحمد بن محمد البلخي م: (لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها) ش: أي استغلال الأرض لا رقبة الأرض.
م: (فإذا تركها كان الثاني أحق بها) ش: أي بالأرض التي أحياها الأول وتركها، وأصل(12/286)
والأصح أن الأول ينزعها من الثاني؛ لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث، إذ الإضافة فيه بلام التمليك وملكه لا يزول بالترك،
ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها لتطرقه. وقصد الرابع إبطال حقه.
قال: ويملكه الذمي بالإحياء كما يملكه المسلم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا: أن من أحيا أرضا ميتة هل يملك رقبتها؟ قال بعضهم منهم أبو القاسم المذكور: لا يملك وإنما يملك استغلالها وبه قال الشافعي في قول: لأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث: «فهو أحق به» فدل أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي إضافة التخصيص أي هو المنتفع بدون ملك.
وعند عامة المشائخ. يملك رقبته وبه قال الشافعي في قول، ومالك وأحمد وأشار إليه بقوله: م: (والأصح أن الأول ينزعها من الثاني) ش: أي يأخذها من الثاني نزعا. م: (لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث) ش: وهي قوله: فهي له.
م: (إذ الإضافة فيه بلام التمليك) ش: إذا قرئ الاختصاص به م: (وملكه لا يزول بالترك) ش: كمن أخرب داره أو عطل بستانه وتركه حتى مرت عليه سنين فإنه لا يخرج من ملكه ولقائل أن يقول: الاستدلال بهذا الحديث على مذهبهما صحيح، أما على مذهب أبي حنيفة: ففيه نظر، لأنه حمله على كونه إذنا لا شرعا فكيف يصح الاستدلال.
والجواب: أنه وإن كان إذنا لكنه إذا أذن له الإمام كان شرعا ألا ترى أن من قال له الإمام: من قتل قتيلا فله سلبه؛ ملك سلب من قتله.
م: (ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها) ش: ولتعين الأرض الرابعة م: (لتطرقه) ش: أي لتطرق الأول لأنه حين سكت عن الأول والثاني والثالث صار الباقي طريقا له، وإذا أحياه الرابع فقد أحيا طريقه من حيث المعنى فيكون له فيه طريق، نظيره: من ترك شيئا عند جماعة مقام واحد بعد واحد ووهب حتى بقي واحد فإنه يتعين للحفظ.
م: (وقصد الرابع إبطال حقه) ش: أي إبطال حق الأول بعدما تعين تطرقه فيها؛ فإن من أحياها أرضا يملك مرافق الحياة تبعا له، ففي الأرض يملك طريقها ويقبض ماؤها ويبذر زرعها وما لا يستغنى عنه من مرافقها بالإجماع فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مرافقها إلى ما لم يبلغه ماؤها وبعد عنها، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حرمتها ما ينتهي إليه صوت المنادي من حدودها.
[الذمي هل يملك بالإحياء في دار الإسلام]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويملكه الذمي بالإحياء كما يملكه المسلم) ش: أي قال القدوري، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي وأحمد في رواية: لا يملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام لقوله(12/287)
لأن الإحياء سبب الملك إلا أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذن الإمام من شرطه فيستويان فيه كما في سائر أسباب الملك حتى الاستيلاء على أصلنا. قال: ومن حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره؛ لأن الدفع إلى الأول كان ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين من حيث العشر أو الخراج فإذا لم تحصل يدفعه إلى غيره تحصيلا للمقصود، ولأن التحجير ليس بإحياء ليملكه به؛ لأن الإحياء إنما هو العمارة، والتحجير الإعلام سمي به لأنهم كانوا يعلمونه بوضع الأحجار حوله، أو يعلمونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موات الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم» فيجعل الموات بعده للمسلمين، ولأن موات الدار من حقوقها والدار للمسلمين فكان مواتها لهم للمرافق المملوكة وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عادي الأرض لله ورسوله ثم لكم بعدي» رواه سعيد بن منصور وهو مرسل كما قدمنا.
قال الكاكي: والعجب من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يعمل بالمرسل وقد عمل به؟، قلت: له أن يستدل بحديث جابر الذي أخرجه الترمذي وغيره: «من أحيا أرضا ميتة فهي له فيها أجر وما أكلت العاقبة منها فله صدقة» والصدقة لا تكون إلا لمسلم وقد ذكرنا هذا فيما مضى عن قريب، ولنا: أن النصوص لم تفصل والذمي إنما يعقد الذمة ليصير من أهل دارنا، وله مرافق دار الإسلام فيملك بالإحياء كما يملك لمباحاتها وإنما قضى في الدار إلى المسلمين لكون الغلبة لهم.
م: (لأن الإحياء سبب الملك إلا أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذن الإمام من شرطه فيستويان فيه) ش: أي يستوي المسلم والذمي في الإحياء م: (كما في سائر أسباب الملك) ش: مثل الشفعة ونحوها م: (حق الاستيلاء على أصلنا) ش: أي حتى إن الكافر إذا استولى على مال المسلم يملكه على أصلنا كما يملكه المسلم خلافا للشافعي.
[حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين]
م: (قال: ومن حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره) ش: أي قال القدوري: قوله حجر - بتشديد الجيم - يجوز أن يكون من الحجر -بفتح الجيم - ويجوز أن يكون من الحجر -بسكون الجيم - فعلى الأول: معناه أعم بوضع الأحجار حوله، لأنهم كانوا يفعلون ذلك وعلى الثاني: معناه يمنع الغير من إحيائها، لأن الحجر في اللغة: المنع فكان التحجير ما هو إلا الأعلام على ما يشير إليه المصنف الآن.
م: (لأن الدفع إلى الأول كان ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين من حيث العشر أو الخراج فإذا لم تحصل يدفعه إلى غيره تحصيلا للمقصود، ولأن التحجير ليس بإحياء ليملكه به) ش: أي بالتحجير م: (لأن الإحياء إنما هو العمارة والتحجير الإعلام سمي به) ش: أي بالتحجير. م: (لأنهم كانوا يعلمونه بوضع الأحجار حوله) ش: أشار بهذا إلى أن معنى التحجير من الحجر بفتح الجيم م: (أو يعلمونه(12/288)
لحجر غيرهم عن إحيائه، فبقي غير مملوك كما كان هو الصحيح، وإنما شرط ترك ثلاث سنين لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لحجر غيرهم عن إحيائه) ش: وأشار بهذا إلى أن معنى التحجير من الحجر -بسكون الجيم - الذي معناه المنع أي يعلمونه لمنع غيرهم عن إحياء الموات الذي احتاط عليه.
م: (فبقي غير مملوك كما كان) ش: أي إذا كان الأمر كذلك بقي الموات حال كونه غير مملوك كما كان أولا إذا لم يفد بحجره م: (هو الصحيح) ش: احترز عما روي عن بعض مشائخنا: أنه يصير مملوكا للحجر، ذكره في " المحيط " وذكر خواهر زاد: أن التحجير ملكا مؤقتا إلى ثلاث سنين. وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد، ويصير هو أحق به لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى مال لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» . رواه أبو داود.
وقال الأترازي: ثم الاحتجار هل يفيد الملك أم لا؟ فيه اختلاف المشائخ قيل: يفيد ملكا مؤقتا إلى ثلاث سنين وقيل: لا يفيد وثمرة الخلاف تظهر في إذا جاء إنسان آخر قبل مضي ثلاث سنين فأحياه من قال إن الأحجار لا يفيد ملكا قال ملكه الثاني، ومن قال يفيد لا يملكه الثاني ويزرعه الأول في يده، احتج من قال بإفادة الملك بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أشار إليه المصنف بقوله:
م: (وإنما شرط ترك الثلاث سنين لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق) ش: فيكون له الحق من ثلاث سنين والحق إذا أطلق يراد به الملك لا مجرد الحق من غير ملك بدليل ما قال في كتاب الإقرار: إذا قال: لفلان حق في هذه الدار وبين شيئا من حقوقها، لأن حق الرقبة لا يصدق المقر في ذلك وجه من قال لا يفيد ملك إن الاحتجار ليس بإحياء وإنما هو بمنزلة الاستيام على الإحياء فلا يفيد ملكا كاستيام في باب البيع، إلا أنه يكره إحياء الثاني قبل مضي ثلاث سنين مراعاة لحق الحجر ونفيا للوحشة عنه، ثم أثر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو يوسف في " كتاب الخراج " حدثني الحسن بن عمارة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين.
والحسن بن عمارة ضعيف وسعيد عن عمر فيه كلام.
ورواه أيضا في " سننه " أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فغمروها فهم أحق بها. ورواه البيهقي في " سننه الكبرى " من حديث معمر(12/289)
ولأنه إذا أعلمه لا بد من زمان يرجع فيه إلى وطنه، وزمان يهيئ أموره فيه ثم زمان يرجع إلى ما يحجر، فقدرناه بثلاث سنين لأن ما دونها من الساعات والأيام والشهور لا يفي بذلك، وإذا لم يحضر بعد انقضائها، فالظاهر أنه تركها. قالوا: هذا كله ديانة فأما إذا أحياها غيره قبل مضي هذه المدة ملكها؛ لتحقق الإحياء منه دون الأول فصار كالاستيام، فإنه يكره، ولو فعل يجوز العقد، ثم التحجير قد يكون بغير الحجر بأن غرز حولها أغصانا يابسة، أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من الشوك، أو خضد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ابن نجيح عن عمرو بن شعيب: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل التحجر ثلاث سنين فإن تركها حتى يمضي ثلاث سنين فأحياها غيره فهو أحق بها. والاحتجار: من احتجرت الأرض إذا ضربت عليها منارا أو علمت علما في حدودها للخيار.
م: (ولأنه إذا أعلمه) ش: أي ولأن المحيي إذا أعلم الموات م: (لا بد من زمان يرجع فيه إلى وطنه وزمان يهيئ أموره فيه ثم زمان يرجع إلى ما يحجر، فقدرناه بثلاث سنين لأن ما دونها من الساعات والأيام والشهور لا يفي بذلك) ش: أي بما ذكرنا من الرجوع إلى وطنه لتهيؤ أمره إلى الزراعة ورجوعه إلى ما يحجره، لأن دار الإسلام من أدناها إلى أقصاها يقطع في سنة للعلة، إنما حجر في أقصى طرق دار الإسلام وبلده في الطرف الآخر من دار الإسلام. ولاصطلاح أموره في بلده سنة وللرجوع إلى ذلك الموضع سنة فلا ينبغي أن يشتغل بإحياء ذلك الموضع غيره إلى ثلاث سنين وينظره، وبعد هذا المعنى الظاهر أنه قد بدا له ولا يريد الرجوع إليها فجاز إحياؤه غيره.
م: (وإذا لم يحضر بعد انقضائها، فالظاهر أنه تركها) ش: وقد ذكرناه، م: (قال: وا: هذا كله ديانة) ش: قالت المشائخ: هذا الذي ذكرناه من اشتراط الترك ثلاث سنين لإحياء غيره ديانة، يعني فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
وأما في الحكم: إذا أحياها إنسان قبل مضي هذه المدة فهي أشار إليه بقوله: م: (فأما إذا أحياها غيره) ش: أي غير المحتجر م: (قبل مضي هذه المدة) ش: أي ثلاث سنين م: (ملكها لتحقق الإحياء منه دون الأول) ش: وهو الحجر م: (فصار كالاستيام) ش: في باب البيع م: (فإنه يكره) ش: لورود النهي. م: (ولو فعل) ش: أي الاستيام م: (يجوز العقد) ش: فكذا هنا وإن كان يكره ولكنه إذا أحياها يملكها. م: (ثم التحجير قد يكون بغير الحجر بأن غرز حولها أغصانا يابسة) ش: أي بأن نصب حول الأرض الموات أغصانا يابسة م: (أو نقى الأرض) ش: من الحصى والشوك، لأنهما يمنعان الزراعة.
وأشار إلى معنى قوله " نقى الأرض " بقوله: م: (وأحرق ما فيها من الشوك) ش: حيث عطف أحرق على نقى للتفسير م: (أو خضد) ش: أي قطع بالخاء والضاد المعجمتين ومنه قوله(12/290)
ما فيها من الحشيش أو الشوك وجعلها حولها وجعل التراب عليها من غير أن يتم المثناة؛ ليمنع الناس من الدخول، أو حفر من بئر ذراعا أو ذراعين، وفي الأخير ورد الخبر،
ولو كربها وسقاها فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إحياء، لو فعل أحدهما يكون تحجيرا، ولو حفر أنهارا ولم يسقها يكون تحجيرا، وإن كان سقاها مع حفر الأنهار كان إحياء لوجود الفعلين، ولو حوطها أو سمنها بحيث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سبحانه وتعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] م: (ما فيها) ش: أي في أرض الموات م: (من الحشيش أو الشوك وجعلها حولها وجعل التراب فوقها من غير أن يتم المثناة) ش: وهي ما يبنى للسائل ليرد الماء م: (ليمنع الناس من الدخول، أو حفر من بئر ذراعا أو ذراعين) ش: فكل ذلك بحجر.
م: (وفي الأخير) ش: أراد بالأخير ما إذا حفر من بئر ذراعا أو ذراعين م: (ورد الخبر) ش: قالت الشراح: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حفر من بئر ذراعا فهو متحجر» قال الزيلعي في " تخريجه ": هذا الحديث ما رأيته ولا أعرفه ولم أر من ذكره.
قلت: لا يلزم من عدم معرفة الزيلعي أن لا يكون هذا حديثا ولا يلزم أيضا أن يكون ما ذكره الشراح هو مراد المصنف في قوله: وفي الأخير ورد الخبر، بل يجوز أن يكون مراده ما رواه الشافعي عن عبد الرحمن بن حسن بن القاسم الأزرقي عن أبيه عن علقمة بن نضلة: أن أبا سفيان بن حرب قام بفناء داره فضرب برجله وقال: سيام الأرض أن لها سياما ما زعم ابن فرقد الأسلمي أني لا أعرف حقي من حقه لي بياض المردة وله سوادها ولي ما بين كذا إلى كذا، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال: ليس لأحد إلا ما أحاطت عليه جدرانه، إن إحياء الموات ما يكون زرعا أو حفرا أو يخلط بالجدارات. ورواه البيهقي في " سننه " من طريق الشافعي.
فهذا عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جعل الحفر من جملة التحجير، والحفر في الموات غالبا لا يكون إلا في البئر، وإنما قيد المصنف بذراع أو ذراعين شبها على أن خروج الماء من البئر، ليس بشرط التحجير فإنه بالحفر يصير محجرا سواء خرج ماء أو لا. وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما لم يخرج الماء فهو متحجر، وإن خرج لا يكون. فهذا هو التحقيق في هذا الموضع الذي غض الشراح كلهم أبصارهم [عنه] .
م: (ولو كربها) ش: من كرب الأرض إذا قلبها للحراثة م: (وسقاها فعن محمد أنه إحياء، ولو فعل أحدهما) ش: بأن كربها ولم يسقها م: (يكون تحجيرا، ولو حفر أنهارها ولم يسقها يكون تحجيرا، وإن كان سقاها مع حفر الأنهار كان إحياء لوجود الفعلين) ش: أي السقي والحفر م: (ولو حوطها) ش: أي جعل لها حائطا م: (أو سنمها) ش: أو جعل لها السنام مأخوذ من سنام البعير م: (بحيث(12/291)
يعصم الماء يكون إحياء؛ لأنه من جملة البناء، وكذا إذا بذرها. قال: ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحا لحصائدهم لتحقق حاجتهم إليها، حقيقته، أو دلالة على ما بيناه، فلا يكون مواتا لتعلق حقهم بها بمنزلة الطريق والنهر. وعلى هذا قالوا: لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها لما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعصم الماء يكون إحياء) ش: أي يحفظه من السيلان إلى غيرها.
وفي بعض النسخ: بحيث يعصم الماء أي الذي يمر من الدخول فيها م: (لأنه من جملة البناء) ش: أي لأن لكل واحد من التحويط والسنم من جملة البناء. م: (وكذا إذا بذرها) ش: أي الأرض الموات، ألقى البذار فيها.
وفي " المحيط ": عن أبي حنيفة: إن حفر فيها بئرا أو ساق إليها ماء، فقد أحياها، زرعها ومرعاها.
[إحياء ما قرب من العامر]
م: (قال: ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر) ش: أي قال القدوري: ولا نعلم فيه خلافا لأهل العلم م: (ويترك مرعى لأهل القرية) ش: أي مرعى لمواشيهم م: (ومطرحا لحصائدهم) ش: وهو جمع حصيد، وحصيدة، وهما الزرع المحصود ومطرح الحصائد هو الموضع الذي يلقى فيه الزرع المحصود للدرس م: (لتحقق حاجتهم إليها) ش: أي إلى ما قرب من العامر، والتأنيث باعتبار الأرض.
م: (حقيقته) ش: بالجر على أنه بدل من حاجتهم أي لتحقق حقيقة الحاجة عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أو دلالة) ش: عطف عليه أي أو لتحقق دليل الحاجة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما بيناه) ش: أراد به قوله: ومحمد اعتبر الارتفاق.... إلى آخره.
م: (فلا يكون مواتا لتعلق حقهم بها) ش: أي إذا كان كذلك فيكون ما قرب من العامر مواتا، لتعلق حق أهل القرية، فيكون م: (بمنزلة الطريق والنهر) ش: تعلق بهما حق أهل القرية، فلا يجوز احتجارها. م: (وعلى هذا قالوا) ش: أي على ما ذكرنا من تعلق حق الناس، قالت المشائخ: م: (لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها) ش: أي ما لا بد لهم منه يقال: أقطع السلطان رجلا أيضا إذا أعطاه إياها وخصصه بها.
م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: فتعلق حقهم بها، ولا نعلم فيه خلافا، وروى الترمذي وأبو داود -رحمهما الله - من حديث ثمامة بن شراحيل عن سمي بن قيس، عن شمير بن عبد المدان، عن أبيض بن حمال: «أنه وفد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستقطعه الملح الذي(12/292)
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومن حفر بئرا في برية فله حريمها ومعناه إذا حفر في أرض موات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمأرب، فقطعه فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزع منه» .
وأخرجه البيهقي وغيرهما من حديث ابن المبارك، عن معمر، عن يحيى بن قيس المازني، عن رجل [يدعى] أبيض: «أنه استقطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الملح الذي بمأرب فأراد أن يقطعه إياه، فقال رجل: إنه كالماء العد فأبى أن يقطعه» .
وقال الأصمعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الماء العد الدائم الذي لا انقطاع له هو كماء العين، وماء البئر، وعن هذا قال مشائخنا: من السحت ما يأخذه المرعاة، فالولاة على الماء، والكلأ، والجبال، والمردح، والمعادن، والملح، وجميع ذلك ذكره في " التتمة "، و " الغنية "، و " المجتبى " وغيرها.
وأما الحمى: وهو أن يحمي السلطان أرضا من الموات يمنع الناس رعي ما فيها يخص بها نفسه رؤوسهم كالعرب في الجاهلية يفعلون ذلك، فعندنا: لا يجوز. وأما لو حمى مرعى خيل المجاهدين، ونعم الجزية، وأهل الصدقة، وحيوان الناس التي يقوم الإمام بحفظها، وماشية الضعيف من الناس: فيجوز، وبه قال الشافعي في قول، وفي آخر: ليس لغير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى إلا لله ورسوله» .
قلنا: إن عمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حميا، واشتهر ذلك في الصحابة، ولم ينكر عليهما أحد فكان إجماعا. وقال مالك: بلغني أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يحمي في كل عام أربعين ألفا من الظهر، ولأن ما كان من مصالح المسلمين فالأئمة قائمة مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة لمن بعده» . وأما الخبر فمعناه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بفعل الحمى لا لكل أحد، والأئمة بعده تقوم مقامه، إذ الحمى لنفسه مخصوص به.
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومن حفر بئرا في برية فله حريمها) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وحريم البئر نواحيها م: (ومعناه) ش: أي معنى كلام القدوري: م: (إذا حفر في أرض موات(12/293)
بإذن الإمام عنده، أو بإذنه أو بغير إذنه عندهما؛ لأن حفر البئر إحياء. قال: فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإذن الإمام عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (أو بإذنه أو بغير إذنه عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، محمد - رحمهما الله - م: (لأن حفر البئر إحياء) ش: لأنه يصير منتفعا به، فإذا كان إحياء فقد ملكها، ومن ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته، والحريم من ضرورات الانتفاع بالبئر فيملكه.
م: (قال: فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعا) ش: أي قال القدوري: والعطن مناخ الإبل ومبركها حول الماء، والمراد من بئر العطن العطن الذي يستلقي منها بالبدر من بئر الناضح: الذي تسقى منها البعير، كذا قالوا.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مصنفه المسمى بكتاب " الخراج ": وتفسير الناضح: الذي تسقى منها البعير للزرع، وبئر العطن وهي: بئر الماشية التي يستقي الرجل منها لماشيته ولا تسقى منها الزرع، وكل بئر يستقي منها الزرع والإبل فهي بئر الناضح م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا طعنا لماشيته» ش: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن عبد الوهاب بن عطاء حدثنا إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا لماشيته» . وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله بن المثنى، عن إسماعيل بن مسلم به.
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " التحقيق ": هذا ضعيف؛ لأن عبد الوهاب بن عطاء قال الرازي فيه: كان يكذب. وقال النسائي: متروك الحديث.
قلت: قال في " التنقيح ": هذا الذي فعله ابن الجوزي في هذا الحديث من أقبح الأشياء؛ لأن ابن ماجه من رواية اثنين عن إسماعيل بن مسلم، فذكره، وهو من رواية أحدهما، ثم إنه وهم فيه، فإن عبد الوهاب هذا هو الخفاف، مع أن الخفاف لم ينفرد به عن إسماعيل فقد أخرجه ابن ماجه أيضا عن محمد بن عبد الله بن المثنى عن إسماعيل، انتهى.
قلت: وقد صرح بنسبة الخفاف إسحاق بن راهويه في " مسنده " فقال: حدثنا عبد الوهاب بن عطا الخفاف عن إسماعيل بن مسلم، به، ومن طريق إسحاق بن راهويه في " مسنده "، فقال:(12/294)
ثم قيل: الأربعون من كل الجوانب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن إسماعيل بن مسلم، به، ومن طريق إسحاق رواه الطبراني في " معجمه ".
فإن قلت: قال صاحب " التنقيح ": ويكفي في ضعف الحديث إسماعيل بن مسلم المكي.
قلت: قد تابعه أشعث، كما أخرجه الطبراني في " معجمه " عن أشعث عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وروى أحمد في " مسنده ": حدثنا هشيم عن عوف عن رجل حدثه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم البئر أربعون ذراعا من حواليها كلها لأعطان الإبل والغنم وابن السبيل أو الشارب ولا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلأ» .
وأخرجه البيهقي أيضا في " سننه "، ومذهب الشافعي ومالك حريم البئر ما لا بد لها منه، وبه قال القاضي، وأبو الخطاب الجيلبان. وعن أحمد: خمسة وعشرون ذراعا، واستدل له ابن الجوزي بما رواه الدارقطني عن محمد بن يوسف المقري: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة، حدثنا يحيى بن أبي الخصيب، حدثنا هارون بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعا، وحريم البئر العادية خمسون ذراعا» .
قلت: قال الدارقطني: الصحيح مرسل عن ابن المسيب، ومن أسنده فقد وهم. وقال صاحب " التنقيح ": قال الدارقطني عن محمد بن يوسف المقري: وضع نحوا من ستين نسخة، ووضع من الأحاديث المسندة، والنسخ ما لا يضبط، وقد رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المراسيل " -عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن الزهري، عن سعيد مرسلا، وهو الصواب المراد من البدي الذي أحدث في الإسلام، ولم يكن عاديا، والعادي بتشديد الياء ما كان قديما.
م: (ثم قيل: الأربعون من كل الجوانب) ش: يعني من كل جانب عشرة أذرع فظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته» فإنه بظاهره يجمع الجوانب الأربع م:(12/295)
والصحيح أنه من كل جانب؛ لأن في الأراضي رخوة ويتحول الماء إلى ما حفر دونها. وإن كانت للناضح فحريمها ستون ذراعا، وهذا عندهما، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أربعون ذراعا. لهما قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(والصحيح أنه من كل جانب) ش: أي أربعون من كل جانب لما روى أبو يوسف من كتاب " الخراج "، وقال: حدثنا أشعث بن قيس، عن الشعبي، أنه قال: حريم البئر أربعين ذراعا، وها هنا لا يدخل أحد في حريمه ولا في مائه.
م: (لأن في الأراضي رخوة ويتحول الماء إلى ما حفر دونها) ش: فيصير حينئذ حريم كل واحد أقل من الأربعين، فيضيق العطن وتدخل الحفر م: (وإن كانت للناضح) ش: أي وإن كانت البئر للناضح وهو البئر الذي يسقي عليه م: (فحريمها ستون ذراعا) ش: هكذا هو في بعض النسخ م: (وهذا عندهما) ش: أي كون حريم بين الناضح ستون ذراعا عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أربعون ذراعا) ش: لم يذكر القدوري، ولا الطحاوي في " مختصرهما " الخلاف..... وبين الناضح، بل ذكرا مطلقا أنه ستون ذراعا. وذكر القدوري في كتاب " التقريب "، وشيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه "، والإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": أنه أربعون ذراعا.
م: (لهما قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا» ش: هذا الحديث متصلا لم يصح، وإنما رواه أبو يوسف في كتاب " الخراج " عن الحسن بن عمارة، عن الزهري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم العين خمسمائة ذراع، وحريم البئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا» .
وأخرج أبو داود من " مراسيله " عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم البئر العادية خمسون ذراعا، وحريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعا» . قال سعيد -من قبل نفسه -: وحريم قليب الزرع ثلاثمائة ذراع. وزاد الزهري: وحريم العين خمسمائة ذراع من كل ناحية. ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ". حدثنا وكيع، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن الشعبي، عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فذكره، بدون زيادة الزهري.
رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا محمد بن مسلم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: «جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حريم البئر المحدثة خمسة وعشرون ذراعا، وحريم البئر(12/296)
ولأنه قد يحتاج فيه إلى أن يسير دابته للاستقاء، وقد يطول الرشاء، وبئر العطن للاستقاء منه بيده، فقلت الحاجة فلا بد من التفاوت. وله ما رويناه من غير فصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العادية خمسون ذراعا» . قال ابن المسيب: وأرى أن حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع.
فإن قلت: أخرج الدارقطني في " سننه " عن الحسن بن أبي جعفر عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضوان الله تعالى عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر البدي خمسة وعشرون ذراعا، وحريم البئر العادية خمسون ذراعا، وحريم العين السائحة ثلاثمائة ذراع، وحريم عين الزرع ثلاثمائة ذراع» .
قلت: هذا معلول بابن أبي جعفر؛ لأنه ضعيف.
فإن قلت: روى الدارقطني أيضا عن محمد بن يوسف المقري: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة، حدثنا يحيى بن أبي الخطيب، حدثنا هارون بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن عبلة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.
قلت: قال الدارقطني: الصحيح عن ابن المسيب المرسل، ومن أسنده فقد وهم.
م: (ولأنه قد يحتاج فيه) ش: أي في الناضح م: (إلى أن يسير دابته للاستقاء، وقد يطول الرشاء) ش: وهو الحبل م: (وبئر العطن للاستقاء منه بيده، فقلت الحاجة فلا بد من التفاوت) ش: بين بئر العطن، وبئر الناضح. وعن محمد في " النوادر ": إن كان الحبل سبعون ذراعا، يكون الحريم سبعون ذراعا، لأن في بعض البلاد الناضح لا يدور حول البئر كما في الطاحونة، بل يسد أحد طرفيه على البعير، والآخر على الدولاب فوق الماء، ثم يساق البعير فكل ما سار مقدار الحبل ارتفع الدلو إلى رأس البئر، فلو قدرناه بالسبعين لا يمكنه الانتفاع بها.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (ما رويناه) ش: أشار إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشية العطن» م: (من غير فصل) ش: أي بين العطن والناضح، احترز بأنه مقيد بقوله: عطنا لماشيته، فيكون قد فصل بين العطن والناضح.
وأجيب: بأن ذكر ذلك اللفظ للتغليب لا للتقييد، فإن الغالب في انتفاع الآبار في الفلوات هذا الطريق ليكون ذكر العطن ذكرا لجميع الانتفاعات، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية 9) ، قيد بالبيع لما أن الغالب في ذلك اليوم البيع، وكذلك قوله -سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] (النساء: الآية 10) ، والوعيد ليس(12/297)
والعام المتفق على قبوله والعمل به أولى عنده من الخاص المختلف في قبوله والعمل به. ولأن القياس يأبى استحقاق الحريم لأن عمله في موضع الحفر والاستحقاق به، ففيما اتفق عليه الحديثان تركناه، وفيما تعارضا فيه حفظناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مخصوصا بالأكل، ولكن الغالب أمره الأكل فأخرجه على ما عليه الغالب. م: (والعام المتفق على قبوله) ش: وهو قوله: من حفر بئرا فله مما حوله أربعون ذراعا، وعمومه مستفاد من كلمة " من " لأنها تفيد العموم، وكونه متفقا على قبوله، لأن له موجبين: أحدهما: أن يكون الحريم أربعون ذراعا، والثاني: أن لا يكون زائدا عليه، لأنه ذكر بكلمة من وهي للتبعيض، والتبيين ممتنع عليه الزيادة، وهي قد عملا بأحد الموجبين.
وإن لم يعملا بالموجب الآخر وهو ممتنع الزيادة، وفي الستين يكون أربعون وزيادة، وهذا كما اعتبر في باب العشر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء ففيه العشر» للاتفاق على قبوله، وترك العمل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» للاختلاف في قبوله. م: (والعمل به) ش: أي بالعام المتفق على قبوله م: (أولى عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (من الخاص المختلف في قبوله والعمل به) ش: أراد بالخاص حديث الزهري، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم العين....» إلى آخره.
فإن قلت: لا نسلم عموم الأول، لأن معناه من حفر بئر العطن فله مما حولها أربعون ذراعا، وهو خاص بالعطن كما ترى.
قلت: ليس عطنا صفة لبئر حتى يكون مخصصا، وإنما هو بيان الحاجة إلى الأربعين، فيكون دافعا لمقتضى القياس، فإنه ينافي استحقاق الحريم، لأن عمل الحافر في موضع الحفر استحقاقه بالعمل، ففي موضع الحفر استحقاقه كما تركناه به.
فإن قيل: ما تركه في الناضح أيضا حديث الزهري لئلا يلزم التحكم.
قلنا: حديثه فيه معارض بالعموم، فيجب المعين إلى ما بعده وهو القياس فحفظناه، وهذا كله حاصل معنى قوله: م: (ولأن القياس يأبى استحقاق الحريم لأن عمله في موضع الحفر والاستحقاق به) ش: أي بالحفر م: (ففيما اتفق عليه الحديثان) ش: وهو أربعون ذراعا م: (تركناه) ش: أي القياس م: (وفيما تعارضا) ش: أي الحديثان م: (فيه) ش: أي فيما زاد على الأربعين إلى الستين م: (حفظناه) ش: أي القياس تحقيقه أن الحديثين اتفقا على الأربعين. فترك القياس في هذا القدر. وفيما وراء الأربعين تعارضا، لأن العام ينفيه، والخاص يثبته فتساقطا، فعملنا بالقياس.(12/298)
ولأنه قد يستقي من العطن بالناضح، ومن بئر الناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما،
ويمكنه أن يدير البعير حول البئر، فلا يحتاج إلى زيادة مسافة. قال: وإن كانت عينا فحريمها خمسمائة ذراع لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف يتعارضان، وقد ذكر القبول في أحدهما، والاختلاف في الآخر؟.
قلت: يعني به صورة المعارضة كما يقال: إذا تعارضا المشهور مع خبر الواحد ترجح المشهور، وعدم التعارض معلوم.
م: (ولأنه قد يستقي من العطن بالناضح، ومن بئر الناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما) ش: أي في العطن والناضح، وهذا في الحقيقة جواب عما قالا، فلا بد من التفاوت لا يقال: إن بئر الناضح الغالب فيها البعير لا اليد للحرج؛ لأنا نقول: بئر الناضح عندهم لا على حسب ما يكون في بلادنا أن البعير يدور حول البئر كما في الطاحونة، ولكن عندهم بئر الناضح أن يشد الحبل في وسط البعير، ويشد الدلو في الطرف الآخر في الحبل، ثم يساق فإذا ساق مقدار الحبل يقع الدلو في رأس البئر فيؤخذ الماء، فإذا كان بئر الناضح عندهم على هذا التفسير يمكنه نزح الماء باليد، ويمكن في العطن بالناضح أيضا فاستويا، كذا في " المبسوط " و " الذخيرة ".
م: (ويمكنه أن يدير البعير) ش: أي يمكن أن يستقي بإدارة البعير م: (حول البئر، فلا يحتاج إلى زيادة مسافة) ش: لعدم الامتداد، وهذا ظاهر م: (قال: وإن كانت عينا فحريمها خمسمائة ذراع) ش: أي قال القدوري: وعند الأئمة الثلاثة يقدر ما لا بد منه في الارتفاق بحسب العلاة م: (لما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حريم العين خمسمائة ذراع» .
ولفظ القدوري مختلف؛ في بعض النسخ: خمسمائة ذراع، وفي بعضها: ثلاثمائة ذراع، وعلى الثاني اعتمد في " شرح الأقطع "، فلأجل اختلاف النسخ قال صاحب " النافع ": وإن كان عينا فحريمها خمسمائة في رواية، وفي رواية ثلاثمائة، وشيخ الإسلام خواهر زاده لم يذكر في " مبسوطه " سوى خمسمائة.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأصح عندي خمسمائة، لأنه يوافق لحديث الزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم العين خمسمائة ذراع» وهذا هو التوفيق، نص عليه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره "، فقال: ومن حفر عينا في أرض موات، وملكها بما يملك مما ذكرنا فله حريمها وهو خمسمائة ذراع من كل جانب من جوانبها، انتهى.
والتقدير بثلاثمائة بالاجتهاد حتى يأمن من الضرر بإثبات هذا القدر من الحريم إذا حفر(12/299)
ولأن الحاجة فيه إلى زيادة مسافة؛ لأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من موضع يجري فيه الماء، ومن حوض يجمع فيه الماء، ومن موضع يجري فيه إلى المرزعة، فلهذا يقدر بالزيادة، والتقدير بخمسمائة بالتوقيف. والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب كما ذكرنا في العطن والذراع هو المكسرة، وقد بيناه من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنسان بعينه بئرا أو عينا كيلا يذهب ماءها ولا ينقص، انتهى كلام الأترازي.
قلت: قد روى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث يحيى بن آدم حدثنا إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: حريم البئر خمسون ذراعا، وحريم العين مائة ذراع. فكان ينبغي أن يكون هذا هو الأصح، لأنه قول حبر الأمة عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (ولأن الحاجة فيه إلى زيادة مسافة؛ لأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من موضع يجري فيه الماء، ومن حوض يجمع فيه الماء) ش: كالغدير م: (ومن موضع) ش: أي ولا بد من موضع م: (يجري فيه إلى المزرعة) ش: أي يجري الماء من ذلك الموضع إلى المزارع، وفي بعض النسخ: إلى المزارعة م: (فلهذا) ش: أي فلأجل ما ذكرنا من المعاني م: (يقدر بالزيادة، والتقدير بخمسمائة بالتوقيف) ش: على حريم البئر، هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره: أن يقال: لما كان حريم العين محتاجا إلى زيادة لما ذكر من المعاني، فلم قدرت بخمسمائة وعينت بها؟. فأجاب: أن التقدير بها بالتوفيق أي بالأثر الوارد بها، وقد ذكرناه.
م: (والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب) ش: أشار بهذا إلى الاختلاف فيه أنها من كل الجوانب، ومن كل جانب كما اختلفوا في حريم البئر، ونص على أن الصحيح أنها من كل جانب. م: (كما ذكرنا في العطن) ش: أي كما ذكرنا الأصح من العطن أن الأربعين من كل جانب م: (والذراع هو المكسرة) ش: وهي ذراع العامة، وهي ذراع الكرباس أقصر من ذراع المساحة التي هي ذراع الملك، لأن المساحة بيع فيضات بدون ارتفاع الإبهام، وهذا هو اختيار خواهر زاده.
وبعضهم اختار ذراع المساحة، لأنها أليق بالممسوحات، هكذا ذكر أصحابنا ذراع المساحة، ولكن فيه نظر، لأن أصحاب المساحة ذكروا في كتبهم أن الذراع هي الهاشمية وهي ثمان قبضات، والقبضة أربع أصابع، والأصبع شعيرات بطون بعضها ملاصقة لظهور بعض الشعير يثبت شعرات من شعر البرذون.
فإن قلت: ما معنى قول " المكسرة "، وتوصيف الذراع بها لأنها نقضت عن ذراع الملك وهم بعض الأكاسرة بقبضته، وكان ذراعه سبع قبضات م: (وقد بيناه من قبل) ش: أشار به إلى ما ذكره في كتاب الطهارة من قوله: بذراع الكرباس وتوسعة للأمر على الناس فإنها هي المكسرة.(12/300)
وقيل: إن التقدير في العين والبئر بما ذكرناه في أراضيهم لصلابة بها، وفي أراضينا رخاوة فيزداد كيلا يتحول الماء إلى الثاني فيتعطل الأول. قال: فمن أراد أن يحفر بئرا في حريمها منع منه كيلا يؤدي إلى تفويت حقه والإخلال به، وهذا لأنه بالحفر ملك الحريم ضرورة تمكنه من الانتفاع به، فليس لغيره أن يتصرف في ملكه، فإن احتفر آخر بئرا في حد حريم الأولى للأول أن يصلحه ويكبسه تبرعا. ولو أراد أخذ الثاني فيه قيل له أن يأخذه بكبسه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد بينا الوجه في أن الخمسمائة يعتبر من كل جانب، لأنه لم يذكر بيان الذراع المكسرة فيما تقدم، وتبعه الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك وهي أو كلاهما في ذلك وهما فاحشا.
م: (وقيل: إن التقدير في العين والبئر بما ذكرناه في أراضيهم) ش: أي في أراضي العرب، وقوله في أراضيهم هو خبران، وما ذكره في العين هو: خمسمائة، وفي البئر: أربعون أو ستون م: (لصلابة بها) ش: أي لأجل الصلابة الكائنة بأراضيهم م: (وفي أراضينا رخاوة فيزداد) ش: على الأربعين والخمسمائة م: (كيلا يتحول الماء إلى الثاني) ش: أي إلى البئر الثاني، أو العين الثاني على اعتبار حفر الآخر م: (فيتعطل الأول) ش: وهو البئر الأول، أو العين الأولى، والتوصيف بالتذكير في الموضعين على تأويل المكان أو الموضع.
[احتفر آخر بئرا في حد حريم الأولى]
م: (قال: فمن أراد أن يحفر بئرا في حريمها منع منه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي في الحريم البئر الأول، أو العين الأولى. قوله: منع منه، أي منع ذلك الحافر من الحفر م: (كيلا يؤدي إلى تفويت حقه، والإخلال به) ش: أي وكيلا يؤدي إلى الإخلال بحقه باعتبار نقص بئره أو عينه م: (وهذا) ش: أي عدم جواز حفر الثاني في حريم الأولى م: (لأنه بالحفر ملك الحريم) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والقاضي الحنبلي: لا تملك؛ بل هو أحق.
م: (ضرورة تمكنه من الانتفاع به، فليس لغيره أن يتصرف في ملكه، فإن احتفر آخر بئرا في حد حريم الأولى) ش: أي البئر الأول م: (للأول أن يصلحه ويكسبه) ش: أي يصلحه بالكبس، وقوله: ويكبسه عطف تفسير كما في قولنا: أعجبني زيد وكرمه، والتقدير: أعجبني كرم زيد م: (تبرعا) ش: أي حال كونه متبرعا أراد به إصلاح ما أفسده من الأرض من عنده، ولا يأخذه الثاني شيئا لأجل ذلك.
م: (ولو أراد أخذ الثاني فيه) ش: أي: ولو أراد الأول من أخذه الثاني فيما فعل له ذلك، ولكن اختلف المشايخ فيه م: (قيل: له أن يأخذه بكبسه) ش: يعني بأمر الثاني بكبس البئر التي(12/301)
لأن إزالة جناية حفره به كما في الكناسة يلقيها في دار غيره، فإنه يؤخذ برفعها، وقيل: يضمنه النقصان ثم يكبسه بنفسه، كما إذا هدم جدار غيره. وهذا هو الصحيح ذكره في " أدب القاضي " للخصاف، وذكر طريق معرفة النقصان، وما عطب في الأولى؛ فلا ضمان فيه؛ لأنه غير متعد إن كان بإذن الإمام فظاهر، وكذا إن كان بغير إذنه عندهما، والعذر لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجعل الحفر تحجيرا، وهو بسبيل منه بغير إذن الإمام، وإن كان لا يملكه بدونه.
وما عطب في الثانية ففيه الضمان؛ لأنه متعد فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حفرها وإزالة الجناية حفره م: (لأن إزالة جناية حفره به) ش: أي بالكبس م: (كما في الكناسة) ش: بضم الكاف، وهي الزيادة م: (يلقيها في دار غيره، فإنه يؤخذ برفعها) ش: أي فإن الملقي يؤاخذ برفع الكناسة لإزالة الضرر.
م: (وقيل: يضمنه النقصان) ش: أي يضمن الأول الثاني نقصان حريمه م: (ثم يكبسه) ش: أي ثم يكبس الأول بنفسه ما حفر الثاني م: (كما إذا هدم جدار غيره) ش: حيث يلزم نقصان الهدم ثم سببه بنفسه م: (وهذا هو الصحيح) ش: أي القول الثاني هو الصحيح م: (ذكره في " أدب القاضي " للخصاف) ش: أراد أن الخصاف ذكره في كتابه " أدب القاضي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (وذكر طريق معرفة النقصان) ش: أي وذكر الخصاف كيفية معنى فيه النقصان، وهو أن يقوم ما قبل الحفر، ويقوم ما بعد الحفر فيضمن نقصان ما بينهما م: (وما عطب في الأولى فلا ضمان فيه) ش: أي والذي هلك في البئر الأولى لا ضمان فيه م: (لأنه غير متعد إن كان بإذن الإمام فظاهر، وكذا إن كان بغير إذنه عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد -رحمهما الله - لأن له أن يحفر بغير إذن الإمام عندهما، ولهذا ملك البئر في الحالتين، فإذا كان له ولاية الحفر لا يكون متعديا فلا يضمن ما تولد من حفره، كما لو حفر في داره.
م: (والعذر لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أراد بذلك جواب الإشكال الذي يرد على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا كان الأول حفرها بلا إذن الإمام، والإشكال لا يرد إلا على هذا الوجه؛ لأنه إذا كان بإذن الإمام لا يرد شيء م: (أنه يجعل الحفر تحجيرا) ش: أي أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الحفر تحجيرا م: (وهو بسبيل منه) ش: أي من التحجير م: (بغير إذن الإمام، وإن كان لا يملكه بدونه) ش: أي بدون الإذن. الحاصل: أن له ولاية التحجير بغير إذن الإمام، وإن لم يكن له الإحياء بغير إذنه، فيجعل حفره بغير إذن الإمام تحجيرا لا إحياء، فإذا كان كذلك فقد فعل ما له فعله فلا يكون متعديا فلا يضمن ما تولد فيه.
[حفر الثاني بئرا وراء حريم الأولى فذهب ماء البئر الأولى]
م: (وما عطب في الثانية) ش: أي والذي هلك في البئر الثانية م: (ففيه الضمان، لأنه متعد فيه(12/302)
حيث حفر في ملك غيره. وإن حفر الثاني بئرا وراء حريم الأولى فذهب ماء البئر الأولى فلا شيء عليه؛ لأنه غير متعد في حفرها، وللثاني الحريم في الجوانب الثلاثة دون الجانب الأول لسبق ملك الحافر الأول فيه والقناة لها حريم بقدر ما يصلحها. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث حفر في ملك غيره) ش: فصار كما إذا حفر على قارعة الطريق م: (وإن حفر الثاني بئرا وراء حريم الأولى فذهب ماء البئر الأولى فلا شيء عليه؛ لأنه غير متعد في حفرها) ش: لأن له أن يحفر بئرا خارج حريم الأولى، والحافر مسبب، فإذا لم يكن متعديا في السبب لا ضمان عليه.
والأصل فيه: أن الماء تحت الأرض غير مملوك لأحد فليس له أن يخاصمه في تحويل ماء بئره إلى بئر الثاني كالتاجر إذا كان له حانوت وآخر أخذ بجنبه حانوت آخر مثل تلك الحانوت فكسد من تجارة الأول لم يكن له أن يخاصمه. وكذا لو حفر بئرا في ملكه أعمق من البئر التي في دار جاره فجرى إليها الماء. أما لو بنى في داره حماما فضر الجار بدخانه، أو حفر بئرا مزبلة في جنب دار جاره يتضرر برائحته، أو جعل داره مخبزا في وسط العطاوس ونحوه مما يؤذي جاره منه خلافا للشافعي، وأحمد -رحمهما الله - في رواية. وعنه في رواية كقولنا، الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه تصرف في ملكه فأشبه بنائه ونقضه.
ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر، ولا ضرار في الإسلام» وهو إضرار بجاره فيمنع كمنع الدق الذي يهز الحيطان ويخربها، وكإلقاء السماد، والرماد، والتراب ونحوه في أصل حائطه على وجه يضر به.
م: (وللثاني الحريم من الجوانب الثلاثة دون الجانب الأول لسبق ملك الحافر الأول فيه) ش: لأن ذلك القدر ملكه لسبق يده وحيازته بإذن الإمام م: (والقناة) ش: وهي مجرى الماء تحت الأرض وارتفاعها بالابتداء وخبرها الجملة، أعني قوله م: (لها حريم) ش: والضمير العائد، أي القناة باعتبار المجري م: (بقدر ما يصلحها) ش: أي بقدر ما يصلح القناة، هذا من مسائل الأصل، ذكره تفريعا، ذكر فيه: إذا خرج قناة في أرض فرات فهي بمنزلة البئر فلها من الحريم ماء للبئر ولم يزد على هذا. وقال في " الشامل ": القناة لها حريم مفوض إلى رأي الإمام، لأنه لا نص في الشرع.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وفي " شرح الوجيز ": حريمه المقدار الذي لو حفر نقض ماءه أو جفت(12/303)
وقيل: هو عندهما، وعنده لا حريم لها ما لم يظهر الماء على الأرض؛ لأنه نهر في التحقيق، فيعتبر بالنهر الظاهر قال: عند ظهور الماء على الأرض هو بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمه بخمسمائة ذراع
والشجرة تغرس في أرض موات لهم حريم أيضا، حتى لم يكن لغيره أن يغرس شجرا في حريمها؛ لأنه يحتاج إلى حريم له يجد فيه ثمره، ويضعه فيه، وهو مقدر بخمسة أذرع من كل جانب، به ورد الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنهاره والكناسة، ويختلف ذلك باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها. م: (وقيل: هو عندهما) ش: أي الذي ذكره في " الأصل " هو قول أبي يوسف، ومحمد -رحمهما الله -، م: (وعنده) ش: أي وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لا حريم لها ما لم يظهر الماء على الأرض؛ لأنه نهر في التحقيق) ش: أي لأن القناة نهر في الحقيقة، ولا حريم للنهر عنده، أشار إليه بقوله: م: (فيعتبر بالنهر الظاهر) ش: حيث لا حريم له.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (عند ظهور الماء على الأرض فهو بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمه بخمسمائة ذراع) ش: وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الخراج ": وأجعل للقناة من الحريم ما لم يمسح عل وجه الأرض، مثل ما أجعل للآبار، فإذا ظهر الماء على وجه الأرض جعلت حريمه كحريم النهر. وقال أيضا في كتاب " الخراج ": ولو أن رجلا له قناة فاحتفر رجل بجنبها قناة فأجراهما من تحتها أو من فوقها كان لصاحب القناة أن يمنعه من ذلك ويأخذه لطمها، فإذا كان أذن له في احتفارها فحفرها فله أن يمنعه بعد ذلك إن شاء، ولا غرم عليه في الإذن ما خلا خصلة أن يكون أذن له ووقت وقتا ثم منعه من ذلك قبل أن يجيء الوقت، فإذا كان على هذا: ضمن له قيمة البناء، ولم يضمن قيمة الحفر.
م: (والشجر تغرس في أرض موات لها حريم أيضا، حتى لم يكن لغيره) ش: أي لغير الغارس م: (أن يغرس شجرا في حريمها؛ لأنه يحتاج إلى حريم له يجد فيه ثمره ويضعه فيه) ش: أي لأن الغارس يحتاج إلى حريم يقطع فيه ثمرة الشجرة ويضعه فيه م: (وهو مقدر بخمسة أذرع من كل جانب) ش: أي حريم الشجرة مقدر بخمسة أذرع م: (وبه ورد الحديث) ش: أي بهذا المقدار ورد الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو ما رواه أبو داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " سننه " - في آخر الأقضية " عن عبد العزيز بن محمد، عن أبي طوالة، عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «اختصم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان في حريم نخلة. في حديث أحدهما: فأمر بها فذرعت فوجدت سبعة أذرع، وفي حديث آخر: فوجدت خمسة أذرع، فقضي بذلك، قال عبد العزيز: فأمر بجريدة من جريدها فذرعت» انتهى. سكت عليه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم المنذري بعده.(12/304)
قال: وما ترك الفرات أو الدجلة، وعدل عنه الماء، ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه
لحاجة
العامة إلى كونه نهرا. وإن كان لا يجوز أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريما لعامر لأنه ليس في ملك أحد؛ لأن قهر الماء يدفع قهر غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " ولفظه قال: «اختصم رجلان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نخلة فقطع منها جريدة ثم ذرع بها النخلة فإذا فيها خمسة أذرع فجعلها حريمها» .
ومن جهة الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره عبد الحق في " أحكامه " قال: قال أبو داود: خمسة أذرع أو سبعة.
وروى الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مستدركه " في كتاب " الأحكام " عن موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في النخلة أن حريمها مبلغ جريدها» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرجه الطبراني في " معجمه " عن محمد بن ثابت العبدي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حريم النخلة مد جريدها» وأخرجه أبو داود في " المراسيل " عن عروة بن الزبير قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حريم النخلة طول عسيبها» .
م: (قال: وما ترك الفرات أو الدجلة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفرات نهر أصله في شمالي أرض الروم من جهة الشرق يسير منها إلى أن يجاوز قلعة الروم من جهة شمال حصنها وشرقيها ثم يسير إلى البئر قبلها، ثم يشرق إلى بالس وقلعة حصن، ثم الرقة، ثم الرحبة، ثم إلى عانة، ثم هيت، ثم إلى الكوفة، ثم يخرج إلى قضاء العراق ويصب في بطائح كبار.
وأما دجلة فهي بكسر الدال مخرجه من بلاد الروم، ثم يمر في آمن وحصن كيفا وجزيرة ابن عمر، والموصل، وتكريت، وبغداد، وواسط، والبصرة، ثم يصب في بحر خراسان م: (وعدل عنه الماء) ش: أي ما ترك الفرات أو دجلة، ومعنى عدل عنه: انكشف عنه وأخذ موضعا غيره.
م: (ويجوز عوده إليه) ش: أي والحال أنه يجوز عوده إليه، أي إلى ما ترك عنه، ومعنى يجوز: يمكن، م: (لم يجز إحياؤه لحاجة العامة إلى كونه نهرا، وإن كان لا يجوز) ش: أي لا يمكن م: (أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريما لعامر؛ لأنه ليس في ملك أحد؛ لأن قهر الماء يدفع قهر غيره)(12/305)
وهو اليوم في يد الإمام.
قال: ومن كان له نهر في أرض غيره، فليس له حريم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يقيم بينة على ذلك. وقالا: له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه. قيل: هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده، وعندهما يستحقه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأن شرط الإحياء أن تكون الأرض في قهر آدمي م: (وهو اليوم في يد الإمام) ش: أي متروك الفرات ودجلة اليوم في يد الإمام فيقف إحياؤه على إذن الإمام.
وقال أبو يوسف في كتاب " الخراج ": إذا نضب الماء عن جزيرة في دجلة فليس لأحد أن يحدث فيها شيئا ما؛ ولأن رمال يسع مثل هذه الجزيرة إذا خصصت وزرعت كان ذلك ضررا على أهل المنازل، فلا يسع الإمام أن يفعل شيئا من هذه، ولا يحدث فيه حدث، فأما إن كان خارجا عن المدينة فهي بمنزلة يجنبها الرجل ويؤدي عنها حق السلطان.
ولو أن رجلا أتى طائفة في البطيحة مما ليس فيه ملك لأحد قد غلب عليه الماء فضرب عليه المنيات واستخرجه وأحياه وقطع ما فيه من القصب فإنها بمنزلة الأرض الميتة، وكذا كل ما عالج في أجمة أو بحر أو بر بعد أن لا يكون فيه ملك لإنسان فاستخرجه رجل وعمره فهو له وهو بمنزلة الموات.
ولو أن رجلا أحيا من ذلك ما كان له مالك قبله رددت ذلك إلى الأول ولم أجعل للثاني فيه حقا، فإن كان الثاني قد زرع فيه قبله نزعه وهو ضامن لما نقص من الأرض، وليس عليه أجر وهو ضامن لما قطع من قصبها، فكذلك ولو كانت هذه الأرض في البرية فيها نبات؛ لأنها بمنزلة القصب، إلى هنا لفظ كتاب " الخراج ".
م: (قال: ومن كان له نهر في أرض غيره، فليس له حريم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فمن كشف الغوامض الخلاف في نهر كبير لا يحتاج إلى كريه في كل وقت. أما إذا كان صغيرا بحيث يحتاج إلى كريها في كل وقت فله حريم بالاتفاق اعتبارا بالبراء م: (إلا أن يقيم بينة على ذلك) ش: أي على أن له حريما.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف، ومحمد -رحمهما الله -: م: (له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه) ش: قال في " الصحاح ": المسناة العرم وهو ما يبنى على حافة المسيل لرد الماء م: (قيل: هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده، وعندهما يستحقه) ش: قال فخر الإسلام وغيره في " شرح الجامع الصغير " من أصحابنا: من قال أصل هذه المسألة أن من أحيا نهرا في أرض موات هل يستحق له حريمها؟ قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يستحقه.(12/306)
لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر وإلى إلقاء الطين، ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر. وله: أن القياس يأباه على ما ذكرناه، وفي البئر عرفناه بالأثر والحاجة إلى الحريم فيه فوقها إليه في النهر؛ لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم،
، ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء، ولا استقاء إلا بالحريم فتعذر الإلحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال عامتهم: الصواب أنه يستحق للنهر حريما بالإجماع استدلالا بنص صاحب الشرع في حريم البئر؛ لأن النهر لا يستغني عن الحريم، كما لا يستغني البئر عنه.
وإنما اختلف أبو حنيفة وصاحباه في وضع الاشتباه وهو أن يكون الحريم موازنا للأرض لا فاصل بينهما، وأن لا يكون الحريم مشغولا بحق أحدهما كالطين والغرس. وأما إذا كان مشغولا بحق أحدهما فهو أحق به بالإجماع؛ لأنه ظهرت يده عليه بالشغل. وقال فخر الدين قاضي خان: وكذلك إذا كانت المسناة ترتفع من الأرض فهي لصاحب النهر؛ لأن الظاهر أن ارتفاعه لإلقاء طينه.
م: (لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر) ش: أي ولا يمكنه المشي في باطن النهر عادة، وهذا ظاهر م: (وإلى إلقاء الطين) ش: أي وحاجته إلى إلقاء طين النهر م: (ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج، فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر) ش: أي قياسا على حريم البئر.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن القياس يأباه لما ذكرناه) ش: أي يأتي، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا» . م: (وفي البئر عرفناه بالأثر والحاجة إلى الحريم فيه) ش: أي في البئر، والتذكير باعتبار القليب أو الجب م: (فوقها إليه في النهر) ش: أي فوق الحاجة إلى الحريم في النهر، وهذا جواب عمن قاس النهر على البئر، تقريره: أن الحاجة في النهر متحققة في الحال، وفي النهر موهومة باعتبار الإكراء، وقد لا يحتاج إليه، والانتفاع في البئر لا يأتي بدون الحريم، وفي النهر يتأتى م: (لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم) ش: غير أنه يلحقه بعض الحرج في نقل الطين والمشي في وسطه.
[الانتفاع في البئر بالحريم]
م: (ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء) ش: أي لا يمكن الانتفاع في البئر إلا بنزح الماء م: (ولا استقاء إلا بالحريم) ش: لأنه يحتاج إلى مد الحبل ودوران الحيوان ونحوهما م: (فتعذر الإلحاق) ش: إذا كان ذلك يتعذر إلحاق النهر بالبئر، لأن البئر منصوصة، والنهر غير منصوص، فأخذنا فيه بالقياس. ألا ترى أن من بنى قصرا في مفازة لا يستحق بذلك حريما وإن كان يحتاج إلى ذلك لإلقاء الكناسة فيه لعدم ورود النص، إذ الحريم عندهما اعتبار، أي من حيث اعتبار الاستحقاق(12/307)
ووجه البناء أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر والقول لصاحب اليد وبعدم استحقاقه تنعدم اليد، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن كانت مسألة مبتدأة، فلهما: أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به، ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه، وله: أنه أشبه بالأرض صورة، ومعنى أما صورة فلاستوائهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا حقيقة، لأن حقيقة أن يكون طينة ملقى فيه يحتاج إلى التقدير، فنصب المقادير لا يكون بالرأي، كذا في " المبسوط ".
م: (ووجه البناء) ش: أي وجه بناء مسألة المختصر على مسألة من أحيا نهرا على المذهبين بالرأي، كذا في " المبسوط ": م: (أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر) ش: أي لأجل التبعية للنهر الذي عليه اليد حقيقة م: (والقول لصاحب اليد) ش: في المنازعة، وقوله ووجه البناء إلى ها هنا من جهة أبي يوسف ومحمد وقوله م: (وبعدم استحقاقه تنعدم اليد، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى من جهة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي وبعدم استحقاق صاحب النهر الحريم تنعدم اليد) ش: أي يد صاحب النهر على الحريم، والظاهر يشهد لصاحب الأرض، يعني الحريم. وإن اتصل بالنهر أيضا فالظاهر أنه لصاحب الأرض فالقول لمن يشهد له الظاهر.
والتحقيق في هذا الموضع: أن عند أبي حنيفة إذا لم يكن له حريم فيما إذا أحيا نهرا في أرض موات بإذن الإمام ولم يكن مدعي الحريم صاحب اليد في الحريم، فلا يكون الحريم له، بل يكون لصاحب الأرض، لأنه أشبه بالأرض، فيكون الظاهر يشهد له. وعندهما كان له حريم تبعا للنهر، فإذا ثبتت يده يكون القول لصاحب اليد.
م: (وإن كانت مسألة مبتدأة) ش: يعني وإن كان مسألة من له نهر في حريم غيره مسألة ابتدائية غير مبنية على مسألة من أحيا نهرا في أرض موات م: (فلهما) ش: أي فلأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله - م: (أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به) ش: أي بالحريم، فيكون مستعملا لحريم النهر والاستعمال يد، فباعتبار أنه في يده جعل القول قوله كما لو تنازعا في ثوب وأحدهما لابسه م: (ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه) ش: أي ولأجل ذلك لا يملك صاحب الأرض نقض الحريم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن الحريم م: (أشبه بالأرض صورة ومعنى) ش: أي من حيث الصورة ومن حيث المعنى م: (أما صورة فلاستوائهما) ش: أي أما الصورة فلاستواء الأرض، وأشار بهذا إلى أن الخلاف فيما إذا لم يكن المسناة مرتفعة على الأرض، فأما إذا كانت المسناة أرفع من الأرض فهي لصاحب النهر إذ الظاهر أن ارتفاعها لإلقاء طينه م:(12/308)
ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة. والظاهر شاهد لمن في يده ما هو أشبه به كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك،
ولا نزاع فيما به استمساك الماء إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس على أنه إن كان مستمسكا به ماء نهره، فالآخر دافع به الماء عن أرضه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما]
(ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة) ش: أي وأما معنى من حيث صلاحية الحريم لغرس الأشجار وزراعة الزارع.
م: (والظاهر شاهد لمن في يده ما هو أشبه به) ش: أي بالحريم م: (كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه) ش: وهو المصراع الذي ليس في يد أحدهما، فإنه أشبه بالمصراع الذي في باب أحدهما، فيقضى له، لأن الظاهر يشهد له، وهذا هو الذي وعده بقوله على ما نذكره إن شاء الله تعالى م: (والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك) ش: أي قضاء في مسألة من كان له نهر في أرض غيره قضاء ترك لا قضاء ملك استحقاق. فلو أقام صاحب النهر البينة بعد هذا على المسناة ملكه يقبل بينته. ولو كان قضاء ملك لما قبلت بينته، لأن المقضي عليه في حادثة قضاء ملك لا يصير مقضيا له فيها.
وقال تاج الشريعة: ويعني بقضاء الترك أن يترك في يد صاحب الأرض، وعندهما في يد صاحب النهر، والفرق بين قضاء الترك وقضاء الإلزام: أن في قضاء الإلزام من صار مقضيا عليه في حادثة لا يصير مقضيا له بعد ذلك في تلك الحادثة أبدا. وفي قضاء الترك: يجوز أن يكون مقضيا له وفرق آخر أنه لو ادعى ثالث لا يقبل بينته في قضاء الإلزام إلا بالتلقي من جهة صاحب اليد، وفي قضاء الترك: تقبل.
م: (ولا نزاع فيما به استمساك الماء) ش: هذا جواب عن قولهما: أن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته، كذا قال الأترازي. والصواب: أنه جواب عن قولهما أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به، كما ذهب إليه الكاكي وغيره م: (إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس) ش: الشجر هل له ذلك أم لا؟ م: (على أنه إن كان مستمسكا به) ش: أي على أن صاحب النهر إن كان مستمسكا بالحريم م: (ماء نهره فالآخر) ش: وهو صاحب الأرض م: (دافع به الماء عن أرضه) ش: فقد استويا في استعمال الحريم وترجح صاحب الأرض من الوجه الذي قدرنا، ولكن ليس له أن يهدمه، لأن لصاحب النهر حق استمساك الماء في نهره، فلا يكون لصاحب الأرض أن يبطله.(12/309)
والمانع من نقضه تعلق به حق صاحب النهر لا ملكه كالحائط لرجل، ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه وإن كان ملكه. وفي " الجامع الصغير ": نهر لرجل إلى جنبه مسناة، ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها، وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك وقوله: وليست المسناة في يد أحدهما معناه: ليس لأحدهما عليه غرس، ولا طين ملقى، فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف، أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك فصاحب الشغل أولى؛ لأنه صاحب يد، ولو كان عليه غرس لا يدري من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا، وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده، وعندهما لصاحب النهر، وأما إلقاء الطين فقد قيل: إنه على الخلاف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمانع من نقضه) ش: جواب عن قولهما: ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه، يعني المانع من عدم تمكن صاحب الأرض من نقض الحريم وهو المسناة م: (تعلق به حق صاحب النهر لا ملكه كالحائط لرجل، ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه) ش: أي ولا يتمكن صاحب الحائط من نقض الحائط لأجل تعلق صاحب الجذوع مع أن الحائط ملك لصاحبه أشار إليه بقوله م: (وإن كان ملكه) ش: أي وإن كان الحائط ملك صاحب الحائط وإن هذه واصلة.
م: (وفي " الجامع الصغير ": نهر لرجل إلى جنبه مسناة، ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك) ش: إنما ذكر عبارة " الجامع الصغير " ليبين موضع الخلاف، وصورتها فيه: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في نهر لرجل إلى جنبه مسناة في يد أحدهما.
م: (وقوله) ش: أي وقول محمد في " الجامع " م: (وليست المسناة في يد أحدهما معناه: ليس لأحدهما عليه غرس ولا طين ملقى) ش: أي على المسناة، والتذكير باعتبار الحريم وملقى -بضم الميم وسكون اللام وفتح القاف - وهو مفعول من الإلقاء م: (فينكشف بهذا اللفظ) ش: أي بقوله وليست المسناة في يد أحدهما م: (موضع الخلاف) ش: بين أبي حنيفة وصاحبيه.
م: (أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك) ش: أي على المسناة بتأويل الحريم كما ذكرنا ذلك، أي الغرس أو الطين الملقى م: (فصاحب الشغل أولى، لأنه صاحب يد فهو أولى بلا خلاف ولو كان عليه غرس) ش: أي على المسناة بتأويل الحريم م: (لا يدري من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا) ش: يعني عند أبي حنيفة: الغرس لصاحب الأرض. وعندهما: لصاحب النهر.
م: (وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس) ش: والزرع على المسناة م: (لصاحب الأرض عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (وعندهما لصاحب النهر، وأما إلقاء الطين فقد قيل: إنه على الخلاف) ش:(12/310)
وقيل: إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش. وأما المرور فقد قيل: يمنع صاحب النهر عنده، وقيل: لا يمنع للضرورة. قال الفقيه أبو جعفر: أخذ بقوله في الغرس، وبقولهما في إلقاء الطين. ثم عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حريمه مقدار نصف بطن النهر من كل جانب. وعن محمد: مقدار بطن النهر من كل جانب. وهذا أرفق بالناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذكور م: (وقيل: إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش) ش: وفي " الكافي " هو الصحيح م: (وأما المرور فقد قيل: يمنع صاحب النهر عنده) ش: أي عند أبي حنيفة خلافا لهما.
م: (وقيل: لا يمنع للضرورة) ش: لأنه لا يجد بدا من إلقاء الطين ونقله إلى موضع بعيد حرج عظيم م: (قال: الفقيه أبو جعفر) ش: وهو: محمد بن عبد الله بن محمد الهندواني تمليذ أبي بكر الأعمش تلميذ أبي بكر الإسكاف تلميذ محمد بن سلمة تلميذ ابن سليمان الجرجاني تلميذ محمد بن الحسن توفي سنة اثنين وستين وثلاثمائة م: (أخذ بقوله) ش: أي بقول أبي حنيفة م: (في الغرس، وبقولهما في إلقاء الطين) ش: أراد: أن لصاحب الأرض أن يغرس، ولصاحب النهر أن يلقي الطين على حافته، وكل منهما يفعل ما لا يمنع الآخر عن حقه.
م: (ثم عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن حريمه) ش: أي حريم النهر م: (مقدار نصف بطن النهر من كل جانب) ش: يعني يمسح بطن النهر فيجعل مقدار ذلك نصفه من هذا الجانب م: (وعن محمد: مقدار بطن النهر من كل جانب) ش: يعني يجعل مقدار بطن النهر من هذا الجانب م: (وهذا أرفق بالناس) ش: أي ما روي عن محمد: أرفق بالناس الذين هم أهل النهر، ولم يذكر قدر الحريم على قولهما في " الأصل "، بل قال له من الحريم قدر ما يستغني عنه النهر.
وكذلك لم يقدر في " الجامع الصغير " فقال خواهر زاده في " مبسوطه ": قالوا: قد ذكر في " النوادر " في تقدير الحريم خلافا بينهما، فعلى قول محمد: يمسح بطن النهر لم يجعل له من كل جانب نصف بطن أرض النهر. وقال أبو يوسف: من كل جانب مقدار بطن النهر.
وذكر أبو الليث خلاف هذا، وهذا الذي ذكره المصنف وعليه اعتمد في " شرح الطحاوي " و " المختلف ". وقال بعض المشايخ: ينظر إلى مقدار ما يحتاج إليه بغير تقدير، كذا قال أبو الليث في " شرحه ".(12/311)
فصول في مسائل الشرب
فصل في المياه
وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة، والشفة: الشرب لبني آدم والبهائم، اعلم أن المياه أنواع، منها: ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأرض، حتى إن من أراد أن يكري نهرا منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصول في مسائل الشرب]
[الانتفاع بماء البحر]
م: (فصول في مسائل الشرب) ش: أي هذه فصول في بيان أحكام مسائل الشرب هذه الفصول كلها ليست بمذكورة في " البداية "، لأنها ليست في " الجامع الصغير " و " مختصر القدوري "، وإنما ذكرها شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في " شرح كتاب الشرب ".
وإنما ذكر إحياء الموات عقيب مسائل الشرب الاحتياج إلى الماء، وقد فصل المياه عن الكري، لأن الماء هو المقصود، والشرب بكسر الشين وهو الصب من الماء. م: (فصل في المياه) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام المياه وهو جمع ماء، ويجمع على أمواه أيضا، وهو جوهر سيال مروي للعطش منبت للزرع.
م: (وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة، والشفة: الشرب لبني آدم والبهائم) ش: أصل الشفة شفهة ولهذا يقال في تصغيرها شفيهة، وفي جمعها شفاه، وحذفت الهاء تخفيفا، والمراد هنا: الشرب بالشفاه، ويقال هم أهل الشفة أي لهم حق الشرب سقاءهم، وأن يسقوا دوابهم.
م: (اعلم أن المياه أنواع، منها: ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأرض، حتى إن من أراد أن يكري نهرا) ش: أي يحفر م: (منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء) ش: ينبغي أن يكون المراد من البحار ها هنا الأنهار العظيمة جدا كالنيل الذي بمصر، ونهر الأيل الذي ببلاد دمشق، ونهر تان بالتاء المثناة من فوق التي عرى الإبل.
ونهر طناء -بضم الطاء المهملة وبالنون - الذي بالبلاد الشمالية. ونهر أشغلة الذي بالأندلس، وأمثال ذلك بأن كل نهر منها يطلق عليه بحر، وليس المراد بها البحار الملح فإنها لا ينتفع بها أصلا لا في الشفة ولا في سقي الأراضي.(12/312)
والثاني: ماء الأودية العظام كجيحون، وسيحون، ودجلة، والفرات للناس فيه حق الشفة على الإطلاق، وحق سقي الأراضي، فإن أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منها نهرا ليسقيها إن كان لا يضر بالعامة، ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك؛ لأنها مباحة في الأصل إذ قهر الماء يدفع قهر غيره. وإن كان يضر بالعامة، فليس له ذلك؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك في أن يميل الماء إلى هذا الجانب إذا انكسرت ضفته فيغرق القرى والأراضي، وعلى هذا نصب الرحى عليه " لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به ". والثالث: إذا دخل الماء في المقاسم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والثاني) ش: أي النوع الثاني م: (ماء الأودية العظام كجيحون، وسيحون، ودجلة، والفرات) ش: قال تاج الشريعة: جيحون نهر خوارزم، وسيحون نهر الترك، ودجلة بغير حرف التعريف نهر بغداد، والفرات نهر الكوفة، وتبعه الشراح على هذا، وقال الكسائي: في " الملكوت ": سيحون نهر المصعصة، وجيحون نهر بلخ.
قلت: الحق في هذا الذي ذكره المحدثون في تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فجرت أربعة أنهار من الجنة النيل والفرات وسيحان وجيحان» ، رواه أحمد وغيره أن جيحون يقال له: جيحان، وتسميها العامة جاحان أصله في بلاد الروم ويسير من بلاد الصين من الشمال إلى الجنوب، ثم يجمع هو وسيحون عند أريونصان في بحر الروم بين أياس وطرسوس. وأما دجلة والفرات وقد ذكرناهما نحن قريبا عند قوله: وما ترك الفرات أو دجلة.
م: (للناس فيه حق الشفة على الإطلاق) ش: يعني في جميع الأحوال م: (وحق سقي الأراضي، فإن أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منها نهرا ليسقيها) ش: أي حفر منه نهرا لسقي الأرض التي أحياها، وإنما يجوز ذلك م: (إن كان لا يضر العامة، ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك؛ لأنها مباحة) ش: أي لأن ماء الأودية العظام مباحة م: (في الأصل إذ قهر الماء يدفع قهر غيره) ش: أشار بذلك إلى أن أحدا ليس له قهر في هذا الموضع بقوة المياه فيها.
م: (وإن كان) ش: أي كون النهر منها م: (يضر بالعامة، فليس له ذلك؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك) ش: أشار إلى بيان الضرر م: (في أن يميل الماء إلى هذا الجانب إذا انكسرت ضفته) ش: أي حافته، وهي بكسر الضاد وفتحها، كذا في " المغرب ". وذكر في " الديوان " بالكسر جانب النهر وبالفتح جماعة الناس.
قلت: هذا انتهى م: (فيغرق القرى والأراضي، وعلى هذا نصب الرحى عليه) ش: أي وعلى التفصيل المذكور نصب الطاحون على النهر الذي يسيل من ماء الأودية العظام إن كان لا يضر بالعامة جاز وإلا فلا م: (لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به) ش: أي ليسقي الأراضي.
م: (والثالث) ش: أي النوع الثالث: م: (إذا دخل الماء في المقاسم) ش: أي إذا دخل في قسمة(12/313)
فحق الشفة ثابت،
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوم فقسمه الإمام بينهم م: (فحق الشفة ثابت) ش: في هذا القسم فالناس شركاء فيه في حق الشفة والسقي أنفسهم ودوابهم، وإن أتى في ذلك على المأكلة وليس لأهله أن يمنعوا أحدا من الشفة والسقي.
[الشركة في الماء والكلأ والنار]
م: (والأصل فيه) ش: أي فيما ذكر من الأنواع م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» ش: هذا الحديث رواه ثلاثة من الصحابة: الأول: عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه ابن ماجه في " سننه " عن عبد الله بن خداش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» .
قال عبد الحق في " الأحكام ": قال البخاري: عبد الله بن خداش عن العوام أن حوشب: منكر الحديث، وضعفه أيضا أبو زرعة، وقال فيه أبو حاتم: ذاهب الحديث.
الثاني: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا يحيى الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن زيد بن جبير عن ابن عمر قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» .
الثالث: رجل من الصحابة أخرج حديثه أبو داود في " سننه في البيوع " عن علي بن الجعد عن حريز بن عثمان «عن أبي خداش بن حبان بن زيد عن رجل من الصحابة قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثا، أسمعه يقول: " المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» .
ورواه أحمد في " مسنده " وابن أبي شيبة في " مصنفه - في الأقضية "، وأسند ابن عدي في " الكامل " عن أحمد، وابن معين أنهما قالا في حريز: ثقة، وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة أبي داود وقال: لا أعلم روى عن أبي خداش إلا حريز بن عثمان، وقد قيل فيه: مجهول. وقال البيهقي في " المعرفة ": وأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم ثقات، وترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضر إن لم يعارضه ما هو أصح منه.
قلت: حريز بن عثمان -بفتح الحاء وكسر الراء المهملة وفي آخره زاي معجمة -. وأبو(12/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خداش -بكسر الخاء المعجمة وبالدال المهملة وفي آخره شين معجمة - واسمه حبان بن زيد السرعني الحمصي. وحبان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة -.
وروى أبو يوسف في كتاب " الخراج " حدثنا المعلى بن كثير عن مكحول قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا ماءا ولا كلأ ولا نارا، فإنه متاع للمقوين وقوة للمستضعفين» .
قوله: " ثلاث " قال الشراح: القياس أن يقول في ثلاثة تغليبا للمذكر، ولكن إذا لم يذكر المعدود يجوز أن يؤنث، ونظيره: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال» . وستة إنما يستعمل في الليلة، ولكن لما لم يذكر المعدود وهو الأيام أنث.
قلت: فيه نظر، لأن ها هنا معدود وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «في الماء والكلأ والنار» .
وأما حديث صوم رمضان وأتبعه بستة من شوال فلم يذكر المعدود فيه فلا يصح التنظير. قوله: " والكلأ " -بفتح الكاف واللام، وفي آخره همزة - على وزن فعل كشجر وشجر. وقال الإمام خواهر زاده: الكلأ كل ما ينجم على وجه الأرض، أي يبسط وينشر، ولا يكون له ساق كالإذخر ونحوه، وما كان له ساق يكون شجر الأكل، والدليل على صحة ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] (الرحمن: الآية 6) .
قالوا: ما قام الساق والنجم ما انبسط وانتشر على وجه الأرض، فعلى هذا قالوا: الشوك الأحمر من الشجر لا من الكلأ، وكذلك الشوك الأبيض الذي يقال له: العرقد من الشجر، لأنه يقوم بساق حتى لو نشأ في أرض مملوكة فجاء إنسان وأخذ ذلك كان لصاحب الأرض أن يسترد منه.
وأما الشوك الأخضر الذي يأكله الإبل ويقال له: الخارج ففيه اختلاف المشايخ، حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل كان يقول: من جملة الكلأ والحشيش. والفقيه أبو جعفر الهندواني يقول: من جملة الشجر، قالوا: روي عن محمد فيه في " النوادر " روايتان: في رواية: جعله من الكلأ، وفي رواية: جعله من جملة الشجر.
واختلف الجواب لاختلاف الموضوع، لأنه أراد برواية الكلأ ما ينبسط منه على وجه الأرض، ولا يكون له ساق، وأراد بالرواية الأخرى ما قام على الساق ولا ينجم على وجه الأرض، والسويق من الشجر لأنه يقوم على ساق، انتهى كلام خواهر زاده. وقال الجوهري: الكلأ والعشب وقد أكلت الأرض كلئت الأرض وأكلأت فهي أرض مكلئة وواسية وكلئية،(12/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ذات كلأ، سواء كانت رطبة أو يابسة.
وقال في " المغرب ": والظاهر أنه يقع على ذي ساق وغيره، وفسر في " العزيز " الكلأ بالنبات، ثم إن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاث» شركة إباحة لا شركة ملك ممن سبق إلى أخذ شيء من ذلك في وعاء أو غيره وأحرزه فهو أحق به، وهو ملك له دون من سواه، ويجوز له تمليكه بجميع وحدة التمليك، وهو موروث عنه، ويجوز فيه وصاياه كما يجوز في أملاكه، فإن أخذه منه أخذ بغير إذنه ضمنه كما يضمن سائر أملاكه، وما لم يسبق إليه أحد فهو لجماعة المسلمين فهو مباح على ما كان إليه أو لا، هكذا ذكره الكرخي في " مختصره ".
ثم إنك قد عرفت الماء على أربعة أنواع كما ذكره المصنف مستقصى. وأما الشركة في الكلأ على أوجه بعضها أعم من بعض، والأعم أن يكون الحشيش في أرض لا تكون مملوكة لأحد يكون الناس شركاء في ذلك من الرعي والاحتشاش، فليس لأحد أن يمنع إنسانا من ذلك وهي كالشركة في ماء البحار وشركة أخرى أخص من هذه.
وهو أن يكون الكلأ في أرض مملوكة بنفسه لا بإنبات صاحب الأرض يكون للناس فيه شركة، حتى لو أخذه إنسان كان ما أخذه ملكا له، إلا أن لصاحب الأرض أن يمنعه من الدخول في أرضه لأجل الكلأ، ذكر محمد هذا القدر في الكتاب، ولم يزد عليه، إلا أن مشايخنا زادوا على ذلك، قال: إذا وفق المنازعة بين صاحب الأرض والذي يريد الكلأ لا بد من اعتبار منازعتها، لأن صاحب الأرض يمنعه من الدخول في ملكه، وهذا الطلب حقه، لأن له شركة في الكلأ.
وإذا وجب اعتبار المنازعة يقول إن كان يجد المريد الكلأ في موضع آخر غير مملوك لأحد قريب من تلك الأرض، يقال له: خذ من ذلك. وإن لم يجد يقال لصاحب الأرض: إما أن تعطيه بيدك أو ائذن له حتى يدخل فيأخذ حقه، كمن أتى كرم إنسان وفي حوضه ماء وأراد الدخول في كرمه ليأخذ الماء فمنعه صاحب الكرم، إن كان يجدها في موضع آخر غير مملوك لأحد قريب منه يقال له: ائت ذلك المكان خذ منه، وإن كان لا يجد يقال لصاحب الأرض: إما أن تعطيه بيدك أو ائذن له حتى يدخل ويأخذ منه، وشركة أخرى أخص من ذلك كله وهو: أن يحشر الكلأ أو ينبت الكلأ في أرضه، فإنه لا يكون مملوكا له وينقطع حق غيره ولا يكون لأحد أخذ ذلك بوجه، إلا أنه تبقى شبهة الشركة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاثة» ، حتى لو سرقه لا تقطع يده.
وأما الشركة في النار فعامة، قال شيخ الإسلام خواهر زاده في كتاب الشرب: وهو أن(12/316)
وأنه ينتظم الشرب، والشرب خص منه الأول، وبقي الثاني وهو الشفة، ولأن البئر ونحوها ما وضع للاحتراز، ولا يملك المباح بدونه كالظبي إذا تكنس في أرضه، ولأن في إبقاء الشفة ضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره، فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم،
، وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر؛ لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة، ولأنا لو أبحنا ذلك لانقطعت منفعة الشرب. والرابع: الماء المحرز في الأواني، وأنه صار مملوكا له بالإحراز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل إذا أوقد نارا في مفازة، فإن هذه النار مشتركة بينه وبين الناس أجمع حتى لو جاء إنسان وأراد أن يستضيء بضوء هذه النار، أو أراد أن يخيط ثوبا له حول النار أو يصطلي بها في زمن البرد، أو يتخذ منه سراجا لا يكون لصاحب النار العرض منه، إلا أن يكون أوقد النار في موضع مملوك له فإن له أن يمنعه من الانتفاع بملكه لا بالنار، فأما إذا أراد أن يأخذ من قبيله سراجه أو شيئا من الجمرة فإن لصاحب النار أن يمنعه من ذلك لأنه ملكه، ولو أطلقناه للناس لم يبق له نار يصطلي بها ويخبز بها، وهذا وجه له.
م: (وأنه) ش: أي قوله: شركاء م: (ينتظم الشرب، والشرب) ش: أي يشمل بكسر الشين وهو النصيب من الماء، والشرب بضم الشين وهو فعل الشارب م: (خص منه الأول) ش: بالإجماع وهو النصيب من الماء م: (وبقي الثاني) ش: وهو الشرب بضم الشين م: (وهو الشفة) ش: أي والثاني هو الشفة وهو الشرب لبني آدم والبهائم.
م: (ولأن البئر ونحوها) ش: كالحوض م: (ما وضع للإحراز) ش: أي لإحراز الماء م: (ولا يملك المباح بدونه) ش: أي بدون الإحراز م: (كالظبي إذا تكنس في أرضه) ش: أي دخل في الكناس بكسر الكاف، وهو الموضع الذي تأوي إليه، يقال: كنس الظبي إذا تغيب واستمر في كناسه.
م: (ولأن في إبقاء الشفة ضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره) ش: أي مركبه م: (فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم) ش: والحرج مدفوع شرعا.
[الشركة في الماء المحرز في الأواني]
م: (وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر؛ لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة) ش: في ذلك م: (ولأنا لو أبحنا ذلك) ش: أي سقي أرضه م: (لانقطعت منفعة الشرب) ش: بضم الشين وهو الشفة.
م: (والرابع) ش: أي النوع الرابع من الأنواع المذكورة: م: (الماء المحرز في الأواني) ش: كالحباب والدنان والجوار ونحوها م: (وأنه) ش: أي هذا النوع من الماء م: (صار مملوكا له بالإحراز(12/317)
وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ، إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة نظرا إلى الدليل، وهو ما روينا حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده وهو يساوي نصابا لم تقطع يده.
ولو كان البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان لا يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر: إما أن تعطيه الشفة، أو تتركه يأخذه بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته، وهذا مروي عن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ) ش: لأنه يأخذه دخل في ملكه وانقطع حق الغير عنه كما في الصيد المأخوذ، لأنه يأخذه دخل في ملكه وانقطع حق عنه حتى لو أتلفه رجل يضمن قيمته.
م: (إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة) ش: أي لكن بقيت في هذا الماء شبهة الشركة م: (نظرا إلى الدليل، وهو ما روينا) ش: أراد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء......» الحديث م: (حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده وهو ما يساوي نصابا) ش: أي نصاب السرقة، وهو عشرة دراهم م: (لم تقطع يده) ش: للشبهة. فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يقطع في شيء ماء، لأنه سبحانه وتعالى قال: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فيورث شبهة بهذا الطريق.
قلت: ليس لها نظير ذلك، لأن فيما نحن فيه شركة في الأشياء المخصوصة بعد ثبوت الشركة العامة، ولهذا لم تورث الشركة العامة لشبهة في سقوط حد الزنا، لأنه لو زنى بأمة الغير يجب الحد، ولو زنى بأمة مشتركة بينه وبين غيره لم يجب الحد إذ لو عملنا بعموم قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] (البقرة: الآية 69) ، يلزم انسداد باب الحدود كلها وبطل العموم بالآيات الدالة عليها من نحو قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] (النور: الآية 2) ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] (المائدة: الآية 38) ، وهذا لا يصح، لأن العمل بخبر الواحد وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» إنما يصح أن لو بقي الكتاب معمولا عند العمل بخبر الواحد، فعلم أن المراد بالشبهة الخاصة لا العامة. وقال تاج الشريعة: في جواب هذا الاعتراض مقابلة الجمع يقتضي انقسام الأخذ في قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] (النساء: الآية 23) ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] (النساء الآية 24) ، ولا يجوز الزائد على الأربع، فكان معنى الشركة للناس عامة.
[النهر في ملك رجل أيمنعه ممن يريد الشفه]
م: (ولو كان البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر: إما أن تعطيه الشفة، أو تتركه حتى يأخذ بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته) ش: أي جانبه. م: (وهذا مروي عن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا الذي ذكرناه منقول عن الإمام الحافظ الفقيه أبو(12/318)
وقيل: ما قاله صحيح فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له. أما إذا احتفرها في أرض موات فليس له أن يمنعه؛ لأن الموات كان مشتركا والحفر والإحياء حق مشترك، فلا يقطع الشركة في الشفة، ولو منعه عن ذلك وهو يخاف على نفسه، أو ظهره العطش له أن يقاتله بالسلاح؛ لأنه قصد إتلافه بمنع حقه، وهو الشفة والماء في البئر مباح غير مملوك، بخلاف الماء المحرز في الإناء، حيث يقاتله بغير السلاح؛ لأنه قد ملكه، وكذا الطعام عند إصابة المخمصة،
، وقيل في البئر ونحوها: الأولى. أن يقاتله بغير سلاح بعصا؛ لأنه ارتكب معصية فقام ذلك مقام التعزير له، والشفة إذا كان يأتي على الماء كله بأن كان جدولا صغيرا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جعفر أحمد بن حميد بن سلامة الطحاوي المصري.
م: (وقيل: ما قاله صحيح) ش: أي قيل ما قال أبو جعفر الطحاوي: صحيح، م: (فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له. أما إذا احتفرها في أرض موات: فليس له أن يمنعه؛ لأن الموات كان مشتركا والحفر ولإحياء حق مشترك، فلا يقطع الشركة في الشفة) ش: أي لأجل إحياء حق مشترك، فإن العلة الحاصلة من هذا الشرب تكون مشتركة بين المالك ومصرف العشر أو مصرف الخراج إن كان الماء خراجيا.
م: (ولو منعه عن ذلك وهو يخاف على نفسه أو ظهره العطش له) ش: أي ومنعه صاحب البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملكه عن الدخول فيه، والحال أنه يخاف على نفسه أو مركبه العطش له م: (أن يقاتله بالسلاح؛ لأنه قصد إتلافه بمنع حقه، وهو الشفة والماء في البئر مباح غير مملوك) ش: لأنه لم يوجد منه آخر، أو كان مشتركا بين الناس، فإذا منعه منع حقه، ومنع حقا مستحقا لغيره كان لصاحب الحق أن يقاتل المانع بالسلاح ليصل إلى حقه، كما لو منع طعاما مشتركا بينه وبين المانع كان له أن يقاتل المانع بالسلاح.
م: (بخلاف الماء المحرز في الإناء، حيث يقاتله بغير السلاح؛ لأنه قد ملكه) ش: لأنه إذا أحرزه في قربة أوجب، أو كان شركة الغير وكان المريد للماء مضطرا إلى ذلك، فإنه يقاتله بلا سلاح نحو العصا م: (وكذا الطعام عند إصابة المخمصة) ش: أي وكذا حكم الطعام إذا منعه عن المريد عند المخمصة، فإنه يقاتله بدون سلاح.
م: (وقيل في البئر ونحوها: الأولى: أن يقاتله بغير سلاح بعصا؛ لأنه ارتكب معصية) ش: حيث ترك إحياء نفس قدر على إحيائها م: (فقام ذلك) ش: أي القتال معه بنحو العصا م: (مقام التعزير له) ش: لأن مرتكب المعصية يستحق التعزير تأديبا وزجرا عنه.
م: (والشفة إذا كان يأتي على الماء كله) ش: أي شرب الناس والدواب إذا كان نفي الماء ويستأصله م: (بأن كان جدولا صغيرا) ش: أي بأن كان النهر جدولا صغيرا.(12/319)
وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها، قيل: لا يمنع منه؛ لأن الإبل لا تردها في كل وقت، فصار كالمياومة، وهو سبيل في قسمة الشرب، وقيل: له أن يمنع اعتبارا بسقي المزارع، والمشاجر والجامع تفويت حقه، ولهم أن يأخذوا الماء منه للوضوء وغسل الثياب في الصحيح؛ لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه، كما قيل: يؤدي إلى الحرج، وهو مدفوع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها ألصاحب النهر المملوك منعه]
م: (وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها) ش: أي وكان في ورود الإبل والمواشي على هذا النهر كثرة بحيث ينقطع الماء عنه بشرب هؤلاء، خص بذكر الإبل وإن كانت داخلة في المواشي لاختصاصها بكثرة شرب الماء عند الورود لأنها غالبا لا ترد الماء إلا بعد عطش شديد، فتحمل ماء كثيرا.
م: (قيل: لا يمنع منه؛ لأن الإبل لا تردها في كل وقت، فصار كالمياومة) ش: أي فصار الجدول بينه وبينهم كالمياومة والمسابعة والمشاهرة م: (وهو سبيل في قسمة الشرب) ش: أي كونه كالمياومة طريق في قسمة الشرب بكسر الشين، قال سبحانه وتعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] (الشعراء: الآية 155) .
م: (وقيل: له أن يمنع اعتبارا يسقي المزارع، والمشاجر) ش: جمع المشجر وهو موضع الشجرة في " المبسوط " وعليه أكثر المشايخ م: (والجامع تفويت حقه) ش: أي الجامع بين منع الشفة من الجدول عند الاستئصال وبين منع سقي المزارع والمشاجر تفويت الحق في كل منهما، وذلك لأن النهر والقناة إنما يشق لسقي الأرض والشجر والزرع، فليس لغيره أن يسوي نفسه بالمستحق، ويضره فيما هو المقصود.
فكما له أن يمنع غيره من سقي أرضه وكسر ضفته باعتبار ذلك، فكذلك يمنع فيما نحن فيه، لأنه يتضرر به صاحب الحق. وعن أحمد: له سقي أرضه على وجه لا يكسر الضفة، وبقولنا قال أصحابنا والشافعي ومالك والقاضي الحنبلي.
م: (ولهم) ش: أي ولأهل الشفة م: (أن يأخذوا الماء منه) ش: أي عن النهر المملوك، أو عن البئر المملوك م: (للوضوء وغسل الثياب في الصحيح) ش: احتراز به عن ماء، قال بعض المشايخ: يتوضأ في النهر ويغسل الثياب فيه من الحرج ما لا يخفى م: (لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه) ش: أي في النهر والبئر م: (كما قيل: إلى الحرج، وهو مدفوع) ش: أي الحرج مدفوع شرعا. واختلفوا في التوضؤ بماء السقاية فقال بعضهم يجوز، وقال بعضهم: إن كان الماء كثيرا يجوز وإلا فلا وكذا كل ما أعد للشرب حتى قالوا في الحياض التي أعدت للشرب: لا يجوز منه التوضؤ، ويمنع فيه وهو الصحيح. ويجوز أن يحمل من ماء السقاية إلى بيته للشرب، كذا في " الفتاوى ".(12/320)
وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره له ذلك في الأصح، لأن الناس يتوسعون فيه، ويعدون المنع في الدناءة، وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل، وبئره وقناته إلا بإذنه نصا. وله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه، فلا يمكنه التسييل فيه، ولا شق الضفة، فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه فتجري فيه الإباحة كالماء المحرز في إنائه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره من نهر غيره]
م: (وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره) ش: أي حال كونه حاملا الماء بجراره وهو جمع جرة م: (له ذلك في الأصح) ش: احترز به عن قول بعض المتأخرين من أئمة بلخ، فإنهم قالوا: ليس له ذلك إلا بإذن صاحب النهر، لأنه ليس من الشفة م: (لأن الناس يتوسعون فيه) ش: أي في حمل الماء بالجرار.
م: (ويعدون المنع من الدناءة) ش: أي الخساسة م: (وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل، وبئره وقناته إلا بإذنه نصا) ش: أي صريحا بأن يقول له: خذوا....، ونحو ذلك.
م: (وله أن يمنعه من ذلك) ش: أي لصاحب النهر والبئر أو القناة أن يمنع غيره من سقي أرضه ونخيله م: (لأن الماء متى دخل في المقاسم) ش: أي في قسمة رجل بعينه م: (انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه) ش: أي في إبقاء شركة الشرب، والتذكير باعتبار الاشتراك.
م: (ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه) ش: أي حق صاحب النهر م: (فلا يمكنه التسييل فيه، ولا شق الضفة) ش: أي فلا يمكن صاحب النهر غيره من تسيل ماءه في مسيله، أي ولا يمكنه أيضا من شق ضفة نهره.
م: (فإن أذن له صاحبه في ذلك) ش: أي فإن أذن للغير صاحب النهر في مسيل الماء أو في شق ضفة نهره م: (أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه) ش: أي المنع كان لحقه، فإذا أذن أو أعار زال المانع م: (فتجري فيه الإباحة) ش: أي يجري من ماء النهر أو البئر أو القناة للإباحة م: (كالماء المحرز في إنائه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب) ش: أي كما يجري الإباحة في الماء الذي أحرزه في قربة أو كوز ونحوهما.
فروع: وفي " الذخيرة " و " المنية ": عبد أو أمة أو صبي إذا ملأ الكوز من ماء الحوض وأراق بعض ذلك من الحوض لا يحل أن يشرب الماء من ذلك الحوض، لأن الماء الذي في الكوز يصير ملكا للآخذ، فإذا اختلط بالمباح ولا يمكن التمييز لا يحل شربه.(12/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو أمر صبيا أبوه أو أمه بإتيان الماء من الوادي أو الحوض في الكوز فجاء به لا يحل لأبويه أن يشربا من ذلك الماء إن لم يكونا فقيرين، لأن الماء مملوكا له، ولا يحل لهما الأكل من ماله بغير حاجة، فكذا الشرب.
وعن محمد يحل لأبويه شربه، وإن كانا غنيين اعتبارا للعرف والعادة بيع الخمر، اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يجوز، لأنه باع شيئا لا يقدر على تسليم جميعه إلى المشتري، لأنه يذوب بعضه.
وقال أبو نصر محمد بن سلام: بأن البيع جائز، وقال أبو بكر الإسكاف: إذا سلم الخمرة إلى المشتري: أولا ثم باعه منه: فإنه يجوز. وإن باع ثم سلمه إليه في يومه ذلك: فإنه يجوز أيضا.
وإذا لم يسلمه إلى المشتري حتى مضى عليه أيام فسد البيع، لأن في القليل لا ينتقض نقصان تبين له حصته من الثمن، وبه أخذ الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كذا في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(12/322)
فصل في كري الأنهار قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأنهار ثلاثة: نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه، ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام، ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص، والفاصل بينهما استحقاق الشفعة به وعدمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كري الأنهار]
[أحكام كري الأنهار]
م: (فصل في كري الأنهار) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام كري الأنهار وهو حفرها.
م: (قال: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأنهار ثلاثة) ش: أي ثلاثة أقسام م: (نهر غير مملوك لأحد) ش: أي أحدها نهر غير مملوك لأحد م: (ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد) ش: يعني بعدما قسموا ما بعد م: (كالفرات ونحوه) ش: مثل جيحون وسيحون والنيل والفرات م: (ونهر) ش: أي الثاني م: (مملوك يدخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام) ش: بين الناس م: (ونهر) ش: أي الثالث م: (مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص) ش: أي والحال أنه خاص بين جماعة متعينين.
م: (والفاصل بينهما) ش: أي بين النهر العام والنهر الخاص م: (استحقاق الشفعة به) ش: أي بالنهر م: (وعدمه) ش: أي عدم استحقاق الشفعة به، وقد ذكرنا ذلك في الشفعة أن كل بحر يجري فيه السفن لا يستحق به الشفعة، وما لا يجري يستحق عندهما.
وعن أبي يوسف: الخاص ما يسقى فيه قراحان أو ثلاثة، وما زاد عام. وفي " فتاوى " قاضي خان تكلموا في الخاص قبل العشرة فما دونها، أو عليه قرية واحدة، يعني ماؤه فهو نهر خاص يستحق به الشفعة ولما فوق العشرة عام. وقيل: لما دون الأربعين فهو خاص. وإن كان فوق الأربعين فهو عام. وقيل: الفاصل المائة وقيل: الألف، والأصح ما قيل فيه: إنه مفوض إلى رأي المجتهد حتى يختار أي الأقاويل شاء.
وقال الإمام خواهر زاده في " شرح كتاب الشرب ": وأحسن ما قيل فيه من التجديد: إن الشركاء في النهر إن كان ما دون المائة فالشركة خاصة يستحق بها الشفعة. وإن كان مائة فصاعدا فالشركة عامة لا تجب الشفعة للكل، وإنما يكون للجار.
وفي " الأجناس ": حق الشرب في الأرض يجري مجرى الطريق في الأرض، وفي استحقاق الشفعة لا من حقوق الأرض. فإن كانت بحيث يجري في النهر السفن لا شفعة بحق الشرب، كما لا شفعة بطريق الاستطراف في الطريق فأخذ. وإذا كان النهر يجري فيه السماويات دون السفن تعلق بحق الشرب الشفعة كما يتعلق بطريق غير نافذة الشفعة.(12/323)
فالأول: كريه على السلطان من بيت مال المسلمين؛ لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم، ويصرف إليه من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات؛ لأن الثاني للفقراء، والأول للنوائب. فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة، إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم، وفي مثله قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو تركتم لبعتم أولادكم، إلا أنه يخرج له من كان يطيقه، ويجعل مؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأنفسهم. وأما الثاني: فكريه على أهله لا على بيت المال؛ لأن الحق لهم، والمنفعة تعود إليهم على الخصوص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالأول) ش: أي القسم الأول هو: النهر غير المملوك لأحد م: (كريه على السلطان من بيت مال المسلمين؛ لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم، ويصرف إليه) ش: أي على الكري م: (من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات؛ لأن الثاني) ش: أي العشور والصدقات م: (للفقراء، والأول) ش: وهو الخراج والجزية م: (للنوائب) ش: وهو جمع نائبة، وهي التي تنوب المسلمين من الخراج كبناء القناطر وسد الثغور ونحو ذلك.
م: (فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء
لمصلحة
العامة، إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم) ش: أي إذ الناس لا يقيمون مصلحة العامة بأنفسهم لأن العوام كل ما ينفقون من غير إحياء، وأي إمام نصب ناظرا في أحوال الناس فيجبرهم على ذلك م: (وفي مثله قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لو تركتم لبعتم أولادكم) ش: وقوله: أي وفي مثل هذه الأخبار قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (فإنه أخبرني مثل هذا فكلموه في ذلك فقال: لو تركتم لبعتم أولادكم) .
ش: وقوله: لو تركتم على صيغة المجهول، يعني لو تركتم في مثل هذه النائبة التي تلحق المسلمين ولم يجبروا على إقامة المصلحة العامة في مثل هذه الصورة لفسدت مياه المسلمين ولم يحصل شيء من زارع الأرض ووقع الغلاء إلى أن يؤول الأمر إلى بيع أولادكم.
فإن قلت: ما حال هذا الأثر؟. قلت: لم أقف عليه في الكتب المشهورة في كتب الحديث، وإنما ذكره أصحابنا في كتبهم ولم أدر من أين أخذوه؟.
م: (إلا أنه يخرج له من كان يطيقه) ش: أي إلا أن الإمام يخرج للكري أي لأجله من كان يطيق الكري، أي عمله بنفسه م: (ويجعل مؤنته على المياسير) ش: أي على الأغنياء م: (الذين لا يطيقونه) ش: أي الكري م: (بأنفسهم) ش: كما جعل في تجهيز الجيش، فإن الإمام يخرج من أطاق القتال ويجعل مؤنتهم على الأغنياء.
م: (وأما الثاني) ش: أي النوع الثاني وهو النهر المملوك الذي دخل ماؤه تحت القسمة، إلا أنه عام م: (فكريه على أهله لا على بيت المال؛ لأن الحق لهم، والمنفعة تعود إليهم على الخصوص) ش:(12/324)
والخلوص. ومن أبى منهم يجبر على كريه دفعا للضرر العام، وهو ضرر بقية الشركاء، وضرر الآبي خاص، ويقابله عوض فلا يعارض به. ولو أرادوا أن يحصنوه خيفة الانبثاق، وفيه ضرر عام كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي، وإلا فلا؛ لأنه موهوم
بخلاف الكري؛ لأنه معلوم. وأما الثالث: وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا، ثم قيل: يجبر الآبي كما في الثاني، وقيل: لا يجبر؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون الاشتراك بالعامة م: (والخلوص) ش: دون أن يكون للإمام شيء فيه م: (ومن أبى منهم) ش: أي امتنع من أهل هذا النهر عن الإنفاق عن الكري م: (يجبر على كريه
دفعا
للضرر العام، وهو ضرر بقية الشركاء) ش: لأنهم يتضررون، ولو لم يجبر الآبي لأنهم يحتاجون إلى كري نصيبه م: (وضرر الآبي خاص، ويقابله عوض) ش: هذا هو جواب عما يقال: إن الآبي إذا أجبر عليه يتضرر أيضا، حيث يحتاج إلى إنفاق مال، فقال: ضرر الآبي خاص ويقابله عوض، أي يقابل الآبي عوض وهو حصته من الشرب م: (فلا يعارض به) ش: الآبي فلا يعارض الضرر العام بالضرر الخاص؛ لأن ضرر العامة أعلى الضرر فيحتمل أدنى الضررين لدفع الضرر الأعلى إن ضرر العامة لا عوض له فلا يستوي الضرران فلا تعارض، بل جانب الضرر العام غالب فيجب السعي في إعدامه.
م: (ولو أرادوا) ش: أي أهل هذا النهر م: (أن يحصنوه) ش: أي النهر م: (خيفة الانبثاق) ش: أي لأجل الخوف من الانبثاق وهو انتقاص ممسك الماء وهو انتقاله من المنبثق، يقال: بثق الماء والسيل موضع كذا أي جريه وبثقه، ومادته الأصول، والبثق -بباء موحدة وتاء مثلثة وقاف -: وفسرها الكاكي بفارسية، دائران نذاب، م: (وفيه ضرر عام) ش: أي والحال أن في الانبثاق ضرر عام م: (كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي) ش: لأنه موهوم، أي الممتنع منهم م: (وإلا فلا) ش: أي وإن لم يكن فيه ضرر عام لا يجبر الأبي م: (لأنه موهوم) ش: أي لأن الانبثاق موهوم غير معلوم الوقوع، فإذا لم يكن فيه ضرر عام لا يجبر الآبي.
[ومؤنة كري النهر المشترك على من تكون]
م: (بخلاف الكري؛ لأنه معلوم) ش: لأن حاجة النهر إلى الكري في كل وقت معلوم عادة، وقد التزموه عادة فيجبر الآبي هنا لا محالة، لأنه يأباه يريد قطع منفعة الماء عن نفسه وشركائه فليس له ذلك، فكذلك يجبر عليه.
م: (وأما الثالث) ش: أي النوع الثالث: م: (وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخلوص م: (ثم قيل: يجبر الآبي) ش: وهو قول أبي بكر الإسكاف م: (كما في الثاني) ش: أي في النهر الثاني كما بينا م: (وقيل: لا يجبر) ش: وهو قول أبي بكر بن سعيد البلخي. وقال الفقيه أبو جعفر: ويقول أستاذي أبو(12/325)
لأن كل واحد من الضررين خاص، ويمكن دفعه عنهم بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي، فاستوت الجهتان بخلاف ما تقدم، ولا يجبر بحق الشفعة كما إذا امتنعوا جميعا، ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه، فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بكر البلخي آخذ م: (لأن كل واحد من الضررين خاص) ش: لأنهما مستويان فيترك ما كان على ما كان كما تعذر دفع أحدهما بالأخرى لا يجبر كما في الحائط بين اثنين إذا انهدم أو انهدم علو وسفل، فأراد أحدهما أن يبني فأبى الآخر لا يجبر الآبي، بل يقال للآخر: ابن أنت إن شئت، وأشار إلى استواء الضررين هذا بقوله: م: (ويمكن دفعه عنهم) ش: أي يمكن لدفع الضرر عن رقبة الآبي م: (بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي) ش: بأن يستوفوا من نصيب الآبي من الشرب قدر ما يبلغ قيمته ما أنفقوا في نصيبه في الكري م: (فاستوت الجهتان) ش: أي إذا كان الأمر كذلك استوى جنسه الآبي وجنسه رفقته، أراد به استواء الضرر أن لكل واحد منهما بعوض فامتنع التعارض.
م: (بخلاف ما تقدم) ش: وهو الإجبار في النهر الثاني، فإن من أبى من أهله يجبر عليه لما ذكرنا أن هناك أحد الجهتين عام فيجبر الآبي دفعا للضرر العام م: (ولا يجبر بحق الشفعة) ش: هذا هو جواب إشكال، وهو أن يقال: إن كان لا يجبر الآبي على كرائه بحق الشركاء، فلم يجبر بحق الشفعة كما قيل أنه يجبر بحق الشفعة، وهو قول بعض المتأخرين من أصحابنا، فقال: لا يجبر بحق الشفعة، لأن الجبر بحق الشفعة لا يستقيم.
م: (كما إذا امتنعوا جميعا) ش: عن الكري فإنهم لا يجبرون على الكري بحق أصحاب الشفة م: (ومؤنة كري النهر المشترك عليهم) ش: أي على الشركاء م: (من أعلاه) ش: أي من أعلى النهر م: (فإذا جاوز) ش: أي الكري م: (أرض رجل رفع عنه) ش: أي رفع الكري عن الرجل وصورته. ما ذكره في " الكافي " و " التحفة " أن النهر إذا كان بين عشرة لكل واحد منهم عليه أرض كان الكري من أول النهر إلى أن يجاوز شرب أولهم بينهم على عشرة أسهم على كل واحد منهم العشر.
فإذا تجاوز شرب الثاني خرج هو من الكري، ويكون الكري على الباقين على تسعة أسهم، فإذا تجاوز شرب الثاني سقط عنه الشفعة، ويكون الكري على الباقين على ثمانية أسهم، وعلى هذا الترتيب قالا إن المؤنة بينهم على عشرة أسهم من أول النهر إلى آخره م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي دفع مؤنة الكري عند أبي حنيفة، وبه قال الشافعي وأحمد، وفي " فتاوى قاضي خان " وبقوله: أخذوا في الفتوى.(12/326)
وقالا: هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين؛ لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وله: أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل لصاحب الأعلى، فلا يلزمه إنفاع غيره،
وليس على صاحب المسيل عمارته، كما إذا كان له مسيل على سطح غيره، كيف وأنه يمكنه دفع الماء عن أرضه فيسده من أعلاه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا: هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: مؤنة الكري على الشركاء جميعا من أول النهر إلى آخره م: (لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل) ش: أي في أسفل النهر م: (لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه) ش: لأنه إذا أسند ذلك فانجر الماء على أرضه فأفسد زرعه فعلم أن كل واحد ينتفع بالنهر من أوله إلى آخره. ولهذا تستحق الشفعة مثل هذا النهر وحق أهل الأعلى والأسفل في ذلك سواء، فإذا استووا في القسم يستوون في الغرم وهو مؤنة الكري.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره) ش: قال السغناقي: الصواب نفع غيره، لأن الانتفاع في معنى النفع غير مسموع، وتبعه على ذلك الكاكي.
وقال صاحب " العناية ": ولم يرد أشياء عليه فقال الأترازي: استعمال الانتفاع في معنى النفع وهو ضد الضرر، وتبعه على ذلك الكاكي، وقال الأترازي: واستعمال الانتفاع في معنى النفع وهو ضد الضرر، ولم يسمع ذلك من قوانين اللغة، وجاء أرجعته بمعنى رجعته في لغة هذيل، ويجوز على قياسه أنفقه بمعنى نفقته ولكن اللغة لا تصح بالقياس. ويجوز أن يكون ذلك سهوا من الكاتب من أن يكون الأصل انتفاع غيره من باب الافتعال.
قلت: لا يلزم أن تكون الهمزة هنا للتعدية لكون النفع متعديا بدون الهمزة، بل يجوز أن يكون للتعريض من باب أبعته فإن باع متعد. ولما قصدوا منه التعريض أدخلوا الهمزة عليه على قصد أن يكون المفعول معرضا لأصل الفعل، فإن معنى أبعته عرضته للبيع وجعلته منتسبا إليه وكذلك هنا يكون المصر فلا يلزمه أن يجعل غيره معرضا للنفع ولا منتسبا إليه، وقد جاء أنفع الرجل. قاله أبو زيد، ولكن بمعنى الجر في النفقات، وهو الوصي وهو نفع جمعته بالفتح وهو الوصي.
[من له مسيل على سطح غيره هل له عمارته]
م: (وليس على صاحب المسيل عمارته) ش: هذا جواب عن قولهما: لأن لصاحب الإخفاء إلى آخره، يعني لا يلزمه شيء باعتبار مسيل ما فضل م: (كما إذا كان له مسيل على سطح غيره) ش: حيث لا يلزمه عمارة سطح جاره م: (كيف وأنه يمكنه دفع الماء من أرضه فيسده من أعلاه) ش: أي كيف يلزم صاحب المسيل عمارته والحال أنه يمكنه رفع الماء عن أرضه بأن يسد فوهة النهر من(12/327)
إنما يرفع عنه إذا جاوز أرضه كما ذكرناه، وقيل: إذا جاوز فوهة نهره وهو مروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول أصح؛ لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله، فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته، قيل: له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه، وقيل: ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه نفيا لاختصاصه، وليس على أهل الشفقة من الكري شيء؛ لأنهم لا يحصون ولأنهم أتباع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أعلاه إذا استغنى عن الماء م: (إنما يرفع عنه) ش: أي ثم إنما يرفع مؤنة الكري عن الرجل الذي يقدم ذكره م: (إذا جاوز أرضه كما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله: فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه.
م: (وقيل: إذا جاوز فوهة نهره) ش: أي يرفع إذا جاوز فوهة نهره وهو بضم الفاء وتشديد الواو، وهو أول النهر، وكذلك فوهة الطريق وفوهة الزقاق م: (وهو مروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا القول مروي عن محمد ذكره في " النوادر " م: (والأول أصح) ش: كما أشار إليه في " الأصل " وإليه ذهب الكرخي م: (لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله) ش: أي من أعلى النهر وأسفله م: (فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته) ش: أي مؤنة الكري م: (قيل: له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه) ش: هذه المسألة لم يذكرها محمد في " الأصل ". وقال المشايخ: إذا جاوز الكري أرضه وأراد أن يفتح رأس النهر حتى يسقي أرضه فله ذلك على قول أبي حنيفة، لأنه سقط عنه مؤنة الكري، وعلى قولهما لا يكون له ذلك لأنه لم يسقط عنه مؤنة الكري، كذا ذكره خواهر زاده في " شرحه ".
م: (وقيل: ليس له ذلك ما لم يفرغ نفيا لاختصاصه) ش: أي بالانتفاع بالمأذون شركاءه وللتحرز عن هذا الخلاف اختار المتأخرون بالبداية بالكري من أسفل النهر أو ترك بعض النهر من أعلاه حتى يفرغ من أسفله.
م: (وليس على أهل الشفة من الكري شيء؛ لأنهم) ش: أي لأن أهل الشفة م: (لا يحصون) ش: لأن جميع أهل الدنيا أهل فلاة يمكنهم جمعهم للكري، وليس البعض أولى من البعض، ولهذا لا يستحقون الشفعة حتى يلزم الغرم بإزاء الغنم م: (ولأنهم أتباع) ش: لأنهم لا ملك لهم في رقبة الأرض والمؤنة تجب على الأصول على الأتباع، ولهذا كانت مؤنة قتل المحلة على عاقلة أصحاب الحنطة دون المشترين والسكان، كذا في " المبسوط "، والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/328)
فصل في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه قال: وتصح دعوى الشرب بغير أرض استحسانا لأنه قد يملك بدون الأرض إرثا، وقد يبيع الأرض ويبقى الشرب له، وهو مرغوب فيه فيصح فيه الدعوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه]
[حكم دعوى الشرب بغير أرض]
م: (فصل في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الدعوى والاختلاف والتصرف في الشرب.
م: (قال: وتصح دعوى الشرب بغير أرض استحسانا) ش: وفي القياس: لا يصح، لأن شرط صحة الدعوى إعلام المدعي في الدعوى والشهادة والشرب مجهول جهالة لا تقبل الإعلام م: (لأنه قد يملك بدون الأرض إرثا) ش: هذا وجه الاستحسان، أي أن الشرب قد يملك بدون الأرض من جهة الأرض والوصية م: (وقد يبيع الأرض ويبقى الشرب له، وهو مرغوب فيه) ش: أي الشرب مرغوب فيه ينتفع به، فإذا استولى عليه غيره له دفع الظلم عن نفسه بإثبات حقه م: (فيصح فيه الدعوى) ش: أي إذا كان كذلك فيصح فيه الدعوى.
وفي باب الشهادات في الشرب في " الأصل " وإذا كان نهر لرجل في أرضه فادعى رجل فيه الشرب في يوم في الشهر وأقام على ذلك شاهدين عدلين: فإنه تقبل هذه الشهادة ويقضى له بذلك استحسانا، لأنهم شهدوا له بشرب يوم من ثلاثين يوما، وهو معلوم.
وكذا مسيل الماء ولو ادعى يومين في الشهر فجاء بشاهدين فشهد أحدهما بيوم في رقبة النهر يريد بقوله: في رقبة النهر، لأن له شرب يوم من هذا النهر في شهر، وشهد الآخر على يومين ذكر أن في قياس قول أبي حنيفة لا يقضى به، وفي قياس قولهما يقضى بالأقل وهو شربه يوما، فإن شهد أحدهما أن المدعي قبله أقر بشرب يومين وشهد الآخر شرب أنه أقر بشرب يوم فالمسألة على الاختلاف.
وإن لم يشهدا على الإقرار بل أشهد أحدهما أن له شرب يوم من الشهر من هذا الشهر وشهد الآخر شرب يومين يجب أن يقبل على الأقل وإن شهدوا أن له شرب يوم ولم يسموا عدد ولم يشهدوا أن له في رقبة النهر شيء ولا يقبل، لأنهم شهدوا بشرب مجهول، لأنه لا يدري أن له شرب يوم من الشهر أو من الأسبوع أو من السنة. ولو شهدوا له بعشر النهر تقبل الشهادة كما لو شهدوا بعشر هذه الأرض.
قال: ولو ادعى رجل عشر عين أو قناة فشهد له شاهدان أحدهما بالعشر وشهد الآخر بأقل من ذلك بجزء من أحد عشر جزءا، فإن شهدوا على الإقرار لا يقبل في قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعندهما: يقبل استحسانا على الأقل. وإن لم يشهدوا على الإقرار يقبل(12/329)
قال: وإذا كان نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه ترك على حاله لأنه مستعمل له بإجراء مائه فعند الاختلاف يكون القول قوله. فإن لم يكن في يده ولم يكن جاريا فعليه البينة أن هذا النهر له، أو أنه قد كان مجراه له في هذا النهر يسوقه إلى أرضه ليسقيها، فيقضي له لإثباته بالحجة ملكا له، أو حقا مستحقا فيه، وعلى هذا المصب في نهر، أو على سطح، أو الميزاب، أو الممشى في دار غيره فحكم الاختلاف فيها نظيره في الشرب.،
قال: وإذا كان نهر بين قوم واختصموا في الشرب، كان الشرب بينهم على قدر أراضيهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاتفاق على الأقل، لأنهم شهدوا بالعين.
[نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه]
م: (قال: وإذا كان نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه ترك على حاله) ش: أي لم يكن له ذلك، بل يترك على حاله م: (لأنه مستعمل له بإجراء مائه) ش: أي لأن صاحب النهر مستعمل للنهر بإجراء مائه، وهو في يده م: (فعند الاختلاف يكون القول قوله) ش: أنه ملكه م: (فإن لم يكن في يده ولم يكن جاريا فعليه البينة أن هذا النهر له أو أنه قد كان مجراه له) ش: بأن لم يكن له أشجار على طرف النهر ولم يعرف جريان مائه فيه من قبل، وهو معنى قوله: مجراه، أي موضع الإجراء م: (في هذا النهر يسوقه إلى أرضه ليسقيها) ش: هذه الجملة حال من مجراه، واللام في " ليسقيها " للتعليل م: (فيقضى له لإثباته بالحجة ملكا له) ش: أي حال كونه ملكا للمدعي فيما إذا أقام البينة أن هذا النهر له م: (أو حقا مستحقا) ش: أي أو حال كونه جميعا مستحقا م: (فيه) ش: أي في النهر فيما إذا أقام البينة أن له مجراه في هذا النهر.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الحكم المذكور م: (المصب في نهر) ش: هو موضع صب الماء أي جريه، ومراده: ما اجتمع من فضلات الماء في سقائه وغيره م: (أو على سطح) ش: أي أو انصب على سطح وهو مجرى الميزاب على سطح م: (أو الميزاب، أو الممشى) ش: بالرفع عطفا على المرفوع بأن ادعى أن ممشاه م: (في دار غيره فحكم الاختلاف فيها) ش: أي فحكم اختلاف المدعيين أو المتخاصمين من هذه الأشياء المذكورة.
وفي بعض النسخ فيه، أي في كل واحد من هذه الأشياء في المصب والميزاب والممشى م: (نظيره في الشرب) ش: أي نظير الاختلاف في الشرب.
والحاصل في هذا الباب: أن هذه الأشياء إذا كانت موجودة وقت الدعوى فالقول قول المدعي، وإلا فعليه البيان.
[نهر بين قوم اختصموا في الشرب منه]
م: (قال: وإذا كان نهر بين قوم واختصموا في الشرب، كان الشرب بينهم على قدر أراضيهم؛(12/330)
لأن المقصود الانتفاع بسقيها، فيتقدر بقدره. بخلاف الطريق؛ لأن المقصود التطرق وهو في الدار الواسعة والضيقة على نمط واحد، فإن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر لم يكن له ذلك لما فيه من إبطال حق الباقين، ولكنه يشرب بحصته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن المقصود الانتفاع بسقيها، فيتقدر بقدره) ش: أي بقدر الانتفاع؛ لأن الحاجة في ذلك تختلف بقلة الأراضي وبكثرتها، فالظاهر أن حق كل واحد من الشرب بقدر أرضه، وقدر حاجته، فالبناء على الظاهر واجب حتى تبين خلافه.
فإن قلت: إنهم قد استووا في إثبات اليد على الماء الذي في النهر، والمساواة في اليد توجب المساواة في الاستحقاق؟
قلت: إثبات اليد على الماء إنما هو بالانتفاع بالماء، وانتفاع من له عشرة قطع لا يكون مثل انتفاع من له قطعة واحدة، فلا يتحقق التساوي في إثبات اليد.
وفي " الأجناس ": وحكي عن علي بن الدقاق صاحب كتاب " الحيض ": أنه يكون بينهم على قدر حاجتهم، وفائدته أنه إذا كان لأحدهم عشرة أجر به، وللآخر عشرة، إلا أن أرضه لا تكتفي في الزراعة بقدر الماء الذي يأخذه فعلى ما قال محمد في " الأصل " الماء بينهما نصفان، وعلى ما قال الدقاق: له أخذ الماء زيادة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: ومن الناس من قال: يقسم بينهم على عدد الخراج، والصحيح ما قاله علماؤنا، وهذا إذا لم يعلم كيف كان الشرب بينهم، فأما إذا علم على ما كان يقسم على ما كان كما في الطريق يقسم على عدد الرؤوس إذا لم يعلم حقهم، أما إذا علم يقسم على ما كان في الأصل.
م: (بخلاف الطريق) ش: يعني إذا اختصم فيه الشركاء فإنهم يستوون في ملك رقبة الأرض، ولا يعتبر سعة باب الدار وضيقها م: (لأن المقصود التطرق وهو في الدار الواسعة والضيقة على نمط واحد) ش: أي على نهج واحد. وفي بعض النسخ على صفة واحدة م: (فإن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر) ش: يعني لا يمكنه حتى يسقي أرضه بتمامها إلا بالسكر، وهو من سكرت النهر سكرا إذا سددته من باب نصر ينصر، والسكر بالكسر القوم وهو المسناة م: (لم يكن له ذلك) ش: أي لم يكن للأعلى أن يسكر النهر على الأسفل م: (لما فيه) ش: أي في سكره م: (من إبطال حق الباقين، ولكنه يشرب بحصته) ش: أي من غير سكر.
وفي " الأجناس ": قال تلميذ محمد بن شجاع: زاد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا: إذا كان نصيب صاحب أعلى النهر لا يكفيه لجميع أرضه، حتى يسكر النهر فساق كل الماء إليه ليس له(12/331)
فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته، أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحق له إلا أنه إذا تمكن من ذلك بلوح لا يسكر بما ينكبس به النهر من غير تراض لكونه إضرارا بهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك إلا أن يكون أرض صاحب الأعلى من بقعة لا يصل الماء إليه، إلا أن يتخذ في الماء سكر، وأرباب الأرضين مقرون أن شربها من هذا النهر، فلهذا لا بد أن يتخذ في النهر سكر حتى يرتفع الماء إليها. وإن رضوا على أن يجعلوا ذلك مقاومة على أن يسكر كل واحد منهم يوما يسوق الماء كله إلى أرضه جاز.
[تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته]
م: (فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته، أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحق له إلا أنه) ش: أي الأعلى م: (إذا تمكن من ذلك) ش: أي من السكر م: (بلوح لا يسكر بما ينكبس به النهر) ش: نحو الطين أو الترب؛ لأنه ينكبس النهر به عادة، وفيه إضرار م: (من غير تراض) ش: من الشركاء م: (لكونه إضرارا بهم) ش: أي بالشركاء.
وفي " فتاوى قاضي خان ": ولو كان الماء في النهر بحيث لا يجري إلى أرض كل واحد إلا بالسكر فإنه قيد بأهل الأسفل ثم بعد ذلك لأهل الأعلى أن يسكر، ويرجع الماء إلى عراضهم.
وفي " المبسوط ": عن ابن مسعود: أهل الأسفل أمراء على أهل الأعلى حتى يردوا. وفيه دليل على: أن ليس لأهل الأعلى أن يسكروا النهر ويحبسوا الماء على أهل الأسفل.
وفي " المغني " لابن قدامة: ولو كان نهرا صغيرا أو سيلا، فيشاء أهل الأرضين الشاربة فيه، فإنه يبدأ بأهل الأعلى، ويسقي حتى يبلغ الكعب ثم يرسل للذي يليه، كذلك إلى انتهاء الأراضي، فإن لم يفضل عن الأول شيء أو الثاني أو الثالث لا شيء للباقين لأنه ليس لهم إلا ما فضل.
فمنهم كالعصبة في الميراث، وهو قول فقهاء المدينة، ومالك، والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا.
والأصل فيه ما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراح الحرة التي يسقونه بها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسق يا زبير؛ ثم يسيل الماء» متفق عليه.(12/332)
وليس لأحدهم أن يكري منه نهرا أو ينصب عليه رحى ماء إلا برضاء أصحابه؛ لأن فيه كسر ضفة النهر وشغل موضع مشترك بالبناء، إلا أن يكون رحى لا يضر بالنهر ولا بالماء ويكون موضعها في أرض صاحبها؛ لأنه تصرف في ملك نفسه، ولا ضرر في حق غيره، ومعنى الضرر بالنهر ما بيناه من كسر ضفته، وبالماء أن يتغير عن سننه الذي كان يجري عليه، والدالية والساقية نظير الرحى،
ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة بمنزلة طريق خاص بين قوم، بخلاف ما إذا كان لواحد نهر خاص يأخذ من نهر خاص بين قوم فأراد أن يقنطر عليه ويستوثق منه له ذلك، أو كان مقنطرا مستوثقا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وليس لأحدهم أن يكري منه) ش: أي من النهر م: (نهرا أو ينصب عليه رحى ماء إلا برضاء أصحابه؛ لأن فيه كسر ضفة النهر وشغل موضع مشترك بالبناء، إلا أن يكون رحى لا يضر بالنهر ولا بالماء ويكون موضعها في أرض صاحبها) ش: بأن يكون بطن النهر وحصاه مملوكا له، وللآخر حق السيل، كذا في " المحيط "، و " المبسوط "، م: (لأنه تصرف في ملك نفسه، ولا ضرر في حق غيره، ومعنى الضرر بالنهر ما بيناه من كسر ضفته) ش: لأنه شيء على حافة النهر فكسر به م: (وبالماء) ش: أي ومعنى الضرر بالماء م: (أن يتغير عن سننه الذي كان يجري عليه) ش: لأن فيه تفريغ الماء عن موضعه حتى يصل إلى الرحى م: (والدالية، والساقية نظير الرحى) ش: في الحكم، والجواب، الدالية جذع طويل مركب تركيب مدق الأرز، وفي رأسه مغرفة كبيرة يسقى بها، والساقية البعير الذي يسقى عليه، أي كسقي. وفي " المثل ": سير السواقي بيض، ولا ينقطع.
[اتخاذ القنطرة علي النهر]
م: (ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة) ش: أي على النهر، والجسر ما يوضع، ويرفع عن الألواح والأخشاب. والقنطرة ما يتخذ من الآجر، والحجر لا يرفع. وفي " المغرب ": القنطرة ما يبنى على الماء المحصور، والجسر العام، فإن الجسر ما يعبر به النهر مبنيا كان أو غير مبني، والفتح لغة. وكذلك عين بين قوم لهم عليها أرضون فهو مثل هذا النهر، وكذلك بئر بين قوم يسقون منها أراضيهم.
وكذلك البركة بين قوم ليس لأحدهم أن يكري منهم نهرا، وأن يحدث حدثا إلا بإذن أضر بهم أو لا مال، لأن أهل اللغة قالوا: البركة الحوض م: (بمنزلة طريق خاص بين قوم) ش: أي لا يجوز أن يتصرف أحد فيه.
م: (بخلاف ما إذا كان لواحد نهر خاص يأخذ من نهر خاص بين قوم) ش: وهو الذي يكون بحال تجري فيه الشفعة م: (فأراد أن يقنطر عليه) ش: أي يتخذ عليه قنطرة م: (ويستوثق منه) ش: أي يشد جانبي القنطرة من النهر م: (له ذلك، أو كان مقنطرا مستوثقا) ش: أي أو كان النهر عليه قنطرة وهو مستوثق.(12/333)
فأراد أن ينقص ذلك، ولا يزيد ذلك في أخذ الماء حيث يكون له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه وضعا ورفعا ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء، ويمنع من أن يوسع فم النهر؛ لأنه يكسر ضفة النهر ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء، وكذا إذا كانت القسمة بالكوى،
وكذا إذا أراد أن يؤخرها عن فم النهر، فيجعلها في أربعة أذرع منه لاحتباس الماء فيه، فيزداد دخول الماء فيه، بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأراد أن ينقص ذلك، ولا يزيد ذلك في أخذ الماء) ش: أي أو كان النهر عيه قنطرة، أي لا يزيد نقض القنطرة في دخول الماء في نهره، ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء هذا اللفظ يحتمل وجهين أحدهما: أنه لا ضرر بالشركاء يأخذ القنطرة زيادة إلا لعدم زيادة الماء كقوله، ولا يرى الصب بها متحجرا، أي يتخذ لنفسه حجرا وهذا عبارة عن عدم الصب ثمة إلا إذا كان صبا لا يتحجر كذا ها هنا لا ضرر بأخذ زيادة الماء.
والثاني: لا ضرر بالشركاء بأخذهم زيادة الماء؛ لأنه إذا رفعت القنطرة يتصور حصول زيادة الماء لهم م: (حيث يكون له ذلك) ش: يتعلق بقوله: بخلاف ما إذا كان م: (لأنه يتصرف في خالص ملكه وضعا ورفعا) ش: أي من حيث الوضع في صورة البناء، ومن حيث الرفع في صورة النقض.
م: (ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء) ش: والواو للحال؛ لأن الكلام فيه حتى إذا أضر بهم يمنع، وإن كان تصرف في خالص ملكه لأنه أضر بغيره م: (ويمنع من أن يوسع فم النهر؛ لأنه يكسر ضفة النهر ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء) ش: لأنه حينئذ يكون غاصبا شيئا من مال أصحابه فيمتنع.
م: (وكذا إذا كانت القسمة بالكوى) ش: كذا ليس له أن يوسع الكوة إذا كانت القسمة بالكوى، والكوى -بفتح الكاف، وتشديد الواو - وهو ثقب البيت، والجمع كوى -بسكر الكاف - كبدرة وبدر، وقد يضم الكاف في المفرد، ثم استعير الكوى لمفاتيح الماء إلى المزارع، والجداول، فيقال: كوى النهر -بالكسر والضم.
[المتصرف في ملكه إذا أضر بغيره]
م: (وكذا إذا أراد أن يؤخرها) ش: أي كذا ليس له ذلك، أي أن يؤخر الكوى م: (عن فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع منه) ش: أي من فم النهر إلى أسفل. وقال تاج الشريعة: هذا التقدير وقع اتفاقا كما إذا كان اللوح الذي منه الكوى على فم النهر، فأراد أن يجعله في وسطه، ويزيح فوهة النهر بغير اللوح م: (لاحتباس الماء فيه، فيزداد دخول الماء فيه) ش: أي لاحتباس الماء في رأس النهر وإعتاقه، فيجتمع الماء، ويزداد دخوله في الكوى أكثر مما كان يدخل.
م: (بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه) ش: أي نصفها أعمق كان م: (أو يرفعها) ش: ما كان(12/334)
حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والترفع، وهو العادة، فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة،
ولو كانت القسمة وقعت بالكوى، فأراد أحدهم أن يقسم بالأيام ليس له ذلك، لأن القديم يترك على عدمه لظهور الحق فيه، ولو كان لكل منهم كوى مسماة في نهر خاص، ليس لواحد أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله؛ لأن الشركة خاصة. بخلاف ما إذا كانت الكوى في النهر الأعظم؛ لأن لكل منهم أن يشق نهرا منه ابتداء، فكان له أن يزيد في الكوى بالطريق الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى فوق م: (حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والترفع وهو العادة، فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة) ش: وفسر الكوى في " الأجناس " بقوله: يعني السواقي.
فإن قيل: وإنه وإن تصرف في خالص ملكه مضر بأصحابه وليس له ذلك؛ لأنه يأخذ الماء أكثر من حقه، والمتصرف في ملكه إذا أضر بغيره يمنع كعبد بين شريكين كاتب أحدهما نصيبه، فالجواب عنه: أن يقال: لا يخلو إما أن يكون مقدار عمق نهره وقت القسمة معلوما أو لا، فإن كان معلوما فله أن يسفل حتى يعود إلى الحالة الأولى، ولا يمكن من الزيادة على ما كان في القديم كيلا يضر بغيره بأخذ الماء أكثر من حقه. وإن لم يعلم مقدار عمقه في القديم قالوا: سفل مقدار ما يكري مثل هذا النهر في العرف، والعادة وإن أراد الزيادة منه منع منه، هكذا قال الفقيه أبو جعفر.
م: (ولو كانت القسمة وقعت بالكوى، فأراد أحدهم أن يقسم بالأيام ليس له ذلك) ش: يعني إذا لم يرض الشركاء بذلك، فإذا رضوا كان له ذلك م: (لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه) ش: أي في القديم، لا يثبت إلا بحجة. وفي " كفاية المنتهي ": نهر بين قوم يأخذ من النهر العظيم لكل واحد منهم كوى على التفاوت، فقال أصحاب السفل: تأخذون أكثر من نصيبكم؛ لأن كثرة الماء في أول النهر فينقصكم بقدر ذلك، فيجعل لنا ولكم أياما معلومة ويسد كواكم في أيامنا ليس لهم ذلك لأنه حق ثبت وضعا لذلك، فلا يعتبر.
م: (ولو كان لكل منهم كوى مسماة) ش: أي معدودة م: (في نهر خاص ليس لواحد أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله، لأن الشركة خاصة) ش: لأن إحداث التصرف فيما هو مشترك إلا بإذن الشركاء.
م: (بخلاف ما إذا كانت الكوى في النهر العظيم) ش: كالفرات ودجلة والنيل، حيث لا يمنع أن يزيد في الكوى إذا لم يضر بغيره م: (لأن لكل منهم أن يشق نهرا منه) ش: أي من النهر العظيم م: (ابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر م: (فكان له أن يزيد في الكوى بالطريق الأولى) ش: واستشهد(12/335)
قال: وليس لأحد الشركاء في النهر أن يسوق شربه إلى أرض له أخرى ليس لها في ذلك شرب لأنه إذا تقادم العهد يستدل به على أنه حقه.
. قال: وكذا إذا أراد أن يسوق شربه في أرضه الأولى، حتى ينتهي إلى هذه الأرض الأخرى لأنه يستوفي زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تنشف بعض الماء قبل أن تسقى الأخرى، وهو نظير طريق مشترك إذا أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى ساكنها غير ساكن هذه الدار التي يفتحها في هذا الطريق. ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا بطريق خاص بين قوم ليس لأحد منهم أن يبني ولا يفتح فيه بابا من دار أخرى، ولا يسيل فيه ماء، ولا يشرع فيه ميزابا ولا كنيفا أضر بهم أو لم يضر، فكذا في النهر الخاص.
م: (قال: وليس لأحد من الشركاء في النهر أن يسوق شربه إلى أرض له أخرى ليس لها في ذلك شرب؛ لأنه إذا تقادم العهد) ش: أي الزمان م: (يستدل به على أنه حقه) ش: أي يسوق الماء إليه، لأنه حقه، وبه قال الشافعي ومالك والقاضي الحنبلي.
وعن أحمد في رواية: جاز له ذلك إذا كان على وجه لا يتصرف في حافة النهر، وكذا يجوز أن يهديه أو يهبه.
م: (قال: وكذا إذا أراد أن يسوق شربه إلى أرضه الأولى) ش: أي التي لها شرب م: (حتى ينتهي إلى هذه الأرض؛ لأنه يستوفي زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تنشف بعض الماء) ش: أي تشربه م: (قبل أن تسقي الأخرى) ش: هذا الذي ذكره فيما إذا ملأ صاحب الأرضين أرضه التي لها حق الشرب وسقاها بالماء الذي ملأ أرضه الأولى. أما إذا أجرى الماء من الأرض الأولى حتى بلغ إلى الأخرى يمنع أيضا لا باعتبار كثرة الماء وقلته، بل باعتبار أن حقه ليسقي أرضه، وبهذا يصير حقه يسقي أرضين إليه، أشار في " المبسوط ".
م: (وهو نظير طريق مشترك) ش: أي المذكورة من الحكم نظير طريق مشترك بين قوم من حيث أنه يزيد في الشرب ما ليس له في حق المرور م: (إذا أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى ساكنها غير ساكن هذه الدار التي يفتحها في هذا الطريق) ش: يعني إذا كان له داران وهو ساكن في أحدهما وفي الأخرى ساكن آخر ومرور الدار التي هو يسكنها في طريق مشترك فأراد أن يفتح بابا للدار الأخرى فمن هذا الطريق ليس له ذلك، وقيد بقوله: " ساكنها " غير ساكن هذه الدار؛ لأنه إذا كان ساكن الداران واحد كان له أن يفتح بابا إلى دار أخرى، لأن الماء لا يزداد متى كان ساكن الدارين واحدا ويفتح بابا من جداره لأنه يتصرف في خالص ملكه.
م: (ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوى) ش: أي وفي النهر كوى م:(12/336)
بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه كيلا تنز، ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالآخر.
وكذا إذا أراد أن يقسم الشرب مناصفة بينهما؛ لأن القسمة بالكوى تقدمت، إلا أن يتراضيا لأن الحق لهما، وبعد التراضي لصاحب الأسفل أن ينقض ذلك،
وكذا لورثته من بعده؛ لأنه إعارة الشرب، فإن مبادلة الشرب بالشرب باطلة؛ والشرب مما يورث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بينهما أن يسد بعضها) ش: أي بعض الكوى م: (دفعا لفيض الماء عن أرضه) ش: أي لأجل دفع فيض الماء عن أرضه م: (كيلا تنز) ش: النز -بالنون وتشديد الزاي المعجمة: - ما تجلب الأرض من الماء، وقد نزت الأرض إذا جاءت ذات نزو تجلت بها الماء م: (ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالآخر) .
ش: صورته. ما ذكر في " الأصل " وهو: أن نهرا بين رجلين له خمس كوى من هذا النهر الأعظم ولأحد الرجلين أرضه في أعلى النهر، وللآخر أرضه في أسفل النهر فقال صاحب الأعلى: أريد أن أسد من هذه الكوة واحدة أو اثنتين، لأن ماء النهر يكثر في أرض فيفيض وينز منه، قال: ليس له ذلك، إلا إن سد الكوى أو أحدث تصرفا في مكان مشترك فلا يكون له إلا برضاء صاحبه، كما لو أراد أن يوسع الكوى.
م: (وكذا إذا أراد أن يقسم الشرب مناصفة بينهما) ش: أي ليس ذلك قوله مناصفة، أي بالأيام أو بالشهور، وصورته: أن يقول صاحب الأعلى لصاحب الأسفل: اجعل لي نصف النهر ولك نصفه، فإذا كان في حصتي سددت منها ما بدا لي. وإذا كان في حصتك فتحبسها كلها ليس له ذلك إلا برضى صاحبه م: (لأن القسمة بالكوى تقدمت، إلا أن يتراضيا لأن الحق لهما) ش: كالمهايأة في الدار إذ أن صاحبه لا يجبر ما إذا تراضيا جاز م: (وبعد التراضي لصاحب الأسفل أن ينقض ذلك) ش: أي ما قسماه، لأن المهايأة غير لازمة، لأنها عادية، لأن تجويزها بطريق الإجازة متعذر، لأنه تكون مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها وهو باطل، فيجوز بطريق الإعارة، وللمعير أن يرجع في عاريته متى بدا له ذلك.
[مبادلة الشرب بالشرب]
م: (وكذا لورثته من بعده) ش: أي وكذا لهم أن ينقضوا ذلك، لأنهم خلفاؤه في ذلك م: (لأنه إعارة الشرب) ش: أي لأن هذا الفعل إعارة، يعني كل واحد منهما يصير لصاحبه نصيبه من الشرب م: (فإن مبادلة الشرب بالشرب باطلة) ش: الهاء فيه للتقليل، لأنه بيع الجنس بالجنس وقد ذكرناه م: (والشرب مما يورث) ش: هذا يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون تعليلا لقوله: وكذا لورثته من بعده، وإليه مال تاج الشريعة في " شرحه " حيث قال: لأن الورثة يقومون مقام الوارث في أملاكه وحقوقه. وقد ملك بالإرث ما لا يملك بغيره من أسباب الملك كالقصاص والدين والخمر، فإنها تملك بالإرث وإن لم يملك بالبيع والآخر: أن تكون مسألة(12/337)
ويوصي بالانتفاع بعينه، بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك، حيث لا تجوز العقود إما للجهالة، أو للغرر، أو لأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مبتدأة برأسها، وإليه مال الأترازي في " شرحه "، حيث نقل عن " الأصل ": قال محمد: سألت أبا يوسف عن رجل مات ممن له هذا الشرب؟ فقال: يصير شربه ميراثا، وإن كان بغير أرض وذلك لأن الملك بالأرض يقع حكما لا قصدا، ويجوز أن يثبت الشيء حكما وإن كان لا يثبت قصدا كالخمر ملك بالميراث حكما، وإن كان لا يملك قصدا كسائر أسباب الملك.
[حكم الوصية بالشرب]
م: (ويوصي بالانتفاع بعينه) ش: أي بعين الشرب، يعني إذا أوصى أن يسقي أرض فلان يوما أو شهرا أو سنة أخذت من الثلث، لأن الوصية بالشرب كالوصية بالعلة المجهولة، وذلك ينفذ من الثلث. وإن مات بطلت الوصية في الشرب بمنزلة ما إذا أوصى بخدمة عبده لإنسان فمات الموصى له بطلت الوصية. وإنما قيد الوصية بعين الشرب احترازا عن الوصية ببيع الشرب وهبته، فإن ذلك وصية بالباطل والوصية بالباطل باطل.
م: (بخلاف البيع والهبة والصدقة) ش: أي لا يجوز، وقال محمد: سألت أبا يوسف عن الهبة والصدقة والعمرى والرقبى؟ قال: لا، أي: لا يجوز، لأن الشرب لا يملك بالبيع بدون الأرض، فكذا لا يملك أرض الصدقة والهبة م: (والوصية بذلك) ش: أي وبخلاف الوصية ببيع الشرب وصدقته وهبته م: (حيث لا تجوز العقود) ش: أي البيع والصدقة والهبة ونحوها م: (إما للجهالة) ش: أي كان الماء مجهولا ولا يصير معلوما إلا بالإشارة أو الكيل أو الوزن ولم يوجد شيء منها فكان مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة م: (أو للغرر) ش: فإنه على خطر الوجود، لأن الماء يجيء وينقطع.
م: (أو لأنه ليس بمال متقوم) ش: لأن الشرب عبارة عن النصيب من الماء، والماء لا يملك قبل الاحتراز م: (حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره) ش: يعني من لا شرب له من هذا النهر إذا سقى أرضه بشرب غيره لا يضمن ولو كان مملوكا ضمن، وإذا لم يكن مملوكا قبل الإحراز لا يجوز بيعه.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده -رحمة الله عليه - من مشايخ بلخ كأبي بكر الإسكاف ومحمد بن سلمة وغيرهما: يجوز. وفي بيع الشرب يوم أو يومين، لأن أهل بلخ تعاملوا ذلك والقياس ترك التعامل كما في الاستغناء. وكان الفقيه أبو جعفر وأستاذه أبو بكر البلخي لا يجوزان ذلك. وقالا: هذا تعامل أهل بلدة واحدة، والقياس يترك بتعامل البلاد كلها كما في الاستصناع، ولا يترك بتعامل أهل بلدة واحدة.(12/338)
وإذا بطلت العقود فالوصية بالباطل باطلة. وكذا لا يصلح مسمى في النكاح حتى يجب مهر المثل، ولا في الخلع حتى يجب رد ما قبضت من الصداق لتفاحش الجهالة،
ولا يصلح بدل الصلح عن الدعوى لأنه لا يملك بشيء من العقود،
ولا يباع الشرب في دين صاحبه بعد موته بدون أرض كما في حال حياته، وكيف يصنع الإمام؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تزوج امرأة على شرب بغير أرض]
م: (وإذا بطلت العقود فالوصية بالباطل باطلة) ش: أي الوصية بهذه العقود بأن يوصي أن يبيع شربه من هذا الرجل أو يوهب له أو يتصدق عليه باطل.
وفي بعض النسخ: باطل باعتباره الإيصاء م: (وكذا لا يصلح) ش: أي الشرب. م: (مسمى في النكاح) ش: أي تزوج امرأة على شرب بغير أرض م: (حتى يجب مهر المثل) ش: لعدم صحة التسمية م: (ولا في الخلع) ش: أي وكذا لا يصح مسمى في الخلع بأن خالع امرأته على شرب لها بغير أرض كانت التسمية باطلة، حتى لا يكون له من الشرب شيء.
وأما الطلاق فواقع م: (حتى يجب رد ما قبضت من الصداق) ش: لأنها أطمعت الزوج بهذه التسمية فتصير عادة له. وفي الغرر في الخلع يلزمها رد ما قبضت. كما لو اختلعت على ما في يدها من المال أو على ما في بيتها من المتاع وليس في يدها وبيتها شيء.
بخلاف ما لو خالعها على خمر أو خنزير فإنه يقع الخلع مجانا، لأن المسمى ليس بمال متقوم م: (لتفاحش الجهالة) ش: يعني في الشرب، وهذا يرجع إلى الكل.
[ادعى شيئا ثم صالح على شرب بدون أرض]
م: (ولا يصلح بدل الصلح عن الدعوى) ش: بأن ادعى شيئا ثم صالح على شرب بدون أرض فالصلح باطل وصاحب الدعوى على دعواه. وإن كان الصلح عن دم العمد على شرب بدون أرض فإن القصاص يسقط إذا قتل القاتل، لأن سقوط القصاص يعتمد وجود القبول لا وجود المقبول. ألا ترى أنه لو صالح عن دم العمد على خمر أو خنزير يسقط القصاص لوجود القبول وإن لم يجب القبول فكذا هذا.
ولا يكون له الشرب من الشرب شيء لعدم صحة التسمية، إلا أنه لا يقع الصلح مجانا، بل يجب على القاتل رد الدية م: (لأنه لا يملك بشيء من العقود) ش: أي لأن الشرب لا يملك بشيء من العقود، أي لأن الشرب لا يملك بشيء من الصلح متى وقع على خلاف الجنس كان فيه معنى البيع، وبيع الشرب بلا أرض لا يجوز، وكذا الصلح عليه بدون أرض، فإن كان المدعي قد شرب من ذلك الشرب سنة أو سنتين فلا ضمان عليه.
م: (ولا يباع الشرب في دين صاحبه) ش: أي صاحب الشرب م: (بعد موته بدون أرض كما في حال حياته) ش: أي كما لا يجوز بيعه بدون أرض في حياة صاحبه م: (وكيف يصنع الإمام؟(12/339)
الأصح أن يضمه إلى أرض لا شرب لها فيبيعها بإذن صاحبها، ثم ينظر إلى قيمة الأرض مع الشرب وبدونه، فيصرف التفاوت إلى قضاء الدين، وإن لم يجد ذلك اشترى على تركه الميت أرضا بغير شرب، ثم ضم الشرب إليها وباعهما فيصرف من الثمن إلى ثمن الأرض ويصرف الفاضل إلى قضاء الدين. وإذا سقى الرجل أرضه أو مخرها ماء أي ملأها فسال من مائها في أرض رجل فغرقها، أو نزت أرض جاره من هذا الماء لم يكن عليه ضمانها لأنه غير متعد فيه. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصح أن يضمه إلى أرض لا شرب لها فيبيعها بإذن صاحبها، ثم ينظر إلى قيمة الأرض مع الشرب وبدونه) ش: أي وبدون الشرب م: (فيصرف التفاوت إلى قضاء الدين) .
ش: هذا قول أكثر المشايخ في معرفة قيمة الشرب، كذا قال خواهر زاده في " شرحه " وهو: أن يضم هذا الشرب إلى جريب من الأرض أقرب ما يكون من هذا الشرب فيباع بإذن صاحبها، ثم ينظر بكم يشتري مع الشرب وبدون الشرب بكم يشتري فيكون فرق ما بينهما قيمة الشرب.
فإن كان يشتري مع الشرب بمائة وخمسين وبدون الشرب يشتري بمائة يعرف أن قيمة الشرب خمسون درهما فيصرف الخمسين إلى الدين، وإنما قال: " الأصح " لأن فيه اختلاف المشايخ فقال بعضهم: إن الإمام يتخذ حوضا ويجمع ذلك الماء في كل نوبة ثم يبيع الماء الذي جمعه في الحوض ويقضي به الدين.
وقال آخرون: يقال للمقومين: إن العلماء لو اتفقوا على جواز بيع الشرب بلا أرض بكم كان يشتري هذا الشرب وهو نظير ما قاله بعض أئمة بلخ أنه إذا وطئ امرأة بشبهة فعليه عقرها فينظر بكم كانت تستأجر على الزنا، لو كان الاستئجار على الزنا جائزا فيجعل ذلك عقرها.
م: (وإن لم يجد ذلك) ش: أي وإن لم يجد الإمام ببيع تلك الأرض بأن لم يرض صاحبها م: (اشترى على تركه الميت أرضا بغير شرب، ثم ضم الشرب إليها وباعهما) ش: أي الأرض والشرب جميعا م: (فيصرف الثمن إلى ثمن الأرض ويصرف الفاضل إلى قضاء الدين) ش: أي يصرف الفاضل من ثمن الأرض إلى أرباب الديون.
[كانت في أرضه جحر فأر فتعدى إلى أرض جاره فغرقت أرض جاره]
م: (وإذا سقى الرجل أرضه أو مخرها ماء، أي ملأها) ش: وفي " الصحاح ": مخرت الأرض إذا أرسلت فيها الماء وفي " ديوان الأدب " مخرت السفينة الماء، أي سفينة يجريها م: (فسال من مائها في أرض رجل فغرقها، أو نزت أرض جاره من هذا الماء لم يكن عليه ضمانها؛ لأنه غير متعد فيه، والله أعلم) ش: أي في السقي والمخر، قال الفقيه أبو جعفر: تأويل ما قال محمد: إذا سقى أرضه سقيا بمثله في العرف والعادة.(12/340)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما إذا سقى سقيا غير مثله في العرف والعادة، فإنه يضمن وهكذا كما قالوا فيمن أوقد نارا في داره يوقد مثلها في الدور في العرف والعادة لا يضمن إذا احترق دار جاره، لأنه سبب غير متعد، وإن أوقد نارا لا يوقد مثلها في العرف والعادة، فإنه يضمن، لأنه متعد في السبب.
وأما إذا كانت في أرضه جحر فأر فتعدى إلى أرض جاره فغرقت أرض جاره فإن كان لا يعلم بجحر الفأر لا يضمن، وإن علم يضمن، وعلى هذا قالوا: إذا فتح رأس نهره فسال من النهر شيء إلى أرض جاره فغرقت قالوا: إن فتح من الماء مقدار ما يفتح من الماء في مثل ذلك النهر في العرف والعادة لا يضمن.
وإن كان فتح مقدار ما لا يفتح مثل ذلك المقدار في مثل ذلك النهر فإنه يضمن.
وحكي عن الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد بأنه كان يقول: إذا سقى مثله، إنما لا يضمن إذا كان محقا في السقي بأن سقاه في نوبته مقدار حقه، فأما إذا سقى من غير نوبته أكثر من حقه يضن؛ لأنه مسبب ومتعد، وفي " الأصل ": ولو أن رجلا أوقد نارا أو أحرق كلاء في أرضه فذهبت النار يمينا وشمالا لغيره لم يضمن رب الأرض، وقال خواهر زاده: تأويله: إذا أوقد نارا توقد مثلها في العرف والعادة، فأما إذا أوقد نارا لا يوقد مثلها فإنه يضمن.
وفي " فتاوى البقالي ": ولو تعدى الماء إلى الأرض جاره وهو يرى ولم يخبر: يضمن.
وفي " المحيط ": لو انبثق نهر فجرى في أرض قوم، وخرب أراضيهم فليس لهم أن يأخذوا أصحاب النهر بعمارة الأرضين ولهم أن يأخذوهم بعمارة النهر. ولو كان له مجرى ماء على سطح غيره فخرب السطح فإصلاح المجرى على صابح المجرى. وذكر " الهندواني ": لو ألقى رجل شاة في أرض طاحونة فسار الماء بها إلى الطاحونة إن كان النهر لا يحتاج إلى الكري فلا ضمان عليه، وإن كان يحتاج ضمن إن علم أنها خربت من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/341)
كتاب الأشربة سمي بها، وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها.
قال: الأشربة المحرمة أربعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الأشربة]
[تعريف الأشربة]
م: (كتاب الأشربة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الأشربة. وجه المناسبة بين الكتابين: أن إحياء الموات فيه الشرب بالكسر، وهذا الكتاب فيه الشرب بالضم، وكلاهما سقيا عرق واحد لفظا ومعنى، غير أنه قدم الأول لكونه فيه حلالا، وهذا فيه حرام، كذا أورد في عامة الكتب من " المبسوط "، و " الذخيرة، و " المغني "، و " التحفة "، و " القدوري "، وهي جمع شراب كالأطعمة جمع طعام، وهو اسم لما يشرب كالطعام اسم لما يطعم، أي يؤكل ثم محاسن حرمة الأشربة المحرمة ظاهرة لأنها مزيلة للعقل الذي هو أشرف الأشياء وأغربها بتعلق خطابات الشرع به، إلا أن الخمر أبيحت للأمم الماضية لطول أعمارهم وجسامة أبدانهم فيتحملون آفة الشراب، ولا يتسارع إليهم السكر، ففي إباحتها صلاح لهم لكثرة نفعها، أما هذه الأمة فقصيرة الأعمار ضعيفة الأبدان، فيسارع إليهم السكر بشرب قليل منها، فصلاحهم في حرمة قليلها وكثيرها.
وإنما أبيحت في ابتداء الإسلام ليعاينوا الفساد في الخمر، حتى إذا حرمت عليهم عرفوا منه الحق لدينهم، وليس الخبر كالعيان، وقيل: لتدريج النصارى لئلا ينفروا عن الإسلام. وفي " شرح الأقطع ": والأشربة كلها مباحة بالعقل إلا ما ورد الشرع بتحريمه لأن الأشياء كلها على الإباحة في الأصل عندنا.
م: (سمي بها) ش: أي سمي الكتاب بالأشربة م: (وهي) ش: أي الأشربة م: (جمع شراب لما فيه) ش: أي لما في هذا الكتاب م: (من بيان حكمها) ش: أي حكم الأشربة من الحرام، والمباح كما سمي كتاب البيوع لما فيه من بيان أحكامها، وكتاب الحدود لما فيه من بيان أحكام الحدود ونحو ذلك من الكتب المذكورة.
[الأشربة المحرمة]
م: (قال: الأشربة المحرمة أربعة:) ش: أي قال القدوري في " مختصره "، وفي " المحيط ": الأعيان التي يتخذ منها الأشربة: العنب، والزبيب، والتمر، والحبوب كالحنطة، والشعير، والذرة، والدخن، والفواكه، كالإجاص، والبرصاء، وكالشهد، والفانيد، والألبان.
أما العنب فالمتخذ منه خمسة: الخمر، والباذق، والمنصف، والمثلث، والملحح، والمتخذ من الزبيب شيئان: نقيع، ونبيذ. والمتخذ من التمر ثلاثة: السكر، والنضج، والنبيذ. والمتخذ من الحبوب والفواكه وغيرهما شيء واحد. وإن اختلف أسماء النقيع كنبيذ العسل، والحقة كنبيذ الشعير، والمبذر كنبيذ الذرة، كذا ذكره " قاضي خان "، والتمرتاشي، فينتهي إلى(12/342)
الخمر، وهي عصير العنب إذا غلي واشتد وقذف بالزبد.
. والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو الطلاء المذكور في " الجامع الصغير "
" ونقيع التمر، وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد عشر اسما، أو أكثر كما يجيء في الكتابة.
ثم العنب إذا عصر سمي ماؤه عصيرا ما دام حلوا، فإذا اشتد صار مرا، وسمي خمرا، وإذا مال إلى الحموضة سمي خلا، فإذا طبخ أدنى طبخة، وصار شديدا سمي باذقا، وإذا طبخ على النصف يسمى منصفا، وإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه يسمى مثلثا، وإذا رفق بالماء ثم طبخ يسمى يعقوبيا أو يوسفيا لأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد رتبه للرشيد فيما يقال. وقد سمي جمهوريا؛ لأن جمهور الناس وجماعتهم يشربونه. ويسمى حميديا لأنه محمود عندهم، أو لأن حميدا رجل داوم على شربه أو علمهم ذلك، والذي يتخذ من الزبيب زبيبا.
والرطب إذا عصر فذلك العصير يسمى دبسا، فإذا تغير عن حاله أو اشتد يسمى سكرا، والتمر إذا نبذ في الماء، أي ألقي فيه يسمى نبيذا، وإذا أخذ من رأسه، واستخرجت حلاوته بعد ذلك يسمى فضيخا. وما يتخذ من العسل يسمى بقعا. وما يتخذ من القمح يسمى مزرا. وما يتخذ من الشعير يسمى حقة. وما يتخذ من الذرة يسمى سكر -بضم الكاف، وسكون الراء -.
[من الأشربة المحرمة الخمر]
م: (الخمر) ش: أي أحدها الخمر م: (وهي عصير العنب إذا غلى واشتد) ش: أي صار قويا وكثر غليانه وحصل فيه قوة الإسكار. وقيل: صار بحال يمنع حواس شاربه من الفهم، والدرك. وقيل: صلاحيته للإسكار م: (وقذف بالزبد) ش: أي رمي به، وهذا قيد للمعنى الشرعي لأن معنى الخمر وحده في اللغة: شراب مسكر معصور من العنب، وفي الشرع: شيء من الماء والعنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد.
[من الأشربة المحرمة العصير]
م: (والعصير) ش: أي الثاني من الأشربة المحرمة العصير، عصير العنب م: (إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه، وهو الطلاء المذكور في " الجامع الصغير ") ش: الطلاء كل ما يطلى به من قطران أو نحوه، ويقال لكل ما أخذ من الأشربة طلاء على التشبيه حتى يسمى به المثلث، كذا في " المغرب "، وفي " تاج الأسامي ": الطلاء شراب ذهب بالطبخ ثلثاه، وفي " ديوان الأدب ": الطلاء ممدود، وفي " الصحاح ": ما يطبخ من عصير العنب حتى يذهب ثلثاه، وتسميه العجم: المسجد، وفسره الفقيه أبو الليث: الطلاء في " شرح الجامع الصغير " بالمصنف.
[من الأشربة المحرمة نقيع التمر]
م: (ونقيع التمر) ش: أي الثالث من الأشربة المحرمة: نقيع التمر م: (وهو السكر) ش: السكر بفتح السين والكاف. م: (ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى) ش: أي الرابع من الأشربة المحرمة(12/343)
أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع: أحدها: في بيان مائيتها وهي التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وهذا عندنا، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم. وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» . وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وأشار إلى الكرمة والنخلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نقيع الزبيب بشرط الشدة، والغليان. م: (أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع: أحدها: في بيان مائيتها) ش: أي ماهيتها في اصطلاح الفقهاء: المائية مكان الماهية، وهو مائية الشيء كماهية الإنسان وهو حيوان ناطق م: (وهي التي من ماء العنب) ش: خاصة م: (إذا صار مسكرا) ش: أي ماهية الخمر هذا، وأشار بقوله: " خاصة " إلى: أن هذه الماهية مخصوصة بالخمر وأن غير الخمر يسمى باسم آخر.
م: (وهذا عندنا) ش: أي هذا الإطلاق عند علمائنا الحنفية م: (وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم) ش: أراد بأهل العلم: الفقهاء، وبأهل اللغة: أهل اللسان م: (وقال بعض الناس) ش: أي من علماء الفقه، وأراد بهم الأئمة الثلاثة، وأصحاب الظاهر م: (هو اسم لكل مسكر) ش: أي الخمر اسم لكل مسكر في أي شيء كان.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم عن أيوب السختياني عن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» وعند أحمد في " مسنده ": «وكل خمر حرام» وكذلك عند ابن حبان في " صحيحه ". وكذلك رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا ابن جريج عن أيوب السختياني، ومن طريقه رواه الدارقطني في " سننه " وهو عند مسلم أيضا لكن على الظن.
ولفظه عن نافع عن ابن عمر قال: ولا أعلمه إلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين: وأشار إلى الكرمة والنخلة» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين، النخلة، والعنبة» . وفي لفظ لمسلم: الكرمة والنخرة، ولهم أحاديث أخر في هذا الباب منها ما أخرجه البخاري، ومسلم عن ثابت «عن أنس بن مالك قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما أشربهم إلا فضيح البسرة التمر، فإذا مناد ينادي فقال: اخرج فانظر، فخرجت فنظرت فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: نحرت في سكك المدينة، فقال أبو طلحة: اخرج فأهرقها؛ فخرجت فأهرقتها» .
ومنها ما رواه البخاري من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مرفوعا: «نزل(12/344)
ولأنه مشتق من مخامرة العقل، وهو موجود في كل مسكر، ولنا: أنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه، ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيره؛ ولأن حرمة الخمر قطعية، وهي في غيرها ظنية، وإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تحريم الخمر وهي خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير» .
ومنها قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما خامر العقل. رواه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولأنه مشتق من مخامرة العقل) ش: أي ولأن الخمر مشتق من مخامرة العقل. يقال: خامره إذا خالطه. والكلام في اشتقاق الخمر الذي هو ثلاثي من المخامرة الذي هو مزيد فيه كالكلام في اشتقاق الوجه من المواجهة، وقد مر الكلام فيه في أول الكتاب مستقصى م: (وهو موجود في كل مسكر) ش: أي هذا المعنى موجود في كل ما كان مسكرا م: (ولنا: أنه) ش: أي لفظ الخمر م: (اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه) ش: أي اسم مخصوص للتي من ماء العنب إذا صار مسكرا حقيقة باتفاق أهل اللغة، قوله: فيما ذكرناه في التي من ماء العنب م: (ولهذا) ش: أي، ولأجل استعمال الخمر في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا م: (اشتهر استعماله فيه) ش: أي في استعمال لفظ الخمر في التي من ماء العنب المسكر م: (وفي غيره) ش: أي واشتهر في غير التي من ماء العنب غير اسم الخمر، حيث يسمى مثلثا وباذنا ونحوهما فكان استعمال هذا الاسم لغيره مجازا؛ لأن الترادف خلاف الأصل، وقد أريدت الحقيقة، فبطل المجاز.
وقال أبو عبيد، وأبو زيد، وابن السكيت: ما اتخذ من غير العنب ليس بخمر م: (ولأن حرمة الخمر قطعية) ش: يعني لا يصح أن يصرف في تحريمها إلا إلى حين تثبت الحرمة في تلك العين قطعا، وغير التي ليس بهذه المثابة لمكان الاجتهاد فيه أشار إليه بقوله: م: (وهي في غيرها ظنية) ش: أي وفي غير التي من ماء العنب إذا أسكر الحرمة ظنية لما قلنا.
م: (وإنما سمي خمرا لتخمره) ش: هذا جواب عن قولهم: لأنه مشتق من مخامرة العقل، يعني لا نسلم أنه مشتق من المخامرة بل هو مشتق من التخمر، وهو الشدة والقوة فإن بها شدة قوة وليست بغيرها حتى سميت أم الخبائث ما تسميته بهذا المعنى م: (لا لمخامرته العقل) ش: يعني ليست تسميته التي من ماء العنب إذا أسكر لمخالطته العقل، وهذا هو تحقيق كلام المصنف.
وقال صاحب " العناية ": قوله: " وإنما سمي " يعني غير التي خمرا لتخمره أي لصيرورته ماء كالخمر لا لمخامرته وهذا كلام فيه ما فيه تأمل وتدبر. وأما التوابع فإنما غضا بصرهما في هذا الموضع م: (على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه) ش: هذا جواب بطريق التسليم يعني: ولئن سلمنا أن يكون من مخامرة العقل، ولكن قد يكون موضع الاشتقاق عاما، والمشتق منه(12/345)
فإن النجم مشتق من النجوم، وهو الظهور. ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر، وهذا كثير النظير، والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خاصا وهو معنى قوله: لا ينافي كون الاسم أي اسم الخمر خاصا فيه أي في التي من ماء العنب إذا أسكر م: (فإن النجم مشتق من النجوم، وهو الظهور) ش: يعني مشتق من نجم إذا ظهر.
م: (ثم هو اسم خاص للنجم المعروف) ش: وهو الثريا م: (لا لكل ما ظهر) ش: أي ليس هو باسم لكل ما ظهر م: (وهذا كثير النظير) ش: نحو القارورة فإنها مشتقة من القرار، وليست باسما لكل ما يقر فيه شيء، والجرجر فإنه مشتق من الجرجرة وهو التحرك، ولا يسمى كل ما يتحرك جرجرا وهو الفرس الذي أحد شقيه أبيض، والآخر أسود ويسمى أبلق. ولا يسمى الثوب الذي فيه سواد، وبياض بهذا الاسم فعلم أن القياس لا مدخل له في اللغة.
م: (والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أراد به قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر» وذكر علاء الدين العالم طريقة الخلافة. وروي عن يحيى بن معين أنه قال: الأحاديث الثلاثة ليست بثابتة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أحدها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ، والثاني: «من مس ذكره فليتوضأ» ، والثالث: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ويحيى بن معين: هو الحافظ المستقر الذي قال فيه أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فهو ليس بحديث، ولد سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في ذي القعدة بالمدينة.
قلت: الأحسن أن يقال: منها هذا الحديث.
رواه سائر أصحاب مالك عنه موقوفا غير روح فإنه رفعه، وذكر أبو عمر في " التمهيد " هذا موقوفا في " الموطأ " لم يختلف فيه الرواية عن مالك إلا الماجشون فإنه رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرفعه. ولهذا رواه مسلم بالظن فقال: لا أعلمه إلا مرفوعا، ولئن سلمنا أنه مرفوع وأنه ثابت. والمراد منه: بيان حكم لا اللغة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم الأحكام لا اللغة فكأنه قال: كل ما يسكر كثيره فحكمه كحكم الخمر في الحرمة.(12/346)
والثاني: أريد به بيان الحكم، إذ هو اللائق بمنصب الرسالة. والثاني: في حق ثبوت هذا الاسم، وهذا الذي ذكره في الكتاب قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والثاني) ش: أي والحديث الثاني وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» م: (أريد به بيان الحكم) ش: والحرمة لا بيان الحقيقة، وفيه نزاع.
م: (إذ هو اللائق بمنصب الرسالة) ش: أي لأن بيان الحكم هو اللائق بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه بعث لبيان الأحكام، لا لبيان الحقائق، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يراد بقوله: «الخمر من هاتين الشجرتين» أحدهما فعمهما الخطاب، وأراد أحدهما كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما، وقد اخترق ابن حزم وشفع على الطحاوي منها، وقال: صدق الله -عز وجل - وكذب الطحاوي. قال: كليهما يخرجان من البحرين، وهذا سفاهة نمه وقلة فهم، فإن الطحاوي قال: هكذا قالت أئمة التفسير، ويجوز ذلك بطريق التغليب فكان الحديث محتملا، والمحتمل لا يصلح حجة.
وكذا الجواب عن قوله: نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة وأشباه ذلك أنها محمولة على الحالة التي يتولد منها السكر لأنها تعمل عمل الخمر في توليد السكر، واستحقاق الحد، وعليه أيضا يحمل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما خامر العقل؛ لأن المخامرة التغطية، والقليل من الأنبذة لا يخامر العقل، وقد نفى أبو الأسود الديلمي اسم الخمر على الطلا بقوله:
دع الخمر يشربها الغواة ... فإنني رأيت أخاها معنيا لمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه ... فإنه أخوها غذته أمه بلبانها
جعل الطلاء أخا للخمر وأخوه التي غيره أراد أنهما معا من الكرم.
م: (والثاني) ش: أي موضع الثاني من العشرة م: (في حق ثبوت هذا الاسم) ش: أي ثبوت اسم الخمر، م: (وهذا الذي ذكره في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري ": وهو قوله: وهو عصير العنب إذا غلا، وإذا اشتد وقذف بالزبد.
م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا المذكور، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الخمر م: (وعندهما: إذا اشتد) ش: أي وعند أبي يوسف، ومحمد: الخمر هي التي من العنب. م: (صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به) ش: أي لأن اسم الخمر يثبت بالاشتداد والغليان؛ لأنه حينئذ مسكرا خمرا.(12/347)
وكذا المعنى المحرم، وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: - أن الغليان بداية الشدة، وكمالها بقذف الزبد وسكوته، إذ به يتميز الصافي من الكدر، وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع. وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا. والثالث: أن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: إن السكر منها حرام؛ لأن به يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا المعنى المحرم) ش: وهو الإسكار م: (وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد) ش: أي المعنى المحرم المؤثر في الفساد، وهو يكون بالاشتداد ويتعلق التحريم.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الغليان بداية الشدة وكمالها) ش: أي كمال الشدة، وفي بعض النسخ: وكماله. م: (بقذف الزبد وسكونه) ش: أي وسكون الغليان. والتحقيق فيه: أن مطلق اسم الغليان ينصرف إلى الكامل، والغليان لا يتكامل ما لم يقذف بالزبد، فيكون الغليان موجودا من وجه دون وجه، فلا بد من قذف الزبد.
م: (إذ به يتميز الصافي من الكدر) ش: لأن أسفله يصير أعلاه فيتميز من كدره. م: (وأحكام الشرع قطعية) ش: أي أمهات أحكام الشرع قطعية لا مجال للظن والاحتمال فيها م: (فتناط بالنهاية) ش: أي يتعلق بالنهاية.
وحكم الإباحة كان ثانيا للعصير بيقين، فلا يزل إلا بيقين آخر مثله لم يثبت بسبب الحرمة، فبكماله لا ترتفع الإباحة؛ لأن بعض السبب لا عبرة م: (كالحد) ش: أي كحد الخمر، حيث يتعلق بالنهاية والغاية، وكذا حد الزنا، والسرقة لا تجب إلا بكمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه؛ لأن في النقصان شبهة العدم، والحدود تندرئ بالشبهات م: (وإكفار المستحل) ش: أي مستحل الخمر م: (وحرمة البيع) ش: أي وحرمة بيع الخمر.
وبهذا أن أحكام الخمر مقطوع بها كالحد، وتكفير المستحل، وحرمة البيع، والنجاسة فتناط بالنهاية، لما في النقصان من شبهة العمل، فلا يصح إثباتها بالشبهة. م: (وقيل: يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط، ويعني بالحد لقذف الزنا احتياطا لا للدرء. م: (والثالث) ش: أي الموضع الثالث: م: (أن عينها) ش: أي عين الخمر م: (حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه) ش: أي على السكر م: (ومن الناس من أنكر حرمة عينها. وقال: إن السكر منه حرام) ش: قيل: هو مروي عن بعض أهل الشام، وقدامة بن مظعون؛ م: (لأن به) ش: أي بالسكر م: (لأنه يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله) ش: سبحانه وتعالى، الصد: المنع، يقال: صد عنه إذا منعه.(12/348)
وهذا كفر؛ لأنه جحود الكتاب. فإنه تعالى سماه رجسا، والرجس ما هو محرم العين، وقد جاءت السنة متواترة أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حرم الخمر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا كفر) ش: أي هذا القول كفر م: (لأنه جحود الكتاب، فإنه تعالى سماه رجسا) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] م: (والرجس ما هو محرم العين) ش: يعني: الرجس اسم للحرام النجس عينا بلا شبهة، ودليله: قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ولحمه حرام نجس عينا بلا شبهة، فكذا الخمر، وفي الآية دليل على حرمتها من اثني عشر وجها على ما ذكر في " التيسير "، و " الكشاف " وهي: التأكيد بإنما، والجملة الإسمية، والمقارنة بالقمار والمقارنة بعبادة الأوثان، وهي الأصنام لأن الأنصاب جمع نصب، وهي ما نصب فعبد من دون الله. وجعلها رجسا وهو اسم للحرام النجس عينا كالميتة، والدم وجعلها من عمل الشيطان.
ولا يأتي منه إلا الشر البحت، والأمر بالاجتناب نص على التحريم، وجعل الاجتناب من الفلاح. فإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة وذكر ما ينتج منهما من وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر فما يؤدي القول للصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة، والأمر بالانتهاء؛ لأن معنى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] انتهوا، وهذه الصيغة من أبلغ ما ينهى عنه.
م: (وقد جاءت السنة متواترة) ش: أي متكاثرة ومتتابعة، وليس معناه التواتر الاصطلاحي أو يقول معناه: جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحاديث كلها تدل على حرمة الخمر. وكل واحد منها إذا لم يبلغ حد التواتر، فالقدر المشترك منها متواترة كشجاعة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وجود حاتم.
وسمي هذا التواتر بالمعنى م: (أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حرم الخمر» ش: منها ما أخرجه البخاري، ومسلم، عن ثابت «عن أنس قال: " كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر» ، وقد ذكرناه.
ومنها: ما أخرجه أحمد في " مسنده " عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله حرم الخمر، والميسر، والكرمة، والعنب» .
ومنها: ما أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب " ذم المسكر " عن محمد بن عبد الله بن مربع، عن المفصل بن سليمان التمري، عن عمرو بن سعيد، عن الزهري، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، أن أبان قال: سمعت عثمان بن عفان -رضي الله تعالى(12/349)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، ويعتزل الناس، فطمعت به امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت: إنما أدعوك لشهادة. فدخل معها يطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام، وباطية خمر، فقالت: والله إني ما دعوتك إلا لتقع علي، أو لتقتل هذا الغلام، أو تشرب الخمر. فسقته كأسا، فقال: زيديني، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبته ".» ورواه البيهقي في " سننه " موقوفا على عثمان، وهو أصلح.
ومنها: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده ": حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب العمي عن عيسى بن حارثة بن عبد الله قال: «جاء رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فقال: يا فلان: الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على كل وسجاها بأكبسة، ثم أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله بلغني أن الخمر قد حرمت؟، فقال: " أجل " قال: هل لي أن أردها على من ابتعتها منه؟. قال: " لا " قال: فأؤديها إلى من يكافئني منها؟. قال: " لا ". قال: فإن فيها ليتامى في حجري، قال: " إذا أتاني مال البحرين، فإني أعوض أيتامك عن مالهم ".
ثم نادى بالمدينة، فقال رجل: يا رسول الله: الأوعية ينتفع بها، قال: " فحلو أوكيتها " فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي» .
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه في " سننه " عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«مدمن خمر كعابد وثن» .
وفي " صحيح ابن حبان " عن ابن عباس نحوه.
وأخرج البزار في " مسنده " عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: «شارب الخمر كعابد وثن» .(12/350)
وعليه انعقد الإجماع؛
ولأن قليله يدعو إلى كثيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها ما أخرجه ابن ماجه أيضا عن أبي الدرداء: «أوصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر» .
وأخرج أيضا عن خباب بن الأرت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك والخمر، فإن خطيئتها أرفع الخطايا كما أن شجرتها أسرع الشجرة» .
ومنها ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقي من نهر الخبال ". قيل: يا أبا عبد الرحمن: وما نهر الخبال؟. قال: نهر من صديد أهل النار» .
وقال: حديث حسن، وعند أبي داود نحوه عن ابن عباس، وعن ابن ماجه نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعند أحمد نحوه عن أسماء بنت زيد، ومنها: ما رواه البخاري عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة» .
ومنها: ما أخرجه النسائي من حديث وهب، أخبرنا عمرو بن محمد، عن عبد الله بن يسار، سمع سالم بن عبد الله يقول: قال ابن عمر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق والديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» .
والأحاديث من الصحاح والحسنة كثيرة جدا م: (وعليه انعقد الإجماع) ش: أي على تحريم الخمر انعقد إجماع الأمة، فكل مسلم يعتقد حرمتها قطعا، إلا من خلع ربقة الإسلام من الدهرية والفلاسفة خذلهم الله -عز وجل -.
[علة تحريم قليل الخمر]
م: (ولأن قليله يدعو إلى كثيره) ش: أي قليل الخمر يدعو إلى كثيره، ولهذا قيل: ما من شراب وطعام، إلا ولذته في الابتداء تزيد على لذته في الانتهاء، إلا الخمر، فإن اللذة لشاربها تزداد بالإكثار. ولهذا يزداد حرمته إذا أصاب منها شيئا فكان القليل داعيا إلى الكثير فيكون(12/351)
وهذا من خواص الخمر. ولهذا تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه بخلاف سائر المطعومات، ثم هو غير معلوم عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليله لتعدية الاسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محرما ألا ترى إن الزنا لما حرم، حرم دواعيه، وإن المشي على قصد المعصية معصية م: (وهذا من خواص الخمر) .
ش: أي دعاء قليله إلى كثيره. م: (ولهذا) ش: أي: ولأجل ذلك، م: (تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه بخلاف سائر المطعومات) ش: حيث تشمئز النفس منها عند الاستكثار. وهذا كله ظاهر بالمشاهدة.
وقال الأترازي: ولو قال " بخلاف سائر المسكرات "، أو قال " بخلاف سائر المشروبات " كان أولى لأنه يريد الفرق بين الخمر، وسائر المسكرات، لا إلى سائر المطعومات.
قلت: الذي قاله المصنف هو الأولى؛ لأن مراده: بيان الفرق بين الخمر وغيره مما له طعم، سواء كان مطعوما أو مشروبا في كون دعاء قليله إلى كثيره حيث وجد هذا المعنى في الخمر دون غيره مطلقا. على أن الطعم يذكر، ويراد به الشرب كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] .
وأما الذي يتعلق بالنزاع مع الشافعي، فإنه ذكر فيه لفظ المسكرات حيث قال: لا يتعدى حكمه إلى المسكرات م: (ثم هو غير معلول عندنا) ش: أي القليل غير معلول عندنا.
ويقال: إن هذا اللفظ، أعني الخمر، غير معلول م: (حتى لا يتعدى حكمه) ش: وهو الحرمة م: (إلى سائر المسكرات) ش: أي إلى قليله سائر المسكرات حتى لا يجب الحد بشراب قطرة من غير الخمر من المسكرات م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعديه إليها) ش: أي تعدي هذا اللفظ إلى المسكرات لأن الخمر اسم لما يخامر العقل، ولهذا لا يسمى العصير خمرا قبل التخمر ولا بعد التخلل. وكل مسكر مخامر فيكون خمرا م: (وهذا بعيد) ش: أي قول الشافعي بعيد م: (لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليله لتعدية الاسم) ش: أي لأن تعليل الشافعي يخامره العقل، أو بالسنة المضطربة خلاف السنة المشهورة، وهي ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - موقوفا عليه، ومرفوعا: «حرمة الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» .
ولما كانت حرمتها لعينها لا يصح التعليل بمعنى المخامرة لتعدية اسمها إلى غيرها. ثم إن هذا الحديث أخرجه النسائي في " سننه " موقوفا على ابن عباس من طرق فأخرجه عن ابن شبرمة عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب» .(12/352)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي لفظ النسائي قال: وابن شبرمة لم يسمعه عن شداد. ثم أخرجه عن هشيم، عن ابن شبرمة، حدثني الثقة عن ابن شداد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «حرمت الخمر لعينها قليلها، وكثيرها. والمسكر من كل شراب» . وفي لفظ: «وما أسكر من كل شراب» ، وقال: هذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة.
ورواه البزار في " مسنده ": حدثنا محمد بن حرب، حدثنا أبو سفيان الحميري، حدثنا هشام، عن ابن شبرمة، عن عمار الذهبي، عن عبد الله بن شداد، ورواه عن ابن عون مسعر، والثوري، وشريك، ولا يعلم رواه عن ابن شبرمة عن عمار الذهبي عن ابن شداد عن ابن عباس إلا هشيم، ولا عن هشيم إلا أبو سفيان. ولم يكن هذا الحديث إلا عند محمد بن حرب، وكان واسطيا ثقة، حدثنا زيد بن أجرم أبو طالب الطائي، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد: فذكره.
حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا سفيان، عن أبي سلمة، عن أبي عون، عن ابن شداد، عن ابن عباس، قال: وشعبة يقول: " والمسكر ". وقد رواه جماعة عن أبي عون فاقتصرنا على رواية مسعر ولا نعلم روى الثوري عن مسعر حديثا مسندا إلا هذا الحديث، وأخرجه الطبراني في " معجمه " عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس موقوفا: «حرمت الخمر لعينها القليل منها، والكثير، والمسكر من كل شراب» .
وأخرجه عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس: مرفوعا نحوه، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة مسعر عن قلاد بن يحيى عن مسعر. عن أبي عون به، وقد رواه عن مسعر سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان، وإبراهيم:
أخبرنا عيينة، ورفعه سفيان بن عيينة، عن مسعر فقال: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفرد شعبة عن مسعر فقال: «والسكر من كل شراب» .
وأخرجه الدارقطني في " سننه " من طريق أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن مسعر، عن أبي عون، عن ابن شداد، عن ابن عباس موقوفا: «إنما حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» قال: وهذا هو الصواب عن ابن عباس؛ لأنه قد روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام» . ورواه طاوس وعطاء ومجاهد، عن ابن عباس: «قليل ما أسكر وكثيره حرام» .(12/353)
والتعليل في الأحكام لا في الأسماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرج قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، عن مسعر، عن ابن عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: «حرمت الخمر لعينها، القليل منها، والكثير، والمسكر من كل شراب» .
قال ابن حزم: صحيح، وتابع أبا نعيم جعفر بن عون، فرواه عن مسعر كذلك، ونافع عن مسعر عن سفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرواه عن ابن عون كذلك، وأخرجه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " التهذيب ".
حدثنا محمد بن سمن الجرسي: حدثنا عبد الله بن عيسى، حدثنا داود بن هند عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «حرم الله الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» .
وروي هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أيضا، أخرجه العقيلي في كتاب " الضعفاء " في ترجمة محمد بن الفرات، حدثنا عمرو بن أحمد بن عمر بن شرح، حدثنا يوسف بن عدي، حدثنا محمد بن الفرات الكوفي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصفا والمروة أسبوعا ثم استند إلى حائط من حيطان مكة قال: هل شربة؟، فأتي بقعبة من نبيذ فذاقه، فقطب، ورده. فقام إليه رجل من آل خطب، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا شراب أهل مكة. قال: فصب عليه الماء ثم شرب، ثم قال: " حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» .
وأعله محمد بن الفرات، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال فيه: ليس بشيء. ونقل عن البخاري أنه قال: منكر الحديث، وقال العقيلي: لا يتابع عليه.
وأخرجه العقيلي أيضا عن عبد الرحمن بن بشر العطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأشربة عام حجة الوداع فقال: " حرم الله الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» .
وقال عبد الرحمن: هذا مجهول في الرواية والسبب. وحديثه غير محفوظ إنما يروى هذا عن ابن عباس في قوله؛ أي ولأنه تعليل للتعدية الاسم يعني ما ذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تعليل لتعدية الاسم، فلا يصح لأن التعليل لا يكون إلا في الأحكام أشار إليه بقوله: م: (والتعليل في الأحكام لا في الأسماء) ش: أي يكون التعليل للتعدية في الأحكام، لا يكون في الأسماء؛ لأن الأسماء الموضوعة للأعيان والأشخاص يكون المعقود منها تعريف المسمى وإحضاره بذلك الاسم، لا تحقيق ذلك الوصف من الشيء، فلا يمكن التعدية.
وهب أن الخمر سمي به لمخامرته العقل، ولكن لا يدل على أن كل مخامرة مسمى خمرا(12/354)
والرابع: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا. والخامس: أنه يكفر مستحلها لإنكاره الدليل القطعي. والسادس: لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها وغاصبها، ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها، والتقوم يشعر بعزتها. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما مر من قبل ولأنه تعدية من التفاوت في المعنى.
[نجاسة الخمر] 1
(والرابع) ش: أي الموضع الرابع: م: (أنها) ش: أي الخمر م: (نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا) ش: أشار به إلى قوله: سماه رجسا فكان كالبول والدم المسفوح، م: (والخامس) ش: أي الموضع الخامس م: (أنه يكفر مستحلها) ش: أي مستحل الخمر م: (لإنكاره الدليل القطعي) ش: وهو الكتاب، وكذلك الأحاديث المشهورة، وكذلك الإجماع م: (والسادس) ش: أي الموضع السادس م: (لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها) ش: بالإجماع، قالوا: عدم الضمان في إتلافها لا يدل على إباحة إتلافها، فكذلك اختلفوا: هل يباح إتلافها، قال مجد الأئمة السرخسي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وقيل: يباح، والأصح: أنه لا يباح الإتلاف إلا لغرض صحيح، بأن كانت الشرب يشربها غالبا لو تركت عنده حتى لو كانت عند صالح لا يباع فإنها مملوكة، وفي بقائها فائدة وهو التخليل. كذا ذكره المحبوبي. م: (وغاصبها) ش: أي ولا يضمن غاصبها أيضا من مسلم م: (ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها، والتقوم يشعر بعزتها) ش: لأن معنى قولنا أن الشيء متقوم أي إنه مما يجب إبقاؤه بعينه، أو بمادته م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم «عن عبد الرحمن بن وعلة، قال: سألت ابن عباس عما يعمل من العنب؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: - إن رجلا أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راوية خمر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل علمت أن الله حرم شربها؟ " قال: لا، قال: فساره إنسان. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم ساررته؟ ". فقال: أمرته ببيعها، فقال: " إن الله حرم شربها، وحرم بيعها "، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها» .
وأخرج البخاري، ومسلم عن عطاء، «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح وهو يقول بمكة: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام ". فقيل: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟. فقال: " لا. هو حرام " ثم قال: " قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها، وأكلوا ثمنها» .
وأخرج أحمد في " مسنده "، «عن نافع بن كيسان، أن أباه أخبره أنه كان ينحل في الخمر في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أقبل في الشام، ومعه زقاق خمر يريد بها التجارة، فأتى رسول(12/355)
واختلفوا في سقوط ماليتها، والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل إليها وتضن بها. ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل. وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة. ولو كان الدين على ذمي، فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز. والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إني أتيت بشراب جيد؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا كيسان إنها حرمت بعدك ". قال: أفأبيعها يا رسول الله؟ قال: " إنها حرمت، وحرم ثمنها ". فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها فأهرقها» .
وأخرج أيضا «عن عبد الحميد بن جعفر، عن بشر بن حوشب، عن تميم الداري: أنه كان يهدي كل عام رواية خمر، فلما أنزل الله تحريم الخمر، جاء بها؛ فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحك. قال: " أشعرت أنها قد حرمت؟ " قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفلا أبيعها، وأنتفع بثمنها؟. قال: " إن الله حرم الخمر، وثمنها» .
[سقوط مالية الخمر] 1
(واختلفوا في سقوط ماليتها) ش: أي اختلف العلماء في سقوط مالية الخمر م: (والأصح أنه مال) ش: غير متقوم م: (لأن الطباع تميل إليها وتضن بها) ش: أي تبخل به، وهذا هو حقيقة المال م: (ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر) .
ش: وفي بعض النسخ. فأوفاه من ثمن خمر م: (لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل) ش: عنده إنما كان باطلا؛ ولأن الخمر مبيع، فكان باطلا م: (وهو غصب في يده أو أمانة) ش: أي هذا الثمن غصب في يده، وعلى قول أبي سعيد البرذعي: لأنه أخذه بغير إذن الشرع، [أما] على مذهب أبي نصر أحمد الطواويسي: لأنه أخذه برضى صاحبه م: (على حسب ما اختلفوا فيه) ش: أي في ثمن البيع الباطل على ما ذكرناه م: (كما في بيع الميتة) ش: يرجع إلى قوله: لأنه ثمن بيع باطل.
[الانتفاع بالنجس]
(ولو كان الدين على ذمي فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز) ش: لأنها مال متقوم في حق الكافر، وبيعها جائز عنده م: (والسابع) ش: أي الموضع السابع م: (حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام) .
ش: قال صاحب " العناية ": يريد بحرمة الانتفاع التداوي بالاحتقان، وسقي الدواب، والإقطار في الإحليل. قلت: أخذ هذا من كلام الكاكي. والكاكي من تاج الشريعة. ولكن قوله: حرمة الانتفاع أعم من هذه الثلاثة، والتخصيص بها تحكم، بل لا يجوز استعمالها في دهن أو طيب ونحوهما، ولا يجوز الإسقاط بها، وكذا التداوي بحقيقة وغيرها، ولا يجوز(12/356)
ولأنه واجب الاجتناب، وفي الانتفاع به اقتراب
والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سقيها للدواب، فإن سقى شاة فذبحت من ساعته أكل لحمها لأنه لم يؤثر في لحمها، فإن اعتادت شرب الخمر، وصارت بحال يوجد ريح الخمر من حلقها، فإن كان إبلا، يحبس شهرا ثم يؤكل، وإن كان بقرا يحبس عشرين يوما، وإن كان شاة يحبس عشرة أيام، والدجاجة تحبس ثلاثة أيام. فإن صب في حنطة، لم يؤكل، كما لو صب فيها بول، فإن غسلت فطبخت حل أكلها إذا لم يوجد ريح الخمر، وطعمها لزوال النجاسة.
قالوا: هذا إذا لم تنتفخ، فإن انتفخت هل تطهر بالغسل؟.
على قول أبي يوسف: تطهر إذا غسلت ثلاث مرت وجففت في كل مرة. وعلى قول محمد: لم تطهر أبدا. وعلى قول أبي يوسف: تغلى ثلاث مرات بماء طاهر، وتبرد في كل مرة. كذا ذكره قاضي خان في " شرح الجامع الصغير "، م: (ولأنه واجب الاجتناب) ش: أي ولأن الخمر واجب الاجتناب بالنص لكونه حراما م: (وفي الانتفاع به اقتراب) ش: وهو خلاف النص.
[الحد في شرب الخمر]
م: (والثامن) ش: أي الموضع الثامن م: (أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها) ش: أي من الخمر؛ لأن حرمتها لعينها، فلا يشترط فيه السكر م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه» .
ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن عاصم، عن أبي صالح، عن معاوية، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم» .
حدثنا موسى، حدثنا حماد، عن حميد بن يزيد، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بهذا المعنى، قال: وأحسبه قال في الخامسة: «إن شربها فاقتلوه» .
وروى أبو داود، والنسائي أيضا، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه» .
وقال أبو داود: وكذا حديث عمر بن أبي سملة عن أبيه، وقال: «فإن عاد في الرابعة(12/357)
إلا أن حكم القتل قد انتسخ فبقي الجلد مشروعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فاضربوا عنقه» . وكذا حديث سهل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شربوا الرابعة فاقتلوهم ". وكذا حديث ابن أبي نعيم عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذا حديث عبد الله بن عمر، والمريد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث [....] عن معاوية مرفوعا: «وإن عاد في الثالثة [فاجلدوه] ، والرابعة فاقتلوه» م: (إلا أن حكم القتل قد انتسخ) ش: بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث
» الحديث.
ورواه البيهقي من حديث ابن عيينة، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه " فأتي برجل قد شرب الخمر فجلدوه، ثم أتي به فجلدوه، ثم أتي به في الرابعة فجلده فرفع القتل عن الناس» وكانت رخصة.
ورواه الشافعي عن سفيان، وفيه: «فإن شرب فاقتلوه» لا يدري الزهري بعد الثالثة أو الرابعة. وقال في آخره: ووضع القتل، وصارت رخصة. وروي أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن قبيصة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، وإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". فأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل من الأنصار يقال: له نعيمان، فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب» .
وروى الحاكم، وقال: أخبرنا ابن أبي دارم الحافظ بالكوفة، حدثنا المنذر بن محمد القابوسي، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن صالح، عن محمد بن إسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عبد الله بن أبي بكر، عن ابن المنكدر، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعيمان أربع مرات في الخمر، فرأى المسلمون حرجا عظيما أن الحد قد وقع، وأن القتل أخر م: (فبقي الجلد مشروعا) ش: بالأحاديث المذكورة، وقد مر بيانه مستوفى في كتاب الحدود، فإن شربها إنسان لخوف العطش لا بأس به كما لو شرب البول. وقال الشافعي: يكره، فإن شربها بهذه الصورة لم يحد؛ لأن الضرورة كما أثرت في الشرب أثرت في سقوط الحد. فإن زاد على قدر الحاجة فسكر حد لانعدام الضرورة، وكذا إذا أكره على شرب الخمر فسكر لم يحد، فأما إذا خلط الماء بالخمر، فإن كان الماء أقل، أو كان الماء سواء يحد شاربه إذا دخل إلى جوفه. وإن كان الغلبة للماء فلا يحد شاربه إلا إذا سكر.(12/358)
وعليه انعقاد إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذا في " شرح الطحاوي " م: (وعليه انعقد إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي على أنها حرام، ويحد بشرب قليلها. كذا قاله الكاكي. والصواب أن يقال: أي وعلى الجلد انعقد الإجماع من الصحابة؛ لأن بين انعقاد الإجماع على تحريمها فيما قضي من قريب وهو قوله: وقد جاءت السنة المتواترة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الخمر، وعليه انعقد الإجماع. قال الكاكي: وما حكي عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معد كرب، وابن حدل بن سهم، بأنهم قالوا بحلها.
فقد روى الجوزجاني بإسناده إلى ابن عباس: أن قدامة بن مظعون، وعمرو بن مظعون شرب الخمر، وقال له عمر: ما حملك على ذلك. فقال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وأتي بالمهاجرين الأولين من أهل بدر، فقال عمر: أجيبوا الرجل. فسكتوا. فقال لابن عباس: أجبه. فقال: إنما أنزل الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم. ثم سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن الجلد فيها. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، فعليه حد المفترين ثمانين جلدة. فجلده عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثمانين، فقال: أخطأت التأويل.
وروي أن أناسا شربوا الخمر بالشام، فقال لهم يزيد بن أبي سفيان: شربتم الخمر، قالوا: نعم، بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] الآية. فكتب فيهم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فكتب عمر: أن ابعثهم إلي سريعا لئلا يفتنوا عباد الله. فبعث بهم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فقال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ما ترى؟. فقال: أرى إن زعموا أنها حلال، شرعوا في دين الله فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين. فجلدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ثمانين. ورجعوا إلى تحريمها فانعقد الإجماع. انتهى.
قلت: انعقاد الإجماع على تحريم الخمر كان قبل ذلك بالكتاب، والسنن المشهورة. وهؤلاء الذين ذكرهم إنما شربوا الخمر متأولين بالآية المذكورة مع كونهم مخطئين في هذا التأويل. فلهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لقدامة: أخطأت التأويل. ولم يكونوا مخالفين للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حتى يكون الإجماع وقت إقامة الحد عليهم على أن هذا الخبر لم ينته إلى الصحة. وقد رواه البيهقي في " سننه " من طريق سعيد بن عفير، حدثنا يحيى بن فليح، أخذ محمد، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يعني بالأيدي، والنعال، والعصي - ".(12/359)
وتقديره ما ذكرناه في الحدود
والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه على ما قالوه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكانوا في خلافة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أكثر منهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: لو فرضنا لهم حدا افتراضي نحو ما كان يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يجلدهم أربعين حتى توفي.
ثم كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - من بعدهم يجلدهم أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب، فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدوني بيني وبينك كتاب الله. قال: وفي أي كتاب الله تجد أني لا أجلدك. فقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية. شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدرا، وأحد، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: ألا تردون عليه ما يقول؟. فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على الباقين؛ لأنه يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] فإن كان من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فماذا ترون؟. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: نرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فجلد ثمانون.
وقال الذهبي في " مختصره ": لا أعرف ابن فليح.
م: (وتقديره ما ذكرناه في الحدود) ش: أي، وتقدير الجلد ذكرناه في كتاب الحدود.
[الخمر إذا طبخت حتى ذهب ثلثاها]
م: (والتاسع) ش: أي الموضع التاسع م: (أن الطبخ لا يؤثر فيها) ش: أي في الخمر بعد أن صار خمرا. يعني أن الخمر إذا طبخت حتى ذهب ثلثاه لا يحل م: (لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها) ش: أي لرفع الحرمة بعد ثبوتها لأن أثر الطبخ في إزالة صفة الإسكار والخمر حرام، وموجب للحد بعينها لا لإسكارها.
وفي " القنية ": قيل: لو زالت حرارتها بالطبخ، يحل شربها؛ لأنها ما بقيت خمرا م: (إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه) ش: أي إلا أن الشأن لا يحد في المطبوخ من الخمر ما لم يسكر. م: (على ما قالوا) ش: أي المشائخ. وإنما قال هكذا لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر أنه إذا شرب بعد الطبخ ولم يسكر.
ثم قالوا: قيل: يجب الحد. ثم قالوا: لا يجب لأنه ليس بخمر لغة، فإنه الخمر لغة:(12/360)
لأن الحد بالقليل في النيء خاصة لما ذكرناه. وهذا قد طبخ.
والعاشر: جواز تخليلها، وفيه خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسنذكره من بعد إن شاء الله هذا هو الكلام في الخمر. وأما العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة، ويسمى البازق والمنصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النيء من ماء العنب، وهذا مطبوخ، وليس بنيء أشار إليه بقوله: م: (لأن الحد بالقليل في النيء خاصة لما ذكرناه، وهذا قد طبخ) ش: أي صار مطبوخا.
وقال شمس الأئمة السرخسي: يحد من شرب منه قليلا كان أو كثيرا بالنص لأنه يوجب الحد في قليل الخمر.
[تخليل الخمر]
م: (والعاشر: جواز تخليلها) ش: أي الموضع العاشر في جواز تخليل الخمر م: (وفيه) ش: أي وفي هذا الموضع م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسنذكره من بعد إن شاء الله) ش: يعني في آخر هذا الباب.
م: (هذا هو الكلام في الخمر) ش: يعني الذي ذكرناه إلى هذا الموضع هو الكلام في أحكام الخمر م: (وأما العصير) ش: هذا عطف على قوله أما الخمر. وقد فصل بها قوله: الأشربة المحرمة أربعة؛ لأن التفصيل يكون بعد الإجمال.
م: (إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى البازق) ش: قيل: إنها كلمة معربة تعريب باده بالفارسي. وكما سئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عن البازق؛ فقال: سبق محمد البازق. وما أسكر فهو حرام. كذا في " الفائق ": إن لم يكن البازق في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويجوز أن يكون معناه: سبق قوله في البازق وغيره في " المغرب ".
هذا ضعيف: بل البازق عصير عنب طبخ أدنى طبخة فصار شديدا.
م: (والمنصف) ش: يجوز بالنصب عطفا على قوله: البازق، أي يسمى الذاهب أقل من الثلثين: البازق، والمنصف، وأيضا: أنه قد حصر الأشربة المحرمة على أربعة وهي: الخمر، والعصير الذاهب أقل من الثلثين، ونقيع التمر، ونقيع الزبيب.
ولو كان المنصف غير البازق، يلزم أن تكون الأشربة المحرمة خمسة، ويجوز المنصف بالرفع لأنه نوع من الذاهب أقل من الثلثين؛ لأنه أعم أن يكون منصفا أو غيره. ولهذا جعل شيخ الإسلام خواهر زاده البازق قسما، والمنصف قمسا حيث قال: أما الذي يتخذ من العنب، والرطب: قالوا: ستة: الخمر، والبازق، والمنصف، والمثلث، والتجيج، والجمهوري، والحميدي، وسمي أبا يوسفي.(12/361)
وهو ما ذهب نصفه بالطبخ، فكل ذلك حرام عندنا إذا غلي، واشتد وقذف بالزبد، أو إذا اشتد على الاختلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أيهما أوجه؟.
قلت: الأول أوجه معنى. وهذا أوجه لفظا؛ لأنه لو كان منصوبا يقال أيضا م: (وهو ما ذهب نصفه بالطبخ) ش: أي المنصف هو الذي ذهب نصفه بالطبخ. م: (فكل ذلك حرام عندنا) ش: يعني القليل، والكثير. ولكن م: (إذا غلى واشتد وقذف بالزبد) ش: على مذهب أبي حنيفة م: (أو إذا اشتد) ش: يعني من غير قذف بالزبد على مذهبهما أشار إلى ذلك بقوله م: (على الاختلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه في اشتراط القذف بالزبد. ثم تبين ما ذكره خواهر زاده من أنواع ما يعمل من العنب:
الأول: الخمر: وقد مر بيانه.
والثاني: البازق: فحكمه أنه حلال شربه ما دام حلوا، فإذا غلا، واشتد، وقذف بالزبد، فإنه يحرم قليله، وكثيره في قول علمائنا، وعامة العلماء. وعند بشر، وكذا أصحاب الظواهر، والأصفهاني، وغيرهم: يحل شربه، ولا يفسق شاربه، ولا يكفر مستحله، ولا يحد شاربه. وعندنا: ما لم يسكر منه. وعند الشافعي: يحد إذا شرب قطرة، ونجاسته غليظة.
وقال شيخ الإسلام: ينبغي أن تكون خفيفة على مذهبيهما لتعارض الأخبار في إباحته وحرمته.
والثالث: المنصف: وهو الذي طبخ من نيء العنب حتى بقي نصفه، فما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد، وقذف بالزبد، لا يحل شربه عندنا خلافا لبشر، وأهل الظاهر.
والرابع: المثلث، وسيجيء حكمه.
والخامس: المتبجج: واختلفوا في تفسيره، فقال الإمام أبو حنيفة الكعبي: هو العصير الذي صب فيه الماء، وطبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه فيكون الذاهب من العصير أقل من الثلثين، وأنه لما دام حلوا يحل شربه، وإذا غلا واشتد لا يحل شربه قليله، وكثيره عند علمائنا جميعا. وهو الذي سمي جمهوريا أيضا.
وقال بعضهم: التبجيج الحميد وهو أن يصب الماء على المثلث، ويترك حتى يشتد فإنه يحل شربه. قال شيخ الإسلام خواهر زاده: وهو الأصح. ويسمى أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان كثيرا يستعمله، وهل يشترط لإباحته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف بعدما صب الماء فيه، أو في طبخه؟ اختلف المشائخ فيه.(12/362)
وقال الأوزاعي: إنه مباح. وهو قول بعض المعتزلة؛ لأنه مشروب طيب وليس بخمر. ولنا: أنه رقيق ملذ مطرب، ولهذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام: كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول: يشترط أدنى طبخة لإباحته عندهما. وكان الشيخ الإمام الجوهري والإمام الحاكم أبو محمد الكفيني يقولان: لا يشترط.
ومن حكمه: أنه يحل شربه ما دام حلوا. وكذا إذا غلا، واشتد ما دون السكر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -.
ولا يحل السكر منه، ويحد على ذلك، ولا يحد إذا شرب قطرة خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال الأوزاعي) ش: وهو عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل الشام الأوزاعي نسبة إلى أوزاع: وهي من قبائل شتى. وقال ابن أبي خيثمة: الأوزاعي بطن من همدان. وقيل: بطن من ذي الكلاع. وقيل: اسمه مريد بن زيد بطن من حمير. وقيل غير ذلك.
م: (إنه مباح) ش: أي العصير الذي طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه يباح شربه.
م (وهو قول بعض المعتزلة) ش: وهو: بشر المريسي، وهو قول أصحاب الظاهر أيضا كداود الأصفهاني وغيره.
م: (لأنه مشروب طيب) ش: إذ الطيب ما يستطيبه الطبع م: (وليس بخمر) ش: صورة لأنه نيء، ولا معنى؛ لأن الخمر مشتق من المخامرة. ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: الخمر ما يخامر العقل، بخلاف القدح المسكر، فإنه يخامر العقل فيكون خمرا من حيث المعنى.
م: (ولنا: أنه رقيق) ش: أي أن العصير المذكور رقيق، واحترز به عن المثلث، والدبس، فإنهما غليظان م: (ملذ) ش: من الإلذاذ أراد به أنه جانب اللذة م: (مطرب) ش: من الإطراب فيدعو قليله إلى كثيره.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه ملذا مطربا م: (يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به) ش: وقد اجتمع الفساق عليه، ودعا قليله إلى كثيره بخلاف المثلث؛ لأنه ليس بخمر حقيقة، ولا معنى؛ لأنه لا يؤدي إلى المخامرة غالبا، فإن شرب القليل منه لا يدعو إلى الكثير لغلاظته، وكثافته، ولا يفسق شاربه للاختلاف فيه.
ولم يثبت الحرمة فيه بدليل قاطع بخلاف ما لو أكل متروك التسمية عمدا حيث يفسق مع الاختلاف في الحرمة لثبوتها بدليل قطعي. والحرمة متى تثبت ولم يثبت متى: لم يثبت بدليل(12/363)
وأما نقيع التمر، وهو السكر، وهو النيء من ماء التمر أي الرطب، فهو حرام مكروه، وقال شريك بن عبد الله: إنه مباح لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطعي لا يعتبر الاختلاف بعد ذلك.
[نقيع التمر وما يتخذ من التمر]
م: (وأما نقيع التمر) ش: عطف على قوله: وأما العصير م: (وهو السكر) ش: بفتح السين، والكاف جميعا، وما يتخذ من التمر أنواعه ثلاثة: السكر، والنبيذ، والفضيخ: وهو المراد بالنقيع، وإنه حرام كالبازق. والنقيع من أنقع التمر، والزبيب في الخابية إذا أبقاه فيها ليبتل ويخرج منه الحلاوة في الماء، وأهمه الشراب النقيع.
م: (وهو النيء من ماء التمر) ش: أي النقيع الذي هو السكر وهو النيء من ماء العنب م: (أي الرطب) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تفسير " صاحب الهداية ": التمر بالرطب فيه نظر؛ لأن التمر إذا نقع في الماء يسمى نقيعا، ولا حاجة إلى أن ينقع الرطب لا محالة يعني يسمى نقيعا.
وقياس كلامه هنا: أن يقول: في نقيع الزبيب؛ أي نقيع العنب، وليس بقوي.
قلت: هذا التفسير لا بد منه لأن الشراب المتخذ من التمر اسمه نبيذ التمر، لا السكر، وهو حلال على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
وقال تاج الشريعة: وفائدة تفسير التمر بالرطب: أن في نقيع اليابس ينبغي أن يكون خلاف الأوزاعي كما في المطبوخ قليلا من عصير العنب، والجامع أن في الأول ذهب البعض بالنار، وفي الثاني بالشمس، والحاصل: أنه ذكر خلاف الأوزاعي في الزبيب؛ لأنه ذهب بعضه بالشمس.
وهذا المعنى ثابت في التمر. ولم يذكر الخلاف فيه، علم أن المراد من التمر الرطب لأنه لا يخالفون في الرطب، وإنما يخالفنا في اليابس من التمر م: (فهو حرام مكروه) ش: أردف الحرام بالمكروه ليعلم أن درجة حرمته أدنى من الخمر؛ لأن حرمة السكر اجتهادية، وحرمة الخمر بالإجماع قطعية. ولهذا لا يكفر مستحل السكر، ويكفر مستحل الخمر.
م: (وقال شريك بن عبد الله) ش: ابن أبي شريك ساب بن عبد الله النخعي الكوفي من أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وممن أخذ منه ببخارى، ومات بالكوفة يوم السبت في ذي القعدة سنة سبع وسبعين ومائة، وروى له مسلم متابعة، تولى القضاء بواسط سنة وخمسين ومائة ثم تولى الكوفة بعد ذلك.
م: (إنه مباح) ش: أي السكر مباح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ش:(12/364)
امتن علينا به وهو بالمحرم لا يتحقق. ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أول الآية، ومن ثمرات النخيل، والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا أي يسقيكم من ثمرات النخيل، والأعناب أي من عصيرها. وحذف الدلالة يسقيكم قليله عليه. وقوله: تتخذون منه سكرا بيان وكشف عن كيفية الإسقاء. والسكر: النبيذ: وهو خمر التمر، والرزق الحسن: الدبس، والخل، والتمر، والزبيب، وغير ذلك. والرزق الحسن شرعا ما هو حلال. وحكم المعطوف، والمعطوف عليه واحد؛ لأن الآية لبيان الامتناع. ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون ما هو سكر، ورزق حسن.
م: (امتن علينا به) ش: أي بالسكر م: (وهو بالمحرم لا يتحقق) ش: أي الامتنان بالحرام لا يتحقق من الحكم. م: (ولنا إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: يعني على تحريم السكر.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه "، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا بطنه فوصف له السكر: فقال عبد الله بن مسعود: «إن الله لم يكن ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» .
أخبرنا معمر عن منصور به وزاد قال معمر: والسكر يكون من التمر، و [من] الطريق عبد الرزاق [عن] . روى الطبراني في " معجمه " بالسند الأول.
ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه "، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور به حدثنا جرير عن مغيرة، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: السكر خمر.
حدثنا عفص بن غياث، عن ليث، عن حرب، عن سعيد بن جبير، قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه سئل عن السكر، فقال: الخمر.
وفي " السنن " للدارقطني، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: كان عبد الله يحلف بالله: أن التي أمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكسر دنانه حين حرمت الخمر سكر التمر، والزبيب.
وروى البيهقي من حديث سفيان بن الأسود بن قيس، عن عمر بن سفيان، عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله سبحانه وتعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ؟.
قال: السكر ما حرم من ثمرتها؛ والرزق الحسن من ثمرتها.
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] فحرم الله السكر بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منها. قال: رزقا حسنا فهو حلال من الخل والرب والنبيذ، وأشباه ذلك. فأقره الله، وجعله حلالا لنا.(12/365)
ويدل عليه ما رويناه من قبل. والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها. وقيل: أراد به التوبيخ. معناه والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويدل عليه ما رويناه من قبل) ش: أي يدل على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ما رويناه من قبل، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» . وأشار إلى الكرمة والنخلة ولم يرو به بيان الإثم، فإنه ما بعث لذلك فيكون المراد بيان حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في الحرمة. ثم التي من ماء العنب إذا غلا واشتد خمرا. فكذا التي من ماء التمر.
إلا أنه لا يحد بنفس الشرب، لأن اختلاف العلماء أورثت فيها شبهة. م: (والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها) ش: أشار بهذا إلى أن الآية منسوخة. قال مقاتل: نزلت الآية قبل تحريم الخمر لأن السورة مكية، وتحريم الخمر بالمدينة، وروى البيهقي من حديث شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم الشعبي، وأبي رزين: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] هي منسوخة، فإذا كانت منسوخة فلا يجوز الاحتجاج به.
وفي " الكشاف "، وقيل: السكر: النبيذ، وهو عصير العنب، والزبيب، والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر. ويحتج بهذه الآية.
م: (وقيل: أراد به التوبيخ) ش: أي أراد بالآية الشريفة التوبيخ، أي أراد بالآية المذكورة التوبيخ لا الامتنان م: (معناه: والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا) ش: يعني بسفاهتكم تتخذون منه سكرا حراما وتدعون رزقا حسنا: أي تتركون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي " الذخيرة ": ما يتخذون من الشراب، من الخمر ثلاثة للسكر والعصير وهو الذي يسمى فضيخا، والنبيذ.
أما السكر فهو الذي من باب الرطب، فإنه حلال ما دام حلوا. وإذا اشتد وقذف بالزبد فهو حرام عندنا، وهو الصحيح خلافا للبعض وأما الفضيخ، فهو التي من ماء البسر المذنب، والاسم مشتق من الفضخ وهو الكسر.(12/366)
وأما نقيع الزبيب وهو النيء من ماء الزبيب، فهو حرام إذا اشتد وغلي. ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي، وقد بينا المعنى من قبل، إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر التي لا يكفر مستحلها ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية وحرمة الخمر قطعية. ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر. ويجب بشرب قطرة من الخمر ونجاستها خفيفة في رواية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالبسر المذنب بكسر ويجعل في جب، ويصب عليه الماء فيخرج حلاوته، وسيجيء فضيخا ولكونه مستخرجا من البسر المفضوخ فإنه حلال ما دام حلوا، فإذا اشتد وقذف بالزبد فهو حرام عندنا وأكثر أهل العلم.
ولكن حرمته عندنا دون حرمة الخمر، فإن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز بيع السكر، ولا يجب الحد بشرب قليله، ولا يمنع جواز الصلاة بإصابة الثوب أكثر من قدر الدرهم.
وأما نبيذ التمر وهو نقيعه، إذا طبخ أدنى طبخة وغلا واشتد وقذف بالزبد فإنه حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لاستمرار الطعام والتداوي، والسكر منه حرام. وهو قول محمد أولا، ثم رجع وقال: لا يحل شربه. وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[من الأشربة المحرمة نقيع الزبيب]
م: (وأما نقيع الزبيب) ش: عطف على قوله: وأما نقيع التمر، وهو النوع الرابع من الأشربة المحرمة، وقيد نقيع الزبيب، لأنه نبيذ الزبيب، وهو الذي طبخ أدنى طبخة يحل شربه إلى السكر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - كالمثلث العيني عندهما. م: (وهو النيء من ماء الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلى) ش: أي غلا بنفسه، لا بالنار.
م: (ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي) ش: أي يجيء خلافه على تقليله أنه مشروب طيب وليس بخمر، وهو قول شريك والظاهرية أيضا، م: (وقد بينا المعنى من قبل) ش: أشار به إلى قوله: إنه رقيق، ملذ، مطرب.... إلى آخره.
م: (إلا أن حرمة هذه الأشربة) ش: يعني البازق، والمنصف، ونقيع التمر، ونقيع الزبيب م: (دون حرمة الخمر التي لا يكفر مستحلها ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها) ش: أي حرمة هذه الأشربة م: (اجتهادية وحرمة الخمر قطعية) ش: لعدم الاختلاف فيها.
م: (ولا يجب الحد بشربها) ش: أي بشرب هذه الأشربة م: (حتى يسكر) ش: بخلاف الخمر، فإن بشرب قطرة منها يجب الحد وهو معنى قوله: م: (ويجب بشرب قطرة من الخمر) ش: لأن الحرمة لعينها كما بينا. م: (ونجاستها) ش: أي نجاسة هذه الأشربة م: (خفيفة في رواية) ش: لقصور دليل الحرمة عن القطع، واختلاف العلماء.(12/367)
وغليظة في أخرى. ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة.
ويجوز بيعها ويضمن متلفها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لهما فيهما؛ لأنه مال متقوم. وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها. بخلاف الخمر، غير أن عنده يجب قيمتها لا مثلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الفضلي: وهو قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وغليظة في أخرى) ش: أي في رواية أخرى رواها هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -: لأنه لما ألحق بالخمر في حق الحرمة، ألحق في حق النجاسة. م: (ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة) ش: لقطع حرمتها. ومنه بقوله: رواية واحدة، على أن تغليظ نجاسة الخمر ليس فيه إلا قول واحد يتغلظ بنجاستها.
فإن قلت: نصب رواية بماذا؟
قلت: على المصدرية، تقديره: روي ذلك رواية واحدة.
[بيع الأشربة المحرمة]
م: (ويجوز بيعها) ش: بيع الأشربة المذكورة سوى الخمر م: (ويضمن متلفها) ش: أي متلف هذه الأشربة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يرجع إلى المسألتين.
م: (خلافا لهما فيهما) ش: أي خلافا لأبي يوسف، ومحمد -رحمهما الله - في البيع والإتلاف وبقولهما قالت الثلاثة؛ لأنه غير محرم التناول فلا يجوز بيعه كالخمر. وهذا لأن جواز البيع باعتبار صفة المالية والتقوم، وهما باعتبار كون العين منتفعا به شرعا.
ولا منفعة بهذا المشروب سوى الشرب، فإذا حرم شربه شرعا كان بيعه فاسدا قياسا على الخمر م: (لأنه مال متقوم) ش: هذا دليل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي: لأن هذه الأشربة مال متقوم، وتذكير الضمير باعتبار الحال أو باعتبار المذكور أو باعتبار كل واحد أما كونه مالا فلجريان الصيغة فيه، وأما كونه متقوما، فلعدم القطع في حرمته أشار إليه بقوله:
م: (وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها) ش: لأن الناس اختلفوا في إباحة شربه، فيجوز بيعه كالمثلث. وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع، فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه، وكذا بيع السرقين يجوز وإن حرم تناوله.
م: (بخلاف الخمر) ش: حيث لا يجوز بيعها ولا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم، لقيام الدليل لسقوط تقومها م: (غير أن عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يجب قيمتها) ش: أي قيمة هذه الأشربة عند الإتلاف م: (لا مثلها) ش: أي لا يجب مثلها كما إذا أتلف المسلم خمر الذمي حيث يجب القيمة لا المثل، وإن كانت الخمر من ذوات الأمثال لأن المسلم ممنوع من تملكها.(12/368)
على ما عرف ولا ينتفع بها بوجه من الوجوه لأنها محرمة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين. وقال في " الجامع الصغير ": وما سوى ذلك من الأشربة، فلا بأس به. قالوا: هذا الجواب على هذا العموم، والبيان لا يوجد في غيره وهو نص على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم ومن ذهب عقله بالبنج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (على ما عرف) ش: أي كما عرف أن المسلم ممنوع عن التصرف في الحرام فلا يكون مأمورا بإعطاء المثل. حتى لو أعطى، يخرج عن العهدة إلا أنه مكروه م: (ولا ينتفع بها) ش: أي بالأشربة المذكورة م: (بوجه من الوجوه لأنها محرمة) ش: فلا يجوز الانتفاع بالحرام، ألا ترى أن شيخ الإسلام ذكر في شرح كتاب الأشربة: أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال: في بطني صفرة، فوصف إلي السكر، فقال عبد الله: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. وقد ذكرنا نحو هذا عن قريب في رواية البيهقي، وفي " ديوان الأدب ": الصفرة: حية تكون في البطن.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين) ش: قال الكرخي في " مختصره ": ما رواه الحسن عن أبي يوسف جواز البيع، خلاف المشهور عنه، والمشهور عنه: أن بيعه لا يجوز.
م: (وقال في " الجامع الصغير ": وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به) ش: إنما أورد هذا لبيان أن العموم المذكور فيه لا يوجد في غيره، أي: فيما سوى الأشربة المحرمة، وهي: الخمر، والسكر، ونقيع الزبيب، والعصير الذي ذهب بالطبخ أقل من ثلثيه: فلا بأس بشربه.
م: (قالوا) ش: أي قال شراح " الجامع الصغير " مثل فخر الإسلام وغيره: م: (هذا الجواب على هذا العموم) ش: يعني في جميع الأشربة غير المستثناة. م: (والبيان) ش: والتصريح م: (لا يوجد في غيره) ش: أي في غير " الجامع الصغير " م: (وهو نص) ش: أي الذي ذكره في " الجامع الصغير " نص م: (على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم) ش: أي النائم إذا طلق امرأته لا يقع، فكذا طلاق السكران من المتخذ من هذه الأشياء.
م: (ومن ذهب عقله بالبنج) ش: أي وبمنزلة من ذهب عقله بالبنج فإنه لا يقع طلاقه، ولا يصح بيعه، ولا إقراره. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما لا يقع الطلاق البنجي إذا لم يعلم أنه بنج. أما إذا علم وأقدم على أكله: يقع طلاقه.(12/369)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكر صاحب " المحيط ": أن هذا التفصيل منقول عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذكر أيضا: أن السكر من البنج حرام، وأن طلاق البنجي واقع. وقيل: أكل البنج حرام وإن لم يسكر؛ لما روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الميسر، والخمر، والكوية» ، والعنبر. قيل: هو البنج، والكوية: الطيل.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرحه ": أكل قليل السقمونيا، والبنج مباح للتداوي. وما زاد على ذلك إذا كان يقتل أو يذهب العقل حرام.
فإن قلت: ما البنج؟
قلت: قال في " البيان ": البنج بالفتح نبت له حب يسلب ويخلط العقل، وهو فارسي معرب، وهو بالفارسية بنك.
وذكر القاضي في " كتاب النبات ": أن البنج حشيش له قضبان غلاظ، وورق عراض، صافحة الطوال، مشققة الأطراف عليها زغب، وعلى القضبان ثمر يشبه الجلبان في شكله، متفرق في طول القضبان بواحد بعد واحد. كل واحد منها مطبق بشيء يشبه بالمطرس وهذا التمر فلأنه من بذر يشبه بذر الخشخاش، وهو ثلاثة أصناف:
منها ما له بذر أسود: فهو يحدث جنونا وصرعا.
ومنها: بذر أحمر حمرة معتدلة، وهو قريب من هذا في القوة، ولذلك ينبغي أن يتوقاهم الإنسان جميعا لأنهما يقتلان.
ومنها: ما له بذر أبيض، وزهر أبيض وهو من أنفع علاج في الطب، تنبت بالقرب من الشجر والخرابات. انتهى. فعلم من هذا أن الذي يدعي أن البنج هو النبات الذي يستعمله القبلة التي يسمى بين الناس بالحشيش بلغة العرب خطأ، وأن البنج غير هذا لأن الحشيش غير قتال، لكن مخدر، ومفتر، ومكسل. وفيه أوصاف ذميمة فكذلك وقع إجماع المتأخرين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على تحريم أكله، وهو نبات أخضر يشبه القرط، وبه بذر يشبه السدانق منه بري، ومنه ما يزرع. وأكثره يزرع؛ وله رائحة ذكية جدا.
ومنهم من يقول إنه صنف من القنب. قال العانقي: القنب الشهد إلى آخره ... : بالفارسية، وهو نبات يعمل منه حبال قوية، وله ورق منتن الرائحة، وقضبان طوال، وبذر مستدير يؤكل. فعلى كل تقدير البنج غير الحشيشة.(12/370)
ولبن الرماك. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حرام ويحد شاربه إذا سكر منه، ويقع طلاقه إذا سكر منه كما في سائر الأشربة المحرمة. وقال فيه أيضا: وكان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فإني أكرهه. ثم رجع إلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقوله الأول مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كل مسكر حرام، إلا أنه تفرد بهذا الشرط. ومعنى قوله يبلغ: يغلي ويشتد، ومعنى قوله: ولا يفسد: لا يحمض، ووجهه أن بقاءه هذه المدة من غير أن يحمض دلالة قوته وشدته فكان آية حرمته، ومثل ذلك مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر حقيقة الشدة على الحد الذي ذكرناه فيما يحرم أصل شربه، وفيما يحرم السكر منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع إلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم يحرم كل مسكر. ورجع عن هذا الشرط أيضا وقال في " المختصر ": ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة، حلال وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره من غير لهو ولا طرب. وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد والشافعي -رحمهما الله -: حرام. والكلام فيه كالكلام في المثلث العنبي، ونذكره إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[السكر من لبن الرماك]
م: (ولبن الرماك) ش: أي وبمنزلة من ذهب عقله بلبن الرماك، وهو جمع رمكة، وهي الأنثى من الخيل. وفي " الاختيار " قيل: يجب ألا يحل لبن الرماك عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمها؛ إذ هو متولد منه.
وجوابه: أن كراهية اللحم لاحترامه، أو لما في إباحته من تعليل آلة الجهاد، فلا يتعدى إلى لبنه. وسيجيء هو في متن الكتاب منقولا عن أبي حنيفة: المتخذ من لبن الرماك لا يحل اعتبارا للجهاد، إذ هو متولد منه. والأصح: أنه يحل عنده.
وذكر في بعض شروح " الكنز ": لبن الرمكة حلال بالإجماع.
قلت: الذي يفعله ترك مصر من لبن الرماك ينبغي أن يكون حراما، لأنهم يأخذون اللبن الخالص من الرمكة، ويتركونه أياما حتى يشتد جدا، ويخلطون به السكر، ويشربونه للهو والطرب، ويسكرون منه كما يسكر أحدنا من غيره من المسكرات. وربما يضيفون إليه أشياء أخرى ويسمونه قمزا ويسكرون منه كالخمر. وهذا لا شك حرام.
وقد روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[وفي هذا المحل سقط من نسخة المؤلف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورقة كاملة فقدت سنة من دخول سلطان الأعظم سليمان خان بن عثمان سقى الله ثراه جنوب " الرحمة ". هكذا أخبرني بذلك الشمس العلامة محمد بن الإمام الجليل الشيخ شهاب الدين الشهير ب: " ابن سلمى " - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -] .(12/371)
قال: ولا بأس بالخليطين لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شربة، ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي فيه اختلاف العلماء -أي علمائنا -: فهو نبيذ التمر إذا طبخ أدنى طبخة ثم اشتد. فإن اشتد قبل الطبخ، فهو نبيذ التمر، وهو السكر، أما إذا طبخ أدنى طبخة، ثم اشتد، فإن في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله - الآخر: لا بأس بالقليل لاستمراء الطعام.
وفي قول أبي يوسف الأول، ومحمد الآخر فيه: وبه يأخذ. واتفقوا أنه لو شرب للهو لا يجوز: وهكذا روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالي ". وقال: ولو أراد أن يشرب السكر، فقليله وكثيره حرام. والقعود إليه حرام، ومشيه إليه حرام. وإنما يجوز إذا قصد به استمراء الطعام.
[شرب الخليطان نقيع التمر ونقيع الزبيب]
م: (قال: ولا بأس بالخليطين) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": والخليطان عبارة عن نقيع التمر، ونقيع الزبيب، يخلطان فيطبخ بعد ذلك أدنى طبخة، ويترك إلى أن يغلي ويشتد. م: (لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شربة ماء كدت أهتدي إلى منزلي، فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب) .
ش: وهذا ما رواه محمد بن إياس في كتابه " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي إسحاق سليمان الشيباني عن ابن زياد أن أنه أفطر عند عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فسقاه شرابا، فكأنه أخذ منه، فلما أصبح غدا إليه فقال له:
ما هذا الشراب، ما كدت أهتدي إلى منزلي؟. فقال ابن عمر: ما زدناك على عجوة وزبيب. انتهى.
وابن زياد وهو عبد الله بن زياد، والعجوة: التمر الذي يصب فيه الفرس لجودته. وروى أبو داود عن عبد الله الخريبي، عن مسعر، عن موسى بن عبد الله، عن امرأة من بني أسد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينبذ له نبيذ فتلقى فيه تمرا وتمر فتلقى فيه زبيب» .
وروي أيضا عن زياد الحساني، حدثنا أبو بكر، أخبرنا عتاب بن عبد العزيز «عن صفية -يعني صفية بنت عطية - قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة، فسألنا عن التمر،(12/372)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والزبيب؟، فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب فألقيه في إناء، فأمرسه ثم أسقيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وفي هذا كله دليل على أن شرب الخليطين لا بأس به، يدل على ذلك قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما زدناك على عجوة وزبيب. «وقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فتلقي فيه تمرا، وتمر ليلقي فيه زبيب» . وكذلك قوله: «أخذ قبضة من تمر، وقبضة من زبيب.» الحديث.
وقال تاج الشريعة: والمتقشفة يقولون: لا يحل شربه، وإن كان حلوا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن شراب الخليطين، وعن القران بين التمر، وعن الجمع بين اللقمتين» ، وروي: «أنه نهى عن الجمع بين التمر، والزبيب، والرطب، والبسر» . وتأويل ذلك أنه كان في زمن الجدب. وكره الأغنياء الجمع بين اللقمتين، والدليل على أنه لا بأس به في غير زمن القحط: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أنبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمر البسرة فأمرني فألقيت فيه زبيبا» . يريد ما ذكرنا بما روي من حديث ابن زياد المذكور، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان معروفا بالزهد، والفقه بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلا نظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه. ولا أنه يشرب ما كان يتناوله نص التحريم وقد ذكرناه. إنما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله، وإنما كان هذا على سبيل المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فإن ذلك لا يحل.
وفي قوله: " ما زدناك على عجوة وزبيب " دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ بماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا؛ ولأنه لما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد بانفراده جاز الجمع بمنزلة السكر، والعانيد. انتهى كلامه.
وفيه: روي أيضا لقول أصحاب الظواهر بعض الروافض. وأحمد في رواية أنهم لا يحلون شرب الخليطين، وإن كان حلوا، وإن كانوا لا يحلون الجمع بين اللقمتين بخلاف المرقة والإدام. والجمع بين التمرتين بعد الطعام والمستقيم على التعاقب فإنه لا يكره بالإجماع.
ولنا حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] بلا تفصيل بين حالة وحالة. والحديث محمول على الشدة والقحط. وكذا روي عن(12/373)
وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا؛ لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه، وما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان في ابتداء الإسلام.
م: (وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا) ش: أي: وهذا الذي سقاه ابن عمر لابن زياد كان من الخليطين، والحال أنه كان مطبوخا لا نيئا م: (لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه) ش: أي لأن المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حرمة نقيع الزبيب، والمراد منه هو: النيء منه.
وأشار بذلك إلى ما روي أنه في نقيع الزبيب خمر أحسها، فكذلك يحمل ما روي عن ابن زياد على المطبوخ حتى لا يناقض قول ابن عمر فعله، وهذا تأويل " صاحب الهداية " غير مستقيم؛ لأن حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي ذكرناه الآن صريح على أن ما كان من الخليطين كان نيئا، وما روي عن ابن عمر من حرمة نقيع الزبيب لم يثبت، ولم يذكره أهل النقل، فكيف هذا دليلا على أن المراد ما ذكر من حديث ابن زياد كان مطبوخا لا نيئا؟ م: (وما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر» محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء) .
ش: هذا جواب عما استدرك به المحرمون الجمع بين التمر، والزبيب، والرطب، والبسر من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجمع بين هذه الأشياء وهو ما روي عن البخاري، ومسلم، وبقية الستة، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا، ونهى أن يخلط بين البسر، والرطب جميعا» .
وأخرج الجماعة إلا الترمذي عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خليط الزبيب، والتمر، وعن خليط البسر، والتمر، وعن خليط الزبيب، والتمر، وقال: " انتبذوا كل واحدة على حدة» وفي لفظ لمسلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا الزهر والرطب والزبيب جميعا ولكن انتبذوا كل واحد على حدته» ولم يذكر البخاري فيه الرطب والبسر.
وأخرج مسلم عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخلط التمر، والزبيب جميعا، وأن يخلط التمر، والرطب جميعا» . وأخرج أيضا عن نافع بن عمر قال: «نهي أن ينبذ البسر والرطب جميعا، والتمر والزبيب جميعا» . وأخرج أيضا عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخلط بسرا بتمر، وزبيبا ببسر، وقال: من شرب منكم النبيذ فليشرب زبيبا فردا، أو تمرا فردا، أو بسرا فردا» .(12/374)
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونبيذ العسل والتين، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - إذا كان من غير لهو وطرب لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وأشار إلى الكرمة والنخلة خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: محمول على حال الشدة أي القحط، وإن كان ذلك في الابتداء أي في ابتداء الإسلام، ويؤيده ما رواه أحمد بن الحسن في كتاب " الآثار الحسان " عن أبي حنيفة: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا بأس بنبيذ خليط التمر، والزبيب، وإنما كرهها لشدة العيش في زمن الأول كما كره السمن، واللحم، وما كره الإقران. فأما إذا وسع الله سبحانه وتعالى من المسلمين فلا بأس به.
وأخرج ابن عدي في " الكامل " عن عمر بن دريد حدثنا عطاء بن أبي ميمونة «عن أم سليم وأبي طلحة: " أنهما كانا يشربان نبيذ الزبيب والبسر يخلطانه، فقيل له: يا أبا طلحة إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن هذا؟. قال: نهانا عن العوز في ذلك الزمان، كما نهى عن الإقران» . وأعله بعمر بن ذريح.
[شرب نبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير]
م: (قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ) ش: أي قال القدوري في " مختصره " م: (وهذا) ش: أي قوله حلال م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - إذا كان من غير لهو وطرب) ش: قيد بهذا القيد لأنه إذا شرب لأجل اللهو، والطرب يحرم بالاتفاق م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الخمر من هاتين الشجرتين " وأشار إلى الكرمة والنخلة» خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم) ش: قد تقدم في أول الباب أن هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» وفي لفظ لمسلم: «الكرمة والنخلة» .
قوله: خص التحريم، أي بالكرمة، والنخلة فبقي ما وراءهما على أصل الإباحة، وفي " شرح الأقطع " ولأن هذه الأطعمة مقتات فلا يعتبر بما يحدث فيها من الشدة والسكر، كما لا يعتبر السكر الذي يوجد في الخبز في بعض البلاد، والسكر الذي يوجد في اللبن.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح كتاب الأشربة ": الذي يتخذ من العسل، والشهد، والفرصاد، والفانيذ، والسكر، والأجاص، ومن الحبوب كالحنطة، والشعير،(12/375)
ثم قيل: يشترط الطبخ فيه لإباحته. وقيل: لا يشترط، وهو المذكور في الكتاب، ولأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان. وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد،
. وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والذرة، فإنه يحل شربه قبل أن يشتد بلا خلاف، فأما إذا غلى واشتد، وقذف بالزبد، وطبخ أدنى طبخة يحل عند أبي حنيفة، وأبي يوسف -رحمهما الله -، وقالوا: لا رواية لهذا على قول محمد. وقد اختلف المشايخ المتأخرون على قوله، منهم من قال: يحل شربه، على قوله " ما دون السكر "، ومنهم من قال: لا يحل.
وحكي عن القاضي الإمام أبي جعفر أنه كان يقول: وجدت رواية عن محمد أنه قال: أكره هذا إذا طبخ أدنى طبخة، وأما إذا لم يطبخ وقد غلى واشتد هل يحل شربه على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؟ . قالوا: فيه روايتان في رواية: يشترط أدنى طبخة للإباحة، لأن الأشربة المتخذة من هذه الأشياء بمنزلة نقيع التمر، والزبيب، والطبخ، يشترط فيها للإباحة، فكذا هذا.
وفي رواية: لا يشترط، لأن حال هذه الأشربة دون نقيع الزبيب، والتمر؛ لأن نقيع التمر اتخذهما هو أصل للخمر شرعا، فإن أصل الخمر شرعا التمر، والعنب على ما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، وقد شرط أدنى طبخة في نقيع الزبيب، والتمر، فيجب أن يشترط أدنى طبخة في هذه الأشربة ثم ظهر نقصان هذه الأشربة عن نقيع الزبيب والتمر، هذا إذا لم يسكر من هذه الأشربة. أما السكر منه فحرام بالإجماع.
م: (ثم قيل: يشترط الطبخ فيه) ش: أي في نبيذ كل واحد من الأشياء المذكورة م: (لإباحته) ش: أي لأجل إباحته، يعني يكون مباحا م: (وقيل: لا يشترط) ش: أي الطبخ م: (وهو المذكور في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان) ش: يعني مطبوخا كان أو غير مطبوخ، أما إذا طبخ أدنى طبخة فلأن المتخذ من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة يحل ما دون السكر مع أنه متخذ من أصل الخمر، فهذا أولى. وأما إذا لم يطبخ أدنى طبخة فكذلك الجواب إظهار التفاوت بين المتخذ من أصل الخمر وغيره.
[هل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه]
م: (وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل: لا يحد) ش: وهو قول الفقيه أبي جعفر؛ لأنه متخذ مما ليس بأصل الخمر، فكان بمنزلة البنج، ولبن الرماك، والسكر منهما حرام، فلا يحد، فكذا هنا.(12/376)
وقد ذكرنا الوجه من قبل. قالوا: والأصح أنه يحد، فإنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن سكر من الأشربة: أنه يحد من غير تفصيل، وهذا لأن الفساق يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم على سائر الأشربة، بل فوق ذلك،
وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه، إذ هو متولد منه. قالوا: والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه فلا يتعدى إلى لبنه.
-: وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقد ذكرنا الوجه من قبل) ش: أشار به إلى قوله: لأن قليله يدعو إلى كثيره. وقيل: يجوز أن يكون هذا إشارة إلى قوله: " بمنزلة النائم "، وهو مذهب عقله بالبنج، ولبن الرماك.
وقيل: يجوز أن يكون إشارة إلى المعنى المستفاد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخمر من هاتين الشجرتين» ، يعني أن هذه الأنبذة ليست بمتخذة مما هو أصل الخمر.
م: (قالوا: والأصح أنه يحد) ش: أي قال المشايخ: الأصح: أنه يحد، وهو قول الحسن بن زياد؛ م: (فإنه روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن سكر من الأشربة: أنه يحد من غير تفصيل) ش: بين شراب وشراب، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام ".
م: (وهذا) ش: يعني كون وجود الحد صحيحا م: (لأن الفساق) ش: بضم الفاء جمع فاسق م: (يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم) ش: بنصب العين على نزع الخافض، أي كاجتماعهم م: (على سائر الأشربة، بل فوق ذلك) ش: أي: بل يجتمعون على المتخذ من هذه الأشياء فوق اجتماعهم على غيره من الأشربة، وهذا بالمشاهدة ظاهر في كل البلاد، وذلك إما لسهولة حصوله، وإما لكثرته، وإما لاعتقادهم إباحته.
[المتخذ من الألبان إذا اشتد هل يحد بشربه]
م: (وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا) ش: أي على اختلاف الروايتين، قيل: يحد، وقيل: لا يحد، يعني: إذا سكر، قوله " من الألبان " عام يتناول سائر الألبان التي شرب م: (وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه) ش: لأنه يؤكل عنده، واللبن هو اللحم، أشار إليه بقوله: م: (إذ هو متولد منه) ش: أي لأن اللبن متولد من اللحم.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه، فلا يتعدى إلى لبنه) ش: أي لا يتعدى هذا التعليل إلى لبنه، لأن كلا من الوجهين لا يوجد في اللبن. وفي " فتاوى قاضي خان "، وعامة المشايخ قالوا: هو مكروه كراهة التحريم، إلا أنه لا يحد شاربه.
[حكم شرب عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه]
م: (قال: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد) ش:(12/377)
وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -، وقال محمد ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: حرام، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق. وعن محمد مثل قولهما. وعنه أنه كره ذلك، وعنه أنه توقف فيه. لهم في إثبات الحرمة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قال القدوري: وهذا هو المدعو بالمثلث العنبي م: (وهذا) ش: أي كونه حالا م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -) ش: م: (وقال محمد ومالك والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: حرام) ش: وبه قال أحمد، وأبو عبيد، وأبو ثور، وإسحاق، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وطاوس، وأصحاب الظواهر. وفي " النوازل ": وبقول محمد نأخذ.
م: (وهذا الخلاف فيما إذا قصد به) ش: أي بشرب المثلث م: (التقوي) ش: في البدن واستمر الطعام م: (أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق) ش: لأنه يكون للمعصية، وسئل أبو حفص الكبير عنه، فقال: لا يحل شربه، فقيل له: لما خالفت أبا حنيفة، وأبا يوسف؟، فقال: لأنهما يحلان للاستمرار، والناس في زماننا يشربون للفجور والتلهي، فعلم أن الخلاف فيما إذا قصد التقوي، وإذا قصد التلهي لا يحل بالاتفاق، وعن أبي يوسف في " أماليه ": لو أراد أن يشرب بها للسكر: فقليله وكثيره حرام، وقعوده لذلك حرام، ومشيه إليه حرام.
م: (وعن محمد مثل قولهما) ش: أي روي عن محمد مثل قول أبي حنيفة، وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وفي " نوادر هشام ": وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه حلال شربه في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، كذا في " الأجناس ".
وبهذا القول أخذ محمد في " الآثار "، والمشهور من مذهبه أنه كرهه، أشار إليه بقوله: م: (وعنه أنه كره ذلك) ش: روي عن محمد أنه كره المثلث العنبي م: (وعنه أنه توقف فيه) ش: أي روي عن محمد أنه يوقف في حكم المثلث العنبي. وقال: لا أحرمه، ولا أبيحه، لتعارض الآثار.
م: (لهم) ش: أي لمحمد، ومالك، والشافعي م: (في إثبات الحرمة قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل مسكر خمر» ش: فقدم في أول الباب أن هذا الحديث أخرجه مسلم عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما بعث أبا موسى، ومعاذا إلى اليمن قال لأبي موسى: إن شرابا يصنع بأرضنا من العسل يقال له: النقيع، ومن الشعير يقال له: المزر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كل مسكر خمر» .
م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ش: هذا الحديث رواه ثمانية(12/378)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
الأول: عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرج حديثه النسائي، وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» .
ورواه عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا عبد الله بن عمرو عن عمرويه.
والثاني: جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أخرج حديثه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن داود بن بكير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا نحوه سواء. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث جابر.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر به، وداود بن بكير بن أبي الفرات الأشجعي قال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به، ليس بالمتين، وقد تابعه موسى بن عقبة كما أخرجه ابن حبان.
الثالث: سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه النسائي عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن الوليد بن كثير عن الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قليل ما أسكر كثيره» .
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وقال المنذري: أجود أحاديث هذا الباب حديث سعد، فإنه من رواية محمد بن عبد الله الموصلي، وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير، وقد احتج به الشيخان عن الضحاك، وقد احتج به مسلم عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد، وقد احتج بهما الشيخان.
الرابع: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أخرج حديثه الدارقطني في " سننه " عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره، فقليله(12/379)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرام» . وعيسى بن عبد الله عن آبائه متروك.
الخامس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أخرج حديثها أبو داود، والترمذي، عن أبي عثمان بن عمرو بن سالم الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق فملء الكف منه حرام» . وفي لفظ الترمذي: " فالحشوة منه "؛ قال الترمذي: حديث حسن.
ورواه ابن حبان في " صحيحه "، وأحمد في " مسنده "، وقال المنذري: رجاله كلهم محتج بهم في " الصحيحين " إلا عثمان سالم الأنصاري، وهو مشهور لم أجد فيه كلاما.
قلت: قال ابن القطان في كتابه، وأبو عثمان: هذا لا يعرف حاله، وتعقبه صاحب " التنقيح "، فقال: وثقه أبو داود، وذكره ابن حبان في " الثقات "، انتهى. وأخرجه الدارقطني في " سننه " من طرق أخرى عديدة كلها ضعيفة.
السادس: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه في " مسنده ": أخبرنا أبو عامر العقدي، حدثنا أبو معشر، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن بن عبد الله بن محمد، عن أبيه مرفوعا: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» . ورواه الطبراني في " معجمه ": حدثنا علي بن سعيد الرازي: حدثنا أبو مصعب، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة به.
ورواه في " الوسط ": من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمرو من طريق ابن إسحاق عن نافع به.
السابع: خوات بن جبير أخرج حديثه الحاكم في " المستدرك " في كتاب الفضائل عن عبد الله بن إسحاق بن صالح بن خوات بن جبير حدثني أبي عن أبيه عن جده خوات بن جبير(12/380)
ويروى عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام» ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر. ولهما: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " حرمت الخمر لعينها "، ويروى " بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب " خص السكر بالتحريم في غير الخمر، إذ العطف للمغايرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرفوعا نحوه سواء وسكت عنه. ورواه الطبراني في " معجمه "، والدارقطني في " سننه "، والعقيلي في " ضعفائه "، وأعله بعبد الله بن إسحاق هذا، وقال: لا يتابع عليه بهذا الإسناد، والحديث معروف بغير هذا الإسناد.
الثامن: زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المروزي، حدثنا يحيى بن سليمان المدني حدثنا إسماعيل بن قيس عن أبيه عن خارجة بن زيد عن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت مرفوعا نحوه سواء.
قلت: خوات بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو في آخره تاء مثناة من فوق، وجبير بضم الجيم، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره راء مهملة.
م: (ويروى عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام» ش: هذه رواية غريبة بهذه اللفظة، ولكن معناها في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي تقدم آنفا. م: (ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر) ش: بيانه أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراما، ألا ترى أن القليل، وإن لم يكن مسكرا فهو مؤد إليه، وما يؤدي إلى الحرام يكون حراما. ألا ترى أن القليل من البازن المشتد، والمنصف المشتد حرام وإن كان القليل منه لا يسكر؛ لأنه يؤدي إلى السكر، فكذا هذا.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة، ولأبي يوسف -رحمهما الله -، وفي بعض النسخ: ولنا م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حرمت الخمر لعينها» ، ويروى «بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب» ش: تقدم الكلام عليه في هذا الباب أنه روي عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا، والوقف أصح م: (خص السكر بالتحريم في غير الخمر، إذ العطف للمغايرة) ش: تقريره أنه: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الحرمة في الخمر حيث قال: حرمت الخمر لعينها فاقتضى أن يكون قليلها، وكثيرها حراما، بخلاف غيرها من الأشربة، فإنه خص بالتحريم فيها حيث قال: «والسكر من كل(12/381)
ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا،
وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير، فأعطي حكمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شراب» بواو العطف، ولا شك أن المعطوف غير المعطوف عليه، فيكون ما نحن فيه من الشراب غير الخمر لا يكون حراما إلا بالسكر.
م: (ولأن المفسد هو القدح المسكر، وهو حرام عندنا) ش: أي المفسد للعقل هو القدح، وهو حرام عندنا فيما سوى الأشربة المحرمة لا ما قبله.
فإن قلت: القدح الأخير ليس بمسكر على انفراد، بل مما تقدم ينبغي أن يحرم ما تقدم أيضا؟.
قلت: أجيب: بأن الحكم يضاف إلى العلة معنى وحكما، وفيه نظر؛ لأن الإضافة إلى العلة اسما، ومعنى، حكما أولى، والمجموع بهذه الصفة، والأولى أن يقال: الحرام هو المسكر، وإطلاقه على ما تقدم مجاز، وعلى القدح الأخير حقيقة وهو مراد، فلا يكون المجاز مرادا.
وقد قال تاج الشريعة: السكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام، وهو ما يتصل به من التخمة، فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه، وهو به حلال، وهو ما يتخم، وهو الأكل فوق الشبع حرام، ثم المحرم منهما وهو المتخم وإن كان لا يكون ذلك متخما إلا باعتبار ما تقدمه من الأكلات. وكذلك في الشراب.
قد قال أبو يوسف: مثل ذلك: كمثل دم في ثوب ما دام قليلا فلا بأس بالصلاة فيه، فإذا كثر لم يحل، ومثل رجل ينفق على نفسه وأهله من كسبه فلا بأس بذلك، فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك، ولا ينبغي، وكذلك النبيذ لا بأس أن يشربه على طعامه، ولا خير في السكر منه؛ لأنه إسراف، وأظهر من ذلك أن الضمان من ذلك أن الضمان يضاف إلى واضع المن الأخير في السفينة وإن لم يحصل الفرق بدون ما تقدم من الأمناء، وهذا لأنه لم يوجد التلف حكما بما تقدم من كلامنا، وإنما وجد ذلك، بفعل فاعل مختار، فأضيف الفرق لولي المن الأخير، فكذا هنا أضيف السكر على القدح الأخير الذي يحصل به السكر حقيقة لا ما تقدم من الأقداح.
[الحكمة من تحريم الخمر]
م: (وإنما يحرم القليل منه) ش: أي من الخمر، هذا جواب سؤال مقدر يمكن تقديره على هذا الوجه، وهو أن يقال: لما كان المفسد هو الأخير دون ما تقدم وجب أن يكون في الخمر كذلك، ويجوز أن يكون جوابا عن قولهم؛ ولأن المسكر يفسد العقل، فيكون حراما قليله وكثيره؟.
ووجه الجواب عن الأول: أن القياس ذلك، ولكن تركناه م: (لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير) ش: أي لأن الخمر لرقتها ولطافتها تدعو إلى الكثير م: (فأعطي حكمه) ش: أي فأعطي(12/382)
والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة. والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القليل حكم الكثير، والمثلث ليس كذلك لغلظه، وهو معنى قوله: م: (والمثلث لغلظه لا يدعو) ش: أي قليله لكثيره م: (وهو في نفسه غذاء) ش: أي والمثلث في نفسه غذاء م: (فبقي على الإباحة) ش: لأن الحاصل الإباحة وجه الجواب عن الثاني بطريق الفرق وهو واضح.
م: (والحديث الأول) ش: يعني قوله: «كل مسكر خمر» م: (غير ثابت على ما بيناه) ش: أي في أول الكتاب من طعن يحيى بن معين، وقد تقدم الكلام فيه مستوفى، فما المراد تشبيه المسكر بالخمر في حق الحكم وهو الحد؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مبينا للأحكام لا واضعا للأسامي والمسكر وهو المسكر، وهو القدح الأخير كالخمر في أنه يجب الحد بشربه. وعن إبراهيم النخعي قالوا: ما يرويه الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام» خطأ، وزادوا فيه الميم، والصحيح من الرواية: " كل سكر حرام " وكذا ما يرويه الناس عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولأن الخلاف في ذلك مشهور بين الصحابة، ولم يحتج بهما أحد؛ ولأن الأخبار لما تعارضت يتمسك بالقياس، وهو شاهد؛ لأن في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، بين الحكمة في تحريم الخمر، وهو: الصد عن ذكر الله تعالى وإيراث العداوة، والبغضاء، وهذه المعاني لا تحصل بشرب القليل.
ولو خلينا ظاهر الآية لقلنا بأن القليل من الخمر لا يحرم أيضا، لكن تركناه في قليل الخمر بالإجماع فيما عداه، فبقي على ظاهر الآية، لأنه قلما لا يورث العداوة والبغضاء ولا الصد عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وعن الصلاة.
وقال محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا أبو إسحاق الشعبي، عن عمر بن ميمون الأودي، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن للمسلمين جزورا لطعامهم، وإن العتق منها، لأن عمر قال: وإنه لا يقطع لحوم هذه الإبل في بطونها إلا النبيذ الشديد. وروى الطحاوي في " شرح الآثار " بإسناده إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه: أنه كان في سفر فأتي بنبيذ الطائف له عزام، فذكر شدة لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب.
وروى الطحاوي أيضا: حدثنا أبو أمية قال: حدثنا عبد السلام عن ليث عن عبد الملك بن أخي القعقاع بن ثور «عن ابن عمر، قال: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشراب فأومأ إلى فيه فقطب فرده، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو فرد الشراب، ثم دعا بماء فصبه عليه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: إذا علمت منه الأشربة عليكم فأكثروا متونها بالماء» .(12/383)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه النسائي أيضا عن عبد الملك بن نافع، ثم قال: وعبد الملك بن نافع غير مشهور لا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف هذا. ثم أخرج عن ابن عمر حديث المسكر من غير وجه. وقال البخاري: لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وعبد الملك بن نافع: هو مجهول، وقال البيهقي: هذا حديث يعرف لعبد الملك بن نافع، وهو رجل مجهول، واختلفوا في اسمه، واسم أبيه، فقيل: هكذا، وقيل: عبد الملك بن القعقاع، وقيل: ابن أبي القعقاع، وقيل: مالك بن أبي القعقاع.
قلت: عبد الملك بن نافع هذا ما ذكره ابن حبان في " الثقات " من التابعين، وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو الأحوص عن إسحاق عن عمر بن ميمون، قال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا، فمن رأى من شرابه شيئا فليمزجه بالماء.
وقال أيضا: حدثنا وكيع حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، حدثني عتبة بن فرقد، قال: قدمت على عمر فدعى بشراب نبيذ قد كان يصير خلا، فقال: اشرب فأخذته فشربته، فما كنت أن أسيغه ثم أخذه فشربه، ثم قال: يا عتبة إنا نشرب هذا النبيذ الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن يؤذينا.
وقال عبد الرزاق في " مصنفه ": أخبرنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كتب لنوح {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ، وفيه: إن الملك قال له: ويطبخه حتى يذهب ثلثاه، ويبقى الثلث، قال ابن سيرين: فوافق ذلك كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وروي عن معمر عن عاصم عن الشعبي قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عمار:
أما بعد: فإذا جاءنا أشربة من الشام كأنها طلاء الإبل قد طبخ حتى ذهب ثلثاه الذي فيه خبث الشيطان وريح جنوبه، وبقي ثلثه فأومر من قبلك أن يصطنعوه. ما خرج أيضا عن ابن الليمي عن منصور عن إبراهيم، عن سويد بن غفلة، قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى عماله: أن يرزقوا الناس الطلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن داود بن أبي هند، سألت سعيد بن المسيب عن الشراب الذي كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجازه للناس؟، قال: هو الطلاء الذي قد طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثا، حدثنا علي بن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة،(12/384)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن قتادة، عن أنس: "أن أبا عبيدة، ومعاذ بن جبل، وأبا طلحة، كانوا يشربون من الطلاء ماء ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه ".
حدثنا أبو فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، قال: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرزقنا الطلاء، فقلنا له: ما هيئته؟ قال: أسود، ويأخذه أحدنا بأصبعه.
حدثنا وكيع عن سعيد بن أوس، عن أنس بن سيرين، قال: كان أنس بن مالك عقيم البطن فأمرني أن أطبخ له طلاء حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فكان يشرب منه الشربة على أثر الطعام.
حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل عن مغيرة، عن شريح عن خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان يشرب الطلاء بالشام، فهذا كله يقتضي جواز شرب المطبوخ، وقد قال صاحب " الاستذكار ": لا أعلم خلافا بين الفقهاء في جواز شرب العصير إذا طبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فعلمنا بدلالة هذه الآثار أن المراد من الحديث الذي رووه القدر المسكر لا للقليل منه توفيقا بين الآثار حتى لا يقع التضاد فيها، فهذا كما رأيت أن الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بدر كعمر، وعلي، وغيرهما ممن ذكر فيما ذكرنا كانوا يحللون شرب النبيذ، وكذا من بعدهم جماعة من التابعين الكبار كالشعبي وأمثاله. وكذا إبراهيم النخعي وأمثاله، وكذا علقمة، والأسود، وابن أبي ليلى، وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، وسفيان الثوري مع ورعه وتقواه كان يشرب من النبيذ الصلب حتى تحمر وجنتاه.
وعن وكيع: أنه كان يشرب في ليالي رمضان تقويا على العبادة. وقال في " شرح الأقطع ": وقد سلك بعض الجهال في هذه المسألة طريقة قصد بها التشنيع، والفروق عند العوام لما ضاقت عليه الحجة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه قال لبشر: ناس من أمتي يسمونها بأسماء طريق، قال هذا القائل: وهم أصحاب أبي حنيفة، وهذا كلام جاهل الأحكام، والنقل، والآثار، أو متعصب قليل الورع لا يبالي بما قال.
ثم يقال لهذا القائل: ما رميت بهذا القول أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وإنما رميت السلف الصالح، أردت بذلك، ولم يمكنك التصريح بذلك؛ لأن أصحاب أبي حنيفة لم يبدعوا في ذلك قولا، بل قالوا ما قال أئمة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووجوه التابعين وزهادهم. وكيف يظن بابن عمر، وعلي وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، أنهم شربوا خمرا غليظا في اسمها حتى استدرك عليهم هذا القائل حقيقة الاسم، والظن بنفسه، ونسي الظن بسلفه أن هذا لجرأة في الدين.(12/385)
ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة،
والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي: أن إباحة نبيذ التمر والزبيب يجب اعتقادها كيلا يؤدي إلى تفسيق الصحابة والتابعين. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: من إحدى شرائط مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يحرم نبيذ التمر. وروي عنه أنه قال: لا أحرمها ديانة، ولا أشربها مروءة.
م: (ثم هو محمول على القدح الأخير، إذ هو المسكر حقيقة) ش: هذا جواب بطريق التسليم، يعني سلمنا أن هذا الحديث صحيح، ولكنه محمول على القدح الأخير؛ لأن المسكر هو القدح الأخير حقيقة واردة ما قبله من الأقداح مجاز، وإذا أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى المجاز، وقد مضى تحقيق الكلام فيه.
ومما يدل على أن المراد وهو القدح المسكر لا القليل ما ذكره ابن قتيبة في كتابه الأشربة «عن زيد بن علي بن الحسين بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه شرب هو وأصحابه نبيذا شديدا في وليمة، فقيل له: يا ابن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدثنا بحديث سمعته من أبي بكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النبيذ. قال: حدثني أبي عن جدي علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "ينزل أمتي على منازل بني إسرائيل حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، إن الله سبحانه وتعالى ابتلى بني إسرائيل بنهر طالوت، أحل لهم منه الغرفة، وحرم منه الشرب، وإن الله سبحانه وتعالى ابتلاكم بهذا النبيذ، وأحل منه القليل، وحرم منه السكر» .
ومن ذلك ما ذكره في " المحيط ": أنه روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر حرام" فقيل: يا رسول الله: إن هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس كذلك إذا شرب تسعة فلم يسكر فلا بأس به، وإذا شرب العاشر فسكر فذلك حرام» ولهذا قال أبو يوسف: لو شرب تسعة أقداح من النبيذ فلم يسكر فأوجر العاشر وسكر فلا حد عليه، ولو أوجر التاسعة وشرب القدح العاشر بالاختيار وسكر يحد.
م: (والذي يصب عليه الماء بعدما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق، ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث) ش: إنما لم يذكر اسم هذا النوع من الأشربة لاختلاف وقع فيه، قال منهم من سماه: يا يوسفي، ويعقوبي، لأن أبا يوسف كان كثيرا ما يستعمله، ومنهم من سماه نجيحا، وحميديا؛ لأنه منسوب إلى رجل اسمه حميد بن هانئ، ومنهم من يقول: جمهوري منسوب إلى(12/386)
لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا. بخلاف ما إذا صب الماء على العصير، ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل؛ لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما، فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب،
ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي رواية عنه: لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير، فصار كما بعد العصر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جمهور الناس؛ فصارت له خمسة أسامي.
وهل يشترط لإباحته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف بعدما صب الماء فيه أدنى طبخة؟، اختلف المشايخ فيه، كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يشترط، وعند البعض: لا يشترط، واختار المصنف الأول.
م: (لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا) ش: لأنه يرقق بالماء فتضعف قوته م: (بخلاف ما إذا صب الماء على العصير، ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل) ش: حيث لا يحل م: (لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما) ش: أي من الماء والعصير معا، وفاعل يذهب محذوف وليس هو الماء لفساد المعنى، وإنما التقدير: أو يذهب شيء، أو ذاهب ويجوز ذلك، وفيه ضعف لا يخفى م: (فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب) ش: يعني: إذا كان كذلك فلا يكون الذي يذهب ثلثي ماء العنب، فلا يحل.
فإن قلت: إذا ذهبا معا كان ينبغي أن يحل شربه كما يحل شرب المثلث؟
قلت: نعم؛ لأنهما لما ذهبا معا كان الذاهب من العصير ثلثين كالماء، لكن لما لم يتيقن بذهابهما معا، واحتمل ذهاب الماء أولا للطافته، قلنا، بحرمة شربه احتياطا؛ لأنه إذا ذهب الماء أولا: كان الذاهب أقل من ثلثي العصير، وهو حرام عندنا، وهو الباذق.
[طبخ ماء العنب بعد عصر العنب]
م: (ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: رواها الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه، وقد روى عنه: إذا طبخ أدنى طبخة يحل شربه إذا غلا واشتد كما في نقيع الزبيب والتمر.
م: (وفي رواية عنه) ش: أي: وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة، رواها الحسن بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير، فصار كما بعد العصر) ش: يعني: إذا طبخ ماء العنب بعد عصر العنب، لا يحل ما لم يذهب ثلثاه، فكذا إذا طبخ العنب أولا ثم عصر ماؤه لا يحل بالطبخ بعد ذلك إلا إذا ذهب ثلثاه.(12/387)
ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ لأن التمر إن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه، فيعتبر جانب العنب احتياطا، وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[جمع في الطبخ بين العنب والتمر وبين التمر والزبيب]
م: (ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر، وبين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه؛ لأن التمر إن كان يكتفي فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه، فيعتبر جانب العنب احتياطا) ش: قال - أي: الأترازي -: ولنا في قوله: "أو بين التمر والزبيب" نظر؛ لأن ماء الزبيب كماء التمر يكتفى فيهما بأدنى طبخة، وقد صرح القدوري: بذلك قبل هذا، وهو قوله: ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال وإن اشتد.
قلت: إن هذا على ما رواه هشام في " النوادر " عن أبي حنيفة، وأبي يوسف - رحمهما الله: أنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ. وقال الفقيه أبو جعفر: يحتمل أن يكون في المسألة روايتان، ويحتمل أن يكون في المسألة رواية واحدة. واختلف الجواب لاختلاف الموضوع، فيكون موضوع ما ذكر في ظاهر الرواية ما إذا كان ماء الزبيب قبل الطبخ غلط فيه المصنف، فيلحقه أدنى طبخة بالمثلث موضوع ما ذكر في " النوادر " ما إذا كان ماء الرطب قبل النضج في رقة العصير فلا يلحق بالمثلث بأدنى طبخة.
وإن كان في المسألة روايتان فوجه ما ذكر في ظاهر الرواية أن التي من ماء الزبيب دون التي من ماء العنب؛ لأن ماء العنب لا يخالط ماء آخر، وإنما يخرج ماؤه بالأقدام. وماء الزبيب إنما يستخرج بماء آخر فيختلط به.
ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كل شراب استخرج ماؤه بمائه فهو حرام لا تشربوه؛ وكل شراب استخرج ماؤه بغير مائه فهو حلال فاشربوه. ولهذا لا يفسق شارب النقيع من ماء الزبيب، وإذا كان دون التي من ماء العنب لا يشترط لحله ما يشترط لحل ماء العنب من الطبخ.
[جمع بين عصير العنب ونقيع التمر] 1
م: (وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه. قال في " الأصل ": رأيت التمر المطبوخ يمزج العنب فيه فيقلبان جميعا والعنب غير مطبوخ؟، قال: أكره ذلك، وأنهى عنه.
قال شيخ الإسلام في "شرحه: وذلك لأنه اختلط الحرام بالحلال، والتمييز غير ممكن، فيحرم الكل. وإنما قلنا ذلك لأن نبيذ التمر بعدما طبخ بأن كان حلالا وإن غلا واشتد، والتي من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد لا يحل، وقد اختلط أحدهما بالآخر وتعذر تمييز الحلال من الحرام، فيحرم الكل، قال: أيحد من يشرب منه؟، قال: لا، إلا أن يسكر منه.(12/388)
ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة، ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا، إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله لا بأس به، وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع، والمعنى تغليب جهة الحرمة ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط، وهو للحد من درئه. ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت، فلا ترتفع بالطبخ.
قال: ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال شيخ الإسلام: وهذا إذا كان التمر المطبوخ غالبا، والعنب مغلوبا به، فأما إذا كان العنب غالبا على التمر فإنه يجب الحد، كما لو خلط الخمر بالماء اعتبر الغالب والمغلوب، فكذا هذا، قال: أرأيت الرجل يخلط الخمر بعينها مع النبيذ ثم يشرب منه جميعا ولا يسكر أيجب الحد؟.
والجواب: فيما لو خلط بالماء إن كان الخمر غالبا وجب الحد، وإن كان النبيذ غالبا لم يجب ما لم يسكر، قال: أرأيت التمر والعنب يخلطان جميعا في قدر ثم يطبخان جميعا، حتى يذهب ثلثا العنب فيمرسان وينبذان؟، قال: لا بأس بذلك إذا كان قد ذهب من ماء العنب يحل إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.
[طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا]
م: (ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة، ثم أنقع فيه تمرا أو زبيبا إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله لا بأس به) ش: هذه المسائل كلها ذكرت تفريعا على مسألة " المختصر " من قوله كما هو، م: (وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل) ش: لأنه في معنى نقيع ومطبوخ.
م: (كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع) ش: لأنه أفسده كله م: (والمعنى تغليب جهة الحرمة) ش: يعني الوجه في تحريمه تغليب جهة الحرمة على جهة الحل احتياطا م: (ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط، وهو للحد في درئه) ش: أي رفعه؛ لأن مبناه على الدرء والسقوط.
[طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه] 1
م: (ولو طبخ الخمر أو غيره) ش: أي غير الخمر من الأشربة المحرمة م: (بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت، فلا يرتفع بالطبخ) ش: لأن النار أثرها في دفع الحرمة لا في رفعها، ولكن مع هذا لا يجب الحد في شربه قبل السكر؛ لأن الخمر هي التي من ماء العنب، وهذا مطبوخ لا نيئ، فلا يكون شاربه شارب خمر.
[الانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير]
م: (قال: ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير) ش: أي قال القدوري في "مختصره": والدباء القرع جمع دباه، والحنتم: بفتح الحاء المهملة، وسكون النون، وفتح التاء المثناة من فوق: وهو جرار حمر، وقال أبو عبيد خضر: وقد يجوز أن يكونا جميعا، وهو جمع حنتمة، والمزفت المطلي بالزفت، وهذا الذي ذكره القدوري، وهو قول أكثر أهل العلم.(12/389)
لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأوعية: «فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أحمد في رواية: كره الانتباذ فيها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال مالك: أكره أن ينتبذ في الدباء والمزفت، وأباح الجر كله غير المزفت، والحنتم، والنقير.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في حديث طول بعد ذكر هذه الأوعية: «فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» ش: أراد بهذا الحديث الذي فيه طول، وفيه: النهي عن الانتباذ في الظرف المذكور.
ثم الأشربة فيها هو ما رواه محمد بن أساس في " كتاب الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: حدثنا علقمة بن مزيد عن أبي بريدة عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وهؤلاء يقولوا هجرا، وقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، وعن لحوم الأضاحي أن يمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوها ما بدا لكم، وتزودوا فإنما نهيتكم ليوسع موسعكم على فقيركم، وعن النبيذ في الدباء والحنتم، والمزفت، فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر» . وفي بعض الروايات جاء النقير بعد المزفت.
وأخرج الجماعة إلا البخاري عن بريدة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكرا» وفي لفظ لمسلم: «نهيتكم عن الظروف، وإن الظرف، أو ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام» .
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن مسروق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني نهيتكم عن نبيذ الأوعية، ألا وإن الوعاء لا يحرم شيئا، وكل مسكر حرام» .
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن ابن عياض، عن عبد الله بن عمر، فقال: «لما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأوعية قالوا: ليس كل الناس يجد سقاء فأرخص لهم في الجر غير المزفت"، وفي لفظ: "فأذن" بدل "فأرخص» .
وأخرج أبو داود عن شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو، قال: «ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير، فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا، قال: "اشربوا ما حل"، وفي لفظ ليحيى بن آدم، عن شريك فقال: "اجتنبوا ما أسكر» .
وأخرج البخاري من حديث جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الظروف، فقالت الأنصار: إنه لا بد لنا منها، فقال: فلا إذا» وأخرج البيهقي من حديث يحيى بن محمد بن حبان(12/390)
وقال ذلك بعدما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخا له. وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره، فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن واسع بن حسان حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نهيتكم عن النبيذ ألا فانتبذوا، ولا أحل مسكرا» قوله: ولا تقولوا: " هجرا " بضم الهاء، وسكون الجيم، وهو الإفحاش في النطق والخناء.
م: (وقال ذلك بعدما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخا له) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انتبذوا واشربوا في كل ظرف» بعدما أخبر عن الانتباذ في الظروف، فكان أمره بذلك ناسخا لنهيه المتقدم، ففيه دليل على جواز نسخ السنة بالسنة، والمراد من النهي: هو ما رواه البخاري، ومسلم، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدباء، والمزفت.»
وروى مسلم من حديث سعيد بن جبير، «عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أنهما شهدا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمزفت» . وروي أيضا من حديث الزهري أخبرني أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا في الدباء، والمزفت» وروي أيضا عن حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنتبذوا في الدباء، ولا المزفت» .
وروى أيضا: ثم يقول أبو هريرة: اجتنبوا الحناتم، والنقير، وروي أيضا من حديث شعبة، أخبرني عمرو بن مرة، سمعت زادان يقول: قلت لابن عمر: أخبرنا بما نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأوعية، أخبرنا بلغتكم، وفسره لنا بلغتنا، قال: نهى عن الحنتم وهي الجرة، ونهى عن المزفت وهو النقير، ونهى عن الدباء وهو القرع، ونهى عن النقير وهي أصل النخلة ينقر نقرا ويمسح مسحا، وأمر أن ينتبذ في الأسقية.
قالوا: إنما نهى عن هذه الأوعية على الخصوص؛ لأن الأنبذة تشتد في هذه الظروف أكثر مما تشتد في غيرها، وفيه دليل واضح لأبي حنيفة، وأبي يوسف على إباحة شرب النبيذ الشديد دون المسكر، وعلى حرمة ما يقع به السكر.
فإن قلت: ما كان المعنى في النهي في زيارة القبور؟
قلت: كانوا في ابتداء الإسلام إذا زاروا المقابر يقربون عنه، ويقولون "هجرا" على رسمهم في الجاهلية، ويصفون موتاهم بالبطالة وسفك الدماء وشرب الخمر، فنهاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور فطاما لهم عن الهجر، فلما انتهوا على ذلك أباح لهم زيارة القبور بعد ذلك.
م: (وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره) ش: إن كان فيه خمر م: (فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا(12/391)
فيطهر، وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتشرب الخمر فيه، بخلاف العتيق. وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة، وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر، وقيل: عند أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته. قال: وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيطهر) ش: لأنها تشرب كما لو نجس الظرف بالدم أو البول، فإنه يطهر بالغسل ثلاثا م: (وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتشرب الخمر فيه، بخلاف العتيق) ش:.
م: (وعند أبي يوسف: يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة، وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر) ش: والخلاف فيه مشهور، فإن عند محمد: إذا تنجس ما لا ينعصر بالعصر لا يطهر أبدا. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يطهر بالغسل ثلاث مرات مع تجفيفه في كل مرة، وقد مر مستوفى في: كتاب الطهارة.
وقال شيخ الإسلام: هذا مثل ظرف الخمر بعدما صب منه الخمر، أما إذا لم يصب منه الخمر حتى صار الخمر خلا ما حال الظرف لم يذكر محمد هذا في " الأصل ". وقد حكي عن الحاكم أبي نصر محمد بن مهرويه أنه كان يقول: ما يواري الإناء من الخل لا شك أنه يطهر، لأن ما يواري الإناء من الخل فيه أجزاء الخل، وإنه طاهر. فأما على الجب الذي انتقض من الخمر.
وقيل: صيرورته خلا: فإنه يكره؛ لأن ما تداخل أجزاء الجب من الخمر لم يصر خلا؛ بل يلبث فيه كذلك جزءا، فيكون نجسا، فيجب أن يغسل أعلاه بالخل حتى يطهر الكل؛ لأن غسل النجاسة الحقيقية بما سوى الخمر من المائعات التي تزيل النجاسة جائز عندنا فإذا غسل الجب بالخل صار ما حل فيه من أجزاء الخمر خلا من ساعته، فيطهر الجب بهذا الطريق، فإذا لم يفعل كذا حتى ملأ به من العصر بعد ذلك فإنه ينجس العصير ولا يحل شربه؛ لأنه عصير خالطه الخمر، إلا أن يصير خلا، فكذا قاله خواهر زاده - رحمة الله عليه -.
م: (وقيل عند أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته) ش: أشار بهذا القول أنه إذا لم يجفف في كل مرة من الغسل، ولكن ملأ ماء مرة بعد أخرى إلى آخره ما ذكره، فإنه يطهر ولا يحتاج إلى التجفيف في كل مرة من الغسل.
م: (قال: وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها) ش: أي قال القدوري في "مختصره": أراد أن التخليل يجوز مطلقا، سواء صارت خلا بنفسها أو بعلاج، كإلقاء الملح أو بغير الملح كالنقل من الظل إلى الشمس أو بالعكس أو(12/392)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره التخليل ولا يحل الخل. الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا، وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله في الخل. الحاصل به قولان له: أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه. ولنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعم الإدام الخل» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإيقاد النار بالقرب منه. ولا يكره هذا الغسل عندنا، (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره التخليل ولا يحل الخل. الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
م: (وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله) ش: أي فللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الخل الحاصل به) ش: أي بإلقاء شيء م: (قولان) ش: في قول: يحل كقولنا، وفي قول: لا يحل، وبه قال مالك وأحمد أما إذا صار خلا بطول المدة بدون علاج يحل بلا خلاف لهم.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه) ش: بيانه أن سبحانه وتعالى أمر بالاجتناب على الخمر بقوله سبحانه وتعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] والأمر للوجوب، وفي التخليل اقتراب منه، وبينهما منافاة فلا يجوز.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نعم الإدام الخل» ش: هذا الحديث رواه الجماعة من الصحابة الأول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الجماعة إلا البخاري ومسلم والنسائي عن طلحة بن نافع والباقون عن محارب بن دثار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الإدام الخل» ، أخرجه النسائي في الوليمة والباقون في الأطعمة.
الثاني: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الإدام الخل» ، قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، لا يعرف من حديث هشام بن عروة إلا عن سليمان بن بلال.
الثالث: أم هانئ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها الحاكم في " المستدرك " في الفضائل عن عطاء بن عباس «عن أم هانئ بنت أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل عندك طعام آكله وكان جائعا؟ فقلت: إن عندي كسرة يابسة، وإني أستحي أن أقربها إليك، فقال: هلميها، فكسرتها ونثرت عليها الملح، فقال: هل من إدام؟ فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما عندي إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فلما جئته به صبه على(12/393)
ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد، وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طعامه فأكل منه ثم حمد الله تعالى ثم قال: نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يفتقر بيت فيه خل» .
الرابع: أيمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه البيهقي في " شعب الإيمان " عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: «نزل بجابر ضيوف فجاءهم بخبز وخل، فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "نعم الإدام الخل، هلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته أن يقدمه إلى أصحابه» .
الخامس: أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها الدارقطني في "سننه" عن فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها كانت لها شاة تحتلبها ففقدها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما فعلت الشاة؟ "، قالوا: ماتت، قال: "أفلا انتفعتم بإهابها؟ "، فقلنا: إنها ميتة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر» . وقال الدارقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث لا يتابع عليها.
حديث آخر: «خير خلكم: خل خمركم» . قال البيهقي في " المعرفة " رواه المغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير خلكم خل خمركم» تفرد به المغيرة بن زياد وليس بالقوي. وجه الاستدلال بهذا الحديث: أنه عام يتناول جميع ما يطلق عليه اسم الخل، لأنه لم يفصل بين خل وخل.
م: (ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد) ش: وهو الخمرية، لأن التخليل إصلاح لجوهر فاسد، فيجوز، لأن الجوهر خمر فاسد، فإصلاحه بإزالة صفة الخمرية عنه، والتخليل إزالة لتلك الصفة، فيكون إصلاحا م: (وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر(12/394)
الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد، فأشبه الإراقة، والتخليل لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني: فيختاره من ابتلي به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهوة والتغذي به) ش: ذكر في ثبوت صفة الصلاح ثلاثة أشياء: الأول: تسكين الصفراء، لأن الجوهر البارد فيه أكثر من الجوهر الحار، لأنه مركب من جوهرين مختلفين، أعني من جوهر حار وجوهر بارد، وكلاهما لطيف، ولهذا فيه تخفيف بليغ، حتى إنه من التخفيف في الدرجة الثالثة عند منتهاها إذا كان خلا ثقفا.
الثاني: فيه كسر الشهوة لما قلنا: إن فيه تخفيفا بليغا، ذكر أصحاب الطبائع: أنه يفيق الشهوة.
الثالث: فيه التغذي، لأنه صالح للمعدة، والجوع يصلح من هيجان الحرارة في المعدة، وهو أسرع إلى إطفاء الحرارة وحدته، قالوا: إنه يضعف البصر م: (والإصلاح مباح) ش: أي إصلاح المفسد يباح كالدباغ، وهذا بالإجماع.
م: (وكذا الصالح للمصالح) ش: وكذا مباح الصالح للمصالح وهو جمع مصلحة والمصالح هي الأشياء المذكورة ونحوها م: (اعتبارا بالمتخلل بنفسه) ش: أي قياسا على التخلل بنفسه، فإنه يباح بالإجماع لأجل المصالح المذكورة وغيرها.
وكذا الذي يحل بالعلاج ونحوه م: (وبالدباغ) ش: أي واعتبارا بالدباغ أيضا، فإن عين الجلد نجس، ولهذا لا يجوز بيعه كالثوب النجس والدبغ إصلاح له من حيث إنه يعصمه من النتن والفساد وقد جاز الدباغ فيجوز التخليل قياسا عليه م: (والاقتراب لإعدام الفساد) ش: وهذا جواب عن قول الشافعي: أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول. ووجهه: لا نسلم أنه على جهة التمول، بل المنظور إليه إعدام الفساد م: (فأشبه الإراقة) ش: فإن فيها اقترابا أيضا م: (والتخليل أولى) ش: أي من الإراقة مع وجود الاقتراب في كل منهما م: (لما فيه) ش: أي في التخليل م: (من إحراز مال يصير حلالا في الثاني) ش: أي في الزمن الثاني م: (فيختار من ابتلي به) ش: أي فيختار التخليل على الإراقة من ابتلي بالخمر، كما إذا درت خمرا مثلا.
فإن قلت: هي لنجس العين فيحرم التصرف فيها قياسا على الميتة والبول والدم؟.
قلت: ليس كذلك فذاتها ذات العصير وهو طاهر قبل التخمر، والنجاسة باعتبار الشدة وما هي عينها بل وصفها وهو يقبل الزوال كالصبي في الصبي، ولهذا لو تخللت بنفسها يحل.
فإن قلت: ما تقول فيما رواه مسلم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن(12/395)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر أيتخذ خلا، قال: "لا".» وروي أيضا عن أنس «أن أبا طلحة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرا، قال: "أهرقها"، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: "لا» .
وروى المزني أيضا في كتاب " العلل ": «أن أبا طلحة كان في حجره يتامى فاشترى لهم خمرا فنزل تحريم الخمر فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وقال: أفنخللها؟، قال: "لا، ولكن أهرقها» ، قال المزني: فلو كان التخليل جائزا لما أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإراقة، لأن فيها يضيع مال اليتيم، بل كان يأمره بالتخليل خصوصا كان الخمر ليتامى. قالوا: أو لأن الصحابة أراقوها حين نزلت آية التحريم كما ورد في الصحيح، فلو جاز التخليل لبينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما بين لأهل الشاة الميتة على دباغها.
قلت: أما الجواب عن الحديث الأول: أن المعنى لا يستعملوها استعمال الخل بأن تؤدم ويوضع على المائدة كما يوضع الخل، وهو نظير ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن تحليل الحرام وتحريم الحلال، وأن يتخذ الدواب كراس» ، المراد الاستعمال. «ولما نزل قوله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] (التوبة: الآية 31) . قال عدي بن حاتم: ما عبدناهم قط، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أليس كانوا يأمرون وينهون وتطيعونهم؟ "، قال: نعم، فقال: "هو ذاك» فقد فسر الإلحاد بالاستعمال.
وأما عن الثاني: فقد أجاب الطحاوي - رحمة الله عليه - بأنه محمول على التغليظ والتشديد، لأنه كان في ابتداء الإسلام كما ورد ذلك في سؤر الكلب، بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدبار وتقطيع الزقاق. ورواه الطبراني في "معجمه" حدثنا معاذ بن المثنى، حدثنا مشدد حدثنا معتمر حدثنا ليث عن يحيى بن عباد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن أبي طلحة قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري؟، فقال: "أهرق الخمر واكسر الدنان".»
وروى أحمد في "مسنده" حدثنا الحاكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة» ، وهذا صريح في تغليظ الأمر، لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكنه الإراقة بدون كسر الدنان وشق الزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الردع، وقد ورد عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حرق بيت خمار، كما رواه ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا يزيد بن(12/396)
وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء، فأما أعلاه وهو الذي نقص منه الخمر قيل: يطهر تبعا، وقيل: لا يطهر؛ لأنه خمر يابس إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته، فيطهر، وكذا إذا صب منه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا.
قال: ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هارون أخبرنا ابن أبي دريب عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حرق بيت روشيد السعفي وكان حاويا للشراب، قال: فلقد رأيته ملتهبا نارا.
وقد ورد في حديث عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عوض الأيتام عن خمرهم مالا» كما رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" حدثنا جعفر بن حميد الكوفي حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن حارثة عن جابر، فذكر. وفيه قال: «إذا أتانا مال البحرين فإنا نعوض أيتاما في مالهم» ، وقد تقدم فيما مضى من هذا الباب.
م (وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء) ش: يجوز فيما يواريها بالراء المهملة من المواراة، وهي الستر، ويجوز بالزاي المعجمة من الموازاة، وهي المساواة أي يطهر ما يستر الخمر من الإناء أو ما يساويها من الإناء بمعنى قدر ارتفاعها في الإناء م: (فأما أعلاه) ش: أي أعلى الإناء م: (وهو الذي نقص منه الخمر) ش: مثلا إذا كانت الخمر في نصف الإناء لا يكون المشغول منه بالخمر إلا النصف التحتاني، فإذا صارت خلا يطهر النصف التحتاني لصيرورة الخمرة خلا. وأما النصف الفوقاني هل بالخل يطهر؟ م: (قيل: يطهر تبعا) ش: أي من إرادة الخل، وبه أخذ الهندواني وأبو عبيد والصدر الشهيد.
م: (وقيل: لا يطهر لأنه خمر يابس) ش: فيكون نجسا م: (إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته فيطهر) ش: يعني يدار فيه الخل حتى يصيب جميع الظرف، فإذا فعل ذلك فقد طهر وإن لم يشب فيه الخمر كذا في " الذخيرة "، وقد مر الكلام فيه عن قريب. م: (وكذا إذا صب منه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا) ش: أي المشايخ، لأن آثار الخمر التي فيه تستحيل خلا في ساعته فيطهر.
[شرب دردي الخمر]
م: (قال: ويكره شرب دردي الخمر) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، ودردي الخمر ما يرسب في أسفله، وكذا دردي الزبيب ونحوه م: (والامتشاط به) ش: أي بدردي الخمر إنما خص الامتشاط، لأن له تأثير في تحسين الشعر، وقد صح عن عائشة: أنها كانت تنهى النساء(12/397)
لأن فيه أجزاء الخمر والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا أو دبرة دابة، ولا أن يسقي ذميا، ولا أن يسقي صبيا للتداوي، والوبال على من سقاه. وكذا لا يسقيها الدواب، وقيل: لا تحمل الخمر إليها. أما إذا قيدت إلى الخمر فلا بأس به، كما في الكلب والميتة. ولو ألقى الدردي في الخل لا بأس به؛ لأنه يصير خلا، لكن يباح حمل الخل إليه لا عكسه لما قلنا. قال: ولا يحد شاربه، أي شارب الدردي إن لم يسكر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحد؛ لأنه شرب جزءا من الخمر. ولنا: أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ذلك أشد النهي.
م: (لأن فيه) ش: أي في الدردي م: (إجزاء الخمر والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به) ش: أي بالخمر م: (جرحا) ش: لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» م: (أو دبرة دابة) ش: أي أو يداوي دبر دابة، والدبر بفتحتين جرح الدابة أو عقرها من دبرت الدابة تدبر دبرا من باب علم يعلم، والدبر بفتح الدال وكسر الباء هو الحيوان الذي فيه دبر بفتحتين م: (ولا أن يسقي ذميا) ش: أي ولا يجوز، لأن فيه اقترابا للخمر، وهو مأمور بالاجتناب عنه وإعانة على المعصية م: (ولا أن يسقي صبيا للتداوي) ش: أي ولا يجوز أن يسقي صبيا لأجل التداوي لما ذكرنا من حديث ابن مسعود م: (والوبال) ش: أي الإثم والخطيئة م: (على من سقاه) ش: لأن الصبي غير مخاطب، فالإثم يبنى على الخطاب.
م: (وكذا لا يسقيها الدواب) ش: لأنه نوع انتفاع بالخمر وأقرب منه م: (وقيل: لا تحمل الخمر إليها) ش: أي إلى الدواب م: (أما إذا قيدت) ش: أي الدواب م: (إلى الخمر فلا بأس به) ش: لعدم المعنى الذي ذكرناه م: (كما في الكلب والميتة) ش: أي لا تحمل الميتة إلى الكلب. ولو قيد الكلب إليها لا بأس به، وكذا الفأرة لا تحمل إلى الهرة، ولكن الهرة تحمل إلى الفأرة كيلا يصير حاملا للنجاسة بلا ضرورة. وفي " الذخيرة ": ويكره أن يبل الطين بالخمر. م: (ولو ألقي الدردي في الخل لا بأس به لأنه يصير خلا، لكن يباح حمل الخل إليه) ش: أي إلى الدردي م: (لا عكسه) ش: وهو حمل الدردي إلى الخل م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى التعليل المستفاد من قوله كما في الكلب والميتة.
م: (قال: ولا يحد شاربه، أي شارب الدردي إن لم يسكر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحد) ش: وبه قال مالك وأحمد وأكثر أهل العلم م: (لأنه شرب جزءا من الخمر) ش: أي الدردي لا يخلو منه، وفي الخمر يجب الحد من القليل والكثير. م: (لنا أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة) ش: أي من النفرة، لأن الطباع لا تميل إلى شرب الدردي، بل من يعتاد شرب(12/398)
عنه، فكان ناقصا، فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج، ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل؛ لأنه انتفاع بالمحرم، ولا يجب الحد لعدم الشرب، وهو السبب، ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها ولا حد ما لم يسكر منه، لأنه أصابه الطبخ. ويكره أكل خبز عجن عجينه بالخمر لقيام أجزاء الخمر فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر يعاف الدردي م: (عنه فكان ناقصا، فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج) ش: حيث لا يحد إذا كان الماء هو الغالب كما ذكرنا.
م: (ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل) ش: وهو ثقب الذكر م: (لأنه انتفاع بالمحرم ولا يجب الحد) ش: وفي بعض النسخ ولا يحد م: (لعدم الشرب وهو السبب) ش: أي الشرب هو السبب في وجوب الحد ولم يوجد، وبه قال الشافعي ومالك. وعن أحمد: يجب الحد بالاحتقان، لأنه أدخله إلى جوفه، قال ابن قدامة: والأصح أنه لا يجب لعدم الشرب.
م: (ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها) ش: أي لتنجس المرقة بالخمر م: (ولا حد ما لم يسكر منه؛ لأنه أصابه الطبخ) ش: لأنه مطبوخ، والخمر هو الذي من ماء العنب.
وعند أحمد: يحد، لأن عين الخمر موجود فيها، ولو لم يطبخ يعتبر الغالب والمغلوب، كما لو مزج الخمر بالماء.
وقال شيخ الإسلام في "شرحه": وهذه المسألة تدل على أن الخمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه أنه لا يجب الحد بشربه ما لم يسكر، لأنه بعد الطبخ لم يبق بناء.
م: (ويكره أكل خبز عُجِنَ عجينه بالخمر لقيام أجزاء الخمر فيه) ش: أي في العجين، وأما اللحم إذا طبخ بالخمر، فعند محمد: لا يطهر أبدا، وعند أبي يوسف: يغلى بالماء الطاهر ثلاث مرات ويبرد في كل مرة.(12/399)
فصل في طبخ العصير والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن، ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي، بيانه عشرة دوارق من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلاث فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا هو العصير أو ما يمازجه، وأيا ما كان جعل كان العصير تسعة دوارق، فيكون ثلثها ثلاثة، وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ، ثم طبخ بمائه إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعدما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه، لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في طبخ العصير]
[كيفية طبخ العصير إلى أن يذهب ثلثاه]
م: (فصل في طبخ العصير) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام العصير وكيفيته، ولما ذكر فيها معنى أن العصير لا يحل ما لم يذهب ثلثاه، شرع يبين كيفية طبخ العصير إلى أن يذهب ثلثاه، وما في هذا الفصل ليس بمذكور في " الجامع الصغير "، ولا في القدوري، وإنما هو مذكور في " المباسيط "، ذكره تفريعا على ما ذكر قبل هذا.
م: (والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن) ش: يعني ما ذهب من القدر ومن غاية الغليان وقذفه بالزبد لا يعتبر م: (ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي) ش: لأن نصيب الشيطان في الثلثين فيما لم يذهب الثلثان لا يحل م: (بيانه) ش: أي بيان ما ذكر م: (عشرة دوارق) ش: وهو جمع دورق - بفتح الدال المهملة وسكون الواو وفتح الراء وفي آخره قاف -، وهو مكيال الشراب أعجمي معرب.
قيل: تسعة عشر أمناء. وقال تاج الشريعة: تسعة أربعة أمناء م: (من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي) ش: وهو تسعة دوارق م: (حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلاث) ش: وهو ثلاثة دوارق م: (فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا) ش: أي حال كونه زائدا م: (هو العصير) ش: يعني من نفس العصير م: (أو ما يمازجه) ش: أي والذي ذهب زائدا هو ما يمازج العصير من الثفل والشراب والدردي.
م: (وأيا ما كان) ش: أي النوعين كان م: (جعل العصير تسعة دوارق، فيكون ثلثها ثلاثة) ش: أي فيكون ثلث التسعة ثلاثة دوارق، فيكون الذهب ستة والباقي ثلاثة فيحل.
م: (وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ بمائه إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعدما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه؛ لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير) ش: بيان ذلك ما قاله شيخ الإسلام خواهر زاده في(12/400)
وإن كانا يذهبان معا تغلى الجملة حتى يذهب ثلثاها ويبقى ثلثها فيحل، لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا والثلث الباقي ماء وعصير، كما إذا صب الماء فيه بعد ما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه، بيانه عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء، ففي الوجه الأول يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير، وفي الوجه الثاني حتى يذهب ثلثا الجملة لما قلنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"شرحه"، وهو: أن يجعل كل عشرة من الماء والعصير على ثلاثة أسهم بحاجتك إلى الثلث والثلثين، فيكون الماء ستة من تسعة وما ذهب يجعل كأن لم يكن، لأن ما بقي العصير لا غير، وهو ثلاثة أسهم فيطبخ حتى يذهب ثلثاه فقد ذهب مرة ستة ومرة اثنان فذهب ثمانية وبقي واحد هو تسع الكل وهو الحاصل ثلاثة دوارق وهو ثلث.
م: (وإن كانا يذهبان معا) ش: أي وإن كان الماء والعصير يذهبان معا م: (تغلي الجملة حتى يذهب ثلثاها، ويبقى ثلثها فيحل) ش: قال شيخ الإسلام: كأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - علم أن العصير على نوعين منه ما لو صب فيه الماء وطبخ يذهب الماء أولا منه ما إذا صب فيه الماء يذهبان معا، وكذلك فصل الجواب فيه مفصلا؛ م: (لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا) ش: أي حال كون الثلثين ماء وعصيرا، وهذا مثل قولك جاء القوم ركبانا ومشاة، يعني حال كونهم بعضهم راكبين وبعضهم ماشين م: (والثلث الباقي ماء وعصير) ش: وقد ذهب الحرام من العصير وهو الثلثان، وبيانه فيما قال شيخ الإسلام: وهو: أن يطبخ حتى يذهب ثلثاه وهو عشرون ويبقى ثلاثة وهو عشرة، لأنه متى بقي عشرة كان يليه ماء ويليه عصير إذا كانا يذهبان معا، فيكون ثلث العصير ثلاثة، وقد كان العصير عشرة، وقد رد العصير إلى الثلث فيحل.
م: (كما إذا صب الماء فيه بعدما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه) ش: يعني صار حكم هذا كحكم ماء لو صب في العصير بعدما صار مثلثا بحيث يحل فكذا هذا.
م: (بيانه) ش: أي بيان ما ذكر م: (عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء، ففي الوجه الأول) ش: أي فيما إذا ذهب الماء أولا م: (يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير) ش: تسع الجملة وهي ثلاثة، وذلك بعد ذهاب الدورق بالزبد والثلاثة ثلث العصير، لأن العصير عشرة، ولكن ذهب منها دورق بالزبد فبقي تسعة ثلثها ثلاثة.
م: (وفي الوجه الثاني) ش: أي فيما إذا كان الماء والعصير يذهبان معا م: (حتى يذهب ثلثا الجملة) ش: أي يطبخ حتى يذهب ثلثا الجملة وهو عشرون وبقي عشرة ثلاثة، فمتى بقي عشرة كان ثلثاه ماء وثلثه عصير، أو كان الباقي ثلث العصير وثلث الماء م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لأن الباقي ثلث الماء وثلث العصير.(12/401)
والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل قبل أن يصير محرما، ولو قطع عنه النار فغلي حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار. وأصل آخر: أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي وبعد المنصب، ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما يخرج بالقسمة فهو حلال بيانه عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل ثم أهرق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو ثلاثة وثلث وتضربه فيما بقي بعد المنصب وهو ستة، فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعدما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل) ش: أي الغلي م: (قبل أن يصير محرما) ش: قال في الأصل: إذا طبخ الرجل عصيرا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثاه ثم ترك حين يبرد، ثم أعاد عليه الطبخ حتى يذهب نصف ما بقي فإن كان أعاد عليه قبل أن يغلي ويتغير عن حال العصير فلا بأس به، لأن الطبخ وجد في حالة الحلاوة وإن كان يغير عن حالة العصير وإلا فلا خير فيه لأن الطبخ وجد بعد ثبوت الحرمة.
م: (ولو قطع عنه النار فغلي حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار) ش: صورته إذا طبخ العصير حتى ذهب] ثلاثة أخماسه مثلا وبقي خمساه ثم قطع عنه النار فلم يبرد حتى نقص عليه تمام الثلثين وبقي الثلث حل، لأن ما ذهب بعد قطع النار ذهب بحرارة النار فصار كما إذا شمس العصير وذهب ثلثاه بحرارة الشمس، فيصير مثلثا، لأن المقصود ذهاب الثلثين وصار كما لو صار مثلثا والنار تحته. بخلاف ما لو برد مشتدا محرما ثم طبخ حتى ذهب ثلثاه حيث لا يحل، كذا في " الذخيرة " و" المبسوط ".
م: (وأصل آخر: أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان) ش: ذكر أولا الأصل الذي فيه: أن ما ذهب بالزبد لا يعتبر. ثم ثانيا: الأصل الذي فيما إذا صب فيه الماء بالوجهين المذكورين.
ثم ثالثا: يذكر معرفة قدر طبخ للبقية بعد إراقة البعض فقال: م: (فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي وبعد المنصب) ش: أي المسكوب م: (ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء. فما يخرج بالقسمة فهو حلال. بيانه: عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل، ثم أهرق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو ثلاثة وثلث) ش: لأن كل العصير عشرة، وثلثها ثلاثة وثلث.
م: (وتضربه فيما بقي بعد المنصب وهو ستة، فيكون عشرين) ش: لأن الستة ثلاث مرات ثمانية عشر، والثلاث مرات اثنان، فالجملة عشرون م: (ثم تقسم العشرين على ما بقي بعدما(12/402)
ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء، وذلك تسعة فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان فعرفت أن الحلال ما بقي منه رطلان وتسعان، وعلى هذا تخرج المسائل. ولها طريق آخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء، وذلك تسعة، فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان) ش: وهذا لأن الرطل الذاهب بالطبخ في المعنى داخل فيما بقي، وكان الباقي إن لم ينصب منه شيء تسعة أرطال، فعرفنا أن كل رطل من ذلك فسر معنى رطل وتسع رطل، لأن الذاهب بالغليان يقسم على ما بقي أتساعا، فإذا انصب فيه ثلاثة أرطال، فهذا في المعنى ثلاثة أرطال وثلاثة أتساع رطل، فيكون الباقي منه ستة أرطال وستة أتساع رطل فيطبخه حتى يذهب الثلثان، ويبقى منه الثلث وهو رطلان وتسعا رطل، وهو معنى قوله:
م: (فعرفت أن الحلال ما بقي منه رطلان وتسعان) ش: بضم التاء، أي تسعا رطل كما ذكرنا م: (وعلى هذا تخرج المسائل) ش: أي وعلى المسائل المذكورة تخرج مسائل كثيرة، منها: إذا كان الذاهب بالغليان رطلين وبقي ثمانية أرطال ثم أهريق منه رطلان ثم يطبخ حتى يزول الثلثان ينبغي أن يطبخ حتى تزول الثلاثة أرطال ونصف رطل، لكن تأخذ ثلث الجميع، وذلك ثلاثة وثلث، فتضربه في الباقي بعد الغليان والإراقة، وهو ذلك ستة، فيصير عشرين، ثم يقسم العشرون على الباقي بعد الغليان قبل الإراقة، وذلك ثمانية يخرج رطلان ونصف رطل، وهذا المقدار هو الذي يجب أن ينتهي الطبخ إليه بعد الغليان والإراقة، وهو الثلث.
ومنها: إذا كان الذاهب بالغليان خمسة أرطال وبقي خمسة، ثم جاء رجل وأخذ منه رطلا وبقي أربعة لم يطبخ حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ينبغي أن يطبخه حتى يبقى رطلان وثلثا رطل، لأنك تضرب ثلثا الجملة وهي ثلاثة وثلث في الباقي بعد الإراقة وهي أربعة، فيكون ثلاثة عشر وثلثا لأن الثلاثة في الأربعة اثنا عشر وثلث في الأربعة منهم وثلث سهم، فيقسم ثلاثة عشر وثلث على الباقي بعد الغليان قبل الإراقة، وذلك خمسة يخرج من القسمة رطلان وثلاثة أخماس رطل وثلث خمس رطل، وقال: إن العشرة إذا قسمت علي الخمسة فيخرج سهمان، والثلاثة إذا قسمت على الخمسة يخرج ثلاثة أخماس والثلث إذا قسم على الخمسة يخرج ثلث خمس رطل، لأنك تضرب الصحيح وهي الخمسة في مخرج الكسر وهي ثلاثة تصير خمسة عشر ثم يقسم عليه الكسر وهو الثلث يخرج ثلث الخمس ثم ثلاثة أخماس الشيء وثلث خمسه مساو مع ثلث الشيء. ألا ترى أن عشرة من خمسة عشر ثلثاه وهي ثلاثة أخماسه وثلث خمسه لأن ثلاثة أخماسه تسعة وثلث خمسه واحد.
م: (ولها طريق آخر) ش: أي للمسألة المذكورة طريق آخر في استخراجها. قيل: هو: أن يجعل الذاهب بالغليان من الحرام، لأنه إنما يطبخ ليذهب الحرام ويبقى الحلال فثلثاه عشر(12/403)
وفيما اكتفينا به كفاية وهداية إلى تخريج غيرها من المسائل، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أرطال حرام وهو ستة أرطال وثلثا رطل وثلثه حلال وهو ثلاثة أرطال وثلث رطل، والذاهب بالطبخ ذاهب من الحرام، والباقي تسعة أرطال الحلال منها ثلاثة أرطال وثلث رطل، والحرام خمسة أرطال وثلثا رطل، فإذا أهريق ثلاثة فهو من الحلال والحرام جميعا وكان الذاهب منهما على السواء، فذهب من الحلال ثلاثة وهو رطل وتسع رطل، فيبقى ثلثاه رطلان وتسعا رطل. ولو رمت زيادة الانكشاف فاجعل كل رطل تسعة لاحتياجه إلى حساب له ثلث ولثلثه ثلث وهو تسعة، فصارت أرطال الحلال ثلاثين سهما، وقد أريق ثلاثة وهو عشرة فيبقى عشرون وهو رطلان وتسعا رطل، وهذا معنى قول الشيخ، ولهذا طريق آخر.
م: (وفيما اكتفينا به كفاية) ش: للذكي الفطن م: (وهداية) ش: أي طريق موصل م: (على تخريج غيرها) ش: أي غير المسائل التي ذكرناها م: (من المسائل) ش: لمن يستهدي بذلك ويحفظه وهو ما ذكرنا من الأصول.
واعلم أن القدر الذي يطبخ فيها العصير ينبغي أن يكون قدرا قاعدتها مسطحة غير مقعرة، وجدارها المحيط مستديرا في ارتفاعه على الاستقامة، وارتفاعه مقسوم بثلاثة أقسام متساوية، فتملأ ويطبخ إلى أن يذهب ثلثاه ويرجع الباقي في المقدار إلى العلامة السفلى على قدر الثلث، كذا قال بعد الحساب في كتابه، م: (والله أعلم بالصواب) .(12/404)
كتاب الصيد الصيد لغة هو: الاصطياد؛ ويطلق على ما يصاد، والفعل مباح لغير المحرم في غير الحرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصيد]
[تعريف الصيد]
م: (كتاب الصيد) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الصيد. وجه المناسبة بين الكتابين هو: اشتمالهما على نوع من السرور والنشاط، إلا أن الأول أقوى، لأنه باطني، فكذلك قدمه. وقيل: لأن منهما قد يصير من أسباب التلهي، إلا أن التلهي بالأشربة حرام، وبالصيد مكروه فقد حرم الحرام لقوته على المكروه ومحاسن الصيد محاسن المكاسب وسببه مختلف باختلاف حال الصائد، فقد تكون الحاجة إليه، وقد لا يكون لإظهاره حلاوة. وقد يكون للتفرج والتنزه.
م: (الصيد لغة هو: الاصطياد) ش: أراد أن الصيد في اللغة مصدر بمعنى الاصطياد، وقد سمي الصيد صيدا للتسمية بالمصدر.
ويقال: صاد يصيد صيدا فهو صائد، وذلك مصيد وأصله مصيود، كما أن مبيعا أصله مبيوع فاعل بالنقل والقلب والصيد اسم لحيوان ممتنع متوحش لا يؤخذ إلا بالحيلة، قال الشاعر:
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
أطلق اسم الصيد على البطل، وهو الشجاع، وإن كان آدميا لكونه ممتنعا لا يمكن أخذه إلا بالحيلة. وشرعيته بالكتاب والسنة والإجماع.
م: (ويطلق) ش: أي لفظ الصيد الذي هو المصدر م: (على ما يصاد) ش: من الحيوان مجازا إطلاقا لاسم المصدر على المفعول م: (والفعل مباح) ش: أراد بالفعل الاصطياد وهو مباح م: (لغير المحرم في غير المحرم) ش: المحرم محرم عليه الصيد بالآية، وكذلك صيد الحرام حرام بالنص، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر صيدها» ، فإذا كان بيعه حرام فصيده بطريق الأولى، لأن فيه تفويت الأمن المستحق.
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] (المائدة: الآية 2) ش: هذا دليل لمشروعية الصيد، ويفهم منه أيضا عدم مشروعيته لغير الحلال، وهو المحرم، والأمر هاهنا للإباحة.(12/405)
ولقوله عز وجل: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما} [المائدة: 96] (المائدة: الآية 96) . ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعدي بن حاتم الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل، ون أكل منه فلا تأكل؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» . وعلى إباحته انعقد الإجماع، ولأنه نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك، وفيه استيفاء المكلف وتمكينه من إقامة التكاليف، فكان مباحا بمنزلة الاحتطاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولقوله عز وجل: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] (سورة المائدة: الآية 96) ش: هذا التحريم إلى غاية، فاقتضى الإباحة فيما وراء ذلك.
م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لعدي بن حاتم الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه فلا تأكل؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة «عن عدي بن حاتم، قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني أرسل كلبي وأسمي، فقال: "إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل -، فإن أكل منه، فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه".
قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر ولا أدري أيهما أخذه؟، فقال: "لا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر".» م: (وعلى إباحته) ش: أي إباحة الصيد م: (انعقد الإجماع) ش: أي إجماع الأمة، وهو من أقوى الحجج، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» .
م: (ولأنه) ش: أي الصيد م: (نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك) ش: أي لأجل الانتفاع، لأن ما سوى الآدمي خلق لمصالح الآدمي م: (وفيه) ش: أي في الانتفاع بالشيء المخلوق الانتفاع م: (استيفاء المكلف وتمكينه من إقامة التكاليف) ش: لأنه لو لم ينتفع بما فيه نفعه يهلك ولا يتمكن من إقامة التكاليف م: (فكان مباحا) ش: أي إذا كان الأمر كذلك كان الاصطياد مباحا م: (بمنزلة الاحتطاب) ش: والاحتشاش في كونه مباحا.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون واجبا لما فيه من التمكن من إقامة التكاليف؟ قلت: هو غير متعين لإقامتها فكان مباحا، ولهذا قالوا: يباح، إذا كان مقصوده إقامة التكاليف وإن كان مقصود التلهي يكره.(12/406)
ثم جملة ما يحويه الكتاب فصلان، أحدهما في الصيد بالجوارح، والثاني في الاصطياد بالرمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم جملة ما يحويه الكتاب) ش: أي ما يجمعه كتاب الصيد م: (فصلان أحدهما في الصيد بالجوارح) ش: وهو جمع جارحة، وأراد بها هاهنا الجوارح من الحيوان كالكلب والفهد والبازي والصقر ونحوها م: (والثاني) ش: أي الفصل الثاني م: (في الاصطياد: بالرمي) ش: بالسهام والمعراض ونحوهما من الآلة التي تجرح نحو السيف والرمح.(12/407)
فصل في الجوارح قال: يجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة. وفي " الجامع الصغير ": وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور، فلا بأس بصيده ولا خير فيما سوى ذلك، إلا أن تدرك ذكاته. والأصل فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الجوارح]
[الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة]
م: (فصل في الجوارح) ش: أي هذا فصل في بيان الجوارح، وقدم فعلها على الرمي لأن آلة الصيد هنا حيوان، وفي الرمي جماد، وللحيوان فضل على الجماد مع أن الحيوان هاهنا متصف بالعلم، فكان أفضل من الرمي الذي لا صلاحية له في العلم.
م: (قال: يجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة) ش: أي قال القدوري في "مختصره": وأراد سائر الجوارح المعلمة من الحيوان الذي له ناب نحو النمر والثعلب والضبع على ما يجيء، ومن الحيوان الذي له مخلب كالصقر والعقاب والباشق ونحوها.
م: (وفي " الجامع الصغير ": وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور، فلا بأس بصيده) ش: وإنما أورد رواية " الجامع الصغير "، لأن رواية القدوري تدل على الإثبات لا غير، ورواية " الجامع الصغير " تدل على الإثبات والنفي جميعا، وأراد بذي ناب: الذي يصيد بنابه، وبذي مخلب: الذي يصيد بمخلبه، لا ماله ناب ومخلب.
فإن قلت: لم ذكر كلمة "لا بأس" مع ثبوت الإباحة بالكتاب؟.
قلت: لأن قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] مخصوص في الخنزير والذئب، فصار شبهة في تناول الآية كل معنى، لأن العام إذا خص منه البعض يصير ظنيا، وعند البعض لا يبقى حجة، فلهذا قال لا بأس.
م: (ولا خير) ش: أي لا يجوز م: (فيما سوى ذلك) ش: أي فيما سوى المعلم من ذي ناب، والمعلم من ذي مخلب يعني إذا أخذ كلبا غير معلم صيدا فلا خير فيه م: (إلا أن تدرك ذكاته) ش: وكذا البازي وغيره. وقيل: أراد ما لا ناب له ولا مخلب لأنه لا يجرح، وإنما يقتل غما وخنقا، والله سبحانه وتعالى شرط الجرح إلا أن يدرك ذكاته أي ذبحه، فحينئذ يكون مضافا إلى ذبحه.
م: (والأصل فيه) ش: أي في اشتراط كون الجارح من ذوات الناب والمخلب التي يصيد بها.(12/408)
قَوْله تَعَالَى: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 3) ، والجوارح الكواسب في تأويل المكلبين المسلطين، فيتناول الكل بعمومه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قَوْله تَعَالَى) ش: لا إله إلا هو م: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 3) ش: كلمة ما بمعنى الذي، وهو عطف على الطيبات، أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن تكون ما شرطية وجزاؤها فكلوا.
م: (والجوارح الكواسب في تأويل) ش: أي الكواسب من سباع البهائم، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والطير كالصقر والبازي والشاهين، سميت بذلك لأنها كواسب بنفسها، يقال: جرح وأجرح إذا كسب، وفيه قوله سبحانه وتعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] (سورة الأنعام: الآية 60) ، أي كسبتم في الأيام، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] (سورة الجاثية: الآية 21) أي اكتسبوها. وقيد بقوله: "في تأويل بعض العلماء"، لأنه في تأويل آخرين من الجوارح.
م: (المكلبين المسلطين) ش: أي المسلطين الجوارح على الصيد، وفي " الكشاف ": الكلب المؤدب الجوارح، ومضربها بالصيد فصائدها ورابطها كذلك بما علم من الحبل، وطرف التأديب والتنظيف واشتقاقه من الكلب؛ لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. ولأن السبع يسمى كلبا، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك، فافترسه الأسد» . ومن الكلب الذي هو بمعنى الفرارة يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاربا به.
فإن قلت: مكلبين منصوب بماذا؟.
قلت: على الحال من علمتم.
فإن قلت: ما فائدة الحال، وقد استغنى عنها ب "علمتم"؟.
قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح تحريرا في علمه قدرنا فيه موصوفا بالتكليب، ويعلمونهن حال ثانية، أو استئناف، وفيه فائدة جليلة وهي: كل من أخذ علما لا يأخذه إلا من أقبل أهله علما، وأوسعهم دراية، وأغوصهم على ألطافه وحقائقه، فكم أخذ من غير متقن قد ضيع زمانه، وغفل عن التقاط التجاريم بنابه بما علمكم الله من علم التكليب، إنه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره، وانصرافه بدعائه، وإمساكه الصيد عليه، وأن لا تأكل منه.
م: (فيتناول الكل بعمومه) ش: أي إذا كان المعنى ما ذكرنا يتناول قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] كل ذي ناب جارح، وكل ذي مخلب جارح بعموم اللفظ(12/409)
دل عليه ما روينا من حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه استثنى من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما، الأسد لعلو همته، والدب لخساسته، وألحق بهما بعضهم الحدأة لخساسته، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين فلا يجوز الانتفاع به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفيه إشارة إلى نفي ما ذهب إليه ابن عمر، ومجاهد: أنه لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب، مستدلين بلفظ مكلبين.
م: (دل عليه) ش: أي العموم م: (ما روينا من حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: فإنه قال فيه: «إذا أرسلت كلبك» م: (واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد) ش: ألا ترى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في عتبة بن أبي لهب: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" فسلط الله عليه الأسد فقتله» ومعنى حقيقة هذا الاسم موجود في الكل، فكان عاما بطريق الحقيقة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه استثنى من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما، الأسد لعلو همته، والدب لخساسته) ش: هذا يتعلق بقوله: فيتناول العموم بعمومه.
وفي " الإيضاح ": ولا يجوز الاصطياد بالأسد والدب، والخنزير، وإن كان عموم الآية يتناولها؛ لأن التعليم منها لا يتصور، فإنا نستدل على التحريم للتعليم بترك الأكل، ومن عادة الأسد والدب أن يمسكا صيدهما فلا يأكلانه في الحال، حتى لو تصور التعلم منهما جاز.
وأما الخنزير فإنه نجس العين، وكان الانتفاع به محرما. وعن أحمد، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وإسحاق، وأصحاب الظاهر: لا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما، والبهيم الذي لا يخالطه لون سواه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "هو شيطان" وأمر بقتله، وما وجب قتله حرام إقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده كغير المعلم. ولنا عموم الآية والخبر والقياس على غيره من الكلاب.
م: (وألحق بهما) ش: أي بالأسد والدب م: (بعضهم الحدأة لخساسته) ش: بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة، وجمعها حدأ على وزن فعل بكسر الفاء وفتح العين م: (والخنزير مستثنى) ش: أي من عموم الآية م: (لأنه نجس العين، فلا يجوز الانتفاع به) ش: لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145](12/410)
ثم لا بد من التعليم؛ لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال ولأنه إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له فيترسل بإرساله ويمسكه عليه، قال: وتعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا دعوته وهو مأثور عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(الأنعام: الآية 145) ، والرجس: النجس، والانتفاع بالنجس حرام.
[تعليم الكلب]
م: (ثم لا بد من التعليم؛ لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم) ش: وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 4) م: (والحديث به) ش: بالجر عطفا على قوله: النص باشتراط التعليم، أي: وما ذكرنا من الأحاديث وهو حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، أي بالتعليم، أي من اشتراط الحديث بالتعليم م: (وبالإرسال) ش: أي وباشتراط الحديث أيضا بالإرسال، وهو «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعدي: "إذا أرسلت كلبك المعلم» ؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الإرسال والتعليم جميعا.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الحيوان م: (إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له) ش: أي آلة الاصطياد بتعليمه إياه ليكون عاملا للصيد، أو عاملا للصائد بما يريد من الصيد م: (فيترسل بإرساله) ش: بالنصب عطفا على ليكون م: (ويمسكه عليه) ش: أي ويمسك الصيد على صاحبه لا لنفسه.
م: (قال: وتعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا دعوته) ش: أي قال القدوري م: (وهو مأثور عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أي لفظ الرواية مأثور عنه، وما رواه محمد في كتاب " الآثار "، وقال: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: "ما أمسك عليك كلبك فإن كان عالما فكل، فإن أكل فلا تأكل منه، فإنه أمسك على نفسه"
وأما الصقر والبازي فكل وإن أكل، فإن تعليمه إذا دعوته أن يجيبك فلا يستطيع ضربه حتى تفرغ الأكل، قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، انتهى.
وفي " صحيح البخاري ": وقال ابن عباس: إن أكل الكلب فقد أفسده، إنما أمسك على نفسه، والله سبحانه وتعالى يقول: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 4) ، فيضرب ويعلم حتى يترك الأكل.
وروى ابن جرير الطبري في "تفسيره" في سورة المائدة: حدثنا أبو كريب ثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه قال في الطير: إذا أرسلته فقتل، فكل، فإن الكلب إذا ضربته لم يعد، فإن(12/411)
ولأن بدن البازي لا يحتمل الضرب وبدن الكلب يحتمله فيضرب ليتركه؛ ولأن آية التعليم ترك ما هو مألوف عادة، والبازي متوحش متنفر، فكانت الإجابة آية تعليمه، وأما الكلب فهو ألوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه، وهو الأكل والاستلاب، ثم شرط ترك الأكل ثلاثا، وهذا عندهما، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن فيما دونه مزيد الاحتمال، فلعله تركه مرة أو مرتين شبعا، فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب فإن أكل من الصيد، ونتف الريش، فكل.
م: (ولأن بدن البازي لا يحتمل الضرب وبدن الكلب يحتمله فيضرب ليتركه) ش: أي يترك الأكل، وتعذر ترك الأكل في البازي؛ لأنه لا يحتمل الضرب حتى يترك، فأقيم مقامه ما يدل عليه، وهو الإجابة عند الدعي.
م: (ولأن آية التعليم ترك ما هو مألوف عادة، والبازي متوحش متنفر، فكانت الإجابة) ش: عند الدعي م: (آية) ش: لأنه آية التعليم م: (تعليمه، وأما الكلب فهو ألوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه، وهو الأكل والاستلاب) ش: لأن حقيقة التعليم، والجهل في الحيوان أمر مستبطن، فأقيم تبدل العادة المألوفة مقام العلم، والجري على العادة الأصلية مقام الجهل، وذلك في الكلب يترك الأكل، والمسك على صاحبه لا بالإلف والإجابة لصاحبه داعيا ومرسلا؛ لأن الكلب في الأصل ألوف بحيث إذا دعي أجاب. والبازي متنفر بطبعه، فالإجابة علامة علمه لأنه خلاف طبعه.
وقيل: وفيه نظر؛ لأن هذا العرف لا يتأتى في الفهد، والنمر، فإنه متوحش كالبازي، ثم الحكم فيه، وفي الكلب سواء، فالمعتمد هو الأول؟.
أجيب: بأنه غير وارد؛ لأنه إنما ذكره فرق بين الكلب والبازي لا غير، وذلك صحيح، وإذا أريد الفرق عموما فالعمدة هو الأول، ثم ترك الأكل ليس بشرط في الطير عند العامة، وبه قال ابن عباس، ونص الشافعي: أنه يشترط كالكلب في تحريم ما أكل من صيده؛ لأن مجالدا روى عن السيفي عن عدي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن أكل الكلب والبازي: فلا تأكل» ولنا إجماع الصحابة على ما ذكرنا. وقال أحمد: روايات مجالد غير صحيحة.
م: (ثم شرط ترك الأكل ثلاثا) ش: أي ثم شرط القدوري ترك أكل الكلب ثلاث مرات م: (وهذا) ش: أي هذا الشرط م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قولنا رواية عن أبي حنيفة م: (لأن فيما دونه) ش: أي فيما دون ثلاث مرات م: (مزيد الاحتمال) ش: أي زيادة الاحتمال، وبين ذلك بقوله م: (فلعله تركه مرة أو مرتين شبعا) ش: أي فلعل الكلب ترك الأكل مرة أو مرتين لأجل الشبع فلا يدل على ترك علمه م:(12/412)
تركه ثلاثا دل على أنه صار عادة له، وهذا لأن الثلاث مدة ضربت للاختبار وإيلاء الأعذار كما في مدة الخيار، وفي بعض قصص الأخيار ولأن الكثير هو الذي يقع أمارة على العلم دون القليل والجمع هو الكثير وأدناه الثلاث فقدر بها، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكر في الأصل: لا يثبت التعليم ما لم يغلب على ظن الصائد أنه معلم ولا يقدر بالثلاث؛ لأن المقادير لا تعرف اجتهادا بل نصا وسماعا ولا سمع فيفوض إلى رأي المبتلى به كما هو أصله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فإذا تركه ثلاثا دل على أنه صار عادة له) ش: لعلة الاحتمال في الثلاث جدا.
م: (وهذا) ش: بمعنى دلالة الثلاث على كونه عادة له م: (لأن الثلاث مدة ضربت للاختبار) ش: أي الامتحان م: (وإيلاء الأعذار كما في مدة الخيار) ش: لأنها ثلاثة أيام م: (وفي بعض قصص الأخيار) ش: أراد به موسى، والخضر - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حيث قال موسى للخضر في المرة الثالثة: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76] وأمثال ذلك كثيرة، قال سبحانه وتعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وقال سبحانه وتعالى في قصة زكريا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41] (آل عمران: الآية 41) . وروى أبو داود بإسناده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» .
وروى القدوري في "شرحه" عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يربح فليشغل إلى غيره» وتقدير مدة المسافر، وإمهال المرتد، ومدة أقل الحيض، ونحو ذلك
م: (ولأن الكثير هو الذي يقع أمارة على العلم) ش: وفي بعض النسخ على العلم م: (دون القليل) ش: أي لا يقع القليل عالة على ذلك م: (والجمع هو الكثير وأدناه الثلاث فقدر بها) ش: يعني أدنى الجمع هو الثلاث؛ لأن ما فوقه من أفراد الجمع ليس بعضه أولى من بعض، فقدرنا الأدنى لأنه متيقن.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكر في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (لا يثبت التعليم ما لم يغلب على ظن الصائد أنه معلم ولا يقدر بالثلاث؛ لأن المقادير لا تعرف اجتهادا بل نصا وسماعا) ش: أي بل يعرف من حيث النص من الشارع ومن حيث السماع منه م: (ولا سمع) ش: أي ولا سماع موجود هاهنا، وفي بعض النسخ: ولا سمع؛ م: (فيفوض إلى رأي المبتلى به) ش: أي إذا كان ذلك فيفوض أمر التعليم إلى رأي الصياد؛ لأنه هو الذي ابتلي به م: (كما هو أصله(12/413)
في جنسها. وعلى الرواية الأولى عنده يحل ما اصطاده ثالثا، وعندهما: لا يحل؛ لأنه إنما يصير معلما بعد تمام الثلاث. وقبل التعليم غير معلم فكان الثالث صيد كلب جاهل، وصار كالتصرف المباشر في سكوت المولى. وله: أنه آية تعليمه عنده فكان هذا صيد جارحة معلمة بخلاف تلك المسألة؛ لأن الإذن إعلام ولا يتحقق دون علم العبد وذلك بعد المباشرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في جنسها) ش: أي كما هو أصل أبي حنيفة في جنس المقادير نحو حبس الغريم، وحد التقادم، وتقدير ما غلب في نزح البئر العين، ولم يقدر أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدد المرات؛ لأن التقدير بالتوقيف ولا توقيف، بل قدروه بما يصير به معلما في العرف، وبه قال أحمد، إلا أنه قال: أقل ذلك ثلاث، وحكي عن مالك، وربيعة: لا يعتبر الأكل. وقال بعض أصحاب أحمد: لا يشترط التكرار في المعلم؛ لأنه خنقه فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع. ولنا: أن ترك الأكل ثلاث مرات دليل علمه.
م: (وعلى الرواية الأولى) ش: وهي التي قدر بالثلاث وهي رواية القدوري م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة، م: (يحل ما اصطاده ثالثا) ش: يعني إذا أخذ صيدا فلم يأكل ثم أخذ ثانيا فلم يأكل، ثم أخذ ثالثا فلم يأكل يحل أكل الثالث عند أبي حنيفة م: (وعندهما: لا يحل) ش: أكل الثالث، ويحل أكل ما بعده. وقال في " المجرد " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأكل أول ما يصيد، ولا الثاني، ثم يحل الثالث وما بعده، وهو رواية محمد بن شجاع عن الحسن عن أبي حنيفة م: (لأنه إنما يصير معلما بعد تمام الثلاث) ش: أي لأن الكلب إنما يصير معلما بعد تمام ثلاث مرات عن ترك الأكل.
م: (وقبل التعليم غير معلم، فكان الثالث صيد كلب جاهل) ش: لأنه إنما حكم بتعليمه عين ترك الأكل من الثلاث، وما صاده قبل الثلاث ليس بصيد كلب معلم م: (وصار كالتصرف المباشر في سكوت المولى) ش: يعني إذا رأى المولى العبد يتصرف فسكت يكون إذنا له فيما بعد، والتصرف الذي يباشره غير صحيح بالاتفاق.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه آية تعليمه عنده) ش: أي ترك الأكل علامة تعليمه عند الثلاث؛ لأنه إنما يحكم بكونه معلما بطريق تعيين إمساكه. الثالث على صاحبه، وإذا حكمنا أنه أمسكه على صاحبه، وقد أخذه بعد إرسال صاحبه فيحل؛ م: (فكان هذا صيد جارحة معلمة) ش: فيحل أكله م: (بخلاف تلك المسألة) ش: أراد بها مسألة ما إذا رآه المولى يتصرف فسكت م: (لأن الإذن إعلام) ش: بفك الحجر م: (ولا يتحقق دون علم العبد وذلك بعد المباشرة) ش: أي علم العبد لا يكون إلا بعد المباشرة، وما باشره قبل العلم يكون تصرف محجور فلا ينفذ.(12/414)
قال - رحمة الله عليه -: وإذا أرسل كلبه المعلم أو بازيه وذكر اسم الله تعالى عند إرساله، فأخذ الصيد وجرحه فمات حل أكله لما روينا من حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ولأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة إلا بالاستعمال، وذلك فيهما بالإرسال، فنزل منزلة الرمي وإمرار السكين فلا بد من التسمية عنده، ولو تركه ناسيا حل أيضا على ما بيناه، وحرمة متروك التسمية عامدا في الذبائح، ولا بد من الجرح في ظاهر الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أرسل صيده وذكر اسم الله تعالى عند إرساله فأخذ الصيد وجرحه فمات]
م: (قال - رحمة الله عليه -: وإذا أرسل كلبه المعلم أو بازيه وذكر اسم الله تعالى عند إرساله فأخذ الصيد، وجرحه، فمات حل أكله) ش: أي قال القدوري في "مختصره": م: (لما روينا من حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: حيث قال فيه: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ، وقد ذكر شرط الإرسال والتسمية جميعا.
م: (ولأن الكلب والبازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة إلا بالاستعمال) ش: أي باستعمالهما للذبح، ولهذا قال: لو انقلب الصيد أو الشاة على سكين وأصاب مذبحها لا يحل؛ لأن الاستعمال لم يوجد م: (وذلك فيهما بالإرسال) ش: أي الاستعمال يكون بإرسال في الكلب، والبازي، فلا بد من الإرسال، وبه قالت الثلاثة، وأكثر أهل العلم.
وعن عطاء، والأوزاعي: يؤكل إذا أخرجه للصيد؛ لأن الإخراج له كالإرسال.
وقال إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سمى عند انتقاله يباح صيده، ولو استرسل وسمى صاحبه وزاجره، وزاد في عدوه أبيح، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يباح لعدم الانزجار. وعن مالك كالمذهبين. قلنا: لما زجره صار كأنه أرسله، وكذا لو أرسله ثم سمى، وزجره فزاد في عدوه: أبيح صيده.
م: (فنزل منزلة الرمي، وإمرار السكين) ش: أي ترك الإرسال منزلة رمي الطير بالسهم، وإمرار السكين على حلق الشاة، فكذلك يشترط التسمية عند الإرسال، وهو معنى قوله: م: (فلا بد من التسمية عنده) ش: أي عند الإرسال م: (ولو تركه ناسيا حل أيضا) ش: أي: ولو ترك ذكر التسمية حال كونه ناسيا حل كما في وجود التسمية، وهو معنى قوله أيضا: م: (على ما بيناه) ش: أي على ما بينا أن ترك التسمية ناسيا لا يضر م: (وحرمة متروك التسمية عامدا) ش: ينصب حرمة عطف على الضمير المنصوب في بيناه، أي وعلى ما بينا حرمة متروك التسمية حال كون عامدا م: (في الذبائح) ش: يرجع إلى الاثنين.
م: (ولا بد من الجرح) ش: أي جرح الكلب الصيد، أو البازي، حتى لو قتله الكلب، أو البازي بلا جرح لا يحل، وكذا أذكره من غير جرح لا يحل م: (في ظاهر الرواية) ش: أشار به إلى رواية الزيادات حيث اشترط الجرح، وأشار في " الأصل " إلى: أنه يحل بذلك الجرح كما(12/415)
ليتحقق الذكاة الاضطراري وهو الجرح في أي موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال، وفي ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وما علّمتم من الجوارح} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 4) ما يشير إلى اشتراط الجرح، إذ هو من الجرح بمعنى الجراحة في تأويل قوله فيحمل على الجارح الكاسب بنابه ومخلبه ولا تنافي، وفيه أخذ باليقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روي عن أبي يوسف، وهو قول عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول آخر: لا يحل كما في ظاهر الرواية، وبه قال مالك، وأحمد.
وفي " الذخيرة ": الفتوى على ظاهر الرواية، قال شيخ الإسلام: قال الشافعي في القديم: يؤكل، وإن قتل صيدا بلا جرح. والجرح ليس بشرط للإباحة، وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وأبي يوسف في رواية الأصول مثل قول الشافعي في القديم م: (ليتحقق الذكاة الاضطراري وهو الجرح في أي موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال) ش: تقريره أن الذكاة لا بد منه إما حقيقة أو حكما، وهاهنا يتعذر الذكاة الحقيقة فتقوم مكانها الذكاة الاضطرارية، فالذكاة الاضطرارية هي أن يوجد الجرح في أي موضع كان من بدن الصيد بانتساب ما وجد من آلة إليه، أي إلى الصيد باستعماله، يعني يكون استعمله مضافا إلى الصائد باعتبار الإرسال، وصار الإرسال كالذكاة، فلهذا اشترط التسمية، وأهلية المرسل عند ذلك فلا بد من الجرح ليكون ذكاة.
م: (وفي ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] (المائدة: الآية 4) ما يشير إلى اشتراط الجرح إذ هو من الجرح بمعنى الجراحة في تأويل قوله) ش: ما يشير مبتدأ. وخبره قوله: في ظاهر الرواية، قوله: إذ هو، أي قوله في الجوارح مشتق من الجرح الذي بمعنى الجراحة لا بمعنى الجرح الذي بمعنى الكسب على أحد التأويلين، وقد ذكر أحدهما، وهو الجرح بمعنى الكسب فيما مضى، والآخر هذا م: (فيحمل على الجارح الكاسب) ش: أي إذا كان كذلك فيحمل الجارح الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {مِنَ الْجَوَارِحَ} [المائدة: 4] على أنه موصوف بصفتين، الجارح من الجرح بمعنى الجراحة، والكاسب م: (بنابه ومخلبه) ش: يتعلق باللفظين، أعني الجارح والكاسب، أي الجارح بنابه في السباع، ومخلبه في الطيور، والكاسب أيضا بنابه ومخلبه م: (ولا تنافي) ش: أي: ولا منافاة بين الجرح والكسب، فيحمل عليهما، يعني يجمع في معنى الآية بين التأويلين لعدم التنافي بينهما، وذلك لأن النص أورد فيه اختلاف المعاني، فإن كان بينهما تناف يحمل على أحدهما بدليل يوجب الترجيح.
وإن لم يكن بينهما تناف يثبت الجميع أخذا بالمتيقن، وهو معنى قوله: م: (وفيه أخذ باليقين) ش: أي في الجمع بين المعنيين غير المتنافيين أخذا باليقين، كما في قوله سبحانه وتعالى:(12/416)
وعن أبي يوسف: أنه لا يشترط رجوعا إلى التأويل الأول، وجوابه ما قلنا. قال: فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل، وإن أكل منه البازي أكل، والفرق ما بنياه في دلالة التعليم وهو مؤيد بما روينا م: (حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى الشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] (البقرة: الآية 228) ، قيل: أريد به الحبل، وقيل: الحيض، والصحيح أنهما مرادان؛ لأنهما لا تنافي هاهنا، وفيه نظر؛ لأن الجرح إما أن يكون مشتركا بين الكسب والجرح، يعني الجراحة، أو يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، والمشترك لا عموم له، والجمع بين الحقيقة والمجاز عندنا لا يجوز. بخلاف قوله سبحانه وتعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فإنه لفظ عام يتناول الجمع بالتعاطي. وقال الكاكي: لا يلزم ذلك؛ بل الجوارح أخص من الكواسب، فليتأمل ذلك.
م: (وعن أبي يوسف أنه لا يشترط) ش: أي الجرح م: (رجوعا إلى التأويل الأول) ش: وهو أن المراد من الجوارح الكواسب، فيحصل صيده بأي وجه كان لعموم النص. م: (وجوابه ما قلنا) ش: أي جواب قول أبي يوسف ما قلناه، أشار به إلى قوله: فيحمل على الجارح الكاسب، إلى آخره.
م: (قال: فإن كان أكل منه الكلب) ش: أي من الصيد م: (أو الفهد) ش: أي أكل الفهد م: (لم يؤكل، وإن أكل من البازي أكل والفرق) ش: بين المسألتين م: (ما بيناه في دلالة التعليم) ش: يعني أن التعليم شرط فيما يصاد به من الجوارح، وهو في الكلب يترك الأكل، وفي البازي بالإجابة، وقد مر بيانه مستوفى م: (وهو) ش: أي الفرق م: (مؤيد بما روينا من حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «وإن أكل منه فلا تأكل» م: (وهو حجة) ش: أي حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حجة م: (على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعلى الشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه) ش: وهو قول ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا.
واحتجوا بما روى أبو ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ورواه أبو داود.
وقلنا: حديث عدي متفق عليه، فكان أولى بالتقديم؛ ولأنه متضمن الزيادة، وهو ذكر الحكم معللا.(12/417)
قال: ولو أنه صاد صيودا ولم يأكل منها، ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد، لأنه علامة الجهل، ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء.
وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية، وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بأن لم يظفر صاحبه بعد تثبت الحرمة فيه بالاتفاق وما هو محرر في بيته يحرم عنده خلافا لهما، هما يقولان: إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم؛ لأن الحرفة قد تنسى، ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه بالاجتهاد فلا ينقض باجتهاد مثله؛ لأن المقصود قد حصل بالأول. بخلاف غير المحرز؛ لأنه ما حصل المقصود من كل وجه؛ لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز فحرمناه احتياطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الكلب صاد صيودا ولم يأكل منها شيئا ثم أكل من صيد]
م: (قال: ولو أن صاد صيودا ولم يأكل منها، ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، وهي من مسائل الأصل، أي: ولو أن الكلب صاد صيودا، ولم يأكل منها شيئا ثم أكل من صيد لا يؤكل من هذا الصيد، أي الذي يأكل منه م: (لأنه علامة الجهل) ش: أي أكله علامة الجهل، وصيد الكلب الجاهل لا يؤكل م: (ولا ما يصيده بعده) ش: أي: ولا يؤكل أيضا ما صاده بعد ذلك م: (حتى يصير معلما على اختلاف الروايات) ش: فعنده باجتهاد الكلاب، وعنده يترك الأكل ثلاثا م: (كما بيناها في الابتداء) ش: أراد به ما ذكر أنه يحله عندهما ما اصطادوا بالنابح.
م: (وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية) ش: لأن الحكم بالحرمة لا يتصور إلا في محل قائم، وقد فات المحل بالأكل.
م: (وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة لم يظفر صاحبه بعد) ش: لم يأخذه الصياد م: (تثبت الحرمة فيه بالاتفاق ما هو محرز في بيته محرم عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله.
م: (هما يقولان: إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم؛ لأن الحرفة قد تنسى) ش: كما في بني آدم، فلم يحرز تحريم ما تقدم بالشك م: (ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه بالاجتهاد) ش: فلأن علم الكلب يثبت بالاجتهاد م: (فلا ينقض باجتهاد مثله) ش: كالقاضي إذا قضى في حادثة بالاجتهاد ثم أحدث له اجتهادا آخر في المستقبل فإنه يعمل في المستقبل بالحادث، ولا ينقض الماضي م: (لأن المقصود قد حصل بالأول) ش: أي بالاجتهاد الأول.
م: (بخلاف غير المحرز؛ لأنه ما حصل المقصود من كل وجه؛ لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز) ش: تقريره أن الإباحة غير محكومة فيها بعد من كل وجه. قالا: إنما يحكم بها إذا خرج الصيد من الصيدية من كل وجه، وشيء من معناها باق، وهو أنه في المفازة بعد م: (فحرمناه احتياطا)(12/418)
وله: أنه آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها، فإذا أكل تبين أنه كان تركه الأكل للشبع لا للعلم وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي إذا كان كذلك، فحرمناه بطريق الاحتياط.
فإن قلت: الصيد اسم للمتوحش المنفر، ولم يبق من هذا المعنى شيء؟.
قلت: بقي ما يلازمه وهو عدم الإحراز على أنا نقول: التنفر، والتوحش ليس بلازم للصيدية، فإن البيض صيد باعتبار ماله مع انعدام هذا المعنى فيه، فلا يكون هذا صيدا باعتبار ما كان بالطريق الأولى.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه آية جهله) ش: أي لأن أكله علامة جهله م: (من الابتداء) ش: أشار بهذا إلى أنه يحكم بجهله عنده مستندا، وعندهما مقتصرا، وبه قالت الثلاثة م: (لأن الحرفة لا ينسى أصلها) ش: هذا جواب عن نكتة غير مذكورة في الكتاب يحتجان بها: وهي أن الأكل في الحال لا يدل على كونه جاهلا في الماضي، لجواز أنه كان عاملا، إلا أنه جهل، والحرفة قد تنسى.
فأجاب: بأنه لو كان عالما لما جهل إذ أصل الحرفة لا تنسى، وإنما تنسى وقائعها بالترك كالخياطة ونحوها في الآدمي، وبه يتبين أن تركه الأكل كان للشبع لا للعلم، وهو معنى قوله م: (فإذا أكل تبين أنه كان تركه الأكل كان للشبع لا للعلم) ش: أي كان لأجل الشبع لا لكونه عالما.
ومن أصحابنا من حمل هذا الخلاف على أن الأكل كان مقارنا لزمان التعليم؛ لأنه إذا كان كذلك دل على فقد التعليم؛ لأن المدة القصيرة تنسى فيها، وإنما ترك الأكل فيما تقدم للشبع ولم يأكل. وأما إذا طالت المدة فيجوز أن يكون أكل للنسيان فلا يستدل بذلك على فقد التعليم في الأصل، فكذلك أكل.
وقال القدوري في "مختصره": وظاهر الرواية يقتضي: أنه لا يؤكل بكل حال، وذلك لأن الاصطياد ليس بعلم مكتسب، وإنما هو من الضرورات، ومثل ذلك لا ينسى، وإنما يضعف بالترك كالخياطة والرمي، فإذا أكل الكلب علم أنه لم يكن معلما في الأصل.
م: (وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود) ش: هذا جواب عما قالا أو لأن فيما أحرزه وقد أمضى الحكم فيه بالاجتهاد، ولا حقيقة أن حكم الإباحة في المحرز إنما ثبت عند ترك الأكل، لأنها مبنية على كون الطلب معلما، وذلك ثابت بالاجتهاد على ما قال، فكان وهما واحتمالا، والموهوم يعتبر عند الضرورة، وذلك عند الأكل، فلم تكن الإباحة ثابتة قبله، فلو اعتبر هكذا بالاجتهاد لأدى إلى نقض حكم أي باجتهاد مثله، بل يؤدي إلى المنع، فصار كظهور اجتهاد(12/419)
لأنه بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء. قال: ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم صاد لا يؤكل صيده، لأنه ترك ما صار به عالما، فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد. قال: ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه أكل، لأنه ممسك للصيد عليه، وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه وأمسك عليه ما يصلح له.
قال: ولو أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طرأ للقاضي قبل القضاء م: (لأنه بالأكل) ش: أي لأن المقصود بالأكل ولم يوجد.
م: (فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء) ش: أي قبل الحكم بالاجتهاد الأول، وما قال أبو حنيفة أقرب إلى الاحتياط، وعليه مبنى الحل والحرمة، ولم يذكر ما إذا باع شيئا من صيوده المقدرة، والحكم فيه كالذي فيه الخلاف إذا تصادق البائع والمشتري على جهالة الكلب.
م: (قال: ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم صاد لا يؤكل صيده) ش: ذكره تفريعا وهو من مسائل الأصل، ثم معنى المسألة أنه رجع إلى صاحبه ثم عاد لا يؤكل، أما ما صاد قبل الرجوع إلى صاحبه فلا شك أنه لا يؤكل لعدم الإرسال.
وقال تاج الشريعة: دعاه فلم يجبه فمكث حينا، أي زمانا، وسميت الغيبة فيه فرارا. وقال الحاكم الشهيد في " الكافي ": وإذا أرسل بازيه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله قال: لا بأس بأكله.
وقال في " شرح الكافي ": لأن هذا من غاية علمه أن ينهز الفرصة حتى يمكنه الاصطياد فيصاد فلا يعد ذلك فاصلا، أي قاطعا للإرسال.
فصل الولوالجي في "فتاواه" في الجواب فقال: وإن مكث طويلا للاستراحة حتما انقطع فور الإرسال لا يؤكل، وإن مكث قليلا ثم ساعة للكمين يؤكل؛ لأن بهذا القدر لا ينقطع فور الإرسال كما في الكلب إذا أمسك طويلا ينقطع فور الإرسال.
م: (لأنه ترك ما صار به عالما) ش: وهو إجابته إلى صاحبه م: (فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد) ش: يحكم بجهله م: (قال: ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه أكل؛ لأنه ممسك للصيد عليه) ش: أي على صاحبه، وفيه خلاف لبعض الناس، كذا قال الأترازي.
قلت: هو قول الشعبي والثوري: أنه يكره أكله؛ لأنه في معنى الأكل منه م: (وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه وأمسك عليه ما يصلح له) ش: فلا يجوز أن يجعل هذا علامة جهله ولو أخذ الصيد من المعلم.
[أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها]
م: (قال: ولو أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها) ش: أي فأكل الكلب(12/420)
يؤكل ما بقي؛ لأنه لم يبق صيدا، فصار كما إذا ألقى إليه طعاما غيره، وكذا إذا وثب الكلب فأخذه منه وأكل منه؛ لأنه ما أكل من الصيد، والشرط ترك الأكل من الصيد، فصار كما إذا افترس شاته، بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك لأنه بقيت فيه جهة الصيدية. قال: ولو نهس الصيد فقطع سنّه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد. قال: ولو ألقى ما نهسه وأتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه وأخذه صاحبه ثم مر بتلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لم يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تلك القطعة م: (يؤكل ما بقي؛ لأنه لم يبق صيدا) ش: لأنه خرج على الصيدية م: (فصار كما إذا ألقى إليه طعاما غيره) ش: أي غير الصيد، أي أكل من غير الصيد.
م: (وكذا إذا وثب الكلب فأخذه منه وأكل منه) ش: أي وكذا يؤكل إذ نط الكلب فأخذه أي من يد صاحبه وأكل منه م: (لأنه ما أكل من الصيد) ش: لأن الصيد اسم لمتوحش غير محرز وقد زال التوحش بالقتل، وزال عدم إحرازه بالإحراز والتحق بسائر الأطعمة وتناوله من سائر الأطعمة لا يدل على جهله، وهاهنا كذلك م: (والشرط ترك الأكل من الصيد) ش: وقد وجد م: (فصار كما إذا افترس شاته) ش: أي فصار حكم هذا كما إذا خطف شاة من شياهه حيث لا يحكم بجهله، فكذا هذا.
م: (بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك لأنه بقيت فيه جهة الصيدية) ش: لأنه لما أكل قبل الإحراز صار كأنه أكل حالة الاصطياد فلا يؤكل.
م: (قال: ولو نهس الصيد) ش: أي عضه بأن قبض على لحمه ومده بالفم وهو بالسين المهملة، وأما نهشه الحية فبالشين المعجمة م: (فقطع سنُّه بضعة) ش: أي قطعة، وهي بفتح الباء الموحدة م: (فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه) ش: لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد؛ لأنه لما نهش منه قطعة وأكلها بجهله، وترك الأكل للباقي لشبعه م: (لم يؤكل؛ لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد. قال: ولو ألقى ما نهسه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه وأخذه صاحبه ثم مر بتلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد) ش: لأن هذا من غاية علمه حيث لم يأكل وقت العمل لصاحبه، وقد أكل بعد الفراغ منه م: (لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة) ش: وهي بعد إحراز صاحبه وأخذ م: (لم يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه) ش: أي فإذا أكل ما فضل من الصيد، والحال: أنه لا يحل لصاحبه؛ لأن ما أبين من الحي فهو ميت م: (أولى) ش: بأن لا يضره.(12/421)
بخلاف الوجه الأول؛ لأنه أكل في حالة الاصطياد، فكان جاهلا ممسكا لنفسه. ولأن نهس البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حيلة في الاصطياد ليضعف بقطع القطعة منه فيدركه، فالأكل قبل الأخذ يدل على الوجه الأول وبعده على الوجه الثاني، فلا يدل على جهله.
قال: وإن أدرك المرسل الصيد حيا وجب عليه أن يذكيه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل، وكذا البازي والسهم، لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود هو الإباحة ولم تثبت قبل موته فبطل حكم البدل. وهذا إذا تمكن من ذبحه، أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة فوق ما يكون من المذبوح لم يؤكل في ظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف الوجه الأول) ش: وهو ما إذا أكل البضعة حيث قطعها م: (لأنه أكل في حالة الاصطياد، فكان جاهلا ممسكا لنفسه) ش: وصيد الجاهل لا يؤكل م: (ولأن نهس البضعة قد يكون ليأكلها) ش: هذه إشارة إلى فرق آخر بين المسألتين، أي يجوز أن يكون نهشه البضعة لأجل الأكل م: (وقد يكون حيلة في الاصطياد ليضعف) ش: أي الصيد م: (بقطع القطعة منه) ش: عن الهرب والنجاة م: (فيدركه) ش: عطف على قوله ليضعف، أي بأن يدركه بسبب الاتخاذ.
م: (فالأكل قبل الأخذ يدل على الوجه الأول) ش: أي قبل أخذ المالك الصيد يدل على الوجه الأول، وهو أنه نهشه فيأكلها، فدل على جهل الكلب م: (وبعده على الوجه الثاني) ش: أي الأكل بعد أخذ المالك للصيد يدل على الوجه الثاني وهو: أنه نهش الصيد، وقطع بضعة حيلة في الاصطياد لتضعيف الصيد، فكان ذلك من غاية حداقته م: (فلا يدل على جهله) ش: فيؤكل.
[أدرك المرسل الصيد حيا]
م: (قال: وإن أدرك المرسل الصيد حيا وجب عليه أن يذكيه، وإن ترك تزكيته حتى مات لم يؤكل) ش: أي قال القدوري: أي لو أدرك مرسل الكلب للصيد حال كونه حيا وجب عليه ذبحه لقدرته على الذكاة الاختيارية، حتى لو لم يذبح ومات الصيد لم يحل.
م (وكذا البازي والسهم) ش: أي وكذا الحكم في التفضيل لو أدرك مرسل البازي الصيد حيا فذبحه حل، وأن لم يذبح حتى مات لا يحل، وكذا لو رماه بسهم فأدركه حيا م: (لأنه قدر على الأصل) ش: وهو الذكاة الاختيارية م: (قبل حصول المقصود بالبدل) ش: وهو الذكاة الاضطرارية م: (إذ المقصود هو الإباحة) ش: أي إباحة الأكل م: (ولم تثبت قبل موته فبطل حكم البدل) ش: كالتيمم إذا رأى الماء قبل الشروع في الصلاة.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي قلنا فوق ما يكون من الحياة في المذبوح لم يؤكل من عدم الأكل م: (إذا تمكن من ذبحه) ش: ولم يدركه م: (أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح لم يؤكل) ش: أي والحال: أنه لم يتمكن من ذبحه بأن لم يتمكن من آلة الذبح، والحال: أن في الصيد من الحياة فوق ما يكون في الحيوان المذبوح لم يؤكل م: (في ظاهر(12/422)
الرواية. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه يحل، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه لم يقدر على الأصل، فصار كما إذا رأى الماء ولم يقدر على الاستعمال، ووجه الظاهر: أنه قدر اعتبارا؛ لأنه ثبت يده على المذبوح، وهو قائم مقام التمكن من الذبح، إذا لا يمكن اعتباره؛ لأنه لا بد له من مدة والناس يتفاوتون فيها على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح فأدير الحكم على ما ذكرناه. بخلاف ما إذا بقي فيه من الحياة مثل ما يبقى في المذبوح لأنه ميت حكما، ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لم يحرم، كما إذا وقع وهو ميت، والميت ليس بمذبح. وفصل بعضهم فيه تفصيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرواية) .
م: (وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه يحل) ش: وفي غير رواية الأصول م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقول مالك وأحمد أيضا م: (لأنه لم يقدر على الأصل) ش: وهو الذكاة الاختيارية م: (فصار كما إذا رأى الماء ولم يقدر على الاستعمال) ش: أي صار هذا نظير المتيمم إذا رأى الماء ولم يقدر على استعماله كحيال سبع ونحوه، فإنه لا يبطل بتيممه؛ لأنه لم يقدر على الأصل.
م: (ووجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أنه قدر اعتبارا) ش: يعني أنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل من حيث الاعتبار والحكم م: (لأنه ثبت يده على المذبوح) ش: يعني وقع الصيد في يده حيا فثبت يده على الذبح م: (وهو قائم مقام التمكن من الذبح) ش: أي ثبوت يده على الذبح قائم مقام التمكن على الذبح م: (إذ لا يمكن اعتباره) ش: يعني لا يمكن اعتبار التمكن يعني حقيقة التمكن من الذبح غير تمكن، لأنه لا بد للتمكن من الذبح من تقدير مدة، وهو معنى قوله: م: (لأنه لا بد له من مدة) ش: أي لأن الذابح لا بد له من تقدير مدة يتمكن فيها م: (والناس يتفاوتون فيها على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح) ش: فمنهم من يتمكن في ساعة لطيفة، ومنهم من لا يتمكن إلا بأكثر من ساعة، وما كان كذلك لا يدار الحكم عليه مدة انضباطه م: (فأدير الحكم على ما ذكرناه) ش: يعني من ثبوت اليد على المذبوح كما أقيم السفر مقام المشقة، فدار الحكم وجدت المشقة أو لا.
م: (بخلاف ما إذا بقي فيه من الحياة مثل ما يبقى في المذبوح لأنه ميت حكما) ش: فلم يبق محلا للذبح م: (ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة) ش: يعني في حياته هو مثل ما بقي في المذبوح م: (لم يحرم، كما إذا وقع وهو ميت) ش: أي والحال أنه ميت حقيقة م: (والميت ليس بمذبح) ش: أي ليس بمحل الذبح.
م: (وفصل بعضهم) ش: أي بعض المشايخ م: (فيه) ش: أي في الحكم المذكور م: (تفصيلا(12/423)
وهو أنه إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل، وإن لم يتمكن لضيق الوقت لم يؤكل عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا وقع في يده لم يبق صيدا فبطل حكم ذكاة الاضطرار، وهذا إذا كان يتوهم بقاؤه، أما إذا شق بطنه وأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حل؛ لأن ما بقي اضطراب المذبوح فلا يعتبر، كما إذا وقعت شاة في الماء بعدما ذبحت، وقيل: هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يؤكل أيضا؛ لأنه وقع في يده حيا فلا يحل إلا بذكاة الاختيار ردا إلى المتردية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، هذا الذي ذكرناه إذا ترك التذكية، فلو أنه ذكاه حل أكله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو أنه إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل، إن لم يتمكن لضيق الوقت لم يؤكل عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقال أحمد في رواية الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل: فإن عندهم يؤكل استحسانا، وبه أخذ قاضي خان م: (لأنه إذا وقع في يده لم يبق صيدا فبطل حكم ذكاة الاضطرار) ش: هذا وجه القياس، ووجه الاستحسان الذي ذهب إليه هؤلاء المذكورون: أنه لم يقدر على الأصل وهو ذكاة الاختيار لضيق الوقت، وما جاء منه بتفريط وهو اختيار ابن شجاع أيضا.
فإن قيل: وضع المسألة فيما يكون الحياة فيه فوق ما يكون في المذبوح فكيف يتصور ضيق الوقت عن الذبح؟.
وأجيب: بأن المقدار الذي يكون في المذبوح بمنزلة العدم لكون الصيد في حكم الميت، والزائد على ذلك قد لا يسع الذبح فيه، فكان عدم التمكن متصورا.
م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من إقامة ثبوت اليد مقام التمكن حتى لا يحل بدون الذكاة فيها م: (إذا كان يتوهم بقاؤه، أما إذا شق بطنه) ش: أي أما إذا شق الكلب بطن الصيد م: (وأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حل) ش: لأنه لا يتوهم بقاؤه بعد ذلك م: (لأن ما بقي اضطراب المذبوح فلا يعتبر) ش: ذلك م: (كما إذا وقعت شاة في الماء بعدما ذبحت) ش: فإنها لا تحرم، فكذا هذا.
م: (وقيل: هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يؤكل أيضا؛ لأنه وقع في يده حيا فلا يحل إلا بذكاة الاختيار ردا على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي اعتبارا بالمتردية، وانتصابه على أنه مصدر بفعل محذوف، أي يرده ردا، أو يكون على الحال على تأويل دارين إلى المتردية، أو متعبرين لها فافهم.
م: (هذا الذي ذكرناه) ش: أي هذا الذي ذكرنا أنه لا يؤكل عنده إذا شق بطنه وأخرج ما فيه م: (إذا ترك التذكية، فلو أنه ذكاه حل أكله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأنه إن كانت فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، وأن لم يكن فيه حياة مستقرة فعند أبي حنيفة: ذكاة الذبح، وقد وجد عندهما بلا ذبح.(12/424)
وكذا المتردية والنطيحة والموقوذة والذي بقر الذئب بطنه وفيه حياة خفية أو بينة، وعليه الفتوى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلّا ما ذكّيتم} [المائدة: 3] استثناء مطلقا من غير فصل، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان بحال لا يعيش مثله لا يحل؛ لأنه لم يكن موته بالذبح، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان يعيش مثله فوق ما يعيش المذبوح يحل وإلا فلا؛ لأنه لا معتبر بهذه الحياة على ما قررناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا المتردية) ش: وهي التي تردت من جبل أو سقطت في بئر فماتت، يعني لو ذبحت المتردية وليس فيها من الحياة قدر ما يكون في المذبوح: يحل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، ولو كان بحال يعيش مثله وذبحه يحل بالإجماع فأبو حنيفة يعتبر نفس الحياة وقد وجد هنا، وهما اعتبرا الجناية الموصوفة، لأن عند أبي يوسف: إذا كان بحال يعيش مثله، وعند محمد فوق ما في المذكي، وهذا المعنى معدوم في المتردية ولا تحل الذبح، لأنه ذبح ميتة م: (والنطيحة) ش: أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح م: (والموقوذة) ش: التي ألحقوها ضربا بعصي أو حجر حتى ماتت، وهو بالذال المعجمة (والذي بقر الذئب) ش: أي شق الذئب م: (بطنه وفيه حياة خفية) ش: وهو القدر الذي يعلم به أنه حي م: (أو بينة) ش: أي أو ظاهرة، وهو القدر الذي فوق الخفية، ولا تفاوت في الحكم بينهما عند أبي حنيفة، وعندهما إن كانت خفية لا يؤكل، وإن كانت بينة يؤكل. وتفسير البينة عند أبي يوسف أن يكون بحال يعيش منه فيه، وعند محمد إن كان له من حياة فوق ما في المذكي.
م: (وعليه الفتوى) ش: أي على حل الأكل إذا ذكي الصيد وفيه حياة في جميع الأحوال وهو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثناء مطلقا من غير فصل) ش: أي باستثناء ما ذكيتم عن المحرمات مطلقا.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان بحال لا يعيش مثله لا يحل؛ لأنه لم يكن موته بالذبح. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان يعيش مثله فوق ما يعيش المذبوح يحل وإلا فلا؛ لأنه لا معتبر بهذه الحياة على ما قررناه) ش: أشار به إلى قوله لأنه ميت حكما. وقيل: قوله: "لأن ما بقي" هي اضطراب المذبوح، فلا يعتبر. وفي " الذخيرة ": الكلام في مثله أربعة مواضع أحدهما: الشاة وغيرها إذا مرض وبقي فيه من الحياة ما بقي في المذبوح. والثاني: إذا قطع الذئب بطن الشاة وسعى فيها من الحياة ما يبقى في المذبوح وأخذه المالك.
الثالث: الكلب المعلم والبازي المعلم إذا أخذ المالك صيده وبقي فيه من الحياة بقدر حياة المذبوح.(12/425)
قال: ولو أدركه ولم يأخذه فإن كان في وقت لو أخذه أمكنه ذبحه لم يؤكل، لأنه صار في حكم المقدور عليه. قال: وإن كان لا يمكنه ذبحه أكل، لأن اليد لم تثبت به، والتمكن من الذبح لم يوجد. قال: وإن أدركه فذكاه حل له، لأنه إن كانت فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، وإن لم يكن فيه حياة مستقرة، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكاته الذبح على ما ذكرناه وقد وجد، وعندهما: لا يحتاج إلى الذبح.
: وإذا أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره حل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والرابع: الصيد بعد رميه وأصابه السهم وبقي فيه من الحياة بقدر حياة المذبوح ورماه آخر فقتله.
ففي الأول والثاني عندهما: لا يفيد الذكاة حتى لو ذكاها لا تحل. واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة. قال الأسبيجابي: يفيد حتى إذا ذكاها تحل، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي والصدر الشهيد. وقال شيخ الإسلام: لا يفيد حتى لو ذبحها لا تحل على قوله.
فالحاصل أن للحياة عبرة عنده. إن قلت: وعندهما لا يعتبر القليل وقدر القليل بما بقي في المذبوح، واتفق أبو يوسف مع أبو حنيفة في أكثر منه، ومحمد فرق بين القليل والكثير بيوم.
وفي الثالث، والرابع: إذا بقي من الحياة بقدر حياة المذبوح لا يفيد الذكاة بالإجماع، حتى لو لم يذكه يحل، وبه قالت الثلاثة وأكثر أهل العلم.
م: (قال: ولو أدركه ولم يأخذه) ش: أي ولو أدرك الصيد ولم يأخذه م: (فإن كان في وقت) ش: أي فإن وجد في وقت، وكان هنا تامة فلا تحتاج إلى خبر م: (لو أخذه أمكنه ذبحه لم يؤكل؛ لأنه صار في حكم المقدور عليه) ش: المقدور عليه إذا لم يذبح لا يؤكل، فكذا هذا م: (قال: وإن كان لا يمكنه ذبحه أكل؛ لأن اليد لم تثبت به، والتمكن من الذبح لم يوجد) ش: وهذا بلا خلاف بين العلماء م: (قال: وإن أدركه فذكاه حل له؛ لأنه إن كانت فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، إن لم تكن فيه حياة مستقرة فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكاته الذبح على ما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله: " لأنه وقع في يده حيا" فلا يحل إلا بذكاة الاختيار ردا إلى المتردية م: (وقد وجد) ش: أي الذبح فحل. م: (وعندهما لا يحتاج إلى الذبح) ش: يعني حل بدونه على ما مر.
[أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره]
م: (قال: وإذا أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره حل) ش: وفي بعض النسخ وإذا أرسل، وفي بعضها أيضا كلبه المعلم. قوله إلى صيد، أي صيد معين وأخذ غيره حل، أي ما دام في سير إرساله، ذكره في " المبسوط ". وفي " المحيط ": أرسل إلى الصيد فأخذ واحدا أو عددا من الصيد وأخذوا بعد واحد في ذلك الفور فكله حلال.(12/426)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال، إذ الإرسال مختص بالمشار إليه. ولنا: أنه شرط غير مفيد؛ لأن مقصوده حصول الصيد إذ لا يقدر على الوفاء به؛ إذ لا يمكنه تعليمه على وجه بأخذ ما عينه فسقط اعتباره.
قال: ولو أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال، فلو قتل الكل يحل بهذه التسمية الواحدة، لأن الذبح يقع بالإرسال على ما بيناه، ولهذا تشترط التسمية عنده والفعل واحد فتكفيه تسمية واحدة، بخلاف ذبح الشاتين بتسمية واحدة، لأن الثانية تصير مذبوحة بفعل غير الأول، فلا بد من تسمية أخرى حتى لو أضجع إحداهما فوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قتل صيدا فجثم عليه طويلا ثم أخذ آخر لم يحل، وكذا لو عدل عن ذلك الصيد يمنة ويسرة وتشاغل في غير طلبه ثم اتبع صيدا وأخذه لم يؤكل إلا إذا زجره صاحبه فانزجر ثم أخذ: حل، وبه قال الشافعي وأحمد في قول. وقال في قول: وإن كان عدوله لصيد حل، وإن كان لغير صيد لم يحل لخروجه عن كونه معلما.
وقال الماوردي: والأصح عندي: أنه إن خرج وعاد لا عن جهة إرساله إلى غيره لم يؤكل صيده، وإن خرج في جهة إرساله خلف صيد فعدل إلى غيره فأخذ صيدا حل، وفي " وجيز الشافعية ": ولو قصد سربا من ظبي فأصاب واحدا منه فأصاب آخر: فوجهان.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال، إذ الإرسال مختص بالمشار إليه) ش: يعني بالذي وقعت عليه الإشارة. وقال ابن أبي ليلى التعيين ليس بشرط، لكن إذا عين اعتبر تعيينه، حتى إذا ترك ذلك وأخذه لا يحل.
م (ولنا: أنه شرط غير مفيد) ش: أي شرط التعيين غير مفيد م: (لأن مقصوده حصول الصيد إذ لا يقدر على الوفاء به) ش: أي ولا يقدر الكلب على الوفاء بأخذ العين م: (إذ لا يمكنه تعليمه على وجه بأخذ ما عينه) ش: من الصيود م: (فسقط اعتباره) ش: التعيين كما قلنا في البازي: أنه يسقط اعتبار ترك الأكل لاستحالة تعليمه.
[أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال]
م: (ولو أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال فلو قتل الكل يحل بهذه التسمية الواحدة) ش: هذه من مسائل الأصل، ذكرها تفريعا والتي قبلها أيضا م: (لأن الذبح يقع بالإرسال على ما بيناه) ش: أي في أوائل كتاب الذبائح، أراد ما تقدم في الصيد يشترط عند الإرسال والرمي م: (ولهذا تشترط التسمية عنده) ش: أي عند الإرسال م: (والفعل واحد) ش: أراد بالفعل الإرسال م: (فتكفيه تسمية واحدة) ش: لاتحاد الفعل.
م: (بخلاف ذبح الشاتين بتسمية واحدة) ش: حيث لا تحل شاته بتسمية أخرى م: (لأن الثانية تصير مذبوحة بفعل غير الأول، فلا بد من تسمية أخرى) ش: للباقي م: (حتى لو أضجع إحداهما فوق(12/427)