ألا يرى أنه لم يوجد المقضى له والمقضى عليه ولو كان قضاء فنفس القضاء مختلف فيه فلا بد من الإمضاء، حتى لو رفع تصرفه بعد الحجر إلى القاضي الحاجر أو إلى غيره فقضى ببطلان تصرفه ثم رفع إلى قاض آخر نفذ إبطاله لاتصال الإمضاء به فلا يقبل النقض بعد ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ألا يرى أنه لم يوجد المقضى له والمقضى عليه) ش: فلا يكون قضاء، لأن القضاء يثبت ما ليس بثابت، بل هذا كان مثبتا ما كان ثابتا، فإنه كان محجورا عليه قبل القضاء متى كان مبذر لماله وهذا هو حد الفتوى.
م: (ولو كان قضاء) ش: يعني ولئن سلمنا أن حجر القاضي كان قضاء على احتمال بعيد، وهو أن يجعل السفيه مقضيا له من حيث إن الحجر نظر له.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جاز أن يكون هذا جواب إشكال، وهو أن يقال: يمكن أن يجعل السفيه مقضيا له من حيث إن الحجر ما ثبت، إلا نظرا له، والقضاء بالحجر يقع عليه، فيجعل مقضيا له أيضا، فإذا وجد المقضى له والمقضى عليه باختلاف الجهة فلا يكون قضاء، فلا ينبغي للقاضي الثاني الحكم بخلافه.
فأجاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه لو كان قضاء م: (فنفس القضاء مختلف فيه) ش: لأن عند أبي حنيفة لا يجوز القضاء بالحجر وعندهما يجوز فيكون نفس القضاء مختلفا فيه، فيكون القاضي الثاني بسبيلين تنفيذه، وإبطاله لكونه ثابتا من وجه دون وجه فلا بد من الإمضاء ليرتفع نقصان اختلاف العلماء.
نظيره إذا تزوج رجل بشهادة رجل وامرأتين يجوز النكاح عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلو رفع هذا النكاح إلى القاضي الشافعي فقضى بصحته لا يصير مجمعا عليه، لأنه قضى على خلاف رأيه، فيكون الاختلاف في القضاء فيها فينفذ إجماعا.
وقال الخبازي: قضاء القاضي بالمختلف إنما يرفع الخلاف إذا لم يكن نفس القضاء مختلفا، ولا بد من قضاء آخر لنفاذ هذا القضاء.
م: (فلا بد من الإمضاء) ش: بقضاء آخر م: (حتى لو رفع تصرفه) ش: أي تصرف السفيه م: (بعد الحجر إلى القاضي الحاجر، أو إلى غيره فقضى ببطلان تصرفه ثم رفع إلى قاض آخر نفذ إبطاله) ش: أي إبطال القاضي الثاني.
قيل: روي نفذ بالتشديد معناه استمر على تنفيد الثاني، لأنه حكم بنفاذه م: (لاتصال الإمضاء به فلا يقبل النقض بعد ذلك) ش: أي بعد الإمضاء.(11/94)
ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله، حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد. وقالا: لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس رشده، ولا يجوز تصرفه فيه، لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقي العلة وصار كالصبا. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن منع المال عنه بطريق التأديب ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا، ألا ترى أنه قد يصير جدا في هذا السن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا بلغ الغلام غير رشيد) ش: أي حال كونه غير رشيد م: (لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه) ش: لأنه لا يحجر عليه عنده.
م: (فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد. وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد رحمهما الله م: (لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس رشده ولا يجوز تصرفه فيه) ش: أي في ماله، وأبدا نصب على الظرف، والجمع بينه وبين حتى تسامح ظاهر م: (لأن علة المنع السفه، فيبقى ما بقي العلة) ش: أي يبقى المنع ما دامت العلة باقية، لأن الله تعالى علق دفع المال بإيناس الرشد.
فوق: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] (سورة النساء: الآية 6) ، فلا يجوز الدفع قبله إذ المعلق بالشرط معدوم قبله، والسفه صلة، فالعبرة لقيامها وزوالها لا للزمان وبه قالت الثلاثة م: (وصار كالصبا) ش: أي وصار حكم السفه كحكم الصبا، فالسفه ما دام موجودا فحكمه حكم الصبي ولو صار شيخا فانيا.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن منع المال عنه بطريق التأديب) ش: يمكن أن يوجه هذا الكلام على وجهين:
الأول: أن يقول سلمنا أن علة المنع السفه، لكن المعلول هو المنع عنه بطريق التأديب، يعني من حيث التأديب، وهذا يقتضي أن يكون محلا للتأديب وهو ما لم ينقطع رجاء التأديب م: (ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا) ش: أي ولا يبقى التأديب بعد بلوغه خمسا وعشرين سنة لانقطاع رجاء التأديب بعد هذه المرة ظاهرا في غالب الأحوال.
م: (ألا ترى أنه قد يصير جدا في هذا السن) ش: هذا توضيح لعدم التأديب عند بلوغه لهذا السن وهو خمسة وعشرون سنة، لأنه يصير جدا عند ذلك باعتبار أصل مدة البلوغ في الإنزال وهو اثنتا عشر سنة، وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر، وأقل الطبائع من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ رشده، ألا ترى أنه يصير جدا صحيحا في هذا السن، لأن أدنى ما(11/95)
فلا فائدة للمنع، فلزم الدفع، ولأن المنع باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ، وينقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع، ولهذا قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه؛ لأنه ليس بأثر الصبا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحتلم الإنسان في اثنتي عشرة سنة ثم يولد له في ستة أشهر يبلغ ذلك في اثنتي عشرة سنة ثم يولد له ولد ابن في ستة أشهر فيصير جدا صحيحا في خمس وعشرين سنة، ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الأصلية، فإذا لم يؤنس رشده إلى هذه المدة فالظاهر انقطاع رجاء تأديبه فلا معنى لمنع المال عنه بعد ذلك، إلى هذا أشار محمد في الكتاب فقال أرأيت أنه لو بلغ مبلغا صار ولده قاضيا وله نافلة كان يحجر به على أبيه ويمنع المال منه، هذا قبيح.
فإن قلت: قد يصير الإنسان جدا في اثنتين وعشرين سنة، أي بلغ الصبي في اثني عشرة سنة فتزوج بامرأة فولدت لستة أشهر بنتا فبلغت البنت على تسع سنين فزوجها من رجل وولدت لستة أشهر فصار جدا في اثنين وعشرين سنة، فلم قدره بخمس وعشرين سنة.
قلت: الجد المطلق وهو الجد الصحيح، والفاسد لا اعتبار به.
الوجه الثاني: أن يجعل معارضة فيقال ما ذكرتم وإن دل على ثبوت المدلول لكن عندنا ينفيه وهو أن منع المال عنه بطريق التأديب ولا تأديب بعد هذا الملك.
م: (فلا فائدة للمنع) ش: أي لمنع المال عنه م: (فلزم الدفع) ش: أي فإذا كان كذلك لزم دفع المال إليه م: (ولأن المنع باعتبار أثر الصبا) ش: هذا دليل آخر تقريره أن المنع بعد البلوغ إذا لم يؤنس رشده باعتبار أثر الصبا م: (وهو) ش: أثر الصبا أي وجدانه م: (في أوائل البلوغ وينقطع بتطاول الزمان) ش: وقد ذلك بخمس وعشرين سنة، لأن مدة البلوغ من حيث السن ثماني عشرة سنة وما قرب من البلوغ فهو في حكم البلوغ، وقدر ذلك المبيع بالسنين اعتبارا بمدة التمييز في الابتداء على ما أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعة» .
م: (فلا يبقى المنع) ش: بعد ذلك م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن المنع، باعتبار أثر الصبا م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو بلغ رشيدا) ش: أي لو بلغ الصبي حال كونه رشيدا م: (ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه؛ لأنه ليس بأثر الصبا) ش: بل لخفة اعترته، إما لغضب، أو فرح.
فإن قلت: الدفع معلق بانيا من الرشيد، فما لم يوجد، لا يجوز الدفع إليه، إذ المعلق بالشرط لا يوجد، قيل: وجوده وما بقي مفسدا لماله ما لم يؤنس منه الرشد.(11/96)
ثم لا يتأتى التفريع على قوله، وإنما التفريع على قول من يرى الحجر عليه، فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه، وإن كان فيه مصلحة أجازه الحاكم؛ لأن ركن التصرف قد وجد والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى المصلحة فيه كما في الصبي الذي يعقل البيع ويقصده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الشرط يوجب الوجود عند الوجود لا العدم عند العدم سلمناه لكنه سكر يراد به أدنى ما ينطلق عليه وقد وجد ذلك إذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة لصيرورة فرعه أصلا، فكان متناهيا في الأصالة.
م: (ثم لا يتأتى التفريع على قوله) ش: أي التفريع الذي ذكره القدوري في "مختصره " يقول فإذا باع لا يتعدى معه، لا يتأتى على قول أبي حنيفة م: (وإنما التفريع على قول من يرى الحجر عليه، فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه) ش: أي لأجل توفير فائدة الحجر، أراد لإظهار فائدة الحجر عليه، فيكون موقوفا.
م: (وإن كان فيه مصلحة) ش: بأن كان مثل القيمة أو كان البيع رابحا وكان الثمن باقيا في يده م: (أجازه الحاكم) ش: أي أجاز الحاكم ذلك البيع الموقوف، وإن كان الثمن أقل من القيمة أو كان البيع خاسرا أو لم يبق الثمن في يده لم يجز، لأن فيه ضرر به لخروج المبيع عن يده بدون أن يكون في يده شيء من البدل، واستدل على الجواز بالتوقف بقوله م: (لأن ركن التصرف قد وجد) ش: وذلك يوجب الجواز.
فإن قيل: إنما يوجب الجواز إذا وجد ركن التصرف من أهله، والسفيه ليس من أهله.
أجيب: بأنه أهل، لأن الأهلية بالعقل، والسفه، لا ينفيه كما تقدم.
م: (والتوقف للنظر له) ش: هذا جواب عما يقال فعلام التوقف؟ فأجاب بقوله: للنظر له م: (وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى) ش: أي يقصد باجتهاده م: (المصلحة فيه كما في الصبي الذي يعقل البيع ويقصده) ش: أي كما يتحرى الحاكم أو الولي في بيع الصبي وشرائه الذي يعقل البيع بأن يعلم أنه سالب، والشراء بأنه جالب كما مر، وقد اشتغل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الحجر إلى آخر الكتاب بالتفريع على مذهبه وقال: هو بمنزلة الصبي الذي لم يبلغ إذا باع أو اشترى، فإن أجازه الحاكم يجوز وما لا فلا، لأن تصرفاته ليست بباطلة بل هي موقوفة لاحتمال وقوعها مصلحة، فإذا رأى القاضي وقوعه مصلحة يجيزه ولا يرده، بمنزلة الصبي الذي يعقل، إلا أنه يفارقه في خصال أربع:
الأولى: لا يجوز لوصيه ولا لأبيه أن يبيع عليه ماله ولا يشتري له إلا بأمر الحاكم، وفي(11/97)
ولو باع قبل حجر القاضي جاز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه لا بد من حجر القاضي عنده؛ لأن الحجر دائر بين الضرر والنظر والحجر لنظره، فلا بد من فعل القاضي، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز لأنه يبلغ محجورا عنده إذ العلة هي السفه بمنزلة الصبا وعلى هذا الخلاف إذا بلغ رشيدا ثم صار سفيها. وإن أعتق عبدا نفذ عتقه عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي لم يبلغ ملك ذلك وصيه أو أبوه.
والثانية: أن إذا أعتق عبدا جاز عتقه، ويسعى في قيمته، وكذا لو دبر يصح تدبيره، ولو مات عنه يسعى في قيمته مدبرا، وإعتاق الذي لم يبلغ لا يصح أصلا.
والثالثة: أن وصايا الغلام الذي قد بلغ مفسدا من التدبير وغيره باطل قياسا، ولكنا نستحسن أن ما وافق الحق وما تقرب به إلى الله تعالى وما يكون في غير وجه الفسق جائز كما يجوز وصية غيره وما يكون سفيها لا يجوز.
وأما وصايا الغلام الذي لم يبلغ لا تجوز أصلا.
والرابعة: إذا جاءت جاريته بولد، فادعاه ثبت نسبه، وكانت الجارية أم ولد له، فإن ماتت كانت حرة بخلاف الغلام الذي لم يبلغ، كذا ذكر في شرح " الكافي ".
وذكر خواهر زاده في "مبسوطه " من جملة الخصال الأربع النكاح، والطلاق، فقال: لا يجوز طلاق الصبي العاقل، ويجوز طلاق السفيه، وكذا يجوز نكاح السفيه ولا يجوز نكاح الصبي العاقل، ولم يذكر الوصايا وادعاه ولد فعلى هذا تكون الخصال التي يفترق فيها السفيه والصبي ستا.
[تصرفات المحجور عليه]
م: (ولو باع) ش: أي السفيه م: (قبل الحجر) ش: أي قبل حجر القاضي، وفي بعض النسخ كذلك م: (جاز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي وأحمد م: (لأنه لا بد من حجر القاضي عنده؛ لأن الحجر دائر بين الضرر) ش: وهو إهدار آدميته م: (والنظر) ش: أي في إيقاع البيع على ملكه كما كان م: (والحجر لنظره فلا بد من فعل القاضي) ش: ليترجح أحد الجانبين على الآخر.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز) ش: وبه قال مالك م: (لأنه يبلغ محجورا عنده إذ العلة هي السفه بمنزلة الصبا) ش: وهو موجود قبل القضاء فيترتب عليه الحكم م: (وعلى هذا الخلاف إذا بلغ رشيدا ثم صار سفيها) ش: وعند أبي يوسف لا يصير محجورا حتى يقضي القاضي، وعند محمد يصير محجورا لمجرد السفه م: (وإن أعتق عبدا) ش: يعني بعد الحجر م: (نفذ عتقه عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو قول أبي حنيفة(11/98)
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينفذ. والأصل عندهما أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه الحجر وما لا فلا؛ لأن السفيه في معنى الهازل من حيث إن الهازل يخرج كلامه لا على نهج كلام العقلاء، لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله، فكذلك السفيه والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، ولم يحضر قولهما بالذكر احترازا عن قوله لأن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم قبل الحجر وبعده سواء في نفاذ تصرفات المحجور بسبب السفه؛ لأنه تأثير للحجر عنده، بل احترازا عن قولهما في سائر التصرفات التي يؤثر فيه الحجر كالبيع والشراء والإقرار بالمال.
وعن قول الشافعي حيث قال: م: (وعند الشافعي لا ينفذ) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قياس قول مالك؛ لأن تصرفات المحجور عليه غير نافذة م: (والأصل عندهما) ش: أي الأصل في هذا الباب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه الحجر، وما لا فلا) ش: أي وما لا يؤثر فيه الهزل فلا يؤثر فيه الحجر.
م: (لأن السفيه في معنى الهازل) ش: لا من كل وجه م: (من حيث إن الهازل يخرج كلامه، لا على نهج كلام العقلاء) ش: أي لا على الطريق الواضح، وهو بفتح النون، وسكون الهاء، وأما النهج بتحريك الهاء فهو البهر، وهو تتابع النفس، وهو من باب علم يعلم م: (لا تباع الهوى، ومكابرة العقل) ش: أي لأجل اتباعه هوى النفس وتعاليه العقل، لأنه يقصد اللعب دون ما وضع له الكلام م: (لا لنقصان في عقله، فكذلك السفيه) ش: يعني لا يخرج الهازل كلامه على نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل.
م: (والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح منه) ش: أي من السفيه، وفيه بحث من أوجه:
الأول: أن السفيه لو حنث في يمينه وأعتق رقبة لم ينفذه القاضي، وكذا لو نذر بهدي أو غيره لم ينفذه، فهذا مما لا يؤثر فيه الهزل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد» ، وقد أثر فيه الحجر بالسفه.
والثاني: أن الهازل إذا أعتق عبده عتق، ولم يجب عليه سعاية، والمحجور بالسفه إذا أعتقه، وجب عليه السعاية فالهزل لم يؤثر في وجوب السعاية، والحجر أثر فيه.
والثالث: أن التعليل المذكور إنما يصح في حق السفيه لا في حق الهازل، والصحيح فيه(11/99)
والأصل عنده: أن الحجر بسبب السفه بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعده شيء من تصرفاته إلا الطلاق كالمرقوق، والإعتاق لا يصح من الرقيق فكذلك من السفيه. وإذا صح عندهما كان على العبد أن يسعى في قيمته، لأن الحجر لمعنى النظر، وذلك في رد العتق إلا أنه متعذر فيجب رده برد القيمة كما في الحجر على المريض، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب السعاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يقال ولقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في العقل.
والجواب: عن الأول أن القضاء بالحجر عن التصرفات المالية فيما يرجع إلى الإتلاف يستلزم عدم تنفيذ الكفارات والنذور، لأن في تنفيذهما إضاعة المقصود عن الحجر لإمكان أن يتصرف في جميع ماله باليمين والحنث والنذور.
وعن الثاني: ما سيجيء في الكتاب.
وعن الثالث: أن قصد اللعب بالكلام وترك ما وضع له من مكابرة العقل واتباع الهوى فلا فرق بينهما.
م: (والأصل عنده) ش: أي عند الشافعي م: (أن الحجر بسبب السفه بمنزلة الحجر بسبب الرق) ش: في أنه لا يزيل الخطاب ولا يخرج من أن يكون أهلا لإلزام العقوبة باللسان باكتساب سببها، كما أن الرق كذلك م: (حتى لا ينفذ بعده) ش: أي بعد الحجر م: (شيء من تصرفاته إلا الطلاق كالمرقوق والإعتاق لا يصح من الرقيق، فكذلك من السفيه) ش: قلنا: ليس السفه كالرق؛ لأن حجر الرق لحق الغير في المحل الذي يلاقيه تصرفه، حتى إن يصرف فيما لا حق للغير فيه نافذ كالإقرار بالحدود والقصاص، وهذا لا حق لأحد في المحل الذي يلاقيه تصرفه، فيكون نافذا.
م: (وإذا صح) ش: أي عتق السفيه م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (كان على العبد أن يسعى في قيمته، لأن الحجر لمعنى النظر، وذلك) ش: أي النظر م: (في رد العتق) ش: أي إبطاله م: (إلا أنه متعذر) ش: لعدم قبوله الفسخ م: (فيجب رده برد القيمة) ش: أي رد العتق برد العبد إليه بالاستسعاء م: (كما في الحجر على المريض) ش: يعني لو أعتق عبدا في مرضه تجب السعاية في كل قيمته للغرماء أو ثلثي قيمته للورثة، إذا لم يكن عليه دين ولا مال له سواه لتعذر رد العتق، فكان رده بوجوب السعاية لحق آخر ما أدى الورثة.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب السعاية) ش: أي أن الشأن لا يجب السعاية على(11/100)
لأنه لو وجبت إنما تجب حقا لمعتقه والسعاية ما عهد وجوبها في الشرع إلا لحق غير المعتق. ولو دبر عبده جاز؛ لأنه يوجب حق العتق فيعتبر بحقيقته، إلا أنه لا تجب السعاية ما دام المولى حيا، لأنه باق على ملكه. وإذا مات ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته مدبرا لأنه عتق بموته وهو مدبر، فصار كما إذا أعتقه بعد التدبير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبد، جعل في " المبسوط " هذه الرواية عنه آخر قول أبي يوسف، وأما قوله الأول كقول محمد في وجوب السعاية.
م: (لأنه لو وجبت) ش: أي لأن السعاية وتذكير الضمير باعتبار السعي م: (إنما تجب حقا لمعتقه والسعاية ما عهد وجوبها في الشرع إلا لحق غير المعتق) ش: كما في إعتاق أحد الشريكين فإنه يسعى للساكت.
ولو ظاهر عن امرأته وصام أجزأه لأنه بمنزلة الغائب عن ماله. ولو أعتق عبدا عن ظهاره سعى الغلام في جميع قيمته ثم لا يجزئه عن ظهاره، لأنه يكون إعتاقا ببعض، فإن صام أحد الشهرين ثم صار مصلحا لم يجزئه إلا العتق بمنزلة معسر السير، كذا في شرح " الكافي ".
م: (ولو دبر) ش: أي السفيه م: (عبده جاز، لأنه يوجب حق العتق) ش: أي لأن التدبير دل عليه قوله دبر م: (فيعتبر بحقيقته) ش: أي بحقيقة العتق، لأنه لما ملكه أنشأ حقيقة العتق، فلأن يملك إنشاء حقه كان أولى م: (إلا أنه لا يجب السعاية ما دام المولى حيا لأنه باق على ملكه) ش: فلا يمكن إيجاب السعاية، لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا، ألا ترى أنه لو دبر عبده بمال، وقبل العبد صح التدبير، ولم يجب المال بخلاف ما لو كاتبه، أو أعتقه على مال حيث يصح، لأنه لم يبق على ملكه حقيقة، أو يدا، أشار إليه في " المبسوط ".
م: (وإذا مات ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته مدبرا، لأنه عتق بموته وهو مدبر، فصار كما إذا أعتقه بعد التدبير) ش: أي كما إذا أعتقه في حياته بعد أن دبره تحت السعاية، فكذا هنا. ألا ترى أن مصلحا لو دبر عبدا في صحته ثم مات وعليه دين مستغرق تجب السعاية عليه في قيمته المدبر لغرمائه، فكذا هاهنا، قيل ينبغي أن يسعى في قيمته قنا، لأن العتق حصل بالتدبير السابق وهو في تلك الحالة قن فوجب السعاية قنا، كما لو أعتقه.
أجيب: بأن الأصل أن المعلق بالشرط ليس بسبب قبله إلا أنه جعل هاهنا سببا قبله ضرورة، فلا تظهر مبينة في إيجاب السعاية عليه قنا، وإنما يظهر في حق المنع وتعلق العتق بموته، لأن الثابت أن الضرورة تتقدر بقدرها.
قيل: سلمنا ذلك لكن يجب أن يسعى في ثلثي قيمته، لأن التدبير وصية وفيها يسعى العبد كذلك.(11/101)
ولو جاءت جاريته بولد فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولي حرا والجارية أم ولد له لأنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله، فألحق بالمصلح في حقه وإن لم يكن معها ولد وقال هذه أم ولدي كانت بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها. وإن مات سعت في جميع قيمتها لأنه كالإقرار بالحرية إذ ليس لها شهادة الولد بخلاف الفصل الأول؛ لأن الولد شاهد لها، ونظيره المريض إذا ادعى ولد جاريته فهو على هذا التفصيل.
قال: وإن تزوج امرأة جاز نكاحها لأنه لا يؤثر فيه الهزل، ولأنه من حوائجه الأصلية وإن سمى لها مهرا جاز منه مقدار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب بأنه وصية من حيث النفاذ بعد الموت لا غير، ألا ترى أن الرجوع في الوصية صحيح دون التدبير.
م: (ولو جاءت جاريته) ش: أي جارية الذي بلغ غير رشيد م: (بولد فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولد حرا والجارية أم ولد له لأنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله) ش: لأن إبقاءه من الحوائج الأصلية لحياة ذكر الإنسان ببقاء الولد بعد موته م: (فألحق بالمصلح في حقه) ش: أي في حق الاستيلاد نظرا له، ولا يعلم فيه خلافا للثلاثة.
م: (وإن لم يكن معها) ش: أي مع الجارية م: (ولد وقال هذه أم ولدي كانت بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها) ش: لأن دعوته كانت دعوة تحرير فلا يقدر على بيعها م: (وإن مات) ش: أي السفيه بعد هذه الدعوة م: (سمعت) ش: أي الجارية م: (في جميع قيمتها لأنه كالإقرار بالحرية) ش: أي لأن إقراره بأمومية الولد بدون الولد كالإقرار بالحرية م: (إذ ليس لها شهادة الولد) ش: فصار كأنه قال أنت حرة فيمتنع بيعها وتسعى في جميع قيمتها بعد موته.
م: (بخلاف الفصل الأول) ش: وهو ما إذا كان معها ولد م: (لأن الولد شاهد لها) ش: في إبطال حق الغير، فكذا في حكم دفع الحجر عن تصرفه م: (ونظيره المريض) ش: أي نظير حكم هذه المسألة بالوجهين نظير ما م: (إذا ادعى المريض ولد جاريته فهو على هذا التفصيل) ش: وهو الفرق بالذي ذكره بين الدعوة بالولد والدعوة بدون الولد، فإن كان معها ولد لا تسعى بعد موته، وإن لم يكن تسعى لحاجته إلى بقاء نسله فيكون مقدما على حق الغرماء.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن تزوج امرأة جاز نكاحها) ش: ولفظا " المبسوطين " جاز نكاحه، وبه قال أحمد. وقال الشافعي ومالك وأبو الخطاب الحنبلي لا يجوز بغير إذن الولي، لأنه عقد معاوضة كالشراء، فلا يجوز بدون وليه م: (لأنه لا يؤثر فيه الهزل) ش: لأن النكاح لا يؤثر فيه الهزل، لأن الهزل فيه جد.
م: (ولأنه من حوائجه الأصلية، وإن سمى لها مهرا جاز منه) شك أي من المهر م: (مقدار(11/102)
مهر مثلها، لأنه من ضرورات النكاح وبطل الفضل، لأنه لا ضرورة فيه، وهو التزام بالتسمية، ولا نظر له فيه فلم تصح الزيادة فصار كالمريض مرض الموت، ولو طلقها قبل الدخول بها وجب لها النصف في ماله، لأن التسمية صحيحة إلى مقدار مهر المثل وكذا إذا تزوج بأربعة نسوة أو كل يوم واحدة لما بينا. قال: وتخرج الزكاة من مال السفيه لأنها واجبة عليه وينفق على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته عليه من ذوي أرحامه، لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه والإنفاق على ذي الرحم واجب عليه حقا لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مهر مثلها لأنه) ش: أي لأن مقدار مهر المثل م: (من ضرورات النكاح وبطل الفضل لأنه لا ضرورة فيه) ش: أي في الفضل على مقدار مهر المثل م: (وهو التزام بالتسمية) ش: أي ما فضل وزاد على مقدار مهر المثل التزام بالتسمية في العقد.
م: (ولا نظر له فيه) ش: أي ولا نظر للسفيه فيما فصل عليه م: (فلم تصح الزيادة) ش: أي إذا لم يكن له فيه نظر فلم تصح تلك الزيادة على مقدار مهر المثل م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كالمريض مرض الموت) ش: يعني من لزوم كل واحد منهما مقدار مهر المثل وسقوط الزيادة فيما إذا تزوج المريض بأكثر من مهر مثلها، إلا أن الزيادة في المريض يعتبر من الثلث، وهاهنا غير معتبر أصلا.
م: (ولو طلقها قبل الدخول بها وجب لها النصف في ماله) ش: أي نصف مقدار مهر المثل م: (لأن التسمية صحيحة إلى مقدار مهر المثل) ش: وإنما الباطل تسمية ما زاد على مقدار مهر المثل م: (وكذا إذا تزوج بأربع نسوة) ش: هذا عطف على قوله: وإذا تزوج امرأة جاز نكاحها، أي إذا تزوج بأربع نسوة في عقد واحد، كذلك يعتبر مهر المثل وتبطل الزيادة.
م: (أو كل يوم واحدة) ش: أي أو تزوج كل يوم واحدة ثم طلقها، وفعل ذلك مرارا فإنه يصح تسميته في مقدار مهر المثل، وتبطل الزيادة، بهذا يحتج أبو حنيفة على أن لا فائدة في الحجر عليه، لأنه لا يفسد عليه باب إتلاف المال عليه، فإن يتلف ماله بهذا الطريق إذا عجز عن إتلافه بطريق البيع والهبة م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن من ضرورات النكاح.. إلى آخره.
[الزكاة في مال السفيه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويخرج الزكاة من مال السفيه لأنها) ش: أي: لأن إخراج الزكاة م: (واجبة عليه) ش: لأنه كامل العقل مخاطب بحقوق الله تعالى، فلا تبطل السفه م: (وينفق على أولاده وزوجته، وعلى من تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه؛ لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه، والإنفاق على ذي الرحم واجب عليه حقا لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الناس) ش: الأصل فيه، أن كل ما وجب عليه بإيجاب الله كالزكاة، وحجة الإسلام، أو كان حقا للناس(11/103)
إلا أن القاضي يدفع قدر الزكاة إليه ليصرفها إلى مصرفها؛ لأنه لا بد من نيته لكونها عبادة، لكن يبعث أمينا معه كيلا يصرفه في غير وجهه، وفي النفقة يدفع إلى أمينه ليصرفه لأنه ليس بعبادة فلا يحتاج إلى نيته، وهذا بخلاف ما إذا حلف أو نذر أو ظاهر حيث لا يلزمه المال بل يكفر يمينه وظهاره بالصوم لأنه مما يجب بفعله، فلو فتحنا هذا الباب يبذر أمواله بهذا الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهو والمصلح فيه سواء، لأنه مخاطب إلا أن القاضي يدفع قدر الزكاة وحجة الإسلام، أو كان حقا للناس فهو والمصلح فيه سواء، لأنه مخاطب.
م: (إلا أن القاضي يدفع قدر الزكاة إليه ليصرفها إلى مصرفها، لأنه لا بد من نيته لكونها عبادة) ش: العبادة لا تتأدى إلا بالنية م: (لكن يبعث أمينا معه كيلا يصرفه في غير وجهه) ش: لأنه لا يهتدي إلى طرق الرشاد لسفهه م: (وفي النفقة يدفع إلى أمينه ليصرفه) ش: وفي بعض النسخ يدفعها إلى أمينها، أي أمين المرأة وعلى الأول إلى أمين القاضي ليصرفه، أي ليصرف المال المخروج للنفقة إلى مستحقه م: (لأنه) ش: أي لأن صرف النفقة م: (ليس بعبادة فلا يحتاج إلى نيته) .
ش: وفي " المبسوط " فرق بين نفقة الوالدين من نفقة غيرهما فقال ينبغي للقاضي أن لا يأخذ بقول السفيه في دفع المال إلى ذوي الأرحام النفقة حتى يقيم القريب بينة على القرابة والعسرة، لأن إقراره بذلك بمنزلة الإقرار بالذي على نفسه فلا يلزم شيئا إلا في الولد، فإن الزوجين إذا تصادقا على النصب قبل قولهما، لأن كل واحد منهما في تصديق الآخر يقر على نفسه بالنسب، والسفه لا يؤثر في منع الإقرار بالنسب لكونه من حوائجه، لكن لا بد من إثبات عسرة المقولة، وكذا يصح إقراره بالزوجة ويجب مهر مثلها والنفقة.
م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا مما أوجبه الله وما كان من حقوق الناس قيل: إن هذا الذي ذكره القدوري من إخراج الزكاة من مال السفيه والإنفاق منه على أولاده وزوجته.
م: (بخلاف ما إذا حلف) ش: بالله م: (أو نذر) ش: نذرا من هدي أو صدقة م: (أو ظاهر) ش: من امرأته م: (حيث لا يلزمه المال) ش: فلا ينفذ للقاضي شيئا من ذلك ولم يدعه يكفر إيمانه بالمال م: (بل يكفر يمينه وظهاره بالصوم) ش: بصوم لكل حنث ثلاثة أيام متتابعات، وعلى كل ظهار شهرين متتابعين وإن كان مالكا للمال حال التكفير.
م: (لأنه مما يجب بفعله) ش: أي لأن كل وحد منهما يجب بفعله إذا السبب التزامه م: (فلو فتحنا هذا الباب) ش: أي لزوم المال في هذه الأشياء م: (يبذر أمواله بهذا الطريق) ش: حيث يحلف كل يوم مرارا ويحنث، أو ينذر نذورا أو يظاهر مرارا، وفيه تضييع فائدة الحجر.(11/104)
ولا كذلك ما يجب ابتداء بغير فعله.
قال: فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها لأنها واجبة عليه بإيجاب الله تعالى من غير صنعه ولا يسلم القاضي النفقة إليه ويسلمها إلى ثقة من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج كيلا يتلفها في غير هذا الوجه ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها استحسانا لاختلاف العلماء في وجوبها، بخلاف ما زاد على مرة واحدة من الحج ولا يمنع من القرآن لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحد منهما، فلا يمنع من الجمع بينهما ولا يمنع من أن يسوق بدنة تحرزا عن موضع الخلاف إذ عند عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجزئه غيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: التكفير بالصوم مرتب على عدم استطاعة الرقبة فإنه يصح مع القدرة عليها.
أجيب: بأن الاستطاعة منتفية لأن دلائل الحجر لا توجب السعاية على من يعتقه السفيه كما تقدم مع السعاية لا يقع العتق من الظهار.
م: (ولا كذلك ما يجب ابتداء بغير فعله) ش: كالزكاة، وحجة الإسلام، ونحوهما، لأنه مخاطب، وبسبب الفساد لا يتحقق النظر في إسقاط شيء من حقوق الشرع عنه.
[أراد السفيه أن يحج حجة الإسلام]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها) ش: أي من الحجة وليس فيه خلاف م: (لأنه) ش: وفي بعض النسخ لأنها، أي لأن حجة الإسلام، وعلى الأول، أي لأن الحج م: (واجب عليه بإيجاب الله تعالى من غير صنعه، ولا يسلم القاضي النفقة إليه ويسلمها إلى الثقة من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج كيلا يتلفها في غير هذا الوجه. ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها استحسانا) ش:
وفي " القياس " يمنع، لأن التمر عندنا تطوع فصار كما لو أراد الخروج للحج تطوعا بعد حجة الإسلام، وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله: م: (لاختلاف العلماء في وجوبها) ش: فإنها عند الشافعي فرض والأخبار متعارضة فيها، والظاهر قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (سورة البقرة: الآية 196) ، فلهذا أخذ بالاحتياط في أمر الدين وهو من جملة النظر، فإن جنى جناية فإن كانت مما يجزئ فيه الصوم فعليه الصوم ليس إلا، وإن لم يكن ولزمه الدم يؤدي إذا أصلح.
م: (بخلاف ما زاد على مرة واحدة من الحج) ش: يعني يمنع من ذلك م: (ولا يمنع من القرآن، لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحد منهما) ش: أي من الحج والعمرة م: (فلا يمنع من الجمع بينهما، ولا يمنع من أن يسوق بدنة تحرزا عن موضع الخلاف) ش: فالخلاف في غير البدنة لا في السوق م: (إذ عند عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجزئه غيرها) ش: أي غير البدنة، وعندنا يلزم القارن هدي وتجزئه الشاة، ولكن البدنة فيه أفضل أخذا بالاحتياط في أمر الدين، ويكون فعله أقرب إلى فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يمنع عن سوق البدنة.(11/105)
وهي جزور أو بقرة.
قال: فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلثه، لأن نظره فيه إذ هي حالة انقطاعه عن أمواله والوصية تخلف ثناء أو ثوابا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: إذا عند ابن عمر لا يجزئه غيرها لم يثبت بهذا النص، وإنما الذي روي أنه لا يرى البدنة، إلا من الإبل والبقر على ما روى الطبراني في مسند الشاميين، ثنا أبو زرعة، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرني شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقول: لا أعلم الهدي إلا من الإبل، والبقر، وكان عبد الله ابن عمر لا ينحر في الحج، إلا الإبل، والبقر، فإن لم يجد لم يذبح لذلك شيئا، وروى مالك في " الموطأ " في الحج، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول: ما استيسر من الهدي بدنة، أو بقرة.
م: (وهي) ش: أي البدنة م: (جزور) ش: بفتح الجيم وهي من الإبل يقع على الذكر والأنثى والجمع جزور، وقيل: الجزور الناقة التي تنحر والجمع جزائر، ولا يقال للجمل جزور إذا أفرد، والجزور أنثى لا غير، لأنه أكثر ما ينحرون النوق م: (أو بقرة) ش: وهي تقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلته إليها على أنه واحد من الجنس والجمع بقرات، والباقر والبقير والبقور، وأما البقر فهو اسم جنس.
[مرض السفيه وأوصى بوصايا في القرب]
م: (فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب) ش: بضم القاف وفتح الراء جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله بواسطة كبناء المساجد والسقاية والرباط ونحو ذلك، وقيد بالمرض باعتبار أن الوصية غالبا ما تكون في المرض، فإن السفيه الصحيح إذا وصى توصية فحكمها كحكم المريض م: (وأبواب الخير) ش: عطف على القرب من قبيل عطف العام على الخاص، لأن أبواب الخير أعم من القرب لأن القربة تكون بواسطة كما ذكرنا، وأبواب الخير أعم منها، وهذا كالكفالة مع الضمان، فإن الكفالة خاص والضمان عام، فافهم.
م: (جاز ذلك في ثلثه) ش: استحسانا، والقياس بينهما كما لو تبرع في حياته ولكن استحسنوا فيما إذا وفق الحق ما يتقرب به إلى الله أن يكون من الثلث م: (لأن نظره فيه إذ هي حالة انقطاعه عن أمواله والوصية تخلف ثناء) ش: حسنا بعد موته إذا كان للغنى م: (أو ثوابا) ش: أي أو تخلف ثوابا إذا كان للفقير.
فإن قلت: في الغنى أيضا ثواب، لأنه إيصال خير وإحسان إلى أخيه المؤمن ولا سيما إذا قصد به أن يتوسع في النفقة على عياله، وفي الفقير أيضا ثناء حسن فكان ينبغي أن يقول ثناء وثوابا بدون أو.
قلت: هذا باعتبار الغالب بحسب الظاهر حيث يكون الثناء غالبا من الغنى وحصول(11/106)
وقد ذكرنا من التفريعات أكثر من هذا في " كفاية المنتهي ".
قال: ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله عندنا، والفسق الأصلي والطارئ سواء. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه كما في السفيه، ولهذا لم يجعل أهلا للولاية والشهادة عنده. ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] (سورة النساء: الآية 6) وقد أونس منه نوع رشد، فتتناوله النكرة المطلقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثواب فيه ضمني كحصول الثناء في الفقير.
م: (وقد ذكرنا من التفريعات أكثر من هذا في " كفاية المنتهي ") ش: منها ما ذكره عنه أن الذي بلغ سفيها والصبي الذي لم يبلغ وهو يعقل ما يصنعه عندنا سواء إلا في أربعة مواضع.
أحدهما: أنه يجوز للأب ولوصي الأب أن يتصرف على الصغير ليشتري له مالا ويبيع، ولا يجوز تصرف الأب ولا وصي الأب على البالغ السفيه إلا بأمر الحاكم.
والثاني: أنه يجوز نكاحه ولا يجوز نكاح الصبي العاقل.
والثالث: أنه يجوز طلاقه وعتاقه، ولا يجوز طلاق الصبي العاقل، ولا إعتاقه.
والرابع: أن الذي لم يبلغ إذا دبر عبدا لا يصح تدبيره، وهذا السفيه إذا دبر عبده صح تدبيره، انتهى.
وهكذا ذكره في " المبسوط " و" المغني ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله عندنا والفسق الأصلي والطارئ سواء) ش: يقال طرأ علينا فلان من بعيد فجاءه، والطارئ خلاف الأصلي، والصواب طارئ بالهمزة م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه كما في السفيه، ولهذا) ش: أي ولوجوب الحجر عليه زجرا وعقوبة م: (لم يجعل أهلا للولاية والشهادة عنده) ش: أي عند الشافعي
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] (سورة النساء: الآية 6) ش: أي تهديا إلى الطريق المستقيم (الآية) بالنصب، أي اقرأ الآية. ويجوز الرفع، أي الآية بتمامها فيكون مرفوعا بالابتداء والخبر محذوف، ثم أشار إلى وجه الاستدلال بالآية بقوله.
م: (وقد أونس نوع رشد) ش: لأنه مصلح في ماله وإن لم يكن مصلحا في دينه م: (فيتناوله النكرة المطلقة) ش: أي يتناول نوع الرشد النكرة المطلقة، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فإنه ذكر الرشد نكرة والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تعم، فيراد به رشدا واحدا وقدر ذلك وهو الصلاح في المال، وهو المراد فلا يكون الرشد في الدين مرادا لأنه حينئذ يكون(11/107)
ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه، فيكون واليا للتصرف وقد قررناه فيما تقدم ويحجر القاضي عندهما أيضا وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بسبب الغفلة، وهو أن يغبن في التجارات ولا يصبر عنها لسلامة قلبه لما في الحجر من النظر له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معلقا برشدين فلا يجوز ذلك لعدم الدليل على العموم. وعن ابن عباس المراد بالرشد الصلاح في المال. وعن مجاهد في الفعل. وفي " شرح الطحاوي ": المراد بالرشد الصلاح في المال، وبه قال مالك وأحمد وأكثر أهل العلم. م: (ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف، وقد قررناه فيما تقدم) ش: أي في أول كتاب النكاح.
م: (ويحجر القاضي عندهما أيضا) ش: هذه المسألة مبتدأة، أي يحجر التلف الأموال كالسفيه، فلا يعارضه خبر الواحد، كذا ذكره تاج الشريعة.
قيل: هذا مردود، لأن ذلك لمنع المال وليس النزاع فيه.
قلت: فيه نظر، لأن ابن إسحاق قال: فحدثت بهذا الحديث محمد بن يحيى بن حبان، قال: كان جدي حبان بن سعد بن عمرو وكان قد أصيب في رأس أمه فكسرت أسنانه ونقص عقله، وكان يغبن في البيع ... الحديث، فهذا يدل على أنه كان فيه تعقل، لأنه لا يكون من نقصان العقل ففيه نوع حجر، لأنه أطلق له البيوع كلها بالخيار، فصار كالمحجور في البيوع المطلقة، فافهم.(11/108)
فصل في حد البلوغ قال: بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم ثماني عشرة سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في حد البلوغ]
[علامات بلوغ الغلام والجارية]
م: (فصل في حد البلوغ) ش: أي هذا فصل في بيان معرفة حد البلوغ. وإنما ذكر أن الصغر من أسباب الحجر لا بد من بيان انتهائه، وهذا الفصل لبيان ذلك، وحد البلوغ صيرورة الإنسان بحال لو جامع ينزل، وذلك مما يعرف في الرجل والمرأة بقولهما نحو أن يقول أنزلت أو احتلمت أو حبلت وما يجري مجراه، لأنه أمر يوقف عليه من جهتهما، فيقبل فيه قولهما كقول المرأة في الحيض.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (بلوغ الغلام بالاحتلام) ش: البلوغ في اللغة الوصول، وفي الاصطلاح انتهاء حد الصغر، والاحتلام من الحلم بالضم وهو ما يراه النائم ثم يقال حلم واحتلم فبلوغ الغلام يكون بالاحتلام م: (والإحبال والإنزال إذا وطئ) ش: والأصل هو الإنزال، قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] (سورة النور: الآية 59) .
وهذا بالإجماع بلا خلاف، وكذلك بلوغ الجارية بالحيض، والاحتلام والحبل بالإجماع، وأما الإنبات فهو نبت الشعر حول الذكر أو فرج المرأة بحيث يستحق أخذه بموسي، وعلامة البلوغ عند أحمد حلق العانة ولا اعتبار له في قولنا، وأما الزغب الضعيف فلا اعتبار له بالاتفاق إلا في قول عن الشافعي.
وفي " الغاية " وقال أصحابنا أن إنبات العانة لا يدل على البلوغ خلافا للشافعي. وقال في " شرح الطحاوي ": وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه اعتبر نبات العانة، وأما نهود الثدي فلا يحكم بالبلوغ به في ظاهر الرواية. وقال بعضهم يحكم به.
وفي " الكشاف ": في تفسير سورة النور وعن علي أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة أشبار، وبه أخذ الفرزدق في قوله:
مازال مذ عقدت يداه إزاره ... وسمى فأدرك خمسة الأشبار
م: (فإن لم يوجد ذلك) ش: أي واحد من الأشياء المذكورة م: (فحتى يتم له ثماني عشرة سنة) ش: بفتح العددين للتركيب وحذف التاء من ثمانية وإثباتها في عشرة وتكسر الشين في عشرة وقد تسكن، وكذلك الغلام في سبع عشرة.
م: (وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، وإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة،(11/109)
وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إذا تم للغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعنه في الغلام تسع عشرة سنة. وقيل: المراد أن يطعن في التاسع عشرة سنة، ويتم له ثماني عشرة سنة فلا اختلاف، وقيل: فيه اختلاف الرواية؛ لأنه ذكر في بعض النسخ حتى يستكمل تسع عشرة سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إذا تم للغلام والجارية خمس عشرة سنة، فقد بلغا وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وأحمد أيضا، وعليه الفتوى.
وقال داود لا حد للبلوغ من السن لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم» ، وإثبات البلوغ بغيره يخالف الخبر، وهذا قول مالك. وقال أصحاب مالك: سبع عشرة، أو ثماني عشرة كقوله، أبي حنيفة رحمه.
م: (وعنه) ش: أي عن أبي حنيفة م: (في الغلام تسع عشرة سنة، وقيل: المراد أن يطعن في التاسع عشرة سنة ويتم له ثماني عشرة سنة) ش: أي أن يدخل، يقال طعن في السن يطعن بالضم طعنا من باب نصر ينصر، وكذا طعنه بالرمح من هذا الباب، وكذا طعن فيه بالقول.
وأما طعن في المفازة إذا ذهب، فمستقبله يطعن بالضم ويطعن بالفتح أيضا قوله في التاسع عشرة، وكان القياس يقتضي أن يقال: في التاسعة عشر لأن المعنى في السنة التاسعة عشر إلا إذا أريد بها العدد من السنين، فحينئذ يجوز أن يقال في التاسع عشرة م: (فلا اختلاف) ش: أي إذا كان هذا رواية عن أبي حنيفة فلا اختلاف بين الروايتين.
م: (وقيل: فيه اختلاف الرواية؛ لأنه ذكر في بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ " المبسوط " م: (حتى يستكمل تسع عشرة سنة) .
ش: قلت: له أن يستكمل، وهذا يدل على اختلاف الرواية. وقال الحاكم في " الكافي ": لا يجوز طلاق الصبي حتى يحتلم أو يبلغ، أو في ما يكون من وقت الاحتلام وذلك عند تسع عشر سنة، فإذا بلغ ذلك الوقت ولم يحتلم فهو بمنزلة الرجل وقال أبو الفضل: ذكر هذه المسألة، في كتاب الوكالة، من رواية أبي سليمان في موضعين.
فقال في أحدهما: بلوغ الغلام أن يكمل له تسع عشرة سنة وبلوغ الجارية أن يكمل لها سبع عشرة سنة.
وقال في موضع آخر: أن يطعن في التاسعة عشرة، وقطعت الجارية في السابعة عشرة، وهذا هو المشهور في قوله. ووجدت القول على هذا متفقا، في كتاب "الوكالة" في رواية أبي(11/110)
أما العلامة فلأن البلوغ بالإنزال حقيقة والحبل والإحبال لا يكون إلا مع الإنزال، وكذا الحيض في أوان الحبل، فجعل كل ذلك علامة البلوغ. وأدنى المدة لذلك في حق الغلام اثنتا عشرة سنة وفي حق الجارية تسع سنين، وأما السن فلهم العادة الفاشية، أن البلوغ لا يتأخر فيهما عن هذه المدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حفص. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه في الغلام، والجارية خمس عشرة سنة، فإذا تمت جاز طلاقه، وإن لم يحتلم، انتهى لفظه.
وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح "الآثار " في كتاب "السير" وكان محمد بن الحسن يذهب في الغلام إلى قول أبي يوسف رحمهما الله وفي الجارية إلى قول أبي حنفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب من أحق بالأمانة في شرح مختصر " الكرخي " وروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال في الرقة: في الغلام خمس عشرة، وفي الجارية سبع عشرة. وقال شمس الأئمة السرخسي في شرح " الكافي ": وعلى قول أبي يوسف، ومحمد، والشافعي، الجارية والغلام يتقدر بخمس عشرة سنة.
م: (أما العلامة فلأن البلوغ بالإنزال حقيقة) ش: لأنه هو الأصل كما ذكرنا م: (والحبل والإحبال لا يكون إلا مع الإنزال، وكذا الحيض في أوان الحبل، فجعل كل ذلك علامة البلوغ وأدنى المدة لذلك) ش: أي للبلوغ م: (في حق الغلام اثنتا عشرة سنة وفي حق الجارية تسع سنين) ش: وهذا لا يعرف إلا سماعا أو تتبعا.
وقال تاج الشريعة: لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بلغت على رأس تسع سنين، وروي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنى بها حين صار لها تسع سنين» ومعلوم أن البناء من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكون إلا للتوالد والتناسل، ولا يتحققان إلا بعد البلوغ، فعلم بذلك بلوغها. انتهى.
قلت: تزوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعمرها ست سنين ثابتا في الصحاح وغيرها.
م: (وأما السن) ش: عطف على قوله أما العلامة م: (فلهم) ش: أي فلأبي يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (العادة الفاشية أن البلوغ لا يتأخر فيهما) ش: أي العادة الظاهرة الغالبة أن البلوغ لا يتأخر في الغلام والجارية.
م: (عن هذه المدة) ش: أي خمس عشرة سنة، ولأنه روي أن «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال قال: "عرضت على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يقبلني،(11/111)
، وله قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] (سورة الأنعام: الآية 152) ، وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولم يرني بلغت. وعرضت على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فقبلني ورآني أني بلغت» .
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأقيمت عليه الحدود» .
قلت: حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الصحاح، ولكن لا يدل على مدعاهم، لأن الإجازة للقتال حكمها منوط بإطاقته والقدرة عليه وإن إجازته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخمس عشرة لأنه رآه مطيقا للقتال ولم يكن مطيقا له قبل ذلك لا لأنه الحكم على البلوغ وعدمه.
ويدل عليه ما روي «عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عليه غلمان الأنصار في كل عام فيلحق من أدرك منهم، فعرضت عليه فألحق غلاما، وردني فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقد ألحقته ورددتني، ولو صارعته لصرعته، قال فصارعه، فصارعته فصرعته، فألحقني» ، قال الحاكم: صحيح الإسناد.
وفي " الاستيعاب ": لابن عبد البر، عن الواقدي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استصغر عمير بن أبي وقاص، وأراد رده وبكى ثم أجازه بعد فقتل عمير وهو ابن ست عشرة سنة» . ومعنى قوله وردني أي: ورآني أني ما بلغت أي في القوة حد القتال. وأما حديث ابن أنس فلم يثبت فسقط الاحتجاج به.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] (سورة الأنعام: الآية 152) ش: أي قوته، وقيل: هو جمع شدة كالنعم جمع نعمة، وقيل: لا واحد لها م: (وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس) ش: هذا غريب.
والذي روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] نهاية قوة الشباب واستتبابه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين. وروى الطبراني في "معجمه الأوسط "، ثنا محمد بن بشر، ثنا صفوان بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] (الأحقاف: الآية 15) ، قال ثلاث وثلاثون سنة، وهو الذي رفع عليه عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وروى ابن مردويه في تفسيره، عن عبد الله، عن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن(11/112)
للتيقن به، غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة. قال: وإذا راهق الغلام أو الجارية الحلم، وأشكل أمره في البلوغ فقال: قد بلغت فالقول قوله وأحكامه أحكام البالغين، لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن عباس في قوله {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] قال بضعا وثلاثين سنة م: (وتابعه القتبي) ش: أي تابع ابن عباس [....
.....] .
م: (وهذا أقل ما قيل فيه) ش: أي قول ابن عباس أقل ما قيل في تفسير الأشد، قال بعض السلف: أقله اثنتان وعشرون سنة، وقيل: ثماني عشرة سنة، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاث وثلاثون. وقيل: أربعون، وقيل: أقصاه ثنتان وستون وثماني عشرة أقل ما قيل فيه م: (فيبنى الحكم عليه للتيقن به) ش: أي على الأقل للتيقن بالأقل م: (غير أن الإناث) ش: كأنه جواب عما يقال: إذا كان المتيقن هو ثماني عشرة سنة فلم نقصت سنة في الجارية فهلا كان أمرها كأمر الغلام.
فأجاب عنه أن الإناث م: (نشوءهن) ش: أي انتشاؤهن وبلوغهن م: (وإدراكهن أسرع) ش: من إدراك الذكور م: (فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة) ش: وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء م: (التي يوافق واحد منها) ش: أي من الفصول الأربعة م: (المزاج) ش: أي الطبيعة، فيقوى المزاج بذلك م: (لا محالة) ش: أي لا حيلة، ويجوز أن يكون في الحولي وهو القوة والحركة، وهي بفعله منها وأكثر ما يستعمل لا محالة بمعنى الحقيقة واليقين، أو بمعنى لا بد وزائدة وهو مبني على الفتح، كذا في لا رجل ولا بد، فافهم.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا راهق الغلام أو الجارية) ش: يقال رهقه، أي دانى منه، وصبي مراهق أي دان للحلم، واستشكل أمره في البلوغ ولم يعلم ذلك منه م: (الحلم) ش: بضم الحاء أي الاحتلام م: (وأشكل أمره في البلوغ، فقال: قد بلغت فالقول قوله) ش: قيل: إنما يعتبر قوله بالبلوغ إذا بلغ اثنتي عشرة سنة أو أكثر، ولا يقبل فيما دون ذلك، لأن الظاهر يكذبه.
وفي فتاوى " قاضي خان " والفتاوى "الظهيرية " أدنى السن الذي يعتبر قوله بالبلوغ اثنتي عشرة سنة، وفي حق الجارية تسع سنين.
م: (وأحكامه أحكام البالغين، لأنه) ش: أي لأن البلوغ م: (معنى لا يعرف إلا من جهتهما(11/113)
ظاهرا، فإذا أخبرا به ولم يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه كما يقبل قول المرأة في الحيض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهرا، فإذا أخبرا به ولم يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه) ش: أي في البلوغ، قيد بقوله: ولم يكذبهما الظاهر إشارة إلى ما ذكرنا من أن الغلام إذا ادعى البلوغ وعمره أقل من اثنتي عشرة سنة لا يصدق، والجارية إذا ادعته، وعمرها أقل من تسع سنين لا تصدق.
وذكر في " فتاوى قاضي خان " صبي يبيع ويشتري فقال: أنا بالغ، ثم قال: بعد ذلك لست ببالغ، فإن كان سنه اثنتي عشرة سنة أو أكثر لا يعتبر جحوده، وإن كان دون ذلك لا يصح إخباره بالبلوغ، ويصح جحوده، وكذا ذكر في الفتاوى "الظهيرية ".
وفي " الفتاوى الصغرى ": إذا أقر بالبلوغ وقاسم الوصي إن كان مراهقا صح الإقرار والقسمة ولا يقبل قوله إني لم أكن بالغا، وإن لم يكن مراهقا بل كان مثله لا يحتلم عادة لا يصح الإقرار ولا القسمة.
وفي " الواقعات ": صبي أقر أنه بالغ وقاسم الوصي، فإن كان مراهقا جازت قسمته ولم يقبل قوله إنه غير بالغ، فإن لم يكن مراهقا ويعلم أن مثله لا يحتلم لم يجز قسمته ولم يقبل قوله إنه بلغ.
م: (كما يقبل قول المرأة في الحيض) ش: لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتها فالقول قولها إلا إذا كذبها الظاهر.(11/114)
باب الحجر بسبب الدين قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحجر في الدين، وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه لأن في الحجر إهدار أهليته، فلا يجوز لدفع ضرر خاص فإن كان له مال يتصرف فيه الحاكم لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون باطلا بالنص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحجر بسبب الدين]
م: (باب الحجر بسبب الدين) ش: أي هذا باب في بيان الحجر بسبب الدين. أخره عن حجر السفيه؛ لأن هذه الحجر موقوف على طلب الغرماء، فيكون فيه وصف زائد على المشاركة في أصل الحجر، فصار كالمركب فأخر لذلك.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أحجر في الدين) ش: هذا كلام مجمل وفصله بقوله م: (وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه) ش: إنما أسند الفعل إلى نفسه في الموضعين تنبيها على شدة تأكيده على منع الحجر لا يقال: إن فيه تعظيما للنفس، لأن المعنى لو استفتيت أو رفع أمره إلى الحاكم لم أحجر عليه والكلام في موضعين:
أحدهما: أن من ركبه الديون وليس في ماله وفاء وخيف أن يلجأ ماله بطريق الإقرار، ويبيع التحلية وطلب الغرماء من القاضي الحجر عليه، لا يحجر عليه عند أبي حنيفة، وقالا: يحجر عليه، وبه قالت: الثلاثة.
والآخر: أنه لا يباع على المديون ماله في قوله، خلافا لهم والعروض، والعقار فيه سواء، عند مبادلة أحد النقدين بالآخر، فللقاضي أن يفعل ذلك عنده استحسانا لقضاء دينه م: (لأن في الحجر إهدار أهليته، فلا يجوز لدفع ضرر خاص) ش: وهو ضرر الدائن.
فإن قلت: العبد محجور لدفع ضرر خاص وهو ضرر المولى.
قلت: العبد أهدر أهليته وآدميته بالكفر.
م: (فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم، لأنه نوع حجر) ش: لأن بيع ماله غير مستحق لقضاء الدين لإمكان أدائه بوجه آخر فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عليه عند امتناعه كما في الإجارة والتزويج إذ يمكنه قضاؤه بالاستقراض والاستيهاب.
م: (ولأنه تجارة لا عن تراض) ش: أي ولأن بيعه ما له بغير رضاه تجارة من غير تراض م: (فيكون باطلا بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً(11/115)
ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه. وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، لأن الحجر على السفيه إنما جوزناه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء، لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم. ومعنى قولهما: ومنعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل. أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] (النساء: الآية 29) ، م: (ولكن يحبسه أبدا) ش: ولكن القاضي يحبس ماله أبدا.
وفي بعض النسخ ولكن يحبسه وأبدا نصب على الظرف م: (حتى يبيعه في دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه) ش: الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين منه والحبس بالدين مشروع بالإجماع.
فإن قلت: روى الدارقطني من حديث ابن مالك، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ماله في دين كان عليه» . وعن عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ شابا سخيا، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين، فأتى غرماؤه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم، فلو ترك أحد لترك معاذ لأجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله حتى قام معاذ بغير شيء. قلت: هذا حكاية حال على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنو الآن ما لم يكن وفاء لدينه فالتمس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن بينوا لي بيع ماله لبقي بدينه بواسطة بموكب تصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنا نقول أنه مرسل وهو ليس بحجة عند الخصم.
م: (وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء، لأن الحجر على السفيه إنما جوزناه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء، لأنه عساه يلجئ ماله) ش: أي لأن المفلس المديون عسى أن يبيع ماله تلجئة من عظيم لا يمكن الانتزاع من يده، أو بقوله بماله.
وقال تاج الشريعة: أي يقر لغير الغرماء حتى لا يصل إليهم وهو بتشديد الجيم من لجأ تلجئة، وثلاث لجاء ولجأت إليه يجاء بالتحريك وملجأ والموضع لجاء وملجأ أيضا م: (فيفوت حقهم) ش: أي حق الغرماء.
م: (ومعنى قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (منعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل) ش: أي أن يبيع بالغبن يسيرا كان أو فاحشا م: (أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه) ش: أي المنع إنما كان لحق الغرماء، فإذا كان بثمن المثل لا يمنع.(11/116)
قال: وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما، لأن البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله، فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب والعنة. قلنا: التلجئة موهومة والمستحق قضاء الدين والبيع ليس بطريق متعين لذلك بخلاف الجب والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من الطريق، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون، فلا يكون مشروعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بيع المفلس ماله لقضاء الدين المستحق عليه]
م: (قال: وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما؛ لأن البيع مستحق عليه) ش: أي بيع المال لقضاء الدين المستحق عليه م: (لإيفاء دينه، حتى يحبس لأجله) ش: أي لأجل البيع ويحبس بالدفع، لأن حتى هاهنا للغاية كقولهم مرض فلان حتى لا يرجونه م: (فإذا امتنع) ش: عن البيع م: (ناب القاضي منابه كما في الجب) ش: بفتح الجيم وتشديد الباء وهو القطع لغة، والمراد هاهنا أن المرأة إذا وجدت زوجها مجبوبا فإنه يفرق بينهما، فإن امتنع عن ذلك ناب القاضي منابه.
م: (والعنة) ش: بضم العين وتشديد النون، وهو اسم من عن الرجل عن المرأة إذا منع عنها بالسحر، والعنين هو الذي لا تقوم له آلة، إما لعلة أو لسحر وأراد أن المرأة إذا وجدت زوجها عنينا فلها الخيار بعد الفصول الأربعة، فإن امتنع زوجها عن التفريق ناب القاضي منابه.
م: (قلنا) ش: هذا جواب عما قال أبو يوسف، ومحمد ومن تبعهما م: (التلجئة موهومة) ش: لأنه احتمال مرجوح فلا يهدر به أهلية الإنسان، ويرتكب البيع بلا تراض م: (والمستحق قضاء الدين، والبيع ليس بطريق متعين) ش: لأنه يمكنه الاستيفاء بالاستقراض والاستيهاب والسؤال من الناس فلا يجوز للقاضي تعيين هذا الجهة م: (لذلك) ش: أي لقضاء الدين.
م: (بخلاف الجب والعنة) ش: فإن التفريق هناك متعين، لأنه لم يمكنه الإمساك بالمعروف، يعني عليه التسريح بالإحسان، فلما امتنع عن التسريح بالإحسان مع عجزه عن الإمساك بالمعروف ناب القاضي منابه في التفريق م: (والحبس لقضاء الدين) ش: جواب عن قولهما حتى يحبس لأجله.
وتقريره: سلمنا بلزوم الحبس لكنه ليس لأجل البيع، بل القضاء الدين م: (بما يختاره من الطريق) ش: الذي ذكرنا من الاستقراض، والاستيهاب، وسؤال الصدقة وبيع ماله بنفسه م: (كيف) ش: أي كيف صح البيع م: (وإن صح البيع) ش: من القاضي م: (كان الحبس إضرارا بهما) ش: أي بالمديون والغريم م: (بتأخير حق الدائن) ش: إلى زمان تحقق امتناع المديون عن البيع م: (وتعذيب المديون) ش: بالحبس م: (فلا يكون) ش: الحبس م: (مشروعا)(11/117)
قال: وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره، وهذا بالإجماع لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه. وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على ضد ذلك باعها القاضي في دينه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحسان، والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا. وجه الاستحسان أنهما متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لكن الحبس مشروع بالإجماع، فدل ذلك على أنه ليس للقاضي ولاية البيع، وهذا لا ينقلب.
ولأن حبس المديون على اعتبار عدم ولاية البيع للقاضي لا يشمل على الدائن لما خير حقه، لأن للمديون ولاية البيع في كل لحظة بخلاف القاضي.
م: (قال: فإن كان دينه دارهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره، وهذا بالإجماع للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه، وإن كان دينه دارهم وله دنانير أو على ضد ذلك) ش: بأن كان دينه دنانير وله دارهم م: (باعها القاضي في دينه، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحسانا) .
ش: إنما خص أبا حنيفة بالذكر وإن كان ذلك بالإجماع لأن الشبهة ترد على قوله، لأنه كان لا يجوز بيع القاضي على المديون في العروض، فكان ينبغي أن لا يجوز في النقدين أيضا، لأنه نوع من البيع، وهو بيع الصرف م: (والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا) ش: أي من غير قضاء، بخلاف ما لو ظفر بحبس حقه.
م: (وجه الاستحسان أنهما) ش: أي الدراهم والدنانير م: (متحدان في الثمنية والمالية) ش: ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة م: (مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين) ش: تقريره: أن بالنظر إلى أنهما متحدان في الثمنية يثبت ولاية التصرف للقاضي وللغريم، وبالنظر إلى أنهما متحدان في الثمنية، ومختلفان صورة لا يثبت لهما أصلا، فعملنا بالوجهين وقلنا بولاية التصرف للقاضي دون الغريم، ولم نعكس، لأن ولاية القاضي أقوى من ولاية الغريم، فلما لم يثبت للقاضي فأولى أن لا يثبت للغريم، فيكون فيه إبطال حق الشبهين، فلهذا امتنع العكس.
وتوضيحه: أن من العلماء من يقول: إن لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء، ولا رضاء، وهو ابن أبي ليلى، والقاضي مجتهد، فجعلنا له ولاية(11/118)
بخلاف العروض، لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها. أما النقود فوسائل فافترقا ويباع في الدين النقود ثم العروض ثم العقار يبدأ بالأيسر فالأيسر لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون ويترك عليه دست من ثياب بدنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاجتهاد، وفي مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه، ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال، وفي إضرار بالمديون من حيث إبطال حقه من غير ملكه، وللناس في الأعيان أغراض وليس للقاضي أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو يستحق وهذا المعنى لا يوجد في النقود، لأن المقصود هناك المالية دون العين.
م: (بخلاف العروض) ش: هذا إشارة إلي بيان الفرق بين الدراهم والدنانير وبين العروض حيث جاز بيع القاضي في الدين وفي الدراهم والدنانير، ولم يجز في العروض فقال بخلاف العروض حيث لا يجوز بيعه فيها م: (لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها، أما النقود فوسائل) ش: إلى حصول المقصود ولا يتعلق الغرض بصورها وأعيانها م: (فافترقا) ش: أي الحكمان يعني حكم النقدين وحكم العروض م: (ويباع في الدين النقود) ش: هذا تفريع على قولهما.
يعني أن المديون لما جاز بيع ماله عندهما تباع أولا النقود م: (ثم العروض ثم العقار) ش: وفي " الذخيرة ": فعلى قولهما يبيع أو قاضي ماله ولكن يبدأ بدنانيره إذا كان الدين دراهم، قال فضل الدين مع ذلك بيع العروض أولا لا العقار، لأن العروض معدة للتلف والتصرف والاسترباح عليه فلا يلحقه كثير ضرر في بيعه، فإن لم يف فحينئذ بيع العقار وأما دون ذلك فلا يبيعه لأن العقار أعد للاقتناء فيلحقه ضرر كثير، وهذا الذي ذكره رواية عنهما.
وفي رواية يبدأ القاضي ببيع ما يخشى عليه التلف من عروضه ثم يبيعها لا يخشى عليه التلف من عروضه ثم يبيع ما لا يخشى عليه التلف ثم يبيع العقار م: (يبدأ بالأيسر فالأيسر لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون) ش: حاصله أن القاضي نصب ناظرا فينبغي أن ينظر للمديون كما ينظر للغرماء فيبيع ما كان أنظر له م: (ويترك عليه دست من ثياب بدنه) ش: الدست بفتح الدال وسكون السين المهملة، وأراد به البدلة من قماش نحو القميص واللباس والعمامة.
وفي " العباب " الدست من الثياب ومن الورق ومن صدر البيت ومن اللعب معربات ليست من كلام العرب. وفي " الذخيرة " إذا كان للمديون ثيابا يلبسها ويمكنه أن يجترئ بعد من ذلك بيع ثيابه ويشتري بثمنه ثوبا يلبسه، وما فضل يقضي دينه؛ لأن ذلك للتجمل وقضاء الدين فرض عليه، وعلى هذا لو كان له مسكن وتمكينه أن يجترئ بما دون ذلك يبيع المسكن(11/119)
ويباع الباقي، لأن به كفاية، وقيل: دستان، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس. قال: فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون، لأنه تعلق بهذا المال حق الأولين، فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم. بخلاف الاستهلاك لأنه مشاهد لا مرد له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويشتري بثمنه ما يجترئ وما فضل قضى دينه ولا يباع داره التي أغنى له عن سكناها، وبه قال أحمد.
وقال الشافعي ومالك: تباع ويستأجر من ثمنه مسكنا له ويقضي بالفضل دينه، وفي " الخلاصة " والنية ما لا يحتاج إليه في الحال كاللبد في السيف والنطع في الشتاء، ولو كان له كانون من حديد يباع ويتخذ من الطين. وعن شريح أنه يباع عمامة المحبوس وعن أبي يوسف هكذا وفي شرح الطحاوي: ولو باع القاضي أو أمينه مال المديون فالعهدة على المطلوب لا على القاضي وأمينه.
وقال الشافعي وأحمد: على المديون. وقال مالك: على الغرماء وإن كان الثمن جنس حقهم وإلا على المديون.
م: (ويباع الباقي لأن به كفاية) ش: يعولان بالدست من الثياب كفاية م: (وقيل: دستان، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس) ش: أي من لبس ثياب.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون) ش: أي قال القدوري في "مختصره ".
وقال في " شرح الأقطع ": وهذا على قولهما م: (لأنه تعلق بهذا المال حق الأولين، فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم) ش: أي فلا يتمكن المديون من إبطال حق الأولين، وهذا الظاهر م: (بخلاف الاستهلاك) ش: أي بخلاف ما إذا استهلك المحجور عليه قبل قضاء الدين مال إنسان حيث يكون المتلف عليه أسوة للغرماء بلا خلاف م: (لأنه مشاهد لا مرد له) ش: أي لأن فعله أعني الاستهلاك مشاهد محسوس فلا يرد، لأن الحجر لا يصح في الفعل الحسي.
وفي " الذخيرة ": لو كان سبب الدين ثابتا عند القاضي بعلمه أو بالشهادة بأن شهدوا على استقراضه أو شرابه بمثل القيمة شارك الغرماء وعند الشافعي لو أقر بدين لزمه قبل الحجر يصح ويلزمه في الأصح.
وفي قول: لا يلزمه وهو قول مالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وتصرفات المحجور من بيع أو هبة أو عتق لا تصح عند الشافعي في الأصح، وبه قال مالك، وأحمد في غير(11/120)
ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه، لأن حقهم لم يتعلق به لعدم وقت الحجر. قال: وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وولده الصغار وذوي أرحامه من يجب نفقته عليه؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره فلا يبطله الحجر، ولهذا لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء. قال: فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو يقول: لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوهه في كتاب "أدب القاضي" من هذا الكتاب، فلا نعيدها، إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظرة إلى الميسرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العتق، وفي قول يصح ويكون موقوفا. فإن قضى دينه من غير نقض التصرف نفذ تصرفه، ولا يفسخ منها الأضعف فالأضعف يبدأ بالهبة ثم بالبيع ثم بالعتق. وعند أحمد وأبي يوسف رحمهما الله يصح عتقه، لأنه صدر عن مالك رشيد ولا يقبل الفسخ. وقال أحمد: في رواية لا يصح كالبيع والهبة وما فعله قبل الحجر يصح بلا خلاف.
[حكم المال الذي استفاده المفلس بعد الحجر]
م: (ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه، لأن حقهم لم يتعلق به) ش: أي بذلك المال، وهكذا هو في بعض النسخ م: (لعدم وقت الحجر) ش: أي لعدم ذلك المال وقت الحجر، فلا يتعلق به حق الأولين.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وينفق على المفلس من ماله) ش: أي ينفق على هذا المديون المحجور عليه عن التصرف، وينفق على صيغة بناء المجهول م: (وعلى زوجته وولده الصغار) ش: بضم الواو وسكون اللام جمع ولد م: (وذوي أرحامه من يجب نفقته عليه) ش: أي وينفق أيضا على ذوي أرحام المحجور عليه م: (لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره) ش: أي ولأن الإنفاق حق ثابت لغير المفلس وهو من يجب نفقته عليه.
م: (فلا يبطله الحجر، ولهذا) ش: أي ولأجل كون حاجته الأصلية مقدمة م: (لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء) ش: لأن الزيادة تضاف إلى التزامه وفيه إبطال حق الغرماء ولا يلي ذلك، الأسوة بضم الهمزة وكسرها اسم من ائتسى به إذا اقتدى به واتبعه. ويقال: آسيته بمالي، أي جعلته أسوة أقتدي به، ويقتدي هو بي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو) ش: أي المفلس م: (يقول: لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة، وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوه) ش: أي بطرقه م: (في كتاب " أدب القاضي " من هذا الكتاب، فلا نعيدها، إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظر إلى الميسرة) ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (سورة البقرة: الآية 280) ، أي وإن وجد ذو(11/121)
ولو مرض في الحبس يبقى فيه إن كان له خادم يقوم بمعالجته وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه. والمحترف فيه لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إعسار، أي فقر فالواجب نظرة أي انتظار إلى وقت اليسار والبينة على الإعسار بعد الحبس تقبل بالاتفاق فيطلقه القاضي بعد ذلك.
وأما إذا قامت قبل الحبس ففيه روايتان في إحداهما: تقبل وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل. وفي الأخرى لا تقبل ما لم يحبس، وعليه عامة المشايخ، وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي في شرح "أدب القاضي " وهو الأصح.
[مرض المحجور عليه في الحبس]
م: (ولو مرض في الحبس يبقى فيه) ش: أي في الحبس ويبقى بالتشديد م: (إن كان له خادم يقوم بمعالجته، وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه) ش: لأنه لا يجوز الإهلاك لمكان الدين، ألا ترى لو توجه إليه الهلاك لمخمصة كان له أن يدفعه بمال الغير؟ فكيف يجوز إهلاكه لأجل مال الغير؟.
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يخرجه في هذه الصورة أيضا، لأن الهلاك لو كان لكان بسبب المرض وإنه في الحبس وغيره سواء. وفي " الواقعات ": المحبوس في السجن إذا مرض وليس له أحد يعاهده أخرج من السجن بكفيل، لأنه لو ترك كذلك يخاف عليه التلف، والمستحق الحبس لا التلف.
وفي " الخلاصة ": هذا إذا كان الغالب عليه الهلاك، والفتوى على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما يطلقه بكفيل، فإن لم يجد الكفيل لا يطلقه، فإن كفل رجل وأطلقه فحضرة الخصم ليست بشرط.
م: (والمحترف) ش: أي المحبوس الذي يحترف، يعني يكتسب بالحرفة وهي الصنعة قوله م: (فيه) ش: أي في الحبس م: (لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض مشايخنا لا يمنع من الاكتساب فيه، وبه قال الشافعي في الأصح، لأن فيه نظرا للجانبين، لأن نفقته ونفقة عليه فيمكن من الكسب.
وفي الخصاف: الأصح أنه يمنع منه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه) ش: فينبعث بالنصب عطفا على ليضجر، وذلك لأن الحبس للتضييق عليه، حتى يتسارع إلى الوفاء، فإذا أمكن من الاحتراف فيه صار بمنزلة القوت فلا يحصل المقصود.(11/122)
بخلاف ما إذا كانت له جارية وفيه موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه، لأنه قضاء إحدى الشهوتين فيعتبر بقضاء الأخرى. قال: ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس بل يلازمونه
ولا يمنعونه من التصرف والسفر لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لصاحب الحق يد ولسان»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا كانت له جارية، وفيه) ش: أي وفي الحبس م: (موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه؛ لأنه قضاء إحدى الشهوتين) ش: أي لأن الوطء قضاء إحدى الشهوتين وهما شهوة البطن وشهوة الفرج م: (فيعتبر بقضاء الأخرى) ش: أي إذا كان كذلك فيعتبر إحدى الشهوتين التي هي شهوة الفرج بالشهوة الأخرى وهي شهوة البطن.
وفي " الخلاصة ": لا يضرب المديون ولا يغل ولا يقيد ويخوف ولا يقام بين يدي صاحب الحق إهانة، ولا يؤاجر. وفي " المنتقى " يقيد المديون إذا خيف الفرار ولا يخرج المديون لجمعة ولا عيد ولا حج ولا صلاة الجنازة ولا عيادة المريض ويحبس في موضع وحش لا يبسط له فرش ولا يدخل عليه أحد ليستأنس به، ذكره الإمام السرخسي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يحول بينه وبين غرمائه) ش: أي لا يحول القاضي بين المديون المفلس وبين غرمائه م: (بعد خروجه من الحبس بل يلازمونه) ش: أي يدورون معه حيثما دار ولا يفارقونه في موضع لأنه حبس.
وقال الناصحي في " تهذيب أدب القاضي " قال: ابن كاس في أدب القاضي قال: أبو يوسف ومحمد إذا صح أنه معسر فلا سبيل إلى لزومه، وعلى قول إسماعيل بن حماد ليس للمدعي أن يلازمه، ولكن يأخذ كفيلا، ذكره شمس الأئمة في " شرح أدب القاضي " للخصاف.
[بيع وتصرف وسفر المحجور عليه لدين]
م: (ولا يمنعونه من البيع والتصرف والسفر) ش: لأن فيه ضررا بينا عاما م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لصاحب الحق يد ولسان» ش: هذا دليل لقوله يلازمون، والحديث رواه الدارقطني في سننه حدثنا أبو علي الصفار، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ثور، عن يزيد، عن مكحول قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لصاحب الحق اليد واللسان» .
وأخرج البخاري في "الاستقراض" ومسلم في "البيوع"، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فقال(11/123)
أراد باليد الملازمة وباللسان التقاضي. قال: ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص لاستواء حقوقهم في القوة. وقالا: إذا فلسه الحاكم حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا، لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فيثبت العسرة ويستحق النظرة إلى الميسرة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتحقق القضاء بالإفلاس، لأن مال الله تعالى غاد ورائح؛ ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا» م: (أراد باليد الملازمة، وباللسان التقاضي) ش: وليس المراد باليد أن يتطاول عليه بيد، ولا باللسان بأن يؤذيه بالكلام الفاحش. وجه التمسك به أنه مطلق في حق الزمان فيتناول الزمان الذي يكون بعد الإطلاق عن الحبس وقبله.
م: (قال: ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص) ش: أي يأخذ كل واحد منهم بقدر حصته من الدين، هذا إذا أخذوا فضل كسبه بغير اختياره أو أخذه القاضي وقسمه بينهم بدون اختياره. وأما المديون ففي حال صحته لو آثر أحد الغرماء على غيره بقضاء الدين باختياره له ذلك، نص على ذلك في فتاوى النسفي. فقال: رجل عليه ألف درهم لثلاثة فقر لواحد منهم خمسمائة ولآخر منهم ثلاثمائة ولآخر منهم مائتان وماله خمسمائة فاجتمع الغرماء فحبسوه بديونهم في مجلس القاضي كيف يقسم أمواله بينهم، قال: إذا كان المديون حاضرا فإنه يقضي ديونه بنفسه وله أن يقدم البعض على البعض في القضاء ويؤثر البعض على البعض لأنه يتصرف في خالص ملكه ولم يتعلق به حق أحد فيتصرف فيه على حسب مشيئته، وإن كان المديون غائبا والديون ثابتة عند القاضي يقسم المال بين الغرماء بالحصص، إذ ليس للقاضي ولاية تقديم بعضهم على بعض م: (لاستواء حقوقهم في القوة) ش: أي لاستواء حقوق الغرماء في قوة الثبوت فلا يترجح البعض على البعض م: (وقالا: إذا فلسه الحاكم) ش: بتشديد اللام، أي قال أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا حكم القاضي بإفلاس المديون وإعساره م: (حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا، لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فيثبت العسرة، ويستحق النظرة إلى الميسرة) ش: كما لو كان دينه مؤجلا، وبه قالت الثلاثة.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتحقق القضاء بالإفلاس؛ لأن مال الله غاد ورائح) ش: أي آت وذاهب، وكم من غني يمشي في مال جزيل ويصبح فقيرا، وكم من فقير يمسي ويصبح غنيا م: (ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا) ش: إذ لا وقوف لهم على الحقيقة.(11/124)
فيصلح للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله إلا أن يقيموا البينة، إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار، لأنها أكثر إثباتا إذ الأصل هو العسرة، وقوله في الملازمة: لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيصلح) ش: أي الظاهر م: (للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله: إلا أن يقيموا البينة إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار) ش: أي قول القدوري في "مختصره "، واليسار بفتح الياء اسم للإيسار من اليسر إذا استغنى، والإعسار مصدر أعسر، أي افتقر. وفي بعض النسخ على بينة العسار بفتح العين بمعنى الإعسار. قال في "المغرب": هو خطأ، قيل: ذكر هذا على طريق الازدواج.
قلت: لم يقل أحد في الازدواج باللحن والخطأ في اللفظ على أنه لا يطلب إلى في الخطب والرسائل في كلام الفصحاء ويقع في كلام الله تعالى لابتداع أسلوبه ونهايته في منهج البلاغة والفصاحة، أو كلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكونه مخصوصا بجوامع الكلم.
م: (لأنها) ش: أي لأن بينة اليسار م: (أكثر إثباتا إذ الأصل هو العسرة) ش: واليسار طارئ فصار كبينة ذي اليد في مقابلة بينة الخارج.
وفي خلاصة "الفتاوى ": فإن أقام المديون البينة على الإفلاس فأقام الطالب البينة على اليسار، فبينة الطالب أولى ولا حاجة إلى بيان ما يثبت به اليسار، وفي بينة الإفلاس لا يشترط حضرة المدعي وينبغي أن يقول الشهود إنه فقير لا نعلم له مالا ولا عرضا من العروض يخرج بذلك عن حال الفقير.
وعن أبي القاسم الصفار: ينبغي أن يقول الشهود نشهد أنه مفلس معدوم لا نعلم له مالا سوى كسوته التي عليه وثياب ليلة.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري: م: (في الملازمة لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع) ش: أي لا يجلس الغريم المديون في موضع معين م: (لأنه حبس فيه) ش: أي إجلاسه في موضع معين حبس وليس له حق الحبس، لأنه ليس بمستحق عليه.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للمدعي أن يحبسه في مسجد حيه أو بيته، لأنه ربما يطرق في الأسواق والسكك من غير حاجة فيتضرر به المدعي. وفي رواية عنه: يلازمه حيث أحب من المصر.
ولو كان لا معيشة له إلا من كسبه لا يمنعه أن يسعى في مقدار قوته يوما، فإذا حصل(11/125)
ولو دخل في داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج، لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة،
ولو اختار المطلوب الحبس، والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب؛ لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختيار الأضيق عليه إلا إذا علم القاضي أن يدخل عليه بالملازمة ضرر بين بأن لا يمكنه من دخوله داره، فحينئذ يحبسه
دفعا للضرر عنه
. ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها لما فيها من الخلوة بالأجنبية ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها.
قال: ومن أفلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك القدر في يومه فله منعه من الذهاب في ذلك ويجلسه.
وفي " الواقعات ": رجل قضى عليه بحق لإنسان فأمر غلامه أن يلازم الغريم، فقال الغريم: لا أجلس معه بل أجلس مع المدعي فله ذلك، لأنه ربما لا يرضى بالجلوس مع العبد فيكون عليه في ذلك الوقت زيادة ضرر.
م: (ولو دخل في داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج، لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة) ش: وعن هذا قيل: إذا أعطاه الفداء أو أعداه موضعا لأجل إيفائه له أن يمنعه عن ذلك حتى لا يهرب من جانب آخر، كذا في " الذخيرة " وفي الأقضية إذا كان عمل الملزوم سقي الماء ونحوه لا يمنعه من ذلك إلا إذا كفاه نفقته ونفقة عياله، وهكذا في الدخول في البيت.
م: (ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب؛ لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختياره الأضيق عليه) ش: أي على المطلوب لأن ملازمة من لا يجالسه أشد من كل شديد م: (إلا إذا علم القاضي أن يدخل عليه) ش: أي على المطلوب م: (بالملازمة ضرر بيِّنٌ بأن لا يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر عنه. ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها لما فيها من الخلوة بالأجنبية، ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها) ش: ولم يذكروا إذا كان الدين للمرأة على الرجل فعلى التعليل المذكور ينبغي أن يبعث رجلا أمينا من جهتها ملازمة.
وفي " الخلاصة ": فإن لم يجد امرأة إن شاء جعلها مع امرأة في بيت وهو على بابها والمرأة في بيت نفسها وهو على بابها ونقله عن النسفي.
[أفلس الرجل وعنده متاع لرجل بعينه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أفلس) ش: وفي بعض النسخ فإن أفلس يقال أفلس الرجل إذا لم يبق في يده مال كأن دراهمه سارت فلو سارت يوما كما يقال أخبث الرجل إذا صار أصحابه خبثا وأقطن إذا صارت دابته قطونا، ويجوز أن يراد به إن صار إلى حال يذل فيها كما يقال أقهر الرجل إذا صار إلى حالة يقهر عليها وإذا صار إلى حال يذل فيها.(11/126)
وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحجر القاضي على المشتري بطلبه ثم للبائع خيار الفسخ؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع، وهذا لأنه عقد معاوضة وقضيته المساواة فصار كالسلم. ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين، وهو غير مستحق بالعقد، فلا يثبت حق الفسخ باعتباره، وإنما المستحق وصف في الذمة، أعني: الدين وبقبض العين يتحقق بينهما مبادلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعنده متاع لرجل بعينه) ش: أي والحال أن عنده متاع لشخص معين م: (ابتاعه منه) ش: أي قد اشتراه من الرجل كما في قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] (سورة النساء: الآية 90) أي قد حصرت م: (فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه) ش: أي في المتاع.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحجر القاضي على المشتري بطلبه) ش: أي بطلب البائع الحجر عليه حتى لا ينفذ تصرفه بالبيع وغيره م: (ثم للبائع خيار الفسخ؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع، وهذا) ش: إشارة إلى وجه القياس والجامع بين عجز المشتري عن إيفاء الثمن وعجز البائع عن تسليم المبيع م: (لأنه عقد معاوضة ومن قضيته المساواة) ش: أي لأن المبيع عند معاوضته وقضيته المساواة وهي فيما ذكرنا.
م: (فصار كالسلم) ش: هذا جواب عما يقال هذا قياس مع وجود الفارق وهو فاسد، وذلك لأن الثمن دين في الذمة وهو مانع عن الفسخ، بخلاف المبيع فإنه غير بدل عليه الفسخ، فأجاب بقوله فصار كالسلم يعني لا نسلم أن كونه دينا يمنع عن الفسخ، فإن المسلم فيه دين لا محالة، فإذا تعذر قبضه بانقطاعه عن أيدي الناس كان لرب السلم حق الفسخ، كذا هذا وبقولنا قال: الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك وأحمد والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وروي ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين) ش: أي عين الدراهم المنقودة وعين الدنانير المنقودة م: (وهو غير مستحق بالعقد) ش: أي غير الدراهم المنقودة غير مستحق، بل المستحق به الدين وهو وصف في الذمة يعلم أنه عجز عن تسليم شيء غير مستحق بالعقد. م: (فلا يثبت حق الفسخ باعتباره) ش: أي باعتبار أنه غير مستحق بالعقد م: (وإنما المستحق وصف في الذمة أعني الدين) ش: ولا يلزم من العجز عن تسليم عين الدراهم أو عين الدنانير بالإفلاس العجز عن المستحق بالعقد م: (وبقبض العين يتحقق بينهما مبادلة) ش: حكمية، هذا جواب عما يقال: لما كانت العين المنقودة غير مستحقة بالعقد وجب أن تبرأ ذمة المديون بدفع المنقود.
وتقرير الجواب: أن المستحق بالعقد هو الوصف الثابت في الذمة وقضاء الدين(11/127)
هذا هو الحقيقة فيجب اعتبارها إلا في موضع التعذر كالسلم، لأن الاستبدال ممتنع فأعطي للعين حكم الدين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واجب، وذلك بالوصف غير متصور، وجعل الشارع العين بدلا عنه، فإن قبض العين بدلا عنه تحقق بينهما مبادلة من حيث إنه ثبت لكل واحد منهما في ذمه الآخر وصف فيلتقيان قصاصا.
م: (هذا) ش: أي تحقق المبادلة م: (هو الحقيقة) ش: في قضاء الدين م: (فيجب اعتبارها إلا في موضع التعذر كالسلم) ش: حيث يكون للمسلم فيه الذي هو الحنطة أو الشعير حكم الدين الذي هو الوصف الثابت في الذمة لتعذر القول بالاستبدال م: (لأن الاستبدال ممتنع) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» م: (فأعطي للعين حكم الدين) ش: تحرزا عن الاستبدال فيكون العين مستحقا بالعقد، فصار العجز عنه، كالعجز عن تسليم المبيع.
فإن قيل: ما تقول في حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به» ، وقد روي هذا الحديث بوجوه مختلفة.
قلت: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه» أخرجه الدارقطني، فاختلفت الرواية، وذلك يوجب وهنا في الحديث على ما عرف.
فإن قلت: في إسناده ابن عياش، وهو ضعيف.
قلت: قد وثقه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد احتج بالحديث الخصاف، والرازي.
فإن قلت: قال الدارقطني لا يثبت هذا الحديث عن الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندا، وإنما هو مرسل.
قلت: المرسل عندنا حجة، وأسند الخصاف والرازي، ولئن سلمنا فمعناه إذا باع شيئا على أنه بالخيار فوجد المشتري مفلسا في مدة الخيار فهو أحق بماله، أي فيتخير الفسخ ويكون معناه إرشادا إلى ما هو الأوثق كما في قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وغيره. وقيل: هذا محمول على الغصب، فإن المغصوب منه أحق بماله إذا وجد عند الغاصب، وفيه نظر لأن(11/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله قد أفلس يبقى حقه حينئذ ضائعا؛ لأن أحقية الملك ثابت في الغصب وجد مفلسا أو مليئا.
وقيل: هو محمول على الوديعة وفيه نظر أيضا. وقيل محمول على أنه قبض المبيع بغير إذن البائع وفي هذا الموضع له حق الاسترداد وما ذهبا إليه هو قول جماعة من الجلة الأكابر.
قال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: أيما رجل باع من رجل سلعة فأفلس المشتري فإن وجد البائع سلعة بعينها فهو أحق بها، فإن كان قبض من ثمنها شيئا فهو والغرماء سواء، وإن مات المشتري فالبائع أسوة الغرماء، وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز. وروي أيضا عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن شريح قال: أيما غريم اقتضى منه شيئا بعد إفلاسه فهو والغرماء سواء يخاصم به، وبه كان يفتي ابن سيرين، وإليه ذهب ابن جنيد ذكره صاحب " التمهيد "، وفي الاستذكار قال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة هو أسوة الغرماء على كل حال.
وروي ذلك عن خلاص عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن حزم صحيح روايته. وحكى الخطابي هذا القول عن ابن شبرمة أيضا.
فإن قلت: روى أحمد في " مسنده " عن سمرة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من وجد متاعا عند مفلس فهو أحق به ".»
قلت: في إسناده عمر بن إبراهيم قال أبو حاتم: لا يحتج به.
فإن قلت: روى البيهقي عن الشافعي قال: قرأنا على مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به» .
قلت: هذا مرسل وهو ليس بحجة عندنا.
فإن قلت: روى البيهقي من حديث معمر عن أيوب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن دينار عن هشام بن يحيى عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفلس الرجل ووجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها دون الغرماء» .
قلت: قد مر الجواب عن حديث أبي هريرة في هذا الباب.
فإن قلت: روى الطيالسي عن ابن أبي ذئب حدثني أبو المعتمر «عن عمر بن خالد، قال أتينا أبا هريرة في صاحب لنا يعني أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه، قال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به، إلا أن يدع(11/129)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجل وفاء» . وذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال الذمي أحدث به أولى، يعني حديث ابن خلدة من قبل أن ما أحدث به موصول يجمع فيه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين الموت والإفلاس. وحديث ابن شهاب منقطع.
قلت: قال عبد الحق في أحكامه، قال أبو داود: من يأخذ بهذا، أبو المعتمر من هو، أي: لا يعرف. وقال الطحاوي: لا نعرف من هو ولا سمعنا له ذكرا إلا في هذا الحديث. وفي " الإشراف ": الحديث مجهول الإسناد، والله أعلم بالصواب.(11/130)
كتاب المأذون الإذن: هو الإعلام لغة. وفي الشرع: فك الحجر وإسقاط الحق عندنا والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز وانحجاره عن التصرف لحق المولى؛ لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا لتعلق الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المأذون]
[تعريف العبد المأذون]
م: (كتاب المأذون) ش: إيراده عقيب الحجر ظاهر التناسب إذ الإذن بعد الحجر.
م: (الإذن هو الإعلام لغة) ش: يعني من حيث اللغة. قال الجوهري: أذن له في الشيء إذنا وأذن بمعنى علم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، وأذنه له أذنا بفتحتين استمع، انتهى.
قال تاج الشريعة: وفيما نحن فيه إعلام؛ لأن المولى يعلم عبده بفك حجره ويعلم الناس بذلك أيضا. وفي " المغرب " الإذن من الإذن هو الاستماع يقال استأذنه فلم يأذن له وهو مأذون له وهي مأذون لها وترك الصلة ليس من كلام العرب كما في المحجور عليه.
م: (وفي الشرع فك الحجر وإسقاط الحق عندنا) ش: أي فك الحجر الثابت بالرق حكما ورفع المانع من التصرف حكما، والمولى إذا إذن لعبده في التجارة فقد أسقط عن نفسه الذي كان للعبد؛ لأنه محجور عن التصرف في مال المولى قبل إذنه فيصير عندنا بمنزلة المكاتب. وعند الشافعي وأحمد وهو إنابة وتوكيل.
وقال الأترازي: وإنما قيد بقوله عندنا احترازا عن قول زفر والشافعي، فإن الإذن عندهما توكيل وإنابة في التصرف. وفائدة الخلاف أن الإذن بالتجارة لا يتخصص حتى لو أذن له في نوع يكون مأذونا في أنواع التجارة عندنا خلافا لهما أو لزفر أيضا كما يجيء إن شاء الله تعالى.
م: (والعبد بعد ذلك) ش: أي بعد إسقاط الحق م: (يتصرف لنفسه بأهليته) ش: فيكون تصرفه لنفسه لا لمولاه بالتوكيل والإنابة م: (لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز) ش: أي لأن العبد بعد الرق صار أهلا للتصرفات إذ ركن التصرف كلام معتبر شرعا لصدوره عن مميز ومحل التصرف ذمه صالحة لالتزام الحقوق، وهما لا يفوتان بالرق، إذا صلاحية الذمة للالتزام من كرامات البشرية وبالرق لا يخرج عن كونه بشرا غير أن امتناعه م: (وانحجاره عن التصرف لحق المولى؛ لأنه ما عهد) ش: أي بما عرف م: (تصرفه إلا موجبا لتعلق الدين(11/131)
برقبته أو كسبه وذلك مال المولى فلا بد من إذنه كيلا يبطل حقه من غيره رضاه ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى ولهذا لا يقبل التوقيت حتى لو أذن لعبده يوما كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
برقبته أو كسبه وذلك) ش: أي ما ذكر من رقبته أو كسبه م: (مال المولى فلا بد من إذنه كيلا يبطل حقه من غيره رضاه) ش: فإذا أذن فقد رضي بإسقاط حقه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون صحة تصرفه بأهلية نفسه م: (لا يرجع) ش: أي البعد م: (بما لحقه من العهدة على المولى) ش: لأنه يتصرف في ذمته بإيجاب الثمن فيها حتى لو امتنع عن الأداء حال الطلب حبس وذمته خالص حقه لا محالة، ولهذا لو أقر بالقصاص على نفسه صح، وإن كذبه المولى فكان الشراء حقا له، وهذا المعنى يقتضي نفاذ تصرفاته قبل الإذن أيضا، لكن شرطنا إذنه دفعا للضرر عنه بغير رضاه.
فإن قيل: المأذون عدم أهليته لحكم التصرف وهو الملك، فينبغي ألا يكون أهلا لنفس التصرفات، ولأن التصرفات الشرعية إنما تراد لحكمها وهو ليس بأهل لذلك. أجيب بأن حكم التصرف ملك اليد والرقيق أصيل في ذلك كما أشرنا إليه.
فإن قيل: لو كان العبد بتصرفه بأهليته والإذن فك الحجر لما كان للمولى ولاية الحجر بعده امتناع عن الإسقاط فيما يستقل؛ لأن الساقط لا يعود.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الإذن إسقاطا عندنا م: (لا يقبل التوقيت حتى لو أذن لعبده يوما كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه) ش: لأن تصرفه بحكم مالكيته الأصلية، وإنها عامة لا تختص بنوع ومكان ووقت.
فإن قيل: قوله فك الحجر وإسقاط الحق مذكور في حيز التعريف فكيف جاز الاستدلال عليه؟. أجيب عنه بجوابين: أحدهما أنه ليس باستدلال، وإنما هو تصحيح النقل بدل يدل على أنه عندنا معروف بذلك. والثاني أنه حكمه الشرعي وهو تعريفه، وكان الاستدلال عليه من حيث كونه حكما لا من حيث كونه تعريفا، لا يقال: لا يصح الاستدلال على عدم التخصيص والتوفيق بإذن الإذن عبارة عن فك الحجر والإطلاق وتمليك اليد، فإن القضاء إطلاق وإثبات للولاية مع أنه قابل للتخصيص.
وكذا الإعارة والإجارة تمليك للمنفعة وإثبات اليد على العين مع أنه قابل للتخصيص؛ لأنا نقول القاضي لا يعمل لنفسه بل هو نائب عن المسلمين، ولهذا يرجع بها لحقه من العهدة في مال المسلمين، بخلاف العبد فإنه لا يرجع على المولى بما لحقه من العهدة.(11/132)
لأن الإسقاطات لا تتوقت، ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة كما إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا، خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما المستأجر والمستعير فإنه يتصرف في محل هو ملك الغير بإيجاب صاحب الملك له وإيجابه في ملك نفسه يقبل التخصيص فافهم م: (لأن الإسقاطات لا تتوقت) ش: كالطلاق والعتاق وتأجيل الدين وتأخير المطالبة، إذ الساقط يتلاشى م: (ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة كما إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله) ش: ومالك وأحمد هذا من باب بيان الضرورة وقد عرف في الأصول.
قالوا السكوت محتمل الرضاء وفرط الغيظ وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه بكونه محجورا، والمحتمل يكون حجة.
قلنا: جعل سكوته حجة؛ لأنه موضع بيان إذ الناس يعاملون العبد حيث علمهم بسكوت المولى ومعاملتهم قد تفضي إلى لحوق ديون عليه وإذا لم يكن مأذونا تتأخر المطالبة إلى ما بعد العتق وقد يعتق وقد لا يعتق. وفي ذلك إضرار للمسلمين بإيتاء حقهم ولا ضرار في الإسلام، وليس للمولى فيه ضرر يتحقق؛ لأن الدين قد يلحقه وقد لا يلحقه، فكان موضع بيان أنه راض به، والسكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان.
فإن قيل: عين ذلك التصرف الذي رآه من البيع غير صحيح، فكيف يصح غيره، وكذا إذا رأى أجنبيا يبيع من ماله وسكت لم يكن إذنا فما الفرق؟. أجيب بأن الضرورة في التصرف الذي رآه مستحق بإزالة ملكه عما يبيعه في الحال فلا يثبت بسكوته، وليس في ثبوت الإذن في غير ذلك لما قلنا إن الدين قد يلحقه.
ولا يلزم من كون السكوت إذنا بالنظر إلى ضرر متوهم كونه إذنا بالنظر إلى متحقق وهو الجواب عن بيع الأجنبي ماله وفي الرهن لم يكن سكوته إذنا؛ لأن جعله إذنا يبطل ملك المرتهن عن اليد، وقد لا يصل إلى يده من محل آخر، فكان في ذلك ضرر محقق، لا يقال الراهن أيضا يتطور ببطلان ملكه عن الثمن فترجح ضرر المرتهن تحكم؛ لأن بطلان ملكه عن الثمن موقوف؛ لأن بيع المرهون موقوف على ظاهر الرواية وبطلان ملك المرتهن عن البديات فكان أقوى.
وأما الرقيق عبدا كان أو أمة إذا زوج نفسه فإنما لم يصر السكوت فيه إذنا قال بعض الشارحين ناقلا عن " مبسوط شيخ الإسلام "؛ لأن السكوت إنما يصير إذنا وإجازة دفعا للضرر على أحد في نكاح العبد والأمة؛ لأن النكاح يكون موقوفا؛ لأن نكاح المملوك المولى لما فيه من إصلاح ملكه ومنافع بضع المملوكة كذلك، وليس لأحد إبطال ملكه بغير رضاه فكان موقوفا وأمكن فسخه فلا يتضرر به أحد.(11/133)
ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا للمولى أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا؛ لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له ولم يكن راضيا به لمنعه
دفعا للضرر عنهم.
قال: وإذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما جاز تصرفه في سائر التجارات، ومعنى هذه المسألة أن يقول له: أذنت لك في التجارة ولا يقيده، ووجهه أن التجارة اسم عام يتناول الجنس فيبيع ويشتري ما بدا له من أنواع الأعيان؛ لأنه أصل التجارة ولو باع أو اشترى بالغبن اليسير فهو جائز لتعذر الاحتراز عنه، وكذا بالفاحش عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما. هما يقولان: إن البيع الفاحش منه بمنزلة التبرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل فيه نظر؛ لأنه لا كلام في أن نكاح الرقيق موقوف على إذن المولى وإجازته، وإنما هو في أن سكوته إجازة أولا، ولعل الصواب أن يقال في ذلك ضررا محققا بالمولى فلا يكون السكوت إذنا.
م: (ولا فرق أن يبيع عينا مملوكا للمولى أو لأجنبي) ش: أي أو مملوكا للأجنبي م: (بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا؛ لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها) ش: أي في التجارة م: (فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له، ولو لم يكن راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم) ش: أي كل ما رآه من الناس.
[إذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما أو في نوع معين]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما) ش: يعني لم يقيد بنوع من التجارة م: (جاز تصرفه في سائر التجارات) ش: أي جميعها، يقال سائرهم أي جميعهم م: (ومعنى هذه المسألة) ش: أي معنى مسألة الإذن العام، يعني تصوره م: أن يقول له أذنت لك في التجارة ولا يقيده) ش: بنصب الدال عطفا على قوله أي فلا يقيد الإذن بنوع من أنواع التجارة، وهذا بلا خلاف، وإنما الخلاف في الإذن بنوع فكان فائدة ذكر معنى المسألة لبيان نفي الخلاف. م: (ووجهه أن التجارة) ش: أي وجه جواز تصرفه في سائر التجارات م: (اسم عام) ش: لأنه اسم جنس محلى باللام فكان عاما م: (يتناول الجنس) ش: أي جنس التجارة للعموم م: (فيبيع ويشتري) ش: أي إذا كان يبيع ويشتري م: (ما بدا له) ش: أي ما ظهر له م: (من أنواع الأعيان؛ لأنه) ش: أي لأن بيع الأعيان م: (أصل التجارة) ش: والمنافع لكونها قائمة بالأعيان فألحقت بها.
م: (ولو باع أو اشترى بالغبن اليسير فهو جائز لتعذر الاحتراز عنه) ش: أي الغبن اليسير، وعند الشافعي وأحمد لا يجوز إلا ثمن المثل كما في الوكيل م: (وكذا بالفاحش عند أبي حنيفة) ش: أي وكذا يجوز بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة سواء كان عليه دين أو لا م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله وبقولهما قال زفر والشافعي وأحمد.
م: (هما يقولان إن البيع الفاحش منه بمنزلة التبرع) ش: وهو خلاف المقصود إذا المقصود(11/134)
حتى اعتبر من المريض من ثلث ماله، فلا ينتظمه الإذن كالهبة. وله: أنه تجارة والعبد متصرف بأهلية نفسه فصار كالحر، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون. ولو حابى في مرض موته يعتبر من جميع ماله إذا لم يكن عليه دين، وإن كان فمن جميع ما بقي، لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاسترباح دون الإتلاف فلا ينتظم الإذن م: (حتى اعتبر) ش: البيع بالغبن الفاحش م: (من المريض من ثلث ماله) ش: لأنه بمنزلة التبرع، فصار كالهبة م: (فلا ينتظمه الإذن كالهبة) ش: أي إذا كان كذلك فلا ينتظم البيع بالغبن الفاحش الإذن. م: (وله) ش: أي: ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن البيع بالغبن الفاحش م: (تجارة) ش: لا تبرع؛ لأنه وقع في ضمن عقد التجارة، والواقع في ضمن الشيء له حكم ذلك الشيء م: (والبعد متصرف بأهلية نفسه) ش: لما مر تقريره م: (فصار كالحر) ش: بالإذن فالحر يملك البيع بالغبن الفاحش، فكذا العبد المأذون. وقال تاج الشريعة: أي كالحر المريض المديون المستغرق جميع تركته بالدين.
فإن قلت: يشكل بالمريض حيث لا يتصرف فيما وراء الثلث وإن كان يتصرف بأهليته قلت: إنما لا يملك لتعلق حق الغير وهو الغريم أو الوارث بذلك المال، حتى لو رضي ينفذ ولا كذلك المولى لسقوط حقه.
م: (وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون) ش: أي على الخلاف المذكور الصبي المأذون له من جهة أبيه أو وصيه في التجارة إذا باع بالغبن الفاحش، وكذا المكاتب والمعتوه المأذون. ثم أبو حنيفة فرق بين البيع والشراء في تصرف الوكيل بالغبن وسوى بينهما في تصرف المأذون؛ لأن الوكيل يرجع على الآمر لما يلحقه من العهدة. فكان الوكيل بالشراء منهما في أنه اشتراه لنفسه فلما ظهر الغبن أراد أن يلزمه الأمر وهذا لا يوجد في تصرف المأذون؛ لأنه يرجع بما لحقه من العهدة على أحد فاستوى البيع والشراء في حقه، كذا في " المبسوط ". م: (ولو حابى) ش: أي العبد المأذون وهو من المحاباة ومن الحباء وهو العطاء وصورته أن يوصي بأن يباع عبده من فلان وقيمته ألف مثلا بخمسمائة م: (في مرض موته يعتبر من جميع ماله إذا لم يكن عليه دين) ش: لأنه يكون محاباة من المولى؛ لأن المال للمولى، والشرط أن يكون المولى صحيحا حتى إذا كانت المحاباة منه في مرض الولي لمحاباته باليسير، والفاحش معتبر من الثلث عند أبي حنيفة، كما لو حابى المولى بنفسه في مرضه. وعندهما محاباته باليسير كذلك، وبالفاحش باطل وإن كان يخرج من ثلث مال المولى؛ لأنه لا يملك هذه المحاباة بالإذن في التجارة كما لو باشره في صحة المولى م: (وإن كان) ش: عليه دين م: (فمن جميع ما بقي) ش: يعني يؤدي دينه أولا فما بقي بعد قضاء الدين يكون كله محاباة م: (لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد) ش: لا يقال المولى وارث؛ لأنه رضي بسقوط حقه بالإذن، فصار كالوارث إذا سقط حقه في الثلثين بالإجازة،(11/135)
وإذا كان الدين محيطا بما في يده يقال للمشتري: أد جميع المحاباة وإلا فاردد البيع كما في الحر، وله أن يسلم ويقبل السلم؛ لأنه تجارة وله أن يوكل بالبيع والشراء؛ لأنه قد لا يتفرغ بنفسه قال ويرهن ويرتهن؛ لأنهما من توابع التجارة فإنهما إيفاء واستيفاء ويملك أن يتقبل الأرض ويستأجر الأجراء والبيوت؛ لأن كل ذلك من صنيع التجارة ويأخذ الأرض مزارعة؛ لأن فيه تحصيل الربح ويشتري طعاما ويزرعه في أرضه؛ لأنه يقصد به الربح، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزارع يتاجر ربه» . وله أن يشارك شركة عنان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يتصرف المريض للكل فكذا هذا.
م: (وإذا كان الدين محيطا بما في يده) ش: بطلت المحاباة م: (يقال للمشتري: أد جميع المحاباة وإلا فاردد البيع كما في الحر) ش: إذا حابى في مرض موته م: (وله أن يسلم ويقبل السلم) ش: أي وللمأذون أن يجعل نفسه رب السلم والمسلم إليه م: (لأنه تجارة) ش: أي لأن الإسلام تجارة، وكذا قبول السلم م: (وله أن يوكل بالبيع والشراء؛ لأنه قد لا يتفرغ بنفسه) ش: فجاز الاستعانة بغيره؛ لأن ذلك من صنيع التجارة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويرهن ويرتهن؛ لأنهما من توابع التجارة فإنهما إيفاء) ش: في الرهن م: (واستيفاء) ش: في الارتهان وهما من التجارة م: (ويملك أن يتقبل الأرض) ش: أي يأخذها لقبالة، أي يستأجرها أو يتقبل الأرض الموت من الإمام للإحياء. وفي " المغرب ": قبالة الأرض أن يتقبلها إنسان فيقبلها الإمام أي يعطيها أيام مزارعة أو مساقاة م: (ويستأجر الأجراء) ش: وهو جمع أجير م: (والبيوت) ش: أي يستأجر البيوت م: (لأن كل ذلك من صنيع التجارة) ش: أي كل ما ذكر من الأشياء التي تقدمت. م: (ويأخذ الأرض مزارعة؛ لأن فيه تحصيل الربح) ش: لأنه إن كان البذر من قبله فهو مستأجر الأرض ببعض الخارج، وذلك أنفع من الاستئجار بالدراهم؛ لأنه إذا لم يحصل خارج لا يلزمه، بخلاف الاستئجار بالدراهم وإن كان البذر من قبل صاحب الأرض فهو أجر نفسه من رب الأرض لعمل المزارعة ببعض الخارج. ولو أجر نفسه بالدراهم صار كما سيجيء فكذا هذا.
م: (ويشتري طعاما ويزرعه في أرضه؛ لأنه يقصد به الربح) ش: وإن كان استهلاكا حقيقة م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزارع يتاجر ربه» ش: هذا الحديث ليس له أصل، وهو غريب جدا.
م: (وله أن يشارك شركة عنان) ش: قيد به؛ لأنه ليس له شركة المفاوضة؛ لأن مبناه على(11/136)
ويدفع المال مضاربة ويأخذها؛ لأنه من عادة التجار، وله أن يؤاجر نفسه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو يقول: لا يملك العقد على نفسه فكذا على منافعه؛ لأنها تابعة لها. ولنا: أن نفسه رأس ماله فيملك التصرف فيها إلا إذا كان يتضمن إبطال الإذن كالبيع؛ لأنه ينحجر به والرهن لأنه يحبس به فلا يحصل به مقصود المولى. أما الإجارة فلا ينحجر به ويحصل به المقصود وهو الربح فيملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوكالة، والكفالة، والوكالة داخلة تحت الإذن دون الكفالة ثم يصح منه شركة العنان مطلقا عن ذكر الشراء بالنقد والنسيئة حتى لو اشترك المأذونان شركة عنان على أن يشتريا بالنقد والنسيئة لم يجز من ذلك النسيئة وجاز النقد؛ لأن في النسيئة معنى الكفالة عن صاحبه والمأذون لا يملك الكفالة.
ولو أذن لهما الموليان في الشركة على الشراء بالنقد والنسيئة ولا دين عليهما فاشتركا صار كما لو أذنا لهما بالكفالة. ولو اشتركا معاوضة بالإذن تصير عنانا، كذا في " المبسوط " و " الذخيرة " م: (ويدفع المال مضاربة ويأخذها) ش: أي يأخذ المضاربة أيضا م: (لأنه من عادة التجار) ش: لأن كل واحد من دفع المال مضاربة وأحدها من عادة التجار.
م: (وله أن يؤاجر نفسه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وللمأذون له أن يؤجر نفسه. وبقول الشافعي قال أحمد: وعن الجمي من أصحابه يجوز كقولنا. وكذا لو وكل إنسانا لا يجوز عند الشافعي.
وكذا لو أجر عبيد التجارة دابة لا يجوز عند الشافعي، وفي الأصح يجوز م: (وهو) ش: أي الشافعي م: (يقول: لا يملك العقد على نفسه) ش: بالبيع والرهن، يعني لا يملك نفسه ولا هاهنا بدين عليه م: (فكذا على منافعه) ش: أي فكذا لا يملك على منافع نفسه م: (لأنها تابعة لها) ش: أي لأن منافع نفسه تابعة لنفسه.
م: (ولنا: أن نفسه رأس ماله) ش: لأن المولى أذن له بالاكتساب ولم يدفع إليه مالا وهو رأس المال المأذون له يملك التصرف فيه ضرورة، وهو معنى قوله م: (فيملك التصرف فيها) ش: أي في رأس المال م: (إلا إذا كان) ش: أي التصرف م: (يتضمن إبطال الإذن كالبيع) ش: أي بيع نفسه م: (لأنه ينحجر به) ش: لأنه يخرج به عن ملك المولى لو صح م: (والرهن) ش: أي وكان الرهن أي رهن نفسه على دين م: (لأنه يحبس به) ش: أي؛ لأن المرهون له يحبس عند المرتهن م: (فلا يحصل به مقصود المولى) ش: وهو الربح م: (أما الإجارة) ش: أي إجارة نفسه م: (فلا ينحجر به ويحصل به المقصود وهو الربح فيملك) ش: إذا كان كذلك فيملك الإجارة. وما ذكره الشافعي ينتقض بالحر، فإنه لا يتملك بيع نفسه ويملك إجارته.(11/137)
فإن أذن له في نوع منها دون غيره فهو مأذون في جميعها، وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر لهما: أن الإذن توكيل وإنابة من المولى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو الملك له دون العبد ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه به كالمضارب ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه، وعند ذلك يظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن أذن له في نوع منها دون غيره) ش: أي فإن أذن المولى لعبده في نوع من التجارات دون نوع م: (فهو مأذون في جميعها) ش: أي في جميع التجارات. قال في " الإيضاح ": سواء نهى عن غير ذلك النوع أو سكت، صورته أن يقول لعبده تصرف في الخز وسكت، أو قال تصرف في الخز ولا تتصرف في البز فإنه يملك التصرف في الخز والبز جميعا.
م: (وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر) ش: فعندنا يملك التصرف في الكل، وعندهما لا يملك إلا فيما عينه م: (لهما أن الإذن توكيل وإنابة من المولى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو) ش: أي الحكم م: (الملك له) ش: أي للمولى يعني أن المقصود من التصرف حكمه وحكمه الملك وهو للمولى لا للعبد؛ لأنه بالرق خرج عن أن يكون أهلا للملك م: (دون العبد) ش: أي لا للعبد م: (ولهذا) ش: أي ولكون الملك للمولى دونه م: (يملك حجره) ش: أي يملك المولى حجره م: (فيتخصص بما خصه به) ش: أي إذا كان كذلك يتخصص الإذن بما خص به المولى كما لو أذنه بالتزويج من امرأة بعينها لم يكن له أن يتزوج غيرها م: (كالمضارب) ش: إذا قال له رب المال اعمل مضاربة في البز مثلا ليس له أن يعمل في غيره.
م: (ولنا أنه) ش: أي إذن المولى م: (إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه) ش: أي في أول كتاب المأذون م: (وعند ذلك) ش: أي عند الإذن وفك الحجر م: (يظهر مالكية العبد) ش: فيصير كالمكاتب م: (فلا يتخصص بنوع دون نوع) ش: لكون التخصيص إذ ذاك تصرفا في ملك الغير فلا يجوز.
فإن قلت: ينتقض بالإذن. وفي النكاح فإنه فك الحجر وإسقاط الحق، فإذا أذن للعبد أن يتزوج فلانة فليس له أن يتزوج بغيرها.
قلت: الإذن فيه تصرف في ملك نفسه لا في ملك الغير؛ لأن النكاح تصرف مملوك للمولى؛ لأنه لا يجوز لولي الرق إخراج العبد من أهلية الولاية على نفسه، فكانت الولاية للمولى، وهذا أجاز أن يخيره عليه فكان العبد كالوكيل والنائب عن مولاه، فيتخصص بما خصه(11/138)
بخلاف الوكيل؛ لأنه يتصرف في مال غيره، فيثبت له الولاية من جهته وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد، حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه. قال: وإن أذن له في شيء بعينه فليس بمأذون؛ لأنه استخدام، ومعناه أن يأمره بشراء ثوب للكسوة أو طعام رزقا لأهله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به.
فإن قلت: الضرر اللاحق بالمولى يمنع الإذن وقد يتضرر المولى بغير ما خصه من التصرف لجواز أن يكون العبد عالما بالتجارة في الخز دون البز.
قلت: هذا ضرر غير محقق، ولئن كان سلمنا فله أن يدفع وهو التوكيل به على أن جواز التصرف بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة يدفع ذلك.
فإن قلت: العبد يتصرف في كسبه وهو مملوك للمولى فيصح التخصيص، ألا ترى أنه لو استعار من آخر ثوبا ليرهنه في دينه فإن للمعير أن يرهن بالدراهم لا يملك رهنه بالدنانير.
قلت: أما الشراء فلا يستقيم؛ لأنه يتصرف في ذمته، وأما في البيع فنقول الكسب حصل بتصرفه فيكون له إلا فيما تعذر إبقاؤه له.
فإن قلت: إنه أزال الحجر في حق تصرف خاص؛ لأنه نص عليه دون غيره.
قلت: بلى، ولكن يوجب الرضى بتعطيل منافعه مطلقا ولا فرق بين أن تتعطل منافعه بهذا التصرف أو بتصرف آخر.
م: (بخلاف الوكيل) ش: هذا يجوز أن يكون جوابا عن قوله كالمضارب؛ لأن المضارب وكيل الوكيل يستفيد الولاية من جهته م: (لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته) ش: أي من جهة الغير م: (وحكم التصرف) ش: جواب لقوله ويثبت الحكم للمولى وهو ممانعة بالسند، أي لا نسلم أن حكم التصرف م: (وهو الملك واقع) ش: للمولى بل هو واقع م: (للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة) ش: بغير إذن المولى م: (وما استغنى عنه) ش: المأذون له م: (يخلفه المالك فيه) ش: أي في الذي استغنى عنه.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن أذن له في شيء بعينه فليس بمأذون؛ لأنه استخدام ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري وإن أذن له في شيء بعينه م: (أن يأمره بشراء ثوب للكسوة أو طعام رزقا لأهله) ش: أي لأجل أن يكون رزقا أو قوتا لعياله، وإنما فسر هكذا احترازا عما إذا علم أن مقصوده الإذن في ذلك، فحينئذ يكون مأذونا من التجارة، كما إذا قال: اشتر لي ثوبا وبعه، فإن قوله بعد يدل على الإذن في التجارة.(11/139)
، وهذا لأنه لو صار مأذونا ينسد عليه باب الاستخدام بخلاف ما إذا قال: أد إلي الغلة كل شهر كذا أو قال: أد إلي ألفا وأنت حر لأنه طلب منه المال ولا يحصله إلا بالكسب أو قال له اقعد صباغا أو قصارا لأنه أذن بشراء ما لا بد منه لهما وهو نوع فيصير مأذونا في الأنواع.
قال: وإقرار المأذون بالديون والمغصوب جائز وكذا بالودائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: توضيح لما ذكره م: (لأنه لو صار مأذونا) ش: أي؛ لأن العبد لو صار مأذونا بإذنه في شيء بعينه م: (ينسد عليه) ش: أي على المولى م: (باب الاستخدام) ش: أي استخدام العبد في حوائجه لا قضاء به إلى من أمر عبده بشراء بفلسين كان مأذونا يصح إقراره بديون يستغرق رقبته ويؤخذ بها في الحال، فحينئذ لا يستجري أحد على استخدام عبد فيما أسند إليه حاجته؛ لأن غالب استعمال العبيد في شراء الأشياء الحقيرة.
فإن قلت: ما الحد الفاصل بين الاستخدام والإذن بالتجارة.
قلت: الإذن بالتصرف المكرر صريحا مثل أن يقول اشتر لي ثوبا وبعه، أو قال بع هذا الثوب واشتر بثمنه، أو دلالة، كما إذا قال أد إلي الغلة كل شهر، أو أد إلي ألفا وأنت حر.
أشار إليه المصنف بقوله م: (بخلاف ما إذا قال) ش: أي المولى لعبده م: (أد إلي الغلة كل شهر كذا) ش: خمسة دراهم مثلا م: (أو قال: أد إلي ألفا وأنت حر؛ لأنه طلب منه المال ولا يحصله) ش: أي العبد لا يقدر على تحصيل المال م: (إلا بالكسب) ش: فهو دلالة التكرار م: (أو قال له: اقعد صباغا أو قصارا؛ لأنه إذن بشراء ما لا بد منه وهو نوع) ش: من الأنواع يتكرر بتكرار العمل المذكور م: (فيصير مأذونا في الأنواع) ش: كلها أما إذا أذن بتصرف غير مكرر كطعام أهله وكسوتهم لا يكون إذنا.
فإن قلت: ينتقض بما إذا غصب العبد متاعا وأمر هؤلاء ببيعه فإن تخصيص بيع المغصوب إذن في التجارة وليس الأمر بعقد مكرر.
قلت: إنه أمر بالعقد المكرر دلالة، وذلك؛ لأن تخصيصه بيع المغصوب باطل لعدم ولايته عليه والإذن قد صدر منه صريحا. فإذا بطل التقييد ظهر الإطلاق، وكلام المصنف يشير إلى أن الفاصل هو التصرف النوعي لا الشخصي والإذن بالأول إذن دون الثاني فتأمل.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإقرار المأذون بالديون والمغصوب جائز) ش: سواء صدقه المولى أولا؛ لأن الغصب يوجب الملك عند أداء الضمان، وعند الثلاثة يجوز إقراره بديون المعاملة فقط وإقراره بالغصب والإتلاف يصح إن صدقه المولى م: (وكذا بالودائع) ش: أي وكذا(11/140)
لأن الإقرار من توابع التجارة إذ لو لم يصح لاجتنب الناس مبايعته ومعاملته. ولا فرق بين ما إذا كان عليه دين أو لم يكن إذا كان الإقرار في صحته، فإذا كان في مرضه يقدم دين الصحة كما في الحر، بخلاف الإقرار بما يجب من المال لا بسبب التجارة؛ لأنه كالمحجور في حقه
قال: وليس له أن يتزوج؛ لأنه ليس بتجارة. قال: ولا يزوج مماليكه. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يزوج الأمة؛ لأنه تحصيل المال بمنافعها فأشبه إجارتها. ولهما أن الإذن يتضمن التجارة، وهذا ليس بتجارة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز إقراره بالودائع والأمانات م: (لأن الإقرار من توابع التجارة إذ لو لم يصح لاجتنب الناس مبايعته ومعاملته) ش: فلا يحصل المقصود م: (ولا فرق بين ما إذا كان عليه دين أو لم يكن إذا كان الإقرار في صحته) ش: أي لا فرق في الإقرار في الحالتين م: (فإذا كان) ش: أي الإقرار م: (في مرضه يقدم دين الصحة كما في الحر) ش: والجامع تعلق حق الغرماء.
م: (بخلاف الإقرار بما يجب من المال لا بسبب التجارة) ش: كالكفالة والاستهلاك والأرش والإقرار بالمهر. وإن كان بغير إذن المولى فإنه لا يصدق فيه م: (لأنه كالمحجور في حقه) ش: أي في حق ما يجب من المال لا بسبب التجارة.
وفي " المبسوط " عبد مأذون غصب جارية بكرا أو قبضهما رجل في يده كان لمولاها أن يأخذ العبد بعقرها؛ لأن الغائب بالاقتصاص جزء من ماليتها وهي مضمونة على العبد بجميع أجزائها والعبد مؤاخذ بضمان الغصب في الحال مأذونا أو محجورا.
ولو أقر العبد أنه وطئ جارية بنكاح بغير إذن مولاها فاقتصها فلم يصدق؛ لأنه ليس من التجارة، فإن وجوب العقد هاهنا باعتبار النكاح، والنكاح ليس تجارة.
وفي " الإيضاح ": لو أقر بجناية على عبد أو حر أو مهر وجب عليه بنكاح جائز أو فاسد ولو بشبهة فإن إقراره باطل لا يؤاخذ به حتى يعتق. أما لو أقر به يوجب القود حيث يصح وللمقر له استيفاؤه، وبه قال الشافعي ومالك. وقال أحمد ومحمد وزفر والمزني وداود: لا يصح، وقد مر في الإقرار.
[زواج العبد المأذون له في التجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وليس له أن يتزوج) ش: لأنه ليس له أن يزوج م: (لأنه ليس بتجارة قال: ولا يزوج مماليكه) ش: هذا عند أبي حنيفة والثلاثة م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يزوج الأمة؛ لأنه تحصيل المال بمنافعها فأشبه إجارتها) ش: أي إجارة الأمة، والجامع تحصيل المال بالمنافع م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن الإذن يتضمن التجارة، وهذا ليس بتجارة) ش: معناه سلمنا أن الإذن لتحصيل المال، لكن لا مطلقا بل على وجه يكون من صنيع التجارة وإنكاح الأمة ليس من ذلك.(11/141)
ولهذا لا يملك تزويج العبد وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون والمضارب والشريك شركة عنان والأب والوصي. قال ولا يكاتب لأنه ليس بتجارة إذ هي مبادلة المال والبدل فيه مقابل بفك الحجر فلم يكن تجارة؛ إلا أن يجيزه المولى ولا دين عليه لأن المولى قد ملكه ويصير العبد نائبا عنه ويرجع الحقوق إلى المولى لأن الوكيل في الكتابة سفير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: أي ولكون تزويج الأمة ليس بتجارة م: (لا يملك تزويج العبد) ش: لقرابة عن تحصيل المال بالكلية، بل فيه تعذيب العبد وشغل رقبته بالمهر بلا منفعة م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (الصبي المأذون والمضارب والشريك شركة عنان والأب والوصي) ش: يعني أن هؤلاء لا يملكون تزويج العبد بالاتفاق ويملكون تزويج الأمة عند أبي يوسف، وعندهما لا يملكون تزويجها أيضا.
قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في هذه الرواية نظر؛ لأنه ذكر قبل هذا في كتاب المكاتب، وكذا ذكره في " المبسوط " و " التتمة " ومختصر " الكافي "، وما ذكر في المكاتب أصح؛ لأنه موافق لعامة الروايات. قيل يحتمل أن يكون في هذه المسألة روايتان.
وقال الإمام حسام الدين الأخسكتي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو يحمل ما أطلق في المكاتب على ما ذكره هاهنا.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يكاتب؛ لأنه) ش: أي ولأن عقد الكتابة م: (ليس بتجارة إذ هي) ش: أي التجارة م: (مبادلة المال بالمال والبدل فيه) ش: أي في عقد الكتابة م: (مقابل بفك الحجر) ش: وهو ليس بمال وإن كان البدل مالا م: (فلم يكن تجارة إلا أن يجيزه المولى ولا دين عليه) ش: أي إلا أن يجيز المولى عقد الكتابة والحال أنه لا دين على العبد؛ لأن المولى بإجازة عقد الكتابة يخرجه من أن يكون كسبا للمأذون وقيام الدين عليه يمنع من ذلك قل الدين أو كثر لتعلق حق الغرماء به.
ولهذا لو أخذه من يد المأذون وعليه دين قل أو كثر يمنع منه م: (لأن) ش: على مذهب أبي حنيفة م: (المولى قد ملكه) ش: أي قد ملك كسب العبد المأذون؛ لأنه خالص ملكه يملك فيه مباشرة الكتابة فيملك الإجازة م: (ويصير العبد نائبا عنه) ش: أي عن المأذون في عقد الكتابة عند الإجازة
م: (ويرجع الحقوق إلى المولى) ش: وهي مطالبة بدل الكتابة وولاية الفسخ عند العجز وثبوت الولاء بعد العتق، إذ حقوق العبد في باب الكتابة لا تتعلق بالوكيل م: (لأن الوكيل في الكتابة سفير) ش: لكونها إسقاطا فكان قبض البدل إلى من نفذ العتق من جهة، ولقائل أن يقول الوكيل سواء كان سفيرا أو لا إذا عقد العقد لا يحتاج إلى إجازة، وهاهنا ليس كذلك، ويمكن أن يجاب(11/142)
قال ولا يعتق على مال؛ لأنه لا يملك الكتابة فالإعتاق أولى ولا يقرض؛ لأنه تبرع محض كالهبة ولا يهب بعوض ولا بغير عوض وكذا لا يتصدق لأن كل ذلك تبرع بصريحه ابتداء وانتهاء أو ابتداء فلا يدخل تحت الإذن بالتجارة. قال إلا أن يهدي اليسير من الطعام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنه بإثبات الوكالة بطريق الانقلاب.
[هل للعبد المأذون أن يعتق على مال]
م: (قال: ولا يعتق على مال؛ لأنه لا يملك الكتابة فالإعتاق أولى) ش: لأنه إعتاق في الحال وهذا إذا لم يكن يجز المولى، أما إذا أجازه ولا دين على المأذون جاز؛ لأنه يملك إنشاء العتق عليه، فيملك الإجازة. وقبض المال إلى المولى دون المأذون.
وأما إذا كان على المأذون دين فأجاز العتق جاز وضمن قيمته للغرماء عندها، كما لو أنشأ العتق ولا سبيل للغرماء على العوض، بخلاف الكتابة؛ لأن ما يؤديه كسب الحر وحق الغرماء غير متعلق بكسب الحر، فأما بدل الكتابة فيؤديه في حال الرق فيتعلق به حق الغرماء م: (ولا يقرض؛ لأنه) ش: أي؛ لأن الإقراض م: (تبرع محض كالهبة) ش: إذا لو لم يكن كذلك لكان صرفا بالنسيئة فيكون حراما، ولهذا لا يملكه الأب والوصي في مال اليتيم م: (ولا يهب بعوض ولا بغير عوض) ش: أما الأول فلأنه تبرع ابتداء، وأما الثاني فلأنه تبرع ابتداء وانتهاء.
م: (وكذا لا يتصدق) ش: لأن الصدقة تبرع محض م: (لأن كل ذلك) ش: أي كل المذكور من الإقراض والهبة والصدقة م: (تبرع بصريحه ابتداء وانتهاء) ش: أي في كل حالة الابتداء وحالة الانتهاء، وهذا يرجع إلى الإقراض والهبة بغير العوض والصدقة.
م: (أو ابتداء) ش: أي أو تبرع بصريحه في حالة الابتداء، وهذا يرجع إلى الهبة بعوض م: (فلا يدخل تحت الإذن بالتجارة) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فلا يدخل ما ذكر من الأمور تحت الإذن في التجارة؛ لأنها ليست بتجارة.
م: (قال إلا أن يهدي اليسير من الطعام) ش: هذا استثناء من قوله لا يهب، وقيد الطعام، يشير إلى أن إهداء غير المأكولات لا يجوز أصلا، وبه قال أحمد.
وقال الشافعي ومالك رحمهما الله: لا يملك ذلك أيضا بغير إذن المولى؛ لأنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه وكذا الضيافة اليسيرة عندهما، ولنا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجيب دعوة المملوك.(11/143)
أو يضيف من يطعمه لأنه من ضرورات التجارة استجلابا لقلوب المجاهزين بخلاف المحجور عليه؛ لأنه لا إذن له أصلا، فكيف يثبت ما هو من ضروراته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو يضيف من يطعمه) ش: المراد الضيافة اليسيرة، ولهذا قالوا إن الإهداء اليسير راجع إلى الضيافة، وفي " الذخيرة " له أن يتخذ الضيافة اليسيرة دون العظيمة؛ لأن اليسيرة من وضع التجار دون العظيمة.
وقال محمد بن سلمة: في الحد الفاصل بينهما ينظر إلى مقدار مال تجارته فإن كان عشرة آلاف أو اتخذ ضيافة بمقدار عشرة كان يسيرا. ولو كان مال تجارته عشرة مثلا واتخذ ضيافة بمقدار دانق فذاك لا يكون كثيرا عرفا.
وفي " المغني ": الأب والوصي لا يملكان في مال الصغير ما يملك المأذون من اتخاذ الضيافة اليسيرة والهدية ويملك التصدق بالفلس والرغيف والفضة بما دون الدرهم؛ لأن ذلك من صنيع التجارة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في شرح كتاب " المأذون الكبير " من الأصل، قالوا أما قيم الدار وهي الزوجة أو الأمة فإنها تطعم وتتصدق بالطعوم على الرسم والعادة من غير سرف وإن لم يأذن لها الزوج والمولى بذلك.
وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل هل يتصدق العبد؟ قال: بالرغيف ونحوه. وفي " الفتاوى الصغرى " العبد المأذون يملك التبرعات اليسيرة حتى يملك التصدق بما دون الدرهم ولا يملك التصدق بالدراهم ويملك اتخاذ الضيافة والإهداء، وهذا ليس بمقدر بدرهم بل بما يعده الناس سرفا ويملك الذي لا يعدونه سرفا في المأكولات، حتى لا يملك إلا هذا في غير المأكولات.
م: (لأنه) ش: أي لأن كلا من الإهداء اليسير والضيافة اليسيرة م: (من ضرورات التجارة) ش: أي من ضرورات الإذن في التجارة؛ لأن التاجر يحتاج إليه م: (استجلابا لقلوب المجاهزين) ش: أي لأجل استجلاب قلوب المجاهزين، وهو جمع مجاهز بالجيم والزاي المعجمة، والمجاهز عند العامة الغني من التجار، فكأنه أريد المجهز وهو الذي يبعث التجار بالجهاز وهو فاخر المتاع أو يسافر به م: (بخلاف المحجور عليه؛ لأنه لا إذن له أصلا، فكيف يثبت ما هو من ضروراته) ش: أي(11/144)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المحجور عليه إذا أعطاه المولى قوت يومه فدعا بعض رفقائه على ذلك الطعام فلا بأس به، بخلاف ما إذا أعطاه قوت شهر؛ لأنهم لو أكلوه قبل الشهر يتضرر به المولى. قالوا: ولا بأس للمرأة أن تتصدق من منزل زوجها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه؛ لأن ذلك غير ممنوع عنه في العادة.
قال: وله أن يحط من الثمن بالعيب مثل ما يحط التجار؛ لأنه من صنيعهم، وربما يكون الحط أنظر له من قبول المعيب ابتداء، بخلاف ما إذا حط من غير عيب؛ لأنه تبرع محض بعد تمام العقد فليس من صنيع التجار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من ضرورات الإذن.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المحجور عليه إذا أعطاه المولى قوت يومه فدعا بعض رفقائه على ذلك الطعام فلا بأس به، بخلاف ما إذا أعطاه قوت شهر؛ لأنهم لو أكلوه قبل الشهر يتضرر به المولى) ش: لأنه يحتاج إلى دفع قوت آخر، فإن لم يدفع يضيع العبد وكل ذلك ضرر له.
م: (قالوا) ش: أي المتأخرون من المشايخ م: (ولا بأس للمرأة أن تتصدق من منزل زوجها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه) ش: أي ويجوز الرغيف كالفلس وما دون الدرهم كالخميرة والبصل والملح، وكذا الأمة في بيت مولاها تطعم وتتصدق على الرسيم والعادة بدون الإذن صريحا للعرف والعادة.
فإن قلت: روى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته عام حجة الوداع «ولا تخرج المرأة من بيت زوجها، قالوا: ولا الطعام، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الطعام أفضل أموالكم ".» قلت: هذا محمول على الطعام المدخر كالحنطة ودقيقها، فأما غير المدخر فإنها تتصدق به على رسم العادة، وفيه الإذن دلالة.
م: (لأن ذلك) ش: أي التصدق بالشيء اليسير م: (غير ممنوع عنه في العادة) ش: لأن العادة جرت بذلك من غير إنكار من الزوج والولي.
[ما يجوز للعبد المأذون له في التجارة]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (وله) ش: أي وللمأذون م: (أن يحط من الثمن بالعيب) ش: يعني إذا ظهر عيب في المتاع الذي باعه ثم وقع الاتفاق على أن يحط من الثمن شيئا فإنه يجوز له ولكن م: (مثل ما يحط التجار؛ لأنه) ش: أي لأن الحط بسبب الغبن م: (من صنيعهم) ش: أي من صنيع التجار. وعند الثلاثة لا يجوز الحط أصلا م: (وربما يكون الحط أنظر له) ش: أي للمأذون أي أكثر نظرا له م: (من قبول المعيب ابتداء، بخلاف ما إذا حط من غير عيب؛ لأنه تبرع محض بعد تمام العقد فليس) ش: أي الحط من غير عيب م: (من صنيع التجار) ش: فلا يجوز.(11/145)
ولا كذلك المحاباة في الابتداء لأنه قد يحتاج إليها على ما بيناه. وله أن يؤجل في دين قد وجب له لأنه من عادة التجار. قال: وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء إلا أن يفديه المولى. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يباع ويباع كسبه في دينه بالإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا كذلك المحاباة في الابتداء) ش: يمكن أن يكون هذا جوابا عن سؤال مقدر تقديره أن يقال كيف جوزتم محاباة المأذون مع أن فيها حطا من الثمن. فأجاب بقوله ولا كذلك بيع المحاباة في ابتداء الأمر م: (لأنه) ش: أي لأن المأذون م: (قد يحتاج إليها) ش: أي إلى المحاباة م: (على ما بيناه) ش: يعني عند قوله: ولو حابى في مرض موته من جميع المال إلى قوله ولا وارث للعبد.
م: (وله) ش: أي وللمأذون م: (أن يؤجل في دين قد وجب له؛ لأنه من عادة التجار) ش: لأن التاجر قد يكون له على غير الجلي دين، ولو لم يمهله ماله لا يتمكن من الكسب، وإن أمهله أياما يتمكن من الكسب فيكون ذلك طريقا لخروج دينه عادة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء) ش: أي يبيعه القاضي بغير رضى المولى بالاتفاق عند أصحابنا أما عندنا فظاهر؛ لأن الحجر على المديون يجوز عندهما. وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز الحجر على المديون وجوز هاهنا العذر له؛ لأنه ليس في هذا حجر على المولى؛ لأن المولى محجور عن بيعه قبل ذلك، فإنه لو باع العبد المأذون المديون بغير رضاء الغرماء لا يقدر عليه. فكان هذا بمنزلة التركة المستغرقة بالدين، فإنه يبيع القاضي التركة على الورثة بغير رضاهم كقضاء الدين فكان هذا ولا يكون ذلك حجرا عليهم.
كذا في " الذخيرة " قيل: معنى قوله: يباع الغرماء ما يجبر القاضي المولى على البيع حتى يستقيم على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه نظر؛ لأن رواية الذخيرة تدل على أن القاضي يبيعه بدون رضى المولى فلا حاجة إلى هذا المعنى، فافهم م: (إلا أن يفديه المولى) ش: فلا يباع حينئذ لحصول المقصود.
م: (وقال زفر والشافعي رحمهما الله لا يباع) ش: في الدين ويتعلق الدين الفاضل من كسبه بذمته يؤخذ بعد العتق، كما لو استقرض بغير إذن سيده وبه قال أحمد يتعلق بذمة المولى؛ لأنه لزمه بمفاوضة السيد فيجب عليه كالنفقة في النكاح م: (ويباع كسبه في دينه بالإجماع) ش: كما في الحر المديون، وقال في " الطريقة البرهانية ": وأجمعوا على أن الرقبة تباع في الدين الاستهلاك. وقال الإمام علاء الدين العالم في طرفي الطريقة: قال علماؤنا رد قيمة العبد المأذون يباع بدين التجارة. وقال الشافعي: لا يباع ثم قال وعلى هذا الخلاف أرش يد العبد وما اكتسبه العبد من الصيد والحطب والحشيش عندنا يصرف إلى الدين وعنده لا يصرف.
وقال الكرخي في " مختصره ": قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: ما يلحق المأذون من(11/146)
لهما: أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له، وذلك في تعليق الدين بكسبه، حتى إذا فضل شيء منه على الدين يحصل له لا بالرقبة، بخلاف دين الاستهلاك؛ لأنه نوع جناية، واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن. ولنا: أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى، فيتعلق برقبته استيفاء كدين الاستهلاك، والجامع دفع الضرر عن الناس، وهذا؛ لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دين من شراء أو بيع أو استئجار استأجره أو غصب أو وديعة أو مضاربة أو بضاعة أو عارية بجحوده شيئا من ذلك أو دابة عقرها أو ثوب أحرقه أو مهر اشتراها وطئها فاستحقت فذلك كله لازم له يباع فيه، إلا أن يعديه مولاه فإن بيع ذلك اقتسم غرماؤه ثمنه بالحصص على قدر ديونهم بإقرار كان لذلك من العبد أو بينته فأثبته فأثبت ذلك عليه.
م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي رحمهما الله م: (أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له) ش: أي ليس غرضه تفويت مال؛ لأنه إنما أذن به ليكسب مالا من الخارج وليس غرضه أن يباع عند الأجل الدين م: (وذلك) ش: أي غرض المولى حاصل م: (في تعليق الدين بكسبه حتى إذا فضل شيء منه) ش: أي من كسبه م: (على الدين يحصل له) ش: أي للمولى م: (لا بالرقبة) ش: معطوف على قوله بكسبه يعني غرضه تعلق الدين بكسبه لا برقبته لما ذكرنا أن فيه تفويت مال قد كان.
م: (بخلاف دين الاستهلاك) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: إذا استهلك شيئا تعلق دينه برقبته يباع فيه، فهذا كذلك.
فأجاب بقوله بخلاف دين الاستهلاك م: (لأنه) ش: أي الاستهلاك م: (نوع جناية واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن) ش: إذ وجوبه بالجناية، ولهذا لو كان محجورا عليه بيع بذلك، وليس الكلام في ذلك، وإنما الكلام فيما يتعلق بالإذن.
م: (ولنا: أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى فيتعلق برقبته) ش: أي برقبة العبد م: (استيفاء) ش: أي لأجل الاستيفاء م: (كدين الاستهلاك والجامع) ش: يعني بين الاستهلاك وبين الدين الذي ركبه الناس في تصرفاته م: (دفع الضرر عن الناس) ش: فكما أنه يباع في دين الاستهلاك دفعا للضرر.
فكذا يباع في الديون التي ركبه دفعا للضرر م: (وهذا) ش: أي دفع الضرر م: (لأن سببه) ش: أي لأن سبب هذا الدين م: (التجارة) ش: لأن المقروض م: (وهي) ش: أي التجارة م: (داخلة تحت الإذن) ش: بلا خلاف، فإذا كان داخلا تحته كان ملتزما، فلو لم يتعلق برقبته استيفاء لكان إضرارا؛ لأن الكسب قد لا يوجد، والمعتق كذلك فيؤدي حقوق الناس.(11/147)
وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى، وينعدم الضرر في حقه بدخول المبيع في ملكه، وتعلقه بالكسب لا ينافي تعلقه بالرقبة فيتعلق بهما غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء إيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى، وعند انعدامه يستوفى من الرقبة،
وقوله في الكتاب ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويتعلق الدين برقبته) ش: جواب عن قولهما: إن غرض المولى من الإذن تحصيل مال ... إلى آخره، وبيانه: أن تعلق الدين برقبته م: (استيفاء حامل على المعاملة) ش: يعني حامل للغير على أن يعامل معه؛ لأن العاملين إذا عملوا ذلك يعاملون معه، فتكثر المعاملة ويكثر الربح، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، فإن خوف التوى يمنعهم عن ذلك.
م: (فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى) ش: أراد بهذا الوجه هو الذي ذكره من قوله وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة. فإن قيل لا يصلح أن يكون غرضا؛ لأنه يتضرر به، والضرر لا يكون غرضا.
أجاب بقوله م: (وينعدم الضرر في حقه) ش: أي في حق المولى م: (بدخول المبيع في ملكه) ش: أي في ملك المولى، وفيه إشكال وهو أن المبيع إن كان باقيا وفيه وفاء بالديون لا يتحقق بيع العبد وإن لم يكن باقيا أو كان وليس فيه وفاء بالديون لم يكن دخوله في ملكه دافعا للضرر.
وأجيب: عنه بأن المراد مبيع قبضه المولى حين لا دين على العبد ثم ركبته ديون، فإنه لا يجب على المولى رده، إن كان باقيا، ولا ضمانه إن لم يكن، بل يباع العبد بالدين، إن اختار المولى، ويكون المبيع جائزا لما فات من العبد.
وذكر في " المغني ": ولو أخذ المولى شيئا من كسبه بلا دين عليه، ثم لحقه دين لا يجب على المولى رد ما أخذ إن كان قائما وضمانه إن كان مستهلكا.
م: (وتعلقه بالكسب) ش: جواب عما يقال أجمعنا أنه تعلق بالكسب فكيف يتعلق بعد ذلك بالرقبة، تقريره أن تعلق الدين بالكسب م: (لا ينافي تعلقه بالرقبة) ش: لأنه لا منافاة بينهما م: (فيتعلق بهما) ش: أي بالكسب والدين م: (غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء إيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى) ش: نظراء للجانبين م: (وعند انعدامه) ش: أي وعند انعدام الكسب م: (يستوفى من الرقبة) ش: دفعا للضرر عن الناس.
م: (وقوله) ش: أي قول صاحب القدوري م: (في الكتاب) ش: أي " مختصر القدوري " م: (ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة) ش: بأن تزوج امرأة، ثم وطئها، ثم استحقت حيث وجب المهر عليه، ولا يظهر ذلك في حق المولى؛ لأن وجوبه بالنكاح، وهو ليس من التجارة.(11/148)
أو بما هو في معناها كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار وضمان المغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها وما يجب من العقر بوطء المشتراة بعد الاستحقاق لاستناده إلى الشراء فيلحق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما التزويج بإذن المولى يظهر في حقه تباعا فيه، كذا في " المبسوط ".
م: (أو بما هو في معناها) ش: أي أو دين وجب بسبب ما لسبب معه التجارة م: (كالبيع والشراء) ش: نظير دين التجارة م: (والإجارة والاستئجار وضمان المغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها) ش: نظير ما في هو معنى التجارة، وصورة الدين بالإجارة أن يؤاجر شيئا ويقبض الأجرة ولم يسلم المستأجر حتى انقضت المدة وجب عليه رد الأجرة.
فإن قلت: ما معنى ذكر الأمانات بعد الودائع؟
قلت: لأن الأمانة أعم من الوديعة كما في المضاربة والعارية والشركة والبضاعة، وهذه الأشياء عند الجحود بها تنقلب غصبا، فكان التزام هذه الأشياء ضمان غصب؛ لأن الأمين يصير غاصبا للأمانة بالجحود.
م: (وما يجب من العقر) ش: عطف على قوله كالبيع والشراء والإجارة.. إلى آخره، أي ورد الذي يجب على المأذون المديون من العقر م: (بوطء المشتراة بعد الاستحقاق) ش: أي وكالذي يجب على المأذون من العقر، ويجوز أن يكون وما يجب مبتدأة، ويكون قوله فيلحق به خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط أي فيلحق بالمذكور في كونه دينا وجب بما هو في معنى التجارة.
فعلى الوجه الأول: يكون محل " وما يجب " الجر؛ لأنه عطف على المحجور وتكون الفاء في قوله فيلحق به جواب شرط محذوف، أي إذا كان كذلك فيلحق به بأن اشترى جارية فاستحقت ثم وطئها فإنه يجب على العقر م: (لاستناده) ش: أي لاستناد وجوب العقر م: (إلى الشراء فيلحق به) ش: إذ لولا الشراء لوجب الحد فيضاف وجوب العقر إلى الشراء فيكون حكمه كحكمه.
بخلاف ما إذا تزوج امرأة فوطئها ثم استحقت، لأن وجوب المهر بالنكاح وهو ليس بتجارة، وكذلك يؤاخذ بضمان عقد الدابة واحتراق الثوب في الحال وتباع رقبته فيه.
وقيل: هذا محمول على ما إذا أخذ الدابة أو الثوب أولا حتى يصير غاصبا بالأخذ، ثم عقر الدابة وحرق الثوب. وأما إذا عقرها أو حرقه قبل القبض فينبغي على قول أبي يوسف أن لا يؤاخذ به في الحال، وتباع رقبته فيه، كذا في " الذخيرة ".(11/149)
قال: ويقسم ثمنه بينهم بالحصص لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة. فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به. ولا يباع ثانيا كيلا يمتنع البيع، أو دفعا للضرر عن المشتري ويتعلق دينه بكسبه سواء حصل قبل لحوق الدين أو بعده ويتعلق بما يقبل من الهبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويقسم ثمنه بينهم) ش: يعني إذا باع القاضي العبد يقسم ثمنه بين الغرماء م: (بالحصص لتعلق حقهم) ش: أي حق الغرماء م: (بالرقبة) ش: أي برقبة العبد م: (فصار كتعلقها) ش: الضمير يرجع إلى الحق، فإنما أنثه باعتبار الحقوق؛ لأن لكل غريم حقا فصار تقديره كتعلق حقوق الغرماء م: (بالتركة) ش: أي بتركة الميت، فإن لم يكن بالثمن وفاء يضرب كل غريم في الثمن بقدر حقه كالتركة إذا ضاقت عن إيفاء حقوق الغرماء.
م: (فإن فضل شيء من ديونه) ش: يعني إن بقي شيء من ديون العبد م: (طولب به بعد الحرية لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به) ش: أي بالفاضل من الدين لا سبيل لهم عليه؛ لأنه صار ملكا للمشتري والدين ما وجب بإذنه فلا يظهر في حقه م: (ولا يباع ثانيا) ش: أي لا يباع العبد ثاني مرة إذا لم يف ثمن المأذون بالديون.
م: (كيلا يمتنع البيع) ش: الأول إذ لو علم المشتري أنه يباع عليه لا يشتريه فيمتنع البيع الأول فيتضرر الغرماء م: (أو دفعا للضرر عن المشتري) ش: لأنه لم يأذن له في التجارة فلم يكن وصيا ببيعه بسبب الدين فإنه يباع عليه مع ذلك وإن تضرر به، ولا يلزم مع لو اشتراه البائع الإذن فإنه لا يباع عليه ثانيا وإن كان راضيا بالبيع.
لأن الملك قد تبدل وتبدل الملك كتبدل الذات بخلاف دين نفقة المرأة، فإنه يباع فيها مرة بعد أخرى؛ لأنها تجب شيئا فشيئا، بخلاف المهر فإنه إذا بيع في مهر ولم يف الثمن لا يباع ثانيا، ولا بيع في جميع المهر ويطالب بالباقي بعد العتق، كذا ذكره الإمام التمرتاشي.
م: (ويتعلق دينه) ش: أي دين المأذون بسبب التجارة م: (بكسبه سواء حصل) ش: أي الكسب م: (قبل لحوق الدين أو بعده) ش: وهذا إشارة إلى بيان الكسب الذي يبدأ به والذي لا يبدأ، فالكسب الذي لم ينزعه المولى عن يده يتعلق به الدين سواء كان حصل قبل لحوق الدين أو بعده م: (ويتعلق) ش: أي دين المأذون م: (بما يقبل من الهبة) ش: أو الصدقة قبل لحوق الدين وبعده، وبه قال الشافعي في الأصح.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إلا به وبه قال الشافعي في قول والهبة للمولى لا حق للغرماء فيها؛ لأنها ليست من التجارة وجوب الدين عليه بسبب التجارة فكانت كسائر أملاك المولى. ألا ترى أنها لو ولدت ثم لحقها دين لا يتعلق بالولد.(11/150)
لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ ولا يتعلق بما انتزعه المولى من يده قبل الدين لوجود شرط الخلوص له وله أن يأخذ غلة مثله بعد الدين لأنه لو لم يمكن منه يحجر عليه فلا يحصل الكسب، والزيادة على غلة المثل يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها وتقدم حقهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن المولى إنما يخلفه) ش: أي إنما يخلف عبد المأذون م: (في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ) ش: فكان ككسب غير منتزع، وكالوارث فإنه لا يملك شيئا من التركة إلا بشرط الفراغ من دينه. بخلاف الولد؛ لأنه ليس من كسبها كما أن نفسها ليست من كسبها فكذا الولد؛ لأنه حر متولد من عينها فالحق يتعلق بكسبها، حتى لو لحق الدين ثم ولدت يتعلق؛ لأن نفسها تباع في الدين، فكذا ولدها م: (ولا يتعلق) ش: أي الدين م: (بما انتزعه المولى من يده قبل الدين لوجود شرط الخلوص له) ش: أي للمولى وهو خلوص ذمة العبد عن الدين حال أخذ المولى ذلك، فإنه إذا لم يكن على العبد دين فما أخذه المولى منه يكون خالص ملكه، ويلحق بسائر أموال المولى لا حق لغيره فيه.
فإن قلت: يشكل بما إذا كان على العبد دين خمسمائة وله ألف واحدة مع المولى ثم لحقه دين خمسمائة أخرى فإنه يسترد الألف من المولى وإن كان أخذ الخمسمائة قبل لحوق الدين.
قلت: كل واحد من الخمسمائة صالح لأداء الدين فيكون أخذ المولى الألف بغير حق فيؤخذ منه، وعند الأخذ هنا لا دين عليه.
م: (وله) ش: أي للمولى م: (أن يأخذ غلة مثله) ش: أي غلة مثل العبد، يعني يأخذ من مثله من الضريبة التي ضربها عليه في كل شهر، والغلة ما يحصل من زرع أرض أو كراها أو أجرة غلام أو نحو ذلك، يقال أغلت الضيعة فهي مغلة م: (بعد الدين) ش: أي بعد لزوم الدين عليه كما كان يأخذها قبل ذلك استحسانا.
وفي القياس لا يجوز؛ لأن الدين مقدم على حق المولى في الكسب. وجه الاستحسان أن في ذلك نفع الغرماء، وأن حقهم يتعلق بما كسبه ولا يحصل الكسب لإبقاء الإذن في التجارة.
م: (لأنه) ش: أي لأن المولى م: (لو لم يمكن منه) ش: أي من أخذ الغلة م: (يحجر عليه) ش: أي على العبد م: (فلا يحصل الكسب) ش: فيتضرر الغرماء م: (والزيادة على غلة المثل) ش: أي مثل العبد الغني إذا أخذ منه مالا يكون غلة مثله م: (يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها) ش: أي الزيادة؛ لأنه لا يعد ذلك من باب تحصيل الغلة م: (وتقدم حقهم) ش: أي ولتقدم حق الغرماء في تلك الزيادة.(11/151)
قال: فإن حجر عليه لم ينحجر حتى يظهر حجره فيما بين أهل سوقه؛ لأنه لو انحجر لتضرر الناس به لتأخير حقهم إلى ما بعد العتق لما لم يتعلق برقبته وكسبه وقد بايعوه على رجاء ذلك، ويشترط علم أكثر أهل سوقه حتى لو حجر عليه في السوق، وليس فيه إلا رجل أو رجلان لم ينحجر. ولو بايعوه جاز، وإن بايعه الذي علم بحجره ولو حجر عليه في بيته بمحضر من أكثر أهل سوقه ينحجر، والمعتبر شيوع الحجر واشتهاره فيقام ذلك مقام الظهور عند الكل كما في تبليغ الرسالة من الرسل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن حجر عليه) ش: أي على عبد المأذون م: (لم ينحجر) ش: أي لا يصير محجورا م: (حتى يظهر حجره فيما بين أهل سوقه؛ لأنه لو انحجر) ش: يعني بمجرد الحجر م: (لتضرر الناس به لتأخير حقهم إلى ما بعد العتق لما لم يتعلق برقبته وكسبه) ش: لأن العبد إن اكتسب شيئا أخذه المولى، وإن لحقه دين أقام البينة أنه كان قد حجر عليه فيؤخر حقوقهم إلى ما بعد العتق وهو موهوم م: (وقد بايعوه على رجاء ذلك) ش: أي على رجاء تعلق حقهم برقبته أو كسبه فيكون على الإذن إلى أن يعلم حجره.
م: (ويشترط علم أكثر أهل سوقه) ش: لأن في تبليغ عزل الجميع حرجا عظيما ليس في وسع المولى، والتكليف بحسب الوسع. وقال الشافعي: يصلح الحجر بغير علم العبد وأهل السوق كما في عزل الوكيل؛ لأن الإذن عنه نيابة كالوكالة
وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله وفي " الذخيرة " اشتراط علم أكثر أهل السوق بحجره في الحجر القصدي، أما لو ثبت الحجر ضمنا لا يشترط علمهم ولا علم واحد منهم حتى لو باع المولى العبد المأذون ينحجر ضمنا لصحة البيع لزوال ملكه كالعزل الحكمي في الوكيل.
م: (حتى لو حجر عليه في السوق وليس فيه) ش: أي والحال أنه ليس في السوق م: (إلا رجل أو رجلان لم ينحجر ولو بايعوه جاز) ش: لأنه غير محجور عليه م: (وإن بايعه الذي علم بحجره) ش: أن هذه للوصل؛ لأن صحة الحجر التشهير ولم يوجد، وإذ المشروط لا يثبت بدون شرطه؛ لأن الحجر ضد الإذن، فكما أن الإذن لا يقبل التخصيص فكذا الحجر، بخلاف خطاب الشرع إذا علم بحجر واحد حيث لا يقدر في تركه؛ لأن حكمه يثبت في حق من علم به ويقبل التخصيص.
م: (ولو حجر عليه في بيته بمحضر من أكثر أهل سوقه ينحجر، والمعتبر شيوع الحجر واشتهاره فيقام ذلك) ش: أو الشيوع والاشتهار م: (مقام الظهور) ش: أي في ظهور الحجر م: (عند الكل) ش: دفعا للحرج م: (كما في تبليغ الرسالة من الرسل) ش: فإن الشيوع والاشتهار فيها، فيقام مقام(11/152)
ويبقى العبد مأذونا إلى أن يعلم بالحجر كالوكيل إذا لم يعلم بالعزل، وهذا؛ لأنه يتضرر به حيث يلزمه قضاء الدين من خالص ماله بعد العتق وما رضي به، وإنما يشترط الشيوع في الحجر إذا كان الإذن شائعا. أما إذا لم يعلم به إلا العبد ثم حجر عليه بعلم منه ينحجر؛ لأنه لا ضرر فيه.
قال: ولو مات المولى أو جن أو لحق بدار الحرب مرتدا صار المأذون محجورا عليه؛ لأن الإذن غير لازم، وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء، هذا هو الأصل، فلا بد من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء وهي تنعدم بالموت والجنون، وكذا باللحوق؛ لأنه موت حكما حتى يقسم ماله بين ورثته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظهور عند جميع الناس، فلذلك لزم الكل الإيمان بهم، والامتثال بأوامرهم.
م: (ويبقى العبد مأذونا، إلى أن يعلم بالحجر، كالوكيل) ش: إذا عزل يبقى على وكالته م: (إذا لم يعلم بالعزل) ش: لأن في انعزاله قبل العلم ضررا فاحشا.
م: (وهذا) ش: أي بقاؤه على الإذن إلى العلم بالعزل م: (لأنه يتضرر به) ش: أي لأن العبد يتضرر، بالعزل المذكور م: (حيث يلزمه قضاء الدين من خالص ماله بعد العتق وما رضي به) ش: أي العبد ما رضي بلزوم الدين عليه.
م: (وإنما يشترط الشيوع في الحجر إذا كان الإذن شائعا) ش: لئلا يتضرر لما قلنا م: (أما إذا لم يعلم به) ش: أي بالإذن م: (إلا العبد ثم حجر عليه بعلم منه) ش: أي ثم حجر المولى عليه حجرا متلبسا بعلم من العبد م: (ينحجر؛ لأنه لا ضرر فيه) ش:.
[موت مولى العبد المأذون أو جنونه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو مات المولى أو جن) ش: المراد الجنون المطلق، حتى إذا لم يكن مطلقا بأن يجن ويفيق لا ينحجر، واختلفوا في المطبق، فقال محمد مأذون الشهر غير مطبق، وشهرا فصاعدا مطبق، ثم رجع وقال المأذون السنة غير مطبق، وما فوقها مطبق.
وعن أبي يوسف أكثر السنة فصاعدا مطبق، وما دونه لا م: (أو لحق بدار الحرب مرتدا صار المأذون محجورا عليه؛ لأن الإذن غير لازم) ش: ولهذا يملك المولى إبطاله م: (وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء) ش: وفي الابتداء اشتراط أهلية المولى للإذن، فكذا في البقاء، ثم بهذه الأشياء تنعدم الأهلية فكان محجورا م: (هذا هو الأصل) ش:.
أشار به إلى قوله وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء م: (فلا بد من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء وهي) ش: أي أهلية الإذن م: (تنعدم بالموت والجنون، وكذا باللحوق؛ لأنه موت حكما حتى يقسم ماله بين ورثته) ش: فلا يقسم المال بين الورثة إلا بموت المورث إما حقيقة أو حكما.(11/153)
قال: وإذا أبق العبد صار محجورا عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبقى مأذونا لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن فكذا لا ينافي البقاء وصار كالغصب ولنا أن الإباق حجر دلالة لأنه إنما يرضى بكونه مأذونا على وجه يتمكن من تقضية دينه بكسبه بخلاف ابتداء الإذن؛ لأن الدلالة لا معتبر بها عند وجود التصريح بخلافها وبخلاف الغصب؛ لأن الانتزاع من يد الغاصب متيسر
قال: وإذا ولدت المأذون لها من مولاها فذلك حجر عليها خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو يعتبر البقاء بالابتداء ولنا: أن الظاهر أنه يحصنها بعد الولادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو أبق العبد المأذون له في التجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أبق العبد صار محجورا عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبقى مأذونا) ش: فلا ينحجر.
وقال مالك وأحمد وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا ذكره في " المبسوط " م: (لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن) ش: حتى لو أذن الآبق يجوز؛ لأن الإذن باعتبار ملكه، ولا يختل ذلك بالإباق م: (فكذا لا ينافي البقاء) ش: يعني يبقى إذنه بعد إباقه م: (وصار كالغصب) ش: يعني إن المولى لو أذن للعبد المغصوب يصح، ولو غصب العبد المأذون لا يبطل الإذن، كذلك هاهنا.
م: (ولنا أن الإباق حجر دلالة) ش: لأن الإذن مقيد دلالة بشرط قدرة المولى على قضاء ديونه من كسبه، وهو معنى قوله م: (لأنه) ش: أي لأن المولى م: (إنما يرضى بكونه مأذونا على وجه يتمكن من تقضية دينه) ش: أي دين العبد م: (بكسبه) ش: لو لحقه الدين، ولما أبق لا يتمكن من ذلك لجواز إتلاف العبد الاكتساب عند وجود التصريح.
م: (بخلاف ابتداء الإذن؛ لأن الدلالة لا معتبر بها عند وجود التصريح بخلافها) ش: أي الحجر يكون هنا دلالة، ولا اعتبار للدلالة عند التصريح بخلافها م: (وبخلاف الغصب؛ لأن الانتزاع من يد الغاصب متيسر) ش: باستدعاء القاضي أو السلطان عليه، حتى لو لم يمكن الانتزاع من يده بأن جحد الغاصب ولا بينة لا يصح ابتداء الإذن ولا بقاؤه، ذكره في " الذخيرة ". وإن عاد من الإباق هل يعود الإذن، لم يذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصحيح أنه لا يعود.
[الاستيلاد وأثره على الإذن والحجر]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا ولدت المأذون لها من مولاها فذلك حجر عليها) ش: أي الاستيلاد حجر على الأمة، قال المحبوبي: تأويل المسألة إذا استولدها من غير تصريح الإذن حتى لو قال بعد الاستيلاد لا أزيد الحجر عليها لا تنحجر م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو يعتبر البقاء بالابتداء) ش: يعني زفر يعتبر البقاء بالابتداء، أو يعني إذا أذن لأم الولد ابتداء يجوز، فكذا إذا صارت الأمة أم ولد وهو القياس، وهو قول الثلاثة أيضا. م: (ولنا: أن الظاهر أنه يحصنها) ش: أي أن المولى يحصن الأمة م: (بعد الولادة) ش: فلا يريد خروجها واختلاطها(11/154)
فيكون دلالة الحجر عادة بخلاف الابتداء؛ لأن الصريح قاض على الدلالة، ويضمن المولى قيمتها إن ركبتها ديون لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء، إذ به يمتنع البيع، وبه يقضى حقهم. قال: وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها فدبرها المولى فهي مأذون لها على حالها لانعدام دلالة الحجر، إذ العادة ما جرت بتحصين المدبرة، ولا منافاة بين حكميهما أيضا، والمولى ضامن لقيمتها لما قررناه في أم الولد. قال: فإذا حجر على المأذون فإقراره جائز فيما في يده من المال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومعناه أن يقر بما في يده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالناس م: (فيكون دلالة الحجر عادة) ش: أي فيكون تحصنه إياها دلالة الحجر عليها من حيث العادة ودلالة العادة معتبر عند عدم الصريح، بخلاف ما ترى أن تقدم المائدة بين يدي إنسان يجعل إذنا في التناول عرفا وعادة. قال: فأما إذا قال بعد التقديم لا تأكل لم يكن ذلك إذنا كذا في " المبسوط " م: (بخلاف الابتداء؛ لأن الصريح قاض على الدلالة) ش: يعني بخلاف ما إذا أذن لأم الولد ابتداء حيث يجوز؛ لأنه صريح فلا اعتبار للدلالة عندنا.
م: (ويضمن المولى قيمتها إن ركبتها ديون لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء، إذ به) ش: أي بالاستيلاد م: (يمتنع البيع، وبه) ش: أي وبالبيع م: (يقضي حقهم) ش: أي حق الغرماء.
م: (قال) ش: أي القدوري: ومحمد في " الجامع الصغير " م: (وإذا استدانت المأذون لها أكثر من قيمتها) ش: قيد بكونها أكثر لتظهر الفائدة في أن المولى يضمن قيمتها دون الزيادة عليها م: (فدبرها المولى فهي مأذون لها على حالها لانعدام دلالة الحجر، إذ العادة ما جرت بتحصين المدبرة ولا منافاة بين حكميهما أيضا) ش: أي حكم الإذن والتدبير؛ لأن بالتدبير يثبت حق العتق وإن كان حق العتق لا يؤثر في مكان الحجر عليه م: (والمولى ضامن لقيمتها لما قررناه في أم الولد) ش: أشار به إلى قوله لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإذا حجر في المأذون فإقراره جائز فيما في يده من المال عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني إقراره لغير مولاه بما في يده؛ لأنه لو أقر باستهلاك رقبته لا يجوز بالإجماع، حتى إذا لم يف ما في يده لا تباع رقبته بالإجماع ولا فيما انتزعه المولى من يده قبل الحجر. وكذا لو كان دينه وقت الإذن مستغرقا لما في يده فأقر بعد حجره بدين آخر لا يصدق بالإجماع. وكذا لو كان الحجر عليه بسبب بيع المولى ثم أقر في يد المشتري بدين عليه لا يصدق بالإجماع. وكذا لو كان في يد كسبه عبد بالاحتطاب والاصطياد ونحوهما مما هو ليس بتجارة لا يصدق بالإجماع.
م: (ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري فإقراره جائز م: (أن يقر بما في يده أنه أمانة لغيره أو غصب منه، أو يقر بدين عليه فيقضي مما في يده) ش: إنما فسر، بهذا التفسير؛ لأن مطلق الإقرار بما(11/155)
أنه أمانة لغيره أو غصب منه، أو يقر بدين عليه فيقضي مما في يده. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إقراره، لهما: أن المصحح لإقراره إن كان هو الإذن فقد زال بالحجر، وإن كان اليد فالحجر أبطلها؛ لأن يد المحجور غير معتبرة. وصار كما إذا أخذ المولى كسبه من يده قبل إقراره أو ثبت حجره بالبيع من غيره، ولهذا لا يصح إقراره في حق الرقبة بعد الحجر. وله: أن المصحح هو اليد، ولهذا لا يصح إقرار المأذون فيما أخذه المولى من يده، واليد باقية حقيقة، وشرط بطلانها بالحجر حكما فراغها عن حاجته وإقراره دليل تحققها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في يده أن يقيم منه المغصوب، والديون لا الأمانات، فلهذا قدم ذكر الأمانة فتبين المراد منه فافهم. قوله فيقضي مما في يده أي يقضي للمقر له من الذي في يده.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إقراره) ش: وبه قالت الثلاثة ويؤخذ به بعد العتق وما في يده لمولاه م: (لهما: أن المصح لإقراره إن كان هو الإذن فقد زال بالحجر، وإن كان اليد فالحجر أبطلها) ش: أي اليد م: (لأن يد المحجور غير معتبرة) ش: شرعا.
فإن قيل: لا نسلم أن يده غير معتبرة فإنه لو استودع وديعة ثم غاب ليس لمولاه أخذها والمسألة في " المبسوط ". ولو كانت غير معتبرة كانت الوديعة كثوب ألقته الريح في حجر رجل وكان حضور العبد وغيبته سواء، أجيب بأن تأويلها إذا لم يعلم المودع أن الوديعة كسب العبد، أما إذا علم ذلك فللمولى أخذه، وكذا إذا علم أنه مال المولى ولم يعلم بأنه كسب العبد.
م: (وصار كما إذا أخذ المولى كسبه من يده قبل إقراره) ش: أي حكم إقراره بما في يده لغير المولى، كما إذا أخذ المولى ... إلى أخره حيث لا يسمع إقراره فيه بالاتفاق م: (أو ثبت حجره بالبيع من غيره) ش: أي أو صار كما إذا ثبت حجر العبد يبيعه مولاه من غيره فإنه لا يصح إقراره أيضا م: (ولهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لا يصح إقراره في حق الرقبة بعد الحجر) ش: يعني إذا أقر بعد الحجر بمال لا يصح هذا الإقرار في حق الرقبة حتى لا يباع به بالاتفاق.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن المصحح) ش: لإقراره م: (هو اليد، ولهذا لا يصح إقرار المأذون فيما أخذه المولى من يده) ش: لزوال المصحح م: (واليد) ش: أي يد العبد م: (باقية حقيقة) ش: وهو ظاهر؛ لأن الكلام في الإقرار بما في يده م: (وشرط بطلانها بالحجر حكما فراغها عن حاجته) ش: أي شرط بطلان اليد بالحجر من حيث الحكم فراغ اليد عن حاجته م: (وإقراره دليل تحققها) ش: أي تحقق الحاجة.
ولقائل أن يقول دليل تحقق الحاجة مطلقا أو عند صحته، والأول ممنوع، والثاني مسلم، ولكن صحة هذا الإقرار في حيز النزاع فلا يصح أخذه في الدليل. والجواب أن مطلقه دليل تحققها حملا لحال المقر على الصلاح.(11/156)
بخلاف ما إذا انتزعه المولى من يده قبل الإقرار لأن يد المولى ثابتة حقيقة وحكما فلا تبطل بإقراره وكذا ملكه ثابت في رقبته فلا يبطل بإقراره من غير رضاه وهذا بخلاف ما إذا باعه لأن العبد قد تبدل بتبدل الملك على ما عرف فلا يبقى ما ثبت بحكم الملك ولهذا لم يكن خصما فيما باشره قبل البيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: لو كان إقراره دليل تحقيقها يصح بما انتزعه المولى من يده قبل الإقرار.
أجيب: بأن يد المولى ثابتة حقيقة وحكما. أما حقيقة فلأن الكلام فيما انتزعه من يده، وأما حكما فلأن النزع كان قبل ثبوت الدين فلا تبطل يده بإقراره؛ لأنه إقرار بما ليس في يده أصلا وهو باطل.
م: (بخلاف ما إذا انتزعه المولى من يده قبل الإقرار) ش: هذا وما بعده إشارة إلى جواب عما استشهد أبو يوسف ومحمد رحمهما الله به من المسائل الاتفاقية م: (لأن يد المولى ثابتة حقيقة) ش: وهو ظاهر، لأنه في يده وهو ملكه م: (وحكما) ش: وهو أنه قبضه قبل ظهور الدين م: (فلا تبطل) ش: أي يد المولى م: (بإقراره) ش: أي بإقرار العبد.
م: (وكذا ملكه ثابت في رقبته فلا يبطل بإقراره من غير رضاه) ش: أي من غير رضى المولى إذ لا يد للعبد في رقبته بعد الحجر م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من الحكم م: (بخلاف ما إذا باعه) ش: أي باع المأذون وفي يده كسب فأقر فإنه لا يصح م: (لأن العبد قد تبدل بتبدل الملك) ش: أي لأنه صار كعبد آخر لتجدد الملك فصار بمنزلة شخص آخر بحكم تبدل الملك م: (على ما عرف) ش: إشارة إلى «حديث بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فهو لها صدقة ولنا هدية» فإن الحكم فيه تبدل بتبدل الملك على ما عرف في موضعه م: (فلا يبقى) ش: أي إذا كان الأمر كذلك لا يبقى للعبد المأذون بعد بيعه م: (ما ثبت بحكم الملك) ش: أي ما ثبت له من حكم الإذن الذي كان ثابتا عليه للمولى بحكم أنه ملك المولى فلا جرم لم يصح إقراره بما في يده بعد البيع لعدم إبقاء الإذن.
م: (ولهذا) ش: توضيح لتبدل العبد بتبدل الملك م: (لم يكن) ش: العبد م: (خصما فيما باشره قبل البيع) ش: أي لم يكن خصما في حقوق عقد باشره عند الأول قبل بيعه من التسلم والتسليم والرد بالعيب.
وإن كان خصما فيها بعد الحجر قبل البيع، وعلى هذا إذا حجر المأذون وفي يده ألف فأقر بعدما أذن له ثابتا بألف لا يلزمه في الإذن الأول قضاء من ذلك الألف عنده، وعندهما هذا الألف للمولى ويصح هذا الإقرار فيؤمر المولى بقضاء دين أو يباع. وفي " الأسرار " وعلى هذا الخلاف إذا حجر الصبي المأذون وفي يده كسب فيقر به يصح عنده خلافا لهما.(11/157)
قال: وإذا لزمته ديون تحيط بماله ورقبته لم يملك المولى ما في يده ولو أعتق من كسبه عبدا لم يعتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يملك ما في يده ويعتق وعليه قيمته لأنه وجد سبب الملك في كسبه وهو ملك رقبته، ولهذا يملك إعتاقها ووطء الجارية المأذون لها، وهذا آية كماله بخلاف الوارث لأنه يثبت الملك له نظرا للمورث والنظر في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ديون العبد المأذون له في التجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا لزمته ديون تحيط بماله ورقبته لم يملك المولى ما في يده) ش: بأن كان قيمته ألفا فاشترى عبدا يساوي ألفا وعليه ألفا درهم، قيد بقوله تحيط بماله ورقبته.
لأنه إذا لم يحط بشيء من ذلك يملك المولى ما في يده وينفذ عتقه بالإجماع على ما يجيء في الكتاب وإذا أحاط بماله دون رقبته لم يذكره في الكتاب. ونقل بعض الشارحين عن بيوع " الجامع الصغير " أن العتق فيه جائز.
م: (ولو أعتق من كسبه عبدا لم يعتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يملك ما في يده ويعتق) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يملك المولى ما في يده وينفذ عتقه، وبه قالت الثلاثة، م: (وعليه قيمته) ش: أي على المولى قيمة العبد للغرماء لتعلق حقهم به م: (لأنه وجد سبب الملك في كسبه وهو) ش: أي سبب الملك في الكسب م: (ملك الرقبة) ش: لأن ملك الأصل علة ملك الفرع م: (ولهذا) ش: أي ولأجل وجود سبب الملك م: (يملك) ش: المولى م: (إعتاقها) ش: أي الرقبة.
وفي بعض النسخ إعتاقه، أي العبد المأذون م: (ووطء الجارية المأذون لها) ش: بالغصب، أي ويملك وطء الجارية التي أذن لها.
ألا ترى أن المولى إذا وطئ جارية عبده المأذون فجاءت بولد فادعاه يثبت نسبه، وإن كان عليه دين يحيط بالإجماع ولا يغرم عقرهما، ولو لم يملك ينبغي أن يغرم عقرها م: (وهذا) ش: أي نفوذ إعتاقه وحل وطئه م: (آية كماله) ش: أي علامة كمال الملك؛ لأن الوطء لا يكون إلا في الملك الكامل، وكذلك العتق.
م: (بخلاف الوارث) ش: جواب عما يقال سلمنا ذلك، ولكن المانع متحقق وهو إحاطة الدين فإنها تمنع عن ذلك كما في التركة إذا استغرقتها الديون فإنها تمنع إعتاق الوارث.
فأجاب بقوله بخلاف الوارث إذا أعتق عبدا من التركة وهي مشغولة كلها بالدين حيث لا ينفذ م: (لأنه يثبت الملك له نظرا للمورث) ش: بإيصال ماله إلى أقرب الناس إليه، ولهذا يقدم الأقرب فالأقرب، ولا نظر للمورث في ذلك عند إحاطة الدين بتركته، بل الرعاية م: (والنظر في(11/158)
ضده عند إحاطة الدين بتركته. أما ملك المولى فما ثبت نظرا للعبد. وله: أن ملك المولى إنما يثبت خلافة عن العبد عند فراغه عن حاجته كملك الوارث على ما قررناه والمحيط به الدين مشغول بها فلا يخلفه فيه. وإذا عرف ثبوت الملك وعدمه فالعتق فريعته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضده) ش: أي في ضد ثبوت الملك للوارث وهو عدم ثبوت الملك له م: (عند إحاطة الدين بتركته) ش: وذلك لأن قضاء الدين فرض عليه وهو حائل بينه وبين ربه، والميراث بأصله.
وإذا كان سبب الملك النظر وقد فات الملك ولا عتق في غير الملك م: (أما ملك المولى ما ثبت نظرا للعبد) ش: حتى يراعى ذلك بعدم العتق، حتى يقضى دينه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن ملك المولى إنما يثبت خلافة عن العبد عند فراغه عن حاجة العبد) ش: لأنه متصرف لنفسه وقضيته أن يقع الكسب له وقوعه للمولى على سبيل الخلاف عنه، فكان من شرطه فراغه عن حاجته، ولهذا لو امتنع عن الإنفاق على عهده أمر بالاكتساب والإنفاق على نفسه ورد ما فضل عن حاجته إلى سيده.
م: (كملك الوارث على ما قررناه) ش: يعني في مسألة تعلق الدين بكسبه في قوله ويتعلق الدين بكسبه م: (والمحيط به الدين مشغول بها) ش: يعني المال الذي أحاط به الدين مشغول بالحاجة.
م: (فلا يحلفه فيه) ش: أي فلا يحلف المولى العبد في المحيط به الدين، يعني كما أن الدين المحيط بالتركة يمنع ملك الوارث في الرقبة، فكذلك الدين المحيط بالكسب، والرقبة يمنع ملك المولى؛ لأن الخلافة في الموضعين لانعدام أهلية الملك في المال، فالميت ليس بأهل للمالكية كالرقيق؛ لأن المالكية عبارة عن القدرة والموت والرق ينافيان ذلك، بل منافاة الموت أظهر والميت جعل كالمالك حكما لقيام حاجته إلى قضاء ديونه فكذلك الرقيق.
م: (وإذا عرف ثبوت الملك) ش: عندهما م: (وعدمه) ش: أي عدم ثبوت الملك عنده، عرف العتق وعدمه لكونه من فرعه، أشار إليه بقوله م: (فالعتق فريعته) ش: أي فريعة الملك، فمن قال بثبوت الملك نفذ العتق، ومن لم يقل به أبطله، وكذا لو قال: هذا ابني يثبت نسبه إن كان مجهول النسب عندهما، ويعتق، وعنده لا يثبت ولا يعتق.
وكذا لو قتل عبد المأذون يغرم قيمته في ثلاث فإنه عنده؛ لأنه لم يملكه فصار كقتل عبد لأجنبي فكان ضمان جناية وعندها يغرم قيمته للحال؛ لأنه لو قتل بعد، أو تعلق به حق الغرماء فيضمن حقهم للحال، والفريعة بضم الفاء تصغير فرعة، أشار بهذا البنية إلى القلة بينهما على أن ثبوت الملك له فروع كثيرة وإن العتق فلا يسر منه فافهم.(11/159)
وإذا نفذ عندهما يضمن قيمته للغرماء لتعلق حقهم به، قال: وإن لم يكن الدين محيطا بماله جاز عتقه في قولهم جميعا، أما عندهما فظاهر، وكذا عنده؛ لأنه لا يجري عن قليله فلو جعل مانعاً لانسد باب الانتفاع. بكسبه فيختل ما هو المقصود من الإذن، ولهذا لا يمنع ملك الوارث والمستغرق يمنعه.
قال: وإن باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز، لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين يحيط بكسبه. وإن باعه بنقصان لم يجز مطلقاً لأنه متهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا نفذ) ش: أي العتق م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (يضمن قيمته للغرماء) ش: أي يضمن المولى قيمة العبد للغرماء م: (لتعلق حقهم به) ش: أي بالعبد.
م: (قال: وإن لم يكن الدين محيطا بماله جاز عتقه) ش: أي عتق المولى عبد عبده والمأذون م: (في قولهم جميعا، أما عندهما فظاهر) ش: لأن المولى عندهما يملك يده على ما مر م: (وكذا عنده) ش: أي وكذا يعتق عند أبي حنيفة م: (لأنه لا يعرى عن قليله) ش: أي عن قليل الدين م: (فلو جعل) ش: أي قليل الدين.
م: (مانعا) ش: هو ملك المولى ما في يد المأذون م: (لانسد باب الانتفاع بكسبه فيختل ما هو المقصود من الإذن) ش: وهو الانتفاع بكسبه م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (لا يمنع) ش: أي قليل الدين م: (ملك الوارث) ش: إذا كان على الميت قليل من الدين م: (والمستغرق يمنعه) ش: أي الدين المستغرق للتركة يمنع ملك الوارث.
لأن حقهم بعد وفاء الدين وهو حق الميت فيقدم، وبه قال الشافعي وأحمد رحمهما الله في رواية. وقال في قوله وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية لا يمنع استغراق التركة بالدين ملك الوارث، وبه قال مالك. وذكر في " المحيط " أن هذا قول أبي حنيفة الأول على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن باع) ش: أي العبد المأذون الذي لزمته الديون م: (من المولى شيئا بمثل قيمته جاز؛ لأنه كالأجنبي عن كسبه) ش: أي لأن المولى كالأجنبي عن كسب العبد المأذون المديون م: (إذا كان عليه دين يحيط بكسبه) ش: وهذا لو أتلف المولى ماله وأعتقه يضمن، وعليه قيمته، وهذا القيد يقيد أنه إذا لم يكن عليه دين لا يجوز بيعه من المولى شيئا ولا يبيع المولى منه شيئا حتى لا يثبت فيه الشفعة.
م: (وإن باعه بنقصان لم يجز) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء كان النقصان يسيرا أو فاحشا وعندهما يجوز ويجبر المولى على ما يجيء م: (لأنه) ش: أي لأن العبد م: (متهم(11/160)
في حقه بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا تهمة فيه وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حقه) ش: أي في حق المولى بميله إليه عادة م: (بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حيث يجوز مطلقا م: (لأنه لا تهمة فيه) ش: أي فيما إذا حابى الأجنبي، فإن قلت: قد تكون التهمة فيه موجودة.
قلت: هو موهوم؛ لأن مجرد الاحتمال لا يعتبر، وإنما المعتبر هو الاحتمال الناشئ عن الدليل.
م: (وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده) ش: يروى بالواو وبدونها.
قال السغناقي: هذا متعلق بأول المسألة وهو قوله: وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز هذا على تقدير الواو في قوله وبخلاف وليس بصحيح؛ لأنه معطوف بلا معطوف عليه، بل المناسب لذلك عدم الواو.
وقال: ويجوز أن يكون بدون الواو فيتعلق بحكم قوله المتصل به وهو قوله بخلاف ما إذا جاز الأجنبي، أي أنه يجوز في كل حال، أعني إذا كانت المحاباة يسيرة، أو فاحشة، أو كان البيع بمثل القيمة، وبيع المريض من وارثه، لا يجوز عند أبي حنيفة في كل حالة من هذه الأحوال، وهذا أوجه، ولكن النسخة بالواو وباباه قبل ذلك أوجه من حيث اللفظ بالقرب دون المعنى.
لأن المفهوم من قوله: بخلاف ما إذا حابى الأجنبي جواز المحاباة معه مطلقا، ولا يرجع المريض من وارثه بمثل القيمة إشكالا عليه، حتى يحتاج إلى جواب. والظاهر عدم الواو يجعله متعلقا بأول المسألة. وفي الكلام تعقيد، وتقدير كلامه هكذا: وإن باع من المولى شيئا بثمل القيمة جاز؛ لأنه كالأجنبي عن كسبه، إذا كان عليه دين بخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده ... إلى آخره، ثم يذكر بعد ذلك قوله: وإن باع المريض بنقصان لم يجز
إلى آخره.
قلت: الأوجه ما ذكره " تاج الشريعة " أن قوله وبخلاف ما إذا باع المريض نقص على أصل المسألة، وهو أن بيع المأذون من المولى بمثل القيمة جائز.
ولو باع المريض من الوارث بمثل القيمة لا يجوز.
قلت: ينبغي أن يأتي بالمسألة بلا واو؛ لأنه أول مسألة تورد نقضا على مسألة الكتاب،(11/161)
لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه، حتى كان لأحدهم الاستخلاص من الغرماء بأداء قيمته، أما حق الغرماء فيتعلق بالمالية لا غير فافترقا، وقالا: إن باعه بنقصان يجوز البيع، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة، وإن شاء نقض البيع. وعلى المذهبين اليسير من المحاباة والفاحش سواء. ووجه ذلك أن الامتناع لدفع الضرر من الغرماء، وبهذا يندفع الضرر عنهم، وهذا بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة، حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة والمولى يؤمر به؛ لأن البيع باليسير منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون قوله، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي؛ لأنه لبيان الفرق بين ما إذا باعه من المولى بنقصان لم يجز، ومع الأجنبي جاز، وإنما أدخل الواو فيه، لئلا يتوهم أنه نقص على بيع المريض من الأجنبي بالمحاباة فأدخل الواو فدفع هذا الوهم.
م: (لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه) ش: أي بعين مال الميت م: (حتى كان لأحدهم الاستخلاص من الغرماء بأداء قيمته) ش: إلى الغرماء م: (أما حق الغرماء فيتعلق بالمالية لا غير فافترقا) ش: أي المولى والمريض في جواز البيع من المولى بمثل القيمة دون الوارث.
م: (وقالا) ش: أبو يوسف ومحمد: م: (إن باعه بنقصان يجوز البيع، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة) ش: بإيصال الثمن إلى تمام القيمة م: (وإن شاء نقض البيع) ش: وتخصيصهما الحكم اختيار من المصنف لقول بعض المشايخ.
قيل: والصحيح أنه قول الكل؛ لأن المولى بسبيل من تخليص كسبه لنفسه بالقيمة بدون البيع، فلأن يكون له ذلك بالبيع أولى، فصار العبد في تصرفه مع مولاه كالمريض المديون في تصرفه مع الأجنبي.
م: (وعلى المذهبين) ش: أي مذهب أبي حنيفة ومذهب صاحبيه وهذا اعتراض بين الحكم والدليل لبيان تساوي المحاباة باليسير والكثير، فإن على مذهب أبي حنيفة م: (اليسير من المحاباة والفاحش سواء) ش: حتى إذا باع من مولاه بنقصان يسير أو كثير لا يجوز، فلا تخيير، وعلى مذهبهما يجوز، ولكن خير المولى بين تتميم القيمة أو نقص البيع.
م: (ووجه ذلك) ش: أو وجه الجواز مع التخيير م: (أن الامتناع) ش: عن البيع بالنقصان م: (لدفع الضرر من الغرماء، وبهذا) ش: أي بالتخيير م: (يندفع الضرر عنهم) ش: أي عن الغرماء م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من الجواز والتخيير م: (بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة، حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة والمولى يؤمر به؛ لأن البيع باليسير منها) ش: أي من المحاباة، هكذا هو في كتاب " تاج الشريعة ".(11/162)
متردد بين التبرع والبيع لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع في حق الأجنبي لانعدامها وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز أصلا عندهما، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة؛ لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى ولا إذن بالمحاباة في البيع مع الأجنبي وهو إذن بمباشرته بنفسه، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء وهذان الفرقان على أصلهما قال: وإن باعه المولى شيئا بمثل القيمة أو أقل جاز البيع لأن المولى أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على ما بيناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي بقية الشروح منهما، أي من المولى والأجنبي م: (متردد بين التبرع والبيع) ش: أما التبرع فلخلو البيع عن الثمن في قدر المحاباة وأما البيع م: (لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه) ش: أي اعتبرنا حكم هذا العقد م: (تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع) ش: أي حال كونه م: (في حق الأجنبي لانعدامها) ش: أي لانعدام التهمة.
م: (وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز عندهما أصلا، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة؛ لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى ولا إذن بالمحاباة في البيع مع الأجنبي وهو إذن) ش: أي المولى إذن، وهو فاعل من الإذن م: (بمباشرته بنفسه، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء) ش: وذلك لأجل الضرر.
م: (وهذان الفرقان على أصلهما) ش: أي الفرق بين المولى والأجنبي في حق المحاباة اليسيرة حيث يؤمر الأول بإزالتها دون الأجنبي، والفرق بينهما في الكثير حيث لا يجوز عندهما مع الأجنبي أصلا، ويجوز مع المولى. ويؤمر بإزالته في بعض النسخ، وهذا الفرقان بلفظ الإفراد على وزن فعلان بضم كغفران مصدر بمعنى الفرق فتكون النون مرفوعة.
وعلى الوجه الأول النون مكسورة؛ لأنها نون التثنية فتكسر على ما عرف، قال في " النهاية ": والأول أصح لوجود هذين العرفين على قولهما، وكونه مثبتا في النسخ المصححة، وإنما قال على أصلهما؛ لأن أبا حنيفة لم يجوزها، والبيع من المولى إلا بالغبن اليسير ولا بالفاحش لا يحتاج إلى هذا من الفريقين، وإنما يحتاج في فرق واحد بين البيع من الأجنبي بالغش الفاحش حيث جاز عنده، وبين البيع من المولى حيث لا يجوز والفرق ما ذكر في الكتاب.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن باعه المولى) ش: أي إن باع المولى من عبد المأذون المديون المستغرق م: (شيئا بمثل القيمة أو أقل جاز البيع) ش: بالإجماع م: (لأن المولى أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على ما بيناه) ش: في هذا الكتاب.(11/163)
ولا تهمة في هذا البيع، ولأنه مفيد فإنه يدخل في كسب العبد ما لم يكن فيه ويتمكن المولى من أخذ الثمن بعد أن لم يكن له هذا التمكن وصحة التصرف تتبع الفائدة فإن سلم إليه قبل قبض الثمن بطل الثمن؛ لأن حق المولى في العين من حيث الجنس فلو بقي بعد سقوطه يبقى في الدين ولا يستوجبه المولى على عبده بخلاف ما إذا كان الثمن عرضا؛ لأنه يتعين وجاز أن يبقى حقه متعلقا بالعين قال: وإن أمسكه في يده حتى يستوفي الثمن جاز؛ لأن البائع له حق الحبس في المبيع، ولهذا كان أخص به من سائر الغرماء وجاز أن يكون للمولى حق في الدين إذا كان يتعلق بالعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا تهمة في هذا البيع، ولأنه مفيد فإنه يدخل في كسب العبد ما لم يكن فيه) ش: أي في كسبه م: (ويتمكن المولى من أخذ الثمن بعد أن لم يكن له هذا التمكن وصحة التصرف تتبع الفائدة) ش: أراد جواز البيع يعتمد الفائدة، وقد وجدت فإنه يخرج من كسب العبد إلى ملك المولى ما كان المولى ممنوعا عنه قبل ذلك لحق الغرماء، ويدخل في كسب العبد ما لم يكن تعلق به حق.
وهذا الذي ذكره جميعه يمشي على قول الكل غير قوله؛ لأن المولى أجنبي عن كسبه، فإنه عندهما غير أجنبي على ما عرف.
م: (فإن سلم) ش: المبيع م: (إليه) ش: أي إلى العبد م: (قبل قبض الثمن بطل الثمن؛ لأن حق المولى) ش: ثابت م: (في العين من حيث الجنس) ش: لعدم تعلق حقه بمالية العين بعد البيع، والثابت في العين من حيث الجنس سقط بالتسلم فحق المولى سقط به م: (فلو بقي بعد سقوطه يبقى في الدين) ش: لكونه في مقابلة العين م: (ولا يستوجبه المولى على عبده) ش: أي لا يستحق المولى دينا على عبده، حتى لو أتلف شيئا من ماله لم يضمن.
وفي " المبسوط " هذا ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف، هذا إذا استهلك العبد المقبوض، فإنه كان قائما في يده للمولى أن يسترده حتى يستوفي الثمن من العبد.
م: (بخلاف ما إذا كان الثمن عرضا؛ لأنه يتعين) ش: أي حينئذ المولى أحق بذلك الثمن من الغرماء؛ لأنه بالعقد ملك العرض بعينه م: (وجاز أن يبقى حقه متعلقا بالعين) ش: وهو في يد عبده وهو أحق من الغرماء، كما لو غصب العبد شيئا من ماله أو أودع ماله عند عبده.
م: (قال: وإن أمسكه في يده) ش: أي إن حبس المولى البيع م: (حتى يستوفي الثمن جاز؛ لأن البائع له حق الحبس في المبيع، ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (كان أخص به من سائر الغرماء) ش: إذا كان المبيع قائما في يده، وفائدة كونه أخص أنه إذا مات المشتري قبل أداء الثمن يكون البائع أولى بالمبيع من غيره، كالرهن في يد المرتهن إذا مات الراهن يكون المرتهن أحق به من سائر الغرماء م: (وجاز أن يكون للمولى حق في الدين إذا كان يتعلق بالعين) ش: هذا جواب عما يقال(11/164)
ولو باعه بأكثر من قيمته يؤمر بإزالة المحاباة أو ينقض البيع كما بينا في جانب العبد؛ لأن الزيادة تعلق بها حق الغرماء.
قال وإذا أعتق المولى العبد المأذون وعليه ديون فعتقه جائز؛ لأن ملكه فيه باق والمولى ضامن بقيمته للغرماء؛ لأنه أتلف ما تعلق به حقهم بيعا واستيفاء من ثمنه وما بقي من الديون يطالب به بعد العتق؛ لأن الدين في ذمته وما لزم المولى إلا بقدر ما أتلف ضمانا فبقي الباقي عليه كما كان، فإن كان أقل من قيمته ضمن الدين لا غير، لأن حقهم بقدره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنتم قلتم: إن المولى لا يستوجب على عبده دينا فقد استوجب دينا في ذمة العبد حتى حبس المبيع لأجله. وتقرير الجواب أن يقال: يجوز أن يكون للمولى حق في الدين إذا تعلق بالعين كالمكاتب، فإن المولى استوجب عليه بدل الكتابة، وهو دين لما تعلق برقبته، وهذا؛ لأن البيع قبل التسليم يزيل العين عند ملك البائع ولا يزيل يده ما لم يستوف الثمن، فإذا كانت اليد باقية تعلق حقه بالعين من حيث هي وبالدين من حيث تعلقه بالعين.
م: (ولو باعه) ش: أي ولو باع المولى من عبد المأذون شيئا م: (بأكثر من قيمته يؤمر بإزالة المحاباة) ش: سواء كانت الزيادة قليلة أو كثيرة م: (أو ينقض البيع كما بينا في جانب العبد؛ لأن الزيادة تعلق بها حق الغرماء) ش: أشار بقوله كما بينا إلى قوله ويخير المولى بإزالة المحاباة إلى آخره، فالمصنف أطلق لفظ المحاباة بينهما من غير ذكر خلاف هذا وقع على اختيار صاحب " المبسوط " من الأصح.
وأما على رواية مبسوط شيخ الإسلام هذا البيع لا يجوز أصلا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا يرد التخيير عنده، وعندهم يجوز البيع مع التخيير. وفي " الكافي ": ولا يحتمل أن يكون المبيع فاسدا عند أبي حنيفة على قول بعض المشايخ كما في الفصل الأول.
[عتق العبد المأذون الذي عليه دين]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أعتق المولى العبد المأذون وعليه ديون فعتقه جائز) ش: أي والحال أن عليه ديون لزمته بسبب التجارة أو الغصب أو جحود الوديعة أو إتلاف المال فعتقه، أي إعتاقه جائز، ولا نعلم فيه خلافا م: (لأن ملكه فيه باق والمولى ضامن بقيمته للغرماء؛ لأنه أتلف ما تعلق به حقهم بيعا واستيفاء من ثمنه) ش: أي من جهة بيع العبد ومن جهة استيفاء الديون من ثمن العبد، فإذا كان كذلك فإنه يضمن قيمته بالغة ما بلغت إذا كان الدين مثلها أو أكثر منها علم بالدين، أو لم يعلم به م: (وما بقي من الديون يطالب به بعد العتق؛ لأن الدين في ذمته وما لزم المولى إلا بقدر ما أتلف ضمانا فبقي الباقي عليه كما كان) ش: انتصاب ضمانا على التمييز، أي من حيث الضمان م: (فإن كان) ش: أي الدين م: (أقل من قيمته ضمن الدين لا غير؛ لأن حقهم بقدره) ش: أي لأن حق الغرماء بقدر الدين.(11/165)
بخلاف ما إذا أعتق المدبر وأم الولد المأذون لهما، وقد ركبتهما ديون لأن حق الغرماء لم يتعلق برقبتهما استيفاء بالبيع فلم يكن المولى متلفا حقهم فلا يضمن شيئا قال فإن باعه المولى وعليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه فإن شاء الغرماء ضمنوا البائع قيمته، وإن شاءوا ضمنوا المشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا أعتق المدبر وأم الولد المأذون لهما، وقد ركبتهما ديون) ش: حيث لا ضمان عليه م: (لأن حق الغرماء لم يتعلق برقبتهما استيفاء بالبيع) ش: أي من حيث استيفاء الدين بواسطة البيع؛ لأنهما لا يقبلان النقل من ملك إلى ملك م: (فلم يكن المولى متلفا حقهم فلا يضمن شيئا قال) ش: أي في الجامع الصغير ": م: (فإن باعه المولى) ش: أي فإن باع المولى العبد المأذون له بثمن لا يفي بديون الغرماء بدون إذنهم م: (وعليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه) ش: أي والحال أن المأذون عليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه.
قيد بقوله: وغيبه؛ لأن الغرماء إذ قدروا على العبد كان لهم أن يبطلوا البيع إلا أن يقضي المولى ديونهم، فإذا لم يقدروا على العبد م: (فإن شاء الغرماء ضمنوا البائع قيمته، وإن شاءوا ضمنوا المشتري) ش: هذا الخيار إن كان الثمن أقل من القيمة.
أما إذا كان كثيرا أو مساويا فلا خيار لهم وهذا الضمان أيضا إذا كان البيع بغير إذن القاضي وبغير إذن الغرماء والدين حال، والثمن لا يفي بديونهم، حتى لو باعه بإذنهم أو بإذن القاضي أو الدين مؤجل أو بقي الثمن بديونهم لا ضمان على المولى في هذه الوجوه.
فإن قلت: حق الغرماء لحق المرتهن، وذلك يمنع الراهن من البيع سواء كان الدين حالا أو مؤجلا.
قلت: ليس كذلك إذ للمرتهن في الرهن ملك اليد وذلك قائم مقام التأصل في الدين، وبه يعجز الراهن عن التسليم وليس للغرماء حق ملك اليد في المأذون ولا في كسبه، وإنما لهم عن المطالبة بقضاء الدين وذلك متأخر إلى حلول الأجل.
فإن قلت: لم يجب على المولى الضمان بالبيع؛ لأن حقهم في ذلك، والمولى دفع المؤنة عنهم فصار كالوصي إذا باع التركة بغير إذن الغرماء فليس لهم أن يضمنوه.
قلت: حق الغرماء في بيع التركة لا غير.
أما هاهنا ليس لهم أن يبيعوه لجواز أن لا يصل إليهم حقهم بتقدير البيع.(11/166)
لأن العبد تعلق به حقهم حتى كان لهم أن يبيعوه إلا أن يقضي المولى دينهم والبائع متلف حقهم بالبيع والتسليم والمشتري بالقبض والتغييب فيخيرون في التضمين وإن شاءوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن؛ لأن الحق لهم والإجازة اللاحقة كالإذن السابق كما في المرهون فإن ضمنوا البائع قيمته ثم رد على المولى بعيب فللمولى أن يرجع بالقيمة ويكون حق الغرماء في العبد؛ لأن سبب الضمان قد زال وهو البيع والتسليم وصار كالغاصب إذا باع وسلم وضمن القيمة ثم رد عليه بالعيب كان له أن يرد على المالك ويسترد القيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن العبد تعلق به حقهم حتى كان لهم أن يبيعوه إلا أن يقضي المولى دينهم) ش: فحينئذ ليس لهم أن يبيعوه لوصولهم إلى حقهم م: (والبائع) ش: وهو المولى م: (متلف حقهم بالبيع والتسليم) ش: أي متلف حق الغرماء ببيع العبد الذي تعلق به حقهم والتسليم إلى المشتري م: (والمشتري بالقبض والتغييب) ش: أي والمشتري متلف أيضا بقبض العبد وتغييبه إياه م: (فيخيرون في التضمين) ش: أي إذا كان الأمر كذلك تخير الغرماء في تضمين البائع أو المشتري.
م: (وإن شاءوا أجازوا البيع) ش: هذا يدل على أن هذا البيع كان موقوفا.
وقال قاضي خان: وهذا البيع قبل إجازة الغرماء فاسد وليس بموقوف فعله على المأذون م: (وأخذوا الثمن؛ لأن الحق لهم والإجازة اللاحقة كالإذن السابق) ش: ولو كان البيع بإذنهم لم يكن هناك ضمان، فكذا إذا أجازوا.
فإن قلت: يشكل بما إذا كفل رجل عن غيره بغير إذنه. ثم إن أجازوا المكفول له لا يرجع الكفيل عليه.
قلت: لأنها لا تحتاج إلى الإذن فلا يؤثر الإذن فيها ولا كذلك هاهنا، فإن البيع يتوقف لزومه على إجازة الغرماء، فإذا وجدت أثر في اللزوم.
م: (كما في المرهون) ش: يعني الراهن إذا باع الرهن بلا إذن المرتهن، ثم أجاز المرتهن البيع يجوز فكذا هاهنا؛ لأن الإذن في الانتهاء كالإذن في الابتداء م: (فإن ضمنوا البائع قيمته) ش: أي إن ضمن الغرماء المولى البائع قيمة العبد الذي باعه م: (ثم رد على المولى بعيب فللمولى أن يرجع بالقيمة) ش: على الغرماء م: (ويكون حق الغرماء في العبد؛ لأن سبب الضمان قد زال وهو البيع والتسليم) ش: قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني إذا قبله بقضاء القاضي، لأن القاضي لما رده فقد فسخ العقد فيما بينهما فعاد إلى الحال الأول.
م: (وصار كالغاصب) ش: أي صار المولى هنا كالغاصب م: (إذا باع) ش: العين المغصوبة م: (وسلم وضمن القيمة ثم رد عليه بالعيب كان له أن يرد على المالك ويسترد القيمة) ش:(11/167)
كذا هذا. قال: ولو كان المولى باعه من رجل وأعلمه بالدين فللغرماء أن يردوا البيع لتعلق حقهم وهو الاستسعاء والاستيفاء من رقبته، وفي كل واحد منهما فائدة، فالأول تام مؤخر، والثاني ناقص معجل، وبالبيع يفوت هذه الخيرة، فلهذا لهم أن يردوه، قالوا: تأويله إذا لم يصل إليهم الثمن، فإن وصل ولا محاباة في البيع ليس لهم أن يردوه لوصول حقهم إليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي كان للغاصب أن يرد العين التي باعها وردت عليه بالعيب على المالك ويأخذ منه القيمة التي دفعها إليه بسبب الضمان.
م: (كذا هذا) ش: أي كالغاصب البائع أو حكم البائع كحكم الغاصب.
م: (قال: ولو كان المولى باعه من رجل وأعلمه بالدين) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في عبد لرجل عليه دين باعه من رجل وأعلمه بالدين وقبض الرجل ثم جاء الغرماء قال لهم: أن يردوا البيع، وإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: المشتري خصم ويقضى لهم بدينهم. انتهى.
قوله: وأعلمه أي المشتري بأن قال: هذا عبد مديون، وفائدة الإعلام سقوط خيار المشتري في الرد بعيب الدين، حتى يقع البيع لازما فيما بينهما، وإن لم يكن لازما في حق الغرماء، إذا لم يكن في ثمنه وفاء دينهم م: (فللغرماء أن يردوا البيع لتعلق حقهم وهو حق الاستسعاء والاستيفاء من رقبته) ش: أي من رقبة العبد بالاستسعاء، وينبغي أن تقدر كلمة به بعد قوله من رقبته، أي بالاستسعاء كما ذكرنا.
م: (وفي كل واحد منهما) ش: أي من الاستسعاء والاستيفاء م: (فائدة، فالأول) ش: أي الاستسعاء م: (تام مؤخر) ش: يعني آجل م: (والثاني) ش: أي البيع م: (ناقص معجل، وبالبيع يفوت هذه الخيرة) ش: أي الخيار م: (فلهذا لهم أن يردوه) ش: أي فلأجل ما ذكرنا للغرماء أن يردوا البيع.
م: (وقالوا) ش: أي المشايخ م: (تأويله) ش: أي تأويل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.: لهم أن يردوا البيع م: (إذا لم يصل إليهم الثمن) ش: بأن لا يفي الثمن بديونهم؛ لأنه كان لهم حق الاستسعاء إلى أن تصل إليهم ديونهم، ولهذا البيع لا يمكنهم الاستسعاء، فكان لهم أن ينقضوا البيع.
م: (فإن وصل) ش: أي الثمن إليهم م: (ولا محاباة في البيع ليس لهم أن يردوه) ش: أي البيع م: (لوصول حقهم إليهم) ش: قيل: في عبارته تسامح؛ لأن وصول الثمن إليهم مع(11/168)
قال: فإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري، معناه إذا أنكر الدين، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المشتري خصم، ويقضى لهم بدينهم، وعلى هذا الخلاف إذا اشترى دارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عدم المحاباة في البيع لا يستلزم نفي الرد لجواز أن يصل إليهم الثمن ولا محاباة في البيع، لكن لا يفي الثمن بديونهم فيبقى لهم، ولأن الرد للاستسعاء في الديون، وأجيب بأنهم قد رضوا بإسقاط حقهم حيث قبضوا الثمن فلم يبق لهم ولاية الرد وفيه نظر؛ لأنه يذهب بفائدة قوله ولا محاباة في البيع، فإنهم إذا قبضوا الثمن ورضوا به سقط حقهم وكان فيه محاباة.
ولعل الصواب أن يقال: قوله: ولا محاباة في البيع، معناه أن الثمن بقي بديونهم بدليل قَوْله تَعَالَى.
والثاني: ناقص معجل، فإنه إنما يكون ناقصا إذا لم يف بالديون.
فإن قيل: إذا باع المولى عبد الجاني بعد العلم بالجناية كان مختارا للرد، فما بال هذا لا يكون مختارا لقضاء الديون من ماله.
أجيب: بأن موجب الجناية الدفع على المولى، فإذا تعذر عليه بالبيع طولب به لبقاء الواجب عليه.
وأما الدين فهو واجب في ذمة العبد بحيث لا يسقط عنه بالبيع، ولا إعتاق حتى يؤاخذ به بعد العتق. فلما كان كذلك كان البيع من المولى بمنزلة أن يقول أنا أقضي دينه، وذلك عدة منه بالتبرع فلا يلزمه.
وفيه نظر؛ لأن قوله أنا أقضي دينه يحتمل الكفالة فلم يتعين عدة. الجواب: أن العدة أدنى الاحتمالين فيثبت به إلا أن يقوم الدليل على خلافه.
م: (قال: فإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري) ش: أي البائع والمولى م: (معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري م: (إذا أنكر) ش: أي المشتري م: (الدين) ش: قيد به؛ لأنه لو أقر المشتري بدينهم وصدقهم فلهم نقضه بلا خلاف إذا لم يف الثمن بديونهم. ذكره المحبوبي.
وكذا لو كان المشتري غائبا والبائع حاضرا فلا خصومة بينهم وبين البائع في رقبة العبد بلا خلاف، ذكره في " المبسوط " م: (وهذا) ش: أي عدم كون الخصومة بينهم وبين المشتري وهذا م: (عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال: أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المشتري خصم ويقضى لهم بدينهم) ش: أي يقضى للغرماء بدينهم م: (وعلى هذا الخلاف إذا اشترى دارا) ش:(11/169)
ووهبها وسلمها وغاب، ثم حضر الشفيع، فالموهوب له ليس بخصم عندهما خلافا له وعنهما مثل قوله في مسألة الشفعة لأبي يوسف أنه يدعي الملك لنفسه فيكون خصما لكل من ينازعه ولهما أن الدعوى تتضمن فسخ العقد وقد قام بهما فيكون الفسخ قضاء على الغائب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لها شفيع.
م: (ووهبها) ش: لرجل م: (وسلمها وغاب، ثم حضر الشفيع، فالموهوب له ليس بخصم عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلافا له) ش: أي لأبي يوسف م: (وعنهما) ش: أي، عن أبي حنيفة، ومحمد م: (مثل قوله) ش: أي مثل قول أبي يوسف م: (في مسألة الشفعة) ش؛ بأن يكون الموهوب له خصما. وهذا رواية ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأبي يوسف أنه) ش: أي المشتري م: (يدعي الملك لنفسه) ش: لأنه ممسك للعين، فكل من أمسك الشيء لنفسه يكون مالكا م: (فيكون خصما لكل من ينازعه) ش: ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا شراء فاسدا فجاء رجل فادعى أن العبد له فالمشتري خصم، لأنه في يده وهو مالك، فكذا هذا.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن الدعوى تتضمن فسخ العقد وقد قام بهما) ش: أي البائع والمشتري م: (فيكون الفسخ قضاء على الغائب) ش: فلا يجوز؛ لأن الحاضر ليس بخصم عنه.
فإن قلت: يشكل بما إذا ادعى رجل الملك على ذي اليد وهو يقول اشتريت من فلان الغائب، فإن ذا اليد يكون خصما، وإن كان القضاء على المشتري قضاء على الغائب.
قلت: فيما أوردت له يصير فسخا؛ لأنه لما أقام المدعي البينة على الملك ظهر أن البيع الذي جرى بين الغائب وبين ذي اليد لم يكن بيعا لكونه ملك المدعي، ولا كذلك هاهنا؛ لأن البيع من المولى بالقضاء بالرد قضاء على الغائب وعلى المولى بالفسخ أو كقضاء على الغائب لا يجوز.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي في شرح " الجامع الكبير " في كتاب الشفعة: رجل اشترى دارا فوهبها لآخر وغاب المشتري بعدما قبضها الموهوب له، فالموهوب له خصم للشفيع في قول أبي يوسف ويقضى له بها وبالثمن وتبطل الهبة ويستوثق من الثمن، وكذلك لو باعها المشتري أخذ الشفيع إن شاء بالبيع الأول وإن شاء بالبيع الآخر.
وقال محمد: ليس بين الشفيع وبين الموهوب له والمتصدق عليه خصومة حتى يحضر(11/170)
قال: ومن قدم مصرا، وقال: أنا عبد لفلان، فاشترى وباع لزمه كل شيء من التجارة؛ لأنه إن أخبر بالإذن فالإخبار دليل عليه، وإن لم يخبر فتصرفه جائز، إذ الظاهر أن المحجور يجري على موجب حجره والعمل بالظاهر هو الأصل في المعاملات؛ كيلا يضيق الأمر على الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشترى، وكذلك بالبيع إن أراد الشفيع الأخذ بالبيع الأول، وإن أرادها البيع الثاني فالمشتري الآخر خصم، وهذا تسليم للشفعة من الشفيع في البيع الأول.
قال الشيخ أبو المعين ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع " قول أبي حنيفة واختلف المشايخ فيه. قال مشايخ بلخ قوله: مع أبي يوسف فيجعل قول أبي يوسف ما أمكن وهاهنا الإمكان ثابت؛ لأنه لم ينص محمد على خلاف ذلك، قال مشايخ العراق: لا، بل قوله مع محمد؛ لأن ابن سماعة ذكر في نوادره هذه المسألة. وذكر قول أبي حنيفة مع محمد رحمهما الله.
[قدم مصرا فباع واشترى وقال إنه عبد لفلان]
م: (قال: ومن قدم مصرا) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير "، وإنما ومن قدم ولم يقل وإذا قدم، عبد مصرا؛ لأنه لا يعلم كونه عبدا إلا بقوله وإنما ذكر مصرا؛ لأنه لم يرد به مصرا معينا، وإنما أراد مصرا من الأمصار م: (فقال: أنا عبد لفلان فاشترى وباع لزمه كل شيء من التجارة) ش: وهذا استحسان، والقياس أن لا يقبل قوله؛ لأنه أخبر عن شيئين:
أحدهما: أخبر أنه مملوك، وهذا إقرار منه على نفسه.
والثاني: أنه أخبر أنه مأذون في التجارة، وهذا إقرار على المولى، وإقراره عليه ليس بحجة.
وجه الاستحسان هو قوله: م: (لأنه إن أخبر بالإذن فالإخبار دليل عليه) ش: أشار بهذا إلى أن المسألة على وجهين، أحدهما: أنه يخبر أن مولاه أذن له فيصدق استحسانا عدلا كان أو غير عدل، والقياس أن لا يصدق، وبه قالت الثلاثة. والوجه الآخر هو قوله: م: (وإن لم يخبر) ش: أي لم يقل إن مولاه أذن له، بل باع واشترى م: (فتصرفه جائز، إذ الظاهر أن المحجور يجري على موجب حجره، والعمل بالظاهر هو الأصل) ش: أي فتصرفه دليل على أنه مأذون فيه، والقياس أن لا يثبت وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه إذا الظاهر أن المحجور على موجب حجره والعمل بالظاهر هو الأصل.
م: (في المعاملات كيلا يضيق الأمر على الناس) ش: توضيحه: أن الناس بحاجة إلى قبول قوله؛ لأن الإنسان يبعث الأحرار والعبد في التجارة، فلو لم يقبل قول الواحد في المعاملات، لاحتاج إلى أن يبعث شاهدين ليشهدا عند كل تصرف، أنه مأذون له في التجارة، وفي ذلك من الضيق ما لا يخفى. والقياس أن يشترط عدالة المخبر؛ لأن خبر العدل حجة.(11/171)
إلا أنه لا يباع حتى يحضر مولاه؛ لأنه لا يقبل قوله في الرقبة؛ لأنها خالص حق المولى، بخلاف الكسب؛ لأنه حق العبد على ما بيناه، فإن حضر وقال: هو مأذون بيع في الدين؛ لأنه ظهر الدين في حق المولى وإن قال: هو محجور فالقول قوله؛ لأنه متمسك بالأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الاستحسان ": لا يشترط للضرورة والبلوى.
م: (إلا أنه لا يباع) ش: استثناء من قوله: ألزمه كل شيء، ومعناه لأنه إذا لم يكن في كسبه، وقالا: يباع في الدين م: (حتى يحضر مولاه؛ لأنه لا يقبل قوله في الرقبة؛ لأنه خالص حق المولى) ش: لأن بيعها ليس من لوازم الإذن في التجارة، ألا ترى أنه إذا أذن للمدبر وأم الولد ولحقهما الدين لا يباعان فيه، فكانت الرقبة خالص حق المولى، وحينئذ جاز أن يكون مأذونا ولا يباع.
م: (بخلاف الكسب) ش: حيث يقضي الدين عنه؛ لأن قضاء الدين من كسبه من لوازم الإذن في التجارة م: (لأنه) ش: أي الكسب م: (حق العبد على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله في وسط كتاب المأذون، ويتعلق دينه بكسبه إلى أن قال: إن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد م: (فإن حضر) ش: أي المولى م: (وقال: هو مأذون بيع في الدين) ش: يعني إذا لم يقض المولى دينه م: (لأنه ظهر الدين في حق المولى) ش: أي بقوله إنه مأذون وحكم المأذون أنه يباع في الدين.
م: (وإن قال: هو محجور فالقول قوله) ش: أي قول المولى مع يمينه م: (لأنه متمسك بالأصل) ش: وهو عدم الإذن، وإذا أقامت الغرماء البينة أنه أذن له فحينئذ يباع؛ لأن دعوى العبد الإذن عليه كدعوى العتق والكتابة، فلا يقبل قوله عند جحود المولى إلا بالبينة.
وفي " مبسوط " شيخ الإسلام خواهر زاده: إذا أقامت الغرماء البينة أنه مأذون له والعبد محجور عليه والمولى غائب لا يقبل بينتهم حتى لا تباع رقبة العبد بالدين؛ لأنها قامت على غائب، وليس عنه خصم حاضر، وإن أقر العبد بالدين فباع القاضي أكسابه، وقضى دين الغرماء ثم جاء المولى، وأنكر الإذن فإن القاضي يكلف الغرماء البينة على الإذن، فإن أقاموها وإلا ردوا على المولى جميع ما قبضوا من ثمن أكساب العبد، ولا ينقض البيوع، التي جرت من القاضي في كسبه؛ لأن للقاضي ولاية في بيع مال الغائب، ويؤخر حقوق الغرماء، إلى أن يعتق العبد.(11/172)
فصل وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينفذ لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه ولأنه مولى عليه حتى يملك الولي التصرف عليه ويملك حجره فلا يكون واليا للمنافاة وصار كالطلاق والعتاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في أحكام إذن الصغير]
م: (فصل) ش: لما فرغ عن بيان أحكام العبد في الإذن، شرع في أحكام إذن الصغير، وقدم الأول لكثرة وقوعه.
م: (وإذا أذن ولي الصبي للصبي) ش: وهو أبوه أو جده أو وصيهما أو نحوهم م: (في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون) ش: في نفوذ تصرفه وعدم التقيد بنوع دون نوع وصيرورته مأذونا بالسكوت وصحة إقراره بما في يده وغير ذلك مما ذكر في العبد.
م: (إذا كان يعقل البيع والشراء) ش: أي يعرف أن البيع سالب للملك والشراء جالب له، ويعرف الغبن اليسير والفاحش، وليس المراد منه أن يعرف نفس العبارة، فإنه ما من صبي لقن البيع والشراء إلا ويتلفهما، كذا قال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ".
وبعضهم قال: معناه أن يعرف البيع، ويقف على قيم الأشياء على وجه لو سئل عن قيمة شيء يقرب في تقويمه، ولا يجازف، فإن كان هكذا، فالظاهر أنه لا يغبن فيكون كالبالغ، فيصح إذنه في التجارة، وإلا فلا، كذا قال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي " م: (حتى ينفذ تصرفه) ش: برفع الذال.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينفذ) ش: أي تصرفه بإذنه، وبه قال مالك وأحمد في رواية. وقال أحمد في رواية وبعض أصحاب الشافعي في وجه كقولنا م: (لأن حجره لصباه) ش: أي لأن حجر الصبي لأجل صبا نفسه م: (فيبقى ببقائه) ش: أي فيبقى الحجر ببقاء الصبا، وبقاء العلة تستلزم المعلول لا محالة، بخلاف حجر الرقيق فإنه ليس للرق نفسه، بل لحق المولى وهو بإذنه لكونه راضيا بتصرفه حينئذ.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الصبي م: (مولى عليه حتى يملك الولي التصرف عليه) ش: يعني في ماله بعد الإذن م: (ويملك حجره) ش: أي الحجر عليه م: (فلا يكون) ش: أي الصبي م: (واليا للمنافاة) ش: أي بين كونه واليا، وبين كونه موليا عليه؛ لأن كونه موليا عليه سمة العجز، وكونه واليا سمة القدرة م: (وصار) ش: أي صار تصرف الصبي م: (كالطلاق والعتاق) ش: حيث لا(11/173)
بخلاف الصوم والصلاة؛ لأنه لا يقام بالولي، وكذلك الوصية على أصله فتحققت الضرورة إلى تنفيذه منه. أما البيع والشراء فيتولاه الولي فلا ضرورة هاهنا، ولنا: أن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصحان منه، وإن أذن له الولي.
م: (بخلاف الصوم) ش: النفل م: (والصلاة) ش: النافلة م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الصوم والصلاة م: (لا يقام بالولي) ش: فيصحان منه م: (وكذا الوصية) ش: أي وكذا تصح الوصية منه لصحة الصوم والصلاة م: (على أصله) ش: أراد به على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن من أصله أن كل تصرف يتحقق من المولى لا يصح بمباشرة الصبي؛ لأن تصرفه بسبب الضرورة ولا ضرورة فيما يتصرف فيه الولي، وكل تصرف لا يتحقق بمباشرة الولي يصح تصرفه فيه بنفسه.
فلهذا تعتبر وصية بأعمال البر، وإحسان الأبوين، ولا تتحقق الضرورة فيما يمكن تحصيله برأي الولي، ولهذا يصحح الشافعي إسلامه بنفسه لتحقق إسلامه بإسلام أحد أبويه، كذا في " المبسوط ".
م: (فتحققت الضرورة) ش: أي إذا كان كذلك فتحققت الضرورة م: (إلى تنفيذه منه) ش: أي إلى تنفيذ التصرف الذي لا يتحقق بمباشرة المولى منه، أي من الصبي م: (أما البيع والشراء فيتولاه المولى فلا ضرورة هاهنا) ش: ولا يصح تصرفه فيه.
م: (ولنا أن التصرف المشروع) ش: بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] (سورة البقرة: الآية 275) ، مطلقا من غير فصل بين البائع، والصبي م: (صدر من أهله) ش: لكونه عاقلا مميزا يعلم أن البيع سالب، وأن الشراء جالب، ويعلم الغبن اليسير من الفاحش م: (في محله) ش: لكون المبيع مالا متقوما م: (عن ولاية شرعية) ش: لكونه ضررا عن إذن وليه والى له هذا التصرف، فكذا من أذن له، ألا ترى أن الطلاق والعتاق لما لم يملكه الولي لا يملك الإذن به، فصدورهما من الصبي لا يكون عن ولاية شرعية وإن أذن الولي بذلك.
فإن قلت: لا نسلم أنه أهل، وهذا؛ لأن مجرد العقل والتمييز لا يكفي، بل بالبلوغ شرط يصير أهلا، إذ الشخص إنما يصير أهلا للتصرف بكمال الحال، وحال الإنسان لا يكمل قبل البلوغ، وهذا لا يتوجه عليه خطابات الشرع؛ لأن العقل والتمييز اللذين يعرف بهما الأشياء أمر باطن، ولذلك يتفاوت في نفسه فأقيم البلوغ مقامه فلا يعتبر وجود العقل في الصبي.
قلت: العقل وحده يكفي لثبوت الأهلية؛ لأنه به تحصيل معرفة الأشياء، إلا أن الصبي مظنة المرحمة، وبالخطاب يتضرر، وصحة العبارة نفع محض إذ الآدمي شرف على غيره بها.(11/174)
فوجب تنفيذه على ما عرف تقريره في الخلافيات. والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال بخلاف الطلاق والعتاق لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والخلاف في الصحة؛ لأن المذهب عندنا أن الصبي إذا باع ماله انعقد ويتوقف على الإجازة كالراهن يبيع المرهون ينعقد ويتوقف على إجازة المرتهن.
م: (فوجب تنفيذه) ش: أي إذا كان كذلك فوجب تنفيذ التصرف الذي لا يتحقق بمباشرة الولي بتصرف الصبي كما قال م: (على ما عرف تقريره في الخلافيات) ش: أي تقرير الخلاف الذي بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا المسألة.
[....
....
.] .
م: (والصبا سبب الحجر) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن حجره لصباه.
وتقريره: أنا لا نسلم أن حجر الصبي لذاته بل بالغير، أشار إليه بقوله م: (لعدم الهداية) ش: أي إلى التصرفات، فصار كالعبد في كون حجره لغيره م: (لا لذاته) ش: لكونه أهلا، فإذا انضم إلى رأي الولي صار هو والبائع سواء فيترجح جانب النفع على جانب الضرر، بل هذا أقرب؛ لأنه تصرف حضره رأيان، فكان أقرب إلى النظر الذي حضره واحد فلا يبقى الضرر فيرتفع الحجر.
م: (وقد ثبتت) ش: أي الهداية إلى التصرفات م: (نظرا إلى إذن الولي) ش: لأنه لو لم يعلم أنه هاد في أمور التجارة لما أذن له م: (وبقاء ولايته) ش: يرفع بقاء على الابتداء، وخبره قوله م: (لنظر الصبي) ش: أي بقاء ولاية الولي بعد الإذن نظرا للصبي، وهذا جواب ما يقال لو ثبتت له الهداية بالإذن لم يبق الولي وليا.
وتقريره: أن بقاء ولايته بعد ذلك للنظر له، فإن الصبا من أسباب المرحمة بالحديث وفي الاعتبار كلامه في التصرف نفع محض م: (لاستيفاء المصلحة بطريقين) ش: أي بمباشرة وليه له، ومباشرة نفسه، فكان مرحمة في حقه فوجب اعتباره م: (واحتمال تبدل الحال) ش: بالجر عطفا على قوله لاستيفاء المصلحة، أي ولاحتمال تبدل حال الصبي، من الهداية إلى غيرها، فأبقينا ولاية الولي لتدارك ذلك.
م: (بخلاف الطلاق والعتاق) ش: جواب عن قوله صار كالطلاق والعتاق م: (لأنه) ش: أي(11/175)
صار محض فلا يؤهل له. والنافع المحض كقبول الهبة والصدقة يؤهل له قبل الإذن، والبيع والشراء دائر بين النفع والضرر، فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله، لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه على إجازة الولي لاحتمال وقوعه نظرا وصحة التصرف في نفسه، وذكر الولي في الكتاب ينتظم الأب والجد عند عدمه والوصي والقاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن كل واحد من الطلاق والعتاق م: (صار محض، فلا يؤهل له) ش: أي فلم يجعل الصبا أهل للضار المحض، أي للتصرف فيه م: (والنافع المحض) ش: بالرفع مبتدأ م: (كقبول الهبة والصدقة) ش: مثال للنافع المحض م: (يؤهل له) ش: خبر المبتدأ، أي يجعل الصبي أهلا له، أي للنافع المحض سواء كان م: (قبل الإذن) ش: أو بعده، فلا يتوقف على الإذن م: (والبيع والشراء) ش: البيع مبتدأ أيضا، والشراء عطف عليه.
وقوله: م: (دائر بين النفع والضرر) ش: خبره.
فإن قلت: المبتدأ شيئان والمشتري واحد والتطابق شرط.
قلت: تقديره، وكل واحد من البيع والشراء دائر، أي متردد بين البيع على اعتبار الربح، والضرر على اعتبار الخسران.
م: (فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله) ش: أي إذا كان كذلك يجعل الصبي أهلا لهذا النوع من التصرفات م: (لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه) ش: هذا جواب عما يقال أنتم ما عملتم بجهة كونه ضارا، فكان ينبغي أن لا يجوز.
وتقريره أنه إن وقفنا قبل الإذن م: (على إجازة الولي لاحتمال، وقوعه نظرا) ش: فإن أحد المحتملين م: (وصحة التصرف في نفسه) ش: بجر صحة، أي ولصحة التصرف في نفسه؛ لأنه مشروع صدر من أهله في محله.
فإن قيل: إذا باع شيئا بأضعاف قيمته كان نافعا محضا كقبول الهبة، فيجب نفوذه بلا توقف.
أجيب: بأن المعتبر في ذلك هو الوضع كالجزئيات الواقعة اتفاقا.
م: (وذكر الولي في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري "، أراد به ما ذكره بقوله وإذا أذن ولي الصبي م: (ينتظم الأب والجد عند عدمه) ش: أي عند عدم الأب، وليس المراد به الترتيب؛ لأن وصي الأب مقدم على الجد. م: (والوصي) ش: بالنصب، أي وينتظم الولي، أي وصي الأب ووصي الجد م: (والقاضي(11/176)
والوالي بخلاف صاحب الشرط؛ لأنه ليس إليه تقليد القضاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والوالي) ش: بالنصب أيضا، أي وينتظم الوالي.
وفي " المبسوط ": وليه أبوه، ثم وصيه، ثم جده أبو الأب، ثم وصيه، ثم القاضي، أو وصي القاضي، فأما الإمام، أو وصيهما فلا ولاية لهما عليه، فلا يصح الإذن منهما، ولا يقال وصي الأم باع العروض التي ورث الضيعة من أمه يجوز، لأن ذلك من باب الحفظ على الأم الميتة وعلى الصغير، لا لأنه تجارة. حتى لو اشترى شيئا آخر لليتيم لا يجوز، كذا في " الذخيرة ".
وعند الثلاثة: وصي الصبي والمجنون، والأب، ثم الجد، وإن عدما فالسلطان.
وفي شرح " الطحاوي "، وفي الصغير أبوه، ووصي أبيه، ثم جده، ثم وصي جده، ثم وصي جده وصية، ثم القاضي، ومن نصيبه القاضي سواء كان الصغير في عيال هؤلاء أو لم يكن.
م: (بخلاف صاحب الشرط) ش: يريد به أمير البلدة كأمير بخارى، فكان الوالي أكبر منه؛ لأن له ولاية تقليد القضاء دون صاحب الشرط.
وقوله: الشرط بضم الشين المعجمة وفتح الراء وهو جمع شرطة بضم الشين وسكون الراء والشرطة خيار الجند، وأول كتيبة تحضر الحرب. وفي " العباب ": الشرطي والشرطة واحد الشرط.
قال الأصمعي: سموا بذلك؛ لأنهم جعلوا؛ لأنفسهم علامة يعرفون بها. وقال أبو عبيدة: سموا شرطا؛ لأنهم أعدوا الشرطة أول طائفة من الجيش تحضر الوقعة.
قلت: أصل ذلك من الشرط بفتحتين، وهو العلامة ومنه أشراط الساعة، أي علاماتها.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (ليس إليه) ش: أي إلى صاحب الشرط م: (تقليد القضاة) ش: والوالي إليه تقليد القضاة، فكان أكبر منه، فلذلك، ينتظمه حكم، الولاية؛ لأنه يلي التصرفات على البابين، بخلاف صاحب الشرط، فإنه فوض إليه أمر خاص.
قلت: فعلى هذا لا تكون الولاية في مصر إلا للسلطان؛ لأن له التصرف العام، بخلاف غيره من الحكام؛ لأن كلا منهم يفوض إليه في أمر خاص، إلا القضاة، فإنه يفوض إليهم سائر الأحكام الشرعية، فكذلك لا تكون الولاية في البلاد الشامية إلا للقضاة خاصة، اللهم إلا قلد إلى أحد من نوابها الكبار تقليد القضاة.(11/177)
والشرط أن يعقل كون البيع سالبا للملك جالبا للربح والتشبيه بالعبد المأذون يقيدان ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه لأن الإذن فك الحجر، والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع ويصير مأذونا بالسكوت كما في العبد ويصح إقراره بما في يده من كسبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشرط أن يعقل) ش: الصبي م: (كون البيع سالبا للملك جالبا للربح) ش: وقد مر بيان هذا الشرط م: (والتشبيه بالعبد المأذون) ش: أراد تشبيه الصبي بالعبد المأذون في قوله: وهو في البيع والشراء كالبعد المأذون م: (يقيدان ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه) ش: أي في حق الصبي لا يقال يرد عليه أن التعميم ليس بمستقيم.
فإن المولى محجور عن التصرف في مال العبد المأذون المديون بدين محيط بماله دون الولي؛ لأنا نقول إن ذلك من الحجار المولى وعدم لحجار المولى ليس من التعميم في تصرف العبد والصبي.
وبأن دين الصبي لكونه حرا يتعلق بذمته لا بمال، فجاز أن يتصرف فيه الولي، ودين العبد يتعلق بكسبه والمولى أجنبي منه إذا كان الدين مستغرقا، ويصح إقراره بعد الإذن بما هو كسبه عينا كان أو دينا لوليه ولغيره، ولانفكاك الحجر عنه، فكان كالبالغين، وأورد بأن الولاية المتعدية نوع الولاية القائمة، والولي لا يملك الإقرار على مال الصبي، فكيف أفادته ذلك بإذنه.
والجواب: أنه إفادة من حيث كونه من توابع التجارة والولي يملك الإذن بالتجارة وتوابعها.
م: (لأن الإذن فك الحجر، والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع) ش: أراد أن المأذون له في التصرف إنما يتصرف بأهلية نفسه فيستوي فيه العبد والصبي، فإذا استويا في ذلك فلا يتقيد تصرفهما في نوع دون نوع لما مر فيما مضى.
م: (ويصير) ش: أي الصبي م: (مأذونا بالسكوت) ش: بأن يراه وليه يبيع أو يشتري فيسكت، فإنه أذن له، لكن هذا في الأب والجد، والوصي لا في القاضي ألا ترى إلى ما ذكر في " الفتاوى الصغرى " أن القاضي إذا رأى الصغير أو المعتوه أو عبد الصغير يبيع ويشتري فسكت لا يكون إذنا في التجارة م: (كما في العبد) ش: إذا رآه مولاه يبيع فسكت فإنه يكون مأذونا.
م: (ويصح إقراره بما في يده من كسبه) ش: أي يصح إقرار الصبي بعد الإذن بما هو كسبه(11/178)
وكذا بموروثه في ظاهر الرواية، كما يصح إقرار العبد ولا يملك تزويج عبده ولا كتابته، كما في العبد والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عينا كان أو دينا لوليه ولغير وليه لانفكاك الحجر عنه فكان كالبالغين، وأراد بأن الولاية المتعدية فرع الولاية القائمة، والولي لا يملك الإقرار على مال الصبي فكيف إفادة ذلك بإذنه.
والجواب: أنه إفادة من حيث كونه من توابع التجارة والولي يملك الإذن بالتجارة وتوابعها م: (وكذا بموروثه) ش: أي كذا يصح إقراره بموروثه بأن أقر بشيء من تركة أبيه لإنسان م: (ظاهر الرواية) ش: احترز به عن رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إقراره بذلك؛ لأن صحة إقراره في كسبه لحاجته في التجارة إلى ذلك لئلا يمتنع الناس عن معاملته في التجارة وهي معدومة في الموروث.
وجه الظاهر أن الحجر لما انفك عنه بالإذن التحق بالبالغين ولهذا نفذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد الإذن تصرفه بالغبن الفاحش كالبالغين، فكان الموروث والمكتسب في صحة الإقرار سواء لكونه مالية م: (كما يصح إقرار العبد) ش: بعد الإذن لانفكاك الحجر عنه.
م: (ولا يملك تزويج عبده) ش: أي ولا يملك تزويج عبده، قيد بالعبد؛ لأن عدم جواز تزويجه بالإجماع أما في عدم تزويج أمته خلاف بين أبي حنيفة ومحمد، وبين أبي يوسف فعنده يملك تزويج أمته، لأن فيه تحصيل المال، وعندهما لا يملكه؛ لأن النكاح ليس من عقود التجارة فلا يملك كالعبد المأذون م: (ولا كتابته كما في العبد) ش: أي ولا يملك كتابة عبد أيضا كما في العبد المأذون.
فإن قيل: الأب والوصي يملكان الكتابة في عبد الصبي فينبغي أن يملكها الصبي بعد الإذن.
قلت: الإذن يتناول ما كان من صيغ التجارة، والكتابة ليست منه.
م: (والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي) ش: يعني الجواب فيه كالجواب في الصبي المميز والأنعام فيه خلاف.
وفي " الذخيرة ": المعتوه الذي يعقل البيع والشراء كالصبي إذا بلغ معتوها، أما إذا بلغ عاقلا ثم عتقه فأذن له الولي في التجارة هل يصح إذنه؟، فقال أبو بكر البلخي لا يصح إذنه قياسا، وهو قول أبي يوسف، ويصح استحسانا هو قول محمد، وهذا بخلاف ما لو أعقته الأب أو جن فإنه لا يثبت للابن الكبير ولاية التصرف في ماله إنما يثبت له ولاية التزويج لا غير.(11/179)
يصير مأذونا بإذن الأب والجد والوصي دون غيرهم على ما بيناه وحكمه حكم الصبي والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي " والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء في التجارة بمنزلة الصبي الذي يعقل؛ لأنه ناقص العقل وإن كان لا يعقل فهو مجنون، فيكون بمنزلة الصبي الذي لا يعقل.
ولو أذن المعتوه الذي يعقل البيع والشراء في التجارة ابنه كان باطلا مولى عليه فلا يلي على غيره م: (يصير مأذون بإذن الأب والوصي والجد دون غيرهم) ش: من الأقارب كالابن المعتوه م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله وذكر المولى في الكتاب ينتظم الأب والجد إلى أخذه م: (وحكمه حكم الصبي، والله أعلم) ش: أي حكم المعتوه كحكم الصبي إذا بلغ معتوها كما ذكرنا.
فوائد: موت الأب أو وصيه حجر على الصبي، كذا في شرح " الكافي "، ولو كان القاضي أذن للصبي أو المعتوه في التجارة ثم عزل القاضي أو مات فهما على إذنهما.
وقال خواهر زاده في " مبسوطه ": وإذا كان للصبي أو المعتوه أب أو وصي أو جد لأب فرأى القاضي أن يأذن للصبي أو المعتوه في التجارة فأذن له وأبي أبوه فإذنه جائز، وإن كان ولاية للقاضي على الصغير مؤخر من ولاية الأب والوصي لأب الأب لا يصير عاضلا له فتنقل الولاية إلى القاضي كالولي في " باب النكاح " إذا عضل انتقلت الولاية إلى القاضي فإن حجر عليه أحد من هؤلاء بعد ذلك فحجره باطل، وإن حجر عليه هذا القاضي بعدما عزل لا يعمل لعدم ولاية القضاء، وإن حجر القاضي أو الذي قام مقامه عمل حجره، والله أعلم بالصواب.(11/180)
كتاب الغصب الغصب في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل التغليب للاستعمال فيه بين أهل اللغة وفي الشريعة: أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك على وجه يزيل يده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الغصب]
[تعريف الغصب]
م: (كتاب الغصب) ش: إيراده عقيب كتاب الإذن لكونه من أنواع التجارة في المستقبل، ألا ترى أن إقرار المأذون لما صح بدون غيرها صح بديون التجارة دون غيرها صح بدون الغصب، ولم يصح بدين الغصب، ولم يصح بدين الحر لكون الأول من التجارة دون الثاني: فكان ذكر النوع بعد ذكر الجنس مناسبا. وجه المناسبة التقابل، لأن المأذون يتصرف بالإذن الشرعي والغاصب بخلافه، فلذلك قدم كتاب المأذون عليه؛ لأنه مشروع دون الغصب.
م: (الغصب في اللغة عبارة عن أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب) ش: أي أخذ الشيء ظلما وقهرا، تقول غصبه منه وغصبه عليه بمعنى، قيل وغصبه إياه أيضا، والشيء أغصب ومغصوب، قلت قولهم شيء غصب تسمية بالمصدر فهذا الذي ذكره يتناول متقوما وغير متقوم، يقال غصب زوجة وحمر فلان م: (للاستعمال فيه بين أهل اللغة) ش: أي استعمال لفظ الغصب في أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب.
م: (وفي الشريعة: أخذ مال) ش: أي الغصب في اصطلاح الشريعة أخذ مال، وهذا بمنزلة الجنس للحد وباقي قيوده كالفصل؛ لأنه يتناول المحدود وغيره. وقوله م: (متقوم) ش: احتراز عن الخمر.
وقوله م: (محترم) ش: احتراز عن مال الحربي فإنه غير محترم. وقوله م: (بغير إذن المالك) ش: احتراز عما إذا أخذه بإذن مالكه، فإنه لا يسمى غصبا. وقوله م: (على وجه يزيل يده) ش: أي يد المالك لبيان أن إزالة يد المالك لا بد منها في حد الغصب عندنا؛ لأن الشرط عندنا إزالة اليد المتحققة وإثبات المبطلة وعند الثلاثة يبقى فيه إثبات اليد المبطلة، وعلى هذا تخرج المسائل على ما نذكرها إن شاء الله تعالى. غير أن إزالة اليد الحقة بالنقل والتحويل.
وعندهما إثبات اليد في المنقول بالنقل إلا في الدابة، فيكفي فيها الركوب، وفي الفراش الجلوس عليه. وفي العقار الغصب يتحقق عندهم بالدخول، وإزعاج المالك حتى لو أزعج ولم يدخل لم يضمن.
ولو دخل ولم يزعج ولم يقصد الاستيلاء لم يضمن، والضعيف إذا دخل دار القوي وهو(11/181)
حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبا دون الجلوس على البساط، ثم إن كان مع العلم فحكمه المأثم والمغرم، وإن كان بدونه فالضمان؛ لأنه حق العبد، فلا يتوقف على قصده ولا إثم، لأن الخطأ موضوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها وقصد الاستيلاء لم يضمن، كذا في " الذخيرة " وشرحه. وقال الناطفي في كتاب " الأجناس " الغصب عبارة عن إيقاع فعل فيما يمكن نقله بغير إذن مالكه على وجه يتعلق به الضمان بذلك عليه من منع رجل من دخول داره ثم يمكنه من أخذ ماله لم يكن غاصبا بذلك لعدم المعنى الذي ذكرناه، وإن كان حال بينه وبين ماله أو إن نقل ماله عن موضعه صار غاصبا.
م: (حتى كان استخدام العبد) ش: هذه إشارة إلي بيان مظهر فائدة التعريف الذي عرف الغصب به، أي حتى يكون على ما ذكرنا استخدام العبد م: (وحمل الدابة غصبا) ش: لأن فيه إزالة يد المالك م: (دون الجلوس على البساط) ش: يعني لا يكون غصبا لعدم إزالة يد المالك. وعند الثلاثة يكون هذا غصبا على ما ذكرنا من الأصل، وكذا تظهر ثمرة الاختلاف بيننا وبينهم في زوائد المغصوب كولد المغصوبة وثمرة البستان وأنها ليست بمضمونة عندنا لعدم إزالة اليد، وعندهم مضمونة لإثبات اليد، وكذا لو غصب حمارا وساقه فتأخر عنها جحشه فأكله الذئب لا يضمن عندنا إن لم يسق الجحش معه، وكذا لو منع أصحاب المواشي حتى ضاعت لم يضمن عندنا وعند الشافعي أيضا، ولكن ذكر في " فتاوى قاضي خان " مسألة تخالف هذا الأصل، فإنه لو قال غصب عجولا فاستهلك حتى يبس لبن أمه.
قال أبو بكر البلخي: يضمن قيمة العجول ونقصان اللبن وإن لم يفعل في الأم شيئا.
م: (ثم إن كان) ش: أي الغصب م: (مع العلم) ش: أي بأنه ملك المغصوب منه م: (فحكمه المأثم) ش: أي الإثم في الآخرة م: (والمغرم) ش: أي الغرامة في الدنيا، وهذا بالكتاب قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] (سورة البقر: الآية 188) إلى غير ذلك من الآيات.
والسنة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه الله من سبع أرضين» رواه البخاري ومسلم. وعليه إجماع العلماء.
م: (وإن كان بدونه) ش: أي بدون العلم بأن ظن المأخوذ ماله أو اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه م: (فالضمان) ش: أي فحكمه الضمان م: (لأنه حق العبد فلا يتوقف على قصده) ش: وكذا إذا كان الآخذ معذورا لحمله وعدم قصده م: (ولا إثم؛ لأن الخطأ موضوع) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .(11/182)
قال: ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله، وفي بعض النسخ فعليه ضمان مثله ولا تفاوت بينهما وهذا لأن الواجب هو المثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: الآية 194) ولأن المثل أعدل لما فيه من مراعاة الجنس والمالية فكان أدفع للضرر. قال: فإن لم يقدر على مثله فعليه قيمته يوم يختصمون وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[هلاك المغصوب]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله) ش: أي مثل الذي غصب، وأراد بالمكيل مثل الحنطة والشعير ونحوهما وبالموزون مثل الدراهم والدنانير، ولكن يشترط أن لا يكون الموزون مما يضر بالتبعيض، يعني غير المصوغ منه؛ لأن الوزن في الذي في تبعيضه مضرة يلحق بذوات القيم م: (وفي بعض النسخ) ش: أي وفي بعض نسخ القدوري م: (فعليه ضمان مثله ولا تفاوت بينهما) ش: أي بين المستحقين والكلامين م: (وهذا) ش: أي عدم التفاوت م: (لأن الواجب هو المثل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: الآية 194) ش: سمي الفعل الثاني إلى ما هو مثل صورة ومعنى.
م: (ولأن المثل أعدل) ش: أي ولأن المثل صورة ومعنى أقرب إلى العدل م: (لما فيه) ش: أي لما في المثل م: (من مراعاة الجنس) ش: لأن الحنطة مثلا مثل الحنطة جنسا م: (والمالية) ش: لأن مالية الحنطة المؤداة مثل مالية الحنطة المغصوبة؛ لأن الجودة ساقطة العبرة في الديونات م: (فكان أدفع للضرر) ش: أي فكان المثل أشد دفعا للضرر عن المغصوب منه؛ لأن الغاصب فوت عليه الصورة والمعنى ني، فالجبر التام أن يتداركه بما هو مثل له صورة ومعنى.
م: (قال فإن لم يقدر على مثله) ش: أي قال في " الجامع الصغير " فإن لم يقدر الغاصب على مثل الذي غصبه بأن انقطع عن أيدي الناس فلم يقدر على مثله الكامل م: (فعليه قيمته يوم يختصمون) ش: أي يوم الخصومة.
م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وجوب القيمة يوم الخصومة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أكثر أصحاب الشافعي ومالك، ولم يذكر في " الجامع الصغير " خلافا؛ لأن صورته فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال: كل شيء غصب مما يكال أو يوزن فلم يقدر على مثله فخوصم فيه فعليه قيمته يوم يختصمون. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن فعليه قيمته يوم غصبه.
ولم يذكر الخلاف فيه كما ترى، فعلم بهذا أن المثلي إذا انقطع تجب على الغاصب القيمة يوم الخصومة باتفاق علمائنا الثلاثة في ظاهر الرواية، وبهذا قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -(11/183)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الغصب. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الانقطاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في شرح " الجامع الصغير "، وروي عن أبي يوسف أن عليه قيمته يوم الغصب.
وروي عن محمد أن عليه قيمته يوم الانقطاع وهو مذهب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان الشيء مما لا يكال ولا يوزن فعليه قيمته يوم الغصب في قول علمائنا. وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه أكثر القيمتين يوم الغصب ويوم الهلاك، ولأن في أصله أن زيادة الغصب مضمونة، انتهى.
والاختلاف مذكور في " النوادر "، كذا قال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير ".
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الغصب) ش: أي عليه قيمته يوم الغصب م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم الانقطاع) ش: أي عليه قيمته يوم انقطاع مثله عن أيدي الناس، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحد الانقطاع ما ذكر أبو بكر البلخي هو أن لا يوجد في السوق الذي يباع فيه، وإن كان يوجد في البيوت، وعلى هذا انقطاع الدراهم.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولكن أصح أن يكون الشيء بحيث يوجد في زمان خاص فمضى زمانه كالرطب مثلا، والدليل على هذا ما ذكره الشيخ أبو الحسن الكرخي في " مختصره " وغصب ما يوجد في زمان دون زمان، فإذا غصبه غاصب ثم اختصما في حال انقطاع وعدمه، فإن أبا حنيفة قال يحكم على الغاصب بقيمته يوم يختصمون.
وقال يعقوب يوم غصبه. وقال محمد: يحكم بقيمته عند آخر انقطاعه، ويدل عليه أيضا ما ذكره في شرح " الطحاوي " أيضا قال: ومن أتلف شيئا لرجل مما له مثل من جنسه ثم انقطع ذلك عن أيدي الناس، وصار مثله غير موجود بثمن غال ولا بثمن رخيص فصاحب المال بالخيار إن شاء انتظر إلى وجود مثله ويأخذ المال، وإن شاء لم يتربص ويأخذ القيمة.
واختلفوا فيه على ثلاثة أقوال. قال أبو حنيفة يعتبر قيمته يوم الخصومة. وقال أبو يوسف يضمن قيمته يوم الاستهلاك أو وقت الغصب. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يغرم قيمته آخر ما كان موجودا، وبه أخذ الطحاوي، إلى هذا لفظ الأسبيجابي. وفي " الجواهر " للمالكية ليس له إلا مثله ويصبر حتى يوجد، قاله ابن القاسم.
وقال أشهب: المالك بالخيار إن شاء صبر وإن شاء أخذ القيمة، وفي قيمته التفريع لهم. ومن غصب أرضا أو حيوانا فتلف عنده ضمن قيمته يوم غصبه لا يوم تلف، ولأكثر القيمتين. ومن غصب شيئا من المثليات والموزونات فتلف عنده وجب عليه رد مثله ولا تلزمه قيمته يوم غصبه.(11/184)
لأبي يوسف رحمه الله أنه لما انقطع التحق بما لا مثل له فيعتبر قيمته يوم انعقاد السبب إذ هو الموجب ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الواجب المثل في الذمة وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر قيمته يوم الانقطاع ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النقل لا يثبت بمجرد الانقطاع، ولهذا لو صبر إلى أن يوجد جنسه له ذلك، وإنما ينتقل بقضاء القاضي فيعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء بخلاف ما لا مثل له لأنه مطالب بالقيمة بأصل السبب كم وجد فيعتبر قيمته عند ذلك قال: وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما قدم قوله في التعليل باعتبار ترتيب الأوقات، فإن أول الأوقات الثلاثة يوم الغصب ثم يوم الانقطاع ثم يوم الخصومة. وإيراد الأقوال على هذا الأزمنة لم يتأت إلا بتقديم قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن مما له مثل م: (لما انقطع التحق بما لا مثل له، فيعتبر قيمته يوم انعقاد السبب) ش: وهو يوم الغصب، أي يوم انعقاد سبب الضمان م: (إذ هو الموجب) ش: أي لأن الغصب هو الموجب للأصل، والحلف يجب بالسبب الذي يجب به الأصل فيعتبر قيمته يوم الغصب.
م: (ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الواجب المثل في الذمة) ش: بالنص الذي ذكرناه م: (وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر قيمته يوم الانقطاع) ش: أي يوم الانقطاع عن أيدي الناس م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن النقل) ش: من الواجب الأصلي م: (لا يثبت بمجرد الانقطاع) ش: إذ الفعل باعتبار العجز عن الأصل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم ثبوت النقل بمجرد الانقطاع م: (لو صبر) ش: أي المغصوب منه م: (إلى أن يوجد جنسه له ذلك) ش: لأن حقه في مثله من جنسه، حتى لو أتى الغاصب بالقيمة لا يجبر على القبول.
ولو كان انتقل إليها يجبر كما في غير المثلي، وكما إذا قضى القاضي بالقيمة م: (وإنما ينتقل) ش: أي المثل إلى القيمة م: (بقضاء القاضي فيعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء) ش: لأنها زمان النقل كما في ولد المغرور أنه بمنزلة العبد في حق المستحق فإِذا خاصمه المستحق صار المغرور مانعا له باعتبار حقه في الحرية، فاعتبر الحق منتقلا عن العين إلى القيمة يوم الخصومة، فكذلك هذا.
م: (بخلاف ما لا مثل له) ش: حيث تجب القيمة يوم الغصب م: (لأنه) ش: أي لأن الغاصب م: (مطالب بالقيمة بأصل السبب) ش: أي بسبب الضمان وهو الغصب م: (كما وجد فيعتبر قيمته عند ذلك) ش: أي عند وجود أصل السبب.
م: (قال: وما لا مثل له) ش: أي قال القدوري في " مختصره ": وما لا مثل له م: (فعليه قيمته يوم غصبه) ش: أي يوم غصب الغاصب، وقد أضيف يوم هاهنا إلى الجملة كما في قوله تعال:(11/185)
معناه العدديات المتفاوتة لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها دفعا للضرر بقدر الإمكان أما العددي المتقارب فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] (سورة المائدة: الآية 119) ، ويجوز يوم غصبه بإضافة يوم إلى المصدر المضاف إلى فاعله أو مفعوله، فافهم م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري لا مثل له م: (العدديات المتفاوتة) ش: كالبطيخ والرمان والسفرجل والثياب والدواب.
وقال الأترازي هذا تفسير عجيب من صاحب الهداية؛ لأنه يعتبر الكلي بالجزئي؛ لأن ما لا مثل له يشتمل الحيوانات والزرعيات، والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان، والوزني الذي في تبعيضه مضرة وهو المصوغ منه. قلت: هذا تفسير جيد؛ لأن معنى قول القدوري وما لا مثل له، أي الشيء الذي لا يضمن بمثله من جنسه؛ لأن الذي لا مثل له على الحقيقة هو الله تعالى، وذلك مثل العدديات المتفاوتة والثياب والدواب، كذا ذكرنا.
وأما العددي المتقارب كالجوز والبيض والفلوس فهو كالمكيل، وبه قال مالك. وفي " الكافي ": وقال مالك في العدديات المتقاربة يضمن مثله بصورة من جنس ذلك، ولكن ذكر في " الجواهر " للمالكية، وكذا العددي تستوي أبعاد جملته في الصفة غالبا كالبيض والجوز ونحوه، وهذا يدل على أن قوله: في العدديات المتفاوتة كقولنا.
وقال زفر: في العدديات المتفاوتة يجب القيمة أيضا، وفي " المبسوط " في العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب تجب القيمة، وبه قالت الثلاثة وأكثر الفقهاء، وقال أهل المدينة يجب المثل وبه قال أصحاب الظاهر، لكن قالوا: إذا لم يوجد مثله يصبر حتى يوجد أو يأخذ القيمة.
م: (لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها) ش: وهي القيمة م: (دفعا للضرر بقدر الإمكان) ش: وذلك؛ لأن قيمة الشيء معنى ذلك الشيء، والمعنى هو الأصل والصورة تابعة، وإذا تعذر اعتبار الصورة للتفاوت فيها اعتبر المعنى دفعا للضرر وتعذر المعنى وقال أهل المدينة: الواجب هنا المثل وقد مر بيانه. وقال بعضهم: إذا لم يمكن رد عينه يجب نظيره ذاتا وصفة، وهو مذهب ابن سيرين، كذا في شرح " الكافي ".
م: (أما العددي المتقارب) ش: وهو ما يتقارب آحاده في المالية كالجوز والبيض ونحو ذلك م: (فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت) ش: في المالية، هذا مذهب أصحابنا الثلاثة.
وعند زفر تجب القيمة؛ لأنها ليست بأمثال متساوية، ولهذا يجري فيها الربا، وهذا فرع على جواز السلم فيها وقد مر في البيوع.(11/186)
وفي البر المخلوط بالشعير القيمة لأنه لا مثل له.
قال: وعلى الغاصب رد العين المغصوبة، معناه ما دام قائما لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل إنما اقتصر على المكيل ولم يقل والموزون؛ لأن في الموزونات ما ليس بمثل، وهو الذي في تبعيضه ضرر كالمصوغ من القمقم والطشت وليس بواضح؛ لأن في المكيل ما هو كذلك كالبر المخلوط بالشعير، فإنه لا مثل له ففيه القيمة. م: (وفي البر المخلوط بالشعير القيمة؛ لأنه لا مثل له) ش: لتعذر اعتبار المماثلة فيصار إلى القيمة دفعا للضرر.
[رد العين المغصوبة]
م: (قال: وعلى الغاصب رد العين المغصوبة، معناه ما دام قائما) ش: أي ما دام المغصوب قائما يعني ما دامت عينه موجودة، وهذا لا خلاف فيه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد ") » ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن سعيد بن أبي هريرة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «-: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي) » ش: ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه.
قال الترمذي: حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي في البيوع، والثاني في العارية وابن ماجه في الأحكام وليس في حديثه قصة الحسن. ورواه أحمد في مسنده والطبراني في " معجمه " والحاكم في " المستدرك " في البيع وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. وتعقبه الشيخ تقي الدين في الإمام فقال: وليس كما قال بل هو على شرط الترمذي. وقال الحافظ المنذري: وقول الترمذي فيه حسن يدل على أنه يثبت سماع الحسن من سمرة. ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " في البيوع وقال فيه حتى تؤديه مالها. قال ابن القطان في كتابه: وهو بزيادة الهاء موجب لرد العين ما كانت قائمة.
وقال ابن طاهر في كلامه على أحاديث الشبهات إسناده حسن متصل، وإنما لم يخرجاه في الصحيح لما ذكر أن الحسن لم يسمع من سمرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا حديث العقيقة، والله أعلم.
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه ") » ش: هذا الحديث رواه اثنان من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:(11/187)
ولأن اليد حق مقصود وقد فوتها عليه فيجب إعادتها بالرد إليه وهو الموجب الأصلي على ما قالوا، ورد القيمة مخلص خلفاً لأنه قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية وقيل: الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما: أبو السائب أخرج حديثه أبو داود في كتاب " الأدب في باب المزاح "، والترمذي في أول الغبن عن ابن أبي ذئب عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده يزيد بن أبي السائب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها عليه» قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ذئب، والسائب بن يزيد له صحبة سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو غلام، وقبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسائب ابن سبع سنين. وأبو يزيد بن السائب وهو من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى عنه أحاديث.
ورواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم والبخاري في كتابه " المفرد في الأدب " والحاكم في " المستدرك " في الفضائل وسكت عنه. ووقع في روايته لاعبا جادا بدون حرف العطف.
ومعنى قوله لاعبا لا يريد سرقة ويريد إدخال الغيظ على أخيه فهو لاغية في مذهب السرقة جار في إدخال الأذى عليه قاصد اللعب، وهو يريد أن يجد في ذلك ليغيظه، وقال الخطابي في شرح " السنن " قوله لاعبا جادا هو أن يأخذه على سبيل الهزل واللعب ثم يحبسه ولا يرده، فيكون ذلك جادا.
م: (ولأن اليد حق مقصود) ش: لأنها تتوصل إلى التصرف والانقطاع وفي " المبسوط " والضمان في المدبر ليس إلا لتقوية اليد، فعلم أن اليد حق مقصود.
وقيل: بدليل جواز إذن العبد في التجارة، فإنه لا حكم بشرائه في حقه سوى التصرف باليد لاسيما إذا كان مديونا، فإنه ليس هناك شائبة النيابة عن المولى في التصرف، فعلم أن اليد حق مقصود م: (وقد فوتها عليه فيجب إعادتها بالرد إليه) ش: أي إلى صاحب اليد.
م: (وهو) ش: أي رد العين م: (الموجب الأصلي على ما قالوا) ش: أي المشايخ م: (ورد القيمة مخلص) ش: أي إلى صاحب اليد، أي موضع للخلاص، ويجوز أن يكون مصدرا اسميا أي خلاص الغاصب عن يد المغصوب منه م: (خلفا) ش: أي حال كون القيمة خلفا عن العين م: (لأنه) ش: أي لأن رد القيمة م: (قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية) ش: أراد أن الكمال في رد الصورة والمعنى.
م: (وقيل: الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص) ش: وهذا القول عكس القول الأول.(11/188)
ويظهر ذلك في بعض الأحكام قال: والواجب الرد في المكان الذي غصبه لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن، فإن ادعى هلاكها حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها، أو تقوم بينة ثم قضى عليه ببدلها لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض فهو يدعي أمرا عارضا خلاف الظاهر فلا يقبل قوله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأول أصح؛ لأن الموجب الأصلي لو كان القيمة ورد العين مخلصا عنه كان للغاصب أن يقول: خذ قيمة هذا المغصوب وهو جعل الدين وجب أصالة.
وهذا خلاف ما يقتضيه الكتاب؛ لأنه أكل مال الغير بالباطل؛ لأن المالك لم يرض إلا بعين حقه، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (سورة النساء: الآية 29) .
م: (ويظهر ذلك) ش: أي كون الموجب الأصلي قيمته ورد العين مخلصا م: (في بعض الأحكام) ش: منها إذا أبرأها الغاصب، وعن الضمان حال قيام العين يصح ويبرأ حتى لو هلك بعد ذلك في يده لا ضمان عليه، ولو لم يكن وجوب القيمة في هذه الحالة لما صح الإبراء؛ لأن الإبراء عن العين لا يصح، ومنها عن الكفالة لا تصح بالعين وتصح الكفالة بالمغصوب، فعلم أن الموجب الأصلي وهو القيمة، ومنها أن الغاصب إذا كان له نصاب في ملكه، وقد غصب شيئا فلا تجب عليه الزكاة إذا انتقض بالنصاب بمقابلة وجوب المغصوب عليه.
والجواب عن مسألة الإبراء هو بعرضية أن يوجد فله شبهة الوجود في الحال والقيمة كذلك، فكان الإبراء صحيحا من ذلك الوجه. وعن مسألة الكفالة أن الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة، والمغصوب منها، ألا ترى إلى ما قال شمس الأئمة البيهقي في " كفايته ": رجل قال لآخر غصبني فلان عبدا فقال: أنا ضامن العبد الذي تدعي فهو ضامن للعبد. فإن مات أو استحقه آخر فهو ضامن لقيمته، وعن مسألة الزكاة ما ذكرناه في مسألة الإبراء.
م: (والواجب الرد) ش: أي رد المثل والقيمة للعين المغصوب إلى مالكها م: (في المكان الذي غصبه) ش: أي في المكان الذي غصب للمغصوب فيه م: (لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن) ش: وكذا تفاوت المثل بتفاوت الأماكن، ولو ذكره المصنف لكان أحسن وأكثر فائدة م: (فإن ادعى هلاكها) ش: أي فإن ادعى الغاصب هلاك العين المغصوبة م: (حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها، أو تقوم بينة) ش: ومقدار ذلك مفوض إلى رأي الحاكم م: (ثم قضى عليه ببدلها) ش: البدل يشمل المثل والقيمة م: (لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض) ش: أي هلاك العين المغصوبة يكون بأمر عارض م: (فهو يدعي أمرا عارضا) ش: أي الغاصب يدعي أمرا عارضا م: (خلاف الظاهر) ش: لأن الظاهر بقاؤها م: (فلا يقبل قوله) .(11/189)
كما إذا ادعى الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه، فإذا علم الهلاك سقط عنه رده فيلزمه رد بدله وهو القيمة.
قال: والغصب فيما ينقل ويحول لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل وإذا غصب عقارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وفي " المبسوط " غصب جارية فغيبها فأقام المغصوب منه بينة أنه قد غصبها فإنه يحبس حتى يجيء بها فيردها.
وقال أبو بكر الأعمش: تأويل المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك؛ لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة. أما الشهادة على فعل الغصب لا يقبل مع جهالة المغصوب إذ لا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول فلا بد من الإشارة في الدعوى والشهادة، والأصح أن الدعوة صحيحة لأجل الضرورة فيثبت غصبه بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس. ولو قال الغاصب ماتت أو بعتها ولا أقدر عليها تلزم القاضي يومين أو ثلاثة، ومقدار التلوم مفوض إلى رأي القاضي. ولو رضي المالك بالقضاء بالقيمة لا يتلوم.
وفي " الذخيرة " ذكر محمد في السير أنه إذا قضي عليه من غير تلوم قيل: في المسألة روايتان. وقيل: لكن ذكر في السير جواب الجواز بمعناه لو قضى من غير تلوم جاز، وما ذكر في الأصل أن التلوم أفضل.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للغاصب مع يمينه في لزوم البدل وجهان: أحدهما لا يلزمه حتى يصدقه المالك، والثاني يلزم وهو الأصح، وهذا بعد الحبس وبه قال مالك وأحمد.
م: (كما إذا ادعى) ش: رجل م: (الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه) ش: من الإفلاس، وكذا الغاصب إذا ادعى الهلاك يحبس إلى أن يعلم ما يدعيه من الهلاك م: (فإذا علم الهلاك سقط عنه رده) ش: أي سقط عن الغاصب رد المغصوب عينه م: (فيلزمه رد بدله وهو القيمة) ش: أو رد مثله إن كان المغصوب من ذوات الأمثال كما عرف قبل.
[محل الغصب]
م: (قال والغصب فيما ينقل ويحول) ش: أي القدوري والغصب يتحقق فيما ينقل ويحول فقوله والغصب مبتدأ، وقوله فيما ينقل خبره، وقوله ويحول عطف عليه.
فإن قلت: النقل والتحويل واحد فما فائدة ذكرهما معا؟.
قلت: التحويل هو النقل من مكان وإثبات في مكان آخر كما في تحويل الباذنجان والنقل يستعمل بدون الإثبات في مكان آخر. م: (لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه) ش: أي فيما ينقل ويحول م: (دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل) ش: أي لأن إزالة يد المالك لا تتحقق إلا بنقل المغصوب ولا نقل في العقار، والغصب بدون الإزالة لا يتحقق م: (وإذا غصب عقارا) ش: في(11/190)
فهلك في يده لم يضمنه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. يضمنه وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وبه قال الشافعي؛ لتحقق إثبات اليد، ومن ضرورته زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة، فتحقق الوصفان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المغرب " العقار الضيعة، وقيل كل ما له أصل كالدار والأرض.
وفي " العباب " العقار والأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم ماله دار ولا عقار م: (فهلك في يده) ش: بأن غلب السيل على الأرض فيثبت تحت الماء أو غصب دارا فهدمت بآفة سماوية أو جاء سيل فذهب بالبناء م: (لم يضمنه) ش: أي العقار م: (وهذا) ش: أي عدم الضمان م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله) .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنه وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال الشافعي) ش: ومالك وأحمد لخلاف في الغصب لا في الإتلاف، وصورة الخلاف ما ذكرناه وصورة الإتلاف بأن يهدم الحيطان أو عزقها أو كشط تراب الأرض أو ألقى الحجارة فيها أو نقص بفرسه أو بنائه فإنه يضمنه بلا خلاف.
وقد اختلفت عبارات مشايخنا في غصب الدور والعقار على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، فقال بعضهم يتحقق فيها الغصب، ولكن لا على وجه يوجب الضمان، وإليه مال القدوري في قوله وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه عند أبي حنفية وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه أثبت الغصب ونفى الضمان. وقال بعضهم لا يتحقق أصلا وإليه مال أكثر المشايخ م: (لتحقق إثبات اليد) ش: بالسكنى ووضع الأمتعة وغير ذلك، وهذا تعليل لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده؛ لأن عند الشافعي يتحقق الغصب بإثبات اليد بدون إزالة يد المالك.
م: (ومن ضرورته) ش: أي ومن ضرورة إثبات اليد المبطلة م: (زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين) ش: أراد به المتمانعين يد الموافقتين فإنه يجوز كالشريكين في عين واحدة من جنس واحد، احترز به عما إذا أجر داره من رجل فإنها في يد المستأجر حقيقة، وفي يد الآخر حكما لكنهما يدان مختلفتان م: (على محل واحد في حالة واحدة) ش: احترز به عما إذا كان على محلين أو في حالتين، فإن هذا لا يكون غصبا بأن ضرب على يد إنسان فوقعت درة من يده في الحجر أو ضرب على ظهره فطار طير كان على ظهره يجب الضمان وإن انعدم الإثبات ولو تجرد، والإثبات عن إزالته لم يصح سببا للضمان م: (فتحقق الوصفان) ش: وهما إزالة يد المالك وإثبات يد الغاصب.(11/191)
وهو الغصب على ما بيناه فصار كالمنقول وجحود الوديعة ولهما أن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين، وهذا لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها وهو فعل فيه لا في العقار فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي وفي المنقول النقل فعل فيه وهو الغصب. ومسألة الجحود ممنوعة، ولو سلمت في الضمان هناك بترك الحفظ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو الغصب) ش: أي تحقق الوصفين هو الغصب دل عليه قوله فيتحقق كما في قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: الآية 8) أي العدل أقرب للتقوى م: (على ما بيناه) ش: يعني عنده على وجه يزيل يده م: (فصار كالمنقول) ش: أي صار غصب العقار كغصب المنقول في تحقيق الوضعين م: (وجحود الوديعة) ش: في العقار، فإنه إذا كان وديعة في يد شخص فجحده كان ضامنا بالاتفاق.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة، أي بفعل حاصل من الغاصب في العين المغصوبة تقريره م: (أن الغصب إثبات اليد بسبب إزالة يد المالك بفعل في العين) ش: ولهذا إذا تجردت الإزالة عن الإثبات يصلح سببا للضمان كما في الوديعة، فإنها إثبات اليد لكن لما لم يتضمن الإزالة لم يصلح سببا م: (وهذا) ش: أي هذا المجموع م: (لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها) ش: أي بإخراج المالك عن العقار، وتأنيث الضمير بتأويل الصيغة والدار.
م: (وهو فعل فيه) ش: أي الإخراج فعل في المالك م: (لا في العقار) ش: فانتفت إزالة اليد والكل ينتفي بانتفاء جزئه م: (فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي) ش: حتى تلفت، فإن ذلك لا يكون غصبا لها وبعد بتشديد العين، وفي بعض النسخ أبعد من الإبعاد م: (وفي المنقول النقل فعل فيه) ش: أي في المنقول م: (وهو الغصب) ش: أي النقل من المالك هو الغصب؛ لأن فيه يتحقق معنى الغصب وهو تفويت يد المالك المعني في المحل.
م: (ومسألة الجحود) ش: للدين المعلوم م: (ممنوعة) ش: أي جحود الوديعة العقار، يعني لا نسلم أنه إذا جحد الوديعة يضمن وذكر الإمام علاء الدين العالم في طريقة الخلاف: وإذا أودع عند إنسان عقارا فجحد عند أبي حنيفة لا يضمن.
وذكر في " المبسوط " أنه لا يضمن عندهما في الأصح. وقال الناطفي في كتاب " الغصب من الأجناس " كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: إنه على وجهين إن نقل الوديعة عن الموضع الذي كان فيه حال جحوده وهلكت ضمن وإن لم ينقلها عن موضعها حتى هلكت لا يضمن.
م: (ولو سلمت) ش: وجوب الضمان بجحود الوديعة م: (في الضمان هناك بترك الحفظ(11/192)
الملتزم وبالجحود تارك لذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الملتزم وبالجحود تارك لذلك) ش: أي للحفظ الملتزم. وفي " المبسوط " إنما يتضمن بالمنع بعد الطلب لا بالجحود وبالجحود يحصل المنع بعد الطلب. قيل ولو سلم أن الجحود غصب حقيقة كما قال بعض أصحابنا، ولكنه ليس بغصب موجب للضمان كغصب الخمر والخنزير في حق المسلم، وهذا الموضع هو الذي وعد المصنف قبل باب السلم بقوله: وبينته في الغصب عند قوله: ومن باع دارا لرجل فأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف آخرا.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غصب شبرا من الأرض طوقه الله به يوم القيامة عن سبع أرضين» صريح في إطلاق اسم الغصب في الدور والعقار، فلو لم يكن الغصب متحققا فيها لم يطلق، والكلام على حقيقته ما لم يقم دليل على المجاز.
قلت: الحديث لا يدل على ذلك؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل جزاء غصب الأرض التطويق يوم القيامة. ولو كان الضمان واجبا لبينه؛ لأن الضمان في أحكام الدنيا، والحاجة إليه أمس.
والمذكور جميع جزائه، فمن زاد عليه كان نسخا، وذا لا يجوز بالقياس وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل على تحقيق الغصب الموجب للضمان، كما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق لفظ البيع على الحر بقوله من باع حرا، ولا يدل ذلك على البيع الموجب لحكم، على أنه جاء في الصحيحين الحكم بلفظ أخذ، فقال: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما، فإنه يطوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» فعلم أن المراد من الغصب الأخذ ظلما لا غصبا موجبا للضمان.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» يدل على ذلك بإطلاقه، والتقييد بالمنقول خلافه.
قلت: هذا مجاز؛ لأن الأخذ حقيقة لا يتصور في العقار؛ لأن حد الأخذ أن يصير المأخوذ تبعا ليده؛ لأنه مفعول فيه فكان منصرفا إلى المنقول ضرورة ليعمل بالأخذ على حقيقته.
فإن قلت: إزالة اليد ليست بشرط في الغصب، كما لو ركب الدابة وهلكت من غير فعل فإنه يضمنها بالإجماع، وكما لو وهب دارا لرجل بما فيها من الأمتعة فهلكت الأمتعة قبل أن ينقلها الموهوب له، ثم استحقت الدار فللمستحق أن يضمن الموهوب له بلا خلاف، والمسألة في الزيادات ولم تزل إلا منفعته من يد المالك ليست بشرط.(11/193)
قال: وما نقص منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا لأنه إتلاف، والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين ويدخل فيما قاله إذا انهدمت الدار بسكناه وعمله، فلو غصب دارا وباعها وسلمها وأقر بذلك والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار فهو على الاختلاف في الغصب هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قيل ذلك الجواب غير مستقيم على أصل محمد؛ لأنه واقفا على أنه يضمنه بدون الفعل، بل الجواب فيه أن الواهب نقل يده إلى الموهوب له، ويد الواهب في الأمتعة كانت مفوتة ليد المالك، فانتقلت بصفتها والضمان في مسألة الراكب باعتبار الإتلاف لا بالغصب، ولهذا لو ركب أو تلف تحته يضمن، والله أعلم.
[ضمان المغصوب]
م: (وقال وما نقص منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا) ش: أي قال القدوري وما نقص الغاصب من العقار بفعله بأن هدم شيئا أو انهدم بسكناه ضمنه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أما على قول محمد والشافعي فظاهر، وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف فكذلك م: (لأنه إتلاف، والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين) ش: فيكون إتلافا فيجوز أن يضمن بالإتلاف ولا يضمن بالغصب. م: (ويدخل فيما قاله) ش: أي الذي قاله القدوري من قوله ومن نقصه منه بفعله إلى آخره م: (إذا انهدم الدار بسكناه وعمله) ش: بأن يحمل الحدادة والقصارة، وقيد بقوله بسكناه وعمله؛ لأنه لو انهدم بغير سكناه وفعله بآفة سماوية لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
فإن قلت: كيف يعرف نقصان الأرض؟
قلت: قيل ينظر بكم تستأجر قبل أن تزرع وبكم تستأجر بعد. وقيل بكم تباع قبل ذلك وكم تباع بعده، فيغرم ما بين ذلك من النقصان.
م: (فلو غصب دارا وباعها وسلمها) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري فلذلك ذكره بالفاء، وهي من مسائل الأصل، ومعناه إذا باعها ثم اعترف بالغصب، وهو معنى قوله م: (وأقر بذلك) ش: أي بالغصب م: (والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار) ش: على أنها ملكه، قيد به؛ لأنه إذا كان له بينة لا ضمان على البائع بالاتفاق؛ لأنه يمكنه أخذ دار بالبينة م: (فهو على الاختلاف) ش: المشهور م: (في الغصب) ش: أي في غصب العقار فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا ضمان عليه خلافا لمحمد وزفر والشافعي م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما قال بعضهم أنه يجب على الكل هنا الضمان بالبيع والتسليم بالاتفاق، ألا ترى إلى ما قال الحاكم الشهيد في " كافيه " رجل غصب دار رجل فباعها وتسلمها ثم أقر بذلك، وليس لرب الدار بينة. قال لا ضمان على الغاصب؛ لأنه لم يغيرها عن حالها.(11/194)
قال: وإن انتقص بالزراعة يغرم النقصان لأنه أتلف البعض فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل قال رضي الله عنه - وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف: لا يتصدق بالفضل وسنذكر الوجه من الجانبين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو يوسف: أنا أراه ضامنا قيمتها، استحسن ذلك، وهو قول محمد، ورجع أبو يوسف عن هذا إلى قول أبي حنيفة أنه لا ضمان عليه.
فإن قيل: إذا شهد بدار الإنسان وقضى له بها ثم رجعا ضمنا قيمتها للمشهود عليه بالاتفاق وإتلافهما كإتلاف البائع بالبيع والتسليم، ولا ضمان على بائعه عندهما.
وأجيب: بأن مسألة الشهادة على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى تقدير أن يكون قول الجميع فالفرق بين المسألتين أن الإتلاف في مسألة الشهادة حصل بشهادتهما حتى لو أقام بالبينة على الملك لنفسه لا يقبل بينته والعقار يضمن بالإتلاف. وأما مسألتنا فالإتلاف لم يحصل بالبيع والتسليم بل يعجز المالك عن إثبات ملكه بينته، ألا ترى أنه لو أقام البينة على أنها ملكه قضى له بها، فلهذا لا يكون البائع ضامنا.
م: (قال: وإن انتقص بالزراعة يغرم النقصان) ش: أي قال في " الجامع الصغير "، وإذا انتقص بالزراعة، يعني المغصوب والمكان المغصوب بالزراعة ضمن النقصان ولا يعلم فيه خلاف، وقد مر تفسير النقصان عن قريب. وقال السعدي: إن كان عرف أهل تلك القرية أنهم يزرعون أرض الغير بغير إذنه على وجه المزارعة من غير إذن وعقد لرب الأرض أن يطالبه بحصة الأرض به.
وذكر أبو الليث في هذه الصورة الزرع للزارع وعليه نقصان الأرض م: (لأنه أتلف البعض) ش: أي بعض الأرض والعقار يضمن بالإتلاف بلا خلاف م: (فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل) ش: أي يأخذ الغاصب رأس ماله، وهو البذر وما أنفق وما غرم، أي قدر ما غرم من نقصان الأرض ويتصدق بما زاد؛ لأنه مستفاد كسب خبيث صورة مثلا خرجت أربعة أكرار ونقصتها الزراعة وبذره كر ولحقته مؤنة، وقدر قيمة النقصان كر فالفضل الخارج عن رأس ماله كر فيتصدق به.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: أي وجوب التصدق بالفضل عندهما م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتصدق بالفضل) ش: لأن المنهي عنه ربح ما لم يضمن، وهو قد ضمن م: (وسنذكر الوجه من الجانبين) ش: أي عند قوله ومن غصب عبدا فاستغله فنقصه.(11/195)
قال: وإذا هلك النقل في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه، وفي أكثر نسخ المختصر: وإذا هلك الغصب والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل وهذا لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق، إذ هو السبب وعند العجز عن رده تجب رد القيمة أو يتقرر بذلك السبب، ولهذا تعتبر قيمته يوم الغصب وإن نقص في يده ضمن النقصان لأنه دخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وإذا هلك النقلي) ش: أي الذي ينقل م: (في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه) ش: لأن الغصب فيما ينقل على ما مر م: (وفي أكثر نسخ المختصر) ش: أي القدوري م: (وإذا هلك الغصب) ش: أي المغصوب م: (والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل) ش: أي يكون فيما ينقل؛ لأنه لا يتصور في غير المنقول، والمغصوب مضمون عليه لمجرد الغصب على معنى أنه يجب رده إن كان قائما، ومثله في المثلي إن كان هالكا، وقيمته إن لم يكن مثليا، فإذا كان الضمان بالغصب تقرر الضمان بالهلاك فلم يتفاوت بين أن يكون هلاكه بفعله أو بغير فعله، ولهذا وجب عليه قيمته يوم الغصب.
م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان م: (لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق، إذ هو) ش: أي الغصب م: (السبب) ش: أي سبب الضمان على ما قررناه آنفا م: (وعند العجز عن رده) ش: أي رد المغصوب عينه م: (تجب رد القيمة) ش: هذا على قول من قال إن الموجب الأصلي في الغصب رد العين. م: (أو يتقرر بذلك السبب) ش: أي وتقرر القيمة بذلك السبب هذا على قول من قال: الموجب الأصلي هو القيمة، وإنما ذكر كلامه بالترديد تنبيها على ما ذكر قبل هذا من اختلاف المشايخ في الموجب الأصلي م: (ولهذا) ش: أي ولكون الغصب السابق هو السبب م: (تعتبر قيمته يوم الغصب) ش: فعلم أن الموجب الأصلي هو القيمة.
م: (وإن نقص في يده ضمن النقصان) ش: أي إذا رد المغصوب بعدما نقص في يده يلزم النقصان، سواء كان النقصان في يده بأن كانت جارية فاعورت أو شابة صارت عند الغاصب عجوزة أو ناهدة الثديين وانكسر ثديها، أو لم يكن في يده بأن كان عبدا محترفا نسي ذلك عند الغاصب أو قارئا نسي القرآن ففي هذا كله يضمن النقصان ولا يعلم فيه خلاف، هذا إذا كان النقصان يسيرا. أما إذا كان كثيرا يتخير المالك بين الأخذ وتضمين النقصان، والترك مع تضمين جميع قيمته، كذا في " المبسوط " وعند الثلاثة للمالك أخذ العين مع قيمة النقصان، سواء كان فاحشا أو يسيرا م: (لأنه دخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب) ش: أي لأن الشأن دخل جميع أجزاء المغصوب في ضمان الغاصب بسبب الغصب.
م: (فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته) ش: أي إذا تلف جزء من أجزاء المغصوب وتعذر رد(11/196)
بخلاف تراجع السعر إذا رد في مكان الغصب؛ لأنه عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء، وبخلاف المبيع؛ لأنه ضمان عقد، أما الغصب فقبض، والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد على ما عرف. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومراده غير الربوي. أما في الربويات لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عينه يجب رد قيمته. وأما إذا جبر نقصانه بمثل أن ولدت المبيعة عند الغاصب فردها وفي قيمة الولد وفاء بنقصان الولادة فلا يضمن الغاصب شيئا عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (بخلاف تراجع السعر) ش: أي لا يضمن الغاصب ما نقص من قيمته بتراجع السعر بلا خلاف بين العلماء م: (إذا رد في مكان الغصب) ش: قيد به؛ لأنه إذا لم يكن فيه يخير المالك بين أخذ القيمة والانتظار إلى الذهاب إلى ذلك المكان، فيسترده؛ لأن النقصان دخل من قبل الغاصب بنقله إلى هذا المكان. فكان له أن يلزم الضرر ويطالبه بالقيمة وله أن ينتظر م: (لأنه) ش: أي لأن تراجع السعر م: (عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء) ش: لأن فتور الرغبات شيء أحدثه الله في قلوب العباد، فلا يوجب ذلك تغيير الأحكام.
م: (وبخلاف المبيع) ش: على قوله بخلاف تراجع السعر، يعني إذا نقص شيء من قيمة المبيع في يد البائع بفوات وصف منه قبل أن يقبضه المشتري لا يضمن البائع شيئا لنقصانه، حتى لا يسقط شيء من الثمن عن المشتري بسبب نقصان الوصف، وإن فحش النقصان، كما لو اشترى جارية بمائة مثلا فاعورت في يد البائع فصارت تساوي خمسين كان المشتري مخيرا بين إمضاء البيع وفسخه، فلو اختار البيع وجب عليه تسليم تمام المائة كما شرط م: (لأنه ضمان عقد) ش: أي لأن ضمان المبيع ضمان عقد، والأوصاف لا تضمن بالعقد.
م: (أما الغصب فقبض) ش: لأنه فعل على الذات بجميع أجزائها وصفاتها، فكانت مضمونة، وهو معنى قوله م: (والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد) ش: أي لا يضمن بالعقد؛ لأن العقد يرد على الأعيان لا على الأوصاف م: (على ما عرف) ش: عند قوله إن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومراده غير الربوي) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومراد القدوري بقوله: وإن نقص في يده ضمن النقصان غير المال الربوي م: (أما في الربويات) ش: أي أما في الأموال الربويات، والأموال الربويات التي لا يجوز بيعها بجنسها متفاضلا م: (لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا) ش: لأنه إذا كان المغصوب من الأموال الربوية لا يجوز له تضمين النقصان إذا أخذ العين احترازا عن الربا.(11/197)
قال: ومن غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة فعليه النقصان لما بينا، ويتصدق بالغلة، قال - رضي الله عنه -: وهذا عندهما أيضا وعنده لا يتصدق بالغلة وعلى هذا الخلاف إذا آجر المستعير المستعار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد قال الكرخي في " مختصره ": وإن كان مما لا يجوز بيعه بجنسه متفاضلا مثل أن يغصب حنطة وصب فيه ماء أو غير ذلك من الحبوب، أو يغصب إناء فضة أو درهم أو دنانير فيتهشم الإناء من يده، أو يكسر الدراهم فتصير عله أو الدنانير فتصير قراضة. فإن صاحب ذلك بالخيار إن شاء أخذ ذلك لا شيء له غير، وإن شاء تركه وضمنه مثل قيمته من الذهب، وكذلك إذا كان الإناء من ذهب فهو بالخيار إن شاء أخذه بعينه، وإن شاء أخذ قيمته من الفضة، وكذلك يلزمه الصفر والنحاس والشبة والرصاص. وفي " المبسوط " استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن قيمته. ولأصحابه فيه وجهان أصحهما أنه يضمنه بجنسه وتكون الزيادة بمقابلة الصنعة، وبه قال الحنبلي؛ لأن الربا يجري في العقود لا في الغرامات. وفي وجه يضمن نقصه بغير جنسه، وبه قال.
[غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة]
م: (قال: ومن غصب عبدا فاستغله) ش: هذا لفظ الصدر الشهيد حسام الدين في " الجامع الصغير "، ومعنى استغله أجره وأخذ الأجرة م: (فنقصته الغلة) ش: أي العمل في الإجارة جعله مهزولا. وفي " المبسوط ": لم يذكر نقص الغلة م: (فعليه النقصان لما بينا) ش: أي عند قوله: لأنه دخل جميع أجزائه في الضمان بالغصب، ويجوز أن يكون بيانا، ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله: لأنه أتلف البعض والغلة للغاصب.
وقال الشافعي، وأحمد، ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الأجر عوض للمنافع المملوكة لرب العبد فلم يملكها الغاصب. قلنا: وجوب الأجرة بالعقد؛ لأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد والعاقد هو الغاصب فهو الذي جعل منافعه بالعقد مالا فكان هو أولى، لكن يتصدق بها، أشار إليه بقوله: م: (ويتصدق بالغلة) ش: لأنها حصلت بكسب خبيث.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي قال المصنف التصدق بالغلة م: (عندهما أيضا) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (وعنده) ش: أي وعند أبي يوسف م: (لا يتصدق بالغلة) ش: لأنه يطيب له، وهذا قوله الآخر مثل قولهما، هكذا ذكر الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (إذا آجر المستعير المستعار) ش: وأخذ أجرته لا يطيب له عنده خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا على الخلاف، ولو أجر المودع(11/198)
لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حصل في ضمانه وملكه، أما الضمان فظاهر، وكذلك الملك في المضمون؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب عندنا، ولهما: أنه حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير وما هذا حاله فسبيله التصدق، إذ الفرع يحصل على وصف الأصل والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبث. فلو هلك العبد في يد الغاصب حتى ضمنه له أن يستعين بالغلة في أداء الضمان؛ لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا لو أدى إليه يباح له التناول، فيزول الخبث بالأداء إليه، بخلاف ما إذا باعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوديعة م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه حصل في ضمانه، وملكه أما الضمان فظاهر، وكذا الملك في المضمون؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت الغصب عندنا) ش: أي حال كون التملك مسندا إلى وقت الضمان فيكون مالكا تملك من وقت الضمان، فيطيب له ككسبه المبيع بعد القبض.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي أن الغلة، وتذكير الضمير باعتبار الكسب م: (حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير) ش: والحكم يثبت مضافا إلى سببه فلا بد من ثبوت الخبث فيها بحكم ذلك السبب م: (وما هذا حاله) ش: ما بمعنى الذي، وذا إشارة إلى قوله: وهو التصرف في ملك الغير م: (فسبيله التصدق إذ الفرع يحصل على وصف الأصل) ش: أصله حديث الشاة المصلية على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى م: (والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبيث) ش: فأجاب بقوله: الملك المستند إلى الضمان ناقص، يعني في كونه ثابتا فيه من وجه دون وجه، ولهذا يظهر في حق القائم دون الغائب فلا ينعدم به الخبث.
م: (فلو هلك العبد في يد الغاصب) ش: سواء كان بفعله أو بفعل غيره م: (حتى ضمنه) ش: أي حتى ضمن الغاصب العبد م: (وله) ش: أي الغاصب م: (أن يستعين بالغلة في أداء الضمان) ش: لأن ما ملكه والخبث حق الملك، أشار إليه بقوله م: (لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا) ش: أي ولأجل كون الخبث حق المالك ولم يكن لكونها ملكا له م: (لو أدى) ش: أي الغاصب الغلة م: (إليه) ش: أي إلى المالك مع أداء العبد م: (يباح له التناول فيزول الخبث بالأداء إليه) ش: أي إلى المالك؛ لأن الخبث كان لحق المالك فيزول بالصرف إليه.
قيل: هذا إذا كان فقيرا، وإن كان غنيا فيه روايتان، قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - علاء الدين الأسبيجابي في " شرح الكافي ": والصحيح أنه يجوز الصرف إلى المالك وإن كان غنيا عوضا عن الهلاك لما قلنا.
م: (بخلاف ما إذا باعه) ش: هذا يتعلق بقوله: فإن هلك العبد في يد الغاصب، يعني إذ(11/199)
فهلك في يد المشتري، ثم استحق وغرمه ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه؛ لأن الخبث ما كان لحق المشتري إلا إذا كان لا يجد غيره؛ لأنه محتاج إليه فله أن يصرفه إلى حاجة نفسه، فلو أصاب مالا يتصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال، وإن كان فقيرا فلا شيء عليه لما ذكرنا.
قال: ومن غصب ألفا فاشترى بها جارية فباعها بألفين، ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما. وأصله: أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باع الغاصب العبد المغصوب بعد الاستغلال م: (فهلك في يد المشتري) ش: أي فهلك العبد في يده م: (ثم استحق) ش: أي البعد بأن ظهر له مستحق م: (وغرمه) ش: أي غرم المشتري العبد، أي قيمته م: (ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه) ش: أي ليس للبائع أن يستعين بغلة العبد في أداء الثمن إلى المشتري م: (لأن الخبث ما كان لحق المشتري) ش: حتى يزول بالصرف إليه، بخلاف الأول؛ لأن الخبث فيه لحق الملك فيزول بوصول الغلة إليه.
م: (إلا إذا كان) ش: أي الغاصب م: (لا يجد غيره) ش: أي غير الغلة بتأويل الكسب أو الأجر أو المال م: (لأنه محتاج إليه) ش: لتفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس م: (فله) ش: أي وللمحتاج م: (أن يصرفه إلى حاجة نفسه) ش: وهو أولى بذلك؛ لأنها ملكه وإن كان فيه خبث م: (فلو أصاب مالا) ش: يعني لو أصاب مالا، بعد أن صرف الغلة عن الضمان م: (يتصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال) ش: أي وقت استهلاك الثمن.
م: (وإن كان فقيرا) ش: يوم استهلك الثمن م: (فلاشيء عليه) ش: يعني ليس عليه أن يتصدق بشيء من ذلك م: (لما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه محتاج إليه، كذا قال الأترازي. وقال الكاكي: هذا إشارة إلى قوله: وما هذا حاله فسبيله التصدق.
وفي " الذخيرة ": هذا إذا أجر العبد أما إذا أجر العبد نفسه صحت الإجارة، فإنه يأخذ العبد الأجرة يأخذها المالك مع العبد بلا خلاف لأحد، ولو أخذه الغاصب من العبد وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجب عليه الضمان، وبه قالت الثلاثة؛ لأنه أتلف مال الغير وله نعم أنه مال المالك؛ ولكنه لا عصمة له في حق الغاصب، فأشبه نصاب السرقة بعد القطع.
[نماء المغصوب وزيادته في يد الغاصب]
م: (قال: ومن غصب ألفا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": م: (فاشترى بها جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم، فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما) ش: أي التصدق بجميع الربح عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه ملك خبيث، وبه قال الشافعي في الجديد، وأحمد في رواية، وبعض أصحاب مالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال(11/200)
خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مرت الدلائل. وجوابهما في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف؛ لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه، ثم هذا ظاهر فيما يتعين بالإشارة، أما فيما لا يتعين كالثمنين فقوله في الكتاب: اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها ونقد منها الثمن. أما إذا أشار إليها ونقد من غيرها أو نقد منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له، وهكذا قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين لا بد أن يتأكد بالنقد لتحقق الخبث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الربح للمالك، والمشتري ملكه.
ولو دفع الملك من الحر إلى آخر مضاربة فالحكم في الربح على ما ذكرنا من الخلاف، وليس للمالك من أجر العامل شيء عند أحمد؛ لأنه لم يأذن له بالعمل في ماله، ولا على الغاصب إن كان المضارب عالما بالغصب وإن عمل لزم أجر عمله على الغاصب كالعقد الفاسد.
م: (وأصله) ش: أي أصل الخلاف م: (أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما خلافا لأبي يوسف، وقد مرت الدلائل) ش: أي في مسألة: ومن غصب عبدا فاستغله م: (وجوابهما) ش: أي جواب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله م: (في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه) ش: فيكون الربح خبيثا.
م: (ثم هذا) ش: أي عدم طيب الربح م: (ظاهر فيما يتعين بالإشارة) ش: كالعروض؛ لأن العقد يتعلق بها حتى لو هلك قبل القبض يبطل البيع فيستفيد الرقبة، واليد في المبيع بملك خبيث فيتصدق به م: (أما فيما لا يتعين كالثمنين) ش: أي الدراهم والدنانير م: (فقوله في الكتاب) ش: أي قول محمد في " الجامع الصغير " م: (اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها، ونقد منها الثمن) ش: قال فخر الإسلام.؛ لأن ظاهر هذه العبارة يدل على أنه أراد بها.
م: (أما إذا أشار إليها، ونقد من غيرها، أو نقد منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له) ش: وهذه أربعة أوجه، ففي واحد منها لا يطيب، وفي الباقي يطيب، وذكر في " المبسوط ": وجها آخر لا يطيب فيه أيضا، وهو أنه دفع إلى البائع تلك الدراهم أولا ثم اشترى منه بتلك الدراهم م: (وهكذا قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أراد أن هذا التفصيل في الجواب هو قول الكرخي م: (لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين) ش: يستوي وجودها وعدمها فعند ذلك م: (لا بد أن يتأكد بالنقد) ش: منها م: (لتحقق الخبث) ش: والفتوى على قول الكرخي، ذكره في " التتمة "، و " الذخيرة " لكثرة الحرام دفعا للحرج عن الناس.(11/201)
وقال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين والمضاربة قال: وإن اشترى بالألف جارية تساوي ألفين فوهبها، أو طعاما فأكله لم يتصدق بشيء، وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال) ش: أي في الوجوه كلها م: (وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين) ش: أي في " الجامع الكبير "، و " الجامع الصغير " م: (والمضاربة) ش: أي وفي المضاربة من كتاب " المبسوط "، حيث قال: يتصدق بجميع الربح مطلقا.
م: (قال: وإن اشترى بالألف جارية) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وإن اشترى الغاصب بالألف المغصوبة والحرام جارية م: (تساوي ألفين فوهبها، أو طعاما) ش: أي أو كان طعاما م: (فأكله لم يتصدق بشيء) ش: بل يرد عليه مثل ما غصب م: (وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس) ش: بأن يصير الأصل، وما زاد عليه دراهم ولم يصر فلا يظهر الربح.
وفي " جامع أبي اليسر ": هل يباح له الوطء والأكل؟ الصحيح أنه لا يباح؛ لأن في السبب نوع خبيث، ولهذا المعنى بعض الظلمة الذين فيهم قليل تقوى يشترون الأشياء نسيئة ويصرفونها إلى حوائجهم، ثم يقضون الأثمان.
وفي " جامع المحبوبي "، و" نوادر أبي سماعة ": غصب ثوبا، أو كرا فاشترى به طعاما لا يسعه أن يأكل حتى يؤدي قيمة الثوب أو مثل الكر. ولو غصب دراهم فاشترى بها طعاما وسعه أكله؛ لأن الثوب إذا استحق ينتقض البيع، بخلاف ما إذا استحقت الدراهم. ولو اشترى بالثوب، والكر المغصوبين جارية لا يحل له وطؤها. أما لو تزوج بالثوب أو بالكر حل وطؤها؛ لأن باستحقاق المهر لا ينتقض النكاح.(11/202)
فصل فيما يتغير بفعل الغاصب قال: وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وأعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها فلا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها كمن غصب شاة وذبحها وشواها، أو طبخها أو حنطة فطحنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يتغير بفعل الغاصب]
م: (فصل فيما يتغير بفعل الغاصب) ش: لما ذكر حقيقة الغصب، وحكمه، أعقبه بذكر ما يزول به ملك المالك؛ لأنه عارض وحقه الفصل.
م: (قال: وإذا تغيرت العين المغصوبة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (بفعل الغاصب) ش: قيد به احترازا عما إذا تغير بدون فعله، كما إذا صار العنب زبيبا، أو خلا بنفسه والحليب لبنا، والرطب تمرا، فالمالك بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وضمنه. ولو صار العنب زبيبا يجعله ملكه.
كذا في " فتاوى العتابي " م: (حتى زال اسمها) ش: احترز به عن غصب شاة وذبحها، حيث لم يزل ملك مالكها؛ لأنه لم يزل اسمها يقال: شاة مذبوحة، شاة حية م: (وأعظم منافعها) ش: وذكر هذا ليتناول الحنطة إذا غصبها وطحنها، فإن المقاصد المتعلقة بعين الحنطة كجعلها هريسة وكشكا ونشا وبذرا، وغيرها يزول بالطحن.
والظاهر أنه تأكيد؛ لأن قوله: زال اسمها تناوله، فإنها إذا طحنت صارت تسمى دقيقا لا حنطة، ومثل ذلك بقوله: كمن غصب شاة إلى آخره م: (زال ملك المغصوب منه عنها) ش: حتى لو أراد أن يأخذ عين الدقيق مثلا ليس له ذلك م: (وملكها الغاصب وضمنها فلا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها) ش: أي بدل العين المغصوبة وهو المثل، أو القيمة.
م: (كمن غصب شاة وذبحها وشواها، أو طبخها) ش: هذا مثال لتغير العين المغصوبة، وقيد بالشي، والطبخ احترازا عما إذا ذبحها، يشو، ولم يطبخ، حيث لا ينقطع حق المالك عنها، ولهذا قال ظهير الدين إسحاق بن أبي بكر الولوالجي في " فتاواه ": ولو غصب شاة فذبحها فالمالك بالخيار إن شاء أخذها، ولا شيء له غيرها؛ لأن الذبح تقريب إلى مقصود وهو اللحم، ولا يعد غصبا، وإن شاء ضمنه قيمتها يوم الغصب لأجل التبديل، وكذا إذا سلخها، وأربها ولم يشوها، وقال محمد: إن شاء أخذ الشاة وضمنه النقصان، وهذا أصح؛ لأن بعض المنافع تفوت بالذبح، انتهى.
م: (أو حنطة فطحنها) ش: أي أو غصب حنطة فطحنها فصارت دقيقا. وقال الكرخي:(11/203)
أو حديدا فاتخذه سيفا، أو صفرا فعمله آنية، وهذا كله عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا غصب حنطة فطحنها فإن أبا حنيفة، ومحمدا قالا: لا سبيل لرب الحنطة على الدقيق.
وكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعلى الغاصب الحنطة التي غصب، وقال ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأخذ المغصوب منه الدقيق مكان الحنطة، لكن أبيع الدقيق، واشتري له حنطة مثل حنطته وهو أحق بذلك من جميع الغرماء إن مات الغاصب؛ لأنه شبه وهو أحق به من غيره، ولذلك لو غصب دقيقا فخبزه أو غزلا فنسجه أو قطنا فغزله ونسجه فهو مثل ذلك يباع له ذلك فيعطى مثل قطنه، ومثل طعامه إن أبى الغاصب أن يدفع إليه ذلك.
وروى ابن سماعة عنه في موضع آخر أن رب الحنطة بالخيار إن شاء ضمنه حنطة مثل حنطته ودفع إليه الدقيق، وإن شاء أخذ ذلك الدقيق وأبرأ الطاحن؛ لأن متاعه بعينه. قال: خالف أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا وجعله بالخيار على ما وضعت، وكذلك إن وهبه الغاصب أو باعه أو تصدق به، فإن ذلك كله باطل، ولرب الطعام أن يأخذ شيه بعينه.
وكذلك لو غصبه لحما فشواه أو طبخه، وكذلك لو غصبه سمسما أو زيتونا فعصره، وكذلك لو غصبه ترابا فلته أو طبخه آجرا أو اتخذ منه آنية الخزف، أو جعله جهبابا قال فإن لم يكن للتراب ثمن فلا شيء عليه ولا بأس بأن ينتفع به.
فإن غصب طعاما فزرعه فإن عليه مثله في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وتصدق بفضله، وفي قول أبي يوسف لا يتصدق بفضله، ولا بأس بأن ينتفع به قبل أن يرضى صاحبه وكذلك نوى غرسه واتخذ منه نخلا فهو ضامن لقيمته.
قال: وكذلك صنوف الشجر، انتهى كلام الكرخي.
وكذلك لو غصب بيضا فحضنه فصار دجاجا أو غصب زيتا فجعله في بزر له كثير فغلب عليه البزر فصار بزرا، أو غصب عصفرا فصبغ به فلا سبيل لصاحب هذه الأشياء على شيء مما ذكرناه، ولكن يضمن الغاصب حق الذي غصبه إياه، ولا شيء له من ذلك.
م: (أو حديدا فأتخذه سيفا، أو صفرا فعمله آنية) ش: أي أو غصب حديدا فاتخذه سيفا، أو غصب صفرا فعمله آنية، والصفر بالكسر.
قال أبو عبيد: الصفر بكسر الصاد وهو الذي يعمل منه الأواني.
قلت: هو نوع من النحاس وهو الأصفر في لون الذهب م: (وهو كله عندنا) ش: يعني زوال تملك المالك وتملك الغاصب وضمانه عندنا.(11/204)
وقال الشافعي: لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده لأنه يؤدي إلى الربا وعند الشافعي: يضمنه عن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته للشافعي أن العين باق فيبقى على ملكه وتتبعه الصنعة كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة الغير فطحنت ولا معتبر بفعله لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك على ما عرف فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (لأنه يؤدي إلى الربا) ش: لأنه يأخذ عين حقه مع شيء آخر، إذ الدقيق هو عين الحنطة؛ لأن عمل الطحن وتفريق الآخر لا في إحداث ما لم يكن موجودا، وتفريق الآخر لا يبدل العين كالقطع في الثوب، ألا ترى أن الربا يجري بينهما ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة.
م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنه) ش: أي النقصان، لأن على أصله تضمين النقصان مع أخذ العين في الأموال الربوية جائز، وهو رواية م: (عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته) ش: يعني فيشتري له به حنطة مثل حنطته، فلو مات الغاصب فالمالك أحق به من سائر الغرماء؛ لأنه زال ملكه ويده بسبب لم يرض به، وفي " الإيضاح " عن أبي يوسف ثلاث روايات، أحدها كقولهما وقد ذكرناها.
م: (للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين باق فيبقى على ملكه) ش: هذا عطف على قوله؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وتقريره أن بقاء العين المغصوبة يوجب بقاءها على ملك المالك لا الموجب الأصلي في الغصب رد العين عند قيامه، ولولا بقاؤه على ملك المالك لما كان كذلك، والعين باق فيبقى على ملكه م: (وتتبعه الصنعة) ش: الحادثة؛ لأنها تابعة للأصل فالمالك صاحب الأصل وللغاصب الشفعة، فيترجح صاحب الأصل على صاحب التبع.
م: (كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة الغير فطحنت) ش: فإن الدقيق يكون لمالك الحنطة، كذلك هذا م: (ولا معتبر بفعله) ش: هذا جواب عما يقال: إن هذا تمثيل فاسد؛ لأنه تحلل في صورة النزاع، فعل الغاصب دون المستشهد به، أجاب بقوله ولا معتبر بفعله م: (لأنه محظور) ش: أي حرام م: (فلا يصلح سببا للملك على ما عرف) ش: في الأصول أن الفعل المحظور لا يصلح سببا للنعمة وهو الملك م: (فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا) ش: وحينئذ صارت صورة(11/205)
وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها. ولنا: أنه أحدث صنعة متقومة فصير حق المالك هالكا من وجه، ألا ترى أنه تبدل الاسم، وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه، فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النزاع كالمستشهد به لا محالة م: (وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها) ش: بفتح الراء المشددة من التأريب، أو جعلها عضوا عضوا، فإن فعل الغاصب فيه موجود وليس بسبب للملك لكونه محظورا.
م: (ولنا: أنه) ش: أي الغاصب م: (أحدث صنعة متقومة) ش: لأن قيمة الشاة تزداد بطبخها وشيها، وكذلك قيمة الحنطة تزداد بجعلها دقيقا وإحداثها م: (فصير حق المالك هالكا من وجه) ش: لأن قيام الشيء إنما يعرف بصورته ومعناه، وقد فقدت الصورة.
م: (ألا ترى أنه تبدل الاسم) ش: وتبدل الاسم يدل على تبدل العين، فكأنه لم يبق العين الأولى م: (وفات معظم المقاصد) ش: فإن المطلوب من عين الحنطة الزراعة والقلي واتخاذها هريسة، وبالطحن بطل هذا المقصود.
فإن قلت: المقصود الأصلي في الحنطة وسائر المطعومات التغذي بها، فإن الله عز وجل ما خلقها إلا لمصالح الأنفس لتكون عدة لها، وبالزراعة استدامتها فكانت وسيلة إليه، وبالطحن لم يفت ما هو المقصود، ولهذا يجري الربا بين الحنطة والدقيق، ولا ربا بين الحنطة والدقيق، ولا ربا بدون المجانسة.
فإذا بقي ما هو المقصود لا يكون معظم المقاصد فائتا.
قلت: لا شك في فوات الصورة فيفوت المعنى؛ لأن معنى الشيء قائم بصورته، ولا نسلم أن المقصود هو الأكل، إذ العقلاء ما اعتادوا أكل عين الحنطة، بل بعد القلي، واتخاذها هريسة أو خبزا يستدعي وجود الدقيق والدقيق بوجود الحنطة، فكانت الوسيلة إلى هذا المقصد الأصلي من غير الحنطة هو الزراعة، وكذلك المقصود من عين السمسم هو الزراعة، ومن عين العنب وجريان الربا بشبهة المجانسة من حيث الصورة، ومبناه على الاحتياط.
م: (وحقه في الصنعة قائم من كل وجه) ش: هذا جواب عن قوله العين باق فيبقى على ملكه، تقريره أن حق الغاصب أولى باعتباره؛ لأن حقه قائم في الصفة من كل وجه، أي أنها موجودة من كل وجه فلا يضاف حدوثها إلى صاحب العين، بدليل أن المغصوب منه إذا اختار أخذ الدقيق يجب عليه أجرة الطحان، وكذلك لا يأخذ الثوب إلا ويعطيه ما زادت الصنعة فيه من الخياطة، وحق الآخر في المصنوع قائم من وجه هالك من وجه.(11/206)
ولا نجعله سببا للملك من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة بخلاف الشاة لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ويتفرع عليه غيرها فاحفظه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن حقه في الثوب والثوب ثوب بالتركيب، والتركيب بالقطع زال من وجه وبقي من وجه، فلو زال كله لذهب ملكه، وكذلك بعض المنافع القائمة زال بالقطع وحدث بالخياطة ما لم يكن وهذا كمن غصب إبريسما فخاط بطن نفسه أو شاته لم يجز نزع الإبريسم؛ لأنه هالك من وجه، م: (فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه) ش: أي إذا كان كذلك فيترجح حق الغاصب على الأصل وهو حق المالك الذي هو فائت من وجه؛ لأن الصناعة قائمة بذاتها من كل وجه، والعين هالكة فصارت الصنعة راجحة في الوجود، وترجيحه يرجح إلى الحال، وترجيحنا إلى الوجود، فالرجحان في الذات أحق من الحال؛ لأنها تابعة للذات.
م: (ولا نجعله سببا للملك) ش: هذا جواب عن قوله ولا معتبر بفعله؛ لأنه محظور، تقريره أننا لا نجعل فعل الغاصب من الطحن وغيره سببا م: (من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة) ش: المتقومة، إذ إحداث الصنعة مشروع في نفسه، وإنما حرم هاهنا بأن جعل مال الغير بمنزلة آلة له، فأشبه الاحتطاب بقدوم الغير والاصطياد بقوس الغير.
م: (بخلاف الشاة) ش: هذا جواب عن قوله وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة، تقريره أن العلة حدوث الفعل من الغاصب على وجه تبدل الاسم، والشاة ليست كذلك م: (لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ) ش: حيث يقال شاة مذبوحة مسلوخة، كما يقال شاة حية.
فإن قيل: الكلام فيها بعد التأديب ولا يقال شاة مأربة، بل يقال لحم مأرب، فقد حصل الفعل وتبدل الاسم ولم ينقطع حق المالك.
أجيب بأنه كذلك إلا أنه لما ذبحها فقد أبقى اسم الشاة فيها مع ترجيح جانب اللحمية فيها، إذ معظم المقصود منها اللحم ثم السلخ ثم التأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح، بل يحققه فلا يكون تبديل العين، بخلاف الطبخ بعد؛ لأنه لم يبق ما هو المتعلق باللحم كما كان فلم يكن لصاحبها أن يأخذها.
م: (وهذا الوجه) ش: أي وجه الاستدلال ببقاء الاسم على عدم الانقطاع، وبفوات الاسم على الانقطاع م: (يشمل الفصول المذكورة) ش: أي التي ذكرها القدوري من غصب الشاة وذبحها وغصب الحنطة وطحنها، وغصب الحديد واتخاذه سيفا، وغصب الصفر وعمله آنية م: (ويتفرع عليه غيرها) ش: أي على الفصول المذكورة غيرها، مثل خبز الدقيق ونسج الغزل وغزل القطن وعصر السمسم، فإنه يقطع حق المالك عندنا خلافا للشافعي ومن تابعه م: (فاحفظه)(11/207)
وقوله: ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسانا، والقياس: أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله، وهكذا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ووجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف، ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز. وجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها: «أطعموها الأسارى»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي فاحفظ الذي يتفرع عليها واستخرجه بالقياس.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري م: (لا يحل له الانتفاع حتى يؤدي بدلها استحسانا) ش: فيه إشارة إلى أنه لا يحل له الانتفاع بالقضاء وقد نص في " المبسوط " أنه يحل بالقضاء؛ لأنه بمنزلة الأداء لحصول رضى المالك عنده؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه.
م: (والقياس أن يكون له ذلك) ش: أي الانتفاع قبل أداء البدل م: (وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله وهكذا عن أبي حنيفة، رواه الفقيه أبو الليث) ش: قال الفقيه أبو الليث في باب الغصب بعلامة النون من الواقعات الحسابية رجل غصب لحما فطبخه، أو حنطة فطحنها كان عليه الضمان، فصار ملكا له وحل أكله في قوله أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه ملكه بالبدل.
وقال محمد: في العيون لا يحل حتى يرضى المالك، وهو وقول أبي يوسف، انتهى.
ونقل في آخر كتاب الغصب من خلاصة الفتاوى عن فتاوى أهل سمرقند رجل غصب طعاما فمضغه حتى صار مستهلكا، فلما ابتلع ابتلع حلالا عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وشرط الطيب عنده وجوب البدل، وعندهما أداء البدل، والفتوى على قولهما، انتهى.
وقال الكرخي في مختصره: قال الحسن: قال زفر: إذا طبخه أو شواه فقد صار مستهلكا له، وعليه القيمة، وله أن يأكله ويطعمه من شاء رضي صاحبه بالقيمة أو لم يرض، وبه يأخذ الحسن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه القياس م: (ثبوت الملك المطلق) ش: بكسر اللام، أي: المجوز م: (للتصرف، ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز) ش: لأنه ملكه بوجه محظور، فصار كالمقبوض على وجه بيع فاسد، حيث يصح بيعه. م: (وجه الاستحسان قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها: «أطعموها الأسارى ") » ش: هذا الحديث رواه اثنان من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
أحدهما: رجل من الأنصار أخرج حديثه أبو داود في سننه في أول البيوع ثنا محمد بن العلاء أنا ابن إدريس أنا عاصم بن كليب عن أبيه «عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع(11/208)
أفاد الأمر بالتصدق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع مع قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام، فوضع يده، ووضع القوم فأكلوا، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلوك لقمته في فمه. فقال: " إني أجد شاة أخذت بغير إذن أهلها "، فأرسلت المرأة، قالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع أشتري شاة فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها فلم يأخذ، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت بها إلى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أطعميه الأسارى» .
ورواه أحمد في مسنده حدثنا معاوية بن عمر أبو إسحاق عن زائد عن عاصم بن كليب عن أبيه أن رجلا من الأنصار قال فذكره، وهذا مسند صحيح، إلا أن كليب ابن شهاب والد عاصم لم يخرجا له في الصحيح، وخرج له البخاري في رفع اليدين.
وقال ابن سعد: ثقة، وذكره ابن حبان في " الثقات "، ولا يضره قول أبي داود: وعاصم ابن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء، فإن هذا ليس من روايته عن أبيه عن جده، وأخرجه الدارقطني في " سننه " في الضحايا عن حميد بن الربيع ثنا إدريس به وحميد بن الربيع هو الخزاز بخاء معجمة وزاي مكررة.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": كذاب، وتعقبه صاحب التنقيح فقال: وثقه عثمان بن أبي شيبة وقد تابعه محمد بن العلاء كما رواه أبو داود.
والثاني ابن موسى أخرج حديثه الطبراني في " معجمه " ثنا أحمد بن القاسم الطائي ثنا بشر بن الوليد ثنا أبو يوسف القاضي عن أبي حنيفة عن عاصم بن كليب عن أبي بردة «عن أبي موسى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قوما من الأنصار في دارهم فذبحوا له شاة فصنعوا له منها طعاما، فأخذ من اللحم شيئا ليأكله فمضغه ساعة لا يسيغه، فقال: ما شأن هذا اللحم، قالوا شاة لفلان ذبحناها حتى يجيء فترضيه في ثمنها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أطعموها الأسارى ".» ورواه في " معجمه الأوسط " ثنا أحمد بن القاسم الطاوي ثنا بشر بن الوليد به.
م: (أفاد الأمر بالتصدق) ش: أي أفاد الحديث الأمر بالتصدق، والحاصل أنه أفاد أمورا ثلاثة:(11/209)
زوال ملك المالك، وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول: الأمر بالتصدق الذي يدل على زوال ملك المالك إذ لو بقي الملك للمالك لأمر بالرد إليه تحرزا عن إبطال ملك الإنسان، أو أمر بالبيع وحفظ الثمن عند خوف الفساد؛ لأن الإمام ولايته بيع مال الإنسان عند الحاجة.
الثاني: زوال ملك المالك، أشار إليه بقوله م: (زوال ملك المالك) ش: بالنصب، أي وأفاد أيضا زوال ملك المالك. ووجهه ما ذكرناه.
الثالث: حرمة الانتفاع قبل أداء البدل، أشار إليه بقوله: م: (وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء) ش: بالنصب أيضا، أي وأفاد أيضا حرمة انتفاع الغاصب بالمغصوب قبل إرضاء المالك بالتراضي أو بالقضاء.
وقال محمد بن الحسن: في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عاصم بن كليب عن أبيه به، ثم قال ولو كان هذا اللحم باقيا على ملك مالكه الأول لما أمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطعم الأسارى، ولكن لما رآه خرج من ملك الأول صار مضمونا على الذي أخذه أمر بإطعامه؛ لأن من ضمن شيئا فصار له عن وجه غصب فإن الأولى أن يتصدق به ولا يأكله.
وأخرج الدارقطني في " سننه " عن عبد الواحد بن زياد عن عاصم بن كليب به، ثم أخرج عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لأبي حنيفة: من أين أخذت قولك في الرجل يعمل في مال الرجل بغير إذنه أنه يتصدق بالذبح، قال: أخذته من حديث عاصم بن كليب هذا، انتهى.
فإن قلت: قال البيهقي: وهذا؛ لأنه كان يخشى عليها الفساد وصاحبها كان غائبا فرأى من المصلحة أن يطعمها الأسارى ثم يضمن لصاحبها.
قلت: الإمام إذا خاف التلف على ملك غائب يبيعه ويحبس ثمنه عليه كما ذكرنا. ولا يجوز له أن يتصدق به.
فإن قلت: هذا الحديث متروك الظاهر؛ لأن المذهب أن التصدق بالذبح لا يعين المغصوب، فكيف يصح التمسك به.
قلت: روي عن محمد أنه يتصدق بالأصل قبل أداء الضمان على أنا نقول: إن الحديث يقتضي انقطاع حق المالك والتصدق، إلا أن التصدق ترك للمعارض، فبقي الحكم الآخر على ظاهره، ولا يرد علينا اللقطة؛ لأن الشارع أمر بتصدقها بعد تعريفها وعجزها عن إصابة المالك وعن صيانة المال، وهاهنا المالك معلوم ويمكن الرد عليه فلا يجوز التصدق بدون رضاه، كما لو علم صاحب اللقطة وأمكن الرد عليه. كذا ذكره الإمام اليرعوي.(11/210)
ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد وإذا أدى البدل يباح له لأن حق المالك صار موفى بالبدل، فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذا إذا أبرأه لسقوط حقه به، وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضى منه؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه. وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: المصلية أي المشوية من صليت اللحم وغيره أصليه صليا، مثل رميته أرميه رميا إذا شويته، وأراد بالأسارى المحبوسين، كذا فسره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قوله يلوك من اللوك وهو مضغ الشيء الصلب وإدارته في الفم، يقال لاك اللقمة ولاك الفرس اللجام.
قوله: لا يسيغه من ساغ الطعام مسوغا سهل دخوله في الحلق، وأسغته أنا أي ساغ لي.
م: (ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد) ش: هذا دليل معقول، وهو ظاهر.
وفي بعض النسخ قيل الإرضاء أي ساغ لي قبل إرضاء المالك، والحسم القطع بالحاء المهملة م: (ونفاذ بيعه) ش: هذا جواب عن قوله: ولهذا لو وهب أو باعه، أي نفاذ بيع المغصوب م: (وهبته) ش: أي نفاذ هبته، والمصدر في الموضعين مضاف إلى مفعوله م: (مع الحرمة لقيام الملك) ش: وذلك لا يستلزم الإباحة م: (كما في الملك الفاسد) ش: يعني كالمقبوض في البيع الفاسد.
م: (وإذا أدى البدل يباح) ش: هذا راجع إلى قوله حتى يؤدي بدلها، أي إذا أدى الغاصب بدل العين المغصوبة يباح الانتفاع م: (لأن حق المالك صار موفى بالبدل، فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذا إذا أبرأه) ش: أي وكذا يباح الانتفاع إذا أبرأ المالك الغاصب م: (لسقوط حقه به) ش: أي لسقوط حق المالك بالإبراء.
م: (وكذا إذا أدى بالقضاء) ش: أي: وكذا يباح الانتفاع إذا أدى البدل بقضاء القاضي، وفي " المبسوط " لو قضى القاضي بالضمان يحل له الانتفاع بمجرد القضاء لوجود الرضى من المالك، إذ المالك لا يضمنه إلا بعد طلبه فكان راضيا به وقد ذكرناه مرة م: (أو ضمنه الحاكم) ش: بأن كان المغصوب مال اليتيم م: (أو ضمنه المالك) ش: أي أو طلب المالك من الغاصب الضمان يحل الانتفاع قبل أداء الضمان م: (لوجود الرضى منه) ش: أي من المالك م: (لأنه لا يقضي إلا بطلبه) ش: أي بطلب المالك ودعواه، فكان المالك ضمنه فيحل له الانتفاع بذلك.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أصحابنا وزفر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى م: (إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها) ش: يعني لا يحل الانتفاع بالمغصوب قبل أداء البدل(11/211)
غير أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من وجه، وفي الحنطة زرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما، وأصله ما تقدم.
قال: وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دراهم أو دنانير أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيأخذها ولا شيء للغاصب. وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة صيرت حق المالك هالكا من وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - م: (غير أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يباح الانتفاع فيهما) ش: أي في الصورتين المذكورتين وهما غصب الحنطة وزرعها، وغصب النواة وغرسها م: (قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه) ش: لأن الحنطة صارت قصيلا، والنواة صارت زرعا.
م: (بخلاف ما تقدم) ش: من غصب الشاة وذبحها وطبخها، وغصب الحنطة وطحنها حيث لا يحل الانتفاع قبل إرضاء المالك م: (لقيام العين فيه من وجه) ش: لأن إجراء الشاة والحنطة باقية م: (وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده) ش: أي عند أبي يوسف م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (وأصله ما تقدم) ش: أي أصل وجوب التصدق بالفضل عندهما خلافا لأبي يوسف ما تقدم عند قوله: ومن غصب عبدا فأشغله، وأراد بالأصل الدليل المذكور هناك.
[غصب فضة أو ذهبا فضربها دنانير أو دراهم]
م: (قال: وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دنانير أو دراهم أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إلى هنا لفظ القدوري وتمامه فيه:
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يملكها الغاصب.
وقال الحاكم الشهيد في " كافيه ": وإن غصب فضة فضربها دراهم أو صاغها إناء قال يأخذها ولا أجر للغاصب ولا يشبه هذا الحديد والصفر؛ لأنه فضة بعينها لا تخرج من الوزن.
وقال أبو يوسف: ويعطيه مثل فضته، وكذلك الذهب، انتهى.
م: (فيأخذها ولا شيء للغاصب) ش: وبه قالت الثلاثة، وقيد بضربها دراهم أو دنانير؛ لأن في كسر الدراهم والدنانير وقلبهما يضمن مثله بالاتفاق؛ لأنه غيره بصنعه ولا يتم دفع الضرر عن صاحبه إلا بإيجاب المثل والمكسور للكاسر بعد الضمان، وإن شاء صاحبه أخذ المكسور ولم يرجع عليه بشيء، ويستوي إن نقصت ماليته بالكسر أو لم ينتقص، أما لو استهلك القلب فعليه قيمته مصوغا من غير جنسه، وعند الشافعي من جنسه.
م: (وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة) ش: وهي الصياغة م: (صيرت حق المالك) ش: أي إحداث الصنعة صير حق المالك م: (هالكا من وجه) ش: لأن الاسم(11/212)
ألا ترى أنه كسره وفات بعض المقاصد والتبر لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات، والمضروب يصلح لذلك. وله: أن العين باق من كل وجه، ألا ترى أن الاسم باق ومعناه الأصلي الثمنية، وكونه موزونا، وأنه باق حتى يجري فيه الربا باعتباره وصلاحيته لرأس المال من أحكام الصنعة دون العين، وكذا الصنعة فيها غير متقومة مطلقا؛ لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبدل بفعل الغاصب م: (ألا ترى أنه كسره) ش: أي أن الغاصب كسره وبالكسر يتبدل الاسم والمقصود.
فإن قبل الضرب يسمى ذهبا وفضة وبعده درهما ودينارا م: (وفات بعض المقاصد) ش: حيث كان يتعين في المعقود قبل الضرب وبعده لا يتعين وأشار أيضا إلى تبدله في بعض المقاصد بقوله: م: (والتبر) ش: وهو القطعة المأخوذة من المعدن م: (لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات، والمضروب يصلح لذلك) ش: أي ليكون رأس المال فيها، ففي هذا دليل على تغايرهما معنى واسما كما ذكرنا.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن العين باق من كل وجه، ألا ترى أن الاسم باق) ش: حيث يقال بعد الصنعة ذهب وفضة م: (ومعناه الأصلي الثمنية) ش: أراد أن المعنى الأصلي اللازم للعين وهو الثمنية قائم كما كان بلا خلاف م: (وكونه موزونا) ش: عطف على قوله الثمنية م: (وأنه باق) ش: أي وإن كل واحد من الثمنية وكونه موزونا باق، ثم بين بقاء هذين الشيئين بقوله م: (حتى يجري فيه الربا باعتباره) ش: أي باعتبار الوزن.
والحاصل أن الأحكام الأربعة المتعلقة بالذهب والفضة وهي الثمنية وكونه موزونا وجريان الربا ووجوب الزكاة، يدل على أن العين باق من كل وجه.
م: (وصلاحيته لرأس المال) ش: جواب عن قوله والتبر لا يصلح رأس المال وتقريره أن الصلاحية أمر زائد على مقتضى الطبيعة م: (من أحكام الصنعة دون العين) ش: يعني لا من حكم العين، ولهذا نقول ما لا يتفاوت من الفلوس الرائجة في هذا الحكم من الدراهم، فلا اعتبار ولا قيمة للصنعة في هذه الأموال منفردة عن الأصل وبه فارق الحديد والصفر، فإن الصنعة الحادثة تخرجهما من الوزن، حتى إذا باع قمقمة حديد بقمقمتين منه جاز إذا كان يدا بيد.
م: (وكذا الصنعة فيها) ش: أي في عين الفضة والذهب م: (غير متقومة مطلقا) ش: أي في جميع الأحوال، وهذا جواب عن قوله: أحدث صنعة معتبرة، تقريره أنها غير متقومة في كل حال م: (لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها) ش: وإنما تتقوم عند المقابلة بخلاف جنسها، كمن استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا عندنا.(11/213)
قال: ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك المالك عنها، ولزم الغاصب قيمتها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمالك أخذها والوجه عن الجانبين قدمناه، ووجه آخر لنا فيه: أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[غصب ساجة فبنى عليها]
م: (قال ومن غصب ساجة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والساجة بالسين المهملة وتخفيف الجيم خشبة عظيمة. وقيل خشبة منحوتة مهيأة للأساس، والأصح أنها خشبة صلبة قوية تجلب من بلاد الهند لها، ثم تعمل منها الأبواب، وأما الساحة بالحاء المهملة فستأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى م: (فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها) ش: وفي " الذخيرة ": هذا إذا كانت قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة، أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء لم يزل ملك مالكها عنها بالإجماع.
وفي " الكافي " للحاكم: وإن غصب ساجة أو خشبة فأدخلها في بنائه أو آجرة فأدخلها في بنائه أو جصا فبنى به، قال: عليه في ذلك كله قيمته، وليس للمغصوب منه نقض ما بناه وأخذ ساجته وخشبته وآجره على حوالي الساجة؛ لأنه غير متعد في البناء على ملكه فلا ينقض. وأما إذا بنى على نفس الساجة ينقض بناؤه؛ لأنه مطلقا وجعله الأصح، والدليل عليه أن القدوري بعد أن ذكر في شرحه " لمختصر الكرخي " ما ذكرناه قال في كتاب الصرف: ومن غصب درهما فجعله عروة مزادة سقط حق مالكه، والفضة لا تسقط حق مالكها عنها بالصياغة وإنما أسقط بكونها تابعة للموادة، وهذا لا يكون إلا بعمل يرفعه فيها على وجه التعدي، فدل على أن المسألة على إطلاقها، وأنه لا حق للمالك في الساجة في الوجهين على ما يأتي عن قريب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمالك أخذها) ش: أي أخذ الساجة، وبه قال زفر وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على ما يأتي عن قريب م: (والوجه عن الجانبين قدمناه) ش: أي الدليل في مسألة الساجة هو الذي ذكرناه من جانبنا وجانب الشافعي في المسألة المتقدمة في أول الفصل، يعني أن الغصب عندنا عدوان ويصلح سببا للملك. ولنا أنه أحدث صنعة متقومة إلى آخره. م: (ووجه آخر لنا فيه) ش: أي وجه آخر لنا في غصب الساجة، أي في تعليله م: (أن فيما ذهب إليه) ش: أي في الذي ذهب إليه الشافعي م: (إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف) ش: لأن فيه إبطال حقه م: (وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة) ش: فكان فوات حقه مجبورا بالقيمة، وضرر الغاصب ليس بمجبور بشيء فيفوت حقه لا إلى خلف، وكان قطع حق المالك أولى من قطع حق الغاصب.(11/214)
فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده، أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: الغاصب جان ولا يبالى بضرر الجاني إذا كان فيه دفع الضرر عن المجني عليه.
قلت: نعم ولكن حق الجاني فيما وراء جنايته مرعي ودفع الضرر عنه واجب.
فإن قلت: إنه أضر بنفسه حيث باشر سببه، وهو إدخال ساجة الغير في بنائه مع علمه بذلك فلا يبقى مستحقا للنظر بدفع الضرر عنه.
قلت: لا نسلم أنه أضر بنفسه، نعم إنه أدخل ساجة الغير في بنائه، وهذا ليس بسبب للنقض، بل هو سبب لانقطاع حق المالك وثبوت الملك له.
فإن قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد عين ماله فهو أحق به» دليل على أن حقه لا ينقطع بإدخالها في البناء؛ لأنه وجد عين ماله.
قلت: نحن نقول بموجبه وهاهنا لم يجد عين ماله؛ لأن الساجة صارت هالكة من وجه، فصارت ملكا للغاصب. م: (فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده) ش: حيث لا يجب رد الخيط على صاحبه بلا خلاف، ولو خاط بالخيط المغصوب جرح حيوان يؤكل ففيه للشافعي وأحمد رحمهما الله قولان: في قول يجب رده، وفي الثاني ينتقل حقه إلى القيمة، وفي " مغني الحنابلة " فإن خاط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي والبغل والحمار الأهلي وخيف التلف بنزعه لم يجب النزع؛ لأنه إضرار لصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر، وإن كان الحيوان للغاصب، فقال القاضي يجب نزعه ورده.
وقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما هذا، والثاني لا. ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، انتهى.
ولو غصب خيطا وخاط به ثيابه لا يجب نقضه عندنا، وقالت: الثلاثة يجب نقضه ورد الخيط على صاحبه. م: (أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته) ش: يعني ليس لصاحب اللوح نزعه، ولكن فيه تفصيل: وهو أنه إن كان في الساحل لزمه قلعه ورده، وبه قال الشافعي ومالك، وإن كان في لجة البحر واللوح في أعلاها بحيث لا يغرق بقلعه يقلع، وإن خيف غرقها(11/215)
ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر الهندواني: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة، أما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه وجواب الكتاب يرد ذلك وهو الأصح. قال: ومن ذبح شاة غيره بغير أمره فمالكها بالخيار إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه، وإن شاء ضمنه نقصانها وكذا الجزور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم تقلع حتى يخرج إلى الساحل، ولصاحب اللوح المطالبة بالقيمة، فإذا أمكنه رد اللوح استرجعه ورد القيمة، وبه قال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الأسرار ": صورة المجيء عليها فيما إذا كانت السفينة مع من عليها في لجة البحر وخيف الغرق.
فإن قلت: عدم جواز رد الخيط واللوح عنده من أن فيه تلف الناس؛ لأن المالك ملك ذلك بما صنع فلا يصلح للاستشهاد لاختلاف المناط.
قلت: ثبت في كل واحدة، أي من العلة أعني التلف وتملك الغاصب عنها حق الملك وغيره، وجعل حق غيره أولا؛ لأن بإبطاله زيادة الضرر بالنسبة إلى ضرر المالك فكانتا متساويتين.
م: (ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر الهندواني: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة) ش: بفتح اللام، يقال فقد حوله وحوليه، ولا يقال حواليه بكسر اللام، وقعد حياله وبحياله. أي بإزائه، وذلك بأن يكون بعض البناء على ساجة لنفسه والبعض على الساجة المغصوبة؛ لأنه غير متعمد به من كل وجه م: (أما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه) ش: من كل وجه فيقلع م: (وجواب الكتاب) ش: أي القدوري، وهو قوله بنى عليها م: (يرد ذلك) ش: أي التفصيل لما قلنا: إن ضرر المالك مجبور بالقيمة دون ضرر الغاصب م: (وهو الأصح) ش: أي جواب الكتاب هو الأصح، وقد مر بيان الأصحية عن قريب.
وفي " الذخيرة " لو أراد الغاصب نقض البناء ورد الساجة مع تملكها بالضمان بعد القضاء بقيمتها لا تحل، وقبل القضاء بهما قيل: يحل، وقيل: لا يحل؛ لأنه تضييع المال بلا فائدة.
م: (قال: ومن ذبح شاة غيره بغير أمره) ش: أي قال القدوري في " مختصره " ومن ذبح شاة غيره بغير إذنه م: (فمالكها بالخيار إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه) ش: أي إلى الذابح م: (وإن شاء ضمنه نقصانها) ش: أي نقصان الشاة م: (وكذا الجزور) ش: أي وكذا الحكم إذا غصب الجزور وذبحها، إما أن يأخذ العين مع نقصان الذبح، وإما أن يترك العين ويضمن جميع القيمة، والجزور بفتح الجيم ما أعد للجزر من الإبل، أي القطع وهو الذبح يذكر ويؤنث، ومن جعله بالتذكير فقط متوهم، وهو أن يقال إذا كان الجزور معدة للذبح لم يكن معنى الدر والنسل(11/216)
وكذا إذا قطع يدهما هذا هو ظاهر الرواية. ووجهه أنه إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيها مطلوبا فكيف يلزم النقصان، بل الذبح زيادة فيه؛ لأنه يؤخذ لأجله العوض.
فأجاب عنه وقال لا يتفاوت الحكم بين أن يكون الحيوان معدا للذبح أو لم يكن؛ لأن الذبح في الحيوان نقص من حيث تفويت الحياة.
م: (وكذا إذا قطع يدهما) ش: أي وكذا الحكم إذا اقطع يد الشاة والجزور يعني أن المالك بالخيار إن شاء أخذ العين مع نقصان القطع، وإن شاء ترك العين للغاصب وضمنه جميع القيمة، وهذا رواية عن أصحابنا، والظاهر أن له تضمين جميع القيمة بلا خيار، ألا ترى إلى ما قال الحاكم الشهيد في " كافيه ": وأما الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلا يشبه هذا، أي لا يشبه الخرق الكثير في الثوب.
قال: لأنه استهلكها وليس ينتفع صاحبها بما بقي، والغاصب بقيمة الدابة وهي له، وكذا لو كانت بقرة أو شاة أو جزورا فذبحها أو قطع يدها أو رجلها، انتهى.
وذلك؛ لأن الدابة بعد فوات يدها أو رجلها لا ينتفع بها انتفاع الدواب، فصارت هالكة ويصير الغاصب مستهلكا فيجب عليه القيمة، وتكون الدابة بخلاف الثوب، فإن الثوب بالخرق الفاحش لا يكون هالكا؛ لأنه يمكن أن ينتفع بالثياب فلا يضمنه القيمة بلا خيار، بل يكون الخيار للمالك.
وفي شرح " الكافي " روي في رواية أن له الخيار في مأكول اللحم؛ لأن اللحم مقصود كما أن عينها مقصود، واللحم لم يتلف فكان حقه قائما من وجه، فكان له الخيار إن شاء ترك اللحم عليه وضمنه قيمة الدابة، وإن شاء أخذ اللحم وضمنه قيمة النقصان.
م: (هذا هو ظاهر الرواية) ش: أي المذكور من ثبوت الخيار للمالك هو ظاهر الرواية، واحترز به عما رواه بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن صاحب الشاة بالخيار إن شاء أخذها ولا شيء له غيرها، وإن شاء تركها وضمنه قيمتها يوم غصبها، وكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وكذلك إذا سلمها حين ذبحها أو قطع لحمها أعضاء ولم يطبخه والرأس قائم والجلد والأكارع والبطن، كان المغصوب بالخيار إن شاء أخذ ذلك، ولم يكن له غيره وإن شاء ضمنه قيمتها حية.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أنه) ش: أي الذبح م: (إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر) ش: بفتح الدال وتشديد الراء وهو اللبن، ومنه ناقة درور(11/217)
والنسل، وبقاء بعضها وهو اللحم فصار كالخرق الفاحش في الثوب، ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ودار، أي كثيرة اللبن م: (والنسل وبقاء بعضها) ش: أي بعض الأغراض م: (وهو اللحم فصار) ش: أي الحكم في هذا م: (كالخرق الفاحش في الثوب) ش: على ما يجيء حكمه عن قريب، وهذا الذي ذكره لا يعم الجزور بظاهره، ولكنه يعمه من قوله فوت بعض الأغراض إذا لم يجعل البيان منحصرا فيما ذكر بقوله من الحمل والدر والنسل.
م: (ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها، للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه) ش: قال الكاكي: في تقييد هذا الحكم بمأكول اللحم لا توجد زيادة فائدة لما أن الحكم في مأكول اللحم كغير مأكول؛ لأن بقطع الطرف للمالك اختيار تضمين جميع القيمة في المأكول وغيره، ذكره في " المبسوط ".
وقال الأترازي: هذا إنما هو على اختيار صاحب الهداية، والظاهر وجوب تضمين القيمة بلا خيار فيهما، يعني في مأكول اللحم وغير مأكوله إذا قطع طرفه فكان فائدة ذكره رد ذلك الظاهر.
وقال صاحب " العناية ": فيه نظر من وجهين أحدهما: أنه لو كان كذلك لكفى أن يقول وكذلك إذا كان غير مأكول اللحم.
والثاني: أن التعليل يدل على مغايرة الحكم بين قطع طرف مأكول اللحم وغير مأكوله، حيث قال في الأول إنه إتلاف من وجه، وفي الثاني بوجود الاستهلاك من كل وجه، والظاهر من كل أنه نفى اختيار المالك بين تضمين قيمتها وبين إمساك الخشبة وتضمين نقصانها، ويكون ذلك اختيارا منه. وإن كان نقل الكتب على خلافه، فإنه ذكر في " الذخيرة " و " المغني " فقال وفي " المنتقى " هشام عن محمد رجل قطع يد حمار أو رجله وكان لما بقي قيمته فله أن يمسك ويأخذ النقصان، قلت: أراد بذلك صاحب الهداية الإشارة إلى ما ذكره في الواقعات الحسامية في باب الغصب بعلامة السين رجل غصب دابة فقطع يدها فهذا على وجهين:
أما إن كانت لا يؤكل لحمها أو يؤكل ففي الوجه الأول لا يكون لصاحب الدابة خيار؛ لأنه استهلك من كل وجه، وفي الوجه الثاني له الخيار؛ لأنه استهلك من وجه، انتهى.
فإن قلت: ما أراد صاحب الهداية من قوله: فقطع الغاصب طرفها.
قلت: أراد به أحد قوائمها؛ لأن في عين الحمار أو البغل أو الفرس ربع القيمة، وكذلك(11/218)
بخلاف قطع طرف المملوك حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف.
قال: ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في عين البقر والجزور ربع القيمة، وفي عين الشاة ما نقصها على ما سيجيء في كتاب " الديات " إن شاء الله تعالى.
ونقل في " الأجناس " عن كتاب " الجنايات والديات " رواية بشر بن غياث. قال أبو حنيفة: في إحدى عيني الحمار أو البغل ربع القيمة ولو فقأ عين شاة أو حمل أو طير أو كلب أو دجاجة أو نعامة عليه ما نقصه.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك كله: عليه ما نقصه في جميع الربح، ثم قالوا في قطع أذن الدابة وذنبها يضمن النقصان وجعل ذلك نقصانا يسيرا. وعن شريح أنه إن قطع ذنب حمار القاضي يضمن جميع القيمة، وإن كان لغيره يضمن النقصان. وفي " المنتقى ": إذا ذبح الحمار له الخيار، وإن قتله ليس له الخيار؛ لأن جلده لا قيمة له حينئذ، أما في الذبح بمنزلة الذبائح.
م: (بخلاف قطع طرف المملوك) ش: هذا يتعلق بقوله للمالك أن يضمنه جميع القيمة، أي بخلاف العبد إذا قطع الغاصب طرفه م: (حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف) ش: ولا يصير مستهلكا من كل وجه، بخلاف الدابة فإنها بعد ذلك لا ينتفع بها، أي بما هو المقصود بها من الحمل والركوب وغير ذلك.
وهذا إذا لم تكن الجناية مستهلكة، أما إذا كانت مستهلكة فليس للمالك أن يأخذ الأرش مع إمساك الجناية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما على ما عرف في موضعه. بيان ذلك أن كل جناية لو حصلت في الحر أوجبت كمال الدية، فإذا حصلت في العبد فتلك مستهلكة كفقء العينين وقطع اليدين والرجلين والذكر وقطع يد ورجل من جانب واحد.
وأما في قطع الأذنين وحلق الحاجبين إذا لم ينبت ففيه روايتان: في رواية جعله مستهلكا، وكل جناية في الحر لا يوجب كمال الدية كقطع يد أو رجل وقطع يد ورجل من خلاف، فتلك الجناية غير مستهلكة، ثم في الجناية المستهلكة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - المولى بالخيار إن شاء حبس العبد لنفسه ولا يرجع بشيء وإن شاء سلمه إلى الجاني ويرجع بقيمته، وإن قال صاحباه: إن شاء سلم ورجع بالقيمة، وإن شاء حبس لنفسه ورجع بالنقصان كذا في " شرح الطحاوي ".
[خرق ثوب غيره خرقا يسيرا]
م: (قال: ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا) ش: أي قال القدوري، والمراد من الثوب ما(11/219)
ضمن نقصانه والثوب لمالكه، لأنه العين قائم من كله وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه. قال: وإن خرق خرقا كثيرا تبطل عامة منافعه فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه فكأنه أحرقه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه يترك الثوب عليه وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم، ثم إشارة الكتاب إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة، واليسير ما لا يفوت به شيء من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يلبس كالكرباس م: (ضمن نقصانه والثوب لمالكه؛ لأن العين قائم من كل وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه) ش: أي النقصان م: (وإن خرق خرقا كثيرا) ش: بالثاء المثلثة، ويجوز بالباء الموحدة أيضا. وأشار إلى تفسير الخرق الكثير بقوله م: (بحيث تبطل عامة منافعه) ش: بأن لا يبقى شيء في منفعة الثبات بأن لا يصلح لثوب ما م: (فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه، فكأنه أحرقه) ش:. وفي شرح " الكافي " قال شيخ الإسلام: وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كان الخرق بحال لا يمكن خياطته، فأما إذا أمكن خياطته ولم يبق بعد الخياطة نقصان فاحش لا يكون له تضمين جميع القيمة، ويؤخذ بالخياطة ثم يضمن النقصان إن بقي بعد كمن جرح إنسانا جرحا هل يؤخذ بأجرة الطبيب.
فإن بقي نقص بعد ذلك أخذ أرشه كذلك هاهنا، هذا إذا غصب ثوبا فخرقه، أما إذا غصب ثوبا فقطعه قميصا ولم يخطه فله أن يأخذه ويضمنه ما نقصه القطع، وكذا ذكر الحاكم في " الكافي ".
قال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرحه: وإن شاء ضمنه قيمته؛ لأنه تعيب عنده بعيب فاحش، وإن خاطه قميصا أو غيره فليس لصاحبه أن يأخذه؛ لأنه صار شيئا آخر وتعلقت به مصلحة أخرى، فصار الأول هالكا من حيث المعنى، فكان للمالك ولاية التضمين.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومعنى قول القدوري فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته أنه م: (يترك الثوب عليه) ش: أي على الغاصب م: (وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه من حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم) ش: لأنه يمكن أن يفصل عنه ثوب للصغير.
م: (ثم إشارة الكتاب) ش: أي إشارة القدوري م: (إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين) ش: من حيث الظاهر، إذ الظاهر أن الثوب إذا(11/220)
المنفعة، وإنما يدخل في النقصان؛ لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل في الأصل قطع الثوب نقصانا فاحشا والفائت به بعض النافع.
قال: ومن غصب أرضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع يفوت من إجراء شيء لا محالة م: (وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة) ش: أراد به أنه لا يبقي جميع منافعه بل يفوت بعض ويبقي بعض، كما إذا قطع الثوب قميصا منفعة الجبة والقباء.
م: (واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه النقصان) ش: أي النقصان في مالية الثوب لسبب فوت الجودة. وفي " الفتاوى الصغرى " قال بعضهم إن أوجب الخوف النقصان ربع القيمة فصاعدا فهو فاحش وما دونه يسير. وقال بعضهم ما لا يصلح الباقي لثوب فهو فاحش، واليسير ما يصلح. والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض المنفعة وبعض العين، واليسير ما يفوت بعض المنفعة، انتهى.
وهو عكس ما قال صاحب " الهداية " حيث قال: واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وكل منهما نص على الأصح بما ذهب إليه كما ترى. وقال تاج الشريعة: وقال الإمام رضي الدين النيسابوري: ما يستنكف أوساط الناس من لبسه مع ذلك الخرق هو الكثير واليسير ضده. وفي غير المخيط وغير المقطوع أن لا يمكن أن يخاط منه، واليسير ضده.
م: (لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (قطع الثوب) ش: بدون الخياطة م: (نقصانا فاحشا) ش: جعل للمالك ولاية تضمين جميع القيمة م: والفائت به) ش: أي بالقطع م: (بعض المنافع) ش: لا عامة المنافع كما أشار إليه القدوري. وأما لو خاطه ينقطع حق المالك عندنا، ذكره في " الذخيرة ". وعند الثلاثة لا ينقطع، وقالوا في الشق اليسير يأخذ الثوب ويضمنه النقصان. وفي الفاحش كذلك عند الشافعي وأحمد رحمهما الله وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخير كقولنا.
وقال شمس الأئمة: هذا الحكم الذي ذكرنا في الخرق في الثوب فهو الحكم في كل عين من الأعيان إلا في الأموال الربوية، فإن التغيير هناك فاحشا أو يسيرا، لصاحبه الخيار بين الإمساك والدفع والتضمين لقيمته، وفي الإمساك لا يضمن النقصان؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
[غصب أرضا فغرس فيها أو بنى]
م: (قال: ومن غصب أرضا) ش: أي قال القدوري: وقال تاج الشريعة: سماه غصبا وإن لم يتحقق الغصب في العقار عندهما لما أنه يتصور بصورة الأملاك.
قلت: عبارة أصحابنا في غصب العقار مختلفة على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فقيل يتحقق فيه الغصب ولكن لا على وجه يوجب الضمان، وإليه مال القدوري: في قوله: وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه عندهما، فعلى هذا لا يرد(11/221)
فغرس فيها أو بنى قيل له: اقلع البناء والغرس وردها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السؤال فلا يحتاج إلى الجواب وقيل لا يتحقق فحينئذ يجاب بما ذكره تاج الشريعة.
م: (فغرس فيها أو بنى قيل له: اقلع البناء والغرس وردها) ش: يروى الغرس بفتح الغين وكسرها جميعا، فالأول مصدر أريد به المفعول أي المغروس من الشجر والنخل، والثاني اسم ما يغرس من الشجر والنخل، وهذا الحكم لا خلاف فيه.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ليس لعرق ظالم حق» ش: هذا الحديث رواه ستة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الأول: سعيد بن زيد أخرج حديثه أبو داود في الخراج والترمذي في الأحكام، والثاني في إحياء الموات عن عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب عن هشام بن عروة، عن سعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة فهو له، وليس لعرق ظالم حق ".» قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقد رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا، قلت: منهم مالك في " الموطأ ". قال ابن عبد البر في البعض أرسله وجميع الرواة عن مالك لا يختلفون في ذلك، وأخرجه النسائي عن يحيى بن سعيد عن هشام ابن عروة مرسلا.
الثاني: عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الطبراني حدثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا فضل بن سليمان عن موسى بن عقبة، ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ثنا عبادة بن الصامت عن قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وأنه ليس لعرق ظالم حق» .
الثالث: عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه الطبراني أيضا عن مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر مرفوعا باللفظ الأول.(11/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرابع: عمرو بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه إسحاق بن راهويه والبزار في " مسنديهما " والطبراني في " معجمه " وابن عدي في " الكافي " عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف مزني، حدثني أبي أبان أخبره أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أحيا أرضا مواتا من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له، وليس لعرق ظالم حق» وأعله ابن عدي بكثير بن عبد الله.
الخامس: رجل من الصحابة أخرج حديثه أبو داود عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه مرفوعا قال عروة فلقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث وفي لفظه فقال رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبر ظني أنه أبو سعيد «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض غوين أحدهما غرس فيها نخلا والأرض للآخر فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، وقال: " ليس لعرق ظالم حق» قال: فلقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث أنه رأى النخل تقطع أصولها بالقوس.
السادس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطيالسي في " مسنده "، ثنا زمعة عن الزهري عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البلاد بلاد الله والعباد عباد الله، ومن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له وليس لعرق ظالم حق» .
ومن طريق الطيالسي رواه الدارقطني في " سننه " والبزار في " مسنده ". وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قال هشام: عرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: العرق الظالم كل ما أخذ واحتكر وغرس بغير حق.
وذكر في " النهاية " بتنوين عرق، وظالم صفة لا غير، ورواية الفقهاء على الصفة والإضافة. وفي: " المغرب ": ليس لعرق ظالم حق، وصف العرق بالظلم الذي هو صفة صاحبه مجازا، كأنه غرسها على وجه الاغتصاب ليستوجبها به. وقال تاج الشريعة وروي بالإضافة، أي ليس لعرق الغاصب حق، أي ثبوت ودوام بل يؤمر بقلعه.(11/223)
ولأن ملك صاحب الأرض باق، فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها، ولا بد للمالك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: العرق في الأصل بكسر العين هو عرق الشجر والبدن، ويجمع على عروق.
فإن قلت: هذا حكم غرس الشجر والبناء فكيف حكم الزرع في أرض الغير؟.
قلت: روى أبو عبيدة في " كتاب الأموال " عن شريك عن أبي إسحاق عن عطاء بن رباح عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء» فقضى على رب الأرض بنفقة الزرع وجعل الزرع لرب الأرض بنفقة الزارع.
قال: والفرق بين الزرع والنخل أن الزرع إنما يمكث في الأرض سنة، إذا انقضت السنة رجعت الأرض إلى ربها فلم يكن لتأخير نزعها وجه.
وذكر في " الواقعات الحسامية " في باب الغصب بعلامة العين رجل غصب أرضا فزرعها حنطة ثم اختصما وهي بذر لم ينبت بعد، فصاحب الأرض بالخيار إن شاء تركها حتى ينبت، ثم يقول له اقلع زرعك وإن شاء أعطاه ما زاد البذر فيه. أما الخيار فلأنه لا طريق لتفريغ الأرض إلا ذلك، فإن اختار إعطاء الضمان كيف يضمن؟ روى هشام عن محمد أنه يضمن ما زاد البذر فيه فتقوم الأرض غير مبذورة، وتقوم مبذورة لكن يبذر ولغيره حق النقض والقلع إذا نبت، ففصل ما بينهما قيمة بذر في أرض غيره.
وقال: فيه أيضا بعلامة الباء رجل ألقى بذره إلى أرضه وجاء رجل وألقى بذره وسقى الأرض فنبت البذران جميعا أو ألقى فيها بذره وقلب الأرض قبل أن ينبت بذر صاحب الأرض فنبت البذر لا جميعا فما نبت يكون للأرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن خلط الجنس بالجنس استهلاك عنده وعليه للأول قيمة بذره، لكن مبذورا وفي أرض تكون ملكه.
وطريق معرفة ذلك ما مر، لكن ثمة يضمن قيمة بذره في أرض نفسه، فإن جاء صاحب الأرض وهو الأول فألقى فيها بذر نفسه مرة ثالثة وقلب الأرض قبل أن ينبت فيها البذران أو لم يقلب وسقى ما ثبت من المبذور كلها فهو له وعليه للغاصب مثل بذره مبذورا في أرض غيره؛ لأنه أتلف ذلك.
م: (ولأن ملك صاحب الأرض باق فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها) ش: أي في الأرض م: (ولا بد للمالك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها) ش: أي فيؤمر شاغل أرض(11/224)
كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه. قال: فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء وقيمة الغرس مقلوعا، ويكونان له؛ لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغير بإخلائها عما شغلها م: (كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه) ش: بأن غصب ظرفا فطرح فيه متاعه فإنه يؤمر بتفريغه، فكذا هذا.
م: (فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك) ش: أي بقلع الغرس والبناء م: (فللمالك أن يضمن له) ش: أي للغاصب م: (قيمة البناء وقيمة الغرس مقلوعا) ش: أي حال كون كل واحد من الغرس والبناء مقلوعا، وكان الأصوب أن يقول مقلوعين على ما لا يخفى، وليس المراد أن يقلعا ثم يقوما لدلالة الحال عليه، وإنما المراد يقومان وهما قائمان بقيمة ما لو كانا مقلوعين على ما يجيء الآن.
م: (ويكونان له) ش: أي يكون الغرس أو البناء لمالك الأرض م: (لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما) ش: أي لأن في هذا المذكور نظرا للمالك والغاصب جميعا؛ لأن في منع الغاصب من البناء والغرس إضرارا له؛ لأنه عين ماله فلا يجوز منعه منها، وفي قلعه وتسليمه ضرر على المالك وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وفيما ذكرنا نظر ورعاية للجانبين.
وفي " الذخيرة " و " المحيط ": لو غصب ساجة وبنى عليها لا ينقطع حق المالك، ثم قال: وكان الإمام أبو علي النسفي يحكي عن " الكرخي " أنه ذكر في بعض كتبه متصلا فقال: إن كان قيمة الساجة أقل من قيمة البناء ليس للمالك أن يأخذها، وإن كانت قيمة الساجة أكثر فله أن يأخذها.
قال مشايخنا: هذا قريب من مسائل حفظت عن محمد. قال: ومن كان في يده لؤلؤة فسقطت فابتلعتها دجاجة إنسان ينظر إلى قيمة الدجاجة واللؤلؤة، فإن كانت قيمة الدجاجة أقل يخير صاحب اللؤلؤة بين أخذ الدجاجة بقيمتها وبين ترك اللؤلؤة وأخذ قيمتها.
وكذا لو أودع رجلا فصيلا فكبر الفصيل حتى لم يكن إخراجه من البيت إلا بنقض الجدار ينظر إلى أكثرهما قيمة ويخير صاحب الأكثر بدفع قيمة الآخر إلى صاحبه ويتملك مال صاحبه. وكذا لو كان للمستأجر حب في الدار المستأجرة لا يمكن إخراجها إلا بهدم شيء من الحائط ينظر أيهما أكثر قيمة.
وكذا لو أدخل رجل أترجة في قارورة غيره فكبرت الأترجة فلا خيار لأحد وضمن الفاعل لصاحب الأترجة قيمتها، وتكون الأترجة والقارورة بالضمان، قيل: يمكن أن يجاب عنها بأن لا تعدي فيها بخلاف مسألة الغصب؛ لأنه متعد فلا يراعى حقه. وفي " خلاصة الفتاوى "(11/225)
وقوله: قيمته مقلوعا، معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه إذ لا قرار له فيه فيقوم الأرض بدون الشجر والبناء ويقوم وبها شجر أو بناء، لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما.
قال: ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، أو سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجل بنى حائطا في كرم رجل بغير أمر صاحب الكرم فإن كان للتراب قيمة فالحائط للباني وعليه قيمة التراب.
فإن غصب أرضا وبنى حائطا فجاء صاحبها وأخذ الأرض فأراد الغاصب النقض إن بنى الحائط من تراب هذه الأرض ليس له النقض وتكون لصاحب الأرض، وإن بنى الحائط من تراب غير هذا الأرض فله النقض.
م: (وقوله: قيمته مقلوعا) ش: أي قول القدوري يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا م: (معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه) ش: أي لأن حق صاحب الغرس في الغرس م: (إذ لا قرار له) ش: أي للغرس أو البناء، يعني لا نهاية لهما بخلاف الزرع م: (فيه فيقوم الأرض بدون الشجر والبناء، ويقوم وبها شجر أو بناء لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه) ش: قوله لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه صفة لقوله شجر أو بناء.
م: (فيضمن فضل ما بينهما) ش: أي فيضمن صاحب الأرض فضل ما بين القيمتين مثلا إذا كانت قيمة الأرض بدون الشجر عشرة دنانير ومع الشجر الذي يستحق قلعه خمسة عشر دينارا فيضمن صاحب الأرض خمسة دنانير للغاصب فتسلم الأرض والشجر لصاحب الأرض وكذا في البناء.
[غصب ثوبا فصبغه أحمر أو سويقا فلته بسمن]
م: (قال: ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، أو سويقا) ش: أي قال القدوري، والسويق بالسين يعمل من حنطة مقلية. وقد قيل بالصاد وهي لغة بني العبير م: (فلته بسمن) ش: أي خلطه من باب طلب يطلب م: (فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما) ش: أي أخذ الثوب والسويق م: (وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما) ش: أي الثوب والسويق، وبه قال مالك في الصبغ.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة) ش: بالحاء المهملة، يعني إن فصل الساحة يؤمر بالقلع إذا لم(11/226)
بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن، بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر. ولنا: ما بينا أن فيه رعاية الجانبين، والخيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تتضرر الأرض به فكذلك هاهنا؛ لأن في كل منهما شغل ملك الغير بملكه م: (بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن) ش: يعني بالغسل والعسر، وكذا في المخلط إذا كان التمييز ممكنا يجب التمييز والرد، وإن كان غير ممكن يجب رد مثله.
وفي " الوجيز " وشرحه لو كان قيمة الصبغ بقدر قيمة الثوب فهما شريكان يبيعان ويقسمان الثمن بينهما. وفي " الحلية " إذا طالبه صاحب الثوب بقلع صبغه وإذا امتنع الغاصب من ذلك ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر وهو قول أبي العباس، والثاني: يجبر وهو قول ابن خيران وأبي إسحاق.
ولو طلب الغاصب بيع الثوب وامتنع صاحبه ففيه وجهان: يجبر ليصل الغاصب إلى حقه، ولا يجبر. وفي الخلط إن كان بمثله وطلب المالك أن يدفع إليه حقه وامتنع الغاصب: في المنصوص الخيار للغاصب، وفي وجه يلزمه دفعه إلى المالك.
ولو خلطه بأجود وبذله الغاصب صاعا مثله ففيه وجهان: في المنصوص الخيار للغاصب. والثاني: أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما، ولو خلطه بما دونه أجبر الغاصب على دفع ملك المالك. وعند مالك أخذه بالمثل من غيره.
ومن أصحابنا من قال يباع الجميع ويقسم الثمن على قدر القيمتين. ولو خلط من غير جنسه لزمه صاع من مثله. ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، وبه قال مالك في الصورتين. وعن أحمد مثله.
وفي " مغني الحنابلة " لو خلطه بما لا قيمة له كالذائب بالماء فإن أمكن تخليصه خلصه ورد نقصه، وإن لم يمكن تخليصه، أو كان ذلك يفسد رجع عليه بمثله؛ لأنه صار مستهلكا وإن لم يفسد رده ورد ما نقصه. وإن احتيج في تخليصه إلى غرامة لزم الغاصب؛ لأنه بسببه، ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا.
م: (بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر) ش: لأن السمن يدخل في أجزاء السويق. فلا يمكن إخراجه حتى لو كان يمكن فالحكم حينئذ يكون كما في الثوب.
م: (ولنا ما بينا) ش: يعني في مسألة الساجة بالجيم بقوله وجه آخر لنا م: (أن فيه) ش: أي في ثوب الخيار للمالك م: (رعاية الجانبين) ش: أي جانب المالك وجانب الغاصب م: (والخيرة) ش: أي الخيار، وهذا جواب عما يقال لم لا يكون الخيار لصاحب الصبغ إن شاء سلم الثوب(11/227)
لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل. بخلاف الساحة بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض، أما الصبغ فيتلاشى. وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح؛ لأنه لا جناية لصاحب الصبغ ليضمن الثوب، فيتملك صاحب الأصل الصبغ. قال أبو عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصل المسألة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى مالكه وضمنه قيمة صبغه، وإن شاء ضمن قيمة الثوب أبيض فقال: الخيار م: (لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل) ش: لأن الثوب أصل والصبغ صفة، فيكون كالبائع له، والسويق بمنزلة الثوب، والسمن بمنزلة الصبغ.
م: (بخلاف الساحة) ش: بالحاء المهملة أيضا م: (بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض) ش: أي الغاصب فلا يكون ماله ضائعا والنقض الأول بالنون المضمومة بمنزلة المنقوض، وهو كالحنث والأجر، والنقض الثاني بالفتح مصدر نقضت الشيء إذا فككت تركيبه م: (أما الصبغ فيتلاشى) ش: بالغسل ولم يحصل للغاصب شيء، فكذا أثبتنا الخيار له م: (وبخلاف ما إذا انصبغ) ش: الثوب م: (بهبوب الريح) ش: بأن هبت الريح بثوب إنسان وألقته في صبغ غيره حتى انصبغ، فإنه لا خيار له.
م: (لأنه لا جناية لصاحب الصبغ ليضمن الثوب) ش: أي يضمن صاحب الصبغ، وهو على صيغة المجهول بالتشديد، والثوب منصوب على أنه مفعول ثان م: (فيتملك صاحب الأصل الصبغ) ش: فيتملك صاحب الأصل، وهو الثوب بالرفع جواب شرط محذوف، أي إذا لم يكن صاحب الصبغ جانيا فيتملك صاحب الأصل وهو الثوب الصبغ بدفع قيمته إلى صاحب الصبغ، كذا ذكره في " الكافي " حيث قال: وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح فإنه لا يثبت الخيار لرب الثوب، بل يؤمر به بدفع قيمة الصبغ؛ لأنه لا جناية من صاحب الصبغ ليضمن الثوب فيتملك صاحب الأصل الصبغ.
وفي " الإيضاح " لو انصبغ بغير فعل أحد فهو لرب الثوب ولا شيء عليه من قيمة الصبغ. وفي قول أبي حنيفة وإن كان عصفرا أو زعفرانا فرب الثوب بالخيار إن شاء أعطاه ما زاد الصبغ فيه، وإن شاء امتنع فيباع الثوب فيصرف بقيمته ثوبا أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ في الثوب؛ لأنه لم يوجد من أحد فعل هو سبب للضمان، فانتفى الضمان، وصارا شريكين وبه قالت الثلاثة.
م: (قال أبو عصمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو سعيد بن معاذ المروزي تلميذ إبراهيم بن يوسف، وهو تلميذ أبي يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في أصل المسألة) ش: أي في قوله ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر، واحترز بهذا القيد من أن يتوهم أن هذا الحكم الذي ذكره أبو عصمة(11/228)
وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه تعين رعاية الجانبين في البيع، ويتأتى هذا فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه وقد ظهر بما ذكرنا الوجه في السويق، غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته. وقال في الأصل: يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متصل بما يليه من مسألة الانصباغ، وإن كانت مسألة الانصباغ كذلك، لكن وقع من أبي عصمة في أصل المسألة فلذلك قيد به تصحيحا للنقل م: (وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ) ش: أي فيضرب صاحب الصبغ.
م: (بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له) ش: أي لصاحب الثوب م: (أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه) ش: أي عند امتناع صاحب الثوب عن تملك الصبغ بالقيمة م: (تعين رعاية الجانبين في البيع) ش: لأنه طريق اتصال حق كل واحد منهما إلى صاحبه، معنى م: (ويتأتى هذا) ش: يعني يتيسر هذا الاختيار للمالك يعني قول أبي عصمة إن شاء رب الثوب. إلى آخره. م: (فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه) ش: من غير أن يكون لصاحب الصبغ فعل فيه؛ لأنه إذا كان كذلك لا يكون له ولاية تضمين صاحب الصبغ بدون جناية منه، فعند امتناعه عن تملك الثوب وتعذر تضمنه جبرا تعين البيع طريقا للوصول إلى حقه إذا لم يرض صاحب الثوب بتملك الصبغ بالقيمة.
فأما في الغصب عند امتناع رب الثوب عن تملك الصبغ يتعين له تضمين الغاصب بالثوب الأبيض، والتحقيق أن ما قاله أبو عصمة لا يتأتى في أصل المسألة؛ لأن ثمة لصاحب الثوب أن يتملك الصبغ بالقيمة أو يضمن الغاصب، وإذا كان له ذلك لا يتعين البيع عند امتناعه عن التملك بالقيمة، وفيما إذا انصبغ ليس له أن يضمن صاحب الصبغ لما أنه غير جائز فيه فيتعين البيع عند امتناعه من التملك م: (وقد ظهر بما ذكرنا) ش: في مسألة الصبغ والانصباغ. م: (الوجه) ش: يعني جواب المسألة وتعليلها م: (في السويق) ش: من حيث الخلط والاختلاط بغير فصل.
والحاصل أن ما قلنا في غصب الثوب وصبغه فهو الوجه في غصب السويق ولته بالسمن، ويجيء قول أبي عصمة فيه، إلا أن بين السويق والثوب تفاوتا، وهو أن الضمان في غصب الثوب قيمته، وفي السويق مثله لكونه مثليا، أشار إليه بقوله: م: (غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله، والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته وقال في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا) ش: وقال الحاكم في " كافيه ": وإذا(11/229)
وقيل: المراد منه المثل سماه به لقيامه مقامه، والصفرة كالحمرة. ولو صبغه أسود فهو نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما زيادة. وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان،.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غصب سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمة سويقه، وإن شاء أخذ سويقه وضمن للغاصب ما زاد فيه من السمن.
وقال الشيخ علاء الدين الأسبيجابي: وفيه إشكال، وهو أنه قال في الكتاب ضمنه قيمة السويق وأنه مثلي ولم يقل مثله، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، والصحيح ما ذكره في الكتاب؛ لأن السويق أجزاء حنطة مقلية، والحنطة بالقلي تخرج من أن تكون من ذوات الأمثال؛ لأن القلي يسد طريق المماثلة فلا يكون السويق مثليا.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في شرح " الكافي " أن السويق من ذوات القيم وإن كان مكيلا، وقال كل مكيل لا يكون مثليا وكذلك كل موزون لا يكون مثليا، إنما المثلي من المكيلات والموزونات ما هي متفاوتة فليس بمثلي كالعدديات، فإن للمتقاربة أمثال. وأما المتفاوتة فلا، وكأن المكيلات والموزونات والعديات سواء. وكذا يجب أن تكون الزرعيات على هذا، وبين السويق والسويق قد يكون تفاوت فاحش بسبب القلي فلا تكون أمثالا متساوية.
م: (وقيل: المراد منه) ش: أي من القيمة، ذكر الضمير بتأويل ما يقوم م: (المثل سماه به) ش: أي سمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - المثل القيمة في قول يضمن قيمة السويق، وتذكير الضمير في به على التأويل الذي ذكرنا م: (لقيامه مقامه) ش: أي لقيام المثل مقام المغصوب م: (والصفرة كالحمرة) ش: يعني فيما إذا صبغ المغصوب بالصفرة فحكمه حكم ما إذا صبغه بالحمرة في الوجوه كلها مع الخلاف.
م: (ولو صبغه أسود) ش: أي ولو صبغ الثوب المغصوب صبغا أسود م: (فهو نقصان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإذا كان نقصانا فلرب الثوب أن يأخذه ولا يعطيه شيئا عنده م: (وعندهما زيادة) ش: كالحمرة والصفرة فيجزئ فيه ما يجزئ فيها.
م: (وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان) ش: فإن أبا حنيفة كان في زمن بني أمية وكانوا يمتنعون عن لبس السواد، فأجاب على ما شاهد، وهما أجابا على ما شاهدا من عادة بني العباس بلبس السواد، وكان أبو يوسف يقول أولا بقول أبي حنيفة فلما قلد القضاء وأمر بلبس السواد احتاج إلى التزام الزيادة بالصبغ وقال السواد زيادة.
وحكي أن هارون الرشيد شاور مع أبي يوسف في لون الثوب للبس فقال أبو يوسف أحسن الألوان ما يكتب به كتاب الله تعالى، فاستحسن هارون منه ذلك، واختار لون السواد وتبعه من بعده.(11/230)
وقيل: إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو، كالحمرة وقد عرف في غير هذا الموضع ولو كان ثوبا ينقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد: أنه ينظر إلى ثوب يزيد فيه الحمرة فإن، كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو كالحمرة) ش: الحاصل من هذا لأنه لا خلاف في الحقيقة في هذه المسألة، وإنما يرجع إلى العادة في كل زمان، فإن كان السواد زيادة غرمه المالك وإلا لم يغرمه، كذا ذكره القدوري في شرحه لمختصر " الكرخي " م: (وقد عرف في غير هذا الموضع) ش: أي في شرح مختصر " الكرخي " وغيره من الكتب المبسوطة ".
م: (ولو كان ثوبا) ش: أي ولو كان المغصوب المصبوغ ثوبا م: (ينقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه ينظر إلى ثوب يزيد فيه الحمرة) ش: ولا تنقص قيمته به م: (فإن كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم) ش: لأن صاحب الثوب استوجب نقصان الثوب عشرة واستوجب الصباغ على قيمة الصبغ خمسة، فالخمسة بالخمسة قصاص، ويرجع عليه ما بقي من النقصان وهي خمسة، وهو معنى قوله م: (لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ) ش: هذه رواية هشام عن محمد، كذا في " العيون ".
وقال الولوالجي في فتاواه: ول غصب العصفر صاحب الثوب وصبغ به ضمن مثل ما أخذ؛ لأنه استهلكه، فإن لم يقدر عليه فهو على الاختلاف الذي عرف فيما ينقطع عن أيدي الناس وليس لصاحب العصفر أن يحبس الثوب؛ لأن الصبغ فيه كالهالك، والسواد هنا كالعصفر عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أيضا؛ لأن الضمان يجب بإتلاف الصبغ.
ولو وقع الثوب بنفسه في الصبغ فانصبغ، فإن كان أسودا يأخذ رب الثوب ولا شيء عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن كان عصفرا أو زعفرانا فرب الثوب بالخيار إن شاء أعطاه بما زاد الصبغ فيه، وإن شاء فيه باع الثوب ويضرب فيه صاحب الثوب بقيمته وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ من الثوب؛ لأن المالك لم يرض بالتزام ضمان الصبغ، ولا يضمن صاحب الصبغ هاهنا؛ لأنه لا صبغ له بخلاف ما قبله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله السواد والعصفر سواء، وكذلك السمن يختلط بالسويق والسويق بمنزلة الثوب؛ لأنه أصل والسمن كالصبغ. وأما العسل والسويق إذا اختلطا فكلاهما أصل.
ولو غصب ثوبا من رجل وصبغه بعصفر الآخر ثم ذهب الفاعل فلم يعرف فهو كما لو(11/231)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلط بغير فعل لأحد؛ لأنه تعذر اعتبار فعله للضمان فهو كالعدم. ولو كان صاحب الثوب غصب العصفر ثم باعه فلا سبيل لصاحب العصفر على المشتري؛ لأن الغاصب استهلكه.
ولو أن صاحب العصفر غصب الثوب وصبغه ثم باعه وغاب وحضر صاحب الثوب، قضي له بالثوب؛ لأنه ملكه ويستوف منه بكفيل؛ لأن للغاصب فيه حقا وهو الصبغ. ولو غصب ثوبا وعصفرا لرجل واحد وصبغه كان للمالك أن يأخذه مصبوغا وبرئ الغاصب من الضمان؛ لأن مال الإنسان لا يستهلك بماله بالخلط، انتهى.
وقال في " شرح الطحاوي ": ولو اغتصب من رجل ثوبا ومن الآخر صبغا فصبغه ضمن لصاحب الصبغ صبغا مثل صبغه؛ لأنه أتلف صبغه حين صبغ به الثوب فصار بعد ذلك كأنه صبغ بصبغ نفسه، وقد مر بيان ذلك، ومما يتصل بالمسائل فتح رأس تنور حتى يرد فعليه قيمة الحطب مقدار ما يسخن به، وممكن أن يقال ينظر بكم يستأجر التنور المسجور للانتفاع فيضمن ذلك القدر أو ينظر إلى أجرته مسجورا وغير مسجور فيضمن تفاوت ما بينهما، والله أعلم بالصواب.(11/232)
فصل ومن غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها ملكها وهذا عندنا وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكها لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما في المدبر ولنا: أنه ملك البدل بكماله والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه دفعا للضرر عنه بخلاف المدبر؛ لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل مسائل متفرقة تتعلق بالغصب]
[من غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها]
م: (فصل) ش: أي هذا الفصل محتوى على مسائل متفرقة تتعلق بالغصب، فلذلك أخره.
م: (ومن غصب عينا فغيبها) ش: بالغين المعجمة م: (فضمنه المالك قيمتها ملكها) ش: أي ملك الغاصب تلك العين، وبه قال مالك م: (وهذا عندنا) ش: أي تملك الغاصب العين المغصوبة بعد الضمان مذهبنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يملكها) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: حتى لو ظهر من يستردها ويرد القيمة. وقال البرغوي: فائدة الخلاف في ملك اكتسب ونفوذ البيع وجوب الثمن على الغاصب؛ لأنه ملكه عندنا م: (لأن الغصب عدوان محض) ش: أي حرام خالص ما فيه وجه إباحة م: (فلا يصلح سببا للملك) ش: لأن الملك مشروع، وغير المشروع لا يكون مفضيا إلى المشروع، إذ أدنى درجات السبب أن يكون إباحة فلا يملكه م: (كما في المدبر) ش: بأن غصبه وغيبه وضمن قيمته، فإنما يملكه بالاتفاق.
م: (ولنا: أنه) ش: أي المالك م: (ملك البدل) ش: وهو القيمة م: (بكماله) ش: أي يدا ورقبة وكل من ملك بدل شيء خرج المبدل عن ملكه في مقابلته ودخل في ملك صاحب البدل دفعا للضرر عن مالك البدل، لكن يشترط أن يكون المبدل قابلا للنقل من ملك إلى ملك، أشار إليه بقوله: م: (والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك) ش: احترز عن المبدل فإنه غير قابل للنقل على ما يجيء الآن م: (فيملكه) ش: أي إذا كان كذلك يملك الغاصب المغصوب أداء البدل م: (دفعا للضرر عنه) ش: أي عن الغاصب وتحقيقا للعدل كما في سائر المبادلات.
م: (بخلاف المدبر؛ لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر) ش: وكلامه يشير إلى أن سبب الملك هو الغصب، وإلا لم يكن تعليل [ ... ] الثلاثة مالك مناسبا وهو مذهب القاضي أبي زيد، فإنه قال في " الأسرار ": قال علماؤنا: الغصب يفيد الملك في المغصوب عند القضاء بالضمان أو التراضي.
وقال شمس الأئمة في " المبسوط ": وهذا وهم، فإن الملك لا يثبت عند أداء الضمان من(11/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقت الغصب للغاصب حقيقة، وهذا لا يسلم له الولد. ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة ومع هذا في هذه العبارة بعض الشبهة، فالغصب عدوان محض، والملك حكم مشروع مرغوب فيه فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه، ولا يصلح أن يجعل العدوان المحض سببا له، فإنه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به. ولا يجوز إضافة مثله إلى المشروع.
قيل: فيه نظر؛ لأنه لا يراد بكون الغصب سببا للملك عند أداء الضمان أنه يوجبه مطلقا بل بطريق الاستناد، والثابت به ثابت من وجه دون وجه، فلا يظهر أثره في ثبوت الزيادة المنقطعة.
ولا نسلم أن يقال: الغصب موجب لرد العين وللقيمة عند تعذر رد العين، ثم يثبت الملك للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا مقصودا بالغصب، ولهذا لا يملك الولد فإنه بعد الانفصال لا يبقى تبعا وما يثبت شرطا يثبت تبعا، والكسب ليس كذلك؛ لأنه بدل المنفعة فيكون تبعا محضا فيملكه الغاصب.
وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": فإذا أبق العبد المغصوب من يد الغاصب فالملك بالخيار إن شاء انتظر إلى ظهوره عليه فيأخذه، وإن شاء لم ينتظر وضمن الغاصب قيمته. فلو ظهر العبد بعد ذلك فإنه ينظر، إن أخذ صاحبه القيمة التي سماها ورضي بها إما بتصادقهما عليها، أو بقيام البينة، أو بنكول الغاصب عن اليمين، فلا سبيل له على العبد عندنا، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له أن يأخذ عبدا بعينه.
ولو أخذ القيمة بقول الغاصب ويمينه على ما يدعيه المالك من الزيادة فإن المالك بالخيار إن شاء حبس القيمة ورضي بها وسلم العبد إلى الغاصب، وإن شاء رد القيمة التي أخذها ويسترد العبد وللغاصب أن يحبس العبد حتى يأخذ القيمة. ولو مات العبد عند الغاصب قبل رد القيمة عليه فلا يرد القيمة ولكن يأخذ من الغاصب فضل القيمة إن كان في قيمة العبد فضل على ما أخذ، وإن لم يكن فيه فضل فلا شيء له سوى القيمة المأخوذة.
وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إذا ظهر العبد وقيمته مثل ما قال المالك فلا خيار للمالك ولا سبيل له على العبد، في ظاهر الرواية له الخيار من غير تفصيل، ولو كان المغصوب مدبرا وأبق عند الغاصب فإنه يضمن القيمة؛ لأن المدبر يضمن بالغصب، ولكنه لا يصير ملكا للغاصب، حتى إنه لو ظهر يرده على مولاه ويسترد منه القيمة، وليس للغاصب حبسه لأجل القيمة؛ لأنه لا يجوز بيعه ولا يجوز حبسه بالدين.(11/234)
نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء لكن البيع بعده يصادف القن. قال: والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك لأنه أثبته بالحجة الملزمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كان المغصوب أم ولد فلا ضمان على الغاصب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن في أصله أن أم الولد ليست بمال، وعندهما هي كالمدبر. وفرق أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بينهما في الغصب وساوى بينهما في الشراء.
ولو قبضهما المشتري بتسليم البائع وهلك عند المشتري فلا ضمان عليه فيهما جميعا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يضمن القيمة فيهما جميعا. ولو جني على كل واحد منهما وجب الأرش فيهما جميعا على الجاني بالإجماع، انتهى.
م: (نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء) ش: هذا جواب عما يقال لا نسلم أن المدبر لا يقبل النقل، فإن مولاه لو باعه وحكم القاضي بجواز بيعه جاز البيع وفسخ التدبير. وتقرير الجواب القول بالوجوب يعني هو كذلك لكن في ضمن قضاء القاضي في الفصل المشار إليه م: (لكن البيع بعده يصادف القن) ش: لا المدبر فيجوز بيعه القن بهذا الطريق، وأما ما نحن فيه فلم ينفسخ التدبير والكلام فيه.
م: (قال: والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا لا يعلم فيه خلاف م: (لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر) ش: أي الغاصب ينكر تلك الزيادة.
م: (والقول قول المنكر مع يمينه) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على من أنكر» م: (إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك) ش: أي من الذي يدعيه الغاصب م: (لأنه أثبته) ش: أي لأن المالك أثبت ما ادعاه من الزيادة م: (بالحجة الملزمة) ش: وهي البينة، فإن عجز عن إقامة البينة وطلب يمين الغاصب وللغاصب بينة تشهد بقيمة المغصوب لم تقبل بينته بل يحلف على دعواه؛ لأن بينته تنفي الزيادة، والبينة على النفي لا تقبل.
وقال بعض المشايخ: ينبغي أن يقبل لإسقاط اليمين كالمودع إذا ادعى رد الوديعة فالقول قوله. ولو أقام البينة على ذلك قبلت، وكان القاضي أبو علي النسفي يقول: هذه المسألة عدت مشكلة. ومن المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من فرق بين هذا، ومسألة الوديعة وهو الصحيح؛ لأن المودع ليس عليه إلا باليمين، وبإقامة البينة أسقطها وارتفعت الخصومة. وأما الغاصب فعليه هاهنا اليمين والقيمة، وبإقامة البينة لم يسقط اليمين، فلا يكون في مانع المودع.
وفي " المبسوط " و " الذخيرة " في دعوى الغصب ذكر الجنس والصيغة ليس بشرط كما في(11/235)
قال: فإن ظهرت العين وقيمتها أكثر مما ضمن وقد ضمنها بقول المالك أو ببينة أقامها أو بنكول الغاصب عن اليمن فلا خيار للمالك وهو للغاصب؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار قال: وإن كان ضمنه بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض؛ لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سائر الدعاوى؛ لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في الأصل أقام بينة على رجل أنه غصب جارية له يحبس المدعى عليه حتى يجيء بها ويردها. قال الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه المسألة مما يحفظ؛ لأنه قال: أقام بينة، ولم يذكر جنسها وصفتها وقيمتها. قال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تأويل المسألة أنه ذكر الجنس والصفة والقيمة.
وقال أبو بكر الأعمش: تأويلها أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب بذلك، فأما الشهادة على فعل الغاصب فلا تقبل مع جهالة المغصوب، لكن القضاء بالمجهول غير ممكن ولكن الأصح أن هذه الدعوى والشهادة مقبولة بدون ذكر الجنس والصفة للضرورة؛ لأن الغاصب يمتنع عن إحضار المغصوب عادة وحين يغصب إنما يأتي من الشهود معاينة فعل الغصب دون العلم بأوصاف المغصوب فسقط اعتبار علمهم للتعذر فصار ثبوت ذلك الغصب بالبينة كثبوته بإقراره فيحبس.
م: (قال: فإن ظهرت العين) ش: أي قال القدوري: فإن ظهرت العين المغصوبة م: (وقيمتها أكثر مما ضمن) ش: أي والحال أن قيمتها أكثر مما ضمن الغاصب م: (وقد ضمنها بقول المالك) ش: أي والحال أنه قد ضمن الغاصب العين المغصوبة بقول صاحبها م: (أو ببينة أقامها) ش: أي وضمنها بينة أقامها المالك.
م: (أو بنكول الغاصب عن اليمن) ش: بأن عجز المالك عن إقامة البينة على ما ادعاه فطلب يمين الغاصب فنكل عنها وحكم عليه بما ادعاه المالك م: (فلا خيار للمالك) ش: في هذه الصور كلها وبه قال مالك. وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأحمد له الخيار لعدم زوال ملكه عندهما عنه م: (وهو) ش: أي العين المغصوبة ذكر الضمير على تأويل المغصوب م: (للغاصب؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار) ش: ولم يدع الزيادة.
م: (قال: وإن كان ضمنه) ش: أي قال القدوري، أي وإن كان المالك ضمن الغاصب م: (بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض؛ لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة) ش: أراد أن رضاه بهذه المبادلة لم يتم، وإنما أخذه بما زعمه الغاصب ضرورة عدم البينة، وإن الشيء خير من لا شيء وعدم تمام الرضا يمنع لزوم(11/236)
وأخذه دونها لعدم الحجة، ولو ظهرت العين وقيمتها مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير فكذلك الجواب في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما قاله الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار له؛ لأنه لم يتم رضاه حيث لم يعط له ما يدعيه والخيار لفوات الرضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المبادلة، كما إذا باع مكرها وسلم مكرها م: (وأخذه دونها لعدم الحجة) ش: هذا جواب عما يقال إن أخذه القيمة.
وإن كانت ناقصة يدل على تمام الرضا فكانت المسألة كالأول، فأجاب بقوله وأخذه دونها، أي أخذ المالك ما دون الزيادة لا يدل على تمام الرضا؛ لأنه إنما أخذ ذلك للضرورة وهي عدم الحجة، فلا يدل على رضاه، بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأن دعواه ملك القيمة كانت باختياره.
م: (ولو ظهرت العين وقيمتها) ش: أي والحال أن قيمتها م: (مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير) ش: يعني فيما ضمنه الغاصب بقوله مع يمينه م: (فكذلك الجواب) ش: يعني فهو بالخيار إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ العين ورد العوض، م: (في ظاهر الرواية وهو الأصح) ش: لأنه هو المذكور في الأصل مطلقا، وكذلك الطحاوي أطلق الرواية في " مختصره ".
م: (خلافا لما قال " الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار له) ش: لأنه توفر عليه بدل ملكه بكماله م: (لأنه لم يتم رضاه) ش: دليل قوله وهو الأصح؛ لا دليل قول " الكرخي " م: (حيث لم يعط له) ش: أي المالك، وهو على صيغة المجهول م: (ما يدعيه) ش: من القيمة م: (والخيار لفوات الرضا) ش: أي ثبوت الخيار له لفوات رضاه بما أعطي من القيمة، وقد ذهب القدوري في شرحه لمختصر " الكرخي " إلى ما ذهب إليه " الكرخي " حيث قال: فأما إذا قضى عليه بقوله ثم ظهرت العين وقيمتها مثل ما قال الغاصب أو أقل فلا سبيل لصاحبها عليها؛ لأنه استوفى البدل ولم يظهر فيه زيادة.
وأما إذا كانت القيمة أكثر مما قال الغاصب فالمغصوب منه بالخيار، وذلك؛ لأنه لم يستوف بدل العين الذي ادعاه ولم يرض بزوال ملكه عنها بما دون ذلك من البدل، فكان له الخيار.
ثم قال القدوري: وكان أبو بكر الرازي يقول إن هذا محمول على أن هذه الزيادة لا تجوز أن تكون مما يحدث مثلها فيما بين التضمين والظهور، فأما إذا كانت مما يجوز أن يحدث فادعى الغاصب أنها حدثت وادعى المغصوب منه إن كانت، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن التمليك قد صح، ويجوز أن يكون الأمر على ما قال الغاصب فلا يفسخ التمليك بالشك.
ثم قال القدوري: ومن أصحابنا من قال لا رواية في العين إذا ظهرت وقيمتها مثل ما قال(11/237)
قال: ومن غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه، وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه؛ لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا أو ضرورة، ولهذا يظهر في حق الأكساب دون الأولاد والناقص يكفي لنفوذ البيع دون العتق كملك المكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغاصب هل يثبت للمالك الخيار أم لا؟ وهو موضع محتمل، وقد قال محمد في الغصب ما يدل على أنه يثبت له الخيار؛ لأنه قال في تعليل مسألة القيمة إذا كانت ناقصة، لأن المالك لم يستوف ما ادعى من القيمة، وهذا يدل على أن القيمة إن كانت تامة فالخيار ثابت له، لأنه لم يستوف ما قال من القيمة. وذكر أبو يوسف في الإيلاء ما يدل على أنه لا خيار له؛ لأنه قال في تعليل مسألة نقصان القيمة؛ لأن المالك لم يستوف القيمة بكمالها، وهذا يدل على أنه إذا استوفاها لا خيار له، والله أعلم.
[غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته]
م: (قال: ومن غصب عبدا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": ومن غصب عبد رجل م: (فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال في أخرى: لا يجوز بيعه كالإعتاق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك، كتصرفات الفضولي.
م: (وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه؛ لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا) ش: والثابت بالإسناد من وجه حكما لا حقيقة، فيكون ناقصا والناقص يكفي للبيع دون العتق على ما يجيء م: (أو ضرورة) ش: أي يثبت ملك الغاصب ضرورة القضاء بالضمان كيلا يلزم اجتماع البدل والمبدل في ملك واحد والثابت بالضرورة ثابت من وجه دون وجه. م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ثبوت الملك له ضرورة م: (يظهر في حق الأكساب دون الأولاد) ش: أي يظهر ثبوت ملك الغاصب في حق الأكساب، ولا يظهر في حق الأولاد بأن غصب جارية فكسبت أكسابا قبل أداء الغاصب الضمان، فالأكساب للغاصب.
ولو ولدت أولادا قبل أدائه الضمان ثم أدى الضمان فالأولاد للمغصوب منه فيكون الملك ناقصا، إذ لو كان تاما لكان الأولاد بأداء الضمان كما في البيع، فإن من اشترى جارية فولدت قبل أداء الثمن ثم أدى المشتري لتمام الملك.
م: (والناقص) ش: أي الملك الناقص م: (يكفي لنفوذ البيع دون العتق كملك المكاتب) ش: فإنه يملك البيع ولا يملك العتق؛ لأن ملكه ناقص، وإنما قال بإعتاق الغاصب ثم تضمينه احترازا عن إعتاق المشتري من الغاصب فإن فيه روايتين، في رواية يصح إعتاقه وهو الأصح قياسا على الوقف وفي رواية لا يصح.
وفي " الكافي " للحاكم هذا فيما إذا أعتق الغاصب، أما إذا أعتق المشتري الغاصب فأجاز(11/238)
قال: وولد المغصوبة ونماؤها وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت أو منفصلة لوجود الغصب، وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه كما الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه. ولنا: أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرناه، ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المالك البيع، فيه خلاف فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف يصح إعتاقه موقوفا على إجازة المالك البيع، فإذا أجاز نفذ على المشتري، ويكون الولاء له. وقال محمد وزفر رحمهما الله: لا يصح، وقال أبو سليمان: هذه رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف أنه لا يجوز عتقه. وقال ابن أبي ليلى: عتق المشتري من الغاصب قيمته، وإن كان مات ثم سلم رب العبد لم يجز البيع.
م: (قال: وولد المغصوبة ونماؤها) ش: أي قال القدوري: أي ولد الجارية المغصوبة ونماؤها كالسمن والجمال سواء غصبها حاملا وولدت عنده أو حبلت في يد الغاصب م: (وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه، إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما الكسب الحاصل باستغلال الغاصب ليس بنماء وغير مضمون على الغاصب؛ لأنه بدل المنفعة وهي غير مضمونة على الغاصب على ما يجيء.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت) ش: كالسمن والجمال م: (أو منفصلة) ش: كالولد والثمر، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لوجود الغصب وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه) ش: فتكون مضمونة م: (كما في الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه) ش: لأن ضمان الأصل باعتبارية مبطلة عليه، وهذه اليد ثابتة بعينها على الزيادة لحدوثها في ملك اليد فتصير مضمونة ضرورة.
م: (ولنا أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرناه) ش: في أول كتاب الغصب وإثبات اليد على ذلك الوجه ليس بموجود على ما نحن فيه؛ لأنها ما كانت ثابتة، وهو معنى قوله م: (ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب) .
ش: فإن قيل: هذا يقتضي أن يضمن الولد إذا غصب الجارية حاملا؛ لأن اليد كانت ثابتة عليه، وليس كذلك فإنه لا فرق بين هذا وبين ما إذا غصبها غير حامل فحبلت في يد الغاصب وولدت، والرواية في " الأسرار ".(11/239)
ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب وذلك بأن أتلفه أو ذبحه فأكله أو باعه وسلمه وفي الظبية المخرجة من الحرم لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: بأن الحمل قبل الانفصال ليس بمال، بل يعد عيبا في الأمة فلم يصدق عليه إثبات اليد على مال الغير.
سلمنا ذلك لكن لإزالة ثمة ظاهر، إذ الظاهر عدم المنع عند الطلب، أشار إليه بقوله م: (ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع) ش: يعني لو اعتبر يد المالك ثابتة على الولد تقريرا تبعا لملك الأم، فإنه ما زال اليد التقديري لا يمنعه عند الطلب، بخلاف الأم، فإن الزائل ثمة اليد الحقيقي فيتحقق الغصب باعتباره م: (حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (وذلك بأن أتلفه أو ذبحه فأكله أو باعه وسلمه) ش: إنما ذكر التسليم؛ لأن التعدي لا يتحقق بمجرد البيع بل بالتسليم بعد، فإن تفويت يده يحصل به؛ لأنه كان متمكنا من أخذ من الغاصب وقد زال ذلك بالبيع.
فإن قيل: إن الأم مضمونة ألبتة والأوصاف القارة في الأمهات تسري إلى الأولاد كالحرية والرقبة والملك في الشراء.
أجيب: بالضمان ليس بصفة قارة في الأم، بل هو لزوم حق في ذمة الغاصب، فإن وصف به المال كان مجازا.
فإن قيل: قد وجد الضمان في مواضع ولم تتحقق العلة المذكورة فيها فكان أمارة زيفها، وذلك كغاصب الغاصب، فإنه يضمن وإن لم يزل يد المالك بل أزال يد الغاصب والمسقط إذا لم يشهد مع القدرة على الإشهاد ولم يزل يدا، والغرور إذا منع الولد يضمن به الولد ولم يزل يدا في حق الولد ويضمن الأموال بالإتلاف تشبيها كحفر البئر في غير الملك، وليس ثمة إزالة يد أحد ولا إثباتها.
فالجواب إنما قلنا: إن الغصب على التفسير المذكور يوجب الضمان مطردا لا محالة. وأما إن كل ما يوجب الضمان كل غصب فلم يلتزم ذلك لجواز أن يكون الضمان حكما نوعيا يثبت كل شخص منه من العلة ما يكون تعديا.
م: (وفي الظبية المخرجة من الحرم) ش: هذا جواب عن قوله كما في الظبية المخرجة من الحرم، تقريره أن القياس غير صحيح؛ لأنه إن قاس عليها قبل التمكن من الإرسال فهو ظاهر الفساد؛ لأنه لا ضمان عليه، وهو معنى قوله م: (لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من(11/240)
الإرسال لعدم المنع، وإنما يضمنه إذا هلك بعده لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع، على هذا أكثر مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ولو أطلق الجواب فهو ضمان جناية ولهذا يتكرر بتكررها ويجب بالإعانة والإشارة، فلأن يجب بما هو فوقها وهو إثبات اليد على مستحق الأمن أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإرسال لعدم المنع) ش: وإن قال عليها بعد التمكن فكذلك؛ لأن الضمان فيه باعتبار المنع، وهو معنى قوله م: (وإنما يضمنه) ش: أي الولد م: (إذا هلك بعده) ش: أي بعد التمكن من الإرسال م: (لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع) ش: لا باعتبار أن الأم مضمونة م: (على هذا أكثر مشايخنا) ش: المتقدمين.
م: (ولو أطلق الجواب) ش: أي في ولد صيد الحرم بأن يقال يجب الضمان سواء هلك بعد التمكن من الإرسال أو قبل التمكن م: (فهو ضمان جناية) ش: أي الضمان في صيد الحرم ضمان جناية، أي إتلاف معنى الصيدية وقد حصل الإتلاف والإهلاك معنى بتفويت الأمن فوجب الضمان.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه ضمان جناية والإتلاف م: (يتكرر) ش: أي الجزاء م: (بتكررها) ش: أي بتكرر الجناية، فإنه لو أدى الضمان بسبب إخراج الصيد عن الحرم ثم أرسله فيه ثم أخرج ذلك الصيد من الحرم وجب جزاء آخر.
وفي " فتاوى الولوالجي " لو أخرج صيدا فكفر منه، ثم رماه بعد ذلك وقتله فعليه كفارة أخرى.
قيل: ويجوز أن يكون معناه يتكرر وجوب الإرسال بتكرر هذه الجناية التي هي الإخراج من الحرم. قلت: هذا له معنى ولكن الأقرب ما ذكر أولا.
م: (ويجب) ش: أي الضمان م: (بالإعانة) ش: بأن أعان رجلا لمن قتل صيد الحرم فإنه يجب على المعين أيضا جزاء كامل، كما يجب على القاتل إذا كانا محرمين.
وأما إذا كانا إحلالين فعليهما جزاء واحد، وعلى كل حال يجب على المعين كما يجب على المباشر م: (والإشارة) ش: بأن أشار غيره على صيد الحرم فقتله فإنهما مشتركان في الجزاء، وكذا المحرم إذا أشار محرما آخر على قتل صيد الحل فإنه يجب على كل منهما جزاء م: (فلأن يجب بما هو فوقها) ش: أي فوق الإعانة والإشارة.
م: (وهو إثبات اليد على مستحق الأمن) ش: وهو صيد الحرم؛ لأنه مستحق الأمن بالنص م: (أولى) ش: خبر لقوله فلأن يجب، وأن مصدرية، والتقدير فالوجوب بما هو فوقهما أولى م:(11/241)
وأحرى. قال: وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب فإن كان في قيمة الولد وفاء به جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب، وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجبر النقصان بالولد؛ لأن الولد ملكه، فلا يصح جابرا لملكه كما في ولد الظبية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وأحرى) ش: عطف على أولى، وهو أيضا بمعناه ذكر للتأكيد.
فإن قيل: تفويت الأمن في حق صيد الحرم سبب صالح لوجوب الضمان لا في حق كل الصيود، والولد ليس بصيد الحرم، بدليل أنه يحل بيعه وأكله، فلو كان صيد الحرم لما حل، ولأن تفويت الأمن يتصور بعد ثبوته في حق الولد؛ لأنه كما حدث خائفا فلا يتصور تفويت الأمن في حق الخائف.
أجيب: بأن الولد لم يكن صيد الحرم من كل وجه، بل من وجه بدليل أنه يجب إرساله وأكله وإن كان يحل ولكنه يكره. وإنه وإن حدث خائفا ولكنه مستحقا للأمن فصار كالآمن حكما، فافهم.
م: (قال: وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب) ش: أي قال القدوري: وقوله وما مبتدأ، أي والذي نقصت الجارية. وقوله في ضمان الغاصب خبره، والعائد على الموصول محذوف، أي والذي نقصته الجارية، صورته غصب أمة رجل تساوي ألفا مثلا، فولدت في يده ولدا قيمتها خمسمائة مثلا، أو نقصت بالولادة حتى صارت قيمتها خمسمائة فإنه يضمن النقصان ولكنه ينجبر بالولد على ما يأتي مفصلا، وبه قال مالك إذا جيئت بعد الغصب، أما لو غصب حاملا ضمن بعد الولادة ولا ينجبر بالولد، وعندنا ينجبر.
م: (فإن كان في قيمة الولد وفاء به) ش: أي بالذي نقص الجارية وهذا تفسير لقوله وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب فلذلك ذكره بالفاء، أي فإن كان قيمة الولد تفي ذلك النقصان م: (جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب) ش: أي ضمان ما نقصت؛ لأنا قد قلنا في الصورة المذكورة أن نقصان الجارية خمسمائة فجبر ذلك النقصان برد الولد مع الأم ولا يلزم غير ذلك عندنا.
م: (وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجبر النقصان بالولد) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الولد ملكه) ش: أي ملك الغاصب م: (فلا يصح جابرا لملكه) ش: لأن الضمان جبر ما فات منه ولم يوجد.
م: (كما في ولد الظبية) ش: إذا أخرجها من الحرم ونقصت قيمتها بسبب الولادة وقيمة ولدها يساوي ذلك النقصان فإنه لا ينجبر بها، يجب ضمان النقصان مع وجوب ردها إلى الحرم.(11/242)
وكما إذا هلك الولد قبل الرد أو ماتت الأم وبالولد وفاء وصار كما إذا جز صوف شاة غيره أو قطع قوائم شجرة غيره أو خصى عبد غيره أو علمه الحرفة فأضناه التعليم، ولنا: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة أو العلوق على ما عرف وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكما إذا هلك الولد قبل الرد) ش: أي قبل رد الأم، فإنه يجب ضمان النقصان م: (أو ماتت الأم) ش: أي بسبب الولادة، هكذا النص في " الأسرار " و " الإيضاح " م: (وبالولد وفاء) ش: أي والحال أن بقيمة الولد وفاء.
م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا جز صوف شاة غيره) ش: أي شاة لغيره فنبت صوف غيره م: (أو قطع قوائم شجرة غيره) ش: فنبت قوائم أخرى مكانها فإن بقيتها لا ينجبر بالنقصان م: (أو خصى عبد غيره) ش: بأن قلع خصيتيه فإنه نقصان فيه، ولكن ازدادت قيمته بسبب الخصي فإنه يضمنه نقصان الخصية كما لو تردد قيمته م: (أو علمه الحرفة) ش: أي أو علم عبد غيره الحرفة م: (فأضناه) ش: بسبب م: (التعليم) ش: فلا ينجبر ما أضناه بالتعليم بما ازدادت قيمته بسبب علم الحرفة.
م: (ولنا: أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو) ش: أي السبب م: (الولادة) ش: عندهما م: (أو العلوق) ش: عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (على ما عرف) ش: في طريق الخلاف تقرير هذا أن الولد خلف عن الخبر الفائت بالولادة بطريق اتحاد السبب، وهو أن الولادة أوجبت فوات جزء من مالية الأصل وحدوث مالية الولد.
لأنه وإن كان موجودا قبل الانفصال لكنه ما كان مالا بل كان عيبا في الأم وصفا لها، وإنما صار مالا مقصودا بعد الانفصال والسبب الواحد متى أثر في الزيادة والنقصان كانت الزيادة خلفا عن النقصان كالبيع لما زال المبيع عن ملك البائع وأدخل الثمن في ملكه كان الثمن خلفا عن مالية المبيع باتحاد السبب، حتى لو شهد الشاهدان عليه ببيع شيء بمثل القيمة ثم رجعا لم يضمنا شيئا.
م: (وعند ذلك) ش: أي كون الشيء الواحد سببا للزيادة والنقصان م: (لا يعد نقصانا) ش: أي لا يعد النقصان الحاصل نقصانا لحصول الزيادة في مقابلته م: (فلا يوجب ضمانا) ش: أي إذا كان كذلك فلا يوجب النقصان ضمانا، ثم أوضح ذلك بقوله م: (وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت) ش: أي ثنيتها غير الساقطة، والثنية واحدة الثنايا وهي الأسنان المتقدمة اثنتان فوق واثنتان أسفل، سميت بذلك؛ لأن كل واحدة منهما(11/243)
أو قطعت يد المغصوب في يده وأخذ أرشها وأداه مع العبد يحتسب عن نقصان القطع وولد الظبية ممنوع، وكذا إذا ماتت الأم، وتخريج الثانية: أن الولادة ليست بسبب لموت الأم، إذ الولادة لا تفضي إليه غالبا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضمونة إلى صاحبها.
م: (أو قطعت يد المغصوب في يده) ش: أي أو قطع يد العبد المغصوب في يد الغاصب م: (وأخذ أرشها) ش: أي وأخذ الغاصب أرش اليد المقطوعة من الجاني م: (وأداه مع العبد) ش: أي أدى الغاصب الأرش مع العبد إلى المالك م: (يحتسب عن نقصان القطع وولد الظبية ممنوع) ش: هذا جواب عن قول زفر والشافعي رحمهما الله، كما في ظبيته.
وتقريره لا نسلم أن نقصان الظبية بالولادة لا تنجبر بقيمة الولد كما قال، بل قيل: إنه يصلح أن يكون جابرا وإليه ذهب المصنف فعلى هذا يمنع قياسهما عليه.
م: (وكذا إذا ماتت الأم) ش: يعني أن القياس على موت الأم أيضا ممنوع، يعني لا نسلم أن الأم إذا ماتت لا تنجبر قيمتها بقيمة الولد إذا كان فيها وفاء، بل ينجبر كما قيل في غير ظاهر الرواية.
م: (وتخريج الثانية) ش: أي الرواية الثانية فإذا ماتت الأم لا تنجبر بالولد وهو ظاهر الرواية. الحاصل هاهنا أن في مسألة موت الأم روايتان، في أحدهما ينجبر النقصان فلا يتأتى علينا. وفي الثانية لا ينجبر ويتأتى علينا ظاهرا. ولكن أشار إلى الجواب عنه بقوله م: (أن الولادة ليست بسبب لموت الأم، إذا الولادة لا تفضي إليه غالبا) ش: أي لأنه لا تفضي الولادة إلى الموت في غالب الأحوال، أراد أن كلامنا فيما إذا كان السبب واحدا وهاهنا ليس كذلك فإن الولادة سبب للزيادة وليس بسبب لموت الأم، إذا لا يفضي إليه غالبا.
فإن قلت: إنها أفضت إليه في هذه الصورة فتكون سببا.
قلت: هو بالنظر إلى أوضاع أسباب التصرفات لا إلى أفرادها، ألا ترى أن الصبي لا يؤهل للطلاق والعتاق وإن تحقق النفع في صورة، لأنهما في الأصل سبب للمضار. وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى وهو أنه يجبر بالولد قدر نقصان الولادة، ويضمن ما زاد على ذلك من قيمة الأم؛ لأن الولادة لا توجب الموت، فالنقصان بسبب الولادة دون موت الأم ورد القيمة كرد العين. ولو رد عين الجارية كان النقصان مجبورا بالولد، فكذا رد قيمتها، فصار فيه ثلاث روايات.
وذكر في " الطريق البرهانية " إذا ماتت الأم وبالولد وفاء فقد روي عن أبي حنيفة رحمه(11/244)
وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد؛ لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه، والخصاء لا يعد زيادة لأنه غرض بعض الفسقة، ولا اتحاد في السبب فيما وراء ذلك من المسائل؛ لأن سبب النقصان القطع والجز، وسبب الزيادة النمو، وسبب النقصان التعليم والزيادة سببها الفهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله ثلاث روايات، في رواية يصير الولد خلفا، وفي رواية لا يكون خلفا، وفي رواية يكون خلفا عما انتقصت بالولادة. قال: فنحن نختار الرواية التي قال فيها أنه يكون خلفا عن الأم.
م: (وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد) ش: هذا جواب عن قولهما، وكما إذا هلك الولد قبل الرد. وجهه أن كلامنا فيما إذا رد الأم بنقصان الولادة هل ينجبر النقصان برد الولد، وإذا كان الولد هالكا كيف ينجبر النقصان به، وهي معنى قوله م: (لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه) ش: يعني أن الواجب عليه رد الأصل بالصفة التي أخذها وما ردها بتلك الصفة، وإنما يكون بتلك الصفة أن لو ردها مع الولد الذي هو خلف عن النقصان فلا يبرأ.
م: (والخصاء) ش: على وزن فعال؛ لأنه مصدر خصى يخصى يعني أنه ممدود م: (لا يعد زيادة؛ لأنه غرض بعض الفسقة) ش: فلم يكن له اعتبار في الشرع؛ لأنه أمر حرام ورد النهي عنه م: (ولا اتحاد في السبب) ش: جواب عن مسألة جز صوف الشاة، وقطع قوائم الشجرة وتعليم العبد الحرفة، أراد أن كلامنا فيما إذا اتحد السبب ولا اتحاد في السبب م: (فيما وراء ذلك من المسائل) ش: أي فيما وراء ما ذكرنا من مسألة موت الأم وموت الولد، والخصاء، وأراد من المسائل مسألة جز صوف الشاة، ومسألة قطع قوائم الشجرة، ومسألة تعليم الحرفة لعبد غيره.
م: (لأن سبب النقصان القطع والجز) ش: أي القطع في قوائم الشجرة والجز في صوف الشاة، وسبب الزيادة كون المحل منبتا لا القطع، فإذا كان السبب مختلفا لم تجعل الزيادة خلفا م: (وسبب الزيادة النمو) ش: وهو كون المحل منبتا كما ذكرنا، فاختلف السببان وكلامنا في المتحد م: (وسبب النقصان التعليم) ش: في العبد؛ لأنه يوجب المشقة فيحصل به الهزال م: (والزيادة سببها الفهم) ش: وهو جودة الذهن والحذاقة، ولهذا يشترك الاثنان في التعليم ويسبق أحدهما الآخر في التعليم لسرعة فهمه، فإذا كان كذلك فقد اختلف السبب وكلامنا في المتحد.
فإن قيل: المذكور جواب المستشهد بها، وأصل نكتة الخصم وهو أن الولد ملك المولى فلا يصلح أن يكون جابر النقصان، وقع في ملكه فهو على حاله.
أجيب: بأن المصنف أشار إلى جوابه بقوله لا يعد نقصانا، وإذا لم يكن نقصانا لم يحتج(11/245)
قال: ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت، ولا ضمان عليه في الحرة، هذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا، لهما: أن الرد قد صح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى جابر، فإطلاق الجابر عليه توسع في العبارة.
فإن قيل: لو كان الولد خلفا وبدلا عن النقصان لما بقي ملكا للمولى عند ارتفاعه بضمان الغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك واحد.
أجيب: بأنه ملك المولى لا محالة ومن حيث الملك ليس ببدل بل بدل من حيث الذات، فإذا ارتفع النقصان بطل الخليفة وبقي في ملك المولى.
فإن قيل: الولد عنده أمانة فكيف يكون خلفا عن المضمون.
فالجواب: ما أشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من عدم عده نقصانا لا تضمينه، وهذا الجواب صالح للدفع عن السؤال أيضا، فلله در المصنف عالما ما أدق تحريره وما أزكى قريحته وما أمعن نظره.
[غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها]
م: (قال: ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يغصب الجارية فزنى بها ثم يردها فتحبل فتموت في نفاسها قال هو ضامن لقيمتها يوم علقت وليس عليه في الحرة ضمان. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه في الأمة أيضا إذا ماتت في نفاسها بعدما يردها، انتهى.
وقال الصدر الشهيد في " شرحه ": يريد به إذا زنى بها مكرهة أو مطاوعة. قال محمد: ذكره مطلقا ولم يقيده بحالة الطواعية، وإنما قيد بالحبل من الزنا؛ لأنه إذا كان من الزوج أو المولى فلا ضمان، ثم إن المصنف لم يتابعه في قوله ثم يردها فتحبل؛ لأنه قدم الحبل حيث قال: فحبلت ثم ردها لبيان أن الحبل كان موجودا وقت الرد، وهكذا هو في عامة النسخ.
ووقع في بعض النسخ، ثم ردها فتحبل بتقديم الرد متابعة لما قاله في " الجامع الصغير "، قوله: عقلت بسكر اللام تعلق علوقا، إذا حبلت م: (ولا ضمان عليه في الحرة) ش: لأنه لا يضمن بالغصب.
م: (هذا) ش: أي وجوب الضمان م: (عند أبي حنفية - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا) ش: إلا نقصان الحبل، وبه قالت الثلاثة م: (لهما: أن الرد قد صح) ش: لأنه أوصل الحق إلى المستحق وصحته توجب البراءة عن الضمان.(11/246)
والهلاك بعده بسبب حدث في يد المالك، وهو الولادة فلا يضمن الغاصب، كما إذا حمت في يد الغاصب ثم ردها فهلكت أو زنت في يده، ثم ردها فجلدت فهلكت منه، وكمن اشترى جارية قد حبلت في يد البائع، فولدت عند المشتري وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع الثمن بالاتفاق، وله: أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف وردت وفيها ذلك فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذه. فلم يصح الرد وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها في يد المالك أو دفعت بها، بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة كذا هذا، بخلاف الحرة، لأنها لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد. وفي فصل الشراء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والهلاك بعده) ش: جواب عما يقال لا نسلم صحة الرد حيث هلكت بسبب كان عنده فقال والهلاك بعده، أي بعد الرد كان م: (بسبب حدث في يد المالك وهو الولادة) ش: لا بسبب كان عند الغاصب م: (فلا يضمن الغاصب كما إذا حمت) ش: أي إذا حصل للجارية حمى م: (في يد الغاصب ثم ردها فهلكت) ش: حيث لا يضمن الغاصب قيمتها ولكن يضمن النقصان م: (أو زنت في يده) ش: أي أو بما إذا زنت الجارية في يد الغاصب م: (ثم ردها فجلدت فهلكت منه) ش: أي من الجلد حيث لا يضمن الغاصب قيمتها ولكن يضمن النقصان.
م: (وكمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع، فولدت عند المشتري) ش: والحال أن المشتري لم يعلم بالحبل م: (وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع الثمن بالاتفاق) ش: ولكن يرجع بنقصان الحبل. قيد بقوله: في نفاسها؛ لأنه إذا ماتت بالولادة تضمن بالإجماع.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف) ش: أي أن الغاصب غصب الجارية والحال أنه ما كان انعقد فيها سبب التلف، يعني وقت الأخذ كانت فارغة ليس بها ما يفضي إلى التلف م: (وردت وفيها ذلك) ش: أي وردت الجارية والحال أن فيها سبب التلف م: (فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذه فلم يصح الرد) ش: لأن الصحيح منه أنه يكون على الوجه الذي أخذه.
م: (وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها) ش: أي بالجناية أي بسببها م: (في يد المالك أو دفعت بها) ش: أي بالجناية م: (بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة، كذا هذا) ش: أي حكم المسألة المتنازع فيها م: (بخلاف الحرة) ش: إذا زنى بها رجل كرها فحبلت فماتت في نفاسها م: (لأنها) ش: أي لأن الحرة م: (لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد) ش: بكونها حبلى، ولهذا لو هلكت عنده بدون الزنا لا يضمن بالإجماع.
م: (وفي فصل الشراء) ش: هذا جواب عن قولهما كمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع(11/247)
الواجب ابتداء التسليم، وما ذكرناه شرط صحة الرد والزنا سبب لجلد مؤلم لا جارح ولا متلف فلم يوجد السبب في يد الغاصب.
قال: ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنها فيجب أجر المثل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بطريق الفرق، وهو أن فصل الشراء م: (الواجب) ش: على البائع م: (ابتداء التسليم) ش: أي تسليم المبيع على الوجه الذي وقع عليه العقد وقد تحقق ذلك منه وموتها بالنفاس لا بعد التسليم.
م: (وما ذكرناه شرط صحة الرد) ش: أي ما ذكرنا من وجوب وجه الذي أخذه عليه شرط لصحة الرد ولم يوجد، فكان تمثيل ما لم يوجد بشرطه على ما وجد شرطه، وهو تمثيل فاسد.
وقال تاج الشريعة: وتحقيقه أن الشراء لم يتناول إلا العين إذ الأوصاف لا تدخل في الشراء، وهذا لا يقابلها شيء من الثمن، فكان الواجب على البائع تسليم العين الذي هو مال متقوم وقد وجد فلا يرجع المشتري عليه بالهلاك في يده.
وأما الغصب فإن الأوصاف داخلة فيه، ولهذا لو غصب جارية سمينة فهزلت في يد الغاصب وردها كذلك فإنه يضمن النقصان، وإذا دخلت الأوصاف فيه كان الرد بدونها ردا فاسدا. وأما إذا حمت في يد الغاصب فلأن سبب الموت ما بها من الحمى والضعف وقت الموت، ويحتمل أن يكون سببه عمارة كانت في يد الغاصب، أو حدثت في يد المالك بالشك.
م: (والزنا سبب لجلد مؤلم) ش: جواب عن قولهما أو زنت في يده إلى آخره، وتقريره أن الزنا الذي وجد في يد الغاصب، إنما كان واجبا لجلد مؤلم م: (لا جارح ولا متلف) ش: ولما جلدت في يد المالك بجلد متلف غير ما وجب في يد الغاصب فلا يضمن، وهو معنى قوله: م: (فلم يوجد السبب) ش: وهو الجلد المتلف م: (في يد الغاصب) ش:.
[ضمان الغاصب منافع المغصوب]
م: (قال: ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه) ش: أي وقال القدوري: وقال في " إشارات الأسرار " المنافع لا يضمن سواء عرفها إلى نفسه أو عطلها على المالك. وقال في " الطريقة البرهانية " المنافع لا تضمن بالغصب والاستهلاك في قول علمائنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وصورة المسألة: رجل غصب عبدا فأمسكه شهرا حتى صار غاصبا للمنافع، أو استعمله حتى صار مستهلكا لها عندنا لا تضمن هذه المنافع، وقال صدر الإسلام البزدوي في شرح " الكافي ": ليس على الغاصب في ركوب الدابة وسكنى الدار أجر وهو مذهب علمائنا م: (إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان) ش: أي إلا أن ينقص عين المغصوب باستعماله، فحينئذ يضمن النقصان.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنها) ش: أي المنافع م: (فيجب أجر المثل) ش: هذا(11/248)
ولا فرق في المذهبين بين ما إذا عطلها أو سكنها. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن سكنها يجب أجر المثل وإن عطلها لا شيء عليه. له: أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالعقود فكذا بالمغصوب. ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في مكانه، إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه. كيف؟ وأنه لا يتحقق غصبها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير الضمان عنده، يعني أن المنافع مضمونة بأجر المثل عنده، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختلف أصحاب مالك وذكروا أنها لا تضمن كقولنا في صورة الغصب، وكذا في صورة الإتلاف. وعن ابن القاسم يضمن غلة الرباع والإبل والغنم ولا يغرم غلة العبيد والدواب.
وقال بعضهم إن سلمها يجب أجر المثل، وإن عطلها لا، ولهذا لا يضمن على الإطلاق كقولنا م: (ولا فرق في المذهبين) ش: أي مذهبنا ومذهب الشافعي م: (بين ما إذا عطلها أو سكنها) ش: الغاصب، وربما سمي الأول غصبا، والثاني إتلافا في شمول العدم عندنا وشمول الوجود عنده.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن سكنها يجب أجر المثل وإن عطلها لا شيء عليه) ش: لأنه انتفع في الأول دون الثاني.
م: (له) ش: أي للشافعي م: (أن المنافع أموال متقومة) ش: أما كونها أموالا فإنها تصلح صداقا، وأما كونها متقومة فلأن التقوم عبارة عن العزة، والمنافع عزيزة عند الناس.
ولهذا يبذلون الأعيان لأجلها م: (حتى تضمن بالعقود) ش: صحيحة كانت أو فاسدة بالإجماع م: (فكذا بالمغصوب) ش: أي فكذا يضمن بالمغصوب؛ لأن العقد لا يجعل غير المتقوم متقوما، كما لو ورد على الميتة.
م: (ولنا: أنها) ش: أي المنافع م: (حصلت في ملك الغاصب لحدوثها في مكانه) ش: أي تصرفه وقدرته وكسبه م: (إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها) ش: لأن ما حدث في إمكان الرجل فهو ملكه م: (دفعا لحاجته) ش: لأن الملك لم يثبت للعبد إلا رفعا لحاجته إلى إقامة التكاليف، فالمنافع حاصلة في ملك الرجل.
م: (والإنسان لا يضمن ملكه) ش: أي ملك نفسه، والتحقيق أن من استولى على شيء يملكه إلا إذا تضمن الاستيلاء لإزالة يد مالكه، فحينئذ لا يملكه، وهاهنا لا يتضمن فيملكه المتولى عليه دفعا لحاجته.
م: (كيف؟) ش: أي كيف يكون الضمان؟ م: (وأنه) ش: أي الشأن م: (لا يتحقق غصبها(11/249)
وإتلافها؛ لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإتلافها) ش: أي غصب المنافع وإتلافها م: (لأنه لا بقاء لها) ش: أي للمنافع؛ لأنها أعراض تتلاشى ومما لا يبقى لا يتصور غصبه وإتلافه، إذا إتلاف الشيء وغصبه إنما يرد في حال بقائه م: (ولأنها) ش: أي ولأن المنافع أراد، ولئن سلمنا تحقق غصب المنافع وإتلافها، ولكن شرط الضمان المماثلة والمنافع م: (لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها) ش: أي فناء المنافع م: (وبقاء الأعيان) ش: فلم توجد المماثلة فلا يضمن.
فإن قيل: يرد عليه ما إذا أتلف ما يسرع إليه الفساد فإنه يضمن بالدراهم التي هي تبقى، فدل على المماثلة والبقاء غير معتبرة.
أجيب: بأن المماثلة المعتبرة هي ما تكون بين باق وباق، لا بين جوهر وعرض، ألا ترى أن بيع الثياب بالدراهم جائز، وإن كان أحدهما يبلى دون الآخر.
فإن قيل: يرد أيضا ما إذا استأجر الوصي اليتيم ما يحتاج إليه بدراهم اليتيم فإنه جائز لا محالة. ولو كان ما ذكرتم صحيحا لما جاز؛ لأن القربان إلى مال اليتيم لا يجوز إلا بالوجه الأحسن.
أجيب: بأنه لما جاز مع وجود التفاوت دل على أن القربان الأحسن في مال اليتيم هو ما لا يعد عيبا في التصرفات.
فإن قلت: ما ذكر يفضي إلى إهدار حق المالك وهو مظلوم، ورعاية جانب الغاصب وهو ظالم.
قلت: حق المالك يتراخى إلى دار الآخرة وحق الغاصب في الزيادة يفوت أصلا، والتأخير أهون من الإبطال.
فإن قلت: كلامنا في أحكام الدنيا.
قلت: بلى لكن المماثلة شرط على ما بينا، وحق المالك يفوت في الدنيا لا في الآخرة فيكون ثابتا من وجه دون وجه، وحق الغاصب في الزيادة يفوت في الدارين فيكون فائتا من كل وجه، فكان تحمل أدنى الضرر أولى.
م: (وقد عرفت هذه المآخذ) ش: هو جمع مأخذ أي التي هي مناط الحكم، أو أراد ما ذكره تماثل الأعيان إلى آخره م: (في المختلف) ش: أراد به مختلف الفقيه أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا قال الأترازي. وتبعه على ذلك صاحب " العناية "، ولكن لم لا يجوز أن يكون أراد به(11/250)
ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها، بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد ولم يوجد العقد، إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه لاستهلاكه بعض أجزاء العين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مختلف الطريقة بيننا وبين الشافعي، فإن هذه المسألة من جملة المسائل المذكورة في علم الخلاف، بل الظاهر أن مراده هذا وتخصيص مختلف أبي الليث تحكم فافهم.
م: (ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها) ش: هذا جواب عن قوله المنافع أموال متقومة، تقديره أنا لا نسلم أن المنافع أموال متقومة في ذاتها؛ لأن التقوم لا يسبق الوجود والإحراز، وذلك فيما لا يبقى غير متصور م: (بل تتقوم ضرورة) ش: أي لضرورة دفع الحاجة م: (عند ورود العقد عليها ولم يوجد العقد) ش: في المتنازع فيه م: (إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه) ش: هذا استثناء منقطع، أي لكن ما ينقص بسبب استعماله مضمون عليه، وقيد باستعماله بحسب الغالب؛ لأن النقص غالبا يكون بالاستعمال.
ولكن الحكم ثابت فيما إذ انتقص بدون استعماله م: (لاستهلاكه بعض أجزاء العين) ش: أي لاستهلاك الغاصب بعض أجزاء العين المغصوبة.
قال مشايخنا: هذا إذا لم يكن معدا للاستقلال، فإن كان معدا له بضمن المنافع بالغصب والإتلاف. وفي " الفتاوى الكبرى " منافع المقار الموقوفة مضمونة سواء كان معدا للاستغلال أو لا نظرا للوقف.
وفي " المجتبى ": وأصحابنا المتأخرون يفتون بقول الشافعي في المسألات والأوفاق وأموال اليتامى، ويوجبون أجر منافعها على الغصبة. ثم في مسألة فتح رأس التنور المسجور إنما يضمن قيمة الحطب مع أن غصب المنافع وإتلافها غير متصور لما أنه أتلف ما هو المقصود من تسخين التنور، فصار هذا بمنزلة استهلاك العين، فلذلك ضمن الحطب.(11/251)
فصل في غصب ما لا يتقوم قال: وإذا أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما، فإن أتلفهما لمسلم لم يضمن. وقال الشافعي: لا يضمنهما للذمي أيضا، وعلى هذا الخلاف إذا أتلفهما ذمي على ذمي أو باعهما الذمي من الذمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في غصب ما لا يتقوم]
[أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره]
م: (فصل في غصب ما لا يتقوم) ش: ذكره عقيب غصب ما يتقوم هو المناسبة.
م: (قال: إذا أتلف المسلم خمرا لذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما) ش: أي قال القدوري في مختصره، وهذا على أربعة أوجه.
الأول: إتلاف المسلم خمر الذمي أو خنزيره فإنه يضمن عندنا، وهكذا ذكره القدوري في " مختصره ". وفي " شرح مختصر الكرخي " وذكر صدر الإسلام البزدوي في " شرح الكافي " ولو أتلف مسلم على ذمي خنزيرا على قول أبي حنيفة لا يضمن شيئا.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد يضمن قيمته، وهذا كما ترى ذكر الخلاف وهو قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي مر في كتاب النكاح فيما إذا تزوج الذمي ذمية على خمر أو خنزير ثم أسلما أو أسلم أحدهما قبل القبض فلها الخمر والخنزير إذا كانا عينين، وإن كانا دينين فالجواب على التفصيل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ففي الخمر تجب القيمة، وفي الخنزير مهر المثل على ما عرف هناك.
الثاني: إتلاف المسلم خمر المسلم، أشار إليه بقوله م: (فإن أتلفهما) ش: أي وإن أتلف المسلم الخمر والخنزير الكائنين م: (المسلم لم يضمن) ش: بلا خلاف، ووقع في بعض النسخ إن أتلفها بتوحيد الضمير فلذلك تاج الشريعة قوله وإن أتلفها، أي أتلفهما، نظير قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (سورة الجمعة: الآية 11) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] (سورة التوبة: الآية 24) .
الثالث: إتلاف الذمي خمر المسلم فإنه لا يضمن بلا خلاف، وهذا لم يذكره المصنف.
م: (وقال الشافعي: إنه) ش: أي المسلم م: (لا يضمنهما) ش: أي الخمر والخنزير الكائنين م: (للذمي أيضا) ش: أي كما لا يضمن إذا كان لمسلم، وبه قال أحمد م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بيننا وبين الشافعي م: (إذا أتلفهما ذمي على ذمي) ش: وهذا هو الوجه الرابع، وبقول الشافعي قال أحمد أيضا.
وبقولنا قال مالك م: (أو باعهما الذمي من الذمي) ش: أو باع الخمر والخنزير الذمي من(11/252)
له: أنه سقط تقومهما في حق المسلم، فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في حق الأحكام فلا يجب بإتلافهما مال متقوم وهو الضمان. ولنا أن التقوم باق في حقهم، إذ الخمر لهم كالخل لنا، والخنزير لهم كالشاة لنا، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذمي فإنه يجوز عندنا خلافا للشافعي وأحمد م: (له) ش: أي الشافعي م: (أنه سقط تقومهما) ش: أي تقوم الخمر والخنزير م: (في حق المسلم، فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في حق الأحكام) ش: أي لأن أهل الذمة أتباع للمسلمين في الأحكام لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلين وعليهم ما على المسلمين» ، فبين أن كل حكم يثبت في حق المسلم يثبت في حق الذمي م: (فلا يجب بإتلافهما مال) ش: أي إذا كان كذلك فلا يجب بإتلاف الخمر والخنزير الذي ليسا بمتقومين مال م: (متقوم وهو الضمان) ش: أي ما يضمن به.
م: (ولنا: أن التقوم باق في حقهم) ش: دل على أن ذلك ما رواه أبو يوسف في " كتاب الخراج " تصنيفه في فصل من تجب عليه الجزية، وقال حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: سمعت ابن سويد بن غفلة يقول: حضر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واجتمع إليه عماله فقال: يا هؤلاء إنه بلغني أنكم تأخذون في الجزية الميتة والخنزير، فقال بلال: أجل إنهم يفعلون ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلا تفعلوا ولكن ولوا أربابها بيعها ثم خذوا الثمن منهم.
وجه الاستدلال بذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لهم في بيعها وثمن العقد عليها بيعا وبدلها ثمنا، والثمن لا يجب إلا في عقد صحيح، فدل على التقوم. وهذا؛ لأن قضايا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كانت تخفى على الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يثبت التكبر منهم على ذلك، فحل محل الإجماع.
م: (إذ الخمر لهم كالخل لنا، والخنزير لهم كالشاة لنا، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون) ش: يعني لا نجادلهم على الترك.
فإن قلت: ما الأمر بتركهم وما يدينون؟.
قلت: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتركوهم وما يدينون» . والخمر كانت متقومة في شريعة من قبلنا وفي صدر شريعتنا، والمزيد هو قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] (سورة المائدة: الآية 90) . وجد في حقنا بدليل السياق والسباق، فبقي في حق من لم يدخل تحت الخطاب على ما كان من قبل.
فإن قلت: روي في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لعن(11/253)
والسيف موضوع، فيتعذر الإلزام، وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه بخلاف الميتة والدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخمر وحرم ثمنها، ولعن الخنزير وحرم ثمنه» .
قلت: نحن نقول بموجب ذلك وهما حرام علينا، ولكنهم أقروا على ذلك فكان حلالا لهم.
فإن قلت: الخمر نجس العين فلا يكون مالا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» ، ولا يضمن بالإتلاف.
قلت: حرام لعينها علينا لا عليهم؛ لأن الخطاب في الآية خاص.
فإن قلت: قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] (سورة المائدة: الآية 49) ، أي بين أهل الذمة وبما أنزل الله حرمة الخمر والخنزير فيجب الحكم عليهم بحرمتها.
قلت: المراد منه ما أنزل الله مطلقا لا ما أنزلت على المؤمنين خاصة كنكاح المشركات.
فإن قيل: ينتقض هذا بما إذا مات المجوسي عن ابنتين إحداهما امرأته فإنها لا تستحق بالزوجية شيئا من الميراث مع اعتقادهم صحة ذلك النكاح، وصحة النكاح توجب توريث المرأة من زوجها في جميع الأديان إذا لم يوجد المانع، ولم يجود في ديانتهم لِمَ لَمْ نتركهم وما يدينون؟.
أجيب: بأنا لا نسلم أنهم يعتقدون التوريث بأنكحة المحارم فلا بد له من بيان.
م: (والسيف موضوع) ش: يعني إبطال ما يزعمونه من المالية إنما يكون بالسيف، والسيف موضع أي متروك في حقهم لعقد الذمة م: (فيتعذر الإلزام) ش: على ترك الندين، فهذا يقتضي بقاء التقوم م: (وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه) ش: لا؛ لأن الضمان موجب إتلاف المال المتقوم.
م: (بخلاف الميتة والدم) ش: هذا جواب المقيس عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن لم(11/254)
لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما، إلا أنه تجب قيمة الخمر وإن كان من ذوات الأمثال؛ لأن المسلم ممنوع عن تمليكه لكونه إعزازا له، بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين؛ لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يذكره في الكتاب م: (لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما) ش: أي تمول الميتة والدم، قيل المراد من الميتة الذي مات حتف أنفه، أما الذي خنقوه أو ضربوه حتى مات كما يفعله المجوس فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمنها المسلم بالغصب والإتلاف.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن كالميتة م: (إلا أنه تجب قيمة الخمر، وإن كان من ذوات الأمثال) ش: أي لا أن الشأن وجوب قيمة الخمر لا مثلها، وإنما ذكر الضمير في قوله وإن كان بتأويل الشأن أو المذكور م: (لأن المسلم ممنوع عن تمليكه) ش: أي تمليك الخمر م: (لكونه إعزازا له) ش: أي لكون التمليك إعزازا للخمر. وفي بعض النسخ إعزازا لها بتأنيث الضمير على الأصل، وأما التذكير فعلى التأويل الذي ذكرناه.
فإن قلت: ما الفرق بين ما إذا أتلف ذمي خمر ذمي ثم أسلم حيث لا يجب عليه شيء لا القيمة، ولا الخمر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي رواية عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، والرواية في " المبسوط ": والإسلام المقارن لا يمنع وجوب القيمة فالطارئ أولى.
قلت: الفرق أنه حين أتلفه لم يكن إتلافه سببا لوجوب القيمة؛ لأنه لا يوجد بعد ذلك سبب الوجوب. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عليه قيمة الخمر؛ لأنه لا يمكن إيجاب الخمر؛ لأنه مسلم، ولا يمكن إبراؤه عن الضمان؛ لأن المتلف عليه ذمي، والخمر في حقه مال متقوم، وقد أمكن إيجاب القيمة فيجب. أما في الخنزير يبقى الضمان بإسلامهما أو إسلام أحدهما بالاتفاق؛ لأن الواجب هو القيمة، والإسلام لا ينافيها.
م: (بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين) ش: هذا متصل بقوله: لأن المسلم ممنوع عن تمليكه، يعني أن المسلم لما كان ممنوعا عن تمليك الخمر وجب عليه قيمة الخمر إذا أتلفها، بخلاف ما إذا باعها ذمي من ذمي م: (لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها) ش: ولذلك إذا أتلف ذمي خمر ذمي يجب عليه مثلها.
وقال القدوري في " شرحه لمختصر الكرخي " فيمن أتلف صليبا؛ لأنا أقررناهم على هذا الصنع، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها، وقد قال أصحابنا: إن الذمي يمنع من كل شيء يمنع منه المسلم إلا شرب الخمر، وأكل الخنزير؛ لأنا استثنيناه بالأمان، ولو عتوا وضربوا بالعبد إن منعناهم من ذلك كله كما يمنع المسلمين؛ لأنه لم يستثن، كذا ذكره القدوري في " شرحه ".(11/255)
وهذا خلاف الربا؛ لأنه مستثنى عن عقودهم، وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي؛ لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له لما فيه من الاستخفاف بالدين، وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه؛ لأن ولاية الحاجة ثابتة
وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه لأن ولاية الحاجة ثابتة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا بخلاف الربا) ش: أي عدم التعرض في مبايعتهم بخلاف الربا، فإنه يتعرض لهم في إبطال عقود الربا، حتى لو باعا درهما بدرهمين يسترد الدرهم الزائد. وقال الأترازي: أي هذا الذي ذكرناه من كون الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر؛ بخلاف الربا، فإنه ممنوع عنه.
وقيل: الأولى أن يتعلق بقوله نحن أمرنا أن نتركهم وما يدينون إلى آخره م: (لأنه مستثنى عن عقودهم) ش: أي لأن الربا مستثنى عن عقود أهل الذمة؛ لأنه لم يرد عليه عقد الأمان. ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى في سورة النساء: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء: 161]
م: (وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي) ش: عطف على قوله: وهذا بخلاف الربا، يعني الذمي إذا اشترى عبدا مسلما ثم ارتد العبد فإنه يحبس حتى يتوب أو يقتل، ولا تجب قيمته للذمي. الحاصل أنا لا نقره على تموله وتملكه، بل نأخذه من يده فتقبله وإن كانت أمة نحبسها أبدا ونستتيبها [ ... ] قبل وهو أيضا مقيس عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ووجه الجواب ما أشار إليه بقوله م: (لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له) ش: أي للعبد المرتد م: (لما فيه) ش: أي في ترك التعرض م: (من الاستخفاف بالدين) ش: بالترك والإعراض عنه.
فإن قلت: يشكل على هذا التعليل ما لو أتلف صليب نصراني حيث يضمن قيمته صليبا، وفي ترك التعرض استخفاف بالدين.
قلت: ذاك كفر أصلي والنصراني مقر على ذلك بخلاف الارتداد.
م: (وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه) ش: يتعلق بقوله: أمرنا أن نتركهم وما يدينون يعني كما أمرنا أن نترك أهل الذمة على ما اعتقدوه من الباطل، وجب علينا أن نترك أهل الاجتهاد على ما اعتقدوه مع احتمال الصحة فيه بالطريق الأولى، وحينئذ يجب أن نقول بوجوب الضمان على ما أتلف متروك التسمية عامدا؛ لأنه مال متقوم في اعتقاد الشافعي ومن تابعه ووجه الجواب ما قاله بقوله م: (لأن ولاية الحاجة ثابتة) ش: أي ولاية الإلزام المحاجة ثابتة وقد ثبت بالنص حرمته، فلا يعتبر في إيجاب الضمان.
ولقائل أن يقول لا نسلم أن ولاية المحاجة ثابتة؛ لأن الدليل الدال على ترك المحاجة مع أهل الذمة دال على تركها مع المجتهدين بالطريق الأولى على ما قررتم. والجواب أن الدليل هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوهم وما يدينون» ، وكان ذلك بعقد الذمة وهو متفق عليه في حق المجتهدين.(11/256)
قال: فإن غصب من مسلم خمرا فخللها أو جلد ميتة فدبغه فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه، والمراد بالفصل الأول: إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه إلى الشمس، وبالفصل الثاني: إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[غصب من مسلم خمرا فخللها]
م: (قال: فإن غصب من مسلم خمرا فخللها) ش: أي قال في " الجامع الصغير ". ووقع في عامة النسخ وإن غصب بالواو وهذا أوجه، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل مسلم يغصب المسلم الخمر أو جلد الميتة فيتخلل الخمر ويدبغ جلد الميتة، قال لصاحب الخمر: أن يأخذ الخل بغير شيء.
وأما جلد الميتة فله أن يأخذه ويرد على الغاصب ما زاد على الدباغ في الجلد، فإن كان الغاصب استهلكهما جميعا ضمن الخل ولم يضمن الجلد المدبوغ.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن قيمة الجلد مدبوغا أو يعطيه صاحب الجلد ما زاد الدباغ فيه بحساب ذلك، انتهى.
م: (أو جلد ميتة فدبغه) ش: أي أو غصب جلد ميتة فدبغه م: (فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه) ش: قال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي
: وهذا إذا أخذ الميتة من منزل صاحبها فدبغ جلدها، فأما إذا لقي صاحب الميتة الميتة في الطريق فأخذ رجل جلدها فدبغه فقد قالوا: إنه لا سبيل له على الجلد؛ لأن إلقاءها إباحة لأخذها فلا يثبت له الرجوع كإلقاء النوى. وعن أبي يوسف أن له أن يأخذه في هذه الصورة أيضا.
م: (والمراد بالفصل الأول) ش: يعني المراد بجوارها الفصل الأول. وفي " الجامع الصغير " وهو قوله فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير ثمن م: (إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه) ش: أي ومن الظل م: (إلى الشمس) ش: وعند الشافعي وأحمد رحمهما الله لا يصير الخمر طاهرا بالتخليل فلا يجب ردها بل يجب إراقتها كما قبل التخليل.
أما لو تخللت بنفسها يجب ردها بالإجماع ويضمن متلفها بالإجماع. وفي جلد الميتة لو دبغه يلزم رده عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول لا يلزمه رده وبه قال أحمد في وجه.
م: (بالفصل الثاني) ش: وهو قوله ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه م: (إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص) ش: بفتح القاف والراء بعدها ظاء معجمة وهو ورق السلم يدبغ، ومن أديم مقروظ، وبالفارسية بزغيح.(11/257)
ونحو ذلك. والفرق أن هذا التخليل تطهير له بمنزلة غسل الثوب النجس فيبقى على ملكه، إذ لا تثبت المالية به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " دستور اللغة ": القرظ اسم لشجر كالجوز عظيما إذا قدم أسود ويدبغ بثمره وورقه. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في كتاب السيئات: القرظة واحد القرظة وبها سمي الرجل قرظة وفيه نظر، والقرظ شجر عظام لها شوك غلاظ أمثال شجر الجوز وخشبه صلب يفل الحديد، وإذا هو قدم كان أسود كالأبنوس وهو قبل ذلك أبيض وورقه أصفر من ورق التفاح وله حيلة مثل قرون اللوبياء، وله حب يوضع في الموزاير ويدبغ بورقه وثمره كما يدبغ بالعفص، ومنابته القيعان وما كان من القرظ بأرض مصر فهو الذي يسمى الضبط ومنه أجود حطبهم وهو زكي الوقود قليل الرماد وهو بأسوان من أرض مصر عياض م: (ونحو ذلك) ش: كالشث والعفص.
م: (والفرق) ش: بين المسألتين م: (أن هذا التخليل تطهير له) ش: أي للخمر م: (بمنزلة غسل الثوب النجس) ش: يعني أنه أزال عنه صفة النجاسة والخمرية من غير أن يقام به شيء من ملكه، فكان كما إذا غصب ثوبا نجسا فغسله يكون لمالكه كذا هذا. وذلك لأن الغسل لم يزد في ذات الثوب شيئا، وإنما زال به النجاسة فلا يخرج بذلك عن ملك مالكه.
فإن قلت: الثوب ليس بنجس العين، والخمر نجس العين لكونها حراما بعينها قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» .
قلت: جواهر الخمر هي الجواهر التي كانت عصيرا، فلما اعترضت عليها صفة الخمرية صيرتها نجسة، فإذا زالت تلك الصبغة زالت النجاسة كالثوب، ولا يلزم بتبدله تبدل العين، فاعتراض الصفة عليها كما يعترض الصفات على الإنسان من غير تبدل الذات، وتأويل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمر لعينها» أي عينها حرام قليلها وكثيرها حرام، ولهذا قال بعد ذلك: «والسكر من كل شراب» .
م: (فيبقى على ملكه) ش: أي إذا كان كذلك فيبقى الخل على ملك صاحبه م: (إذ لا تثبت المالية به) ش: أي بالتخليل، قال فخر الإسلام البزدوي وغيره في " شرح الجامع الصغير "، قال مشايخنا: أما التخليل فعلى ثلاثة أوجه:
إما أن يخللها بالنقل من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل، أو بإلقاء الملح فيها، أو بصب الخل فيها، ففي الوجه الأول الخل لصاحبها ولا شيء عليه؛ لأن الخمر نجس العين كالبول، إلا أن نجاستها قابلة للزوال بخلاف البول، فصار التخليل بمنزلة الغسل فلا يضاف(11/258)
وبهذا الدباغ اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته، فلهذا يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ الجلد، ويعطي ما زاد الدباغ فيه، وبيانه أن ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ، وإلى قيمته مدبوغا فيضمن فضل ما بينهما، وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في المبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى التقوم والمالية، بل كان ذلك بمنزلة إظهار التقوم والمالية، فلأجل ذلك صار صاحب الخمر أحق بالخل، والقسمان الآخران يأتيان في موضعها إن شاء الله تعالى.
م: (وبهذا الدباغ) ش: المذكور وهو الدباغ بما له قيمة كالقرض م: (اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته) ش: الثوب الذي غصبه الغاصب حيث يأخذ الجلد ويعطي ما زاد الدباغ فيه كما في الثوب حيث يأخذه مالكه ويعطي ما زاد الصبغ فيه.
فإن أراد المالك أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه قيمة الجلد فليس له ذلك لأنه غصبه ولا قيمة له، بخلاف مسألة الثوب فإن هناك لصاحب الثوب أن يضمنه ويترك الثوب عليه؛ لأن الثوب قبل الصبغ كان مالا متقوما، ولا كذلك الجلد، حتى لو غصبه جلدا ذكيا غير مدبوغ كان لصاحب الجلد أن يضمنه.
قال فخر الدين قاضي خان: من المشايخ من قال هذا قول أبي حنيفة؛ لأنه لما تركه فقد عجز عن رده، فصار كعجزه بالاستهلاك. فأما على قولهما له أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه القيمة أيضا.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل أن التخليل لا يثبت المالية وبالدباغ يتصل به مال متقوم م: (يأخذ الخل) ش: أي صاحبه م: (بغير شيء ويأخذ الجلد) ش: أي صاحبه م: (ويعطي) ش: على بناء الفاعل، وأن يعطي صاحب الجلد م: (ما زاد الدباغ فيه) ش: أي في الجلد.
م: (وبيانه) ش: أي بيان إعطاء ما زاد الدباغ فيه م: (أن) ش: أي الشأن م: (ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ) ش: أي حال كونه ذكيا غير مدبوغ؛ لأنه لا يكون قيمة لجلد الميتة فيقوم ذكيا كذلك م: (وإلى قيمته مدبوغا) ش: أي وينظر إلى قيمته حال كونه مدبوغا م: (فيضمن فضل ما بينهما) ش: أي فضل ما بين القيمتين مثلا إذا كانت قيمته ذكيا غير مدبوغ عشرة دراهم ومدبوغا اثني عشر درهما يضمن درهمين، وعلى هذا وقيل يضمنه قيمته جلدا ذكيا غير مدبوغ.
قال فخر الإسلام: وذلك مذكور في بعض نسخ " المبسوط " أنه ملحق بالذكي.
م: (وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في المبيع) ش: يعني كما أن البائع له(11/259)
قال: وإن استهلكهما ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي ما زاد الدباغ فيه. ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع. أما الخل فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف. ويجب مثله لأن الخل من ذوات الأمثال. وأما الجلد فلهما: أنه باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه، وهو مال متقوم، فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك، ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق حبس المبيع لأجل استيفاء الثمن.
م: (قال: وإن استهلكهما) ش: أي قال في " الجامع الصغير " وإن استهلك الغاصب الخل والجلد م: (ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي) ش: على صيغة المجهول، أي يعطي الذي دبغه ثم استهلكه م: (ما زاد الدباغ فيه، ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع) ش: أي في يد الغاصب لأنه لم يهلك بفعله ولم يكن منه جناية، كذا قال الفقيه أبو الليث، وإنما لم يذكر له دليلا لأنه مجمع عليه ودليله الإجماع.
وعند الثلاثة: لو تخللت الخمر بنفسها وهلكت في يد الغاصب يضمن، أما إذا تخلل بفعل الغاصب لا يضمن، وفي الجلد المدبوغ على قول لا يلزمه رده لا يضمن، وعلى قول يلزمه رده يضمن.
م: (أما الخل) ش: دليل صورة الاستهلاك والمراد منه الوجه الأول من وجوه التخلل وهو ما إذا خللها من غير خلط م: (فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف، ويجب مثله لأن الخل من ذوات الأمثال) ش: لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " ما إذا يضمن.
قالوا في شروحه: فالظاهر أنه يضمن المثل لأنه مثلي إلا أن يكون من نوع لا يوجد له مثل في تلك المواضع، فيجب قيمته. ونص الكرخي في "مختصره" على وجوب المثل.
م: (وأما الجلد فلهما) ش: أي فلأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي الجلد م: (باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه، وهو مال متقوم) ش: أما بقاؤه على ملكه فلأن الغاصب لم يحدث فيه إلا مجرد الصبغة وبذلك لا يزول ملك المغصوب، كما لو كان ثوبا فقصره.
وأما كونه متقوما فظاهر م: (فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك) ش: أي إن كان كذلك فيضمن حال كونه مدبوغا بالاستهلاك م: (ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه) ش: أي يعطي المالك الغاصب ما زاد الدباغ فيه.(11/260)
كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك يضمنه، ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه، ولأنه واجب الرد فإذا فوته عليه خلفه قيمته كما في المستعار وبهذا فارق الهلاك بنفسه. وقولهما: يعطي ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس. أما عند اتحاده فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الآخذ منه، ثم في الرد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال فخر الإسلام وغيره في شروح " الجامع الصغير ": هذا إنما يستقيم إذا كان الجنس مختلفا، فأما إذا كان الجنس واحدا فلا فائدة أن يضمن الغاصب خمسة عشر درهما ويعطيه خمسا، وإنما معنى ذلك بيان قيمة مال المغصوب منه؛ لأنه لم يكن ذكيا متقوما قبل الدباغ ليعتبر ذلك، فإذا عرفت قيمته مدبوغا نظر إلى قيمته لو كان ذكيا غير مدبوغ، فيطرح ذلك من الغاصب ويعطي الباقي، ويجيء هذا عن قريب في الكتاب.
[غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك]
م: (كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلك يضمنه، ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه) ش: أراد في مسألة غصب الجلد واستهلاكه بعد الدباغة كمسألة غصب الثوب واستهلاكه بعد الصبغ، حيث يضمن في كل منهما ويعطي ما زاد الدباغ والصبغ.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر لهما، أي ولأن الجلد م: (واجب الرد) ش: ولو كان قائما م: (فإذا فوته عليه) ش: أي فإذا فوت الرد على المالك م: (خلفه قيمته) ش: أي خلف الجلد قيمته، يعني قامت مقامه، وهو من قولهم خلف فلان فلانا، يخلفه بالضم إذا كان خليفته م: (كما في المستعار) ش: يعني أن المستعار واجب الرد، فإذا فوت المستعير الرد باستهلاكه تجب عليه القيمة، فإذا فات فلا، فكذا هنا الجلد واجب الرد.
فإذا فوت وجب عليه قيمته. وإذا هلك فلا م: (وبهذا فارق الهلاك بنفسه) ش: أي ربما ذكرنا فارق الهلاك بنفسه، أي ربما ذكرنا فارق الاستهلاك الهلاك بنفسه حيث لا يضمن في الهلاك؛ لأنه لم يفوت شيئا. وكذا الوديعة بشيء لا قيمة له يضمنه بالاستهلاك دون الهلاك.
م: (وقولهما: يعطي) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يعطي م: (ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس) ش: بأن قوم القاضي الجلد بالدراهم والضيعة بالدنانير صار الجنس متخلفا فيضمن المالك الغاصب القيمة، ويأخذ ما زاد الدباغ.
أما إذا قومهما بالدراهم أو بالدنانير وهو معنى قوله م: (أما عند اتحاده) ش: أي اتحاد الجنس م: (فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الأخذ منه، ثم الرد عليه) ش: قال فخر الإسلام: فلا فائدة، أي يضمن الغاصب خمسة عشر درهما ويعطيه خمسة كما ذكرناه عن قريب.(11/261)
وله: أن التقوم حصل بصنيع الغاصب وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه، فكان حقا له، والجلد تبع له في حق التقوم. ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه، فكذا التابع كما إذا هلك من غير صنعه. بخلاف وجود الرد حال قيامه؛ لأنه يتبع الملك والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها، وإن لم يكن متقوما، بخلاف الذكي والثوب؛ لأن التقوم فيهما كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ، فلم يكن تابعا للصنعة. ولو كان قائما فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه ويضمنه قيمته، قيل: ليس له ذلك؛ لأن الجلد لا قيمة له بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة، وقيل: ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: له ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن التقوم حصل بصنيع الغاصب) ش: أراد أنا لا نسلم أن الجلد مال متقوم بنفسه، وإنما حصل بصنيعة الغاصب م: (وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه، فكان) ش: أي التقوم م: (حقا له) ش: أي للغاصب م: (والجلد تبع له) ش: أي بصنيعة الغاصب، وفي بعض النسخ والجلد تبعا لها، أي وكان الجلد تبعا لها م: (في حق التقوم) ش: لأنه ما كان متقوما قبل الصنعة فيكون صنعة الغاصب أصلا؛ لأن الأصل ما يبتنى عليه.
م: (ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه فكذا التابع كما إذا هلك من غير صنعه) ش: فإن عدم الضمان هناك باعتبارات الأصل وهو الصنعة غير مضمون، فكذلك الجلد وإلا فالغصب موجب للضمان في الهلاك والاستهلاك.
م: (بخلاف وجوب الرد) ش: جواب عن قولهما، ولأنه واجب الرد، وتقريره أن وجوب الرد م: (حال قيامه؛ لأنه) ش: أي الرد م: (يتبع الملك والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها وإن لم يكن متقوما) ش: والحاصل أن الضمان يعتمد التقوم، والأصل فيه الصنعة وهي غير مضمونة فكذا ما يتبعها، والرد يعتمد الملك، والجلد فيه الأصل لأنه تابع فوجب رده يتبعه الصنعة.
م: (بخلاف الذكي والثوب) ش: جواب عن قولهما كما إذا غصب ثوبا، وأقحم الذكي استظهارا م: (لأن التقوم فيهما) ش: أي في الذكي والثوب م: (كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ، فلم يكن تابعا للصنعة) ش: والتقوم يوجب الضمان م: (ولو كان قائما) ش: أي الجلد المدبوغ م: (فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه) ش: أي الذي كان فيه بشيء متقوم.
م: (ويضمنه قيمته، قيل: ليس له ذلك) ش: بلا خلاف م: (لأن الجلد لا قيمة له، بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة، وقيل: ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: له ذلك) ش:(11/262)
لأنه إذا تركه عليه وضمنه قيمته عجز الغاصب عن رده، فصار كالاستهلاك، وهو على هذا الخلاف على ما بيناه، ثم قيل: يضمنه قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك، وقيل يضمنه قيمة جلد ذكي غير مدبوغ.
ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب. ولو استهلكه الغاصب يضمن قيمته مدبوغا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي الترك على الغاصب وتضمين قيمته م: (لأنه) ش: دليل أن في المسألة خلاف إلا دليل المتخلفين.
وقال الأترازي: دليل لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقولهما جميعا، أي لأن المالك م: (إذا تركه عليه) ش: أي إذا ترك الجلد على الغاصب م: (وضمنه قيمته عجز الغاصب عن رده فصار كالاستهلاك) ش: يعني لما أبى المالك أن يأخذه مدبوغا وقد عجز عن رده فالتحق هذا بالدباغ بالأدمة استهلاك، والحكم فيه ما ذكرناه.
م: (وهو) ش: أي الاستهلاك م: (على هذا الخلاف) ش: الذي تقدم ذكره أن عنده لا يضمن وعندهما يضمن م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى ما ذكر من الدليل لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولصاحبيه في استهلاك الجلد قبيل هذا.
قيل: فيه نظر؛ لأن العجز في الاستهلاك من جهة الغاصب وفيما تركه وضمنه القيمة من جهة المالك ولا يلزم من جواز التضمين في صورة تعدى فيها الغاصب جوازه فيما ليس كذلك.
م: (ثم قيل) ش: هذا إشارة إلى بيان الاختلاف في كيفية الضمان على قولهما، فقيل م: (يضمن قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك) ش: أي في صورة الاستهلاك م: (وقيل يضمنه قيمة جلد) ش: أي يضمنه قيمة جلد م: (ذكي غير مدبوغ) ش: أي طاهر غير مدبوغ لأن صنعة الدباغ حصلت بفعله فلا يوجب الضمان عليه، ولكن من ضرورته زوال صفة النجاسة، وذلك غير حاصل بفعله، بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة.
م: (ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب) ش: لأنه ليس فيه مال متقوم للغاصب، فكانت الدباغة إظهارا للمالية والتقوم، فصار كغسل الثوب الدنس.
م: (ولو استهلكه الغاصب) ش: أي ولو استهلك الغاصب الجلد الذي دبغه بشيء لا قيمة له م: (يضمن قيمته مدبوغا) ش: أي بالإجماع، نص عليه في " الذخيرة " لأنه صار مالا على ملك صاحبه، ولا حق للغاصب فيه فكانت المالية والتقوم جميعا حقا للمالك فيضمن(11/263)
وقيل: طاهرا غير مدبوغ؛ لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه. وجه الأول - وعليه الأكثرون -: أن صفة الدباغة تابعة للجلد، فلا تفرد عنه، وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته.
ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صار ملكا للغاصب ولا شيء له عليه، وعندهما: أخذه المالك، وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد، ومعناه هاهنا: أن يعطي مثل وزن الملح من الخل، وإن أراد المالك تركه عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاستهلاك م: (وقيل: طاهرا غير مدبوغ) ش: أي قيل يضمن قيمته حال كونه طاهرا غير مدبوغ م: (لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه) ش: لكن من ضرورته زوال صفة النجاسة، وذلك غير حاصل بفعله، بل يتميز الجلد من الدسومات النجسة، قالوا عند أبي حنيفة صار ملكا للغاصب ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك فيوجب الملك لكن بغير شيء لكون المستهلك غير متقوم.
م: (وجه الأول) ش: وهو قول من يقول يضمنه قيمته مدبوغا م: (وعليه الأكثرون) ش: أي على الوجه الأول م: (أن صفة الدباغة تابعة للجلد فلا تفرد عنه) ش: أي عن الجلد م: (وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته) ش: تكون مضمونة تابعة للأصل.
وقال القدوري: ولو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديما أو زقا أو دفترا أو جوابا أو فروا لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل؛ لأنه تبدل الاسم والمعنى بصنع الغاصب، فكان هو أولى، فإن كان الجلد ذكيا فعليه قيمته يوم الغصب، وإن كان ميتة فلا شيء له كذا في " الإيضاح " و" الذخيرة ".
[غصب خمرا فخللها بإلقاء الملح فيها]
م: (ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صار ملكا للغاصب ولا شيء عليه) ش: لأنه استهلاك إلا أن الخمر لم تكن متقومة والملح كان متقوما فيرجح جانب الغصب فيكون له بغير شيء.
وقوله: قالوا، أي أكثر المشايخ وهذا يشير إلى أن ثمة قولا آخر وهو ما قيل أن هذا والأول سواء؛ لأن الملح صار مستهلكا فيها فلا يعتبر، وهذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أخذه المالك وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد) ش: وصبغ الثوب م: (ومعناه هاهنا) ش: أي معنى قوله وأعطى ما زاد الملح في مسألة تخليل الخمر بإلقاء الملح م: (أن يعطي) ش: أي صاحب الخل م: (مثل وزن الملح من الخل وإن أراد المالك تركه عليه) ش: أي على الغاصب.(11/264)
وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد: ولو استهلكها لا يضمنها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، كما في دبغ الجلد. ولو خللها بإلقاء الخل فيها، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب، ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك له وهو غير متقوم،
وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان، بأن كان الملقى فيه خلا قليلا، فهو بينهما على قدر كيلهما؛ لأنه خلط الخل بالخل في التقدير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد) ش: أشار بتكرير قيل إلى القولين المذكورين في دبغ الجلد، يعني قيل ليس له ذلك بالاتفاق، وقيل ليس له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الحاصل أنه يعتبر هذه المسألة بمسألة الدبغ إذا أراد المالك تركه على الغاصب وتضمينه وفيه قولان، في أحدهما قال يضمنه قيمة جلد مدبوغ.
وفي الثاني قال يضمنه قيمة جلد مذكى غير مدبوغ، وهاهنا كذلك إذا تركه عليه في قول يضمنه قيمة الخل ويعطيه ما زاد الملح فيه، وفي آخر يضمنه قيمة مثله عصيرا، وهذه التفريعات كلها على قولهما في الصورتين لا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحتمل أن يكون القولان ما قيل قبل هذين القولين.
م: (ولو استهلكها لا يضمنها) ش: وفي النسخ الكثيرة ولو استهلكه لا يضمنه، أي ولو استهلك الخل الذي جعل خلا بإلقاء الملح فيه م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خلافا لهما كما في دبغ الجلد) ش: وقد مر بيانه.
ومن المشايخ من جعل الجواب في الملح على التفصيل، فإن كان يسيرا لا قيمة له فحكمه حكم التخليل بغير شيء كالشمس، وإن ألقى فيها ملحا كثيرا يأخذها المالك عندهم جميعا ويعطي الغاصب ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد وصبغ الثوب، كذا ذكر قاضي خان في "شرحه ".
م: (ولو خللها بإلقاء الخل فيها) ش: أي ولو خلل الخمر التي غصبها بإلقاء خل فيها، وهذا هو القسم الثالث من الأوجه الثلاثة التي ذكرناها م: (فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب ولا شيء عليه لأنه استهلاك له) ش: فيصير ملكا للمستهلك م: (وهو غير متقوم) ش: أي والحال أنه غير متقوم.
م: (وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان، بأن كان الخل الملقى فيه خلا قليلا فهو بينهما) ش: أي بين الغاصب والمالك م: (على قدر كيلهما؛ لأنه خلط الخل بالخل في التقدير) ش: يعني أنه وإن كان(11/265)
وهو على أصله ليس باستهلاك وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للغاصب في الوجهين، ولا شيء عليه لأن نفس الخلط استهلاك عنده، ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول لما بينا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلط الخل بالخمر وهما جنسان مختلفان، وخلط الجنسين المختلفين استهلاك لكنه في التقدير كأنه خلط الخل بالخل نظرا إلى المال.
وهذا لأن في الخمر صلاحية أن يصير خلا وهي في حق المسلمين لا يصلح إلا لهذا، فإن تخللت بنفسها وطبعها لا ينقطع حق المالك عنها؛ لأنه لم يعارضها شيء، وإن تخللت بإلقاء شيء فيها وإن تخللت من ساعته يصير ملكا للخالط لأنه صار تبعا لملكه، فأضيف تخللها إلى ذلك. وإن تخللت بعد زمان يضاف تخللها إلى طبعها عملا بالدليلين فصار كأنه خلط الخل بالخل في التقدير.
م: (وهو على أصله ليس باستهلاك) ش: أي خلط الخل بالخل على أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس باستهلاك إذ خلط الجنس ليس باستهلاك وهو قول أبي يوسف أيضا، فيكون الخل مشتركا بينهما لأنه صار خالطا خل نفسه بخل غيره، فإذا أتلفه فقد أتلف خل نفسه وخل غيره، كذا في " جامع أبي اليسر ".
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للغاصب في الوجهين) ش: يعني فيما إذا صارت خلا من ساعتها، وفيما إذا صارت بعد زمان م: (ولا شيء عليه لأن نفس الخلط استهلاك عنده ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه) ش: أراد به الاستهلاك الحكمي بالخلط، وهذا تقريب لقوله؛ لأن نقص الخلط استهلاك عنده، يعني أن نفس الخلط استهلاك عنده ولا ضمان في هذا الاستهلاك.
ولما لم تكن هذه المقدمة مسلمة، استدل بقوله لأن أتلف ملك نفسه؛ لأنه خلط الخل بالخمر وقد ذكرنا أن الاستهلاك هنا عبارة عن فعل لا يصل الإنسان بسببه إلى عين حقه وإتلاف ملك نفسه لا يوجب الضمان، وأنه وإن أتلف الخمر أيضا لكنها غير متقومة، وإتلاف غير المتقوم لا يوجب الضمان أيضا.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول) ش: أراد به فيما إذا صارت خلا من ساعته. وقال تاج الشريعة: أراد به الاستهلاك الحقيقي بعد أن صار خلا؛ لأنه بالخلط صار مستهلكا ولا ضمان عليه بهذا الاستهلاك؛ لأنه لاقى محلا غير متقوم، والاستهلاك الحقيقي بعده ورد على ملكه م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأنه استهلاك له(11/266)
ويضمن في الوجه الثاني؛ لأنه أتلف ملك غيره. وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء؛ لأن الملقى فيه يصير مستهلكا في الخمر، فلم يبق متقوما، وقد كثرت فيه أقوال المشايخ، وقد أثبتناها في " كفاية المنتهي ".
قال: ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو غير متقوم م: (ويضمن في الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا صارت خلا بعد زمان م: (لأنه أتلف ملك غيره) ش: فيضمن.
م: (وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه) ش: أي جواب " الجامع الصغير " م: (أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء) ش: أي في الوجوه الثلاثة وهي التخليل بغير شيء، والتخليل بإلقاء الملح والتخليل بصب الخل.
وقالوا في شروح " الجامع الصغير ": إن قوله لصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء محمول على الوجه الأول: وهو التخليل بغير شيء. ومنهم من جعل الخل اليسير إذا صبه فيها كالشمس، فأما إذا خللها بخل كثير له قيمة، وينقطع حق المالك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو خلط خله بخل المغصوب منه، ولا يضمن شيئا؛ لأنه استهلك خمر المسلم، وخمر المسلم لا يضمن بالإتلاف، وعندهما يشتركان.
وقال كثير من المتأخرين: هذا إذا حمضت بعد حين، أما إذا حمضت من ساعتها فهي للغاصب؛ لأنه غلب عليه خله، واستهلك خمر المسلم، وخمر المسلم لا يضمن. وذكر في " المنتقى " رجل صب في خمر إنسان خلا، فصارت كلها خلا وهما نصفان قال: صاحب الخمر يأخذ نصفها خلا، كذا قال فخر الدين قاضي خان.
م: (لأن الملقى فيه يصير مستهلكا في الخمر، فلم يبق متقوما) ش: فلا يضمن؛ لأنه استهلاك غير متقوم م: (وقد كثرت فيه) ش: أي في حكم هذه المسألة م: (أقوال المشايخ، وقد أثبتناها في " كفاية المنتهي ") ش: منها ما قال بعضهم يصير المخلوط مشتركا بينهما بالإجماع؛ لأن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إما ينقطع حق المالك بالاستهلاك إذا ضمنه بالمخلوط كالمكيل والموزون إذا غصبه وخلطه بمثله من ملك نفسه، فأما إذا لم يكن مضمونا عليه لا ينقطع، ووجود الاستهلاك كعدمه فبقي مشتركا كالمكيل إذا اختلط بنفسه بمكيل آخر لغيره، كذا ذكره المحبوبي.
[كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا]
م: (قال: ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورته فيه في باب الضمان محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يكسر(11/267)
أو أراق له سكرا أو منصفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يضمن، ولا يجوز بيعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للرجل المسلم بربطا، أو طبلا، أو مزمارا، أو دفا قال: هو ضامن وقال: بيع ذلك كله جائز. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ليس في شيء من ذلك ضمان ولا يجوز بيعه، انتهى.
والبربط بفتح الباء الموحدة، قال الليث: وهو معرب لأنه ليس من كلام العرب وهو أعجمي فأعربته العرب حين سمعت به. وقال غيره: أصله بربط بكسر الراء وسكون الطاء شبه بصدر البطاء وبر بالفارسية الصدر.
قلت: البربط هو الذي يسمى شتة وهي مثل العود أيضا. والطبل وهو الذي يضرب وهو مشهور ويجمع على طبول. والمزمار بكسر الميم وهو القصبة التي ينفخ فيها، وقد يتخذ من عود، ويقال لها زمارة أيضا، ومنه يقال زمر الرجل يزمر ويزمر زمرا فهو زمار، ولا يكاد يقال زامر، ويقال للمرأة زامرة، ولا يقال زمارة، وفعلهما الزمارة بالكسر كالكتابة، والدف بفتح الدال، وضمها الذي يضرب به، قاله أبو عبيدة.
م: (أو أراق له سكرا أو منصفا) ش: وهو أيضا من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه قال محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل المسلم يهريق المنصف للمسلم، أو يهريق السكر قال: هو ضامن، وقال: بيعه جائز. وقال يعقوب ومحمد رحمهما الله: ليس في شيء من ذلك ضمان ولا يجوز بيعه، انتهى.
وأصل إهراق أراق بمعنى صب وسكب والهاء فيه زائد وهو بسكون الهاء، وجاء هراق أيضا، أصله أراق أبدلت من الهمزة هاء، والمزرع فيها يهريق بضم الياء، وجاء هريق يهرق على وزن أفعل والمفعول منه مهرق، ومن الأولين مهراق، ومهراق أيضا بالتحريك وهو شاذ، والسكر بفتح السين، والكاف هو الذي من ماء الرطب.
والمنصف بضم الميم وفتح النون وتشديد الصاد هو الذي ذهب نصفه بالطبخ، والباذق هو المبطوخ أدنى في طبخه م: (فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يضمن، ولا يجوز بيعها) ش: وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح له لزمه ما بين قيمته متصلا ومكسورا؛ لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه.(11/268)
وقيل: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف، وقيل: الفتوى في الضمان على قولهما.
والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد، والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ. وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في التضمين والبيع. لهما: أن هذه الأشياء أعدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو أتلف شيئا من الملاهي التي اقتنيت في البيت لا للهو ضمن قيمتها عنده، وفيه إشارة إلى أنه إذا اقتنى الملاهي لأجل التلهي لا ضمان بالاتفاق.
م: (وقيل: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، فأما طبل الغزاة، والدف الذي يباح ضربه في العرس فيضمن بالإتلاف من غير خلاف) ش: وفي " الذخيرة " قال أبو الليث: ضرب الدف في العرس مختلف بين العلماء، قيل: يكره، وقيل: لا يكره.
أما الدف الذي يضرب في زماننا من الصيحات والجلاجلات ينبغي أن يكون مكروها، وإنما الخلاف في الذي كان يضرب في الزمان المتقدم. وفي " الغاية " قال الفقيه أبو الليث: وهذا الذي حكي أن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قالا: لا ضمان عليه في الدف والطبل إذا كان للهو.
وأما إذا كان طبل الغزاة أو الصبيات، أو الصيادين ينبغي أن يضمن، وكذلك الدف إذا لم يكن للهو فينبغي أن يضمن إذا كان مثل ذلك يجوز ضربه في العرس. وقال الإمام العتابي في "شرح الجامع الصغير ": ولو كان طبل الحاج، أو طبل الصيد، أو دف يلعب به الصبية في البيت يضمن بالاتفاق.
م: (وقيل: الفتوى في الضمان على قولهما) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أي يعني بعدم الضمان لكثرة الفساد في الناس، ذكره في " جامع أبي اليسر ".
م: (والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد، والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق) ش: وقد مر الكلام في هذه الأشياء عن قريب. قيل: الباذق كلمه فارسية عربت، وهو تعريب باذة، ومما أعرب من التركيب البياذقة للرجالة، وهو تعريب بياذة، ومنه بيذق الشطرنج م: (عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في التضمين والبيع) ش: أراد في التضمين من يهريق الباذق روايتان عن أبي حنيفة وهو كذلك في جواز بيعه روايتان عنه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أن هذه الأشياء أعدت(11/269)
للمعصية فبطل تقومها كالخمر، ولأنه فعل ما فعل أمرا بالمعروف، وهو بأمر الشرع فلا يضمنه، كما إذا فعل بإذن الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمعصية، فبطل تقومها كالخمر) ش: فصار متلفها مستهلكا بشيء غير متقوم فلا يضمن، ولا يجوز بيعها لعدم التقوم م: (ولأنه) دليل ثان لهما، أي لأن متلف هذه الأشياء م: (فعل ما فعل أمرا) ش: أي حال كونه أمرا م: (بالمعروف، وهو) ش: أي الكسر والإراقة م: (بأمر الشرع) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» ، فكان كسرها وإراقتها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر باليد م: (فلا يضمنه، كما إذا فعل بإذن الإمام) ش: أي كما إذا كسر أو أوراق بإذن الإمام فإنه لا يضمن بالاتفاق.
وقال الولوالجي في آخر كتاب السير في " الفتاوى ": رجل له خمر فشق رجل زقه وأهراق الخمر على سبيل الحسبة لا يضمن الخمر، ويضمن الزق؛ لأن الخمر ليس بمتقوم والزق متقوم، إلا أن يفعل ذلك أيام يرى ذلك، فحينئذ لا شيء عليه لأنه مختلف فيه، ونظير هذا الذمي إذا أظهر بيع الخمر والخنزير في دار الإسلام يمنع، فإن أراقه رجل أو قتل خنزيرا يضمن إلا أن يكون إماما يرى ذلك فلا يضمن؛ لأنه مختلف فيه.
وفي " الفتاوى الصغرى " في آخر كتاب الجنايات: كسر دن الخمر إن كان بإذن الإمام لا يضمن وإلا ضمن، فقال حكاه عن "السير الكبير" في أدب القاضي في باب [......] من أدب القاضي رواية عن أصحابنا أنه يهدم البيت على من اعتاد الفسق وأنواع الفساد حتى قالوا أيضا: لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين، وقيل: يراق العصير أيضا قبل أن يشتد ويقذف بالزبد على من اعتاد الفسق.
لأنه روي عن عمر أنه هجم حين بلغه عن نائحة من نساء أهل المدينة هجم عليها، وضربها بالدرة حتى سقط خمارها فقيل: يا أمير المؤمنين قد سقط خمارها فقال: إنه لا حرمة لها، قالوا: معنى قوله حين اشتغلت بما لا يحل في الشرع فقد أسقطت حرمتها. وروي أنه أحرق البيت على الثقفي حين سمع شرابا في بيته.
وعن أبي يوسف إن كان لا يتيسر إراقتها إلا بشق الذق لا يضمن ككسر المعازف. وعند الشافعي وأحمد في رواية يضمن، كذا في " جامع المحبوبي "، وفي " الذخيرة " و" المغني " و" بستان أبي الليث ": الأمر بالمعروف على وجوه إن كان يعلم بأكبر رأيه أنه لو أمر بالمعروف يقبلون منه ويمتنعون عن المنكر فالأمر واجب عليه لا يسعه تركه.
ولو علم بأكبر رأيه أنهم يقذفونه بذلك ويشتمونه فتركه أفضل، وكذا لو علم أنهم يضربونه ولا يصبر على ذلك ويقع بينهم العداوة ويهيج منه القتال فتركه أفضل. ولو علم أنه(11/270)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع، وإن صلحت لما لا يحل، فصار كالأمة المغنية، وهذا لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم
والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم، وباللسان إلى غيرهم. وتجب قيمتها غير صالحة للهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصبر على ضربهم ولم يشك إلى أحد فلا بأس به وهو مجاهد.
ولو علم أنهم لا يقبلون منه ولا يخاف منهم ضربا ولا شتما فهو بالخيار، والأمر بالمعروف أفضل. وذكر المحبوبي مطلقا فقال: الأمر بالمعروف واجب، أو فرض إذا غلب على ظنه أنهم يتركون الفسق بالأمر، ولو غلب على ظنه أنهم لا يتركون لا يكون إثما في تركه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها) ش: أي الآلات المذكورة وهي البربط وأخواته م: (أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع، وإن صلحت لما لا يحل) ش: أراد أن أعيانها ليست بمحرمة لأنها تصلح للانتفاع بها لغير اللهو، ولكنها أعدت للهو مع صلاحيتها لغيره فلم تناف الضمان م: (فصار كالأمة المغنية) ش: والحمامة الطيارة، فإن الضمان يجب على متلفها.
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم) ش: أراد أن الفساد ليس في المحل، والمحل مال متقوم فيضمن م: (وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم) ش: ولما وجدت المالية والتقوم في الأشياء المذكورة جاز بيعها ويضمن متلفها.
م: (والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم، وباللسان إلى غيرهم) ش: هذا يتعلق بقوله كما إذا فعله بإذن الإمام، يعني لما كان الأمر بالمعروف باليد للأمر لم يلزم الضمان على الكاسر بإذنهم، فإذ فعل بغير إذنهم يلزم م: (وتجب قيمتها غير صالحة للهو) ش: وفي بعض النسخ فيجب بالفاء، أي إذا كان الأمر كذلك يجب قيمة هذه الآلات حال كونها غير صالحة للهو، يعني تجب قيمتها صالحة لغير المعصية، ففي الدف يضمن قيمته دفا يوضع القطن فيه. وفي البربط يضمن قيمته قصعة يحل فيها الثريد ونحو ذلك، قاله قاضي خان.
وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": يضمن قيمته خشبا منحوتا. وقال في " المنتقى " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن قيمته خشبا مخلعا، إنما الذي يحرم به التأليف. وقال الفقيه أبو الليث: كانوا يقولون إن معنى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضمن قيمته أن لو اشترى بشيء آخر سوى اللهو فينظر لو أن إنسانا أراد أن يشتريه ليجعله وعاء الملح أو غير ذلك بكم يشتري فيضمن قيمته بذلك المقدار.(11/271)
كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور، كذا هذا.
وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه وإن كان لو فعل جاز، وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا لأنه مقر على ذلك.
قال: ومن غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولا يضمن قيمة أم الولد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يضمن قيمتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور) ش: إذا أتلفها وأراد بهذه الأمور الغناء في الجارية، والمناطحة في الكبش، والطيران السريع في الحمامة، والمقاتلة في الديك، والخصي في العبد، فإن هذه الأشياء كلها معصية، ولكن المحل مال متقوم، فذلك يجوز بيعها ويضمن متلفها م: (كذا هذا) ش: أي كذا حكم الآلات المذكورة إذا بيعت أو أتلفت.
[غصب السكر والمنصف فأتلفها]
م: (وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه) ش: أي عن تملك عين كل واحد منهما لأنه حرام م: (وإن كان لو فعل جاز) ش: أي فإن كان أخذ المثل في الضمان جاز لعدم سقوط التقوم والمالية م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا في ضمان الآلات المذكورة.
م: (وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا) ش: أي حال كونه صليبا لا حال كونه صالحا لغيره م: (لأنه) ش: أي لأن النصراني م: (مقر على ذلك) ش: أي على هذا الصنع، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها. وقال أحمد لا يضمن، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتفصيل كما ذكرنا.
وقال القدوري في "شرحه": قال محمد: إذا أحرق الرجل بابا منجورا عليه تماثيل منقوشة ضمن قيمته غير منقوش، وذلك لأن نقش التماثيل معصية فلا يجوز أن يتقوم في الضمان، كما لا يتقوم الغناء في الجارية المغنية. فإذا قطع رؤوس التماثيل فذلك نقش غير ممنوع منه وقوم على الغاصب، فقال فيمن أحرق بساط منه تصاوير رجال ضمن قيمته مصورا؛ لأن التماثيل في البساط ليس تكرمة؛ لأن البساط موطأ. وإذا لم تكن محرقة ضمنها. وقال فيمن هدم بيتا مصورا بالأصباغ تماثيل قيمته قيمة البيت وأصباغه غير مصور؛ لأن التماثيل في البيت منهي عنها، كذا ذكره القدوري في "شرحه".
[غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده]
م: (قال: ومن غصب أم ولد؛ أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولم يضمن قيمة أم الولد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يضمن قيمتها) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": محمد(11/272)
لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده، وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل غصب أم ولد لرجل فماتت في يده قالا: لا ضمان عليه، وإن غصب مدبرته فماتت فهو ضامن بقيمتها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يضمن أي في أم الولد كما يضمن في المدبرة م: (لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب) ش: وقد بينا فيه خلاف الثلاثة أيضا.
فوائد: غصب ثوبا فكساه للمالك أو طعاما فقدمه بين يديه فأكله وهو لا يعلم بأنه ثوبه أو طعامه، يبرأ الغاصب عندنا عن الضمان، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قول، ومالك في قول لا يبرأ. ولو باعه أو وهبه وسلمه، أو أودعه وسلمه وأعاره وسلمه، أو أجره وسلمه والمالك لا يعلم به يبرأ عن الضمان عندنا، وبه قال الشافعي في وجه ومالك وأحمد. وقال الشافعي في وجه لا يبرأ. ولو رهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ عن الضمان عند الشافعي، وعندنا ومالك وأحمد يبرأ، ولو حل رباط دابة أو فتح قفص طير أو حل قيد عبد فذهب عقيب ذلك لم يضمن عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وفي قول يضمن وبه قال مالك وأحمد. وعن محمد يضمن سواء طار من فوره أو مكث ساعة ثم طار أما لو مكث ساعة ثم طار لا يضمن عندنا، وعند الشافعي خلافا لمالك وأحمد. ولو حل رأس الزق فسأل البائع أو قطع علاكتي قنديل فانكسر ضمن، ولو كان الدهن جامدا فذاب بالشمس فسال لم يضمن، وبه قال الشافعي في وجه.
وقال في وجه، يضمن وبه قال مالك وأحمد، والغصب لا يتحقق في الحر بالإجماع فلا يضمن بالغصب. أما لو استعمله مكرها لزمه أجر مثله عند الثلاثة؛ لأنه استوفى منافع متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد، وعنده لا يضمن ولو حبسه مدة لا يجب أجر مثله عندنا أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد في وجه ومالك وقالا في وجه أنه يضمن كما في العبد، ولو غصب كلبا له منفعة وحبسه مدة يجب أجره في أحد الوجهين عند الشافعي، وعندنا وأحمد ومالك والشافعي في وجه لا يجب ولا يضمن إذا هلك أو أتلفه عند الثلاثة، وعندنا يضمنه لأنه مال حتى يجوز بيعه عندنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.(11/273)
كتاب الشفعة
الشفعة: مشتقة من الشفع وهو الضم سميت بها لما فيها من ضم المشتراة إلى عقار الشفيع.
قال: الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الشفعة]
[تعريف الشفعة]
م: (كتاب الشفعة)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الشفعة، وجه المناسبة مع كتاب الغصب من حيث إن كل واحد من الغاصب والشفيع يملك مال الغير بغير رضاه، إلا أن الغصب عدوان، والشفعة مشروعة فكان حقها التقديم، لكن معرفة أحكام الغصب أحوج لكثرة وقوعه ولا سيما في هذا الزمان، ولكثرة أسباب الغصب، بخلاف الشفعة وهو اتصال ملك العقار عندنا.
م: (الشفعة: مشتقة من الشفع، وهو الضم) ش: تقول: كان وترا فشفعته شفعا، والشفع خلاف الوتر وهو الزوج، والشفيع صاحب الشفعة، وصاحب الشفاعة أيضا، والتركيب يدل على مقارنة السببين، فلذلك قال: وهو الضم م: (سميت بها) ش: أي سميت الشفعة المصطلحة في الشرع م: (لما فيها من ضم المشتراة إلى عقار الشفيع) ش: أي لما في الشفعة من ضم العقار المشتراة إلى عقار الشفيع؛ لأنه يضم بسبب داره ملك جاره إلى نفسه، ومنه سميت الشفاعة؛ لأنها تضم المشفوع له إلى أهل الثواب.
وحدها في الشرع تملك المنفعة بما قام على المشتري بالشركة، أو الجوار، فكان فيها معناها اللغوي، وسببها أحد الأشياء الثلاثة؛ الشركة في العقار، والشركة في الحقوق، والجوار على سبيل الملاصقة. وعند الشافعي: لا يستحق بالجوار على ما يأتي. وقال الخصاف: الشفعة تجب بالبيع ثم تجب بالطلب، فيه إشارة إلى أن سببها كلاهما على التعاقب، وأنه غير صحيح؛ لأن الشفعة لما وجبت بالبيع كيف يتصور وجوبها ثانيا.
وقال شيخ الإسلام: الاتصال مع البيع علة لها؛ لأن حق الشفعة لا يثبت إلا بهما، ولا يجوز أن يقال بأن الشراء شرط، واتصال التسليم؛ لأنه حصل بعد وجود سبب الوجوب.
[حكم الشفعة وأسبابها]
م: (قال: الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع) ش: أي قال القدوري ومعنى واجبة ثابتة عند تحقق سببها لا أن يكون المراد بها لزوم الإثم عند تركها بالإجماع والخليط الشريك في البقعة وهو فعيل من المخالطة وهي المشاركة، والخلطة وهي الشركة. وأجمع العلماء على ثبوت الشفعة في شريك لم يقسم ربعه إلا الاسم وأبوه عليه قائما قالا: لا تثبت الشفعة(11/274)
ثم للخليط في حق المبيع، كالشرب والطريق، ثم للجار. أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب. أما الثبوت فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة لشريك لم يقاسم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخلاف القياس، وأن القياس يأبى جوازها لأنها تملك على المشتري ملكه الصحيح بغير رضاه فإنه من نوع الأكل بالباطل، وكذا ذهب بعض أصحابنا، ويقال: إن القياس يأبى جوازها، ولكن تركنا القياس بالآثار المشهورة.
والأصح أنها أصل في الشرع فلا يجوز لأنها خلاف عن القياس، بل هي ثابتة على موافقة القياس.
م: (ثم للخليط في حق المبيع، كالشرب) ش: بكسر الشين م: (والطريق) ش: وهو الشريك الذي قاسم وبقيت له شركة في الطريق والشرب الخاصين، وإنما قيدنا بذلك لأنهما إذا كانا عامين لم يستحق بهما الشفعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
م: (ثم للجار) ش: يعني الملاصق، أي ثم يثبت للجار خلافا للشافعي على ما يأتي م: (أفاد هذا اللفظ) ش: أي قال المصنف أفاد لفظ القدوري هذا وهو قوله للخليط في نفس المبيع ثم للخليط في حق المبيع ثم للجار م: (ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء) ش: أي من الخليطين والجار م: (وأفاد الترتيب) ش: حيث رتب الخليط في حق المبيع على الخليط في نفس المبيع، ثم رتب الجار عليهما.
وفي " الذخيرة ": صورته منزلا بين اثنين وسكة غير نافذة، باع أحد الشريكين نصيبه فالشريك الملاصق في المنزل أحق بالشفعة، فإن سلم فأهل السكة أحق، فإن سلموا فالجار وهو الذي على ظهر المنزل وباب داره في سكة أخرى، ومسألة الجار على وجهين إما أن تكون الدار المشتركة في سكة نافذة، وفي هذا الوجه جميع أهل السكة شفعاء الملاصق والمقابل في ذلك على السواء. وقد قيل الشفعة على أربع مراتب ويظهر ذلك في مسألتين: إحداهما: بيت في دار غير نافذة والبيت لاثنين والدار لقوم، فباع أحدهما نصيبه من البيت فالشفعة أولى للشريك في البيت، فإن سلم فلشريك الدار، فإن سلم فلأهل السكة، فإن سلموا فللجار الملاصق وهو الذي على ظهر المنزل وبابه في سكة أخرى.
والثاني: دار بين اثنين في سكة غير نافذة فالشفعة أولى في الدار، فإن سلم فللشريك في الحائط المشترك بين الدارين، فإن سلم فلأهل السكة، فإن سلموا فللجار الملاصق.
م: (أما الثبوت فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة لشريك لم يقاسم» ش: هذا غريب،(11/275)
ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جار الدار أحق بالدار والأرض ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكن أخرج مسلم عن عبد الله بن إدريس عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قضى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشفعة في كل شيء لم يقسم ربعه أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك. فإذا باع ولم يؤذنه به فهو أحق به» .
وأخرجه الدارقطني في "سننه" وقال لم يقل في هذا لم يقسم إلا ابن إدريس وهو من الثقات الحفاظ، وأخرج مسلم أيضا عن ابن وهب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه» .
م: (ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جار الدار أحق بالدار والأرض، ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا» .
ش: هذا مركب من حديثين، فصدر الحديث أخرجه أبو داود في البيوع، والترمذي في الأحكام، والنسائي في الشروط. وأبو داود، والنسائي، عن شعبة، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة. والترمذي في الأحكام عن إسماعيل بن علية، عن سعيد، عن قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جار الدار أحق بدار الجار والأرض» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد في "مسنده" والطبراني في "معجمه" وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وفي بعض ألفاظهم «جار الدار أحق بشفعة الدار» وأخرجه النسائي أيضا، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وأخرجه أيضا، عن عيسى بن يونس، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أنس مرفوعا «جار الدار أحق بالدار» .
فهذا الإسناد رواه ابن حبان في "صحيحه"، ثم قال، وهذا الحديث إنما ورد في الجار الذي يكون شريكا دون الجار الذي ليس بشريك، يدل عليه ما أخبرنا وأسند «عن عمرو بن الشريد قال: كنت مع سعد بن أبي وقاص، والمسور بن مخرمة فجاء أبو رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لسعد بن مالك: اشتر مني بيتي الذي في دارك، فقال: لا إلا بأربعة آلاف منجمة، فقال: أما والله لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الجار أحق بشفعة ما بعتكها وقد أعطيتكها بخمسمائة دينار» ، انتهى.(11/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا معارض بما أخرجه النسائي وابن ماجه، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد، عن أبيه: «أن رجلا قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار، فقال الجار: أحق بشفعة ما كان» . وأخرجه الطحاوي ولفظه «ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار» .
وأخرجه ابن جرير الطبري في " التهذيب " ولفظه: «ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار» فهذا صريح بوجوبها للجوار لا شركة فيه تدل على سقوط تأويلهم الجار بالشريك، وعلى أن الجار الملازق تحجب له الشفعة وإن لم يكن شريكا، وبقية الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء ابن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظرها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا» .
وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا يعلم أحد روى هذا الحديث غير عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم أحدا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث.
وقال في "مختصره" قال الشافعي: يخاف أنه لا يكون محفوظا. وسئل الإمام أحمد، عن هذا الحديث فقال هو حديث منكر، وقال يحيى: لم يحدث إلا عبد الملك وقد أنكره الناس عليه. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير الملك تفرد به. وروي عن جابر خلاف هذا.
قلت: ذكر صاحب الكمال عن الثوري، وابن حنبل قالا: عبد الملك من الحفاظ، وكان الثوري يسميه الميزان. وعن أحمد بن عبد الله ثقة ثبت، وأخرج له مسلم في "صحيحه".(11/277)
ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجار أحق بسقبه. قيل: يا رسول الله! ما سقبه؟ قال: شفعته» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الترمذي: ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم أحدا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث. وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال روى عنه الثوري وشعبة وأهل العراق وكان من خيار أهل الكوفة وحفاظهم، وليس من الإنصاف ترك شيخ ثبت بأوهام لهم في روايته، ولو سلكنا ذلك للزمنا ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة؛ لأنهم لم يكونوا معصومين.
وقال صاحب " التنقيح ": واعلم أن حديث عبد الملك بن أبي سليمان حديث صحيح ولا منافاة بينه وبين رواية جابر المشهورة وهي «الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» فإن في حديث عبد الملك إذا كان طريقهما واحدا، وحديث جابر المشهور لم يثبت فيه استحقاق الشفعة إلا بشرط تصرف الطرف، فنقول إذا اشترك الجاران في المنافع كالبئر أو السطح أو الطريق فالجار أحق بسقب جاره لحديث عبد الملك.
وإذا لم يشتركا في شيء من المنافع فلا شفعة لحديث جابر المشهور، وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا يقدح فيه، فإنه ثقة. وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه ليجمع بين الأحاديث إذا ظهر تعارضها، إنما كان حافظا وغير شعبة إنما طعن فيه تبعا لشعبة. وقد احتج بعبد الملك مسلم في "صحيحه"، واستشهد به البخاري.
م: (ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الجار أحق بسقبه، قيل: يا رسول الله! ما سقبه؟ قال: شفعته» ش: أخرج البخاري في "صحيحه"، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع مولى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الجار أحق بسقبه» انتهى.
السقب: بفتح السين المهملة وفتح القاف وفي آخره باء موحدة القرب، يقال سقبه داره بالكسر والمنزل سقب، والساقب القريب، ويقال للبعيد أيضا جعلوه من الأضداد.
وقال إبراهيم الحربي: في كتابه " غريب الحديث ": الصقب بالصاد ما قرب من الدار ويجوز أن يقال: سقب فتكون السين عوض الصاد لأنه في أول الكلمة، وكذا لو كان في أول الكلمة خاء أو غين أو طاء فنقول صخر وسخر، وصدغ وسدغ، وصطر وسطر، فإن تقدمت هذه الحروف الأربعة السين لم تجز ذلك، فلا يقال خصر وخسر، ولا قصب وقسب، ولا غرس وغرص.
وفي " المغرب ": السقب القرب والاتصال، وأريد بالسقب هنا الساقب على معنى ذو السقب تسميته بالمصدر. وفي " الجمهرة ": يقال سقبته الدار وأسقبت لغتان فصيحتان، والمنزل(11/278)
ويروى «الجار أحق بشفعته» . وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شفعة بالجوار لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سقب وأسقب وأبيات القوم متساقبة أي متقاربة.
م: (ويروى «الجار أحق بشفعته» ش: قد ذكرنا عن قريب، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عند الترمذي «الجار أحق بشفعته ينتظر بها، وإن كان غائبا» . وروى إسحاق بن راهويه مسندا أخبرنا المحاربي وغيره، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجار أحق بشفعته» .
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" في كتاب أقضيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنا جرير، عن منصور، عن الحاكم، عن علي، وعبد الله قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة للجوار» . وروى ابن جرير الطبري في " التهذيب " حديث موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى، عن عبادة بن الصامت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قضى أن الجار أحق بسقب جاره» .
وأخرجه ابن جرير أيضا، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أراد أحدكم أن يبيع عقاره فليعرضه على جاره» ، وأخرج ابن حبان في "صحيحه" حديث «الجار أحق بصقبه» من حديث أبي رافع وأنس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فظهر بمجموع هذه الأحاديث أن للشفعة ثلاثة أسباب الشركة في نفس المبيع، ثم في الطريق، ثم في الجوار.
وحكى الطبري أن القول بشفعة الجوار هو قول الشعبي وشريح وابن سيرين والحكم وحماد، والحسن وطاوس والثوري وأبي حنفية وأصحابه.
قلت: وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة أيضا. وفي " شرح الوجيز " عن ابن شريح كمذهب أبي حنيفة. قال القاضي الروياني: بعض أصحابنا يفتي به وهو الاختيار. وفي " الاستذكار " روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد ابن أبي وقاص أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى شريح أن اقض بالشفعة للجار، فكان يقضي بها. وسفيان عن إبراهيم أن ميسرة قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا حدت الحدود فلا شفعة. قال إبراهيم فذكرت لطاوس فقال: لا الجار أحق.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شفعة بالجوار) ش: وكذا بالشركة في الحقوق كالطريق والشرب؛ لأن ذلك كالجوار وكذا فيما لا يتحمل القسمة كالنهر والبئر، وبه قال مالك، وأحمد، والأوزاعي، وأبو ثور، وابن ثور، وابن المنذر.
وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:(11/279)
«الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» ولأن حق الشفعة معدول به عن سنن القياس؛ لما فيه من تملك المال على الغير من غير رضاه، وقد ورد الشرع به فيما لم يقسم، وهذا ليس في معناه لأن مؤنة القسمة تلزمه في الأصل دون الفرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» ش: أخرج البخاري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» وفي لفظ البخاري: «إنما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» وهذا يقتضي أن جنس الشفعة فيما لم يقسم، إذ الألف واللام للجنس لعدم المعهود، والدليل عليه أنه قال في رواية: «إنما الشفعة فيما لم يقسم» وإنما كلمة الحصر، ويدل عليه أيضا فإذا صرفت الطرق، أي جعل لكل قسم طريقة على حدة فلا شفعة.
م: (ولأن حق الشفعة معدول به عن سنن القياس) ش: هذا دليل معقول للشافعي، والسنن بفتح السين الطريق، وتقريره أن حق الشفعة خارج عن مقتضى القياس م: (لما فيه) ش: أي في حق الشفعة م: (من تملك المال على الغير من غير رضاه) ش: وذا لا يجوز لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه» .
فكان الواجب أن لا يثبت حق الشفعة أصلا، لكن ثبت فيما لم يقسم على خلاف القياس، وهو معنى قوله م: (وقد ورد الشرع به) ش: أي بحق الشفعة م: (فيما لم يقسم) ش: لدفع ضرر مؤنة القسمة، فلا يلحق به غيره قياسا أصلا ولا دلالة إذا لم يكن في معناه من كل وجه.
م: (وهذا) ش: أي الجار م: (ليس في معناه) ش: أي ليس في معنى ما ورد به الشرع م: (لأن مؤنة القسمة تلزمه في الأصل) ش: فيما لم يقسم، وهو موضع الإجماع م: (دون الفرع) ش: وهو المقسوم، وهو موضع الخلاف. أراد أن الشفعة لدفع ضرر مؤنة القسمة لأنه يحتاج إلى أن يدفع من نفسه مطالبة القسمة ولا يمكنه إلا بالتملك عليه، وهذا المعنى لا يتحقق في الجار.(11/280)
ولنا ما رويناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا: ما رويناه) ش: من الأحاديث المذكورة عن قريب. فإن قيل يطلق لفظ الجار على الشريك كما في قول الأعشى:
أيا جارتي فإنك طالق ... كذلك أمور الناس عاد وطارق
والمراد زوجته وهي شريكته في الفراش، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الشفعة فيما لم يقسم» نص على النفي عن غيره؛ لأن كلمة إنما للحصر، ولأن تعليلكم الاستحقاق بالجوار بسبب دفع ضرر الجوار منقوض بالجار المقابل وبالجار الملاصق بطريق الإجارة.
قلنا: حمل اسم الجار على الشريك ترك الحقيقة فلا دليل، وذا لا يجوز. ولأن آخر الحديث يأبى حمله على الشريك فإنه قال في آخره إن كان طريقهما واحدا. وفي حمله على الشريك يلغو هذا لأن بالشركة يستحق الشفعة سواء كان الطريق واحدا أو لا.
وقال الإمام الحلواني: تركوا العمل بمثل هذا الحديث مع شهرته وصحته والعجب منهم أنهم سموا أنفسهم أصحاب الحديث فألزموا أنفسهم بترك العمل بالحديث بأصحاب الحديث.
وقد روى ابن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض بيتا له على جاره فدل أن جميع البيت له، وسعد تأوله بالشريك ويبطل أيضا تأويله بالشريك ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، «عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرضي ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار، قال: " الجار أحق بسقبه ما كان» ، وسمى الزوجة جارا لأنها تجاوره في الفراش؛ لأنها لا تشاركه. وما روي يدل على ثبوت الشفعة في الشركة وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
وأما رواية إنما الشفعة فليست بثبت، ولئن سلمنا ثبتها يقتضي نفي الشفعة الثابتة بسبب الشركة عملا بما روينا، أو يقتضي تأكيد المذكور بطريق الكمال كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] وكما يقال إنما العالم في البلد زيد، أي الكامل فيه والمشهور به زيد، والشريك في البقعة كامل في سبب استحقاق الشفعة دون نفي غيره، بدليل سياق الحديث، فإنه قال في آخره: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» .
وعند الشافعي لا شفعة هناك أيضا، فكان آخر الحديث حجة لنا أيضا مع أنه قيل إن هذا من كلام الراوي لا من الحديث، فلو صح أنه من الحديث فمعنى قوله لا شفعة بوقوع الحدود وصرف الطرق، فكان الموضع موضع إشكال؛ لأن في القسمة بمعنى المبادلة.(11/281)
ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع، وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار، إذ هو مادة المضار على ما عرف، وقطع هذه المادة بتملك الأصيل أولى؛ لأن الضرر في حقه بإزعاجه عن خطة آبائه أقوى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومما يشكل هل يستحق بها الشفعة، فبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا يستحق الشفعة بالقسمة، ولا يلزم الجار المقابل. ولأن الضرر هناك ليس بسبب اتصال الملك فلا يستحق رفعه بحق الملك، فإن الشفعة حق الملك فيتحقق به رفع ضرر يلحق بسبب اتصال الملك، ولهذا لم يثبت لجار السكنى كالمستأجر والمستعير؛ لأن جواره ليس بمستدام.
م: (ولأن ملكه) ش: أي ملك الشفيع م: (متصل بملك الدخيل) ش: أي متصل بما ملك المشتري بالشراء، وسماه دخيلا لأنه ليس بأصيل في الجوار، والأصل هو الجوار م: (اتصال تأبيد وقرار) ش: وفي بعض النسخ اتصال التأبيد والقرار وفي بعض النسخ اتصال تأبيد وقرار.
واحترز بالتأبيد عن المنقول والسكنى بالعارية والقرار عن المشتري شراء فاسدا؛ لأنه إقرار له لوجوب النقض رفعا للفساد م: (فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال) ش: أي إذا كان كذلك يثبت للشفيع حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال احترز به عن الإجارة والمرهونة والمجعولة مهرا م: (اعتبارا بمورد الشرع) ش: أي إلحاقا بالدلالة بمورد الشرع وهو ما لا يقسم.
م: (وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة) ش: هذا، كأنه جواب عن قوله: وهذا ليس في معناه، أي لا معنى لقوله، إذ الاتصال على هذه الصفة يعني اتصال التأبيد والقرار م: (إنما انتصب سببا فيه) ش: أي فيما ورد الشرع م: (لدفع ضرر الجوار إذ هو) ش: أي الجوار م: (مادة المضار) ش: من إيقاد النار، وإثارة الغبار، ومنع ضوء النهار، وأعلى الجدار للاطلاع على الصغار والكبار م: (على ما عرف) ش: سوء هذا بين الجيران.
م: (وقطع هذه المادة) ش: جواب إشكال وهو أن يقال الشفيع يتضرر بالدخيل والدخيل أيضا يتضرر بتملك الشفيع ما له عليه، فأجاب بأن قطع هذه المادة م: (بتملك الأصيل) ش: يعني الشفيع م: (أولى لأن الضرر في حقه بإزعاجه عن خطة آبائه أقوى) ش: لأن ملك المشتري لم يتقرر بعد، والمشتري رافع لتقرير ملكه؛ لأنه مضطر إلى البيع لو لم يوافقه المشتري والدفع أسهل من الرفع.(11/282)
وضرر القسمة مشروع لا يصلح علة لتحقيق ضرر غيره. وأما الترتيب فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الشفيع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وضرر القسمة مشروع) ش: هذا جواب عن قول الشافعي لأن مؤنة القسمة تلزمه عند بيع أحد الشريكين؛ لأنه جعل العلة المؤثرة في استحقاق الشفعة عند البيع لزوم مؤنة القسمة، فإنه لو لم يأخذ الشفيع المبيع بالشفعة طالبه المشتري بالقسمة فيلحقه بسبب مؤنته، وذلك ضرر به فمكنه الشرع من أخذ الشفعة دفعا للضرر عنه.
وتقرير الجواب أن مؤنة القسمة أمر مشروع م: (لا يصلح علة لتحقيق ضرر غيره) ش: وهو التملك على المشتري من غير رضاه لدفع ضرر القسمة؛ لأنه ليس بضرر بل العلة هي دفع ضرر الجوار باتصال الملكين على الدوام.
فإن قلت: ضرر الدخيل موهوم، وربما يكون وربما لا يكون لأنه مسلم مميز عاقل وعقله ودينه يمنعانه عن إضرار الغير وضرر المشتري وهو أخذ الملك منه بلا رضاه متحقق، فلا يلتزم ضرر المتحقق لدفع ضرر موهوم. ولو كان ضرر الدخيل موجودا لا موهوما يمكن رفعه بالمرافعة إلى السلطان أو بالمقابلة قلت: لا نسلم أن ضرر الدخيل موهوم بل هو غالب، فإن الإنسان لا يمكنه الانتفاع بملكه مدة عمره ولا يتأذى من جاره، فما أجزأ من قال قبل حلوله لأنه إذا نزل ربما يمكن دفعه، وربما لا يمكن فلا فائدة إذن في الاشتغال بالدفع والضرر الذي يلحق من جهة الدخيل بعضه ظاهر وبعضه باطن. فلا يمكن رفع جميع ذلك إلى السلطان وفيه حرج. وربما يحصل ضرر في باب السلطان أي في المقابلة فوق ضرر سوء الصحبة، فلا يحمل إلا على الدفع الأدنى.
فإن قلت: العلة في استحقاق الشفعة للشريك دفع ضرر المقاسمة، فلا يتحقق هذا المعنى في الجار فلا يثبت له الشفعة. قلت: المقاسمة حق مستحق على الشريك فلا يكون من الضرر.
فإن قلت: في المملوك بالإرث والهبة والوصية لا يثبت الشفعة فينتقض عليكم.
قلت: عدم الثبوت في هذه الأشياء لقلة وجودها بخلاف البيع، وأيضا فإنها لو ثبت فيها إما أن يثبت بعوض فلا يمكن وهو ظاهر، أو بغير عوض فليس بمشروع في الشفعة.
م: (وأما الترتيب فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الشفيع» ش: هذا عطف على قوله أما الثبوت، قد مر أن لفظ القدوري دل على شيئين ثبوت الشفعة والترتيب. أما ثبوتها فبالأحاديث المذكورة، وأما الترتيب فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن لم يثبت(11/283)
فالشريك في نفس المبيع، والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف.
وقال ابن الجوزي في " التحقيق ": هذا حديث لا يعرف. وأما المعروف ما رواه سعيد بن منصور، ثنا عبد الله بن المبارك عن هشام بن المغيرة النسفي قال: قال الشعبي: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفيع أولى من الجار، والجار أولى من الجنب» . وقال في " التنقيح ": هشام وثقه ابن معين وقال: أبو حاتم لا بأس بحديثه، انتهى.
قلت: هذا الحديث رواه عبد الرزاق في "مصنفه"، عن ابن المبارك به، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" في أثناء البيوع ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن شريح قال: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه. ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن شريح قال: الخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن إبراهيم النخعي قال: الشريك أحق بالشفعة، فإن لم يكن شريك فالجار، والخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق عمن سواه. وروى أبو يوسف، عن أشعب بن سوار، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه قال: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق من غيره.
م: (فالشريك في نفس المبيع، والخليط في حقوق المبيع، والشفيع هو الجار) ش: وهذا كما قد ترى فسر الشريك بمن كان شريكا في نفس المبيع، والخليط بمن كان في حقوق المبيع وهما في اللغة سواء.
وقال الطحاوي في " شرح الآثار ": فإن قال فقد جعلت هؤلاء الثلاثة شفعاء بالأسباب التي ذكرت فلم جعلت الشريك أولى من الشريك في الطريق ثم الجار. قيل له: لأن الشريك له شركة في الطريق وفي الدار بعينه وليس لصاحب الطريق حق في الدار، فلهذا صار هو أولى. وكذلك لصاحب الطريق حق في الطريق وليس في الطريق للجار ذلك، فلهذا صار هو أولى ثم الجار.
وقال القدوري في "شرحه لمختصر الكرخي ": وقد قالوا في الشريك إذا سلم الشفعة وجبت للشريك في الطريق، فإن سلمها وجبت للجار. وروي عن أبي يوسف أن الشفعاء إذا اجتمعوا فسلم الشريك الشفعة فلا شفعة لغيره؛ لأن عقد البيع وقع غير موجب للشفعة للجار، ألا ترى أنه لا يملك المطالبة بها فلا يثبت حقه إلا بتجديد بيع آخر أصله إذا استحدث الجوار.(11/284)
ولأن الاتصال بالشركة في المبيع أقوى لأنه في كل جزء وبعده الاتصال في الحقوق؛ لأنه شركة في مرافق الملك، والترجيح يتحقق بقوة السبب، ولأن ضرر القسمة إن لم يصلح علة صلح مرجحا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكرخي في "مختصره": الشفعة تستحق عند أصحابنا جميعا بثلاثة معاني بالشركة، وفيما وقع عليه عقد البيع أو بالشركة في حقوق ذلك، أو بالجوار الأقرب، وتفسير ذلك دار بين قوم فيها منازل لهم فيها شركة بين بعضهم وفيها، ما هي مفردة لبعضهم وساحة الدار مرفوعة بينهم ينصرفون من منازلهم فيها، وباب الدار التي فيها المنازل في زقاق غير نافذ فباع بعض الشركاء في المنزل نصيبه من شريكه أو من رجل أجنبي بحقوقه من الطرق في الساحة وغيرها فالشريك في المنزل أحق بالشفعة من الشريك في الساحة، ومن الشريك في الزقاق الذي فيه باب الدار.
فإن سلم الشريك في منزله الشفعة فالشريك في الساحة أحق بالشفعة، وإن سلم الشريك في الساحة فالشريك في الزقاق الذي لا منفعة له الذي يشرع فيه باب الدار أحق بعد بالشفعة من الجار الملاصق جميع أهل الزقاق الذي طريقهم فيه شركاء في الشفعة من كان في أدناه وأقصاه في ذلك سواء.
فإن سلم الشريك في الزقاق فالجار الملاصق ممن لا طريق له في الزقاق بعد هؤلاء أحق، وليس بغير الملاصق من الجيران شفعة مما لا طريق له في الزقاق، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد. قال بشر بن الوليد وعلي بن الجعد سمعنا أن أبا يوسف قال: قال بعض أصحابنا: لا شفعة إلا لشريك لم يقاسم نصيبه، وقال عامتهم للجار الشفعة، انتهى.
م: (ولأن الاتصال بالشركة في المبيع أقوى) ش: هذا دليل عقلي على الترتيب م: (لأنه) ش: أي لأن الاتصال م: (في كل جزء) ش: من أجزاء المبيع م: (وبعده) ش: أي بعد الاتصال بالشركة م: (الاتصال في الحقوق؛ لأنه شركة في مرافق الملك) ش: المرافق مواضع الرفق من صب الماء ورمي الكناسة وكسر الحطب وإيقاد النار والاستراحة في الخلاء ونحو ذلك وهو جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء. وفي " العباب ": ومرافق الدار مصاب الماء ونحوها.
م: (والترجيح يتحقق بقوة السبب) ش: لوجود الاتصال بكل جزء من المبيع بجزء من ملكه، وقوة السبب يوجب الترجيح كالضرب، فلما كان أبلغ كان الألم أكثر م: (ولأن ضرر القسمة إن لم يصلح علة) ش: لاستحقاق الشفعة؛ لأن القسمة أمر مشروع م: (صلح مرجحا) ش: لا لكونه علة، ولا يلزم أن لا يصح للترجيح؛ لأن الترجيح، إنما يكون أبدا بزيادة وصف لا(11/285)
وقال: وليس للشريك في الطريق والشرب والجار شفعة مع الخليط في الرقبة لما ذكرنا أنه مقدم. قال: فإن سلم فالشفعة للشريك في الطريق، فإن سلم أخذها الجار لما بينا من الترتيب، والمراد بهذا الجار الملاصق وهو الذي على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة أخرى. وعن أبي يوسف: أن مع وجود الشريك في الرقبة لا شفعة لغيره سلم أو استوفى لأنهم محجوبون به. ووجه الظاهر: أن السبب قد تقرر في حق الكل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصلح للعلية، فلهذا كان الشريك في نفس المبيع هو الشريك الذي لم يقاسم أولى من غيره كالأخ لأب وأم يترجح على الأخ لأب في الميراث بالعصوبة، وإن كانت العصوبة لا تستحق بالأم، وكما إذا تنازع المستأجر مع رب الطاحونة في عدم جريان الماء يرجح بالحال إن كان الماء جار في الحال يكون القول رب الطاحونة وإن كان منقطعا يكون للمستأجر.
[الشفعة للشريك في الطريق]
م: (قال: وليس للشريك في الطريق والشرب والجار شفعة مع الخليط في الرقبة لما ذكرنا أنه مقدم، قال: فإن سلم) ش: أي قال القدوري فإن سلم الخليط في الرقبة وهو الشريك في نفس المبيع م: (فالشفعة للشريك في الطريق، فإن سلم) ش: أي الشريك في الطريق م: (أخذها الجار لما بينا من الترتيب، والمراد بهذا الجار الملاصق) ش: وفي بعض النسخ الملاصق ولا اعتبار للجار المحاذي، خلافا لما روي عن شريح.
وفي " خلاصة الفتاوى " ثبت الشفعة بجواز دار الوقف. وفي " الواقعات " في باب الشفعة بعلامة الشين رجل له أرض وهي وقف عليه اشترى رجل أرضا أخرى بجنبها ليس لصاحب الأرض الموقوفة عليه شفعة؛ لأن الشفعة بحق المالك ولا ملك له م: (وهو) ش: أي الجار الملاصق م: (الذي على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة أخرى) ش: أي في زقاق أخرى. وفي الباب السكة الطريقة المصطفة من النخل، وإنما سميت الزقة سككا لاصطفاف الدور فيها وسكة الدراهم هي المنقوشة.
م: (وعن أبي يوسف: أن مع وجود الشريك في الرقبة لا شفعة لغيره سلم أو استوفى) ش: أي الشريك في الرقبة سواء أسلم شفعته أو استوفاها م: (لأنهم محجوبون به) ش: أي لأن الشريك في الطريق وغيره من الشفعاء محجوبون بالشريك في الرقبة والمحجوب لا شيء له مع وجود الحاجب كما في الميراث، فإن الأقرب ولو امتنع عن أحد الميراث لا يكون للأبعد، وقد ذكرناه عن قريب ناقلا عن " شرح مختصر الكرخي ".
م: (ووجه الظاهر: أن السبب) ش: أي وجه ظاهر الرواية أن السبب وهو الاتصال م: (قد تقرر في حق الكل) ش: ولهذا قلنا يجب للجار أن يطلب الشفعة مع الشريك إذا علم بالبيع حتى يتمكن من الأخذ إذا سلم الشريك، حتى لو لم يطلب بعد علمه بالبيع لا حق له بعد تسليم(11/286)
إلا أن للشريك حق التقدم،
فإذا سلم كان لمن يليه بمنزلة دين الصحة مع دين المرض، والشريك في المبيع قد يكون في بعض منها كما في منزل معين من الدار أو جدار معين منها، وهو مقدم على الجار في المنزل، وكذا على الجار في بقية الدار في أصح الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشريك الشفعة ذكره في " المبسوط " م: (إلا أن للشريك حق التقدم) ش: أي الشريك في الرقبة أحق من الجار لما ذكرنا.
م: (فإذا سلم) ش: أي الشريك في الرقبة م: (كان لمن يليه بمنزلة دين الصحة مع دين المرض) ش: أي التي غير معروفة الأسباب في المرض مع ذي الصحة سواء، وقد مر في الإقرار م: (والشريك في المبيع قد يكون في بعض منها كما في منزل معين من الدار) ش: بأن كانت الدار كبيرة فكان فيها بيوت وفي بيت واحد شركة والشفعة بذلك دون الجار م: (أو جدار معين منها) ش: أي من الدار، صورته أرض بينهما غير مقسومة فبنيا حائطا في وسطها ثم اقتسما الباقي فيكون الحائط وما تحته مشتركا بينهما، فكان هذا الجار شريكا في بعض المبيع، فيكون مقدما على الشريك.
أما لو اقتسما الأرض قبل بناء الحائط وخط خطا في وسطها ثم أعطى كل واحد شيئا حتى بنيا حائطا فكل واحد جار في الأرض شريكا في البناء لا غير، والشركة في البناء لا غير لا يوجب الشفعة، كذا في " الذخيرة ".
م: (وهو مقدم) ش: أي الشريك في المبيع مقدم م: (على الجار في بقية الدار) ش: وكذا على الجار في بقية الدار م: (في أصح الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وكذا الشريك في الجدار مع أرضه مقدم على الجار في بقية الدار. وفي " المغني ": ذكر القدوري أن الشريك في الأرض التي تحت الحائط يستحق الشفعة في كل المبيع عند محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف فيكون مقدما على الجار في كل المبيع. وفي رواية عن أبي يوسف يستحق الشفعة في الحائط بحكم الشركة، وفي الباقي بحكم الجوار فيكون ذلك من جار آخر بينهما.
وقال الكرخي في "مختصره" قال أبو يوسف في دار بين رجلين ولرجل فيها طريق فباع أحدهما نصيبه من الدار فشريكه في الدار أحق بالشفعة في ذلك فالشفعة لصاحب الطريق قال وكذلك دار بين اثنين لأحدهما حائط بينه وبين رجل يعني فباع الذي له منزل في الحائط نصيبه من الدار والحائط، قال والشريك في الدار أحق بشفعة الدار ولا شفعة للشريك في الحائط وأرضه، وكذلك دار بين رجلين ولأحدهما بئر في الدار بينه وبين رجل آخر فباع له الشريك في البئر نصيبه من الدار والبئر فالشريك في الدار أحق بشفعة الدار، ولا شفعة(11/287)
لأن اتصاله أقوى والبقعة واحدة، ثم لا بد أن يكون الطريق أو الشرب خاصا حتى تستحق الشفعة بالشركة فيه، فالطريق الخاص أن لا يكون نافذا، والشرب الخاص أن يكون نهرا لا تجري فيه السفن، وما تجري فيه فهو عام، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الخاص أن يكون نهرا يسقى منه قراحان أو ثلاثة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للشريك في البئر في الدار وله شفعة في البئر م: (لأنه اتصاله أقوى والبقعة واحدة) ش: لأن المنزل من حقوق الدار ومرافقه، ولهذا يدخل في بيع الدار متى ذكر كل حق هو لها.
وإذا كان المنزل من توابع الدار كانت الشركة في المنزل تبعا للدار وتبع الشيء بمنزلة وصفه وما يصلح صفة لا علة يصلح مرجحا لها كعدالة الشاهد.
وأراد بقوله: والبقعة واحدة أن الموضع الذي هو مشترك بين البائع والشفيع لا حق لثالث فيه، وذلك في حكم شيء واحد فإذا صار أحق بالبعض يكون أحق بالجميع.
م: (ثم لا بد أن يكون الطريق أو الشرب خاصا حتى تستحق الشفعة بالشركة فيه، فالطريق الخاص أن لا يكون نافذا، والشرب الخاص أن يكون نهرا لا تجري فيه السفن) ش: قال عبد الواحد: أراد السفن الصغيرة مثل الزورق حتى لو كان نهرا كبيرا يجري فيه الزورق فالجار أحق؛ لأن هؤلاء ليسوا شركاء في الشرب، وذكره في " المبسوط "، وفي " الذخيرة " النهر الكبير من يشرب منه لا يحصون.
واختلفوا في حد ما لا يحصى وما يحصى، قيل ما لا يحصى خمسمائة، وقيل أربعون، وقيل مائة، وقيل أصح ما قيل أنه مفوض إلى رأي كل مجتهد في زمانه إن رآهم كان كبيرا وإلا كان صغيرا م: (وما تجري فيه) ش: أي والذي يجري فيه السفن م: (فهو عام وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش:
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الخاص أن يكون نهرا يسقى منه قراحان أو ثلاثة) ش: أي أو يسقي منه ثلاثة أوجه، والقراح في الأرض كل قطعة ليس فيها شجر ولا بناء. وقال الأترازي: القرح الأرض البارزة التي لم يختلط بها شيء، والماء القراح الذي لا يخالطه شيء، كذا في " تهذيب الديوان "، انتهى.
قلت: قد فرق بينهما بالضم في الأول، والفتح في الثاني. وفي " العباب " القراح المزرعة التي ليس فيها بناء ولا عليها شجر.
وقال الكرخي في "مختصره" وقال هشام عن أبي يوسف في الساقية الصغيرة تسقي البستانين أو الثلاثة أو تسقي قطعتين أو ثلاثة أو نحو ذلك فصاحب الأرض والبستان له الشرب(11/288)
وما زاد على ذلك فهو عام، فإن كانت سكة غير نافذة يتشعب منها سكة غير نافذة وهي مستطيلة فبيعت دار في السفلى فلأهلها الشفعة خاصة دون أهل العليا، وإن بيعت في العليا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الساقية أحق مما بيع من الجار الذي له شرب في الساقية.
فإن ترك صاحب أحق مما بيع من الجار الذي له شرب في الساقية، فإن ترك صاحب الساقية شفعة فللجار أن يطلب الشفعة. وقال أبو يوسف: ليس في الأرض التي شربها من العظم شفعة إذا لم يجعل أبو يوسف العظم مثل الساقية بين القوم.
ثم قال الكرخي فيه وقال هشام: سألت محمدا عن النهر الذي يجري فيه السفن أيكون للذي لهم النهر الشفعة فيما بيع من ذلك النهر، قال نعم، قال محمد: ولكن ليس لهم الشفعة بهذا النهر في الأرضين التي شربها من هذا النهر، هذا بمنزلة الطريق النافذ وقال: وأما ما لا يجري فيه السفن فإنه بمنزلة الطريق غير النافذ فهم شفعاء بالأنهار في الأرضين التي شربها في النهر، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. انتهى لفظه.
وقال القدوري في شرحه: أجرى محمد الحكم على جريان السفن؛ لأن ما تجري فيه السفن في حكم العظم فهو كالدجلة والفرات، وما لا يجري فيه السفن في حكم الصغير فهو كالزقاق الذي لا ينفذ. وقال الإمام الأسبيجابي: وفي " شرح الطحاوي " لو أن نهرا يسقي منه أراض معدودة وكروم معدودة فبيعت أرض من ذلك أو كرم منها فهم شفعاء فيها؛ لأنهم كلهم خلطاؤه فيها، وكان النهر عاما كأن الشفعة للجار الملاصق م: (وما زاد على ذلك) ش: أي على قراحين أو ثلاثة أقرحة م: (فهو عام) ش: إذا كان عاما لا يكون مستحقا للشفعة فيه بالشركة م: (فإن كانت سكة) ش: أي زقاق م: (غير نافذة) ش: بالرفع لأنها صفة السكة وليست بخبر لكانت؛ لأن كانت هنا تامة فلا تحتاج إلى خبر؛ لأن المعنى فإن وجدت سكة غير نافذة، وإنما ذكرها بالفاء تفريعا على مسألة القدوري م: (يتشعب منها سكة غير نافذة وهي مستطيلة) ش: أي والحال أنها مستطيلة هذه صورتها:
م: (فبيعت دار في السفلى أي في المتشعبة فلأهلها) ش: أي لأهل المتشعبة م: (الشفعة خاصة دون أهل العليا) ش: وفي أكثر النسخ وقدر أهل العليا وهو الأصح لأنه لا شركة لهم فيها ولا(11/289)
فلأهل السكتين، والمعنى ما ذكرنا في كتاب أدب القاضي.
ولو كان نهر صغير يأخذ منه نهر أصغر منه فهو على قياس الطريق فيما بيناه.
قال: ولا يكون الرجل بالجذوع على الحائط شفيع شركة، ولكنه شفيع جوار لأن العلة هي الشركة في العقار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق المرور، ولهذا لهم أن يفتحوا بابا منها سفلى فكانت كالمملوكة لأهلها. بخلاف الواحدة إذا بيعت دارا في أقصاها كانت الشفعة بين أهل السكة وإن لم يكن لأهل الأعلى حق المرور في حق الأقصى؛ لأن السكة إذا كانت واحدة والطريق واحد فيها فللكل فيها شركة من الأول إلى الآخر، إلا أن الشركة لأهل السفلى أكثر والترجيح لا يقع بالكثرة على ما عرف.
م: (وإن بيعت في العليا فلأهل السكتين) ش: أي وإن بيعت دار في السكة العليا فالشفعة لأهل السكتين جميعا؛ لأن لأهل السفلى لهم حق المرور فيها م: (والمعنى ما ذكر في كتاب أدب القاضي) ش: وهو أن حق المرور لأهل السفلى خاصة في الصورة الأولى، وفي الثانية لأهل السكتين جميعا، فكانوا سواء في الشفعة.
[الشفعة في النهر الصغير]
م: (ولو كان نهر صغير يأخذ منه نهر أصغر منه فهو على قياس الطريق) ش: يعني لو بيع أرض متصلة بالنهر الأصغر فالشفعة لأهله لا أهل الصغير كما ذكرنا الحكم في السكة المتشعبة مع السكة المستطيلة.
قال القدوري في " شرح الكرخي ": إذا نزع منه نهر فبيعت أرض شربها من النهر النازع فأهل النهر النازع أحق بالشفعة من أهل النهر الكبير؛ لأنهم يختصون بشرب النهر النازع، فأهل النهر النازع أحق بالشفعة من أهل النهر الكبير فإن بيعت أرض على النهر الكبير كان أهله وأهل النهر النازع سواء في الشفعة؛ لأنهم سواء في استحقاق الشرب بالشركة في عمود النهر م: (فيما بيناه) ش: أي من استحقاق في الشفعة.
م: (قال: ولا يكون الرجل بالجذوع على الحائط شفيع شركة، ولكنه شفيع جوار) ش: أي قال المصنف: قال الكرخي في "مختصره": قال هشام سألت محمدا عن حائط بين دارين عليه خشب لصاحب هذه الدار ولصاحب الدار الأخرى فبيعت أحد الدارين فجاء صاحب الحائط يدعي الشفعة، وجار الجار يدعيها ولا يعلم أن الحائط بينهما لك بالخشب الذي قال محمد اسأل المدعي الشفعة البينة أن الحائط بينهما. وإن أقام بينة فهو أحق من الجار لأنه شريك، وإن لم يقم بينة لم أجعله شريكا، انتهى. وذلك لأن استحقاق الحائط بالخشب ظاهر في الملك والشفعة لا تستحق بالظاهر.
م: (لأن العلة هي الشركة في العقار) ش: أي لأن علة استحقاق الشفعة هي الاشتراك في(11/290)
وبوضع الجذوع لا يصير شريكا في الدار لأنه جار ملازق
قال: والشريك في الخشبة تكون على حائط الدار جار لما بينا.
قال: وإذا اجتمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رؤوسهم، ولا يعتبر اختلاف الأملاك. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هي على مقادير الأنصباء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقار م: (وبوضع الجذوع لا يصير شريكا في الدار لأنه جار ملازق) ش: أي موضع الجذوع على الحائط لا يصير شريكا في الدار وهو ظاهر، ولكنه يكون جارا ملاصقا يستحق الشفعة بعد الشريك في الرقبة.
[الشفعة في الخشبة تكون على حائط الدار]
م: (قال: والشريك في الخشبة يكون على حائط الدار جار) ش: والشريك مبتدأ وجار خبره، وقوله يكون على حائط صفة للخشبة، أي قال في بيوع " الجامع الصغير ": وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة أنه قال الشريك في الطريق أحق بالشفعة من الجار، فأما الشريك بالخشب يكون له على حائط الرجل، فإنما هو جاره، انتهى.
وذلك لأنه لا يكون بموضع الخشب شريكا في شيء من الدار، وإنما له حق الشغل فكان جارا ملازما، فكان مؤخرا عن الشريك وقال الكاكي: وتأويله إذا كان وضع الخشبة على الحائط من غير أن يملك شيئا من رقبة الحائط لأنه إذا كان هكذا يكون جارا لا شريكا م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن العلة هي الشركة في العقار.
[الحكم لو اجتمع الشفعاء]
م: (قال: وإذا اجتمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رؤوسهم ولا يعتبر اختلاف الأملاك) ش: أي قال القدوري: م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هي) ش: أي الشفعة م: (على مقادير الأنصباء) ش: وهو قول منه. وفي " شرح الوجيز ": وهو الأصح وبه قال مالك وأحمد في المشهور عنه.
وقال الشافعي في قول وأحمد في رواية: الشفعة على عدد الرؤوس كقولنا، واختاره المزني وابن عقيل من أصحاب أحمد، وهو قول الشعبي والنخعي والثوري، وابن أبي ليلى وابن شبرمة، صورتها دار بين الثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللآخر سدسها فباع صاحب النصف نصيبه وطلب الشريكان الشفعة، قضى القاضي بها بينهما نصفين عندنا، وعند الشافعي قضى بها ثلاثا، ثلثاها لصاحب الثلث، وثلثها لصاحب السدس على مقادير أنصبائهما.
ولو أن دارا بيعت ولها شفيعان جاران جوار أحدهما الثلاثة أرباع الدار وجوار الآخر لربعها وجوار أحدهما في قدر شبر من الدار وطلبا جميعا الشفعة يقضي بينهما نصفين، وعند الشافعي لا تجب الشفعة للجار، ولو حضر واحد من الشفعاء أولا وأثبت شفعته فإن القاضي يقضي له جميع الدار بالشفعة، ثم إذا حضر شفيع آخر وأثبت شفعته فإنه ينظر إن كان الثاني(11/291)
لأن الشفعة من مرافق الملك، ألا يرى أنها لتكميل منفعته فأشبه الربح والغلة والولد والثمرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شفيعا مثل الأول قضي له بنصف الدار، فإن كان الثاني أولى من الأول بأن كان الأول جار وهذا خليط فإن القاضي يبطل شفعة الأول ويقضي بجميع الثاني.
وإن كان الثاني دون الأول في الشفعة فإن القاضي لا يقضي للثاني بالشفعة، وكذلك حكم الشراء. ولو أن رجلا اشترى دارا وهو شفيعها ثم جاء شفيع مثله قضى القاضي له بنصفها، وإن جاء شفيع آخر أول منه فإن القاضي يقضي له بجميع الدار فإن كان شفيع دونه فلا شفعة له، الكل لفظ " شرح الطحاوي ".
م: (لأن الشفعة من مرافق الملك) ش: أي فوائده؛ لأنه يستفاد به فيكون على قدر الملك م: (ألا يرى أنها لتكميل منفعته) ش: أي لأن الشفعة لتكميل منفعة الملك م: (فأشبه الربح) ش: يعني أن الشريكين إذا اشتريا شيئا ولم يشترطا شيئا، وقال أحدهما خمسة، وقال الآخر عشرة فحصل الربح كان الربح بينهما أثلاثا، الثلث لصاحب الخمس والثلثان لصاحب العشرة لأن الربح فرع المال وما لها كذلك م: (والغلة) ش: أي وأشبه غلة العقار المشترك بين اثنين أثلاثا يكون أثلاثا م: (والولد والثمرة) ش: أي وأشبه الولد من الجارية المشتركة أو البهيمة المشتركة يكون فيه الملك لكل واحد بقدر الملك في الأم. وكذلك ثمرة النخل المشترك.
ويشكل على هذا ثلاث مسائل، إحداها: كما لو أعتق اثنان نصيبهما في عبد مشترك بين ثلاث على التفاوت فالمعتقان إذا كانا موسرين يقومان مقام الثالث بالسوية.
والثانية: لو مات مالك الدار عن اثنين ثم مات أحدهما وله اثنان ثم باع أحد الاثنين نصيبه فالأخ والعم في الشفعة سواء مع تفاوت حصصهما.
والثالث: إذا مات الشفيع قبل أن يأخذ ورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذه أبوه على العدد، وامرأته وابنه في ذلك سواء. وبهذه المسائل رجح المزني القول الثاني وهو قولنا.
فأجابوا عن مسألة العتق بأنه على القولين، وسلم أنه قول أحمد فالفرق أن ذلك ضمان إتلاف لا فائدة ملك، حتى يتقدر بقدره، وفيه ضعف.
وعن الثانية أن للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولين في القديم وبه قال مالك الأخ مختص بالشفعة لأن ملكه أقرب إلى ملك الأخ، وفي الجد وهو وقول أبي حنيفة وأحمد والمزني أن العم والأخ يشتركان نظرا إلى الملك لا إلى سبب الملك، وعن الثالثة أن فيها قولين وعلى قول الاستواء أن أصل الاستحقاق باعتبار الإرث، وفي هذا لا يختلف، كذا في " شرح الوجيز "، وفي الكل ضعف كما ترى.(11/292)
ولنا: أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق. ألا يرى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كمال الشفعة، وهذا آية كمال السبب، وكثرة الاتصال تؤذن بكثرة الغلة، والترجيح يقع بقوة في الدليل لا بكثرته، ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق) ش: أراد أن الوجود من يسبب في حق كل واحد منهم مثل الوجود في حق الآخر في اقتضاء الاستحقاق، ألا ترى أن صاحب الكبير لو باع نصيبه كان لصاحب القليل أن يأخذ الكل كما لصاحب الكبير لو باع صاحب القليل، وهذا آية كمال السبب، فعلم أن علة الاستحقاق أصل الملك لا قدره.
م: (ألا يرى أنه) ش: توضيح لما قبله أن الشأن م: (لو انفرد واحد منهم استحق كمال الشفعة، وهذا آية كمال السبب) ش: أي علامة كمال السبب في حق كل واحد منهم م: (وكثرة الاتصال تؤذن بكثرة الغلة) ش: هذا جواب عما يقال الاتصال سبب الاستحقاق، وصاحب الكثير أكثر اتصالا فأنى يتساويان.
أجاب بقوله وكثرة الاتصال يؤذن أي يعلم بكثرة العلة؛ لأن الاتصال يؤذن أي يعلم بكثرة العلة؛ لأن الاتصال بكل جزء علة لما ذكرنا أن صاحب القليل لو انفرد استحق الجميع م: (والترجيح يقع بقوة في الدليل لا بكثرته) ش: أي بكثرة الدليل كما في الشاهدين وعشرة شهود، وجراحة واحدة وعشر جراحات ولهذا تنتصف الدية بين من جرح جراحة واحدة وبين من جرح أكثر.
م: (ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته) ش: أي لم تظهر الأخرى بمقابلته، أي لم يظهر الترجيح في مسألتنا، إذ لو ظهر لكان المرجوح مدفوعا بالراجح وهاهنا لا يبطل حق صاحب القليل، فعرفنا أنه لا ترجيح في جانبه وهو معنى قوله الظهور الأخرى بمقابلة تحريره أن صاحب القليل لو كان مرجوحا في مقابلة حق صاحب الكثير لكان لا يظهر حق صاحب القليل في مقابلة حق صاحب الكثير لأن المرجوح مدفوع بالراجح وبه ظهر علم عدم الرجحان.
فإن قال الشافعي لا يلزمني ذلك الجواز أن تكون العلة الواحدة مبنية لكمال الحكم، ولكن عند الانضمام مع الأخرى يثبت استحقاق أحدهما أكثر مما يثبت عند الانفراد كما في الرجالة في الغنيمة إذا انفردوا يستحقون كل الغنيمة، وكذا الفرسان إذا انفردوا يستحقون الكل أيضا، وعند الاجتماع يقسم على التفاوت.
وكذا لو مات وترك بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت أو للأخ بحق العصوبة، أما لو ترك بنتا وأختا كان النصف بينهما أثلاثا، فكذا هاهنا. وكذا لو كان الحائط المائل مشتركا(11/293)
وتملك ملك غيره لا يجعل ثمرة من ثمرات ملكه، بخلاف الثمرة وأشباهها.
ولو أسقط بعضهم حقه، فهي للباقين في الكل على عددهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بين اثنين أثلاثا وأشهد عليهما ثم سقط وأصاب مالا أو نفسا فالضمان بينهما أثلاثا بقدر الملك، فيجب أن يكون في الشفعة كذلك.
قلنا: تفضيل الفارس بينته شرعا بخلاف القياس مع أن الفرس بانفراده لا يصلح علة الاستحقاق فيصلح مرجحا. أما في مسألتنا ملك كل جزء علة تامة للاستحقاق فلا تصلح مرجحا.
وأما مسألة الميراث فليست نظيرها؛ لأن نصيبه الأخ والأخت عند الانضمام باعتبار أن الشرع جعل عصوبة الأنثى بالذكر علة الاستحقاق نصف ما للذكر ولتفاوتهما في نفس العلة؛ لأن العلة مرجحة بعلة أخرى إذ العصوبة بالأخ غير العصوبة بالبنت، فإذا جاءت العصوبة بالأخ زالت العصوبة بالبنت، والعصوبة بالأخ متفاوتة شرعا، فلم يكن من قبل ترجيح العلة بالعلة.
وأما مسألة الحائط فقلنا: إن مات يخرج الحائط فالضمان عليهما نصفان لاستوائهما في العلة، وإن مات ينقل الحائط، قلنا: فالضمان عليهما أثلاثا؛ لأن التساوي في العلة لم يوجد إذا نقل نصيب صاحب القليل لا يكون كثقل نصيب صاحب الكثير، فكان هذا راجعا إلى ما يتولد من الملك كالولد والثمرة والشفعة ليست من ثمرات الملك.
م: (وتملك ملك غيره) ش: هذا جواب عما قاله الشافعي أن الشفعة من مرافق الملك، تقريره أن يقال: إن التمكن من التملك م: (لا يجعل ثمرة من ثمرات ملكه) ش: كالأب، فإن له التمكن من تملك جارية ابنه، ولا بعد ذلك من ثمرات ملكه م: (بخلاف الثمرة وأشباهها) ش: وأنها من ثمرات الملك؛ لأنها تحصل بلا اختيار، بخلاف الشفعة فإنها باختياره.
م: (ولو أسقط بعضهم حقه فهي للباقين في الكل على عددهم) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا عندنا، وعند الثلاثة على قدر ملكهم، ولو أراد أن يأخذ حصته دون حصة الباقي ليس له ذلك بالإجماع؛ لأن في ذلك تفريق الصفقة والإضرار بالمشتري في تبعيض الملك عليه.
وهذا الذي ذكرنا قبل القضاء حتى لو قضى القاضي بالشفعة لأحدهما ثم سلم أحدهما نصيبه لم يجز للآخر أن يأخذ الجميع؛ لأنه لما قضى بالدار بينهما بالشفعة سار كل واحد منهما مقضيا عليه من جهة صاحبه فيما قضي به لصاحبه فبطل حق شفعته فيما قضي لصاحبه(11/294)
لأن الانتقاص للمزاحمة مع كمال السبب في حق كل واحد منهم وقد انقطعت، ولو كان البعض غيبا يقضي بها بين الحضور على عددهم؛ لأن الغائب لعله لا يطلب،
وإن قضى لحاضر بالجميع ثم حضر آخر يقضي له بالنصف، ولو حضر ثالث فبثلث ما في يد كل واحد تحقيقا للتسوية، فلو سلم الحاضر بعدما قضى له بالجميع لا يأخذ القادم إلا النصف؛ لأن قضاء القاضي بالكل للحاضر قطع حق الغائب عن النصف بخلاف ما قبل القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضرورة، وهكذا إذا قضى للخليط ثم سلم الشفعة لم يكن للشريك في المرافق أن يأخذ بالشفعة لبطلان حقه الضعيف بالقضاء. وكذا لو قضى للشريك في المرافق ثم سلم لم يكن للجار أن يأخذ لما ذكرنا، ذكره في " المبسوط ".
م: (لأن الانتقاص للمزاحمة مع كمال السبب في حق كل واحد منهم وقد انقطعت) ش: أي المزاحمة بالتسليم فبقي حقه في الجميع كالغرماء إذا تخاصموا من التركة فأسقط بعضهم حقه، سلمت التركة للباقين، وهذا كالقائل لاثنين إذا عفا ولي أحدهما فللآخر القصاص؛ لأن حقه ثبت في الجميع.
فإذا أبرأ الآخر فكأنه لم يكن وليس هذا كالبعد إذا قتل اثنين خطأ فعفا ولي الآخر يبقى حقه في نصف العبد، ويقال للمولى إما أن يدفع إليه نصف العبد أو الفدية؛ لأن جناية الخطأ مال، فإذا تعلقت الجنايتان بالرقبة تضايفت فيها فثبت لكل واحد منهما النصف، فإذا سلم الآخر المال بعد حق الباقي وليس كذلك الشفعة لأنها حق ليس بمال فهي بدم العبد أشبه.
م: (ولو كان البعض غيبا) ش: بفتح الغين والياء جمع غائب وفي " العباب ": وجمع الغائب غيب وغياب بضم الغين وتشديد الباء وغيب بالتحريك وإنما تثبت فيه البائع للتحريك لأنه أشبه بصيد وإن كان جمعا، وصيد مصدر قولك بعيرا صيد لأنه يجوز أن يسوي به المصدر م: (يقضي بها) ش: أي بالشفعة م: (بين الحضور) ش: أي بين الحاضرين وهو جمع حاضر كالركوع جمع راكع م: (على عددهم؛ لأن الغائب لعله لا يطلب) ش: يعني قد يطلب وقد لا يطلب فلا يترك حق الحاضرين بالشك.
م: (وإن قضى لحاضر بالجميع ثم حضر آخر يقضى له بالنصف) ش: بأن كان للدار شفيعان فحضر أحدهما حكم له بجميعها، فإن حضر الشفيع الآخر أخذ منه نصف الدار م: (ولو حضر ثالث) ش: أي شفيع ثالث م: (فبثلث ما في يد كل واحد تحقيقا للتسوية) ش: لأن الدار بينهم أثلاث على عددهم م: (فلو سلم الحاضر بعدما قضى له بالجميع لا يأخذ القادم إلا النصف؛ لأن قضاء القاضي بالكل للحاضر قطع حق الغائب عن النصف) ش: لأن الغائب صار مقضيا عليه في النصف، فلو أخذ الكل يصير مقضيا له في ذلك النصف م: (بخلاف ما قبل القضاء) ش: حيث(11/295)
قال: والشفعة تجب بعقد البيع، ومعناه بعده لا أنه هو السبب؛ لأن سببها الاتصال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأخذ الكل بعدما حضر لأنه لم يصر مقضيا عليه.
فإن قلت: القاضي لما قضى بالشفعة للحاضر ثبت له الملك من المشتري، فإذا سلم يكون بمنزلة الإقالة وفيها الشفعة فيأخذ الغائب النصف بالبيع الأول والنصف الآخر بهذا التسليم.
قلت: البيع الذي جرى بين البائع والمشتري لم ينفسخ أصلا وإنما الفسخ في حق الإضافة إلى المشتري، فإذا سلم عاد إلى المشتري القديم ملك الارتفاع المانع، فكانت القضية واحدة، والغائب صار مقضيا عليه في هذه القضية فلا يصير مقضيا له بعد ذلك فيها.
وفي " المبسوط " و" الذخيرة " شفيعان أحدهما حاضر والآخر غائب وقضى الحاضر بكل الدار فللغائب أن يأخذ نصفه، ولو جعل بعض الشفعاء نصيبه للآخر لم يصح الجعل وسقط حقه وقسمه على عدد من بقي، وإن قال الذي قضى له بالشفعة للآخر أنا أسلم لك الكل فإما أن يأخذ الكل أو يدع، فليس له ذلك، وللثاني أن يأخذ النصف.
ولو كان الحاضر لم يأخذها بالشفعة ولكن اشتراها من المشتري فحضر الغائب إن شاء أخذها كلها بالبيع الأول أو بالبيع الثاني؛ لأن الحاضر أسقط حقه بالإقدام على الشراء وخرج من الدين، ولو كان المشتري الأول شفيعا أيضا فاشتراها شفيع حاضر أيضا معه، فحضر الغائب إن شاء أخذ نصف الدار بالبيع الأول، وإن شاء أخذ الكل بالبيع الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[موجب الشفعة]
م: (قال: والشفعة تجب بعقد البيع) ش: أي قال القدوري: م: (ومعناه بعده لا أنه هو السبب؛ لأن سببها الاتصال) ش: أي معنى قول القدوري يجب بعقد البيع أي بعد البيع؛ لأن البيع هو السبب للشفعة؛ لأن سبب الشفعة اتصال الأملاك، وقال السغناقي هذا التأويل والتعليل مخالف لعامة روايات الكتب من " المبسوط " و" الذخيرة "، و" المغني " وغيرها لما أنه صرح بأن سبب وجوبها البيع والشراء، وفساد تأويل الكتاب ظاهر، لما أن سبب ثبوتها لو كان الاتصال ينتفي.
أما لو سلم الشفعة وفسد قبل البيع يبطل شفعته ولم يبطل بالإجماع.
وأجيب: بأن هذا لا يلزم على المصنف؛ لأنه قال يثبت بعد فيكون البيع شرطا والشرط يمنع السبب عندنا عن الاتصال بالمحل، فتسليم الشفعة قبل العقد ككفارة اليمين قبل الحنث فلا يجوز لأن العقد شرط.
ورد بأنه لا اعتبار لوجود الشرط بعد تحقق السبب في حق صحة التسليم كأداء الزكاة قبل(11/296)
على ما بيناه، والوجه فيه: أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار والبيع يعرفها، ولهذا يكتفي بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه.
قال: وتستقر بالإشهاد ولا بد من طلب المواثبة لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحلول، وإسقاط الدين المؤجل قبل حلول الأجل. والجواب أن ذلك شرط الوجوب ولا كلام فيه، وإنما هو في شرط الجواز وامتناع المشروط قبل تحقق الشرط غير خاف على أحد، م: (على ما بيناه) ش: يعني قوله ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال، م: (والوجه فيه) ش: أي في هذا التأويل م: (أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار والبيع يعرفها) ش: أي يعرف رغبة البائع عنه.
والحاصل: أن الاتصال بالملك سبب، والرغبة عن الملك شرط والبيع دليل على ذلك قائم مقامه، بدليل أن البيع إذا ثبت في حق الشفيع بإقرار البائع به صح له أن يأخذه وإن كذبه المشتري وهو معنى قوله م: (ولهذا يكتفي بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه) ش: قال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": الشفعة تجب برغبة البائع عن ملكه بدلالة أنه لو ادعى أنه باع داره من زيد فجحد زيد ذلك، وحيث الشفعة لأجل اعترافه بخروج الشيء عن ملكه وإن لم يحكم بدخوله في ملك المشتري، ثم قال وهذا المعنى هو سبب الشفعة، انتهى.
فإن قلت: ينتقض بما إذا باع بشرط الخيار له أو وهب وسلم فإن الرغبة عنه قد عرفت وليس للشفيع شفعة. قلت: في ذلك يرد دليل خيار البائع، بخلاف الإقرار فإنه يجبر به عن انقطاع ملكه عنه بالكلية لقبوله به كما زعمه، والهبة لا تدل على ذلك؛ لأن عرض الواهب المكافأة، ولهذا كان له الرجوع عنه فلا ينقطع حقه بالكلية.
[الشهادة على الشفعة]
م: (قال: وتستقر بالإشهاد) ش: أي قال القدوري: إن الشفعة تستقر بالإشهاد م: (ولا بد من طلب المواثبة) ش: وهو طلب الشفعة على السرعة، وإنما أضاف الطلب إلى المواثبة لتلبسها بها م: (لأنه حق ضعيف) ش: أي لأن الشفعة ذكر الضمير بالنظر إلى تذكير الخبر م: (يبطل بالإعراض) ش: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة كحل العقال» أي قيدها ثبت وهو كناية عن سرعة(11/297)
فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراضه عنه، ولأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد.
قال: وتملك بالأخذ إذا سلمها المشتري أو حكم بها الحاكم؛ لأن الملك للمشتري قد تم، فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي أو قضاء القاضي كما في الرجوع في الهبة، وتظهر فائدة هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السقوط، فكل ما هو كذلك لا بد من دليل يدل على الإعراض عنه أو دام عليه، والإشهاد والطلب يدلان على ذلك، فإذا كان كذلك م: (فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراضه عنه) ش: أي الطلب، قال في " شرح الطحاوي ": الطلب طلبان طلب مواثبة وطلب استحقاق. أما طلب المواثبة فعند سماع البيع من غير سكوت، ويشهد على طلبه شهودا ثم لا يمكث حتى يذهب إلى المشتري أو البائع إن كانت الدار في يده أو إلى الدار المبيعة.
وإن كانت الدار في يد المشتري إن شاء أشهد على المشتري بطلب الشفعة، وإن شاء شهد عند الدار، ولو طلب من البائع بطلت شفعته ويطلب عند واحد من هؤلاء طلبا آخر وهو طلب الاستحقاق ويشهد عليه شهودا، فإذا ثبت الشفيع شفعة بطلبين وأبى المشتري أن يسلمها إليه فهو على شفعته بعد ذلك بترك الطلب في ظاهر الرواية.
وروي عن محمد بن الحسن أنه قال: إذا مضى شهر لم يطلب مرة أخرى بطلت شفعته وهو أحد الروايتين عن أبي يوسف. وروي عنه في رواية أخرى له أن يطالب في كل مجلس من مجالس القاضي فإن ترك مجلسا من مجالس القاضي بطلت شفعته.
م: (ولأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد) ش: هذا دليل ثان على وجوب الإشهاد وهو ظاهر.
[كيفية تملك الشفعة]
م: (قال: وتملك بالأخذ) ش: أي قال القدوري أي تملك الشفعة بأخذ الدار المشفوعة م: (إذا سلمها المشتري أو حكم بها الحاكم؛ لأن الملك للمشتري قد تم) ش: التحقق سبب الملك وهو الشرط القاطع م: (فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي أو قضاء القاضي) ش: لأن تملك ملك الغير لا يجوز بدون رضاه، إلا أن الشرع جعل للشفيع حق التملك والمقاضاة، ولأنه عامة فإذا قضى بالشفعة، وأخذه الشفيع ملكها ولا يملك الشفيع الدار الأبعد قبل تسليم المشتري إليه أو قضاء القاضي، حتى إن المبيع لو كان كرما فأكل المشتري ثمان سنين فإنه لا يجوز مضمونا عليه ولا يطرح عن الشفيع شيء من الثمن لما أكل من ثماره إذا كانت الثمار حرثت بعدما قبض المشتري الكرم وكذا في " شرح الطحاوي " م: (كما في الرجوع في الهبة) ش: أي كما لا يصح الرجوع في الهبة إلا بالتراضي وقضاء القاضي؛ لأن الموهوب دخل في ملك الموهوب له فلا يخرج إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي لما ذكرنا آنفا م: (وتظهر فائدة هذا) ش: أي فائدة قوله ويملك(11/298)
فيما إذا مات الشفيع بعد الطلبين، أو باع داره المستحق بها الشفعة أو بيعت دار بجنب الدار المشفوعة قبل حكم الحاكم، أو تسليم المخاصم لا تورث عنه في الصورة الأولى، وتبطل شفعته في الثانية، ولا يستحقها في الثالثة لانعدام الملك له. ثم قوله: تجب بعقد البيع بيان بأنه لا يجب إلا عند معاوضة المال بالمال على ما نبينه إن شاء الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالأخذ م: (فيما إذا مات الشفيع بعد الطلبين) ش: أي طلب المواثبة وطلب التقرير، ويسمي طلب التقرير طلب الإشهاد أيضا م: (أو باع داره المستحق بها الشفعة أو بيعت دار بجنب الدار المشفوعة قبل حكم الحاكم أو تسليم المخاصم) ش: المشتري، وهذا يرجع إلى الصور الثلاث، وهي صورة الموت والتبيعين والشفيعين م: (لا تورث عنه في الصورة الأولى) ش: وهي ما إذا مات الشفيع بعد الطلبين قبل الأخذ.
م: (وتبطل شفعته في الثانية ولا يستحقها في الثالثة) ش: أي في الصورة الثانية وهي ما إذا باع داره المستحق بها الشفاعة قبل أخذ الدار المشفوعة؛ لأن سبب الشفعة اتصال ملك الشفيع بالدار المشفوعة بتسليم المخاصم، وهو المشتري أو بقضاء القاضي م: (لانعدام الملك له) ش: يعني لم يملك المشفوعة فكيف يملك بها غيرها.
م: (ثم قوله: تجب بعقد البيع) ش: يعني قول القدوري م: (بيان أنه لا يجب إلا عند معاوضة المال بالمال) ش: قال في " شرح الطحاوي ": والشفعة فيما إذا ملكت بعوض وهو عين مال، فأما إذا ملكت بغير عوض كالهبة والصدقة والوصية والميراث فلا شفعة فيها، وكذا لو ملك بعوض أي بغير مال، كما إذا جعله مهرا في النكاح أو بدل في الخلع أو صولح من دم عمد فلا شفعة فيه، ولو تزوجها على غير مهر مسمى ثم باع دارا من امرأته بذلك المهر أو تزوجها على غير مهر مسمى ثم باع داره بمهر المثل وجبت فيه الشفعة.
ولو تزوجها على الدار تزوجها على غير مسمى ثم فرض لها داره مهرا فلا شفعة فيها، ولو صالح على الدار من الجناية التي يوجب الأرش بعد القصاص تجب فيها الشفعة بالأرش.
ولو جعلها أجرة في الإجارات لا شفعة فيها؛ لأن بدلها ليس بعين مال م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أي في باب ما تجب فيه الشفعة، وما لا تجب.(11/299)
باب طلب الشفعة والخصومة فيها قال: وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه: طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم حتى لو بلغ الشفيع البيع، ولم يطلب شفعته بطلت شفعته لما ذكرنا ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة لمن واثبها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب طلب الشفعة والخصومة فيها]
م: (باب طلب الشفعة والخصومة فيها)
ش: أي هذا باب في بيان طلب الشفعة والخصومة في الشفعة، ولما لم يثبت الشفعة بدون الطلب والخصومة فيها شرع في بيانه وكيفيته.
م: (قال: وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة) ش: أي قال القدوري وأراد بالمطالبة طلب المواثبة والإشهاد فيه في المجلس ليس بشرط، والشرط هو نفس الطلب، وإنما يشهد فيه لأنه لا يصدق على الطلب إلا بنيته، فإن لم يكن يحضره من يشهده قال أنا مطالب بالشفعة ثم ينهض إلى من يشهد، وإنما يفعل ذلك حتى لا يسقط حق الشفعة فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
م: (اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه: طلب المواثبة) ش: أي أحدها طلب المواثبة م: (وهو أن يطلبها كما علم) ش: أي على الفور، سواء كان عنده إنسان أو لم يكن في كتاب الأجناس نقلا عن كتاب "الشفعة" لموسى بن نصر صاحب محمد بن الحسن، يحتاج الشفيع أن يطلبها ساعة بلغة البيع ويتكلم بلسانه بطلب، حضره المشهود أو لم يحضره، وقال الحسن بن زياد من قول نفسه ليس عليه أن يكلم بالطلب إذا لم يكن بحضرته أحد.
وفي " شرح الأقطع " يطلبها كما علم وإن لم يكن عنده أحد لئلا يسقط حقه ديانة، وفي " المبسوط " لكي يتمكن من الحلف إذا حلفه المشتري م: (حتى لو بلغ الشفيع البيع، ولم يطلب شفعته بطلت شفعته لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض.
م: (ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة لمن واثبها» ش: هذا ليس بحديث، وإنما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" من قول شريح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذا ذكره القاسم بن ثابت السرقسطي في كتاب " غريب الحديث " في باب كلام التابعين. ولو ذكر عوض هذا ما رواه ابن ماجه عن محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة كحل العقال» ، لكان أحسن وأصوب ورواه البزار في "مسنده" ومن طريق البزار رواه ابن حزم في " المحلى " وزاد فيه: "ومن مثل بعبده فهو حر وهو مولى الله ورسوله والناس على شروطهم ما وافق الحق".(11/300)
ولو أخبر بكتاب والشفعة في أوله أو في وسطه فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته، وعلى هذا عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن عدي بلفظ ابن ماجه وضعف محمد بن الحارث عن البخاري والنسائي وابن معين. وقال ابن القطان: واعلم أن محمد بن الحارث هذا ضعيف جدا وهو أسوأ حالا من ابن البيلماني وأبيه قال فيه الفلاس: متروك الحديث.
وقال ابن معين: ليس بشيء، ولم أر فيه أحسن من قول البزار فيه رجل مشهور ليس به بأس، وإنما أعله بمحمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، قوله: لمن واثبها أي طلبها على وجه السرعة والمبادرة وهو من الوثوب على الاستعارة؛ لأن من وثب بسرعة في طي الأرض بمشيه.
[أخبر الشفيع بكتاب أن الدار التي لك فيها شفعة قد بيعت]
م: (ولو أخبر بكتاب والشفعة) ش: أي ولو أخبر الشفيع بكتاب أن الدار التي لك فيها شفعة قد بيعت م: (في أوله أو وسطه) ش: أي وذكر الشفعة في أول الكتاب أو في وسطه م: (فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته) ش: لأنه دليل الإعراض م: (وعلى هذا عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي على أن طلب الشفعة على الفور عامة المشايخ، وقال الكرخي وقال ابن رستم عن محمد إذا بلغت الشفعة صاحبها فسكت فهو رضا وهو ترك الشفعة. قال القدوري: وهذا يدل على أنه للفور، ثم قال الكرخي وقال هاشم عن محمد في "نوادره": إذا بلغه فسكت ثم ادعاها من ساعته فهو على شفعته.
قال القدوري: وهذا بقيد المجلس. وقال ابن أبي ليلى: إن ترك الطلب ثلاثة أيام بطلت شفعته. وقال الشعبي: إن تركها يوما بطلت. وقال شريك: لا يبطل أبدا حتى يبطلها بقوله، وفي " شرح الأقطع " وللشافعي أربعة أقوال: أحدها أنها على الفور، والآخر ثلاثة أيام والآخر على التأبيد، إلا أن للمشتري مطالبة الشفيع بالأخذ والإسقاط. والرابع أنها على التأبيد، وليس للمشتري مطالبة الشفيع بشيء.
وفي " مغني الحنابلة " لو علم البيع فسكت لا يبطل شفعته حتى يعلم المشتري ثم يترك هذا الطلب تبطل شفعته عندنا والشافعي في الجديد وأحمد على المنقوص عنه وابن شبرمة والأوزاعي، وعن أحمد في رواية الشفعة على التراضي فلم تسقط ما لم يؤخذ منه دليل على الرضا بالسقوط من عفو ومطالبة بقسمة، وهو قول مالك والشافعي في قول، وابن أبي ليلى والثوري، إلا أن مالكا قال: ينقطع بمضي سنة وعنه بمضي مدة يعلم أنه تارك لها، وعنه بمضي أربعة أشهر. ولو أحدث فيه عمارة من غراس وبناء فله قيمته وقد رأى ابن أبي ليلى والثوري أن الخيار مقدر بثلاثة أيام وهو أحد أقوال الشافعي.(11/301)
وهو رواية عن محمد وعنه أن له مجلس العلم، والروايتان في النوادر، وبالثانية أخذ الكرخي لأنه لما ثبت له خيار التمليك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة.
ولو قال بعدما بلغه البيع: الحمد لله أو لا حول ولا قوة إلا بالله. أو قال: سبحان الله لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمد على الخلاص من جواره، والثاني: تعجب منه لقصد إضراره. والثالث: لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض، وكذا إذا قال: من ابتاعها وبكم بيعت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو رواية عن محمد) ش: أي قول عامة المشايخ بأنه على الفور رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " المحيط " وهي رواية مشهورة صحيحة وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد في المنصوص م: (وعنه: له مجلس العلم) ش: أي وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للشفيع مجلس العلم إن طلبه في ذلك المجلس فله الشفعة وإن لم يطلب م: (والروايتان في النوادر) ش: أي الروايتان المذكورتان عن محمد مذكورتان في " نوادر محمد ".
م: (وبالثانية أخذ الكرخي) ش: أي بالرواية الثانية أخذ الشيخ أبو الحسن الكرخي م: (لأنه لما ثبت له خيار التمليك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة) ش: قال الكرخي في "مختصره" بعدما ذكر فيه روايات الأصل والنوادر وليس هذا عندي اختلافا في رواية ولا معنى، لأن جميع هذه العبارات إنما أريد بها أن لا يكون الطلب متراخيا عن المال تراخيا يدل على ترك المطالبة بالشفعة أو الإعراض عنها، وهو عندي على مثال ما قالوا في المخيرة في الطلاق في رجل قال لزوجته: أمرك بيدك، وكخيار المشتري إذا أوجب له البائع البيع قال: قد بعتك هذا العبد بألف فللمشتري خيار الرد والقبول في المجلس ما لم يظهر منه ما يستدل به على الإعراض عن الجواب والترك له.
م: (ولو قال بعدما بلغه البيع: الحمد لله أو لا حول ولا قوة إلا بالله أو قال سبحان الله لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمد على الخلاص من جواره. والثاني: تعجب منه لقصد إضراره. والثالث: لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري.
قال الكرخي في "مختصره": قال هشام في "نوادره" سألت محمدا عن رجل قيل له إن فلانا باع داره وهو شفيعها وهو صاحبه فقال: الحمد لله قد ادعيت شفعتها أو لقي صاحبها الذي يدعي الشفعة قبله فبدأ بالسلام قبل أن يدعي الشفعة ثم ادعاها، أو قال حين أخر بالبيع من اشتراها أو بكم باعها أو عطس صاحبه فشمته قبل أن يدعي الشفعة ثم ادعاها قال محمد في هذا كله على شفعته. وقال في " النوادر " سئل أبو بكر البلخي عن الشفيع إذا سلم على المشتري قال: تبطل شفعته.
م: (وكذا إذا قال) ش: أي الشفيع م: (من ابتاعها) ش: أي من اشترى الدار م: (وبكم بيعت(11/302)
لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض، والمراد بقوله في الكتاب: أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة، طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم إنما هو لنفي التجاحد. والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة، كما لو قال: طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض) ش: فكان التعرف عن هذا تحقيقا للطلب لا إعراضا؛ لأن كل ذلك من أسباب الشفعة فلا يسقطها م: (والمراد بقوله في الكتاب: أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة، طلب المواثبة) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (والإشهاد فيه ليس بلازم إنما هو لنفي التجاحد) ش: أي في طلب المواثبة لأنه ليس لإثبات الحق، وإنما هو ليعلم أنه غير معرض عنها حتى يمكنه الحلف حين طلب المشتري حلفه أنه طلبها كما سمع.
فإن قلت: هذا تناقض قوله يجب عليه أن يشهد.
قلت: لا لأن المراد من الأول الإشهاد على الطلب ومن الثاني طلب المواثبة وأنه واجب على تقدير أن يطلب الشفعة حتى لو لم يطلب لا يجب طلب المواثبة. وفي " الذخيرة " وإنما ذكر أصحابنا الإشهاد عند الطلب لا لأنه شرط بعد هذا الطلب بل لاعتبار ثمرته على المشتري عند إنكاره الطلب كما قالوا: إذا وهب الأب لابنه الصغير وأشهد على ذلك فيما ذكروا الإشهاد لصحة الهبة، بل لإثباتها عند إنكار الأب، وكما ذكروا الإشهاد في الحائط المائل على طريق الاحتياط لا لأنه شرط صحة التفريع.
م: (والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بتقييد القدوري بقوله أشهد في مجلسه ذلك إشارة إلى ما اختاره الكرخي من روايتي محمد وهي أن له مجلس العلم.
[ألفاظ تدل على طلب الشفعة]
م: (ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة، كما لو قال: طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى) ش: أن في العرف يراد بهذه الألفاظ الطلب للحال لا الخبر عن أمر ماض أو مستقبل، حتى قال الفضلي: إذا سمع الرستا في بيع أرض بجنب أرض وقال شفعته كان ذلك منهم طلبا، كذا في " الذخيرة ". وفي " المغني " قيل لو قال طلبت الشفعة أخذتها بطلت شفعته لأن كلامه وقع كذبا في الابتداء فصار كالسكوت والصحيح أنه طلب ولا يبطل به الشفعة. لأنها كالإنشاء عرفا كما في بعت واشتريت.
وفي " المحيط " ولو قال طلبت الشفعة وأطلبها بطلت شفعته، وكذا لو قال الشفعة لي أطلبها فبطل. ولو قال للمشتري: أنا شفيعك وآخذ الدار منك شفعة تبطل شفعته ولو كان(11/303)
وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري واقفا مع ابنه فسلم قبل الطلب إن سلم على الأب تبطل، وإن سلم على الابن لا. ولو قال للمشتري بالفارسية شفعته خواهم بطلت. ولو قال للمشتري: بارك الله في صفقتك أو ادعى له بالمفقود بعد السلام عليه قبل الطلب تبطل شفعته. وقال الشافعي: لا تبطل.
وفي " فتاوى قاضي خان " لو أدركت الصغيرة وثبت لها خيار البلوغ والشفعة، فلو قدمت أحدهما بطل الآخر، فالحيلة أن يقول طلبت حقي في الشفعة والخيار في العيون، قال هشام: سألت محمدا عن رجل حين طلب الشفعة أنا أطلبها ولم يقل قد طلبتها قال قد طلبتها قال هو على شفعته. وقال الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس ": قال في الهارونيات إذا قال الشفيع: أشهدكم على شفعتي كان ذلك منه طلبا وله الشفعة.
وفي " نوادر أبي يوسف " قال علي بن الجعد لو قال الشفيع لي فيها شفعة وأنا أطلبها كان طلبا صحيحا وله الشفعة. ولو قال لي فيما اشتريت شفعة لا يكون طلبا وبطلت شفعته لأنه أخبر بما له من الحق ولم يبطله. وقال محمد في " نوادر هشام " قول الشفيع قد ادعيت شفعتها طلب صحيح.
وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولفظ الطلب روي عن محمد بن مقاتل الرازي أن الشفيع يقول طلبت الشفعة فحسب. وروي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه يقول لا يراعى ألفاظ الطلب فإذا طلبها بأي لفظ كان بعد أن يعرف أنه قد طلبها فقد كفى؛ لأن محمدا لم يشترط في كتابه مراعاة اللفظ.
م: (وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية والمسطور كالعدل عند أبي حنيفة وزفر وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية، وهذا تفسير العلم الذي ذكر في أول الباب بقوله: وإذا علم الشفيع بالبيع أي إذا علم بأن أخبره رجلان أو رجل وامرأتان.
م: (وقالا: يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا، صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا) ش: أو به قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وبهذا الخلاف فيهما إذا لم يصدق الشفيع المخبر، أما لو صدقه فسكت تبطل شفعته بخبر كل مخبر مميز.(11/304)
وأصل الاختلاف في عزل الوكيل، وقد ذكرناه بدلائله وأخواته فيما تقدم، وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت عنده؛ لأنه ليس فيه إلزام حكم، وبخلاف ما إذا أخبره المشتري؛ لأنه خصم فيه، والعدالة غير معتبرة في الخصوم،
والثاني طلب التقرير والإشهاد لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي على ما ذكرنا، ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة؛ لأنه على فور العلم بالشراء، فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير، وبيانه ما قال في الكتاب ثم ينهض منه يعني من المجلس ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده، معناه لم يسلم إلى المشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأصل الاختلاف في عزل الوكيل، وقد ذكرناه بدلائله) ش: أي في آخر فصل القضاء بالمواريث من كتاب أدب القاضي م: (وأخواته فيما تقدم) ش: أراد بها المولى، إذا أخبر بجناية عبد فأعتقه، والبكر إذا سكتت بعدما أخبرت بإنكاح الولي، والذي أسلم ولم يهاجر إلينا فأخبر بالشرائع ففي كل ذلك يشترط في المخبر العدد أو العدالة عند أبي حنيفة خلافا لهما.
م: (وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت) ش: بأن زوجها خيرها تصير مخيرة م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة وإن كان المخبر فردا مميزا م: (لأنه ليس فيه إلزام حكم) ش: أي في إخبار المخيرة بل هو آنفا ما كان على ما كان؛ لأن النكاح لازم قبل هذا، وفي حق الشفيع يلزمه ضرر سواء بالجوار حتى لو اختارت نفسها في مجلس الخيرة بإخبار مخبر مميز يقع الطلاق، وإلا فلا، ولا يشترط في المخبر أحد شطري الشهادة لما ذكره.
م: (وبخلاف ما إذا أخبره المشتري) ش: يعني أن المخبر بالشفعة إذا كان هو المشتري وقال: اشتريت دار فلان لا يشترط فيه العدد أو العدالة، حتى إذا سكت الشفيع عند الإخبار ولم يطلب الشفعة بطلت شفعته م: (لأنه خصم فيه) ش: أي لأن المشتري خصم للشفيع في حق الشفعة م: (والعدالة غير معتبرة في الخصوم) ش: لعدم فائدة اشتراطها.
م: (والثاني طلب التقرير والإشهاد؛ لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي كما ذكرنا) ش: وهو قوله إنما هو نفي لتجاهه م: (ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة؛ لأنه على فور العلم بالشراء فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير) ش: أي طلب المواثبة لأنه ينكر على المشتري طلب الشفيع حتى لو سمع الشفيع، عند حضرة أحد من البائع والمشتري أو عند الدار ووجد عنده طلب المواثبة وأشهد على ذلك يكفيه ويقوم ذلك مقام الطلبين، كذا في " الفتاوى الظهيرية ".
م: (وبيانه) ش: أي بيان هذا الطلب م: (ما قال في الكتاب) ش: أي ما قال القدوري في "مختصره" بقوله م: (ثم ينهض منه يعني من المجلس) ش: يعني يقوم الشفيع مسرعا من المجلس م: (ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده، معناه لم يسلم إلى المشتري) ش: يعني معنى قوله البيع في يده أنه لم يسلمه إلى المشتري، أما إذا لم يكن في يده ذكر القدوري والناطفي لا يصح(11/305)
أو على المبتاع أو عند العقار، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطلب منه لأنه لم يبق له يد ولا ملك، فصار كالأجنبي، وذكر الإمام أحمد الطواويسي والشيخ الإمام خواهر زاده يصح استحسانا لأن الإشهاد حصل على العاقد فيصح كما يصح على المشتري م: (أو على المبتاع) ش: أي أو على المشتري سواء كانت الدار في يده أو لا؛ لأن الملك له ويأخذ الشفعة منه م: (أو عند العقار) ش: أي أو يشهد عند العقار لتعلق الحق به م: (فإذا فعل ذلك استقرت شفعته) ش: هذا الطلب مقدر بالتمكن، حتى لو لم يطلب بعد التمكن بطلت شفعته دفعا للضرر عن المشتري؛ لأنه ربما يتصرف فيها على تقدير أنه لا يطلب الشفعة ثم يطلب بعد زمان فينقص تصرفاته في الدار فيتضرر.
ثم إذا تأخر بعد زمان علم في الليل فأخره إلى الصبح وأقيمت الصلاة ويخاف فوت الصلاة فأخره لا يسقط شفعته وبه قال الشافعي وأحمد.
وفي " المحيط ": لو صلى بعد الظهر ركعتين لا تبطل شفعته، ولو صلى أكثر تبطل. ولو صلى أربعا بعد الجمعة لا تبطل. ولو صلى أكثر من أربع تبطل. وكذا لو سمع في الأربع قبل الظهر فأتمها أربعا لا تبطل. وفي " مبسوط شيخ الإسلام " الشفيع إنما يحتاج إلى طلب الإشهاد بعد طلب المواثبة أن لا يمكنه الإشهاد عن طلب المواثبة بأن سمع الشراء حال غيبة المشتري والبائع والدار، أما إذا سمع الشراء عند حضرة أحد هؤلاء، وطلب المواثبة وأشهد على ذلك فذلك يكفيه ويقوم مقام الطلبين، فلو ترك الأقرب من الثلاثة وقصد الأبعد.
فإن كان حمله في مصر واحد فالقياس أن تبطل شفعته، وفي الاستحسان لا تبطل؛ لأن نواحي المصر كناحية واحدة حكما، أما لو كان أحد الثلاثة في مصر والآخر في مصر آخر وفي رستاق فقصد الأبعد وترك الأقرب بطلت شفعته استحسانا، وقياسا لأنهما لم يجعلا كمكان واحد حكما.
وفي " شرح الكافي " وقالوا هذا إذا كانوا على طريق واحد فأما إذا كانت الطرق مختلفة في الذهاب إليهم لا يبطل حقه بالذهاب إلى الأبعد لأنه ربما يكون به عذر لا يكون ذلك في طريق آخر.
وقال في " الأجناس " قال في " نوادر ابن رستم " عن محمد إن كان البائع والمشتري بخراسان، والدار بالعراق أن للشفيع أن يخاصم المشتري إذا كان بخراسان ولا تبطل شفعته، وإن كان الشفيع بالعراق عند الدار أشهد عند الدار على طلب الشفعة وليس عليه أن يأتي خراسان فيخاصم هناك، ولو خرج إلى خراسان وطلب هناك ولم يطلب عند الدار بطلت شفعته.(11/306)
وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه؛ لأن للأول اليد وللثاني الملك، وكذا يصح الإشهاد عند المبيع؛ لأن الحق متعلق به، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما، إذ لا يد له ولا ملك، فصار كالأجنبي. وصورة هذا الطلب أن يقول: إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك. وعن أبي يوسف: أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده؛ لأن المطالبة لا تصح إلا في معلوم، والثالث طلب الخصومة والتملك، وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو رواية عن أبي يوسف. وقال محمد: إن تركها شهرا بعد الإشهاد بطلت وهو قول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه) ش: أي الإشهاد على البائع أو المشتري؛ لأن كلا منهما خصم للشفيع م: (لأن للأول اليد) ش: أي البائع له اليد م: (وللثاني الملك) ش: أي المشتري له الملك م: (وكذا يصح الإشهاد عند المبيع؛ لأن الحق متعلق به، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما، إذ لا يد له ولا ملك فصار كالأجنبي) ش:، وقد ذكرنا عن قريب ما نقل عن خواهر زاده من صحة الإشهاد على البائع بعد تسليمه المبيع إلى المشتري.
م: (وصورة هذا الطلب أن يقول: إن فلانا اشترى هذه الدار، وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك. وعن أبي يوسف: أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده؛ لأن المطالبة لا تصح إلا في المعلوم) ش: قال الكرخي في "مختصره": قال بشر وعلى بن الجعد عن أبي يوسف قال: فإن كان الشفيع غائبا فإذا علم فله من الأجل بقدر المسافة إما أن يقدم وإما أن يبعث وكيلا في طلبها وذلك بعد أن يشهد حيث علم أنه على شفعته ويسمي الدار، والأرض والموضع ويحدد حتى يستوثق لنفسه م: (والثالث) ش: أي النوع الثالث من أنواع الطلب م: (طلب الخصومة والتمليك) ش: وسماه في " الكافي " طلب الاستحقاق وهو أن يرفع المشتري الأمر إلى القاضي فيثبت حقه عنده بالحجة م: (وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أي عند قوله وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي فادعى الشراء وطلب الشفعة إلى آخره.
[هل تسقط الشفعة بالتأخير]
م: (قال: ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: لا تسقط الشفعة بتأخير طلب الخصومة والتمليك عند أبي حنيفة م: (وهو رواية عن أبي يوسف) ش: هذا قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يذكره القدوري أي قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي، وأحمد، وقول محمد رواية عن أبي يوسف أيضا.
م: (وقال محمد: إن تركها شهرا بعد الإشهاد بطلت) ش: أي الشفعة م: (وهو قول(11/307)
زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه: إذا تركها من غير عذر. وعن أبي يوسف: أنه إذا ترك المخاصمة في مجلس من مجالس القاضي تبطل شفعته؛ لأنه إذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم فيه اختيارا دل ذلك على إعراضه وتسليمه. وجه قول محمد: أنه لو لم يسقط بتأخير الخصومة منه أبدا يتضرر به المشتري؛ لأنه لا يمكنه التصرف حذار نقضه من جهة الشفيع، فقدرناه بشهر؛ لأنه آجل وما دونه عاجل على ما مر في الأيمان. ووجه قول أبي حنيفة، وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قول محمد هو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (معناه: إذا تركها من غير عذر) ش: أي معنى قول ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب إذا تركها من غير عذر. وفي " الذخيرة " و " المغني " لو ترك المرافعة إلى القاضي بعد الطلبين بعذر مرض أو حبس أو عدم قدرته على التوكيل بالطلب لم تبطل شفعته بالإجماع.
أما لو ترك المرافعة بغير عذر لا تبطل عند أبي حنيفة، وبه قالت الثلاثة، وهو رواية أبي يوسف. وعند محمد وأبي يوسف في رواية إذا طالت المدة تبطل وهو قول زفر.
واختلفت الرواية عنهما في طول المدة عنه ففي رواية مقدر بثلاثة أيام. وفي رواية أخرى مقدر بشهر وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وذكر فيها أيضا لو ترك المرافعة خوفا أن القاضي يبطل شفعته بأنه لا يرى الشفعة على الجوار فهو على شفعته. وقال الكرخي: قال هشام سألت محمدا عن قول أبي حنيفة فيمن طلب الشفعة عند غير القاضي ثم سكت قال: هو على شفعته أبدا ما لم يقل باللسان قد تركتها، وكذلك قول أبي يوسف، وقال محمد: فأما في قولي فإن سكت بعد الطلب شهرا بطلت شفعته.
م: (وعن أبي يوسف: أنه إذا ترك المخاصمة في مجالس القاضي تبطل شفعته؛ لأنه إذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم فيه اختيارا دل ذلك على إعراضه وتسليمه) ش: لم يقدر أبو يوسف التأخير بمقدار على هذه الرواية بل جعله على ما يراه القاضي؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال.
م: (وجه قول محمد: أنه لم يسقط بتأخير الخصومة منه أبدا يتضرر به المشتري لأنه لا يمكنه التصرف حذار نقضه) ش: أي حذار من نقض البناء والغرس م: (من جهة الشفيع فقدرناه بشهر؛ لأنه آجل وما دونه) ش: أي ما دون الشهر م: (عاجل على ما مر في الأيمان) ش: أي في مسألة ليقضين حقه عاجلا فقضاه فيما دون الشهرين في يمينه.
م: (ووجه قول أبي حنيفة: وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى) ش: وهذا مخالف لما قال قاضي(11/308)
أن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بإسقاطه، وهو التصريح بلسانه كما في سائر الحقوق، وما ذكر من الضرر يشكل بما إذا كان غائبا، ولا فرق في حق المشتري بين الحضر والسفر،
ولو علم أنه لم يكن في البلدة قاض لا تبطل شفعته بالتأخير بالاتفاق؛ لأنه لا يتمكن من الخصومة إلا عند القاضي فكان عذرا. قال: وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خان في "جامعه" و" صاحب المنافع " و" الخلاصة " مع أن الفتوى على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن الذي أخذ به المصنف هو الذي أخذ به الطحاوي في "مختصره" والكرخي أخذ برواية الشهر، إلا أن يكون القاضي عليلا أو غائبا (أن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بإسقاطه، وهو التصريح بلسانه، كما في سائر الحقوق) ش: فإنه إذا كان له حق ثابت عنده أخذ الجهة من الجهات، فإنه لا يسقط عنه بالأداء وبإسقاط صاحبه بالتصريح، فكذا هذا.
م: (وما ذكر من الضرر) ش: جواب عن قول محمد، أي ما ذكر محمد من ضرر المشتري م: (يشكل بما إذا كان) ش: أي الشفيع م: (غائبا، ولا فرق في حق المشتري بين الحضر والسفر) ش: أي لا فرق في لزوم الضرر على المشتري بين أن يكون الشفيع حاضرا أو غائبا لم يعتبر ضرره في الشفيع الغائب حيث لم تبطل شفعته بتأخير هذا الطلب بالاتفاق، فيجب أن لا تبطل فيما إذا كان الشفيع حاضرا.
وفي " الذخيرة " لو كان الشفيع غائبا ينبغي أن يطلب طلب المواثبة ثم له في الأجل على قدر المسير إلى المشتري أو البائع والدار المبيعة لطلب الإشهاد، ولو قدم المصر وتغيب المشتري وطلب الإشهاد على البائع أو عند الدار ثم ترك طلب التملك لا تبطل شفعته، وإن طال ذلك بلا خلاف؛ لأن ذلك ترك بعذر إذ لا يمكنه اتباع المشتري لأجل الخصومة؛ لأنه لكما قدم مصرا فيه المشتري ليأخذه هرب المشتري إلى مصر آخر. ثم الشفعة تثبت للغائب عند جمهور العلماء إلا عند النخعي والعكلي والبتي حيث قالوا لا شفعة للغائب؛ لأن في إثباتها ضررا بالمشتري، وللجمهور عموم الأحاديث.
م: (ولو علم أنه لم يكن في البلدة قاض لا تبطل شفعته بالتأخير بالاتفاق؛ لأنه لا يتمكن من الخصومة إلا عند القاضي فكان عذرا) ش: أراد بالاتفاق أصحابنا. وقال أحمد والشافعي: تبطل؛ لأن الأخذ بالشفعة لا يفتقر إلى حكم الحاكم عندهما؛ لأنه حق ثبت بالإجماع والنص، فلا يفتقر إلى الحكم كالرد بالعيب. قلنا: هو نقل الملك عن مالكه إلى غيره قهرا فيحتاج إلى الحكم كالرد بالعيب.
م: (قال: وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي) ش: أي قال القدوري وهذا هو طلب الخصومة(11/309)
فادعى الشراء وطلب الشفعة سأل القاضي المدعى عليه فإن اعترف بملكه الذي يشفع به وإلا كلفه بإقامة البينة لأن اليد ظاهر محتمل، فلا تكفي لإثبات الاستحقاق. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ويسأل القاضي المدعي قبل أن يقبل على المدعى عليه عن موضع الدار وحدودها؛ لأنه ادعى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي وعده بقوله وسنذكر كيفته من بعد م: (فادعى الشراء) ش: أي ادعى أن فلانا اشترى الدار م: (وطلب الشفعة سأل القاضي المدعى عليه) ش: وهو المشتري م: (فإن اعترف بملكه الذي يشفع به) ش: أي فإن أقر المشتري بملك الشفيع الذي يشفع به صار خصما فيسلمها. وهذا هو جواب أن الشرطية.
م: (وإلا) ش: أي وإن لم يعترف بأن أنكر ملك الشفيع بأن قال الملك الذي في يده ليس له وإنما هو ساكن فيه م: (كلفه) ش: أي كلف القاضي الشفيع م: (بإقامة البينة) ش: على أن الدار التي هو فيها ملكه ليثبت كونه خصما؛ لأن الخصومة في الشفعة فرع على ثبوت السبب وهو المجاورة والشركة، فإذا لم يثبت لم يصح إثبات ما هو فرع عليه.
وقال زفر: وهو أحد الروايتين عن أبي يوسف ليس عليه إقامة البنية على الملك؛ لأن اليد دليل على الملك، ألا ترى أن الشهود يشهدون بالملك بمشاهدة اليد فوجب بشهادة اليد فوجب أن يقضي بالشفعة لأجلها.
ودليلنا ما أشار إليه بقوله م: (لأن اليد ظاهر محتمل) ش: فيحتمل أنه يد ملك وغير ذلك م: (فلا تكفي لإثبات الاستحقاق) ش: لأن المحتمل لا يصلح أن يكون حجة الإلزام على الغير، وبه قال الشافعي وأحمد ذكره في " الحلية " و " مغني الحنابلة " وما ذكره في " الكافي " خلافا للشافعي ليس بمعتمد مذهبه، وظاهر اليد لا يثبت للاستحقاق على الغير، ولهذا قالوا إذا زعم المقذوف أنه حر وقال القاذف هو عبد لم يجب الحد حتى يقيم المقذوف البينة على الحرية وذلك لأن الظاهر الحرية إلا أنه لا يستحق بهذا الظاهر حقا على الغير، وكذلك المقطوعة يده إذا زعم أنه حر وطلب القصاص من القاطع فقال القاطع: هو عبد لم يجب القصاص حتى يثبت الحرية لهذا المعنى.
وكذلك قالوا في المشهود عليه إذا زعم أن الشاهد عبد لم يقض عليه بظاهر الحرية، وكذلك إذا زعمت العاقلة أن القاتل عبد لم يقض عليه لم يتحملوا عنه الدية حتى يثبت أنه حر.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ويسأل القاضي المدعي) ش: أي قال صاحب " الهداية " يسأل القاضي مدعي الشفعة م: (قبل أن يقبل على المدعى عليه عن موضع الدار) ش: أي الدار المشفوعة بأن يقول الشفيع دار فلان في بلدة كذا في محلة كذا م: (وحدودها) ش: الأربع م: (لأنه ادعى(11/310)
حقا فيها فصار كما إذا ادعى رقبتها، وإذا بين ذلك يسأل عن سبب شفعته لاختلاف أسبابها. فإن قال: أنا شفيعها بدار لي تلاصقها الآن تم دعواه على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في الفتاوى تحديد هذه الدار التي يشفع بها أيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حقا فيها) ش: أي في الدار والدعوى لا يصح إلا في المعلوم م: (فصار كم إذا ادعى رقبتها) ش: أي صار حكم هذا الحكم من يدعي رقبة الدار حيث لا يصح دعواه إلا إذا بينها بحدودها وأوصافها.
م: (وإذا بين ذلك) ش: أي في موضع الدار وحدودها م: (يسأله عن سبب شفعته) ش: أي يسأل القاضي الشفيع بأي سبب يدعي الشفعة م: (لاختلاف أسبابها) ش: أي لاختلاف أسباب الشفعة من الشركة والجوار فإنها على المراتب كما تقدم فلا بد من بيان السبب ليعلم هل هو محجوب بغيره أم لا، وربما ظن ما ليس بسبب كالجار المقابل سببا فإنه سبب عند شريح إذا كان أقرب بابا فلا بد من البيان. ويقول له أيضا متى أخبرت بالشراء كيف صنعت حين أخبرت به ليعلم أن المدة طالت أم لا، فإن عند أبي يوسف ومحمد إذا تطاولت المدة فالقاضي لا يلتفت إلى دعواه وعليه الفتوى، وهذا لا يلزم المصنف لأنه ذكر أن الفتوى على قول أبي حنيفة في عدم البطلان بالتأخير ثم بعد ذلك يسأله عن طلب الإشهاد، فإذا قال طلبت حين علمت أو أخبرت من غير لبث يسأله عن طلب الاستقرار، فإن قال طلبته من غير تأخير يسأله عن المطلوب بحضرته فقد كان أقرب إليه من غيره. فإن قال نعم فقد صحح دعواه ثم يقبل على المدعى عليه فإن اعترف بملكه الذي يشفع به وإلا كلفه إقامة البينة على ما ذكرنا.
م: (فإن قال: أنا شفيعها بدار لي تلاصقها الآن تم دعواه على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ذكر هذا تفريعا على ما تقدم وبيانا للخلاف الذي ذكر الحدود فإنه إذا قال أنا شفيع الدار المشتركة بدار تلاصق الدار المشفوعة وبين حدود الدار المشفوعة وأنها في بلدة كذا في محلة كذا يتم دعواه عند الخصاف ولا يشتر ذكر حدود دار عنده.
م: (وذكر في " الفتاوى " تحديد هذه الدار التي يشفع بها أيضا) ش: فالشرط على ما ذكر في الفتاوى بيان حدود دار الشفيع التي بطلت الشفعة بها بأن يقول أنا شفيعها بالجوار بداري التي أحد حدودا كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، والرابعة كذا وبيان صدور الدار المشتراة المشفوعة ما ذكرنا.
وقال الفقيه أبو الليث: وأما الطلب عند الحاكم أن يقول اشتري هذه الدار التي أحد حدودها كذا، والثانية كذا، والثالثة كذا، والرابعة كذا، وأنا شفيعها بالجوار بالدار التي أحد حدودها كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، والرابع كذا، طلبت أخذها بشفعتي فمره بتسليمها(11/311)
وقد بيناه في الكتاب الموسوم بالتجنيس والمزيد.
قال: فإن عجز عن البينة استحلف المشتري بالله ما يعلم أنه مالك للذي ذكره مما يشفع به، معناه بطلب الشفيع لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه. ثم هو استحلاف على ما في يد غيره فيحلف على العلم. فإن نكل أو قامت للشفيع بينة ثبت ملكه في الدار التي يشفع بها وثبت الجوار، فبعد ذلك سأله القاضي يعني المدعى عليه هل ابتاع أم لا؟ فإن أنكر الابتياع قيل للشفيع أقم البينة؛ لأن الشفعة لا تجب إلا بعد ثبوت البيع، وثبوته بالحجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلي بشفعتي هذه م: (وقد بيناه في الكتاب الموسم بالتجنيس والمزيد) ش: فكلاهما اسم لكتاب واحد للمصنف في الفتاوى.
وذكر فيه وقال: ينبغي أن يقول: وأنا أطلب الشفعة بدار اشتريتها من فلان التي أحد حدودها كذا. والثاني كذا، والثالث كذا، والرابع كذا؛ لأن الدار إنما تصير معلومة بذكر الحدود وبين حدود الدار المشتراة أيضا؛ لأن الدعوى إنما تصح بعد إعلام المدعي به والإعلام بذكر الحدود.
م: (قال: فإن عجز عن البينة) ش: أي قال القدوري: فإن عجز الشفيع عن إقامة البينة وهو عطف على قوله كلفه إقامة البنية م: (استحلف المشتري بالله ما يعلم أنه مالك الذي ذكره مما يشفع به) ش: هذا تحليف على العلم على ما نذكره، وفي " الذخيرة " هذا على قول أبي يوسف لأنه استحق الشفعة بمجرد اليد عنده، أما عند محمد فيحلف على البتات لأنه يدعي عليه استحقاق الشفعة، وصار كما لو ادعى الملك بسبب الشراء أو غيره، وهناك يحلف على البتات، فكذا هاهنا.
م: (معناه بطلب الشفيع) ش: أي معنى قول القدوري استحلف المشتري إذا طلب الشفيع م: (لأنه) ش: أي لأن الشفيع م: (ادعى عليه) ش: أي على المشتري م: (معنى لو أقر به لزمه) ش: أي لو أقر به المشتري لزمه بإقرار م: (ثم هو استحلاف على ما في يد غيره) ش: أي ثم هذا الاستحلاف على ما في يد غيره م: (فيحلف على العلم) ش: والأصل فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهود في القسامة: «فيحلف منكم خمسون رجلا خمسين يمينا بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا» ، فكان ذلك أصلا في أن اليمين إذا كانت على فعل المدعى عليه كانت على البتات، وإذا كانت على فعل الغير كانت على العلم م: (فإن نكل) ش: أي المشتري عن اليمين م: (أو قامت للشفيع بينة ثبت ملكه في الدار التي يشفع بها وثبت الجوار، فبعد ذلك سأله القاضي يعني المدعى عليه) ش: يعني على الشراء م: (هل ابتاع أم لا) ش: أي هل اشترى الدار المشفوعة أم لم يشتر م: (فإن أنكر الابتياع قيل للشفيع أقم البينة) ش: على الشراء م: (لأن الشفعة لا تجب إلا بعد ثبوت البيع، وثبوته بالحجة) ش: وهي الإقرار أو البينة.(11/312)
قال: فإن عجز عنها استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو بالله ما استحق عليه في هذه الدار شفعة من الوجه الذي ذكره فهذا على الحاصل والأول على السبب وقد استوفينا الكلام فيه في الدعوى، وذكرنا الاختلاف بتوفيق الله وإنما يحلفه على البتات لأنه استحلاف على فعل نفسه وعلى ما في يده أصالة، وفي مثله يحلف على البتات
قال: وتجوز المنازعة في الشفعة وإن لم يحضر الشفيع الثمن إلى مجلس القاضي فإذا قضى القاضي بالشفعة لزمه إحضار الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: فإن عجز عنها) ش: أي قال القدوري: فإن عجز الشفيع عن إقامة البنية م: (استحلف المشتري بالله ما ابتاع) ش: أي استحلف القاضي المشتري بالله ما اشترى م: (أو بالله ما استحق عليه في هذه الدار شفعة من الوجه الذي ذكره) ش: أي أو استحلف بالله ما استحق الشفيع عليه في هذه الدار شفعته. وفي بعض النسخ أو بالله ما استحق على هذه الدار شفعته م: (فهذا على الحاصل) ش: أي فهذا الاستحلاف على الحاصل، أعني استحلاف على حكم الشيء في الحال.
والأصل في الاستحلاف هو الاستحلاف على الحاصل عندهما، وعند أبي يوسف على السبب إلا إذا وجد التعريض من المدعى عليه فحينئذ يحلف على الحاصل.
وفي " شرح الأقطع " فالذي ذكره في الكتاب إنما هو قول محمد. وقال أبو يوسف: يحلف بالله ما ابتاع إلا أن يعوض فيقول قد يشتري الإنسان بالشيء ثم يفسخ العقد فلا يمكن استحلافه كذلك فيحلفه بالله ما يستحق عليه شفعته.
م: (والأول على السبب) ش: وهو قوله بالله ما ابتاع م: (وقد استوفينا الكلام فيه في الدعوى، وذكرنا الاختلاف بتوفيق الله) ش: أي في فصل كيفية اليمين والاستحلاف في الدعوى في قوله وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أما على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يحلف في جميع ذلك على السبب إلى آخره م: (وإنما يحلفه على البتات لأنه استحلاف على فعل نفسه وعلى ما في يده أصالة، وفي مثله يحلف على البتات) ش: أي يحلف القاضي المشتري في إنكاره الابتياع فيقول: بالله ما ابتعت أو يقول بالله ما يستحق الشفيع على هذه الدار شفعة، بخلاف استحلاف المشتري على إنكاره ملك الشفيع في الدار التي يسكنها الشفيع فإنه يحلفه على العلم فيقول بالله ما أعلم أنه ما تملك لها.
[المنازعة في الشفعة]
م: (قال: وتجوز المنازعة في الشفعة وإن لم يحضر الشفيع الثمن إلى مجلس القاضي) ش: أي قال القدوري: وذلك لأن الثمن إنما يجب بعد انتقال الملك إلى الشفيع ففي حالة المنازعة للانتقال فلا يجب عليه إحضار الثمن م: (فإذا قضى القاضي بالشفعة لزمه إحضار الثمن) ش:(11/313)
وهذا ظاهر رواية الأصل. وعن محمد: أنه لا يقضي حتى يحضر الشفيع الثمن، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الشفيع عساه يكون مفلسا فيتوقف القضاء على إحضاره حتى لا يتوى مال المشتري، وجه الظاهر: أنه لا ثمن له عليه قبل القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لانتقال الملك إليه م: (وهذا ظاهر رواية الأصل) ش: وبه قالت الثلاثة وابن شبرمة إلا عند الشافعي وابن شبرمة ينتظر ثلاثة أيام.
فإن أحضر وإلا فسخ عليه، وعند مالك وأحمد ينتظر يوما أو يومين وإلا يفسخ عليه، وإنما قال هذا ظاهر رواية الأصل، ولم يقل هذا رواية الأصل لأنه لم يصرح في الأصل هكذا، ولكنه ذكر ما يدل على أن القاضي يقضي بالشفعة من غير إحضار الثمن؛ لأنه قال للمشتري أن يحبس الدار حتى يستوفي الثمن منه أو من ورثته إن مات.
م: (وعن محمد: أنه لا يقضي حتى يحضر الشفيع الثمن، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الشفيع عساه يكون مفلسا فيتوقف القضاء على إحضاره حتى لا يتوى مال المشتري) ش: أي حتى لا يهلك، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توى على مال امرئ مسلم» . قوله عساه أي عسى الشفيع يكون مفلسا. وأصل استعماله بأن نحوه عسى زيد أن يخرج، وقد يشتبه يكاد فيترك أي نحو قول الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
وما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذا القبيل واسم عسى هاهنا الضمير البارز.
م: (وجه الظاهر: أنه لا ثمن له عليه) ش: أي الشأن لا ثمن للمشتري على الشفيع م: (قبل القضاء) ش: فلا يتمكن المشتري من مطالبته، فكيف يجب إحضاره، وفي " شرح الطحاوي " لا ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الثمن أما لو قضى ينفذ فضاؤه ووجب عليه الثمن فيحبس المشتري المبيع حتى يحضر الشفيع الثمن.
ولو قال للشفيع: ليس عندي الثمن أحضره اليوم أو غدا أو ما أشبه ذلك فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك، ويبطل حقه في الشفعة، ثم قال والفرق بين البائع والمشتري وبين الشفيع والمشتري، فإن المشتري في البيع لو ماطل لا يبطل الشراء، وهاهنا يبطل والبائع أزال البيع عن ملكه قبل وصول الثمن إليه فقد ضر بنفسه عن اختياره فلا يزيل ملك نفسه عن اختياره فلا ينظر له بإبطال ملك المشتري، وإنما ينظر له بإثبات ولاية حبس المبيع، فإن المشتري هاهنا فلا يزيل ملكه نفسه عن اختياره ليقال أضر بنفسه قبل وصول الثمن إليه، بل الشفيع يتملك عليه كرها دفعا للضرر عن نفسه، وإنما يجوز للإنسان دفع الضرر عن نفسه على وجه لا يضر بغيره ودفع الضرر عن المشتري بإبطال الشفعة إذا ماطل في دفع الثمن.(11/314)
ولهذا لا يشترط تسليمه فكذا لا يشترط إحضاره. وإذا قضى له بالدار فللمشتري أن يحبسه حتى يستوفي الثمن وينفذ القضاء عند محمد أيضا؛ لأنه فصل مجتهد فيه ووجب عليه الثمن فيحبس فيه، فلو أخر أداء الثمن بعد ما قال له ادفع الثمن إليه لا تبطل شفعته لأنها تأكدت بالخصومة عند القاضي.
قال: وإن أحضر الشفيع البائع والمبيع في يده فله أن يخاصمه في الشفعة؛ لأن اليد له وهي يد مستحقة ولا يسمع القاضي البينة حتى يحضر المشتري فيفسخ البيع بمشهد منه ويقضي بالشفعة على البائع، ويجعل العهدة عليه؛ لأن الملك للمشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: أي ولعدم كون الثمن عليه قبل القضاء م: (لا يشترط تسليمه، فكذا لا يشترط إحضاره) ش: لأنه ليس بثابت عليه م: (وإذا قضى له بالدار فللمشتري أن يحبسه حتى يستوفي الثمن) ش: أي فإذا قضى للشفيع بالدار. وفي بعض النسخ فإذا قضى بالدار للشفيع فللمشتري م: (وينفذ القضاء عند محمد أيضا؛ لأنه فصل مجتهد فيه) ش: يعني أن عند محمد لا يقضى بالشفعة قبل إحضار الثمن، ومع هذا لو قضى بها قيل الإحضار ويفيد القضاء عنده أيضا لوقوعه في محل مجتهد فيه، وإنما قال عند محمد أيضا؛ لأن الإشكال يجيء على مذهبه إذ لا يجوز القضاء عنده حتى يحضر الثمن كما ذكرنا.
م: (ووجب عليه الثمن) ش: أي على الشفيع م: (فيحبس فيه) ش: أي في الثمن إذا أخره م: (فلو أخر أداء الثمن بعدما قال له ادفع الثمن إليه لا تبطل شفعته) ش: أي فلو أخر الشفيع الثمن بعدما قال القاضي له ادفع الثمن إليه، أي إلى المشتري لا تبطل شفعته. وفي " الكافي " عند محمد م: (لأنها تأكدت بالخصومة عند القاضي) ش: أي لأن الشفعة تأكدت بخصومة الشفيع عند القاضي.
م: (قال: إن أحضر الشفيع البائع والمبيع في يده) ش: أي قال القدوري أي وإن أحضر الشفيع البائع عند القاضي والحال أن الدار المشفوعة في يده ولم يسلمها إلى المشتري م: (فله أن يخاصمه في الشفعة) ش: أي فللشفيع أن يخاصم البائع في الشفعة م: (لأن اليد له وهي يد مستحقة) ش: أي معتبرة كيد الملاك، ولهذا كان له أن يحسبه حتى يستوفي الثمن. ولو هلك في يده ملك من ماله، وإنما قال ذلك احترازا عن يد المودع والمستعير ومن له يد كذلك فهو خصم من ادعى عليه م: (ولا يسمع القاضي البينة حتى يحضر المشتري فيفسخ البيع بمشهد منه) ش: أي بحضور من المشتري والمشهد بفتح الميم مصدر اسمي بمعنى الشهود وهو الحضور م: (ويقضي بالشفعة على البائع ويجعل العهدة عليه) ش: أي على البائع وهي ضمان سبب الثمن عند الاستحقاق لأنه هو القابض للثمن م: (لأن الملك للمشتري) ش: لأنه ثبت له بالبيع فصار ملكه، ألا ترى أنه يجوز له أن يتصرف فيه تصرف الملاك.(11/315)
واليد للبائع والقاضي يقضي بهما للشفيع، فلا بد من حضورهما بخلاف ما إذا كانت الدار قد قبضت، حيث لا يعتبر حضور البائع؛ لأنه صار أجنبيا إذ لا يبقى له يد ولا ملك.
وقوله: فيفسخ البيع بمشهد منه إشارة إلى علة أخرى، وهي أن البيع في حق المشتري إذا كان ينفسخ لا بد من حضوره ليقضى بالفسخ عليه، ثم وجه هذا الفسخ المذكور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (واليد للبائع) ش: ألا ترى أن له أن يحبسه لاستيفاء الثمن م: (والقاضي يقضي بهما) ش: أي بالملك واليد م: (للشفيع فلا بد من حضورهما) ش: أي حضور البائع والمشتري، إذ الشفيع يريد استحقاق الملك واليد، ولأن أخذه من يد البائع يوجب انفساخ البيع بين البائع والمشتري وذا لا يتم إلا بمحضر من المشتري فيشترط حضوره ثم الأخذ من يد البائع يجوز عندنا وعند الشافعي في وجه واحد.
وقال الشافعي في قول وأحمد في رواية: يجبر الحاكم المشتري حتى يقبضه من يد البائع فيأخذ الشفيع من يده والعهدة على المشتري بكل حال عند الثلاثة. وعند زفر وابن أبي ليلى والبناء على البائع بكل حال، وعندنا إن أخذ من يد البائع فالعهدة عليه، وإن أخذه من يد المشتري فالعهدة عليه.
وروى ابن سماعة وبشر بن الوليد عن أبي يوسف أن المشتري إن كان نقد الثمن ولم يقبض الدار حتى قضى للشفيع بالشفعة بمحضر من البائع والمشتري، فإن الشفيع يقبض الدار من البائع وينقد الثمن للمشتري وعهدته عليه، وإن كان لم ينقد الثمن دفع الثمن إلى البائع وعهدته عليه.
م: (بخلاف ما إذا كانت الدار قد قبضت حيث لا يعتبر حضور البائع لأنه صار أجنبيا إذ لم يبق له يد ولا ملك) ش: أي للبائع، أما عدم اليد فظاهر؛ لأن المبيع قبض، وأما عدم الملك فلأن المشتري ملكه بالعقد الصحيح مع القبض.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري: م: (فيفسخ البيع بمشهد منه إشارة إلى علة أخرى وهي أن البيع في حق المشتري إذا كان ينفسخ لا بد من حضوره ليقضى بالفسخ عليه) ش: يعني اشتراط الحضور معلول بعلتين: إحداهما أنه يصير مقضيا عليه في حق الملك؛ لأنه قال قبل هذا؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع فلا بد من حضوره، وثانيهما أنه يصير مقضيا عليه بحق الفسخ كما ذكر هاهنا، فلا بد من حضوره، إذ القضاء على الغائب لا يجوز.
م: (ثم وجه هذا الفسخ المذكور) ش: وهو الفسخ المذكور في قوله فيفسخ البيع بمشهد منه، ولما كان الفسخ للبيع يوهم العود على موضعه بالنقض في المسألة؛ لأن نقض البيع إنما هو لأجل(11/316)
أن ينفسخ في حق الإضافة لامتناع قبض المشتري بالأخذ بالشفعة، وهو يوجب الفسخ، إلا أنه يبقى أصل البيع لتعذر انفساخه؛ لأن الشفعة بناء عليه، ولكنه تتحول الصفقة إليه، ويصير كأنه هو المشتري منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشفعة، وبعضه يفضي إلى انتفائها لكونها مبنية على البيع بين وجه النقض بقوله ثم وجه هذا الفسخ المذكور م: (أن ينفسخ في حق الإضافة) ش: يعني يصير البيع مضافا إلى الشفيع بعد أن كان مضافا إلى الشفيع بعد أن كان مضافا إلى المشتري م: (لامتناع قبض المشتري بالأخذ بالشفعة) ش: هذا تعليل لقوله أن يفسخ في حق الإضافة وإن قبض المشتري مع ثبوت حق الأخذ للشفيع ممتنع.
وإذا كان ممتنعا فإن الغرض من الشراء هو الانتفاع بالبيع، فيحتاج إلى الفسخ، وهو معنى قوله م: (وهو يوجب الفسخ) ش: أي امتناع قبض المشتري بسبب الأخذ بالشفعة يوجب الفسخ؛ لأن الأسباب شرعت لأحكامهما لانتفائهما.
م: (إلا أنه يبقي أصل البيع) ش: هذا استثناء عن قوله ينفسخ في حق الإضافة، وإلا بمعنى لكن، يعني لكن الشأن يبقى أصل البيع بمعنى الفسخ في حق المشتري لا البائع، ويبقى أصل البيع، أعني الصادر من البائع وهو قوله بعت مجردا من إضافته إلى ضمير المشتري لتعذر انفساخه، فإنه لو انفسخ عاد على موضعه بالنقض كما ذكرنا.
م: (لتعذر انفساخه) ش: أي انفساخ العقد في حقهما من كل وجه؛ لأنه يصير كأن البيع لم يكن أصلا؛ لأن الانفساخ من كل وجه عبارة عنه، فحينئذ يبطل حق الشفعة م: (لأن الشفعة بناء عليه) ش: أي على البيع م: (ولكنه تتحول الصفقة إليه) ش: أي ولكن الشأن يتحول العقد إلى الشفيع، وهذا وجه التحويل لبقاء العقد، وهو بتحويل الصفقة إليه.
م: (ويصير كأنه هو المشتري منه) ش: أي يصير الشفيع كأنه المشتري من البائع، وهذا لأن الشفعة ثابتة في الشرع ألبتة، وثبوتها مع بقاء العقد كما كان متعذرا لعدم حصول المقصود فكان فسخه من ضروراتها، وهي تندفع بفسخه من جانب المشتري فلا يتعدى إلى غيره، وهذا اختيار بعض المشايخ وهو المختار.
وقال بعضهم: نقل الدار من المشتري إلى الشفيع بعقد جديد قالوا لو كان بطريق التحول لم يكن للشفيع بعقد جديد، قالوا لو كان بطريق لم يكن للشفيع خيار الرؤية إذا كان المشتري قد رآه لكن له ذلك كما سيأتي ولما كان له أن يرد الدار إذا اطلع على عيب، والمشتري اشتراها على أن البائع بريء من كل عيب بها، لكن له ذلك.(11/317)
فلهذا يرجع بالعهدة على البائع، بخلاف ما إذا قبضه المشتري فأخذه من يده حيث تكون العهدة عليه؛ لأنه تم ملكه بالقبض، وفي الوجه الأول امتنع قبض المشتري وأنه يوجب الفسخ، وقد طولنا الكلام فيه في " كفاية المنتهي " بتوفيق الله تعالى.
قال: ومن اشترى دارا لغيره فهو الخصم للشفيع؛ لأنه هو العاقد، والأخذ بالشفعة من حقوق العقد فيتوجه عليه. قال: إلا أن يسلمها إلى الموكل؛ لأنه لم يبق يد ولا ملك، فيكون الخصم هو الموكل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب أن العقد يفضي إلى سلامة المعقود عليه من العيب، وإنما تغير في حق المشتري بعارض لم يوجد في الشفيع وهو الرواية وقبول المشتري العيب فتحولت الصفقة إلى الشفيع موجبة السلامة نظرا إلى الأصل.
م: (فلهذا) ش: أي فلتحول الصفقة إليه م: (يرجع بالعهدة على البائع) ش: لأنه لو باع كما كان، ولو كان بعقد جديد كانت على المشتري م: (بخلاف ما إذا قبضه المشتري فأخذه) ش: أي الشفيع م: (من يده حيث تكون العهدة عليه؛ لأنه تم ملكه بالقبض، وفي الوجه الأول) ش: وهو فيما إذا كان المبيع في يد البائع وأخذ الشفيع منه م: (امتنع قبض المشتري وأنه يوجب الفسخ) ش: أي فسخ البيع الذي كان بين المشتري وبينه م: (وقد طولنا الكلام فيه،) ش: أي في حكم المسألة المذكورة م: (في " كفاية المنتهي " بتوفيق الله تعالى) ش: وقد بينا شيئا من ذلك في أثناء الكلام.
م: (قال: ومن اشترى دارا لغيره) ش: أي قال القدوري: يعني اشترى لغيره بطريق الوكالة م: (فهو الخصم للشفيع؛ لأنه هو العاقد) ش: فيتوجه عليه حقوق العقد م: (والأخذ بالشفعة من حقوق العقد فيتوجه عليه) ش: أي فتتوجه الخصومة على الوكيل.
م: (قال إلا أن يسلمها إلى الموكل) ش: أي قال القدوري إلا أن يسلم الوكيل الدار إلى الموكل فحينئذ يكون الموكل هو الخصم م: (لأنه لم يبق له يد ولا ملك) ش: أي لأن الشأن لم يبق للوكيل يد في الدار ولا ملك فصار كالبائع إذا سلم إلى المشتري يخرج من الخصومة بالتسليم، غير أن البائع لا يكون خصما إذا كانت الدار في يده حتى يحضر المشتري والوكيل إذا قبض خصم وإن لم يحضر الموكل؛ لأن المشتري لم يقم البائع مقام نفسه فلم يجز فسخ الملك عليه من غير حضوره، وأما الموكل فقد أقام الوكيل مقام نفسه ورضي به فجاز أن يفسخ الملك بمخاصمته وإن لم يحضر الموكل.
م: (فيكون الخصم هو الموكل) ش: يعني إذا سلم الوكيل الدار إلى الموكل يكون هو الخصم. وفي " شرح الطحاوي " ومن اشترى دارا لرجل يأمره وقبضها ثم جاء الشفيع فطلب الشفعة، فإنه ينظر إن كان الوكيل لم يسلم الدار إلى الموكل، فإن للشفيع أن يأخذ الدار منه فيكتسب(11/318)
وهذا لأن الوكيل كالبائع من الموكل على ما عرف فتسليمه إليه كتسليم البائع إلى المشتري فتصير الخصومة معه، إلا أنه مع ذلك قائم مقام الموكل، فيكتفي بحضوره في الخصومة قبل التسليم، وكذا إذا كان البائع وكيل الغائب فللشفيع أن يأخذها منه إذا كانت في يده؛ لأنه عاقد، وكذا إذا كان البائع وصيا لميت فيما يجوز بيعه لما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عهدته عليه وينقد الثمن إليه بقوله الوكيل إلى الموكل، وإن كان الوكيل سلم الدار إلى الموكل أخذها منه وينقد الثمن إياه ويكتب العهدة.
وروي عن أبي يوسف أنه قال: لا يأخذ من يد الوكيل لأنه إنما اشتراها للموكل وهو ليس بخصم فيها، ولكن يقال سلم الدار إلى الموكل ثم يأخذها الشفيع منه، وفي ظاهر الرواية ما ذكرنا أنه يأخذ من يد الوكيل إذا كان في يده لأن حقوق العقد راجعة إلى العاقد فيكون في حقوق عقد كالمالك والشفعة من حقوق العقد.
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن الوكيل كالبائع من الموكل على ما عرف) ش: في باب الوكالة أن بين الوكيل والموكل بيع حكما م: (فتسليمه إليه) ش: أي بتسليم الوكيل إلى الموكل م: (كتسليم البائع إلى المشتري فتصير الخصومة معه) ش: أي مع الموكل، يعني لو كان سلم إلى المشتري كان هو الخصم، فكذا الموكل.
م: (إلا أنه مع ذلك قائم مقام الموكل) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لو كان الوكيل والموكل كالبائع والمشتري كان ينبغي أن يشترط حضورهما جميعا في الخصومة في الشفعة إذا كان الدار في يد الوكيل كما أن الحكم كذلك في البائع والمشتري كما يقدم، وتقرير الجواب أن يقال: إن الوكيل قائم مقام الموكل لكونه نائبا عنه م: (فيكتفي بحضوره في الخصومة قبل التسليم) ش: والبائع هناك ليس بنائب عن المشتري، فلا يكتفي بحضوره.
م: (وكذا إذا كان البائع وكيل الغائب، فللشفيع أن يأخذها منه إذا كانت في يده لأنه عاقد، وكذا إذا كان البائع وصيا لميت فيما يجوز بيعه) ش: ويكون الخصم للشفيع هو الوصي إذا كان الورثة صغارا، وقيد بقوله فيما يجوز احترازا عما لا يتغابن الناس بمثله فإن بيعه به لا يجوز، وكذا لو كانت الورثة كلهم كبارا لا يجوز بيع الوصي إذا لم يكن على الميت دين، فكان قوله يجوز بيعه احترازا من هذين البيعين، وعند الثلاثة في المسألة الوكيل يأخذ من يد الموكل؛ لأن حقوق العقد ترجع إليه عندهم.
وفي مسألة وكيل الغائب للشافعي وجهان: أحدهما مثل قولنا وهو قول أحمد م: (لما ذكرنا) ش: في الوكالة.(11/319)
قال: وإذا قضي للشفيع بالدار ولم يكن رآها فله خيار الرؤية. وإن وجد بها عيبا فله أن يردها وإن كان المشتري شرط البراءة منه؛ لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء، ألا يرى أنه مبادلة المال بالمال فيثبت فيه الخياران كما في الشراء ولا يسقط بشرط البراءة من المشتري ولا برؤيته لأنه ليس بنائب عنه فلا يملك إسقاطه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الخيار في الشفعة]
م: (قال: وإذا قضي للشفيع بالدار ولم يكن رآها فله خيار الرؤية) ش: أي قال القدوري قوله: ولم يكن أي والحال أنه قال لم يكن رآها قبل ذلك م: (وإن وجد بها عيبا فله أن يردها) ش: أي وإن وجد الشفيع بالدار عيبا له أن يردها؛ لأن الشفيع مع المشتري بمنزلة المشتري أن البائع ثم المشتري له أن يرد بخيار الرؤية والعيب، فكذلك للشفيع أن يرد بالخيارين على الذي أخذ منه.
م: وإن كان المشتري شرط البراءة منه) ش: أي من العيب م: (لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء. ألا يرى أنه) ش: أي الأخذ بالشفعة م: (مبادلة المال بالمال فيثبت فيه الخياران) ش: أي خيار الرؤية وخيار الشرط م: (بشرط البراءة من المشتري ولا برؤيته) ش: أي ولا تسقط أيضا خيار الرؤية من الشفيع برؤية المشتري م: (لأنه ليس بنائب عنه) ش: أي لأن المشتري ليس بنائب عن الشفيع م: (فلا يملك إسقاطه، والله سبحانه وتعالى أعلم) ش: أي فلا يملك المشتري إسقاط خيار الشفيع بالعيب والرؤية.
قال الإمام العتابي في " شرح الجامع الكبير " الأخذ بالشفعة شراء من وجه من حيث يملك بثمن معلوم حيث يثبت له خيار الرؤية وخيار العيب واستيفاء حقه من وجه حتى يستوفي فيه القضاء والرضاء وعدم الرضاء، ولو بطل يبطل لا إلى خلف حتى لا يكون المأخوذ منه ضامنا له سلامة البناء ونحوه، مثاله إذا أخذ الشفيع الدار بالشفعة فله خيار الرؤية وخيار العيب سواء كان ذلك للمشتري أو لم يكن.
فلو بنى فيها بناء أو غرس غرسا ثم استحقت الدار والعقار وأمر بقلع البناء والغرس يرجع على من أخذ منه بالثمن ولا يرجع بقيمة البناء والغرس عليه؛ لأنه لم يضمن له سلامة البناء لأنه أخذه على كره منه إن أخذه بقضاء.
وكذا إذا أخذه بغير قضاء لأنه يستوفي غير حقه لأنه إنما يأخذ على حق متقدم على البيع لكونه مقدما على الدخيل فيستوفي فيه القضاء غير القضاء كالرجوع في الهبة لما كان الراجع أخذ بين حقه بحق متقدم على الهبة يستوي فيه القضاء والرضاء.(11/320)
فصل في الاختلاف قال: وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع إن كان يدعي عله استحقاق الدار، فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ ولا نص هاهنا فلا يتحالفان.
قال: ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الاختلاف في الشفعة]
م: (فصل في الاختلاف)
ش: ذكر حكم الاختلاف عقيب اتفاق الشفيع والمشتري هو الوجه؛ لأن الأصل عدم الاختلاف.
م: (قال: وإذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري) ش: أي قال القدوري بأن قال المشتري: اشتريت بألفين، وقال الشفيع: اشتريت بألف فالقول قول المشتري مع يمينه، وبه قالت الثلاثة، إلا أن أشهب المالكي قال: إن أبي المشتري بما يشبهه فالقول له بلا يمين وإلا مع اليمين، وقيد في " المبسوط " و " الكافي " والدار مقبوضة م: (لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو) ش: أي المشتري م: (ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع إن كان يدعي عليه استحقاق الدار، فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ) ش: أي لتخير الشفيع إذ المدعي هو الذي لو ترك ترك، والمختص بهذه الصفة هو الشفيع لا المشتري.
م: (ولا نص هاهنا) ش: يعني لم يرد نص بالتحالف في اختلاف الشفيع والمشتري، وإنما النص في البائع والمشتري مع وجود معنى الإنكار في الطرفين هناك فوجب التحالف لذلك ولم يوجد الإنكار هاهنا في طرف الشفيع؛ لأن المشتري لا يدعي عليه شيئا فلم يمكن في معنى ما ورد به النص م: (فلا يتحالفان) ش: أي إذا كان كذلك فلا يتحالفان.
فإن قلت: ينبغي أن يجري التحالف؛ لأن المشتري من الشفيع ينزل منزلة البائع من المشتري والبيع في يد البائع؛ لأن الدار في يد المشتري، ولو وقع هذا الاختلاف بين البائع والمشتري لكان يجري التحالف بين البائع والمشتري.
قلت: وجد الدعوى والإنكار ثمة بخلاف القياس، وهذا ليس في معناه من كل وجه؛ لأن ركن البيع وإن وجد لكن بالنظر إلى فوات شرطه وهو الرضا أن يوجد فلا يلتحق به.
م: (قال: ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: أي قال القدوري: وبه قال الشريف الحنبلي. وقال الشافعي وأحمد: تعارضت البينتان وتساقطا،(11/321)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البينة بينة المشتري؛ لأنها أكثر إثباتا، فصار كبينة البائع والوكيل والمشتري من العبد. ولهما: أنه لا تنافي بينهما، فيجعل كأن الموجود بيعان وللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء، وهذا بخلاف البائع مع المشتري؛ لأنه لا يتوالى بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول، وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع وهو التخريج لبينة الوكيل؛ لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه، كيف وأنها ممنوعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والقول للمشتري مع يمينه، ويحتمل أن يفرغ بينهما لأنهما ينازعان في العقد ولاية لهما عليه، فصار كالمتنازعين عينا في يد غيرهما.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البينة بينة المشتري؛ لأنها أكثر إثباتا، فصار كبينة البائع) ش: إذا اختلف هو والمشتري في مقدار الثمن وأقام البينة فإنهما للبائع م: (والوكيل) ش: أي وكبينة الوكيل بالشراء مع بينة الموكل إذا اختلفا في الثمن فإنهما كالوكيل م: (والمشتري من العبد) ش: أي وكبينة المشتري من العبد من بينة المولى القديم إذا اختلفا في ثمن العبد المأمور فإنهما للمشتري لما في ذلك كله من إثبات الزيادة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه لا تنافي بينهما) ش: أي أن الشأن لا منافاة بين بينة الشفيع وبينة المشتري في حق الشفيع بجواز تحقيق المبين مرة بألف ومرة بألفين على ما شهد عليه البينتان م: (فيجعل كأن الموجود بيعان فللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء) ش: أي بأي البيعين شاء، غاية ما في الباب أن الثاني يتضمن فسخ الأول، إلا أن الأول لم يظهر في حق الشفيع؛ لأن حقه قد تأكد والحق للمالك لا يسقط إلا بإسقاط من له الحق فيبقى البيع الأول في حق الشفيع.
م: (وهذا بخلاف البائع مع المشتري؛ لأنه لا يتوالى) ش: أي لا يجري م: (بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول) ش: لأن الجمع بينهما غير ممكن فيصار إلى أكثرهما إثباتا؛ لأن المصير إلى الترجيح عند تعذر التوفيق م: (وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع) ش: فيجمع بين البينتين ولا يصار إلى الترجيح كما لو اختلف العبد مع المولى فقال العبد قلت إن أديت إلي ألفا فأنت حر. وقال المولى: إن أديت إلى ألفين ومن هنا فيجمع بينهما، إذ لا منافاة بينهما فيجعلا كأن الكلامين صدرا من المولي فيعتق العبد بأيهما شاء م: (وهو التخريج لبينة الوكيل) ش: أراد أن المذكور هو التخريج لبينة الوكيل، ومقصوده أن ما ذكره أبو يوسف في بينة البائع مع المشتري هو الجواب بعينه عما ذكره في بينة الوكيل مع الموكل م: (لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه) ش: أي من الوكيل فلا يمكن توالي العقد بينهما إلا بانفساخ الأول فبعذر التوفيق.
م: (كيف وأنها ممنوعة) ش: أي كيف تكون البينة للوكيل مع بينة الموكل إذا اختلفا في الثمن(11/322)
على ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما المشتري من العدو، فقلنا: ذكر في " السير الكبير ": أن البينة بينة المالك القديم. فلنا أن نمنع وبعد التسليم نقول: لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول. أما هاهنا بخلافه. ولأن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة، والبينات للالتزام.
قال: وإذا ادعى المشتري ثمنا وادعى البائع أقل منه ولم يقبض الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحال أنها ممنوعة م: (على ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما المشتري من العدو فقلنا: ذكر في " السير الكبير " أن البينة بينة المالك القديم) ش: قال ابن سماعة روي عنه أن البينة بينة المولى القديم ولم يذكر فيه قول أبي يوسف لما كان بينهما من الوجه حيث صنف السير م: (فلنا أن نمنع) ش: أي فحينئذ لنا أن نمنع ما ذكره أبو يوسف من كون البينة للمشتري عند الاختلاف مع المولى في ثمن العبد المأمور م: (وبعد التسليم) ش: يعني وإن سلمنا أن البينة للمشتري مثل ما قال م: (نقول لا يصح الثاني) ش: أي البيع الثاني بين المشتري وبين المالك القديم م: (هنالك) ش: أي في مسألة العبد المأمور م: (إلا بفسخ الأول) ش: أي البيع الأول لتعذر التوفيق.
م: (أما هاهنا) ش: أي في مسألة اختلاف الشفيع والمشتري م: (بخلافه) ش: أي بخلاف حكم مسألة العبد المأمور لأن العقدين قائمان في حق الشفيع فله أن يأخذ بأيهما شاء، وهذه طريقة أبي حنيفة في هذه المسألة حكاها محمد وأخذ بها، والطريقة الثانية حكاها أبو يوسف ولم يأخذ بها وهي قوله م: (ولأن بينة الشفيع ملزمة) ش: لأنها لا تلزمه على المشتري تسليم الدار بما قال شاء أو لا.
م: (وبينة المشتري غير ملزمة) ش: لأنه لا يلزم على الشفيع شيئا لكونه مخيرا، وبه حصل الفرق بين بينة البائع والمشتري، لأن كل واحد من البينتين ملزمة، فرجحنا بالزيادة، وكذلك بينة الوكيل مع بينة الموكل وفي مسألة الشراء من العدو، وعلى هذه الطريقة البينة بينة المالك القديم أنها تلزمه وبينة المشتري لا م: (والبينات للالتزام) ش: يعني مشروعية البينات لإلزام الخصم وإثبات الحق عليه.
[ادعاء المشتري عكس ما يدعيه البائع في الشفعة]
م: (قال: وإذا ادعى المشتري ثمنا وادعى البائع أقل منه ولم يقبض الثمن) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي والحال أن البائع لم يقبض الثمن.
وقال القدوري في "مختصره": ولا فرق بين أن تكون الدار في يد البائع أو في يد المشتري، ألا ترى ما ذكره الكرخي في "مختصره" بقوله وإن اختلف البائع والمشتري والشفيع في الثمن والدار في يد البائع أو في يد المشتري ولم ينقد الثمن والقول في ذلك قول البائع مع يمينه إن كان أكثر مما قال جميعا. انتهى.(11/323)
أخذها الشفيع بما قاله البائع، وكان ذلك حطا عن المشتري، وهذا لأن الأمر إن كان على ما قال البائع فقد وجبت الشفعة به، وإن كان على ما قال المشتري فقد حط البائع بعض الثمن، وهذا الحط يظهر في حق الشفيع على ما نبين إن شاء الله تعالى. ولأن التملك على البائع بإيجابه فكان القول قوله في مقدار الثمن ما بقيت مطالبته فيأخذ الشفيع بقوله.
قال: ولو ادعى البائع الأكثر يتحالفان ويترادان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أخذها الشفيع بما قاله البائع، وكان ذلك حطا عن المشتري) ش: أي من البائع عن ذمة المشتري م: (وهذا لأن الأمر إن كان على ما قال البائع فقد وجبت الشفعة به، وإن كان على ما قال المشتري فقد حط البائع بعض الثمن، وهذا الحط يظهر في حق الشفيع على ما نبين إن شاء الله تعالى) ش: أي في هذا الباب.
م: (ولأن التملك) ش: وجه آخر، ولأن تملك الشفيع البيع م: (على البائع بإيجابه) ش: أي بإيجاب البائع بقوله بعت، ألا ترى أنه لو أقر بالبيع والمشتري ينكر فللشفيع أن يأخذ بالشفعة م: (فكان القول قوله في مقدار الثمن) ش: سواء أدى المشتري الأقل أو الأكثر م: (ما بقيت مطالبته) ش: أي مطالبة البائع م: (فيأخذ الشفيع بقوله) ش: أي بقول البائع.
م: (قال: ولو ادعى البائع الأكثر) ش: أي مما قاله المشتري أو الشفيع فإنه وضع المسألة في " المبسوط " و " الذخيرة " في اختلاف هؤلاء، فإن قال الشفيع الثمن ألف، وقال المشتري ألفان، وقال البائع ثلاثة آلاف وأقاما البينة فالبينة بينة البائع؛ لأنها تثبت الزيادة ويأخذ الشفيع بما قاله البائع. وقال الشافعي، وأحمد: يأخذ بما قاله المشتري. ولو اختلفوا في مقداره فإن كان ما قاله البائع أكثر مما قالا، وليس لهما بينة م: (يتحالفان، ويترادان) ش: أي البائع، والمشتري بالحديث المعروف.
قال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الكافي ": إذا اختلف البائع والمشتري، والشفيع في الثمن قبل نقد الثمن، والدار مقبوضة أو غير مقبوضة، أخذها الشفيع بما قال البائع إن شاء، وهذا على وجهين: إما أن يقع الاختلاف بينهم على وجه يدعي البائع أكثر الثمنين، أو المشتري.
أما إذا ادعى البائع أكثر الثمنين بأن قال: بعتها بألف درهم، والمشتري يقول: اشتريتها بألف، والشفيع يقول: اشتريتها بخمسمائة فإن المشتري مع البائع يتحالفان لاختلافهما في الثمن، فأيهما نكل ظهر أن الثمن بما يقوله الآخر يأخذها الشفيع بذلك.
ولو تحالفا يفسخ القاضي العقد بينهما، ويعود إلى ملك البائع، وأخذ الشفيع الدار من يد البائع بما يقوله البائع؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع، وهل يحلف البائع ينبغي(11/324)
وأيهما نكل ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر، فيأخذ الشفيع بذلك. وإن حلفا يفسخ القاضي البيع على ما عرف، ويأخذها الشفيع بقول البائع؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع.
قال: وإن كان قبض الثمن أخذ بما قال المشتري إن شاء، ولم يلتفت إلى قول البائع لأنه لما استوفى الثمن انتهى حكم العقد وخرج هو من البيت، وصار كالأجنبي وبقي الاختلاف بين المشتري والشفيع، وقد بيناه. ولو كان نقد الثمن غير ظاهر فقال البائع: بعت الدار بألف وقبضت الثمن يأخذها الشفيع بألف لأنه لما بدأ بالإقرار بالبيع تعلقت الشفعة به فبقوله بعد ذلك قبضت الثمن يريد إسقاط حق الشفيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأيهما نكل) ش: الاثنين: وهما البائع والمشتري، وأعرض عن اليمين م: (ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر فيأخذها الشفيع بذلك، وإن حلفا يفسخ القاضي البيع على ما عرف) ش: في موضعه في كتاب الدعوى م: (ويأخذها الشفيع بقول البائع؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع) ش: خصوصا على قول العامة، فإن من ضرورة الأخذ بالشفعة فسخ البيع الذي جرى بين البائع والمشتري، فكان الفسخ مقرا حق الشفيع لا رافعا، وهذا بخلاف ما إذا باع دارا بيعا فاسدا فقضى القاضي بالرد لا يأخذها الشفيع لعدم تعلق حقه، أما قبل القبض فظاهر، وكذا بعده دفعا للفساد.
م: (قال: وإن كان قبض الثمن) ش: أي قال القدوري يعني وإن كان البائع قد قبض الثمن م: (أخذ) ش: أي الشفيع م: (بما قال المشتري إن شاء ولم يلتفت إلى قول البائع؛ لأنه لما استوفى الثمن انتهى حكم العقد وخرج هو من البيت، وصار كالأجنبي وبقي الاختلاف بين المشتري والشفيع، وقد بيناه) ش: أي بيان الحكم فيما مضى وهو أن القول قول المشتري إذا اختلفا في مقدار الثمن.
م: (ولو كان نقد الثمن غير ظاهر) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، أي غير معلوم للشفيع م: (فقال البائع: بعت الدار بألف وقبضت الثمن يأخذها الشفيع بألف؛ لأنه) ش: أي البائع م: (لما بدأ بالإقرار بالبيع تعلقت الشفعة به) ش: أي بالإقرار بالبيع بذلك المقدار م: (فبقوله بعد ذلك) ش: أي فبقول البائع بعد الإقرار بالبيع م: (قبضت الثمن يريد إسقاط حق الشفيع) ش: أي حقه الذي تعلق بالبيع بما قال البائع من مقدار الثمن.
لأنه إن تحقق ذلك بقي أجنبيا من العقد إذ لا ملك له ولا يد، وحينئذ بحب أن يأخذ بما يدعيه المشتري لما تقدم آنفا أن الثمن إذا كان مقبوضا أخذ بما قال المشتري، وليس له إسقاط حق(11/325)
فيرد عليه، ولو قال: قبضت الثمن وهو ألف لم يلتفت إلى قوله؛ لأن بالأول وهو الإقرار بقبض الثمن خرج من البين، وسقط اعتبار قوله في مقدار الثمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشفيع م: (فيرد عليه) ش: أي على البائع.
م: (ولو قال: قبضت الثمن وهو ألف لم يلتفت إلى قوله) ش: مائة ألف ويأخذها بما قال المشتري م: (لأن بالأول وهو الإقرار بقبض الثمن خرج من البين وسقط اعتبار قوله في مقدار الثمن) ش: وروى الحسن عن أبي حنيفة أن البيع إذا كان في يد البائع فأقر بقبض الثمن، وزعم أنه ألف فالقول قوله؛ لأن التملك يقع على البائع فيرجع إلى قوله، وهذا ظاهر لأنه لم يصر أجنبيا لكونه ذا اليد وإن لم يكن مالكا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/326)
فصل فيما يؤخذ به المشفوع قال: وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن يسقط ذلك عن الشفيع، وإن حط جميع الثمن لم يسقط عن الشفيع؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد، فيظهر في حق الشفيع؛ لأن الثمن ما بقي. وكذا إذا حط بعدما أخذها الشفيع بالثمن يحط عن الشفيع، حتى يرجع عليه بذلك القدر بخلاف حط الكل؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بحال، وقد بيناه في البيوع.
وإن زاد المشتري للبائع لم تلزم الزيادة في حق الشفيع؛ لأن في اعتبار الزيادة ضررا بالشفيع؛ لاستحقاقه الأخذ بما دونها، بخلاف الحط؛ لأن فيه منفعة له. ونظير الزيادة إذا جدد العقد بأكثر من الثمن الأول، لم يلزم الشفيع حتى كان له أن يأخذها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يؤخذ به المشفوع]
م: (فصل فيما يؤخذ به المشفوع)
ش: لما بين أحكام المشفوع وهو الأصل شرع في بيان ما يؤخذ به وهو الثمن لأنه تابع.
م: (قال: وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن) ش: أي قال القدوري يعني ترك عنه بعض الثمن إحسانا إليه م: (يسقط ذلك) ش: أي بعض الثمن المحطوط م: (عن الشفيع) ش: وقال الشافعي وأحمد لا يحط عن الشفيع؛ لأن ذلك هبة مبتدأة لا يلتحق بأصل العقد كما في حط الكل، واختلف أصحاب مالك فقال ابن القاسم: إن كان ما حط مما جرت به العادة يلتحق بأصل العقد، ويحط عن الشفيع، وإن كان كثيرا مما لا يجري به العادة بحط مثله لم يحط عن الشفيع، وقال أشهب: لا يلحق الحط على الإطلاق من غير تفصيل.
م: (وإن حط جميع الثمن لم يسقط عن الشفيع) ش: أي وإن حط البائع جميع الثمن عن المشتري لا يسقط عن الشفيع م: (لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد فيظهر في حق الشفيع؛ لأن الثمن ما بقي، وكذا إذا حط بعدما أخذها الشفيع بالثمن يحط عن الشفيع حتى يرجع) ش: أي الشفيع م: (عليه) ش: أي على المشتري م: (بذلك القدر بخلاف حط الكل؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بحال) ش: من الأحوال فلا يخرج العقد عن موضوعه؛ لأنه لو التحق بأصل العقد، فإما أن يكون العقد هبة فلا شفعة فيها أو بيعا بلا ثمن فيكون فاسدا ولا شفعة في البيع الفاسد فيؤدي إلى إبطال حق الشفيع م: (وقد بيناه في البيوع) ش: أي في فصل من اشترى شيئا مما ينقل قبل الربا.
[زيادة المشتري للبائع في الثمن هل تلزم الشفيع]
م: (وإن زاد المشتري للبائع لم تلزم الزيادة في حق الشفيع) ش: هذا لفظ القدوري في "مختصره" م: (لأن في اعتبار الزيادة ضررا بالشفيع؛ لاستحقاقه الأخذ بما دونها) ش: أي بما دون الزيادة، ومع هذا لو أخذ بالزيادة جاز؛ لأن له أن يسقط حقه م: (بخلاف الحط؛ لأن فيه منفعة له) ش: أي للشفيع م: (ونظير الزيادة إذا جدد العقد بأكثر من الثمن الأول) ش: أراد أن هذه نظير ما إذا زاد في الثمن بعد تجديد العقد م: (لم يلزم الشفيع) ش: أي بالزيادة م: (حتى كان له أن يأخذها(11/327)
بالثمن الأول لما بينا. كذا هذا. قال: ومن اشترى دارا بعرض أخذها الشفيع بقيمته؛ لأنه من ذوات القيم. وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها بمثله لأنهما من ذوات الأمثال. وهذا لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالثمن الأول لما بينا) ش: إلا أن في الزيادة ضررا بالشفيع لاستحقاقه الأخذ بما دونها م: (كذا هذا) ش: أي كذا حكم ما إذا أراد المشتري بدون تجديد العقد.
وقال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي: وإن زاد البائع في الثمن زيادة بعد العقد أخذ الشفيع الدار بالثمن الأول، وكذا لو باعها المشتري من آخر بثمن أكثر من ذلك كان للشفيع أن يأخذها بالثمن الأول من المشتري الآخر على البائع الثاني بما بقي له، وتكون العهدة على المشتري الأول. ولو رهنها المشتري وسلمها، أو رهنا وتزوج عليها امرأة كان للشفيع أن يبطل ذلك كله وأخذها بالشفعة الأولى، وليس لأحد من هؤلاء على الشفيع شيء من الثمن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[اشترى دارا بعرض كيف يأخذها الشفيع]
م: (قال: ومن اشترى دارا بعرض) ش: أي قال القدوري: والعرض بفتح العين وسكون الراء ما ليس بنقد، والمراد منه المتاع القيمي كالعبد مثلا م: (أخذها الشفيع بقيمته لأنه من ذوات القيم) ش: أي بقيمة العرض؛ لأن العرض من القيمات، وذكر في " المبسوط " العبد مكان العرض، وبه قال عامة أهل العلم. وحكي عن الحسن البصري وسؤال القاضي أنهما قالا لا تثبت الشفعة هاهنا؛ لأنها تجب بمثل الثمن، وهذا الأمثل له فيقدر الأخذ فلم يثبت كما لو جهل الثمن.
وفي " المبسوط " قال أهل المدينة: يأخذها بقيمة الدار لا بقيمة العرض لأن المبيع مضمون بنفسه عند تعذر إيجاب المسمى كما في البيع الفاسد كما قلنا إنه أخذ نوعي الثمن فيثبت به كالمثل، ولأن القيمة مثله في المعنى فلم يتعذر أخذه ولم يعتبر قيمته يوم الشراء وبه قال الشافعي وأحمد. وحكي عن مالك أنه يعتبر قيمته حين استقرار العقد بانقضاء الخيار إذا كان فيه خيار رؤية، قال أحمد: لأنه وقت الاستحقاق. قلنا: وقت الاستحقاق وقت الشراء.
وفي " المبسوط " لو مات العبد قبل أن يقبضه البائع ينقض الشراء بفوات القبض المستحق بالعقد، فإن العبد معقود عليه من وجه وقد هلك قبل التسليم، وللشفيع أن يأخذها بقيمة العبد، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يأخذها بالشفعة لانتقاض العقد من الأصل.
م: (وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها الشفيع بمثله؛ لأنهما من ذوات الأمثال) ش: أي لأن المكيل والموزون من ذوات الأمثال. وفي بعض النسخ لأنه، أي لأن كل واحد منهما م: (وهذا) ش: أي أخذ الشفيع بمثله م: (لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما(11/328)
تملكه فيراعى بالقدر الممكن كما في الإتلاف والعددي المتقارب من ذوات الأمثال. وإن باع عقارا بعقار أخذ الشفيع كل واحد منهما بقيمة الآخر؛ لأنه بدله وهو من ذوات القيم فيأخذه بقيمته. قال: وإذا باع بثمن مؤجل فللشفيع الخيار إن شاء أخذها بثمن حال، وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل ثم يأخذها وليس له أن يأخذها في الحال بثمن مؤجل. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له ذلك، وهو قول الشافعي في القديم؛ لأن كونه مؤجلا وصف في الثمن كالزيافة والأخذ بالشفعة به فيأخذه بأصله ووصفه كما في الزيوف. ولنا: أن الأجل إنما يثبت بالشرط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تملكه فيراعى بالقدر الممكن) ش: فإن كان له مثل صورة تملكه به وإلا فالأمثل من حيث المالية وهو القيمة. وقوله بالقدر الممكن يشير إلى الجواب عما قيل القيمة تعرف بالحرز، والظن فيها جهالة وهي تمنع من استحقاق الشفعة، ألا ترى أن الشفيع لو سلم شفعة الدار على أن يأخذ منها بيتا بعينه كان التسليم باطلا، وهو على شفعة الجميع لكون قيمة البيت، فإن أخذه بثمن معلوم ما يعرف بالحرز والظن، ووجهه أن مراعاة ذلك غير ممكن فلا يكون معتبرا، بخلاف البيت ما يعرف بالحرز، فإذا أخذه بثمن معلوم ممكن فكانت الجهالة مانعة م: (كما في الإتلاف) ش: أي كما إذا أتلف متاع آخر فإنه يجب عليه مثله إن كان من ذوات الأمثال، وإلا فقيمته م: (والعددي المتقارب من ذوات الأمثال) ش: كالجوز والبيض بخلاف البطيخ والسفرجل.
[باع عقارا بعقار كيف يأخذ الشفيع بالشفعة]
م: (وإن باع عقارا بعقار أخذ الشفيع كل واحد منهما بقيمة الآخر لأنه بدله وهو من ذوات القيم فيأخذه بقيمته) ش: هذا أيضا من مسائل القدوري والتعليل من المصنف.
م: (قال: وإذا باع بثمن مؤجل فللشفيع الخيار) ش: أي قال القدوري أراد بأجل معلوم إذ بالأجل المجهول يصير البيع فاسدا ولا شفعة في البيع الفاسد م: (إن شاء أخذها بثمن حال وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل ثم يأخذها) ش: وبه قال الشافعي في الصحيح. وقال مالك وأحمد يأخذ بالثمن المؤجل، وبه قال الشافعي في قول وزفر واختاره أبو حامد من أصحاب الشافعي م: (وليس له) ش: أي الشفيع م: (أن يأخذها في الحال بثمن مؤجل. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - له ذلك وهو قول الشافعي في القديم) ش: وقوله الصحيح كقولنا كما قد ذكرناه في " شرح الأقطع ". وقال الشافعي في القديم: يأخذها بثمن مؤجل، فإن كان الشفيع غير مليء طالبه بكفيل.
م: (لأن كونه مؤجلا وصف في الثمن كالزيافة) ش: أي لأن كون الثمن مؤجلا وصف فيه كالزيافة، يقال ثمن مؤجل كما يقال ثمن جيد وزيف م: (والأخذ بالشفعة به) ش: أي بالثمن م: (فيأخذه بأصله ووصفه) ش: أي بأصل الثمن ووصفه إذ الأجل صفة للدين يقال دين مؤجل ودين حال م: (كما في الزيوف) ش: أي كما لو اشتراها بألف زيوف فإنه يأخذها بالزيوف.
م: (ولنا: أن الأجل إنما يثبت بالشرط) ش: أي بشرط المشتري ورضاء البائع وليس هو من(11/329)
ولا شرط فيما بين الشفيع والبائع أو المبتاع وليس الرضا به في حق المشتري رضا به في حق الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة وليس الأجل وصف الثمن؛ لأنه حق المشتري، ولو كان وصفا له لتبعه فيكون حقا للبائع كالثمن، وصار كما إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره لا يثبت الأجل إلا بالذكر، كذا هذا، ثم إن أخذها بثمن حال من البائع سقط الثمن عن المشتري لما بينا من قبل، وإن أخذها من المشتري رجع البائع على المشتري بثمن مؤجل كما كان؛ لأن الشرط الذي جرى بينهما لم يبطل بأخذ الشفيع فبقي موجبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقتضى العقد م: (ولا شرط فيما بين الشفيع والبائع أو المبتاع) ش: أي المشتري فيما يثبت في حق الشفيع كالخيار م: (وليس الرضا به) ش: أي بالأجل هذا دليل آخر تقريره لا بد في الشفعة من الرضا لكونها مبادلة ولا رضا في حق الشفيع بالنسبة إلى الأجل لأنه ليس الرضا م: (في حق المشتري رضا به) ش: أي بالأجل م: (في حق الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة) ش: بفتح الميم، أي الغنى وهو مصدر من ملو الرجل.
وفي " العباب " مليء الرجل، ويقال ملوء مثال كرم، أي صار مليا، أي ثقة فهو غني. وملي أي ثقة فهو غني، وملي بين الملا والملاء ممدودين وإلا الملاءة بضم فهو الربطة. ولقائل أن يقول ما كان الرضا شرطا وجب أن لا يثبت حق الشفعة لانتفائه من البائع والمشتري جميعا، وحيث ثبت بدونه جاز أن يثبت الأجل كذلك. وجوابه أن ثبوته بدونه ضروري ولا ضرورة في ثبوت الأجل.
م: (وليس الأجل وصف الثمن) ش: جواب عن قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجهه أن وصف الشيء يتبعه لا محالة، وهذا ليس كذلك م: (لأنه حق المشتري) ش: أي لأن الأجل حق المشتري والثمن حق البائع م: (ولو كان وصفا له لتبعه) ش: أي ولو كان الأجل وصفا للثمن لتبعه ليكون حقا لمن كان الثمن حقا له م: (فيكون حقا للبائع كالثمن) ش: أي إذا كان كذلك يكون الأجل حقا للبائع كما أن الثمن حقه وليس كذلك بل الثمن حق البائع والأجل حق المشتري فعلم أن الأجل ليس بوصف للثمن.
م: (وصار كما إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره) ش: أي باعه تولية م: (لا يثبت الأجل إلا بالذكر) ش: أي لا يثبت الأجل في حق الغير إلا بالاشتراط.
م: (كذا هذا) ش: أي ما نحن فيه لا يثبت الأجل فيه م: (ثم إن أخذها بثمن حال من البائع سقط الثمن عن المشتري لما بينا من قبل، وإن أخذها من المشتري) ش: أي إن أخذ الشفيع الدار من المشتري م: (رجع البائع على المشتري بثمن مؤجل كما كان؛ لأن الشرط الذي جرى بينهما لم يبطل بأخذ الشفيع فبقي موجبه) ش: وهذا يوهم أن الشفيع تملكه ببيع جديد وهو مذهب البعض كما(11/330)
فصار كما إذا باعه بثمن حال. وقد اشتراه مؤجلا، وإن اختار الانتظار له ذلك لأن له أن لا يلتزم زيادة الضرر من حيث النقدية. وقوله في الكتاب: وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل مراده الصبر عن الأخذ، أما الطلب عليه في الحال حتى لو سكت عنه بطلت شفعته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله الآخر؛ أن حق الشفعة إنما يثبت بالبيع، والأخذ يتراخى عن الطلب وهو متمكن من الأخذ في الحال بأن يؤدي الثمن حالا فيشترط الطلب عند العلم بالبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرناه، وليس كذلك، بل هو بطريق تحول الصفقة كما هو المختار، لكن يتحول ما كان بمقتضى العقد والأجل مقتضى الشرط فيبقى مع من ثبت الشرط في حقه.
م: (فصار كما إذا باعه بثمن حال وقد اشتراه مؤجلا) ش: أي فصار حكم هذا كحكم من باع شيئا بثمن حال، والحال أنه قد اشتراه مؤجلا، فإن شرط الأجل الذي بينه وبين من نازعه لا يبطل بأحد المشترى منه حالا م: (وإن اختار الانتظار له ذلك) ش: أي وإن اختار الشفيع الانتظار إلى انقضاء الأجل له ذلك، أي الانتظار م: (لأن له أن لا يلتزم زيادة الضرر من حيث النقدية) ش: أي لأن للشفيع أن لا يلتزم زيادة الضرر من حيث وزن الثمن نقدا وفي إلزام الشفيع في النقد زيادة ضرر فلا يجوز.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول القدوري في "مختصره" م: (وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل، مراده الصبر عن الأخذ أما الطلب عليه في الحال حتى لو سكت عنه بطلت شفعته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافا لقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله الآخر) ش: واحترز بقوله في قوله الآخر عن قوله الأول.
روى ابن أبي مالك أن أبا يوسف كان يقول أولا كقولهما ثم رجع وقال له أن يأخذها عند حلول الأجل وإن لم يطلب في الحال؛ لأنه لا يتمكن من الأخذ في الحال، وفائدة الطلب التمكن منه فيؤخر الطلب إلى وقت حلول الأجل م: (لأن حق الشفعة إنما يثبت بالبيع والأخذ يتراخى عن الطلب) ش: هذا تعليل لهما وفيه إغلاق، وتقريره حق الشفعة يثبت بالبيع، أي عند العلم به والشرط الطلب عند ثبوت حق الشفعة، ويجوز أن يكون تقريره هكذا والشرط الطلب عند ثبوت حق الشفعة، وحق الشفعة إنما يثبت بالبيع فيشترط الطلب عند العلم بالبيع، وأما الأخذ فإنه يتراخى عن الطلب فيجوز أن يتأخر إلى انقضاء الأجل.
م: (وهو متمكن من الأخذ في الحال) ش: هذا جواب عن قول أبي يوسف الآخر، وتقريره لا نسلم أن المقصود به الأخذ، ولئن كان فلا نسلم أنه ليس متمكن من الأخذ في الحال بل هو متمكن منه في الحال م: (بأن يؤدي الثمن حالا فيشترط الطلب عند العلم بالبيع) ش: أي إذا كان(11/331)
قال: وإذا اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك يشترط الطلب عند العلم بالبيع، حتى لو سكت بطلت شفعته كما ذكرنا.
[اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي]
م: (قال: وإذا اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي) ش: أي القدوري، وقيد بقوله اشترى بخمر أو خنزير احترازا عما اشتراه بالميتة فإن البيع فيه باطل ولا شفعة فيه.
قوله وشفيعها ذمي احترز به عما إذا كان مرتدا فإنه لا شفعة له سواء قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب ولا يورثه؛ لأن الشفعة لا تورث عندنا وأحمد، خلافا للشافعي ومالك إذا مات بعد الطلب، وإن كان شفيعها مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير.
واعلم أن الشفعة تجب للذمي على الذمي بلا خلاف للعلماء، وهل يثبت لكافر على مسلم فيه خلاف. قال أحمد والحسن والشعبي: لا شفعة له على مسلم، لما روى الدارقطني بإسناده عن أنس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لنصراني» وعندنا والشافعي ومالك والنووي والنخعي وشريح وعمر بن عبد العزيز له الشفعة لعموم الأحاديث التي مر ذكرها في هذا الباب، وحديث أنس ليس على عمومه فإذا ثبت له إذا كان شريكه نصرانيا بالإجماع مع أنه غير مشهور.
وأما الحربي المستأمن في حق الشفعة له وعليه في دار الإسلام كالذمي؛ لأنه من المعاملات، وبه التزم حكم المعاملات، ثم إذا جرى البيع بين ذميين بخمر أو خنزير وأخذ الشفيع بذلك لم ينقض ما فعلوه، وإن كان التناقض جرى بين المتبايعين دون الشفيع وترافعوا إلينا فعندنا يحكم بالشفعة وبه قال أبو الخطاب الحنبلي، وقال الشافعي وأحمد لا يحكم به؛ لأنه يبيع عقد بخمر أو خنزير، فصار كبيعهم بالميتة واعتقادهم حل الخمر والخنزير لا يجعلهما مالا.
وفي " المغني " اشترى الذمي عن ذمي كنيسة وبيعه فللشفيع الشفعة إذا كان من ديانتهم أن الملك لا يزول بجعله بيعة أو كنيسة، الحربي المستأمن في حق الشفعة كالذمي لالتزامه أحكام المعاملات، فلو اشترى الحربي في دار الإسلام دارا ولحق بدار الحرب فالشفيع على شفعته متى لقيه؛ لأن لحاقة [ ... ] ، وموت المشتري لا يبطل الشفعة.(11/332)
أخذها بمثل الخمر وقيمة الخنزير؛ لأن هذا البيع مقضي بالصحة فيما بينهم، وحق الشفعة يعم المسلم والذمي والخمر لهم كالخل لنا، والخنزير كالشاة فيأخذ في الأول بالمثل والثاني بالقيمة.
قال: وإن كان شفيعها مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير، أما الخنزير فظاهر، وكذا الخمر لامتناع التسليم والتسلم في حق المسلم، فالتحق بغير المثلي. وإن كان شفيعها مسلما وذميا أخذ المسلم نصفها بنصف قيمة الخمر، والذمي نصفها بنصف مثل الخمر اعتبارا للبعض بالكل، فلو أسلم الذمي أخذها بنصف قيمة الخمر لعجزه عن تمليك الخمر، وبالإسلام يتأكد حقه، لا أن يبطل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو اشترى مسلم في دار الحرب وشفيعها مسلم ثم أسلم أهل الدار لا شفعة للشفيع؛ لأن حق الشفعة من أحكام الإسلام لا يجري في دار الحرب، فكل حكم يفتقر إلى القضاء يثبت ذلك في حق المسلم في دار الحرب، كما لو زنيا ثم خرجا لا يحكم بالحد، وكل حكم لا يفتقر إلى القضاء كصحة البيع والشراء والاستيلاء ونفاذ العتق ووجوب الصلاة والصوم يحكم في حق من أسلم في دار الحرب بينونة.
م: (أخذها بمثل الخمر وقيمة الخنزير لأن هذا البيع مقضي بالصحة) ش: أي محكوم بالصحة م: (فيما بينهم، وحق الشفعة يعم المسلم والذمي) ش: لعموم النصوص م: (والخمر لهم كالخل لنا، والخنزير كالشاة فيأخذ في الأول) ش: وهو الخمر م: (بالمثل) ش: لأنه يصح ضمانه له بأقل م: (والثاني بالقيمة) ش: أي يأخذ الثاني وهو الخنزير بالقيمة لأنه لا مثل له.
م: (قال: وإن كان شفيعها مسلما) ش: أي قال القدوري م: (أخذها بقيمة الخمر والخنزير أما الخنزير فظاهر) ش: لأنه من ذوات القيم، ووجوب القيمة من ذوات القيمة أمر ظاهر.
فإن قيل: يشكل بأن قيمة الخنزير لها حكم عن الخنزير، ولهذا لا يعشر العاشر من قيمته كما تقدم في باب من يمر على العاشر.
وأجيب: بأن مراعاة حق الشفيع واجبة بقدر الإمكان، ومن ضرورة ذلك دفع قيمة الخنزير، بخلاف ما إذا مر على العاشر.
م: (وكذا الخمر لامتناع التسليم والتسلم في حق المسلم فالتحق بغير المثلي) ش: لأن المسلم لا يجوز أن يضمن تسليم الخمر في ذمته، ويجوز أن يلزمه قيمتها لحق الذمي كما لو استهلكها عليه م: (وإن كان شفيعها مسلما وذميا أخذ المسلم نصفها بنصف قيمة الخمر، والذمي نصفها بنصف مثل الخمر اعتبارا للبعض بالكل) ش: يعني لو كان كل الشفعة للمسلم يأخذها كلها بقيمة الخمر، فكان إذا كان نصفها له ونصفها للذمي كذلك م: (فلو أسلم الذمي أخذها بنصف قيمة الخمر لعجزه عن تمليك الخمر، وبالإسلام يتأكد حقه) ش: لأن الإسلام سبب لتأكد حقه م: (لا أن يبطل) ش:(11/333)
فصار كما إذا اشتراها بكر من رطب فحضر الشفيع بعد انقطاعه يأخذها بقيمة الرطب، كذا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي حقه.
م: (فصار) ش: أي حكم هذه المسألة م: (كما إذا اشتراها) ش: أي الدار م: (بكر من رطب فحضر الشفيع بعد انقطاعه) ش: أي انقطاع الرطب عن أيدي الناس فإنه م: (يأخذها) ش: الدار م: (بقيمة الرطب، كذا هذا) ش: أي ما نحن فيه حيث يأخذ بنصف قيمة الخمر.
فإن قلت: كيف يعرف قيمة الخمر والخنزير؟
قلت: ذكر في " المبسوط " طريق معرفة قيمة الخمر والخنزير الرجوع إلى من أسلم من أهل الذمة أو إلى من تاب من فسقة المسلمين، فلو وقع الاختلاف في ذلك فالقول قول المشتري، كما لو اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن وفيه أيضا: ولو أسلم المتبايعين والخمر غير مقبوض والدار مقبوضة وغير مقبوضة ينقض البيع بينهما لفوات القبض المستحق، ولكن لا تبطل في حق الشفيع.
وفي " الشامل " اشترى بيعته تجب الشفعة فيها؛ لأنها لم تصر وقفا عند أبي حنيفة، وعندهما أيضا؛ لأنه ليس بمباح. وقال أيضا باع المرتد دارا ثم قيل لا شفعة فيها عند أبي حنيفة خلافا لهما. وقال أيضا اشترى المسلم دارا والمرتد شفيعها فقيل لا شفعة له ولا لورثته.(11/334)
فصل قال: وإذا بنى المشتري فيها أو غرس ثم قضى للشفيع بالشفعة فهو بالخيار إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس وإن شاء كلف المشتري قلعه. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يكلف القلع ويخير بين أن يأخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس وبين أن يترك، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل مشتمل على مسائل بغير المشفوع]
[بنى المشتري أو غرس ثم قضى للشفيع بالشفعة]
م: (فصل) ش: هذا الفصل مشتمل على مسائل بغير المشفوع، وهي فرع مسائل غير المتغير، فلذلك أجزأها.
م: (قال: وإذا بنى المشتري أو غرس) ش: أي قال القدوري: أي إذا بنى في الأرض المشفوعة أو غرس فيها شجرا م: (ثم قضى للشفيع بالشفعة فهو بالخيار) ش: أي الشفيع بالخيار م: (إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس) ش: أي مقلوعين.
م: (وإن شاء كلف المشتري قلعه) ش: أي قلع كل واحد من البناء والغرس ولا يضمن ما نقض بالقلع، وعند الشافعي ومالك وأحمد وابن أبي ليلى والشعبي والأوزاعي والبتي وسوار وإسحاق والليث يضمن له ما نقض بالقلع لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» .
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يكلف القلع ويخير بين أن يأخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس) ش: أي قائمين على الأرض غير مقلوعين م: (وبين أن يترك، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بقول أبي يوسف قال الشافعي وقال الكرخي في "مختصره" وإذا اشترى الرجل دارا وهي ساحة فبناها ثم جاء شفيعها فطلبها بالشفعة فحكم له بها فإن المشتري يقال له اقلع بناءك وسلم الساحة إلى الشفيع، وهذا قول أبي حنيفة وزفر ومحمد، وهي رواية محمد عن أبي يوسف وهي رواية ابن سماعة وبشر بن الوليد وعلي بن الجعد والحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف.
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أن المشتري لا يجبر بقلع البناء ويقال للشفيع خذ الدار بالثمن وقيمة البناء أو اترك، وهو قول الحسن بن زياد انتهى.
وقال القدوري في "شرحه" الخلاف في الغرس كالخلاف في البناء. وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح مختصر الطحاوي " ومن اشترى دارا وقبضها وهي فيها بناء وغرس في(11/335)
إلا أن عنده له أن يقلع ويعطي قيمة البناء. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه محق في البناء؛ لأنه بناه على أن الدار ملكه، والتكليف بالقلع من أحكام العدوان، وصار كالموهوب له والمشتري شراء فاسدا.
وكما إذا زرع المشتري فإنه لا يكلف القلع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض أشجارا ثم حضر شفيعها فإن القاضي يقضي له بالشفعة ويأمر المشتري بنقض البناء وقلع الأشجار التي أحدث فيها، إلا إذا كان في قلعها نقصان بالأرض وأراد الشفيع أن يأخذها مع البناء والأغراس بقيمتها قائمة على الأرض غير مقلوعة وإن شاء ترك، وبه أخذ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولو أن المشتري زرع في الأرض ثم حضر الشفيع فإن المشتري لا يجبر على قلعه بالإجماع، ولكنه ينظر إلى وقت الإدراك ثم يقضى للشفيع، ولو جعلها المشتري مسجدا أو مقبرة يدفن فيها الموتى، أو رباطا ثم جاء الشفيع كان له أخذها وإبطال كل ما صنع المشتري فيها.
م: (إلا أن عنده) ش: أي عند الشافعي م: (له أن يقلع ويعطي قيمة البناء) ش: والحاصل أن عند أبي يوسف إن شاء أخذ بقيمة البناء والغرس، وإن شاء ترك. وعند الشافعي له خيارات ثلاثة، اثنان ما قال أبو يوسف، والآخر يؤمر بقلع البناء ويضمن أرش النقصان، والتفاوت بين قول الشافعي وقولهما في الأمر بالقلع أن عنده يضمن نقصان القلع، وعندهما لا يضمن.
م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه محق) ش: أي أن المشتري محق م: (في البناء لأنه بناه على أن الدار ملكه) ش: كما لو بنى فيما لا شفعة فيه م: (والتكليف بالقلع من أحكام العدوان) ش: أي الظلم؛ لأنه غير متعد في الغرس والبناء؛ لأنه فعل في ملكه م: (وصار كالموهوب له) ش: أي صار المشتري هنا كالموهوب له إذا بنى في الأرض الموهوبة فإنه ليس للواهب أن يكلفه القلع، ويرجع في الأرض.
وقال تاج الشريعة: أي إذا بنى الموهوب له ما لا يعد زيادة بأن بنى دكانا صغيرا فإنه لا يمنع عن رجوع الكل ولا يؤمر بقلع ما بني وغرس لأنه محق فيه، فكذا المشتري م: (والمشتري شراء فاسدا) ش: أي وصار كالمشتري شراء فاسدا إذا بنى أو غرس فيه انقطع حق البائع ويأخذ من المشتري قيمة الأرض وقت القبض، وليس له أن يقلع الأشجار والبناء، وعلى قولهما يسترد المبيع ويقلع البناء والأشجار، فكذا المشتري إذا بنى في المشفوع ليس للشفيع أن يقلع ذلك قياسا على قول أبي حنيفة لأنه محق في البناء.
[الشفيع لا يكلف قلع الزراعة]
م: (وكما إذا زرع المشتري فإنه لا يكلف القلع) ش: يعني الشفيع لا يكلف قلع الزراعة(11/336)
وهذا لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة دفع أعلى الضررين بتحمل الأدنى، فيصار إليه. ووجه ظاهر الرواية أنه بنى في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير تسليط من جهة من له الحق فينقض كالراهن إذا بنى في المرهون، وهذا لأن حقه أقوى من حق المشتري لأنه يتقدم عليه، ولهذا ينقض بيعه وهبته وغيره من تصرفاته. بخلاف الهبة والشراء الفاسد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاتفاق م: (وهذا) ش: أي ما قلنا من عند إيجاب القلع ووجوب قيمة البناء والغرس م: (لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة دفع أعلى الضررين بتحمل الأدنى، فيصار إليه) ش: يعني اجتمع بينهما ضرران أحدهما على الشفيع وهو ضرر زيادة الثمن عليه في الأخذ مع قيمة البناء. والثاني ضرر على المشتري وهو ضرر قلع بنائه من غير شيء كما قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ثم الضرر الذي يلزم الشفيع أهون من الضرر الذي يلزم المشتري؛ لأنه يدخل في ملكه بمقابلة الزيادة عوض، وهو البناء والغرس وهو القول بالقلع من غير شيء فبطل ملك المشتري بلا عوض فكان ضرر الشفيع أهون، فكان القول به أولى وهو معنى قوله فيصار إليه.
م: (ووجه ظاهر الرواية أنه بنى) ش: أي أن المشتري بنى م: (في محل تعلق به) ش: أي بالمحل م: (حق متأكد للغير) ش: أي حق لا يتمكن أحد من إبطاله بدون رضاه م: (من غير تسليط من جهة من له الحق) ش: احترز به عن بناء الموهوب له وعن بناء المشتري شراء فاسدا حيث لم ينقض؛ لأن بناءهما بتسليط من جهة من له الحق، وهاهنا الشفيع من سلطه على البناء م: (فينقض كالراهن إذا بنى في المرهون) ش: حيث بنى في محل تعلق به حق المرتهن من غير تسليط من جهة، أي إذا كان كذلك فينقض.
م: (وهذا) ش: أي نقض البناء بحق الشفيع م: (لأن حقه) ش: أي حق الشفيع م: (أقوى من حق المشتري؛ لأنه يتقدم عليه) ش: أي لأن الشفيع يتقدم على المشتري م: (ولهذا) ش: أي ولتقدمه عليه وكون حقه أقوى منه م: (ينقض بيعه) ش: أي بيع المشتري م: (وهبته وغيره من تصرفاته) ش: أي ما ذكر من تصرفاته كإجارته وجعله مسجدا أو مقبرة أو نحوها، فكذا تنتقض تصرفاته بناء وغرسا.
م: (بخلاف الهبة) ش: جواب عن قياس قول أبي يوسف على الموهوب له إذا بنى في الموهوب حيث لا يكون للواهب حق قلع البناء، وهو متصل بقوله من غير تسليط من جهة من له الحق، يعني أن الواهب إنما لا ينقض بناء الموهوب له؛ لأنه حصل بتسليط فينقطع حق الرجوع بالبناء والشفيع لم يسلط المشتري على البناء فينقضه فظهر الفرق.
م: (والشراء الفاسد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: عطف على قوله بخلاف الهبة، يعني(11/337)
لأنه حصل بتسليط من جهة من له الحق، ولأن حق الاسترداد فيهما ضعيف، ولهذا لا يبقى بعد البناء، وهذا الحق يبقى فلا معنى لإيجاب القيمة كما في الاستحقاق والزرع يقلع قياسا، وإنما لا يقلع استحسانا لأن له نهاية معلومة ويبقى بالأجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن المشتري شراء فاسدا إنما لا ينقض البائع بناءه لوجود التسليط فيه. وإنما قيد بقوله عند أبي حنيفة لأن عدم استرداد البائع في الشراء الفاسد إذا بنى المشتري في المشتري إنما هو قوله وأما عندهما فله الاسترداد بعد البناء كالشفيع في ظاهر الرواية م: (لأنه) ش: أي لأن البناء في الموهوب والمشتري شراء فاسدا م: (حصل بتسليط من جهة من له الحق) ش: وهو البائع في الشراء، والواهب في الموهوب م: (ولأن حق الاسترداد فيهما ضعيف) ش: عطف على قوله لأنه حصل، أي في الهبة والبيع الفاسد.
م: (ولهذا) ش: ولكون حق الاسترداد ضعيفا فيهما م: (لا يبقى بعد البناء، وهذا الحق) ش: أي في حق الشفيع م: (يبقى فلا معنى لإيجاب القيمة كما في الاستحقاق) ش: يعني إذا ثبت التكليف بالقلع فلا معنى لإيجاب القيمة على الشفيع؛ لأنه بمنزلة المستحق، والمشتري إذا بنى أو غرس ثم استحق يرجع المشتري بالثمن وقيمة البناء والغرس على البائع دون المستحق، فكذلك هاهنا.
وقال الكاكي: قوله فلا معنى لإيجاب القيمة على الشفيع لتأكد حقه كما لا يجب على المستحق قيمة بناء المشتري بأن يرجع المشتري بقيمة البناء على البائع وقال الأترازي عند قوله ولهذا لا يبقى بعد البناء فيه نظر لأن الاسترداد بعد البناء في الشراء الفاسد إنما لا يبقى على مذهب أبي حنيفة لا على مذهب أبي يوسف فكيف يحتج بمذهب أبي حنيفة على صحة مذهبه، ولأبي يوسف أن يقول هذا مذهبك لا مذهبي وعندي حق الاسترداد بعد البناء باق في الشراء الفاسد. وأجيب بأنه يكون على غير ظاهر الرواية، أو لأنه لما كان ثابتا بدليل ظاهر لم يعتبر بخلافهما.
فإن قبل: لو صبغ المشتري المشفوعة بأن أجرى بها بأشياء ثم أخذها الشفيع إن شاء أعطى ما زاد فيها، وإن شاء ترك. والمسألة في العيون في الفرق بين البناء والصبغ.
قلنا: وهو أيضا على الاختلاف، ولو كان على الاتفاق ففرق محمد، فقال البناء إذا نقض لا يلحق المشتري ضرر؛ لأنه يسلم له النقض، ولا كذلك إذا نقض الصبغ، إليه أشار في " الذخيرة ". م: (والزرع يقلع قياسا) ش: جواب عن قوله وكما إذا زرع المشتري، أي القياس يقتضي أن الزرع أيضا يقلع؛ لأنه يشغل ملك الغير م: (وإنما لا يقلع استحسانا؛ لأن له نهاية معلومة ويبقى بالأجر) ش: بتشديد القاف كما في الإجارة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.(11/338)
وليس فيه كثير ضرر. وإن أخذه بالقيمة يعتبر قيمته مقلوعا كما بيناه في الغصب
ولو أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت رجع بالثمن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أبي يوسف أنه يبقى بلا أجر؛ لأن المشتري مالك الأرض، وإيجاب الأجر على المالك غير مستقيم. وبه قال أحمد وبعض الشافعية.
قلنا: في إيجاب أجر المثل رعاية للحقين كما في الإجارة م: (وليس فيه) ش: أي في تأخير الزرع م: (كثير ضرر) ش: على الشفيع، وذلك لأن في القلع إضرار بالمشتري، وفي التأخير إلى الإدراك بتأخير حق الشفيع وضرر المتأخر دون ضرر الإبطال، فكان بحمله أحق.
فإن قيل: فلم يجب عن قوله لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة وقع على الضررين.
أجيب: بأن قوله وهذا لأن حق الشفيع أقوى من حق المشتري تضمن ذلك؛ لأن الترجيح يدفع أعلى الضررين بالأهون إنما يكون بعد المساواة؛ لأن حق الشفيع مقدم.
م: (وإن أخذه بالقيمة) ش: هذا معطوف على مقدار دل عليه التخيير، وتقديره الشفيع بالخيار إن شاء كلف القلع، وإن شاء أخذه بالقيمة، فإن كلفه فذاك وإن أخذه بالقيمة م: (يعتبر قيمته مقلوعا) ش: وعند أبي يوسف يعتبر قيمته قائما على الأرض كما ذكرناه م: (كما بيناه في الغصب) ش: يعني أن الغاصب إذا بنى أو غرس في المغصوبة يؤمر بقلع البناء والغرس، فإن كانت الأرض تنقض بقلع البناء والغرس؛ للمالك أن يضمن قيمتها مقلوعين للغاصب.
[أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت]
م: (ولو أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت رجع بالثمن) ش: هذا لفظ القدوري، أي ولو أخذ الشفيع الدار المشفوعة فبنى فيها بناء أو غرس شجرا ثم ظهر لها مستحق فأخذا رجع الشفيع بالثمن لا غير.
وقال الكرخي في "مختصره" وإذا اشترى الرجل دارا فأخذها الشفيع بالشفعة فبناها ثم استحقت الدار فإن المستحق يأخذ الدار فيقال للشفيع اهدم بناءك، ولا يرجع على المشتري بقيمة البناء كأن أخذ الدار من يده ولا على البائع إن كان أخذها من يده لأنه ليس بمغرور، هو أدخل نفسه في الأخذ بالشفع وأجبر من كانت في يده على تسليم ذلك، وهذه الرواية المشهورة وهي رواية محمد في الأصل، ولم يحك عن أحد من أصحابنا خلافا.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف سئل عن رجل اشترى دارا فأخذها رجل بالشفعة فاستحقت الدار في يده وقد بنى فيها على من يرجع بقيمة البناء؟ قال: على الذي قبض الثمن.
وكذلك روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أن الشفيع يرجع على المشتري بقيمة البناء م:(11/339)
لأنه تبين أنه أخذه بغير حق ولا يرجع بقيمة البناء والغرس لا على البائع إن أخذها منه، ولا على المشتري إن أخذها منه. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع لأنه متملك عليه فنزلا منزلة البائع والمشتري، والفرق على ما هو المشهور أن المشتري مغرور من جهة البائع ومسلط عليه من جهته.
ولا غرور ولا تسليط في حق الشفيع من المشتري لأنه مجبور عليه.
قال: وإذا انهدمت الدار أو احترق بناؤها أو جف شجر البستان بغير فعل أحد فالشفيع بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لأنه تبين أنه) ش: أي الشفيع م: (أخذه بغير حق، ولا يرجع بقيمة البناء والغرس لا على البائع إن أخذها منه) ش: أي إن أخذ الدار منه م: (ولا على المشتري) ش: أي ولا يرجع على المشتري أيضا م: (إن أخذها منه) ش:
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يرجع) ش: بقيمة البناء والغرس أيضا م: (لأنه متملك عليه) ش: أي على المشتري م: (فنزلا منزلة البائع والمشتري) ش: ثم المشتري في صورة الاستحقاق يرجع على البائع بالثمن وقيمة البناء، فكذلك الشفيع م: (والفرق على ما هو المشهور) ش: من الرواية م: (أن المشتري مغرور من جهة البائع وسلط عليه) ش: أي سلط البائع على المشتري على البناء أو الغرس.
م: (ولا غرور ولا تسليط في حق الشفيع من المشتري لأنه مجبور عليه) ش: يعني التزم البائع سلامة المبيع عن الاستحقاق، فصار المشتري مغرورا من جهة ولا غرور في حق الشفيع لأنه تملك على صاحب اليد جبرا بغير اختيار منه فلا يرجع. كجارية اشتراها الكفار أجروها بدارهم ثم أخذها المسلمون فوقعت في سهم غاز فأخذها المالك القديم بالقيمة فيستولدها فجاء مستحق وأقام بينة أنها أمته دبرها قبل الأسر ردت عليه لأنها لا تملك بالإحراز، ويضمن المالك القديم ثمن العقر وقيمة الولد، ويرجع على الغازي بقيمتها التي دفع إليها ولا يرجع بقيمة الولد والعقر؛ لأن المأخوذ منه مجبور على الدفع فلا يصير غارا.
وكذا لو قسمت الدار بين اثنين فبنى أحدهما ثم استحقت حقه لا يرجع عليه بقيمة البناء؛ لأن كلا منهما مخير على القسمة. بخلاف الدارين فإنه لو اقتسمها وبين أحدهما في دار نصيبه ثم استحقت فإنه يرجع على شريكه بنصف قيمة البناء؛ لأنه بمنزلة البيع، وكذا في " الإيضاح " و " المبسوط ".
[انهدمت دار الشفعة أو جف شجر البستان من غير فعل أحد]
م: (قال: وإذا انهدمت الدار أو احترق بناؤها أو جف شجر البستان من غير فعل أحد فالشفيع بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن) ش: قال القدوري قيد بقوله من غير فعل أحد لأنه إذا هدما المشتري فإنه يقسم الثمن على قيمة البناء مبنيا، وعلى قيمة الأرض، فما أصاب الأرض يأخذها(11/340)
لأن البناء والغرس تابع حتى دخلا في البيع من غير ذكر، فلا يقابلهما شيء من الثمن ما لم يصر مقصودا، ولهذا جاز بيعها مرابحة بكل الثمن في هذه الصورة، بخلاف ما إذا غرق نصف الأرض حيث يأخذ الباقي بحصته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشفيع بذلك، وكذلك لو نزع بابا من الدار فباعه هكذا ذكر الكرخي في "مختصره". وقال القدوري في "شرحه": وأما إذا هدمه المشتري أو هدمه أجنبي أو انهدم بنفسه فلم يهلك فإن الشفيع يأخذ الأرض بحصتها، فإن احترق بغير فعل أخذها الشفيع بكل الثمن وللشافعي قولان أحدهما يأخذها بجميع الثمن بالبيع، والآخر أنه يأخذها بالحصة في الجميع م: (لأن البناء والغرس تابع حتى دخلا في البيع من غير ذكر، فلا يقابلهما شيء من الثمن ما لم يصر مقصودا) ش: أي لا يقابل البناء والغرس. وفي بعض النسخ فلا يقابله، أي كل واحد منهما وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية، وهو رواية المزني وهو الأصح.
وفي رواية البويطي والزعفراني والربيع عنه يأخذه بالحصة، وبه قال أحمد في رواية والثوري، وأصله أن الثمن بمقابلة الأصل دون الأوصاف عندنا، وعنده في قول يقابلها شيء من الثمن، وعندنا البناء وصف، ولهذا يدخل في العقد من غير ذكر، وهذا لأن قيام البناء بالأرض كقيام الوصف بالموصوف، فكانت بمنزلة العين في الجارية، وأنها وصف، وفوات الوصف لا يسقط شيئا من الثمن إذا كان بآفة سماوية، لأن الثمن بمقابلة الأصل دون الوصف. والدليل على أنه لم يسقط شيء من الثمن أنه لو أراد أن يبيعه مرابحة يبيعه على الجميع.
فإن قلت: الظرف إنما جعل وصفا من العبد ونحوه؛ لأنه لا يجوز إيراد العقد على البناء مقصودا جائز فيجب أن يعتبر أصلا كالعرصة، ويجب بمقابلة شيء من الثمن.
قلت: إنما يجوز إيراد العقد على البناء بشرط القلع، وعند ذلك يصير أصلا، أما إيراد العقد عليه وهو تبع فلا يجوز؛ لأنه بمنزلة العين من العبد.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون البناء والغرس تابعين، وعدم مقابلتهما شيء من الثمن ما لم يصيرا مقصودين م: (جاز بيعها مرابحة بكل الثمن في هذه الصورة) ش: أي يبيع الدار المنهدمة مرابحة بجميع الثمن في الصورة المذكورة؛ لأنه لم يقابل ما انهدم من الثمن فيبيعها بجميع الثمن م: (بخلاف ما إذا غرق نصف الأرض حيث يأخذ الباقي بحصته) ش: بلا خلاف، والتقييد بالنصف لا لإخراج غيره؛ لأن الحكم في الثلث وغيره كذلك، ذكره في " المبسوط "، إلا أن المصنف اتبع وضع " المبسوط ".
وقال القدوري في "شرحه": وقد ادعى الشافعي على أبي حنيفة في هذه المسألة مناقضة(11/341)
لأن الفائت بعض الأصل. قال: وإن شاء ترك لأن له أن يمتنع عن تملك الدار بماله. قال: وإن نقض المشتري البناء قيل للشفيع: إن شئت فخذ العرصة بحصتها، وإن شئت فدع؛ لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن بخلاف الأول؛ لأن الهلاك بآفة سماوية. وليس للشفيع أن يأخذ النقض؛ لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال: وقال بعض الناس إذا هدم المشتري البناء سقطت حصته، وإن احترق لم يسقط حصته ثم ناقض فقال: إذا غلب الماء بعض الأرض أخذ من المشتري الباقي بحصته، ثم قال القدوري: وهذا غلط؛ لأن الأرض ليس بعضها يتبع لبعض، فإذا لم يسلم للشفيع سقطت حصتها بكل حال، والبناء تبع للأرض. فإذا سلم المشتري حصته وإن لم يسلم له يسقط م: (لأن الفائت بعض الأصل) ش: فيقابله شيء من الثمن.
م: (قال: وإن شاء ترك) ش: أي قال القدوري: وإن شاء الشفيع يترك مال الدار م: (لأن له أن يمتنع عن تملك الدار بماله) ش: يعني بعوض، ولكن لا يقدر وإذا كان بغير عوض كالإرث م: (قال: وإن نقض المشتري البناء) ش: أي قال القدوري م: (قيل للشفيع: إن شئت فخذ العرصة بحصتها، وإن شئت فدع؛ لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن بخلاف الأول) ش: أي الفصل الأول وهو فصل الهلاك من غير فعل أحد م: (لأن الهلاك بآفة سماوية) ش: يعني غير منسوبة لأحد.
م: (وليس للشفيع أن يأخذ النقض) ش: بضم النون وكسرها بمعنى المنقوض، وقيل: بكسرها لا غير. وفي " شرح الأقطع " قال الشافعي في أحد قوليه: يأخذ الأنقاض مع العرصة وهذا لا يصح م: (لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا) ش: أي صار مما يحول وينقل، ومثل ذلك لا يتعلق به الشفعة، وإنما تتعلق الشفعة به حال الاتصال على وجه التبع، وقد زال ذلك فلا يجوز له أخذه بغير سبب.
فإن قيل: الاستحقاق يثبت له فيهما حين العقد، وكان له أخذ كل ما يتناوله عقد البيع.
قيل له: الأبنية تتعلق بها الشفعة حال اتصالها، فإذا انهدمت زال المعنى الذي أوجب استحقاقها.
وقال شيخ الإسلام في " شرح الكافي ": وإذا اشترى دارا فغرق بناؤها أو احترق وبقيت الأرض لم يكن للشفيع أن يأخذها إلا بمثل الثمن، وكذلك لو كانت قناة أو بئرا فنضب ماؤها، ولو هدمها المشتري قسم الثمن على قيمة الأرض وقيمة البناء يوم وقع الشراء وأخذ الأرض بحصتها من الثمن، وكذلك إن كان البائع قد استهلك البناء، وكذلك لو استهلكه أجنبي فأخذ(11/342)
قال: ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها، ومعناه إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر، وهذا الذي ذكره استحسان. وفي القياس لا يأخذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري منه القيمة.
ولو اختلفا في قيمة البناء فقال المشتري قيمته خمسمائة وقيمة الأرض خمسمائة فلك أن تأخذها بنصف الثمن. وقال الشفيع بل كان قيمته ألف درهم وقد سقط بهلاكه ثلثا الثمن فالقول قول المشتري؛ لأن الشفيع مدعي تملك الدار عليه بما يقول وهو ينكر فالقول قوله. ولو أقام البينة فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة على قياس نكتة أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أي بينة تلزمه.
وعلى قياس محمد يجب أن تكون البينة بينة المشتري؛ لأنه لا يمكن تصوير الأمرين جميعا، بخلاف ما إذا اختلفا في أصل الثمن، وعلى قول أبي يوسف البينة بينة المشتري؛ لأنه للزيادة.
وإن اختلفا في قيمة الأرض يوم وقع الشراء نظر إلى قيمة اليوم وقيمة الثمن عليها؛ لأنه متى كانت قيمته يوم المنازعة معلومة، ووقت الشراء قريب منه، والظاهر أنه هكذا يوم الشراء، فكان الظاهر شاهدا له فيكون القول قوله.
[اشترى أرضا وعلى نخلها ثمر أيأخذها الشفيع بثمرها]
م: (ومن ابتاع أرضا) ش: أي قال القدوري: ومن اشترى أرضا م: وعلى نخلها ثمر) ش: أي والحال أن على نخلها ثمر م: (أخذها الشفيع بثمرها، ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري أخذها الشفيع بثمرها م: (إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر) ش: جملة القول فيه على ثلاثة أوجه ذكرت في " شرح الكافي ". أما إذا كانت الثمرة موجودة عند العقد أو حدثت بعد العقد قبل القبض أو حدثت بعد القبض فإن كانت موجودة عند العقد. وقد شرط في العقد ثم أكله المشتري وذهب بآفة سماوية سقط بقسطه من الثمن؛ لأنه دخل في العقد مقصودا فأخذ قسطا من الثمن فيأخذ الأرض والنخل بما بقي من الثمن إن شاء.
وإن حدثت بعد العقد قبل القبض إما ذهبت بآفة سماوية لا يسقط بذهابها شيء من الثمن، وإن أكله هو وغيره أو وجده ولم يأكله سقط بحصته شيء من الثمن، وكذلك إن بقي إلى وقت القبض ثم ذهب أو تناوله هو أو غيره، وإن حدثت بعد القبض فأكلها أو ذهب بآفة سماوية؛ لأنه لا يسقط بإزائه شيء من الثمن وله أن يأخذ الأرض والنخيل بجميع الثمن.
م: (وهذا الذي ذكره) ش: أي القدوري م: (استحسان. وفي القياس لا يأخذه) ش: وبه قال أحمد والشافعي فهو للمشتري فيبقى في الجذاذ كالزرع وكذا الثمرة المحدثة في يد المشتري كان له(11/343)
لأنه ليس بتبع، ألا ترى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار. وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار، وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع. قال: وكذلك إن ابتاعها وليس في النخيل ثمرة فأثمر في يد المشتري، يعني يأخذه الشفيع لأنه مبيع تبعا لأن البيع سرى إليه على ما عرف في ولد المبيع. قال: فإن جذه المشتري ثم جاء الشفيع لا يأخذ الثمر في الفصلين جميعا؛ لأنه لم يبق تبعا للعقار وقت الأخذ حيث صار مفصولا عنه، فلا يأخذه. قال في الكتاب: فإن جذه المشتري سقط عن الشفيع حصته.
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا جواب الفصل الأول؛ لأنه دخل في البيع مقصودا فيقابله شيء من الثمن، أما في الفصل الثاني يأخذ ما سوى الثمر بجميع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويبقى إلى الجذاذ عندهما، وقول مالك كقولنا م: (لأنه ليس بتبع) ش: للأرض م: (ألا ترى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار) ش: أي فأشبه المتاع الموضوع في الدار المبيعة، فإنه لا يدخل في البيع من غير ذكر؛ لأنه ليس بتبع، فكذا هذا.
م: (وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار) ش: حيث تكون تبعا للدار باعتبار الاتصال م: (وما كان مركبا فيه) ش: أي في المشفوع كالأبواب والسوار المزكية م: (فيأخذه الشفيع) ش: أي إذا كان كذلك فيأخذه الشفيع.
م: (قال: وكذلك إن ابتاعها وليس في النخيل ثمرة) ش: أي قال المصنف: وكذلك الحكم إن اشترى الأرض والحال أنه ليس في النخيل ثمر م: (فأثمر في يد المشتري، يعني يأخذه الشفيع لأنه مبيع تبعا لأن البيع سرى إليه) ش: أي إلى الثمر م: (على ما عرف في ولد المبيع) ش: يعني إذا قدرت ولدت قبل قبض المبيعة المشتري يسري حكم البيع إليه فيكون المشتري كأنه، فكذلك هنا الثمر الحادث في يد المشتري قبل قبض الشفيع يكون للشفيع؛ لأن المشتري كالبائع منه.
م: (قال: فإن جذه المشتري) ش: أي قال المصنف فإن قطعه المشتري، وفي بعض النسخ فإن أخذه المشتري م: (ثم جاء الشفيع لا يأخذ الثمر في الفصلين جميعا) ش: أي فصل ما إذا ابتاع أرضا وفي نخلها ثمر. وفي فصل ما إذا ابتاعها وليس في النخيل ثمر فأثمر في يد المشتري م: (لأنه لم يبق تبعا للعقار وقت الأخذ حيث صار مفصولا عنه فلا يأخذه) ش: لأن التبعية كانت فيه وقد زال.
م: (قال في الكتاب: فإن جذه المشتري سقط) ش: أي قال القدوري فإن جذه المشتري سقط م: (عن الشفيع حصته، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا جواب الفصل الأول) ش: أي قال المصنف: هذا الذي ذكره القدوري جواب الفصل الأول، وهو ما إذا ابتاع أرضا على نخلها ثمر م: (لأنه دخل في البيع مقصودا فيقابله شيء من الثمن، أما في الفصل الثاني) ش: وهو ما إذا ابتاعها وليس في النخل ثمر ثم أثمر في يد المشتري فأخذه م: (يأخذ) ش: أي الشفيع م: (ما سوى الثمر بجميع(11/344)
الثمن لأن الثمر لم يكن موجودًا عند العقد، فلا يكون مبيعًا إلا تبعًا، فلا يقابله شيء من الثمن، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثمن؛ لأن الثمر لم يكن موجودا عند العقد، فلا يكون مبيعا إلا تبعا، فلا يقابله شيء من الثمن) ش: وهذا جواب ظاهر الرواية وعن أبي يوسف في قوله الأول يأخذها بحصتها من الثمن في الفصل الثاني.
وفي " الإيضاح " ولو أثمرت في يد البائع بعد البيع قبل القبض فأتلفه البائع يرفع حصته؛ لأن ما حدث قبل القبض له حصة من الثمر على اعتبار صيرورتها مقصودة بالقبض أو بالإتلاف. وعند الشافعي وأحمد يرفع حصته من الثمن في جميع الصور م: (والله أعلم) .(11/345)
باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب قال: الشفعة واجبة في العقار، وإن كان مما لا يقسم. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شفعة فيما لا يقسم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب]
[الشفعة في جميع ما بيع من العقار]
م: (باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب)
ش: أي هذا باب في بيان ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب. ولما ذكر تعقب الشفعة مجملا شرع في بيانه مفصلا، والتفصيل يكون بعد الإجمال.
م: (قال: الشفعة واجبة) ش: أي قال القدوري، وأراد بالوجوب الثبوت لا الوجوب الذي يكون تاركه آثما م: (في العقار) ش: وهو كل ما له أصل من دار أو ضيعة.
وقال الكرخي في "مختصره": الشفعة واجبة في جميع ما بيع من العقار دون غيره بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدور والمنازل والحوانيت والحانات والفنادق والمزارع والبساتين والأقرحة والأرجاء والحمامات وسائر العقار إذا وقع البيع على عرصته إن كانت في مصر أو نحوه أو سواء أو غير ذلك من أرض الإسلام إذا كان ذلك مملوكا لا يجوز بيع مالكه فيه، فكان البيع بيعا قاطعا ليس فيه خيار شرط، وإن كان فيه خيار شرط وكان الشرط لمشتريه لا لبائعه ففيه الشفعة، وإن كان لبائعه أو لهما فلا شفعة فيه. انتهى.
م: (وإن كان) ش: أي العقار م: مما لا يقسم) ش: كالحمام والرحى والنهر والبئر والطريق.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا شفعة فيما لا يقسم) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية وإسحاق وأبو ثور، وبقولنا قال مالك في رواية وأحمد في أخرى وابن شريح من الشافعية، وهو قول الثوري أيضا.
ولو كانت البئر واسعة يمكن أن يبني فيها ويجعل بئرين والحمام كثير البيوت يمكن جعله حمامين أو يمكن أن يجعل كل بينت بيتين، أو الطاحونة كبيرة تجعل طاحونتين لكل واحدة حجران يثبت فيها الشفعة عند الشافعي على الأصح، وبه قال أحمد وإن لم يكن كذلك وهو الغالب في هذه العقارات فلا شفعة فيها على الأصح، كذا في " شرح الوجيز ".
لهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شفعة في بناء ولا طريق ولا منقبة» والمنقبة الطريق الضيق، رواه ابن الخطاب. وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: "لا شفعة في بئر ولا نخل".(11/346)
لأن الشفعة إنما وجبت دفعا لمؤنة القسمة، وهذا لا يتحقق فيما لا يقسم. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة في كل شيء، عقار أو ربع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولنا حديث جابر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل شيء» على ما يأتي الآن. وحديث أبي الخطاب غير معروف، وحديث عثمان يمكن أن يكون مذهبه إن ثبت، والشفعة شرعت لدفع سوء الجوار، وهذا يشمل الكل.
م: (لأن الشفعة إنما وجبت دفعا لمؤنة القسمة) ش: وهو الضرر الذي يلحق الشريك بأجرة القسام م: (وهذا) ش: أي دفع مؤنة القسمة م: (لا يتحقق فيما لا يقسم) ش: فلا تجب الشفعة فيه.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشفعة في كل شيء، عقار أو ربع» ش: هذا الحديث رواه إسحاق بن راهوية في "مسنده" أخبرنا الفضل بن موسى ثنا أبو حمزة السكري عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء» .
وروى الطحاوي في " شرح الآثار " حدثنا محمد بن خزيمة بن راشد حدثنا يوسف بن عدي حدثنا ابن إدريس وهو عبد الله الأودي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل شيء» .
ومن جهة الطحاوي ذكره عبد الحق في "أحكامه" وزاد في إسناده هو القراطيسي، يعني يزيد بن عدي. وقال ابن القطان: وهو وهم فيه، ليس في كتاب الطحاوي ولكنه قلد فيه ابن حزم وقد وجدنا لابن حزم في كتابه كثيرا من ذلك، مثل تفسيره حماد بأنه ابن زيد ويكون ابن سلمة.
والراوي عنه موسى بن إسماعيل، وتفسيره شيبان بأنه فروخ وإنما هو النحوي وهو قبيح. فإن صفتهما ليست واحدة، وتفسيره داود عن الشعبي بأنه الطائي وإنما هو ابن أبي هند، ومثل هذا كثير قد بيناه وضمناه بابا مفردا فيما نظرنا في كتابه " المحلى ".(11/347)
إلى غير ذلك من العمومات، ولأن الشفعة سببها الاتصال في الملك، والحكمة دفع ضرر سوء الجوار على ما مر، وأنه ينتظم القسمين ما يقسم وما لا يقسم وهو الحمام والرحى والبئر والطريق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والقراطيسي إنما هو يوسف يروي عن مالك بن أنس وغيره. وروى عنه الرازيان قاله أبو حاتم ووثقه هو وأبو زرعة، وأما يوسف بن يزيد القراطيسي فهو أيضا ثقة جليل مصري ذكره ابن يونس في "تاريخه"، توفي سنة سبع وثمانين ومائتين، وقد رأى الشافعي، ومولده سنة سبع وثمانين ومائة.
قوله عقار بدل مولد له شيء وقد فسرنا العقار. والربع المنزل الشتاء والصيف في الربيع. وقيل الدار. ويجمع على ربوع وأرباع وأربع ورباع. وأصله من أربع بالمكان إذا أقام به. وفي " الجمهرة " الربع المنزل في الشتاء والصيف، والربع المنزل في الربيع، ويقال الربع الدار حيث كانت م: (إلى غير ذلك من العمومات) ش: هذا حال من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتقدير ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا منتهيا إلى غيره من النصوص العامة المتناولة لما يقسم ولما لا يقسم، والعمومات جمع عموم جمع عام وهي الأحاديث التي مرت فيما مضى.
م: (ولأن الشفعة سببها الاتصال في الملك) ش: أي الاتصال بين الملكين م: (والحكمة دفع ضرر سوء الجوار) ش: أي الحكمة في مشروعيتها دفع ضرر السوء الحاصل بسبب الجوار؛ لأن الاتصال على وجه التأبيد والقرار لا يقرر عن ضرر الدخيل بسبب سوء الصحبة وأذى المجاورة م: (على ما مر) ش: في أوائل كتاب الشفعة م: (وأنه) ش: أي دفع ضرر سوء الجوار م: (ينتظم القسمين ما يقسم وما لا يقسم) ش: قوله ما يقسم وما لا يقسم تفسير للقسمين، ويجوز أن يكون حظهما من الإعراب النصب على البدلية، ويجوز أن يكون الرفع على تقدير أحدهما ما يقسم والآخر ما لا يقسم م: (وهو) ش: أي ما لا يقسم م: (الحمام) ش: بتشديد الميم واحد الحمامات المبنية، وأصله من الحميم وهو الماء الجاري.
م: (والرحى) ش: والمراد به بيت الرحى؛ لأن الرحى اسم للحجر، ومنه يقال رحوت الرحى ورحيتها أنا إذا أدرتها. قال الجوهري: الرحى معروفة مؤنثة، والألف منقلبة من الياء بقولهما رحيان، وكل من قال: رحاء ورحا وأرحية مثل عطاء وعطا وأعطية جعلها منقلبة من الواو، ولا أدري ما حجته وما صحته وثلاث أرح، والكثير أرحاء. وقال الصنعاني في " مجمع البحرين ": يقال في تثنية الرحى رحوان كما يقال رحيان، وتكتب بالياء والألف.
م: (والبئر والطريق) ش: وكذا النهر والدور والصغار، والحاصل أن المراد بما لا يقسم أي لا ينتفع به بعد القسمة الحسبية مثل انتفاعه قبل القسمة ويفوت جنس الانتفاع كما في الحمام؛ لأنه لا يحتمل التجزئ والقسمة في ذاته؛ لأنه ما من شيء في الدنيا إلا ويحتمل التجزئ في نفسه.(11/348)
قال: ولا شفعة في العروض والسفن لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شفعة إلا في ربع أو حائط» وهو حجة على مالك في إيجابها في السفن، ولأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم حسب دوامه في العقار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[لا شفعة في العروض]
م: (قال: ولا شفعة في العروض والسفن) ش: أي قال القدوري "مختصره" والعروض بضم العين جمع عرض، وهو ما ليس بنقد وقد مر تفسيره من قريب، والسفن بضمتين جمع سفينة م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شفعة إلا في ربع أو حائط» ش: هذا الحديث رواه البزار في "مسنده" ثنا عمرو بن علي ثنا أبو عاصم ثنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شفعة إلا في ربع أو حائط، ولا ينبغي له أن يبيع حتى يستأمر صاحبه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك» .
وقال: لا نعلم أحدا يرويه بهذا اللفظ إلا جابر. والعجب من الأترازي مع ادعائه التعمق في الحديث كيف له أن ينسب هذا الحديث إلى مخرجه؟ بل قال: ولنا في صحة هذا الحديث نظر وسكت ومضى، على أن أبا حنيفة أيضا رواه عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شفعة إلا في دار أو عقار» أخرجه البيهقي في "سننه الكبرى". والربع قد مر في تفسيره، والمراد بالحائط البستان ويجمع على حيطان.
م: (وهو حجة على مالك في إيجابها في السفن) ش: أي الحديث المذكور حجة على مالك في إيجابه الشفعة في السفن فإنه قال في رواية: إن الشفعة تثبت في جميع المنقولات كالحيوان والثياب والسفن ونحوها.
وعن أحمد في رواية وتثبت الشفعة فيما لا يقسم كالحجر والسيف والحيوان وما في معنى وعنه في رواية أخرى أنها تثبت في البناء والغرس أن يبيع منفردا، وهو قول مالك. وقال الأسبيجابي في "شرح الكافي": ولا شفعة إلا في الأرضين والدور حيث لا يثبت إلا في المنقول. وقال ابن أبي ليلى: يثبت في المنقول. وقال القدوري في "شرحه": وقال مالك: يثبت في السفن أيضا.
م: (ولأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم حسب دوامه في العقار) ش: أي قدر دوامه وهو بفتح الحاء وسكون السين، وقيل: يجوز بفتح السين أيضا واختاره الجوهري حتى قال: إنما يسكن للضرورة.
في " العباب " وحسب بالتحريك وهو فعل بمعنى مفعول مثل نقص بمعنى منقوص.(11/349)
فلا يتحقق به. وفي بعض نسخ المختصر: ولا شفعة في البناء والنخل إذا بيعت دون العرصة، وهو صحيح مذكور في الأصل؛ لأنه لا قرار له فكان نقليا وهذا بخلاف العلو حيث يستحق بالشفعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنه قولهم ليكن عملك بحسب ذلك، أي على قدر عدده، قال الكسائي: يقال ما أدري ما حسب حديثك ما قدر، وربما سكن في ضرورة الشعر م: (فلا يتحقق به) ش: أي إذا كان كذلك فلا يلحق المنقول بغير المنقول.
م: (وفي بعض نسخ المختصر) ش: أي مختصر القدوري م: (ولا شفعة في البناء والنخل إذا بيعت دون العرصة) ش: بفتح العين وسكون الراء وهو كل بقعة من الدار واسعة ليس فيها بناء، والجمع العراص والعرصات والأعراص، كذا في " العباب " م: (وهو صحيح) ش: أي المذكور في بعض نسخ " المختصر " وهو الصحيح م (مذكور في الأصل) ش: أي " المسبوط " م: (لأنه لا قرار له فكان نقليا) ش: أي البناء أو النخل. والشفعة إنما تجب في الأراضي التي يملك رقابها، حتى إن الأراضي التي جازها الإمام لبيت المال، ويدفع إلى الناس مزارعة، فصار أيهم فيها بناء وأشجار، فلو بيعت هذه الأراضي فبيعها باطل. وبيع البناء والشجر يجوز، ولكن لا شفعة فيها. وكذا لو بيعت دار بجنب دار الوقف فلا شفعة للوقف ولا يأخذها المتولي.
وكذا إذا كانت الدار وقفا على رجل فلا يكون للموقوف عليه الشفعة بسبب هذه الدار، كذا في " الذخيرة " و" المغني "، ولا يلزم على هذا استحقاق العبد المأذون والمكاتب الشفعة ولا ملك لهما في رقبة الأرض؛ لأن استحقاقها فيهما التصرف بالبيع، والشراء قام مقام الشفعة ملك الرقبة كما قال أبو حنيفة: فالشفعة للمشتري الذي له الخيار إذا بيعت دار بجنب تلك الدار المشتراة، مع أنه لا يقول أما لملك. وعند الثلاثة لا شفعة لشركة الوقف وإن كان الموقوف عليه معينا. وفي المشتري الذي له الخيار يثبت له الشفعة كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
م: (وهذا بخلاف العلو) ش: أي عدم وجوب الشفعة في البناء، بخلاف العلو م: (حيث يستحق بالشفعة) ش: أي صاحب السفل يأخذه بالشفعة. وقال الكرخي في "مختصره": وإن بيع سفل عقار دون علوه أو علوه دون سفله أو هما وجبت فيها الشفعة بيعا جميعا، أو كل واحد منهما على انفراده.
وقال أبو يوسف: إن وجوب الشفعة في السفل والعلو استحسان، روى ذلك عنه ابن سماعة وبشر بن الوليد وعلي بن الجعد. وقال القدوري في "شرحه" أما إذا بيعا جميعا فلا شبهة فيه؛ لأنه باع العرصة بحقوقها لتعلق الشفعة بجميع ذلك، وأما إذا باع السفل دون العلو لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شفعة إلا في ربع» ولأن المساوي يخاف فيها على وجه الدوام. وأما العلو فلأنه(11/350)
ويستحق به الشفعة في السفل إذا لم يكن عن طريق العلو فيه؛ لأنه بما له من حق القرار التحق بالعقار.
قال: والمسلم والذمي في الشفعة سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق متعلق بالمنفعة على التأبيد وهو كنفس البقعة، والذي قاله أبو يوسف من الاستحسان إنما هو في العلو.
وكان القياس أن يجب فيه الشفعة؛ لأنه لا يبقى على وجه الدوام، وإنما استحسنوا؛ لأن حق الوضع [ ... ] فهو كالعرصة، وقد قال محمد في " الزيادات ": إن العلو إذا انهدم ثم بيع السفل فالشفعة واجبة لصاحب العلو عند أبي يوسف، ولا شفعة عند محمد، فأجرى أبو يوسف حق الوضع وإن لم يكن هناك بناء مجرى الملك؛ لأنه حق ثابت على التأبيد كنفس الملك.
وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الزيادات " أن من باع علوا فاحترق قبل التسليم بطل البيع، ولم يحك خلافا. قال ابن شاهين: هذا ينبغي أن يكون قوله خاصة، وأما على قول أبي يوسف فيجب أن لا يبطل البيع لبقاء حق الوضع، ألا ترى أنه أجراه مجرى العرصة في إيجاب الشفعة، الكل من " شرح القدوري ".
م: (ويستحق به الشفعة في السفل) ش: أي بالعلو الشفعة في السفل بالجوار، وليس بشريك إذا لم يكن بطريق العلو في السفل، كذا في " الإيضاح " م: (إذا لم يكن طريق العلو فيه) ش: أي في السفل، وهذا لبيان أن استحقاق الشفعة فيه بسبب الجوار لا بسبب الشركة، وليس لبيان أن الشفعة لا تجب إذا كان طريق العلو فيه، بل تجب الشفعة ثمة أيضا لكن بسبب الشركة لا بالجوار، حتى يكون مقدما على إيجار الملاصق.
ألا ترى إلى ما نص الكرخي في "مختصره" وقال: لو أن رجلا له علو في دار وطريقه في دار أخرى إلى جنبها فباع صاحب العلو علوه فأصحاب الدار التي فيها الطريق أولى بالشفعة. انتهى.
وذلك لأنهم شركاء في الطريق وصاحب الدار التي فيها العلو جاز، والشريك في الطريق أولى من الجار. ولو ترك صاحب الطريق الشفعة وللعلو الجار ملاصق أخذه بالشفعة مع صاحب السفل؛ لأن كل واحد مهما جار للعلو والتساوي في الجوار، فوجب التساوي في الشفعة، كذا ذكره القدوري م: (لأنه بما له من حق القرار التحق بالعقار) ش: أي لأن العلو الذي له حق التعلي التحق بالعقار فتجب فيه الشفعة.
[المسلم والذمي في الشفعة سواء]
م: (قال: والمسلم والذمي في الشفعة سواء) ش: وبه قال مالك والشافعي، وأكثر أهل العلم.(11/351)
للعمومات، ولأنهما يستويان في السبب والحكمة فيستويان في الاستحقاق، ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى، والصغير والكبير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد وابن أبي ليلى والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز لا شفعة للكافر على مسلم.
ولنا ما أشار إليه بقوله واحتجوا بما رواه الدارقطني عن أنس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لكافر على مسلم» أشار إليه بقوله م: (للعمومات) ش: أي بعمومات الأحاديث التي مر ذكرها.
وحديث الدارقطني غريب لم يثبت، ولا يعارض بعموم قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] ؛ لأن المراد نفي السبيل حكما لا حقيقة، ونفي السبيل بالاسترقاق يراد بالإجماع فلا يراد غيره؛ لأن المقتضى لا عموم له.
م: (ولأنهما) ش: أي المسلم والذمي م: (يستويان في السبب) ش: وهذا اتصال الملك م: (والحكمة) ش: وهي دفع الضرر م: (فيستويان في الاستحقاق) ش: أي في استحقاق الشفعة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ما ذكرنا من الاستواء في السبب والحكمة والاستحقاق م: (يستوي فيه) ش: أي في الاستحقاق م: (الذكر والأنثى، والصغير والكبير) ش: وفي " المبسوط " قال ابن أبي ليلى: لا شفعة في الصغير، يروى هذا عن النخعي والحارث العكلي؛ لأن الصبي لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الإضرار بالمشتري.
وليس للمولى الأخذ؛ لأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ لعامة العمومات؛ ولأن سبب الاستحقاق والشركة والجوار فيستوي فيه الصغير والكبير، والصبي محتاج إلى الأخذ لدفع الضرر في الثاني الحال، وإن لم يكن في الحال والولي يملك الأخذ كالرد بالعيب نظرا له، وإنما لم يملك العفو؛ لأن فيه إسقاط حقه وفيه ضرر.
وفي " المبسوط ": يثبت حق الشفعة للحمل الذي لم يولد؛ لأنه من أهل الملك بالإرث، حتى لو وضعت الحبلى حملها وقد ثبت نسبة شرك الورثة في الشفعة، وإن كان الوضع بعد البيع لأكثر من ستة أشهر. وكذا لو كان من أهل البدع له الشفعة عند العامة كالفاسق بالأعمال. وعن أحمد لا شفعة لغلاة الروافض الذي يحكم بكفرهم؛ لأنه لا شفعة لكافر على مسلم.
وقال الكرخي في "مختصره": فأهل الإسلام في استحقاق الشفعة وأهل الذمة والمستأمنون من أهل الحرب والعبيد المأذون لهم في التجارة والأحرار والمكاتبون والمعتق بعضه في وجوب الشفعة لهم وعليهم سواء.
وكذلك النساء والصبيان فيما وجب لهم أو وجب عليهم من ذلك سواء، والخصماء فيما(11/352)
والباغي والعادل، والحر والعبد إذا كان مأذونا أو مكاتبا.
قال: وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة؛ لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه، وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمته على ما مر.
قال: ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها، أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا؛ لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجب على الصبيان آباؤهم فإن لم يكونوا فأوصياء الآباء، فإن لم يكونوا فالأجداد من قبل الأب، فإن لم يكونوا فأوصياء الأجداد، فإن لم يكونوا فالإمام والحاكم يقيم لهم من ينوب عنهم، وأهل العدل وأهل البغي في الشفعة أيضا سواء.
م: (والباغي والعادل، والحر والعبد إذا كان مأذونا أو مكاتبا) ش: قيد بقوله إذا كان مأذونا؛ لأنه إذا لم يكن مأذونا فلا شفعة له، وإذا كان بائع الدار غير المولى يستحق المأذون الشفعة بلا خلاف. وإذا كان البائع مولاه يأخذ بالشفعة أيضا إذا كان عليه دين، كذا في " المبسوط "، وقياس قول الثلاثة أن يأخذ كما لو لم يكن عليه دين.
[ملك العقار بعوض هو مال هل تجب فيه الشفعة]
م: (قال: وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة) ش: أي قال القدوري، قيد بقوله بعوض؛ لأنه إذا ملكه بالهبة والصدقة والوصية والإرث لا شفعة له عند عامة أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة. وحكي عن مالك رواية في المنتقل بصدقة أو هبة فيه الشفعة، وبه قال ابن أبي ليلى ويأخذه الشفيع بقيمته. وقيد بقوله هو مال احترازا عما إذا لم يكن مالا كالبينة، فإن البيع باطل فلا شفعة فيه م: (لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة) ش: فيما لا مثل له كالمكيل والموزون والمقدور المتفاوت م: (أو قيمته) ش: أي فيما لا مثل له وهو الذي يتفاوت آحاده م: (على ما مر) ش: في فصل ما يؤخذ به المشفوع بقوله ومن اشترى دارا بعرض أخذها الشفيع بقيمته، وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها بمثله.
[الشفعة في الدار التي جعلت صداقا]
م: (قال: ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها) ش: أي قال القدوري، وذلك بأن جعل الدار صداقها فلا شفعة فيها؛ لأن سببها غير السبب المسبب ويملك به التملك م: (أو يخالع المرأة بها) ش: بأن تعطي المرأة الدار لزوجها لتخالع عليها م: (أو يستأجر بها دارا) ش: بأن يجعل الدار أجرة للدار المستأجرة.
م: (أو غيرها) ش: أي أو يستأجر بها غير الدار بأن جعلها أجرة عبد أو حانوت أو رحى م: (أو يصالح بها عن دم عمد) ش: بأن يجعل الدار بدل الصلح عن دم العمد م: (أو يعتق عليها عبدا) ش: بأن قال لعبده أعتقتك على هذه الدار م: (لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا) ش: أراد به قوله؛ لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع ... إلى آخره.(11/353)
وهذه الأعواض ليست بأموال فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع، وعند الشافعي تجب فيها الشفعة؛ لأن هذه الأعواض متقومة عنده، فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها كما في البيع بالعرض، بخلاف الهبة؛ لأنه لا عوض فيها رأسا، وقوله يتأتى فيما إذا جعل شقصا من دار مهرا أو ما يضاهيه؛ لأنه لا شفعة عنده إلا فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: أليست الغنيمة حصلت بذلك حتى ذكر قوله؛ لأن الشفعة ... إلى آخره، وهذا تكرار. قلت: لأن هذا دليل مستقل ذكره استظهارا وإن كان الأول كافيا.
م: (وهذه الأعواض) ش: في تزوج الرجل على الدار وخلع المرأة عليها وجعلها أخذه في الإجارة وعوض الصلح عن دم العمد والعتق عليها م: (ليست بأموال، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع) ش: وبه قال أحمد في الظاهر والحسن والشعبي وأبو ثور وابن المنذر.
م: (وعند الشافعي تجب فيها الشفعة) ش: أي في هذه الأشياء، به قال مالك وأحمد في راوية ابن حامد عنه وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحارث العكلي، ثم اختلفوا بكم يأخذه، فقال مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى يأخذه بقيمة النقص؛ لأنا لو أوجبنا عليه مهر المثل لقومنا البضع على الأجانب.
وقال الشافعي وأبو حامد والعكلي: أخذه بالمهر في التزويج والخلع والمتعة، بأن صالح على متعتها؛ لأن البدل فيها الأمثل له، فيأخذ بقيمة البدل وهي المهر: (لأن هذه الأعراض متقومة عنده) ش: أي عند الشافعي، إذ التقويم حكم شرعي شرع لجعل هذه الأشياء مضمونة لهذه الأعواض. وضمان الشيء قيمة ذلك الشيء. وكذا المنافع عنده متقومة كالأعيان، فإذا جعل الدار عوضا عن البضع أو نحوه وقد تعذر على الشفيع الأخذ به فيأخذ بقيمته وهو مهر المثل، كما لو اشترى بعبد وهو معنى قوله: م: (فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها) ش: أي بمثل هذه الأشياء، فيأخذ بقيمتها وهو مهر المثل وأجر المثل في التزوج والخلع والإجارة وقيمة الدار والعبد في الصلح والإعتاق م: (كما في البيع بالعرض) ش: بأن باع الدار بالعرض فإن الشفيع فيه يأخذ بالقيمة لتعذر المثل.
م: (بخلاف الهبة؛ لأنه لا عوض فيها رأسا) ش: يعني بالكلية والشفعة لا يكون إلا فيما فيه عوض م: (وقوله يتأتى) ش: أي الشافعي يتحقق م: (فيما إذا جعل شقصا) ش: أي نصيبا م: (من دار مهرا) ش: إذ لا شفعة عنده في العقار إلا في الشقص.
م: (أو ما يضاهيه) ش: أي أو جعل ما يضاهي المهر، أي يشابهه بأن جعل شقصا من الدار بدل الخلع أو الأجرة أو بدل الصلح أو بدل العتق م: (لأنه لا شفعة عنده إلا فيه) ش: أي لأن الشأن لا شفعة عند الشافعي إلا في الشقص من العقار؛ لأنه لا يرى الشفعة بالجوار.(11/354)
ونحن نقول: إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها بعقد الإجارة ضروري، فلا يظهر في حق الشفعة. وكذا الدم والعتق غير متقوم؛ لأن القيمة ما يقوم مقام غيره في المعنى الخاص المطلوب ولا يتحقق فيهما. وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا؛ لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه مقابلا بالبضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ونحن نقول: إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها) ش: أي غير منافع البضع م: (بعد الإجارة ضروري) ش: إنابة لحظر المحل وصونا لهذا العقد عن السببية بالإباحة فظهر تقومه في حق هذا المعنى خاصة على خلاف القياس لمكان الضرورة م: (فلا يظهر) ش: أي التقويم م: (في حق الشفعة) ش: لأن الضروري يتعذر ولو بقدر الضرورة.
م: (وكذا الدم والعتق غير متقوم) ش: إنما أفردهما بالذكر؛ لأن تقومهما أبعد؛ لأنهما ليسا بمالين فضلا عن التقوم، واستدل على ذلك بقوله م: (لأن القيمة ما يقوم مقام غيره في المعنى الخاص المطلوب) ش: وهو المالية؛ لأن القيمة إنما سميت بها لقيامها مقام الغير، وإنما تقوم مقام الغير باعتبار المالية لا بغيرها من الأوصاف كالجوهرية والجسمية وغير ذلك، ولا مالية في الدم والعتق.
فإن قلت: تضمن بالقيمة والمعنى الخاص المطلوب منها السكنى، وكذا الثوب المعنى الخاص المطلوب منه دفع الحر والبرد ويضمنان بالقيمة.
قلت: بل المعنى الخاص منهما المالية، لكن طريق الانتفاع يختلف، فينتفع بالدار والسكنى، وفي الغلام بالخدمة واختلاف طرق الانتفاع لا ينافي كون المعنى الخاص من المشفع به هو المالية، والدليل عليه أن من أتلف ثوب إنسان أو قلع بناء دار إنسان يضمن قيمتها ولا ذلك إلا باعتبار المالية، وقد لا يكون الدار للسكنى والثوب للبس.
م: (ولا يتحقق فيهما) ش: أي لا يتحقق المعنى الخاص المطلوب في الدم والعتق؛ لأن العتق إسقاط وإزالة الدم ليس لحق الاستيفاء، وليسا من جنس ما يتمول به ويدخر م: (وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا) ش: أي لا يجب فيها الشفعة، وهذا لبيان أن الفرض عند العقد وبعده سواء في كونهما مقابلا بالبضع م: (لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه) ش: أي في كون المفروض بعد العتق م: (مقابلا بالبضع) ش: يعني أنهما جعلا هذه مهرا فيكون مقابلة البضع فيكون مبادلة مال بما ليس بمال، فلا يجري فيها الشفعة.
فإن قلت: هذا معاوضة بمهر المثل؛ لأنه لما وقع التزوج بغير مهر وجب مهر بمال فيجري فيها الشفعة.(11/355)
بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى لأنه مبادلة مال بمال.
ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: تجب في حصة الألف لأنه مبادلة مالية في حقه، وهو يقول: معنى البيع فيه تابع، ولهذا ينعقد بلفظ النكاح ولا يفسد بشرط النكاح فيه ولا شفعة في الأصل، فكذا في التبع، ولأن الشفعة شرعت في المبادلة المالية المقصودة، حتى إن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: إنهما جعلا الدار مهرا لا بدلا عن مهر المثل، ولا بد للمبادلة من جعل أحد الشيئين بدلا والآخر مبدلا منه، والعين مبدل فلا يكون بدلا.
م: (بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى) ش: يعني يجب فيه الشفعة م: (لأنه مبادلة مال بمال) ش: لا محالة.
وفي " شرح الكافي " ولو صالحها من مهرها على الدار أو صالحها عليه مما يجب لها المهر فللشفيع فيها الشفعة؛ لأنه حينئذ يكون عوضا عن المهر فيكون تبعا حقيقة. وقال في " الشامل " صالحه على دار من جراحة خطأ تجب الشفعة؛ لأن الواجب المال.
فإن قلت: كيف يأخذها والبيع فاسد لجهالة مهر المثل؟
قلت: جاز أن يكون معلوما عندهما، ولأنه جهالة في الساقط فلا يفضي إلى المنازعة فلا يفسد البيع.
م: (ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا في مسائل الأصل، ذكرها تفريعا على مسألة القدوري، قوله في جميع الدار، أي في شيء منها م: (وقالا: تجب في حصة الألف) ش: أي يقسم الدار على مهر مثلها وألف درهم فما أصاب الألف تجب فيه الشفعة، وبه قال أحمد م: (لأنه مبادلة مالية في حقه) ش: أي فيما يخص الألف م: (وهو يقول) ش: أي أبو حنيفة م: (معنى البيع فيه تابع) ش: للنكاح م: (ولهذا ينعقد بلفظ النكاح) ش: لكون المقصود وهو النكاح م: (ولا يفسد بشرط النكاح فيه) ش: أي لو كان البيع أصلا يفسد بشرط النكاح، كما لو قال بعت منك هذه الدار بألف على أن تزوجي نفسك مني م: (ولا شفعة في الأصل) ش: وهو نفس الصداق م: (فكذا في التبع) ش: وهو البيع.
م: (ولأن الشفعة) ش: دليل آخر وفيه إشارة إلى دفع ما يقال الشفعة تقتضي المبادلة المالية، وإما أن تكون هي المقصود فممنوع.
ووجهه أن الشفعة م: (شرعت في المبادلة المالية المقصودة) ش: وهنا المقصود هو النكاح دون مبادلة المال بالمال م: (حتى إن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة(11/356)
الربح لكونه تابعا فيه. قال: أو يصالح عليها بإنكار، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة. قال رضى الله عنه: هكذا ذكر في أكثر نسخ المختصر. والصحيح: أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله: أو يصالح عليها؛ لأنه إذا صالح عليها بإنكار بقي الدار في يده فهو بزعم أنها لم تزل عن ملكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الربح) ش: بأن كان رأس المال ألفا فاتجر وربح ألفا ثم اشترى بالألفين دارا في جوار رب المال ثم باعها بالألفين فإن رب المال لا يستحق الشفعة في حق المضارب من الربح. م: (لكونه تابعا فيه) ش: أي لكون الربح تابعا لرأس المال وليس في مقابلة رأس المال شفعة؛ لأن المضارب وكيل رب المال في البيع، وكل من بيع لا تجب الشفعة له، فكذا لا تجب في البيع.
وفي " الإيضاح " و " المغني ": فلو باع المضارب دارا عن المضاربة ورب المال شفيعها لا شفعة، سواء كان في الدار ربع أو ضر، وهذا بخلاف ما لو اشترى دارا ورب المال شفيعها أخذها رب المال وإن وقع الشراء له ولكن في الحكم كأنه مال ثالث. ألا ترى أنه يقدر أن ينزعه من يده.
وفي " شرح الكافي " ولو باع المضارب دارا من غير المضارب كان لرب المال أن يأخذها بالشفعة بدار له من المضاربة ويكون له خاصة؛ لأنه جار بدار المضاربة. ولو باع رب المال دارا له خاصة والمضاربة شفيعها بدار المضاربة، فإن كان فيها ربح فله أن يأخذها لنفسه؛ لأنه جار بقدر نصيبه، وإن لم يكن فيها ربح لم يأخذها؛ لأنه ليس لها بجار.
م: (قال: أو يصالح عليها بإنكار، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة) ش: أي قال القدوري، أي أو يصالح على الدار. والقدوري عطف هذا على قوله أو يعتق عليها عبدا، وهذه المسألة مختلفة الألفاظ في النسخ، والخطأ فيها من الناسخ، كذا في " شرح الأقطع "، ولهذا قال صاحب " الهداية " م: (قال: هكذا ذكر في أكثر نسخ " المختصر ") ش: أي القدوري م: (والصحيح أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله: أو يصالح عليها؛ لأنه إذا صالح عليها بإنكار بقي الدار في يده فهو يزعم أنها لم تزل عن ملكه) ش: يعني أن المدعى عليه ينكر مبادلة المال بالمال، ويزعم أنه بقي عليه قديم ملكه، وإنما بذل المال لدفع الخصومة.
بيان ذلك أنه إذا صالح عليها يجب فيها الشفعة، سواء كان الصلح عن إقرار أو إنكار أو سكوت؛ لأن في زعم المدعي أنه يأخذها عوضا عن حقه. وكذا المدعى عليه يعطيها عوضا عن المال الذي يدعى عليه فتجب الشفعة؛ لأنه مبادلة مالية مقصودة، بخلاف ما إذا صالح عنها بإنكار حيث لا تجب فيها الشفعة؛ لأن في زعم المصالح أن الدار ملكه، وإنما دفع المال افتداء ليمينه فلم يملكها بعوض.(11/357)
وكذا إذا صالح عنها بسكوت لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه، كما إذا أنكر صريحا بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار لأنه معترف بالملك للمدعي، وإنما استفاده بالصلح فكان مبادلة مالية. أما إذا صالح عليها بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك؛ لأنه أخذها عوضا عن حقه في زعمه إذا لم يكن من جنسه فيعامل بزعمه.
قال: ولا شفعة في هبته لما ذكرنا إلا أن تكون بعوض مشروط؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكذا إذا صالح منها بسكوت فلا تجب الشفعة أيضا؛ لأنا لا نعلم أنه يملكها بعوض الجوار أنه دفع المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب الخصم، فلا تجب الشفعة بالشك، وهذا بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار حيث يجب فيها الشفعة؛ لأنه مقر به ملكها بالمال الصالح عليه. ألا ترى أنهم قالوا: لو استحق المصالح عليه، والصلح مع سكوت رجع المدعي بالدعوى. ولو كان الصلح مع إقرار رجع بالدار فبان الفرق بينهما.
م: (وكذا إذا صالح عنها بسكوت) ش: لأنه، أي وكذا لا شفعة فيما إذا صالح عن الدار بسكوت م: (لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه) ش: قال السغناقي في " العباب " الشغب بسكون الغين المعجمة يهيج الشر، لا يقال شغب يعني بالتحريك، وافتداء وقطعا منصوبان على التعليل م: (كما إذا أنكر صريحا) ش: حيث لا شفعة فيه.
م: (بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار؛ لأنه معترف بالملك للمدعى) ش: لأنه مقر بأنه ملكها بالمال المصالح عليه وقد مر التحقيق مستوفى م: (وإنما استفاده) ش: أي الملك م: (بالصلح، فكان مبادلة مالية) ش: فوجبت فيه الشفعة م: (أما إذا صالح عليها) ش: أي على الدار م: (بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك) ش: أي في الأحوال الثلاثة م: (لأنه) ش: أي المدعي م: (أخذها) ش: أي أخذ الدار م: (عوضا عن حقه في زعمه) ش: أي في زعم المدعي م: (إذا لم يكن) ش: أي العوض م: (من جنسه) ش: أي من جنس حقه قيد به؛ لأنه إذا كان من جنس حقه بأن صالح على بيت من داره فإنه أخذ عين حقه فلا يكون معاوضة وقد مر في الصلح فلا تجب الشفعة.
م: (فيعامل بزعمه) ش: أي بزعم المدعي بفتح الزاي وضمها، يقال زعم زعما، أي قال من باب نصر بنصر. وأما زعم بكسر العين معناه طمع فمصدره زعم بالتحريك.
[الشفعة في الهبة]
م: (قال: ولا شفعة في هبته) ش: أي قال القدوري: لا شفعة في هبته، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك وابن أبي ليلى فيها الشفعة بقيمة الموهوب، وكذا عندهما الشفعة في الصدقة بالقيمة، م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله بخلاف الهبة؛ لأنه لا عوض فيها رأسا م: (إلا أن تكون بعوض مشروط) ش: في عقد الهبة م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الهبة بشرط العوض(11/358)
بيع انتهاء. ولا بد من القبض، وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا؛ لأنه هبة ابتداء وقد قررناه في كتاب الهبة، بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد؛ لأن كل واحد منهما هبة مطلقة، إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع.
قال: ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بيع انتهاء) ش: لأنه هبة ابتداء.
واعلم أن الهبة على عوض، فإن كان وجد فيه التقابض وإن قبض أحدهما دون الآخر فلا شفعة فيه.
وقال زفر: تجب الشفعة بالعقد كما ذكره القدوري في " شرح مختصر الكرخي " بقوله: قالت الثلاثة: وهذا بناء على أن الهبة بشرط العوض بيع ابتداء وانتهاء عند زفر، وعندنا تبرع ابتداء بيع انتهاء حتى لا يجبر على التسليم، ولا يملك قبل القبض ولا يصح في المشاع ولا تثبت فيه الشفعة، فإذا تقابضا إلا أن يثبت أحكام البيع، وصورته أن يقول وهبت هذا الملك على أن تعوض كذا. وأجمعوا على أنه لو قال وهبت هذا لك بكذا إنه بيع، كذا في " المختلف ".
م: (ولا بد من القبض) ش: أي في العوضين م: (وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا؛ لأنه هبة ابتداء) ش: فالشيوع يمنعها م: (وقد قررناه في كتاب الهبة) ش: بشرط العوض أنها تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء في كتاب الهبة م: (بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد) ش: يعني لا تثبت الشفعة حينئذ أصلا لا في الموهوب ولا في العوض.
م: (لأن كل واحد منهما) ش: أي من الهبة والعوض م: (هبة مطلقة) ش: عن العوض؛ لأن الأول هبة أثيب عليها، والثاني أمر في إبطاله حق الرجوع لا أن يكون عوضا عن الأول حقيقة. ولهذا لو أعطى عشرة دراهم لمن أعطاه درهما عوضا عن ذلك جاز. ولو كان عوضا لم يجز؛ لأنه يكون ربا فلا تثبت الشفعة. بخلاف ما إذا كان العوض مشروطا؛ لأنه يصير تبعا من كل وجه عند القبض؛ لأنه مشروط أيضا فيثبت أحكام البيع.
فإن قلت: إنه هبة ابتداء، ويصير بيعا بالقبض، فلا يكون نظير المقبوض.
قلت: نعم، ولكن الشفعة تتعلق بالبناء، فمن هذا الوجه يصير مثل المقبوض فتجب الشفعة بطريق الدلالة.
م: (إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع) ش: أي إلا أن الواهب عوض من الهبة فامتنع رجوعه عنها؛ لأن امتناع الرجوع لمكان التعويض فلا يصير تبعا.
[الشفعة فيما إذا باع أو اشترى بشرط الخيار]
م: (قال: ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع) ش: أي قال القدوري م: (لأنه) ش: أي(11/359)
يمنع زوال الملك عن البائع. فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة؛ لأنه زال المانع عن الزوال، ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح؛ لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عن ذلك.
قال: وإن اشترى بشرط الخيار وجبت الشفعة لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يمنع زوال الملك عن البائع. فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة؛ لأنه زال المانع عن الزوال، ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح؛ لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عن ذلك.
قال: وإن اشترى بشرط الخيار وجبت الشفعة لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق لأن خيار البائع م: (يمنع زوال الملك عن البائع) ش: والشفعة تجب بخروج البيع عن ملك البائع، فصار كالإيجاب بلا قبول م: (فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة؛ لأنه زال المانع) ش: وهو عدم المبيع عن ملك البائع بواسطة الشرط م: (عن الزوال) ش: أي زوال الشفعة.
وقال تاج الشريعة: أي زوال ملك البائع أراد أنه ملك البائع فوجبت الشفعة لتعقلها به. وقال الأسبيحابي في " شرح الطحاوي ": ولو كان الخيار لهما جميعا فلا شفعة فيها أيضا لأجل خيار البائع.
ولو شرط البائع الخيار للشفيع فلا شفعة له فيها أيضا؛ لأنه لما شرط الخيار للشفيع صار كأنه شرط لنفسه، فإن أجاز الشفيع البيع جاز وبطلت شفعته؛ لأن البيع من جهة الشفيع تم فصار كأنه باع.
وإن فسخ فلا شفعة له أيضا؛ لأن ملك البائع لم يزل ولكن الحيلة له في ذلك أن لا يجبر، ولا يفسخ حتى يجيز البائع البيع، أو يجوز بمضي المدة فحينئذ له الشفعة. وكذلك لو باع داره على أن يضمن له الشفيع الدرك عن البائع والشفيع حاضر فضمن جاز البيع لا شفعة له؛ لأن البيع تم بضمانه فلا شفعة له لأنه ترك منزلة البائع.
ولو أن المشتري اشترى دارا وشرط الخيار للشفيع ثلاثة أيام كان للشفيع الشفعة؛ لأن اشتراط الخيار له كاشتراطه للمشتري وذلك لا يمنع وجوب الشفعة.
م: (ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح) ش: احترز به عن قول بعض المشايخ أنه لا يشترط الطلب عند وجوب البيع؛ لأنه هو السبب، والأصح أنه يشترط عند سقوط الخيار م: (لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عند ذلك) ش: أي عند سقوط الخيار، أراد سببا هو علة؛ لأن البيع بشرط الخيار قبل انقضاء المدة سبب يشبه العلة، وليس بعلة. وإنما يصير علة عند سقوط الخيار فيشترط الطلب عند ذلك كما في البيع البات يشترط الطلب عقبه.
م: (قال: وإن اشترى بشرط الخيار وجبت الشفعة) ش: هذا أيضا من ألفاظ القدوري وجبت الشفعة م: (لأنه) ش: أي لأن خيار المشتري م: (لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق) ش: وبه قال أحمد في وجه، والشافعي في قول، وهو رواية المزني، وفي " شرح الوجيز ": وهذا هو الأصح عند عامة الأصحاب.(11/360)
والشفعة تبتني عليه على ما مر، وإذا أخذها في الثلاث وجب البيع لعجز المشتري عن الرد ولا خيار للشفيع؛ لأنه يثبت بالشروط وهو للمشتري دون الشفيع. وإن بيعت دار إلى جنبها، والخيار لأحدهما فله الأخذ بالشفعة، أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها، وكذا إذا كان للمشتري،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في قول: لا تسقط الشفعة لشفعته إلا بعد سقوط خيار المشتري كما في خيار البائع، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول مالك في " الحلية "، واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا، وهو رواية الربيع. قيدنا بالاتفاق لأن الاختلاف هل يدخل في ملك المشتري، أو لم يدخل فعندهما يدخل خلافا لأبي حنيفة، وقد عرف في موضعه م: (والشفعة تبتني عليه) ش: أي على زوال الملك م: (على ما مر) ش: في أول باب الشفعة، وهو قوله: والوجه فيه إنما تجب الشفعة إذا رغب البائع من ملك الدار ... إلى آخره.
م: (وإذا أخذها في الثلاث) ش: أي إذا أخذ الشفيع الشفعة في مدة الخيار التي هي الثلاث، وقيد بالثلاث ليكون على الاتفاق م: (وجب البيع لعجز المشتري عن الرد) ش: وإنا ذكرنا هذا لأن المشتري بخيار الشرط لو رد المبيع بحكم الخيار قبل الأخذ بالشفعة لم يثبت البيع وينفسخ من الأصل، فحينئذ لا يتمكن الشفيع من طلب الشفعة، لأن هذا ليس بإقالة هل انفسخ من الأصل، فكان السبب منعدما في حقه من الأصل إليه أشار إلى هذا في " المبسوط ".
م: (ولا خيار للشفيع) ش: أي لا يثبت الخيار الذي كان للمشتري للشفيع، وإن كان انتقال إضافة الضعف من المشتري إلى الشفيع م: (لأنه ثبت بالشرط) ش: أي لأن الخيار ثبت بالشرط كاسمه م: (وهو) ش: أي الخيار كان م: (للمشتري دون الشفيع) ش: أي لم يكن للشفيع فلا يثبت له.
م: وإن بيعت دار إلى جنبها) ش: أي إلى جنب الدار المشفوعة م: (والخيار لأحدهما) ش: أي والحال أن الخيار لأحد المتعاقدين م: (فله الأخذ بالشفعة) ش: أي الخيار للبائع فالشفعة له، وإن كان للمشتري م: (أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها) ش: حق إذ الخيار منع خروج ملكه، فإن أخذها بالشفعة كان نقضا لبيعه؛ لأن قدر ملكه وإقدام البائع على ما يقدر ملكه في مدة الخيار نقض البيع؛ لأنه لو لم يجعل نقضا لبيعه ملكا إذا جاز البيع فيهما ملكها المشتري من حين العقد حتى يستحق بزوائدها المتصلة والمنفصلة فيتبين أنه أخذ الشفعة بغير حق.
م: (وكذا إذا كان للمشتري) ش: أي وكذا الحكم إذا كان الخيار للمشتري يعني له الأخذ(11/361)
وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده. وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع، بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة؛ لأن خيار الرؤية لا يبطل بصريح الإبطال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالشفعة م: (وفيه إشكال) ش: أي وفي ثبوت الخيار للمشتري إشكال، وهو أنه لا يثبت له الملك عند أبي يوسف كيف يأخذها بالشفعة، وقد كان البلخي يدعي المناقضة على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قال: إذا كان الخيار للمشتري لا يملك البيع، وهاهنا نقول بقولنا خذ الشفعة، وهو مستلزم للمالك وحل الإشكال إن طلب الشفعة يدل على اختياره الملك فيها؛ لأن ما يثبت إلا بدفع ضرر سوء الجوار وذلك بالاستدامة فيتضمن ذلك سقوط الخيار سابقا عليه فيثبت الملك من وقت الشراء فيتبين أن الجوار كان ثابتا.
فإن قلت: الملك الثابت في ضمن طلب الشفعة يكون بطريق الإسناد فيثبت من وجه دون وجه.
قلت: نعم إذا انعقد الإجماع على الاستناد وهاهنا ليس كذلك فإن عنده يثبت الملك بطريق الاقتضاء.
وعندهما يكون الملك للمشتري فصار الملك مجتهدا فيه فيثبت قطعا، بخلاف ما إذا باع بشرط الخيار ثم بيعت دار بجنبها ثم أجاز البائع وقت البيع، وإجازة البيع دليل إعراضه عن الشفعة، فلو أخذ المشتري يكون حق الشفعة بملك الغير. وأما في مسألتنا فيملك نفسه فافترقا.
م: (أوضحناه في البيوع فلا نعيده) ش: أوضحنا الإشكال في البيوع. قال في " النهاية ": هذه الحوالة في حق الإشكال غير رائجة بل فيه جواب الإشكال وهو قوله: ومن اشترى دارا على أنه بالخيار فبيعت دار بجنبها ... إلى آخره.
وقيل: إذا كانت الحوالة في حق جواب الإشكال رائجة كانت في حق السؤال كذلك؛ لأن الجواب يتضمن السؤال. وقيل: لم يقل في بيوع هذا الكتاب فيجوز إن كان أوضحه في بيوع " كفاية المنتهي ".
م: (وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع) ش: أي وإذا أخذ المشتري المبيعة، كان إجازة منه للبيع الذي كان له فيه الخيار م: (بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها) ش: أي بخلاف ما إذا اشترى المشتري الدار الأولى، والحال أنه لم يرها م: (حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة؛ لأن خيار الرؤية لا يبطل) ش: خياره م: (بصريح الإبطال) ش: قبل وجود الرؤية؛ لأن بطلانه
َ(11/362)
فكيف بدلالته، ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى له أن يأخذها دون الثانية لانعدام ملكه في الأولى حين بيعت الثانية.
قال: ومن ابتاع دارا شراء فاسدا فلا شفعة فيها. أما قبل القبض فلعدم زوال ملك البائع وبعد القبض لاحتمال الفسخ، وحق الفسخ ثابت بالشرع
لدفع الفساد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موقوف على وجودها م: (فكيف بدلالته) ش: أي فكيف يبطل خيار الرؤية بدلالة الإبطال؛ لأن ما لا يبطل بالصريح، فبالدلالة الأولى أن لا يبطل.
م: (ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى فله أن يأخذها دون الثانية) ش: يعني إذا اشترى دارا بشرط الخيار ولها شفيع ثم بيعت دار أخرى بجنبها ثم حضر الشفيع فله أن يأخذ الأولى بالشفعة دون الثانية؛ لأنه إنما يكون له الشفعة في الثانية بسبب الجوار بالدار الأولى ولم يكن له جوار الأولى حين بيعت الثانية؛ لأنه ما كان يملكها حينئذ.
وإنما حدث له جوار بعد ذلك، وإنما يأخذ الأولى فحسب؛ لأنه كان جارها حين بيعت إلا إذا كان له دار أخرى بجنب الدار الثانية، فحينئذ يأخذ الدارين جميعا بالشفعة م: (لانعدام ملكه في الأولى) ش: أي ملك الشفيع الذي حضر في الدار الأولى م: (حين بيعت الثانية) ش: لأنه إنما يتملك الآن فلا يصير بها جارا للدار أو شريكا من وقت العقد.
[الشفعة فيما إذا ابتاع دارا شراء فاسدا]
م: (قال: ومن ابتاع دارا شراء فاسدا فلا شفعة فيها) ش: أي قال القدوري: ابتاع أي اشترى فيها، أي في الدار المشتراة شراء فاسدا ولا خلاف فيها للفقهاء. وفي " الذخيرة " هذا إذا وقع البيع فاسدا في الابتداء، أما إذا وقع صريحا ثم قد فسد بقي حق الشفعة كما لو اشترى النصراني دارا بخمر فلم يتقابضا حتى أسلما أو أسلم أحدهما، أو قبض الدار ولم يقبض الخمر، فإن البيع يفسد وللشفيع أن يأخذها بالشفعة م: (أما قبل القبض لعدم زوال ملك البائع وبعد القبض لاحتمال الفسخ وحق الفسخ ثابت بالشرع لدفع الفساد) ش: أي هو ثابت بأمر الشرع بلا اختيار من الشفيع فلا تثبت الشفعة مع أن الفسخ ثابت من جهة الشرع يكون الشارع أمر بتقرير أمر قد أمر برفعه، هذه مناقضة ظاهرة، والشارع يتعالى عن مثل ذلك.
فإن قلت: ينبغي أن لا ينعقد البيع الفاسد إذ في انعقاده تقرير من الشارع هذا العقد مع أنه أمر برفعه فيكون تناقضا.
قلت: تخلل هنا فعل اختياري وهو إقدام البائع على البيع، وجاز أن يؤخذ فعل حرام، ويترتب عليه أحكام كما إذا وطئ امرأته في حالة الحيض يثبت نسب الولد مع حرمة الفعل.
وقلنا: إن الملك لا يثبت في البيع الفاسد قبل القبض، إذ لو ثبت الملك يلزم للبائع تسليمه وهو مأمور بنقضه فيلزم التناقض فيثبت الملك بالقبض لإضافة الملك إلى فعل اختياري وهو القبض. وقلنا: إن الملك لا يثبت في البيع الفاسد قبل القبض يوجب القيمة دون الثمن(11/363)
وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري في البيع الصحيح؛ لأنه صار أخص به تصرفا، وفي البيع الفاسد ممنوع عنه، قال: فإن سقط حق الفسخ وجبت الشفعة لزوال المانع، وإن بيعت دار بجنبها وهي في يد البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن وجوب الثمن يثبت ذلك العقد فيؤدي إلى تقرير الفساد. م: (وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد فلا يجوز) ش:
فإن قلت: بيع المشترى بالشراء الفاسد يصح، وهو تقرير الفساد أيضا.
قلت: التقرير هنا يضاف إلى الشارع لأنه هو السبب لهذا الحق، ولا كذلك ثمة؛ لأنه يضاف إلى العبد م: (بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري في البيع الصحيح) ش: حيث تجب الشفعة مع احتمال الفسخ م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري م (صار أخص به تصرفا) ش: يعني صار المشتري أخص بهذا البيع بالتصرف، وإن احتمل البيع الفسخ، وإنما صار أخص لأن حق الفسخ له دون البائع، فباعتبار كونه أخص تحقيق الضرر للشفيع فتثبت له الشفعة بخلاف البيع الفاسد لأن المشتري منع عن التصرف فلا يتضرر الشفيع، فلا يثبت له الشفعة لثبوتها بخلاف القياس لدفع الضرر، أشار إليه بقوله م: (وفي البيع الفاسد ممنوع عنه) ش: أي وفي البيع الفاسد المشتري ممنوع عن التصرف كما بينا ولا خلاف فيه بين للفقهاء.
قال الأترازي: وفي هذا الفرق نظر عندي؛ لأن لقائل أن يقول لا نسلم أن المشتري شراء فاسدا ممنوع من التصرف، ولهذا إذا باع بيعا صحيحا لا يكون لبائعه حق القبض.
قلت: الفرق صحيح، والنظر غير وارد؛ لأن بيع المشتري شراء فاسدا بعقد صحيح لا يدل على أن له التصرف؛ لأن تصرفه محظور، وقد يترتب على المحظور من الأحكام كما لو وطئ حالة الحيض، فإنه يحلل المرأة على زوجها الأول، ولا يلزم من صحة عقده، وعدم تمكن البائع من نقضه أن لا يكون ممنوعا من التصرف، فافهم.
م: (قال: فإن سقط حق الفسخ) ش: أي قال المصنف فإن سقط حق الفسخ للبائع في البيع الفاسد بالزيادة في المبيع كالبناء والغرس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبالبيع من آخر بالاتفاق م: (وجبت الشفعة) ش: أي ثبتت م: (لزوال المانع) ش: وهو حق الفسخ للبائع، وإن اتخذها المشتري مسجدا فعلى هذا الخلاف وقيل: ينقطع حقه إجماعا م: (وإن بيعت دار بجنبها) ش: ذكر هذه المسألة تفريعا على مسألة القدوري، أي بجنب الدار المشتراة شراء فاسدا.
م: (وهي في يد البائع) ش: أي والحال أن الدار المشتراة في يد البائع لم يسلمها للمشتري(11/364)
بعد فله الشفعة لبقاء ملكه، وإن سلمها إلى المشتري فهو شفيعها لأن الملك له، ثم إن سلم البائع قبل الحكم بالشفعة له بطلت شفعته كما إذا باع، بخلاف ما إذا سلم بعده؛ لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط، فبقيت المأخوذة بالشفعة على ملكه، وإن استردها البائع من المشتري قبل الحكم بالشفعة له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بعد فله الشفعة لبقاء ملكه) ش: أي فللبائع الشفعة لبقاء ملكه؛ لأنه لم يخرج عن ملكه بالبيع الفاسد.
م: (وإن سلمها إلى المشتري فهو شفيعها لأن الملك له) ش: أي وإن سلم البائع الدار المشتراة بالشراء الفاسد إلى المشتري فالمشتري شفيعها لأن الملك له، أي للمشتري لا يقال في ذلك تقرير الفاسد حيث أخذ الدار المبيعة بالشفعة بالدار المشتراة بالشراء الفاسد؛ لأنا نقول المشتري بعد أخذ الدار الثانية بالشفعة متمكن من نقض المشتراة شراء فاسدا مع عدم الفساد في التي أخذها بالشفعة، بخلاف ما تقدم، فإنه لو ثبتت الشفعة ثمة لا ينقل الشراء الفاسد من المشتري إلى الشفيع بوصف الفساد. وفي ذلك تقريره فلا يجوز.
فإن قيل: الملك وإن كان للمشتري وهو يقتضي ثبوت حق المشفعة، لكن المانع متحقق وهو بقاء حق البائع في استرداد ما ثبت به حق الشفعة وهو المشتراة شراء فاسدا، فإن بقاء ذلك منع للشفيع من أخذ المشتراة بالشراء الفاسد.
أجيب: بأن ذلك مجرد تعلق حق الغير وهو لا يمنع من الشفعة كقيام حق المرتهن في الدار المرهونة فإنه لا يمنع وجوب الشفعة للراهن إذا بيعت دار بجنبها، وامتناع الشفيع من الأخذ في تلك المسألة لم يكن بمجرد بقاء حق البائع في الاسترداد بل مع لزوم تقرير الفساد، ولا تقرير هاهنا على ما ذكرنا من تمكن المشتري من فسخ ما اشتراه شراء فاسدا.
م: (ثم إن سلم البائع قبل الحاكم بالشفعة له بطلت شفعته) ش: أي إن سلم البائع الدار المبيعة بالبيع الفاسد إلى المشتري قبل حكم القاضي بالشفعة للبائع بطلت شفعة البائع لزوال ما كان يستحقها به م: (كما إذا باع) ش: أي كما إذا باع البائع الدار م: (بخلاف ما إذا سلم بعده) ش: أي بعد الحكم بالشفعة للبائع م: (لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط) ش: أي لأن بقاء ملك البائع وهو ما يستحق به الشفعة في ملك الشفيع بعد الحكم بها ليس بشرط.
م: (فبقيت المأخوذة بالشفعة على ملكه) ش: أي الدار المشفوعة بالشفعة م: (وإن استردها البائع) ش: أي الدار المبيعة بالبيع الفاسد م: (من المشتري قبل الحكم بالشفعة له) ش: أي للمشتري م:(11/365)
بطلت لانقطاع ملكه عن التي يشفع بها قبل الحكم بالشفعة، وإن استردها بعد الحكم بقيت الثانية على ملكه لما بينا. قال: وإذا اقتسم الشركاء العقار فلا شفعة لجارهم بالقسمة؛ لأن القسمة فيها معنى الإفراز، ولهذا يجري فيها الجبر والشفعة ما شرعت إلا في المبادلة المطلقة.
قال: وإذا اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم ردها المشتري بخيار رؤية أو شرط أو بعيب بقضاء قاض فلا شفعة للشفيع؛ لأنه فسخ من كل وجه فعاد إلى قديم ملكه والشفعة في إنشاء العقد، ولا فرق في هذا بين القبض وعدمه. قال: وإن ردها بعيب بغير قضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بطلت) ش: أي شفعة المشتري صورته بيعت دار بجنب الدار المشتراة بالشراء الفاسد والدار في يد المشتري وطلب الشفيع الشفعة ثم قبل الحكم استرد البائع الدار منه طلب شفعته م: (لانقطاع ملكه عن التي يشفع بها قبل الحكم بالشفعة) ش: ولا تثبت الشفعة للبائع لأنه لم يكن في وقت بيع المشفوع جارا.
م: (وإن استردها بعد الحكم) ش: أي وإن استرد البائع المبيعة بيعا فاسدا بعد حكم القاضي بالشفعة للمشتري م: (بقيت الثانية على ملكه) ش: أي الدار الثانية وهي التي أخذها المشتري بالشفعة، والضمير في ملكه راجع إلى المشتري م: (على ما بينا) ش: وفي بعض النسخ لما بينا. أشار به إلى قوله لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط.
م: (قال: وإذا اقتسم الشركاء العقار فلا شفعة لجارهم بالقسمة) ش: أي قال القدوري وفي بعض النسخ وإذ اقتسم الشركاء م: (لأن القسمة فيها معنى الإفراز) ش: وهو تمييز الحقوق م: (ولهذا يجري فيها الجبر) ش: أي جبر القاضي م: (والشفعة ما شرعت إلا في المبادلة المطلقة) ش: وهي المبادلة من كل وجه.
[اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم ردها المشتري بخيار أو بعيب]
م: (قال: وإذا اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة) ش: أي قال القدوري: إذا اشترى رجل دار فسلم الشفيع شفعته م: ثم ردها المشتري) ش: أي الدار على البائع م: بخيار رؤية أو شرط أو بعيب) ش: أي أو ردها بسبب عيب وجده فيها م: (بقضاء قاض فلا شفعة للشفيع لأنه فسخ من كل وجه فعاد إلى قديم ملكه) ش: أي ملك البائع م: (والشفعة في إنشاء العقد) ش: أي الشفعة تجب إلى إحداث عقد م: (ولا فرق في هذا) ش: يعني فيما إذا كان الرد بالقضاء، هكذا عنه أكثر الشراح.
وقال تاج الشريعة: قوله والفرق في هذا، أي في الرد بالعيب بالقضاء قلت: الكل معنى واحد لأن قوله بقضاء قاض قيد لقوله أو بعيب فقط فافهم م: (بين القبض وعدمه) ش: حيث لا تجب الشفعة في الوجهين؛ لأنه فسخ في الأصل. م: (وإن ردها بعيب بغير قضاء) ش: أي وإن(11/366)
أو تقايلا البيع فللشفيع الشفعة؛ لأنه فسخ في حقهما لولايتهما على أنفسهما وقد قصد الفسخ وهو بيع جديد في حق ثالث لوجود حد البيع وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي والشفيع ثالث، ومراده الرد بالعيب بعد القبض لأن قبله فسخ من الأصل، وإن كان بغير قضاء على ما عرف. وفي " الجامع الصغير ": ولا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية وهو بكسر الراء، ومعناه لا شفعة بسبب الرد بخيار الرؤية لما بيناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رد المشتري الدار على البائع بسبب عيب بغير قضاء القاضي م: (أو تقايلا البيع فللشفيع الشفعة) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية المقايلة.
وقال الشافعي: كل فسخ حصل بأي سبب كان لم يكن للشفيع أخذه لأنه عاد إلى المالك لزوال العقد، وبه قال أحمد في المشهور وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه فسخ في حقهما) ش: أي لأن كل واحد من الرد بالعيب بغير قضاء، والإقالة فسخ في حق البائع والمشتري م: (لولايتهما على أنفسهما وقد قصد الفسخ) ش: فيكون فسخا في حقهما م: (وهو بيع جديد في حق ثالث) ش: وهو الشفيع، فصار في حق الشفيع كأن البائع اشترى ثانيا فيتجدد حق الشفعة للشفيع.
وقوله: وبيع بالرفع عطف على قوله لأنه فسخ م: (لوجود حد البيع وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي والشفيع ثالث) ش: بين هذا أن المراد بقوله ويبيع جديد في حق ثالث هو الشفيع م: (ومراده الرد بالعيب بعد القبض) ش: أي القدوري من قوله ثم ردها المشتري بعيب بقضاء قاض للرد بعد القبض؛ لأن الرد قبل القبض فسخ وإن كان بغير قضاء. وقال صاحب " العناية ": قال الشارحون: قوله ومراده، أي مراد القدوري في قوله أو بعيب بقضاء قاض للرد بالعيب بعد القبض وفيه نظر؛ لأن فيه تناقض. قوله هناك: ولا فرق في هذا بين القبض وعدمه.
قلت: لا تناقض؛ لأن تعليله يدل على ذلك يفهم بالتأمل وهو قوله م: (لأنه) ش: أي لأن الرد بالعيب م: (قبله) ش: أي قبل القبض م: (فسخ من الأصل وإن كان بغير قضاء) ش: القاضي م: (على ما عرف) ش: في البيع.
م: (وفي الجامع الصغير) ش: إنما ذكر مسألة " الجامع الصغير " وإن كان تكرارا لكونه محتاجة إلى التفسير على ما يجيء، ولأن في لفظه اختلاف الروايتين ففي كل منهما فائدة على ما يأتي م: (ولا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية) ش: يروي قوله ولا خيار رؤية بكسر الراء عطفا على القسمة، أشار إليه بقوله م: (وهو بكسر الراء) ش: أراد بكسر راء الخيار م: (ومعناه لا شفعة بسبب الرد بخيار الرؤية لما بيناه) ش: يعني إذا اشترى دارا لم يردها ولها شفيع فأبطل شفعته ثم ردها المشتري بخيار الرؤية لم تتجدد شفعة الشفيع؛ لأن هذا فسخ شيئا البائع وأبى(11/367)
ولا تصح الرواية بالفتح عطفا على الشفعة؛ لأن الرواية محفوظة في كتاب القسمة أنه يثبت في القسمة خيار الرؤية وخيار الشرط؛ لأنهما يثبتان لخلل في الرضا فيما يتعلق لزومه بالرضا، وهذا المعنى موجود في القسمة والله سبحانه وتعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يكون له شبه بالبيع لعدم التراضي، بخلاف الإقالة.
ويروى بفتح الراء وضمها عطفا على الشفعة على اللفظ وعلى المحل، وهذه الرواية منعها المصنف حيث قال م: (ولا تصح الرواية بالفتح عطفا على الشفعة؛ لأن الرواية محفوظة في كتاب القسمة أنه يثبت في القسمة خيار الرؤية وخيار الشرط؛ لأنهما يثبتان لخلل في الرضا فيما يتعلق لزومه بالرضا وهذا المعنى) ش: أي الحال في الرضا: م: (موجود في القسمة) ش:
وتبع المصيف في ذلك فخر الإسلام البزدوي والصدر الشهيد حيث أنكر رواية الفتح وأثبتها الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير " فقال: معناه لا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية في القسمة أيضا، وإنما لم يجب في القسمة خيار رؤية لأنه لا فائدة في رده كان له أن يطلب القسمة من ساعته فلا يكون في الرد فائدة.
وحمل فخر الدين قاضي خان في "شرح الجامع الصغير " رواية الفسخ على ما إذا كانت التركة مكيلا أو موزونا من جنس واحد فاقتسموا لا يثبت خيار الرؤية؛ لأنه لو رد القسمة بخيار الرؤية لاحتاج إلى القسمة مرة أخرى فيقع في نصيبه عين ما وقع في المرة الأولى أو مثله فلا يفيد خيار الرؤية.
آما لو كانت عقارا أو شيئا آخر يفيد خيار الرؤية؛ لأنه لو رد بخيار الرؤية، فإذا اقتسموا ثانيا ربما يقع في نصيبه الطرف الآخر الذي يوافقه، فيكون مفيدا م: (والله سبحانه وتعالى أعلم) ش: وفي " الكافي " وصحح شمس الأئمة السرخسي الرواية بالنصب أيضا، وقال: لا يثبت خيار الرؤية في القسمة سواء كانت القسمة بقضاء أو برضاء، وبه أخذ بعض المشايخ.
[باب ما تبطل به الشفعة]
[ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع]
11 -(11/368)
باب ما تبطل به الشفعة قال: وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع، وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته لإعراضه عن الطلب، وهذا لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار وهي عند القدرة. قال: وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد المتبايعين ولا عند العقار وقد أوضحناه فيما تقدم.
قال: وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته ورد العوض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (باب ما تبطل به الشفعة)
ش: أي هذا باب في بيان ما تبطل به الشفعة وأوجهه؛ لأن الإبطال بعد الثبوت.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع، وهو يقدر على ذلك) ش: أي والحال أنه يقدر على ذلك الإشهاد حين العلم م: (بطلت شفعته لإعراضه عن الطلب) ش: أما إذا كان هناك مانع والظاهر أنه ترك الإشهاد لا للإعراض فلا يسقط حقه، كما إذا اشترى دارا والشفيع في بلد آخر وبينهما قوم يحاربون وهو لا يقدر على بعث الوكيل كان على شفعته. وكذا لو كان بينهما نهر مخوف أو أرض مسبغة.
فإن قيل: قد ذكر قبل هذا أن طلب الإشهاد ليس بلازم وقد ذكر في " الذخيرة " أن الإشهاد ليس بشرط، وإنما ذكر أصحابنا الإشهاد عند هذا الطلب في الكتب احتياطيا لتمكن إثباته عند إنكار المشتري، فما وجه التوفيق بينهما.
أجيب: بأنه يحتمل أن يراد بالإشهاد نفس طلب المواثبة؛ لأن طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي، وسمي هذا الطلب إشهادا بدليل ما ذكره من التعليل في حق ترك طلب المواثبة مثل ما ذكره في التعليل هاهنا.
قلت: إذا فسر الإشهاد بطلت المواثبة كما فسره تاج الشريعة هكذا لإيراد السؤال المذكور، فلا يحتاج إلى الجواب.
م: (وهذا) ش: يعني اشتراطه القدرة م: (لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار، وهي عند القدرة) ش: فالإعراض يتحقق عند القدرة، حتى لو سمع وهو في الصلاة فترك طلب المواثبة فهو على شفعته. وكما إذا أخذ فم الشفيع أخذ حين بلغه الخبر م: (وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد المتابعين ولا عند العقار) ش: أراد به طلب المواثبة وترك طلب التقرير فإنه يسقط شفعته أيضا م: (وقد أوضحناه فيما تقدم) ش: أشار به إلى ما ذكره في باب طلب الشفعة.
[صالح من شفعته على عوض]
م: (وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته) ش: بلا خلاف بين الأئمة الأربعة م: (ورد العوض) ش: وبه قال الشافعي وأحمد رحمهما الله وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا(11/369)
لأن حق الشفعة ليس بحق مقرر في المحل، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يرد العوض؛ لأنه عوض إزالة الملك، فجاز أخذ العوض له عنه كالصلح عن القصاص م: (لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل) ش: يعني أن الشفيع ليس له ملك في المحل بل له حق التعرض بالملك، فتسليمه الشفعة يكون ترك العوض منه، وهو معنى قوله م: (بل هو مجرد حق التمليك) ش: وهو حق التعرض للملك بخلاف القصاص؛ لأن لوليه ملكا متقررا.
ألا ترى أن من عليه القصاص كالمملوك له في حق الاستيفاء، ولهذا يجوز له الاستيفاء بدون مرافعة الحاكم م: (فلا يصح الاعتياض عنه) ش: يعني إذا كان ليس بحق متقرر في المحل لا يصح الاعتياض عنه؛ لأن حق الشفعة ثبت بخلاف القصاص لدفع الضرر فلا يظهر ثبوته في حق الاعتياض.
م: (ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط) ش: أي لا يتعلق إسقاط حق الشفعة بالجائز من الشرط وهو مال ما ليس فيه ذكر مال م: (فبالفاسد أولى) ش: وهو ما فيه ذكر مال، تقريره أنه لو قال الشفيع سقطت شفعتي فيما اشتريت حتى لا يطلب الثمن مني، هذا الشرط جائز لأنه يلائم، ومع هذا لم يتعلق سقوط الشفعة بهذا الشرط، بل يسقط بمجرد قوله أسقطت بدون تحقق الشرط، فلأن لا يتعلق سقوطه بالفاسد وهو شرط الاعتياض عن حق ليس بمال، وأنه رشوة أولى.
وفي " جامع قاضي خان ": الشرط الملائم شرط ليس فيه ذكر المال كما لو قال سلمت شفعتك على أن بعتنيها أو وليتنيها أو أجرتنيها أو دفعتنيها مزارعة أو معاملة. وكذا لو باع شفعته من البائع أو المشتري بمال تسقط الشفعة بالاتفاق ولا يلزمه المال.
والفاصل بين الملائم وغيره أن ما كان فيه يوقع الانتفاع بمنافع المشفوع، كالإجارة، والعارية، والتولية، ونحوها فهو ملائم؛ لأن الأخذ بالشفعة يستلزمه. وما لم يكن فيه ذلك، كأخذ العوض فهو غير ملائم؛ لأنه إعراض غير لازم الأخذ.
والحاصل: أن كل عقد تعلق جوازه بالجائز من الشرط فالفاسد فيه يبطله كالبيع، وما لا يتعلق جوازه بالجائز من الشرط وهو أن يقول أسقطت الشفعة بشرط، أن لا يطلب الثمن مني فالفاسد فيه لا يبطله وهو الاعتياض، فبقي الإسقاط صحيحا جائزا وبيان الأولوية أن الشرط الجائز سلم عن المعارض لأنه يقتضي الجواز، وإسقاط الشفعة كذلك.
والشرط الفاسد لا يسلم عن المعارض لأنه يقتضي الفساد، وإسقاط الشفعة يقتضي(11/370)
فيبطل الشرط ويصح الإسقاط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواز مع سلامته، حيث لم يتعلق الإسقاط، فلأن لا يؤثر ما لم يسلم عن المعارض، كان أولى م: (فيبطل الشرط ويصح الإسقاط) ش: أي إذا كان لا يتعلق إسقاط الشفعة بالجائز من الشرط، وبالفاسد منه بطريق الأولى يبطل الشرط ويصح الإسقاط، لا يقال: لم يثبت فساد هذا الشرط، فكيف يصح الاستدلال به؛ لأنا نقول يثبت بالدليل الأول فصح به الاستدلال.
وقال الأترازي: ولنا فيه نظر؛ لأن إسقاط حق الشفعة يتعلق بالجائز من الشرط، ألا ترى إلى ما قال محمد في " الجامع الكبير ": لو قال الشفيع: سلمت شفعة هذه الدار إن كنت اشتريتها لنفسك، وقد اشتراها لغيره.
أو قال البائع: سلمتها لك إن كنت بعتها لنفسك، وقد باعها لغيره فهذا ليس بتسليم، وذلك لأن الشفيع علق التسليم بشرط، وصح هذا التعليق؛ لأن تسليم الشفعة إسقاط محض كالطلاق، والعتاق، ولهذا لا يرتد بالرد، وما كان إسقاطا محضا صح تعليقه بالشرط، وما صح بتعليقه بالشرط لا ينزل إلا بعد وجود الشرط، فلا يترك التسليم، انتهى.
قلت: استخرج هذا النظر الغير وارد من قول الشيخ أبي المعين النسفي في شرح " الجامع الكبير " حيث قال: فيه.
فإن قيل: إذا لم يجب العوض يجب أن لا يبطل شفعته أيضا؛ لأنه لما أبطل حقه في الشفعة بشرط سلامة العوض، فإذا لم يسلم يجب أن لا يبطل كما في الكفالة بالنفس إذا صالح الكفيل المكفول له على مال حتى يبرئه من الكفالة لما لم يجب العوض لم تثبت البراءة.
قيل له: بأن المال لا يصلح عوضا عن الشفعة، فصار كالخمر والخنزير في باب الخلع والصلح عن دم العمد، وثمة يقع الطلاق ويسقط القصاص إذا وجد القبول من المرأة والقابل ولم يجب شيء، كذا هنا.
وأما الصلح عن الكفالة بالنفس فكذلك على ما ذكر محمد في كتاب الشفعة من " المبسوط " وكتاب الكفالة والحوالة من " المبسوط " في رواية أبي حفص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلى ما ذكر في الكفالة والحوالة على رواية أبي سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يبرأ ويحتاج إلى الفرقة، والفرق أن حق الشفيع قد سقط بعوض معني، فإن الثمن سلم له، فإنه متى أخذ الدار بالشفعة وجب عليه الثمن.(11/371)
وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا، بخلاف القصاص لأنه حق متقرر، وبخلاف الطلاق والعتاق لأنه اعتياض عن ملك في المحل. ونظيره إذا قال للمخيرة: اختاريني بألف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فمتى سلم له الثمن فقد سلم له نوع عوض بإزاء التسليم، فلا بد من القول لسقوط حقه في الشفعة، فإن المكفول له لم يرض بسقوط حقه عن الكفيل بغير عوض ولم يحصل له عوض أصلا فلا يسقط حقه في الكفالة، انتهى. ومن هذا الجواب يحصل الجواب عن النظر المذكور.
م: (وكذا لو باع شفعته بمال) ش: يعني من البائع أو المشتري تسقط شفعته بالاتفاق ولا يلزمه المال؛ لأن البيع تمليك مال بمال، وحق الشفعة لا يحتمل التمليك، فصار عبارة عن الإسقاط مجازا، كبيع الزوج زوجته من نفسها، وهذا إذا باع من البائع أو المشتري لأنه إعراض عن الشفعة، أما إذا باع عن الأجنبي يبطل العوض، ولا تبطل الشفعة لأنه تحقيق للشفعة وتقريرها كذا في " الجامع الكبير " م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله أن حق الشفعة مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه.
م: (بخلاف القصاص لأنه حق متقرر) ش: هذا جواب عما يقال حق الشفعة كحق القصاص في كونه غير مال، والاعتياض عنه صحيح، فأجاب عنه بقوله بخلاف القصاص لأنه حق متقرر، والفاصل بين المتقرر وغيره أن ما يعتبر بالصلح عما كان قبله فهو متقرر وغيره غير متقرر، واعتبر في ذلك في الشفعة والقصاص، فإن نفس القاتل كانت مباحة في حق من له القصاص، وبالصلح حصل بالعصمة في دمه، فكان حقا متقررا.
وأما في الشفعة فإن المشتري يملك الدار قبل الصلح وبعده على وجه واحد فلم يكن حقا مقصودا.
م: (وبخلاف الطلاق والعتاق) ش: هذا جواب عما يقال حق الشفعة كحق الطلاق والعتاق في كونها غير مال، فأجاب بقوله بخلاف الطلاق والعتاق م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الطلاق والعتاق م: (اعتياض عن ملك في المحل) ش: تقريره أن الطلاق والعتاق ليس بمال لكن للزوج ذلك في المحل فيجوز الاعتياض عنه، أما الشفيع فلا ملك له في المحل بل له حق التملك.
ولهذا كان لولي الصغير أن يسقط الشفعة، ولو كان له ملك لما جاز له ذلك م: (ونظيره) ش: أي نظير حق الشفعة م: (إذا قال للمخيرة: اختاريني بألف) ش: يعني إذا قال الزوج لامرأته اختاري نفسك ثم ندم فقال اختاريني بألف، فإن الحق يسقط ولا يجب المال، فتكون المخيرة نظير حق الشفعة.(11/372)
أو قال العنين لامرأته: اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت. سقط الخيار ولا يثبت العوض، والكفالة بالنفس في هذا بمنزلة الشفعة في رواية، وفي أخرى: لا تبطل الكفالة ولا يجب المال. وقيل: هذه رواية في الشفعة، وقيل: هي في الكفالة خاصة وقد عرف في موضعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو قال العنين لامرأته: اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت سقط الخيار ولا يثبت العوض) ش: لأنه مالك لبضعها قبل اختيارها وبعده على وجه واحد، فكان أخذ العوض لكل مال بالباطل وهو لا يجوز م: (والكفالة بالنفس في هذا) ش: أي في إسقاطها بعوض م: (بمنزلة الشفعة في رواية) ش: أي في رواية الكفالة والحوالة والشفعة والصلح من رواية أبي حفص، يعني إذا قال الكفيل بالنفس للمكفول له: صالحني على كذا بأن تأخذه مني وتسقط مالك من حق الطلب، فصالحنا، ففيه روايتان، في رواية ما ذكرنا من الكتب يبطل، قيل: وعليه الفتوى ولا يلزم المكفول له شيء؛ لأن حق الكفيل في الفعل وهو الطلب فلا يصح الاعتياض عنه.
م: (وفي أخرى) ش: أي وفي الرواية الأخرى وهي رواية كتاب الصلح من رواية أبي سليمان م: (لا تبطل الكفالة ولا يجب المال) ش: فيحتاج إلى الفرق بين الكفالة بالنفس وبين الشفعة والفرق أن الكفالة بالنفس حق قوي لا يسقط بعد ثبوتها إلا بالإسقاط التام ولا يسقط إلا بعد تمام الرضاء به، ولهذا لا يسقط بالسكوت، وإنما يتم رضاه بسقوطه إذا أوجب له المال، فإذا لم يجب لم يكن راضيا، فأما سقوط الشفعة فليس يعتمد الإسقاط، وتمام الرضا به. ألا ترى أن السكوت بعد العلم به يسقط.
م: (وقيل: هذه رواية في الشفعة) ش: أي رواية أبي سليمان في الكفالة تكون رواية في الشفعة أيضا، حتى لا تسقط الشفعة بالصلح على مال. حاصله أن التنصيص في الكفالة أنها لا تسقط ولا تجب المال يكون مضاف الشفعة بعدم سقوطها وأنه لا يجب المال.
م: (وقيل: هي في الكفالة خاصة) ش: أي رواية أبي سليمان، أراد هذا الحكم، أعني عدم الوجوب وعدم السقوط يختص بالكفالة. وقال الإمام العتابي في كتاب "الشفعة" في شرح " الجامع الكبير ": والكفيل إذا صالح المكفول له على دراهم على أن يبرئه عن الكفالة فأبرأه صح الإبراء في رواية أبي حفص في كتاب "الكفالة" ولا شيء له من الدراهم.
وفي رواية أبي سليمان لم يصح الإبراء م: (وقد عرف في موضعه) ش: أي في " المبسوط " لأنه التزام المال بمقابلة ما ليس بمال وهو سقوط حق الشفعة والبراءة عن المطالبة فكان بمعنى الرشوة. وفي " المبسوط " صلح الشفيع مع المشتري على ثلاثة أوجه منها صالحه على أخذ نصف الدار بنصف الثمن. ومنها ما صالحه على أخذ بيت من الدار بعينه بحصته في(11/373)
قال: وإذا مات الشفيع بطلت شفعته. وقال: الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تورث عنه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، أما إذا مات بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته، وهذا نظير الاختلاف في خيار الشرط، وقد مر في البيوع، ولأنه بالموت يزول ملكه عن داره، ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه وقت البيع، وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرط فلا يستوجب الشفعة بدونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثمن، وفي هذين الوجهين الصلح باطل والتسليم باطل، وله أن يأخذ جميع الدار بعد ذلك.
وفي الوجه الثالث: وهو ما إذا صالحه على مال نفسه فقد وجد الإعراض عن الشفعة فيصح، ولم يصح صلحه. وفي " المحيط ": لو طلب نصفها بالشفعة يطلب شفعته في الكل عند محمد، وبه قال أحمد وبعض أصحاب الشافعي. وقال أبو يوسف: لا يكون تسليما في الكل وبه قال بعض أصحاب الشافعي وهو الأصح.
[موت الشفيع وأثره في بطلان الشفعة]
م: (قال: وإذا مات الشفيع بطلت شفعته. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تورث عنه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، أما إذا مات بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته) ش: قال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": صورته: أن دارا بيعت، ولها شفيع، وطلب الشفعة فأثبتها بطلبين، ثم مات قبل الأخذ بالقضاء، أو بتسليم المشتري إليه فأراد ورثته أخذها فليس لهم ذلك، ولو كان الشفيع ملكها بالقضاء، أو بتسليم المشتري إليه، ثم مات يكون ميراثا لورثته. انتهى.
والأصل فيه أن الحقوق اللازمة تنتقل إلى الورثة عنده سواء كانت مما يعوض عنها أو لم يكن؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث لكونه كحاجته.
وقلنا: الشفعة بالملك وقد زال بالموت، والذي يثبت الوارث حادث بعد البيع وهو غير معتبر لانتفاء شرطه وهو قيامه وقت البيع وبقاؤه إلى وقت القضاء، ولهذا لو أزاله باختياره بأن باع سقط.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الخلاف بيننا وبينه م: (نظير الخلاف في خيار الشرط) ش: فعندنا لا يورث خيار الشرط، وعنده يورث م: (وقد مر في البيوع) ش: في باب خيار الشرط.
م: (ولأنه بالموت يزول ملكه) ش: أي ولأن الشفعة بموته يزول ملكه م: (عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه) ش: أي قيام الملك م: (وقت البيع، وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرط فلا يستوجب الشفعة بدونه) ش: أي فلا يستحقها بدون الشرط المذكور.(11/374)
وإن مات المشتري لم تبطل؛ لأن المستحق باق ولم يتغير سبب حقه ولا يباع في دين المشتري ووصيته، ولو باعه القاضي والوصي أو أوصى المشتري فيها بوصيته فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه، ولهذا ينقض تصرفه في حياته.
قال: وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن مات المشتري لم تبطل) ش: أي شفعة الشفيع م: (لأن المستحق باق) ش: وهو الشفيع م: (ولم يتغير سبب حقه) ش: أي حق المستحق وهو الشركة أو الجوار م: (ولا يباع في دين المشتري ووصيته) ش: أي لا تباع الدار المشفوعة إذا مات المشتري وعليه دين يعني لا يقدم دين المشتري ووصيته على حق الشفيع؛ لأن حقه مقدم على حق المشتري فكان مقدما على حق من يثبت حقه أيضا من جهته وهو الغريم والموصى له.
فإن قلت: ينبغي أن يباع بدينه؛ لأن تعلق حق الغريم بالدار بعد موت المديون.
قلت: حق الشفيع آكد؛ لأنه في المالية لا غير. وإذا تقدم على الغريم تقدم على الموصى له المتأخر عن الغريم.
م: (ولو باعه القاضي أو الوصي) ش: أي ولو باع القاضي الدار المشفوعة أو وصيته في دين المشتري الميت، وذكر الضمير باعتبار المشفوع م: (أو أوصى المشتري فيها بوصيته) ش: أي في الدار المشفوعة بأن أوصى بها أو سلمها لأحد م: (فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه) ش: أي أن يبطل بيع القاضي أو بيع وصي المشتري، وكذا يبطل وصيته في الدار لتقدم حق الشفيع على حق المشتري لا يقال بيع القاضي حكم منه، فكيف ينقص لأنه قضاء منه، بخلاف الإجماع للإجماع على أن الشفيع حق يقضي تصرف المشتري فلا يكون نافذا، ولهذا لو جعل المشتري الدار مسجدا أو مقبرة نقض الشفيع ما صنع لتقدم حقه، وبه قالت الثلاثة.
وعن الحسن وأحمد في رواية فيما وقفه المشتري أو جعله مسجدا يبطل الشفيع؛ لأن الشفعة إنما تكون في المملوك وقد خرج هذا عن كونه مملوكا. قلنا: حق الغير منع صيرورته مسجدا أو وقفا؛ لأن المسجد ما خلص لله، ومع تعلق الغير لا يخلص في الإيضاح م: (ولهذا) ش: أي ولتقدم حق الشفيع على حق المشتري م: (ينقض تصرفه في حياته) ش: أي تصرف المشتري مثل بيعه وهبته وإجارته ونحوها.
[باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة]
م: (قال: وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته) ش: أي قال القدوري: وإنما يبطل م: (لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه) ش: أي(11/375)
ولهذا يزول به وإن لم يعلم بشراء المشفوعة، كما إذا سلم صريحا أو أبرأ عن الدين وهو لا يعلم به، وهذا بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له؛ لأنه يمنع الزوال فبقي الاتصال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سبب الاستحقاق وهو اتصال الملكين وقد زال قبل التملك م: (ولهذا) ش: أي ولكون زوال السبب مبطلا م: (يزول به) ش: أي بالبيع.
م: (وإن لم يعلم) ش: أي الشفيع م: (بشراء المشفوعة) ش: أي بشراء الدار المشفوعة؛ لأن العلم بالمسقط ليس بشرط لصحة الإسقاط، وبه قال الشافعي في وجه ومالك وأحمد في رواية. قالوا: في رواية أخرى لا يسقط م: (كما إذا سلم صريحا) ش: أي كما تسقط الشفعة إذا سلم الشفيع الشفعة صريحا.
فإن قيل: يشكل بما إذا ساوم الشفيع المشتري أو سأله أن يوليه إياها أو يستأجرها منه، فإن ذلك تسليم الشفعة دلالة، والعلم بالشفعة شرط فيها فينبغي أن لا يشترط كما في البيع.
أجيب: بأن المساومة والإجارة لم يوضعا للتسليم، وإنما يسقط بها لدلالتها على رضا الشفيع، والرضا بدون العلم غير متحقق بخلاف التسليم الصريح والإبراء. ورد بأن بيع ما يشفع به ولم يوضع للتسليم وقد ذكرتم أنه يبطلها بخلافه وإن لم يعلم.
أجيب: بأن بقاءها للشفع به شرط إلى وقت القضاء بالشفعة وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فكان كالموضوع له في قوة الدلالة.
م: (أو أبرأ عن الدين وهو لا يعلم به) ش: أي أو أبرأ رب الدين المديون والحال أنه لم يعلم بدينه يصح الإبراء؛ لأنه إسقاط كما لو سلم الشفعة صريحا، وهو لا يعلم المشفوعة ويوجب الشفعة.
وقال تاج الشريعة: يعني أبرأ الإنسان ولم يعلم بأنه غريمه ثم علم بذلك يسقط الدين. وفي شرح " الكافي ": رجل باع دارا ورضي الشفيع ثم جاء يدعي أنه لم يعلم أنه وجدها إلى موضع كذا أو ظن أنها أقرب أو أبعد ويدعي شفعته حين علم قال لا شفعة له؛ لأن صحة التسليم لا يقف على كون الدار معلومة لصحة الإبراء في الديون لا يتوقف على العلم بمقداره، فمتى صح التسليم كان هذا دعوى بعد التسليم فلا يسمع.
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له لأنه يمنع الزوال) ش: أي لأن خيار المشتري يمنع زوال الملك م: (فبقي الاتصال) ش: وهو السبب فلا تسقط شفعته.(11/376)
قال: ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له. ووكيل المشتري إذا ابتاع فله الشفعة. والأصل أن من باع أو بيع له لا شفعة له. ومن اشترى أو ابتيع له فله الشفعة؛ لأن الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو باع بعض داره شائعا فله الشفعة بما بقي، وبه قال الشافعي في وجه وأحمد في رواية، وكذا لو باع بعضه مقسوما وذلك لا يلي المبيعة؛ لأن الجوار قائم وإن كان مما يلي المبيعة بطلت شفعته لزوال الجوار.
[وكيل البائع إذا باع وهو الشفيع هل له الشفعة]
م: (قال: ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له) ش: أي قال القدوري: إن وكيل البائع إذا باع الدار والحال أنه هو الشفيع فلا شفعة له م: (ووكيل المشتري إذا ابتاع) ش: أي إذا اشترى م: (فله الشفعة) ش: أي فللمشتري وهو الشفيع الشفعة م: (والأصل) ش: أي الأصل في هذين الفصلين م: (أن من باع) ش: وهو وكيل البائع م: (أو بيع له) ش: أي أو أن من بيع لأحد وهو الموكل م: (فلا شفعة له) ش: أي لكل واحد منهما.
وقال الشافعي وأحمد: له الشفعة سواء كان وكيل البائع، أو وكيل المشتري لما أن حقوق العقد يرجع إلى الموكل، فبالعمل لغيره لا يسقط حقه الثابت شرعا. وقال بعض الشافعية والقاضي الحنبلي كمذهبنا.
وقال بعض الشافعية إن كان وكيل المشتري سقطت شفعته دون وكيل البائع. وكذا لو باع وشرط الخيار لغير المشتري وهو الشفيع فأجاز الشفيع بطلت شفعته عندنا خلافا للشافعي وأحمد.
م: (ومن اشترى) ش: وهو وكيل المشتري م: (أو ابتيع له) ش: أي واشترى لأجله بأن اشترى المضارب بمال المضاربة ورب المال شفيعها م: (فله الشفعة) ش: أي فلكل واحد فيهما الشفعة.
قال في " شرح الطحاوي ": بيان ذلك أن صاحب الدار إذا وكل شفيع الدار بالبيع فباعها فلا شفعة له؛ لأنه هو الذي باع. ولو أن مضاربا لرجل باع دارا من المضاربة ورب المال شفيعها بدار له أخرى فلا شفعة له لأنه بيع لأجله، وإن كان لا يملك بينة عن البيع، وإن كان المشتري وكل شفيع الدار بشرائها فاشتراها فله الشفعة، ألا ترى أنه لو اشترى دارا لنفسه وهو الشفيع كان له الشفعة، حتى لو جاء شفيع مثله أخذ منه نصف الدار. ولو جاء شفيع دونه فلا شفعة له وكذلك لو اشترى المضارب بمال المضاربة دارا ورب المال شفيعها كان له أن يأخذها بالشفعة؛ لأنه اشترى له.
ومن اشترى أو اشترى له فلا تبطل شفعته م: (لأن الأول) ش: وهو وكيل البائع الذي هو(11/377)
بأخذ المشفوعة يسعى في نقض ما تم من جهته وهو البيع، والمشتري لا ينقض شراؤه بالأخذ بالشفعة؛ لأنه مثل الشراء وكذلك لو ضمن الدرك عن البائع وهو الشفيع فلا شفعة له وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع فلا شفعة له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشفيع م: (بأخذ المشفوعة) ش: أي يأخذ الدار المشفوعة، يعني إذا أراد أن يأخذ سبب الشفعة م: (يسعى في نقض ما يتم من جهته وهو البيع) ش: لأن الأخذ بالشفعة ضرب شراء، وكونه مشتريا يناقض كونه بائعا فيصير ساعيا في نقض ما يتم به فلا يجوز.
م: (والمشتري لا ينقض شراؤه) ش: أي المشتري في الفصل الثاني: وهو الذي اشترى بالوكالة والحال أنه هو الشفيع لا ينتقض شراؤه م: (بالأخذ بالشفعة) ش: لأنه ليس فيه نقض ما يتم من جهته م: (لأنه) ش: أي لأن الأخذ بالشفعة م: (مثل الشراء) ش: لما قلنا أنه ضرب شراء فلا تناقض فيه، فافهم.
م: (وكذلك) ش: أي كوكيل البائع م: (لو ضمن الدرك) ش: أي لو ضمن المشتري تبعه الاستحقاق م: (عن البائع وهو الشفيع) ش: أي والحال أنه هو الشفيع م: (فلا شفعة له) ش: لأن تمام البيع إنما كان من جهته من حيث لم يرض المشتري إلا بضمانه فكان الأخذ بالشفعة سعيا في نقض ما يتم من جهته فلا يجوز.
قال في " الجامع الكبير ": رجل اشترى دارا على أن يضمن الشفيع الثمن عن المشتري أو ضمن المشتري الدرك أو اشترط البائع الخيار للشفيع وأمضى المبيع، فهذا كله تسليم للشفعة.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي في شرح " الجامع الكبير " إذا ضاع فضمن الشفيع الثمن من المشتري والشفيع حاضر وقبل في المجلس تقرر البيع بهذا الشرط استحسانا، والقياس أنه لا يجوز.
وذكر محمد القياس والاستحسان في كتاب البيوع من " المبسوط ". وأما لا شفعة للشفيع فلأنه صار كالبائع من وجه وكان المشتري من وجه إما كالبائع من وجه؛ لأن البيع يتم به وكذا له أن يطالب المشتري بأداء الثمن، وإما كالمشتري من وجه لأن الشراء يتم به، كذا البائع يطالبه بالثمن كما يطالب المشتري فوقع التردد، وفي ثبوت حق الشفعة فلا يثبت؛ لأن حق الشفعة متى دار بين أن يثبت وبين أن لا يثبت لا يثبت.
فإن قيل: البائع من كل وجه إنما لم يمكن له الشفعة؛ لأن إيجابها يؤدي إلى القضاء؛ لأن البيع لتمليك المبيع والشفعة لتملكه.(11/378)
لأن البيع تم بإمضائه بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري.
قال: وإذا بلغ الشفيع أنها بيعت بألف درهم فسلم ثم علم أنها بيعت بأقل أو بحنطة أو شعير قيمتها ألفا أو أكثر، فتسليمه باطل وله الشفعة؛ لأنه إنما سلم لاستكثار الثمن في الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهاهنا لا يؤدي إلى القضاء؛ لأن تمليك المبيع هاهنا ما كان من جهة الشفيع قيل له: الشفيع إذا كان كفيلا عن المشتري وبالثمن كان بمعنى البائع من وجه، وإيجاب الشفعة له يؤدي إلى القضاء من وجه في التمليك والتملك.
م: (وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره) ش: أي وكذلك لا شفعة إذا باع رجل دارا، وشرط الخيار لغيره وهو الشفيع م: (فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع) ش: أي والحال أن المشروط له الخيار هو الشفيع م: (فلا شفعة له؛ لأن البيع تم بإمضائه) ش: فإذا طلب بالشفعة يكون ساعيا لنقض ما تم من جهته فلا يجوز م: (بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري) ش: يعني لو شرط المشتري الخيار لغيره وهو الشفيع فأمضى البيع لا تبطل شفعته، لكن إذا طلبها قبل الإمضاء؛ لأنه لا يكون ساعيا في نقض ما تم من جهته بل أخذه بالشفعة مثل الشراء على ما مر.
[بلغ الشفيع أن الدار بيعت بألف درهم فسلم ثم علم أنها بيعت بأقل]
م: (قال: وإذا بلغ الشفيع أنها) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا بلغ الشفيع أن الدار م: بيعت بألف درهم فسلم) ش: الشفعة م: ثم علم أنها بيعت بأقل) ش: أي من الألف قيد به؛ لأنه لو علم أنها بيعت بأكثر سقطت شفعته كما علم؛ لأن الرضا بالتسليم بألف رضي بالتسليم بأكثر منه، ذكره في " المبسوط "، وبه قالت الثلاثة. وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة له في الوجهين م: (أو بحنطة أو شعير قيمتها ألف أو أكثر) ش: أي ثم علم أنها بيعت بحنطة أو شعير قيمة كل منهما ألف أو أكثر من ألف.
وقال السغناقي: تقييده بقوله: قيمتها ألف، أو أكثر غير مفيد، فإنه لو كان قيمتها أقل مما اشترى من الدراهم كان تسليمه باطلا أيضا؛ لأن إطلاق ما ذكره في " المبسوط "، و " الإيضاح " دليل عليه حيث قال فيهما: وكذلك لو أجبر أن الثمن عبد أو ثوب، ثم ظهر أنه كان مكيلا، أو موزونا فهو على شفعته، ولم يتعرض أن قيمة المكيل، أو الموزون أقل من قيمة الذي اشتراها به، وأكثر، وهكذا استدل في " الذخيرة " وقال: فلو أخبر أن الثمن شيء من ذوات القيم فسلم ثم ظهر أنه كان مكيلا أو موزونا فهو على شفعته، انتهى، وهذا يكلف كثيرا؛ لأن التسليم إذا لم يصح فيما إذا ظهر الثمن أكثر من المسمى، فلأن لا يصح إذا ظهر أقل كان أولى.
م: (فتسليمه باطل وله الشفعة لأنه إنما سلم لاستكثار الثمن في الأول) ش: أي فيما بلغه(11/379)
ولتعذر الجنس الذي بلغه وتيسر ما بيع به في الثاني إذ الجنس مختلف، وكذا كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب، بخلاف ما إذا علم أنها بيعت بعرض قيمته ألف أو أكثر؛ لأن الواجب فيه القيمة وهي دراهم أو دنانير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنها بيعت بألف ثم علم أنها بيعت بأقل م: (ولتعذر الجنس الذي بلغه) ش: أي أو أنه إنما سلم لتعذر الجنس الذي بلغه م: (وتيسر ما بيع به) ش: بأن كان دهقانا؛ لأنه يتيسر عليه أداء الحنطة ويتعسر عليه أداء الدراهم والدنانير م: (في الثاني) ش: أي فيما إذا بلغه أنها بيعت بألف ثم علم أنها بيعت بحنطة أو شعير م: (إذ الجنس مختلف) ش: لأن الدراهم غير الحنطة والشعير، وكذا الحنطة غير الشعير.
فإن قلت: الشفعة من قبل الإسقاط وأنها لا تتوقف، والفائت هنا هو الرضا.
قلت: الإسقاط لا يتحقق، إلا بعد وجود البيع وما وجد البيع الذي سلم الشفعة فيه؛ لأنه سلم البيع بالألفين، والبيع بالألف غيره، ولأن التسليم خرج جوابا للاختيار، والكلام متى خرج جوابا يكون كالمعاد في الجواب، فصار تقديره إن كان البيع كما قلت، سلمت الشفعة، وإلا فلا، فكان مقيدا به، فلا يثبت بدونه.
م: (وكذا كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب) ش: أي وكذا الحكم في كل مكيل بأن بلغه أنها بيعت بألف أو بيعت بحنطة ثم علم أنها بيعت بملح مثلا قيمته ألف أو أكثر فإنه على شفعته. وكذا في كل موزون بأن بلغه أنها بيعت بألف درهم أو بيعت بقنطار من العسل مثلا ثم علم أنها بيعت بقنطار من الزيت مثلا قيمته ألف أو أكثر فإنه على شفعته، وكذا في كل عددي متقارب بأن بلغه بأنه باعها بألف ثم علم أنها بيعت لا يجوز أو بيض قيمته ألف أو أكثر فإنه على شفعته.
م: (بخلاف ما إذا علم أنها بيعت بعرض قيمته ألف أو أكثر) ش: يعني إذا بلغ الشفيع أنها بيعت بألف درهم فسلم الشفعة ثم علم أنها بيعت بعرض قيمته ألف أو أكثر كان تسليمه صحيحا م: (لأن الواجب فيه) ش: أي في العرض م: (القيمة وهي دراهم أو دنانير) ش: فصار كما لو قيل بيعت بألف فسلم، ثم ظهر أكثر من ذلك وهو الذي ذكره اختيار شيخ الإسلام.
وفي " الذخيرة ": لو أخبره أن الثمن شيء من ذوات القيم فسلم ثم ظهر أنه شيء آخر من ذوات القيم بأن أخبر أن الثمن دار وظهر أنه عبد فجواب محمد أنه على شفعته من غير فصل.
قال شيخ الإسلام: هذا الجواب صحيح فيما إذا كان فيه ما ظهر أقل من قيمة ما أخبر، وغير صحيح فيما إذا كانت قيمته مثل قيمة ما أخبر؛ لأن الثمن إذا كان من ذوات القيم فالشفيع(11/380)
وإن بان أنها بيعت بدنانير قيمتها ألف فلا شفعة له، وكذا إذا كانت أكثر. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له الشفعة لاختلاف الجنس. ولنا: أن الجنس متحد في حق الثمنية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأخذ بقيمة الثمن دراهم أو دنانير، فكأنه أخبر أنه ألف درهم أو ألف دينار فسلم ثم ظهر مثل ما أخبر أو أكثر، وهناك كان التسليم صحيحا. ولو ظهر أقل كان على شفعته كذا هاهنا.
ولو كان على العكس بأن أخبر أن الثمن عبد قيمته ألف أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي هي من ذوات القيم ثم ظهر أنه دراهم أو دنانير.
فجواب محمد أنه على شفعته من غير فصل. قال بعض المشايخ: هذا الجواب محمول على ما إذا كان قيمة ما ظهر أقل ما لو كان مثله أو أكثر فلا شفعة له. وبعضهم قال: هذا جواب صحيح على الإطلاق بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأنه وإن كان يأخذ بالقيمة قد يصير مغبونا في ذلك؛ لأن التقويم بالظن يكون، وإنما سلم حتى لا يصير مغبونا، وهذا المعنى منعدم فيما إذا كان الثمن دراهم.
م: (وإن بان أنها بيعت بدنانير قيمتها ألف فلا شفعة له، وكذا إذا كانت أكثر) ش: يعني وإن ظهر أن الدار بيعت بدنانير قيمتها ألف درهم فيما إذا أخبر أنها بيعت بعوض قيمته أكثر من ألف م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له الشفعة لاختلاف الجنس) ش: يعني بين الدراهم والدنانير، ولهذا حل التفاضل بينهما، وبه قالت الثلاثة.
م: (ولنا: أن الجنس متحد في حق الثمينة) ش: بدليل تكميل نصاب أحدهما بالآخر والمكره بالبيع بالدراهم يكون مكرها على البيع بالدنانير ورب الدين إذا ظفر بدنانير المديون وحقه الدراهم له أن يأخذ، ومال المضاربة إذا صار دنانير عمل بهن رب المال، كما لو صار دراهم.
وإنما اعتبرنا جنسين في حق الربا حتى جاز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا؛ لأن الربا لا يجري باعتبار الثمنية، بل باعتبار الوزن والجنس، وهما مختلفان في هذا الوجه حقيقة. ولهذا لا يجري الربا بين الدراهم والحديد وإن وجد الاتحاد من حيث الوزنية.
وذكر في " الأسرار " خلاف أبي يوسف فقال: تبطل شفعته عند أبي يوسف استحسانا خلافا لهما.
وفي " الذخيرة " جعل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكر في الكتاب.(11/381)
قال: وإذا قيل له: إن المشتري فلان فسلم الشفعة ثم علم أنه غيره فله الشفعة لتفاوت الجوار. ولو علم أن المشتري هو مع غيره فله أن يأخذ نصيب غيره؛ لأن التسليم لم يوجد في حقه. ولو بلغه شراء النصف فسلم ثم ظهر شراء الجميع فله الشفعة؛ لأن التسليم لضرر الشركة ولا شركة وفي عكسه لا شفعة في ظاهر الرواية؛ لأن التسليم في الكل تسليم في أبعاضه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وإذا قيل له: إن المشتري فلان فسلم الشفعة ثم علم أنه غيره فله الشفعة لتفاوت الجوار) ش: أي قال القدوري، وبه قال الشافعي في وجه لا شفعة له، واختار الأول في شرح " الوجيز " م: (ولو علم أن المشتري هو مع غيره) ش: أي لو علم الشفيع أن المشتري فلان مع غيره بأن علم أن زيدا وعمرا قد كان ترك لأجل زيد م: (فله أن يأخذ نصيب غيره) ش: أي غير فلان وهو عمرو م: (لأن التسليم لم يوجد في حقه) ش: أي في حق الغير، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تبطل شفعته أصلا في نصيبه ولا في نصيب غيره م: (ولو بلغه شراء النصف) ش: أي ولو بلغ الشفيع أن نصف الدار بيع م: فسلم ثم ظهر شراء الجميع) ش: أي جميع الدار م: (فله الشفعة؛ لأن التسليم لضرر الشركة ولا شركة) ش: أي لأن التسليم شفعته كان لأجل ضرر الشركة ولا شركة هاهنا، فكانت له الشفعة في جميع الدار.
م: (وفي عكسه) ش: وهو أن يخبر بشراء الكل فظهر شراء النصف م: (لا شفعة في ظاهر الرواية؛ لأن التسليم في الكل تسليم في أبعاضه) ش: بفتح الهمزة جمع بعض، أي تسليم الشفعة في كل الدار تسليم في جميع أجزائها فلا تبقى له شفعة.
واحترز بقوله في ظاهر الرواية عن رواية الثمر بن حداد فإنه روى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال فله الشفعة في هذه الصورة كما في الصورة المذكورة، وبه قال الشافعي وأحمد لجواز أن يكون تسليم الكل لعدم قدرته على الثمن، وقد يتمكن على البعض بخلاف ما إذا سلم في البعض؛ لأن العجز عن أداء البعض عجز عن أداء الكل بالطريق الأولى.
وفي " الذخيرة ": فلو ظهر أنه اشترى النصف لا شفعة له، كذا قال شيخ الإسلام: هذا الجواب محمول على ما إذا كان ثمن النصف مثل ثمن الكل بأن أخبر أنه اشترى النصف بألف، أما لو ظهر أنه اشترى النصف بخمسمائة يكون على شفعته.(11/382)
فصل قال: وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له لانقطاع الجوار، وهذه حيلة، وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلمه إليه لما بينا. قال: وإذا ابتاع منها سهما بثمن ثم ابتاع بقيمتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني؛ لأن الشفيع جار فيهما إلا أن المشتري في الثاني شريك فيتقدم عليه، فإن أراد الحيلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل الحيل في الشفعة]
[باع دارا إلا بمقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع]
م: (فصل)
ش: هذا بيان الحيل التي تبطل بها الشفعة وهو محتاج إليه؛ لأن الشفيع ربما يكون فاسقا مؤذيا أو ظالما متعديا فيحتاج إلى الاجتناب عن جواره.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا باع دارا إلا بمقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له لانقطاع الجوار، وهذه حيلة) ش: أي في إسقاط الشفعة م: (وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلمه إليه) ش: وكذا لا شفعة له إذا وهب منه، أي من فلان هذا المقدار، أي قدر ذراع في طول الحد الذي يلي الشفيع وسلمه إليه، أي إلى الموهوب له مع طريقه حتى تصح الهبة؛ لأن ما وهب مقدار معين، والطريق إذا كان شائعا إلا أنه لا يحتمل القسمة وهبة المشاع فيما لا يحتملها جائزة فيصير شريكا في الطريق ثم يبيع بقية الدار منه بثمن الكل م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لانقطاع الجوار.
م: (قال: وإذا ابتاع منها سهما بثمن) ش: أي قال القدوري: وإن اشترى من الدار سهما بثمن معين م: ثم ابتاع بقيتها) ش: أي ثم اشترى بقية الدار م: (فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني؛ لأن الشفيع جار فيهما، إلا أن المشتري في الثاني شريك فيتقدم عليه) ش: لأن المشتري حيث اشترى الثاني كان هو شريكا؛ لأنه كما اشترى الجزء الأول صار شريكا للبائع فكان عند شراء الباقي شريكا له لا محالة، وحق الشفعة يثبت عند الشراء، وهو عند ذلك شريك، فكان مقدما على الجار.
وقال القدوري في " شرح مختصر الكرخي " قال أبو يوسف: وإن كان المشتري للنصف الثاني غير المشتري للنصف الأول فلم يخاصمه فيه حتى أخذ الجار النصف الأول والجار أحق بالنصف الثاني من المشتري الأول؛ لأن الملك للمشتري الأول زال عن النصف قبل انتقال الشفعة إليه فسقطت شفعته وبقي حق الجار فاستحق النصف الثاني بالجوار كما استحق الأول.
م: (فإن أراد الحيلة) ش: هذه حيلة ترجع إلى تقليد رغبة الشفيع الأول إلى الإبطال؛ لأن(11/383)
ابتاع السهم بالثمن إلا درهما مثلا، والباقي بالباقي. وإن ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عوضا عنه فالشفعة بالثمن دون الثوب؛ لأنه عقد آخر والثمن هو العوض عن الدار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الأول ليس للجار أن يأخذ؛ لأن مقدار ذارع من طول حد الشفيع لم يبع م: (ابتاع السهم بالثمن إلا درهما مثلا) ش: أي اشترى السهم الواحد من الدار وهو السهم الذي يلي الشفيع مثلا بالألف إلا درهما م: (والباقي بالباقي) ش: أي وابتاع الباقي من الدار بباقي الثمن وهو الدرهم.
تفسيره ما قاله في " شرح الطحاوي " وهو أن يبيع أولا من الدار أو من الكرم عشرها مشاعا بأكثر من الثمن ثم يبيع تسعة أعشارها ببقية الثمن، حتى إن الشفيع لا يثبت له حق الشفعة إلا في عشرها بثمنه، ولا تثبت له الشفعة في تسعة الأعشار؛ لأن المشتري حين اشترى تسعة أعشارها كان شريكا فيها بالعشر، وهذه الحيلة إنما تكون للخيار أو الخليط؛ لأن الشريك أولى منهما ولا يحتال بها للشريك؛ لأن الشفيع إذا كان شريكا كان له أن يأخذ نصف قيمة الأعشار أيضا بقليل الثمن.
وإن كانت الدار للصغير فإن بيع العشر منهما بكثير الثمن يجوز، وبيع تسعة الأعشار بقليل الثمن لا يجوز؛ لأن بيع مال الصغير بأقل من قيمته قدر ما لا يتغابن الناس فيه لا يجوز، فيكون في هذه الحيل مضرة المشتري وهو أن يلزمه العشر، ولا يجوز شراؤه في تسعة الأعشار. وقد يجوز أن يحتال بهذه الحيلة في دار الصغير وهو أن يبيع من داره جزءا من مائة جزء.
أو يبيع جزءا من ألف جزء وبثمن أكثر من قيمته ثم يبيع بقية الدار بمثل ثمنه، فإنما تثبت له الشفعة في الجزء الأول خاصة، وهذه الحيلة للجار والخليط، فأما إذا كان الشفيع شريكا فإنه يأخذ نصف البقية بنصف.
م: (وإن ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عوضا عنه فالشفعة بالثمن دون الثوب) ش: هذا لفظ القدوري أيضا وإن اشترى الدار بثمن ثم دفع إلى البائع ثوبا عوضا عن الثمن فالشفعة تكون بالثمن دون الثوب م: (لأنه عقد آخر) ش: أي لأن دفع الثمن عن الثمن عقد آخر م: (والثمن هو العوض عن الدار) ش: فتكون الشفعة بالثمن دون الثوب؛ لأن الشفعة تثبت بمثل الثمن الذي بيعت الدار به. ألا ترى أن البائع لو وهب للمشتري الثمن أو اشترى به دارا أخذها الشفيع بالمسمى حال العقد ولا يأخذ قيمة الدار الثانية لأنها ملكت العقد الثاني، كذلك في مسألتنا.(11/384)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذه حيلة أخرى تعم الجوار والشركة فيباع بأضعاف قيمته ويعطى بها ثوب بقدر قيمته، إلا أنه لو استحقت المشفوعة يبقى كل الثمن على مشتري الثوب لقيام البيع الثاني فيتضرر به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذه حيلة أخرى تعم الجوار والشركة) ش: أي قال صاحب " الهداية " هذه المسألة وهي المسألة التي ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عن الثمن حيلة أخرى يصلح للجوار والشركة، يعني يحتال بها في حق الجوار والشريك بخلاف الحيلتين الأولتين ذكرهما القدوري بقوله: وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع.. إلى آخره.
وبقوله: وإن ابتاع منها سهما ثم ابتاع بقيتها.. إلى آخره فإنهما محتال بهما في حق الجار لا الشريك.
ثم بين المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كيفية هذه الحيلة بقوله م: (فيباع بأضعاف قيمته) ش: أي يباع المبيع بأضعاف قيمة المبيع م: (ويعطى بها ثوب بقدر قيمته) ش: أي ثم يعطي المشتري بمقابلة ما وجب عليه من أضعاف القيمة ثوبا يكون ذلك الثوب بقدر قيمة المبيع في الواقع بيان، أي يباع المبيع بأضعاف قيمة المبيع، ذلك ما ذكره في " شرح الطحاوي ": أن يبيع ما يساوي ألفا بألفين وينقد من الثمن ألف درهم إلا عشرة دراهم ثم يبيع بألف وعشرة عرضا يساوي عشرة دراهم فحصلت الدار للمشتري بألف درهم في الحاصل، ولكن الشفيع لا يأخذها إلا بألفي درهم.
والأفضل للبائع أن يجعل مكان العرض دينارا يساوي عشرة دراهم، هذا هو الأحوط، حتى إن الدار لو استحقت عن يد المشتري رجع على البائع بمثل ما أعطاه؛ لأنه يبطل الصرف بالاستحقاق.
وهذه الحيلة لجميع الشفعاء لو كان باع ببقية الثمن عوضا سوى الذهب يساوي عشرة دراهم كما ذكرنا، فعند الاستحقاق يرجع المشتري على البائع بألفي درهم ويكون فيه مضرة على البائع.
م: (إلا أنه) ش: استثنى عن قوله: نعم الجوار والشركة أو من قوله، وهذه أخرى، أعني أنها حيلة عامة، إلا أن فيها وهم وقوع الضرر على البائع على تقدير ظهور المستحق يستحق الدار، وهو معنى قوله: م: (لو استحقت المشفوعة) ش: أي الدار المشفوعة م: (يبقى كل الثمن على مشتري الثوب) ش: وهو بائع الدار م: (لقيام البيع الثاني فيتضرر به) ش: أي يتضرر بائع الدار برجوع مشتري الدار عليه بكل الثمن الذي هو أضعاف قيمة الدار، وذلك لأن باستحقاق الدار تبطل المبايعة التي جرت بين مشتري الدار وبائعها في الثوب، فيثبت(11/385)
والأوجه أن يباع بالدراهم الثمن دينار، حتى إذا استحق المشفوع يبطل الصرف فيجب رد الدينار لا غير.
قال: ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باستحقاق الدار لمشتريها الرجوع على البائع بثمن الدار وثمنها ما يكون مذكورا في العقد الأول، فيتضرر بذلك البائع.
م: (والأوجه) ش: يعني الوجه في هذه المسألة أن لا يتضرر بائع الدار م: (أن يباع بالدراهم الثمن دينار) ش: يعني تصارف، وقوله: الثمن بالجر صفة للدراهم، وقوله: دينار بالرفع مسند إلى قوله يباع مفعول ناب عن الفاعل م: (حتى إذا استحق المشفوع يبطل الصرف) ش: وهو بيع الدينار بالدراهم الثمن م: (فيجب رد الدينار لا غير) ش: أي يجب على البائع رد الدينار الذي وقع به الصرف لا غير، بيان ذلك ما ذكره في " قاضي خان ": أن يبيع الدار بعشرين ألفا إذا أراد أن يبيعها بعشرة آلاف درهم ثم يقبض الشفعة إلا قدر درهم وخمسمائة، ويقبض بالباقي عشرة دنانير أو أقل أو أكثر.
ولو أراد الشفيع أن يأخذها بعشرين ألفا فلا يرغب في الشفعة، ولو استحقت الدار لا يرجع المشتري بعشرين ألفا، بل يرجع بما أعطاه، لأنه استحقت الدار ظهر أنه لم يكن عليه ثمن الدار فيبطل الصرف، كما لو باع العقار بالدراهم التي للمشتري على البائع ثم تصادقا أنه لم يكن عليه دين فإنه يبطل الصرف.
[الحيلة في إسقاط الشفعة]
م: (قال: ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: اعلم أن الجملة في هذا الكتاب إما أن يكون للرفع بعد الوجوب أو لدفعه.
فالأول: مثل أن يقول المشتري للشفيع أما أولها لك فلا حاجة لك في الأخذ فيقول نعم تسقط به الشفعة، وهو مكروه بالإجماع.
والثاني: مختلف فيه، قال بعض المشايخ غير مكروه عند أبي يوسف ومكروه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الذي ذكره في الكتاب، وقال في " شرح الطحاوي ": قيل: إن الاختلاف في الحيلة الإبطال قبل الوجوب، فأما بعد الوجوب فمكروه بالإجماع.
وقال في " الواقعات الحسامية " في إبطال الشفعة على وجهين أما إن كانت بعد الثبوت أو قبل الثبوت
ففي الوجه الأول: مكروه بالاتفاق نحو أن يقول المشتري للشفيع: اشتره مني وما أشبه ذلك، لأنه إبطال لحق واجب.
وفي الوجه الثاني: لا بأس به سواء كان الشفيع عدلا أو فاسقا هو المختار؛ ولأنه ليس(11/386)
وتكره عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه منع عن إثبات الحق فلا يعد ضررا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإبطال ومن هذا الجنس ثلاث مسائل، إحداها هذه، والثانية الحيلة في منع وجوب الزكاة.
والثالثة: الحيلة لدفع الربا بأن باع مائة درهم وفلسا بمائة وعشرين درهم.
وقال الخصاف في أول كتاب "الحيل": لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز. وأما الحيلة بشيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج إلى الحلال، مما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يموته، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة.
م: (وتكره عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي. وعند أحمد بالحيلة لا تسقط الشفعة. وفي صورة الموهوب أو جهالة الثمن يأخذ بثمن المثل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الخديعة» .
قلنا: الحيلة لدفع الضرر عن نفسه مشروع بالآية والحديث، وإن كان الغير يتضرر به في ضمنه فكيف إذا لم يتضرر م: (لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه) ش: أي الضرر.
م: (ولأبي يوسف: أنه منع عن إثبات الحق) ش: أي في التحيل منع عن وجوب الحق عليه م: (فلا يعد ضررا) ش: فلا يكره كما لا تكره الحيلة في إسقاط الربا م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (الحيلة في إسقاط الزكاة) ش: فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره، وعند محمد: تكره.
وقيل: الفتوى على قول أبي يوسف في الشفعة، وعلى قول محمد في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/387)
مسائل متفرقة
قال: وإذا اشترى خمسة نفر دارًا من رجل، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم، وإن اشتراها رجل من خمسة أخذها كلها أو تركها، والفرق أن في الوجه الثاني بأخذ البعض تتفرق الصفقة على المشترى فيتضرر به زيادة الضرر. وفي الوجه الأول يقوم الشفيع مقام أحدهم فلا تتفرق الصفقة. ولا فرق في هذا بين ما إذا كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل متفرقة في الشفعة]
[اشترى خمسة نفر دارا من رجل ولها شفيع]
م: (مسائل متفرقة) ش: ارتفاع مسائل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذه مسائل، وإنما منع التنوين لأنه على صيغة منتهى الجموع كمساجد ودراهم. ومتفرقة بالرفع صفته. ويجوز النصب على تقدير خذ مسائل متفرقة أو هاك أو نحوهما ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " من مسائل الشفعة إلا هذه المسائل.
م: (قال: وإذا اشترى خمسة نفر دارا من رجل فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم) ش: أي قال في " الجامع الصغير " وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في خمسة نفر اشتروا من رجل دارا ولها شفيع فأراد أن يأخذ نصيب أحدهم قال له ذلك، فإن اشترى واحد من الخمسة لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب بعضهم دون بعض، انتهى.
وذكره محمد في بيوع " الجامع الصغير ".
م: (وإن اشتراها رجل من خمسة أخذها كلها أو تركها) ش: وبه قال مالك والقاضي الحنبلي والشافعي في وجه. وقال الشافعي في الأصح له أن يأخذ حصة أحدهم، وبه قال أحمد كما في الفصل الأول، ولا خلاف في فصل الأول م: (والفرق) ش: بين الفصلين م: (أن في الوجه الثاني بأخذ البعض تتفرق الصفقة على المشتري فيتضرر به) ش: أي تتفرق الصفقة عليه م: (زيادة الضرر) ش: وهي زيادة ضرر التشقيص، فإن أخذ الملك منه ضرر، وضرر التشقيص زيادة على ذلك، والشفعة شرعت لدفع ضرر الدخيل فلا تشرع على وجه يتضرر به الدخيل ضررا زائدا.
م: (وفي الوجه الأول يقوم الشفيع مقام أحدهم) ش: لأنه إذا أخذ نصيب أحدهم فقد ملك عليه بجميع ما اشترى، وقام مقامه م: (فلا تتفرق الصفقة) ش: على المشتري هذا إذا كان الثمن منقودا، فأما إذا لم ينقدوا الثمن، فأراد الشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم من البائع بحصتها من الثمن ليس له ذلك لما فيه من تفريق الصفقة على البائع.
م: (ولا فرق في هذا) ش: أي في أخذ الشفيع نصيب أحد المشترين م: (بين ما إذا كان(11/388)
قبل القبض أو بعده هو الصحيح، إلا أن قبل القبض لا يمكنه أخذ نصيب أحدهم إذا نقد ما عليه ما لم ينقد الآخر حصته، كيلا يؤدي إلى تفريق اليد على البائع بمنزلة أحد المشترين بخلاف ما بعد القبض؛ لأنه سقطت يد البائع، وسواء سمى لكل بعض ثمنا أو كان الثمن جملة؛ لأن العبرة في هذا لتفريق الصفقة لا للثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قبل القبض) ش: أي قبل قبض مشتري الدار م: (أو بعده) ش: أي وبعد القبض م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روى القدوري عن أصحابنا، والحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المشتري إذا كانا اثنين لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم قبل القبض، لأن التملك يقع على البائع فتتفرق عليه الصفقة.
وله أن يأخذ نصيب أحدهم بعد القبض، لأن التملك حينئذ يقع على المشتري وقد أخذ منه جميع ملكه م: (إلا أن قبل القبض) ش: استثني من قوله: ولا فرق في هذا يعني أن الشفيع أخذ نصيب أحد المشتريين قبل القبض وبعده، إلا أن قبل القبض.
م: (لا يمكنه أخذ نصيب أحدهم) ش: أي لا يمكن الشفيع أخذ نصيب أحد المشتريين م: (إذا نقد) ش: أحد المشتريين م: (ما عليه ما لم ينقد الآخر حصته؛ كيلا يؤدي إلى تفريق اليد على البائع) ش: يعني إذا قبضه نصيب أحدهم، عند عدم نقد أحد المشتريين ما عليه من الثمن يؤدي إلى تفريق الصفقة إلى البائع كما ذكرناه عن قريب م: (بمنزلة أحد المشتريين) ش: إذ نقد ما عليه الثمن ليس له أن يقبض نصيبه من الدار حتى يؤدي كلهم جميع ما عليهم من الثمن لئلا يلزم تفريق اليد على البائع.
م: (بخلاف ما بعد القبض) ش: أي قبض مشتري الدار م: (لأنه سقطت يد البائع) ش: فلا يلزم تفريق اليد عليه م: (وسواء سمى لكل بعض ثمنا أو كان الثمن جملة) ش: أي سواء سمى البائع بكل جزء من أجزاء المبيع ثمنا، أو كان الثمن جملة واحدة به أن يكون البيع منفعة.
م: (لأن العبرة في هذا لتفريق الصفقة، لا للثمن) ش: أي لا تفريق الثمن، حتى لو تفرقت الصفقة، من الابتداء فيما إذا كان المشتري واحدا، والبائع اثنين، واشترى نصيب كل واحد منهما بصفقة على حده كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، وإن لحق المشتري، ضرر عيب الشركة؛ لأنه رضي بهذا المبيع حتى اشترى كذلك.
وذكر التمرتاشي: محالا إلى " الجامع " في اتحاد الصفقة، أن يتحد العاقد، والعقد، والثمن، أو يتعدد العاقد، والعقد، والثمن متحدان بأن قال البائع للمشترين: بعت منكما، أو قال البائعان للمشتري بعنا منك تتحد الصفقة، لأن ما يوجب الاتحاد راجح وهو العقد(11/389)
وهاهنا تفريعات ذكرناها في " كفاية المنتهي "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثمن والعقد والعاقد واحد بأن قال بعت هذا بكذا وهذا بكذا وقال: اشترى ذلك، أما لو تفرق الثلاثة تتفرق الصفقة، وإن أتحد العقد وتفرق العاقد والثمن. قيل: تفريق الصفقة لرجحان جنبة التفرق. وقيل: لا يتفرق، فقيل: الأول قياس، وهو قولهما، والثاني: استحسان، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وهاهنا تفريعات ذكرناها في " كفاية المنتهي ") ش: تلك التفريعات ذكرها الكرخي في "مختصره " وبوب عليها بابا فقال: وكذلك إذا كان الشراء بوكالة فوكل رجل رجلين بشراء دار ولهما شفيع فللشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشترين. وإن كان الموكل رجلين والوكيل رجلا واحدا لم يكن له أن يأخذ نصيب أحد الموكلين. قال ابن سماعة عن محمد في "نوادره" ذلك، وقال: إنما أنظر إلى المشتري ولا أنظر إلى المشترى له.
قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك لو اشترى بعشرة فليس له أن يأخذ شيئا دون شيء، ولو اشترى عشرة لرجل كان للشفيع أن يأخذ من واحد ويدع الآخرين، أو يأخذ من اثنين أو ثلاثة ويدع البقية.
وكذا روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": في الوكيل والوكيلين في الشراء وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة فجاء شفيع لهما جميعا، فأراد أن يأخذ أحدهما دون الأخرى فليس له ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال الحسن بن زياد عن زفر: الشفيع بالخيار إن شاء أخذهما وإن شاء أحدهما دون الأخرى وهذا قول الحسن وإذا كان الشفيع شفيعا لأحدهما دون الأخرى وقع البيع عليهما صفقة واحدة فإن الحسن بن أبي مالك روى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ليس له إلا أن يأخذ الذي تجاور بالحصة، وكذلك روى هشام عن محمد في رجل اشترى دارين مثلا صفين وله جار يلي إحداهما قال: فإنه يأخذ التي تليه بالشفعة ولا شفعة له في الأخرى. وقال هشام: قلت لمحمد ما يقول في عشرة أقرحة مثلا صفقة لرجل يلي واحد منها أرض إنسان فبيعت العشرة الأقرحة، فقال للشفيع أن يأخذ القراح الذي يليه وليس له في بقيتها شفعة. قلت له: ثم قال لأن كل قراح على حد. قلت: ليس بينهما طريق ولا نهر، وإنما هي مرور أو مسناة، قال: لا شفعة له إلا فيما يليه.
وقال هشام: قلت لمحمد في قرية خالصة لرجل باعها والقرية عندنا على ما فيها من الدور والأرضين والكروم وقال محمد: ولكن القرية عندنا على بيوت القرية خالصة.
قلت لمحمد: باع رجل هذه القرية بدورها وكرومها وأرضها وناحية منها تلي إنسانا قال محمد: للشفيع أن يأخذ القراح الذي يليه قلت: والكل شفيع أن يأخذ القراح الذي يليه(11/390)
قال: ومن اشترى نصف دار غير مقسوم فقاسمه البائع أخذ الشفيع النصف الذي صار للمشتري أو يدع، لأن القسمة من تمام القبض لما فيها من تكميل الانتفاع، ولهذا يتم القبض بالقسمة في الهبة، والشفيع لا ينتقض القبض، وإن كان له نفع فيه بعود العهدة على البائع، فكذا لا ينقض ما هو من تمامه
بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة وقاسم المشتري الذي لم يبع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأوشك أن يأخذوا حواشي القرية وذلك أردأ أرضها ويبقى وسط القرية للمشتري فلم ينكر محمد، وروايته به يقول: وقال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي وروى الحسن بن زياد في رجل اشترى قرية بأرضها وأرضها أقرحة متفرقة، ولا حد للأقرحة جاز، قال: يأخذ القرية كلها بالشفعة وليس له أن يأخذ ذلك القراح ويدع ما سواه.
وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أبا حنيفة كان يقول: ليس له أن يأخذ إلا القراح الذي هو ملاصقه، لأن هذه الأقرحة مختلفة. قال والذي يجيء على قياسه أن هذه الأقرحة إذا كانت من صفقة واحدة أو قرية واحدة فهي كقراح واحد ودار واحدة، وهذا يدل على أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يقول مثل قول محمد ثم رجع فقال: يأخذ الشفيع الجميع، لأنه ليتضرر بتفريعه كالدار الواحدة.
[اشترى نصف دار غير مقسوم فقاسمه البائع]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى نصف دار غير مقسوم) ش: أي حال كون النصف غير مقسوم م: (فقاسمه البائع أخذ الشفيع النصف الذي صار للمشتري أو يدع) ش: أي أو يترك يعني ليس له أن ينقض القسمة بأن يقول للمشتري ادفع إلى البائع حتى آخذ منه، لأنه سواء كانت القسمة بحكم أو بغيره م: (لأن القسمة من تمام القبض لما فيه من تكميل الانتفاع) ش: لأن القسمة في غير المكيل، والموزون إقرار وقبض بعين الحق من وجه، ومبادلة من وجه، والشفيع يملك بمقتضى المبادلة التي يحدثها المشتري ولا يملك نقض القبض.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون القسمة من تمام القبض م: (يتم القبض بالقسمة في الهبة) ش: يعني أن هبة المشاع فيما يقسم فاسدة، ومع هذا لو قسم وسلم جاز م: (والشفيع لا ينقض القبض) ش: ليعيد الدار إلي البائع م: (وإن كان له نفع فيه) ش: أي في النقض م: (بعود العهدة) ش: وهي ضمان الاستحقاق م: (على البائع، فكذا لا ينقض ما هو من تمامه) ش: أي من تمام القبض وهو القسمة، وفي " الذخيرة ": تصرفات المشتري في الدار المشفوعة صحيحة إلى أن يحكم بالشفعة؛ لأن التصرف يعتمد الملك، والملك له وللشفيع حق الأخذ، غير أن الشفيع ينقض كل تصرف إلا القبض، وما كان من تمام القبض، والقسمة من تمام القبض.
[باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة وقاسم المشتري الذي لم يبع]
م: (بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة، وقاسم المشتري الذي لم يبع)(11/391)
حيث يكون للشفيع نقضه؛ لأن العقد ما وقع مع الذي قاسم فلم تكن القسمة من تمام القبض الذي هو حكم العقد، بل هو تصرف بحكم الملك لينقضه الشفيع كما ينقض بيعه وهبته، ثم إطلاق الجواب في الكتاب يدل على أن الشفيع يأخذ النصف الذي صار للمشتري في أي جانب كان. وهو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المشتري لا يملك إبطال حقه بالشفعة.
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إنما يأخذه إذا وقع في جانب الدار التي يشفع بها لأنه لا يبقى جارا فيما يقع في الجانب الآخر.
قال: ومن باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة، وكذا إذا كان العبد هو البائع فلمولاه الشفعة، لأن الأخذ بالشفعة تملك بالثمن فينزل منزلة الشراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الشريك الذي لم يبع، قوله: المشتري فاعل لقوله: قاسم، وقوله: الذي لم يبع في محل النصب على المفعولية أي قاسم المشتري الدار مع الشريك الذي للبائع ولم يبع م: (حيث يكون للشفيع نقضه، لأن العقد ما وقع على الذي قاسم فلم تكن القسمة من تمام القبض الذي هو حكم العقد) ش: لأن القسمة ما جرت بين المتعاقدين فلم يمكن جعلها قبضا بجهة العقد وتكميلا للقبض، فاعتبرت مبادلة وللشفيع أن ينقض المبادلة م: (بل هو تصرف بحكم الملك لينقضه الشفيع كما ينقض بيعه وهبته) ش: أي بل المشتري تصرف بحكم الملك فكان مبادلة، وللشفيع أن ينقض المبادلة كما ينقض البيع والهبة وغيرهما من التصرف.
م: (ثم إطلاق الجواب في الكتاب) ش: أي في " الجامع الصغير "، وإطلاق الجواب حيث قال:
م: (يدل على أن الشفيع يأخذ النصف الذي صار للمشتري في أي جانب كان، وهو المروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المشتري لا يملك إبطال حقه بالشفعة، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إنما يأخذه إذا وقع في جانب الدار التي يشفع بها؛ لأنه لا يبقى جارا فيما يقع في الجانب الآخر)
ش: أي أن الشفيع إنما يأخذ النصف والباقي ظاهر.
[باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة]
م: (قال: ومن باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورتها فيه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب، عن أبي حنيفة في الرجل يبيع الدار وله عبد عليه دين هو شفيعها قال: له الشفعة.
م: (وكذا إذا كان العبد هو البائع فلمولاه الشفعة؛ لأن الأخذ بالشفعة تملك بالثمن فينزل منزلة الشراء) ش: أي فينزل الآخر بالشفعة بمنزلة الشراء، ولو اشترى أحدهما من آخر يجوز، لأنه يفيد ملك اليد، فكذا الأخذ بالشفعة. وعند الثلاثة لا شفعة له، لأنه بائع أو مشتر لمولاه كما لم يكن عليه دين.(11/392)
وهذا لأنه مفيد لأنه يتصرف للغرماء، بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيعه لمولاه ولا شفعة لمن يبيع له.
قال: وتسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي جواز أخذه بالشفعة م: (لأنه مفيد) ش: أي لأن أخذه بالشفعة مفيد م: (لأنه يتصرف للغرماء) ش: لا للمولى م: (بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيعه لمولاه ولا شفعة لمن يبيع له) ش: أي لأجله، وقد مر أن من بيع له لا شفعة له. وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي "في شرح الكافي ": وإذا باع الرجل دارا وله عبد تاجر وهو شفيعها فإن كان عليه دين فله الشفعة، لأنه لا يأخذ لمولاه بل لنفسه، فكان مفيدا. ألا ترى أنه لو اشترى شيئا من مولاه كان جائزا إذا كان عليه دين، فكذا الأخذ بالشفعة، وإن لم يكن عليه دين لا يصح، لأنه يأخذها لمولاه وهو بائع.
وكذا إذا باع العبد والمولى شفيعها فهو على هذا التقسيم، ثم قال شيخ الإسلام: وإذا باع المولى دارا ومكاتبه شفيعها فله الشفعة، لأنه أقرب إلى الأجانب من العبد المأذون، فإنما يأخذ لنفسه فكان أخذه الدار بالشفعة مفيدا.
[تسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير]
م: (قال: وتسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: أي قال في " الجامع الصغير " قال الكرخي في "مختصره": وإذا بيعت الدار، وشفيعها صبي، وهو في حجر أبيه، أو وصي أبيه، أو وصي جده إلى أبيه أو من ولاه عليه إمام أو حاكم فكل واحد منهم في حال ولايته أن يطالب بشفعة الصغير أو يأخذ الدار بالشفعة ويسلم ثمنها من مال الصغير. فإن سكت أحد من هؤلاء في حال ما له المطالبة عن طلب الشفعة للصغير بطلت شفعة الصغير. وكذلك إن سلم الشفعة بالقول فهو تسليم جائز ولا شفعة للصغير إذا بلغ في الوجهين جميعا وليس لأحد من الأب ولاية على الصغير ثم وصي الأب، ثم الجد أب الأب، ثم وصي الجد. فإن لم يكن واحد من هؤلاء فمن ولاه الإمام والحاكم وتسليم الشفعة من هؤلاء جائز في حال ولايتهم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال ابن أبي ليلي وزفر ومحمد إن ذلك لا يجوز للصغير على شفعته إذا بلغ، انتهى.
وفي " الدراية ": الشفعة تثبت للصغير عند أكثر أهل العلم. وقال ابن أبي ليلي: لا شفعة للصغير وبه قال النخعي والحارث العكلي، لأن الصبي لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الإضرار بالمشتري ولا يملك وليه الأخذ لأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ وللجمهور عموم الأخبار وقد مر الكلام فيه فيما مضى مستقصى.(11/393)
وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: هو على شفعته إذا بلغ قالوا: وعلى هذا الخلاف إذا بلغهما شراء دار بجوار دار الصبي فلم يطلب الشفعة. وعلى هذا الخلاف تسليم الوكيل بطلب الشفعة في رواية كتاب "الوكالة" وهو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال محمد وزفر - رحمهما الله -: هو على شفعته إذا بلغ) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية إذا كان النظر في الأخذ. وعن أحمد في ظاهر مذهبه أنه لا يسقط سواء ترك مع النظر وعدمه أو عفا، لأنه حق ثابت له فيملك أخذه ولا يسقط بإسقاط غيره.
م: (قالوا: وعلى هذا الخلاف) ش: أي قال المشايخ وعلى الخلاف المذكور م: (إذا بلغهما) ش: أي الأب والوصي م: (شراء دار بجوار دار الصبي فلم يطلب الشفعة) ش: أي الشفعة مع إمكان الطلب يسقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد ومن تبعه حتى إذا بلغ الصبي لم يكن له حق الأخذ بالشفعة عندهما خلافا لمحمد.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (تسليم الوكيل بطلب الشفعة في رواية كتاب "الوكالة") ش: صورته أن يوكل وكيلا بطلب الشفعة فسلم الوكيل الشفعة فتسليمه صحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد. وفي " المبسوط " إذا وكل وكيلا بطلب الشفعة فسلم الوكيل الشفعة وأقر بأن موكله قد سلم فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يصحان في مجلس القاضي، وعند أبي يوسف في المجلس وغيره. وكان أبو يوسف يقول أولا: لا يصحان في المجلس وغيره ثم رجع وقال: يصحان فيهما، ومحمد مع أبي حنيفة في إقراره في مجلس القاضي، إذا سلم بنفسه. أما الإقرار عليه فلا يصح أصلا، ويقول محمد قال زفر والشافعي والباقي، قوله بطلت الشفعة يتعلق بقوله: الوكيل لا بقوله: تسليم الوكيل فافهم.
وأراد بكتاب الوكالة " المبسوط " م: (هو الصحيح) ش: احتراز عما روي عن محمد أنه مع أبي حنيفة في جواز تسليم الوكيل بالشفعة خلافا لأبي يوسف، وقال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرح "الكافي " وإذا وكل وكيلا بطلب الشفعة فسلم الوكيل الشفعة عند القاضي فتسليمه جائزا وإن سلم عند غيره لم يكن تسليما وإن أقر عند القاضي أن الذي وكل به سلم الشفعة جائز إقراره عليه، وإن أقر عند غير القاضي لم يجز استحسانا، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يجوز إقراره عليه. وإن أقر عند غير القاضي ولا تسليمه ثم رجع وقال بجواز إقراره بتسليم الشفعة وعند القاضي عند غيره، وعلى الذي وكله.
ثم قال شيخ الإسلام: وذكر في كتاب "الوكالة" قال محمد: لا يجوز تسليم الوكيل الشفعة عند القاضي، ويجوز إقراره على موكله بالتسليم سوى في هذه الرواية بين التسليم(11/394)
لمحمد وزفر: أنه حق ثابت للصغير فلا يملكان إبطاله كديته وقوده، ولأنه شرع لدفع الضرر، فكان إبطاله إضرارا به، ولهما: أنه في معنى التجارة فيملكان تركه. ألا ترى أن من أوجب بيعا للصبي صح رده من الأب والوصي، ولأنه دائر بين النفع والضرر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبين إقراره بالتسليم بنفسه، والأصح ما ذكر في الوكالة، لأن الوكيل بالشفعة وكيل بالخصومة والوكيل بالخصومة يملك الإقرار على موكله في مجلس القاضي ولا يملك في غير مجلس القاضي عند أبي حنيفة ومحمد. وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول زفر لا يملك إلا عند القاضي ولا عند غيره، وفي قوله الآخر يملك عند القاضي وعند غير القاضي.
أما التسليم فمعزل من الجواب في شيء بل هو تصرف مبتدأ، وإنما لا يصح ذلك عند محمد، فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف يصح بناء على أصل آخر، وهو أن من ملك أخذ الدار بالشفعة يملك التسليم. وعند محمد لا يملك بمنزلة الأب والوصي إنما يملكان تسليم شفعة الصبي عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد وزفر لا يجوز، وقد نص على الخلاف فيه، وهذا في معناهما.
م: (لمحمد وزفر: أنه حق ثابت للصغير) ش: أي أن الشفعة حق ثابت متقرر، وتذكير الضمير باعتبار طلب الشفعة م: (فلا يملكان) ش: أي الأب والوصي م: (إبطاله) ش: أي إبطال حق ثابت م: (كديته وقوده) ش: أي قصاصه وقوله ديته في بعض النسخ بالياء آخر الحروف ثم التاء المثناة من فوق بدلالة قود عليه والنسخ الصحيحة المشهورة كديته بالياء آخر الحروف ثم النون، لأنه أعلم وأوفق لرواية " المبسوط " فإن قال: لا تثبت الولاية لهما في إسقاطه كإبراء الدين والعفو عن القصاص الواجب له وإعتاق عبده م: (ولأنه) ش: أي ولأن طلب الشفعة م: (شرع لدفع الضرر فكان إبطاله إضرارا به) ش: أي فكان إبطال دفع الضرر إضرارا بالصبي.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أنه) ش: أي الأخذ بالشفعة م: (في معنى التجارة) ش: لأنه يملك العين بالثمن وهو على الشراء م: (فيملكان تركه) ش: أي يملك الأب والوصي ترك الاتجار، فكذا يملكان ترك الشفعة م: (ألا ترى) ش: توضيحه لما قبله م: (أن من أوجب بيعا للصبي) ش: بأن قال رجل: بعت هذا العبد لفلان الصبي بكذا م: (صح رده من الأب الوصي) ش: أي رده من الأب والوصي، أي رد هذا الإيجاب سواء كان الراد أبا أو وصيا. م: (ولأنه دائر بين النفع والضرر) ش: دليل آخر يتضمن الجواب عن الدية والقود، أي ولأن ترك الشفعة أو طلبها دائر بين النفع بأن بقي الثمن على ملكه الضرر بأن يحصل الصبي إذ الدخيل في الترك على الترك على ما نبينه الآن، بخلاف الدية والقود، فإن تركها ترك بلا(11/395)
وقد يكون النظر في تركه ليبقى الثمن على ملكه والولاية نظرية فيملكانه، وسكوتهما كإبطالهما لكونه دليل الإعراض. وهذا إذا بيعت بمثل قيمتها، فإن بيعت بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه قيل: جاز التسليم بالإجماع لأنه تمحض نظرا. وقيل: لا يصح بالاتفاق لأنه لا يملك الأخذ فلا يملك التسليم كالأجنبي، وإن بيعت بأقل من قيمتها محاباة كثيرة، فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصح التسليم منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عوض فيكون إضرارا به.
م: (وقد يكون النظر في تركه) ش: أي في ترك طلب الشفعة م: (ليبقى الثمن على ملكه) ش: أي على ملك الصبي م: (والولاية نظرية) ش: أي ولاية الأب والوصي نظرية، يعني لأجل النظر في حقه م: (فيملكانه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيملك الأب والوصي ترك طلب الشفعة م: (وسكوتهما) ش: أي سكوت الأب والوصي عن طلب الشفعة حين العلم ببيع الدار م: (كإبطالهما) ش: صريحا م: (لكونه دليل الإعراض) ش: أي لكون السكوت عن الطلب دليل الإعراض عنه مع القدرة عليه.
م: (وهذا) ش: أي هذا الخلاف م: (إذا بيعت) ش: الدار م: (بمثل قيمتها، فإن بيعت بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه قيل: جاز التسليم بالإجماع) ش: أي بلا خلاف لمحمد وزفر والشافعي م: (لأنه تمحض نظرا) ش: أي صار نظرا محضا للصبي.
م: (وقيل: لا يصح) ش: أي التسليم م: (بالاتفاق) ش: بين أصحابنا وفي " الكافي " وهو الأصح وهكذا ذكره في " المبسوط " م: (لأنه) ش: أي لأن الولي م: (لا يملك الأخذ فلا يملك التسليم كالأجنبي) ش: حيث لا يملك الأخذ ولا التسليم، فيصير الولي كالأجنبي.
م: (وإن بيعت) ش: الدار م: (بأقل من قيمتها محاباة كثيرة) ش: أي لأجل المحاباة الكثيرة بأن بيعت ما يساوي ألفا بأقل من خمسمائة م: (فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصح التسليم منهما) ش: أي من الأب والوصي، لأن ولايتهما نظرية، والنظر في أحدها في مثل هذا لا في تسليمها.
وذكر في " المختصر " " والمختلف " في هذه المسألة عن أبي حنيفة أنه لا يجوز أيضا لأنه امتناع عن دخوله في ملكه لا إزالة عن ملكه فلم يكن تبرعا، فهذا بخلاف رواية " الهداية " وإنما خص قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، مع أن قول محمد وزفر والشافعي كذلك، لأن الشبهة ترد على قوله..
فإن تسليم الأب والوصي يجوز عنده إذا بيعت بمثل قيمتها فينبغي أن يجوز بأقل، لما أن(11/396)
ولا رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا البيع وإن كان بالمحاباة الكثيرة فإنه لا يخرج عن معنى التجارة ولهما ولاية الامتناع عن التجارة في ماله، لكن قال: لا يصح فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن تصرفهما في ماله يدور مع الوجه الأحسن، فلما تعينت جهة الأحسن في هذا المبيع في الأخذ فكان في التسليم قربان ماله بغير الأحسن.
ولهذا المعنى خص قول أبي حنيفة بقوله م: (ولا رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وإن كان مع أبي حنيفة في صحة التسليم فيما إذا بيعت بمثل قيمتها.
وفي " الذخيرة " و" المغني ": ولو اشترى الأب دارا للصغير وهو شفيعها يأخذها بالشفعة عندنا إذا لم يكن بالأخذ ضرر للصغير، وبه قال الشافعي وأحمد ينبغي أن يقول: اشتريت الصبي وأخذت بالشفعة، لأن شراءه بماله لنفسه جائز، فكذا بالشفعة. ولو كان مكان الأب وصي فإن كان في الأخذ له منفعة بأن اشتراه بغبن يصير له أن يأخذها على قياس قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف كما في شراء الوصي مال الصغير لنفسه.
وللشافعي فيه وجهان، في وجه له الأخذ، وفي وجه لا، وبه قال أحمد للتهمة، أما إذا لم يكن للصغير فالأخذ منفعة لا يجوز أخذها بالإجماع.
ولو كان الصبي شفيع دار اشتراها الوصي لنفسه لا يشهد ولا يطلب الشفعة له للتهمة، فإذا بلغ يأخذها إن شاء.
أما الأب لو اشترى دارا لنفسه والصبي شفيعها فلم يطلب الأب للصغير حتى بلغ ليس للصغير أخذها لبطلان شفعته بسكوت الأب، أما لو باع الأب دارا لنفسه والصبي شفيعها فلم يطلبها الأب للصغير لا تبطل شفعته، حتى إذا بلغ كان له الأخذ. أما الوصي لو باع دارا لنفسه ثم اشترى لنفسه والصبي شفيعها فسكوته لا يبطل شفعته، حتى إذا بلغ له الأخذ. وفي " الجامع الصغير " لو باع الوصي دارا ليتيم والوصي شفيعها فلا شفعة له، إلا إذا باعها وكيل القاضي أو القاضي وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.(11/397)
كتاب القسمة
قال: القسمة في الأعيان المشتركة مشروعة، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: باشرها في المغانم والمواريث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب القسمة]
[تعريف القسمة وشروطها]
م: (كتاب القسمة) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام القسمة فيكون ارتفاع الكتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز نصبه على اقرأ كتاب القسمة - أو خذه أو هاك.
وإيراده عقيب الشفعة لأن كلا منهما من نتائج النصيب الشائع، فإن أحد الشريكين إذا أراد الافتراق مع بقاء ملكه بطلب القسمة ومع عدمه باع ووجب عنده الشفعة وقدم الشفعة لأن بقاء ما كان على أصل وهي في اللغة اسم للاقتسام كالقدوة اسم للاقتداء أو الأسوة اسم للانتساء.
وقال الجوهري: القسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، والقسم بالكسر الحظ والنصيب من الخير، وقاسمه المال فتقاسماه واقتسماه بينهما، والاسم القسمة مؤنثة. وقال السغناقي: نصيب الإنسان من الشيء، يقال: قسمت الشيء بين الشركاء وأعطيت كل شيء يده بقسمته وقسمه. وفي الشريعة جميع النصيب الشائع في مكان، وسببها طلب الشريك الانتفاع بنصيبه على الخصوص، ولهذا لو طلبها يجب على القاضي إجابته على ذلك، ذكره في " المبسوط ".
وركنها ما يحصل بها الإفراز والتمييز بين النصيبين كالمكيل في المكيلات والموزون في الموزونات، والزرع في المزروعات، والعدد في المعدودات.
وشرطها أن لا تفوت منفعته بالقسمة، ولهذا لا يقسم الحائط والحمام ونحوهما.
[القسمة في الأعيان المشتركة]
م: (قال: القسمة في الأعيان المشتركة مشروعة) ش: أي قال صاحب " الهداية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي مشروعة بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] (القمر: الآية 28) ، وقوله سبحانه وتعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] (الشعراء: الآية 155) . في قصة ناقة صالح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشريعة من قبلنا تلزمنا إذا لم يكن فيه نكير. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] (النساء: الآية 8) ، وبالسنة أشار إليها بقوله م: (لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - باشرها في المغانم والمواريث) ش: أي باشر القسمة، أما قسمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغنائم فقد ذكرناها في كتاب السير.(11/398)
وجرى التوارث بها من غير نكير. ثم هي لا تعرى عن معنى المبادلة؛ لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له وبعضه كان لصاحبه فهو يأخذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما قسمة المواريث فمنها ما أخرجه البخاري عن هذيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] . أقضي فيها بما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للابنة النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
ومنها ما أخرجه النسائي عن عبد الله بن شداد «عن ابنة حمزة قالت مات مولى لي فترك ابنة فقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم ماله بيني وبين ابنته، فجعل لي النصف ولها النصف» وقد تكلمنا فيه مستوفى في الولاء.
ومنها ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن محمد بن عقيل، «عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله إن سعدا هلك وترك ابنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادع لي أخاه"، فجاء فقال "ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي» .
ورواه الحاكم في "المستدرك " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
م: (وجرى التوارث بها) ش: أي القسمة م: (من غير نكير) ش: من أحد الأئمة، وأفاد بهذا أن الأمة أيضا أجمعت على جواز القسمة وفعلها: م: (ثم هي) ش: أي القسمة م: (لا تعرى عن معنى المبادلة) ش: أي لا تخلو عن معنى المبادلة م: (لأن ما يجتمع لأحدهما) ش: أي لأحد المتقاسمين م: (بعضه) ش: أي بعض ما يجتمع، وارتفاعه على أنه بدل من الضمير الذي في يجتمع م: (كان له وبعضه كان لصاحبه) ش:
وهو الثاني من المتقاسمين م: (فهو) ش: أي أحد المتقاسمين م: (يأخذه) ش: أي يأخذ(11/399)
عوضا عما بقي من حقه في نصيب صاحبه، فكان مبادلة وإفرازا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك البعض الذي كان لصاحبه م: (عوضا عن ما بقي من حقه في نصيب صاحبه) ش: انتصاب عوضا على الحال من الضمير المنصوب في يأخذه م: (فكان مبادلة) ش: أي إذا كان الأمر كذلك تكون القسمة مبادلة حقيقة، وإنما ذكر الفعل باعتبار القسم والتقاسم م: (وإفرازا) ش: من حيث الحكم. أي تمييزا يقال: أفرزت الشيء إذا عزلته من غيره وميزته مثل فرزته وفارز شريكه أي فاصله.
اعلم أن القسمة قد تقع في أموال متغايرة ومتجانسة، أما المغايرة فمثل الدور والأراضي المختلفة والثياب والدواب وصنوف الأموال المتغايرة، ففي هذه المواضع تقع القسمة معاوضة فيها معنى الإفراز.
وأما المعاوضة فلأنه نقل حقه من محل إلى محل آخر بعوض وأما الإفراز فلأن المالك لم يحدث بالقسم، لأنه كان ثابتا قبلها، لكن على سبيل الاختلاط فهو بالقسمة يتميز عن ملكه وملك صاحبه يبين حقه في هذا المقسوم، فلما ظهر معنى المعاوضة هاهنا توقفت الصحة على اختيارهما حتى لو أراد أحدهما أن يقسم وامتنع الآخر لا يجبر عليه، لأن الجبر على المعاوضة لا يستقيم.
وأما المجانسة فمثل المكيل والموزون والدراهم والدنانير، فإن معنى الإفراز ظاهر هنا، لأن ما صار له بالقسمة لا يغاير ما كان له قبل ذلك، فصار كأنه عين حقها لاستوائهما في تعلق المصالح والأعراض بهما، ولهذا يأخذ أحد الشريكين نصيبه حال غيبة الآخر.
وكذا يبيع أحدهما نصيبه في غيبة الآخر. وكذا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بعد القسمة إذا اشتراه ثم اقتسماه.
بخلاف الأشياء المتغايرة حيث لا يأخذ أحدهما نصيبه في عين الآخر، وكذا لا يبيعه مرابحة. وفي " الفتاوى الصغرى " القسمة ثلاثة أنواع، قسمة لا يجبر الآبي كقسمة الأجناس المختلفة. وقسمة يجبر في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، وقسمة يجبر الآبي في غير المثليات كالثياب من نوع واحد والبقر والغنم. والخيارات ثلاثة: خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية.
ففي قسمة الأجناس المختلفة ثبت الخيارات أجمع، وقسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات فإنه يثبت خيار العيب، وهل يثبت خيار الرؤية والشرط، على رواية أبي سليمان يثبت وهو الصحيح وعليه الفتوى، وعلى رواية أبي حفص لا يثبت.(11/400)
والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه. ولو اشترياه فاقتسماه يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بنصف الثمن. ومعنى المبادلة هو الظاهر في الحيوانات والعروض للتفاوت، حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة الآخر. ولو اشترياه فاقتسماه لا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بعد القسمة، إلا أنها إذا كانت من جنس واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كيفية القسمة في المكيلات والموزونات]
م: (والإفراز هو الظاهر في المكيلات) ش: أي معنى الإفراز والتمييز هو الظاهر في المكيلات م: (والموزونات لعدم التفاوت) ش: أي في أبعاض المكيلات والموزونات، لأن ما يأخذه مثل حقه صورة ومعنى، فأمكن أن يحصل عين حقه، ولهذا جعل عين حقه في الفرض وقضاء الدين م: (حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه) ش: لأنه يأخذ عين حقه فلا يتوقف على حضور الآخر.
م: (ولو اشترياه) ش: أي لو اشترى الشريكان شيئا من المكيلات أو الموزونات م: (فاقتسماه يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بنصف الثمن) ش: لأن نصيبه عين ما كان مملوكا له قبل القسمة م: (ومعنى المبادلة هو الظاهر في الحيوانات والعروض للتفاوت) ش: في الأصل م: (حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة الآخر) ش: لأن ما يصيب كل واحد منهما نصفه مما كان مملوكا ونصف عوضا عما أخذه صاحبه من نصيبه.
فإن قلت: أليس أنهما لو اقتسما أرضا أو دارا أو بنى أحدهما في نصيبه ثم استحق ما بنى فيها ونقض بناه كأنه لا يرجع على صاحبه بقيمة البناء. ولو كانت مبادلة لصار مفروزا فيرجع.
قلت: كل واحد منهما يضطر في هذه المبايعة لإحياء حقه، وفي مثل هذا لا يظهر الغرور.
م: (ولو اشترياه فاقتسماه) ش: أي لو اشترى الإنسان شيئا من الحيوانات أو العروض ثم اقتسماه م: (لا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بعد القسمة) ش: لما ذكرنا أن ما يصيب كل واحد منهما نصفه فيما كان مملوكا، ونصفه عوضا عما أخذه صاحبه من نصيبه. وعند الشافعي وأحمد القسمة إفراز في الكل، وعن الشافعي يبيع في الكل. وعند مالك فيما اتخذ جنسا وصفة إفرازا في غير مبادلة.
م: (إلا أنها إذا كانت من جنس واحد) ش: هذا جواب سؤال يرد على قوله معنى المبادلة وهو الظاهر بأن يقال لو كان الرجحان للمبادلة ينبغي للقاضي أن لا يجبر الآبي عن القسمة في غير ذوات الأمثال، كما لا يجبر على بيع ماله فقال إلا أنها، أي أن الأموال إذا كانت من جنس واحد.(11/401)
أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء؛ لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد والمبادلة مما يجري فيه الجبر كما في قضاء الدين. وهذا لأن أحدهم بطلب القسمة يسأل القاضي أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير عن الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته، وإن كانت أجناسا مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء؛ لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد) ش: باتحاد الجنس، فإن المقصود من الشاة مثل اللحم ولا يتفاوت كثيرا، ومن الفرس الركوب كذلك. والطالب للقسمة يسأل القاضي أن يخصه بالانتفاع بنصيبه، ويمنع الغير عن الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته م: (والمبادلة بما يجري فيه الجبر) ش: هذا أيضا جواب عن إشكال، يعني لم قلتم إنها تتضمن معنى المبادلة فكيف يجبر فأجاب بأن المبادلة مما يجري فيه الجبر مقصودا م: (كما في قضاء الدين) ش: فإن المديون يجبر على القضاء من أن الديون تقضى بأمثالها. فصار ما يؤدى بدلا عما في ذمته، وهذا جبر في المبادلة وقد جاز فلأن يجوز فيما لا قصد فيها إليه أولى.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء م: (لأن أحدهم بطلب القسمة يسأل القاضي أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير عن الانتفاع بملكه فيجب على القاضي إجابته) ش: دفعا للضرر عنه، لأنه نصب لدفع الظلم وإيصال الحق إلى المستحق م: (وإن كانت أجناسا مختلفة) ش: أي وإن كانت الأعيان المشتركة أجناسا مختلفة كالمعز والغنم والبقر والإبل م: (لا يجبر القاضي على قسمتها لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد) .
ش: والحاصل أن الأعيان المشتركة لا تخلو إما أن تكون من جنس واحد أو أجناس مختلفة. فالأول لا يخلو أما إن كانت مما يجري فيه الربا كالمكيل والموزون أو لا كالحيوانات والقاضي يجبر عند طلب أحدهما في هذين الوجهين بعد أن كانا من جنس واحد، لأن الآبي متعنت، هذا إذا كانت المنفعة بعد القسمة تبقى.
أما إذا لمن تبق بل تتضرر كل واحد لا يقسمه بغير التراضي كالحمام والبيت الصغير والحائط ونحو ذلك مما يحتاج إلى الشق والقطع، وبه قالت الثلاثة، وعند التراضي روايتان، في رواية لا بأس للقاضي أن يشق بإذنهما. وفي رواية لا يلي ذلك بنفسه بل يفوض إليهما. وإن كانت من أجناس مختلفة وطلب أحدهما فلا يقسمها بغير التراضي، كذا في " شرح الطحاوي ".(11/402)
ولو تراضوا عليها جاز؛ لأن الحق لهم.
قال: وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجر، لأن القسمة من جنس عمل القضاء من حيث إنه يتم به قطع المنازعة، فأشبه رزق القاضي، ولأن منفعة نصب القاسم تعم العامة فتكون كفايته في مالهم غرما بالغنم،
قال: فإن لم يفعل نصب قاسما يقسم بالأجر، معناه بأجر على المتقاسمين؛ لأن النفع لهم على الخصوص ويقدر أجر مثله كيلا يحكم بالزيادة. والأفضل أن يرزقه من بيت المال، لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو تراضوا عليها) ش: أي على القسمة عند اختلاف الأجناس م: (جاز؛ لأن الحق لهم) ش: لأن القسمة فيها مبادلة كالتجارة والتراضي في التجارة شرط في النص.
[تنصيب القاضي قاسما]
[شروط القاسم]
م: (قال: وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما) ش: أي قال القدوري والقاسم: فاعل من قسم الدراهم يقسم من باب ضرب يضرب م: (يرزقه من بيت المال) ش: من رزق الأمير الجند إذا أعطاهم ما يكفيهم، والرزق بالكسر ما ينتفع به، والجمع الأرزاق بالفتح المصدر من رزق يرزق ومن ضرب يضرب م: (ليقسم بين الناس بغير أجر) ش: أي يؤخذ منهم م: (لأن القسمة من جنس عمل القضاء من حيث إنه يتم به قطع المنازعة) ش:.
أي بالقسمة، وتذكير الضمير باعتبار القسم م: (فأشبه رزق القاضي) ش: أي فأشبه رزق القاسم رزق القاضي، حيث يأخذ كل منهما في مقابلة قطع المنازعة وفصل الخصومة م: (لأن منفعة نصب القاسم تعم العامة فتكون كفايته في مالهم) ش: أي في مال العامة وهو بيت مال المسلمين م: (غرما بالغنم) ش: أي لأجل الغرم بمقابلة الغنم، فانتصابه على التعليل.
م: (قال: فإن لم يفعل) ش: أي قال القدوري: أي إن لم ينصب القاضي قاسما يرزقه من بيت المال م: (نصب قاسما يقسم بالأجر، معناه بأجر على المتقاسمين) ش:.
فإن قلت: القسمة لما التحقت بالقضاء وأخذ الأجر عليه لا يجوز، فكذا عليها.
قلت: القضاء فرض بعد التحمل، بخلاف القسمة، فجاز أخذ الأجر عليها م: (لأن النفع لهم على الخصوص) ش: أي لأن النفع حاصل للمتقاسمين على الخصوصية، فكذا الأجر عليهم.
م: (ويقدر أجر مثله) ش: أي يقدر القاضي أجر مثل القاسم م: (كيلا يحكم بالزيادة) ش: أي بزيادة الأجر على قدر عمله م: (والأفضل أن يرزقه من بيت المال؛ لأنه أرفق الناس وأبعد عن التهمة) ش: أي تهمة الميل إلى أحد المتقاسمين بسبب ما يعطيه بعض الشركاء زيادة. وقال تاج الشريعة: لأنه متى يصل إليه أجر عمله على كل حال يمهل بأخذ الرشوة إلى البعض.(11/403)
ويجب أن يكون عدلا مأمونا عالما بالقسمة، لأنه من جنس عمل القضاء، ولأنه لا بد من القدرة وهي بالعلم ومن الاعتماد على قوله وهو بالأمانة ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد، معناه لا يجبرهم على أن يستأجروه؛ لأنه لا جبر على العقود، ولأنه لو تعين لتحكم بالزيادة على أجر مثله. ولو اصطلحوا فاقتسموا جاز. إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه. قال: ولا يترك القسام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكان هذا أرفق بالناس وأبعد عن التهمة. وفي " أدب القاضي " للصدر الشهيد لا يجوز للقاضي أخذ الأجرة على القسمة لأنها واجبة عليه، والقاسم يجوز.
وفي " الذخيرة " يجوز للقاضي أخذ أجرة القسمة، لأن القسمة ليست بقضاء حقيقة، حتى لا يجب على القاضي مباشرتها، وإنما عليه جبر الآبي على القسمة إلا إن شابهها بالقضاء من حيث إنها تستفاد بولاية القاضي حتى ملك جبر الآبي دون غيره، فمن هذا الوجه لا يستحب له أخذها، وبه قال الثلاثة إذا لم يكن للقاضي من بيت المال رزق.
م: (ويجب أن يكون) ش: أي القاسم م: (عدلا مأمونا عالما بالقسمة لأنه من جنس عمل القضاء) ش: لأن القاضي يحتاج إلى تمييز الحقوق إلى قبول قوله، فيشترط فيه العدالة كالشاهد، وإنما ذكر الأمانة فإن كانت من لوازمها لجواز أن يكون غير ظاهر الأمانة م: (ولأنه لا بد من القدرة) ش: على القسمة م: (وهي) ش: أي القدرة عليها يكون.
م: (بالعلم ومن الاعتماد على قوله) ش: أي ولا بد من الاعتماد على قول القاسم في تمييز الحقوق كما ذكرنا م: (وهو بالأمانة) ش: أي الاعتماد على قوله يكون بالأمانة بأنه مأمون. م: (ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد) ش: هذا لفظ القدوري في "مختصره" م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري هذا م: (لا يجبرهم على أن يستأجروه) ش: أي لا يجبر القاضي المتقاسمين على استئجار قاسم معين م: (لأنه لا جبر على العقود) ش: لأن الحق لهم، فإذا رضوا بمن يتولى حقهم جاز كما في سائر الحقوق. م: (ولأنه لو تعين) ش: أي ولأن القاسم الواحد لو تعين م: (لتحكم بالزيادة على أجر مثله) ش: وفيه ضرر عليهم ولا ضرر في الإسلام.
م: (ولو اصطلحوا) ش: أي الشركاء م: (فاقتسموا) ش: أي بدون رفع الأمر إلى القاضي م: (جاز) ش: لأن في القسمة معنى المعاوضة فتثبت بالتراضي كما في سائر المعاوضات م: (إلا إذا كان فيهم صغير) ش: أي في الشركاء، أو مجنون أو غائب م: (فيحتاج إلى أمر القاضي لأنه لا ولاية لهم عليه) ش: أي على الصغير.
م: (قال: ولا يترك القسام) ش: أي لا يترك القاضي القسام: وهو بضم القاف جمع قاسم(11/404)
يشتركون كيلا تصير الأجرة غالية بتواكلهم، وعند عدم الشركة يتبادر كل منهم إليه خيفة الفوت فيرخص الأجر.
قال: وأجرة القسمة على عدد الرؤوس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: على قدر الأنصباء، لأنه مؤنة الملك، فيتقدر بقدره كأجرة الكيال والوزان وحفر البئر المشتركة ونفقة المملوك المشترك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالزُّرَّاع جمع زارع، ويجوز رفع القسام بإسناده إلى الفصل المجهول، أي لا يتركون م: (يشتركون كيلا تصير الأجرة غالية بتواكلهم) ش: وهو أن يكمل بعضهم الأمر إلى بعض.
الحاصل أن القاضي لا يخلي شركتهم، بحيث لا يتجاوز الأمر القسمة عنهم إلى غيرهم، لأنهم في ذلك يكملون الأجر زيادة على أجر المثل فيتضرر به المتقاسمين، بل يقول: استدانت بالقسمة بلا مشاركة، فكذا في كل واحد م: (وعند عدم الشركة يتبادر كل منهم) ش: أي من القسام م: (إليه خيفة الفوت) ش: أي في القسمة، والتذكير باعتبار القسم، وانتصاب خيفة على التعليل، أي لأجل خوف الأجر م: (فيرخص الأجر) ش: على المتقاسمين.
[أجرة القسمة]
م: (قال: وأجرة القسمة على عدد الرؤوس عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال القدوري: وقال مالك: وكذا ذكر أبو القاسم بن الجلاب البصري، صورتها دار بين ثلاثة لأحدهم النصف. وللآخر الثلث، وللثالث السدس فاستأجروا قاسما بأجر معلوم فقسمها بينهم. قال أبو حنيفة: الأجرة عليهم أثلاثا على كل واحد منهم.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: على قدر الأنصباء) ش: فيكون على صاحب النصف نصف الأجرة، وعلى صاحب الثلث ثلثها، وعلى صاحب السدس سدسها، وبه قال الشافعي وأحمد وأصبغ المالكي في " مختصر الأسرار ". قال أبو حنيفة: القسام على عدد الرؤوس دون الأنصباء إلا في المكيل والموزون، فإنها تكون على قدر الأنصباء.
وفي " الكافي " للحاكم الشهيد قال أبو حنيفة: الأجر على عدد الرؤوس، فإن كان نصيبه أقل من نصيب صاحبه وقال: لعل النصيب القليل أشد حسابا من النصيب الكثير م: (لأنه) ش: أي لأن الأجر.
م: (مؤنة الملك فيتقدر بقدره كأجرة الكيال والوزان) ش: في المال المشترك بأن استأجروا الكيال ليفعل المكيل، أو الوزان ليفعل الموزون فيما هو مشترك بينهم م: (وحفر البئر المشتركة ونفقة المملوك المشترك) ش: فإن المؤنة فيهما على قدر الأنصباء.
وكذلك إذا استأجروا رجلا لبناء جدار أو لبطن سطح بينهم فإن الأجر على التفاوت.(11/405)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأجر مقابل بالتمييز، وأنه لا يتفاوت، وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل، وقد ينعكس الأمر فيتعذر اعتباره، فيتعلق الحكم بأصل التمييز، بخلاف حفر البئر؛ لأن الأجر مقابل بنقل التراب وهو يتفاوت، والكيل والوزن إن كان للقسمة قيل: هو على الخلاف، وإن لم يكن للقسمة فالأجر مقابل بعمل الكيل والوزن، وهو يتفاوت وهو العذر لو أطلق ولا يفصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأجر مقابل بالتمييز) ش: لأن المعقود عليه التمييز م: (وأنه) ش: أي التمييز م: (لا يتفاوت) ش: تحقيق هنا أن القسم لا يستحق الأجر بالمسامحة ومد الأطناب والمشي على الحدود، لأنه لو استعان في ذلك بأرباب الملك استوجب الأجر، كما إذا قسم بنفسه. فدل على أن الأجرة في مقابلة القسمة م: (وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل) .
ش: لأن الحساب يدق بتفاوت الأنصباء، ويزداد بقلة الأنصباء أو أقل تمييز يصعب صاحب القليل أشق م: (وقد ينعكس الأمر) ش: بأن يكون حساب نصيب صاحب الكثير أشق لكسور وقعت فيه م: (فيتعذر اعتباره) ش: أي اعتبار كل واحد من قليل الملك وكثيره م: (فيتعلق الحكم بأصل التمييز) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيتعلق الحكم بأصل التمييز، ولأنه لا يتفاوت، لأن القليل والكثير فيه سواء كما كان في السفر كما كان في المشقة حقا أدير الحكم على نفس السفر.
م: (بخلاف حفر البئر لأن الأجر مقابل بنقل التراب وهو يتفاوت) ش: أي نقل التراب يتفاوت بتفاوت العمل بالقلة والكثرة م: (والكيل والوزن إن كان للقسمة، قيل هو على الخلاف) ش: هذا جواب عما يقال كأجرة الكيال والوزان، يعني إن كان الكيل أو الوزن لأهل القسمة، قيل هو على المذكور، فيكون الكيال والوزان بمنزلة القسام.
م: (وإن لم يكن للقسمة) ش: بأن اشتريا مكيلا أو موزونا وأمر إنسانا بكيله يصير المكيل معلوم القدر م: (فالأجر مقابل بعمل الكيل والوزن وهو يتفاوت) ش: أي عمل الكيل والوزن يتفاوت. فيكون الأجر على قدر الأنصباء، لأن الأجر استحق بأن فعل المكيل من غير اعتبار إفراز، وفعل المكيل يتقدر بقدر المكيل فيتفاوت البدل أيضا، كذا في " الأسرار ".
م: (وهو العذر لو أطلق) ش: أي التفاوت هو العذر، أي الجواب عن قياسهما على أجر الكيال والوزان لو كان الأجر يجب ثمنه مطلقا بلا تفصيل على قدر الأنصباء، فإن كيل الكبير أشق وأصعب لا محالة من القليل، وكذلك الوزن بخلاف القسام، فإن القسمة إفراز، والشريكان فيه سواء، فإن إفراز القليل فرز الكثير لا محالة وبالعكس م: (ولا يفصل) ش: تالله لقوله لو أطلق أي لو أراد أجر المسألة على الطلاق من غير أن يفصل القسمة أو ليس(11/406)
وعنه: أنه على الطالب دون الممتنع لنفعه ومضرة الممتنع.
قال: وإذا حضر الشركاء عند القاضي وفي أيديهم دار أو ضيعة وادعوا أنهم ورثوها عن فلان لم يقسمها القاضي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته، وقال صاحباه: يقسمها باعترافهم، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم وإن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للقسمة والعذر. أي الفرق أن هناك إنما استوجب للأجر بعمله في الكيل والوزن أن يرمي أنه لو استعان في ذلك بالشركاء، لأن كل عاقل يعرف أنه كيل مائة قفيز يكون أكثر من كيل عشرة أقفزة. فلهذا كانت الأجرة عليها بقدر الملك. بخلاف القسام.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن الأجر م: (على الطالب) ش: أي على طالب القسمة م: (دون الممتنع) ش: من القسمة م: (لنفعه) ش: أي لنفع الطالب م: (ومضرة الممتنع) ش: لأنه امتنع لضرر يلحقه، فلا تلزم الأجرة من لا منفعة له. وقال الأقطع: روى الحسن عن أبي حنيفة أن الأجر على الطالب للقسمة دون الممتنع. وقال أبو يوسف عليهما. وفي " الهداية " وقال عليها، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وفي " النوازل " سئل أبو جعفر عن أهل قرية غرمها الملك فأرادوا أن يقسموا فيما بينهم. قال يقسم على عدد الرؤوس.
وقال بعضهم: يقسم على قدر الأملاك. قال الفقيه: إن كانت الغرامة لتحصين أموالهم قسم ذلك على قدر أملاكهم وإن كانوا غرموا لتحصين الأبدان قسم على قدر رؤوسهم التي يتعرض لهم، ولا شيء على النساء والصبيان، لأنه لا يتعرض لهم لأنه مؤنة الناس.
م: (قال: وإذا حضر الشركاء عند القاضي) ش: أي قال القدوري وإذا حضر الشركاء عند القاضي م: (وفي أيديهم دار أو ضيعة وادعوا أنهم ورثوها عن فلان لم يقسمها القاضي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته) ش: أي موت فلان، وكمية الورثة، قيد بقوله: دارا وضيعة، لأنه لو كان في أيديهم عروض أو شيء مما ينقل القسم بإقرارهم أنه ميراث بالاتفاق قيد بالإرث لأنهم لو ادعوا شراء من غائب قسم بينهم بإقرارهم بالاتفاق في رواية الأصل على ما ذكر في الكتاب.
م: (وقال صاحباه) ش: أي صاحبا أبي حنيفة وهما أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يقسمها باعترافهم) ش: أي بإقرارهم بدون بينة لئلا يكون حكمه متعديا إلى غيرهم، وبه قالت الثلاثة عن الشافعي لا يقسم إلى الجميع بلا بينة للاحتياط. م: (ويذكر) ش: أي القاضي م: (في كتاب القسمة) ش: أي في صك القسمة م: (أنه قسمها بقولهم) ش: أي بقول الشركاء م: (وإن(11/407)
كان المال المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراث قسمة في قولهم جميعا. ولو ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمة بينهم. لهما: أن اليد دليل الملك والإقرار أمارة الصدق ولا منازع لهم فيقسمه بينهم كما في المنقول الموروث والعقار المشترى، وهذا لأنه لا منكر ولا بينة إلا على المنكر فلا يفيد. إلا أنه يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بإقرارهم ليقتصر عليهم ولا يتعداهم. وله: أن القسمة قضاء على الميت إذ التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة، حتى لو حدثت الزيادة قبلها تنفذ وصاياه فيها ويقضي ديونه منها، بخلاف ما بعد القسمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان المال المشترك ما سوى العقار)
ش: كالعروض والحيوانات ونحوهما مما ينقل م: (وادعوا أنه ميراث قسمة في قولهم جميعا) ش: أي في قول أبي حنيفة وصاحبيه م: (ولو ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمة بينهم) ش: هذا لفظ القدوري. قال في " شرح الأقطع " هكذا ذكره محمد في "كتاب القسمة". وذكر في " الجامع الصغير " أنه لا يقسم حتى يقيموا البينة على الملك لأنهم اعترفوا بالملك طبائع وادعوا انتقاله إليهم فلا يقبل إلا ببينة كما لو ادعوا الميراث.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن اليد دليل الملك والإقرار أمارة الصدق ولا منازع لهم) ش:.
أي في الظاهر م: (فيقسمه بينهم كما في المنقول الموروث والعقار المشترى وهذا) ش: أي جواز القسمة بإقرارهم بدون البينة م: (لأنه لا منكر) ش: أي لأن الشأن لا منكر هاهنا م: (ولا بينة إلا على المنكر فلا يفيد) ش: أي البينة، يعني فلا يكون طلب البينة بلازم م: (إلا أنه يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بإقرارهم ليقتصر عليهم ولا يتعداهم) ش: أي ولا يتعدى حكمه إلى غير الشركاء الحاضرين.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن القسمة قضاء على الميت إذا كانت التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة) ش: أي على ملك الميت م: (حتى لو حدثت الزيادة قبلها) ش: أي قبل القسمة بأن كانت الوصية جارية لفلان مثلا فولدت قبل القسمة م: (تنفذ وصاياه فيها) ش: أي في الزيادة حتى ينفذ الوصية فيهما عن الثلث كأنه أوصى بهما م: (ويقضي ديونه منها) ش: أي من الزيادة تنفذ الوصية فيهما بقدر الثلث كأنه أوصى بهما م: (بخلاف ما بعد القسمة) ش: فإن الزيادة للموصى له.
وفي " جامع قاضي خان " ومن أوصى بجارية لرجل ومات فولدت ولدا أو اكتسبت كان الولد والكسب لورثة الميت، وإن حدثت الزيادة بعد القسمة يكون للموصى له، وإن كانت الزيادة مع الجارية لا يخرج من الثلث.(11/408)
وإذا كانت قضاء على الميت فالإقرار ليس بحجة عليه، فلا بد من البينة وهو مفيد؛ لأن بعض الورثة ينتصب خصما عن المورث، ولا يمتنع ذلك بإقراره كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين، فإنه يقبل البينة عليه مع إقراره، بخلاف المنقول؛ لأن في القسمة نظرا للحاجة إلى الحفظ. أما العقار فمحصن بنفسه، ولأن المنقول مضمون على من وقع في يده ولا كذلك العقار عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا كانت قضاء على الميت) ش: أي وإذا كانت القسمة قضاء على الميت ذكر الفعل باعتبار القسم م: (فالإقرار ليس بحجة عليه) ش: يعني إقرارهم ليس بحجة على الميت، لأنه حجة قاصرة م: (فلا بد من البينة) ش: ليست به القضاء على الميت م: (وهو مفيد) ش: أي البينة مفيد على تأويل قيام البينة مفيد.
وهذا جواب عن قولهما لأنه منكر ولا بينة إلا على المنكر فلا يفيد فقال: بل يفيد م: (لأن بعض الورثة ينتصب خصما عن الموروث) ش: فيكون مدعى عليه لأن أحدهم يجعل مدعيا والآخر مدعى عليه م: (ولا يمتنع ذلك بإقراره) ش: أي لا يمتنع كونه خصما بسبب إقراره.
وهذا جواب عما يقال كل منهما مقر بدعوى صاحبه، والمقر لا يصح خصما للمدعى عليه فقال لا يمتنع ذلك بإقراره لجواز اجتماع الإقرار مع كونه خصما م: (كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين، فإنه تقبل البينة عليه مع إقراره) ش:.
أي على كل واحد من الوارث والوصي مثلا إذا ادعى على الميت دينا وأقر به وارثه أو وصيه يكلف إقامة البينة. وينتصب الوارث أو الوصي خصما للمدعى عليه فقال: لا يمتنع ذلك بإقراره لجواز اجتماع الإقرار مع كونه خصما له وإن كان مقرا.
م: (بخلاف المنقول) ش: جواب عن قولهما كما في المنقول المورث، وأجاب عن ذلك بوجهين، الأول: هو قوله م: (لأن في القسمة نظرا للحاجة إلى الحفظ) ش: لأن العروض يخشى عليها من التوى والتلف، وفي القسمة تحصين وحفظ لها وذا لا يوجد في العقار، أشار إليه بقوله: أما العقار محصن بنفسه فلا يخشى عليه من التوى.
والثاني: هو قوله ولا كذلك العقار عنده، أي عند أبي حنيفة لأنه مضمون على من ثبت يده، أشار إليه بقوله م: (أما العقار فمحصن بنفسه) ش: فلا يخشى عليه من التوى.
وقوله م: (ولأن المنقول مضمون على من وقع في يده) ش: بعد القسمة، يعني يصير مضمونا عليه بالقبض في حق غيرهم، ففي جعل ذلك مضمونا عليهم بعد القسمة نظرا للميت، وذا لا يوجد في العقار، لأنه مضمون على من أثبت يده عند أبي حنيفة. وهذا معنى قوله م: (ولا كذلك العقار عنده) ش: أي عند أبي حنيفة.(11/409)
وبخلاف المشتري لأن المبيع لا يبقى على ملك البائع، وإن لم يقسم فلم تكن القسمة قضاء على الغير. قال: وإن ادعوا الملك ولم يذكر كيف انتقل إليهم قسمه بينهم، لأنه ليس في القسمة قضاء على الغير فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم.
وهذه رواية كتاب القسمة. وفي " الجامع الصغير ": أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما لاحتمال أن يكون لغيرهما، ثم قيل: هو قول أبي حنيفة خاصة، وقيل: هو قول الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبخلاف المشتري) ش: جواب عن قولهما والعقد المشترى، تقريره أن العقار المشترى لأن القسمة فيه باعتبار ظاهر اليد، فلا يكون استحقاقا على الغير م: (لأن المبيع لا يبقى على ملك البائع. وإن لم يقسم فلم تكن القسمة قضاء على الغير) ش: وروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول لا يقسمها بلا بينة كما في الميراث.
م: (قال: وإن ادعوا الملك ولم يذكروا كيف انتقل) ش: أي قال القدوري لم يذكروا سبب الانتقال م: (إليهم) ش: في الشراء والإرشاد غيرهما م: (قسمه بينهم؛ لأنه ليس في القسمة قضاء على الغير، فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم) ش: لأن كل من في يده شيء فالظاهر أنه له فيقبل قولهم في القسمة.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذه رواية كتاب القسمة) ش: أي قال صاحب " الهداية " هذا الذي ذكره القدوري بقوله: وإن ادعوا الملك.. إلخ كتاب القسمة من " المبسوط، وسياق " الجامع الصغير " على خلاف ذلك، أشار إليه بقوله م: (وفي " الجامع الصغير ": أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما) ش: أي أن الأرض لهما، أي ملكهما م: (لاحتمال أن يكون لغيرهما) ش: لأنهما لم يذكرا السبب، واحتمل أن يكون ميراثا فيكون ملكا للغير، ويحتمل أن يكون مشترى فيكون ملكا لهما فلا يقسم احتياطا.
م: (ثم قيل: هو قول أبي حنيفة خاصة) ش: أي المذكور في " الجامع الصغير " وهو قوله: لا يقسمها حتى يقيم البينة على الملك قول أبي حنيفة خاصة لا قولهما، لأن عند أبي حنيفة الميراث لا يقسم بدون البينة وهذا العقار يحتمل أن يكون موروثا كما ذكرنا. وعندهما يقسم في الميراث بدون البينة فهاهنا أولى م: (وقيل: هو قول الكل) ش: أي قيل المذكور في " الجامع الصغير " قول أبي حنيفة وصاحبيه جميعا، وإليه مال فخر الإسلام في "شرحه".
وقال تاج الشريعة: قيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع، فموضع كتاب القسمة فيما إذا ادعيا الملك ابتداء، وموضع " الجامع الصغير " فيما إذا ادعيا لليد ابتداء، وبيانه أنهما لما(11/410)
وهو الأصح؛ لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه، وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك فامتنع الجواز.
قال: وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارث غائب قسمها القاضي بطلب الحاضرين، وينصب وكيلا يقبض نصيب الغائب، وكذا لو كان مكان الغائب صبي يقسم وينصب وصيا يقبض نصيبه، لأن فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ادعيا الملك ابتداء واليد ثابتة ومن في يده شيء يقبل قوله إنه ملكه ما لم ينازعه غيره. إذ الأصل أن الأملاك في يد المالك، فيعتبر هذا الظاهر، وإن احتمل أن يكون ملك الغير لأنه احتمال بلا دليل.
فيقسم بينهما بناء على الظاهر، أما إذا ادعيا اليد وأعرضا عن ذكر الملك مع حاجتهما إلى بيانه لأنهما طلبا القسمة من القاضي والقسمة في العقار لا تكون إلا لمالك، فلما سكتا عنه دل على أن الملك ليس لهما فيتأكد ذلك لاحتمال السابق، فلا يقبل قولهما بعد ذلك إلا بإقامة البينة ليزول هذا الاحتمال، وهذا معنى قوله لاحتمال أن يكون لغيرهما.
م: (وهو الأصح) ش: أي المذكور أنه قول الكل هو الأصح م: (لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه) ش: أراد بهذا أن القسمة نوعان، قسمة بحق الملك لتكميل المنفعة، وقسمة بحق اليد لأجل الحفظ والصيانة. والثاني في العقار غير محتاج إليه فتعين قسمة الملك م: (وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك) ش: أي قيام الملك لا ملك بدون البينة م: (فامتنع الجواز) ش: أي جواز القسمة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا حضر الوارثان) ش: في إثبات إلى القاضي م: (وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم) ش: أي والحال أن الدار في أيديهم، وكان ينبغي أن يقول في أيديهما، لأن المذكور التثنية، ولكن فيها معنى الجمع، وهذا أحسن من أن يقال قوله في أيديهم ومعهم وارث وقع سهوا من الناسخ، والصحيح في أيديهما لأنهما لو كانت في أيديهم لكان البعض في يد الغائب ضرورة.
وقد ذكر بعد هذا في الكتاب، وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم، وقيل الصحيح أنه يقال في أيديهما ومعهما على وجه هكذا بخط بعض الثقات م: (ومعهم وارث غائب) ش: أي ومعهما وارث. وقد قلنا: إن في التثنية معنى الجمع م: (قسمها القاضي بطلب الحاضرين) ش: بفتح الراء تثنية حاضر م: (وينصب وكيلا ويقبض نصيب الغائب) ش: أي ينصب القاضي وكيلا لأجل قبض نصيب الغائب نظرا له.
م: (وكذا لو كان مكان الغائب صبي يقسم وينصب وصيا يقبض نصيبه، لأن فيه) ش: أي في(11/411)
نظرا للغائب والصغير، ولا بد من إقامة البينة في هذه الصورة عنده أيضا، خلافا لهما كما ذكرناه من قبل. ولو كانوا مشتريين لم يقسم مع غيبة أحدهم. والفرق أن ملك الوارث ملك خلافه حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتراه المورث أو باع، ويصير مغرورا بشراء المورث فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده، والآخر عن نفسه، فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين.
أما الملك الثابت بالشراء ملك مبتدأ ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصيب كل واحد من الوكيل والوصي م: (نظرا للغائب والصغير) ش: وكذا لو كان مجنونا م: (ولا بد من إقامة البينة في هذه الصورة أيضا عنده) ش: أي لا بد من إقامة البينة على الوفاة وعدد الورثة فيما إذا كان مكان الغائب صبي عند أبي حنيفة كما إذا كان معهم وارث غائب م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد.
م: (كما ذكرنا من قبل) ش: وهو قوله لم يقسمها حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته. وقال صاحباه يقسم باعترافهم م: (ولو كانوا مشتريين لم يقسم مع غيبة أحدهم) ش: هذا لفظ القدوري، يعني لم يقسم وإن أقاموا بينة.
م: (والفرق) ش: في دعوى الإرث إذا أقاموا البينة يقسم مع غيبة أحدهم، وفي دعوى الشراء لا يقسم مع غيبة أحدهم وإن أقام البينة على الوفاة وعلى الورثة م: (إن ملك الوارث ملك خلافه حتى يرد) ش: أي الوارث م: (بالعيب ويرد عليه) ش: أي على بائع المورث م: (بالعيب فيما اشتراه المورث) ش: بكسر الراء وهو الميت م: (أو باع ويصير) ش: أي الوارث م: (مغرورا بشراء المورث) ش: حتى لو اشترى جارية فمات فاستولدها الوارث فاستحقت يصير الوارث مغرورا ويكون الولد حرا بالقيمة يرجع بها الوارث على البائع كالمورث في حياته م: (فانتصب أحدهما) ش: أي أحد الحاضرين م: (خصما عن الميت فيما في يده، والآخر عن نفسه، فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين) ش: أنه لو ادعى رجل على ميت شيئا وأقام البينة على أحد الورثة يقبل ويظهر الحكم في حق الحاضر والغائب.
والمعنى فيه ما ذكره من قوله: إن ملك الوارث بطريق الخلافة فيكون الوارث قائما مقام المورث فيكون إقامة البينة على الوارث إقامة على المورث. ولو أقيمت البينة على المورث حقيقة يظهر في حق الغائب والحاضر جميعا، فكذا إذا أقيمت البينة حكما.
م: (أما الملك الثابت بالشراء ملك مبتدأ) ش: أي ملك جديد، أراد أن الثابت أن كل واحد منهم ملك جديد بسبب باشره في نصيبه م: (ولهذا) ش: أي ولكون الثابت بالشراء مبتدأ م: (لا يرد) ش: أي المشتري م: (بالعيب على بائع بائعه) ش: لأن بائع البائع ليس بقائم مقام البائع.(11/412)
فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب فوضح الفرق. وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم. وكذا إذا كان في يد مودعه. وكذا إذا كان في يد الصغير. لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه. والقضاء من غير خصم لا يجوز، ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها هو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب) ش: أي إذا كان كذلك لا يصلح الحاضر من المشترين خصما عن الغائب منهم، فإذا لم يكن خصما عنه كانت البينة في حق الغائب قائمة بلا خصم فلا يقبل م: (فوضح الفرق) ش: أي ظهر الفرق بين مسألة الإرث ومسألة الشراء م: (وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم) ش: أي من العقار، وهذا أيضا من لفظ القدوري إلا قوله أو شيء منه فإنه من لفظ صاحب " الهداية "، لأن القسمة فيها استحقاق يد الغائب ولا يجوز ذلك من غير خصم حاضر عنه.
م: (وكذا إذا كان في يد مودعه) ش: أي وكذا لا يقسم إذا كان العقار في يد مودع الغائب، لأن المودع أمين فلا يكون خصما فيما يستحق عليه.
م: (وكذا إذا كان في يد الصغير) ش: أي وكذا لا يقسم إذا كان العقار في يد الصغير أو شيء منه في يده م: (لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما) ش: أي عن الغائب والصغير، فإذا لم يكن الخصم حاضرا لا يجوز لما ذكرنا م: (وأمين الخصم ليس بخصم) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لم يجوز أن يكون المودع خصما لكون العين في يده؟ فأجاب بأنه أمين الخصم.
م: (عنه) ش: أي عن الخصم م: (فيما يستحق عليه) ش: أي على الخصم، لأنه جعل أمينا في الحفظ لا غير، فيكون القول بالقسمة قوله م: (والقضاء من غير خصم لا يجوز) ش: وهو معنى قوله فالقضاء من غير خصم لا يجوز، لأنه لا بد من كون المدعى عليه خصما كما عرف في بابه.
م: (ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها) ش: أي فيما إذا كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه، يعني لا يقسم القاضي وإن أقام الحاضر البينة على الوفاة وعدد الورثة م: (هو الصحيح) ش: احترز به عما روى الكرخي في "مختصره" عن أبي يوسف فقال: وقال أبو يوسف: إن كانت الدار في يد الغائب أو في يد الصغير أو في أيديهما منه شيء لم أقسمها حتى يقيم البينة على المواريث، وكذلك الأرض.(11/413)
كما أطلق في الكتاب. قال: وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة لأنه لا بد من حضور خصمين؛ لأن الواحد لا يصلح مخاصِما ومخاصَما، وكذا مقاسِما ومقاسَما، بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا
ولو كان الحاضر كبيرا وصغيرا نصب القاضي عن الصغير وصيا، وقسم إذا أقيمت البينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقول محمد أشهر، فقد قالا بالقسمة عند قيام البينة كما ترى، وإليه ذهب صاحب " التحفة " حيث قال وإن كانت الدار في يد الغائب أو في يد الصغير أو في أيديهما منه شيء فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على الميراث وعدد الورثة بالاتفاق، وبه قالت الثلاثة.
وفي " فتاوى قاضي خان " لم يقسم وإن أقام البينة ما لم يحضر الغائب وهو رواية م: (كما أطلق في الكتاب) ش: قال الأترازي في " مختصر القدوري ": أراد به قوله لم يقسم لأنه لم يفصل بين قوله البينة وعدمها. وقال الكاكي في " الجامع ": لقوله لم يقسم من غير ذكر إقامة البينة، والصواب مع الأول.
م: (قال: وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة) ش: أي قال القدوري م: (لأنه لا بد من حضور خصمين؛ لأن الواحد لا يصلح مخاصِما ومخاصَما) ش: بكسر الصاد، ومخاصما الثانية بفتح الصاد، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كذا مقاسِما) ش: أي وكذا لا يصلح مقاسما بكسر السين م: (ومقاسَما) ش: بفتح السين، وهذا عندهما لأنه لا يحتاج إلى إقامة البينة عندهما.
وإنما ذكر المقاسمة لأنه ليس من ضرورة كون الشخص خصما أن يكون مخاصما كما في الحمام المشترك، فإن الشركاء خصوم وغير مقاسمين، وعن أبي يوسف أن القاضي ينصب عن الغائب خصما ويسمع البينة عليه ويقسم الدار، كما لو ادعى أجنبي دينا على الميت ولا وارث له ولا وصي فإنه ينصب عنه وصيا.
م: (بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين) ش: حيث يقسم، لأنه أمكن أن يجعل أحدهما مدعيا والآخر خصما عن الميت وعن باقي الورثة م: (على ما بينا) ش: أراد به قوله وإذا حضر وارثان وأقاما البينة إلى آخره، وذلك لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الميت وعن سائر الورثة.
م: (ولو كان الحاضر كبيرا وصغيرا نصب القاضي عن الصغير وصيا وقسم إذا أقيمت البينة) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري. وفي " الذخيرة ": القاضي إنما ينصب وصيا عن الصغير إذا كان حاضرا، أما إذا كان غائبا فلا ينصب عنه وصيا، بخلاف الكبير الغائب على قول أبي يوسف. وبخلاف ما إذا وقعت الدعوى على الميت حيث ينصب وصيا عن الميت، وذلك لأن الصغير إذا كان حاضرا صحت الدعوى عليه، إلا أنه عاجز عن الجواب فيثبت عنه خصما، أما(11/414)
وكذا إذا حضر وارث كبير موصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية يقسمه لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه. وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا كان غائبا لم تصح الدعوى عليه ولم يتوجه الجواب عليه ولم تقع الضرورة على نصب الوصي فلا ينصب.
م: (وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها) ش: أي في الدار، وهذا أيضا ذكره تفريعا على مسألة القدوري م: (وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية يقسمه لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت، والموصى له عن نفسه) ش: قوله الكبير بالجر والموصى له عطف عليه، وكلاهما بدل من قوله الخصمين، ويجوز رفعهما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي أحدهما الكبير أي الوارث الكبير خصم عن الميت، والآخر الموصى له خصم له عن نفسه، ويجوز نصبهما بتقدير أعني.
م: (وكذا الوصي عن الصبي) ش: أي وكذا الوصي خصم عن الصبي فيما إذا كان الحاضر كبيرا أو وصي الصبي م: (كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ) ش: إن كان الصبي خصما بنفسه بعد بلوغه م: (لقيامه مقامه) ش: أي لقيام الوصي مقام الصبي.(11/415)
فصل فيما يقسم وما لا يقسم قال: وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم، لأن القسمة حق لازم فيما يحتملها عند طلب أحدهم على ما بيناه من قبل. وإن كان ينتفع أحدهم ويستضر به الآخر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم، وإن طلب صاحب القليل لم يقسم، لأن الأول ينتفع به فيعتبر طلبه، والثاني متعنت في طلبه فلم يعتبر. وذكر الجصاص على قلب هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يقسم وما لا يقسم]
م: (فصل فيما يقسم وما لا يقسم) ش: لما تنوعت مسائل القسمة إلى ما يقسم وما لا يقسم أفردها بالفصل.
م: (قال: وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم) ش: أي قال القدوري في "مختصره" م: (لأن القسمة حق لازم فيما يحتملها) ش: أي فيما يحتمل القسمة، أراد باحتمال القسمة أن ينتفع كل واحد منهما بنصيبه بعد القسمة م: (عند طلب أحدهم على ما بيناه من قبل) ش: أشار به إلى قوله إذا كانت من جنس واحد أجبر القاضي على القسمة ولا خلاف فيه للعلماء.
م: (وإن كان ينتفع أحدهم ويستضر به الآخر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم) ش: أي جبرا وبه قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في المشهور عنه، وفي رواية عن مالك لا يجبر، واختاره ابن القاسم، وبه قال أبو ثور.
وقال ابن أبي ليلى: لا يقسم ولكن يباع ويقسم ثمنها، وكذلك إذا كان سائر الشركاء لا ينتفعون بأنصبائهم الطالب يقسمها جبرا.
م: (وإن طلب صاحب القليل لم يقسم) ش: أي إذا كان صاحب القليل لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة لا يقسم، وبه قال الشافعي في الأصح م: (لأن الأول) ش: أي صاحب الكثير م: (ينتفع به) ش: أي بنصيبه م: (فيعتبر طلبه) ش: لأنه طالب بحق ثابت له م: (والثاني) ش: أي صاحب القليل م: (متعنت في طلبه فلم يعتبر) ش: لأن طلب شيئا يستنصر به فلا منفعة له في القسمة فيكون متعنتا في دعواه، وهو من العنت وهو من الشدة.
وفي العباب العنت الوقوع في أمر شاق وقد عنت من باب فعل بالكسر، وعند " تهذيب الديوان " يقال عنت متعنتا إذا جاءك يطلب زلتك.
قلت: والعنت الإثم أيضا، والعنت الزنا والفجور أيضا.
م: (وذكر الجصاص) ش: وهو أبو بكر أحمد بن علي الرازي م: (على قلب هذا) ش: أي على عكس هذا، فقال يقسم إذا طلب صاحب القليل، لأنه رضي بضرر نفسه ولا يقسم إذا(11/416)
لأن صاحب الكثير يريد الإضرار بغيره والآخر يرضى بضرر نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طلب صاحب الكثير، لأنه يوقع الإضرار بغيره، وهو معنى قوله م: (لأن صاحب الكثير يريد الإضرار بغيره والآخر) ش: وهو صاحب القليل م: (يرضى بضرر نفسه) ش: وهكذا نقل الصدر الشهيد في "شرحه لأدب القاضي " عن الجصاص، وكذلك نقل عنه في " الفتاوى الصغرى " وكذلك نقل عن صاحب " الهداية ".
وقال الأترازي: ولنا في هذا النقل عنه نظر، لأن الجصاص وهو أبو بكر الرازي ذكر في "شرحه " ما ذكره الخصاف في " أدب القاضي " بعينه ولم يذكر خلاف ذلك، كذلك ذكره الخصاف في "شرحه لمختصر الطحاوي " كما ذكره أحمد بن عمرو الخصاف ولم يذكر خلاف ذلك، وقال الخصاف في " أدب القاضي ": وإن كان الضرر إنما يدخل على أحدهما لأن نصيبه قليل والآخر نصيبه كثير فطلب صاحب النصيب الكثير القسمة وإن ذلك الآخر، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا يقسم ذلك بينهما، إلى هنا لفظ الخصاف ولم يذكر لمحمد قولا، ولكن الطحاوي ذكر المسألة في "مختصره " تخصيص أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - فقال: إن كان الذي يصيب الطالب منهما ينتفع به لكثرته وما يطلب الآخر فما ينتفع به لقلته فسماها بينهما إلى هنا لفظ الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو بكر الرازي وهو الجصاص: لأن للطالب حقا في هذه القسمة وهو الانتفاع بملكه متميزا على حق غيره ومنع غيره من الانتفاع بملكه، والذي أباه إنما يريد الانتفاع بملك غيره ويجبر على القسمة إلى هنا لفظه، ولم يذكر غير هذا. وقال في " الفتاوى الصغرى ": دار بين رجلين وطلبا القسمة جميعا وتراضيا بذلك وليس نصيب كل منهما ما ينتفع، فإن القاضي يقسم ذلك بينهما لأن الملك لهما وقد تراضيا بهذا الضر، وإن طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر لم يقسم القاضي بينهما لأن الطالب متعنت مضر بالآخر، وإن كان الضرر يدخل على أحدهما بأن كان نصيبه قليلا بحيث لا يبقى منتفعا بعد القسمة، ونصيب الآخر كثير يبقى منتفعا بعد القسمة فطلب صاحب الكثير القسمة فالقاضي يقسم. وإن طلب صاحب القليل وأبى الآخر لا يقسم، هكذا ذكر الخصاف، يعني في " أدب القاضي ".
وذكر الجصاص على عكس هذا، فذكر في قسمة " الواقعات " دار بين شريكين لأحدهما كثير وللآخر قليل لا ينتفع بنصيبه بعد القسمة طلب صاحب الكثير القسمة وأبى صاحب القليل قسمت الدار بينهما بالاتفاق وإن طلب صاحب القليل وأبى صاحب الكثير قال الكرخي في "مختصره ": لا يقسم، وإليه مال الفقيه أبو الليث وجعل هذا قول أصحابنا، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام الأسبيجابي، وذكر الحاكم الجليل في "مختصره " أن يقسم،(11/417)
وذكر الحاكم الشهيد في "مختصره" أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي، والوجه اندرج فيما ذكرناه، والأصح المذكور في الكتاب وهو الأول.
وإن كان كل واحد منهما ينتظر لصغره لم يقسمها إلا بتراضيهما، لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها ويجوز بتراضيهما؛ لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما. أما القاضي فيعتمد الظاهر.
قال: ويقسم العروض إذا كانت من صنف واحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإليه ذهب شيخ الإسلام خواهر زاده وعليه الفتوى.
وهذا خلاف ما ذكر في " أدب القاضي "، إلى هنا لفظ " الفتاوى الصغرى ". وقال الكاكي: وفي بعض النسخ ذكر الخصاف مكان الجصاص، وذكر الجصاص وهو الأصح لأنه موافق لرواية قاضي خان وغيرها، وفي " الذخيرة " قول الخصاف ما هو المذكور أولا. م: (وذكر الحاكم الشهيد في "مختصره ") ش: وفي بعض النسخ الصدر الشهيد م: (أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي) ش: أي الشريكين طلب قسمة الدار والأرض يقسم القاضي سواء كان الطالب صاحب الكثير أو القليل م: (والوجه اندرج فيما ذكرناه) ش: أي وجه ما ذكره الحاكم اندرج فيما ذكرناه.
قال تاج الشريعة: أي وجه ما ذكره الحاكم مندرجا في وجه رواية الكتاب ورواية الجصاص لأن وجه رواية الكتاب أن صاحب الكثير طالب لتكميل حقه وتوفير منفعته، ووجه الجصاص أن صاحب القليل رضي بضرر نفسه لنفع الغير فيقسم بطلبه م: (والأصح المذكور في الكتاب) ش: أي في " مختصر القدوري " م: (وهو الأول) ش: أي المذكور في الكتاب هو المذكور أولا وهو أنه لا يقسم إذا طلب صاحب القليل لأنه متعنت.
م: (وإن كان كل واحد منهما ينتظر لصغره لم يقسمها إلا بتراضيهما) ش: هذا لفظ القدوري إلا قوله لصغره م: (لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها) ش: أي وفي الجبر على القسمة، وهذا تفويت المنفعة م: (ويجوز بتراضيهما؛ لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما. أما القاضي فيعتمد الظاهر) ش: والقاضي على الضرر جائز، وعلى الرياء لا يجوز، ولهذا لو تراضيا على قسمة الحمام والثوب جائز، وإن كان لا يشفع كل واحد منهما بنصيبه بعد القسمة، وإن كان حنطة بين رجلين ثلاثون رديئة وعشرون جيدة فأخذ أحدهما عشرة جيدة والآخر ثلاثين رديئة، وقيمة العشرة مثل قيمة الثلاثة فإنه لا يجوز؛ لأنه ربا والرضا بالربا لا يجوز.
[قسمة العروض]
م: (قال: ويقسم العروض إذا كانت من صنف واحد) ش: أي قال القدوري: يعني يقسم جبرا إذا كانت من صنف واحد ولا يعلم فيه خلافا إلا عند ابن أبي جبيرة من أصحاب الشافعي وأصحاب الظاهر وأبي ثور. وقال في " شرح الطحاوي " الكيلي والوزني والذي ليس في تبعيضه مضرة إذا طلب أحدهما قسمته فإن القاضي يقسم بينهما، وكذلك العددي المتقارب.(11/418)
لأن عند اتحاد الجنس يتحد المقصود فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة.
ولا يقسم الجنسين بينهما بعضهما في بعض، لأنه لا اختلاط بين الجنسين، فلا تقع القسمة تمييزا، بل تقع معاوضة، وسبيل التراضي دون جبر القاضي. ويقسم كل موزون ومكيل كثير أو قليل، والمعدود المتقارب وتبر الذهب والفضة وتبر الحديد والنحاس والإبل بانفرادها، والبقر والغنم، ولا يقسم شاة وبعيرا وبرذونا وحمارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كانت أغناما أو إبلا أو بقرا أو جماعة ثياب من جنس واحد فإنه يقسمها، فأما الرقيق فلا يقسم بينهم عند أبي حنيفة لأنها كأجناس مختلفة لاختلاف منافعهم، وعندهما يقسم كالأغنام والإبل والبقر. وإن كان مع الرقيق مال أخذ قسمه كله في قولهم م: (لأن عند اتحاد الجنس يتحد المقصود فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة) ش: لإمكان التعديل بالكيل والوزن تمييزا بلا تفاوت، وكذلك الذهب والفضة والعددي المتقارب.
وأما الثياب والحيوانات فيمكن أن يجعل كل اثنين منهما بواحد أو واحد وبعض واحد.
[لا يقسم ما يتلفه القسم]
م: (ولا يقسم الجنسين بعضهما في بعض) ش: هذا لفظ القدوري في "مختصره "، أي لا يقسم القاضي جبرا الأجناس المختلفة قسمة الجميع بأن جمع نصيب أحدهما في الإبل والآخر في البقر، وبه قال مالك والشافعي - رحمهما الله - م: (لأنه لا اختلاط بين الجنسين، فلا تقع القسمة تمييزا، بل تقع معاوضة وسبيل التراضي دون جبر القاضي) ش: لأن ولاية الإجبار للقاضي يثبت معنى التمييز.
م: (ويقسم القاضي كل موزون ومكيل كثير أو قليل) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري م: (والمعدود المتقارب) ش: بالنصب أيضا، أي يقسم المعدود المتقارب م: (وتبر الذهب والفضة، وتبر الحديد والنحاس) ش: بالنصب عطف على المنصوب قبله، والتبر القطعة المأخوذة من المعدن م: (والإبل بانفرادها، والبقر والغنم) ش: بالنصب أيضا، أي يقسم الإبل والبقر بانفرادها وهو بكسر الهمزة والباء الموحدة. وفي بعض النسخ. والآنك بفتح الهمزة وضم النون وفي آخره كاف وهو الأشرب، وهي مناسبة لما قبله، والنسخة الأولى مناسبة لما بعدها، فافهم. والبقر والغنم بالنصب أيضا عطفا، أي يقسمها بانفراد كل واحد منهما لقلة التفاوت.
م: (ولا يقسم شاة وبعيرا وبرذونا وحمارا) ش: أي لا يقسم القاضي جبرا في هذه الأشياء قسمة جميعا بأن يجمع نصيب أحد الورثة في الشاة خاصة ونصيب الأخرى في البعير خاصة، بل يقسم الشاة بينهما والبعير بينهما على ما يستحقان. وفي " الذخيرة " والحاصل أن القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقسم الأجناس المختلفة من كل وجه قسمة جميع إذا أتى ذلك بعض الشركاء.(11/419)
ولا يقسم الأواني لأنها باختلاف الصنعة التحقت بالأجناس الخمسة ويقسم الثياب الهروية لاتحاد الصنف، ولا يقسم ثوبا واحدا لاشتمال القسمة على الضرر، إذ هي لا تتحقق إلا بالقطع ولا ثوبين إذا اختلفت قيمتهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي الجنس المتحد يقسم عند طلب البعض، وبه قال الفقهاء. وقال أبو ثور وأصحاب الظاهر: يقسم في الأجناس المختلفة ويخرج نصيب كل ما يقرعه في شخص من أشخاص وفي نوع من أنواعه استدلالا بما روى البخاري عن علي بن الحاكم الأنصاري بإسناده إلى رافع بن خديج «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم الغنيمة فعدل عشرة من الغنم ببعير واحد» .
قلنا: حديث غريب فلا يترك لأجل عمومات النصوص في أن الجبر لا يجري في المبادلات والقسمة بالسهم في الأجناس المختلفة مبادلة حقيقية، مع أن الحديث لا يكون حجة لاحتمال أن ذلك بطريق القسمة بالتراضي بقرينة لفظ تعدل عشرة الحديث مع أن حق الغانمين في المالية لا في المعين، ولهذا للإمام بيعها وقسمة ثمنها.
م: (ولا يقسم الأواني) ش: من الذهب والفضة والنحاس بعضها في بعض م: (لأنها باختلاف الصنعة التحقت بالأجناس المختلفة) ش: كالإجانة والقمقم والطشت، والمتخذة من الصفر مثلا وكذلك الأبواب المتخذة من القطن أو الكتان إذا اختلف بالصنعة كالقباء والجبة والقميص لا يقسم بعضها في بعض جبرا.
م: (ويقسم الثياب الهروية لاتحاد الجنس) ش: احترز به لأنها أجناس مختلفة، والقسمة تكون بطريق المعاوضة عن اختلاف الصنعة لأنه ذكره في " المبسوط "، ولا يقسم ثوبا لظبا وثوبا هرويا وسادة وبساطا لأنها أجناس مختلفة، والقسمة تكون بطريق المعاوضة والجبر لا يجري في المعاوضات فلا بد من التراضي م: (ولا يقسم ثوبا واحدا لاشتمال القسمة على الضرر، إذ هي لا تتحقق إلا بالقطع) .
ش: هذا أيضا تفريع على مسألة القدوري، أي الثوب الذي يخالف أوله آخره في الجودة، أو يكون ذا علم بعد قطعه يكون إتلافا، حتى لو لم يكن كذلك قسمة.
قوله: لاحتمال القسمة على الضرر إذ هي لا تتحقق إلا بالقطع، لأنها إتلاف جزء منها ومنه، وفي ذلك ضرر على المتقاسمين فلا يجوز للقاضي فعله، فإن تراضيا لم يفعله القاضي أيضا لما فيه من إتلاف الملك، ولكنهما يقتسمانها - إن شاء الله تعالى - بأنفسهما، أي ولا يقسم القاضي أيضا.
م: (ولا ثوبين إذا اختلفت قيمتهما) ش: لأنه لا يمكن التعديل إلا بزيادة دراهم مع الأوكس(11/420)
لما بينا، بخلاف ثلاثة أثواب إذا جعل ثوب بثوبين أو ثوب وربع ثوب بثوب وثلاثة أرباع ثوب؛ لأنه قسمة البعض المشترك دون البعض وذلك جائز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يجوز إدخال الدراهم في القسمة جبرا، لأن القسمة حق في الملك المشترك والشركة بينهما في الثياب، فلو أدخل في القسمة دراهم يقسم ما ليس بمشترك، وهذا لا يصح، فإن تراضيا على ذلك جاز للقاضي بأن يقسم، لأنه إتلاف في ذلك لما لهم، كذا في " شرح الأقطع " م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله بل يقع معاوضة وسبيلها التراضي.
م: (بخلاف ثلاثة أثواب إذا جعل ثوب بثوبين) ش: يعني يصح قسمتها بأن يجعل ثوب بثوبين يعني إذا كان قيمة الثوب الواحد مثل قيمة الثوبين وأراد أحدهما القسمة وإلى الآخر يقسم القاضي بينهما ويعطي أحدهما ثوبا وللآخر ثوبين م: (أو ثوب وربع ثوب) ش: أي ويجعل ثوب وربع ثوب م: (بثوب وثلاثة أرباع ثوب) ش: فإن كانت ثلاثة أثواب قيمة أحدهم دينار وربع وقيمة الآخر دينار وثلاثة أرباع دينار فإنه يقسم ويعطي الثوب الذي قيمته دينار وربع دينار لواحد، ويعطي الثوب الذي قيمته دينار وثلاثة أرباع دينار والثوب الآخر يشترك بينهما أرباعا، ربع لمن أخذ الثوب الذي قيمته دينار وربع دينار، وهذا لا يصير قسمة م: (لأنه قسمة البعض المشترك دون البعض) ش: لأن كل واحد منهما منفرد بثوب ويبقى الشركة في ثوب، وفي " النهاية " الأصح أن يقال: وإن استوت القيمة كان نصيب كل واحد ثوبا ونصفا فيقسم الثوبين بينهما ويدع الثالث مشتركا، وكذا لو استقام أن يجعل نصيب أحدهما ثوبا وثلثي الآخر كما ذكرنا.
وقال الكرخي في "مختصره": وكل صنف من الثياب ليستقيم فيه القسمة، فأما الثوب الواحد فلا يستقيم فيه القسمة، وكذلك الثوبان إذا اختلفت قيمتها لا تستقيم القسمة، إلا أن يراد دفع الأوكس دراهم قسمناه على الذي نصيبه الأفضل، فإن كان أحد الثوبين يساوي عشرين والآخر يساوي ثلاثين فإنهما يقومان على هذه القيمة ثم يقرع بينهما على أيهما أصابه الأوكس وأخذ ذلك مع سدس الأفضل.
فإن كرها ذلك وأجمعا على أن يزاد دراهم أسهم بينهما على أنه أيهما أصابه الأفضل رد خمسة دراهم على صاحب الأوكس، والثوب للواحد لا يستقيم فيه إذا كره أحدهما، فإن اختار ذلك ما لم يقسم إلا أن يصطلحا على سعة فيما بينهما فأما الحاكم فلا يسعة وثلاثة أثواب يستقيم فيها القسمة على ما فسرت لك من القيم ثوب بثوبين أو ثوب وربع ثوب وثلاثة أرباع أو دراهم يردها الذي نصيبه الأفضل على صاحب الأوكس لأنه قيمة ذلك البعض دون البعض م: (وذلك جائز) ش: لأنه يتيسر عليه التمييز في بعض المشترك، ولو تيسر ذلك في الكل عند طلب(11/421)
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقسم الرقيق والجواهر لتفاوتهما. وقالا: يقسم الرقيق لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم ورقيق المغنم. وله: أن التفاوت في الآدمي فاحش لتفاوت المعاني الباطنة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض الشركاء فكذلك في البعض وما فيه معاوضة يحتاج إلى التراضي.
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقسم الرقيق والجواهر لتفاوتهما) ش: أي بانفرادهما، أما إذا كان مع الرقيق شيء آخر يقسم بالاتفاق، وهذا أيضا من مسائل القدوري.
وقال السغناقي في الباب الثاني من كتاب المضاربة في " الجامع الكبير ": إن أبا حنيفة لا يرى قسمة الرقيق وإن كان الجنس واحدا للتفاوت بين الرقيقين في الذكاء والذهن، وألحقهما بالجنسين المختلفين.
ومعناه أي لا يجمع نصيب كل شريك في رقيق واحد فكذلك عندهما على رواية " الجامع الصغير " وكتاب المضاربة الكبيرة قبل أن رأى القاضي الصلاح في القسمة، فأما على رواية كتاب الصوم ورواية كتاب العين يريان القسمة ويجعلان نصيب كل شريك في رقيق واحد، انتهى.
وقال فخر الدين قاضي خان: وفي كتاب الوصايا من " الجامع الصغير " قال أبو حنيفة: لا يقسم الرقيق، يريد به قسمة الجمع بأن يجعل نصيب أحدهما في عبد، ونصيب الآخر في عبد فيدفع عبدا إلى هذا وعبدا إلى ذلك في غير رضا الشركاء إلا أن يكون معهم شيء آخر من غنم أو ثياب أو متاع فحينئذ يقسم ويجعل الرقيق بيعا كغيرهم، وقالا: القاضي بالخيار إن شاء قسم الكل دفعة واحدة، وإن شاء قسم كل عبد قسمة على حدة.
م: (وقالا: يقسم الرقيق) ش: أي قسمة جبر، وبه قالت الثلاثة م: (لاتحاد الجنس) ش: يعني أن الرقيق جنس واحد إذا كانوا ذكورا أو إناثا، وإنما التفاوت في القيمة وذا لا يمنع الصحة م: (كما في الإبل والغنم ورقيق المغنم) ش: أي وكما يقسم بالاتفاق في الإبل والبقر، فكما يقسم رقيق الغنيمة بلا خلاف كسائر الأموال، ولكون الرقيق كسائر الحيوان في العقود يثبت في الذمة مهرا ولا يثبت سلما.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن التفاوت في الآدمي فاحش لتفاوت المعاني الباطنة) ش: كالذهن والكياسة والأمانة والفروسية والكتابة، ألا ترى أن واحدا قد يظهر الفطنة والفضل وهو تلبيته في نفسه أبله، وقد يظهر البله وله ذهن وافر وعلم غزير، وهذا ظاهر حيث لا ينكر عاقل مستغن يدل عليه قول بعضهم ولم أر في الدنيا أشد تفاوتا من الناس حتى عد ألف(11/422)
فصار كالجنس المختلف، بخلاف الحيوانات؛ لأن التفاوت فيها يقل عند اتحاد الجنس، ألا ترى أن الذكر والأنثى من بني آدم جنسان ومن الحيوانات جنس واحد، بخلاف المغانم؛ لأن حق الغانمين في المالية حتى كان للإمام بيعها وقسمة ثمنها، وهنا يتعلق بالعين والمالية جميعا فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بواحد.
وقال الآخر: الأدب فرد يعدل الألف زائدا وألفا تراهم لا يساوون واحدا، ولأن المطلوب من العبد منه يختلف اختلافا فاحشا، لأنه قد يقصد من أحدهما الزراعة ومن الآخر الخدمة ونحو ذلك، ويصلح من أحدهما كما لا يصلح من الآخر، وإذا اختلفت الأعراض م: (فصار كالجنس المختلف) ش: فتعذر التعديل بين الأمرين إلا إذا كان مع العبد مال آخر، فحينئذ يقسم قسمة الجمع من غير رضا الشركاء، فيجعل الرقيق تبعا ولا يثبت مقصودا كبيع الشرب والطريق ونحو ذلك.
فإن قلت: مثل هذا يجب أن لا يقوم المستهلك من العبد.
قلت: لما لم يكن في التقوم به قوم فالقسمة منها به، فلم يجز أن يثبت من غير تعديل.
م: (بخلاف الحيوانات؛ لأن التفاوت فيها يقل عند اتحاد الجنس) ش: جواب عن قولهما لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم، وقيد بقوله عند اتحاد الجنس احترازا عما اختلف الجنس وأن الجنسين لا يقسم بعضها في بعض على ما مر.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لبيان الفرق نهى الرقيق وسائر الحيوانات م: (أن الذكر والأنثى من بني آدم جنسان، ومن الحيوانات جنس واحد) ش: وليس ذلك إلا باعتبار التفاوت، حتى لو اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هو جارية لا ينعقد العقد، ولو اشترى غنما أو إبلا على أنه ذكر فإذا هو أنثى ينعقد العقد م: (بخلاف المغانم) ش: جواب عن قولهما رقيق المغنم وذلك م: (لأن حق الغانمين في المالية حتى كان للإمام بيعها) ش:
أي بيع الغنائم م: (وقسمة ثمنها) ش: بين الغانمين م: (وهنا) ش: أي في شركة الملك م: (يتعلق بالعين والمالية جميعا فافترقا) ش: أي فافترق حكم رقيق المغنم وحكم شركة المالك، فلا يجوز، وقياسهما من أحدهما على الآخر.
فإن قيل: لو تزوج أو خالع على عبد صح، فصار كسائر الحيوانات فليكن في القسمة كذلك.
أجيب: بأن القسمة تحتاج إلى الإفراز فلا يتحقق في القسمة بخلاف ما ذكرتم فإنه لا(11/423)
وأما الجواهر فقد قيل: إذا اختلف الجنس لا يقسم كاللآلئ واليواقيت، وقيل: لا يقسم الكبار منها لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت، وقيل: يجري الجواب على إطلاقه؛ لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق، ألا ترى أنه لو تزوج على لؤلؤة أو ياقوتة أو خالع عليها لا تصح التسمية، ويصح ذلك على عبد فأولى أن لا يجبر على القسمة.
قال: ولا يقسم حمام ولا بئر ولا رحى إلا أن يتراضى الشركاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحتاج إليه.
م: (وأما الجواهر) ش: لما ذكر أولا شيئين بقوله الرقيق والجواهر، وبين حكم الرقيق شرع في بيان الجواهر فأما التفصيلية م: (فقد قيل: إذا اختلف الجنس لا يقسم) ش: أشار به إلى أن الجواب فيه على التفصيل على قول بعضهم وإن كانت أجناسا م: (كاللآلئ واليواقيت) ش: لا يقسم بعضها في بعض فإن انفرد جنس منها أمكن التعديل فيها منه، فجازت قسمته، وإليه ذهب الشيخ أبو منصور في شرحه.
م: (وقيل: لا يقسم الكبار منها) ش: أي من اللآلئ واليواقيت م: (لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت) ش: وهذا ظاهر، وكذا الحكم في الزمرد والبلخش والفيروزج ونحو ذلك.
م: (وقيل: يجري الجواب على إطلاقه) ش: أي جواب القدوري، أراد بإطلاقه أنه لا يقسم الجواهر مطلقا أصلا م: (لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق) ش: والرقيق لا يقسم عند أبي حنيفة فالجواهر أولى.
م: (ألا ترى أنه لو تزوج) ش: توضيح لما قبله، يعني لو تزوج امرأة م: (على لؤلؤة أو ياقوتة أو خالع عليها لا تصح التسمية) ش: لفحش الجهالة م: (ويصح ذلك) ش: أي التزوج والخلع م: (على عبد فأولى أن لا يجبر على القسمة) ش: وبه قالت الثلاثة.
[قسمة الحمام والبئر والرحى]
م: (قال: ولا يقسم حمام ولا بئر ولا رحى إلا أن يتراضى الشركاء) ش: أي قال القدوري وبه قالت الثلاثة. إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط أن يكون الحمام صغيرا بحيث لا يمكن الانتفاع به بعد القسمة، فأما إذا كان كبيرا ممكن الانتفاع به بعد القسمة يقسم جبرا، وبه قال مالك. وقال علاء الدين الأسبيجابي في " شرح الكافي " هذا في الحمام الصغير الذي إذا قسم لا يبقى منتفعا به انتفاع الحمام، فأما إذا بقي نصيب كل واحد منهما بعد القسمة منتفعا به انتفاع ذلك الجنس كأنه يقسم لانعدام الضرر، إلا أن يتراضوا على القسمة لأنهم رضوا بحمل الضرر.(11/424)
وكذا الحائط بين الدارين لأنها تشتمل على الضرر في الطرفين، إذ لا يبقى كل نصيب منتفعا به انتفاعا مقصودا فلا يقسم القاضي، بخلاف التراضي لما بينا.
قال: وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد قسم كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: إن كان الأصلح لهم قسمة بعضها في بعض قسمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الحائط بين الدارين) ش: أي وكذا لا يقسم الحائط الكائن بين الدارين جبرا. وقال الشافعي: إن أراد أحدهما قسمة في نصف الطول في كمال العرض فيه وجهان، أحدهما يجبر الآبي، والأصح أنه لا يجبر، وإن أراد أحدهما قسمته عرضا في كمال الطول، والحائط عرض في الأصح يجبر، وقيل لا يجبر كذا في " الحلية " م: (لأنها تشتمل على الضرر في الطرفين، إذ لا يبقى كل نصيب منتفعا به انتفاعا مقصودا فلا يقسم القاضي) ش: أي إذا كان كذلك فلا يقسمها القاضي.
وفي " شرح الكافي" للأسبيجابي قال أبو حنيفة: إذا كان طريق بين قوم إن اقتسموا لم يكن لبعضهم طريق ولا ممر فأراد بعضهم قسمته لم يقسمه، وكذلك إذا كان في قسمته ضرر على بعض دون بعض في ضيق الطريق وأنه لا يجد طريقا لم أقسمه بينهم إلا أن يتراضوا جميعا، وإذا كان يكون لكل واحد طريق نافذ قسمته وإذا طلب ذلك أحدهم.
وإذا كان طريق بين رجلين إن اقتسما لم يكن لواحد منهما فيه ممر ولكن لكل واحد منهما بقدر أن يفتح في منزله بابا ويجعله طويلا من وجه آخر فأراد أحدهما قسمته بينهما لأنه يقدر على الانتفاع فملكه من طريق آخر، وليس الشرط بقاؤه منتفعا به في هذه الجهة، بل بقاؤه منتفعا به في الجملة وأنه حاصل. وإذا كان مسيل ماء بين رجلين أراد أحدهما قسمته وأبى الآخر وإن كان فيه موضع مسيل الماء سوى هذه أقسمه، وإن لم يكن له موضع إلا بضرر لم أقسمه.
م: (بخلاف التراضي) ش: لالتزامهم الضرر م: (لما بينا) ش: أشار به إلى ما ذكره في أول الفصل بقوله وإن كان كل واحد منهما يستضر لصغره لم يقسمها إلا بتراضيهما.
[كيفية قسمة الدور مشتركة في المصر الواحد]
م: (قال وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد) ش: أي قال القدوري إذا كانت دار مشتركة بين قوم في مصر واحد، وفائدة التقييد بمصر واحد يأتي عن قريب م: (قسم كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي لا يجمع نصيب أحدهم في دار واحدة إلا بالتراضي، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، وحكي عن مالك أنه قال: إن كانت متجاورة جاز قسمة الجميع كما قال، وإن كانت متفرقة لا يجوز كما قال أبو حنيفة.
م: (وقالا إن كان الأصلح لهم قسمة بعضها في بعض قسمها) ش: يعني أن القاضي ينظر في(11/425)
وعلى هذا الخلاف الأقرحة المتفرقة المشتركة. لهما: أنها جنس واحد اسما وصورة ونظرا إلى أصل السكنى أجناس معنى نظرا إلى اختلاف المقاصد ووجوه السكنى، فيفوض الترجيح إلى القاضي. وله: أن الاعتبار للمعنى وهو المقصود، ويختلف ذلك باختلاف البلدان والمحال والجيران والقرب إلى المسجد والماء اختلافا فاحشا، فلا يمكن التعديل في القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك، وإن كانت أنصباء أحدهم إذا اجتمعت في دار كان أعدل القسمة جميع ذلك، لأن الدور في حكم جنس واحد لاتحاد المقصود بها وهو السكنى، وباعتبار الاسم واتحاد البلد والجنس الواحد يقسم كالغنم وغيره على ما يأتي الآن.
م: (وعلى هذا الخلاف الأقرحة المتفرقة المشتركة) ش: أي على الخلاف المذكور والأقرحة جمع قراح، وهي أرض خالية عن الشجر والبناء وغيرهما، فعنده لا يقسم قسمة جمع، وعندهما يقسم. ولأصحاب الشافعي فيه خلاف، فقال إسحاق الشيرازي: إن كانت متجاورة جاز قسمة الجمع.
وقال غيره من أصحابه: يجعل كالقراح الواحد إذا كان شربها واحدا.
وأما إذا كان شربها وطريقها مختلفا فهو كالأقرحة لا يقسم قسمة جبر. وفي " الحلية " وهذا أشبه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنها) ش: أي الدور م: (جنس واحد اسما وصورة ونظرا إلى أصل السكنى) ش: لاتحاد المقصود بها م: (أجناس معنى، نظرا إلى اختلاف المقاصد ووجوه السكنى) ش: من الطول والعرض والارتفاع والثبوت والمرافق والجيران والقرب إلى الماء والمسجد والبعد عنهما وغير ذلك، فعند تعارض الأدلة ينظر القاضي في ذلك ويعمل بالأصلح أشار إليه بقوله م: (فيفوض الترجيح إلى القاضي) ش: أي الرأي في ذلك له، فإن رأى أن يقسم كل دار قسم، وإن رأى الجمع فعل، كذا في " الفتاوى الظهيرية ".
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الاعتبار للمعنى وهو المقصود) ش: أي المعنى هو المقصود م: (ويختلف ذلك) ش: أي المقصود م: (باختلاف البلدان) ش: لأنه قد يكون السكنى في مصر م: (والمحال) ش: مع محلة، لأنه قد يكون محلة آمن من الأخرى وأحسن هو م: (والجيران) ش: جمع جار، لأنه قد يكون الجيران في محلة صلحاء دون جيران الأخرى م: (والقرب إلى المسجد والماء) ش: بأن يكون أحدهما قريبا من المسجد أو من الماء، والأخرى بعيدة منها، وقد يكون أحدهما أفره من الأخرى وغير ذلك من المقاصد م: (اختلافا فاحشا) ش: نصب لقوله مختلف م: (فلا يمكن التعديل في القسمة) ش: أي إذا كان كذلك لا يمكن التعديل فيها، فلا(11/426)
ولهذا لا يجوز التوكيل بشراء دار،
وكذا لو تزوج على دار لا تصح التسمية كما هو الحكم فيهما في الثوب، بخلاف الدار الواحدة إذا اختلفت بيوته؛ لأن في قسمة كل بيت على حدة ضررا فقسمت الدار قسمة واحدة. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تقييد الوضع في الكتاب إشارة إلى أن الدارين إذا كانتا في مصرين لا تجتمعان في القسمة عندهما، وهو رواية هلال عنهما. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يقسم إحداهما في الأخرى والبيوت في محلة أو محال تقسم قسمة واحدة؛ لأن التفاوت فيما بينهما يسير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقسم جبرا لأنها تصير حينئذ في حكم الأجناس، فيقسم كل دار على حدة م: (ولهذا) ش: أي ولتفاحش الاختلاف م: (لا يجوز التوكيل بشراء دار) ش: كما لا يصح بشراء ثوب للجهالة.
م: (وكذا لو تزوج على دار لا تصح التسمية كما هو الحكم فيهما) ش: أي في التوكيل والتزويج م: (في الثوب) ش: يعني كما لو وكل بشراء ثوب أو يتزوج على ثوب فإنه لا يصح كما ذكرنا م: (بخلاف الدار الواحدة إذا اختلفت بيوتها؛ لأن في قسمة كل بيت على حدة ضررا، فقسمت الدار قسمة واحدة) ش: الحاصل أن الدار لا تقسم قسمة واحدة عند أبي حنيفة إلا برضاء الشركاء، سواء كانت مجتمعة أو متفرقة. والبيوت تقسم قسمة واحدة مجتمعة كانت أو متفرقة لعلة التفاوت بين البيوت والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة تقسم كالدار الواحدة تبعا، وإن كانت في دور متفرقة أو كانت في دار واحدة ولكنها متباينة بأن كان أحد المنازل في أقصاها والأخرى في أدناها، فالجواب فيها كالدار في قولهم، لأن المنزل شبيها بالدار، والبيت [ ... ] منها.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تقييد الوضع بالكتاب) ش: أي قال المصنف تقييد وضع المسألة في " مختصر القدوري "، يعني به الذي قال وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد م: (إشارة إلى أن الدارين كانتا في مصرين لا يجتمعان في القسمة عندهما، وهي رواية هلال عنهما) ش: أي عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وهلال هو ابن يحيى البصري تلميذ أبي يوسف وزفر - رحمهما الله - وهو يسمى بهلال الرأي لفقهه.
م: (وعن محمد: أنه يقسم إحداهما في الأخرى) ش: أي أحد الدارين في المصرين، لأنه جعلهما جنسا واحدا باعتبار اتحاد الاسم كما لو كان في مصر واحد م: (والبيوت في محلة أو محال تقسم قسمة واحدة؛ لأن التفاوت فيما بينهما يسير) ش: لأنها لا تتفاوت في معنى السكنى ما ليست اسم لسقف واحد له دهليز، فلا يتفاوت في المنفعة عادة، ألا ترى أنه يؤجر بأجرة واحدة في كل محلة.(11/427)
والمنازل المتلازقة كالبيوت، والمتباينة كالدور؛ لأنه بين الدار والبيت على ما مر من قبل، فأخذ شبها من كل واحد.
قال: وإن كانت دارا وضيعة أو دارا وحانوتا يقسم كل واحد منهما على حدة لاختلاف الجنس. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل الدار والحانوت جنسين، وكذا ذكر الخصاف.
وقال في إجارات الأصل: إن إجارة منافع الدار بالحانوت لا تجوز، وهذا يدل على أنهما جنس واحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمنازل المتلازقة كالبيوت، والمتباينة كالدور؛ لأنه) ش: أي لأن المنزل م: (بين الدار والبيت) ش: لأن المنزل أصغر من الدار وأكبر من البيت، لأن المنزل اسم لدويرة صغيرة فيها بيتان أو ثلاثة، والبيت اسم لسقف واحد له دهليز كما ذكرناه، فالحاصل أن المنزل له منزل بين المنزلتين، فحاله تشبه الدار والبيت جميعا بالطريق الذي ذكرناه م: (على ما مر من قبل) ش: أي في باب الحقوق من كتاب البيوع م: (فأخذ شبها من كل واحد) ش: أي فأخذ المنزل شبها من كل واحد منهما على حدة لاختلاف الجنس.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن كانت دارا وضيعة أو دارا وحانوتا قسم كل واحد منهما على حدة لاختلاف الجنس) ش: يعني لا يقسم كل قسمة واحدة، بل يقسم كل واحدة منهما على حدة، لأن الدار مع الضيعة جنسان، وكذا الدار مع الحانوت، فيكون قسمة البعض إلى البعض معاوضة فلا يجوز ذلك إلا بالتراضي، وكانت هاهنا تامة بمعنى وجدت، ولهذا لا يحتاج إلى الخبر، وقوله دار بالرفع فاعله وما بعده عطف عليه، ويجوز نصب الدار على تقدير أن يكون كانت ناقصة محذوف الاسم، تقديره فإن كانت البينة دارا.. إلخ.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل الدار والحانوت جنسين) ش: أي قال المصنف جعل القدوري الدار والحانوت جنسين م: (وكذا ذكر الخصاف) ش: وهو أبو بكر أحمد بن عمرو الخصاف الشيباني صاحب "كتاب أدب القاضي "، قال في " أدب القاضي " وإن كانت دارا وأرضا، أو دارا وحانوتا لم يجمع نصيب كل واحد من ذلك في حد النصفين، وقسم كل واحد من ذلك بينهم على حدة، انتهى. وإنما رضي الخصاف بالذكر لأن هذه المسألة لم تذكر في كتب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا ذكرها الطحاوي ولا الكرخي في "مختصريهما ".
م: (وقال) ش: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في إجارات الأصل إن إجارة منافع الدار بالحانوت لا تجوز) ش: أي إجارة منافع الدار شهرا بسكنى حانوت شهرا لا يجوز، قال في الأصل واستئجار السكنى بالسكنى لا يجوز، واستئجار السكنى بالخدمة يجوز، وذلك لأن الجنس بانفراده يحرم [ ... ] ، واحتاج صاحب " الهداية " إلى التوفيق بين ما إذا ذكره الخصاف، وبين ما إذا ذكره في "كتاب الإجارات"، فقال م: (وهذا يدل على أنهما جنس واحد) ش: أي الحانوت(11/428)
فيجعل في المسألة روايتان، أو تبنى حرمة الربا هنالك على شبهة المجانسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والدار م: (فيجعل في المسألة روايتان) ش: يعني إما يحمل ذلك على اختلاف الرواية، أو يقال إنهما جنسان كما ذكره الخصاف.
م: (أو تبني حرمة الربا هنالك) ش: أي في إجارات الأصل م: (على شبهة المجانسة) ش: يعني إذا كانت منافع الدور ومنافع الحانوت مختلفة رواية واحدة، وتحمل حرمة الربا على شبهة المجانسة من منافع الدار والحانوت لاتحاد أصل السكنى المقصود منهما. وفي " الكافي " هكذا ذكره في " الهداية " وهو مشكل، لأنه يؤدي على اعتبار شبهة بالشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون المنازل منها.
وقال تاج الشريعة قيل عليه ينبغي أن لا يصير شبهة المجانسة في حق الحرمة، لأن في حقيقة المجانسة إذا باع الشيء بجنسه يصير شبهة الربا، ففي شبهة المجانسة يعني تصير شبهة الشبهة، وهي لا تعتبر، انتهى.
وقد قال شمس الأئمة الحلواني: إما أن يكون في المسألة روايتان، أو يكون من مشكلات هذا الكتاب. وقيل في جوابه لا بل اعتبر الشبهة، لأن السكنى جنس واحد فيكون كإجارة السكنى بالسكنى، وهي شبهة لا شبهة شبهة، وفيه ضعف كما ترى.(11/429)
فصل في كيفية القسمة قال: وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه ليمكنه حفظه ويعدله، يعني يسويه على سهام القسمة، ويروى يعزله أي: يقطعه بالقسمة عن غيره ويذرعه ليعرف قدره، ويقوم البناء لحاجته إليه في الآخرة. ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه، حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق فتنقطع المنازعة ويتحقق معنى القسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كيفية القسمة]
430 - م: (فصل في كيفية القسمة) ش: أي هذا فصل في بيان كيفية القسمة بين الشركاء والكيفية صفة، فلا جرم أن تذكر بعد الموصوف، وهو جواز القسمة.
م: (قال: وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه) ش: أي قال القدوري: والمراد من تصوير ما يقسمه أن يكتب صورته على القرطاس ليمكن حفظ ما يقسمه ليرفع ذلك القرطاس إلى القاضي حتى يتولى الإقراع بينهم بنفسه إن كان لم يأمره بالإقراع م: (ليمكنه حفظه) ش: أي لتمكن القاسم حفظ ما يقسمه م: (ويعدله، يعني يسويه على سهام القسمة) ش: فيسري التعديل بتسوية ما يقسمه على سهام الشركاء.
م: (ويروى يعزله) ش: أشار به إلى أن في بعض نسخ " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقع ويعزله مكان قوله ويعدله، ثم فسره بقوله ويعدله م: (أي: يقطعه بالقسمة عن غيره ويذرعه ليعرف قدره، ويقوم البناء لحاجته إليه في الآخرة) ش: إنما يقوم البناء، لأن القسمة لتعديل الأنصباء، ولا يحصل التعديل إلا بتقويم البناء لأن قيمته أكثر من قيمة الساحة ويقوم البناء أولا، لأنه لا يحتاج إلى ذلك حالة القسمة، لأنه يقسم الساحة بالذراع، وفي البناء بالقيمة. وقوله في الآخرة بالفتحتان، أراد به آخر الأمر، وإنما يحتاج إليه في آخر الأمر، إذ البناء يقسم على حدة، فيقوم حتى إذا قسمت الأرض بالمساحة ووقعت إلى نصيب أحدهم يعرف قيمة الدار، فبعض الأجر مثل ذلك.
م: (ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه) ش: أي تمييز كل نصيب عن الباقي بطريق كل نصيب، وشربه بكسر الشين حتى تنقطع المنازعة على التمام، فيقول هذا لك وهذا له وهذا لآخر، وطريقه أن يجعل طريق أحدهما ومسيل ما به إلى داره إن أمكن، وإن لم يكن بأن كان ظهره إلى دار رجل يجعل الطريق ومسيل الماء في نصيب أحدهما لأن القسمة إنما شرعت لتكميل المنفعة على وجه لا يتضرر أحدهما، وتنقطع المنازعة بينهما، وانقطاعها إنما يكون بأن لا يبقى لأحدهما حق في نصيب صاحبه إن أمكن، وإن لم يمكن يجعل ذلك في دار صاحبه م: (حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق. فتنقطع المنازعة ويتحقق معنى القسمة على(11/430)
على التمام. ثم يلقب نصيبا بالأول والذي يليه بالثاني والثالث على هذا، ثم يخرج القرعة، فمن خرج اسمه أولا فله السهم الأول، ومن خرج ثانيا فله السهم الثاني. والأصل: أن ينظر في ذلك إلى أقل الأنصباء، حتى إذا كان الأقل ثلثا جعلها أثلاثا، وإن كان سدسا جعلها أسداسا لتمكن القسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التمام ثم يلقب نصيبا بالأول والذي يليه بالثاني والثالث على هذا) ش: أي على هذا الترتيب بأن يلقب الذي يلي الثالث بالرابع والذي يلي الرابع بالخامس وهلم جرا.
م: (ثم يخرج القرعة، فمن خرج اسمه أولا) ش: وفي بعض النسخ فمن خرج سهمه م: (فله السهم الأول، ومن خرج ثانيا فله السهم الثاني) ش: ومن خرج ثالثا فله السهم الثالث، ومن خرج رابعا فله السهم الرابع وهلم جرا.
م: (والأصل: أن ينظر في ذلك إلى أقل الأنصباء، حتى إذا كان الأقل ثلثا جعلها أثلاثا) ش: أي جعل الدار أثلاثا بأن كانت الورثة ابنا وبنتا فكتب على القرعة اسمهما، ويسمى الثلث المعين من الأرض أولا وما يليه ثانيا. والثلث الآخر آخرا، ويقرع، فإن خرج اسم الابن أولا يأخذ الثلث الأول مع ما يليه، وتعين الثلث الآخر للبنت. ولو خرج سهم البنت أولا تأخذ البنت بالثلث الأول، وتعين الثلثان الآخران للابن.
م: (وإن كان سدسا جعلها أسداسا لتمكن القسمة) ش: أي وإن كان الأقل سدسا مثل أن يكون في المسألة نصف وثلث وسدس من زوج وأم وأخ لأم يخرج الأرض على ستة، فمن خرج اسمه أولا يأخذ السهم الأول فحسب إن كان صاحب سدس، ويأخذ ما يليه إن كان صاحب ثلث ويأخذ من السهمين اللذين يلياه إن كان صاحب نصف، ثم يقرع ثانيا ويفعل مع الآخرين كما فعل مع الأول.
وقال الشيخ حافظ الدين في " الكافي ": وشرح ذلك أرض بين جماعة مشتركة لأحدهم سدس وللآخر خمسة والآخر سهم، فأرادوا قسمتها على قدر سهامهم عشرة وخمسة وواحد.
وكيفية ذلك أن يجعل بنادق على عدة سهامهم ويقرع بينهم، وأول بندقة تخرج موضع على طرف من أطراف السهام، وهو أول السهام، ثم ينظر إلى البندقة لمن هي، فإن كانت لصاحب العشرة فأعطاه ذلك السهم وتسعة لسهم متصلة بذلك السهم الذي وضعت البندقة عليه ليكون سهام صاحبها على الاتصال، ثم يفرع بين البقية كذلك، فأول نيته قد خرج يوضح على طرف من الأطراف الستة الباقية، ثم ينظر إلى البندقة أين هي؟ فإن كانت لصاحب الخمسة أعطاه القاضي ذلك السهم وأربعة متصلة بذلك السهم، ويبقى السهم الواحد لصاحبه(11/431)
وقد شرحناه مشبعا في " كفاية المنتهي " بتوفيق الله تعالى.
وقوله في الكتاب: ويفرز كل نصيب بطريقه وشربه بيان الأفضل، فإن لم يفعل أو لم يمكن جاز على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله، والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كانت البندقة لصاحب الواحد كان له الطرف الذي وضعت عليه البندقة فتكون الخمسة الباقية لصاحب الخمسة.
وتفسيره أن يكتب القاضي أسماء الشركاء في بطاقات ثم يطوي كل بطاقة بينهما يجعلها في قطعة طين، ثم يدلكها بين كفيه، حتى تصير مستديرة فتكون شبهة البندقة، كذا في " الذخيرة البرهانية " و " الفتاوى الظهيرية " ولا خلاف فيه للأئمة الثلاثة.
وقال الخصاف في " أدب القاضي " لا يقسم شيء من الدور والعقار حتى يصور ذلك ويعرف ما حولها ما كان ذلك مسارعا إلى الطريق أو إلى دار أو إلى بيوت ثم يميز ذلك حتى لا يكون لأحد على أحد طريق ولا سبيل، وليسوا على السهام التي يريدوا أن يقسموا عليها، فإذا قطعها على ذلك على أنه من أخرج أولا كان له موضع كذا، وكذا كل سهم يلي الآخر، فإذا علم أنه ليس يدخل عليهم ضرر في ذلك، وأنه طريقهم ومسيل مياههم ومرافقهم مستوية إلى القاضي بالصورة فوضعها القاضي بين يديه، وكتب رقاعا باسم رجل وامرأة منهم، وجعل كل رقعة منهما في طين وبندقة وقال من خرج سهمه أولا فله موضع كذا إلى موضع كذا، ثم الثاني يلي كذا إلى موضع كذا، ثم الثالث يليه حتى يقرع السهام وقد يطرح البنادق تحت شيء ثم يدخل يده فيخرج واحدة فينظر لمن هي فهو السهم الأول.
وكذا الثاني حتى يقرع ثم يكتب القاضي كتاب القسمة نسختين، نسخة تكون معهم، ونسخة تكون في ديوان القاضي، ويكتب في السجل أنه قسمها بينهم إن كانت قائمة عنده بيمين أو بإقراره إن كانوا أقروا عنده بذلك ويقسم الأثر على وجه، انتهى م: (وقد شرحناه مشبعا في " كفاية المنتهي " بتوفيق الله تعالى) ش: أي قد شرحنا الأصل في ذلك مع كيفيته حال كونه مشبعا، أي مستوفى كاملا من غير ترك شيء فيما يتعلق بهذا الباب.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول القدوري في "مختصره " م: (ويفرز كل نصيب بطريقه وشربه بيان الأفضل، فإن لم يفعل) ش: أي فإن لم يفرز الطريق وبقي بينهم كما كان م: (أو لم يمكن) ش: أي إفراز الطريق م: (جاز على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله) ش: أراد عند قوله فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل في نصيب الآخر أو طريق إلى آخر م: (والقرعة لتطييب القلوب وإزالة تهمة الميل) ش: أي ولإزالة تهمة الميل إلى أحد الشركاء.
وهذا جواب استحسان، والقياس يأباها، لأنه تعليق الاستحسان بخروج القرعة وذلك(11/432)
حتى لو عين لكل منهم نصيبا من غير إقراع جاز لأنه في معنى القضاء، فيملك الإلزام.
قال: ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قمار، ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى المال وتعيين المطلقة، ولكن تركناها هنا بالتعامل الظاهر من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وليس في معنى القمار، وليس في " المبسوط " استعمال القرعة حرام في القياس، لأن في الإقراع تعليق الاستحقاق بخروج القارعة، وهو حرام، لأنه في معنى القمار والاستقسام بالأزلام التي كان يعتاده أهل الجاهلية، ولكنا تركناه استحسانا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن هذا ليس في معنى القمار.
ونفي القمار أصل الاستحقاق يتعلق بما يستعمل فيه، وهاهنا أصل الاستحقاق فلا يتعلق بخروجها، لأن القاسم لو قال أنا عدل فخذ أنت هذا الجانب وأنت هذا الجانب كان مستقيما، إلا أنه مما يتهم في ذلك، فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء وهي في تهمة الميل من نفسه وذلك جائز كما فعل يونس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مثل هذا مع أصحاب السفينة لما علم أنه هو المقصود، ولكن أبقى نفسه في الماء بما ينسب إلى ما لا يليق بالأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فاستعملها لذلك.
وكذلك زكريا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل القرعة في ضم مريم - عَلَيْهَا السَّلَامُ -، مع أنه كان أحق بها لمكان خالتها عنده، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا تطييبا لقلوبهن، ثم لا يجوز إلا بالبعض بعد خروج بعض السهام، كما لا يلتفت القاضي إلى آياته قبل خروج القرعة. وإن كان القاسم قسم بالتراضي فرجع بعضهم بعد خروج القرعة كان له ذلك.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وقال في قول: لا يعتبر كقسمة الحاكم وبعد خروج كل السهام لا يعتبر رجوعه بالإجماع. وإذا خرج جميع السهام إلا واحدا فقد تمت القسمة لتعيين نصيب ذلك الواحد، وبعد ذلك لا يعتبر الرجوع.
م: (حتى لو عين لكل منهم نصيبا من غير إقراع جاز) ش: أي حتى لو عين القاسم لكل واحد من الشركاء نصيبا من غير أن يقرع بينهم لجاز، وفي بعض النسخ من غير إقراع م: (لأن القسمة في معنى القضاء فيملك الإلزام) ش: أي لأن القسمة، والتذكير باعتبار القسم في معنى قضاء القاضي، فيملك الإلزام، أي إلزام الشركاء بما فعل من القسمة، ولأن القرعة لتطييب القلوب كما ذكرنا.
[لا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم]
م: (قال: ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم) ش: أي الدراهم التي يجوز بها تفاوت الأنصباء يعني إذا كانت القسمة في عقار فأصاب أحدهم أكثر التفاوت فيعطي رب(11/433)
لأنه لا شركة في الدراهم، والقسمة من حقوق الاشتراك، ولأنه يفوت به التعديل في القسمة؛ لأن أحدهما يصل إلى عين العقار ودراهم الآخر في ذمته، ولعلها لا تسلم له. وإذا كان أرض وبناء عن أبي يوسف: أنه يقسم كل ذلك على اعتبار القيمة، لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يقسم الأرض بالمساحة؛ لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يرد من وقع البناء في نصيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزيادة دراهم لصاحبه لا يجوز إلا بالتراضي. صورته دار بين جماعة، فأرادوا قسمتها وفي أحد الجانبين فضل بناء فأراد أحد الشركاء أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه من الأرض فإنه يجعل عوض البناء من الأرض لا من الدراهم إلا إذا تعذر، فحينئذ للقاضي ذلك. وإذا كان ذلك بالقاضي جاز ذلك، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان الرد فيها قائلا، لأن جاز وإن كان كثيرا بطلت القسمة م: (لأنه لا شركة في الدراهم) ش: أي لأن الشأن لا شركة في الدراهم، أراد أن الشركة لم يكن فيها دراهم م: (والقسمة من حقوق الاشتراك) ش: يعني القسمة لا تكون إلا فيما فيه اشتراك.
م: (ولأنه يفوت به التعديل) ش: أي ولأن الشأن يفوت بإدخال الدراهم م: (في القسمة) ش: التعديل أراد به في صورة يمكن التعديل بدون إدخال الدراهم، والتعديل هو المراد بالقسمة يفوت بإدخال الدراهم، وذلك م: (لأن أحدهما يصل إلى عين العقار ودراهم الآخر في ذمته) ش: أي لأن أحد المتقاسمين يصل إلى عين العقار والحال أن دراهم المتقاسم الآخر في ذمته وقت القسمة م: (ولعلها لا تسلم له) ش: أي ولعل الدراهم لا تسلم للآخر، لأنه من العلل وليس ما يصل الرجل إليه في الحال وما لا يصل معادلة، فلا يصار إليه إلا عند الضرورة.
م: (وإذا كان أرض وبناء) ش: ألفين مثلا فأرادا القسمة فروي م: (عن أبي يوسف أنه يقسم كل ذلك) ش: أي الأرض والبناء م: (على اعتبار القيمة، لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن القسمة لتعديل الأنصباء ولا يمكن التعديل بين الأرض والبناء إلا بالتقويم، فيصار إليه.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقسم الأرض بالمساحة) ش: أي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن القاضي يقسم الأرض بالذراع م: (لأنه هو الأصل في الممسوحات) ش: هي الأصل، وذكر الضمير باعتبار تأويل الذرع، وذلك لأن قدرها لا يعلم إلا بالذرع م: (ثم يرد من وقع البناء في نصيبه) ش: دراهم من الآخر بقدر فضل البناء، لأنه أكثر قيمة من العرصة غالبا.(11/434)
أو من كان نصيبه أجود دراهم على الآخر حتى يساويه فتدخل الدراهم في القسمة كالأخ لا ولاية له في المال، ثم يملك تسمية الصداق ضرورة التزويج. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يرد على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة وإذا بقي فضل، ولا يمكن تحقيق التسوية، بأن كان لا تفي العرصة بقيمة البناء، فحينئذ يرد للفضل دراهم لأن الضرورة في هذا القدر فلا يترك الأصل إلا بها، وهذا يوافق رواية الأصل.
قال: فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل في نصيب الآخر، أو طريق لم يشترط في القسمة. فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله م: (أو من كان نصيبه أجود) ش: أي أو يرد من كان نصيبه أجود، سواء كان الذي هو أصابه البناء أو أصاب العرصة م: (دراهم على الآخر حتى يساويه، فتدخل الدراهم في القسمة كالأخ لا ولاية له في المال) ش: أي كما قلنا في الأخ أنه ولاية له في مال أخته الصغيرة م: (ثم يملك تسمية الصداق ضرورة التزويج) ش: أي لأجل ضرورة صحة النكاح، لأن النكاح ليس بمشروع بلا مهر.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يرد على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة) ش: أي وروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعطي الشريك الآخر من العرصة بمقابلة فضل البناء حتى يستوي كل واحد من الشريكين في القسمة م: (وإذا بقي فضل) ش: من قيمة البناء م: (ولا يمكن تحقيق التسوية بأن كان لا تفي العرصة بقيمة البناء فحينئذ يرد للفضل دراهم) ش: أي وإذا بقي فضل من قيمة البناء، والحال أنه لم يمكن تحقيق التسوية بين البناء والعرصة بالزيادة من العرصة لكثرة فضل البناء، فحينئذ يرد من وقع في تهمة البناء دراهم على صاحبه بمقابلة ما بقي من الفضل.
وقوله: دراهم بالنصب حال من الفضل، فافهم. م: (لأن الضرورة في هذا القدر) ش: يعني لأن الضرورة دعت إلى إعطاء الدراهم في هذا القدر م: (فلا يترك الأصل) ش: الذي هو الذرع في المساحات م: (إلا بها) ش: أي لأجل الضرورة م: (وهذا يوافق رواية الأصل) ش: أي الذي روي عن محمد يوافق رواية المبسوط، لأنه قال فيه يقسم الدار مذارعة ولا يجعل لأحدهما على الآخر فضل من الدراهم وغيره.
م: (قال: فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل في نصيب الآخر) ش: أي قال القدوري يعني فإن قسم القسام الدار المشتركة بين الشركاء والحال أن لأحدهم المسيل، والمسيل بفتح الميم وكسر السين موضع سيل الماء.
م: (أو طريق لم يشترط في القسمة، فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه) ش: أي عن الآخر(11/435)
ليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب الآخر لأنه أمكن تحقيق معنى القسمة من غير ضرر. وإن لم يكن فسخت القسمة لأن القسمة مختلة لبقاء الاختلاط فتستأنف. بخلاف البيع، حيث لا يفسد في هذه الصورة؛ لأن المقصود منه تمليك العين وأنه يجامع تعذر الانتفاع في الحال أما القسمة فلتكميل المنفعة ولا يتم ذلك إلا بالطريق، ولو ذكر الحقوق في الوجه الأول كذلك الجواب؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ليس له) ش: أي الذي مسيله في نصيب الآخر م: (أن يستطرق) ش: أي يتخذ طريقا في نصيب الآخر م: (ويسيل) ش: من السيل، أي يجري ماء.
م: (في نصيب الآخر لأنه أمكن تحقيق معنى القسمة) ش: وهو الإفراز والتمييز م: (من غير ضرر وإن لم يكن) ش: صرف الطريق والمسيل عنه م: (فسخت القسمة؛ لأن القسمة مختلة لبقاء الاختلاط) ش: وعدم الإفراز والتمييز م: (فتستأنف) ش: أي إذا كان كذلك فيستأنف القسمة.
وقال الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي ": فهذا لا يخلو إما أن يذكر في القسمة الطريق أو لا يذكر، فإن ذكروا فالقسمة جاهزة ويمر في الطريق، وإن لم يذكروا فإنه ينظر إن كان له مفتح فيما أصابه فإنه يفتح الطريق فيها سواء ذكروا بكل حق هو له أو لم يذكروا وإن لم يكن له مفتح فيما أصابه إن ذكروا بكل حق هو له فإنه يمر في نصيب صاحبه، وإن لم يذكروا بكل حق هو له فالقسمة باطلة وكذلك في حق مسيل الماء.
م: (بخلاف البيع حيث لا يفسد في هذه الصورة) ش: يعني فيما إذا باع دارا أو أرضا فإنه لا يبطل لعدم دخول الطرق والشرب في البيع لأنهما لا يدخلان في البيع من غير ذكرهما، والمراد من الطريق الخاص في ملك إنسان م: (لأن المقصود منه) ش: أي من البيع م: (تمليك العين) ش: أي إثبات الملك في العين فحسب، والدار بدون الطريق والأرض بدون الشرب يقبل، والملك لا يستحق ذلك إلا بالتنصيص.
م: (وأنه يجامع تعذر الانتفاع في الحال) ش: أي وإن البيع يجامع تعذر الانتفاع بالمبيع في الحال، أراد أن الانتفاع به في الحال ليس بشرط في صحة البيع، كما إذا اشترى جحشا صغيرا بأن المبيع صحيح، مع أنه لا ينتفع به في الحال م: (أما القسمة لتكميل المنفعة ولا يتم ذلك) ش: أي تكميل المنفعة م: (إلا بالطريق) ش: لأن أحدا منهم لا ينتفع بنصيبه إلا بالطريق والشرب.
م: (ولو ذكر الحقوق في الوجه الأول) ش: وهو إذا أمكن ضرب الميل والطريق م: (كذلك الجواب) ش: يعني ليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب الآخر إذا أمكن صرف الطريق والمسيل إن ذكر الحقوق في القسمة بأن قال القسام بذلك بحقوقك، فإن لم يمكن صرفها(11/436)
لأن معنى القسمة الإفراز والتمييز، وتمام ذلك بأن لا يبقى لكل واحد تعلق بنصيب الآخر، وقد أمكن تحقيقه بصرف الطريق والمسيل إلى غيره من غير ضرر فيصار إليه، بخلاف البيع إذا ذكر فيه الحقوق حيث يدخل فيه ما كان له من الطريق والمسيل؛ لأنه أمكن تحقيق معنى البيع وهو التمليك مع بقاء هذا التعلق بملك غيره، وفي الوجه الثاني: يدخل فيها، لأن القسمة لتمليك المنفعة، وذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يستحقها بذكر الحقوق، وحاصله أنه إن أمكن صف الطريق والمسيل فلا يخلو إما ذكر الحقوق أو لا، فإن لم يذكر لا يدخل الحقوق ولا تفسخ القسمة، وإن لم يمكن فإن ذكر الحقوق فتدخل الحقوق ولا تفسخ القسمة وإن لم يذكر الحقوق لا يدخل الحقوق ويفسخ القسمة.
صورته دار بين رجلين وفيها صفة بيت وباب البيت في الصفة ومسيل ماء البيت على سطح الصفة فاقتسما فأصاب الصفة أحدهما وقطعه من الساحة ولم يذكر طريقا ولا مسيل ماء. وصاحب البيت يقدر أن يفتح بابه فيما أصابه من الساحة ويسيل ماءه في ذلك، وإذا أراد أن يمر في الصفة على حاله فيسيل الماء على ما كان فليس له ذلك سواء شرط كل واحد أن له ما أصابه بكل حق له أو لا، بخلاف البيع، فإنه لو باع البيت وذكر في البيع الحقوق والمرافق دخل الطريق والمسيل وإن لم يذكر الحقوق لم يدخل، والفرق ما ذكرناه ولو لم يكن له مفتح للطريق ولا مسيل ماء، فإن كان ما ذكر في القسمة أن لكل واحد منهما ما أصابه بكل حق هو له جازت القسمة، وكان طريقه في الصفة ومسيل ماء على سطحه كما كان قبل القسمة وإن لم يذكر الحقوق والمرافق فالقسمة فاسدة، بخلاف البيع، فإنه يكون صحيحا وإن لم يذكر الحقوق والمرافق.
م: (لأن معنى القسمة الإفراز والتمييز، وتمام ذلك) ش: أي تمام الإفراز والتمييز م: (بأن لا يبقى لكل واحد تعلق بنصيب الآخر وقد أمكن تحقيقه) ش: أي تحقيق معنى القسمة م: (بصرف الطريق والمسيل إلى غيره من غير ضرر، فيصار إليه) ش: أي من غير ضرر إلى الغير، فيصار إلى صرفها إلى غيرهما من غير ضرر له.
م: (بخلاف البيع إذا ذكر فيه الحقوق حيث يدخل فيه ما كان له من الطريق والمسيل؛ لأنه أمكن تحقيق معنى البيع وهو التمليك) ش: أي إثبات الملك في العين م: (مع بقاء هذا التعليق) ش: وهو تعلق حق الطريق والمسيل م: (بملك غيره) ش: أي غير المشتري م: (وفي الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا لم يمكن صرف الطريق والمسيل م: (يدخل فيها) ش: أي يدخل كل واحد من الطريق والمسيل في القسمة م: (لأن القسمة لتمليك المنفعة وذلك) ش: أي تمليك المنفعة.(11/437)
بالطريق والمسيل، فيدخل عند التنصيص باعتباره، وفيها معنى الإفراز، وذلك بانقطاع التعلق على ما ذكرنا، فباعتباره لا يدخل من غير تنصيص، بخلاف الإجارة حيث يدخل فيها بدون التنصيص؛ لأن كل المقصود الانتفاع وذلك لا يحصل إلا بإدخال الشرب والطريق، فيدخل من غير ذكر.
ولو اختلفوا في رفع الطريق بينهم في القسمة إن كان يستقيم لكل واحد طريق يفتحه في نصيبه، قسم الحاكم من غير طريق يرفع لجماعتهم لتحقق الإفراز بالكلية دونه، وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقا بين جماعتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بالطريق والمسيل، فيدخل عند التنصيص) ش: بذكر الحقوق م: (باعتباره) ش: أي باعتبار تمليك المنفعة م: (وفيها) ش: أي في القسمة م: (معنى الإفراز، وذلك) ش: أي معنى الإفراز م: (بانقطاع التعلق من الغير على ما ذكرنا) ش: في أول الكتاب م: (فباعتباره) ش: أي فباعتبار معنى الإفراز (لا يدخل) ش: أي كل واحد من الطريق والمسيل م: (من غير تنصيص) ش: بذكر الحقوق.
والحاصل أنه باعتبار معنى تكميل الانتفاع ينبغي أن يدخل في القسمة وإن لم يذكر الحقوق، باعتبار معنى الإفراز ينبغي أن لا يدخل، أو إن ذكرت الحقوق في اعتبار المعنيين جميعا، فقلنا إذا ذكرت الحقوق دخلا في القسمة وإلا فلا.
م: (بخلاف الإجارة حيث يدخل فيها بدون التنصيص) ش: هذا يتعلق بقوله بخلاف البيع، أي حيث يدخل كل واحد من الطريق والمسيل في الإجارة بدون التنصيص بذكر الحقوق وبدون التنصيص عليهما أيضا م: (لأن كل المقصود الانتفاع) ش: أي ولأن المقصود كله من باب الإجارة الانتفاع بالمحل م: (وذلك لا يحصل إلا بإدخال الشرب والطريق، فيدخل من غير ذكر) ش: ألا ترى لو استأجر جحشا أو أرضا مسخة للزراعة لا يجوز لفوات ما هو المقصود وهو الانتفاع. بخلاف البيع، فإن المقصود منه تملك العين كما مر تقريره.
م: (ولو اختلفوا في رفع الطريق بينهم في القسمة) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، أي ولو اختلف الشركاء أو الورثة، والمراد من رفع الطريق أن يترك الطريق بين جماعتهم مشتركا بينهم كما كان، ويرفع من القسمة ولا يدخل فيها. قال تاج الشريعة: يعني كان يقول بعض الشركاء كالإيداع طريقا يقسم الكل، وكان يقول بعضهم: بل يدعي. قال بعضهم: يرفع، وقال بعضهم: لا يرفع فالحكم في ذلك أن ينظره القاضي م: (إن كان يستقيم لكل واحد طريق يفتحه في نصيبه قسم الحاكم من غير طريق يرفع لجماعتهم) ش: أي من غير طريق يترك للجماعة، وقوله يرفع صفة الطريق م: (لتحقق الإفراز بالكلية دونه) ش: أي دون رفع الطريق.
م: (وإن كان لا يستقيم ذلك) ش: أي صح طريق في نصيبه م: (رفع طريقا بين جماعتهم)(11/438)
ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق، ولو اختلفوا في مقداره جعل على عرض باب الدار وطوله لأن
الحاجة
تندفع به، والطريق على سهامهم كما كان قبل القسمة، لأن القسمة فيما وراء الطريق لا فيه.
ولو شرطوا أن يكون الطريق بينهما أثلاثا جاز وإن كان أصل الدار نصفين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: يعني يتركه مشتركا فيما بينهم ولا يقسم قدر الطريق م: (ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق) ش: وهذا ظاهر، ولم يرفع الطريق هنا يتعطل على البعض منافعه إلا إذا تراضوا على ذلك لأنهم عطلوا منافع إهلاكهم باختيارهم، ومن ترك النظر لنفسه لا ينظر له، كذا في " شرح الكافي ".
م: (ولو اختلفوا في مقداره) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، أي ولو كان اختلف الشركاء في مقدار الطريق، يعني في سعته وضيقه م: (جعل على عرض باب الدار وطوله) ش: على باب الدار الأعظم وطوله، والمراد بالطول هو الطول من حيث الأعلى، لا الطول من حيث المشي وهو ضد عرضه، لأن ذلك الطول إنما يكون إلى حيث ينتهي بهما إلى الطريق الأعظم، وفائدته قسمة ما وراء الطول من الأعلى.
حتى لو أراد بعضها أن يشرع جناحا في نصيبه إن كان فوق طول الباب له ذلك، لأن الهواء فيما يراد على طول الباب مقسوم بينهم، فصار ما ينافي خالص حقه، وإن كان فيما دون طول الباب يمنع من ذلك، لأن قدر الطول من الهواء مشترك، والبناء على قدر الهواء المشترك لا يجوز من غير رضاء الشركاء وإن كان أرضا يرفع مقدارا يمر فيه ثور، لأنه لا بد له من الزراعة فلا يجعل الطريق مقدار ما يمر ثوران معا، وإن كان يحتاج إلى ذلك لأنه لا يحتاج إلى هذا يحتاج إلى العجلة فيؤدي إلى ما يتناهى، كذا في " مبسوط شيخ الإسلام " - رَحِمَهُ اللَّهُ - و " الذخيرة " و " المحيط ".
وقالت الثلاثة: يعتبر في قدر الطريق ما تدعو الحاجة إليه في الدخول والخروج بحسب العادة وبما ذكرنا اندفع ما قاله الأترازي: في هذا اللفظ إبهام، لأنه يسبق الوهم إلى أن طول الطريق مقدار طول باب الدار وليس كذلك، بل طول الطريق من أعلاه على أقل ما يكفيهم.
م: (لأن الحاجة تندفع به) ش: أي يجعل الطريق على عرض باب الدار وطوله م: (والطريق على سهامهم كما كان قبل القسمة؛ لأن القسمة فيما وراء الطريق لا فيه) ش: أي الطريق على سهام الشركاء كما كان قبل الانقسام، قوله لا فيه، أي لا في الطريق.
م: (ولو شرطوا أن يكون الطريق بينهما أثلاثا جاز وإن كان أصل الدار نصفين) ش: هذا أيضا ذكره تفريعا على مسألة القدوري. قال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في " شرح(11/439)
لأن القسمة على التفاضل جائزة بالتراضي.
قال: وإن كان سفل لا علو عليه، وعلو لا سفل له، وسفل له علو، قوم كل واحد على حدته وقسم بالقيمة ولا معتبر بغير ذلك. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكافي ": وإن اشترطوا أن يكون الطريق بينهما لأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه فهو جائز لما ذكر أنه مبادلة بتراضيهما، فيعتبر اصطلاحهما في ذلك.
وإن اشترطا أن يكون الطريق على قدر ساحة ما في أيديهما فهو جائز، وهذا نص على أن بيع الممر جائز، لأن القسمة بيع من حيث المعنى. وقد ذكر في كتاب الصلح: إنه إذا كان الطريق لأحدهما والممر للآخر فباعا الطريق فإنه يكون الثمن بينهما نصفين، فدل على أنه دخل في العقد أصلا، فعلى هذه الرواية يجوز بيع الشرب، لأنه من جملة الحقوق كالطريق.
وقال في " الزيادات ": بيع الحقوق لا يجوز، والممر من جملة الحقوق. فعلى رواية الزيادات لا فرق بين الشرب والممر في عدم جواز البيع، وكذا حق التعلي. ثم قال في " شرح الكافي ": وإن اشترطا أن يكون الطريق لصاحب الأقل والآخر يمر فيه فهو جائز. وإن لم يشترطا شيئا من ذلك فهو بينهما على قدر ما ورثا، لأن القسمة لم تتناول الطريق، فبقي بينهما على ما كان في الأصل. م: (لأن القسمة على التفاضل جائزة بالتراضي) ش: لأن من رضي أن يترك حقه لا يعترض عليه.
م: (قال وإن كان سفل لا علو عليه) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": وكان هذا تاما فلا يحتاج إلى الخبر، أي وإن وجد سفل بكسر السين. وقوله: لا علو عليه صفة، وهو بكسر العين وسكون اللام. قال الجوهري: وعلو الدار وعلوها نقيض سفلها، والعلو بضم العين واللام وتشديد الواو م: (وعلو لا سفل له، وسفل له علو، قوم كل واحد على حدته وقسم بالقيمة ولا معتبر بغير ذلك) ش: أي بغير التقويم والقسمة بالقيمة، ولم يذكر القدوري فيه قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، لأنه اختار قول محمد وأصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كلهم مثل قول الطحاوي، وغيره اختاروا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا المذكور في القدوري عند محمد. في " الذخيرة " صورته علو مشترك بينهما بدون سفل، وسفل مشترك بينهما بدون علو، وسفل وعلو مشتركان بينهما وطلب القسمة من القاضي، فعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقسم على قيمة السفل والعلو، فإن كانت قيمتهما على السواء يجب ذراع بذراع.(11/440)
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله -: يقسم بالذراع. لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن السفل يصلح لما لا يصلح له العلو من اتخاذه بئر ماء أو سردابا أو اصطبلا أو غير ذلك، فلا يتحقق التعديل إلا بالقيمة. وهما يقولان: إن القسمة بالذراع هي الأصل؛ لأن الشركة في المذروع لا في القيمة، فيصار إليه ما أمكن، والمراعى التسوية في السكنى لا في المرافق. ثم اختلفا فيما بينهما في كيفية القسمة بالذراع، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذراع من سفل بذراعين من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن كانت قيمة أحدهما ضعف قيمة الآخر يحسب من الذي قيمته على النصف ذراع بذراعين من الآخر حتى استويا في القيمة. وعند الثلاثة لا يجبر الآبي من القسمة، وعندنا يقسم كما ذكرنا في الكتاب.
م: (وقال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله -: يقسم بالذراع) ش: قال الطحاوي في "مختصره " وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول في العلو الذي لا سفل له وفي السفل الذي لا علو له يجب من القيمة ذراع من السفل بذراعين من العلو.
وكان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: يحسب كل ذراع من العلو بذراع من السفل. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقوم كل ذراع من العلو على أن لا سفل له، وكل ذراع من السفل على أن لا علو له، وهذا أجود انتهى.
م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن السفل يصلح لما لا يصلح له العلو لاتخاذه بئر ماء أو سردابا) ش: قال الصنعاني في " العتاب ": السرداب بكسر السين، والعامة بفتحها، وهو معرب سرداب بفتح السين وبالمد وهو الجب الكبير.
وكذلك سودان السرداب الذي يبنى تحت الأرض م: (أو اصطبلا أو غير ذلك) ش: نحو الطبخ وبيت الحطب والتبن والطاحونة ونحوها، والعلو لا يصلح لهذه الأشياء ولا يصلح إلا للمفرقة م: (فلا يتحقق التعديل إلا بالقيمة) ش أي التعديل في القسمة.
م: (وهما يقولان) ش: أي أبو حنيفة وأبو يوسف م: (إن القسمة بالذراع هي الأصل؛ لأن الشركة في المذروع لا في القيمة، فيصار إليه ما أمكن) ش: أي فصار إلى ما ذكر من القيمة بالذرع مهما أمكن م: (والمراعى التسوية في السكنى لا في المرافق) ش: أي المنافع لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وأراد بالمراعى الاعتبار وهو بفتح العين م: (ثم اختلفا فيما بينهما) ش: أي أبو حنيفة وأبو يوسف
م: (في كيفية القسمة بالذراع، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذراع من سفل بذراعين من(11/441)
علو وقال أبو يوسف - رحمه لله -: ذراع بذراع. قيل: أجاب كل واحد منهم على عادة أهل عصره أو أهل بلده في تفضيل السفل على العلو واستوائهما وتفضيل السفل مرة والعلو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علو. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذراع بذراع) ش: أي يحمل ذراع بمقابلة ذراع منهما جميعا. وقال شيخ الإسلام أبو الفضل محمد بن أحمد الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": إذا كان سفل بين رجلين وعلو من بيت آخر بينهما وأراد أن يقسمه القاضي فإنه يقسم البناء على سبيل القيمة بالاتفاق.
فأما المساحة فيقسم كل ذراع من السفل بذراعين من العلو، فيذرع ساحة العلو طولا وعرضا فيضرب الطول في العرض فيعلم مبلغه.
وكذلك مساحة السفل يذرع طولا وعرضا فيضرب طوله في عرضه فيعلم مبلغه فيدفع كل ذراع من السفل بذراع من العلو. قال: وهذا ذرع لمسألة أخرى وهو أن لصاحب السفل أن سفل بالإجماع إذا كان لا يضر بالعلو وليس لصاحب العلو أن يتعلق فوقه وإن لم يضر بصاحب العلو عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعندهما له أن يصل ذلك فقد استوت منفعة العلو والسفل عندهما فكذلك قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كل ذراع من السفل بذراع من العلو. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - منفعة العلو نقص من منفعة السفل فكذلك كان كل ذراع من السفل بذراعين من العلو. وإذا كان بيت كامل وعلو وسفل بين رجلين في بيت آخر بينهما فأراد قسمتها بالتعديل فكل زراع من بيت كامل بثلاثة أذرع من العلو، لأن ذراعا من العلو هذا بذراع من العلو ذاك، وذراع من سفل هذا بذراعين من علو ذاك عند أبي حنيفة وأبي يوسف كل ذراع من البيت الكامل بذراعين من العلو، وإذا كان بيت كامل فكل ذراع من البيت الكامل بذراع ونصف من السفل عنده، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كل ذراع من البيت الكامل بذراعين من السفل، وأما عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ففي الفصول ما يقسم على سبيل القيمة، وبه أخذ الطحاوي، انتهى.
م: (قيل: أجاب كل واحد منهم) ش: أي كل واحد من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (على عادة أهل عصره، أو أهل بلده في تفضيل السفل على العلو) ش: أشار به إلى قول أبي حنيفة فإنه أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في تفضيل السفل على العلو م: (واستوائهما) ش: أي استواء العلو والسفل، وأشار به إلى قول أبي يوسف فإنه أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل بغداد التسوية بين العلو والسفل.
م: (وتفضيل السفل مرة) ش: أي تفضيل السفل على العلو مرة كما مر في الكوفة م: (والعلو(11/442)
أخرى، وقيل: هو اختلاف معنى ووجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن منفعة السفل تربو على منفعة العلو بضعفه؛ لأنها تبقى بعد فوات العلو، ومنفعة العلو لا تبقى بعد فناء السفل، وكذا السفل فيه منفعة البناء والسكنى، وفي العلو السكنى لا غير إذ لا يمكنه البناء على علوه إلا برضا صاحب السفل، فيعتبر ذراعان منه بذراع من السفل. ولأبي يوسف: أن المقصود أصل السكنى وهما يتساويان فيه، والمنفعتان متماثلتان؛ لأن لكل واحد منهما أن يفعل ما لا يضر بالآخر على أصله. ولمحمد: أن المنفعة تختلف باختلاف الحر والبرد، بالإضافة إليهما فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة، والفتوى اليوم على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقوله لا يفتقر إلى التفسير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أخرى) ش: أي وتفضيل العلو على السفل مرة أخرى كما في مكة والبصرة، وأشار بهذا إلى جواب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقيل: هو اختلاف معنى) ش: أي حجة وبرهان، قيل إن الاختلاف يعني الفقهاء.
ثم شرع يبين ذلك بقوله م: (ووجه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن منفعة السفل تربو) ش: أي تزيد م: (على منفعة العلو بضعفه) ش: قال أبو عبيدة ضعف الشيء مثله. وقال الأزهري الضعف المسيل إلى ما زاد، وهو في الأصل زيادة غير محصورة م: (لأنها تبقى بعد فوات العلو) ش: أي ولأن منفعة السفل تبقى بعد فوات العلو م: (ومنفعة العلو لا تبقى بعد فناء السفل) ش: لأن بقاء منفعته ببقاء السفل، فإذا ذهب ذهبت م: (وكذا السفل فيه منفعة البناء والسكنى) ش: فلو أراد أن يحفر في سفله سردابا لم يكن لصاحب العلو منعه من ذلك م: (وفي العلو السكنى لا غير إذ لا يمكنه البناء على علوه إلا برضا صاحب السفل، فيعتبر) ش: أي إذا كان كذلك فيعتبر م: (ذراعان منه) ش: أي من العلو م: (بذراع من السفل) ش:
م: (ولأبي يوسف: أن المقصود أصل السكنى، وهما يتساويان فيه) ش: أي صاحب العلو وصاحب السفل يتساويان في أصل السكنى م: (والمنفعتان متماثلتان؛ لأن لكل واحد منهما أن يفعل ما لا يضر بالآخر على أصله) ش: أي على أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولمحمد: أن المنفعة) ش: أي منفعة العلو والسفل م: (تختلف باختلاف الحر والبرد بالإضافة إليهما) ش: أي إلى العلو والسفل، يعني أن في كل موضع يشتد البرد ويكثر الريح يختار السفل على العلو. وفي موضع تكثر العذرة في الأرض يختار العلو، وربما يختلف ذلك أيضا باختلاف الأوقات م: (فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة) ش: لأن المراد من القسمة التعديل فيصار إلى القيمة م: (والفتوى اليوم على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: كذا في " المبسوط " و" الذخيرة " و" المغني " و " المحيط "، وبه قالت الثلاثة م: (وقوله لا يفتقر إلى التفسير) ش: أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحتاج إلى التفسير، لأنه قال بالقيمة وهو ظاهر.(11/443)
وتفسير قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسألة الكتاب: أن يجعل بمقابلة مائة ذراع من العلو المجرد ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل؛ لأن العلو مثل نصف السفل فثلاثة وثلاثون وثلث من السفل ستة وستون وثلثان من العلو المجرد. ومعه ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من العلو فبلغت مائة ذراع تساوي مائة من العلو المجرد، ويجعل بمقابلة مائة ذراع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وتفسير قول أبي حنيفة في مسألة الكتاب) ش: أي القدوري م: (أن يجعل بمقابلة مائة ذراع من العلو المجرد) ش: الذي لا سفل له م: (ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل) ش: وهو يشتمل على العلو والسفل م: (لأن العلو مثل نصف السفل) ش: فكان العلو والسفل مثل مائة ذراع من السفل، وموضع هذه المسألة أنها في دار واحدة، وعنده يقسم إذا كانت دارا واحدة، وإن كانت في دارين محمولة على رضاهم بذلك.
م: (فثلاثة وثلاثون وثلث من السفل ستة وستون وثلثان من العلو المجرد) ش: وأشار بالفاء التفسيرية إلى تفسير قوله لأن العلو مثل نصف السفل، وتقريره أي ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من السفل الكامل هو ستة وستون وثلثا ذراع من العلو الكامل، بمعنى يقابل الثلاثة والثلاثين والثلث وستة وستين وثلثين.
فقوله: ستة وستون خبر لقوله ثلاثة وثلاثون، فافهم. أن يجعل بمقابلة مائة ذراع من العلو المجرد ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل، لأن الذراع الواحد من البيت الكامل بمقابلة ثلاثة أذرع من العلو المجرد، فإذا ضربت الثلاثة في ثلاثة وثلاثين وثلث ذراع يكون مائة فيستوي الثلاثة والثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل مع مائة ذراع من العلو المجرد، ويجعل بمقابلة مائة ذراع من السفل المجرد من البيت الكامل ستة وستون وثلثا ذراع، لأن كل ذراع من البيت الكامل بمقابلة ذراع ونصف من السفل المجرد، فإذا ضربت الواحد والنصف في ستة وستين وثلثي ذراع يكون مائة لا محالة فيشتري الستة والستون والثلثان من البيت الكامل مع مائة ذراع من السفل المجرد فافهم.
م: (ومعه ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من العلو) ش: أي مع الستة والستين والثلثين ثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع من العلو المجرد، وتذكير الضمير باعتبار المذكور أو العدد المذكور م: (فبلغت مائة ذراع تساوي مائة من العلو المجرد) ش: أي فبلغت الستة والستون والثلثان مع الثلاثة والثلاثين والثلث مائة ذراع، فصح ما قاله أن مائة ذراع من العلو المجرد بمقابلة ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل، فكان هذا التقابل بين البيت الكامل والعلو المجرد.
ثم شرع بذكر ما يقابل البيت الكامل والسفل المجرد، فيقال م: (ويجعل بمقابلة مائة ذراع(11/444)
من السفل المجرد من البيت الكامل ستة وستون وثلثا ذراع؛ لأن علوه مثل نصف سفله فبلغت مائة ذراع كما ذكرنا. وتفسير قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يجعل بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل المجرد ومائة ذراع من العلو المجرد؛ لأن السفل والعلو عنده سواء فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل، وخمسون منها علو.
قال: وإذا اختلف المتقاسمون وشهد القاسمان قبلت شهادتهما. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من السفل المجرد) ش: الذي لا علو له م: (من البيت الكامل) ش: فكان هذا التقابل م: (ستة وستون وثلثا ذراع؛ لأن علوه) ش: أي علو البيت الكامل م: (مثل نصف سفله فبلغت مائة ذراع كما ذكرنا) ش: أي الأذرع التي تقدر من البيت الكامل بمقابلة مائة ذراع من السفل المجرد يبلغ المائة، لأنه لما أخذ من البيت الكامل ستة وستون وثلثا ذراع بمقابلة مثلها من السفل المجرد ثم زيد على هذا العدد نصفه وهو ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع، لأن بهذا التعدد من البيت الكامل أعني ستة وستين وثلثي ذراع علو إذ هو مقدر بنصف هذا، وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، فكان المجموع مائة، فكانت هذه المائة من الثلث الكامل بمقابلة مائة من السفل المجرد كما ذكرنا، والسفل المجرد ستة وستون وثلثا، أي لأنه ضعف العلو فيجعل بمقابلة مثله، أي السفل الذي لا علو له ستة وستون ذراعا، لأنه ضعف العلو المجرد.
م: (وتفسير قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يجعل بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل المجرد ومائة ذراع من العلو المجرد) ش: أي أو يجعل مائة ذراع من العلو المجرد الذي لا سفل له بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل م: (لأن السفل والعلو عنده سواء) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل، وخمسون منها علو) ش: وهذا ظاهر.
[إذا اختلف المتقاسمون وشهد القاسمان قبلت شهادتهما]
م: (قال: وإذا اختلف المتقاسمون وشهد القاسمان قبلت شهادتهما) ش: أي قال القدوري: صورته دار قسمت بين ورثة أو مشتري وأنكر بعضهم أنه استوفى نصيبه وشهد عليه القاسمان بذلك تقبل شهادتهما، ولم يذكر القدوري فيه الخلاف م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: أي قال المصنف الذي ذكره القدوري هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل، وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما) ش: أي(11/445)
وقاسما القاضي وغيرهما سواء. لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهما شهدا على فعل أنفسهما، فلا تقبل كمن علق عتق عبده بفعل غيره فشهد ذلك الغير على فعله. ولهما: أنهما شهدا على فعل غيرهما وهو الاستيفاء والقبض لا على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما التميز ولا حاجة إلى الشهادة عليه، أو لأنه لا يصلح مشهودا به لما أنه غير لازم. وإنما يلزمه بالقبض والاستيفاء وهو فعل الغير فتقبل الشهادة عليه. وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قسما بأجر لا تقبل الشهادة بالإجماع، وإليه مال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأنهما يدعيان إيفاء عمل استؤجرا عليه، فكانت شهادة صورة ودعوى معنى، فلا تقبل، إلا أنا نقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكر الخصاف في " أدب القاضي " قول محمد كقولهما، فقال: وإذا قسمت الدار والأرض بين الورثة وأنكر بعضهم أن يكون استوفى نصيبه وشهد عليه قاسِما القاضي اللذان توليا القسمة بينهم أنهما تقاصرا في نصيبه فإن شهادتهما جائزة عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، انتهى. وكان القدوري ذهب إلى ما ذكره الخصاف م: (وقاسما القاضي وغيرهما سواء) ش: أي سواء كان الشاهدان اللذان شهدا في المسألة المذكورة المتقاسمين اللذين يقسمهما القاضي أو غيرهما ممن اختارها المتقاسمون.
م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما شهدا على فعل أنفسهما فلا تقبل) ش: لأنهما متهمان في هذه الشهادة م: (كمن علق عتق عبده بفعل غيره فشهد ذلك الغير على فعله) ش: بأن علق عتقه بكلام رجلين فشهد أنه كلامهما.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أنهما شهدا على فعل غيرهما وهو الاستيفاء والقبض لا على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما التميز ولا حاجة إلى الشهادة عليه أو لأنه) ش: أي لأن فعل أنفسهما الذي هو التمييز م: (لا يصلح مشهودا به لما أنه غير لازم) ش: أي لا يلزم حكما فلا يكون مقصودا، فلا تكون الشهادة عليه من حيث المعنى م: (وإنما يلزمه بالقبض والاستيفاء) ش: لأن القبض هو الملزوم م: (وهو فعل الغير فتقبل الشهادة عليه) ش: لعدم التهمة.
م: (وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قسما بأجر لا تقبل الشهادة بالإجماع) ش: لأنهما جرا لأنفسهما شيئا م: (وإليه مال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي إلى قول الطحاوي، وبه قال الإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنهما يدعيان إيفاء عمل استؤجرا عليه فكانت شهادة صورة ودعوى معنى، فلا تقبل) ش: لأن المدعي لا تقبل شهادته م: (إلا أنا نقول) ش: استيفاء من قوله وإليه مال بعض المشايخ.(11/446)
هما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما مغنما لاتفاق الخصوم على إيفائهما العمل المستأجر عليه، وهو التمييز، وإنما الاختلاف في الاستيفاء فانتفت التهمة. ولو شهد قاسم واحد لا تقبل، لأن شهادة الفرد غير مقبولة على الغير. ولو أمر القاضي أمينه بدفع المال إلى آخر يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه، ولا يقبل في إلزام الآخر إذا كان منكرا، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإشاراته اختار قول صاحب القدوري والمعنى لكن نحن نقول م: (هما) ش: أي القاسمان اللذان شهدا م: (لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما مغنما) ش: أي غنيمة، يعني منفعة م: (لاتفاق الخصوم على إيفائهما العمل المستأجر عليه) ش: على أنهما قد أوفيا العمل الذي قد استأجروهما لأجله م: (وهو التمييز) ش: أي العمل المستأجر عليه هو تمييز الحقوق بينهم م: (وإنما الاختلاف في الاستيفاء) ش: أي وإنما وقع اختلاف المتقاسمين في استيفاء بعض الحقوق، وهو غير فعل التمييز فوقعت شهادتهما على فعل الغير م: (فانتفت التهمة) ش: فتقبل الشهادة.
م: (ولو شهد قاسم واحد لا تقبل) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، أي ولو شهد قاسم واحد على القسمة لا تقبل م: (لأن شهادة الفرد غير مقبولة على الغير) ش: لأن قول الواحد ليس بحجة في الشرع م: (ولو أمر القاضي أمينه بدفع المال إلى آخر) ش: بأن قال له القاضي ادفع هذا المال إلى فلان فقال قد دفعته م: (يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه) ش: يعني إذا أنكر المدفوع إليه فالأمين يصدق في البراءة لنفسه م: (ولا يقبل في إلزام الآخر إذا كان منكرا) ش: لأن قول الأمين حجة واقعة غير ملزمة، والله أعلم.(11/447)
باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها قال: وإذا ادعى أحدهم الغلط وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء لم يصدق على ذلك إلا ببينة، لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها، فلا يصدق إلا بحجة. فإن لم تقم له بينة استحلف الشركاء، فمن نكل منهم جمع بين نصيب الناكل والمدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها]
م: (باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها) ش: أي هذا باب في بيان دعوى المتقاسمين الغلط في القسمة وظهور الاستحقاق فيها، وإنما أخره لكونه من العوارض، والوجه تأخيره.
م: (قال: وإذا ادعى أحدهم الغلط) ش: أي قال القدوري في "مختصره": أي إذا ادعى أحد المتقاسمين الغلط في القسمة م: (وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه) ش: أي من الذي أصابه من العقار مثلا شيء وقع في يد صاحبه، وفي بعض النسخ شيئا بالنصب وهو الوجه، لأنه اسم أن.
ووجه الرفع على لغة البعض كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] (طه: الآية 63) م: (وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء) ش: أي والحال أنه قد أشهد على نفسه، وفسره في المبسوط أي أقر بالاستيفاء.
وكذا قال تاج الشريعة: أي أقر أنه استوفى نصيبه م: (لم يصدق على ذلك إلا بينة) ش: أي لم يصدق على ما ادعاه من الغلط إلا بحجة م: (لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها فلا يصدق إلا بحجة) ش: كالمشتري إذا ادعى لنفسه خيار الشرط، فإن أقامها فقد نوى دعوى، وإن عجز عنها وهو معنى.
م: (فإن لم يقم له بينة استحلف الشركاء) ش: قيد بقوله استحلف الشركاء لأنهم لو أقروا بذلك لزمهم، فإذا أنكروا واستحلفوا عليه لرجاء النكول، وكان حق التركيب أن يقول استحلف شريكه، لأنه قال ولا. وإذا ادعى أحدهما الغلط م: (فمن نكل منهم) ش: أي من الشركاء م: (جمع بين نصيب الناكل والمدعي فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما؛ لأن النكول حجة في حقه خاصة) ش: لأن الناكل كالمقر، وإقراره حجة عليه دون غيره، ولو فسر هذا التركيب من وجهين، الأول: أن الجملة وقعت خبرا وهي عارية عن الضمير فلا يجوز، والثاني: في قوله أنصبائهما.
قلت: أما الأول فلأن اللام في قوله الناكل، أعني عن الضمير، وأما الثاني فهو من قبيل(11/448)
فيعاملان على زعمهما. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا لتناقضه وإليه أشار من بعد. قد استوفيت حقي وأخذت بعضه فالقول قول خصمه مع يمينه. لأنه يدعي عليه الغصب وهو منكر. وإن قال: أصابني إلى موضع كذا فلم يسلمه إلي ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] (التحريم: الآية 4) ، م: (فيعاملان على زعمهما) ش: أي فيعامل الناكل والمدعي على حسب زعمهما بفتح الزاي وسكون العين من زعم يزعم، من باب نصر ينصر، وهو يستعمل في الأمر الذي لا يوثق به، ويجوز ضم الزاي أيضا، وأما زعم مثل علم يعلم فمعناه طمع، ومصدره زعم بفتحتين.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا) ش: يعني وإن أقام البينة، والقائل هو المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لتناقضه) ش: أي لتناقض المدعي، فإنه إذا أشهد على نفسه بالاستيفاء فبعد ذلك بقاء حقه في يد آخر يناقض، فينبغي أن لا يسمع دعواه، كذا في " المبسوط " " وفتاوى قاضي خان " واعتذر بعضهم في هذا فقال: التناقض عفو في موضع الخفاء كالعبد يدعي الحرية بعد إقراره أنه رقيق.
وقال الحاكم الشهيد في " الكافي " وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - في رجل مات وترك دارا وابنين فاقتسما الدار وأخذ كل واحد نصيبه وأشهد على القسمة والقبض والوفاء ثم ادعى أحدهما ما في يد صاحبه لم يصدق على ذلك، إلا أن يقر صاحبه، فعلم بهذا أنه لا تقبل بينته بعد الإقرار بالاستيفاء كما قال صاحب " الهداية " م: (وإليه أشار من بعد) ش: إلى ما ذكرنا أشار القدوري في قوله وإن قال أصابني إلى موضع كذا فلم يسلمه إلي ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء.
وقال تاج الشريعة: ويحتمل أن تكون الإشارة في المسألة الثالثة وهو إذا لم يشهد على نفسه بالاستيفاء والحكم فيها التحالف، لأنهما اختلفا في قدر المقبوض وقد وجد هذا المعنى في المسألة الأولى ولم يشرع التحالف على أن عدم التحالف في المسألة الأولى للتناقض.
م: (وإن قال: قد استوفيت حقي وأخذت بعضه فالقول قول خصمه مع يمينه) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأنه يدعي عليه الغصب وهو منكر) ش: وقوله استوفيت بضم التاء إذا استوفى، وقوله وأخذت بفتح، أي أنت أخذت بعض حقي لأنه يدعي عليه الغصب وهو منكر، والقول للمنكر مع يمينه.
م: (وإن قال: أصابني إلى موضع كذا فلم يسلمه إلي) ش: هذا لفظ القدوري، أي وإن قال أحد المتقاسمين للآخر م: (ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء) ش: أي والحال أن المدعي لم يشهد(11/449)
وكذبه شريكه تحالفا وفسخت القسمة، لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة، فصار نظير الاختلاف في مقدار المبيع على ما ذكرنا من أحكام التخالف فيما تقدم.
ولو اختلفا في التقويم لم يلتفت إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على نفسه بأنه استوفى نصيبه م: (وكذبه شريكه) ش: أي في قوله أصابني إلى موضع كذا م: (تحالفا وفسخت القسمة لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة) ش: فيكون الاختلاف في نفس القسمة م: (فصار نظير الاختلاف في مقدار المبيع) ش: أي صار الحكم المذكور نظير اختلاف المتبايعين في قدر المبيع فوجد التخالف م: (على ما ذكرنا من أحكام التخالف فيما تقدم) ش: في "كتاب الدعوى"
[اختلفا في التقويم في القسمة]
م: (ولو اختلفا في التقويم لم يلتفت إليه) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، وذكر الأسبيجابي في " شرح القدوري " وإن اقتسما مائة شاة فأصاب أحدهما خمسا وخمسين شاة والآخر خمسا وأربعين شاة، ثم ادعى صاحب الأوكس غلطا في التقويم لم تقبل بينته في ذلك، لأن القسمة منهم إقرار بالتساوي، فإذا ادعى التفاوت وقد أنكر ما أقر به فلا يسمع ولم يفصل بينهما إذا كانت القسمة بالقضاء أو بالتراضي وبينهما ما إذا كان الغبن يسيرا أو فاحشا كما ترى.
وكذلك أطلق الكرخي في "مختصره ". وقال في المسائل في قسم " المبسوط " اختلفا في التقويم لا يلتفت إلى قولهم، لأن القسمة إن كانت بالتراضي فالقاضي لا يقضي إلا بتقويم المقومين، فصار كما لو قضى ثم ادعى أنه ذو رد. وإن كانت بالتراضي فهو مدعي عينا والعقد لا يخلو عنه. وقال في كتاب " أدب القاضي " من " شرح الطحاوي " إذا ادعى الغلط في التقويم وكانت الغبن وأنتم قومتموه بألف فهذا لا يلتفت إليه لأنه يدعي الغبن، والغبن بالتقويم لا يبطل القسمة كالبيع.
ثم قال: وقيل: هذا إذا كانت قسمة الرضا، فأما إذا كانت القسمة بالقضاء له حق الفسخ، لأنه لم يرض بذلك.
وقال في " الفتاوى الصغرى " ادعى أحد المتقاسمين الغلط في القسمة من حيث القيمة، يعني إذا ادعى عيبا في القيمة إن كان يسيرا بحيث يدخل تحت تقويم المقومين لا يسمع دعواه ولا تقبل بينته. وإن كان بحيث لا يدخل تقويم المقومين، وإن كانت القسمة بالقضاء لا بالتراضي تسمع بينته بالاتفاق. وإن كان لا يتراضى الخصمان إلا بقضاء القاضي لم يذكر في "الكتاب".
وحكي عن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول: إن قيل يسمع فله وجه، بخلاف الغبن في البيع(11/450)
لأنه دعوى الغبن ولا معتبر به في البيع، فكذا في القسمة لوجود التراضي، إلا إذا كانت القسمة بقضاء القاضي والغبن فاحش، لأن تصرفه مقيد بالعدل.
ولو اقتسما دارا وأصاب كل واحد طائفة فادعى أحدهما بيتا في يد الآخر أنه مما أصابه بالقسمة وأنكر الآخر فعليه إقامة البينة لما قلنا. وإن أقاما البينة يؤخذ ببينة المدعي لأنه خارج، وبينة الخارج تترجح على بينة ذي اليد. وإن كان قبل الإشهاد على القبض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن قيل لا يسمع فله وجه أيضا كما قال في البيع، وحكي عن الفقيه أنه كان يقول يسمع كما إذا كانت بقضاء القاضي وهو الصحيح كما ذكره في " شرح المختصر ". وذكر في " أدب القاضي " من شرح القاضي الإمام الأسبيجابي أن في دعوى الغبن في القسمة إذا كان بالتراضي لا يسمع كما في البيع.
قال بعض المشايخ قالوا تسمع كما لو كانت القسمة بقضاء القاضي. وذكر الأسبيجابي في "شرحه" دقيقة لطيفة فقال وهذا كله إذا لم يقر الخصم بالاستيفاء، فأما إذا أقر بالاستيفاء فإنه لا يصح دعواه الغلط والغبن إلا إذا ادعى الغصب فحينئذ يسمع دعواه، إلى هنا لفظ " الفتاوى الصغرى " والصدر الشهيد أخذ بالقول الأول كذا في " الذخيرة ".
وفي " فتاوى قاضي خان " جعل القول الأخير أولى، به قال الفضلي. وعند الشافعي لم تقبل دعواه في القسمة بالتراضي كما ذكر الشهيد بالقضاء تقبل.
م: (لأنه دعوى الغبن ولا معتبر به) ش: أي بدعوى الغبن، وتذكير الضمير على تأويل الأدعى م: (في البيع) ش: بأن اشترى شيئا بثمن معلوم، ثم ادعى الغبن فيه فإنه لا تسمع م: (فكذا في القسمة لوجود التراضي إلا إذا كانت القسمة بقضاء القاضي والغبن فاحش، لأن تصرفه مقيد بالعدل) ش: أي لأن تصرف القاضي مقيد بالعدل، فإذا ظهر الغبن الفاحش ظهر أن القضاء كان بغير عدل.
م: (ولو اقتسما دارا وأصاب كل واحد طائفة) ش: أي ينتقص، ونصيب هذه المسألة غير مسألة أول الباب، إلا أنها أعيدت لبناء مسائل أخرى عليها، قيل أعادها لزيادة البيان م: (فادعى أحدهما بيتا في يد الآخر أنه مما أصابه) ش: أي أن البيت من الذي أصابه، يعني من نصيب الذي أصابه م: (بالقسمة وأنكر الآخر فعليه إقامة البينة لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله لم يصدق على ذلك إلا ببينة، لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها.
م: (وإن أقاما البينة) ش: أي وإن أقام كل واحد منهما البينة على ما يدعيه م: (يؤخذ ببينة المدعي لأنه خارج، وبينة الخارج تترجح على بينة ذي اليد) ش: وفيه خلاف الشافعي، وقد مر في الدعوى م: (وإن كان قبل الإشهاد على القبض) ش: أي وإن كان ما ادعياه قبل الإقرار بالقبض م:(11/451)
تحالفا وترادا.
وكذا إذا اختلفا في الحدود وأقاما البينة يقضى لكل واحد بالجزء الذي في يد صاحبه لما بينا. وإن قامت لأحدهما بينة قضى له، وإن لم تقم لواحد منهما تحالفا كما في البيع
<453>
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(تحالفا وترادا) ش: أي حلف كل منهما على دعواه، وتعاد القسمة كما في البيع يتحالفان ويفسخ البيع.
[اختلفوا عند القسمة في الحدود]
م: (وكذا إذا اختلفا في الحدود) ش: ذكره تفريعا، صورته دار بين اثنين اقتسما وأصاب أحدهما جانبا منها، وفي طرف حده بيت في يد صاحبه وأصاب الآخر جانب، وفي طرف حده بيت في يد صاحبه فادعى كل واحد منهما أن البيت الذي في يد صاحبه أنه دخل في حده.
م: (وأقاما البينة يقضى لكل واحد بالجزء الذي هو في يد صاحبه لما بينا) ش: أي الخارج أولى، لأنه أكثر إثباتا. وفي " شرح الكافي " فإن اختلفا في الحد بينهما، فقال أحدهما هذا الحد لي قد دخل في نصيب صاحبه. وقال الآخر لا بل هذا الحد قد دخل في نصيب صاحبه.
فإن قامت لهما بينة قضيت به بينهما، لأنه في أيديهما وإلا استخلف كل منهما على دعوى صاحبه وجعلت كل منهما ما في يده، لأن كل منهما مدعي ومدعى عليه، فإن أراد أحدهما رد القسمة بعدما يتحالفان، لأن الاختلاف وقع في نفس القسمة م: (وإن قامت لأحدهما بينة قضى له، وإن لم تقم لواحد منهما تحالفا كما في البيع) ش: يعني يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه وبعد التحالف ويرد القسمة.(11/452)
فصل قال: وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورجع بحصة ذلك في نصيب صاحبه. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تفسخ القسمة. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذكر الاختلاف في استحقاق بعض بعينه، وهكذا ذكر في " الأسرار "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان الاستحقاق في القسمة]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان الاستحقاق م: (قال: وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورجع بحصة ذلك في نصيب صاحبه. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفسخ القسمة) ش: أي قال القدوري في "مختصره "، يعني إذا كانت دار بين اثنين إما ورثاها وإما اشترياها فاقتسماها ثم استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لا ينقض القسمة عند أبي حنيفة وعن قريب تذكر صورتها بأوضح من هذا.
وبقول أبي حنيفة قال مالك وفي بعض كتبه إن كان الشيء المستحق تافها يسيرا رجع بنصف قيمة ذلك دراهم أو دنانير، ولا يكون بذلك شريكا لصاحبه، وقال أشهب: رجع بنصف نصيب صاحبه سواء كان المستحق قليلا أو كثيرا، وفيه المضرة ولا مضرة فيه، ولا ينقض القسمة. وبقول أبي يوسف قال الشافعي.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذكر الاختلاف في استحقاق بعض بعينه، وهكذا ذكر في " الأسرار ") ش: أي كما ذكره القدوري ذكره أبو زيد في " إشارات الأسرار " وقال السغناقي صفة الحوالة هذه إلى " الأسرار " وقعت سهوا، لأن هذه المسألة مذكورة في " الأسرار " في الشائع وصفا وتعليلا من الجانبين وتكرارا بلفظ الشائع غير مرة.
قلت: عبارة " الأسرار " إذا اقتسم رجلان دارا بينهما ثم استحق من نصيب أحدهما بيت معين لم يبطل القسمة، ولكن يتخير القسمة المستحق عليه إن شاء ضرب في نصيب صاحبه بما يساوي صاحبه، وإن شاء استأنف عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف: يستأنف القسمة وقول محمد مضطرب. والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع في نصيب أحدهما لأن محمدا ذكر الخلاف في استحقاق نصف ما في يد أحدهما في كتاب " الأصل ". وكذا ذكر الحاكم في " الكافي " والطحاوي والكرخي في "مختصريهما " وصاحب الذخيرة كلهم ذكروا على سؤال واحد، والنصف اسم للشائع لا محالة.
وقال الكرخي في "مختصره " قال محمد وإذا كانت دار بين رجلين نصفين فاقتسماها،(11/453)
والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما، فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه، ولم يذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف - وأبو حفص مع أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأخذ أحدهما الثلث من مقدمها وقسمت ستمائة وأخذ الآخر الثلثين من مؤخرها، وقيمتها ستمائة ثم اصطلحا على ذلك ميراثا كان بينهما أو شراء، ثم استحق نصف ما في يد صاحب المقدم، فإن أبا حنيفة قال في هذا يرجع صاحب المقدم على صاحب المؤخر بربع ما في يده، وقيمة ذلك مائة وخمسون درهما إن شاء، وإن شاء نقض القسمة وهو قول محمد وقال أبو يوسف يرد ما بقي في يده ويبطل القسمة ويكون ما بقي في أيديهما نصفين، انتهى
والحاصل أن المسألة على ثلاثة أوجه، ففي استحقاق بعض معين في أحد النصفين أو فيهما جميعا لا ينقض القسمة بالاتفاق. وفي استحقاق شيء شائع في النصفين تنقض القسمة بالاتفاق، وفي استحقاق بعض شائع في النصيبين أحد الطرفين لا تنقض القسمة عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف.
وهي مسألة الكتاب فدل على ما ذكرنا كله على صحة ما قاله السغناقي، وما قيل يمكن أن يحمل على اختلاف النسخ ليس بشيء. فإن الكتب التي ذكرنا شاهدة على هذا، على أن قول القدوري وإذ استحق بعض نصيب أحدهما بعينة ليس بنص في ذلك لجواز أن يكون قول القدوري بعينه متعلق بنصيب أحدهما لأنه بعض فيكون تقدير كلامه: وإذا استحق بعض شائع في نصيب أحدهما بعينه وحينئذ يكون الاختلاف في الشائع لا في المعين، فافهم.
م: (والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما، فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه) ش: وهي ظاهرة، وقد ذكرناها آنفا، وفي الصورة الثالثة اختلف أصحاب الشافعي.
وقال أبو يوسف: يبطل القسمة في المستحق ويكون في الباقي قولان. وقال أبو إسحاق يبطل في الكل قولا واحدا.
وقال مالك: لا تبطل القسمة واتبع كل وارث بقدر ما صار إليه إن قدر على قسمة من ذلك وهو الأصح م: (ولم يذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي لم يذكر القدوري قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه مضطرب م: (وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف) ش: أي وذكر أبو سليمان قول محمد مع أبي يوسف م: (وأبو حفص مع أبي حنيفة) ش: أي ذكر أبو حفص قول محمد مع أبي حنيفة.(11/454)
وهو الأصح. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن باستحقاق بعض شائع ظهر شريك ثالث لهما، والقسمة بدون رضاه باطلة كما إذا استحق بعض شائع في النصيبين. وهذا لأن باستحقاق جزء شائع ينعدم معنى القسمة وهو الإفراز؛ لأنه يوجب الرجوع بحصته في نصيب الآخر شائعا، بخلاف المعين. ولهما: أن معنى الإفراز لا ينعدم باستحقاق جزء شائع في نصيب أحدهما. ولهذا جازت القسمة على هذا الوجه في الابتداء بأن كان النصف المقدم مشتركا بينهما وبين ثالث، والنصف المؤخر بينهما لا شركة لغيرهما فيه فاقتسما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو الأصح لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن باستحقاق بعض شائع ظهر شريك ثالث لهما) ش: أي للمتقاسمين م: (والقسمة بدون رضاه باطلة) ش: أي بدون رضاء الشريك الثالث، لأن موضع المسألة فيما إذا تراضيا على القسمة، لأنه اعتبر القسمة فيها، ولا بد من التراضي م: (كما إذا استحق بعض شائع في النصيبين) ش: أي في نصيب الشريك م: (وهذا) ش: أي بطلان القسمة أيضا في ظهور الاستحقاق في بعض شائع في النصيبين م: (لأن باستحقاق جزء شائع ينعدم معنى القسمة) ش: أي في النصيبين م: (وهو الإفراز) ش: أي في معنى القسمة، وهو الإفراز والتمييز.
م: (لأنه يوجب الرجوع بحصته في نصيب الآخر شائعا) ش: توضيحه أن استحقاقه وإن كان من نصيب صاحبه المقدم خاصة فذلك يؤدي إلى الشيوع على الكل، لأن صاحب المقدم يرجع بحصة ذلك مما في يد صاحب المؤخر، فيكون ذلك بمنزلة ما لو كان المستحق جزءا شائعا في الكل.
م: (بخلاف المعين) ش: لأن في استحقاق بعض معين يقع الإفراز فيما وراءه يمكن أن يبقى له ولاية الرجوع، يعني المستحق عليه بالخيار إن شاء أبطل القسمة لأنه استحق بعض المعقود عليه، وللتنقيص في الأعيان عيب، والعيب يوجب الخيار. وإن شاء لم يبطل القسمة ورجع على صاحبه بربع ما في يده اعتبارا بالجزء بالكل.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أن معنى الإفراز لا ينعدم باستحقاق جزء شائع في نصيب أحدهما) ش: لأنه لا يوجب الشيوع في نصيب الآخر م: (ولهذا جازت القسمة على هذا الوجه في الابتداء بأن كان النصف المقدم مشتركا بينهما وبين ثالث) ش: أي بأن كان النصف المقدم من الدار مشتركا بين شريكين وثالث، صورته: أن تكون دار على نصفين فالنصف المقدم منها مشتركا منها بين ثلاثة نفر، والنصف المقدم من هذا النصف لواحد منهم، والنصف الآخر بين اثنين على السوية م: (والنصف المؤخر بينهما) ش: أي بين هذين الاثنين على السوية.
م: (لا شركة لغيرهما فيه) ش: أي في النصف الآخر م: (فاقتسما) ش: أي هذان الاثنان م:(11/455)
على أن لأحدهما ما لهما من المقدم وربع المؤخر يجوز. فكذا في الانتهاء، وصار كاستحقاق شيء معين، بخلاف الشائع في النصيبين؛ لأنه لو بقيت القسمة لتضرر الثالث بتفرق نصيبه في النصيبين، أما هاهنا فلا ضرر بالمستحق فافترقا، وصورة المسألة إذا أخذ أحدهما الثلث المقدم من الدار والآخر الثلثين من المؤخر، وقيمتهما سواء ثم استحق نصف المقدم، فعندهما: إن شاء نقض القسمة دفعا لعيب التشقيص، وإن شاء رجع على صاحبه برع ما في يده من المؤخر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(على أن لأحدهما ما لهما من المقدم وربع المؤخر يجوز) ش: أي على أن يأخذ أحدهما نصيبهما من النصف المقدم مع ربع النصف المؤخر، ويأخذ ما بقي من ذلك يجوز، لأن ما لا يمنع ابتداء القسمة لا يمنع بقاءها بالطريق الأولى، وهو معنى قوله م: (فكذا في الانتهاء، وصار كاستحقاق شيء معين) ش: أي في عدم انتفاء معنى الإفراز.
م: (بخلاف الشائع في النصيبين) ش: جواب عما قال أبو يوسف كما إذا استحق بعض شائع في النصيبين م: (لأنه لو بقيت القسمة) ش: في هذه الصورة م: (لتضرر الثالث بتفريق نصيبه في النصيبين) ش: في موضعين فيؤدي إلى الضرر منتف شرعا م: (وأما هاهنا فلا ضرر بالمستحق فافترقا) ش: أي الحكمان في المقيس والمقيس عليه في النصيبين، لأنه يحتاج إلى قسمة في يد كل واحد منهما، فتفرق نصيبه.
فإن قلت: إذا لم يكن للمستحق ضرر ولكن المستحق عليه يتضرر بتفريق نصيبه في التعين، أعني نصيب المستحق ونصيب الشريك الآخر.
قلت: ضرر المستحق عليه ليس بمنظور هنا، لأنه ضرورة إنشاء من فعلهما حيث اقتسما بدون الشريك الثالث ولم يفصحا عنه. على أنا نقول: هذا الإشكال يرد على الكل، لأن في استحقاق الجزء المعين يلزم هذا الضرر على المستحق عليه، ومع هذا لا ينقض القسمة بالإجماع.
م: (وصورة المسألة) ش: أي المسألة المذكورة في الكتاب لا المستشهد بها م: (إذا أخذ أحدهما الثلث المقدم من الدار والآخر الثلثين من المؤخر وقيمتهما سواء، ثم استحق نصف المقدم) ش: أي النصف من الثلث المقدم الذي وقع في نصيب أحدهما م: (فعندهما: إن شاء نقض القسمة دفعا لعيب التشقيص، وإن شاء رجع على صاحبه بربع ما في يده من المؤخر) ش: فإن جميع قيمة الدار ألف ومائتا درهم، ولما استحق النصف من الثلث المقدم شيء أن المشترك بينهما تسعا، ثم فهو كل واحد منهما في أربعمائة وخمسين.
والذي بقي في يد صاحب المقدم ثلاثمائة، وما في يد صاحب المؤخر يساوي ستمائة فيرجع عليه بربع ما في يده وقيمته مائة وخمسون حتى يسلم لكل واحد منهما ما يساوي(11/456)
لأنه لو استحق كل المقدم رجع بنصف ما في يده، فإذا استحق النصف رجع بنصف النصف وهو الربع اعتبارا للجزء بالكل.
ولو باع صاحب المقدم نصفه ثم استحق النصف الباقي شائعا رجع بربع ما في يد الآخر عندهما لما ذكرنا، وسقط خياره ببيع البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أربعمائة وخمسين م: (لأنه لو استحق كل المقدم رجع بنصف ما في يده، فإذا استحق النصف رجع بنصف النصف وهو الربع اعتبارا للجزء بالكل) ش: أي لأنه إنسان لو استحق كل المقدم من الدار وهو الثلث والباقي ظاهر.
م: (ولو باع صاحب المقدم نصفه) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، أي ولو باع صاحب المقدم والنصف من الثلث المقدم الذي وقع في نصيب أحدهما م: (ثم استحق النصف الباقي شائعا رجع بربع ما في يد الآخر عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وقد ذكر هنا قول محمد مع أبي يوسف - رحمهما الله - كما في الأول.
وذكر الكرخي قوله مع أبي حنيفة كما في الأول، وذلك لأن من أصل أبي حنيفة أن القسمة لا تنقض فيحتاج إلى تحقيق معنى المعادلة، فيقول لو استحق جميع ما في يده رجل بنصف ما في يد صاحبه.
وإذا استحق النصف رجع بالربع اعتبارا للجزء بالكل، وهو معنى قوله م: (لما ذكرنا) ش: يعني من قوله لأنه لو استحق كل المقدم رجع بنصف ما في يده إلى قوله اعتبارا للجزء بالكل م: (وسقط خياره ببيع البعض) ش: أي سقط خيار المستحق عليه في فسخ القسمة، لأنه باع البعض وبقي حق الرجوع بالربع تحقيقا للمعادلة.
وقال الكرخي في "مختصره ": فإن كانت مائة شاة ما بين رجلين نصفين ميراثا أو شراء فاقتسماها وأخذ أحدهما أربعين شاة فساوى خمسمائة، وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة فاستحقت شاة من الأربعين تساوي عشرة دراهم، فإنه يرجع بخمسة دراهم في الستين شاة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أيضا، فتكون الستين شاة بينهما يضرب فيها بخمسة دراهم، ويضرب فيها الآخر بخمسمائة درهم إلا خمسة دراهم، انتهى.
وهذا لا ينقض القسمة بالاتفاق، لأن الاستحقاق إذا ورد على شيء يعني لا ينقض القسمة وقد وردت على شاة بعينها فوجب الرجوع بنصف قيمة الشاة المستحقة لتحققت معنى المبادلة. وتبنى أن بينهما ألفا إلا عشرة دراهم، وقد وصل إلى صاحب الستين وخمسمائة إلى صاحب الأربعين أربعمائة وتسعين، وتبقى خمسة دراهم إلى تمام حقه فيضرب في الستين شاة بخمسة دراهم وشريكه بأربعمائة وخمسة وتسعين.(11/457)
وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في يد صاحبه بينهما نصفان ويضمن قيمة نصف ما باع لصاحبه؛ لأن القسمة تنقلب فاسدة عنده، والمقبوض بالعقد الفاسد مملوك فنفذ البيع فيه، وهو مضمون بالقيمة فيضمن نصف نصيب صاحبه،
قال: ولو وقعت القسمة ثم ظهر في التركة دين محيط ردت القسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما في يد صاحبه بينهما نصفان فيضمن قيمة نصف ما باع لصاحبه؛ لأن القسمة تنقلب فاسدة عنده) ش: أي عند أبي يوسف، لأنه تبين الاستحقاق والقسمة كانت فاسدة م: (والمقبوض بالعقد الفاسد مملوك) ش: هذا جواب لمن يقول: ينبغي أن يقبض البيع، لأنه بناء على القسمة وهي فاسدة فيفسد ما بني عليه فليسترد الشريك البائع ما باع، ويجمع النصيب الذي في يد الآخر ويقسم ثانيا، فأجاب بأن القسمة في معنى البيع من حيث إنها مبادلة فكانت في معنى البيع الفاسد والمقبوض في البيع الفاسد م: (فنفذ البيع فيه) ش: لاتصال القبض م: (وهو مضمون بالقيمة فيضمن نصف نصيب صاحبه) ش: لتعذر الوصول إلى عين حقه لمكان البيع فيضمن نصف صاحبه.
[لو وقعت القسمة ثم ظهر في التركة دين محيط ردت القسمة]
م: (قال: ولو وقعت القسمة ثم ظهر في التركة دين محيط ردت القسمة) ش: أي قال المصنف ذكر هذه المسألة تفريعا على مسألة القدوري وهي من مسائل الأصل، ولكن كان ينبغي أن لا يذكر في أول المسألة لفظ قال لأنه لم يذكر هذه المسألة في البداية. وقوله: دين لا تفاوت فيه بين أن يكون قليلا أو كثيرا، وبه صرح الحاكم في " الكافي " والكرخي في "مختصره"، إلا أن يكون للميت مال ما سوى ذلك بيع بالدين، وأبعدت القسمة.
وقوله: رد القسمة، أي إذا لم يرد الورثة الدين، إما لراد وإلا ترد، لأن حق الغرماء في مالية الشركة لا في عينها، وبه قال مالك.
وقال الشافعي: إن قلنا إن القسمة تمييز لحقين لم تبطل القسمة، وإن لم يقبض الدين بطلت القسمة. وإن قلنا إنه بيع الشركة قبل قضاء الدين ففيه قولان، وفي قسمتها قولان، وفي " الذخيرة " لو ظهر وارث آخر أو موصى له بالثلث أو الربع أو ما أشبه ذلك وردت القسمة لأنه ظهر أن في الشركة شريكا آخر قد اقتسموا دونه، وكذا لو ظهر الموصى له بالألف المرسلة، أي إذا قالت الورثة بحق ينقص حق الغرماء وحق الموصى له بالألف المرسلة.
أما في الوارث الآخر والموصى له بالثلث أو الربع ليس لهم ذلك، لأن حقهما في عين الشركة فلا ينفك إلى مالك آخر إلا برضاهما، وحق الغريم والموصى له بالألف المرسلة إلى المالية لا في عين الشركة، وفي ذلك قال الوارث في التركة سواء، ولهذا قالوا: لو كان مال آخر لم يدخل في القسمة ليس للغريم والموصى له بالألف المرسلة حق بعض القسمة، بل يعطى(11/458)
لأنه يمنع وقوع الملك للوارث، وكذا إذا كان غير محيط لتعلق حق الغرماء بالشركة إلا إذا بقي من التركة ما يفي بالدين وراء ما قسم؛ لأنه لا حاجة إلى نقض القسمة في إيفاء حقهم.
ولو أبرأه الغرماء بعد القسمة أو أداه الورثة من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختلف أصحاب مالك في ظهور وارث آخر أو موصى له بالثلث، قال ابن القاسم: وإن كانوا عالمين بوارث آخر لا تصح القسمة، وإن لم يكونوا عالمين والشركة عين أخذ من كل ما يتويه، وقال عبد الملك وأشهب: القسمة جائزة في الوجهين وله الخيار إن شاء أجاز القسمة وأخذ ما تتويه من كل، وإن شاء رد القسمة فيجمع سهمه في محل إذا كانت التركة دارين، وإن كانت أكثر استرد القسمة. وإذا كان في التركة دين وطلبوا من القاضي القسمة والقاضي يعلم بالدين وصاحب الدين غائب، فإن كان الدين مستغرقا بالدين لا يقسم القاضي، لأنه لا ملك لهم في الشركة، فإن كان غير مستغرق فالقياس أن لا يقسمها أيضا، لأن الدين سائل لكل جزء من أجزاء التركة، حتى لو هلك جميع التركة إلا مقدار الدين كان ذلك لصاحب الدين، وهذا القياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكنه استحسن وقال: قلما يخلو تركة عن دين يسير ويستحب أن يقف عشرة آلاف بدين عشرة، فالأحسن أن ينظر للفريقين فيقف من التركة قدر الدين ويقسم الباقي مراعاة للحقين وفيه نظر للميت من حيث إن وارثه يقوم بحفظ ما نصيبه من ذلك، فليس يكون مضمونا عليه ما لم يصل إلى صاحب الدين حقه مالا يأخذ كفيلا بشيء من ذلك فعلى هذا قول أبي حنيفة.
أما عندهما يأخذ كفيلا وإن لم يكن الدين معلوما للقاضي عن الدين، فإذا قالوا: لا دين فالقول لهم ويقسم القاضي تمسكهم بالأصل وهو فراغ الذمة عن الدين، ولو ظهر دين نقض القسمة لأن أوانها قضاء الدين، كذا في " المبسوط " والذخيرة ".
م: (لأنه يمنع) ش: أي لأن الدين يمنع م: (وقوع الملك للوارث) ش: وقد ذكرنا مستقصى م: (وكذا إذا كان غير محيط لتعلق حق الغرماء بالتركة) ش: شائعا فلا يجوز التصرف كالمرهون م: (إلا إذا بقي من التركة ما يفي بالدين وراء ما قسم) ش: استيفاء من قوله ردت القسمة، يعني إذا بقي في التركة بعد القسمة بشيء يوفى به الدين فلا ترد القسمة م: (لأنه لا حاجة إلى نقض القسمة في إيفاء حقهم) ش: لأن المانع عن القسمة قيام حق الغريم، فإذا وصل إليه حقه زال المانع من نفوذ القسمة.
م: (ولو أبرأه الغرماء بعد القسمة) ش: أي وكذا لا يرد القسمة لأنه لا حاجة إلى نقض القسمة إذا أبرأ الميت غرماءه بعد القسمة م: (أو أداه) ش: أي دين الغرماء حق م: (الورثة من(11/459)
مالهم والدين محيط أو غير محيط جازت القسمة، لأن المانع قد زال،
ولو ادعى أحد المتقاسمين دينا في التركة صح دعواه؛ لأنه لا تناقض إذ الدين يتعلق بالمعنى والقسمة تصادف الصورة
ولو ادعى عينا بأي سبب كان لم يسمع للتناقض إذ الإقدام على القسمة اعتراف بكون المقسوم مشتركا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالهم والدين محيط أو غير محيط) ش: أي وسواء كان الدين بالتركة أو لم يكن م: (جازت القسمة؛ لأن المانع قد زال) ش: وهو قيام الدين.
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا ظهر موصى له بالثلث؟
قلت: إنه شريكه في التركة وقد اقتسموا بدونه فلا تصح القسمة، كما إذا استحق شيء شائع في التركة، فإن القسمة باطلة كذلك هاهنا، والفقه فيه أنا نعتبر الانتهاء في المسألتين بالابتداء، وفي ابتدائهما إذا قسموا التركة وأعطوا حق الموصى له بالثلث من مالهم لم يكن لهم ذلك إلا برضاه، لأن حقه في عين التركة. فإذا أرادوا أن يعطوه من مالهم فقد قصدوا شراء نصيبه من التركة فلا يصح إلا برضاه فكذلك في الانتهاء، وقد مر تحقيقه آنفا.
[ادعى أحد المتقاسمين دينا في التركة]
م: (ولو ادعى أحد المتقاسمين دينا في التركة صح دعواه) ش: ذكر تفريعا على مسألة القدوري قيد بقوله: دينا، لأنه لو ادعى عينا من أعيان التركة بأي سبب كان بالشراء والهبة أو غيرهما فلا يقبل دعواه كما يجيء عن قريب، إذ الدين لا يتعلق بعين التركة بل بمعناها وهي المالية، ولهذا للورثة حق إيفاء الدين من مال آخر.
واستخلاص التركة لا تقسم فلم يكن الإقدام على القسمة إقرارا بعدم الدين، أشار إليه بقوله م: (لأنه لا تناقض إذا الدين يتعلق بالمعنى) ش: أي بمعنى التركة وحق المالية م: (والقسمة تصادف الصورة) ش: أي صورة التركة. وشرط التناقض اتخاذ المحل، وهاهنا قد اختلف المحل فلا يتناقض.
م: (ولو ادعى) ش: أحد المتقاسمين م: (عينا) ش: من الأعين في التركة م: (بأي سبب كان) ش: من الشراء والهبة أو نحوهما م: (لم يسمع) ش: دعواه م: (للتناقض إذ الإقدام على القسمة اعتراف) ش: أي إقرار منه م: (بكون المقسوم مشتركا) ش: ودعواه بعد ذلك دعوى بفساد القسمة، إذ القسمة فيه باطلة كانت العين له، وبين دعوى الفساد والإقرار بالصحة للتناقض فلا يسمع.
وفي " الذخيرة " أقر رجل أن فلانا مات وترك هذه الدار ميراثا ولم يقل لهم أو لورثته ثم ادعى بعد ذلك أنه أوصى بالثلث أو ادعى دينا عليه أو لهم، والمسألة بحالها لا تقبل، لأنه(11/460)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لما قال لهم أو لورثته كان إقرارا بأن لا دين عليه ولا حق لغيره، فبعد ذلك دعوى الوصية أو الدين يتناقض.
وفي " الشامل " اقتسمت الورثة وأراد فيهم امرأة الميت ثم ادعت بعد القسمة مهرا على زوجها وإقامة البينة تنقض بالقسمة، وكذلك الوارث لو ادعى دينا، لأن المهر لا يتعلق بعين التركة بل بمعناها، فلم يكن بالإقدام على القسمة مقرة بأن لا حق لها.(11/461)
فصل في المهايأة المهايأة جائزة استحسانا للحاجة إليه، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع، فأشبه القسمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في المهايأة]
م: (فصل في المهايأة) ش: لما ذكر قسمة الأعيان شرع بقسمة الأعراض وهي لغة مشتقة من الهيئة وهي الحالة الظاهرة للمتهيئ للشيء، يقال: هيأها هي مهايأة، ومنه التهايؤ وهو أن يتواضعوا على أمر فيتراضوا به وفي الحقيقة أن يتراضوا بهيئة واحدة، يعني الشريك منتفع بالعين على الهيئة التي ينتفع بها الشريك الآخر، وقد تبدل الهمزة ألفا. وفي عرف الفقهاء هي قسم المنافع.
ومسائل هذا الفصل إلخ من المسائل الأصل لم يذكرها محمد في " الجامع الصغير " ولا القدوري في "مختصره "، ولهذا لم يذكرها صاحب " الهداية " في البداية إنما ذكرها هنا تكثيرا للفوائد.
م: (المهايأة جائزة استحسانا) ش: وفي القياس لا يجوز لأنها مبادلة المنفعة بجنسها، وقال في " شرح الأقطع ": قال أصحابنا: إن المهايأة في المنافع المشتركة عقد جائز واجب إذا طلب أحد الشركاء، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز. وقال الطحاوي في " اختلاف الفقهاء " إني طلبت في ذلك قول الشافعي فلم أجد ظاهرا. مذهبه أن الحاكم لا يجوز أن يجبر على المهايأة. وكذا يذكر أصحاب اليوم. وجه استحسان الكتاب قوله سبحانه وتعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] (الشعراء: الآية 155) وهذا هو المهايأة.
والسنة ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى غزوة بدر مع أصحابه على نواضح المدينة ليس لهم ظهر غيرها، فكان يخرج منهم الثلاثة على البعير الواحد التناوب ليس فيهم فارس غير مصعب بن عمير والمقداد بن الأسود» . وروي «عن عقبة بن عامر الجهني قال: كنا نتناوب في إبل الصدقة على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -
والمعقول وهو أن الأعيان خلقت للانتفاع، فمتى كان الملك مشتركا فكان حق الانتفاع مشتركا أيضا، والمحل الواحد لا يحتمل الانتفاع على الاشتراك في زمان واحد، فيحتاج إليها تكميلا للانتفاع. ثم التهايؤ قد يكون من حيث المكان كالدار الكبيرة يسكن أحدهما ناحية منها والآخر ناحية أخرى. وقد يكون من حيث الزمان بأن ينتفع أحدهما بالعين كالدار والأرض ونحو ذلك مما يحتمل القسمة. وأما فيما لا يحتمل القسمة كالدابة الواحدة والعبد الواحد لا ينافي القسمة إلا من حيث الزمان.
م: (للحاجة إليه) ش: أي إلى فعل المهايأة م: (إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع فأشبه القسمة)(11/462)
ولهذا يجري فيه جبر القاضي، كما يجري في القسمة، إلا أن القسمة أقوى منه في استكمال المنفعة لأنه جمع المنافع في زمان واحد، والتهايؤ جمع على التعاقب، ولهذا لو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ في التكميل.
ولو وقعت فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهذا الوجه المعقول، وقد بيناه، وكلمة إذ للتعليل، قوله: فأشبه، أي فعل المهايأة، والتهايؤ القسمة فيما تعذر الانتفاع بالعين جملة فيقسم ينتفع كل منه بنفسه، فكذلك الانتفاع بالمنفعة قد يتعذر جملة يستهمون وينتفع كل منهم بنصيبه، إذ المقصود من الأعيان الانتفاع بها.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل شبه المهايأة القسمة م: (يجري فيه) ش: أي في المهايأة تأويل جملة التهايؤ م: (جبر القاضي كما يجري في القسمة) ش: إذا طلبها بعض الشركاء وأبى غيره يجبره القاضي كما يجبر، أي في القسمة عند اتحاد الجنس. ثم اختلف العلماء في كيفية جوازها. قال بعضهم: إن كانت المهايأة في الجنس الواحد والمنفعة متفاوتة تفاوتا يسيرا كما في الثياب والأراضي يعتبر إفرازا من وجه مبادلة من وجه حتى لا ينفرد أحدهما بهذه المهايأة. ولو طلب أحدهما ولم يطلب الآخر قسمة الأصل أجبر على المهايأة.
وعند الشافعي لم يجبر، وعنه في وجه يجبر وإن [ ... ] في الجنس المختلفة كالدور والعبيد تعتبر مبادلة من كل وجه حتى لا يجوز من غير رضاهما، لما أن المهايأة قسمة المنافع فيعتبر بقسمة الأعيان، وقسمة العين اعتبرت مبادلة من كل وجه في الجنس المختلف، وفي الجنس المتحد إفراز من وجه مبادلة من كل وجه كما بينا فلا ينفرد أحدهما بالقسمة، ولكن أجبر عليه بطلب أحدهما، لأن التفاوت يسير، وكذا في قسمة المنافع. وقيل: إن المهايأة في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتا يسيرا يعتبر إفرازا من وجه عارية من وجه؛ لأن المهايأة جائزة في الجنس الواحد.
ولو كانت مبادلة من وجه لما جازت في الجنس الواحد لأنها تكون مبادلة المنفعة بجنسها وأنه يحرم النساء، والأول أصح.
م: (إلا أن القسمة أقوى منه) ش: أي من التهايؤ م: (في استكمال المنفعة لأنه) ش: أي لأن القسمة والتذكير باعتبار القسم م: (جمع المنافع في زمان واحد، والتهايؤ جمع على التعاقب) ش: يعني يقع شيء منها عقيب شيء م: (ولهذا) ش: أي لكون القسمة أقوى م: (لو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ في التكميل) ش: أي ولأن القسم أبلغ في تكميل المنفعة لما ذكر أنه جمع المنافع في زمان واحد.
[ولو وقعت فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم]
م: (ولو وقعت) ش: أي المهايأة م: (فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم) ش:(11/463)
وتبطل المهايأة لأنه أبلغ
ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما؛ لأنه لو انتقض لاستأنفه الحاكم ولا فائدة في النقض ثم الاستئناف. ولو تهايئا في دار واحدة على أن يسكن هذا طائفة وهذا طائفة، أو هذا علوها وهذا سفلها جاز، لأن القسمة على هذا الوجه جائزة فكذا المهايأة والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة، ولهذا لا يشترط فيه التأقيت ولكل واحد أن يستغل ما أصابه بالمهايأة شرط ذلك في العقد أو لم يشرط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ثم طلب أحد الشريكين القسمة يقسم القاضي م: (وتبطل المهايأة؛ لأنه) ش: أي لأن القسم م: (أبلغ) ش: في تكميل المنفعة.
وقال: في كتاب الصلح من المسائل: ولكل واحد نقض المهايأة بلا عذر إذا لم يرد التعنت، لأنه بمنزلة العارية وورثتهما بمنزلتهما. وقال في " الكفاية " طلب أحدهما قسمة العين بعد المهايأة قسم الحاكم وفسخ المهايأة، لأن الأصل القسمة.
[هل يبطل التهايؤ بموت أحد المتقاسمين]
م: (ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما؛ لأنه لو انتقض لاستأنفه الحاكم) ش: بجواز طلب الورثة المهايأة م: (ولا فائدة في النقض ثم الاستئناف) ش: أي فحينئذ فلا فائدة في نقض المهايأة ثم إعادتها م: (ولو تهايئا في دار واحدة على أن يسكن هذا طائفة) ش: أي ناحية من الدار م: (وهذا طائفة) ش: أي ناحية أخرى منها م: (أو هذا علوها وهذا سفلها) ش: أي وهذا يسكن علو الدار وهذا يسكن سفلها م: (جاز، لأن القسمة على هذا الوجه جائزة، فكذا المهايأة) ش: يجوز بجبر الممتنع بطلب أحدهم وبه قال الشافعي ومالك: وسواء في ذلك ذكرت المدة أو لا. وفي " المبسوط " لو انهدم العلو فلصاحبه أن يسكن مع صاحب السفل لأنه إنما رضي بسقوط حقه في السفل بشرط سلامة سكن العلو فلم يسلم فكان هو على حقه في السفل وورثته في ذلك بمنزلته.
م: (والتهايؤ في هذا الوجه) ش: وهو أن يسكن في هذا جانب من الدار ويسكن هذا في جانب آخر في زمان واحد م: (إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة) ش: يعني جمع القاضي بها جمع منافع أحدهما في بيت واحد بعد أن كانت سابعة في ثلثين، وكذلك في حق الآخر وبهذا إيضاح لكونها إفراز لا مبادلة م: (لهذا لا يشترط فيه التوقيت) ش: يعني لو كانت مبادلة يشترط فيها بيان المدة لأنه تعتبر حينئذ إجارة، وهذه الإجارة فاسدة لأنها تكون إجارة السكنى م: (ولكل واحد أن يستغل ما أصابه بالمهايأة) ش: أي ولكل واحد من التهايئين أن يأخذ بحدوث المنافع على ملكه، احترز بهذا القيد عن قول أبي علي الشافعي فإنه قال: لو تهايئا بالسكنى ولم يشترط الإجارة لم يملك كل واحد منهما إجارة منزله وقال شمس الأئمة: ظاهر المذهب أنه يملك الإجارة م: (شرط ذلك في العقد أو لم يشرط) ش: كذا في " الذخيرة "(11/464)
لحدوث المنافع على ملكه. ولو تهايآ في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما جاز، وكذا هذا في البيت الصغير، لأن المهايأة قد تكون في الزمان، وقد تكون من حيث المكان، والأول متعين هاهنا، ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان في محل يحتملهما يأمرهما القاضي بأن يتفقا، لأن التهايؤ في المكان أعدل وفي الزمان أكمل، فلما اختلفت الجهة لا بد من الاتفاق. فإن اختاراه من حيث الزمان يقرع في البداية نفيا للتهمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: المنافع في العارية يحدث على ملك المستعير، ومع هذا لا يملك الإجارة. قلت: لجواز أن يسترده م: (لحدوث المنافع على ملكه) ش: المعير قبل مضي المدة فلا فائدة. م: (ولو تهايآ في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما) ش: أي ويخدم هذا يوما م: (جاز) ش: أي التهايؤ. واحترز بالعبد الواحد على التهايؤ على علة العبد الواحد فإنه لا يجوز بالاتفاق بيانه فيها ذكر شيخ الإسلام الأسبيجابي في كتاب الصلح من (الكافي) ، والتهايؤ في خدمة العبد الواحد والعبدين جائزة. وفي " الكيسانيات " في العبدين ينبغي أن لا يجوز أيضا هاهنا عند أبي حنيفة اعتبارا برقبتهما.
م: (وكذا هذا في البيت الصغير؛ لأن المهايأة قد تكون في الزمان) ش: بأن يسكن هذا يوما وهذا يوما م: (وقد تكون من حيث المكان) ش: بأن يسكن هذا طائفة وطائفة م: (والأول متعين هاهنا) ش: معنى التهايؤ في الزمان متعين في البيت الصغير ولم يذكر أن هذا إفراز أو مبادلة لأنه عطفه على صورة الإفراز وكان معلوما م: (ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان) ش: بأن يطلب أحدهما التهايؤ من حيث الزمان والآخر من حيث المكان أو من حيث الزمان فقط فهو أن يطلب أحدهما أن يسكن جميع الدار شهرا وصاحبه شهرا آخر، أو من حيث المكان فقط فهو أن يطلب أحدهما أن يسكن في مقدمها وصاحبه م: (في محل يحتملهما) ش: أي يحتمل التهايؤ من حيث الزمان والتهايؤ من حيث المكان، كالدار مثلا. قيد به إذا كان في محل لا يحتملها كالبيت الصغير مثلا فإنه لا يكون التهايؤ إلا من حيث الزمان فقط.
م: (يأمرهما القاضي بأن يتفقا؛ لأن التهايؤ في المكان أعدل) ش: لأن كل واحد ينتفع في زمان واحد من غير تقديم لأحدهما على الآخر م: (وفي الزمان أكمل) ش: لأن كل واحد ينتفع بجميع الدار في نوبته، وفي المكان ينتفع بالبعض م: (فلما اختلفت الجهة) ش: وهو الزمان والمكان م: (لا بد من الاتفاق، فإن اختاره من حيث الزمان يقرع في البداية نفيا للتهمة) ش: أي لتهمة الميل، وأنه قيد الاختيار من حيث الزمان، ولم يطلق؛ لأن التسوية في المكان فكان ممكنا في الحال بأن يسكن هذا بعضها، ويسكن الآخر بعضها. ولو كان المتقدم أحسن وأنفع يمكن أن يجعل في نصيب الآخر من المرافق ما يساوي المقدم، أما التسوية من حيث الزمان فلا يمكن في الحال إلا أن يمضي مدة أحدهما ثم يسكن الآخر مثل تلك المدة.(11/465)
ولو تهايآ في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبد والآخر الآخر جاز عندهما، لأن القسمة على هذا الوجه جائزة عندهما من القاضي وبالتراضي فكذا المهايأة. وقيل: عند أبي حنيفة: لا يقسم القاضي، وهكذا روي عنه لأنه يجري فيه الجبر عنده، والأصح أنه يقسم القاضي عنده أيضا؛ لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت، بخلاف أعيان الرقيق لأنها تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما تقدم. ولو تهايئا فيهما على أن نفقة كل عبد على من يأخذه جاز استحسانا للمسامحة في إطعام المماليك، بخلاف شرط الكسوة لأنه لا يسامح فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تهايآ في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبدُ]
م: (ولو تهايآ في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبدُ) فهذا العبد فاعل لقوله: يخدم فيكون مرفوعا، وهذا الأول مفعول فيكون محل النصب م: (والآخر) ش: بنصب الأول ورفع الثاني أي ويخدم الشريك الآخر العبد م: (الآخر جاز عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد وبه قالت الثلاثة م: (لأن القسمة على هذا الوجه جائزة عندهما جبرا من القاضي وبالتراضي، فكذا المهايأة) ش: أي فكذا يجوز المهايأة، وقد مر أنها تجوز أن قسمة الرقيق جبرا، والمهايأة من أهل القسمة.
م: (وقيل: عند أبي حنيفة لا يقسم القاضي) ش: أي قال بعض المشايخ عنه: فكذا على قياس قوله م: (وهكذا روي عنه) ش: أي كما قال بعض المشايخ روى عنه الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وقال الأترازي: يعني روي عن أبي حنيفة في " الكيسانيات " أن التهايؤ على خدمة العبدين لا يجوز وظاهر الرواية على خلاف ذلك م: (لأنه لا يجري فيه الجبر عنده) ش: لأن الشأن لا يجري في القسم الجبر عند أبي حنيفة م: (والأصح أنه يقسم القاضي عنده أيضا) ش: لأن معنى قول أبي حنيفة أن الدور لا تقسم أنه لا يفعل القاضي، فإن فعله جاز، فعلى هذا يجوز القسمة في الأصول، فكذا في المهايأة، وإلى هذا مال الكرخي م: (لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت) ش: لأن الاستخدام مما لا يدوم أنه مبني على المسامحة، والمساهلة، فيكون منافع العبد متقاربة.
م: (بخلاف أعيان الرقيق؛ لأنه تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما تقدم) ش: في القسمة م: (ولو تهايئا فيهما) ش: أي ولو تهايآ الشريكان في العبدين م: (على أن نفقة كل عبد على من يأخذه جاز استحسانا للمسامحة في إطعام المماليك، بخلاف شرط الكسوة؛ لأنه لا يسامح فيها) ش: قال في " الشامل ": تهايآ في عبدين أن يستخدم كل واحد أحدهما، وطعام كل واحد عليه جاز استحسانا؛ لأنه يستقبح أن يخدمه، ويؤتى بطعامه من بيت غيره.
ولو تهايآ على أن يكون لكل واحد كسوة ما في يده لا يجوز؛ لأن كسوتهما عليهما، فيكون كل واحد مشتريا نصف الكسوة من صاحبه بنصف كسوة الذي في يده فإنه مجهول فلا(11/466)
ولو تهايآ في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز ويجبر القاضي عليه، أما عندهما فظاهر؛ لأن الدارين عندهما كدار واحدة. وقد قيل: لا يجبر عنده اعتبارا بالقسمة، وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز التهايؤ فيهما أصلا بالجبر لما قلنا، وبالتراضي لأنه بيع السكنى بالسكنى بخلاف قسمة رقبتهما؛ لأن بيع بعض أحدهما ببعض الآخر جائز، وجه الظاهر: أن التفاوت يفل في المنافع فيجوز بالتراضي ويجري فيه جبر القاضي، ويعتبر إفرازا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز.
[لو تهايآ في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز]
م: (ولو تهايآ في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز) ش: بالاتفاق م: (ويجبر القاضي عليه) ش: أي على التهايؤ في الدارين إذا أمتنع أحدهما م: (أما عندهما فظاهر؛ لأن الدارين عندهما كدار واحدة) ش: أي أما عند أبي يوسف. ومحمد فظاهر، لأن قسمة الدارين في هذا المثال تصح، فكذا التهايؤ. وكذا عند أبي حنيفة، لأن التفاوت يقل في المنافع فيجوز بالتراضي. ويجري فيه جبر القاضي، ويعتبر إفرازا كالأعيان المتقاربة.
م: (وقد قيل: لا يجبر عنده اعتبارا بالقسمة) ش: وهو قول الكرخي، فإنه قال: لا يجبر عند أبي حنيفة، قال في " الفتاوى الصغرى ": وذكر الكرخي هذا إذا تراضيا عليه، أما عند طلب أحدهما فالقاضي لا يجبر عند أبي حنيفة؛ لأن عنده قسمة الجبر لا يجري في الدور، فكذا في القسمة بطريق التهايؤ.
م: (وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز التهايؤ فيهما أصلًا بالجبر) ش: أي من القسمة والتهايؤ في أكثر النسخ فيه، أي في سكنى الدارين قوله أصلا، يعني مطلقا، يعني لا بالجبر، ولا بالتراضي، وهذه رواية " الكيسانيات ". بيانه فيها قال شيخ الإسلام الأسبيجابي في " شرح الكافي ": فكذلك التهايؤ في الدارين على السكنى إذ العله جائزة.
وذكر في " الكيسانيات " عن أبي حنيفة أنه لا يجوز؛ لأن قسمة المنفعة تعتبر بقسمة العين، وقسمة العين في الدارين عنده لا يجوز باعتبار التفاوت، إلا أن ثمة يجوز بالتراضي لأنه بملك ينعقد تمليكا عند ذلك، وتمليك الدار جائز، وهذا ينعقد تمليك السكنى بالسكنى، وذلك باطل م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: اعتبارا بالقسمة م: (وبالتراضي) ش: عطف على قوله بالجبر م: (لأنه بيع السكنى بالسكنى) ش: أي لأن التهايؤ في الدارين بيع السكنى بالسكنى وذلك باطل.
م: (بخلاف قسمة رقبتهما) ش: أي حيث يجوز قسمة رقبة الدارين م: (لأن بيع بعض أحدهما ببعض الآخر جائز) ش: أي بيع بعض أحد الدارين ببعض الدار الآخر م: (وجه الظاهر) ش: وهو أن يجبر القاضي عليه عند أبي حنيفة م: (أن التفاوت يقل في المنافع فيجوز بالتراضي، ويجري فيه جبر القاضي، ويعتبر إفرازا) ش: أي يعتبر التهايؤ هذا إفرازا أو تمييزا، هذا جواب عما روي عن(11/467)
أما التفاوت فيكثر في أعيانهما فاعتبر مبادلة. وفي الدابتين لا يجوز التهايؤ على الركوب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يجوز اعتبارا بقسمة الأعيان. وله: أن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين فإنهم بين حاذق وأخرق، والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة على هذا الخلاف لما قلنا. بخلاف العبد لأنه يخدم باختياره فلا يتحمل زيادة على طاقته، والدابة تحملها وأما التهايؤ في الاستغلال فيجوز في الدار الواحدة في ظاهر الرواية،
وفي العبد الواحد، والدابة الواحدة لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي حنيفة أنه لا يجوز م: (أما التفاوت فيكثر في أعيانهما) ش: أي في أعيان الدارين، وهذا التركيب غير مرض عند النحاة على ما لا يخفى، ولكن التقدير: أما التفاوت فيكثر في الأعيان فافهم م: (فاعتبر مبادلة) ش: فلا يجري فيها الجبر، بخلاف الإفراز م: (وفي الدابتين لا يجوز التهايؤ على الركوب عند - أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يجوز اعتبارا بقسمة الأعيان) ش: فكما يجوز قسمة الدواب من جنس واحد رقبة، فكذا يجوز منفعة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين فإنهم بين حاذق) ش: أي فإن الراكبين بين ما هو حاذق بصنعة الركوب م: (وأخرق) ش: أي وبين أخرق، أي جاهل بها، وهو أفعل من خرق يخرق من باب علم يعلم، ويقال: هو من باب فعل يفعل بالضم فيهما، ومصدره خرق بفتحتين، والأخرق ضد الرفيق، والأخرق الأحمق م: (والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور، فعنده لا يجوز خلافا لهما م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: إن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين.
م: (بخلاف العبد) ش: أي بخلاف التهايؤ في خدمة العبد حيث يجوز م: (لأنه يخدم باختياره) ش: ويسأله على سمط واحد م: (فلا يتحمل زيادة على طاقته) ش: أي لأن يتكلف زيادة على ما يطيقه من العمل، والخدمة، فيتحقق الاعتدال في قسمتها م: (والدابة تحملها) ش: على صيغة المجهول، أي يحتمل الزيادة على طاقتها، يعني تكلف، ويسأل عليها بغير ما في طاقتها، والناس متفاوتون فلا يتحقق الاعتدال م: (وأما التهايؤ في الاستغلال) ش: أي طلب الغلة م: (فيجوز في الدار الواحدة في ظاهر الرواية) ش: لأنه في الحقيقة تهايؤ من حيث المنفعة؛ لأنه لا فرق بين أن يتهايأ سكنى، ثم يؤاجرها فيأكل غلتها، وبين أن يتهايأ في الغلة ابتداء.
وذكر محمد في " الرقبانيات " أنه لا يجوز التهايؤ في الغلة، لأن الغلة اسم للدراهم وهي معدومة الحال، وقسمة المعدوم قبل الوجود لا يجوز إذا كان مما يحتمل القسمة بعد الوجود. بخلاف القسمة في المنفعة، ولهذا لا تجوز القسمة في غلة واحدة، كذا في " شرح الكافي ".
[التهايؤ في الغلة]
م: (وفي العبد الواحد، والدابة الواحدة لا يجوز) ش: بلا خلاف.(11/468)
ووجه الفرق: أن النصيبين يتعاقبان في الاستيفاء، والاعتدال ثابت في الحال، والظاهر بقاؤه في العقار وتغيره في الحيوانات لتوالي أسباب التغير عليها فتفوت المعادلة، ولو زادت الغلة في نوبة أحدهما عليها في نوبة الآخر يشتركان في الزيادة ليتحقق التعديل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ووجه الفرق) ش: يعني بين جواز التهايؤ في الاستغلال في دار واحدة، وعدمه في العبد الواحد، والدابة الواحدة م: (أن النصيبين يتعاقبان في الاستيفاء) ش: أي نصيبي الشريكين يتعاقبان. يعني أحدهما يكون عقيب الآخر في استيفاء المنفعة م: (والاعتدال ثابت في الحال) ش: أي في الحال التي عليها الدار، أو العبد م: (والظاهر بقاؤه في العقار) ش: أي بقاء الاعتدال في العقار م: (وتغيره في الحيوانات) ش: أي والظاهر تغير الاعتدال في الحيوانات م: (لتوالي أسباب التغير عليها) ش: أي على الحيوانات من عروض الآفة، والمرض، والعجز، خصوصا عند لحوق التعب م: (فتفوت المعادلة) ش: أي إذا كان كذلك تفوت المعادلة؛ لأن الاستغلال إنما يكون بالاستعمال، والظاهر أن عمله في الزمان الثاني لا يكون كما كان في الأول، لأن القوى الجسمانية متناهية.
م: (ولو زادت الغلة) ش: يعني في الدار الواحدة م: (في نوبة أحدهما عليها) ش: أي على الغلة التي يكون م: (في نوبة الآخر يشتركان في الزيادة ليتحقق التعديل) ش: في المهايأة، لأن مبناها على المعادلة كما في القسمة. وفي " الذخيرة ": أغلت إحدى الدارين دون الأخرى، وليس للذي لم تغل داره أن يشارك الآخر في الغلة؛ لأن التي أغلت إنما أغلت لنفسه دون شريكه، فلو أجرها بغير إذن شريكه كانت الغلة كذلك منادية له، وتكون الغلة كائنة له؛ لأن الإجارة حصلت بإذن الشريك.
وفي الدار الواحدة إذا تهايآ في الغلة فأغلت في نوبة أحدهما أكثر فالفضل بينهما لأن معنى الإفراز في القسمة في الدارين أرجح على معنى أن كل واحد يصل إلى المنفعة، والغلة في الوقت الذي يصل إليه صاحبه مما يستوفيه كل منهما عوض عن قديم ملكه، استوجبه بعقده فيسلم له. وفي الدار الواحدة إذا تهايآ في الاستغلال زمانا فأحدهما يصل إلى الغلة قبل وصول الآخر إليها.
وذلك لا تكون قضية للقسمة فيجعل كل منهما وكيلا عن صاحبه في إجارة نصيب صاحبه، وما يقبضه كل واحد منهما يجعل عوضا عما يقبضه صاحبه عن قديم ملكه استوجبه من عوض نصيبه، والمعاوضة تقتضي المساواة، فعند التواصل يثبت التراجع فيما بينهما ليستويا، وبه قال الشافعي في قول.(11/469)
بخلاف ما إذا كان التهايؤ على المنافع فاشتغل أحدهما في نوبته زيادة؛ لأن التعديل فيما وقع عليه التهايؤ حاصل، وهو المنافع فلا تضره زيادة الاستغلال من بعد، والتهايؤ على الاستغلال في الدارين جائز أيضا في ظاهر الرواية لما بينا، ولو فضل غلة أحدهما لا يشتركان فيه، بخلاف الدار الواحدة. والفرق أن في الدارين معنى التمييز والإفراز راجح لاتحاد زمان الاستيفاء، وفي الدار الواحدة يتعاقب الوصول فاعتبر قرضا، وجعل كل واحد في نوبته كالوكيل عن صاحبه، فلهذا يرد عليه حصته من الفضل، وكذا يجوز في العبدين عندهما اعتبارا بالتهايؤ في المنافع، ولا يجوز عنده؛ لأن التفاوت في أعيان الرقيق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[التهايؤ على المنافع فاشتغل أحدهما في نوبته زيادة]
م: (بخلاف ما إذا كان التهايؤ على المنافع فاشتغل أحدهما في نوبته زيادة) ش: حيث لا يشتركان في الزيادة م: (لأن التعديل فيما وقع عليه التهايؤ حاصل، وهو المنافع فلا تضره زيادة الاستغلال من بعد) ش: أي من بعد حصول التعديل في التهايؤ في المنافع م: (والتهايؤ على الاستغلال في الدارين جائز أيضا في ظاهر الرواية) ش: احترز به عن رواية " الكيسانيات " عن أبي حنيفة أنه لا يجوز كما ذكرنا م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: والاعتدال ثابت في الحال. إلى آخره.
م: (ولو فضل غلة أحدهما لا يشتركان فيه) ش: أي في الفاضل في المسألة المذكورة م: (بخلاف الدار الواحدة) ش: حيث يشتركان في الفاضل في غلة الدار الواحدة م: (والفرق) ش: يعني من اشتراكهما في فضل الغلة في الدار الواحدة وبين عدم اشتراكهما في فضل الغلة في الدارين م: (أن في الدارين معنى التمييز، والإفراز راجح لاتحاد زمان الاستيفاء) ش: يعني أن كل واحد منهما يصل إلى المنافع، والغلة في الوقت الذي يصل إليه صاحبه، فصار كأن على كل واحد إفراز جميع نصيبه من المنافع في الدار التي هي في يده، والغلة التي يأخذها بدل المنافع التي ينشأ من نصيبه فتكون له خاصة، وإن كثرت فلا يجب رد الزيادة.
م: (وفي الدار الواحدة يتعاقب الوصول) ش: يعني يصل أحدهما إلى الغلة قبل صاحبه، وذلك لا يكون إلى من قضية القسمة، فإن كان كذلك م: (فاعتبر قرضا) ش: أي اعتبر نصيب صاحبه من الغلة قرضا، ويكون هو مستقرضا م: (وجعل كل واحد في نوبته كالوكيل عن صاحبه) ش: يقبض نصيبه من الغلة بطريق الفرض لنفسه م: (فلهذا يرد عليه حصته من الفضل) ش: أي فلأجل كونه كالوكيل يرد على صاحبه حصة من فضل الغلة.
م: (وكذا يجوز في العبدين عندهما) ش: أي: وكذا يجوز التهايؤ في استغلال العبدين عند أبي يوسف، ومحمد، وبه قالت الثلاثة م: (اعتبارا بالتهايؤ في المنافع) ش: أي قياسا على التهايؤ في المنافع في العبدين م: (ولا يجوز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (لأن التفاوت في أعيان الرقيق(11/470)
أكثر منه من حيث الزمان في العبد الواحد، فأولى أن يمتنع الجواز
والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا، ولأن الظاهر هو التسامح في الخدمة والاستقصاء في الاستغلال فلا يتقاسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أكثر منه) ش: أي من التفاوت م: (من حيث الزمان في العبد الواحد) ش: لأنه قد يكون في عبد واحد كياسة وحذاقة يجعل في شهر واحد من الغلة ما لا يجعل الآخر في سنته م: (فأولى أن يمتنع الجواز) ش: أي جواز استغلال العبدين. تقريره أن التهايؤ في استغلال العبد الواحد لا يجوز بالاتفاق، ففي استغلال العبدين أولى أن لا يجوز.
فإن قلت: معنى الإفراز، والتميز راجع في غلة العبدين؛ لأن كل واحد فيهما يصل إلى الغلة في الوقت الذي يصل إليها في صاحبه. فكان كالمهايأة في الخدمة.
قلت: التفاوت يمنع رجحان معنى الإفراز، بخلاف معنى الخدمة لما بينا أن المنافع من حيث الخدمة، قلما تتفاوت.
م: (والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة) ش: جواب عن قياس قولهما على المنافع، تقريره أن المهايأة في الخدمة جوزت ضرورة؛ لأن المنافع لا تبقى فيتعذر قسمتها على ما يفسرها المصنف عن قريب م: (ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا) ش: فيستغلان على طريق الشركة ثم يقتسمان ما حصل من الغلة.
ولقائل أن يقول: علل التهايؤ في المنافع بقوله: من قبل؛ لأن المنافع من حيث الخدمة فلا تتفاوت، وعلله هاهنا بضرورة تعذر القسمة، وفي ذلك توارد علتين مستقلتين على حكم واحد بالشخص، وهو باطل. ويمكن أن يجاب عنه بأن المذكور من قبل ثمة هذا التعليل كان علة جواز تعذر القسمة، وقلة التفاوت جميعا، لأن كل واحد منهما علة مستقلة.
وقال الكاكي: قوله: والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة جوامع أشكال يرد عليه قوله، لأن التفاوت في أعيان الرقيق أكثر إلى آخره.
فإن قيل: لو كان كذلك لما جاز في الاستخدام، وحيث يجوز التهايؤ في الاستخدام للعبد الواحد بالاتفاق في جميع التفاوت في العبدين على الأصح على ما مر فقال في جوابه: والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورته إلى آخره. وما ذكرناه أصوب على ما لا يخفى كما ذكره، كذا حقق تاج الشريعة، وتبعه صاحب " العناية ".
م: (ولأن الظاهر) ش: وجه آخر لإبطال القياس بيانه أن الظاهر م (هو التسامح في الخدمة والاستقصاء) ش: يعني المتضايقة م: (في الاستغلال فلا يتقاسان) ش: يعني ولا يقاس أحدهما على(11/471)
ولا يجوز في الدابتين عنده خلافا لهما. والوجه ما بيناه في الركوب.
ولو كان نخل، أو شجر، أو غنم بين اثنين فتهايآ على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها أو يرعاها ويشرب ألبانها لا يجوز، لأن المهايأة في المنافع ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها، وهذه أعيان باقية يرد عليها القسمة عند حصولها. والحيلة أن يبيع حصته من الآخر ثم يشتري كلها بعد مضي نوبته أو ينتفع باللبن بمقدار معلوم استقراضا لنصيب صاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآخر م: (ولا يجوز في الدابتين عنده خلافا لهما) ش: أي لا يجوز التهايؤ على الاستغلال في الدابتين عند أبي حنيفة، خلافا لأبي يوسف، ومحمد م: (والوجه ما بيناه في الركوب) ش: أي الوجه في هذه المسألة ما بيناه في الركوب، وهو قوله: اعتبارا لقسمة الأعيان.
[كان نخل أو شجر بين اثنين فتهايآ على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها]
م: (ولو كان نخل، أو شجر، أو غنم بين اثنين فتهايآ على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها) ش: أي يأخذ ثمرها نماء في النخل، والشجر م: (أو يرعاها ويشرب ألبانها) ش: في الغنم ونحوها كالإبل والبقر م: (لا يجوز؛ لأن المهايأة في المنافع ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها، وهذه أعيان باقية يرد عليها القسمة عند حصولها) ش: فلا يتحقق الفرز، فلا يجوز.
وإن قيل: يشكل بما إذا تهايآ في ألبان جاريتين مشتركتين بينهما على أن ترضع هذه ابن هذا، والأخرى ابن الآخر سنتين حيث لا يجوز، ذكره في " الذخيرة "، مع أن اللبن عين.
وأجيب: بأن ألبان بني آدم بمنزلة المنافع؛ لأنها لا قيمة لها إلا عند العقد بطريق التبعية فتتحقق الضرورة كما في الخدمة. أما ألبان الحيوانات أعيان، ولها قيمة بلا عقد، فلا تجوز المهايأة فيها.
وفي " الذخيرة ": أمة بين رجلين خاف كل صاحبه عليها، فقال أحدهما: عندك يوما، وعندي يوم. وقال الآخر: بل نضعها على يد عدل يجعل عند كل واحد منهما يوما، ولا توضع عند يد عدل، قال مشايخنا: يحتاط في باب الفروج في جميع المواضع إلا في هذا، فإنه لا يحتاج لحشمة ملكه.
م: (والحيلة) ش: هذا قول المصنف أي الحيلة في جواز التهايؤ في الصورة المذكورة م: (أن يبيع حصته من الآخر) ش: أي يبيع حصته من الشجر، أو الغنم من الشريك الآخر م: (ثم يشتري كلها بعد مضي نبوته) ش: أي ثم أن يشتري كل الشجر، أو الغنم فيجعل لكل واحد منهما ما تناوله؛ لأنه حصل الثمر، أو اللبن على ملك المشتري م: (أو ينتفع باللبن بمقدار معلوم استقراضا لنصيب صاحبه) ش: من الحليب كل يوم إلى مدة معلومة إذا مضت المدة ينتفع صاحبه باللبن مثل تلك المدة بعضه من نصيب نفعه في هذه المدة، وبعضه مما اقترضه في المدة الماضية، ولكن ينبغي أن يزن(11/472)
إذ قرض المشاع جائز، والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللبن. أو بكياله في المدة حتى تتحقق المساواة في الاستيفاء، ولا يكون الربا لأن اللبن يزيد وينقص في المدة، وكذا المهايأة.
م: (إذ قرض المشاع جائز) ش: تعليل الوجه الثاني. وقال في قسم المسائل في " المبسوط " تهايآ في أغنام بينهما على أن يكون نصفها عند هذا، والنصف عند الآخر يعلف ويشرب لبنها لا يجوز؛ لأن اللبن بينهما، والعلف عليهما فيكون كل واحد مشتريا نصف لبن صاحبه بنصف العلف الذي عليه، واللبن يزيد وينقص، والعلف مثله فلا يجوز.
وفي " الفتاوى الصغرى ": بقرة بين اثنين تواضعا على أن يكون عند كل واحد منهما خمسة عشر يوما يحلب لبنها، فهذه مهايأة باطلة، ولا يحل فضل اللبن لأحدهما وإن جعلا في حل أن يسلك صاحب الفضل فضله، ثم جعله صاحبه في حل فحينئذ يحل؛ لأن الأول هبة المشاع فيما يحتمل القسمة فلم يجز، والثاني: هبة الدين، وإنه يجوز، وإن كان مشاعا ونقله عن قسمة " الواقعات " م: (والله أعلم بالصواب) .(11/473)
كتاب المزارعة قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - المزارعة بالثلث والربع باطلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المزارعة]
م: (كتاب المزارعة) ش: قال الشراح: لما كان الخارج في عقد المزارعة من أنواع ما يقع فيه القسمة ذكر المزارعة بعدها. قلت. لما ذكر في القسمة كيفيتها في الأراضي ذكر عقبها ما هو المقصود الأعظم من الأرض وهي المزارعة.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المزارعة بالثلث والربع باطلة) ش: هذا لفظ القدوري، وبه قال الشافعي، ومالك، وفي " الحلية ": لا تجوز المزارعة على بياض أرض الشجر فيها، والمزارعة، والمخابرة، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول مجاهد، والنخعي، وعكرمة، وابن عباس في رواية.
ومن أصحابنا من قال: المزارعة غير المخابرة، فالمخابرة أن يكون من رب الأرض، ومن الآخر البذر والعمل. والمزارعة: أن يكون الأرض، والبذر من واحد، والعمل من آخر. وفي " السنن ": تجوز المزارعة على الأرض التي بين النخيل المساقاة على النخيل ومزارعة على الأرض فيكون البذر من صاحب الأرض تبعا للمساقاة.
وقيل: إن كان النخيل قليلا، والبياض كثيرا لم يجز. وفي " النهاية ": وكذا المعاملة لا يجوز عند أبي حنيفة ببعض الخارج، وعند مالك: لا يجوز دفع الأرض مزارعة إلا تبعا للكروم، والاستئجار.
وشرط التبعية عنده أن يكون الأصل ضعف التبع؛ لأنه تحقق التبعية، كذا في " المختلف ". وقال الشافعي: تجوز المزارعة تبعا للمساقاة على الأرض التي بين النخيل، ولا تجوز مفردة، ولا تجوز حتى يكون من رب الأرض البذر والعذر، ومن العامل العمل، كذا في " شرح الأقطع ". وقال الحربي من أصحاب أحمد في "مختصره": وتجوز المساقاة في النخل، والكرم، والشجر بشيء معلوم يجعل للعامل من الثمرة، ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم.
وتجوز المزارعة ببعض الخارج من الأرض إن كان البذر من رب الأرض، انتهى. وإنما قيد بالثلث والربع مع أنها لا تجوز عند أبي حنيفة في جميع الصور تبركا بلفظ الحديث، وإنه جاء في الحديث نهي عن المخابرة. قيل: وما المخابرة، قال: "بالثلث والربع" وخص بالحديث(11/474)
اعلم أن المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع، وفي الشريعة: هي عقد على الزرع ببعض الخارج وهي فاسدة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: جائزة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك المكان في ذلك الوقت إذ قال ذلك لبيان التقدير إذ تغير بيان التقدير المزارعة فاسدة بالإجماع وذكر الخصاف في كتاب "الحيل": الحيلة في جواز المزارعة على مذهب أبي حنيفة فقال: الحيلة في المزارعة أن يأخذها مزارعة ثم يتنازعا إلى قاض يرى المزارعة جائزة فيحكم بجوازها عليها فيجوز ذلك إذا قض قاض عليها بأبعاد هذه المزارعة فيجوز إقرارهما بالمزارعة عليهما، انتهى.
وقال الإمام الأسبيجابي في شرح الطحاوي ": ثم الحيلة لأبي حنيفة في جواز المعاملة، والمزارعة أن يستأجر العامل بأجرة معلومة إلى مدة، فإذا انقضت تلك المدة استوجب الأجرة سواء حصل هناك خارج أو لم يحصل، ثم يتراضيا على بعض الخارج مكان الأجرة فيجوز ذلك. فكذلك هنا في المزارعة.
[تعريف المزارعة وحكمها]
م: (اعلم أن المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع) ش: قد علم أن باب المفاعلة للمشاركة بين اثنين كالمنازعة، والمخاصمة. وقال ابن الحاجب: وفاعل يشبه أصله إلى أحد أمرين متعلقا بالآخر للمشاركة صريحا فيجيء العكس ضمنا نحو ضاربه وشاركه، فإن ذلك يدل صريحا على نسبة الضرب إلى نفسك متعلقا بالآخر، وضمنا على نسبته إلى الآخر متعلقا بك، ولأجل ذلك جاء غير المتعدي إذا نقل ذلك إلى هذا الباب متعديا نحو لازمة فإن أصله لازم وقد تعدى هاهنا.
وقوله: من الزرع يسير به إلى ثلاثية زرع يزرع زرعا، يقال: زرع أهله الحب إن أنبته ومنه قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] (الواقعة: الآية 63) . وقولهم: زرع الزارع الأرض بمعنى حرثها، وذلك أن يسندها للزراعة من إسناد الفعل إلى السبب فجاز، والزرع مما يستنبط بالبذر. والمزارعة مفاعلة منه وهي معاقدة بين اثنين، وذك أن يدفع الأرض إلى من يزرعها على أن الخارج منها بينهما على ما شرطا، وكذا معناها الشرعي، أشار إليه بقوله:
م: (وفي الشريعة: هي عقد على الزرع ببعض الخارج) ش: يعني هي عقد على الزراعة ببعض ما يخرج من الأرض نحو الثلث، والربع م: (وهي فاسدة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الزراعة فاسدة عنده، وقد ذكرناه.
م: (وقالا: جائزة) ش: أي قال أبو يوسف، ومحمد: جائزة، وبه قال أحمد، إذا كان البذر من صاحب الأرض، وكثير من أهل العلم، وهو قول علي، وسعد، وابن مسعود، وقول أبي بكر، وآل علي، وعمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وابن المسيب، وطاوس(11/475)
لما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه محمد، ومعاذ، والحسن، وعبد الرحمن بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
م: (لما روي «أن رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا النسائي، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» .
وفي لفظ: «لما فتحت خيبر سأل اليهود رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقرهم على أن يعملوا على نصف ما يخرج منها من الثمر، والزرع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نقركم فيها على ذلك ما شئنا» ذكره البخاري في مواضع من كتابه، ومسلم، وأبو داود في البيوع، والترمذي، وابن ماجه في الأحكام.
وقال البخاري في "الصحيح ": قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر، قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا ويزرعون على الثلث، والربع، وزارع: علي، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل علي، وابن سيرين.
وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على أن من جاء بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فيقعان جميعا في خراج فهو بينهما، وروي ذلك عن الزهري، وقال الحسن: لا بأس أن يعطى القطن على النصف.
وقال إبراهيم، وابن سيرين، وعطاء، والحاكم، والزهري، وقتادة: لا بأس بأن يعطى الثوب بالثلث، والربع ونحوه، حدثني إبراهيم بن المنذر، وقال: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج فيها من زرع، أو ثمر، وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقا، وعشرون وسق شعير» إلى هنا لفظ البخاري.
وقال أيضا فيه: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال عمرو: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه، قال: أي عمر: إني أعطيتهم وأغنيهم، فإن أعلمهم أخبرني، يعني ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه عن ذلك، ولكن قال: "لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه، خيرا له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما".(11/476)
ولأنه عقد شركة بين المال والعمل، فيجوز اعتبارًا بالمضاربة، والجامع دفع الحاجة فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل والقوي عليه لا يجد المال، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما، بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز معاملة بنصف الزوائد لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها فلم تتحقق شركة، وله: ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن المخابرة وهي المزارعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأنه) ش: أي ولأن عقد المزارعة م: (عقد شركة بين المال والعمل، فيجوز اعتبارا بالمضاربة) ش: فإنها أيضا عقد شركة بين المال، والعمل من المضارب م: (والجامع) ش: أي وجه القياس على المضارب م: (دفع الحاجة، فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل) ش: أي إلى عمل المزارعة فعدم يدريه بذلك م: (والقوي عليه) ش: بالنصب أي وأن القوي على العمل، أي عمل المزارعة م: (لا يجد المال) ش: لفقره وعدم إعطاء الناس له م: (فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما) ش: أي إذا كان الأمر كذلك، فقد دعت الضرورة إلى جواز انعقاد عقد المزارعة بين صاحب المال العاجز عن العمل، والفقير القادر على العمل.
م: (بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز، معاملة بنصف الزوائد) ش: من حيث لا يجوز، وانتصاب معاملة على الحال من الرفع، وأراد بالزوائد الأولاد في الغنم، والأفراخ في الدجاج، والإبريسم في دود القز. وفي " العباب ": القز من الإبريسم معرب؛ لأنه قال الكاكي: الزوائد على تأويل الزائد.
قلت: لا حاجة إلى هذا النفي، بل الضمير فيه للشأن م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (إلا أثر هناك للعمل في تحصيلها) ش: أي في تحصيل الزوائد، أي لا أثر لعمل الراعي، والحافظ في حضور تلك الزوائد، وإنما هي تحصل بالسقي، والرعي، والحيوان يباشرها باختياره فيضاف؛ لأنه فعل فاعل مختار، ولا يضاف إلى غيره م: (فلم تتحقق شركة) ش: أي إذا كان كذلك فلا تتحقق الشركة بين الرافع، والمرفوع، فلا يجوز. بخلاف المضاربة؛ لأن للعمل أثر في الربح فلا يحصل بالضرب في الأرض.
م: (وله) ش: أي لأبي حنيفة م: (ما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن المخابرة» وهي المزارعة) ش: هذا الحديث رواه جابر، ورافع بن خديج، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. أما حديث جابر فأخرجه مسلم عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة» . قال عطاء فسرها لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل فينفق فيها، ثم يأخذ من الثمر.
والمحاقلة بيع الزرع القائم بالحب كيلا، والمزابنة بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا. وأخرجه الطحاوي أيضا، وقال: حدثنا [ ... ] قال: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن(11/477)
ولأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله، فيكون في معنى قفيز الطحان. ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم الطائفي، أخبرني إبراهيم بن ميسرة. أخبرني عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، والمزابنة، والمحاقلة» والمخابرة على الثلث، والربع، والنصف. والمزابنة بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب في الشجر بالزبيب والمحاقلة بيع الزرع قائما على أصوله بالطعام كذا فسره الطحاوي.
وفي " الفائق ": المخابرة هي المزارعة على الحرة، وهي النصف، وقال أبو عبيد في " غريب الحديث ": المخابرة هي المضاربة بالنصف. والثلث، والربع وأقل من ذلك وأكثر، وهو الخير أيضا. ثم قال: وكان أبو عبيد يقول: إنما سمي الأكار الخبير لأنه جابر الأرض. والمؤاكرة وهي المخابرة، وقال: ولهذا سمي الأكار؛ لأنه لو أكر. وقال في " مختصر الأسرار ": قال ابن الأعرابي: المخابرة مشتقة من معاملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر، ثم صارت لغة مستعملة.
وأما حديث رافع بن خديج فأخرجه مسلم أيضا «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأسا، حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه فتركناه» .
وأما حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عمر بن أيوب، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة» قلت: وأما المخابرة فهي أن يأخذ الأرض بنصف، أو ثلث، أو ربع، رواه أبو داود في "سننه".
م: (ولأنه) ش: أي: ولأن عقد المزارعة م: (استئجار ببعض ما يخرج من عمله) ش: بدليل أنه لا يصح بدون ذكر المدة، وذلك من خصائص الإجارة م: (فيكون في معنى قفيز الطحان) ش: وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قفيز الطحان. وقد مر تحقيقه في كتاب الإجارة، وصورته أن يستأجر رجلا ليطحن له كرا من حنطة بقفيز من دقيقها.
م: (ولأن الأجر مجهول) ش: على تقدير وجود الخارج لعدم العلم بأن الثلث، أو الربع يتقدر من الأقفزة عشرة، أو أقل أو أكثر م: (أو معدوم) ش: على تقدير أن لا يخرج من الأرض شيء، أو أصابته آفة م: (وكل ذلك مفسد) ش: أي كل واحد من العلتين مفسد للإجارة م:(11/478)
ومعاملة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح، وهو جائز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ومعاملة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح، وهو جائز) ش: هذا جواب عما استدلا به من حديث خيبر، وتقريره أنه لم تكن بطريق المزارعة، والمساقاة، بل كانت بطريق الخراج على وجه المن عليهم، والصلح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملكها غنيمة.
فلو كان أخذها كلها جاز، وتركها في أيديهم بشرط ما يخرج منها فضلا، وكان ذلك خراج مقاسمة، وهو جائز كخراج التوظيف ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في جواز المزارعة، والمعاملة، وخراج المقاسمة أن يوطن الإمام في الخارج شيئا مقدار عشر، أو ثلث، أو ربع، ويشترك الأراضي على ملكهم منا عليهم، فإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء عليهم، وهذا تأويل صحيح لم ينقل عن أحد من الرواة أنه يضرب في رقابهم أو رقاب أولادهم.
وقال أبو بكر الرازي في شرحه "لمختصر الطحاوي ": ومما يدل على أن ما شرط من نصف التمر. والزرع، وكان على وجه الجزية أنه لم يرد في شيء من الأخبار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ منهم الجزية إلى أن مات، ولا أبو بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إلا بأن أخذاهم ولو لم يكن ذلك الأخذ حين نزلت آية الجزية، والخراج الموظف أن يجعل الإمام في ذمتهم بمقابلة الأراضي شيئا من كل جريب يصلح للزراعة صاعا، ودرهما على ما عرف في كتاب " السير ".
فإن قلت: روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم أراضي خيبر على ستة وثلاثين سهما، وهذا يدل على أنها ما كانت خراج مقاسمة.
قلت: إنه يجوز أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم خراج الأرض بأن جعل خراج هذه الأرض لفلان، وخراج هذه لفلان. قلت: روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أجلى أهل خيبر ولم يعطهم قسمة الأرض. فيدل ذلك على عدم الملك. قلت: أجاز أنه ما أعطاهم زمان الإجلاء، وأعطاهم بعد ذلك.
فإن قلت: قال ابن قدامة في " المغني ": أحاديث رافع مضطربة تارة يحدث عن بعض عمومته، ومرة عن سماعه، وتارة يقول بقوله: أخبرني عمار، فإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب طرحها، ويعمل بالحديث الوارد في شأن خيبر؛ ولأن حديثه فسر بما لا يختلف في فساده، فإنه قال: «كنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما خرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الذهب، والورق فلم ينهنا» . متفق عليه، وفي لفظه: فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس، وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل ولا تعارض؛ ولأن خبره ورد في الكري بالثلث، أو بالربع، والنزاع في المزارعة، وحديثه الذي فيه المزارعة يحيل على(11/479)
وإذا فسدت عنده فإن سقى الأرض وكربها ولم يخرج شيء فله أجر مثله، لأنه في معنى إجارة فاسدة، وهذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض، وإن كان البذر من قبله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكري أيضا، لأن قضية واحدة رويت بألفاظ مختلفة فيجب تفسيره بما يوافق الآخر.
ولأنه لو صح خبره، وامتنع تأويله وتعذر الجمع لوجب حمله على أنه منسوخ، وحديث خيبر منسوخ القول نسخه لأنه عمل به الخلفاء الراشدون - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نسخ بعده.
وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة يجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع. فإنه روى حديث خيبر عنه فيجب الجمع بين حديثه، ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر. وكذا القول في حديث زيد بن ثابت. ولو قال أصحاب الشافعي: يحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخل، وأحاديث النبي على الأرض البيضاء جمعا بينهما.
قلنا: هذا بعيد لأن خراج خيبر أربعون ألف وسق فينبغي أن تكون بلدة كبيرة، والرواة رووا القصة على العموم من غير تفصيل، ولأن ما ذكره يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين، وما ذكرناه حمل لأحدهما.
قلت: ما ذكره غير مسلم لما ذكرنا أن حديث خيبر لا يدل على جواز عقد المزارعة، وذلك بطريق الجزية، أو خراج المقاسمة، وقوله: إن حديث رافع مضطرب غير قوي، لأن الحديث بالاضطراب في ألفاظه يقول مرة كذا، ومرة كذا لا يرد. وما قال من النسخ غير صحيح، لأن النسخ نقيض المعارضة. وحديث خيبر لا يدل على المزارعة، فكيف التعارض.
وقوله: خارج عن محل الخلاف غير صحيح، لأن الخلاف في النهي لا في الكري شيء معلوم. وفي الجملة: جواب كلامه أن حديث خيبر لا يدل على جواز المزارعة لما ذكرنا، وإنما أوله أصحاب الشافعي على تقدير التسليم لما أن النهي جاء في المزارعة بلفظها صريحا.
[فساد المزارعة]
م: (وإذا فسدت عنده) ش: أي إذا فسد عقد المزارعة عند أبي حنيفة م: (فإن سقى الأرض وكربها) ش: هذا بيان حكم الفساد فكذلك ذكره بالفاء، يقال: كرب الأرض إذا قلبها للحرث والمصدر كرب بالكسر م: (ولم يخرج شيء فله أجر مثله؛ لأنه في معنى إجارة فاسدة) ش: أي لأنه عقد المزارعة، وفي " شرح الطحاوي ": فلما لم يخرج عنده كان الخراج كله لصاحب البذر، فإن كان البذر من قبل رب الأرض فالخارج كله له، ويطيب له، ويتصدق به؛ لأن ذلك كله إنما ملك، ويجب عليه أجر مثل تلك المزارع، أشار إليه بقوله: م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور.
م: (إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض وإن كان البذر من قبله) ش: أي من قبل المزارع م:(11/480)
فعليه أجر مثل الأرض، والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه، وللآخر الأجر كما فصلنا، إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها، والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فعليه) ش: أي على المزارع م: (أجر مثل الأرض، والخارج في الوجهين) ش: يعني في الوجه الذي كان البذر من قبل صاحب الأرض، وفي الوجه الثاني: كانت من قبل الزارع م: (لصاحب البذر، لأنه نماء ملكه) ش: أي ملك صاحب البذر م: (وللآخر الأجر) ش: أي أجر المثل، والآخر هو رب الأرض، أو المزارع م: (كما فصلنا) ش: أشار به إلى قوله: إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض ... إلخ.
وإما قولهما: فإن حصل شيء من الخارج يكون بينهما على الشرط، وإن لم يحصل فلا شيء على رب الأرض، وعلى المزارع، ولا يلزم ما لو غصب البذر يكون بينهما على الشرط، وزرع الخارج للزراع لا لصاحب البذر؛ لأنه نماء ملكه؛ لأن الغاصب هنا عامل لنفسه باحتكاره وكسبه، فإضافة الحارث، وهو الخارج إلى عمله أولى. أما هاهنا فالعامل عامل لغيره بأمره. فيجعل العمل مضافا إلى الأمر، فبقي البذر أصلا، وكما لو وقع البذر بنفسه، ونبت كذا في " الإيضاح ".
م: (إلا أن الفتوى على قولهما) ش: أي لكن الفتوى على قولهما أي أبو يوسف، ومحمد م: (لحاجة الناس إليها) ش: أي إلى المزارعة م: (ولظهور تعامل الأمة بها) ش: أي بالمزارعة من لدن زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير م: (والقياس يترك بالتعامل) ش: أي بتعامل الناس م: (كما في الاستصناع) ش: أي كما ترك القياس في الاستصناع لتعامل الناس به.
فإن قلت: إنما يترك القياس بالتعامل إذا لم يكن في المسألة اختلاف في الصدر الأول، وهاهنا قد اختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
قلت: الأصح انعقاد الاجتماع سبق الاختلاف، فكان جريان التعامل بعد ذلك إجماعا على جوازه. وأيضا إن الاختلاف ما كان لأجل فساد المزارعة. وقد روى الطحاوي عن زيد بن ثابت أنه قال: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه. وإنما «جاء رجلان من الأنصار إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختلفا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان هذا شأنكم فلا تكروا الأرض» فعلم أن(11/481)
ثم المزارعة لصحتها على قول من يجيزها شروط: أحدها: كون الأرض صالحة للزراعة، لأن المقصود لا يحصل بدونه. والثاني: أن يكون رب الأرض والمزارع من أهل العقد، وهو لا يختص به لأن عقدا ما لا يصح إلا من الأهل. والثالث: بيان المدة، لأنه عقد على منافع الأرض أو منافع العامل، والمدة هي المعيار لها فيعلم بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكراهية لنفي الشر بينهم، وكان الطحاوي يرجع قولهما، وكذا أكثر أصحاب الحديث.
[شروط صحة المزارعة]
م: (ثم المزارعة لصحتها على قول من يجيزها شروط: أحدها: كون الأرض صالحة للزراعة؛ لأن المقصود) ش: وهو الانتفاع م: (لا يحصل بدونه) ش: أي دون كون الأرض صالحة.
م: (والثاني) ش: أي والشرط الثاني م: (أن يكون رب الأرض والمزارع من أهل العقد) ش: بأن يكون بالغا عاقلا قادرا على التصرفات م: (وهو) ش: أي هذا الشرط م: (لا يختص به) ش: أي بعقد المزارعة وحدها م: (لأن عقدا ما لا يصلح إلا من الأهل) ش: أي لأن أي عقد كان لا يصح إلا ممن يكون أهلا.
م: (والثالث) ش: أي والشرط الثالث م: (بيان المدة؛ لأنه عقد على منافع الأرض) ش: إن كان، ثم إنه ذكر بيان البذر من جانب العامل م: (أو منافع العامل) ش: إن كان البذر من جانب الأرض م: (والمدة هي المعيار لها) ش: أي للمنافع م: (فيعلم بها) ش: المدة مطلقا، ولم يبين مقداره. ولا شك أن المدة القليلة التي لا تصلح للزراعة لا تصلح لعدم الفائدة، ولا مدة طويلة يقسمان إليها كانت بمنزلة التأبيد، فلا يصح أيضا، ولا بد من ذكر مقدار المدة.
وفي " الذخيرة ": ومن الشرائط بيان المدة، يقول: إلى سنة، أو سنتين، وما أشبهه، ولو بين مدة لا يدرك الزرع فيها تفسد المزارعة، وكذا لو بين مدة لا يعيش أحدهما إليها غالبا تفسد أيضا.
وذكر أبو علي النسفي أن مشايخنا قالوا في الإجازة الرسمية التي تعقد إلى ثلاثين سنة: إن كان لا يتوهم حياة العاقدين إليها غالبا بأن كانا كبيرين أو أحدهما لم تجز؛ لأن الغالب كالمتيقن في المفقود يحكم بموت أقرانه بحسب الغالب، وإن كان في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يعيش إلى آخر الدهر.
وقال الخصاف، وبعض المشايخ: جاز ذلك كما في النكاح إذا بنى مدة سنة، ولا يصح ذلك في ظاهر الرواية، ويجعل ذلك بمنزلة نكاح مؤقت. وعن محمد بن سلمة: أن المزارعة تصح بلا بيان المدة، ويقع على زرع واحد، واختاره أبو الليث، وبه قال أبو ثور، وعن أحمد لا يجوز بلا بيان للمدة، لأنها عقد جائز غير لازم. وعند أكثر الفقهاء لازم.(11/482)
والرابع: بيان من عليه البذر قطعا للمنازعة وإعلاما للمعقود عليه وهو منافع الأرض أو منافع العامل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " النوازل " سئل أبو نصر محمد بن سلام عن رجل دفع أرضا مزارعة ولم يعين لها وقتا؟ قال: على مذهب علمائنا الكوفيين المزارعة فاسدة. وفي قول محمد بن سلمة الإجارة جائزة، وهو على أول السنة.
قال الفقيه: وبه نأخذ، وإنما قال على مذهب علمائنا الكوفيين لأن وقت المزارعة عندهم متفاوت، فابتداؤه وانتهاؤه مجهول وقت العامل وأجاز المعاملة على أول سنة، ولم تجز المزارعة فأما في بلادنا فوقت المزارعة معلوم، فيجوز إن لم يوقت كما تجوز المعاملة، إلى هنا لفظ " النوازل ".
م: (والرابع) ش: أي والشرط الرابع م: (بيان من عليه البذر قطعا للمنازعة) ش: لأن المعقود عليه يختلف باختلافه م: (وإعلاما للمعقود عليه) ش: لأن جهالته تقضي إلى المنازعة م: (وهو) ش: أي المعقود عليه م: (منافع الأرض أو منافع العامل) ش: أي إن كان البذر من قبل صاحب الأرض، ففي الأول العامل مستأجر للأرض، وفي الثاني رب الأرض مستأجر للعامل، فلا بد من بيان ذلك بالإعلام.
وهذا إذا لم يذكر لفظا يدل على أن البذر من قبل من هو. أما إذا ذكر لفظا يدل عليه فذلك يكفي، ذكر ابن رستم عن محمد من قال لغيره أجرتك أرضي هذه السنة بالنصف، أو قال بالثلث جاز والبذر على المزارع، لأن الأجرة تكون على المزارع المستأجر، فهذا بيان أن البذر على المزارع.
ولو قال: أجرتك لتزرع أرضي هذه بالثلث جاز والبذر على رب الأرض. وأما إذا قال: دفعت أرضي إليك مزارعة بالثلث لا يجوز، إذ ليس فيه بيان من عليه البذر عن بعض مشايخ بلخ، بيان من عليه البذر.
وإنما يشترط في موضع ليس فيه عرف ظاهر لا يشترط. بيانه أن البذر على من، أما إذا كان المعرف مشتركا أو في موضع فيه عرف ظاهر لا يشترط بيانه، لأن المعروف كالمشروط، كذا في " الذخيرة ".
وعند أحمد والشافعي إذا كان البذر من رب الأرض تصح المزارعة، وإن كان من جهة العامل تفسد ولا يحتاج لصحته إلى بيان من عليه البذر.
وعن أحمد يجوز أن يكون البذر منهما، وبه قال أبو يوسف ومحمد وطائفة من أهل(11/483)
والخامس: بيان نصيب من لا بذر من قبله؛ لأنه يستحقه عوضا بالشرط، فلا بد أن يكون معلوما، وما لا يعلم لا يستحق شرطا بالعقد. والسادس: أن يخلي رب الأرض بينها وبين العامل حتى لو شرط عمل رب الأرض يفسد العقد لفوات التخلية. والسابع: الشركة في الخارج بعد حصوله، لأنه ينعقد شركة في الانتهاء، فما يقطع هذه الشركة كان مفسدا للعقد.
والثامن: بيان جنس البذر ليصير الأجر معلوما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحديث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وفي المغني، لابن قدامة هو الصحيح، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على أن يعملوها من أقواتهم، فظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعول عليه في صحة المزارعة هذا الحديث.
م: (والخامس) ش: أي والشرط الخامس م: (بيان نصيب من لا بذر من قبله؛ لأنه يستحقه عوضا بالشرط، فلا بد أن يكون معلوما، وما لا يعلم لا يستحق شرطا بالعقد) ش: أي والذي لا شيء لا يستحق حال كونه شرطا بالعقد.
م: (والسادس) ش: أي والشرط السادس م: (أن يخلي رب الأرض بينها وبين العامل، لو شرط عمل رب الأرض يفسد العقد لفوات التخلية) ش: وهذا ظاهر، وكذا يشترط أن يخلي رب النخيل بينه وبين العامل، حتى إذا شرط عمله مع العامل لا يجوز.
م: (والسابع) ش: أي والشرط السابع م: (الشركة في الخارج بعد حصوله لأنه ينعقد شركة في الانتهاء) ش: المراد منه أن يشترط العاقدان زمان العقد أن يكون جميع الخارج بينهما إذا حصل، وليس المراد منه حصول حقيقة الشركة في الخارج حين العقد، لأن ذلك لا يكون إلا بعد الخروج، فلا يكون شرطا، لأن شرط الشيء لا بد أن يكون سابقا عليه لتوقفه عليه لا متأخرا م: (فما يقطع هذه الشركة كان مفسدا للعقد) ش: لأنه إذا شرط بها ما يقطع الشركة في الخارج يبقى إجارة محضة، والقياس بأن الجواب الإجارة المحضة بأجر معلوم. وعن هذا قلنا: إذا شرط صاحب البذر أن يرفع بذره من الخارج، والباقي بينهما تفسد المزارعة بلا خلاف.
وشرط صاحب البذر قدر العشر من الخارج والباقي بينهما تصح المزارعة، لأن هذا الشرط لا يقطع الشركة في الخارج، وإن قيل يكون له عشر وهو الحيلة لصاحب البذر إذا أراد أن يصل إليه يشترط قدر البذر باسم العشر أو الثلث أو ما أشبه ذلك، والباقي بينهما.
م: (والثامن) ش: أي والشرط الثامن م: (بيان جنس البذر ليصير الأجر معلوما) ش: قال شيخ الإسلام: هذا قياس، وفي الاستحسان ليس بشرط، وفوض الأمر إلى المزارع، وقال في موضع آخر: بيان جنس البذر شرط من غير ذكر قياس واستحسان، وهذا أقرب إلى الصواب، إلا إذا أعم بأن قال ما بذلك مكان البذر من جهة العادل. أو قال ما بدا لي وكان البذر(11/484)
قال: وهي عندهما على أربعة أوجه، إن كانت الأرض والبذر لواحد، والبقر والعمل لواحد جازت المزارعة، لأن البقر آلة العمل، فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة الخياط.
وإن كانت الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت، لأنه استئجار الأرض ببعض معلوم من الخارج فيجوز، كما إذا أستأجرها بدراهم معلومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من رب الأرض وإن لم يكن شيء من ذلك فسدت المزارعة. ولو زرعها مع الفساد ينقلب العقد جائزا، لأن جنس البذر صار معلوما، كذا في " الذخيرة ". وقوله: ليصير الأجر معلوما لأن الأجر بعض الخارج، وإعلام جنس البذر شرط.
[أوجه المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (وهي عندهما) ش: أي المزارعة عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (على أربعة أوجه، إن كانت الأرض والبذر لواحد والبقر والعمل لواحد جازت المزارعة) ش: هذا الانحصار على رواية القدوري وهو بالاستقراء، لأن قيام المزارعة على أربعة أشياء وهي الأرض والبذر والبقر والعمل وهو أمر محسوس، ويعلم منه وجه الانحصار.
وأما إذا كانت الأرض مشتركة أو البذر أو البقر مشتركا بينهما، فوجوههما كثيرة على ما بينهما إن شاء الله تعالى الأول من الأربعة أن تكون الأرض والبذر لواحد والبقر والعمل لآخر جازت م: (لأن البقر آلة العمل) ش: وصاحب الأرض مستأجر للعامل والبقر آلة له، فيكون تبعا فلا يكون الآخر بمقابلة البقر.
فإن قلت: أما قوله وهي عندهما على أربعة أوجه إن كان بيان الزراعة الصحيحة فلا يقسم، لأنها على ثلاثة أوجه، وإن كان بيان المزارعة الفاسدة فلا يستقيم أيضا.
قلت: المراد المزارعة المستعملة بين الناس وهي أربعة أوجه.
م: (فصار كما إذا استأجر خيطا ليخيط بإبرة الخياط) ش: أي صار حكم هذا الوجه كحكم من استأجر رجلا خياطا ليخيط ثوبه بإبرة الخياط، لأن الإبرة آلة للعمل، وكذا إذا استأجر صباغا لصبغ الثوب بصبغ نفسه.
[كانت الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد]
م: (وإن كانت الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت) ش: أي المزارعة، هذا هو الوجه الثاني م: (لأنه استئجار الأرض ببعض معلوم من الخارج فيجوز) ش: أي لأن هذا الوجه استئجار الأرض ببعض معلوم، لأن رب البذر استأجر الأرض بجزء معلوم من الخارج م: (كما إذا استأجرها بدراهم معلومة) ش: أو دنانير معلومة صحت، فكذا إذا استأجرها بجزء مسمى من الخارج.(11/485)
وإن كانت الأرض والبذر والبقر لواحد، والعمل من الآخر جازت، لأنه استأجره للعمل بآلة المستأجر، فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط ثوبه بإبرته، أو طيانا ليطين بمرة
وإن كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر فهي باطلة، وهذا الذي ذكره ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز أيضا؛ لأنه لو شرط البذر والبقر عليه يجوز، فكذا إذا شرط وحده وصار كجانب العامل. وجه الظاهر أن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل بها النماء، ومنفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كل ذلك بخلق الله تعالى فلم يتجانسا، فتعذر أن تجعل تابعة لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كانت الأرض والبذر والبقر لواحد والعمل من الآخر]
م: (وإن كانت الأرض والبذر والبقر لواحد والعمل من الآخر جازت) ش: أي المزارعة، وهذا هو الوجه الثالث م: (لأنه استأجره للعمل بآلة المستأجر) ش: أي لأن صاحب البذر والبقر والأرض استأجر الآخر بآلة نفسه م: (فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط ثوبه بإبرته) ش: أي بإبرة صاحب الثوب م: (أو طيانا ليطين بمرة) ش: أي إذا استأجر طيانا المستأجر وهو بفتح الميم وتشديد الراء المهملة وهو المسحاة ويسمى بالفارسية بيل بكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف في آخر لام.
[كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر]
م: (وإن كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر فهي باطلة) ش: أي المزارعة باطلة، وهذا هو الوجه الرابع م: (وهذا الذي ذكره) ش: أي القدوري م: (ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز أيضا لأنه لو شرط البذر والبقر عليه يجوز) ش: أي على صاحب الأرض م: (فكذا إذا شرط وحده) ش: أي فكذا يجوز إذا شرط أن يكون البقر بدون البذر عليه م: (وصار كجانب العامل) ش: إذا شرط البقر على العامل، أراد أن البقر تبع الأرض في هذه الصورة كما هي تبع للعامل إذا كانت من جانبه.
م: (وجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل بها النماء، ومنفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كل ذلك بخلق الله تعالى) ش: رد على المعتزلة وتنبيه على أنه من أهل السنة، فإن عند المعتزلة الأفعال الاختيارية من الحيوان منه لا من الله سبحانه وتعالى وإلا هذا الكلام في هذا المقام مستغن عنه.
فإن قلت: هذا كان فيه توهم حتى ينبه أنه من أهل السنة.
قلت: لأنه لما أضاف منفعة الأرض إلى قوة طبعها توهم أن ينسب إلى القول بالطبيعة فدفع ذلك م: (فلم يتجانسا) ش: أي منفعة الأرض ومنفعة البقر لأنهما مختلفان م: (فتعذر أن تجعل تابعة لها) ش: أي إذا كان كذلك تعذر جعل منفعة البقر تابعة لمنفعة الأرض، فلما لم يجعل تابعة كان استحقاق منفعة البقر مقصودا في الزراعة، وهذا لا يجوز كما لو كان من أحدهما(11/486)
بخلاف جانب العامل؛ لأنه تجانست المنفعتان فجعلت تابعة لمنفعة العامل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البقر وحده، والباقي من الآخر حيث لا يجوز بالاتفاق.
م: (بخلاف جانب العمل) ش: جواب عن قوله كجانب العمل، يعني القياس فاسد م: (لأنه تجانست المنفعتان) ش: أي منفعة البقر ومنفعة العامل م: (فجعلت تابعة) ش: أي فجعلت منفعة البقر تابعة م: (لمنفعة العامل) ش: لأن البقر آلة العمل وهي من جنس عمل العامل، وتحقيق هذا البذر إذا اجتمع مع الأرض استتبعه للتجانس وضعف جهة البقر معها، فكان الاستئجار للعامل. وأما إذا اجتمع الأرض والبقر فلم يستتبعه.
وكذا في جانب الآخر فكان في كل من الجانبين معاوضة بين استئجار الأرض وغير الأرض والعامل وغيره، فكان باطلا. ولقائل أن يقول: استئجار الأرض والعامل معترض عليه دون الأخرى فكان أرجح ويلزم الجواز.
واعلم أن مبتنى جواز هذه المسائل فسادها على أن المزارعة تنعقد إجارة وتتم مشتركة، وانعقادها إجارة إذ هو على منفعة الأرض أو منفعة البقر والبذر، لأنه استئجار ببعض الخارج والقياس يقتضي أن لا يجوز في الأرض والعامل أيضا، ولكنا جوزناه بالنص على خلاف القياس، إنما ورد النص فيهما دون البذر والبقر.
أما في الأرض فحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مضى ذكره وتعامل الناس، فإنهم تعاملوا اشتراط البذر على المزارع وحينئذ كان مستأجرا للأرض ببعض الخارج. وأما في العامل ففعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أهل خيبر التعامل فإنهم ربما كانوا يشترطون البذر على رب الأرض.
فكان حينئذ مستأجرا للعامل لذلك، فاقتصرنا على الجواز بالقبض فيهما وهي غير ما على أصل القياس، وكلما كان في صور الجواز فهو من قبيل استئجار الأرض، والعامل ببعض الخارج أو كان المشروط على أحدهما شيئين متجانسين، ولكن المنظور فيه وهو استئجار الأرض أو العامل بذلك لكونه مورد الأثر، وكل ما كان من صور العدم فهو من قبيل استئجار الآخرين، أو كانت الشروط على أحدهما شيئين غير متجانسين، ولكن المنظور إلى ذلك والضابط في معرفة التجانس، فإنه من كلامه وهو أن ما يبذر فعله عن القوة الحيوانية فهو جنس، وما صدر عن غيرهما فهو جنس آخر، وقد بينا لك هذا في أثناء حل الكتاب، ونعيده لزيادة التوضيح.
أما الوجه الأول: فهو مما كان المشروط على أحدهما شيئين متجانسين، فإن الأرض(11/487)
وهاهنا وجهان آخران باطلان لم يذكرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبذر من جنس والعمل والبقر من جنس، والمنظور إليه استئجار يجعل كأن العامل استأجر الأرض أو رب الأرض استأجر العامل.
والوجه الثاني والثالث: مما فيه استئجار الأرض والعامل أدى الوجه أمر رابع على ظاهر الرواية باطل لأن المشروط شيئان غير متجانسين فلا يمكن أن يكون أحدهما تبعا للآخر بخلاف المتجانسين فالأشرف أو الأصل يجوز أن تسع الأخ والفرع. وأما الأنواع المتفرقة من الأنواع الأربعة فمثل أن يكون البذر من أحدهما والباقي من الآخر فهذه المزارعة فاسدة لأنه يصير مستأجرا للأرض والبقر والعامل جميعا بالبذر ولم يرد الشرع به.
قال فخر الدين قاضي خان في " الجامع الصغير ": وعن أبي يوسف أنه يجوز، لأنه استئجار للعامل والأرض ببعض الخارج، وكل واحد منهما جائز عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع. وكذلك إن كان البقر وحده من أحدهما والباقي من الآخر فالمزارعة فاسدة في ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه جوز ذلك، كذا في " تجريد المحيط "، وكذلك إذا كان البقر والبذر من أحدهما والأرض والعمل من الآخر فالمزارعة فاسدة، لأن الشرع لم يرد به.
وفي الخارج اختلاف الرواية في الوجهين في رواية لصاحب البقر والبذر كسائر المزروعات الفاسدة. وفي وراية يكون لصاحب الأرض ويكون ذلك قرضا، وكذلك لو اشترك أربعة من أحدهم البذر، ومن الآخر العمل، ومن الآخر البقر، ومن الآخر الأرض فالمزارعة فاسدة.
وقال محمد بن الحسن في كتاب " الآثار ": أخبرنا عبد الرحمن الأوزاعي عن واصل بن أبي جميل عن مجاهد قال: «اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال واحد: من عندي البذر، وقال: الآخر: من عندي العمل. قال فألقى رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاحب الأرض وجعل لصاحب العمل درهما لكل يوم، وألحق الزرع كله لصاحب الأرض» انتهى. والفدان بالتشديد والتخفيف اسم للثورين اللذين يحرث بهما. قوله: ألقى صاحب الأرض، يعني لم يجعل له شيئا من الخارج، لأنه لا يستوجب مثل الأرض وأعطى لصاحب العمل كل يوم درهما، لأن ذلك كان أجر مثل عمله ولم يذكر أجر الفدان لكونه معلوما من أجر العامل.
م: (وهاهنا وجهان آخران باطلان لم يذكرهما) ش: أي وجهان آخران باطلان لم يذكرهما(11/488)
أحدهما: أن يكون البذر لأحدهما والأرض والبقر والعمل لآخر، فإنه لا يجوز؛ لأنه يتم شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع. والثاني: أن يجمع بين البذر والبقر وأنه لا يجوز أيضا؛ لأنه لا يجوز عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع، والخارج في الوجهين لصاحب البذر في رواية اعتبارا بسائر المزروعات الفاسدة، وفي رواية لصاحب الأرض، ويصير مستقرضا للبذر قابضا له باتصاله بأرضه.
قال: ولا تصح المزارعة إلا على مدة معلومة لما بينا، وأن يكون الخارج شائعا بينهما تحقيقا لمعنى الشركة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري م: (أحدهما) ش: أي أحد الوجهين م: (أن يكون البذر لأحدهما والأرض والبقر والعمل لآخر، فإنه) ش: أي وإن هذا الوجه م: (لا يجوز؛ لأنه يتم الشركة بين البذر والعمل) ش: لأن صاحب البذر مستأجر، والمستأجر للأرض، والتخلية بين المستأجر والمستأجر شرط، فانعدمت التخلية هاهنا، لأن الأرض تكون في يد العامل، وبقي إشكال في أنه أوجب لصاحب الأرض أجر مثل أرضه ولم يسلم الأرض، فكيف يستوجب أجر المثل. والجواب أن منفعة الأرض صارت مسلمة إلى صاحب البذر ولسلامة الخارج له حكما، وكذلك إن لم يخرج الأرض شيئا، لأن عمل العامل بأمر في القابلان كعمله بنفسه.
فيستوجب أجر المثل عليه في الوجهين م: (ولم يرد به الشرع) ش: فلا يجوز، أي لم يرد الشرع بهذا الوجه فلا يجوز.
م: (والثاني) ش: أي الوجه الثاني م: (أن يجمع بين البذر والبقر) ش: بأن يكون البذر والبقر من أحدهما والعمل من الآخر م: (وأنه) ش: أي وإن هذا الوجه م: (لا يجوز أيضا؛ لأنه لا يجوز عند الانفراد) ش: يعني إذا كان البذر وحده من جانب وإذا كان البقر وحدها من جانب م: (فكذا عند الاجتماع) ش: أي فكذا لا يجوز إذا كان البذر والبقر جميعا من جانب م: (والخارج في الوجهين لصاحب البذر في رواية اعتبارا بسائر المزروعات الفاسدة) ش: ذكرها الصدر الشهيد في المزارعة ومقدار ما غرم من أجر العامل والأرض ويتصدق بالفضل.
م: (وفي رواية) ش: ذكرها الصدر الشهيد أيضا فهما م: (لصاحب الأرض ويصير مستقرضا للبذر، قابضا له باتصاله بأرضه) ش: أي يصير صاحب الأرض مستقرضا للبذر، وهذا في الحقيقة جواب إشكال، وهو أن القرض يشترط فيه القبض ولا قبض هاهنا، فأجاب بأن اتصال البذر بأرضه كالقبض.
[بيان المدة في المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا تصح المزارعة إلا على مدة معلومة لما بينا) ش: أشار بقوله إلى قوله في شرط المزارعة، والثالث بيان المدة م: (وأن يكون الخارج بينهما شائعا) ش: أي ولا تصح أيضا، إلا أن يكون الخارج بينهما شائعا م: (تحقيقا لمعنى الشركة) ش: ولا خلاف(11/489)
فإن شرطا لأحدهما قفزانا مسماة فهي باطلة، لأن به تنقطع الشركة؛ لأن الأرض عساها لا تخرج إلا هذا القدر، فصار كاشتراط دراهم معدودة لأحدهما في المضاربة، وكذا إذا شرطا أن يرفع صاحب البذر بذره ويكون الباقي بينهما نصفين، لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في بعض معين أو في جميعه بأن لم يخرج إلا قدر البذر؛ فصار كما إذا شرطا رفع الخراج فالأرض خراجية وأن يكون الباقي بينهما لأنه معين،
بخلاف ما إذا شرط صاحب البذر عشر الخارج لنفسه أو للآخر والباقي بينهما؛ لأنه معين مشاع فلا يؤدي إلى قطع الشركة، كما إذا شرطا دفع العشر وقسمة الباقي بينهما والأرض عشرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه، الثالثة م: (فإن شرطا لأحدهما قفزانا مسماة فهي باطلة لأن به) ش: أي بهذا الشرط م: (تنقطع الشركة؛ لأن الأرض عساها لا تخرج إلا بهذا القدر) ش" أي القدر الذي استتببناه أحدهما، وعسى هاهنا بمعنى لعل كما في قول تحرين الموذ: فقلت عساها فار كاس، ولعلها أي لعلها واسمها ضمير فافهم.
م: (فصار كاشتراط دراهم معدودة لأحدهما في المضاربة) ش: أي صار حكم هذا كحكم ما إذا اشترط أحد المتعاقدين في المضاربة دراهم معينة له فإنه يفسد به المضاربة، لأن شرط ذلك يقطع الشركة كما مر في المضاربة م: (وكذا) ش: أي ولا يجوز م: (إذا شرطا أن يرفع صاحب البذر بذره ويكون الباقي بينهما نصفين؛ لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في بعض معين) ش: وهو قدر البذر م: (أو في جميعه) ش: أي أو يؤدي إلى قطع الشركة في جميع الخارج م: (بأن لم يخرج إلا قدر البذر) ش: فيأخذه صاحب البذر فيقطع به الشركة فلا يجوز.
م: (فصار كما إذا شرطا رفع الخراج فالأرض خراجية) ش: أي والحال أن الأرض خراجية م: (وأن يكون الباقي بينهما) ش: أي وشرطا أن يكون الباقي بعد الخراج بينهما، لأنه يحتمل أن لا يخرج إلا مقدار الخراج، فيكون قطعا للشركة. وفي " الذخيرة " هذا إذا كان خراجها خراج وظيفة بأن يكون دراهم أو دنانير أو قفزانا معينا. أما لو كان خراج مقاسمة وهو جزء من الخارج مشاعا يجوز الثلث أو الربع لا يفسد المزارعة بهذا الشرط.
[شرط أحد العاقدين في المزارعة]
م: (بخلاف ما إذا شرط صاحب البذر عشر الخارج لنفسه أو للآخر والباقي بينهما) ش: حيث يجوز م: (لأنه معين مشاع، فلا يؤدي إلى قطع الشركة) ش: لأنه توهم قطع الشركة، فإنه ما من خارج إلا وله عشر، فبقي الشركة في الباقي م: (كما إذا شرطا دفع العشر وقسمة الباقي بينهما والأرض عشرية) ش: أي والحال أن الأرض عشرية، يعني يجوز هذا أيضا.
وفي " شرح الكافي " لو كانت الأرض عشرية فشرط دفع العشر إن كانت تسقى شحا، ونصف العشر إن كانت تسقى بدلو، والباقي بينهما نصفان كان جائزا لما مر هذا الشرط لتوهم(11/490)
قال: وكذلك إن شرطا ما على الماذيانات والسواقي، معناه لأحدهما لأنه إذا شرط لأحدهما زرع موضع معين أفضى ذلك إلى قطع الشركة؛ لأنه لعله لا يخرج إلا من ذلك الموضع، وعلى هذا إذا شرط لأحدهما ما يخرج من ناحية معينة ولآخر ما يخرج من ناحية أخرى. وكذا إذا شرطا لأحدهما التبن وللآخر الحب، لأنه عسى تصيبه آفة، فلا ينعقد الحب ولا يخرج إلا التبن. وكذا إذا شرطا التبن نصفين والحب لأحدهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع الشركة.
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (وكذلك إن شرطا ما على الماذيانات والسواقي) ش: يعني كما أنهما إذا شرطا لأحدهما قفزانا مسماة تكون المزارعة باطلة، فكذلك إذا شرطا ما على الماذيانات والسواقي لأحدهما، لأنه يحتمل أن لا يحصل الربع إلا منها، فيؤدي إلى قطع الشركة. والماذيانات جمع ماذيان وهو أصغر من النهر وأعظم من الجدول فارسي معرب.
وقيل ما يجتمع فيه ماء السيل ثم يسقى منه الأرض. والسواقي جمع ساقية وهي فرق الجدول دون النهر، كذا في " المغرب "، فيكون كلاهما واحدا. ويحتمل أن يكون بينهما فرق فكذلك أوردهما بعطف أحدهما على الآخر.
وقيل هي أوسع من السواقي ولا خلاف فيه للثلاثة، لأن الخبر الصحيح والنهي عنه غير معارض ولا منسوخ م: (معناه لأحدهما) ش: أي معنى قول القدوري وكذلك إن شرطا ما على الماذيانات إن شرط لأحدهما.
م: (لأنه إذا شرط لأحدهما زرع موضع معين أفضى ذلك إلى قطع الشركة؛ لأنه لعله لا يخرج إلا من ذلك الموضع) ش: أي لأن الشأن لعل الزرع لا يخرج إلا من ذلك الموضع المعين م: (وعلى هذا) ش: أي على ما ذكرنا من عدم الجواز م: (إذا شرط لأحدهما ما يخرج من ناحية معينة ولآخر ما يخرج من ناحية أخرى) ش: أي وشرط الآخر ما يخرج من الزرع من ناحية أخرى.
م: (وكذا إذا شرطا لأحدهما التبن وللآخر الحب) ش: أي وكذا لا يصح ذكره تفريعا على مسألة القدوري وهو على خمسة أوجه، وهذا أولها م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن عساه يصيبه آفة، أي لأن الزرع م: (عسى يصيبه آفة فلا ينعقد الحب ولا يخرج إلا التبن) ش: فيؤدي إلى قطع الشركة، فلا يجوز.
م: (وكذا إذا شرطا التبن نصفين) ش: هذا هو الوجه الثاني، أي وكذا لا يجوز إذا شرطا أن يكون التبن بينهما نصفين والحب بالنصف عطفا على التبن، أي وشرطا م: (والحب لأحدهما(11/491)
بعينه لأنه يؤدي إلى قطع الشركة فيما هو المقصود وهو الحب.
ولو شرطا الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود. ثم التبن يكون لصاحب البذر لأنه نماء ملكه، وفي حقه لا يحتاج إلى الشرط، والمفسد هو الشرط، وهذا مسكوت عنه. وقال مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: التبن بينهما أيضا اعتبارا للعرف فيما لم ينص عليه المتعاقدان، ولأنه تبع للحب، والتبع يقوم بشرط الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعينه لأنه يؤدي إلى قطع الشركة فيما هو المقصود وهو الحب) ش: وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة يفسد المزارعة.
م: (ولو شرطا الحب نصفين) ش: هذا هو الوجه الثالث، وهو أن يشترطا أن يكون الحب بينهما نصفين م: (ولم يتعرضا للتبن) ش: بأن سكتا عنه م: (صحت) ش: أي المزارعة م: (لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود) ش: وهو الحب م: (ثم التبن يكون لصاحب البذر؛ لأنه نماء ملكه) ش: وفي بعض النسخ إنما بذره وهو الأصوب م: (وفي حقه) ش: أي وفي حق صاحب البذر م: (لا يحتاج إلى الشرط) ش: عن ملكه واستحقاق العامل بالشرط ولم يوجد م: (والمفسد هو الشرط) ش: أي المفسد للمزارعة هذا الشرط الفاسد م: (وهذا مسكوت عنه) ش: أي الشرط الفاسد سكت عنه هاهنا. لأنهما سكتا عنه، والسكوت عنه لا يفسد، وإنما المفسد ذكره، وهذا دفع في النسخ مسكوت عنه الصواب على ما لا يخفى.
م: (وقال مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - التبن بينهما أيضا) ش: أي يكون التبن بين المتعاقدين كما يكون الحب م: (اعتبارا للعرف فيما لم ينص عليه المتعاقدان) ش: وأن العرف عندهم أن الحب والتبن يكون بينهما نصفين، وتحكيم العرف عند الاشتباه واجب.
وقال الطحاوي في "مختصره ": روى أصحاب " الإملاء " عن أبي يوسف أن المزارعة فاسدة. وجعل محمد التبن لصاحب البذر إلا أن يقع الشرط بينهما، بخلاف ذلك. ثم وجدنا لمحمد بعد ذلك ما يدل على رجوعه عن قوله إلى ما قال أبو يوسف في " الإملاء " قال هو الصحيح، وبه نأخذ.
م: (ولأنه تبع للحب) ش: أي ولأن التبن تبع للحب م: (والتبع يقوم بشرط الأصيل) ش: يعني أن التبن لما كان ذكر الشرط في الحب ذكرا في التبن حيث يكون التبن بينهما أيضا فكأنهما شرطا في التبن أن يكون بينهما كالجندي يصير مقيما بنية الإمام، وكالعبد يصير مقيما بنية المولى.(11/492)
ولو شرطا الحب نصفين والتبن لصاحب البذر صحت، لأنه حكم العقد. وإن شرطا التبن للآخر فسدت، لأنه شرط يؤدي إلى قطع الشركة بأن لا يخرج إلا التبن، واستحقاق غير صاحب البذر بالشرط.
قال: وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط لصحة الالتزام، وإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء للعامل، لأنه يستحقه شركة ولا شركة في غير الخارج. وإن كانت إجارة فالأجر مسمى فلا يستحق غيره، بخلاف ما إذا فسدت؛ لأن أجر المثل في الذمة ولا تفوت الذمة بعدم الخارج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو شرطا الحب نصفين والتبن لصاحب البذر صحت) ش: أي المزارعة وهذا هو الوجه الرابع م: (لأنه حكم العقد) ش: يعني أنهما لو سكتا عن ذكر التبن كان التبن لصاحب البذر، لأنه موجب العقد، فإذا نصا عليه فإنما صرحا بما هو موجب العقد، فلا يتغير به وصف العقد، وكان وجود الشرط وعدمه سواء.
م: (وإن شرطا التبن للآخر فسدت) ش: أي المزارعة. وفي بعض النسخ وهذا هو الوجه الخامس م: (لأنه شرط يؤدي إلى قطع الشركة بأن لا يخرج إلا التبن) ش: وكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة تفسد المزارعة كما قلنا م: (واستحقاق غير صاحب البذر بالشرط) ش: يعني غير صاحب البذر لا يستحق إلا بالشرط، وهذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة فتفسد.
[الأثر المترتب على المزارعة]
[الأثر المترتب على صحة المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط لصحة الالتزام وإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء للعامل؛ لأنه يستحقه شركة ولا شركة في غير الخارج) ش: أي لأن العامل يستحق ما شرطاه شركة، والحكم في الشركة في الربح إذا لم يوجد الربح لا شيء للعامل، فكذا هنا م: (وإن كانت إجارة) ش:
هذا جواب عما يقال كانت الأرض إجارة ابتداء فلا بد من الأجرة، وتقرير الجواب أن الأرض إن كانت إجارة في الابتداء م: (فالأجر مسمى) ش: أي معين م: (فلا يستحق غيره) ش: أي غير المسمى، ولا يشكل بما إذا كانت الأجرة عينا في الإجارة وهلكت الأجرة قبل التسليم يجب على المستأجر أجر المثل.
فينبغي أن يكون كذلك فيما نحن فيه، لأن الأجر المعين هناك قبل التسليم وهاهنا بعد التسليم أن العامل قبل البذر الذي يتفرع عليه الخارج وقبض الأصل قبض لفروعه والأجرة العين إذا هلكت بعد التسليم لا يجب شيء، فكذا هاهنا، كذا في " الجامع المحبوبي ".
م: (بخلاف ما إذا فسدت) ش: أي المزارعة م: (لأن أجر المثل في الذمة) ش: أي لأن وجوب أجر المثل في الذمة م: (ولا تفوت الذمة بعدم الخارج) ش: لأن عدم الخارج لا يمنع وجوب ما في(11/493)
قال: وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر، لأنه نماء ملكه واستحقاق الآخر بالتسمية وقد فسدت، فبقي النماء كله لصاحب البذر.
قال: ولو كان البذر من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثله لا يزاد على مقدار ما شرط له من الخارج لأنه رضي بسقوط الزيادة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. وقال محمد: له أجر مثله بالغا ما بلغ، لأنه استوفى في منافعه بعقد فاسد، فتجب عليه قيمتها إذ لا مثل لها، وقد مر في الإجارات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذمة.
[الأثر المترتب على فساد المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: وإذا فسدت) ش: أي المزارعة م: (فالخارج لصاحب البذرة لأنه نماء ملكه) ش: أي ملك صاحب البذر م: (واستحقاق الآخر بالتسمية وقد فسدت) ش: أي القسمة، لأن المشروط في المزارعة بمنزلة البذر المسمى في عقد الإجارة والتسمية لا تصح مع فساد العقد، فإذا بطلت التسمية بالفساد م: (فبقي النماء كله لصاحب البذر) ش: لأنه نماء ملكه.
[كان البذر من قبل رب الأرض في المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولو كان البذر من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثله) ش: يعني في صورة فساد المزارعة م: (لا يزاد على مقدار ما شرط له من الخارج) ش: أي لا يزاد أجر المثل على القدر الذي شرط للعامل. وفي " شرح الكافي " ويطيب لصاحب الأرض جميع ما أخرجته الأرض لأنه تولد من بذره بقوة الأرض.
ولو كان البذر من قبل العامل بطيب له من الخارج مقدار بذره وما غرمه، ويتصدق بالفضل لأنه تولد بقوة أرض الغير وقد فسد ذلك العقد الذي استحق به ملك المنفعة فيمكن فيه شبهة الحنث م: (لأنه رضي بسقوط الزيادة) ش: أي لأن العامل رضي بسقوط الزيادة على أجر المثل لأنه دخل في مباشرة ما يوجب فساد العقد م: (وهذا) ش: أي عدم الزيادة على أجر المثل م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) .
م: (وقال محمد له) ش: أي للعامل م: (أجر مثله بالغا ما بلغ) ش: وبه قالت الثلاثة، وبالغا ينصب على الحال من الأجرة. وما بلغ في محل نصب على أنه مفعول بالغا ومفعوله مفعول بلغ محذوف وهو الضمير العائد إلى كلمة ما فافهم م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب الأرض م: (استوفى منافعه) ش: أي منافع العامل م: (بعقد فاسد فيجب عليه قيمتها) ش: أي قيمة منافعه م: (إذ لا مثل لها) ش: أي للمنافع فيجب قيمتها بالغة ما بلغت م: (وقد مر في الإجارات) ش: أي قد مر هذا الخلاف. وفي بعض النسخ وقد مرت أي المسألة.
وقال السغناقي: وفي هذا الذي ذكره من الحوالة نوع يعتبر، لأنه ذكر في باب الإجارة الفاسدة من كتاب الإجارة في مسألة ما إذا استأجر حمالا ليحمل له طعاما بقفيز منه، فالإجارة فاسدة.(11/494)
وإن كان البذر من قبل العامل فلصاحب الأرض أجر مثل أرضه، لأنه استوفى منافع الأرض بعقد فاسد، فيجب ردها وقد تعذر ولا مثل لها فيجب رد قيمتها، وهل يزاد على ما شرط له من الخارج؟ فهو على الخلاف الذي ذكرناه.
ولو جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة فعلى العامل أجر مثل الأرض والبقر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم قال: ولا تجاوز بالأجر معنى، لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب أقل عما سمى. ومن أجر المثل وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد، لأن المسمى هناك غير معلوم فلم يصح الحط. فمجموع هذا الذي ذكره في الإجارات يعلم أن عند محمد لا يبلغ أجر المثل بالغا ما بلغ في الإجارات الفاسدة كما هو قولهما إلى في الشركة والاحتطاب، ثم ذكرها هاهنا وقال محمد له أجر المثل بالغا ما بلغ إلى أن قال: وقد مرت في الإجارات، وذلك يدل على أن مذهبه في جميع الإجارات الفاسدة أن يبلغ الأجر ما بلغ وليس كذلك.
وقال الأترازي أيضا: هذا كلام موهم، لأن الخلاف بين أبي يوسف ومحمد ذكر في الشركة الفاسدة في كتاب الشركة لا في كتاب الإجارات، لأن الإجارة الفاسدة لا خلاف فيها بين علمائنا الثلاثة، لأن فساد الإجارات إذا كان لعدم التسمية أو لجهالة المسمى بأن جعل الأجرة ثوبا أو دابة يجب أجر المثل بالغا ما بلغ.
وإن كان المسمى معلوما ولكن فسدت بسبب شرط فاسد أو نحوه يجب الأقل من أجر المثل والمسمى لا يجاوز بالأجر المسمى. وقال زفر والشافعي: يجب أجر المثل بالغا ما بلغ، انتهى.
والجواب بأن هذه الإجارة من قبل الشركة في الاحتطاب لأن الأجر غير معلوم قبل خروج الخارج، وهذه حوالة بلا تغيير ولا إبهام، فافهم.
[كان البذر من قبل العامل في المزارعة]
م: (وإن كان البذر من قبل العامل فلصاحب الأرض أجر مثل أرضه) ش: هذا من مسائل القدوري. وفي بعض النسخ وإن كان من قبل العامل، أي البذر م: (لأنه استوفى) ش: أي لأن العامل استوفى م: (منافع الأرض بعقد فاسد فيجب ردها) ش: أي رد المنافع، لأن هذا مقتضى القياس، ولكن هذا لا يمكن، أشار بقوله م: (وقد تعذر) ش: أي رد المنافع لأنها ثلاثة واضمحلت م: (ولا مثل لها) ش: أي منافع الأرض حتى يرد مثلها م: (فيجب رد قيمتها) ش: أي إذا كان كذلك فتجب رد قيمة منافع الأرض الذي استوفاها م: (وهل يزاد على ما شرط له من الخارج؟ فهو على الخلاف الذي ذكرناه) ش: آنفا، وهو أن لا يزاد عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد.
[جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة]
م: (ولو جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة فعلى العامل أجر مثل الأرض والبقر) ش:(11/495)
هو الصحيح؛ لأن له مدخلا في الإجارة وهي إجارة معنى. وإذا استحق رب الأرض الخارج لبذره في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه، لأن النماء حصل في أرض مملوكة له. وإن استحقه العامل أخذ قدر بذره وقدر أجر الأرض وتصدق بالفضل لأن النماء يحصل من البذر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن البقر مدخلا في الإجارة يجوز إيراد عقد الإجارة عليه والمزارعة إجارة، يعني فتنعقد الإجارة عليه فاسدا ويجب أجر المثل.
وقال الكرخي في "مختصره ": ولو أن صاحب الأرض دفع الأرض إلى صاحب العمل على أن البذر والعمل من عند العامل والأرض والبقر من عند صاحب الأرض على أن الخارج بينهما قال: هذا فاسد في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
فإن أخرجت الأرض زرعا كثيرا فجميع البذر لصاحب البذر والعمل، ولصاحب الأرض والبقر أجر مثل أرضه وبقره على الزارع صاحب البذر والعمل فله أن يستوفي من ذلك ما بذر وما غرم، ويتصدق بالفضل. ولو لم تخرج الأرض شيئا غرم وصاحب البذر أجر مثل الأرض وأجر مثل البقر، لأن المزراعة فاسدة ولا يبالي أخرجت الأرض شيئا أو لم تخرج.
م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن تأويل بعض أصحابنا لقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل " لصاحب الأرض والبقر أجر مثل أرضه وبقره على صاحب البذر أن المراد به يجب أجر مثل الأرض مكروبة. أما البقر فلا يجوز أن يستحق العقد بعقد المزارعة بحال، فلا ينعقد العقد عليه صحيحا ولا فاسدا. ووجوب أجر المثل لا يكون بدون عقد، لأن المنافع لا تتقوم بدونه.
ولكن الأصح أن عقد المزارعة من جنس الإجارة ومنافع العقد مما يجوز استحقاقها بعقد الإجارة، فينعقد عليها بعقد المزارعة بالفساد، فيجب أجر مثلها كما يجب أجر مثل الأرض، كذا في " المبسوط " م: (لأن له مدخلا في الإجارة) ش: أي لأن البقر داخل في الإجارة بأن استأجرها ليحمل عليها م: (وهي إجارة معنى) ش: أي المزارعة المذكورة إجارة من حيث المعنى، ولكنها بصفة الفساد، فيجب أجر المثل.
م: (وإذا استحق رب الأرض الخارج لبذره) ش: أي لأجل البذر له م: (في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه) ش: أي جميع الخارج. فإذا طاب له جميعه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء من ذلك م: (لأن النماء حصل في أرض مملوكة له) ش: أي لرب الأرض، وقد ذكرناه م: (وإن استحقه العامل) ش: أي وإن استحق الخارج العامل لكون البذر له م: (أخذ قدر بذره وقدر أجر الأرض وتصدق بالفضل) ش: أي بالزائد على قدر البذر وأجر الأرض م: (لأن النماء يحصل من البذر(11/496)
ويخرج من الأرض وفساد الملك في منافع الأرض أوجب خبثا فيه، فما سلم له بعوض طاب له، وما لا عوض له تصدق به. قال: وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلزمه، فصار كما إذا استأجر أجيرا ليهدم داره.
وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر أجبره الحاكم على العمل، لأنه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر والعقد لازم بمنزلة الإجارة، إلا إذا كان عذر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويخرج من الأرض وفساد الملك في منافع الأرض أوجب خبثا فيه) ش: أي في الفضل، لأن فضل زرع خرج له من أرض غيره م: (فما سلم له بعوض طاب له، وما لا عوض له تصدق به) ش: لتمكن الخبث فيه.
[عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه) ش: أي على العمل هذا قبل إلقاء البذر، أما بعد إلقاء البذر فيجبر ولا يمكنه الفسخ إلا بعذر لصيرورة العقد لازما من الجانبين، وقد بينا أن العقد لازم عند الفقهاء م: (لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلزمه) ش: وهذا استهلاك البذر في الحال م: (فصار كما إذا استأجر أجيرا ليهدم داره) ش: ثم ندم لا يجير، فصار هذا الحكم ما إذا استأجره رجلا ليهدم داره ثم ندم لا يجبر عليه والعقد لازم بمنزلة الإجارة فيلزمه الوفاء.
[امتنع الذي ليس من قبله البذر في المزارعة]
م: (وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر أجبره الحاكم على العمل؛ لأنه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر والعقد لازم بمنزلة الإجارة) ش: فيلزمه الوفاء، وهذا قول العامة إلا في رواية عن أحمد أن العقد غير لازم عنده. وقال الكرخي في "مختصره ": إذا تعاقد رجلان على زراعة أرض سنة ثم ظهر لأحدهما أن لا يزرع فقال لا أريد أن أزرع هذه الأرض ولا غيره، أو قال: لا أريد أن أزرع هذه الأرض وأريد أن أزرع غيرها فإنك تنظر في هذا، فإذا كان الممتنع من قبل البذر فله ذلك.
وإن كان ليس من قبله البذر فليس له أن يمتنع إلا من عذر. ولو كانت الإجارة للمزارعة وقعت بأجر غير ما يخرج منها، ثم أراد المستأجر أن يدع المزارعة ولا يزرع هذه الأرض ولا غيرها فله ذلك، وإن قال: لا أزرع هذه الأرض وأزرع غيرها لم يكن له ذلك، وقيل: له اقبض الأرض فيكون في يديك، فإن شئت زرعت، وإن شئت لم تزرع، فإذا تمت السنة كان عليك ما سميت من الأجر. وإن امتنع صاحب الأرض وقال: قد بدا لي أن لا أؤجر أرضا للزراعة لم يكن له ذلك وأن يجبر على تسليم الأرض إلا أن يكون له عذر في ذلك.
م: (إلا إذا كان عذر) ش: استثناء من قوله والعقد لازم، وكان تامة فلا تحتاج إلى الخبر، والمعنى إلا إذا وجد عذر. وفي بعض النسخ عذرا بالنصب، فعلى هذا يكون عذرا خبر كان،(11/497)
يفسخ به الإجارة فيفسخ به المزارعة.
قال: ولو امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض فلا شيء له في عمل الكراب. قيل هذا في الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيلزمه استرضاء العامل لأنه غره في ذلك. قال: وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت المزارعة اعتبارا بالإجارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويكون اسمه ضميرا مستقرا فيه عائدا إلى مقدر تقديره إلى إلا إذا كان الامتناع عذرا أي الموجب الامتناع عذرا م: (يفسخ به الإجارة) ش: هذه الجملة صفة لقوله عذر، وفي بعض النسخ يفسخ به الإجارة، والباء في به للسببية م: (فيفسخ به المزارعة) ش: لأنها إجارة معنى كما ذكرنا، قال الكرخي في "مختصره ": العذر أن يكون على رب الأرض دين فادح لا يقدر على أدائه إلا من ثمن هذه الأرض فله أن يبيعها فيه.
وفي " فتاوى العتابي " لو كان المزارع سارقا يخاف منه لرب الأرض أن يفسخ. وقال في " شرح الكافي " والأعذار ثلاثة: المرض الذي يقعد العامل عن العمل، وخيانة العامل، والدين الذي لا وفاء عنده سوى بيع الأرض.
ثم قال: ولو دفع إليه نخلا معاملة بالنصف ثم بدا للعامل أن يترك العمل أو يسافر، فإنه يجبر على العمل، لأن هذا ليس بعذر في حقه، لأنه أمكنه الاستعانة بغيره. وكذا إن بدا لصاحب النخل أن يعمل بنفسه ويمنع العامل لم يكن له ذلك، لأنه لا ضرر في حقه، لأنه يفسد عليه شيئا فلم يتحقق العذر، فامتنع الفسخ.
[امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض]
م: (قال: ولو امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض فلا شيء له في عمل الكراب) ش: الواو في قوله والبذر للحال. وكذا الواو في قوله وقد كرب، أي قلب الأرض للزراعة، والكرب بالكسر مصدره.
وقوله فلا شيء له، أي للعامل يعني إذا امتنع رب البذر من العقد والبذر منه قبل إلقاء البذر لا شيء للعامل في عمل الكراب؛ لأن عمله إنما يقوم بالعقد، والعمل قوم يخرج من الخارج ولا خارج بعده فلا يستوجب شيئا.
م: (قيل هذا في الحكم) ش: أي قيل هذا الجواب في الحكم يعني في القضاء ظاهر، وقال الأترازي أي الذي قلنا: إن المزارع لا شيء له من أجل الكراب ونحوه هو القضاء ظاهرا م: (أما فيما بينه وبين الله تعالى فيلزمه استرضاء العامل لأنه غره في ذلك) ش: أي في هذا الفعل، يعني فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى بأن يعطي العامل أجر مثله، لأن الغرور مرفوع فيبقى بأن يطلب رضاه.
م: (قال: وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت المزارعة اعتبارا بالإجارة) ش: يعني أن هذا عقد ورد(11/498)
وقد مر الوجه في الإجارات. فلو كان دفعها ثلاث سنين فلما نبت الزرع في السنة الأولى ولم يستحصد الزرع حتى مات رب الأرض ترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد الزرع ويقسم على الشرط وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنتين؛ لأن في إبقاء العقد في السنة الأولى مراعاة للحقين، بخلاف السنة الثانية والثالثة؛ لأنه ليس فيه ضرر بالعامل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على المنافع فيبطل بموت أحد المتعاقدين كالإجارة وفي " المبسوط " و" الذخيرة " هذا جواب القياس. وفي الاستحسان يبقى عقدا للزراعة إلى أن يستحصد الزرع، معناه يبقى بلا إجارة مبتدأة حتى لا يجب الأجر على المزارع، لأنا أبقينا العقد نظرا للزارع، لأنه لو لم يبق لقلع ورثة رب الأرض فيتضرر به المزارع ولا يجوز إلحاق الضرر على غير المتعاقدين.
وإليه أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بقوله: فلو كان دفعها إلى آخره، وعلم أن المراد بقوله: وإذا مات أحد المتعاقدين ما بعد الزرع، لأن الذي يكون قبله مذكور فيما يليه ولم يفصل بين ما نبت الزرع أو لم ينبت، ولكنه ذكر جواب النابت في قوله في وجه الاستحسان، ولم يذكر جواب ما لم ينبت عند موته، ولعله ترك ذلك اعتمادا على دخوله في إطلاق أول المسألة.
وعند الثلاثة يبقى العقد مطلقا م: (وقد مر الوجه في الإجارات) ش: وهو قوله لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة أو الأجرة المملوكة لغير العاقد مستحقة بالعقد، لأنه ينتقل بالموت إلى الوارث، وذلك لا يجوز.
م: (فلو كان دفعها في ثلاث سنين) ش: ذكره بالغا، لأنه متضرع على ما قبله، أي فلو دفع الأرض إلى آخر مدة ثلاث سنين م: (فلما نبت الزرع في السنة الأولى ولم يستحصد) ش: أي لم يجئ أوان الحصاد م: (حتى مات رب الأرض ترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد الزرع ويقسم على الشرط) ش: استحسانا، والقياس أن لا يثبت للورثة حق الأخذ، لأنه يفسخ العقد بموت العاقد.
قال في " شرح الكافي ": إلا أنا أبقيناه استحسانا لأجل العذر وعقد الإجارة جوز للعذر، فلأن يبقى ببقاء العذر كأن أولى.
ولهذا قلنا: إنه لو استأجر سفينة فلما توسط لجة البحر انتهت مدة الإجارة قدرنا عقد الإجارة مبتدأة بأجر لمكان العذر، فإذا قدر عقدا مبتدأ لأجل العذر فلأن يبقى لأجل العقد كان أولى فإذا أدرك الزرع اقتسم الزرع والورثة على الشرط م: (وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنتين؛ لأن في إبقاء العقد في السنة الأولى مراعاة للحقين) ش: أي حق المزارع وحق الورثة.
م: (بخلاف السنة الثانية والثالثة؛ لأنه ليس فيه ضرر بالعامل) ش: لأنه لم يثبت له شيء بعد(11/499)
فيحافظ فيهما على القياس.
ولو مات رب الأرض قبل الزراعة بعدما كرب الأرض وحفر الأنهار انتقضت المزارعة لأنه ليس فيه إبطال مال على المزارع ولا شيء للعامل بمقابلة ما عمل كما نبينه إن شاء الله تعالى.
وإذا فسخت المزارعة بدين فادح لحق صاحب الأرض فاحتاج إلى بيعها فباع جاز كما في الإجارة، وليس للعامل أن يطالبه بما كرب الأرض وحفر الأنهار بشيء، لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وهو إنما قوم بالخارج، فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء م: (فيحافظ فيهما على القياس) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيحافظ من السنة الثانية والثالثة على وجه القياس حيث تبطل المزارعة بموت أحد المتعاقدين.
[مات رب الأرض قبل الزراعة بعدما كرب الأرض وحفر الأنهار]
م: (ولو مات رب الأرض قبل الزراعة بعدما كرب الأرض وحفر الأنهار انتقضت المزارعة؛ لأنه ليس فيه إبطال مال على المزارع) ش: بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يبقى العقد، لأن فيه إبطال مال على المزارع ولو كلف القلع، وفي بعض النسخ إبطال مال المزارع م: (كما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أشار به إلى قوله بعد هذا لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد.
[الأثر المترتب على فسخ المزارعة]
م: (وإذا فسخت المزارعة بدين فادح) ش: أي ثقيل من فدحه الأمر، أي أثقله، وكل مثقل فادح. وقال ابن دريد فوادح الدهر خطوبه ومادته فاء ودال وحاء مهملتين م: (لحق صاحب الأرض) ش: هذه الجملة صفة أخرى لقوله دين شيء م: (فاحتاج إلى بيعها فباع جاز) ش: أي بيع الأرض جاز الفسخ، يعني الدين الفادح يصير عذرا في فسخ عقد المزارعة، لأن في المضي على العقد يلحقه ضرر وهو الحبس فجاز الفسخ م: (كما في الإجارة) ش: حيث يفسخ بعذر الدين ونحوه.
وفي " الذخيرة " لا بد لفسخ المزارعة من القضاء أو الرضا على روايات الزيادات لأنها بمعنى الإجارة، وعلى رواية " المبسوط " و " الجامع الصغير " لا يحتاج إلى الرضا أو القضاء فبعض المتأخرين أخذ براوية الزيادات، وبعضهم برواية " الأصل " و " الجامع ". وقوله فسخت والتشبيه بالإجارة يشير إلى أنه اختار رواية " الزيادات " فافهم.
م: (وليس للعامل أن يطالبه) ش: أي صاحب الأرض، وهذا هو الموعود بقوله على ما بيناه إن شاء الله تعالى م: (بما كرب الأرض وحفر الأنهار بشيء؛ لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد، وهو إنما قوم بالخارج) ش: أي العقد فيما نحن فيه قوم بالخارج م: (فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء) ش: وهذا الجواب بهذا التعليل إنما يستقيم أن لو كان البذر من قبل العامل، أما لو كان من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثل عمله، لأن البذر إذا كان من قبل العامل يكون مستأجرا للأرض، فيكون العقد واردا على منفعة الأرض لا على عمل العامل، فيبقى عمله من غير عقد ولا يتقوم(11/500)
ولو نبت الزرع ولم يستحصد لم تبع الأرض في الدين حتى يستحصد الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق المزارع والتأخير أهون من الإبطال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على رب الأرض.
أما إذا كان البذر من رب الأرض فيكون هو مستأجرا للعامل، فكان العقد واردا على منافع العمل فيتقوم منافعه وعمله على رب الأرض فيرجع عليه بأجر مثل عمله، كذا في " الذخيرة "، قيل فيه نظر، فإن منافع الأجير وعمله إنما يتقوم على رب الأرض بالعقد، والعقد إنما قوم بالخارج، فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء.
[نبت الزرع ولم يستحصد في المزارعة]
م: (ولو نبت الزرع ولم يستحصد لم تبع الأرض في الدين حتى يستحصد الزرع) ش: ذكره تفريعا ولم يذكر في الكتاب إذا زرع العامل ولم ينبت ثم لحق لرب الأرض دين فادح ما حكمه.
وفي " الذخيرة " اختلف المشايخ فيه، قال أبو بكر العتابي له ذلك، لأنه ليس لصاحب البذر في الأرض عين مال قائم، لأن التبذير استهلاك، ولهذا قالوا لصاحب البذر فسخ المزارعة.
وقال الشيخ أبو إسحاق الحافظ: ليس له ذلك، لأن التبذير استثمار لا استهلاك، ألا ترى أن الأب أو الوصي يملكان زراعة أرض الصبي مع أنهما لا يملكان استهلاك ماله، فإذا كان كذلك كان للمزارع عين مال قائم.
وفي " فتاوى العتابي " لو أجاز العامل البيع والبذر منه فله حصة البذر مبذورا، فتقوم الأرض مبذورة وغير مبذورة فله حصة الفضل من الثمن. وإن كان البذر من رب الأرض فباعه قبل النبات لا يدخل البذر بدون ذكره. وقيل: إن حفر في الأرض يدخل. وإن سقاه المشتري حتى يثبت وأدرك فهو للبائع والمشتري متطوع.
ولو باع رب الأرض لم ينفذ بدون إجارة المزارع أو المستأجر أو المرتهن وليس لهم نقض بيعه، لأن ضررهم يندفع بالتوقف. وكذا للبيع والشفيع أن يأخذ أو يقوم مقام المشتري في التوقف. وكذا لو أجرها رب الأرض بعد الزرع أو قبله والبذر من المزارع يتوقف على إجارته كالبيع.
م: (لأن في البيع إبطال حق المزارع والتأخير أهون من الإبطال) ش: يعني أن في التأخير إضرارا بالغرماء، لكن ضرر التأخير بدون ضرر الإبطال، فإن لم يكن بد من إلحاق الضرر به يترجح أهون الضررين؛ ولأن فيه نظرا للكل لاستعماله على عدم إبطال حق المزارع، ويقع(11/501)
ويخرجه القاضي من الحبس إن كان حبسه بالدين، لأنه لما امتنع بيع الأرض لم يكن هو ظالما، والحبس جزاء الظلم.
قال: وإذا انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك كان على المزارع أجر مثل نصيبه من الأرض إلى أن يستحصد، والنفقة على الزرع عليهما على مقدار حقوقهما، معناه حتى يستحصد؛ لأن في تبقية الزرع بأجر المثل تعديل النظر من الجانبين فيصار إليه وإنما كان العمل عليهما لأن العقد قد انتهى بانتهاء المدة، وهذا عمل في المال المشترك، وهذا بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يكون العمل فيه على العامل؛ لأن هناك أبقينا العقد في مدته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رب الأرض فإن نصيبه يباع في دينهم أيضا، وما فيه نظر للكل يترجح على ما فيه ضرر بالبعض م: (ويخرجه القاضي من الحبس) ش: أي يخرج رب الأرض القاضي من الحبس م: (إن كان حبسه بالدين لأنه لما امتنع بيع الأرض لم يكن هو ظالما، والحبس جزاء الظلم) ش: ولكن لا يحول بينه وبين الغريم لأنه ربما يخفي نفسه عند إمكان البيع، فإذا أدرك الزرع كان له أن يحسبه إلى أن يبيع نصيبه من الزرع، والأرض، ويوفي الغريم حقه لأنه زال المانع، فظهرت القدرة.
[انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك]
م: (قال: وإذا انقضت مدة المزارعة) ش: أي قال القدوري وقيد بالانقضاء احترازا عن مسألة الموت كما يأتي م: (والزرع لم يدرك) ش: أي والحال أن الزرع لم يدرك م: (كان على المزارع أجر مثل نصيبه من الأرض إلى أن يستحصد) ش: وفي بعض نسخ " المختصر ": أجر مثل نصيبه من الزرع، وذلك أصح، فعلى الثاني يتعلق من نصيبه، وعلى الأول يتعلق بأجر المثل م: (والنفقة على الزرع عليهما) ش: أي على العامل، ورب الأرض، وأراد بالنفقة مؤنة الحفظ، والسقي وكرب الأنهار م: (على مقدار حقوقهما) ش: أي حقوق العامل، ورب الأرض م: (معناه حتى يستحصد) ش: أي معنى قوله: والنفقة على الزرع عليهما أحصد الزرع، واستحصد إذا حان له أن يحصد م: (لأن في تبقية الزرع بأجر المثل تعديل النظر من الجانبين فيصار إليه) ش: هذا دليل وجوب الأجر، ووجهه قالوا: إن أمرنا العامل بقلع الزرع عند انقضاء المدة تضرر به، وإن أبقيناه بلا أجر تضرر رب الأرض فبقيناه بلا أجر تعديلا للنظر من الجانبين م: (وإنما كان العمل عليهما؛ لأن العقد قد انتهى بانتهاء المدة، وهذا عمل في المال المشترك) ش: فيكون العمل عليهما.
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يكون العمل فيه على العامل) ش: يعني إذا مات صاحب الأرض، والحال أن الزرع بقل فإنه لا يجب أجر المثل، ولا العمل عليهما، بل يكون على العامل، بخلاف الإجارة، والعارية إذا انقضت المدة والزرع بقل، فإنه يجب أجر المثل، ويترك الزرع حتى يستحصد نظرا لهما م: (لأن هناك) ش: أي فيما إذا مات رب الأرض، والزرع بقل م: (أبقينا العقد في مدته) ش: أي في مدة العقد(11/502)
والعقد يستدعي العمل على العامل، أما هاهنا العقد قد انتهى فلم يكن هذا إبقاء ذلك العقد فلم يختص العامل بوجوب العمل عليه. فإن أنفق أحدهما بغير إذن صاحبه وأمر القاضي فهو متطوع لأنه لا ولاية له عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكما للعقد.
م: (والعقد يستدعي العمل على العامل) ش: أي يقتضي قيام العمل على العامل م: (أما هاهنا) ش: أي فيما إذا انقضت مدة المزارعة، والزرع لم يدرك (العقد قد انتهى) ش: بانتهاء المدة م: (فلم يكن هذا إبقاء ذلك العقد فلم يختص العامل بوجوب العمل عليه) ش: لأن استحقاق العمل على العامل إنما كان في المدة بالعقد، فلم يبق العقد فلا يكون عليه، بل يكون عليهما؛ لأنه عمل على المال المشترك.
وقال تاج الشريعة: في قوله بخلاف ما إذا مات رب الأرض، بيان الفرق أن رب الأرض متى مات بقي عقد المزارعة فتعذر إيجاب الأجر، لأنه لا يجب إجارة ما، إذ منفعة الأرض في مدة واحدة وهو بعض الخارج، وأجر المثل دارهم، أو دنانير، وإيجاب زمانين بإزاء عين واحدة لا يجوز، فإيجاب البدلين بإزاء منفعة واحدة، لأن لا يجوز أولى وأحرى. أما إذا انقضت مدة المزارعة فيحتاج إلى إثبات الإجارة فلا يكون جمعا بين أجرين بإزاء منفعة الأرض في مدة واحدة، بل يكون إيجاب الأجرين في مدة مختلفة، وهذا جائز.
م: (فإن أنفق أحدهما بغير إذن صاحبه وأمر القاضي فهو متطوع) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، أي فيما إذا انقضت مدة المزارعة، والزرع بقل، وإنما كان متطوعا م: (لأنه لا ولاية له) ش: لأحدهما على الآخر، بخلاف ما إذا أنفق بأمر القاضي حتى يرجع على صاحبه بمقدار حصته؛ لأن للقاضي ولاية فصح أمره.
فإن قيل: هو مضطر في الإنفاق لأنه يجيء حق نفسه فلا يوصف بالتبرع.
قلنا: هو غير مضطر؛ لأنه يمكنه الإنفاق بأمر القاضي، ولأنه غير مجبر على الإنفاق؛ لأن له ولاية أخذ الزرع بقلا كما يجيء، كذا في " الذخيرة ".
فإن قلت: لم لا يجعل هذا كما لو أوصى برقبة نخلة لإنسان، وتمرها لآخر، فأنفق الموصى له بالرقبة في غيبة صاحب الثمر بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحب الثمر فإنه لا يكون متبرعا كذا هنا.
قلت: قياسك على هذا غير صحيح والصحيح أن يقاس على ما إذا كان النخيل بين اثنين وغاب أحدهما فأنفق الآخر عليه بغير أمر القاضي فإنه يكون متبرعا، كذا في مسألة الزرع.
م: (لأنه لا ولاية له عليه) ش: أي لأن الذي أنفق لا ولاية له على صاحبه فيكون متبرعا م:(11/503)
ولو أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك، لأن فيه إضرارا بالمزارع. ولو أراد المزارع أن يأخذه بقلا قيل لصاحب الأرض: اقلع الزرع، فيكون بينكما أو أعطه قيمة نصيبه أو أنفق أنت على الزرع وارجع بما تنفقه في حصته، لأن المزارع لما امتنع من العمل لا يجبر عليه؛ لأن إبقاء العقد بعد وجود المنهي نظر له، وقد ترك النظر لنفسه، ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات؛ لأن بكل ذلك يستدفع الضرر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ولو أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع لم يكن له ذلك) ش: ذكره تفريعا أيضا، وهو من مسائل الأصل، أي لم يكن لرب الأرض ذلك، أي بعد انقضاء المدة م: (لأن فيه إضرارا بالمزارع) ش: لأن المزارع ليس بمتعد في زرع الأرض، وله نهاية فيبقى الآن يستحصد بأجر المثل، لأن التأخير أهون من الإبطال.
فإن قيل: كما أن في هذا إضرار بالمزارع فكذا في قلع المزارع إضرار برب الأرض، ومع ذلك جاز للمزارع قلعه. ذكره في " المبسوط ".
قلنا: رب الأرض متعنت في طلب القلع لانتفائه بنصيبه، وبأجر المثل، فرد عليه، بخلاف المزارع فإنه يرد عن نفسه بالقلع ما يجب عليه من أجر المثل، فربما يخاف أن يصيبه من الزرع ما لا يبقى بذلك.
م: (ولو أراد المزارع أن يأخذه بقلا) ش: بعد انقضاء المدة م: (قيل لصاحب الأرض: اقلع الزرع فيكون بينكما) ش: أشار بهذا إلى أن رب الأرض له الخيارات الثلاثة. الأول: أن يقال له: اقلع الزرع فيكون بينكما، والثاني: ما أشار إليه بقوله م: (أو أعطه قيمة نصيبه) ش: أي أو قيل له: أعطه حصة ثانية. والثالث: ما أشار إليه أيضا بقوله: م: (أو أنفق أنت على الزرع، وارجع بما تنفقه في حصته) ش: أي أو قيل له أنفق أنت على الزرع كله ثم ارجع بما أنفقت على حصته في نصيبه م: (لأن المزارع لما امتنع من العمل لا يجبر عليه) ش: أي على العمل لانقضاء مدة العقد م: (لأن إبقاء العقد) ش: لم يرد به عقد المزارعة لأنه انتهى بإنهاء مدته، ولكن بإبقاء الأرض مشغولة بالزرع بشبهة العقد، وبهذا يجب أجر المثل ومبناه على العقد م: (بعد وجود المنهي نظر له) ش: أي للمزارع، وأراد بالمنهي مضي المدة وهو بضم الميم، وسكون النون، وكسر الهاء م: (وقد ترك النظر لنفسه) ش: بإرادة القلع، وله ولاية ذلك، ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات الثلاثة، التي ذكرت آنفا.
وقوله: م: (ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات) ش: أو أمر بينهما أو نحو ذلك م: (لأن بكل ذلك يستدفع الضرر) ش: أي بكل الخيارات، وتذكير اسم الإشارات باعتبار أراد أنه يدفع الضرر عن نفسه بذلك فيتخير.(11/504)
ولو مات المزارع بعد نبات الزرع فقالت ورثته: نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض فلهم ذلك، لأنه لا ضرر على رب الأرض ولا أجر لهم بما عملوا، لأنا أبقينا العقد نظرا لهم، فإن أرادوا قلع الزرع لم يجبروا على العمل لما بينا، والمالك على الخيارات الثلاثة لما بينا.
قال: وكذلك أجرة الحصاد والدياس والرفاع والتذرية عليهما بالحصص، فإن شرطاه في المزارعة على العامل فسدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مات المزارع فقالت ورثته نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض]
م: (ولو مات المزارع بعد نبات الزرع، فقالت ورثته: نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض فلهم ذلك) ش: أي فللورثة أن يعملوا إلى أن يستحصد الزرع م: (لأنه لا ضرر على رب الأرض ولا أجر لهم بما عملوا) ش: سواء كان بقضاء قاض أو بغيرة م: (لأنا أبقينا العقد نظرا لهم) ش: فلا يستحقون الأجر، لأن استحقاق الأجر إنما يكون إذا كان الإبقاء نظرا لغيرهم م: (فإن أرادوا قلع الزرع لم يجبروا على العمل لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأنا أبقينا العقد نظرا لهم، فلو أجبروا انقلب ضررا عليهم م: (والمالك على الخيارات الثلاثة) ش: وهي القلع، أو إعطاء قيمة نصيب المزارع، أو الإنفاق على الزرع م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن المزارع لما امتنع عن العمل لا يجبر عليه.
[أجرة الحصاد في المزارعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكذلك أجرة الحصاد) ش: أي كما أن النفقة عليهما فيما إذا انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك كذلك عليهما أجرة الحصاد، وهو بفتح الحاء، وكسرها لغتان، وقوي بهما في قوله سبحانه وتعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] (الأنعام: الآية 141) م: (والدياس) ش: وهو أن يوطأ الطعام بإطلاق البقر، وتكون عليها، يعني يخرجوا حتى يصير تبنا وهو مصدر داس الكرس يدوسه دوسا ودياسة ودياسا، ودياسة. وقال الأزهري: دياس الكرس، ودواسه واحد. وقال الكاكي: والدياس سفل السيف، واستعمال الفقهاء إياه في موضع الدياسة جائز.
قلت: هذا يشير إلى أن الدياس ليس مصدرا، وإنما المصدر الدياسة، وليس كذلك، بل كلاهما مصدران كما ذكرنا. وقال الغفناقي: م: (والرفاع) ش: بكسر الراء وفتحها وهو أن يرفع الزرع إلى البيدر وهو موضع الدياس وتسميه أهل مصر الجران، وبالفارسية خرمن م: (والتذرية) ش: من ذرا بالتشديد وهو تمييز الحب من التبن بالرياح م: (عليهما بالحصص) ش: أي على رب الأرض والمزارع.
م: (فإن شرطاه) ش: أي فإن شرط المتعاقدان في العقد أخص الأشياء المذكورة (في المزارعة على العامل فسدت) ش: أي المزارعة. وعند الشافعي، وأحمد: لا تفسد لأنه بدون الشرط على العامل. وكذا لو شرطاه على رب الأرض. وكذا لو شرطا في العقد عملا ليس من أعمال المزارعة على العامل، أو رب الأرض فسدت. ولو شرطا ما كان من أعمالها لا تفسد، لأنه(11/505)
وهذا الحكم ليس بمختص بما ذكر من الصورة وهو انقضاء المدة والزرع لم يدرك، بل هو عام في جميع المزارعات. ووجه ذلك أن العقد يتناهى بتناهي الزرع لحصول المقصود، فيبقى مال مشترك بينهما ولا عقد فيجب مؤنتة عليهما. وإذا شرطا في العقد ذلك ولا يقتضيه، وفيه منفعة لأحدهما يفسد العقد كشرط الحمل أو الطحن على العامل. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل للتعامل اعتبارا بالاستصناع وهو اختيار مشايخ بلخ قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرطا لا يقتضيه العقد.
وفي " النوازل " عن أبي يوسف: إذا اشترط على المزارع أن يحصده ويجمعه جاز، وفيه كان محمد بن سلمة، ونصير بن يحيى يجيزان المزارعة بشرط الحصاد، ولا أعرف أحدا في زمانهما خالفهما في ذلك. وقال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. وفي " الخلاصة ": والسقية، والحمل إلى بيت رب المال كشرط الحصاد، وجوزه مشايخ بلخ.
م: (وهذا الحكم) ش: أي اشتراط الحصاد ونحوه مفسد م: (ليس بمختص بما ذكر من الصورة وهو انقضاء المدة والزرع لم يدرك، بل هو عام في جميع المزارعات) ش: ولما كان القدوري ذكر هذه المسألة عقيب انقضاء مدة الزرع، والزرع لم يدرك كان موهم اختصاصها بذلك. وقال الشيخ: هذا الوهم بقوله: والحكم ... إلخ.
م: (ووجه ذلك) ش: أي وجه فساد العقد باشتراط أجرة أحد الأشياء المذكورة على العامل، ووجوب الأجرة عليهما م: (أن العقد يتناهى بتناهي الزرع لحصول المقصود) ش: وهو تناهي الزرع بحصول المقصود م: (فيبقى مال مشترك بينهما ولا عقد) ش: أي ولا عقد موجود لانتهائه بانتهاء المدة م: (فيجب مؤنته عليهما) ش: لأن قضية العقد كون المؤنة عليهما إذ النماء عليهما، فإذا انتهى العقد لم يبق على العامل فيجب عليهما.
م: (وإذا شرطا في العقد ذلك) ش: أي شرط م: (ولا يقتضيه) ش: أي والحال أنه لا يقتضيه العقد م: (وفيه منفعة لأحدهما) ش: أي والحال أن في الشرط منفعة لأحد المتعاقدين م: (يفسد العقد كشرط الحمل) ش: أي حمل الحنطة ونحوها إلى منزل رب الأرض م: (أو الطحن) ش: أي أو شرط الطحن م: (على العامل) ش: وكذا شرط التبقية.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل للتعامل) ش" أي لتعامل الناس بذلك م: (اعتبارا بالاستصناع) ش: حيث جوز لتعامل الناس م: (وهو) ش: أي ما روي عن أبي يوسف م: (اختيار مشايخ بلخ) ش: كمحمد بن سلمة، وأبي بكر البلخي وغيرهما م: (قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا) ش: ذكره شمس الأئمة في " المبسوط " م:(11/506)
فالحاصل: أن ما كان من عمل قبل الإدراك كالسقي والحفظ فهو على العامل. وما كان منه بعد الإدراك قبل القسمة فهو عليهما في ظاهر الرواية كالحصاد والدياس وأشباههما على ما بيناه. وما كان بعد القسمة فهو عليهما، والمعاملة على قياس هذا ما كان قبل إدراك الثمر من السقي والتلقيح والحفظ فهو على العامل، وما كان بعد الإدراك كالجداد والحفظ فهو عليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فالحاصل) ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الأعمال ثلاثة أقسام، أشار إلى الأول بقوله م: (أن ما كان من عمل قبل الإدراك) ش: أي قبل إدراك الزرع م: (كالسقي والحفظ فهو على العامل) ش: أي كسقي الزرع وحفظه.
وأشار إلى الثاني بقوله: م: (وما كان منه) ش: أي من العمل م: (بعد الإدراك) ش: أي إدراك الزرع م: (قبل القسمة فهو عليهما في ظاهر الرواية كالحصاد والدياس وأشباههما على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله: وجه إلى آخره، وقيد بقوله في ظاهر الرواية احترز عن ما روي عن أبي يوسف أنه قال: اشتراط هذا على العامل غير مفسد.
وأشار إلى الثالث بقوله: م: (وما كان بعد القسمة فهو عليهما) ش: أي وما كان من العمل بعد قسمة الخارج فهو على المتعاقدين كالحمل إلى البيت، والطحن وأشباههما، لكن على كل واحد منهما في نصيبه خاصة لتمييز ملك كل واحد منهما عن ملك الآخر، فكان التدبير في ملكه إليه خاصة م: (والمعاملة على قياس هذا) ش: أي المساقاة على قياس ما ذكر من التفصيل في المزارعة م: (ما كان قبل إدراك الثمر من السقي) ش: أي الذي كان قبل إدراك الثمر نحو سقي الأشجار م: (والتلقيح) ش: من لقحت النخلة إذا أطعمتها من ذكرها، ومنه لقح الفحل الناقة، والريح السحاب إذا أودق منه المطر.
م: (والحفظ) ش: أي حفظ الأشجار م: (فهو على العامل) ش: هذه الجملة في محل الرفع على أنها خبر لقوله ما كان، ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ومن هذا القبيل ضرب الجليد وإصلاح الأجاجين، وتنقية السواقي، وقطع الحشائش المضرة، ولا خلاف فيه للثلاثة والأجاجين هي الحفر التي يجمع فيها الماء على أصول النخل.
م: (وما كان بعد الإدراك كالجداد والحفظ) ش: والجداد بكسر الجيم، وبالدال المهملة وهو القطع، والمراد قطع ثمرة النخل. وفي بعض النسخ: كالجزاز بالزاءين المعجمتين.
وفي " المغرب ": الجزاز كالجداد بالفتح، والكسر إلا أن الجزاز خاص في قطع الثمر، والأول عام. وعند الشافعي واحدة الجداد والحصاد، والالتقاط على العامل؛ لأنه من العمل، وعند الشافعي وأحمد عليهما م: (فهو عليهما) ش: خبر من قوله: وما ذكرنا.(11/507)
ولو شرط الجداد على العامل لا يجوز بالاتفاق لأنه لا عرف فيه، وما كان بعد القسمة فهو عليهما، لأنه مال مشترك ولا عقد، ولو شرط الحصاد في الزرع على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم العرف فيه. ولو أراد قصل القصيل أو جذ التمر بسرا أو التقاط الرطب فذلك عليهما لأنهما أنهيا العقد لما عزما على القصل والجداد بسرا فصار كما بعد الإدراك والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شرط الجداد على العامل في المزارعة]
م: (ولو شرط الجداد على العامل لا يجوز بالاتفاق لأنه لا عرف فيه) ش: وعن أحمد لا يجوز. وكذا لو شرط الحمل إلى منزل رب الأرض، وبه قال بعض الشافعية م: (وما كان بعد القسمة فهو عليهما) ش: أي على المتعاقدين م: (لأنه مال مشترك ولا عقد) ش: أي ولا عقد موجود، وسماه مشتركا بعد القسمة باعتبار ما كان.
وقيل: باعتبار أن المجموع بعد القسمة بينهما. ألا ترى أن نصيب كل واحد إذا كان معينا في قرية يقال لهم: شركاء في القرية م: (ولو شرط الحصاد في الزرع على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم العرف فيه) ش: أي في هذا الشرط، ولا خلاف للثلاثة فيه.
م: (ولو أراد قصل القصيل) ش: أي قطع القصيل، والقصل قطع الشيء، ومنه القصيل، وهو الشعير يخبز أخضر لعلف الدواب، والفقهاء يسمون الزرع قبل إدراكه قصيلا مجازا م: (أو جذ التمر بسرا) ش: أي أو أراد قطع الثمر حال كونه بسرا، والبسر ما يكون من الثمر، ولم ينضج.
م: (أو التقاط الرطب) ش: أي أو أراد التقاط الرطب م: (فذلك عليهما) ش: أي على ما ذكر من القصيل والجداد، والالتقاط على المتعاقدين م: (لأنهما أنهيا العقد) ش: أي أتماه وأمضياه م: (لما عزما على القصيل والجداد بسرا فصار كما بعد الإدراك) ش: أي صار حكم هذا الحكم ما بعد الإدراك الزرع، والثمر حيث يكون العمل فيه عليهما فكذلك إذا انتهياه قبل الإدراك م: (والله أعلم بالصواب) .(11/508)
كتاب المساقاة قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المساقاة بجزء من الثمر باطلة. وقالا: جائزة إذا ذكر مدة معلومة، وسمى جزءا من الثمر مشاعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المساقاة]
[تعريف المساقاة]
م: (كتاب المساقاة) ش: كان من حق المساقاة التقديم على المزارعة لكثرة من يقول بجوازها، ولورود الأحاديث في معاملة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأهل خيبر، إلا أن اعتراض موجبين ضرب إيراد المزارعة قبل المساقاة. أحدها: شدة الاحتياج إلى معرفة أحكام المزارعة لكثرة وقوعها.
والثاني: كثرة تفريع مسائل المزارعة بالنسبة إلى المساقاة وهي المعاملة بلغة أهل المدينة ومفهومها اللغوي هو الشرعي فهي معاقدة دفع الأشجار والكروم إلى من يقوم بإصلاحها على أن يكون له سهم معلوم من ثمرها، ولأهل المدينة لغتان يختصون بها كما قالوا للمعاملة مساقاة، وللمزارعة مخابرة، وللإجارة بيع، وللمضاربة مقارضة، وللصلاة مسجد.
فإن قلت: المفاعلة تكون بين اثنين، وهنا ليس كذلك.
قلت: هذا ليس بلازم، ألا ترى إلى قولهم: قاتله الله، ومسافر فلان، أو لأن العقد على السقي صدر من اثنين كما في المزارعة أو من باب التغليب.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المساقاة بجزء من الثمرة باطلة) ش: وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنها استئجار ببعض ما يخرج، وذلك مجهول أو معدوم فلا يجوز، وقد تقدم بيان ذلك في المزارعة؛ لأن المساقاة كالزراعة عنده م: (وقالا جائزة) ش: أي قال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله جائزة، وبه قال أحمد، وأكثر العلماء. وعند الشافعي، ومالك: تجوز المساقاة ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمساقاة.
وشرط التبعية عند مالك أن يكون الأصل ضعف التبع؛ لأنه به يتحقق التبعية، والمساقاة إنما تجوز عنده إذا شرط التفاوت والمؤن فيما تحتاج إليه الثمرة على العامل كلها، ثم المساقاة تجوز عند الشافعي في النخل، والكرم فقط، هذا في قوله الجديد، وفي قوله القديم: يجوز في كل شجرة لها ثمرة م: (إذا ذكر مدة معلومة، وسمى جزءا من الثمر مشاعا) ش: أما المدة فلأنها كالمزارعة، وكالإجارة فلا بد من بيان مدة معلومة.
فلو دفع إلى رجل نخلا، ولم يذكر مدة معلومة كان على أول ثمر يخرج من أول ستة استحسانا، لأن العقد يقع على العمل في المدة، ولكل مدة وقت معلوم يبتدئ فيه وينتهي(11/509)
والمساقاة هي المعاملة في الأشجار والكلام فيها كالكلام في المزارعة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المعاملة جائزة، ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمعاملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالثمرة الأولى متيقن دخولها في العقد فجاز فيها العقد، وما بعد ذلك غير متيقن فلم يصح العقد فيه. وأما تسمية جزء مشاع من الثمرة، فلأنها عقد شركة، فإذا لم يكن المسمى جزءا مشاعا ربما يفضي إلى قطع الشركة فلا يجوز كما في المزارعة.
م: (والمساقاة هي المعاملة في الأشجار) ش: قال في " شرح الطحاوي ": والمساقاة عبارة عن المعاملة بلغة أهل المدينة، وقد ذكرناه م: (والكلام فيها كالكلام في المزارعة) ش: أي الكلام في عقد المساقاة. وفي بعض النسخ: فيها وهو الأظهر أراد أن شرائط المساقاة وهي الشرائط المذكورة التي ذكرت في المزارعة.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المعاملة جائزة ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمعاملة) ش: بأن يكون بين النخيل، والكرم أرض بيضاء، تسقى بماء النخيل، وقد أخذ النخيل مع الأرض معاملة جاز، حتى لو كانت الأرض تسقى بماء على حدة لا يجوز. وفي " الروضة ": في المعاملة بابان الأول: في أركانها وهي خمسة: الأول: العاقدان. والثاني: متعلق العمل وهو الشجر، وله ثلاثة شروط: الأول: أن يكون نخلا أو عنبا، أما غيرهما من النبات يقسمان ما له ساق وما لا ساق له.
والأول ضربان: ماله ثمرة كالتين، والجوز، والمشمش، والتفاح ونحوها، وفيه قولان: القديم جواز المساقاة عليها، والجديد: المنع. وعلى الجديد في شجرة [......] وجهان: جوزها ابن شريح، ومنعها غيره. والأصح المنع. والضرب الثاني: ما لا ثمرة له كالآراك، والخلاف وغيره فلا تجوز المساقاة عليه، وقيل في الخلاف وجهان لا عناية. والقسم الثاني: ما لا ساق له كالبطيخ، والقرع، وقصب السكر، والباذنجان، والبقول لا تنبت في الأرض، ولا تجنى إلا مرة واحدة فلا يجوز عليها كما لا يجوز على الزرع. وإن كانت تنبت في الأرض، وتجنى مرة بعد مرة فالمذهب المنع. وقيل قولان: أصحهما المنع. الشرط الثاني: أن تكون الأشجار مروية، وإلا فباطل على المذهب. وقيل: قولان: كبيع الغائب.
الركن الثالث: الثمار، فيشترط اختصاصها بالعاقدين مشتركة بينهما معلومة. فلو شرطا قبض الثمار لثالث، أو كلها لأحدهما فسدت.
الركن الرابع: العمل.
الركن الخامس: الصيغة، ولا يصح بدونها على الصحيح، وفيها الوجه السابق في(11/510)
لأن الأصل في هذه المضاربة والمعاملة أشبه بها، لأن فيه شركة في الزيادة دون الأصل.
وفي المزارعة لو شرطا الشركة في الربح دون البذر بأن شرط رفعه من رأس الخارج يفسد، فجعلنا المعاملة أصلا وجوزنا المزارعة تبعا لها كالشرب في بيع الأرض والمنقول في وقف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقود بالتراضي، والمعاطاة، ثم أشهر الصيغ: ساقيتك على هذا النخيل بكذا، وعقدت معك عقد المساقاة.
الباب الثاني: في أحكام المساقاة: ويجمعها حكمان: أحدهما: يلزم العامل، والمالك، والثاني في لزومها.
أما الأول: فكل عمل تحتاج إليه الثمار لزيادتها، أو صلاح ثمرها ويتكرر كل سنة فهو على العامل، ومما يجب عليه السقي وما يتبعه من إصلاح طريق الماء، والأجاجين التي يقف فيها الماء، وتنقية الآبار، والأنهار من الحمأة ونحوها، وإدارة الدولاب، وفتح رأس الساقية وشدها عند السقي، على ما يقتضيه الحال. وفي سقيا النهر وقول ضعيف: إنها على المالك، وتقليب الأرض بالمساعي.
وكذا تقويتها بالزبل. ومنه التلقيح. ثم الطلع الذي يلقح به على المالك. وفي حفظ الثمار وجهان: أصحهما على العامل واحد، والثمرة على العامل على الصحيح، وحفر الأنهار والآبار الجديدة والتي انهارت، وبناء الحيطان ونصب الأبواب والدولاب ونحوها على المالك، وكذا عليه آلات العمل [......] ، والمعول، والنخل، والمسحاة، والشران، والعزاقة، في الزراعة، والثور الذي يدير الدولاب. وقيل: على من شرطت له.
الحكم الثاني: أن المساقاة عقد لازم كالإجارة، وتملك العامل حصته من الثمرة بالظهور على المذهب، وقيل: قولان.
م: (لأن الأصل في هذه المضاربة) ش: لأنها جائزة إجماعا م: (والمعاملة أشبه بها) ش: أي بالمضاربة من المزارعة م: (لأن فيه شركة) ش: أي لأن في عقد المعاملة شركة م: (في الزيادة) ش: وهو الثمر. م: (دون الأصل) ش: وهو في الشجر كما في المضاربة، والشركة في الربح دون رأس المال.
[الشرط في المساقاة]
[لو شرطا الشركة في الربح دون البذر]
م: (وفي المزارعة: لو شرطا الشركة في الربح دون البذر بأن شرط رفعه من رأس المال الخارج يفسد) ش: أي يفسد عقد المزارعة، م: (فجعلنا المعاملة أصلا، وجوزنا المزارعة تبعا لها) ش: أي للمعاملة، وفي بعض النسخ "له"، أي عقد المزارعة م: (كالشرب في بيع الأرض) ش: بكسر الشين وهو النصيب من الماء، فإنه يرد عليه العقد تبعا لبيع الأرض ويجوز بيعه بانفراده م: (والمنقول في وقف(11/511)
العقار
وشرط المدة قياس فيها لأنها إجارة معنى كما في المزارعة. وفي " الاستحسان ": إذا لم يبين المدة يجوز ويقع على أول ثمر يخرج؛ لأن الثمر لإدراكها وقت معلوم وقلما يتفاوت ويدخل فيها ما هو المتيقن. وإدراك البذر في أصول الرطبة في هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقار) ش: فإنه يصير وقفا تبعا للعقار ولا يجوز وقفه بانفراده إلى هنا من كلام الشافعي.
[شرط المدة في المساقاة]
م: (وشرط المدة) ش: أي شرط بيان المدة م: (قياس فيها) ش: أي في عقد المساقاة م: (لأنها إجارة معنى) ش: أي لأن المساقاة إجارة في المعنى، لأنه استئجار للعامل، وفي هذا لا يصير المعقود عليه معلوما إلا ببيان المدة، فإذا لم يبينا لم يجز، وبه قال الشافعي، وأحمد، إلا أنه ينبغي أن يكون أقل المدة ما يمكن إدراك الثمر فيه، وبه قال أحمد.
واختلفت أقوال الشافعي في أكثر مدة الإجارة، والمساقاة، وقال في موضع: إلى ثلاثين سنة. وقال ابن قدامة في " المغني ": وهذا الحكم قال في موضع إلى ما أشار، وبه قال أحمد، ومالك، وأكثر العلماء م: (كما في المزارعة) ش: كما يشترط بيان المدة في المزارعة، حتى إذا لم يبينا تفسد.
م: (وفي " الاستحسان ": إذا لم يبين المدة يجوز ويقع على أول ثمر يخرج) ش: يعني إن سكتا عن الوقت جاز استحسانا، ويقع العقد على أول ثمرة تخرج في تلك السنة، وبه قال أبو ثور، وبعض أصحاب الحديث م: (لأن الثمرة لإدراكها وقت معلوم، وقلما يتفاوت) ش: أي الوقت، والثابت عادة كالثابت شرطا، فصارت المدة معلومة.
فإن تقدم أو تأخر بذلك يسيرا لا يقع بسببه منازعة عادة م: (ويدخل فيه ما هو المتيقن) ش: وهو أول الثمر الذي يخرج في تلك السنة، فيثبت المتيقن لا ما وراءه، فلو انتقضت تلك السنة، ولم يخرج الثمر فيها انقضت المعاملة م: (وإدراك البذر) ش: وهو بذر البقل ونحوه. وقال الليث: البذر كل حب يبذر للنبات، ويقال: بذرته، وبذرته. قال: والبذر والحبوب التي فيها صغير مثل بذر البقول، وأشباهها. وقال ابن دريد: فأما قول العامة: بزر البقل خطأ إنما هي بزور.
وقال الخليل: البزر بزر الكتان، ودهن البزر، والكسر أفصح. والبذر بالذال المعجمة ما عزل للزراعة من الحبوب كلها، وبزر البذر زرعه، وقال ابن عياد في " المحيط ": البذر أول ما يخرج من البقل والعشب.
وقال الأترازي: وقد وقع سماعنا في هذا الموضع بالذال، وارتفاع إدراك البذر بالابتداء.
وقوله: م: (في أصول الرطبة) ش: جملة وقعت صفة للبذر م: (في هذا) ش: أي في عقد(11/512)
بمنزلة إدراك الثمار لأن له نهاية معلومة فلا يشترط بيان المدة،
بخلاف الزرع؛ لأن ابتداءه يختلف كثيرا خريفا وصيفا وربيعا والانتهاء بناء عليه فتدخله الجهالة،
وبخلاف ما إذا دفع إليه غرسا قد علق ولم يبلغ الثمر معاملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المساقاة بدون بيان المدة م: (بمنزلة إدراك الثمار) ش: خبر المبتدأ م: (لأن له) ش: أي لإدراك البذر م: (نهاية معلومة) ش: عند المزارعين م: (فلا يشترط بيان المدة) ش: فيه صورة المسألة دفع رطبه قرب جذاذها على أن يقوم عليها ويسقيها حتى يخرج بزرها على أن ما أخرج الله سبحانه وتعالى من بذر فهو بينهما نصفان، ولم يسميا وقتا معلوما جاز استحسانا كالثمر.
وفي " شرح الكافي ": ولو دفع إليه رطبة في الأرض قد صارت قراحا، يعني قد خرج ساقها من عروقها، ولم يبينه إلى أن تجز فدفعها إليه معاملة على أن يسقيها ويقوم عليها بالنصف ولم يسم وقتا معلوما، فهذا فاسد. لأنه ليس لنهايتها وقت معلوم. لأنها تجز مرة بعد أخرى، حتى لو كان للرطبة [..] لو دفعها إليه رطبة قد انتهى جذاذها على أن يقوم عليها ويسقيها حتى يخرج بذرها على أن ما رزق الله من شيء فهو بينهما نصفان، ولم يسميا وقتا فهو جائز على ما اشترط إلا البذر من الرطب ينزل منزلة الثمر من الشجرة، فصار كما لو دفع الأشجار معاملة، على أن الثمر بينهما نصفان فهو جائز كذلك هنا، والرطبة لصاحبها، لأنها لم تحدث بعمله ولم تزدد.
م: (بخلاف الزرع) ش: يتعلق بقوله: وفي " الاستحسان ": إذا لم يبن المدة يجوز، يعني ذاك بخلاف المزارعة، فلأنها تجوز بلا بيان المدة قياسا، واستحسانا م: (لأن ابتداءه يختلف كثيرا خريفا وصيفا وربيعا) ش: أي لأن ابتداء الزرع قد يكون في الخريف، والصيف، أو الربيع، وما يزرع في الربيع يدرك في آخر الصيف، وما يزرع في الخريف يدرك في آخر الربيع، وما يزرع في الصيف يدرك في آخر الخريف.
فوقعت الجملة في الابتداء م: (والانتهاء بناء عليه) ش: أي على الابتداء م: (فتدخله الجهالة) ش: أي إذا كان كذلك فيدخل هذا العقد جهالة مفضية إلى المنازعة، فلا يجوز إلا ببيان المدة. اعلم أن كثيرا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي اختلافا فاحشا، وقوله: خريفا منصوب على الظرفية، أي في خريف، وصيفا، وربيعا عطف عليه.
م: (وبخلاف ما إذا دفع إليه غرسا قد علق) ش: أي نبت وهو بكسر اللام، والغرس بكسر الغين وفتحها في معنى المغروس م: (ولم يبلغ الثمر) ش: أي لم يبلغ حد الإثمار م: (معاملة) ش: أي مساقاة، وانتصابها على المصدرية من قوله: من غير لفظه، ولكن التقدير وإذا عامل رجلا في غرس معاملة، ويجوز أن ينصب على التعليل، أي دفع لأجل المعاملة على أن يقوم عليها(11/513)
حيث لا يجوز إلا ببيان المدة؛ لأنه يتفاوت بقوة الأراضي وضعفها تفاوتا فاحشا،
وبخلاف ما إذا وقع نخيلا أو أصولا رطبة على أن يقوم عليها، أو أطلق في الرطبة تفسد المعاملة؛ لأنه ليس لذلك نهاية معلومة؛ لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة.
قال: ويشترط تسمية الجزء مشاعا لما بينا في المزارعة، إذ شرط جزء معين يقطع الشركة.
قال: وإن سميا في المعاملة وقتا يعلم أنه لا يخرج الثمر فيها فسدت المعاملة لفوات المقصود وهو الشركة في الخارج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويسقيها فما خرج فهو بينهما نصفان م: (حيث لا يجوز إلا ببيان المدة) ش: وبه قالت الثلاثة م: (لأنه) ش: أي لأن الغرس م: (يتفاوت بقوة الأراضي وضعفها تفاوتا فاحشا) ش: لأن الأراضي إذا كانت بذارا خالصة قوية تحمل أشجارها بإسراع. وإذا كانت ضعيفة غير خالصة تبطئ أشجارها في الحمل، فلا بد من بيان المدة.
م: (وبخلاف ما إذا دفع نخيلا، أو أصولا رطبة على أن يقوم عليها) ش: معناه: حتى تذهب أصولها، وينقطع بناها م: (أو أطلق في الرطبة) ش: يعني لم يقل حتى تذهب أصولها م: (تفسد المعاملة؛ لأنه ليس لذلك نهاية معلومة؛ لأنها) ش: أي الرطبة م: (تنمو) ش: أي تزيد من النمو وهو الزيادة م: (ما تركت في الأرض) ش: أي ما دامت تترك في الأرض م: (فجهلت المدة) ش: فلا يجوز.
وفي " شرح الكافي ": ولو دفع إليه أصول رطبة على أن يقوم عليها ويسقيها حتى تذهب أصولها وينقطع نبتها، فما خرج من ذلك فهو بينهما نصفان فهذا فاسد. وكذلك النخل، والشجر، لأنه ليس لزمان انقطاعه وذهاب أصوله وقتا معلوما، فكانت المدة مجهولة. وأما إذا دفع النخيل، أو أصول الرطبة معاملة على أن يقوم عليها مطلقا ولم يقل إلى أن تذهب أصولها وينقطع بناؤها، وذلك جائز، وإن لم يبين المدة استحسانا إذا كانت الرطبة جزؤه معلومة فيقع على أول جزئه، وفي النخيل يقع على أول ثمرة تخرج، وإذا لم تكن للرطبة جزءة معلومة فلا يجوز بلا بيان.
واعلم أن المصنف قد ترك في كلامه قيدين لا غنى عنهما فكان إيجازا وقد بيناها الآن.
[تسمية الجزء مشاعا في المساقاة]
م: (قال: ويشترط تسمية الجزء مشاعا) ش: يتعلق بقوله: وسمى جزءا من الثمرة مشاعا م: (لما بينا في المزارعة) ش: أشار به إلى قوله: ولا تصح المزارعة إلى قوله: إلا أن يكون الخارج بينهما مشاعا تحقيقا لمعنى الشركة.
م: (إذ شرط جزء معين يقطع الشركة) ش: أي لأن اشتراط جزء معين من الخارج لأحدهما أو لغيرهما يقطع الشركة فتفسد المعاملة.
م: (قال: فإن سميا في المعاملة وقتا يعلم أنه لا يخرج الثمر فيها) ش: أي في الوقت بتأويل المدة م: (فسدت المعاملة لفوات المقصود وهو الشركة في الخارج) ش:(11/514)
قال: ولو سميا مدة قد يبلغ الثمر فيها وقد يتأخر عنها جازت، لأنا لا نتيقن بفوات المقصود.
ثم لو خرج في الوقت المسمى فهو على الشركة لصحة العقد. قال: وإن تأخر فللعامل أجر المثل لفساد العقد؛ لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة، فصار كما إذا علم ذلك في الابتداء. بخلاف ما إذا لم يخرج أصلا؛ لأن الذهاب بآفة فلا يتبين فساد المدة، فبقي العقد صحيحا، ولا شيء لكل واحد منهما على صاحبه.
قال: وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: لا تجوز إلا في الكرم والنخل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قالت الثلاثة، وهذه من مسائل الأصل، ذكره تفريعا على مسألة القدوري م: (قال: ولو سميا مدة قد يبلغ الثمر فيها وقد يتأخر عنها) ش: أي عن المدة المذكورة م: (جازت) ش: أي المعاملة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد في رواية م: (لأنا لا نتيقن بفوات المقصود) ش: ولا يعتبر توهم عدم الخروج، لأن ذلك التوهم متحقق في كل معاملة، ومزارعة بأن يسطلم الزرع آفة. وقال الشافعي في وجه، وأحمد في رواية: لا تصح، لأنها عقد على معدوم.
م: (قال: ثم لو خرج في الوقت المسمى فهو على الشركة لصحة العقد. قال: وإن تأخر فللعامل أجر المثل) ش: وبه قال الشافعي في الأصح، وأحمد في الأصح أيضا. وقال الشافعي في وجه، وأحمد في رواية: لا يجب شيء؛ لأنه رضي بالعمل بغير عوض، فصار كالمتبرع وهو اختيار المزني م: (لفساد العقد؛ لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة، فصار كما إذا علم ذلك في الابتداء) ش: يعني لو كان ذلك معلوما عند ابتداء العقد لما كان العقد فاسدا، فكذا إذا تبين في الانتهاء.
م: (بخلاف ما إذا لم يخرج أصلا؛ لأن الذهاب بآفة) ش: يعني ما حدث من الآفة م: (فلا يتبين فساد المدة) ش: لعدم تبين خروج الثمار في المدة المذكورة م: (فبقي العقد صحيحا) ش: وموجبه الشركة في الخارج ولا خارج م: (ولا شيء لكل واحد منهما على صاحبه) ش: لعدم الخارج.
[ماتجوز فيه المساقاة وما لا تجوز]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: لا تجوز إلا في الكرم والنخل) ش: قال في القديم: وتجوز في جميع الأشجار، والثمر، وبه قال مالك، وأحمد، والثوري، وأبو ثور، والأوزاعي، وهو قولهما أيضا، ولا يجوز الشافعي في الرطاب قولا واحدا. وقال داود: لا يجوز إلا في النخيل خاصة، لأن الخبر إنما ورد في النخيل خاصة. وعن مالك أنه تجوز المساقاة في المعاني، والبطيخ، والباذنجان كمذهبنا.
وفي " الجواهر ": أركان المساقاة أربعة: الأول: متعلق العقد، وهي الأشجار، وسائر الأصول المشتملة على شروط، وهي أن تكون مما يجيء ثمرته ولا تخلف، واحترزنا به عن الموز، والقصب، والقرظ، والبقل، لأنه بطن بعد بطن، وجزء بعد جزء، وأن يكون مما لا(11/515)
لأن جوازها بالأثر وقد خصهما، وهو حديث خيبر. ولنا: أن الجواز للحاجة وقد عمت، وأثر خيبر لا يخصهما؛ لأن أهلها يعملون في الأشجار والرطاب أيضا. ولو كان كما زعم فالأصل في النصوص أن تكون معلولة سيما على أصله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يحل بيعها، فكل ما حل بيعه فلا تجوز المساقاة فيه، فإذا حل بيع الثمار، أو غيرها أو المعاني لم تجز المساقاة عليها، وإن عجز عنها، وقال سحنون: يجوز مساقاة ما جاز بيعه، وهي إجارة بنصفه وأن يكون ظاهرا، فلا يجوز المساقاة عليه قبل ظهوره في الأرض.
الركن الثاني: أن يكون المشروط على الاستفهام معلوما بالحرية لا بالتقدير.
والركن الثالث: العمل، وشرطه أن يقتصر على عمل المساقاة، ولا يشترط عليه عمل آخر ليس منها.
والركن الرابع: الصيغة كقوله: ساقيتك على ذا النخيل بالنصف، أو غيره. واختلف إذا عقد بلفظ الإجارة، وأبطله ابن قاسم، وصححه سحنون.
م: (لأن جوازها) ش: أي جواز المساقاة م: (بالأثر، وقد خصهما) ش: أي وقد خص الأثر النخل والكرم م: (وهو حديث خيبر) ش: وقد مر بيانه في المنازعة.
م: (ولنا: أن الجواز للحاجة وقد عمت) ش: أي الحاجة في الجميع م: (وأثر خيبر لا يخصهما) ش: جواب على ما قال الشافعي خصهما، أي حديث خيبر لا يخص النخيل والكرم م: (لأن أهلها يعملون في الأشجار والرطاب أيضا) ش: لأنه «روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها زرع أو ثمر» ولفظ الثمر عام في كل ثمر؛ ولأنه جاز في لفظ بعد الإخبار «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من النخل، والشجر» ولفظ الشجر عام.
وقال ابن حزم: خالف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحديث قد كان بخيبر بلا شك بقل، وكلما نبت في أرض الشرب من الرمان، والموز، والقصب، والبقول فعاملهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نصف ما يخرج منها.
م: (ولو كان كما زعم) ش: أي: ولو كان الأثر يخص النخيل، والكرم كما زعم الشافعي م: (فالأصل في النصوص أن تكون معلولة) ش: فكان ينبغي للشافعي أن يعلله بعلة الحاجة مع وجودها م: (سيما على أصله) ش: أي خصوصا على أصل الشافعي، فإن بابه عنده أوسع، لأنه برئ التعليل بالعلة القاصرة كالثمينة في باب الربا ونحن لا نرى التعليل إلا بعلة متعدية فيكون التعليل على مذهبه أعم عندنا، وإن كان الأصل في النصوص التعليل، ولكن لا بد من إقامة الدليل على أن المنصوص معلول في الحال، وموضعه أصول الفقه.(11/516)
قال: وليس لصاحب الكرم أن يخرج العامل من غير عذر لأنه لا ضرر عليه في الوفاء بالعقد.
قال: وكذا ليس للعامل أن يترك العمل لغير عذر، بخلاف المزارعة بالإضافة إلى صاحب البذر على ما قدمناه.
قال: فإن دفع نخلا فيه ثمرة مساقاة، والثمر يزيد بالعمل جاز، وإن كانت قد انتهت لم يجز، وكذا على هذا الفصيل إذا دفع الزرع وهو بقل جاز، ولو استحصد وأدرك لم يجز؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعلم أن لفظة سيما كلمة تخصيص، والمعنى أخص المذكور بالذكر نحو يقول: أكرمني الناس، ولا سيما زيد، وهي مركبة من سي وما، وسي بكسر السين بمعنى المثل، والتقدير في المثال المذكور، ولا سي، أي ولا مثله فما موصوفة على تقدير الجر، وموصوفة على تقدير الرفع، أي لا سي الذي هو زيد، ويجوز فيه النصب أيضا على أن يكن لا سيما بمعنى إلا، وقد يزاد على أوله كلمة لا، فيقول: لا سيما فقد تحقق الياء، والتشديد أكثر فافهم.
م: (قال: وليس لصاحب الكرم أن يخرج العامل من غير عذر) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري م: (لأنه لا ضرر عليه في الوفاء بالعقد) ش: لأن العقد لازم لا يصح فسخه إلا بعذر، والعذر لصاحب الكرم أن يكون عليه دين لا وفاء عنده إلا ببيع الكرم، أو سرقة العامل.
م: (قال: وكذا ليس للعامل أن يترك العمل بغير عذر) ش: لما ذكرنا إلا أن يكون له عذر بأن عرض مرض يقعده عن العمل، لا يقال: ينبغي أن يأمر بأن يستأجر رجلا ليقيم على عمله، لأن في ذلك ضررا به لم يلتزمه بالمعاملة.
م: (بخلاف المزارعة بالإضافة إلى صاحب البذر) ش: يعني يجوز في المزارعة أن يمتنع صاحب البذر من العمل، ولا يجبر عليه، لأنه يلحقه الضرر في الحال بإلقاء بذره في الأرض، فلم يكن لازمة من جهته لما قدمنا، وفي بعض النسخ م: (على ما قدمناه) ش: وفي بعضها: على ما بينا، وأشار به إلى ما ذكره في المزارعة بقوله: وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه. إلخ. وأما هاهنا فرب الكرم في المضي على العقد لا يحتاج إلى إتلاف شيء من ماله فيلزمه العقد من الجانبين.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن دفع نخلا فيه ثمرة مساقاة، والثمر يزيد بالعمل جاز) ش: أي: والحال أن الثمرة تزيد بالعمل جاز دفعه، وبه قال مالك، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وأبو ثور. وقال الشافعي في قول، وأحمد في رواية: لا يجوز م: (وإن كانت قد انتهت لم يجز) ش: أي وإن كانت الثمرة قد انتهت لا يجوز الدفع.
م: (وكذا على هذا التفصيل إذا دفع الزرع وهو بقل جاز) ش: أي والحال أن الزرع بقل جاز الدفع م: (ولو استحصد وأدرك لم يجز) ش: أي وإن قرب حصاده لأجل إدراكه لم يجز.(11/517)
لأن العامل إنما يستحق بالعمل. ولا أثر العمل بعد التناهي والإدراك، فلو جوزناه لكان استحقاقا بغير عمل، ولم يرد به الشرع بخلاف ما قبل ذلك لتحقق الحاجة إلى العمل.
قال: وإذا فسدت المساقاة فللعامل أجر مثله لأنه في معنى الإجارة الفاسدة، وصار كالزارعة إذا فسدت.
قال: وتبطل المساقاة بالموت لأنها في معنى الإجارة وقد بيناه فيها، فإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: وإن أدرك واستحصد يعني استحق الحصاد كان أصوب على ما لا يخفى م: (لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد التناهي والإدراك، فلو جوزناه لكان استحقاقا بغير عمل، ولم يرد به الشرع) ش: لأنها جوزت بالأثر فيما يكون أجر العامل بعض الخارج، ولم يوجد عمله، م: (بخلاف ما قبل ذلك) ش: أي ما قبل التناهي م: (لتحقق الحاجة إلى العمل) ش:.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجوز، لأنه جعله أجر عمله بعضا موجودا، وبعضا يخرج من عمله، وهذا يمنع الجواز كما لو دفع نخلا قد طلعت على أن يقوم عليها بالنصف، فيكون النخل مع الثمر بينهما نصفين، وكما لو دفع أرضا مزارعة على أن الخارج من الأرض بينهما نصفان. وكما لو شرطا مع بعض الخارج للعامل ثوبا أو دراهم.
قلت: هذا إذا كان ما شرط من الموجود يصير أجرة عمله مقصودا لا تبعا لما يخرج من عمله، أما إذا كان ما يستحقه تبعا لما يزداد من عمله، فإن كان لا يتميز الموجود عما يزداد من عمله فإنه يجوز المعاملة، لأنه يجوز أن ينسأ لشيء تبعا، وإن لم يثبت مقصودا، بخلاف تلك المسائل؛ لأن هناك إنما يستحق الموجود مع ما يخرج من عمله مقصودا لا تبعا، لأن كل واحد منهما يمتاز عن الآخر.
[فساد المساقاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا فسدت المساقاة فللعامل أجر مثله؛ لأنه في معنى الإجارة الفاسدة وصار كالمزارعة إذا فسدت) ش: المساقاة حيث يجب أجر المثل للعامل.
[تبطل المساقاة بالموت]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وتبطل المساقاة بالموت لأنها) ش: أي لأن عقد المساقاة م: (في معنى الإجارة وقد بيناه فيها) ش: أي في الإجارة م: (فإن مات رب الأرض والخارج بسر) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري وهو من مسائل الحال، أي والأصل أن الخارج بسر، وهو الذي يكون ولم ينضج م: (فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانا) ش: وفي القياس تنتقض المعاملة بينهما، وكان البسر بين ورثة صاحب الأرض وبين العامل نصفين إن شرطا إنصافا، لأن صاحب الأرض استأجر العامل ببعض الخارج، والإجارة تنتقض بموت أحد المتعاقدين.(11/518)
فيبقى العقد دفعا للضرر عنه ولا ضرر فيه على الآخر.
قال: ولو التزم العامل الضرر يتخير ورثة الآخر بين أن يقتسموا البسر على الشرط، وبين أن يعطوه قيمة نصيبه من البسر، وبين أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر، لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم، وقد بينا نظيره في المزارعة.
ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كره رب الأرض، لأن فيه النظر من الجانبين.
قال: فإن أرادوا أن يصرموه بسرا كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة التي بيناها. وإن ماتا جميعا فالخيار لورثة العامل، لقيامهم مقامه، وهذا خلاف في حق مالي وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك، لا أن يكون وارثه في الخيار. قال: فإن أبى ورثة العامل أن يقيموا عليه كان الخيار في ذلك لورثة رب الأرض على ما وصفنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله م: (فيبقى العقد دفعا للضرر عنه) ش: أي عن العامل م: (ولا ضرر فيه على الآخر) ش: وهو وارث الميت، وكان حق التركيب أن يقول على الآخرين وهم الورثة
[التزم العامل الضرر في المساقاة]
م: (قال: ولو التزم العامل الضرر) ش: بأن قال: إذا أخذ نصف البسر فله ذلك، لأن بقاء العقد لدفع الضرر عنه، فإذا رضي انتقض العقد بموت رب الأرض، إلا أنه لا يملك إلحاق الضرر بالورثة، فحينئذ م: (يتخير ورثة الآخر بين أن يقتسموا البسر على الشرط) ش: الذي كان بين الميت والعامل م: (وبين أن يعطوه) ش: أي العامل م: (قيمة نصيبه من البسر، وبين أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر؛ لأنه ليس له) ش: أي لأن الشأن ليس للعامل م: (إلحاق الضرر بهم) ش: أي بالورثة م: (وقد بينا نظيره في المزارعة) ش: أي نظير الحكم في باب المزارعة عند قوله: وإن أراد المزارع أن يأخذه بقلا قيل لصاحب الأرض اقلع الزرع.
[موت العامل في المساقاة]
م: (قال: ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه) ش: أي عمل المساقاة كما كان م: (وإن كره رب الأرض) ش: هذا واصل بما قبله، وليست إن للشرط م: (لأن فيه النظر من الجانبين) ش: لأن في القيام على العمل النظر من جانب الأرض وجانب ورثة العامل، لأن فيه تحصيل مقصودهم وتوفر حقوقهم.
م: (قال: فإن أرادوا أن يصرموه بسرا) ش: أي أن يفعلوا الخارج حال كونه بسرا م: (كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة التي بيناها) ش: يعني آنفا م: (قال: وإن ماتا جميعا) ش: يعني صاحب الأرض والعامل م: (فالخيار لورثة العامل لقيامهم مقامه) ش: أي مقام العامل م: (وهذا خلاف في حق مالي) ش: هذا جواب سؤال مقدر، وهو أن يقال خيار الشرط لا يورث عندكم، لأنه عرض لا يقبل النقل، فكيف يثبت هذا الخيار لهم؟ فقال هذا ليس من باب توريث الخيار، بل هذا خلاف في حق مالي مستحق عليه م: (وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك، لا أن يكون وارثه في الخيار) ش: أي الحق المالي وهو ترك الثمار. . إلى آخره م: (قال: فإن أبى ورثة العامل أن يقوموا عليه كان الخيار في ذلك إلى ورثة رب الأرض على ما وصفنا) ش: أي آنفا.(11/519)
قال: وإذا انقضت مدة المعاملة والخارج بسر أخضر، فهذا والأول سواء، وللعامل أن يقوم عليها إلى أن يدرك، لكن بغير أجر، لأن الشجر لا يجوز استئجاره بخلاف المزارعة في هذا؛ لأن الأرض يجوز استئجارها. وكذلك العمل كله على العامل هاهنا. وفي المزارعة في هذا عليهما؛ لأنه لما وجب أجر مثل الأرض بعد انتهاء المدة على العامل لا يستحق عليه العمل، وهاهنا لا أجر فجاز أن يستحق العمل كما يستحق قبل انتهائها.
قال: وتفسخ بالأعذار لما بينا في الإجارات، وقد بينا وجوه العذر فيها، ومن جملتها أن يكون العامل سارقا يخاف عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[انقضاء المدة في المساقاة]
م: (قال: وإذا انقضت مدة المعاملة والخارج بسر أخضر، فهذا والأول سواء) ش: أي انقضاء المدة وموت العاقدين سواء في الحكم المذكور م: (وللعامل أن يقوم عليها) ش: أي على المعاملة م: (إلى أن يدرك) ش: أي البسر م: (لكن بغير أجر) ش: أي أجر الشجر على العامل م: (لأن الشجر لا يجوز استئجاره) ش: حتى لو اشترى ثمارا على رءوس الأشجار ثم استأجر الأشجار إلى وقت الإدراك لا يجوز وقد مر في البيوع.
م: (بخلاف المزارعة في هذا) ش: أي فيما إذا انقضت المدة والزرع بقل م: (لأن الأرض يجوز استئجارها، وكذلك العمل كله على العامل هاهنا) ش: أي في المعاملة م: (وفي المزارعة في هذا عليهما) ش: أي في انقضاء المدة والزرع يقل على رب الأرض والعامل جميعا م: (لأنه لما وجب أجر مثل الأرض بعد انتهاء المدة على العامل لا يستحق العمل عليه) ش: تقديره أن العمل في الزرع كان عليهما بقدر ملكهما، لأن رب الأرض لما استوجب أجر مثل الأرض على العامل لم يستوجب عليه العمل في نصيبه بعد انقضاء المدة.
م: (وهاهنا) ش: يعني في صورة المعاملة م: (لا أجر) ش: يعني لا يستوجب صاحب النخل بعد انقضاء المدة أجر مثل النخل على العامل كما كان لا يستوجب قبل انقضاء المدة لا يجوز إجارة النخيل إلى أن يدرك الثمر، فكان كل العمل على العامل إلى حين الإدراك، وأشار إليه بقوله: م: (فجاز أن يستحق العمل كما يستحق قبل انتهائها) ش:، أي قبل انتهاء المدة ويستحق على صيغة المجهول في الموضعين. والحاصل أن في هذه الصورة لم يتغير على العامل الأمر، وهو الانتفاع بالأشجار مجانا، فيكون العمل كله عليه، بخلاف فصل المزارع لتغير الأمر عليه بوجوب أجر المثل، فافهم.
[فسخ المساقاة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وتفسخ بالأعذار) ش: وهي ثلاثة ذكرت في المزارعة م: (لما بينا في الإجارات) ش: أراد قوله ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها، فصار جملة الأعذار في الإجارة كالعيب قبل القبض. . الخ م: (وقد بينا وجوه العذر فيها) ش: أي في الإجارات م: (ومن جملتها) ش: أي ومن جملة الأعذار م: (أن يكون العامل سارقا يخاف عليه(11/520)
سرقة السعف والثمر قبل الإدراك لأنه يلزم صاحب الأرض ضررا ظلم يلتزمه فيفسخ به،
ومنها مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل؛ لأن في إلزامه استئجار الأجراء زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه، فيجعل ذلك عذرا.
ولو أراد العامل ترك ذلك العمل هل يكون عذرا؟ فيه روايتان. وتأويل إحداهما أن يشترط العمل بيده فيكون عذرا من جهته.
قال: ومن دفع أرضا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سرقة السعف) ش: بفتح السين والعين المهملتين وفي آخره فاء، وهو جريد النخل يتخذ منه الزنبيل والمراوح، قاله الكاكي. وقال الليث: أكثر ما يقال له السعف إذا يبس، وإذا كانت السعفة رطبة فهي شطبة، فيقال سعفة وسعف وسعفات. وقال الأزهري: يقال للجريد بعد قسمه سعف أيضا، والصحيح أن الجريد الأغصان، والورق السعف م: (والثمر قبل الإدراك) ش: قيد به لأنه بعد الإدراك يقسم، فلا يخاف من السرقة م: (لأنه يلزم صاحب الأرض ضرر لم يلتزمه فيفسخ به) ش: أي بالضرر، أي بسببه.
[مرض العامل في المساقاة]
م: (ومنها) ش: أي ومن الأعذار م: (مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل لأن في إلزامه استئجار الأجراء زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه، فيجعل ذلك عذرا) ش: لأن في إلزام العامل أن يستأجر زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه، فيجعل عذرا. الحاصل: أن هذا كالجواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لم لا يؤمر بالاستئجار للعمل كالمكاري إذا مرض قيل له ابعث الدواب على يد غلامك أو تلميذك.
فأجاب بأن في إلزامه. . إلى آخره، وأشار بقوله: ولم يلتزمه أن استئجار الأجر ليس بمتعارف فلا يكون مستلزما، بخلاف بعث الدواب على يد العبد أو التلميذ متعارف.
م: (ولو أراد العامل ترك ذلك العمل هل يكون عذرا؟ فيه روايتان) ش: ذكره تفريعا على مسألة القدوري، أي في كون ترك العمل عذرا روايتان، في إحداهما لا يكون عذرا ويجبر على ذلك، لأن العقد لازم لا يفسخ إلا من عذر، وهو ما يلحقه به من ضرر، وهاهنا ليس كذلك، وفي الأخرى عذر.
م: (وتأويل إحداهما) ش: أي إحدى الروايتين م: (أن يشترط العمل بيده فيكون عذرا من جهته) ش: يعني إذا اشترط عليه العمل بنفسه وتركه كان ذلك عذرا في فسخ المعاملة، أما إذا دفع إليه النخيل على أن يعمل فيها بنفسه وأجرته فعليه أن يستخلف غيره فلا يكون تركه العمل عذرا في فسخ المعاملة.
م: (قال: ومن دفع أرضا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض(11/521)
والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك لاشتراط الشركة فيما كان حاصلا قبل الشركة لا بعمله.
قال: وجميع الثمر والغرس لرب الأرض، وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل، لأنه في معنى قفيز الطحان، إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمله وهو نصف البستان فيفسد وتعذر رد الغراس لاتصالها بالأرض فيجب قيمتها وأجر مثله؛ لأنه لا يدخل في قيمة الغراس لتقومها بنفسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك) ش: أي هذا العقد، وبه قالت الثلاثة، وهذا من مسائل الأصل، ذكره تفريعا على مسألة القدوري، م: (لاشتراط الشركة فيما كان حاصلا قبل الشركة) ش: وهو الأرض م: (لا بعمله) ش: أي لا بعمل العامل، فصار كما لو دفع النخل والشجر ليكون النخل والثمر بينهما، وكما إذا دفع الأرض ليزرع ليكون الزرع والأرض بينهما.
م: (قال: وجميع الثمر والغرس لرب الأرض، وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل، لأنه في معنى قفيز الطحان، إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمله وهو نصف البستان فيفسد) ش: كما لو استأجر صباغا لصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ وهو فاسد، لأنه في معنى قفيز الطحان الذي نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه م: (وقد تعذر رد الغراس) ش: بكسر الغين المعجمة وهو فسلان النخل م: (لاتصالها) ش: أي لاتصال الغراس م: (بالأرض فيجب قيمتها) ش: أي قيمة الغراس. وقال الأترازي: إن الضمير المؤنث راجع إليه على تأويل الأغراس.
قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل، لأن الغراس جمع غرس، قال في العباب والغرس الشجر الذي يغرس، والجمع على أغراس وغراس، فحينئذ تأنيث الضمير في مستحقه، فكأنه توهم أنه مفرد، فكذلك تكلف ما ذكره.
م: (وأجر مثله) ش: أي يجب أجر المثل الغارس م: (لأنه) ش: أي لأن الأجر م: (لا يدخل في قيمة الغراس لتقومها بنفسها) ش: أي بدون العمل، والتحقيق فيه إنما يلزم صاحب الأرض قيمة الغرس، لأن الغراس آلة ليجعل فيها الأرض بستانا، فإذا فسد العقد بقيت الآلة متصلة بملك صاحب الأرض وهي متقومة، فيلزمه قيمتها لما تعذر ردها للاتصال بأرضه وهو عين تقومه بنفسه، فلا يدخل أجر العمل في قيمته، فيلزمه مع قيمة الأشجار أجر مثل عمله، لأنه أسمى عرضا فلا يسلم له ذلك، فيستوجب أجر المثل.(11/522)
وفي تخريجها طريق آخر بيناه في " كفاية المنتهي "، وهذا أصحهما، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي تخريجها) ش: أي وفي تخريج هذه المسألة م: (طريق آخر بيناه في " كفاية المنتهي ") ش: وهو شراء رب الأرض نصف الغراس من العامل بنصف أرضه، أو شرائه جميع الغراس بنصف أرضه ونصف الخارج، فكان عدم جواز هذا العقد بجهالة الغراس نصفها أو جميعها لكونها معدومة عند العقد لا لكونها في معنى قفيز الطحان م: (وهذا أصحهما) ش: أي المذكور في " الهداية " أصح الطريقين، لأنه نظير من استأجر صباغا ليصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ كما ذكرنا، فيكون في معنى قفيز الطحان، والله أعلم.(11/523)
كتاب الذبائح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الذبائح]
[تعريف الذكاة]
م: (كتاب الذبائح) ش: قال الشراح كلهم: المناسبة بين المزارعة والذبائح لكونها إتلافا في الحال للانتفاع في المال، فإن المزارعة إنما تكون بإتلاف الحب في الأرض بما يثبت فيها، والذبائح إتلاف الحيوان بإزهاق روحه في الحال للانتفاع بلحمه بعد ذلك.
قلت: كان ينبغي أن يذكر المناسبة بين الذبائح والمساقاة لأنها مذكورة عقب المساقاة دون المزارعة، وكل من المزارعة والمساقاة مستندة بأداتها مخصوصة بأحكامها، ولهذا صرح كل منهما بالكتاب، ولو كانت المساقاة تابعة للمزارعة من كل وجه.
يقال بأن المساقاة على ما لا يخفى، ولكن يمكن أن يقال: إن وجه المناسبة بين المساقاة والذبائح من حيث التضاد، فإن المساقاة إحياء النخل والشجر، وفي الذبائح الإماتة. ولو قلنا: إن المساقاة تابعة للمزارعة فالمناسبة بينهما ما ذكرنا أيضا لأن في المزارعة إحياء الأرض وهذا مما سنح به خاطري، فعلى المراد أن يأتي بوجه أحسن منه وإلا فليرعو عن القلب في عوض الغير ظنا منه أنه على شيء.
ثم الذبائح جمع ذبيحة وهي اسم لما ذبح وكذلك الذبح بكسر الذال وسكون الباء. قال الله سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فعل بمعنى مفعول، والذبيح المذبوح، والأنثى ذبيحة، وإنما جاءت بالهاء لغلبة الاسم عليها، وأصل الذبح الشق. قال: كان بين فكها والفك فأرة مسك ذبحت في سك، أي فبقيت ولكنه يستعمل في قطع الأوداج.
والذكاة الذبح أيضا، سمي به لأنه يجوز أن يكون في اللغة مأخوذا من أحد الأمرين، إما من الحدة يقال سراج ذكي إذا كان - نيرا غاية - لأنه حينئذ في غاية الحدة، ويقال فلان ذكي إذا كان سريع الفهم لحدة خاطره، ويقال: مسك ذكي إذا كان يقدح غاية وإما من الطهارة، «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دباغ الأديم ذكاته» ، ويجوز إطلاقه على الذبح لكلا المعنيين لما فيه من سرعة الموت وطهارة المذبوح عن الدم المسفوح الذي هو نجس.
ثم الذبح مباح شرعا وغير محظور عقلا، وقالت الأولوية والهيضانية الضلال من(11/524)
قال: الذكاة شرط حل الذبيحة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المجوس: محظور عقلا، فلا يرون إباحة ذبح الحيوان، قالوا: فيه إذهاب الروح الذي هو من أجزاء [......] ، وذهب العراقيون إلى أن الذبح محظور عقلا، ولكن الشرع أحله لأن فيه إضرارا بالحيوان، وقال الشيخ أبو الحسن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": الذبائح محظورة بالعقل لأن الأشياء في الأصل عندنا على الإباحة إلا ما كان فيه إدخال ضرر في الحيوان.
وقال شمس الأئمة السرخسي: هذا عندي باطل، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتناول اللحم قبل مبعثه، ولا يظن به أنه كان يأكل ذبائح المشركين لأنهم كانوا يذبحون بأسماء الأصنام، فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه وما كان يفعل ما كان محظورا عقلا كالكذب والظلم والسفه.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون ما كان يأكل إلا ذبائح أهل الكتاب، وليس الذبح كالكذب والظلم لأن المحظور العقلي ضربان: ما يقطع بتحريمه فلا يرد الشرع بإباحته إلا عند الضرورة، وما فيه نوع تجويز من حيث مقدار منفعته فيجوز أن يرد الشرع بإباحته، وتقدم عليه قبله نظرا إلى نفعه كحجامة الأطفال وتداويه بما فيه ألم.
قلت: كل من الكلامين لا يخلو عن نظر. أما الأول فلأنه يحتاج إلى دليل على أنه كان يذبح بنفسه ويصطاد بنفسه قبل البعثة، وأما الثاني فلذلك يحتاج إلى دليل فلأنه يحتاج إلى دليل على أنه يأكل من ذبائح أهل الكتاب قبل البعثة، فلم لا يجوز أنه لم يكن أكل شيئا من الذبيحة إلا بعد البعثة؟
[الذكاة شرط حل الذبيحة]
م: (قال: الذكاة شرط حل الذبيحة) ش: قال الأترازي: وهذا وقع خلاف وضع الكتاب لأنه إذا ذكر لفظا قال في أول المسألة كان يشير به إلى ما ذكره في " الجامع الصغير " أو " مختصر القدوري "، وهنا لم تقع الإشارة إلى أحدهما ولهذا لم يذكره في البداية، وكان ينبغي أن لا يورد لفظ قال، أو يقول قال العبد الضعيف مشيرا به إلى نفسه.
قلت: هذا تطويل بلا فائدة لأنه ذكر في مواضع كثيرة من الكتاب لفظة قال بإضمار الفاعل وأراد به نفسه، فهذا أيضا مثله ولا يلزم تعيين الفاعل.
ألا ترى أنه عند إسناد القول إلى القدوري أو محمد بن الحسن لم يصرح بفاعله، فكذلك عند إسناده إلى نفسه، ولا يخفى هذا إلا على من لم يميز مسائل القدوري من مسائل " الجامع الصغير "، ومن لم يميز بينهما لا يستحق الخوض في الهداية م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] .(11/525)
ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر، وكما يثبت به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره فإنها تنبئ عنها، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الأرض يبسها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بعد قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثنى من الحرمة المذكى فيكون حلالا.
والمترتب على المشتق معلول الصفة المشتق منها، لكن لما كان الحل ثابتا بالشرع جعلت شرطا م: (ولأن بها) ش: أي بالذكاة، وذكر الضمير باعتبار الذبح م: (يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر) ش: ولا يلزم الجراد والسمك لأن حلهما بلا ذبح ثبت بالنص، وفي السنة المشهورة فخرجا من عموم الآية م: (وكما يثبت به) ش: أي بالذكاة على تأويل الذبح م: (الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره) ش: أي غير المأكول إلا الآدمي والخنزير، فإن الذكاة لا تلحقهما.
قال الفقيه أبو الليث وذكر عن الكرخي أنه قال: إذا صلى ومعه شيء من لحم السباع وقد ذبح جازت صلاته، ولو وقع في الماء لم ينجسه. وكان الفقيه أبو جعفر يقول: هو نجس لا يجوز الصلاة معه ولو وقع في الماء أفسده، وهو موافق لقول نصير وبه نأخذ. هكذا ذكره في النوازل في كتاب الصلاة.
م: (فإنها تنبئ عنها) ش: أي فإن الذكاة تنبئ عن الطهارة م: (ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذكاة الأرض يبسها» ش: أي وكون الذكاة عبارة عن الطهارة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الأرض يبسها» أي طهارة الأرض عن رطوبة النجاسة يبسها بالشمس أو الهواء، وهذا ليس بحديث. قال في " الفائق ": هو من كلام محمد بن علي وهو محمد بن الحنفية لا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن أبي جعفر محمد بن علي قال: ذكاة الأرض يبسها، وأخرج عنه وعن أبي قلابة قال: إذا جفت الأرض فقد ذكيت.
وروي عن عبد الرزاق في " مصنفه " وقال: أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: جفوف الأرض طهورها. والعجب من صاحب النهاية وشيخه الكاكي قبله كيف لم يتعرضا لهذا وسكتا عليه جزما منهما أنه حديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآفة هذه الأشياء التقليد!
وقال في " القاموس " معناه: إذا يبست الأرض من رطوبة النجاسة فذاك يطهرها كما أن الذكاة تحل الذبيحة، وثم قال: الذكاة الحياة، من ذكت النار إذا حيت واشتعلت وكأن الأرض(11/526)
وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين، واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن. والثاني كالبدل عن الأول؛ لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأول، وهذا آية البدلية؛ وهذا لأن الأول أعمل في إخراج الدم، والثاني أقصر فيه. فاكتفى به عند العجز عن الأول، إذ التكليف بحسب الوسع
ومن شرطه: أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد، إما اعتقادا كالمسلم، أو دعوى كالكتابي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا نجست ماتت وإذا طهرت حيت م: (وهي) ش: أي الذكاة على نوعين، أحدهما ذكاة م: (اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين) ش: أراد أن ذكاة الاختيار وجرح مقدور، وهو قطع الأوداج في محل معلوم وهو ما بين اللبة واللحيين. واللبة بفتح اللام وتشديد الباء الموحدة، وفسرها الشراح الرقبة وليس كذلك، إنما هو طرف المصدر من ناحية الصدر.
قال في " العباب ": اللبة النحر، والصدر ليس بموضع النحر، واللحي بفتح اللام، وسكون الحاء وهو منبت اللحية من الإنسان وغيره، والثاني ذكاة م: (واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن) ش: وعند بعضهم جرح مدى، في أي محل كان، والأصل في باب الذكاة هو الأول.
م: (والثاني كالبدل من الأول لأنه لا يصار إليه) ش: أي إلى الثاني م: (إلا عند العجز عن الأول) ش: أي عن الذكاة الاختيارية، وإنما قال: كالبدل ولم يقل بدل لأن الأبدال عرفت بالنص ولم يرد فيه نص وقد وجدت فيه أمارة البدلية، وقال: كالبدل م: (وهذا آية البدلية) ش: أي المصير إلى الثاني عند العجز عن الأول علامة البدلية.
م: (وهذا) ش: أي كون الأول مبدلا عنه، والثاني كالبدل م: (لأن الأول أعمل في إخراج الدم) ش: أي لأن الجرح فيما بين اللبة واللحيين أكثر عملا في إخراج دم المسفوح النجس. م: (والثاني أقصر فيه) ش: أي الخروج في أي موضع كان أكثر من البدن اقتصر في إخراج الدم. م: (فاكتفي به) ش: أي إذا كان كذلك اكتفي بالثاني م: (عند العجز عن الأول) ش: أي عن الجرح فيما بين اللبة واللحيين.
م: (إذ التكليف بحسب الوسع) ش: كلمة " إذ " للتعليل، أي لأن التكليف بحسب وسع المكلف {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
[شروط الذابح]
م: (ومن شرطه) ش: أي شرط الذبح م: (أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد، إما اعتقادا كالمسلم) ش: أي إما من حيث الاعتقاد م: (أو دعوى كالكتابي) ش: أي أو من حيث الدعوى كالكتابي، فإنه يدعي التوحيد بخلاف المجوسي فإنه ليس له ملة التوحيد ولا دعوى ولا اعتقاد، إلا أنه يقول لصانعين أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر، فلا تحل ذبيحته. ولو قال صاحب ملة التوحيد إما الاعتقاد أو الدعوى كالمسلم(11/527)
وأن يكون حلالا خارج الحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قال: وذبيحة المسلم والكتابي حلال لما تلونا، ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإما دعوى كالكتابي لكان أحسن.
م: (وأن يكون حلالا خارج الحرم) ش: أي ومن شرطه أن يكون الذابح حلالا غير محرم هذا الشرط في الصيد. وأن لا يكون في الحرم، وأن المحرم لا تحل ذبيحته سواء كان في الحرم أو خارج الحرم. والحلال لا تحل ذبيحته في الحرم وله شروط غير ما ذكر، فكذلك قال: ومن شرطه ثمن البعضية. وفي " الغاية " فأما شرط وقوع الذكاة ذكاة أربعة أشياء: آلة جارحة بالإجماع، وأن يكون الذابح ممن له ملة التوحيد على ما بيناه. والثالث أن يكون المحل من المحلات، إما من كل وجه كمأكول اللحم أو من وجه عندنا بأن كان مما يباح الانتفاع بجلده، إن كان مما لا يحل أكله، والرابع التسمية وهي شرط عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الأجناس ": يعتبر في حصول الذكاة أربع شرائط: أحدها صفة في الفاعل بأن يكون معتقدا بكتاب نزل في دين مقر فيه. والثاني صفة في الفعل وهو وجود ذكر الله سبحانه وتعالى في حق المذكى. والثالث صفة في الآلة بأن يكون ما يقطع له حد. والرابع صفة في الموضع فيه وهو قطع الأوداج. والأوداج أربعة: الحلقوم والمريء والودجان م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: أي في الكتاب.
[حكم ذبيحة الكتابي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وذبيحة المسلم والكتابي حلال لما تلونا) ش: أراد به قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] لأن الخطاب عام. م: (ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ش: قال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه ": قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طعامهم ذبائحهم.
وقال الأزهري: لا بأس بذبيحة نصارى العرب، فإن سمعته يسمي بغير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله سبحانه وتعالى وعلم بكفرهم. ويذكر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بوجه انتهى. ولا يجوز أن يحل طعامهم على غير الذبائح لأنه لو كان كذلك لم يخص بأهل الكتاب.
فإن قلت: هذا لم يكتف بالآية الواحدة.
قلت: لما استقر أن يقال إلا ما ذكيتم عام مخصوص بخروج الوثني والمرتد والمجوسي، فلا يكون قاطعا في الإفادة ضم إليه الآية الأخرى.
ثم ذبيحة الكتابي حلال مطلقا سواء كان قائلا بثالث ثلاثة أو بغير، وقال الشافعي(11/528)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: إذا اعتقد أن المسيح والعزير ابن الله لا يحل. ولا يتفاوت في كون الكتابي حربيا أو ذميا بإجماع أهل العلم، فلو ترك الكتابي التسمية عمدا أو ذبح وسمى باسم المسيح لم تحل ذبيحته بإجماع الفقهاء وأكثر أهل العلم.
وعن عطاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومكحول - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حل لأنه أحل لنا ذبيحته. وقد علم أنه سيقوله، ولنا قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إذا سمعتموه يسمى بغير الله فلا تأكلوه. وهو قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن عن جماعة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وفي " المستصفى ": هذا إذا لم يعتقد أن المسيح إله، أما إذا اعتقد فهو والمجوسي سواء فلا تحل ذبيحته، وهذا مخالف لعامة الروايات ولظاهر الكتاب، وهو قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] . مع أنهم قالوا المسيح: ابن الله، وسئل ابن عباس عن ذبائحهم فقال: قد أحل الله لكم، فقيل: إنهم يهلون لغير الله، فقال: إن الذي أحل ذلك منهم هو أعلم بما يقولون.
ولو ذبح الكتابي ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه مثل كل ذي ظفر قال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هي الإبل والنعام والبط وما ليس مشقوق الأصابع، أو ذبح دابة لها شحم يخير عليه يحل عند الأكثر، وحكي عن مالك في اليهودي يذبح الشاة لا يأكل من شحمها. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا مذهب دقيق، فظاهر هذا أنه لم يره صحيحا لأنه سبحانه وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وهذا ليس من طعامهم، فقال الضحاك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومجاهد وسوار ومالك والقاضي الحنبلي، وقلنا: المراد من طعامهم ذبائحهم كما ذكرنا، ولأن المراد من طعامهم لا يجوز أن يكون عاما بالاتفاق لأن الخنزير والميتة والدم من طعامهم وهو حرام بالإجماع.
وقولنا قول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأبي الدرداء وابن عباس وابن عمر وأبي أمامة الباهلي وعبادة بن الصامت والعرباض بن سارية وأكثر الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثم عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل من دخل في دين كتابي بعد بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأولاده لا يحل ذبيحته ولا ذبيحة من يخرج من دين كتابي إلى كتابي كالمرتد عن الإسلام، والمتولد من كتابي وغير كتابي يحل صيده وذبيحته، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك وأحمد: إذا كان الأب كتابيا وإلا لا تحل في رواية عن أحمد، وفي قول لا يحل تغليبا للحرمة، وعندنا هو تبع خير الأبوين(11/529)
ويحل إذا كان يعقل التسمية الذبيحة ويضبط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دينا.
وقال الكرخي في " مختصره ": ويجوز ذبح الصابئين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهم أهل الكتاب وهم فرقة من النصارى عنده. وليس يريد الضرب الآخر من الصابئين الذين لا يؤمنون بعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يقرون بنبوته، ولهم شرع آخر ليس النصارى عليه، فهؤلاء لا تؤكل ذبائحهم.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه ": وإنما أجاب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على من يؤمن بنبي وكتاب ويعظم الكواكب كتعظيم المسلم القبلة وهما حملا الأمر على من يعظم الكواكب، تعظيم عبادة، فهو عابد وثن، فلا يجوز أكل ذبيحته. ثم قال القدوري: وحال هذه الفرقة مشكلة لأنهم يدينون بكتمان اعتقادهم، فلا يعرف حالهم.
فأما حمل أبي الحسن لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على صابئ يؤمن بعيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو من لا يعرفه منهم، وإنما يؤمنون بإدريس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعظمونه دون غيره من الأنبياء. وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرحه لمختصر الطحاوي ": لا خلاف بينهم في المعنى في هذه المسألة. وذلك أن الصابئين طائفتان: طائفة منهم يحلون دين المسيح - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويقرون بالإنجيل، وهم في ناحية البطيحة من عمل واسط، فهؤلاء في قولهم جميعا تؤكد ذبائحهم. وفرقة أخرى من الصابئين في ناحية حران وديار ربيعة، لا يتحملون كتابا لنبي ويعبدون الكواكب والأصنام فهؤلاء أهل الأوثان لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم في قول أصحابنا جميعا.
م: (ويحل إذا كان) ش: الذابح م: (يعقل التسمية) ش: وقيل يعقل لفظ التسمية، وقيل: يعلم أن حل الذبيحة بالتسمية. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح المبسوط ": ويعقل التسمية والذبيحة بأن كان يعقل أنه يباح بالتسمية، ولا يباح بغير التسمية، وذلك لأنه متى لم يعقل التسمية لا يصح منه التسمية كما لا يصح منه الإسلام متى لم يعقل الشهادة، ولا البيع ولا النكاح إذا لم يعقل المعاملات.
والتسمية شرط الإباحة وقال في الأصل أرأيت الصبي يذبح ويسمي هل تؤكل ذبيحته. قال: إن كان يضبط ويعقل التسمية والذبيحة فلا بأس به، وإن كان لا يعقل ذلك فلا م: (والذبيحة) ش: أي ويعقل الذبيحة. وفي النسخ الصحيحة والذبحة بكسر الذال وسكون الباء، والمعنى ويعقل كيف الذبح. م: (ويضبط) ش: شرائط الذبح من قطع الأوداج وغيره وضبط الشيء حفظه بالحرم.(11/530)
وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة. أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية، فالذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد وصحة القصد بما ذكرنا، والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا. وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي الذمي والحربي والعربي والتغلبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان صبيا) ش: أي وإن كان الذابح صبيا بعد أن كان يعقل ويضبط، م: (أو مجنونا) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي معتوها، فالمجنون لا قصد له ولا بد منه كما ذكر في الحجر هكذا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإذا كانا لا يعقلان لا يصح، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وفي وجه يصح.
وفي كتاب " التفريع " للمالكية: ولا يجوز ذبيحة السكران ولا المجنون م: (أو امرأة) ش: أي أو كان الذابح امرأة ولا خلاف فيه م: (أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية، فالذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد وصحة القصد بما ذكرنا) ش: أي بما إذا كان يعقل التسمية، والذبيحة لا تحل؛ لأن التسمية على الذبيحة م: (شرط بالنص) ش: وذلك بالقصد وصحة العقد بما ذكرنا أي بما إذا كان يعقل التسمية والذبيحة م: (والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا) ش: أشار به إلى الآيتين وهما قوله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] لأن الخطاب عام وإنما قيد بالأقلف احترازا بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أنه كان يكره ذبيحته.
وفي " الدراية ": ولا خلاف فيه لعامة العلماء إلا ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: شهادة الأقلف وذبيحته لا يجوز، وهو رواية عن أحمد، وذبيح الأخرس يجوز بإجماع العلماء ولا خلاف فيه، والأقلف الذي لم يتخير وهو الأقلف، وهو أفعل من القلفة، وهي الجلدة التي يقطعها الختان من رأس الذكر، وكذلك القلفة أشار به إلى الآيتين. وهما قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقوله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] لأن الخطاب عام.
م: (وإطلاق الكتابي) ش: يعني في القدوري وطعامه وذبيحة المسلم والكتابي حلال. م: (ينتظم الكتابي الذمي والحربي والعربي والتغلبي) ش: عطف التغلبي على العربي من عطف الخاص على العام لأن تغلب قوم فلاحون يسكنون بعرب الروم وهو بفتح التاء المثناة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وفي آخره باء موحدة، والتسمية إليه تغلبي بفتح اللام استيحاشا لتوالي الكسرتين مع ياء النسب. وربما قالوه بكسرها لأن فيه حرفين غير مكسورين وفارق النسبة إلى ثمر.(11/531)
لأن الشرط قيام الملة على ما مر.
قال: ولا تؤكل ذبيحة المجوسي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكرخي في " مختصره ": ولا بأس بذبح نصارى بني تغلب الفلاحين وغيرهم، وذلك لأنهم على دين النصارى وإن لم يتمسكوا بكل شرائعهم فصاروا كالنصارى الأصليين إذا لم يتمسكوا ببعض الشرائع.
وفي " شرح الأقطع ": وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ذبائح بني تغلب وذبائح نصارى العرب لا تؤكل، وهذا لا يصح م: (لأن الشرط قيام الملة على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم، أو دعوى كالكتابي، قيل: فيه نظر لأن وجود الشرط لا يستلزم المشروط، وأجيب بأنه شرط في معنى العلة فافهم.
[ذبيحة المجوسي والمرتد]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تحل ذبيحة المجوسي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» ش: وفي بعض النسخ ولا تؤكل ذبيحة المجوسي، وهذا الحديث بهذا اللفظ غريب، وإنما المروي هو الذي أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة - رحمهما الله - في " مصنفيهما " عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم، قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» .
فإن قلت: هذا مرسل ومع إرساله فيه قيس بن مسلم وهو ابن الربيع.
وقد اختلف فيه، قال ابن القطان: وهو ممن ساء حفظه بالقضاء كشريك وابن أبي ليلى - رحمهما الله -. ولأجل هذا ذهب بعض أهل الظاهر أن حكم المجوسي كحكم الكتابي، وروي ذلك أيضا عن ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذه الرواية وإن كانت مرسلة فقد رواها الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسندة، قال ابن سعد في " الطبقات ": أخبرنا محمد بن عمر الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حدثني عبد الحكم بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فإن أبوا عرض عليهم الجزية بأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم» ولئن سلمنا أنه مرسل فالمرسل حجة عندنا، خصوصا إذا عمل به أكثر الصحابة وأكثر التابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -(11/532)
ولأنه لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى.
قال: والمرتد لأنه لا ملة له فإنه لا يقر على ما انتقل إليه،
بخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والفقهاء.
وروى أحمد بن حنبل بإسناده أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نزلتم بناس نبطيا فإذا اشتريتم لحما فإن كانت من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من مجوسي فلا تأكلوا» . قال إبراهيم الحربي خرق أبو ثور الإجماع. روي عن ابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافه، وقال البيهقي: وقد تأكد هذا المرسل بالإجماع، ولا خلاف أن صيدهم السمك والجراد يباح أكله. وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تحريم صيدهم بإسناده كيفما روي عن حذيفة في جواز نكاحهم فغير صحيح.
م: (ولأنه) ش: أي المجوسي م: (لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى) ش: أي من حيث الاعتقاد ومن حيث الدعوى. وقد مر أن الشرط أن يكون الذابح من أهل ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي، ولم يوجد واحد منهما في المجوسي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمرتد) ش: بالجر عطفا على قوله المجوسي يعني لا تؤكل ذبيحة المجوسي وذبيحة المرتد. ولا خلاف في المرتد أنه لا تؤكل ذبيحته م: (لأنه لا ملة له فإنه لا يقر على ما انتقل إليه) ش: من الدين الباطل فصار كالوثني الذي لا دين له فلا تؤكل ذبيحته.
[ذبيحة الكتابي إذا تحول إلى غير دينه]
م: (وبخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه) ش: يعني النصراني إذا تهود، واليهودي إذا تنصر، فإنما تنصر على ما انتقل إليه بخلاف ما لو تمجس، فإنه لا تؤكل ذبيحته بلا خلاف. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وداود لا تؤكل ذبيحته إذا تحول إلى غير دينه مطلقا، لأن لخروجه إلى غير دينه نقض الذمة فيباح قتله، فصار كالكفر الأصلي. قلنا: إذا تحول دين كتابي يكون من أهل الملة دعوى حال الذبح وقبله، والكفر كله ملة واحدة. وإن ارتد غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أكلت ذبيحته نظرا إلى حاله ودينه وفي حال ذبحه دونما سواه. كذا في " مختصر الكرخي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الكتابي م: (يقر عليه) ش: أي على الدين الذي انتقل إليه م: (عندنا) ش: خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما ذكرنا م: (فيعتبر ما هو عليه) ش: أي يعتبر الذي كان هو - أي المرتد - عليه م: (عند الذبح لا ما قبله) ش: أي لا يعتبر ما كان قبل الذبح وهو الإسلام لأنه كان مسلما قبله فلا يعتبر ذلك الذبح لوجوده مرتدا عنده، ويجوز أن يتعلق قوله فيعتبراه بمسألة الكتابي، أي يعتبر ما كان هو عليه من اليهودية أو النصرانية وقت(11/533)
قال: والوثني لأنه لا يعتقد الملة. قال: والمحرم يعني من الصيد وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد
والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم. فلن تكن ذكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذبح. فإن كان حينئذ يهوديا أو نصرانيا جاز، وإن لم ينقل بأن انتقل إلى دين المجوسي لا يجوز ولا يعتبر ما قبله، وإن كان مجوسيا قبل الذبح ثم تنصر أو تهود، يوجد يهوديا أو نصرانيا عند الذبح يجوز. فافهم.
[ذبيحة الوثني وحكم ما ذبح في الحرم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والوثني) ش: بالجر أيضا أي ولا تحل ذبيحة الوثني وهو الذي يعبد الوثن، وهو الصنم لأنه ليس له ملة التوحيد م: (لأنه لا يعتقد الملة) ش: لا دعوى ولا اعتقادا م: (قال: والمحرم) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا تحل ذبيحة المحرم، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (يعني من الصيد) ش: وهذا القيد لا بد منه لأنه تحل ذبيحته من الأهلي م: (وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد) ش: سواء كان الذابح محرما أو حلالا، وينبغي أن يقرأ ما ذبح على صيغة بناء المفعول على ما لا يخفى على الفطن.
م: (والإطلاق في المحرم) ش: أي الإطلاق بقوله والمحرم م: (ينتظم الحل والحرم) ش: يعني يشتمل ما ذبح في الحل وما ذبح في الحرم، لأن الذكاة فعل مشروع وذبح المحرم الصيد ليس بمشروع، وكذا ذبح الصيد في الحرم ليس بمشروع سواء كان حل حلالا أو محرما، أشار إليه بقوله: م: (والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم) ش: لأنه لحق الله سبحانه وتعالى.
م: (وهذا) ش: أي استواء الحلال والمحرم في ذبح صيد الحرم م: (لأن الذكاة فعل مشروع) ش: بالنص م: (وهذا الصنيع محرم) ش: أي قتل الصيد محرم بالنص، وهو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ونهى عن الفعل الحسي وموجبه انعدام المشروعية. والذكاة فعل مشروع فلا يكون فعله ذكاة، قيل: الأول أن يكون معنى قوله، ولهذا الصنيع أي الذبح في الحرم محرم، وسياق الكلام يدل على هذا.
فإن قلت: قتل الشاة المغصوبة محرم وتؤكل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعموها الأسارى» .
قلت: شاة غير المحرم صالحة للذبح، والذابح أهل، وإنما حرم لتعلق حق الغير به.
ولهذا لو كانت المصلحة في ذبحها بأن أشرفت على الهلاك يجوز ذبحها فكانت حراما لغيره فتحل.
أما صيد الحرم فالذابح وإن كان أهلها، لكن الصيد لم يبق محلا لثبوت صفة الأمان فيه فكان حراما لعينه فافترقا م: (فلم تكن ذكاة) ش: أي إذا كان كذلك فلم يكن ذبح المحرم ذكاة،(11/534)
بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع إذ الحرم لا يؤمن الشاة وكذا لا يحرم ذبحه على المحرم.
قال: وإن ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل وإن تركها ناسيا أكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكل في الوجهين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع) ش: أي لأن ذبح المحرم غير الصيد مشروع، م: (إذ الحرم لا يؤمن الشاة) ش: ونحوها من النعم، والأمن إنما يثبت بالنص للصيد. م: (وكذا لا يحرم ذبحه على المحرم) ش: لأن الأصل حل الذبح والحرمة تثبت بالنص وهو مخصوص بالصيد فلا يتعداه.
[شروط الذبح]
[حكم أكل متروك التسمية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن ترك الذابح التسمية عمدا) ش: أي ترك عمدا ويجوز أن يكون حالا أي حال كونه عامدا م: (فالذبيحة ميتة لا تؤكل) ش: وكذا الكتابي إذا ترك التسمية عامدا لم تؤكل ذبيحته، وإن كان ناسيا تؤكل وهو في منزلة المسلم كذا قاله الكرخي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " مختصره " م: (وإن تركها ناسيا أكل) ش: أي وإن ترك الذابح التسمية حال كونه ناسيا أكل ما ذبحه.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أكل في الوجهين وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تؤكل في الوجهين) ش: أي فيما تركها عامدا أو ناسيا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وهكذا ذكر عنه في المنظومة وليس كذلك بل هذا هو ما ذكره ابن قدامة في " المغني " أن عند مالك تحل إذا تركها ناسيا ولا تحل إذا تركها عامدا. وذكر ابن الجلاب في كتاب " التفريغ " والتسمية شرط في صحة الذبيحة، فمن تركها عامدا لم تؤكل ذبيحته. وإذا تركها ناسيا أكلت ذبيحته، انتهى.
المشهور عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل قولنا، وقال الحربي: ومن ترك التسمية على صيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل، وإن ترك التسمية على ذبيحته عامدا لم تؤكل. وإن تركها ساهيا أكلت ذبيحته، انتهى. وهذا هنا مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وطاوس وابن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحسن والثوري وإسحاق وعبد الرحمن بن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " التيسير " في سورة الأنعام وداود بن علي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحرم متروك التسمية ناسيا. وقال في " النوازل " في قول بشير: لا يؤكل إذا ترك التسمية عامدا أو ناسيا.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " شرحه لمختصر الكرخي ": وقد اختلف الصحابة في النسيان، فقال علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: إذا ترك التسمية ناسيا أكل، وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يؤكل. والخلاف في النسيان يدل على إجماعهم في العمد.(11/535)
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تؤكل في الوجهين.
والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء وعلى هذا الخلاف إذا ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب وعند الرمي، وهذا القول من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالف للإجماع فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا. وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا. فمن مذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يحرم. ومن مذهب علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يحل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف صورة الناس متروك التسمية عمدا؟
قلت: أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها، أما لو تركها من لم يعلم باشتراطها فهو في حكم الناسي. ذكره في الحقائق.
[المسلم والكتابي في ترك التسمية سواء]
م: (والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء) ش: حتى إن الكتابي إذا تركها عامدا لا تؤكل، وإذا تركها ناسيا تؤكل، وقد ذكرناه م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور م: (إذا ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب وعند الرمي) ش: أي رمي السهم إلى الصيد -، فعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤكل في الوجهين، وعند مالك لا يؤكل في الوجهين، وعندنا بالتفصيل المذكور م: (وهذا القول من الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالف للإجماع، فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا) ش: أي القول بجواز أكل متروك التسمية عامدا مخالف للإجماع، لأن الإجماع انعقد على عدم جوازه قبل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فالمخالف للإجماع المنعقد قبله خارق للإجماع فلا تسمع م: (فمن مذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يحرم) ش: أشار بهذا إلى بيان الخلاف في متروك التسمية ناسيا فلذلك ذكره بالفاء أي يحرم متروك التسمية ناسيا.
وذكر أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأحكام " أن قصابا ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله سبحانه وتعالى عليها فأمر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - غلاما له أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري يقول له إن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول لك: إن هذه شاة لم تذك فلم يشتر منها شيئا.
م: (ومن مذهب علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه يحل) ش: أي متروك التسمية ناسيا يحل. وفي " موطأ " مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - سئل عن الذي ينسى أن يسمي الله سبحانه وتعالى على ذبيحته فقال: يسمي الله ويأكل ولا بأس. وقال الرازي في " الأحكام " وذكر عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومجاهد وعطاء وابن المسيب والزهري وطاوس قالوا: لا بأس بأكل ما نسي أن يسمي.(11/536)
بخلاف متروك التسمية عامدا، ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع. له: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلم يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله عليه عند الذبح. وقالوا: إنما هو على الملة م: (بخلاف متروك التسمية عامدا) . ش: حيث لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في حرمته م: (ولهذا) ش: أي ولأجل انعقاد الإجماع على تحريم متروك التسمية عامدا.
م: (قال أبو يوسف والمشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز بيعه) ش: أي بيع متروك التسمية عامدا م: (لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع) ش: والقاضي إذا قضى بما يخالف الكتاب والسنة والإجماع يرده كما إذا قضى بما يخالف الكتاب والسنة المشهورة، والإجماع من أقوى الحجج، فلا يجوز مخالفته بلا خلاف.
م: (له) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلم يذبح على اسم الله سبحانه وتعالى سمى أو لم يسم» ش: والحديث بهذا اللفظ غريب ولكن جاءت أحاديث في معناه؛ منها ما أخرجه الدارقطني ثم البيهقي عن محمد بن يزيد بن سنان عن عبيد الله الجزري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر اسم الله ثم يأكل» .
ومنها ما أخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا عن مروان بن سالم، عن الأوزاعي عن عيسى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله سبحانه وتعالى، قال " اسم الله على كل مسلم» وفي لفظ: «على فم كل مسلم» .
ومنها ما رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المراسيل " فقال: حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الله(11/537)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بن داود عن ثور بن يزيد عن الصلت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر» .
والجواب: أما الحديث الأول: فقال ابن القطان في كتابه: ليس في هذا الإسناد من يتكلم فيه غير محمد بن يزيد بن سنان وكان صدوقا صالحا لكنه شديد الغفلة.
وقال غيره: معقل بن عبيد الله وإن كان من رجال مسلم، لكنه أخطأ في رفع هذا الحديث وقد رواه سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي عن سفيان عن عيينة عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله: ذكر البيهقي وغيره فزادا في إسناده أبا الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس ووقفاه.
وقال ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في التحقيق معقل هذا مجهول، وتعقبه صاحب " التنقيح " فقال: بل هو مشهور، وهو ابن عبيد الله الجزري أخرج له مسلم في " صحيحه ".
واختلف قول ابن معين فيه فمرة وثقه ومرة ضعفه. وقد ذكره ابن الجوزي في " الضعفاء " فقال: معقل بن عبيد الله الجزري يروي عن عمرو بن دينار، قال يحيى: ضعيف، لم يزد على هذا، ومحمد بن يزيد بن سنان الحريري هو ابن أبي فروة الرهاوي. قال أبو داود: ليس بشيء.
وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات، والصحيح أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس - رضي الله عنهما هكذا رواه ابن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس، انتهى كلامه.
قلت: أخرجه كذلك عبد الرزاق في " مصنفه " في الحج: حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: إن في المسلم اسم الله، فإن ذبح ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، وإن ذبح المجوسي وذكر اسم الله فلا يأكل ".
وأما الحديث الثاني فقال الدارقطني: مروان بن سالم ضعيف. وأعله بن القطان أيضا به. وقال: هو مروان بن سالم العقاري وهو ضعيف. وليس مروان بن سالم المكي. ورواه ابن عدي في " الكامل " وأسند تضعيفه عن أحمد والنسائي وتابعهما. وقال: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه.
وأما الحديث الثالث فإنه مرسل وهو ليس بحجة عنده. وقال ابن القطان: وفيه مع(11/538)
ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة. ولو كانت شرطا فالملة أقيمت مقامها كما في الناسي. ولنا: الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . الآية نهي وهو للتحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن زيد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
م: (ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة) ش: لأن شرط الشيء ما يتوقف الشيء على وجوده ولا يفترق الحال بين النسيان والعمد كما في الطهارة واستقبال القبلة وستر العورة، فإن من نسي الطهارة لا تجوز صلاته كما لو تركها عمدا، وإنما يفرق بينهما في الموجودات كالأكل والشرب في الصوم م: (ولو كانت) ش: بين التسمية م: (شرطا فالملة أقيمت مقامها) ش: يعني ولئن سلمنا أن التسمية شرط، لكن الملة أقيمت مقامها، م: (كما في الناسي) ش: كما أقيمت الملة مقام التسمية في حق الناسي وإليه أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن من ذبح فترك التسمية ناسيا قال: «كلوا فإن تسمية الله تعالى في قلب كل امرئ مسلم» .
م: (ولنا: الكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الآية نهي وهو للتحريم) ش: وجه الاستدلال أن الله سبحانه وتعالى نص على تحريم متروك التسمية عمدا لأنه نهي.
والنهي لمطلق التحريم، ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وأكد النهي بحرف من لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه، والهاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إن كانت كناية عن الآكل في الفسق أكل الحرام، وإن كانت كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمى فسقا يكون حراما كما في قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وفي الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، لأن التحريم يوصف بذلك الوصف وهو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة. وبهذا يتبين فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين، فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه وإن ذكر اسم الله سبحانه وتعالى لا يحل.
فإن قلت: ما سوى حالة الذبح فليس بمراد بالإجماع. وأجمع السلف على أن المراد حالة الذبح فلا يكون مجملا.
فإن قلت: لا نسلم أن المراد منه الذكر باللسان بل المراد منه الذكر عليه مطلقا. والذكر.(11/539)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقلب ذكر. قال الله سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] والمراد منه الذكر بالقلب، وقول القائل:
الله يعلم أن لست أذكره ... وكيف أذكره إذ لست أنساه
فإن الذكر والنسيان عمل القلب.
قلت: المراد بالنص الذكر باللسان، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى ذكر الذكر عليه.
والذكر عليه لا يكون إلا باللسان، لأن الذكر عليه أن يقصد إيقاع الذكر عليه، وإنما يقصد إلى الذكر بعد العلم به، لأن القصد إلى ما لا يعلم محال وهذا لا يتصور بالقلب، لأنه لما خطر بالبال صار معلوما موجودا. فكيف يتصور القصد إلى إيقاعه.
فإن قلت: الذكر بالقلب مراد بالإجماع، فلا يكون الذكر باللسان مرادا وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. لأن الذكر من حيث القلب حقيقة لأن مدة النسيان تكون بالقلب أو العموم للمشترك.
قلت: لا نسلم بذلك لأن الذكر للأمرين حقيقة لوجود الاستعمال فيهما عرفا وشرعا، وضد الذكر السكوت أيضا. وهو يكون باللسان فكان حقيقة فيهما ولا يلزم عموم المشترك لأنه مشترك معنوي وهو المطلق لا المشترك اللفظي.
فإن قلت: الناسي مخصوص بالإجماع، ولو أريد به ظاهره لجرت المحاجة في السلف وظهر الانعقاد وارتفع الخلاف، فيخص العامل بالقياس وخبر الواحد.
قلت: الناسي غير مخصوص لأنه ذاكر تقدير الكلام القياس المسلم مقام الذكر في حق الناسي بالحديث. وهو معذور مستحق للنظر والتحقيق. والعامد غير معذور.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فإن قلت: حالة النسيان مخصوصة.
قلت: لو خضت حالة العمد يؤدي إلى إلغاء النص، انتهى.
قلت: الناسي لا يخلو إما أن يكون مرادا منها أو لا، فإن كان مرادا لا يكون مخصوصا وحينئذ يلزم إرادة العامد بالطريق الأولى. وإن لم يكن مرادا يلزم إرادة العامد صونا للنص عن التعطيل.
فإن قلت: المراد بالآية الميتة لأن سبب نزول الآية مجادلة المشركين في الميتة، حيث قالوا(11/540)
والإجماع وهو ما بينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأكلون ما يقتلونه ولا يأكلون ما قتله الله سبحانه وتعالى.
قلت: سلمنا السبب ولكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ لأن اللفظ هو الذي يدل على الحكم لا السبب. فلو كان مختصا بالسبب لم يتجاوز حكم الشرع مكة والمدينة لأن سائر الأسباب ثمة واللفظ عام لأن قوله سبحانه وتعالى: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يتناول الميتة وغيرها مما لم يذكر اسم الله تعالى.
فإن قلت: النصوص معارضة لهذا النص منها قوله سبحانه وتعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] ومنها قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] استثنى الذكاة من المحرمات، وهي مذكاة، لأن الذكاة هي الجرح بين اللبة واللحيين. ومنها قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] بيانه أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخبر أنه لا يحرم سوى المذكورات في هذه الآية. ومتروك التسمية غير مذكور في هذه الآية، فكان حلالا.
قلت: أما الجواب عن الآية الأولى فيقول نحن نوجب ذلك لأنه سبحانه وتعالى أمر بأكل الحلال لا الحرام، ومتروك التسمية عامدا حرام، بما تلونا فلا يرد علينا.
والجواب عن الآية الثانية فقول ليس المراد نفي الحرمة عما سوى المذكور من هذه الآية مطلقا، لأن لحم الكلب ولحم الحمار والبغل حرام ولم يذكر في هذه الآية، بل المراد منه أنه لم يجد محرما مما كانوا يعتقدونه حراما في هذه الآية، والدليل عليه ما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] إلى أن قال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] .
فإن قلت ذبيحة أهل الكتاب حلالا، وإن كان متروك التسمية، لأن ما يعتقدونه أنها ليست بآلة حقيقة، فعلم أن التسمية ليست بشرط.
قلت: إنما حل ذبيحة الكتابي لأنه وجد ذكر اسم الله تعالى من حيث الضرورة لأنهم يدعون ملة التوحيد فاكتفى بذلك القدر في حق المحل، ألا ترى أنا إذا سمعنا أنهم يذكرون اسم الله عزيرا واسم المسيح عند الذبح نقول بحرمة ذبائحهم، ولهذا نقول بحرمة ذبيحة المجوسي لأنه لا يدعي ملة التوحيد.
م: (والإجماع وهو ما بينا) ش:، أشار به إلى قوله فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة(11/541)
والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال في آخره: «فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» علل الحرمة بترك التسمية "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متروك التسمية عامدا إلى آخره. م: (والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال في آخره: «فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك» علل الحرمة بترك التسمية) ش: حديث عدي. هذا أخرجه الأئمة الستة في كتبهم. عن عدي بن حاتم.
«قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إني أرسل كلبي وأسمي، فقال " إذا أرسلت كلبك وسميت، فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه ".
قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر ولا أدري أيهما أخذه، فقال: " لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر» . رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى آخره.
وروى البخاري أيضا وقال: حدثنا موسى بن إسماعيل عن ثابت بن يزيد عن عاصم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فأمسك فقتل فكل وإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتل» ، انتهى.
وهذا كله يدل على حرمة متروك التسمية عامدا، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الحرمة بترك التسمية عامدا.
فإن قلت: ما الدليل على أن المراد هو العمد.
قلت: روى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد» .(11/542)
ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتج بظاهر ما ذكرنا إذ لا فصل فيه، ولكنا نقول في اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى؛ لأن الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع. والسمع غير مجري على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول والإقامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحتج بظاهر ما ذكرنا إذ لا فصل فيه) ش: أي لا فصل في ظاهر ما ذكرنا من الآية لأن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، يشمل العمد والنسيان جميعا، لعدم القيد بأحدهما.
وقال صاحب " العناية ": واستدل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، فإن فيه النهي بالمنع وجه وهو تأكيده بمن الاستغراقية عن كل متروك التسمية، وهو بإطلاقه يقتضي الحرمة من غير فصل وهو أقرب لا محالة من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه مذهب ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
قلت: قدمنا أن مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس كذلك وإنما مذهبه كمذهبنا كما صرح به أصحابنا في كتبهم، والعجب من صاحب العناية لم يبينه على هذا مع قدرته على كتب المالكية حتى قدر مذهبه بما قرره، ثم قال وهو أقرب.
فكأنه رأى هذا صوابا، وعجب منه صاحب " الهداية " مع جلالة قدره نسبه إلى مالك ما ليس بمذهبه. ثم قرره ثم أجاب عنه م: (ولكنا نقول في اعتبار ذلك) ش: أي النسيان م: (من الحرج ما لا يخفى؛ لأن الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع) ش: بالنص وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فيحمل على حالة العمد دفعا للتعارض م: (والسمع) ش: أي المسموع في هذا الباب من الآية والحديث م: (غير مجري على ظاهره) ش: من حيث لم يرد منه العموم ظاهرا، م: (إذا لو أريد به) ش: أي لأنه لو أريد النسيان بالنص م: (لجرت المحاجة) ش: أي التحاجج بين الصحابة بالآية م: (وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول) ش: وهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
تقرير هذا الكلام أن الصحابة اختلفوا في متروك التسمية ناسيا، ولم يحتج من قال حرمت بالآية. فلو جرت الحاجة بها لارتفع الخلاف بينهم. فيه نظر انقياد من قال: يحل متروك التسمية ناسيا، ورجع عن قوله حيث لم تجر المحاجة ولم يرجع الخلاف علم أن الآية متروك الظاهر، وليس المراد به النسيان بل المراد منه العمد. م: (والإقامة) ش: مرفوع بالابتداء.
وجواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيمت الملة مقام التسمية في حق الناسي،(11/543)
في حق الناسي، وهو معذور. لا يدلي عليها في حق العامد ولا عذر. وما رواه محمول على حالة النسيان،
ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح وفي الصيد تشترط عند الإرسال والرمي وهي على الآلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وينبغي أن يقام أيضا مقامه في حق العامد، وتقريره أن إقامة الملة مقام التسمية م: (في حق الناسي وهو معذور) ش: أي والحال أنه معذور م: (لا يدلي عليها) ش: خبر المبتدأ أعني قوله والإقامة.
أي لا يدل على الإقامة. م: (في حق العامد، ولا عذر) ش: أي والحال أنه لا عذر موجود في العمد.
وذلك لأن النسيان من قبل من له حق أقام الملة مقام التسمية فجعله عذرا. والعامد ليس بمعذور، فلا يقاس على الناسي؛ لأنه ليس في معناه.
م: (وما رواه) ش: أي ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم» ، م: (محمول على حالة النسيان) ش: بدليل ما روي في حديث راشد بن سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا لم يتعمد.
فإن قلت: روى البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده إلى «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت الأعراب قريبو عهد بالإسلام يأتونها باللحم فلا ندري أسموا عليه، أم لم يسموا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سموا أنتم وكلوا» ". فلو كانت التسمية شرطا للحل لما أمرها بالأكل عند الشك فيها.
قلت: هذا دليل لنا لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية. فذلك دليل على أنه كان معروفا عندها أن التسمية من شرائط الحل، وإنما أمرها بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا، كمن اشترى لحما في السوق يباح التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي.
[حكم التسمية في ذكاة الاختيار]
م: (ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح) ش: أراد أن التسمية في الذكاة الاختيارية تقع على الذبح فيشترط عند الذبح. وفي " التحفة ": ينبغي أن يريد بالتسمية التسمية على الذبيحة أما لو أراد التسمية عند افتتاح العمل لا يحل.
م: (وفي الصيد تشترط عند الإرسال والرمي) ش: أي إرسال الكلب ونحوه، ورمي السهم.
م: (وهي على الآلة) ش: أي التسمية هنا على الآلة وهي السهم، والكلب. وفائدة هذا تظهر في(11/544)
لأن المقدور له في الأول: الذبح وفي الثاني: الرمي والإرسال دون الإصابة، فتشترط عند فعل يقدر عليه، حتى إذا أضجع شاة وسمى، فذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز.
ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل. وكذا في الإرسال. ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بالأخرى أكل ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيدا لا يؤكل.
قال: ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وأن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسائل ذكرها بعد م: (لأن المقدور له في الأول الذبح) ش: أي المقدور للذابح في ذكاة الاختيار الذبح.
م: (وفي الثاني: الرمي والإرسال) ش: أي المقدور له في ذكاة الاضطرار رمي السهم، وإرسال الكلب م: (دون إصابة) ش: يعني الإصابة ليست في قدرته عند الرمي والإرسال. م: (فتشترط عند فعل يقدر عليه) ش: أي إذا كان كذلك فيشترط التسمية عند الفعل الذي يقدر عليه، ففي الأول يتعذر على الذبح، وفي الثاني على الرمي والإرسال دون الإصابة.
م: (حتى إذا أضجع شاة) ش: هذا يظهر ما ذكره من اشتراط التسمية على الذبيح في الذبح، وعلى الرمي والإرسال في غير صورته أضجع شاة ليذبحها. م: (وسمى فذبح غيرها بتلك التسمية) ش: أي ذبح شاة غير الشاة التي أضجعها بتلك التسمية الأولى م: (لا يجوز) ش: أي لا يحل أكلها لأن التسمية كانت على الأولى.
[رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره]
م: (ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل) ش: أي أصاب سهمه غير الصيد الذي رمى إليه، حل، لأن التسمية هنا على الآلة وهي لم تتبدل م: (وكذا في الإرسال) ش: أي، وكذا الحكم في إرسال الكلب، بأن أرسل كلبا إلى صيد، وسمى فمسك غير الصيد الذي أرسله إليه فإنه يحل لما ذكرنا. وكذا لو أرسل فهدا أو بازيا.
م: (ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة) ش: أي السكين م: (وذبح بالأخرى أكل) ش: أي ذبح الشاة التي أضجعها بشفرة أخرى أكل، لأن التسمية وقف على الشاة، ولم تتبدل وتذكر الفعل باعتبار الذبيح. م: (ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيدا لا يؤكل) ش: لوقوع التسمية على السهم الأول. ولا خلاف فيه للثلاثة.
[يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره عند التذكية]
م: (قال: ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وأن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان) ش: لم يثبت في النسخة الصحيحة لفظة. قال هنا، وصورة المسألة في " الجامع الصغير "، عن محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يكره أن يذكر مع اسم الله شيئا غيره، ويكره أن يقول: اللهم تقبل من فلان هذا الذبح. وقال: لا بأس به إذا كان قبل التسمية وقبل(11/545)
وهذه ثلاث مسائل: إحداها أن يذكر موصولا لا معطوفا فيكره، ولا تحرم الذبيحة. وهو المراد بما قال. ونظيره أن يقول: بسم الله محمد رسول الله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يضجع للذبح. انتهى.
وفي " كفاية " تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينبغي أن ما يكون من الدعاء يذكر قبل الذبح كما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يذبح أضحيته، قال: " اللهم هذا منك، ولك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، بسم الله والله أكبر " ثم ذبح» وهكذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وهذه ثلاث مسائل) ش: أي المسألة المذكورة متنوعة ومتفرعة على ثلاث مسائل: م: (إحداها) ش: أي إحدى المسائل الثلاث م: (أن يذكر موصولا لا معطوفا) ش: أي أن يذكر الشيء مع اسم الله تعالى، كون ذلك الشيء موصولا باسم الله سبحانه وتعالى، ولكن بغير عطف بحرف من حروف العطف م: (فيكره ولا تحرم الذبيحة) ش: أي إذا كان كذلك يكره فعله هذا، ولا تحرم الذبيحة، لما يقوله الآن م: (وهو المراد بما قال) ش: أي ما ذكره من كونه موصولا لا معطوفا هو المراد بما قال في " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ونظيره أن يقول: بسم الله محمد رسول الله) ش: برفع الدال في محمد ولو خفضها لا تحل. ذكره في " النوازل "، وقيل: هذا إذا كان يعرف النحو، وقيل: لا تحرم على قياس ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يرى بتخفيضها انخفاضا في النحو، معتبرا في باب الصلاة ونحوها. كذا في " الذخيرة "، وفي " الفتاوى ": لو قال: بسم الله محمد رسول الله بالخفض لا يحل، وبالرفع يحل، ولم يذكر النصب.
وفي رواية الزيد: ونسي النصب. كالخفض لا يحل. ولو قال: بسم الله، صلى الله على محمد يحل. والأولى أن لا يفعل. ولو قال: بسم الله، وصلى الله على محمد، مع الواو يحل أكله. ولو قال: باسم الله، وباسم فلان لا يحل، هو المختار. ولو ذبح ولم يظهر الهاء في بسم الله إن قصد ذكر الله يحل، وإن لم يقصد أو قصد ترك الهاء لا يحل كذا في " الخلاصة ".
وفي " النوازل ": سئل أبو نصر عن ذبح، وقال: بسم الله، وباسم فلان. قال: سمعت محمد بن سلمة، قال: سمعت إبراهيم بن يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: تصير ميتة، وقال محمد بن سلمة: لا تصير ميتة، لأنه لو صارت ميتة صار الرجل كافرا.
وفي " مبسوط " شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو قال: بسم الله، والله أكبر، وصلى(11/546)
لأن الشركة لم توجد فلم يكن الذبح واقعا له إلا أنه يكره لوجود القران صورة فيتصور بصورة المحرم. والثانية: أن يذكره موصولا على وجه العطف والشركة بأن يقول: بسم الله واسم فلان أو يقول بسم الله وفلان أو بسم الله ومحمد رسول الله بكسر الدال فتحرم الذبيحة لأنه أهل به لغير الله. والثالثة: أن يقول مفصولا عنه صورة ومعنى بأن يقول قبل التسمية وقبل أن يضجع الذبيحة أو بعده، وهذا لا بأس به لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال بعد الذبح: «اللهم تقبل هذه عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله على محمد. إن أراد بذكر محمدا الاشتراك في التسمية لا يحل، وإن أراد التبرك دون الاشتراك يحل.
م: (لأن الشركة لم توجد) ش: لعدم العطف م: (فلم يكن الذبح واقعا له إلا أنه يكره لوجود القران صورة فيتصور بصورة المحرم) ش: أي لوجود المعارضة بين الكلامين بحسب الظاهر فيكره ذلك.
م: (والثانية) ش: أي: والمسألة الثانية م: (أن يذكره موصولا على وجه العطف، والشركة بأن يقول: بسم الله، واسم فلان) ش: نحو اسم فلان م: (أو يقول: باسم الله، وفلان) ش: بين نحو اسم فلان م: (أو بسم الله، ومحمد رسول الله بكسر الدال) ش: أي أو يقول باسم الله، ومحمد رسول الله نحو محمد والكسر وإن كان من ألقاب البناء.
ولكن قد يستعمل في الإعراب م: (فتحرم الذبيحة لأنه أهل به لغير الله) ش: أي إذا كان كذلك فيحرم الذبيحة لأنه سمى بغير اسم الله سبحانه وتعالى، فصارت ميتة.
م: (والثالثة) ش: أي والمسألة الثالثة م: (أن يقول: مفصولا عنه صورة ومعنى بأن يقول قبل التسمية، وقبل أن يضجع الشاة أو بعده) ش: أي أو بعد أن يضجع الشاة وفي بعض النسخ: وقبل أن يضجع الذبيحة م: (وهذا لا بأس به لما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال بعد الذبح: " اللهم تقبل هذه من أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ» .
ش: والحديث رواه مسلم في الضحايا، عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به، فقال: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر، ففعلت فأخذها، وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: " بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد " ثم ضحى به» وهو عند أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالواو قال «فأضجعه وذبحه، وقال: " بسم الله» وليس فيه مقصود المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(11/547)
والشرط هو الذكر الخالص المجرد على ما قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جردوا التسمية حتى لو قال عند الذبح: اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء وسؤال، ولو قال: الحمد الله أو سبحان الله يريد التسمية حل،
ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله لا يحل في أصح الروايتين لأنه يريد به الحمد على نعمة دون التسمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": وينبغي أن لا يذكر مع اسم الله غيره إذا أراد أن يدعو أو يقول: تقبل من فلان، وينبغي أن يقدم ذلك على الذبح، أو يؤخره عنه، ولا يذكر مع الحرف [ ... ] تأويل الحديث.
م: (والشرط هو الذكر الخالص المجرد) ش: أي وشرط حل الذكاة هو الذكر الخالص لله سبحانه وتعالى المجرد عن غيره م: (على ما قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: جردوا التسمية) ش: هذا غريب لم يثبت عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما ذكر عن أصحابنا في كتبهم م: (حتى لو قال عند الذبح: اللهم اغفر لي، لا يحل لأنه دعاء وسؤال) ش: فلم يكن ذكرا خالصا، وأشار به إلى أنه لو قدمه أو أخره لا بأس به م: (ولو قال: الحمد لله أو سبحان الله يريد التسمية حل) ش: بلا خلاف.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأمالى ": أرأيت إن ذبح فقال الحمد على ذبيحته، ولم يزد على ذلك أو قال: الله أكبر، أو سبحان الله، قال: إن كان يريد بذلك التسمية فإنه يؤكل، وإن كان لا يريد بذلك التسمية فإنه لا يؤكل. قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - خواهر زاده في " شرحه ": وهذا لأن هذه الألفاظ ليست بصريحة في باب التسمية. والصريح في باب التسمية اسم الله، وإذا لم تكن هذه الألفاظ صريحة في الباب كانت كناية، وإنما تقوم مقام الصريح بالنية كما في كنايات الطلاق إن نوى الطلاق كان طلاقا، وإلا فلا فكذا.
[عطس عند الذبح فقال الحمد لله]
م: (ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله، لا يحل في أصح الروايتين؛ لأنه يريد به الحمد على نعمة دون التسمية) ش: لأنه قال في الأصل: إذا قال الحمد لله يريد به التسمية أكل، وإن لم يرد التسمية فلا، والعاطس لم يرد التسمية على الذبح، بل أراد الحمد على نعم الله سبحانه وتعالى، فعلى رواية الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينبغي أن يحل لأنه قال: التحميد بمنزلة التسمية مطلقا.
أما لو قال الخطيب: الحمد لله عند العاطس يجوز أن يصلي به الجمعة بذلك القدر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المبسوط " لأن هناك المأمور به ذكر الله مطلقا، وهنا الذكر على الذبح، ولم يوجد.(11/548)
وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله: بسم الله والله أكبر منقول عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] .
قال: والذبح بين الحلق واللبة وفي " الجامع الصغير ": لا بأس بالذبح في الحلق كله، وسطه، وأعلاه وأسفله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قول الذابح بسم الله والله أكبر]
م: (وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله) ش: أي قول الذابح: م: (بسم الله، والله أكبر منقول عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ش: هذا أخرجه الحاكم في " المستدرك "، في الذبائح من حديث شعبة عن سليمان عن أبي ظبيان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - في قوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] قال: قياما على ثلاثة قوائم معقولة يقول: باسم الله، والله أكبر اللهم منك وإليك، قال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعنه في رواية أخرى: أخرجه في " التفسير " عن جرير عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فأنمها ثم قل: الله أكبر، الله أكبر، منك ولك ثم سم ثم انحرها.
وقال: صحيح على شرط الشيخين.
والعجب من المصنف كيف ترك الحديث المرفوع فيه، وحجر على نفسه. وهو ما أخرجه الأئمة الستة في كتبهم في الضحايا عن قتادة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين يذبحهما بيده اليمنى، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما» . وفي لفظ لمسلم يقول: «بسم الله، والله أكبر» " ولعل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد الاستدلال بالقرآن مفسرا به قول الصحابي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن كان ذلك فهو حسن. وفي " الذخيرة " قال البقال: والمستحب أن يقول: باسم الله، الله أكبر، يعني بدون الواو.
ثم قال: وذكر شمس الأئمة الحلواني: ويستحب أن يقول: بسم الله. الله أكبر يعني بدون الواو. لأن الواو تقطع فور التسمية. قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه نظر.
قلت: نظره صحيح، لأن الذي ثبت في الحديث الصحيح على ما ذكرنا بالواو. فلا ينبغي أن يترك اتباعا للحديث.
[مكان الذبح]
م: (قال: والذبح بين الحلق واللبة) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": المراد بذلك بيان محل الذبح م: (وفي " الجامع الصغير " لا بأس بالذبح في الحلق كله، وسطه وأعلاه، وأسفله) ش: وفي " المبسوط ": ما بين اللبة، واللحيين، واللبة رأس الصدر، واللحيان الذقن.(11/549)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " العناية ": وأتى بلفظ " الجامع الصغير " لأن فيه بيانا ليس في رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذلك لأن في رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذبح بين الحلق، واللبة، وليس بينهما مذبح غيرهما فيحمل على ما يدل عليه لفظ " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما عاد لفظ " الجامع " لأن بين رواية " المبسوط "، و " الجامع الصغير " - رحمهما الله - اختلافا من حيث الظاهر. فإن رواية " المبسوط " تقتضي الحل، فيما إذا وقع الذبح فوق الحلق قبل العقدة؛ لأنه بين اللبة واللحيين فيحل.
وفي رواية " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يحل لأن على رواية محل الذبح الحلق، فلما وقع قبل العقدة لم يكن الذبح على الحلق فلا يجوز، فتكون رواية " الجامع " مقيدة لإطلاق رواية " المبسوط ".
وقد صرح في " الذخيرة ": أن الذبح إذا وقع أعلى من الحلقوم قبل العقدة لا يحل، كذا ذكره في " فتاوي أهل سمرقند "، وبه قالت الثلاثة، ولكن ذكر الإمام الرسعني في " فوائده ": يحل لأن المعتبر قطع أكثر الأوداج، وقد وجد سواء كان فوق العقدة أو تحته.
وفي " الخلاصة ": هذا خلاف قول عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال صاحب " النهاية ": كان شيخي يفتي به، وكان يقول: الإمام الرسعني معتمد في القول والعمل. فلو أخذنا يوم القيامة بسبب العمل بقوله نحن نأخذه أيضا.
وقال الأترازي: وذكر في " فوائد الرسعني " أنه سئل عمن ذبح شاة فبقيت عقدة الحلقوم مما يلي الصدر أتؤكل أم لا؟ قال: هذا قول العوام من الناس، وليس هذا بمعتبر، ويجوز أكلها سواء كانت بقيت العقدة مما تلي الرأس أو مما يلي الصدر.
وأما المعتبر عندنا قطع أكثر الأوداج، وهذا صحيح لأنه لا اعتبار بكون العقدة من فوق أو من تحت. ألا ترى إلى قول محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": لا بأس بالذبح في الحلق كله، أسفل الحلق أو وسطه أو أعلاه. فإذا ذبح في الأعلى لا بد أن يبقي العقدة من تحت، ولم يلتفت إلى العقدة لا في كلام الله سبحانه وتعالى، ولا في كلام رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل الذكاة بين اللبة، واللحيين بالحديث، وقد حصلت كيفما بقيت العقدة، لا سيما على مذهب أبي حنيفة فإنه يكتفي بالثلاث من الأربع أي ثلاث كانت. ويجوز ترك الحلقوم أصلا فالطريق الأولى أن يحل الذبح إذا قطع الحلقوم من أعلاه، وبقيت العقدة إلى أسفل الحلقوم.
وقال تاج الشريعة في " شرحه ": قوله: والذبح بين الحلق واللبة. أراد بذلك بيان محل الذبح فيجوز في أعلى الحلق، وأسفله. ووسطه. وفي رواية " الجامع الصغير ": تقتضي أن(11/550)
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذكاة ما بين اللبة واللحيين» ولأنه مجمع المجرى والعروق. فيحصل بالفعل فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذبح فوق الحلق قبل العقدة لا يجوز لأنه جعل الحلق محلا، وإن كان فوق العقدة.
وهكذا ذكر في " الفتاوى "، ووضع الأصل يقتضي أن يحل لأنه بين اللبة، واللحيين، وإن كان فوق العقدة، لأن شمس الأئمة فسره، وقال: فيه دليل على أن أعلى الحلق ووسطه، وأسفله سواء، فيكون المراد على هذا التفسير ما يكون في الأصل مقيدا كما ذكر في الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيكون المراد من كلمة بين ما يستفاد من كلمة في. وكان معناه: الذكاة في الحلق تؤيده رواية " الجامع الصغير ".
قلت: لفظة بين في اللغة بمعنى وسط، يقول: جلست بين القوم أي وسطهم، ولفظه للظرفية. ولكنها تجيء بمعنى بين أيضا كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أي بين عبادي فحينئذ يستفاد من أحدهما ما يستفاد من الآخر. فعلى هذا يحمل معنى ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما ذكره في " الجامع الصغير " فافهم.
م: (والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذكاة ما بين اللبة واللحيين ") » ش: أي الأصل في الذبح قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يثبت هذا الحديث بهذه العبارة.
وإنما أخرج الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن سعيد بن سلام العطار - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حدثنا عبد الله بن بديل الخزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى، ألا إن الذكاة في الحلق واللبة.» قال في " التنقيح ": هذا إسناد ضعيف بمرة، وسعيد بن سلام أجمع الأئمة على ترك الاحتجاج به، وكذبه ابن نمير، وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذكر بوضع الحديث. وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحدث بالبواطيل متروك.
وأخرجه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " موقوفا على ابن عباس، وعلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الذكاة في الحلق واللبة. وقد فسرنا اللبة واللحيين عن فرد. وهذا من باب تسمية الحال باسم المحل. كقولهم جرى النهر، وسال الميزاب.
م: (ولأنه مجمع المجرى والعروق) ش: أي ولأن ما بين الحلق واللبة مجرى الطعام والماء ومجمع العروق السارية في البدن م: (فيحصل بالفعل فيه) ش: أي فيما بين الحلق واللبة وأراد(11/551)
إنهار الدم على أبلغ الوجوه، فكان حكم الكل سواء.
قال: والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفر الأوداج بما شئت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفعل فعل الذبح م: (إنهار الدم على أبلغ الوجوه) ش: أي إسالة الدم. يقال: أنهرت الدم إذا أسلته. وقال ابن دريد: أنهر العرق، إذا لم ينهر دمه زعموا، وقال ابن عباد: أنهر بطنه، أي انطلق. وكذلك أنهر، ومنه أسقط. والنهر واحد الأنهار م: (فكان حكم الكل سواء) ش: أراد به كل الحلق وسطه، وأعلاه، وأسفله.
[العروق التي تقطع في الذكاة]
م: (قال: والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة) ش: أي قال القدوري: العروق التي هي محل القطع في التذكية أربعة عروق م: (الحلقوم، والمريء، والودجان) ش: الحلقوم بضم الحاء هو الحلق والميم فيه زائدة. والمريء بالهمزة، وذكره في " العباب " في باب مرأ بالهمزة في آخره. وقال بقوله: مريء الجزور، والشاة للمتصل بالحلقوم الذي يجر فيه الطعام، والشراب، والجمع مري. مثل: سرير، وسرر، والودجان تثنية ودج.
قال الصنعاني: الودج، والوداج عرق في العنق. وهما ودجان.
وقال الليث: الودج عرق متصل من الرأس إلى النحر، والجمع الأوداج، وهي عروق تكشف الحلق م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أفر الأوداج بما شئت» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي - رحمهما الله -، وابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن بغير هذه العبارة " فروا ". عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن «عدي بن حاتم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا فقال: " أفر الدم بما شئت، واذكر اسم الله» وفي لفظ النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " أنهر الدم " وكذلك رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده "، قال الخطابي: ويروى أمرر، قال: والصواب أمر بسكون الميم، وتخفيف الراء.
قلت: وبهذا اللفظ رواه ابن حبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " صحيحه "، والحاكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " المستدرك "، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقال السهيلي في " الروض الأنف ": أمر الدم، بكسر الميم أي أسله. يقال: الدم مائر أي سائل، قال: هكذا رواه النقاش، وفسره. ورواه أبو عبيد بسكون الميم وجعله من مريت الضرع، والأول أشبه(11/552)
وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء والودجين وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعنى. وجمع الطبراني في " معجمه " بين الروايات الثلاثة، وفيه رواية رابعة عند النسائي في " سننه الكبرى " أهرق.
قلت: يكون الجميع برواية أبي عبيد خمس روايات توضيحها أن الأولى أمر من الإمرار، والثانية: أفر من الإفراء، والثالثة: أنهر من الإنهار، والرابعة: أهرق من الإهراق، وأصله أرق من الإراقة والهاء زائدة، والخامسة من المريء ناقص يائي، قوله: أفر الأوداج أي اقطعها قالوا: هو بفتح الهمزة.
قلت: هنا مادتان: الفري والإفراء، فالأولى ثلاثي مجرد، والثاني: مزيد فيه، والفرق بينهما في المعنى أن الفري هو القطع للإصلاح، والإفراء هو القطع للإفساد، فعلى هذا يكون كسر الهمزة هنا أليق، فافهم.
م: (وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء والودجين) ش: أي الأوداج اسم جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وأقل الودج ودجان، فكان المراد الودجين والمريء بطريق التغليب.
فإن قلت: الأوداج جمع ليس باسم جمع، وبينهما فرق كما عرف في موضعه.
قلت: المراد بالاسم مفهومه اللغوي أي لفظ جمع، ولا يريد به نحو القوم، والرهط، أو يكون لفظه اسم معجمة.
فإن قلت: الألف واللام إذا دخلا على الجمع تصير للجنس، ويقع على الأدنى.
قلت: هذا إذا لم يكن ثمة معهود. وقد وجدنا هذا وهو الودجان فيه خلاف في الإرادة والمريء أيضا لما ذكرنا، وإنما قلنا: إن النص يتناول المريء من حيث اللفظ. والحلقوم بطريق الاقتضاء لأن قطع مجرى النفس أبلغ إلى حصول المقصود من قطع مجرى العلف. وقد فسر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المريء بمجرى النفس على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.
م: (وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر الأوداج وأنهر الدم بما شئت» ، حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " وجيز الشافعية ": يصير(11/553)
إلا أنه لا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يجوز الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها وعندنا: إن قطعها حل الأكل وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هكذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الاختلاف في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قطع الحلقوم والمريء، وهذا دون الوريدين، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن الإصطرخي: يكفي قطع الحلقوم، والمريء، وفي " الحلية ": وهذا خلاف نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخلاف الإجماع. م: (إلا أنه لا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه) ش: هذا كأنه جواب عما يقال: إن الأوداج في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر الأوداج» جمع، وأقله ثلاثة، فأنتم شرطتم قطع الأربعة حيث قلتم: والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة، وتقرير الجواب: أن الحديث وإن كان دل على وجوب قطع الثلاثة، ولكن إن لا يمكن قطعها إلا بقطع الحلقوم لأنه لا ينتهي قطع الأوداج من غير حرج بدون قطع الحلقوم فثبت قطعه اقتضاء، والثابت قضاء كالثابت نصا.
وصار كأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على قطع الحلقوم، ونوع من المعقول يدل على هذا، وهو أن المقصود من إزالة الروح الذبح لتسييل الدم المسفوح الذي هو النجس على وجه التعجيل. لأن في الإبطاء زيادة تعذيب الحيوان، وهذا المقصود على التمام إنما يحصل بقطع هذه الأشياء الأربعة.
م: (وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجوز الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها) ش: أي بظاهر ما ذكرنا من قطع اشتراط الأربعة. يحتج مالك حتى لا يجوز قطع الثلاثة بل يشترط قطع جميعها، هذا الذي نسبه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى مالك هو الذي ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده في " شرح المبسوط "، حيث اشترط فيه على مذهب مالك قطع الأربع جميعا حتى إذا نقص واحد منها لا يحل.
ولكن ذكر في كتاب " التفريع " للمالكية أن المعتبر عند المالكية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قطع ثلاثة أعضاء وهي الودجان، والحلقوم، وليس يراعي قطع الحلقوم، وليس يراعي قطع المريء، فعلى هذا الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إما رواية عنه أو عن أحمد م: (وعندنا: إن قطعها) ش: أي الأربعة المذكورة م: (حل الأكل وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وإن قطع أكثر الأربعة، يعني أن عنده يكتفى للحل بقطع الثلاثة من الأربعة، أي ثلاثة كانت.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لا بد من قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين) ش: حتى لو قطع بعض الحلقوم أو المريء لم يحل م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (هكذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الاختلاف في(11/554)
" مختصره "، والمشهور من كتب مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده.
وقال في " الجامع الصغير ": إن قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج لم يؤكل، وإن قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل ولم يحك خلافا، واختلفت الرواية فيه، والحاصل: أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قطع الثلاث أي ثلاث كان يحل وبه كان يقول أبو يوسف أولا ثم رجع إلى ما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" مختصره ". والمشهور من كتب مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أن هذا قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده) ش: أي أن قوله: لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وحده. وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " فإن قطع من هذه الأربعة ثلاثة.
قال بشير بن الوليد: روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا قطع أكثر الأوداج أكل، إذا قطع ثلاثة منها أكل، من أي جانب كان، وعلى أي وجه كان. وكذلك قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قال بعد ذلك: لا يأكل حتى يقطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين. وذلك كله سواء في الإبل والبقر، والغنم، والصيد، وكل ذبيحة. قال: وكذلك الناقة ينحرها الرجل فهي كذلك في القولين جميعا في قول أبي حنيفة: إذا قطع أكثر الأوداج. وفي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يؤكل حتى يقطع الحلقوم والمريء، وأحد الودجين، انتهى، ولم يذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج في الذكاة]
م: (وقال في " الجامع الصغير ": إن قطع نصف الحلقوم، ونصف الأوداج لم يؤكل، وإن قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل ولم يحك خلافا) ش: يعني أنه لو قطع النصف من كل واحد من الأربعة لا يحل ترجيحا لجانب الحرمة على جانب الحل عند الاستواء، بخلاف ما إذا قطع أكثر من كل فرد لرجحان الموجب للحل، قوله: ولم يحك خلافا: أي في " الجامع الصغير " - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لم يحك خلافا في هذه المسألة م: (واختلفت الرواية فيه) ش: أي في حكم هذه المسألة.
م: (والحاصل أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا قطع الثلاث أي ثلاث كان يحل وبه) ش: أي وبهذا القول م: (كان يقول أبو يوسف أولا، ثم رجع إلى ما ذكرنا) ش: وهو قوله: لا بد من قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين.
وفي " الغاية ": وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات: إحداها بهذه يعني قطع الثلاث، أي ثلاث كانت، والثانية: اشتراط قطع الحلقوم مع الأخرى، والثالثة: اشتراط قطع الحلقوم، والمريء وأحد الودجين.(11/555)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر أكثر كل فرد وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن كل فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره ولورود الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل فرد منها. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم فينوب أحدهما عن الآخر، إذ كل واحد منهما مجرى الدم. أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه مجرى العلف والماء والمريء مجرى النفس، فلا بد من قطعهما. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام وأي ثلاث قطعها فقد قطع الأكثر منها. وما هو المقصود يحصل بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يعتبر أكثر كل فرد) ش: يعني لا بد من قطع أكثر كل واحد من الأربعة م: (وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن كل فرد منها) ش: أي من الأربعة م: (أصل بنفسه لانفصاله عن غيره، ولورود الأمر بفريه) ش: أي قطعه وأراد بالأمر هو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفر الأوداج، وأنهر ما شئت» م: (فيعتبر أكثر كل فرد منها) ش: أي من الأربعة وللأكثر حكم الكل.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم) ش: أي إسالته. م: (فينوب أحدهما عن الآخر إذ كل واحد منهما) ش: أي من الودجين م: (مجرى الدم. أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه) ش: أي فإن الحلقوم م: (مجرى العلف والماء، والمريء مجرى النفس فلا بد من قطعهما) ش: أي من قطع الحلقوم، المريء.
وهكذا فسر شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - خواهر زاده في " مبسوطه " وقال: المريء عرق يحمل مجرى النفس. وقال صاحب الكشاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تفسير سورة الأعراف: الحلقوم مدخل الطعام، والشراب، وفسره القدوري بخلاف ذلك في " شرح مختصر الكرخي "، فقال: الحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام، والودجان مجرى الدم. وهكذا ذكره في " الإيضاح " وهو الصحيح يؤيده قوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] .
وقال في " ديوان الأدب ": المريء الذي يدخل فيه الطعام والشراب. وفي " المغرب ": المريء مجرى الطعام والشراب. وفي " الجمهرة ": مريء الإنسان وغيره مجرى الطعام أي جوفه. وقيل: المذكور في المتن غير صحيح من النسخ، والصحيح منها عكسه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام) ش: نحو مسح الرأس، وانكشاف العورة في الصلاة، وتغطية الرأس في الإحرام ونحو ذلك م: (وأي ثلاث قطعها فقطع الأكثر منها) ش: أي من الأربعة.
م: (وما هو المقصود يحصل بها) ش: أي والذي هو المقصود من الذبح يحصل بالثلاثة، أي(11/556)
وهو إنهار الدم المسفوح والتوحية في إخراج الروح لأنه لا يحيى بعد قطع مجرى النفس أو الطعام ويخرج الدم بقطع أحد الودجين فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب، بخلاف ما إذا قطع النصف لأن الأكثر باق فكأنه لم يقطع شيئا احتياطا لجانب الحرمة.
قال: ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقطعها م: (وهو) ش: أي المقصود م: (إنهار الدم المسفوح) ش: أي إسالته. م: (والتوحية في إخراج الروح) ش: أي الإسراع، والتعجيل في إزهاق الروح وهو بالحاء المهملة من وحاه توحية إذا عجله، ومنه موت وحي أي سريع والوحا بالمد والقصر السرعة م: (لأنه) ش: أي لأن الحيوان م: (لا يحيى بعد قطع مجرى النفس أو الطعام ويخرج الدم بقطع أحد الودجين) ش: فلا يحتاج إلى قطع الآخر لحصول المقصود بأحدهما.
م: (فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب) ش: أي اكتفي بقطع أكثر الأربعة للاحتراز عن زيادة تعذيب الحيوان؛ لأن المقصود إذا حصل بالثلاثة يكون قطع الزائد زيادة في تعذيب الحيوان بلا فائدة؛ لأن ما هو المقصود من قطع الودجين يحصل بقطع أحدهما وهو التوحية لأن مجرى النفس إذا انقطع انقطع مجرى الطعام والشراب، يموت الحيوان من ساعته، مقام الثلاثة من الأربعة في تحصيل ما هو المقصود من قطع الأربعة مقام الكل.
م: (بخلاف ما إذا قطع النصف) ش: هذا يتعلق بقوله: فيكتفى به، يعني إذا قطع نصف الأربعة لا يكتفى به ولا يحل م: (لأن الأكثر) ش: أي أكثر المرخص وهو الثلاثة م: (باق فكأنه لم يقطع شيئا) ش: لأن الاثنين لما كانا باقيين كان أكثر [......] وهو الثلاثة باقيا فلا يحل وقيل: لما كان جانب الحرمة مرجحا كان للنصف الباقي حكم الأكثر، فكأنه لم يقطع شيئا، وربما لوح لهذا بقوله: م: (احتياطا لجانب الحرمة) ش: أي لأجل الاحتياط لجانب الحرمة.
فإن قلت: كيف قال لأن الأكثر باق، والشيء إنما يكون أكثر إذا كان ما يقابله قليلا، وهذا القائل للنصف فلا يكون قليلا فلا يكون الباقي كثيرا.
قلت: الشرط قطع الثلاثة إذ المقصود من قطع العروق أنها لازم التوحية. ويحصل ذلك بقطع الثلاثة فاكتفي به، فتركت الواحدة من الأربعة، وإذا ترك الاثنين غير مقطوعين يكون الباقي أكثر من المشروط فافهم.
[آلة الذبح]
[الذبح بالظفر والسن والقرن]
م: (قال: ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا) ش: أي قال في " الجامع الصغير ": وصورتها فيه: محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرجل يذبح الشاة بظفر منزوع، أو بقرن، أو عظم، وسن منزوعة فينهر الدم ويفري الأوداج، قال: أكره(11/557)
حتى لا يكون بأكله بأس إلا أنه يكره هذا الذبح. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المذبوح ميتة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا الظفر والسن فإنهما مدى الحبشة» . ولأنه فعل غير مشروع، فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنهر الدم بما شئت» . ويروى «أفر الدم بما شئت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الذبح وإن فعل فلا بأس م: (حتى لا يكون بأكله بأس إلا أنه يكره هذا الذبح) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المذبوح ميتة) ش: أي المذبوح بهذه الأشياء ميتة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج، ما خلا الظفر والسن فإنهما مدى الحبشة» ش: هذا الحديث ملفق من حديثين: الأول: ما رواه الأئمة في الستة من حديث «رافع بن خديج، قال: كنا مع النبي في سفر، فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنا نكون من المغازي فلا يكون معنا مدى فقال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما لم يكن سنا أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» . أخرجوا هذا الحديث مختصرا، ومطولا.
الثاني: رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن جريج عمن حدثه «عن رافع بن خديج قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذبح بالليطة فقال: " كل ما أفرى الأوداج إلا سنا أو ظفرا» .
والعجب من الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث ذكر حديث رافع هذا في الاحتجاج للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يبينه لتلفيق الحديث الذي ذكره المصنف ثم قال: بيانه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استثنى الظفر والسن من الآلات التي يقطع بها الجرح، ولم يفصل بين القائم والمنزوع فلم يجز الذبح بهما مطلقا «كل ما أنهر الدم» على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه ومعناه: كل ما أنهر دمه إطلاقا لاسم الحال على المحل في قوله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ} [الأعراف: 31] معناه كل ما تحقق فيه إنهار الدم قوله مدى الحبشة، بضم الميم جمع مدية بالضم أيضا وهي سكين القصاب.
م: (ولأنه فعل غير مشروع، فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع) ش: أي ولأن الذبح بالظفر والسن المنزوعين غير مشروع فإذا لم يكن ذكاة تكون ميتة م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أنهر الدم بما شئت» ويروى: «أفر الدم بما شئت» ش: قد مر الكلام في هذا الحديث عن قريب،(11/558)
وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأحسن أن يستدل لأصحابنا بما رواه البخاري في " صحيحه ".
وقال: حدثنا محمد بن أبي بكر، قال: حدثنا معمر عن عبيد الله عن نافع قال: سمعت ابن كعب بن مالك «عن ابن عمر أن أباه أخبره أن جارية لهم ترعى بسلع فأبصرت بشاة من غنمها موتها فكسرت حجرا فذبحتها فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حتى أرسل إليه من يسأله، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعث إليه، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» .
وجه الاستدلال: أن الأصل في النصوص التعليل، والحجر يصلح آلة للذبح لمعنى الجرح فكذا الظفر المنزوع، والسن المنزوعة بخلاف غير المنزوع، فإنه لا يصلح آلة لكونه مدى الحبشة، وهو مجمل الحديث الأول.
م: (وما رواه) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (محمول على غير المنزوع، فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك) ش: إظهارا للجلادة. فإنهم لا يقتلعون ظفرا، ويحدون الأسنان بالمبرد، ويقاتلون بالخدش والعض. هكذا ذكره النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " الأسرار ": لو لم يكن تعليله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنها مدى الحبشة» غير المنزوع لأن السن والظفر مطلقا يذكره ويراد به غير المنزوع، أما المنزوع بذكر مقيد، يقال: سن منزوع، والظفر المنزوع ولم يذكر مطلقا.
أما القرن ينبغي أن لا يكره، بالنظر إلى تعليله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد قال ابن القطان - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر حديث الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المذكور الذي أخرجه مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث سفيان الثوري عن أبيه سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خريج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الحديث فيه شك في شيئين في اتصاله، وفي قوله: «أما السن فعظم» هل هو من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا. فقد روى أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق، وسفيان الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عباية بن رفاعة بن رافع عن أبيه عن جده «رافع ابن خديج - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت له: يا رسول الله: إنا ملاقو العدو غدا، وليس عندنا مدى أفنذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا» .
قال رافع: سأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، قال: فهذا كما ترى فيه زيادة رفاعة بن عباية وجده رافع، وفيه بيان قوله: أما السن فمن كلام رافع، وليس في حديث مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - من رواية الثوري وأخيه عن أبيهما ذكر لسماع عباية من جده رافع(11/559)
ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود، وهو إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع لأنه يقتل بالثقل، فيكون في معنى المنخنقة، وإنما يكره لأن فيه استعمال جزء الآدمي ولأن فيه إعسارا على الحيوان وقد أمرنا فيه بالإحسان.
قال: ويجوز الذبح بالليطة والمروة بكل شيء أنهر الدم إلا السن القائم والظفر القائم، فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا، ونص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " على أنها ميتة لأنه وجد فيه نصا، وما لم يجد فيه نصا يحتاط في ذلك فيقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
، إنما جاءا به معنعنا، فبين أبو الأحوص أن بينهما واحدا، ولم يكن نصا في حديث مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قوله: أما السن من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا، فبين أبو الأحوص أنه من كلام رافع - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأنه آلة جارحة) ش: أي ولأن كل واحد من الظفر، والقرن، والسن المنزوع آلة تجرح وتخرج الدم م: (فيحصل به ما هو المقصود) ش: أي بكل واحدة من هذه الأشياء م: (وهو) ش: أي المقصود م: (إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع) ش: من الظفر والسن م: (لأنه يقتل بالثقل) ش: لأنه يوجب الموت بالفراة مع الحدة.
م: (فيكون في معنى المنخنقة) ش: فيكون حراما م: (وإنما يكره) ش: يعني الذبح بالظفر المنزوع والسن المنزوعة م: (لأن فيه استعمال جزء الآدمي) ش: كالوصل بشعر الآدمي والانتفاع بالفروة وهذا لا يتأدى في القرن.
م: (ولأن فيه إعسارا على الحيوان) ش: هذا وجه آخر للكراهة أي ولأن في الذبح بهذه الأشياء إعسارا على الحيوان وإضرارا به لضعف الآلة فيؤدي إلى زيادة تعذيب الحيوان م: (وقد أمرنا فيه بالإحسان) ش: أي والحال أنا قد أمرنا في ذبح الحيوان بالإحسان على ما يجيء وهذا التعليل يشمل الكل.
[الذبح بالليطة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز الذبح بالليطة) ش: بكسر اللام وسكون الياء آخر الحروف وهو قشر القصب م: (والمروة) ش: وهو حجر أبيض رقيق يذبح بها كالسكين م: (وبكل شيء أنهر الدم) ش: أي أسأله م: (إلا السن القائم، والظفر القائم فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأنه يقتل بالثقل.
م: (ونص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " على أنها ميتة لأنه وجد فيه نصا) ش: على أن الذبيحة بالسن القائمة ميتة؛ لأنه أي لأن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وما لم يجد فيه) ش: أي في تحريمها نصا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك أطلق جوابها، وهذه طريقة محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المنصوص عليه بالتحريم أو بالتحليل أنه يثبت القول وما لم يجز فيه م: (نصا يحتاط في ذلك فيقول(11/560)
في الحل: لا بأس به، وفي الحرمة يقول يكره أو لم يؤكل
قال: ويستحب أن يحد الذابح شفرته لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»
ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة؛ لما روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: " لقد أردت أن تميتها موتات هلا حددتها قبل أن تضجعها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الحل: لا بأس) ش: أي لا بأس بفعله على الفاعل. ثم قيل: كل موضع يقال فيه لا بأس فتركه أولى، والأصح أن هذا ليس بكلي بل ينبغي أن ينظر فيه، فإن كان ثمة شيء يدل على الجواز يتخير الفاعل، وإلا فتركه كان أولى م: (به وفي الحرمة يقول: يكره أو لم يؤكل) ش: أي وفي الحرام يقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره يعني فعله، أو يقول: لا يؤكل.
[ما يستحب في الذبح]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويستحب أن يحد الذابح شفرته) ش: والشفرة بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء، وهي السكين العظيم، وشفرة السيف حده م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري عن شراحيل بن أدة عن شداد بن أوس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان» . الحديث أخرجوه في الذبائح إلا الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه أخرجه في القصاص، قوله القتلة بكسر القاف وهي الهيئة والحالة، وكذلك الذبحة بكسر الذال الهيئة والحال. قوله: وليرح من الإراحة أي ليعطيها الراحة بالإسراع.
[ما يكره في الذبح]
[يضجع الذبيحة ثم يحد الشفرة]
م: (ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة) ش: ذكره تفريعا في مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ويضجعها بضم الياء من الإضجاع، والضمير يرجع إلى الذبحة.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": إذا أراد الرجل أن يذبح الذبيحة كره له أن يجرها برجلها إلى المذبح، وأن يضجعها ثم يحد الشفرة.
م: (لما «روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أنه رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: " لقد أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها»
ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في " المستدرك " في الضحايا عن حماد بن زيد، عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن رجلا أضجع شاة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتريد أن تميتها موتات، هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها»(11/561)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: حديث صحيح على شرط البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يخرجاه، وأعاده في الذبائح وقال: على شرط الشيخين.
ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه " عن عبد الرحمن بن سليمان عن عاصم الأحول به، ورواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " في الحج: حدثنا معمر عن عاصم عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا أضجع شاة، الحديث مرسل ورواه ابن ماجه في " سننه "، عن ابن لهيعة عن قرة بن حيوئيل عن الزهري عن سالم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: " إذا ذبح أحدكم فليجهز» .
ورواه أحمد في " مسنده " عن ابن لهيعة عن عقيل، عن الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - به، وكذلك رواه الدارقطني في " سننه "، والطبراني في " معجمه " وابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكامل "، وأعله بابن لهيعة، ومن جهة الدارقطني ذكره عبد الحق في أحكامه. وقال: الصحيح في هذا عن الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرسل. والذي أسنده لا يحتج به. وفي " موطأ مالك " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هشام عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رجلا أحد شفرة، وقد أخذ شاة ليذبحها، فضربه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بالدرة، وقال: أتعذب الروح، هل فعلت هذا قبل أن تأخذها؟
قوله: إن تميتها موتات، أي مرات عديدة يعني موته.
فإن قلت: كيف يكون ذلك، ولا يعلم الحيوان بذبحه؛ لأنه لا عقل له.
قلت: هذا سؤال ساقط، وفيه سوء أدب؛ لأن الوهم في ذلك كاف وهو موجود فيه، والعقل يحتاج إليه لمعرفة الكليات. وما نحن فيه ليس منها، وأجاب في " المبسوط " بأن الحيوان يعرف ما يراد منه كما جاء في الخبر: ألهمت البهائم، إلا عن أربعة: خالقها، ورازقها، وضعفها، وشقاؤها، فإذا كانت تعرف ذلك وهو يحد الشفرة عندها كان فيه زيادة ألم غير محتاج إليه، ولهذا قيل: يكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليها.(11/562)
قال: ومن بلغ بالسكين النخاع أو قطع الرأس كره له ذلك وتؤكل ذبيحته. وفي بعض النسخ: قطع مكان بلغ،
والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة.
أما الكراهة فلما روي «عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بلغ بالسكين نخاع الذبيحة أو قطع الرأس]
م: (قال: ومن بلغ بالسكين النخاع) ش: قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (أو قطع الرأس) ش: أي رأس المذبوح م: (كره له ذلك وتؤكل ذبيحته) ش: أي كره للذابح بلوغ السكين النخاع وقطع رأس المذبوح م: (وفي بعض النسخ: قطع مكان بلغ) ش: أي بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (النخاع عرق أبيض في عظم الرقبة) ش: أي عرق أبيض في جوف عظم الرقبة، يمتد إلى الصلب وهو بضم النون والفتح لغة.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هو عرق وقد سهى، إنما ذلك النخاع ثالثا وهو يكون في القفا من نخع الشاة، إذا بلغ بالذبح ذلك الموضع. والنخع أبلغ من النخع بالنون.
وقال السغناقي أيضا: هو مشهور وإنما النخاع خيط أبيض في جوف عظم الرقبة يمتد إلى الصلب.
وقال مقدم " صاحب العناية ": ورد بأن بدن الحيوان مركب، وسندهما في ذلك ما قال في " المغرب ": النخاع خيط أبيض في جوف عظم الرقبة يمتد إلى الصلب من الطعام، والأعصاب، والعروق هي شرايين وأوتار واضحة حتى يسمى بالخيط أصلا.
قلت: قال الصنعاني في " العباب ": قال الكسائي: النخاع: والنخاع بالحركات الثلاث: الخيط الأبيض الذي في جوف القفاء، وقال في باب الهاء الموحدة: النخاع بالكسر العرق الذي يكون في الصلب، وهو غير النخاع بالنون، فإنه الخيط الأبيض الذي يجري في الرقبة. ونخع الشاة إذا بالغ في ذبحها وهو أن يقطع عظم رقبتها ويبلغ بالذبح النخاع، ثم كثر حتى استعمل في كل مبالغة انتهى، وكذلك قال الكرخي في " مختصره ": ويكره إذا ذبحها أن يبلغ النخاع وهو العرق الأبيض الذي يكون في الرقبة، ويكره له أيضا أن ينخعها. قيل: أن يتردد إن سلع أو نخع فلا بأس بذلك.
م: (أما الكراهة فلما «روي عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت» ش: هذا رواه محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الصيد من الأصل عن سعيد بن المسيب قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنخع الشاة إذا ذبحت» وهو مرسل وبمعناه مرفوعا.
وقال الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " معجمه ": حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب حدثنا أبو(11/563)
وتفسيره ما ذكرناه، وقيل: معناه: أن يمد رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل: أن يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب، وكل ذلك مكروه وهذا لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة، وهو منهي عنه. والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة مكروه.
ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح وأن تنخع الشاة قبل أن تبرد، يعني تسكن من الاضطراب وبعده لا ألم. فلا يكره النخع والسلخ إلا أن الكراهة لمعنى زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم، فلهذا قال: تؤكل ذبيحته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوليد الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الذبيحة أن تفرس» .
ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بشهر بن حوشب وقال: إنه ممن لا يحتج بحديثه، ولا نتدين به، وقال إبراهيم الحربي في " غريب الحديث ": الفرس أن يذبح الشاة فتنخع، وروى البيهقي عن هشام الدستوائي وغيره عن يحيى بن أبي كثير عن مغرور الكلبي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنه نهى عن الفرس في الذبيحة.
وقال أبو عبيدة: الفرس النخع، يقال: فرست الشاة ونخعتها وذلك أن ينتهي الذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة. وقال: بل هو الذي يكون في فقار الصلب شبيه بالملح فنهي أن ينتهي الذبح إلى ذلك.
وقال أبو عبيد: الفرس قيل هو الكسر، نهي أن تكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد. م: (وتفسيره ما ذكرناه) ش: أي تفسير النخع ما ذكرناه. أراد به قوله: ومن بلغ بالسكين النخاع: م: (وقيل: معناه أن يمد رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل: أن يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب) ش: قال البيهقي: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نهى عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عن النخع، وأن تعجل الشاة أن تزهق، فالنخع أن تذبح الشاة ثم تكسر قفاها من موضع الذبح، أو تضرب لتعجل قطع حركتها، وكره هذا، ولم يحرم لأنها ذكية.
م: (وكل ذلك مكروه) ش: أشار به إلى التفاسير الثلاث: م (وهذا) ش: حصول الكراهة م: (لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة وهو منهي عنه) ش: أي تعذيب الحيوان بلا فائدة منهي عنه على ما مر في الآثار المذكورة م: (والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة مكروه) ش: أشار به إلى أصل جامع في إفادة معنى الكراهة، وهو كل ما فيه. اه.
[يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح]
م: (ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح) ش: لما روى البيهقي عن عبد الرحمن بن حماد، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، أن رجلا رآه عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يجر شاة ليذبحها فضربه بالدرة، وقال: سقها لا أم لك إلى الموت سوقا جميلا م: (وأن تنخع الشاة قبل أن(11/564)
قال: وإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق حل لتحقق الموت بما هو ذكاة
ويكره لأن فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبرد يعني تسكن من الاضطراب) ش: أي ويكره أيضا أن ينخع الشاة، وتفسير النخع مستوفى مع الآثار الواردة فيه.
م: (وبعده) ش: أي وبعد أن تبرد م: (لا ألم فلا يكره النخع والسلخ) ش: أي سلخ جلدها م: (إلا أن الكراهة) ش: أي غير أن الكراهة في ما ذكرنا م: (لمعنى زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم) ش: لوجود الذكاة الشرعية م: (فلهذا قال: تؤكل ذبيحته) ش: أي فلأجل عدم موجب التحريم.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": وتؤكل ذبيحته بعد أن قال: كره له ذلك هي ويكره الذبح لغير القبلة قال في الأصل: أرأيت الرجل يذبح ويسمي ويوجه ذبيحته لغير القبلة متعمدا أو غير متعمد، قال: لا بأس بأكلها.
قال خواهر زاده في " شرح المبسوط ": أما الحل فلأن الإباحة شرعا متعلق قطع الأوداج والتسمية، وقد وجد، وتوجه القبلة سنة مؤكدة لأنه توارثته الناس، وترك السنة لا يوجب الحرمة، ولأنه يكره تركه من غير عذر.
وقال محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار ": أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي عن واصل بن أبي جميل عن مجاهد، قال: «كره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشاة سبعا: المرارة، والمثانة، والغدة، [ ... ] ، والذكر والأنثيين، والدم» قال في تحفته ثم أبو حنيفة فسرها فقال: الدم حرام بالنص القاطع وباقي السبعة مكروه لما أنه تستخبثه الأنفس، وأراد به الدم المسفوح، وأما دم الكبد، والطحال، ودم اللحم فليس بحرام، ذكره في " الغاية " هنا، فلذلك ذكرناه اتباعا له.
[ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق]
م: (قال: وإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق حل) ش: أي قال القدوري: وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن ضرب عنق جزور بسيف فأبانها وسمى فإن كان ضربها من قبيل الحلقوم فإنه يؤكل وقد أساء، وإن كان ضربها من قبل الظهر فإن كان قطع الحلقوم والأوداج قبل أن تموت أكل وقد أساء، وكذلك هذا في الشاة، وكل ذبيحة.
وقال أبو حنيفة: إن قطع رأس الشاة في الذبيحة أكل وإن تعمد ذلك، وقد أساء في(11/565)
زيادة الألم من غير حاجة، فصار كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج، وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها.
قال: وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح، لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار على ما مر. والعجز متحقق في الوجه الثاني دون الأول وكذا ما تردى من النعم في بئر ووقع العجز عن ذكاة الاختيار لما بينا. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعمد. وكذلك قال أبو سيف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لتحقق الموت بما هو ذكاة) ش: وهو قطع العروق، وبه قال أحمد ومالك - رحمهما الله -، وحكي عن علي، وابن المسيب - رحمهما الله - أنها لا تؤكل. قلنا: عموم الأحاديث، وتحقيق الذكاة.
م: (ويكره) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأن فيه زيادة الألم من غير حاجة، فصار كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج) ش: حيث يحل ويكره م: (وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها) ش: أي الشاة.
وفي " شرح الكافي ": قال الفقيه أبو بكر الأعمش: وإنما لو كانت تعيش قبل قطع العروق أكثر ما يعيش المذبوح حتى يحل قطع العروق ليكون الموت مضافا إليه، أما إذا كانت لا تعيش إلا كما يعيش المذبوح فإنه لا يحل؛ لأنه يحصل الموت مضافا إلى الفعل السابق فلا يحل.
[ذكاة ما استأنس من الصيد]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح) ش: وهو أي الذي استأنس أي الحيوان الذي صار أنيسا لبني آدم في البيوت ثم أريد ذبحه فذكاته الذبح وهو ما بين اللبة، واللحيين؛ لأنه صار كالشاة.
م: (وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح) ش: أي والحيوان الذي صار وحشيا بأن اختلط بالموحش بالبوادي من النعم وهي الإبل والبقر والغنم. وكلمة من في الموضعين للبيان، لأنه صار كالوحشي. وذكاة الوحشي بالعقر، والجرح كيفما اتفق م: (لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: والثاني كالبدل من الأول. اهـ. م: (والعجز متحقق في الوجه الثاني) ش: وهو توحش النعم م: (دون الأول) ش: وهو إيناس الصيد.
م: (وكذا ما تردى من النعم في بئر) ش: أي سقط بأن وقع الجمل، أو البقر، أو الشاة في بئر م: (ووقع العجز عن ذكاة الاختيار لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليه عند العجز، وبقولنا قال الشافعي، وأحمد، والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين) ش: يعني في الاستئناس الصيد وتوحش النعم.(11/566)
لأن ذلك نادر، ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وأنا لا نسلم الندرة بل هو غالب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبقوله قال الليث وربيعة م: (لأن ذلك نادر) ش: فلا يتغير عن حكمه الأصلي.
م: (ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز، وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وأنا لا نسلم الندوة بل هو غالب) ش: يدل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لها أوابد كأوابد الوحش» يعني أن لها توحش كتوحش الوحش، فقد اعتبر التوحش.
فإن قلت: روي أن ناضحًا وقع في بئر، فسئل سعيد بن المسيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أو ننحر من مؤخره وكان رأسه في السفل، فقال: لا إلا في نحر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: وروى مسلم عن زائدة: أخبرنا سعيد بن مسروق عن عباية عن جده قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع شديد فأصابوا إبلا وغنما، قال: وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا وقد نصبت القدور، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقدور فأكفيت، ثم قسم بينهم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند بعير من إبل القوم، وليس في القوم إلا خيل يسيرة، فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم منها، فاصنعوا به هكذا» .
وأخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا بإسناده إلى عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الأصل "، وفي كتاب " الآثار " أيضا: أخبرنا أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية أبو رفاعة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أن بعيرا تردى في بئر بالمدينة، فلم يقدر على نحره فوخز بسكين من قبل خاصرته حتى مات، فأخذ منه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عشيرا بدرهمين.
وقال محمد أيضا: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم في مترد في بئر على إذا لم يقدر على منحره فحيث ما جاءت فهو منحره. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبه أخذ، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " صحيحه ": ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، وأجازه ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال ابن عباس: ما أعجزك من البهائم مما في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر من حيث قدرت، ورأى ذلك علي، وعمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إلى هنا لفظ البخاري في " صحيحه "، فإذا كان كذلك فالتمسك بقول ابن المسيب بعيدا جدا قوله: فأكفيت أي أفرغت، قوله: فند بعير أي شذ وهرب، قوله: عشيرا بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة.(11/567)
وفي الكتاب: أطلق فيما توحش من النعم. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشاة إذا ندت في الصحراء، فذكاتها العقر. وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر لأنها لا تدفع عن نفسها. فيمكن أخذها في المصر فلا عجز، والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن أنفسهما فلا يقدر على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال خواهر زاده في " شرحه ": فقد اختلفوا في تفسير العشير، قال بعضهم: هو العشر؛ لأن العشر أو العشير سواء كالنصف والنصيف، وقال بعضهم: العشير الأمعاء. قال الأترازي: هذا تفسير ما صح عندي، وما وجدته في كتب اللغة. قلت: لعل هذا عشارة بضم العين وهي القطعة من كل شيء، وهو المناسب هنا على ما لا يخفى، ويكون وقع فيه التصحيف من النساخ.
م: (وفي الكتاب أطلق فيما توحش من النعم) ش: أي في " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق الحكم، ولم يفصل بين الند في الصحراء، وفي المصر. م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشاة إذا ندت في الصحراء فذكاتها العقر، وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر؛ لأنها لا تدفع عن نفسها فيمكن أخذها في المصر فلا عجز. والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن أنفسهما فلا يقدر أخذهما، وإن ندا في المصر فيتحقق العجز) ش: لأن البقر يدفع بقرته، والبعير بشفره ونابه، ويخاف القتل منهما فيقع العجز عن ذكاة الاختيار فيهما.
وفي " العيون ": قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل رمى حمامة أهلية في الصحراء، وسمى فلا تؤكل لأنه ما [ ... ] إلى المنزل إلا لأن تكون حمامة لا تهتدي إلى منزلها.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البعير أو الثور يند فلا يقدر على أخذه قال: إن علم أنه لا يقدر على أخذه إلا أن يجتمع لها جماعة كثيرة فله أن يرميه، وأما الشاة فلا يجوز إذا كانت في المصر؛ لأن البعير يند ويصول ويمتنع. والثور نطيح فيمتنع، وفي الأصل: أرأيت إن أصاب قرن البعير أو الظلف سهما هل يؤكل؟ قال: إن دمي حل، وإن لم يدم لا يحل.
وفي " النوادر ": دجاجة تعلقت بشجرة لا يصل إليها صاحبها فرماها، فقال: إن كان يخاف فوتها يؤكل وإلا لا. وفي " النوازل ": بقرة تعسرت عليها الولادة فأدخل صاحبها يده، وذبح الولد، حل أكله، وإن جرح في غير موضع الذبح إن كان لا يقدر على مذبحه يحل أيضا، وإن كان لا يقدر لا يحل.
م: (والصيال كالند) ش: وفي بعض النسخ: كالند، والصيال الجملة م: (إذا كان لا يقدر على(11/568)