وإن ارتد رب المال عن الإسلام والعياذ بالله ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة؛ لأن اللحوق بمنزلة الموت. ألا ترى أنه يقسم ماله بين ورثته، وقبل لحوقه يتوقف تصرف مضاربه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه يتصرف له فصار كتصرفه بنفسه. ولو كان المضارب هو المرتد فالمضاربة على حالها؛ لأن له عبارة صحيحة ولا توقف في ملك رب المال فبقيت المضاربة. قال: فإن عزل رب المال المضارب ولم يعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها: أن رب المال لو ارتد ولحق بدار الحرب ثم عاد مسلما فالمضاربة بخلاف الوكالة على ما يجيء عن قريب.
ومنها: أن المضارب إذا اشترى بمال المضاربة عروضا ثم عزله رب المال عن المضاربة لا يعمل عزله وإن علم به بخلاف الوكيل على ما يجيء.
م: (وإن ارتد رب المال عن الإسلام - والعياذ بالله - ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة) ش: إذا لم يعد مسلما. أما إذا عاد مسلما جاز جميع ما فعل من البيع والشراء فكان عقد المضاربة على ما كان، بخلاف الوكالة حيث لا تعود بعود الموكل مسلما لخروج محل التصرف عن ملكه، وفي المضاربة لا يبطل لمكان حق المضارب كما لو مات حقيقة م: (لأن اللحوق) ش: بدار الحرب م: (بمنزلة الموت) ش: حكما م: (ألا ترى) ش: توضيح لكون اللحوق كالموت (أنه) ش: أي الشأن م: (يقسم ماله بين ورثته) ش: كما في الموت الحقيقي ويعتق مدبروه وأمهات أولاده. م: (وقبل لحوقه) ش: بدار الحرب م: (يتوقف تصرف مضاربه) ش: أي مضارب رب المال الذي ارتد عن الإسلام كالبطلان بالموت أو القتل م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (يتصرف له) ش: أي لرب المال م: (فصار) ش: أي تصرف المضارب م: (كتصرفه) ش: أي كتصرف رب المال م: (بنفسه) ش: فلو تصرف رب المال في هذه الصورة لكان تصرفه موقوفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لارتداده فكذا تصرف نائبه وهو المضارب. م: (ولو كان المضارب هو المرتد) ش: بنصب الدال، لأنه خبر كان وهو ضمير الفصل م: (فالمضاربة على حالها) ش: في قولهم جميعا، حتى لو اشترى أو باع وربح أو خسر ثم قتل على ردته أو مات لحق بدار الحرب فإن جميع ما فعل من ذلك جائز والربح بينهما على ما اشترطا م: (لأن له) ش: أي للمضارب م: (عبارة صحيحة) ش: لكونه عاقلا بالغا م: (ولا توقف في ملك رب المال) ش: لأنه نائب أو متصرف في منافع نفسه، ولا حق لورثته في ذلك، بخلاف رب المال لأن التوقف فيه لتعلق حق ورثته بماله أو لتوقف ملكه باعتبار توقف نفيه، والعهدة في جميع ذلك على رب المال م: (فبقيت المضاربة) ش: الفاء جواب شرط محذوف والتقدير: وإذا كان كذلك فبقيت المضاربة على حالها.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن عزل رب المال المضارب ولم يعلم) ش: أي المضارب م:(10/76)
بعزله حتى اشترى وباع فتصرفه جائز؛ لأنه وكيل من جهته وعزل الوكيل قصدا يتوقف على علمه، وإن علم بعزله والمال عروض فله أن يبيعها ولا يمنعه العزل من ذلك؛ لأن حقه قد ثبت في الربح، وإنما يظهر بالقسمة وهي تبتنى على رأس المال، وإنما ينض بالبيع، قال: ثم لا يجوز أن يشتري بثمنها شيئا آخر؛ لأن العزل إنما لم يعمل ضرورة معرفة رأس المال، وقد اندفعت حيث صار نقدا فيعمل العزل، فإن عزله ورأس المال دراهم أو دنانير وقد نضت لم يجز له أن يتصرف فيها؛ لأنه ليس في أعمال عزله إبطال حقه في الربح، فلا ضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بعزله) ش: أي بعزل رب المال إياه فالمصدر مضاف إلى فاعله وذكر المفعول مطوي، ويجوز أن يكون مضافا إلى مفعوله وطوي ذكر الفاعل م: (حتى اشترى) ش: أي المضارب م: (وباع فتصرفه جائز لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (وكيل من جهته) ش: فلا ينعزل إلا بعلمه لأنه عزل قصدي فيتوقف على العلم، لأن العزل نهي والأحكام المتعلقة بالأمر والنهي لا يؤثر فيها النهي إلا بعد علم دليله أو أمر الشرع ونواهيه، أشار إلى ذلك بقوله م: (وعزل الوكيل قصدا) ش: أي عزلا قصدا، أو مقصودا، أو يكون حالا أي قاصدا م: (يتوقف على علمه) ش: أي علم الوكيل لما ذكرنا م: (وإن علم بعزله والمال) ش: أي من البيع عند أكثر أهل العلم فله أن يبيعها نقدا ونسيئة كما قبل العزل، حتى لو نهى رب المال عن البيع نسيئة لا يعمل نهيه، وكذا لا يصح نهيه عن المسافرة في الروايات المشهورة كما قبل العزل.
م: (لأن حقه) ش: أي حق المضارب م: (قد ثبت في الربح، وإنما يظهر) ش: أي حقه في الربح م: (بالقسمة وهي) ش: أي القسمة م: (تبتنى على رأس المال) ش: بأن يكون نقدا م: (وإنما ينض) ش: أي ينقد م: (بالبيع) ش: بأن تباع العروض، حتى يصير أحد النقدين، ونض ينض من باب ضرب يضرب من التنضيض وهو خروج الماء عن الحجر أو نحوه قليلا قليلا، والناض عند أهل الحجاز: الدراهم والدنانير ومادته نون وضاد معجمة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ثم لا يجوز أن يشتري) ش: أي المضارب المعزول م: (بثمنها) ش: أي بثمن تلك العروض التي نضت م: (شيئا آخر، لأن العزل إنما لم يعمل ضرورة) ش: أي لأجل ضرورة م: (معرفة رأس المال) ش: لأجل القسمة م: (وقد اندفعت) ش: أي الضرورة م: (حيث صار) ش: أي رأس المال م: (نقدا) ش: أي دراهم أو دنانير م: (فيعمل العزل) ش: بعمله م: (فإن عزله) ش: أي رب المال المضارب م: (ورأس المال) ش: أي والحال أن رأس المال م: (دراهم أو دنانير وقد) ش: أي والحال أنها قد م: (نضت) ش: أي نفذت بأحد النقدين م: (لم يجز له أن يتصرف فيها، لأنه ليس في أعمال عزله إبطال حقه في الربح، فلا ضرورة) ش: في تصحيح تصرفه، لأنه باعها بكون المال نضا.(10/77)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا الذي ذكره إذا كان من جنس رأس المال، فإن لم يكن بأن كان دراهم ورأس المال دنانير أو على القلب له أن يبيعها بجنس رأس المال استحسانا لأن الربح لا يظهر إلا به، وصار كالعروض، وعلى هذا موت رب المال ولحوقه بعد الردة في بيع العروض ونحوها.
قال: وإذا افترقا وفي المال ديون وقد ربح المضارب فيه أجبره الحاكم على اقتضاء الديون؛ لأنه بمنزلة الأجير والربح كالأجر له. وإن لم يكن له ربح لم يلزمه الاقتضاء؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا الذي ذكره) ش: أي القدوري م: (إذا كان) ش: أي المال الذي نض م: (من جنس رأس المال) ش: بأن كان كل منهما دراهم أو دنانير م: (فإن لم يكن) ش: أي المال الذي نض من جنس رأس المال م: (بأن كان دراهم ورأس المال دنانير أو على القلب) ش: أي أو كان على العكس بأن كان دنانير ورأس المال دراهم م: (له) ش: أي للمضارب م: (أن يبيعها بجنس رأس المال) ش: قيد به، لأنه ليس له أن يشتري بما نقد العروض م: (استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان م: (لأن الربح لا يظهر إلا به) ش: أن يبيعها بجنس رأس المال، لأن الواجب عليه رد مثل رأس المال، وقال يمكن إلا أن يبيع ما في يده بجنس رأس المال م: (وصار كالعروض) ش: في حكم جواز البيع، وفي القياس لا يجوز؛ لثبوت المجانسة بينهما من حيث الثمنية، فصار كأن رأس المال قد تعين.
م: (وعلى هذا) ش: إشارة إلى قوله لا يمنعه العزل، أي على حكم المذكور م: (موت رب المال ولحوقه بعد الردة) ش: وارتفاع الموت بالابتداء، وخبره قوله: على هذا م: (في بيع العروض) ش: بأن كان المال عروضا ومات رب المال فلا ينعزل المضارب، بل يبيعها وينض رأس المال، وكذا في لحوق رب المال بدار الحرب مرتدا، لأنه موت حكما م: (ونحوها) ش: أي ونحو العروض، فإن كان رأس المال دراهم وفي يده دنانير أو على العكس.
[افتراق رب المال والمضارب وفي المال ديون]
م (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا افترقا وفي المال ديون) ش: أي إذا افترق رب المال والمضارب والحال في المال ديون، والمراد من الافتراق فسخهما عقد المضارب م: (وقد ربح المضارب فيه) ش: أي والحال أنه قد ربح المضارب في المال م: (أجبره الحاكم على اقتضاء الديون) ش: أي على طلب الديون التي على الناس م: (لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (بمنزلة الأجير) ش: حيث جعل له شيء م: (والربح كالأجر له) ش: لأنه استحق الربح بأن أعلمه وقد سلم له بدل علمه وهو الربح فيجبر على إتمام عمله، ومن إتمامه استيفاء ما وجب من الديون على الناس ولا نعلم فيه خلافا.
م: (وإن لم يكن له ربح لم يلزمه الاقتضاء) ش: أي طلب الديون التي على الناس، وقالت الثلاثة لزمه الاقتضاء لأنه بعقد المضاربة التزم رد رأس المال على صفته، ودليلنا هو قوله م:(10/78)
لأنه وكيل محض والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به ويقال له وكل رب المال في الاقتضاء؛ لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد فلا بد من توكيله وتوكله كي لا يضيع حقه. وقال في " الجامع الصغير " يقال له أحل مكان قوله " وكل " منه الوكالة. وعلى هذا سائر الوكالات والبياع والسمسار يجبران على التقاضي؛ لأنهما يعملان بأجرة عادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لأنه) أي المضارب م: (وكيل محض) ش: أي خالص م: (والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به) ش: بل الواجب رفع يده عن المال فإذا رفع يده فلا يلزمه أكثر منه لأنه وكيل محض قبل ظهور الربح م: (ويقال له) ش: أي للمضارب م: (وكل رب المال في الاقتضاء، لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد فلا بد من توكيله) ش: أي توكيل المضارب رب المال (وتوكله) ش: أي توكل رب المال م: (كي لا يضيع حقه) ش: أي حق رب المال؛ لأنه يمكن المطالبة فيما عقد المضارب إلا بالتوكيل فيوكل حفظا لحقه. وفي بعض النسخ حتى لا يضيع حقه.
م: (وقال في الجامع الصغير يقال له) ش: أي للمضارب م: (أحل) ش: أي رب المال وهو أمر من أحال يحيل من الحوالة م: (مكان قوله وكل المراد منه) ش: أي من قوله أحل م: (الوكالة) ش: لأنه ليس عليه دين حتى تكون حقيقة الحوالة، فعلى هذا إطلاق الحوالة على الوكالة يكون استعارة، والمجوز اشتمالهما على النقد، هذا لفظ القدوري م: (وعلى هذا) ش: أي على الحكم المذكور م: (سائر الوكالات) ش: أراد به كل وكيل بالبيع إذا امتنع من التقاضي له يجبر عليه، ولكن يجبر على أن يحيل رب المال بالثمن على المشتري وكذا المستبضع م: (والبياع) ش: أي الذي يبيع بالأجر وهو الدلال م: (والسمسار) ش: بكسر السين هو التوسط بين البائع والمشتري وفي " المبسوط " هو من يعمل للغير بالأجر بيعا أو شراء.
قلت: فعلى هذا الافتراق بين الدلال والسمسار، ولكن أهل اللغة فرقوا بينهما بما ذكرنا قال الأعشى:
فعشنا زماننا وما بيننا رس ... ول يراجع أخبارها
فأصبحت لا أستطيع الجوا ... ب سوى أن أراجع سمسارها
يريد السفير بينهما. وفي " العباب " وهو لفظ معرب م: (يجبران على التقاضي لأنهما) ش: أي لأن البياع والسمسار م: (يعملان بأجرة عادة) ش: فيكون كالإجارة الصحيحة. ولو دفع إلى سمسار دراهم وقال اشتر لي بها رطبا بأحد عشرة دراهم فهذا فاسد لأنه استأجر أصلا مجهولا، وكذا لو سمى له عدد الثياب أو استأجر لبيع طعام أو شراب، والحيلة في جوازه أن يستأجره يوما إلى الليل بأجر معلوم ليبيع له أو يشتري، لأن العقد يتناول منافعه وهي معلومة ببيان المدة وإن لم يشترط أجرا يكون وكيلا معينا له، فيعوضه بعد الفراغ من العمل مثل(10/79)
قال: وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع وصرف الهلاك إلى ما هو التبع أولى كما يصرف الهلاك إلى العفو في الزكاة، فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب؛ لأنه أمين. وإن كانا يقتسمان الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال بعضه أو كله ترادا الربح حتى يستوفي رب المال رأس ماله؛ لأن قسمة الربح لا تصح قبل استيفاء رأس المال لأنه هو الأصل، وهذا بناء عليه وتبع له، فإذا هلك ما في يد المضارب أمانة تبين أن ما استوفياه من رأس المال فيضمن المضارب ما استوفاه؛ لأنه أخذه لنفسه وما أخذه رب المال محسوب من رأس ماله. وإذا استوفى رأس المال فإن فضل شيء كان بينهما لأنه ربح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجر، لأن جزاء الإحسان أجرة.
[ما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال]
م: (قال: وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال، لأن الربح تابع وصرف الهلاك إلى ما هو التبع أولى) ش: إنما كان الربح تابعا لأنه لا يتصور بدون رأس المال وهو متصور بدونه، فكان أصلا م: (كما يصرف الهلاك إلى العفو في الزكاة) ش: عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لأن العفو تبع وقد مر بيانه في باب الزكاة م: (فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأنه أمين) ش: فلا يكون ضمينا لما بينهما من المنافاة م: (وإن كان يقتسمان الربح والمضاربة بحالها) ش: يعني لم يفسخاها م: (ثم هلك المال بعضه) ش: أي بعض المال، ورفعه على أنه بدل البعض من الكل م: (أو كله) ش: بالرفع أيضا، لأنه بدل الكل من الكل، م: (ترادا) ش: أي رب المال والمضارب م: (الربح حتى يستوفي رب المال رأس ماله) وفي بعض النسخ رأس المال م: (لأن قسمة الربح لا تصح قبل استيفاء رأس المال لأنه) ش: أي لأن رأس المال م: (هو الأصل) ش: لتصور بدون الربح م: (وهذا) ش: أي الربح م: (بناء) ش: أي مبني م: (عليه) ش: أي على رأس المال الذي هو الأصل م: (وتبع له) ش: أي لرأس المال، لأنه زيادة عليه م: (فإذا هلك ما في يد المضارب أمانة) ش: أي حال كونه أمانة غير مضمون م: (تبين أن ما استوفياه) ش: أي رب المال والمضارب م: (من رأس المال) ش: خبر أن م: (فيضمن المضارب ما استوفاه) ش: أي الذي أخذه م: (لأنه أخذه لنفسه) ش: ولم يكن ذلك حتى يصل رب المال إلى رأس ماله، وهذا بمنزلة قسمة الوارث التركة مع قيام الدين على الميت، فلو أن الورثة عزلوا من التركة مقدار الدين وقسموا ما بقي ثم هلك المعزول قبل أن يصل إلى الغرماء بطلت القسمة، وعليهم ضمان ما أخذوه من حق الغرماء لأن حقهم سابق على حق الورثة في التركة، فكذلك فيما نحن فيه م: (وما أخذه رب المال محسوب من رأس ماله) ش: يعني يجعل ذلك من رأس المال.
م: (وإذا استوفى رأس المال فإن فضل شيء) ش: يعني بعد الاستيفاء م: (كان) ش: أي الشيء الفاضل م: (بينهما) ش: أي بين المال والمضارب م: (لأنه ربح) ش: وقضيته أن(10/80)
وإن نقص فلا ضمان على المضارب لما بينا. فلو اقتسما الربح وفسخا المضاربة ثم عقداها فهلك المال لم يترادا الربح الأول؛ لأن المضاربة الأولى قد انتهت والثانية عقد جديد فهلاك المال في الثاني لا يوجب انتقاض الأول كما لو دفع إليه مالا آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون مشتركا بينهما م: (وإن نقص) ش: يعني شيء من رأس المال م: (فلا ضمان على المضارب لما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأنه أمين م: (فلو اقتسما الربح وفسخا المضاربة ثم عقداها) ش: ثانيا م: (فهلك المال لم يترادا الربح الأول، لأن المضاربة الأولى قد انتهت) ش: يعني بقسمة الربح وفسخ المضاربة م: (والثانية) ش: أي المضاربة الثانية م: (عقد جديد فهلاك المال في الثاني) ش: أي في العقد الثاني م: (لا يوجب انتقاض الأول) ش: أي الاقتسام الأول م: (كما لو دفع) ش: وفي بعض النسخ كما إذا دفع أي رب المال م: (إليه) ش: أي إلى المضاربة م: (مالا آخر) ش: غير المال الأول فإنه لا يوجب انتقاض الاقتسام الأول.(10/81)
فصل فيما يفعله المضارب قال: ويجوز للمضارب أن يبيع ويشتري بالنقد والنسيئة؛ لأن كل ذلك من صنيع التجار فينتظمه إطلاق العقد، إلا إذا باع إلى أجل لا يبيع التجار إليه لأن له الأمر العام المعروف بين الناس، ولهذا كان له أن يشتري دابة للركوب وليس له أن يشتري سفينة للركوب، وله أن يستكريها اعتبارا لعادة التجار، وله أن يأذن لعبد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيما يفعله المضارب]
[ما يجوز للمضارب أن يفعله وما لا يجوز]
م: (فصل فيما يفعله المضارب)
ش: إنما فصله لأنه يذكر فيه ما لم يذكره في أول المضاربة من أفعال المضارب.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز للمضارب أن يبيع ويشتري بالنقد والنسيئة) ش: أي بالحال والآجل، وبه قال أحمد في رواية.
وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية وابن أبي ليلى: لا يجوز بغير الإذن، لأنه ضد مقصود رب المال، ودليلنا قوله: م: (لأن كل ذلك) ش: أي البيع بالنقد والنسيئة م: (من صنيع التجار) ش: بضم التاء جمع تاجر، وجاء بالكسر أيضا ولكنه بتخفيف الجيم م: (فينتظمه) ش: أي إذا كان كذلك فينتظم البيع بالنقد والنسيئة دل عليه قوله: أن يبيع، كما في قَوْله تَعَالَى {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية: 8) ، أي العدل الذي دل عليه اعدلوا م: (إطلاق العقد) ش: هو كونه غير مقيد بالنقد.
م: (إلا) ش: استثناء من قوله ويجوز للمضارب أن يبيع، والأولى أن يكون من قوله فينتظمه إطلاق العقد م: (إذا باع إلى أجل لا يبيع التجار إليه) ش: أي إلى ذلك الأجل بأن باع إلى عشر سنين ونحوها.
وقوله: لا يبيع التجار، جملة في محل الجر صفة لقوله: إلى أجل، فافهم م: (لأن له) ش: أي للمضارب م: (الأمر العام) ش: أي الشامل م: (المعروف) ش: أي المعتاد م: (بين الناس) ش: أراد به ما هو صنيع التجار والبيع إلى أجل طويل غير معتاد فلا ينتظمه الإذن م: (ولهذا) ش: توضيح لما ذكره م: (كان له) ش: أي للمضارب: (أن يشتري دابة للركوب) ش: بجريان العادة م: (وليس له أن يشتري سفينة للركوب) ش: لعدم جريان العادة فيه.
هذا في المضاربة الخاص بنوع كالطعام مثلا، أما إذا لم يخص المضاربة بنوع بل دفع المال ولم يسم ما يشتري به فاشترى سفينة أو دابة ليحمل عليها مال المضاربة يجوز للإطلاق م: (وله) ش: أي للمضارب م: (أن يستكريها) ش: أي يستكري السفينة م: (اعتبارا لعادة التجار) ش: فإنهم يستكرون السفينة لحمل البضائع م: (وله) ش: أي للمضارب أيضا م: (أن يأذن لعبد(10/82)
المضاربة في التجارة في الرواية المشهورة لأنه من صنيع التجار. ولو باع بالنقد ثم أخر الثمن جاز بالإجماع، أما عندهما فلأن الوكيل يملك ذلك فالمضارب أولى، إلا أن المضارب لا يضمن لأن له أن يقايل ثم يبيع نسيئة ولا كذلك الوكيل؛ لأنه لا يملك ذلك. وأما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأنه يملك الإقالة ثم البيع بالنساء بخلاف الوكيل لأنه لا يملك الإقالة. ولو احتال بالثمن على الأيسر أو الأعسر جاز؛ لأن الحوالة من عادة التجار، بخلاف الوصي يحتال بمال اليتيم حيث يعتبر فيه الأنظر؛ لأن تصرفه مقيد بشرط النظر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المضاربة في التجارة في الرواية المشهورة، لأنه من صنيع التجار) ش: احترز بالمشهورة، عما روى ابن رستم عن محمد: أنه لا يملك ذلك بإطلاق العقد؛ لأنه بمنزلة الدفع مضاربة، والفرق أن المضارب شريك في الربح والمأذون لا يصير شريكا فيه.
[الحكم لو باع المضارب بالنقد ثم أخر الثمن]
م: (ولو باع بالنقد) ش: أي المضارب شيئا م: (ثم أخر الثمن) ش: أي من يشتري بعيب أو بغير م: (جاز بالإجماع) ش: أراد به إجماع أصحابنا م: (أما عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (فلأن الوكيل يملك ذلك) ش: أي الوكيل بالبيع يملك تأخير الثمن عند المشتري م: (فالمضارب أولى) ش: بالجواز لأن ولايته أعم، لأنه شريك في الربح أو بعوضيه أن يصير شريكا، فكان أصيلا من وجه م: (إلا أن المضارب لا يضمن) ش: هذه إشارة إلى الفرق بينهما وهو أن المضارب إذا أخر الثمن لا يضمن لرب المال م: (لأنه له) ش: أي للمضارب م: (أن يقايل) ش: أي البيع م: (ثم يبيع) ش: أي بعد الإقالة م: (نسيئة) ش: أي بالدين، لأنه لما كان يملك البيع نسيئة ابتداء فكذلك بواسطة الإقالة.
م: (ولا كذلك) ش: أي ليس كذا م: (الوكيل) ش: أي بالبيع م: (لأنه لا يملك ذلك) ش: أي الإقالة والبيع بالنسيئة بعدها. وهاهنا شيئان، الأول: أن الإشارة إلى الإقالة والبيع الدال عليهما قوله: أن يقايل ثم يبيع، والثاني: أن تذكير الإشارة باعتبار المذكور.
م: (وأما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأنه) ش: أي فلأن المضارب م: (يملك الإقالة ثم البيع بالنساء بخلاف الوكيل، لأنه لا يملك الإقالة) ش: فكذا لا يملك تأجيله في الثمن، فلا يرد الضمان وعدم الضمان على قوله: م: (ولو احتال) ش: أي المضارب إذا قبل الحوالة م: (بالثمن على الأيسر أو الأعسر) ش: أي على رجل أيسر من المشتري أو أعسر منه م: (جاز) ش: أي الاحتيال، أي الحوالة وتذكير الفعل باعتباره م: (لأن الحوالة من عادة التجار) ش: لأنها متعارفة بينهم وهم محتاجون إليها م: (بخلاف الوصي يحتال) ش: أي حال كونه يحتال م: (بمال اليتيم حيث يعتبر فيه) ش: أي في هذا الحكم م: (الأنظر) ش: في حق الصغير م: (لأن تصرفه مقيد بشرط النظر) ش: ولا نظر في قبول الحوالة على الأعسر والأب كالوصي.(10/83)
والأصل أن ما يفعله المضارب ثلاثة أنواع: نوع يملكه بمطلق المضاربة وهو ما يكون من باب المضاربة وتوابعها وهو ما ذكرنا من قبل ومن جملته التوكيل بالبيع والشراء للحاجة إليه والارتهان والرهن؛ لأنه إيفاء واستيفاء، والإجارة والاستئجار والإيداع والإبضاع والمسافرة على ما ذكرناه من قبل، ونوع لا يملكه بمطلق العقد ويملكه إذا قيل له اعمل برأيك وهو ما يحتمل أن يلحق به فيلحق عند وجود الدلالة، وذلك مثل دفع المال مضاربة أو شركة إلى غيره وخلط مال المضاربة بماله أو بمال غيره؛ لأن رب المال رضي بشركته لا بشركة غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والأصل) ش: فيما يجوز للمضارب أن يفعله وما لا يجوز م: (أن ما يفعله) ش: أي م: (المضارب ثلاثة أنواع، نوع) ش: أي أحدهما نوع م: (يملكه) ش: أي المضارب م: (بمطلق المضاربة) ش: يعني من غير أن يقول له رب المال: اعمل برأيك م: (وهو) ش: أي هذا النوع م: (ما يكون من باب المضاربة وتوابعها) ش: أي توابع المضاربة كالتوكيل بالبيع والشراء والرهن والارتهان ونحوها على ما يجيء الآن م: (وهو ما ذكرنا من قبل) ش: أشار به إلى قوله أن يبيع بالنقد والنسيئة والإذن لعبد المضاربة وتأخير الثمن والاحتيال به م: (ومن جملته) ش: أي جملة ما يملكه بطلق العقد م: (التوكيل بالبيع والشراء للحاجة إليه) ش: أي إلى التوكيل م: (والارتهان والرهن لأنه) ش: أي لأن أحدهما وهو الرهن م: (إيفاء) ش: لما عليه م: (واستيفاء) ش: أي والآخر وهو الارتهان واستيفاء لحقه م: (والإجارة والاستئجار والإيداع والإبضاع والمسافرة) ش: كلها مرفوع عطفا على قوله والارتهان م: (على ما ذكرناه من قبل) ش: إشارة إلى ما ذكر من أول الكتاب بقوله: وإذا صحت المضاربة مطلقة جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع.
م: (ونوع) ش: أي الثاني نوع م: (لا يملكه) ش: أي المضارب م: (بمطلق العقد) ش: أي عقد المضاربة م: (ويملكه) ش: أي يملك هذا النوع م: (إذا قيل له) ش: أي للمضارب بأن قال له رب المال م: (اعمل برأيك) ش: للتفويض العام م: (وهو) ش: أي هذا النوع م: (ما يحتمل أن يلحق به) ش: أي النوع الأول م: (فيلحق) ش: أي النوع الثاني بالأول م: (عند وجود الدلالة) ش: وهو قوله: اعمل برأيك م: (وذلك) ش: إشارة إلى ما ذكر من قوله: وهو ما يحتمل أن يلحق به فيلحق عند وجود الدلالة. م: (مثل دفع المال مضاربة) ش: أي مثل دفع المضارب مال المضاربة إلى غيره مضاربة لوجود الدلالة على أن هذا مثل النوع الأول وهو قوله اعمل برأيك م: (أو شركة إلى غيره) ش: أي أو مثل دفع مال المضاربة شركة إلى غيره م: (وخلط مال المضاربة) ش: بجر " خلط " عطفا على المال في دفع المال، أي ومثل خلط المضارب مال المضاربة م: (بماله) ش: أي بمال نفسه م: (أو بمال غيره) ش: أي أو خلط بمال غيره.
م: (لأن رب المال رضي بشركته لا بشركة غيره) ش: هذا تعليل لكون هذا النوع ملحقا(10/84)
وهو أمر عارض لا يتوقف عليه التجارة فلا يدخل تحت مطلق العقد ولكنه جهة في التثمير فمن هذا الوجه يوافقه فيدخل فيه عند وجود الدلالة. وقوله اعمل برأيك دلالة على ذلك. ونوع لا يملكه لا بمطلق العقد ولا بقوله اعمل برأيك إلا أن ينص عليه رب المال وهو الاستدانة وهو أن يشتري بالدراهم والدنانير بعدما اشترى برأس المال السلعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالنوع الأول لا ضمان الإطلاق عند وجود الدلالة م: (وهو) ش: أي دفع المال مضاربة أو شركة إلى غيره أو خلط مالها بماله أو بمال غيره م: (أمر عارض) ش: أي أمر زائد على ما تقوم به التجارة م: (لا يتوقف عليه التجارة) ش: لعدم العرف لذلك بينهم.
م: (فلا يدخل تحت مطلق العقد) ش: أي إذا كان كذلك فلا يدخل هذا النوع تحت مطلق العقد، لأن رب المال لم يرض بذلك م: (ولكنه) ش: أي ولكن ما ذكر من الأمور م: (جهة في التثمير) ش: أي وجه وطريق في تثمير المال أي زيادته م: (فمن هذا الوجه يوافقه) ش: أي فمن جهة تثمير المال فيه يوافق ما ذكر من الأمور عقد المضاربة م: (فيدخل فيه) ش: أي فيدخل ما ذكر في عقد المضاربة م: (عند وجود الدلالة) ش: وهي قوله: اعمل برأيك إعمالا لمقتضى العموم، أشار إليه بقوله: م: (وقوله اعمل برأيك دلالة على ذلك) ش: أي وقول رب المال في عقد المضاربة للمضارب اعمل برأيك دلالة على دخول ما ذكر من الأمور في العقد.
م: (ونوع) ش: أي الثالث نوع م: (لا يملكه) ش: أي المضارب م: (لا بمطلق العقد ولا بقوله اعمل برأيك إلا أن ينص عليه رب المال) لأنه ليس من المضاربة ولا يحتمل أن يلحق بها م: (وهو الاستدانة) ش: أي النوع الثالث الذي لا يملكه أيضا إلا بالتنصيص عليه، هو الاستدانة م: (وهو أن يشتري) ش: أي الاستدانة أن يشتري وذكر الضمير لتذكير الخبر، وهو قوله أن يشتري، وأن مصدرية، والتقدير وهو الشراء م: (بالدراهم والدنانير بعدما اشترى برأس المال السلعة) ش: يعني اشترى شيئا بأحد النقدين بالدين بعد أن اشترى برأس المال المتاع.
وفي " شرح الطحاوي ": ولو اشترى سلعة بثمن دين من جنس رأس المال أو من خلافه بعد أن يكون مما يجوز عليه عقد المضاربة وليس عند مال المضاربة من جنس ذلك الثمن الذي اشترى به فيكون استدانة.
ولو اشترى سلعة في حال قيام رأس المال بثمن دين من جنس رأس المال أو من خلافه بعد أن يكون مما يجوز عليه عقد المضاربة جاز الشراء على المضاربة ولا يكون استدانة. وقال زفر: إذا اشترى بخلافه يكون استدانة.
وفي " الإيضاح ": وإن اشترى سلعة بأكثر من مال المضاربة وهو الألف مثلا كانت حصة الألف للمضاربة وما زاد فللمضارب له ربحه وعليه وضيعته والمال دين عليه، لأن الاستدانة(10/85)
وما أشبه ذلك؛ لأنه يصير المال زائدا على ما انعقد عليه المضاربة فلا يرضى به ولا يشغل ذمته بالدين. ولو أذن له رب المال بالاستدانة صار المشترى بينهما نصفين بمنزلة شركة الوجوه، وأخذ السفاتج؛ لأنه نوع من الاستدانة، وكذا إعطاؤها لأنه إقراض والعتق بمال أو بغير المال والكتابة؛ لأنه ليس بتجارة والإقراض والهبة والصدقة لأنه تبرع محض.
قال: ولا يزوج عبدا، ولا أمة من مال المضاربة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يزوج الأمة؛ لأنه من باب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفذت عليه خاصة.
م: (وما أشبه ذلك) ش: فإن كان رأس المال ألف درهم فليس له أن يشتري بالمكيل والموزون لأنه اشترى بغير رأس المال فكان هذا استدانة فلا ينفذ على المضاربة، ولو كان في يده درهم فاشترى بدنانير نفذ على المضاربة استحسانا، لأنهما كالجنس الواحد في ضمنيته.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (يصير المال) ش: أي مال المضاربة م: (زائدا على ما انعقد عليه المضاربة فلا يرضى) ش: أي رب المال م: (به) ش: أي بذلك الزائد م: (ولا يشغل ذمته بالدين) ش: أي ولا يرضى أيضا بشغل ذمة المضارب الدين.
م: (ولو أذن له رب المال بالاستدانة صار المشترى) ش: بفتح الراء م: (بينهما) ش: أي بين رب المال والمضارب م: (نصفين بمنزلة شركة الوجوه) ش: ولا يكون مضاربة إذ ليس لواحد منهما فيه رأس المال فصار شركة بينهما كشركة الوجوه، وإنما كان بينهما لأن إطلاق الشركة يقتضي التساوي م: (وأخذ السفاتج) ش: بالرفع عطف على قوله وهو الاستدانة، أي النوع الذي لا يملك المضارب بدون التنصيص عليه الاستدانة وأخذ السفاتج وهو عبارة عن قرض يستفاد به سقوط خطر الطريق، وهو جمع سفتجة قال صاحب " المغرب ": هو بضم السين وفتح التاء وهو تعريب سفته، وسفته شيء محكم، وسمي هذا القرض به لإحكام أمره م: (لأنه نوع من الاستدانة) ش: فلا يملكها المضارب إلا بالتنصيص م: (وكذا إعطاؤها) ش: أي وكذا من النوع الذي لا يملكه المضارب إعطاء السفاتج م: (لأنه إقراض) ش: فلا يملكه المضارب لأنه ليس من التجارة م: (والعتق) ش: بالرفع أيضا وكذا من النوع الذي لا يملكه إلا بالتنصيص عتق العبد من مال المضاربة سواء كان م: (بمال أو بغير مال) ش: لأنه ليس من التجارة م: (والكتابة) ش: بالرفع أيضا م: (لأنه) ش: أي لأن المذكور من العتق بنوعيه والكتابة م: (ليس بتجارة) ش: لأن هذه الأشياء تبرعات م: (والإقراض والهبة والصدقة) ش: كلها بالرفع م: (لأنه) ش: لأنه المذكور وهو الأشياء الثلاثة م: (تبرع محض) ش: فلا يملكها المضارب إلا بالتنصيص.
[تزويج المضارب العبد أو الأمة من مال المضاربة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يزوج عبدا، ولا أمة من مال المضاربة) ش: قيد به لأنه يجوز من غيره بلا خلاف م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يزوج الأمة، لأنه من باب(10/86)
الاكتساب، ألا ترى أنه يستفيد به المهر وسقوط النفقة، ولهما أنه ليس بتجارة والعقد لا يتضمن إلا التوكيل بالتجارة وصار كالكتابة والإعتاق على مال؛ لأنه اكتساب ولكن لما يكن بتجارة لا يدخل تحت المضاربة، فكذا هذا قال: فإن دفع شيئا من مال المضاربة إلى رب المال بضاعة فاشترى رب المال وباع فهو على المضاربة وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفسد المضاربة؛ لأن رب المال متصرف في مال نفسه فلا يصلح وكيلا فيه فيصير مستردا، ولهذا لا تصح إذا شرط العمل عليه ابتداء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاكتساب، ألا ترى أنه) ش: أي المضارب م: (يستفيد به) ش: أي بتزويجها م: (المهر وسقوط النفقة) ش: أي عن المضارب.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن تزويج الأمة م: (ليس بتجارة والعقد) ش: أي عقد المضاربة م: (لا يتضمن إلا التوكيل بالتجارة، وصار) ش: أي تزويج الأمة م: (كالكتابة والإعتاق على مال لأنه) ش: أي فإن كل واحد من الكتابة والإعتاق على مال م: (اكتساب) ش: حيث يحصل فيه المال م: (ولكن لما لم يكن بتجارة لا يدخل تحت المضاربة فكذا هذا) ش: أي تزويج الأمة، وإن كان فيه مال ولكن ليس بتجارة.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير وليس في كثير من النسخ لفظه، قال: بل قوله فإن دفع بألف التفريعية وصورها فيه محل عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن دفع على آخر ألف درهم مضاربة بالنصف فدفع المضارب بعضها إلى رب المال بضاعة فباع رب المال بها واشترى، قال: هي على حالها، قوله م: (فإن دفع) ش: أي المضارب م: (شيئًا من مال المضاربة إلى رب المال بضاعة) ش: أي حال كون الشيء بضاعة.
وهاهنا شيئان، الأول: أن قوله شيئًا وإن كان يوهم أن حكم دفع كل المال بضاعة بخلاف ذلك فليس كذلك، لأن الحكم فيها سواء، نص عليه في " الذخيرة " و" المبسوط ". الثاني: أنه قيد بدفع المضارب، لأن رب المال لو أخذه من منزل المضارب من غير أمره وباع واشترى إن كان رأس المال بضاعة فهو نقض للمضاربة وإن صار عوضًا لا يصير نقضًا، لأنه يمكن أن يجعل معينًا، لأنه يكون عاملاً لغيره م: (فاشترى رب المال وباع فهو) ش: أي الذي اشترى وباع م: (على المضاربة) ش: يعني لا يفسد المضاربة بذلك.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تفسد المضاربة، لأن رب المال متصرف في مال نفسه فلا يصلح وكيلا فيه) ش: لأن المرء فيما يعمل في ملكه لا يصلح وكيلاً لغيره م: (فيصير) ش: أي رب المال م: (مستردًا) ش: لما له وبه تنقض المضاربة م: (ولهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لا تصح) ش: أي عقد المضاربة م: (إذا شرط العمل عليه) ش: أي على رب المال م: (ابتداء) ش: أي في(10/87)
ولنا: أن التخلية فيه قد تمت وصار التصرف حقا للمضارب فيصلح رب المال وكيلا عنه في التصرف والإبضاع توكيل منه فلا يكون استردادا بخلاف شرط العمل عليه في الابتداء؛ لأنه يمنع التخلية وبخلاف ما إذا دفع المال إلى رب المال مضاربة حيث لا يصح لأن المضاربة تنعقد شركة على مال رب المال وعمل المضارب ولا مال هاهنا للمضارب، فلو جوزناه يؤدي إلى قلب الموضوع، وإذا لم يصح بقي عمل رب المال بأمر المضارب فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابتداء المضاربة. (ولنا أن التخلية فيه) ش: أي بين المال وبين المضارب م: (قد تمت) ش: بتسلمه م: (وصار التصرف) ش: من رب المال م: (حقا للمضارب فيصلح رب المال وكيلا عنه) ش: أي عن المضارب م: (في التصرف) ش: كما لو وكل أجنبيا م: (والإبضاع) ش: أي إبضاع المضارب رب المال م: (توكيل منه) ش: أي من المضارب م: (فلا يكون) ش: أي الإبضاع م: (استردادًا) ش: أي لماله لتنقص به المضاربة.
فإن قيل: الإبضاع هو أن يكون المال للمبضع والعمل من الآخر وليس للمبضع هاهنا مال: فكيف يتحقق الإبضاع؟. قلنا: الإبضاع وهو الدفع على وجه الاستعانة ورب المال يصلح معينا له، لأنه أشفق الناس إليه تصرفًا فيصح الاستعانة به كما يصح من الأجنبي.
فإن قيل: الأجنبي عامل في ملك الغير فيصلح معيناً ورب المال يتصرف في ملك نفسه فلا يصلح معينًا، وهذا لو استأجر خياطًا واستعان الأجير بالمستأجر في الخياطة مما يستحق المستأجر الأجر، لأن عمله لا يتحول إلى المستأجر فينبغي أن لا يكون للمضارب من هذا الربح نصيب.
قلنا: في المضاربة معنى الإجارة والشركة جميعا، ومعنى الشركة راجح، بل المقصود وهو الشركة، ولهذا لو عمل ولم يربح لا يقضي له بشيء وفي الشركة يستحق أحد الشريكين الربح بعمل صاحبه، وإن كان كذلك صلح رب المال معينا، أما في الإجارة يستحق الأجر بالعمل والعمل لا يتحول فافهم.
م: (بخلاف شرط العمل عليه) ش: أي على رب المال، وهذا جواب عن قوله وهذا لا يصح إذا شرط العلم عليه ابتداء م: (في الابتداء، لأنه يمنع التخلية) ش: أي بين المال وبين المضارب م: (وبخلاف ما إذا دفع) ش: أي المضارب م: (المال إلى رب المال مضاربة حيث لا يصح) ش: أي عقد المضاربة الثانية م: (لأن المضاربة تنعقد شركة على مال رب المال وعمل المضارب) ش: لأن المضاربة هي عقد على الشركة بمال من أحد الجانبين وعمل من الآخر م: (ولا مال هاهنا للمضارب) ش: يعني من جانب المضارب م: (فلو جوزناه) ش: أي عقد المضاربة الثانية م: (يؤدي إلى قلب الموضوع) ش: أي عكسه وهو تجويز المضاربة بدون المال.
م: (وإذا لم يصح) ش: أي عقد المضاربة الثانية م: (بقي عمل رب المال بأمر المضارب فلا(10/88)
تبطل به المضاربة الأولى. قال: وإذا عمل المضارب في المصر فليست نفقته في المال وإن سافر فطعامه وشرابه وكسوته وركوبه ومعناه شراء وكراء في المال. ووجه الفرق أن النفقة تجب بإزاء الاحتباس كنفقة القاضي ونفقة المرأة والمضارب في المصر ساكن بالسكنى الأصلي. وإذا سافر صار محبوسا بالمضاربة فيستحق النفقة فيه. وهذا بخلاف الأجير لأنه يستحق البدل لا محالة فلا يتضرر بالإنفاق من ماله، أما المضارب فليس له إلا الربح وهو في حيز التردد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تبطل به) ش: أي يدفع المال إلى رب المال في المضاربة الثانية م: (المضاربة الأولى) ش: كالرهن في يد الراهن بالعارية لا يبطل حق المرتهن. وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - تنفسخ المضاربة الأولى كما لو دفعه إعانة.
[نفقة المضارب إذا عمل في المصر بدون سفر]
م: (قال) ش: في " الجامع الصغير ": م: (وإذا عمل المضارب في المصر فليست نفقته في المال) ش: الاحتباس على ما يجيء م: (وإن سافر فطعامه وشرابه وكسوته وركوبه) ش: بفتح الراء وهو ما يركب عليه، قال الله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] (يس: الآية 72) م: (ومعناه) ش: أي معنى ركوبه أي معنى كون ركوبه في المال م: (شراء وكراء) ش: أي من حيث الشراء ومن حيث الكراء.
أراد أن المضارب في السفر له أن يركب إما بشراء دابة أو بكراء بها م: (في المال) ش: أي في مال المضاربة وهو ظرف للجميع والشرط أن يكون ذلك كله بالمعروف، وبه قال مالك وأبو ثور والحسن والنخعي والأوزاعي وإسحاق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فنفقته في مال نفسه في صورة يجوز له السفر بالإذن، وبه قال ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان.
م: (ووجه الفرق) ش: أي بين ما إذا عمل في المصر حيث لا نفقة له في مال المضاربة وبين ما إذا عمل في السفر حيث يجب فيه م: (أن النفقة تجب بإزاء الاحتباس كنفقة القاضي ونفقة المرأة) ش: لأن القاضي محبوس لمصالح العامة والمرأة محبوسة في منزل الزوج م: (والمضارب في المصر ساكن بالسكنى الأصلي) ش: لا المضاربة.
م: (وإذا سافر صار محبوسًا بالمضاربة) ش: بالعمل للمضاربة م: (فيستحق النفقة فيه) ش: أي في مال المضاربة لأجل الاحتباس م: (وهذا) ش: أي الحكم م: (بخلاف الأجير لأنه يستحق البدل لا محالة) ش: لكونه يعمل ببدل فكان البدل واجبًا له مطلقًا م: (فلا يتضرر بالإنفاق من ماله) ش: أي من مال نفسه لأنه عامل ببدل مضمون في ذمة المستأجر، وذلك يصح له بيقين، بخلاف المضارب فإنه غير مستوجب بدلائل حقه في ربح عسى يحصل وعسى لا يحصل فلا بد أن يجعل له بإزاء ما يحمله من المشقة شيئًا معلومًا.
أشار إلى هذا المعنى بقوله: م: (أما المضارب فليس له إلا الربح وهو في حيز التردد) ش:(10/89)
فلو أنفق من ماله يتضرر به، وبخلاف المضاربة الفاسدة؛ لأنه أجير، وبخلاف البضاعة لأنه متبرع.
قال: ولو بقي شيء في يده بعدما قدم مصره رده في المضاربة؛ لانتهاء الاستحقاق. ولو كان خروجه دون السفر فإن كان بحيث يغدو ثم يروح فيبيت بأهله فهو بمنزلة السوقي في المصر. وإن كان بحيث لا يبيت بأهله فنفقته في مال المضاربة؛ لأن خروجه للمضاربة. والنفقة هي ما يصرف إلى الحاجة الراتبة وهو ما ذكرنا، ومن جملة ذلك غسل ثيابه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني بين أن يكون وبين أن لا يكون م: (فلو أنفق من ماله يتضرر به) ش: أي بالإنفاق من مال نفسه، كالشريك إذا سافر بمال الشركة؛ فنفقته في ذلك المال، روي عن محمد ذلك م: (وبخلاف المضاربة الفاسدة، لأنه أجير) ش: فلا نفقة له م: (وبخلاف البضاعة، لأنه متبرع) ش: أي بالعمل فلا يجب له النفقة.
م: (قال) ش: لو لم يذكر لفظة قال لكان أصوب، لأن المسألة لم تذكر في الجامع الصغير ولا في القدوري، ولهذا لم يذكرها في البداية، وإنما ذكرت المسألة في " المبسوط " م: (ولو بقي شيء في يده) ش: أي في يد المضارب م: (بعدما قدم مصره رده في المضاربة لانتهاء الاستحقاق) ش: والحكم ينتهي بانتهاء علته وذلك كالحاج عن الغير إذا بقي معه شيء من النفقة بعد رجوعه يجب عليه رده وكالمولى إذا نقل الأمة المبتدئة للخدمة وبقي شيء معها من النفقة كان للزوج أن يسترد ذلك منها كذا في " المبسوط ".
م: (ولو كان خروجه) ش: أي خروج المضارب من بلده م: دون السفر) ش: وهو مسيرة ثلاثة أيام م: (فإن كان بحيث يغدو ثم يروح فيبيت بأهله فهو بمنزلة السوقي في المصر) ش: لأن أهل السوق يتجرون في المصر ثم يبيتون في منازلهم م: (وإن كان بحيث لا يبيت بأهله فنفقته في مال المضاربة، لأن خروجه للمضاربة) ش: فصار كالخروج للسفر م: (والنفقة) ش: أشار به إلى تفسير النفقة الواجبة للمضارب م: (هي ما يصرف إلى الحاجة الراتبة) ش: أي الثابتة اللازمة التي لا بد منها م: (وهو) ش: أي الذي يصرف إلى الحاجة الراتبة م: (ما ذكرنا) ش: أراد به ما ذكرناه فيما قبل من طعامه وشرابه وكسوته وركوبه م: (ومن جملة ذلك) ش: أي من الذي يصرف إلى الحاجة الراتبة م: (غسل ثيابه) ش: لأنه ضروري.
وكذا أجرة الحجام والحلاق، نص عليه في " الفوائد الظهيرية " والقياس يأبى ذلك، لأنه لا يحتاج إليها في عموم الأوقات، ولكن هذا من صنيع التجار حيث يتنظفون بإزالة الوسخ وقص الشارب وحلق الرأس لتزداد رغبات الناس في المعاملات، فإن الإنسان إذا كان وسخ الثياب طويل الشعر يعد من المفاليس عادة فيقل معاملوه فصارت هذه الأشياء كالنفقة الراتبة، وكذا ثمن الخرص والصابون دون الحجام والفصاد.(10/90)
وأجرة أجير يخدمه وعلف دابة يركبها والدهن في موضع يحتاج إليه عادة كالحجاز وإنما يطلق في جميع ذلك بالمعروف حتى يضمن الفضل إن جاوزه اعتبارا للمتعارف فيما بين التجار.
قال: وأما الدواء ففي ماله في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة أنه يدخل في النفقة؛ لأنه لإصلاح بدنه ولا يتمكن من التجارة إلا به فصار كالنفقة، وجه الظاهر أن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة المرأة على الزوج ودواؤها في مالها.
قال: وإذا ربح أخذ رب المال ما أنفق من رأس المال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأجرة أجير يخدمه) ش: أي يخدم المضارب، لأنه ضروري م: (وعلف دابة يركبها والدهن) ش: بفتح الدال وهو مصدر من دهن يدهن بالفتح فيهما، والمراد استعمال الدهن كالزيت والسيرج ونحوهما م: (في موضع يحتاج إليه) ش: أي إلى الدهن م: (عادة كالحجاز) ش: أي كما في أرض الحجاز، لأنها حارة يحتاج أهلها إلى ترطيب أبدانهم بالدهن م: (وإنما يطلق) ش: يعني: يجوز م: (في جميع ذلك) ش: من الذي ذكره وجعله من الراتبة م: (بالمعروف) ش: أي بقدر دفع الضرورة بلا إسراف م: (حتى يضمن الفضل إن جاوزه) ش: أي المعروف م: (اعتبارًا للمتعارف) ش: أي المعتاد م: (فيما بين التجار) ش: لأن صنيعهم هو الأصل في هذا الباب.
[دواء المضارب هل يأخذه من مال المضاربة]
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير م: (وأما الدواء) ش: أي ثمنه م: (ففي ماله) ش: أي في مال المضارب م: (في ظاهر الرواية) ش: قال الأترازي: ليس في ذكره كثير فائدة لوجهين؛ لأنه رواية الجامع الصغير، وما ذكر كله ظاهر الرواية، ولأنه ذكر بعد هذا وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يدخل في النفقة فيفهم منه إشارة أنه ظاهر الرواية لأن كلمة من تستعمله في غير ظاهر الرواية بطريق الالتزام وقيده بظاهر الرواية يدل بالتصريح، وهذا قدر جليل في الفائدة.
م: (وعن أبي حنيفة) ش: وهي رواية الحسن عنه م: (أنه) ش: أي أن ثمن الدواء وتذكير الضمير بهذا الاعتبار وإلا فالدواء مؤنث م: (يدخل في النفقة، لأنه لإصلاح بدنه ولا يتمكن من التجارة إلا به) ش: أي بإصلاح البدن م: (فصار كالنفقة) ش: فيجب في مال المضاربة م: (وجه الظاهر أن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع وإلى الدواء) ش: أي وإن الحاجة إلى الدواء م: (بعارض المرض) ش: فقد يمرض وقد لا يمرض فلم يكن لازمًا.
م: (ولهذا) ش: أشار به إلى بيان الفرق بين النفقة والدواء م: (كانت نفقة المرأة على الزوج) ش: لأنها معلومة الوقوع م: (ودواؤها في مالها) ش: لأنها غير معلومة الوقوع قد يقع وقد لا يقع.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (وإذا ربح أخذ رب المال ما أنفق من رأس(10/91)
قال: فإن باع المتاع مرابحة حسب ما أنفق على المتاع من الحملان ونحوه ولا يحتسب ما أنفق على نفسه؛ لأن العرف جار بإلحاق الأول دون الثاني، ولأن الأول يوجب زيادة في المالية بزيادة القيمة والثاني لا يوجبها. قال: فإن كان معه ألف فاشترى بها ثيابا فقصرها أو حملها بمائة من عنده، وقد قيل له: اعمل برأيك فهو متطوع؛ لأنه استدانة على رب المال فلا ينتظمه هذا المقال على ما مر. فإن صبغها أحمر فهو شريك بما زاد الصبغ فيها ولا يضمن؛ لأنه عين مال قائم به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المال) ش: أي الذي أنفق المضارب من رأس المال يرفعه رب المال أولا ثم يقسم الربح إن بقي، لأن قسمة الربح إنما شرعت بعد تسليم رأس المال.
[حكم ما أنفقه المضارب على نفسه]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (فإن باع) ش: أي المضارب م: (المتاع مرابحة حسب ما أنفق على المتاع من الحملان) ش: بضم الحاء مصدر بمعنى الحمل م: (ونحوه) ش: كأجر السمسار والقصار والصباغ، لكن لا يقول اشتريته بكذا تحرزا عن الكذب، بل يقول تقوم علي بكذا كما بين في المرابحة م: (ولا يحتسب ما أنفق على نفسه، لأن العرف جار) ش: بين التجار م: (بإلحاق الأول) ش: أراد به ما أنفق على المتاع من الحمل ونحوه وأراد بإلحاقه برأس المال م: (دون الثاني) ش: أراد به ما أنفق على نفسه، لأن التجار لم يتعارفوا إلحاق ما أنفقوا على أنفسهم برأس المال م: (ولأن الأول) ش: أي الإنفاق على المتاع م: (يوجب زيادة في المالية بزيادة القيمة والثاني لا يوجبها) ش: كالصبغ والقصر ونحوهما، فإنه يوجب زيادة في غير المتاع، وكالجمل فإنه يوجب زيادة في القيمة، لأن القيمة تختلف باختلاف الأماكن.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (فإن كان معه) ش: أي مع المضارب م: ألف فاشترى بها ثيابا فقصرها أو حملها بمائة من عنده) ش: أي من عند المضاربة م: (وقد قيل له اعمل برأيك) ش: أي والحال أنه قد قيل للمضارب فإن قال له رب المال اعمل برأيك م: (فهو متطوع) ش: أي المضارب متبرع في المائة م: (لأنه) ش: أي لأن هذا الصنيع م: (استدانة على رب المال فلا ينتظمه هذا المقال) ش: يعني قول رب المال له اعمل برأيك م: (على ما مر) ش: عند قوله وقوع لا يملكه إلا أن ينص عليه رب المال وهو الاستدانة.
وفي " المنتقى ": رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة، فاكترى سفينة بمائة درهم، والمال عنده على حاله، ثم اشترى بالألف كله طعامًا وحمله في السفينة فهو متطوع في الكراء، ولو كان اشترى بتسعمائة منها طعامًا وبقيت في يده مائة فأداها في الكراء لم يكن متطوعاً وباعه مرابحة على الكراء م: (فإن صبغها) ش: أي فإن صبغ المضارب الثياب المذكورة م: (أحمر) ش: صفة مصدره محذوف أي صبغا أحمر م: (فهو) ش: أي المضارب م: (شريك) ش: أي لرب المال م: (بما زاد الصبغ فيها ولا يضمن، لأنه) ش: أي لأن الصبغ م: (عين مال قائم به) ش:(10/92)
حتى إذا بيع كان له حصة الصبغ وحصة الثوب الأبيض على المضاربة،
بخلاف القصارة والحمل؛ لأنه ليس بعين مال قائم به، ولهذا إذا فعله الغاصب ضاع عمله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بالمصبوغ دل عليه قوله فإن صبغها.
وكذا الضمير في به يرجع إلى المصبوغ وفي الحقيقة يرجع إلى الثياب ولكنه لما ذكره أولناه هكذا م: (حتى إذا بيع) ش: أي المصبوغ المذكور م: (كان له) ش: أي للمضارب م: (حصة الصبغ وحصة الثوب الأبيض على المضاربة) ش: حتى إذا كانت قيمة الثوب غير مصبوغ ألفًا ومصبوغ ألفًا ومائتين كان الألف للمضاربة ومائتا درهم للمضارب بدل ماله وهو الصبغ.
فإن قلت: فما حكم سائر الألوان ولم خص الحمرة؟.
قلت: لأن السواد نقصان عند أبي حنيفة، وأما سائر الألوان فكالحمرة، ذكره فخر الإسلام في " الجامع الصغير ".
وقال في " تحرير المحيط ": إن صبغها المضارب بعصفر أو زعفران أو صبغ آخر يزيد في الثوب، فإن كان رب المال قال له اعمل فيه برأيك كان صاحب الثوب بالخيار، فإن شاء ضمن المضارب قيمة ثوبه أبيض، وإن شاء أخذ الثياب وأعطاه قيمة ما زاد الصبغ فيه يوم الخصومة إلا يوم اتصل بثوبه كما في الغاصب.
وهذا إذا لم يكن في مال المضاربة، فأما إذا كان فيقدر ما كان حصة المضارب من الثياب لا يضمنه، فإن لم يفعل رب المال شيئًا من ذلك حتى باع المضارب الثياب جاز بيعه وبرئ من الضمان ولم يكن لرب المال أن يمنعه من البيع، وإذا جاز بيعه فينظر بعد ذلك إن باعها مساومة يقسم الثمن بين رب المال وبين المضارب على قيمة الثياب غير مصبوغة، وعلى قيمتها المصبوغة فتفاوت ما بينهما يكون قيمة الصبغ حتى إنه إذا كان قيمة الثياب غير مصبوغة ألفا وقيمتها مصبوغة ألف ومائتان فالألف للمضاربة والمائتان للمضارب بدل صبغه، وإن باعها مرابحة فإن هذا الثمن ينقسم على الثمن الذي اشترى المضارب الثياب به وعلى قيمة الذي صبغ المضارب به.
م: (بخلاف القصارة) ش: بفتح القاف، لأن القصارة بالكسر حرفة القصار، وبالفتح فعله مصدر من قصر الثوب إذا بيضه م: (والحمل) ش: أي حمل المتاع م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من القصارة والحمل م: (ليس بعين مال قائم به) ش: أي بالثوب حتى يكون بإزائه بعض الثمن فيكون جميع الثمن للمضاربة. وإنما قال ليس بعين مال قائم لأنه في الحمل ظاهر.
وأما في القصارة فلا تنفي الثوب ولا تزيد فيه شيئًا ويبقى أبيض على ما كان أصله.
م: (ولهذا) ش: توضيح لما قاله من الفرق م: (إذا فعله الغاصب ضاع عمله) ش: يعني لو(10/93)
ولا يضيع إذا صبغ المغصوب، وإذا صار شريكا بالصبغ انتظمه قوله اعمل برأيك انتظامه الخلط فلا يضمنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قصر الغاصب الثوب الذي غصبه ضاع فعله، حتى لو إن ردت قيمته للمالك أن يأخذه مجانًا.
م: (ولا يضيع) ش: أي فعل الغاصب م: (إذا صبغ المغصوب) ش: حتى إذا صبغه أحمر أو أصفر لم يكن للمالك أن يأخذه مجانًا. بل يتخير رب المال إن شاء أخذ الثوب وأعطاه قيمة ما زاد الصبغ فيه يوم الخصومة لا يوم اتصال ثبوته، وإن شاء ضمنه جميع قيمة الثوب أبيض يوم صبغه وترك الثوب عليه.
م: (وإذا صار) ش: أي المضارب م: (شريكًا) ش: أي لرب المال م: (بالصبغ انتظمه) ش: يعني شمله أي المضارب م: (قوله:) ش: أي قول رب المال م: (اعمل برأيك) ش: يعني أن قوله اعمل برأيك يكون متناولاً لصبغه أحمر م: (انتظامه الخلط) ش: أي كانتظام قوله اعمل برأيك الخلط، يعني خلط مال المضاربة بمال القسمة وبمال غيره.
وانتصاب الالتزام ينزع الحافظ وهو مصدر مضاف إلى فاعله وهو الضمير الذي يرجع إلى قوله اعمل برأيك، وقول الخلط بالنصب مفعوله م: (فلا يضمنه) ش: أي إذا كان كذلك فلا يضمن المطلوب الثوب المصبغ، لأن الشركة والخلط بإذن رب المال وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: يضمن، وإن قال: اعمل برأيك، وإذا لم يقل له اعمل برأيك يصير غاصبًا فيضمن.(10/94)
فصل آخر قال: فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها بزا فباعه بألفين ثم اشترى بالألفين عبدا فلم ينقدهما حتى ضاعا يغرم رب المال ألفا وخمسمائة والمضارب خمسمائة ويكون ربع العبد للمضارب وثلاثة أرباعه على المضاربة، قال - رضي الله عنه - هذا الذي ذكره حاصل الجواب لأن الثمن كله على المضارب إذ هو العاقد إلا أن له حق الرجوع على رب المال بألف وخمسمائة على ما نبين فيكون عليه في الآخرة. ووجهه أنه لما نض المال ظهر الربح وله منه وهو خمسمائة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل إن كان مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها بزًا فباعه بألفين]
م: (فصل آخر)
ش: لما كانت مسائل هذا الفصل متفرقة ذكرها بفصل على حدة، ولما لم يكن من نفس مسائل المضاربة التي لا بد منها للمضاربة أخر ذكرها.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير م: (فإن كان معه) ش: أي مع المضارب م: (ألف بالنصف فاشترى بها بزًا) ش: بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي المعجمة. قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير ": البز عند أهل الكوفة ثياب الكتان والقطن لا ثياب الصوف والخز م: (فباعه) ش: أي البز م: (بألفين ثم اشترى بالألفين عبدا فلم ينقدهما) ش: أي بالألفين م: (حتى ضاعا) ش: أي الألفان م: (يغرم رب المال ألفًا وخمسمائة والمضارب خمسمائة ويكون ربع العبد للمضارب وثلاثة أرباعه على المضاربة) ش: لأن المضارب لما باع البز بألفين ظهر الربح بقدر الألف فيملك المضارب نصفه وهو خمسمائة، فإذا اشترى بالألفين عبدًا صار ربع العبد له وثلاثة أرباعه لرب المال فانهلك الثمن كأنما يخص الربع على المضارب وما يخص ثلاثة أرباع على رب المال.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذا الذي ذكره) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (حاصل الجواب) ش: أي جواب المسألة م: (لأن الثمن كله على المضارب إذ هو العاقد) ش: فيجب عليه م: (إلا أن له) ش: أي للمضارب م: (حق الرجوع على رب المال بألف وخمسمائة على ما نبين) ش: أشار به إلى قوله: لأنه وكيل من جهته فيه ويأتي ذلك بعد ثلاثة أسطر.
م: (فيكون عليه في الآخرة) ش: أي فيكون الثمن كله على المضارب، لأنه هو العاقد الآخر بفتح الهمزة والحاء والراء أي في الأخير يقال جاء فلان بآخرة أي بأخير.
م: (ووجهه) ش: أي وجه حاصل الجواب م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (لما نض المال) ش: أي نقد م: (ظهر الربح وله منه) ش: أي وللمضارب من الربح شيء أو نصيب، ثم فسره بقوله م: (وهو) ش: أي الذي ظهر للمضارب من الربح م: (خمسمائة) ش: لأنه ظهر الربح(10/95)
فإذا اشترى بالألفين عبدا صار مشتريا ربعه لنفسه وثلاثة أرباعه للمضاربة على حسب انقسام الألفين، وإذا ضاعت الألفان وجب عليه الثمن لما بيناه، وله الرجوع بثلاثة أرباع الثمن على رب المال لأنه وكيل من جهة فيه ويخرج نصيب المضارب وهو الربع من المضاربة؛ لأنه مضمون عليه ومال المضاربة أمانة وبينهما منافاة ويبقى ثلاثة أرباع العبد على المضاربة لأنه ليس فيه ما ينافي المضاربة ويكون رأس المال ألفين وخمسمائة؛ لأنه دفعه مرة ألفا ومرة ألفا وخمسمائة
ولا يبيعه مرابحة إلا على الألفين؛ لأنه اشتراه بألفين ويظهر ذلك فيما إذا بيع العبد بأربعة آلاف فحصة المضاربة ثلاثة آلاف يرفع رأس المال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد الألف يملك المضارب نصفه وهو خمسمائة م: (فإذا اشترى بالألفين عبدًا صار مشتريًا ربعه) ش: أي ربع العبد م: (لنفسه وثلاثة أرباعه للمضاربة على حسب انقسام الألفين) ش: أي على الأرباع الربع للمضارب وثلاثة أرباع لرب المال.
م: (وإذا ضاعت الألفان وجب عليه) ش: أي على المضارب م: (الثمن) ش: أي ثمن العبد م: (لما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: لأن الثمن كله على المضارب إذ هو العاقد. م: (وله) ش: وللمضارب م: (الرجوع بثلاثة أرباع الثمن على رب المال لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (وكيل من جهة) ش: أي من جهة رب المال م: (فيه) ش: أي في شراء هذا العبد.
م: (ويخرج نصيب المضارب وهو الربع من المضاربة لأنه) ش: أي لأن نصيبه م: (مضمون عليه) ش: لدخول الربع في ملكه وضمانه م: (ومال المضاربة أمانة) ش: أي في يد المضارب م: (وبينهما) ش: أي بين المضمون والأمانة م: (منافاة) ش: فلا تجتمعان. وإذا كان كذا يخرج نصيب المضارب وهو الربع عن المضاربة لكونه مضمونًا عليه م: (ويبقى ثلاثة أرباع العبد على المضاربة، لأنه ليس فيه) ش: أي في إبقاء ثلاثة الأرباع على المضاربة م: (ما ينافي المضاربة) ش: لأن ضمان رب المال لا ينافي المضاربة م: (ويكون رأس المال ألفين وخمسمائة لأنه) ش: أي لأن رب المال م: (دفعه مرة ألفًا ومرة ألفًا وخمسمائة) ش: فالمجموع ألفان وخمسمائة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعنهم المال ما دفعه ثانيًا وهو ألف وخمسمائة، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
م: (ولا يبيعه) ش: أي لا يبيع المضارب العبد المذكور م: (مرابحة إلا على الألفين، لأنه اشتراه بألفين) ش: لأن عقده دفع على الألفين حتى اشتراه م: (ويظهر ذلك) ش: إشارة إلى مجموع ما ذكر قبله وهو خروج نصيب المضارب وهو الربع من المضاربة وبقاء ثلاثة أرباع العبد على المضاربة وظهور الربح بعد ذك على ما شرطا م: (فيما إذا بيع العبد بأربعة آلاف فحصة المضاربة ثلاثة آلاف) ش: لأن ربع الثمن وهو ألف للمضارب، لأنه بدل ملكه م: (يرفع رأس المال) ش:(10/96)
ويبقى خمسمائة ربحا بينهما.
قال: وإن كان معه ألف فاشترى رب المال عبدا بخمسمائة وباعه إياه بألف فإنه يبيعه مرابحة على خمسمائة لأن هذا البيع مقضي بجوازه لتغاير المقاصد دفعا للحاجة، وإن كان بيع ملكه بملكه إلا أن فيه شبهة العدم، ومبنى المرابحة على الأمانة والاحتراز عن شبهة الخيانة فاعتبر أقل الثمنين. ولو اشترى المضارب عبدا بألف وباعه من رب المال بألف ومائتين باعه مرابحة بألف ومائة لأنه اعتبر عدما في حق نصف الربح وهو نصيب رب المال وقد مر في البيوع.
قال: فإن كان معه ألف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ألفان وخمسمائة م: (ويبقى خمسمائة ربحًا بينهما) ش: أي بين المضارب ورب المال نصفين على ما شرطا.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير: م: (وإن كان معه ألف) ش: أي مع المضارب م: (فاشترى رب المال عبدًا بخمسمائة وباعه إياه) ش: أي المضارب م: (بألف فإنه) ش: أي فإن المضارب م: (يبيعه) ش: أي العبد المذكور م: (مرابحة على خمسمائة، لأن هذا البيع) ش: أي بيع رب المال للمضارب م: (مقضي بجوازه) ش: أي محكوم بصحته م: (لتغاير المقاصد) ش: لأن مقصود رب المال وصوله إلى الألف مع بقاء العقد، ومقصود المضارب استفادة اليد على العبد م: (دفعًا للحاجة) ش: أي لأجل دفع الحاجة.
م: (وإن كان) ش: إن هذه واصلة بما قبله، يعني هذا البيع قضى بجوازه وإن كان م: (بيع ملكه بملكه) ش: أي بيع ملك رب المال بملكه وذلك لأن المضارب اشتراه لرب المال لأنه وكيله، وبيع الإنسان من نفسه باطل ولكن لما كان حق المضارب كحق ثالث صح البيع خلافًا لزفر.
م: (إلا) ش: استثنى من قوله مقضي بجوازه، وهو معنى بغير أي غير م: (أن فيه) ش: أي في هذا البيع م: (شبهة العدم) ش: جواز البيع، ولهذا أبطله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فتمكنت شبهة البطلان، فاعتبر أقل الثمنين في المرابحة على ما يجيء الآن م: (ومبنى المرابحة على الأمانة والاحتراز عن شبهة الخيانة فاعتبر أقل الثمنين) ش: في المرابحة للاحتياط.
م: (ولو اشترى المضارب عبدًا بألف وباعه من رب المال بألف ومائتين باعه مرابحة بألف ومائة لأنه) ش: أي لأن البيع م: (اعتبر عدمًا في حق نصف الربح وهو نصيب رب المال) ش: تحريره أن العقدين وقعا لرب المال ولم يقع لمضارب منه إلا قدر مائة فوجب اعتبار هذه المائة وفيما وقع رب المال لم يعتبر الربح لاحتمال بطلان العقد الثاني كما قلنا في المسألة الأولى م: (وقد مر في البيوع) ش: أراد به ما ذكره في باب المرابحة بقوله وإن كان مع المضارب عشرة بالنصف فاشترى ثوبًا بعشرة وباعه من رب المال بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف.
[كان مع مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها عبدًا فقتل العبد رجلاً]
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير: م: (فإن كان معه) ش: أي مع المضارب م: (ألف(10/97)
بالنصف فاشترى بها عبدا قيمته ألفان فقتل العبد رجلا خطأ فثلاثة أرباع الفداء على رب المال وربعه على المضارب؛ لأن الفداء مؤنة الملك فيتقدر بقدر الملك وقد كان الملك بينهما أرباعا؛ لأنه لما صار المال عينا واحدا قيمته ألفان ظهر الربح وهو ألف بينهما وألف لرب المال برأس ماله؛ لأن قيمته ألفان. وإذا فديا خرج العبد عن المضاربة. أما نصيب المضارب فلما بيناه، وأما نصيب رب المال فلقضاء القاضي بانقسام الفداء عليهما، لما أنه يتضمن قسمة العبد بينهما والمضاربة تنتهي بالقسمة، بخلاف ما تقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالنصف فاشترى بها عبدًا قيمته ألفان فقتل العبد رجلاً خطأ) ش: أي قتلاً خطأ وهو نصب على الحال، أي خاطئًا، وإنما قيد بقوله قيمته ألفان، لأنه لو كان ألفًا فتدبير جنايته على رب المال بلا خلاف، لأن رقبته ملكه وإن اختار رب المال الدفع والمضارب الفداء مع ذلك فداء للثلاثة م: (فثلاثة أرباع الفداء على رب المال وربعه على المضارب، لأن الفداء مؤنة الملك فيتقدر بقدر الملك، وقد كان الملك بينهما أرباعًا، لأنه لما صار المال عينًا واحدًا قيمته ألفان ظهر الربح وهو ألف بينهما وألف لرب المال برأس ماله؛ لأن قيمته ألفان) ش: الأصل في جناية العبد الدفع أو الفداء، فإن دفع العبد انتهت المضاربة لأنه زال عن ملكها بلا بدل.
وفي " جامع المحبوبي ": لا يدفع حتى يحضر رب المال والعامل سواء كان الأرش مثل قيمة العبد أو أقل أو أكثر، لأن الملك مشترك بينهما كالعبد الرهن إذا جنى خطأ لا يدفع إلا بحضرة الراهن والمرتهن، ولا يشترط حضورهما للفداء، لأن كلا منهما بملكه ولو فداه المضارب لا يرجع على رب المال، لأنه أدى دين غيره بغير أمره، وهو غير مضطر فيه فكان متبرعًا كالأجنبي.
وقال مالك والشافعي - رحمهما الله - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: إن كانت قيمته أكثر من رأس المال يدفع بلا حضور المضارب؛ لأنه لا مالك له بعد ظهور الربح حتى يقتسما في قول، والفداء أيضًا على رب المال لا العامل لعدم ملكه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية يظهر ملك العامل بمجرد ظهور الربح كقولنا، فيكون الفداء عليه على قياس هذا القول.
م: (وإذا فديا) ش: أي رب المال والمضارب م: (خرج العبد عن المضاربة، أما نصيب المضارب فلما بيناه) ش: أشار به إلى ما ذكره من قوله ويخرج نصيب المضارب، وهو الربع في المضاربة، لأنه مضمون عليه م: (وأما نصيب رب المال فلقضاء القاضي بانقسام الفداء عليهما) ش: أي على رب المال والمضارب م: (لما أنه) ش: أي لأن قضاء القاضي بالانقسام م: (يتضمن قسمة العبد بينهما) ش: لأن الخطأ بالفداء يوجب سلامة ما فدى للفادي ولا سلامة إلا بالقسمة.
م: (والمضاربة تنتهي بالقسمة، بخلاف ما تقدم) ش: أراد به ما إذا ضاع الألفان في أول الفصل حيث لا تنتهي(10/98)
لأن جميع الثمن فيه على المضارب وإن كان له حق الرجوع فلا حاجة إلى القسمة، ولأن العبد كالزائل عن ملكهما بالجناية ودفع الفداء كابتداء الشراء فيكون العبد بينهما أرباعا لا على المضاربة يخدم المضارب يوما ورب المال ثلاثة أيام، بخلاف ما تقدم.
قال: وإن كان معه ألف فاشترى بها عبدا فلم ينقدها حتى هلكت الألف، يدفع رب المال ذلك الثمن ثم، وثم ورأس المال جميع ما يدفع إليه رب المال لأن المال أمانة في يده، ولا يصير مستوفيا والاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون وحكم الأمانة ينافيه فيرجع مرة بعد أخرى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المضاربة هناك، بل تثبت على ما كانت م: (لأن جميع الثمن فيه) ش: أي فيما تقدم م: (على المضارب وإن كان له حق الرجوع) ش: أي على رب المال بألف وخمسمائة على ما مر م: (فلا حاجة إلى القسمة) ش: لعدم أمر يقتضي ذلك.
م: (ولأن العبد كالزائل عن ملكهما بالجناية) ش: لأن الموجب الأصلي هو الدفع م: (ودفع الفداء كابتداء الشراء) ش: أراد باختيارهما الفداء، كأنهما اشترياه ابتداء يكون الفداء عليهما أرباعًا ربعه على المضارب وثلاثة أرباعه على رب المال، لأن الفداء مؤنة الملك فيتقدر بقدره، وقد كان الملك بينهما أرباعًا م: (فيكون العبد) ش: بعد فدائهما م: (بينهما أرباعًا لا على المضاربة) ش: لخروج العبد عن المضاربة م: (يخدم المضارب يومًا ورب المال ثلاثة أيام) ش: لأنه عبد مشترك أرباعًا م: (بخلاف ما تقدم) ش: أراد به المسألة التي تقدمت في أول الفصل فإن العبد فيها يخدم المضارب يومًا وثلاثة أيام للمضاربة لكون العبد في المضاربة لعدم انتهائها.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فإن كان معه) ش: أي مع المضارب م: (ألف فاشترى بها عبدًا فلم ينقدها) ش: يعني لم يدفع الألف إلى البائع م: حتى هلكت) ش: يعني الألف م: (يدفع رب المال ذلك الثمن ثم وثم ورأس المال جميع ما يدفع إليه رب المال) ش: وهو الألفان وكذا لو هلكت الألف الثاني قبل الدفع إلى البائع يدفع رب المال ألف أخرى ثم وثم، ويكون بجميع رأس المال.
م: (لأن المال أمانة في يده) ش: أي في يد المضارب، لأن مبنى المضاربة عليها م: (ولا يصير مستوفيًا والاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون) ش: أي استيفاء الحق يكون بقبض مضمون فلو حل بقبض المضارب على الاستيفاء لصار ضمانًا وهو أمين م: (وحكم الأمانة ينافيه) ش: أي ينافي الضمان دل عليه قوله بقبض مضمون، فإذا كان كذلك فحمل قبضه ثانيًا وثالثًا إلى غير النهاية على جهة الأمانة دون الاستيفاء، وإذا هلك كان الهلاك على رب المال م: (فيرجع مرة بعد أخرى) ش: أي إذا كان قبضة أمانة يرجع على رب المال مرة بعد أخرى حيث ما وجد هلاك المال.(10/99)
بخلاف الوكيل بالشراء إذا كان الثمن مدفوعا إليه قبل الشراء، وهلك بعد الشراء حيث لا يرجع إلا مرة؛ لأنه أمكن جعله مستوفيا؛ لأن الوكالة تجامع الضمان كالغاصب إذا توكل ببيع المغصوب ثم في الوكالة في هذه الصورة يرجع مرة وفيما إذا اشترى ثم دفع الموكل إليه المال فهلك لا يرجع؛ لأنه ثبت له حق الرجوع بنفس الشراء فجعل مستوفيا بالقبض بعده، أما المدفوع إليه قبل الشراء أمانة في يده وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف الوكيل بالشراء) ش: بشراء عبد بعينه م: (إذا كان الثمن مدفوعًا إليه قبل الشراء) ش: أي بأن أعطاه الموكل ألفًا وقال له اشتر لي عبدًا بعينه م: (وهلك) ش: أي الثمن وهو ألف مثلًا م: (بعد الشراء) ش: قبل أن ينقده إلى البائع م: (حيث لا يرجع) ش: أي على موكله م: (إلا مرة) ش: واحدة م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (أمكن جعله) ش: أي جعل ما قبضه الوكيل م: (مستوفيًا، لأن الوكالة تجامع الضمان) ش: على ما نبين الآن، بخلاف المضاربة، فإن مبناها على الأمانة م: (كالغاصب إذا توكل ببيع المغصوب) ش: حيث جازت الوكالة، فإذا هلك العبد في يد الغاصب بعد ما صار وكيلاً ضمن، لأنه لم يخرج عن الضمان بمجرد الوكالة م: (ثم في الوكالة في هذه الصورة) ش: أشار به إلى صورة الوكيل بشراء عبد بعينه ودفع إليه الثمن وهلك قبل الدفع إلى البائع م: (يرجع مرة) ش: يعني يرجع الوكيل على موكله مرة واحدة فيما إذا هلك الثمن بعد القبض من الموكل قبل الدفع إلى البائع.
تحريره أن الوكيل إذا اشترى العبد بألف وجب للبائع على الوكيل الثمن، ووجب للوكيل على الموكل مثله.
فإن كان الموكل قد دفع إليه الثمن أولا ثم هلك الثمن قبل الشراء، أي وقبل الدفع إلى البائع يرجع الوكيل على موكله بالثمن، لأن المدفوع إليه قبل الشراء أمانة في يده ولم يوجد بعد الشراء لما يوجب أن يكون مضمونًا، فلم يصر مستوفيًا، فإذا هلك يرجع عليه مرة ثم لا يرجع لو وقع الاستيفاء، وإن كان قد اشترى ثم دفع إليه الثمن ثم هلك قبل أن يدفعه إلى البائع لا يرجع، لأن قبضه كان على جهة الاستيفاء لا على جهة الأمانة.
فإذا استوفاه مرة؛ لم يبق الحق أصلاً أشار إلى ذلك بقوله م: (وفيما إذا اشترى) ش: أي الوكيل م: (ثم دفع الموكل إليه المال فهلك) ش: أي عند الوكيل م: (لا يرجع) ش: أي الوكيل على الموكل م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (ثبت له) ش: أي للوكيل م: (حق الرجوع) ش: أي على الموكل م: (بنفس الشراء فجعل) ش: أي الوكيل م: (مستوفيا بالقبض بعده) ش: أي بقبض الثمن بعد الشراء.
م: (أما المدفوع إليه) ش: أي إلى الوكيل م: (قبل الشراء أمانة في يده وهو) ش: أي الوكيل(10/100)
قائم على الأمانة بعده فلم يصر مستوفيا، فإذا هلك يرجع عليه مرة ثم لا يرجع لوقوع الاستيفاء على ما مر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قائم على الأمانة بعده) ش: أي بعد الشراء م: (فلم يصر مستوفيًا) ش: لكون قبضه قبض أمانة في هذه الصورة م: (فإذا هلك) ش: أي المدفوع إليه م: (يرجع عليه مرة) ش: أي يرجع الوكيل على موكله مرة واحدة م: (ثم لا يرجع) ش: بعد ذلك أصلاً عند الهلاك م: (لوقوع الاستيفاء على ما مر) ش: أشار به إلى ما ذكره من قوله لأنه يثبت له حق الرجوع بنفس الشراء فجعل مستوفيًا بالقبض بعده.
وذكر " الإمام المحبوبي " هنا فرقًا آخر وهو أن الوكيل لما اشترى فقد انعزل عن الوكالة فله أن يرجع على الموكل بعد، وأما المضارب فلا ينعزل بالشراء ويتصرف في كل مرة، قيل هذا من المواضع التي يفارق فيها المضارب الوكيل على ما ذكرنا في أوائل فصل العزل.(10/101)
فصل في الاختلاف قال: وإذا كان مع المضارب ألفان فقال دفعت إلي ألفا وربحت ألفا. وقال رب المال لا بل دفعت إليك ألفين فالقول قول المضارب، وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا: القول قول رب المال وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المضارب يدعي عليه الشركة في الربح وهو ينكر، والقول قول المنكر ثم رجع إلى ما ذكره في الكتاب؛ لأن الاختلاف في الحقيقة في مقدار المقبوض. وفي مثله القول قول القابض ضمينا كان أو أمينا لأنه أعرف بمقدار المقبوض. ولو اختلفا مع ذلك في مقدار الربح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في اختلاف رب المال والمضارب]
[كان مع المضارب ألفان فقال دفعت إلي ألفًا وربحت ألفًا وأنكر رب المال]
م: (فصل في الاختلاف)
ش: أي في بيان أحكام اختلاف رب المال والمضارب، ولما كان الاتفاق أصلاً والاختلاف عارضا أخره عن الأصل.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير: م: (وإذا كان مع المضارب ألفان فقال:) ش: - أي المضارب - م: (دفعت) ش: بفتح التاء، لأنه خطاب لرب المال بقوله أنت دفعت م: (إلي ألفًا وربحت ألفًا. وقال رب المال لا) ش: أي ليس الأمر كما ذكرت م: (بل دفعت إليك ألفين) ش: مضاربة م: (فالقول قول المضارب، وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا القول قول رب المال وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المضارب يدعي عليه الشركة في الربح وهو) ش: أي رب المال م: (ينكر، والقول قول المنكر، ثم رجع) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلى ما ذكره في الكتاب) ش: أراد به الجامع الصغير م: (لأن الاختلاف في الحقيقة في مقدار المقبوض) ش: قيد به لأن الاختلاف إذا كان في الصفة فالقول لرب المال على ما يجيء م: (وفي مثله) ش: أي وفي مثل الاختلاف في مقدار المقبوض م: (القول قول القابض ضمينًا كان) ش: أي القابض كالغاصب م: (أو أمينًا) ش: أي أو كان أمينًا كالمودع.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن القول للعامل. وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: إذا كان في المال ربح تحالفا، والأصح هو الأول.
م: (لأنه) ش: أي لأن القابض م: (أعرف بمقدار المقبوض) ش: لأنه فعل نفسه، فإذا كان القول قول الضمين في ذلك فالأمين بطريق الأولى، ألا ترى أنه لو أنكر أصل القبض كان القول له، فكذا إذا أنكر قبض بعضه، كذا في " الإيضاح ".
م: (ولو اختلفا) ش: أي رب المال والمضارب، ذكر هذا تفريعًا على ما تقدم م: (مع ذلك) ش: أي مع اختلافهما في المقبوض م: (في مقدار الربح) ش: المجرور يتعلق باختلاف في صورته: قال رب المال رأس المال ألفان، وشرطت لك ثلث الربح، وقال المضارب رأس المال(10/102)
فالقول فيه لرب المال؛ لأن الربح يستحق بالشرط وهو يستفاد من جهته، وأيهما أقام البينة على ما ادعى من فضل قبلت؛ لأن البينات للإثبات.
قال: ومن كان معه ألف درهم فقال: هي مضاربة لفلان بالنصف، وقد ربح ألفا، وقال فلان: هي بضاعة فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب يدعي عليه تقويم عمله أو شرطا من جهته أو يدعي الشركة وهو ينكر.
ولو قال المضارب: أقرضتني وقال رب المال: هي بضاعة أو وديعة أو مضاربة فالقول لرب المال والبينة بينة المضارب؛ لأن المضارب يدعي عليه التملك وهو ينكر.
ولو ادعى رب المال المضاربة في نوع وقال الآخر ما سميت لي تجارة بعينها، فالقول للمضارب؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ألف وشرطت لي نصف الربح م: (فالقول فيه) ش: أي في الربح م: (لرب المال) ش: وفي القدر للمضارب. وعليه نص أحمد وقول لمالك وأبي ثور وابن المنذر.
وقال الشافعي: يتحالفان كالمتبايعين.
قلنا: اليمين على المنكر بالحديث والمضارب يستحق ما يستحق بالشرط، فكان مدعيًا للشرط، بخلاف المتبايعين، لأن كل واحد مدع ومنكر م: (لأن الربح يستحق بالشرط وهو يستفاد من جهته) ش: أي من جهة رب المال، لأنه يعلم بشرطه وهو منكر للشرط.
م: (وأيهما أقام البينة على ما ادعى من فضل قبلت؛ لأن البينات للإثبات) ش: أما رب المال فإنه يدعي فضلاً في رأس ماله فتقبل بينته فيه، وأما المضارب فلأنه يدعي فضلا في الربح، فكذا تقبل بينته.
[كان معه ألف فقال هي مضاربة لفلان وقال فلان هي بضاعة]
م: (قال: ومن كان معه ألف درهم فقال هي مضاربة لفلان بالنصف وقد ربح ألفًا، وقال فلان هي بضاعة فالقول قول رب المال) ش: هذه من مسائل الجامع الصغير، وإنما يكون القول قول رب المال م: (لأن المضارب يدعي عليه تقويم عمله أو شرطًا من جهته) ش: أي أو يدعي شرطًا من جهة رب المال م: (أو يدعي) ش: أي المضارب م: (الشركة) ش: أي في ماله م: (وهو) ش: أي رب المال م: (ينكر) ش: والقول قول المنكر.
[قال المضارب أقرضتني وقال رب المال هي بضاعة]
(ولو قال المضارب أقرضتني) ش: هذا المال م: (وقال رب المال هي بضاعة أو وديعة أو مضاربة فالقول لرب المال والبينة بينة المضارب، لأن المضارب يدعي عليه التملك) ش: من جهته م: (وهو) ش: أي رب المال م: (ينكر) ش: والقول قول المنكر، بخلاف ما لو ادعى رب المال القرض والمضارب يدعي المضاربة حيث تكون البينة بينة رب المال والقول للمضارب، لأنهما اتفقا أن الأخذ كان بإذنه ورب المال يدعي ضمانًا والمضارب ينكر فالقول له والبينة للمدعي ذكره في " الإيضاح ".
[ادعى رب المال المضاربة في نوع وقال الآخر ما سميت لي تجارة بعينها]
م: (ولو ادعى رب المال المضاربة في نوع وقال الآخر ما سميت لي تجارة بعينها فالقول للمضارب)(10/103)
لأن الأصل فيه العموم والإطلاق والتخصيص يعارض الشرط بخلاف الوكالة؛ لأن الأصل فيه الخصوص.
ولو ادعى كل واحد منهما نوعا فالقول لرب المال؛ لأنهما اتفقا على التخصيص والإذن يستفاد من جهته فيكون القول له. ولو أقاما البينة فالبينة بينة المضارب لحاجته إلى نفي الضمان وعدم حاجة الآخر إلى البينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: في دعوى العموم مع يمينه م: (لأن الأصل فيه) ش: أي في باب المضاربة م: (العموم والإطلاق) ش: فيكون القول لمن يتمسك بالأصل، وبه قالت الثلاثة.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول لرب المال، لأن الإذن يستفاد من جهته م: (والتخصيص يعارض الشرط) ش: أي تخصيص المضاربة بنوع يعارض الشرط من جهة رب المال وإلا فالأصل التعميم كما ذكرنا، وهذا لو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف يصح ويملك جميع أنواع التجارات، فلو لم يكن العقد للعموم لم يصح العقد إلا بالتنصيص كما في الوكالة م: (بخلاف الوكالة لأن الأصل فيه الخصوص) ش: ولا يثبت فيه العموم إلا بالتنصيص، وإنما ذكر الضمير في فيه مع أنه راجع إلى الوكالة إما باعتبار التوكيل وإما باعتبار حذف المضاف، أي لأن الأصل في باب الوكالة.
م: (ولو ادعى كل واحد منهما نوعًا) ش: بأن قال رب المال في البر وقال المضارب في الطعام م: (فالقول لرب المال، لأنهما اتفقا على التخصيص) ش: لأن كلاً منهما يدعي خصوصية نوع، ولكن اعتبار قول من يستفاد الإذن من جهته أحق، أشار إليه بقوله م: (والإذن يستفاد من جهته) ش: أي من جهة رب المال م: (فيكون القول له، ولو أقاما البينة فالبينة بينة المضارب) ش: يعني إذا أقاما البينة كانت بينة المضارب أولى م: (لحاجته) ش: أي لحاجة المضارب م: (إلى نفي الضمان) ش: عن نفسه م: (وعدم حاجة الآخر) ش: أي ولعدم حاجة الآخر وهو رب المال م: (إلى البينة) ش: لعدم الضمان من جهته. قال السغناقي: في هذا مما يتأمل في صحته، وإن كانت رواية الإيضاح تساعد، لأن رب المال يحتاج أيضًا إلى إثبات ما ادعاه، بل بينة رب المال أولى بالقبول لإثباتها أمرًا عارضا وهو الضمان وشرعية البينات لإثبات الأمر العارض غير الظاهر، كما في بينة الخارج مع بينة ذي اليد.
وجعل صاحب " الذخيرة " بينتهما في دعوى الخصوص والعموم واحدًا، وقال: لأن العمل فيهما ممكن بأن يجعل كأنه أذن له بالعموم أولا، ثم نهاه عنه، وأذنه بالخصوص، أو أذن له بالخصوص أولا، ثم أذن له بالعموم، فإن لم توقت البينتان وقتًا على الشراء أو وقت إحداهما دون الأخرى فيعمل ببينة رب المال لتعذر العمل بهما ليعمل ببينة رب المال، لأنه يثبت ما ليس بثابت فافهم.(10/104)
ولو وقتت البينتان وقتا فصاحب الوقت الأخير أولى؛ لأن آخر الشرطين ينقض الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو وقتت البينتان وقتًا) ش: بأن قال رب المال دفعته في البر في رمضان. وقال العامل في الطعام في شوال م: (فصاحب الوقت الأخير أولى، لأن آخر الشرطين ينقض الأول) ش: أي يفسخه، فكان الرجوع إليه أولى.
[نفقة عبد المضاربة] 1
فروع: نفقة عبد المضاربة في مال المضاربة وجعله إذا أبق على رب المال ظهر ربح أو لا بلا خلاف دفع إليه العين. وقال أضف من عندك ألفًا أخرى يكون ألفان منهما شركة والألف مضاربة بالنصف جاز، خلافًا لبعض المالكية، ويجوز أن يكون الرجل عاملاً في المضاربة لرجل ثم يضاربه آخر.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إذا كان فيه ضرر على الأول دفع ألفًا على أن له نصف ربحهما جاز بلا خلاف. ولو قال على أن لي ربح نصفها جاز أيضًا عندنا وعند أبي ثور، خلافًا للأئمة الثلاثة ولو اشترى العامل بالألف أمة أو غنمًا أو بقرًا أو مكيلاً أو موزونًا يساوي ألفين زكى حظه لظهور الربح، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: لا يزكي لعدم ملكه الربح قبل القسمة، ولو اشترى أمتين أو غنمًا أو بقرًا أو برًا أو شعيرًا لا يزكي لاختلاف الجنس، فلا يظهر الربح ولا يكاتب المضارب قبل ظهور الربح بلا خلاف وبعد يفقد في حصته ولرب المال فسخها دفعًا للضرر عن نفسه، وعند الأئمة الثلاثة لا يجوز قبل ظهور الربح، والله أعلم بالصواب.
[كتاب الوديعة]
[تعريف الوديعة] 1(10/105)
كتاب الوديعة قال: الوديعة أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كتاب الوديعة) ش: ذكرها عقيب كتاب المضاربة، لأن مبناها على الأمانة وهي فعيلة بمعنى مفعولة من الودع، وهو الترك، وشرعًا هي تسليط الغير على حفظ المال أي مال كان بشرط أن يكون قابلاً لإثبات اليد عليه، حتى لو أودع الآبق أو الساقط في البحر أو الطير في الهواء لا يصح.
وركنها: الإيجاب والقبول، فإذا وضع عند آخر ثوبًا مثلاً ولم يقل شيئًا فذهب وذهب الآخر وضاع يضمن؛ لأن هذا إيداع عرفًا.
وكذا لو قال: هذا وديعة عندك بخلاف ما إذا قال الجالس لا أقبل فذهب وضاع حيث لا يضمن لأنه صرح بالرد. ولو ألقاه في بيته كان قابلا بالسكوت، فإذا ضاع يضمنه. وكذا لو قال لصاحب المال أين أضع ثيابي فقال ثمة فوضعه فسرق يضمن.
[ضمان الوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (الوديعة أمانة في يد المودع) ش: بفتح الدال، ويقال للمال أيضًا مودع بالفتح كما يقال وديعة. وما قيل إن الوديعة والأمانة لفظان مترادفان فلا يرتفعان على الابتداء والخبرية إلا بطريق التفسير، كما يقال: الليث أسد، والحبس منع، وليس المراد هنا التفسير.
فجوابه: أن هذا من باب الإخبار بالعام عن الخاص وهو جائز إلا أن الأمانة أعم من الوديعة.
وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأولى أن يقال: إن لفظ الأمانة صار علما ًلما هو غير مضمون، فكان معنى قوله أمانة غير مضمون عليه، وتبعه على ذلك الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفيه ما فيه لأن العلم ما وضع لشيء بعينه وغير مضمون ليس كذلك، وليت شعري أنى علم هذا من أقسام الأعلام.
م: (إذا هلكت لم يضمنها) ش: لأن المودع متبرع والتبرع لا يوجب ضمان حق لو سرقت عنده، وإن لم يسرق معها ما له لم يضمن عند أكثر أهل العلم إلا عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يضمن للتهمة إذا لم يسرق معه مال له.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان»(10/106)
ولأن بالناس حاجة
إلى الاستيداع فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في " سننهما " عن عمرو بن عبد الجبار عن عبيدة بن حسان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن يتقدم المستودع على المستعير.
فإن قلت: هذا الحديث ضعيف؛ لأن الدارقطني قال: عمرو وعبيدة ضعيفان، وإنما يروى هذا من قول شريح غير مرفوع، ثم أخرجه من قول شريح، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من قول شريح، وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء ": عبيدة يروي الموضوعات عن الثقات.
قلت: قول الدارقطني عمرو وعبيدة ضعيفان جرح مبهم فلا يقبل. أما عمرو بن عبد الجبار فهو ابن أخ عبيدة لم يضعفه أحد فيما نعلم، غير أن ابن أخيه ذكره ولم يزد على قوله: له مناكير.
وأما عبيدة: فهو بفتح العين وكسر الباء الموحدة ابن حسان البخاري وذكره البخاري في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا، ويؤيده ما رواه ابن ماجه عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أودع وديعة فلا ضمان عليه»
ورواه ابن حبان من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، وأعله بابن لهيعة وهو عبد الله بن لهيعة المصري وثقه أحمد وأثنى عليه، والعجب من شراح الهداية كيف سكتوا عن بيان حال هذا الحديث ولا سيما الأترازي الذي يدعي بدعوى عريضة في الحديث، ولم يزد في شرحه على قوله فيه نظر؛ لأن أبا عبيدة جعله من كلام شريح في غريب الحديث وكذلك الزيلعي الذي أخرج أحاديث الهداية حيث نسب هذا الحديث إلى مخرجه وذكر ما قالوا فيه من الطعن وسكت.
قوله: غير المغل من الإغلال بالغين المعجمة وهو الخيانة والمعنى غير الخائن، وكذلك الغلول الخيانة ولكنه يستعمل في الغنم، والإغلال عام.
م: (ولأن بالناس حاجة إلى الاستيداع) ش: وهو طلب ترك الوديعة عند غيره، يقال أودعت فلانًا مالاً واستودعته إياه إذا لم يدفعه إليه ليكون عنده فأنت مودع ومستودع بكسر الدال فيهما، وزيد مودع ومستودع بفتح الدال فيهما م: (فلو ضمناه) ش: أي المودع بفتح الدال م: (يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم) ش: لأن كل واحد يمتنع عن قولها، فلو ضمناه أي المودع(10/107)
قال: وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن هو في عياله؛ لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بفتح يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم، لأن كل واحد يمتنع عن قبولها خوفًا من الضمان، والناس محتاجون إلى ذلك فيؤدي إلى ضرر بهم.
[حفظ الوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن هو في عياله) ش: نحو زوجه وولده ووالديه وأجيره الخاص وهو الأجير مشاهرة أو مشابهة، وعبده وأمته، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وقال الشافعي وأشهب المالكي - رحمهما الله -: يضمن بالدفع المبهم.
وفي " الكافي ": العبرة في هذا الباب للمساكنة لا للنفقة، حتى لو أودعت المرأة وديعتها إلى زوجها لا تضمن، وإن لم يكن الزوج في نفقتها والابن الكبير إذا كان يسكن مع المودع ولم يلزمه نفقته فخرج وترك المنزل على الابن لا يضمن الوديعة ولم يشترط في التحفة الحفظ بالعيال، بل قال يحفظه على الوجه الذي يحفظ مال نفسه بحرزه من كان ماله في يده.
ثم قال: يعني به الأجير مشاهرة بنفقته وكسوته والعبد المأذون الذي في يده مال والشريك المفاوض والعنان وإن لم يكونوا في عياله.
وفي " الذخيرة ": الدفع إلى العيال إنما يجوز إذا كان في عياله أمينًا وإلا فلا يجوز، وفي " فتاوى أبي الليث ": رجل غاب وخلف امرأته في منزله الذي فيه ودائع الناس ثم رجع وطلب الوديعة فلم يجدها فإن كانت المرأة أمينة فلا ضمان على الزوج، وإن كانت غير أمينة وعلم الزوج بذلك ومع هذا ترك الوديعة معها فهو ضامن.
وذكر أبو الليث أيضًا في " خزانة الفقه ": لا ضمان على المودع إلا في ثلاثة أشياء التقصير في حفظها وخلطها بماله ومنعها عن مالكها بعد الطلب ثم قال: فيها أربعة نفر يجوز للمودع دفع الوديعة إليهم ولا يضمن عند تلفها الزوجة والولد والمملوك والأجير، ثم قال: فيها شيئان لا يوجبان الضمان مع الخلاف إذا قال لا تدفع إلى زوجتك فدفع إليها وقال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر في تلك الدار، وقال في آخر شرحه الجامع الكبير المودع أو دفع الوديعة إلى عامله يعني إلى الذي المودع في عياله لم يضمن.
وقال الإمام الزاهد العتابي: هذه الرواية لم توجد إلا في هذا الكتاب يعني في الجامع الكبير.
م: (لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه ولأنه لا يجد بدًا) ش:(10/108)
من الدفع إلى عياله؛ لأنه لا يمكنه ملازمة بيته، ولا استصحاب الوديعة في خروجه فكان المالك راضيا به. فإن حفظها بغيرهم أو أودعها عند غيرهم ضمن؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره والوضع في حرز غيره إيداع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي فراقًا، وهو اسم من بده بدًا إذا فرقه والمصدر بفتح الباء، نقول بده بدًا م: (من الدفع) ش: أي دفع الوديعة م: (إلى عياله، لأنه لا يمكنه ملازمة بيته) ش: في جميع الأوقات، لأنه يخرج في قضاء حوائجه وأداء ما عليه من الواجبات م: (ولا استصحاب الوديعة في خروجه) ش: أي ولا يمكنه أن يأخذ الوديعة عند خروجه من بيته م: (فكان المالك) ش: أي صاحب الوديعة م: (راضيًا به) ش: أي يحفظها بمن في عياله دلالة، وإن لم يكن صريحًا وفي " الاختيار ": ولهذا لا يصح نهيه، يعني إذا نهى المالك أن يحفظها بمن في عياله لا يصح نهيه لما ذكرناه.
وقال أيضًا: ولو قال: لا تدفعها إلى شخص عينه في عياله ممن لا بد له منه فإن لم يكن له عيال سواه لم يضمن وإن كان له سواه يضمن، لأن من العيال من لا يؤتمن على المال.
م: (فإن حفظها بغيرهم) ش: أي فإن حفظ المودع الوديعة منه غيرهم أي عند غير من هو في عياله بأن يخرج من بيته وترك الوديعة واستحفظها بغيره م: (أو أودعها عند غيرهم) ش: أي عند غير من في عياله بأن نقلها من بيته وترك الوديعة فيه ودفعها إلى أجنبي وديعة م: (ضمن) ش: في الوجهين جميعًا وما قيل إن كان ينبغي أن لا يضمن بالإيداع؛ لأنه ذكر فيها.
قيل: لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره في الوجه الذي يحفظ مال نفسه بنفسه فكان له استحفاظها في استحفاظ مال نفسه فجوابه يخرج من قوله، لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره والأيدي مختلفة في الأمانة.
وأما المراد عن كلامه الأول أن يحفظ مال نفسه غالبًا، فإن الغالب هذا م: (لأن المالك رضي بيده) ش: أي بيد المودع لتوثقه به م: (لا بيد غيره والأيدي تختلف في الأمانة) ش: فرب يد يتوثق بها المودع ولا يتوثق بها المالك، وكذا على العكس.
م: (ولأن الشيء لا يتضمن مثله) ش: أي لا يستتبع مثله م: (كالوكيل لا يوكل غيره) ش: نوقض هذا بالمستعير والعبد المأذون والمكاتب حيث يجوز للمستعير الإعارة وللمأذون أن يأذن لعبده، وللمكاتب أن يكاتب عبدًا حتى أجاز ابن أبي ليلى إيداع المودع قيامًا على هذا.
وأجيب: بأن تصرف هؤلاء بالملك لأن المستعير مالك للمنفعة، وكذا المأذون والمكاتب وكلاهما مناف غيره.
م: (والوضع) ش: أي وضع المودع الوديعة م: (في حرز غيره إيداع) ش: أي إيداع المودع(10/109)
إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظا بحرز نفسه.
قال: إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى جاره أو يكون في سفينة فخاف الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى؛ لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك ولا يصدق على ذلك إلا ببينة؛ لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع.
قال: فإن طلبها صاحبها فمنعها وهو يقدر على تسليمها ضمنها لأنه متعد بالمنع، وهذا لأنه لما طالبه لم يكن راضيا بإمساكه بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوديعة وهو مصدر مضاف إلى فاعله والمفعول محذوف وارتفاعه على أنه خبر عن المبتدأ، أعني قوله والوضع، وإنما كان إيداعًا لأن الحرز في يد غيره فصار بالوضع فيه مسلمًا إليه وهو إيداع، فإذا كان إيداعًا يكون ضامنًا كالإيداع الحقيقي م: (إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظًا بحرز نفسه) ش: لأنه بالاستئجار صار الحرز له، وإن كان الملك لغيره وقد تستأجر البيوت لحفظ الأمتعة.
م: (قال) ش: الاستثناء من قوله فإن حفظها بغيرهم ضمنه م: (إلا أن يقع في داره حريق) ش: أي نار، كذا فسره البعض، والصحيح أنه اسم للاحتراق ولم يذكر أهل اللغة أنه اسم النار م: (فيسلمها إلى جاره) ش: بنصب اللام، أي فإن يسلمها، لأنه عطف على أن يقع.
قال الحلواني: هذا إذا أحاط الحريق بمنزله بحيث لا يمكنه أن يدفعها إلى بعض من عياله، فلو أمكنه تناوله إلى بعض من في عياله يضمن بالدفع إلى الأجنبي م: (أو يكون) ش: بالنصب أيضًا عطفا إلا أن يقع أي أو إلا أن يكون م: (في سفينة فخاف الغرق) ش: بفاء العطف وهو عطف الماضي على المضارع في الصورة.
وفي نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخاف الغرق بالمضارع الواقع حالا، والغرق مصدر غرق في الماء م: (فيلقيها إلى سفينة أخرى) ش: بنصب للياء في فيلقيها عطفًا على أو يكون وإن عطفته على فخاف يكون مرفوعاً ويكون عطف المضارع على الماضي م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من التسليم إلى الجار والإبقاء في السفينة م: (تعين طريقًا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك) ش: دلالة لأنه لا يمكنها أن يحفظ في هذه الحالة إلا بهذا الطريق.
م: (ولا يصدق على ذلك) ش: أي لا يصدق المودع على الفعل المذكور م: (إلا ببينة، لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب) ش: أي سبب الضمان وهو التسليم إلى جاره، وفي المنتقى: هذا إذا لم يعلم أن بيت المودع احترق، فإذا علم قبل قوله بلا بينة م: (فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع) ش: فلا يصدق إلا ببينة، لأنه يدعي سقوط الضمان بعد تحقيق السبب.
[طلب صاحب الوديعة وديعته فمنعها وهو يقدر فهل يضمن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن طلبها صاحبها فمنعها وهو يقدر) ش: أي والحال أنه يقدر م: (على تسليمها ضمنها لأنه متعد بالمنع وهذا) ش: أي وجوب الضمان لكونه متعد بالمنع م: (لأنه لما طالبه لم يكن راضيًا بإمساكه) ش: أي بإمساك المودع الوديعة م: (بعده)(10/110)
فيضمنها بحبسه عنه.
قال: وإن خلطها المودع بماله حتى لا يتميز ضمنها ثم لا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إذا خلطها بجنسها شركة إن شاء مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض، والسود بالسود، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير. لهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي بعد الطلب م: (فيضمنها) ش: أي إذا كان كذلك فيضمنه، أي يضمن الوديعة، وإنما ذكر الضمير باعتبار المودع بفتح الدال، لأنه اسم للوديعة، وإن جعل هذا من التضمين يعود الضمير إلى المطلوب، أعني المودع، أي فيضمن المالك المودع م: (بحبسه عنه) ش: أي بحبس المودع الوديعة عن المالك.
[الحكم لو خلط المودع الوديعة بماله حتى لا يتميز]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن خلطها المودع) ش: بفتح الدال خلط المودع الوديعة م: (بماله حتى لا يتميز) ش: فإن خلط الدنانير بالدنانير والدراهم بالدراهم م: (ضمنها) ش: لأنه استهلاك على ما يأتي، وبه قالت الثلاثة في غير خلط الجنس بالجنس.
والخلط على أربعة أوجه: خلط بطريق المحاورة مع تيسير التمييز كخلط الدراهم البيض بالسود والدراهم بالدنانير والجوز باللوز، فإنه لا يقطع حق المالك بلا خلاف، فيمكن المالك من الوصول إلى غير حقه بلا حرج وخلط بطريق المجاورة مع تفسير التمييز كخلط الحنطة مع الشعير فذلك يقطع حق المالك ويوجب الضمان بلا خلاف، لأنه لا يصل المالك إلى حقه إلا بحرج، والمتعذر كالمتعسر، لأن الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير والشعير لا يخلو عن حبات الحنطة فيتعذر التمييز حقيقة، ويتعذر أيضًا حكماً بالقسمة لا خلاف الجنس.
فإن القسمة عند اختلاف الجنس غير مشروع وخلط الجنس مع خلاف الجنس ممازجة كخلط الحل بالحاء المهملة، وهو دهن السمسم بالزيت وكل مائع بغير جنسه فيضمن فيه بلا خلاف، لأنه استهلاك مطلقًا وخلط الجنس مع الجنس كخلط دهن اللوز مع دهن اللوز ودهن الجوز مع دهن الجوز، وخلط اللبن باللبن والحنطة بالحنطة والدراهم البيض بالبيض والسود بالسود فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وعندهما لا ينقطع حق المالك بل له الخيار إن شاء ضمن وإن شاركه وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاركه بلا خيار.
م: (ثم لا سبيل للمودع) ش: بكسر الدال صاحب الوديعة م: (عليها) ش: أي على الوديعة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إذا خلطها بجنسها شركة إن شاء) ش: أي شركه المودع في المودع إن شاء المودع بالكسر م: (مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض) ش: بكسر الباء جمع أبيض م: (والسود بالسود) ش: بضم السين جمع أسود، أي الدراهم السود بالدراهم السود م: (والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -(10/111)
أنه لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه معنى بالقسمة معه فكان استهلاكا من وجه دون وجه، فيميل إلى أيهما شاء. وله أنه استهلاك من كل وجه؛ لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه، ولا معتبر بالقسمة لأنها من موجبات الشركة فلا تصلح موجبة لها.
ولو أبرأ الخالط لا سبيل له على المخلوط عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط. وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان فتتعين الشركة في المخلوط وخلط الخل بالزيت، وكل مائع بغير جنسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أنه) ش: أي أن المودع بالكسر م: (لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه) ش: أي الوصول إلى حقه م: (معنى) ش: أي حكماً م: (بالقسمة معه) ش: لأن القسمة فيما لا تتفاوت في إجارة إفراز وتعيين، حتى يملك كل واحد من الشريكين أن يأخذ حقه عينًا من غير قضاء ولا رضا، فكان إمكان الوصول إلى غير حقه قائمًا معنى مخير م: (فكان) ش: أي هذا الخلط م: (استهلاكًا من وجه) ش: حيث لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة م: (دون وجه) ش: حيث أمكنه معنى م: (فيميل إلى أيهما شاء) ش: أي الوجهين شاء لما ذكره.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن هذا الخليط م: (استهلاك من كل وجه لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه) ش: لأن عين حقه بالصورة والمعنى، والتحقيق فيه أن الاستهلاك من العباد التعييب، فأما انعدام المحل فبتحليف الله تعالى والتعييب قد وجد، فصار متعديًا ضامنًا لا شريكًا فلا يباح له التناول قبل أداء الضمان، كذا في البدرية م: (ولا معتبر بالقسمة) ش: أي لا اعتبار هو مصدر ميمي م: (لأنها) ش: أي لأن القسمة م: (من موجبات الشركة) ش: أي أحكامها م: (فلا تصلح) ش: أي القسمة م: (موجبة لها) ش: أي للشركة، لأنه ينقلب لعلة حكمًا والحكم علة.
م: (ولو أبرأ الخالط) ش: بنصب الطاء، أي ولو أبرأ المالك المودع الخالط، ذكر هذا فائدة للخلاف المذكور م: (لا سبيل له على المخلوط) ش: أي لا يبقى للمبر طريق على المخلوط م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط) ش: بالإبراء م: (وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان) ش: أي خيار الضمان والخيرة بكسر الخاء وفتح الياء آخر الحروف اسم للاختيار كالطيرة بالكسر اسم التطير.
وهذه الصيغة في المصدر قليلة م: (فتتعين الشركة في المخلوط) ش: يعني تصير شركة بلا خيار وخلط دهن اللوز بدهن الجوز م: (وخلط الحل بالزيت) ش: أي خلط دهن السمسم بالزيت وهو بالحاء المهملة كما ذكرناه، وارتفاع الخلط بالابتداء م: (وكل مائع بغير جنسه) ش: بجر " كل " عطفًا على " الحل "، أي وخلط كل مائع بغير جنسه كالعسل بالدبس والرب بالقطارة(10/112)
يوجب انقطاع حق المالك إلى الضمان، وهذا بالإجماع، لأنه استهلاك صورة، وكذا معنى لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس، ومن هذا القبيل خلط الحنطة بالشعير في الصحيح؛ لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر، فيتعذر التمييز والقسمة،
ولو خلط المائع بجنسه فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك إلى الضمان لما ذكرنا. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعا للأكثر اعتبارا للغالب إجزاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والسمن بالدهن م: (يوجب انقطاع حق المالك) ش: وهو خبر مبتدأ إلى الضمان في محل النصب على الحال، أي يوجب انقطاع حق المالك منتهيًا م: (إلى الضمان، وهذا) ش: أي وهذا الحكم وهو وجوب الضمان م: (بالإجماع، لأنه استهلاك صورة) ش: وهو ظاهر م: (وكذا معنى) ش: أي كذا هو استهلاك معنى أحكامها م: (لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس) ش: فتعين المصير إلى الضمان.
م: (ومن هذا القبيل) ش: أي من قبيل انقطاع حق المالك بالإجماع م: (خلط الحنطة بالشعير) ش: ارتفاع الخلط بالابتداء وخبره مقدم وهو من هذا القبيل.
م: (في الصحيح) ش: احترز به عما روى الحسن أن الجواب في خلط الحنطة بالحنطة فكان على الاختلاف، والصحيح أن حق الملك ينقطع بالإجماع.
وقال شمس الأئمة البيهقي في كتاب الغصب من " الكفاية ": روى الحسن في مسألة الحنطة بالشعير عن أبي حنيفة مثل قولهما م: (لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر) ش: لما في الحنطة حبات الشعير، وفي الشعير حبات الحنطة م: (فيتعذر التمييز والقسمة) ش: لاختلاف الجنس وقد ذكرناه.
وما قيل: إن تمييز الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب في ماء فيرسب الحنطة ويطفو الشعير.
فجوابه: أن هذا إفساد المخلوط في الحال، مع أن الراسب يمكن أن يكون فيه من حبات حنطة صاحب الشعير، وفي الطافي يكون من حبات شعير صاحب الحنطة.
[الحكم لو خلط المودع المائع بجنسه]
م: (ولو خلط المائع بجنسه) ش: بأن خلط السيرج بالسيرج أو الزيت م: (فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك إلى الضمان لما ذكرنا) ش: أشار به إلى ما ذكر من قوله لأنه استهلاك من كل وجه.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعًا للأكثر) ش: فيضمن صاحب الكثير القليل م: (اعتبارًا للغالب إجزاء) ش: أي من حيث الإجزاء والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين خلط المائع من خلاف جنسه وبين خلط المائع بالمائع بجنسه، فإن في خلاف الجنس يقطع(10/113)
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شركة بكل حال؛ لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما مر في الرضاع، ونظيره خلط الدراهم بمثلها إذابة؛ لأنه يصير مائعا بالإذابة.
قال: وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها، كما إذا انشق الكيسان فاختلطا؛ لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق المالك بالإجماع أن التداخل والشيوع في المائعات أكثر، فالخاصية تبطل بالخلط عند اختلاف الجنس فيتحقق، يعني الاستهلاك أما في الجنس يعتبر الأكثر إذ أقلها مائع لما أن الخاصية باقية، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - شركة بكل حال) ش: يعني سواء كان أحدهما غالبًا أو مغلوباً أو كانا متساويين م: (لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما مر في الرضاع) ش: من أن الصبي إذا شرب لبن امرأتين بأن جعل لبنهما في قدح ثم صب في حلق، فعند أبي يوسف العبرة للأكثر، وعند محمد يثبت الرضاع منهما جميعًا م: (ونظيره) ش: أي نظير الحكمة المذكورة وهو خلط المائع بجنسه م: (خلط الدراهم بمثلها إذابة) ش: أي من حيث الإذابة في النار، أراد أنه إذا أذاب دراهم غيره مع دراهمه فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقطع حق المالك بكل حال.
وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل الأقل تابعًا للأكثر في رواية عنه. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشركة بكل حال على أصله م: (لأنه يصير مائعاً بالإذابة) ش: الضمير في لأنه يرجع إلى الدراهم، وكان ينبغي أن يقول لأنها تصير مائعة، ولكن التذكير إما باعتبار الدراهم ورقًا بكسر الراء، وإما باعتبار المذكور وكل ذلك لا يخلو عن نوع تعسف.
[اختلطت الوديعة بمال المودع من غير فعله]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن اختلطت) ش: أي الوديعة م: (بماله) ش: أي بمال المودع بفتح الدال م: (من غير فعله فهو شريك لصاحبها) ش: أي لصاحب الوديعة م: (كما إذا انشق الكيسان فاختلطا) ش: بأن كان في صندوقه كبد له فمط كيس الوديعة فانشق الكيسان من ذاتهما أو بقرض فأرة ونحوها فاختلط المالان، وهذا الكلام بيان لقوله من غير فعله م: (لأنه) ش: أي لأن المودع م: (لا يضمنها) ش: هذا تعليل لقوله فهو شريك لصاحبها، وكان حق ترتيب الكلام أن يقال: وإن اختلطت بماله من غير فعله كما إذا انشق الكيسان فاختلطا فهو شريك لصاحبها، لأنه لا يضمنها م: (لعدم الصنع منه) ش: أي من المودع بالفتح، أي الصنع الموجب الضمان.
قال السغناقي: ولو تمكن تفسير ذلك من المودع بأن جعل الدراهم الوديعة في كيس بال، ولكن المختلط بينهما بقدر ملكهما.(10/114)
فيشتركان وهذا بالاتفاق.
قال: فإن أنفق المودع بعضها ثم رد مثله فخلطه بالباقي ضمن الجميع؛ لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: كلام يوهم أن الكيس إذا كان جديدًا يضمن ولا يكون شريكًا وليس كذلك، وإنما عدم الضمان على عدم الصنع منه سواء كان الكيس جديدًا أو باليًا.
وفي " الكافي " للحاكم: فإن انشق الكيس في صندوقه فاختلطت بدراهم المودع فلا ضمان عليه وهما فيه شريكان.
وإن هلك بعضها هلك من مالهما جميعاً ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما يعني أو مكسرة، فإن كان دراهم أحدهما صحاحا، ودراهم الآخر مكسرة لا تثبت الشركة بينهما، بل يميز كل واحد منهما فيدفع إلى المودع ماله ويمسك المودع مال نفسه لإمكان التمييز، وإن كان دراهم أحدهما صحاحا جيادا وفيها بعض الرديء ودراهم الآخر صحاحا رديئا وفيها بعض الجياد تثبت الشركة بين المالين، لأن هذا خلط لا يمكن التمييز بينهما، ثم كيف يقتسمان إن تصادقا أن ثلثي مال أحدهما جياد وثلثه رديء وثلثه جيد يقتسمان الجياد من المال المختلط أثلاثا والرديء أثلاثًا على قدر ما كان لكل واحد منهما وإن لم يتصادقا وكان لا يعرف وادعى كل واحد منهما أن ثلثي ماله جياد وثلثه رديء ويأخذ كل واحد منهما ثلث الجياد، لأنهما اتفقا على أنه كان لكل واحد منهما ثلث الجياد فيأخذان ذلك.
واختلفا في ثلث الآخران يدعي كل منهما لنفسه وذلك الثلث في أيديهما في يد كل واحد منهما نصف الثلث وهو سدس الكل، فيكون القول قول كل واحد منهما في مائدة ويحلف كل منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا برئا عن الدعوى وترك المال في أيديهما كما كان، وإن نكلا قضي لكل منهما بنصف الثلث وهو سدس الكل الذي في يد صاحبه، وكذلك إن قامت لكل منهما بينة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر برئ الحالف، فيرد الناكل نصف الثلث وهو سدس الكل الذي في يده إلى صاحبه.
م: (فيشتركان) ش: أي المودع والمودع م: (وهذا بالاتفاق) ش: أي الحكم المذكور بالاتفاق بين علمائنا، فإن هلك البعض كان في مالهما جميعًا، إذ الأصل في المال المشترك أن يكون الهالك والباقي على الشركة.
[أنفق المودع بعض الوديعة ثم رد مثله فخلط بغيره]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أنفق المودع بعضها) ش: أي بعض الوديعة م: (ثم رد مثله فخلطه بالباقي ضمن الجميع، لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكًا على الوجه الذي تقدم) ش: أي مثل ما أنفق قيد بالإنفاق ورد المثل، لأنه لو أخذه لأجل الإنفاق ثم رده قبل الإنفاق لم يضمن، لأنه إن حالف عاد إلى الوفاق، كذا في " المبسوط ".(10/115)
قال: وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها، أو ثوبا فلبسه أو عبدا فاستخدمه أو أودعها عند غيره ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يبرأ عن الضمان؛ لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنا للمنافاة فلا يبرأ إلا بالرد على المالك.
ولنا أن الأمر باق لإطلاقه وارتفاع حكم العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن الكل وكذا لو أنفق البعض ولم يرد شيئًا يضمن الكل، عندهما يضمن ما أنفق، لأن الغرامة بقدر الحيازة فخلطه بالباقي ضمن الجميع، لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم.
وفي " الذخيرة ": هذا إذا لم يجعل علامة على ماله حين خلطه بمال الوديعة، أما إذا جعل بحيث يتأتى التمييز لا يضمن إلا ما أنفق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول: لا يضمن إلا ما أنفق في الوجهين وبه قال ابن القاسم المالكي وأحمد - رحمهما الله -. وقال الربيع: يضمن الجميع إذا لم يتميز.
[تعدى المودع في الوديعة ثم أزال التعدي فردها إلى يده]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبًا فلبسه أو عبدًا فاستخدمه أو أودعها عند غيره) ش: أي أودع المودع الوديعة عند غيره م: (ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان) ش: إنما قال: زال لأن الضمان وجب عليه بنفس الركوب، حتى لو هلك في حالة الاستعمال يضمن بلا خلاف.
وفي " التحفة ": وفي المستأجر والمستعير إذا خالفا ثم تركا الخلاف بقي الضمان، وعند بعضهم هذا منزلة المودع.
وفي " خلاصة الفتاوى ": وفي الإجارة والإعارة الأصح أنه لا يبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يبرأ عن الضمان لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنًا للمنافاة) ش: بين كونه ضامنا وبين كونه أمينًا، وإذا ثبت كونه ضامنًا انتفى كونه أمينًا وهو موجب العقد فارتفع العقد فلا يعود إلا بسبب جديد ولم يوجد م: (فلا يبرأ إلا بالرد على المالك) ش: فلم يوجد ويضمن، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي رواية ابن القاسم وأشهب يبرأ، كقولنا.
م: (ولنا أن الأمر) ش: أي بالحفظ وهو الإيداع م: (باق لإطلاقه) ش: أي لإطلاق الأمر؛ لأن قوله: احفظ هذا المال، يتناوله جميع الأوقات بعد الخلاف وقبله م: (وارتفاع حكم العقد) ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن عقد الوديعة ارتفع، وحكم العقد هو الحفظ(10/116)
ضرورة ثبوت نقيضه، فإذا ارتفع عاد حكم العقد، كما إذا استأجره للحفظ شهرا فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وارتفاعه على الابتداء، وخبره قوله م: (ضرورة ثبوت) ش: أي لأجل ضرورة ثبوت م: (نقيضه) ش: لأجل ضرورة ثبوت نقيض حكم العقد؛ لأن بطلان الشيء بما ينافيه، والاستعمال ليس بموضوع لإبطال الإيداع ولا ينافيه م: (فإذا ارتفع عاد) ش: أي نقيض م: (حكم العقد) ش: بالعود إلى الوفاق عاد وحكم العقد وهو لزوم الحفظ المأمورية، لأن الارتفاع كان لضرورة ثبوت العقد كما ذكر.
والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، وهي تندفع بإثباته ما دامت المخالفة باقية فلا يتعدى إلى ما بعد ارتفاعه، وعورض بأن الأمر باق فيكون مأموراً بدوام الحفظ وما هذا شأنه فالمخالفة فيه رد للأمر من الأصل كالجحود، فلا يبرأ عن الضمان برفع المخالفة كاعتراف بعد الجحود.
والجواب بما ذكرنا أن بطلان الشيء بما ينافيه أو بما هو موضوع لإبطاله، فلا تكون المخالفة رداً له من الأصل وهي ليست بموضوعة لإبطال الإيداع، ولا ينافيه.
ألا ترى أن الأمر بالحفظ مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أودعتك وهو مستعمل، بخلاف الجحود، فإنه قول موضوع للرد، ألا ترى أن الجحود في أوامر الشرع ونهيها يكفر به.
والمخالفة بترك صلاة أو صوم مأمور به ليست رداً، ولهذا لا يكفر.
م: (كما إذا استأجره) ش: نظير المسألة الوديعة بالاستئجار أي كما إذا استأجر رجل رجلاً م: (للحفظ شهراً) ش: أي لحفظ متاعه مدة شهر م: (فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي) ش: فإنه ترك الحفظ في بعض الأوقات ولم يخرج بذلك عن كونه أميناً.
فإن قلت: هذا النظير غير مستقيم، لأن بقاء كونه أميناً باعتبار أن عقد الإجارة عنده لازم فلا يرتد برده، بخلاف ما نحن فيه.
قلت: العقد اللازم في الانتقاض بعدم تسليم المعقود عليه سواء بالاتفاق كالإجارة والعارية والبيع والهبة ينتقض بعدم تسليم المعقود عليه، ثم في الاستئجار ورد العقد على منفعة الحفظ في المدة، والمنفعة تحدث شيئاً فشيئاً فيترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر، ويكون باقياً لبقاء العقد عليه، فكذا في الحفظ بغير بدل.
فإن قلت: المستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ، وكذا المستعير إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق لم يبرأ.(10/117)
فحصل الرد إلى نائب المالك.
قال: فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها؛ لأنه لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ، فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع منه فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد إذ المطالبة بالرد رفع من جهته والجحود فسخ من جهة المودع كجحود الوكيل الوكالة، وجحود أحد المتعاقدين البيع فتم الرفع، أو لأن المودع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لأن البراءة إنما تكون بالإعادة إلى يد المالك، إما حقيقة وإما تقديراً، ويد المستأجر أو المستعير يد نفسه فإنه يستوفي المنافع المملوكة من المحل والمالك فيما يتصرف في المحل يكون عاملاً لنفسه لا لغيره فلا يبرأ عن الضمان، خلافاً لزفر اعتباراً بالوديعة.
م: (فحصل الرد إلى نائب المالك) ش: هذا جواب عن قوله فلا يبرأ إلا بالرد على المالك.
ووجهه أن المودع نائب المالك، فإذا ارتفعت المخالفة وعاد مودعاً، هذا جواب عن قوله فلا يبرأ إلا بالرد على المالك، ووجهه أن المودع نائب المالك، ووجهه أن المودع نائب بذلك، فإذا ارتفعت المخالفة عاد مودعاً جعل الرد نائب المالك.
[الحكم لو طلب وديعته فجحدها المودع]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها) ش: أي الوديعة، وقيد بالجحود عند الطلب، لأنه إذا جحد عند صاحبها لا بناء على الطلب لا يضمن، كذا في " الخلاصة " م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب الوديعة م: (لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ، فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع منه فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد) ش: فإذا ارتفع لا يعود إلا بعقد جديد م: (إذ المطالبة بالرد رفع من جهته) ش: أي رفع للعقد من جهة المالك م: (والجحود فسخ من جهة المودع) ش: بفتح الدال م: (كجحود الوكيل الوكالة) ش: يعني بمحضر من الموكل، وذلك لأنه ترك الالتزام فكان فسخاً.
ونقل في " الأجناس " عن نوادر ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وكل ثم قال: لم أوكله لم يكن رجوعاً وعزلاً عن الوكالة.
ونقل عن وصايا الأصل إذا أوصى ثم أنكر الوصية فقال لم أوص فهو رجوع. قال في " الجامع ": لا يكون رجوعاً، وفي " نوادر ابن شجاع " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أوصى لرجل ثم قال لم أوص له لم يكن رجوعاً. ولو قال: أشهد أني لا أوصي له فهو رجوع، وكذلك لو وكل وكيلاً يبيع عبداً له ثم قال: اشهدوا أني لم أوكله فهو كذب، وهو وكيل. ولو قال إني لا أوكله ببيع العبد فهو عزل، ولو شهدوا عليه بالكفر فجحد وقال ما تلفظت به يكون ذلك توبة ورجوعاً عنه.
م: (وجحود أحد المتعاقدين البيع) ش: أي وكجحود البائع أو المشترى حصول البيع م: (فتم الرفع) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فتم العقد رفع العقد عنهما م: (أو لأن المودع) ش: إشارة(10/118)
ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل. وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد فلم يوجد الرد إلى نائب المالك بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق. ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الجحود عند غيره من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى تعليل ثان م: (ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع) ش: بكسر الدال م: (كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع) ش: أي العقد م: (لا يعود إلا بالتجديد) ش: أي بتجديد العقد م: (فلم يوجد الرد إلى نائب المالك) ش: يعني بنفس المودع، لأنه نائب المالك بجحود احتاج إلى التجديد فلم يوجد فلم يكن رداً إلى نفسه، أعني المودع بالفتح فيضمن.
م: (بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق) ش: أراد بالخلاف الأول الخلاف في الحكم، وبالخلاف الثاني خلاف المودع بالفعل، يعني إذا خالف فعلا ثم عاد إلى الوفاق يكون العقد على حاله، لأنه باق، إذ الخلاف ليس برد الأمر، لأن الأمر قول، ورد القول بقول مثله، وأما الجحود فهو قول ورد للأمر، لأن الجاحد يكون متملكاً للعين والمالك في ملكه لا يكون مأموراً بالحفظ من جهة غيره.
وفي " الزيادة " هذا كله إذا جحد الوديعة في المنقول، أما لو جحدها في العقار قال السرخسي: لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - في جميع الوجوه.
ومن المشايخ من قال: العقار يضمن بالجحود بلا خلاف وإن كان الغصب لا يتحقق فيه عندهما. وقال الحلواني: في ضمان الجحود في العقار عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان.
م: (ولو جحدها عند غير صاحبها) ش: بأن قال أجنبي: ما حال وديعته م: (لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما خص قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالذكر وإن كان عدم الضمان هو قول أصحابنا الثلاثة.
قيل: لأن هذا الفصل لم يكن مذكوراً في " مبسوط " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما ذكر في اختلاف زفر ويعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأورده كذلك.
وفي " النهاية ": أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها لا يضمنها عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروى بشر عن أبي يوسف إذا جحد الوديعة في وجه عدو يخاف عليها التلف إن أقر ثم هلكت لا يضمنها، لأن الجحود في هذه الصورة جهة من جهات الحفظ، كذا في الذخيرة، وجه قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجحود سبب للضمان سواء كان عند المالك أو غيره، كالإتلاف حقيقة.
ووجه قول أبي يوسف ما ذكره بقوله م: (لأن الجحود عند غيره) ش: أي غير المودع م: (من(10/119)
باب الحفظ؛ لأن فيه قطع طمع الطامعين، ولأنه لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه أو طلبه فبقي الأمر، بخلاف ما إذا كان بحضرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب الحفظ، لأن فيه قطع طمع الطامعين) ش: عن الوديعة، فلا يضمن، وبه قالت الثلاثة م: (ولأنه) ش: أي ولأن المودع بفتح الدال م: (لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه) ش: أي من المالك وهو ما عزله م: (أو طلبه) ش: أي أو بغير طلبه، أي طلب المالك، لأن العقد قائم بهما فلا يرتفع إلا بهما م: (فبقي الأمر) ش: أي العقد باعتبار بقائه ليد المالك فلا يضمن، وبه قالت الثلاثة.
م: (بخلاف ما إذا كان) ش: أي الجحود م: (بحضرته) ش: أي بحضرة المالك وقد مر وجهه.
وفي " الأجناس ": أما المودع إذا جحد الوديعة كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: إنه على وجهين إن نقل الوديعة عن الموضع الذي كان فيه حال جحوده وهلكت ضمن، وإن لم ينقلها عن موضعها حتى هلكت لا يضمن.
وفي " المنتقى ": إذا كانت الوديعة أو العارية مما يحول يضمن بالجحود وإن لم يحولها.
وفي الأجناس الأمانة تنقلب مضمونة بالموت إذا لم يبين إلا في ثلاث مسائل: أحدها: متولي الوقف إذا مات ولا يعرف حال علتها الذي أخذها ولم يبين الاحتمال عليه، ذكره في كتاب " الوقف " هلال البصري.
والثانية: السلطان إذا خرج إلى الغزو وغنموا فأودع بعض الوديعة بعض الغانمين ومات ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه، ذكره في السير الكبير.
والثالثة: أحد المتفاوضين في يد مال الشركة ومات ولم يبين لا ضمان عليه، ذكره في الأصل.
وفي " الواقعات ": إذا قال دفعت الوديعة في مكان كذا ونسيت موضعها، وهذا على وجهين: إما أنه لو قال دفنتها في داري أو في كرمي أو في موضع آخر، ففي الوجه الأول والثاني لا يضمن إذا كان للدار والكرم باب، لأنه ليس بتضييع، وفي الوجه الثالث يضمن لأنه تضييع، ونقل في " الأجناس " عن نوادر ابن رستم: إذا ادعى المستودع ضياع الوديعة منذ عشرة أيام فقال صاحب الوديعة أنا أقيم البينة إنها كانت في يدي منذ يومين. وقال المستودع: وجدتها بعد ذلك فضاعت صدق. فإن قال حين خوصم ليس له عندي وديعة ثم قال وجدتها فضاعت ضمن.(10/120)
قال: وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ليس له ذلك إذا كان لها حمل ومؤنة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك في الوجهين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[السفر بالوديعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " شرح الأقطع ": هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة لا في موضع واحد، وهو أن يكون طعاما كثيرا فإنه يضمن استحسانا إن سافر به لا قياساً.
وقال الإمام الأسبيجابي في " طريقة الخلاف ": إذا كان له حمل ومؤنة فعند أبي حنيفة لا يضمن سواء كان السفر قريباً أو بعيداً. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن سواء كان قريباً أو بعيداً. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان بعيداً يضمن وإلا فلا، ثم قال وأجمعوا إن كان الطريق مخوفاً يضمن كيفما كان، ثم قال: وأجمعوا على أنه لو سافر بالوديعة في البحر يضمن.
وقال قاضي خان في شرح " الجامع الصغير ": وأجمعوا على أن الأب والوصي إذا سافر بمال اليتيم لا يضمن والوكيل بالبيع إذا سافر بما وكل ببيعه، قالوا إن قيده بمكان بأن قال له بعه بالكوفة فسافر به يضمن، وإن أطلق فسافر به لا يضمن إذا سرق أو ضاع فيما لا حمل له ويضمن فيما له حمل ومؤنة.
ثم الواو في قوله وإن كان لوصي والضمير في أوله يرجع إلى الوديعة باعتبار المودع بفتح الدال لأنه يطلق على الوديعة وعلى الذي يقبلها أيضاً كما علم من قبل. وقال الكاكي: بمال الوديعة وفيه نظر لا يخفى، والحمل بفتح الحاء مصدر حمل الشيء، يقال: ما له حمل ومؤنة ما له نقل يحتاج في حمله إلى ظهر أو خبرة حمال وفي الأصل ما له مؤنة في الحمل وهذا هو الأوجه.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (ليس له ذلك) ش: أي السفر بالوديعة م: (إذا كان لها حمل ومؤنة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس له ذلك في الوجهين) ش: أي فيما له حمل ومؤنة وفيما ليس له، وبه قال مالك، وإذا قدر أن يردها على صاحبها ووليه أو الحاكم أو أمين. فأما إذا لم يقدر على أحد منهم لا يضمن للضرورة.
وللشافعي في نقلها من قريته إلى قرية فيما دون مدة السفر إذا كانت المسافة آمنة وجهان، وهذا الخلاف إذا كان الطريق آمناً، فإن كان مخوفاً ضمن بلا خلاف، وإذا كان آمناً وله بد من السفر فكذلك، وإن لم يكن وسافر بأهله لا يضمن، وإن سافر بنفسه ضمن، لأنه أمكنه تركها في أهله، ثم إطلاق قولهما ليس بوضع " الجامع الصغير " ولا " المبسوط " فإنه ذكر في الجامع الصغير أن له أن يخرج خلافاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(10/121)
لأبي حنيفة إطلاق الأمر، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا، ولهذا يملك الأب والوصي في مال الصبي. ولهما أنه يلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة، فالظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واختلف أصحابنا بعد، فقال أبو حنيفة: لا يضمن قصر الخروج أو طال، وكان له حمل ومؤنة أو لا. وقال أبو يوسف: إن قصر الخروج لم يضمن بكل حال، وإن طال لم يضمن إلا فيما له حمل ومؤنة. وقال كذلك إلا فيما له مؤنة فإنه له مؤنة فإنه لا يملك وأن يخرج به قصر وأطال.
وفي " المبسوط " بعدما ذكر قول أبي حنيفة قال: إذا قربت المسافة فله أن يسافر بها، وإذا بعدت ليس له ذلك.
م: (لأبي حنيفة إطلاق الأمر) ش: أي أمر الآمر، لأنه أمره بالحفظ مطلقا فلا يتقيد بمكان كما لا يتقيد بزمان م: (والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمناً) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال سلمنا أن إطلاق الأمر يقتضي الجواز، لكن المانع عنه متحقق، وهو كون المفازة ليس محلاً للحفظ.
فأجاب بقوله والمفازة إلى آخره قيد بقوله آمناً لأنه إذا لم يكن آمناً أوجب الضمان م: (ولهذا) ش: أي ولكون المفازة محلاً للحفظ م: (يملك الأب والوصي في مال الصبي) ش: أي يملك السفر الأب والوصي بمال الصغير، فلو كان التلف مظنوناً لما جاز لهما ذلك.
فإن قلت: مسافرتهما بمال الصغير، فلو كان التلف مظنوناً لما جاز لهما ذلك. فإن قلت: بمسافرتهما بمال الصغير للتجارة والناس يخاطرون بها تطمع الربح والمودع ليس كذلك، لأنه ليس له حق التصرف والاسترباح فيها، فلا يكون الاستدلال به على المودع صحيحاً.
قلت: هذا توضيح الاستدلال، ولئن كان استدلالاً فهو صحيح، لأن ولايتهما على مال الصغير نظرية وأولى وجوه النظر غايته عن مواضع التلف، فلو كان في وهم الستر وهم التلف لما جاز، وحيث جاز بالاتفاق انتفى وهم التلف.
هذا حاصل ما ذكره السغناقي وتبعه على ذلك صاحب " الغاية " وصاحب " العناية "، ولكن هو محل المناقشة.
فإن لقائل أن يقول: لا نسلم جواز سفر الأب أو الوصي بمال الصغير، لأن الله أمر بالأحسن في قربان مال اليتيم فأين الأحسن والحسن في المسافرة بماله، ولا نسلم عدم كون السفر وهم التلف، وكون السفر مظنة التلف ومتحقق لا ينكر خصوصا في قيام الفتن بين الخلف. م: (ولهما أنه يلزمه) ش: أي أن المالك يلزمه م: (مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة فالظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد به) ش: أي سفره بما ليس له حمل ومؤنة، لأن فيما له حمل ومؤنة إضرار(10/122)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيده بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار وصار كالاستحفاظ بأجر. قلنا مؤنة الرد تلزمه في ملكه ضرورة امتثال أمره فلا يبالي به، والمعتاد كونهم في المصر لا حفظهم، ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها، بخلاف الاستحفاظ بأجر؛ لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد، وإذا نهاه المودع أن يخرج بالوديعة فخرج بها ضمن؛ لأن التقييد مفيد إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحا.
قال: وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه.
فإن قلت: كيف يلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة.
قلت: باعتبار موت المودع في طريق فإنه حينئذ يلزم المالك مؤنة الرد.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيده) ش: أي يقيد حفظ الوديعة م: (بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار) ش: أي أسباب الصيانة تتهيأ في الأمصار من كل وجه وفي غيرها من وجه دون وجه م: (وصار كالاستحفاظ بأجر) ش: أي صار حكم الوديعة في الحفظ، كما إذا استأجر رجلاً ليحفظ متاعه شهراً بدرهم فإنه لا يسافر، فلو سافر به يضمن.
م: (قلنا مؤنة الرد تلزمه في ملكه) ش: هذا جواب عن قولهما؛ يعني مؤنة الرد تلزم المالك في ملكه.
تقديره: سلمنا أن المؤنة تلحق المالك، لكنه ليس بمعنى من قبل المودع، بل إنما ذلك م: (ضرورة امتثال أمره) ش: فإنما أمره مطلقاً وهو لا يتقيد بمكان فهو لمعنى يرجع إلى المالك م: (فلا يبالي به) ش: أي يلحق المؤنة، لأنه ضروري وضمني م: (والمعتاد كونهم في المصر) ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي المتعارف كون أهل الأمصار في المصر، يعني المعتاد كون المودعين وقت الإيداع في المصر م: (لا حفظهم) ش: أي ليس المعتاد حفظ المودعين في المصر، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها) ش: كأهل الخيام والأخبية، فإنهم يحفظون أموالهم في المفازة ولا ينقلونها إلى الأمصار.
م: (بخلاف الاستحفاظ بأجر، لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد) ش: أشار بهذا إلى أن قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالفارق فلا يجوز م: (وإذا نهاه المودع) ش: بكسر الدال إذا نهى المودع رب المال م: (أن يخرج بالوديعة فخرج بها ضمن، لأن التقييد مفيد، إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحاً) ش: أي فكان تقييده صحيحاً.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب(10/123)
نصيبه منها لم يدفع إليه نصيبه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يدفع إليه نصيبه. وفي " الجامع الصغير ": ثلاثة استودعوا رجلا ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده. وقالا: له ذلك، والخلاف في المكيل والموزون وهو المراد بالمذكور في " المختصر ". لهما أنه طالبه بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصيبه منها لم يدفع إليه نصيبه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حتى لو دفع يضمن نصفه.
م: (وقالا: يدفع إليه نصيبه. وفي " الجامع الصغير ": ثلاثة استودعوا رجلاً ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده وقالا: له ذلك) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر رواية الجامع الصغير تنبيهاً على ثلاث فوائد.
الأولي: البينة على أن المواد بموضع الخلاف، وعن إطلاق القدوري الوديعة هو المكيل والموزون لأن المذكور فيه الألف وهو موزون.
الثانية: أن القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على الاثنين والجامع الصغير على الثلاثة، ولولا رواية الجامع لكان لقائل أن يقول نصيب الحاضر من الثلاثة أقل من نصيب الغائبين، فيصير مستهلكاً، ويجعل تبعاً للأكثر فلا يوجد من المودع، وأما نصيب الحاضرين الاثنين لا يكون مستهلكاً ولا تابعاً فله أخذه فيه برواية الجامع أن الحكمين سواء.
الثالثة: أنه ذكر في كتاب " الوديعة ": القاضي لا يأمر المودع بالدفع ويوهم ذلك أن يأخذه ديانة، فلما قال في " الجامع ": ليس له أن يأخذ زالت هذه الشبهة وتلفت هذه المسألة بمسألة الحمامي وحكايته أن رجلين دخلا الحمام وأودعا عند الحمامي همياناً من ذهب فخرج أحدهما قبل صاحبه، وأخذ الهميان وذهب به وخرج الآخر وطالبه بالهميان، ولعلهما تواطئا على ذلك، فتحير الحمامي، فقيل: فيصل هذا الأمر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فذهبوا إليه وقصوا عليه القصة، فقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقل دفعته إلى صاحبك، ولكن قل لا أدفعه إليك حتى تحضر صاحبك فانقطع الرجل وترك الحمامي.
[الخلاف بين صاحب الوديعة والمودع حول قيمتها]
م: (والخلاف في المكيل والموزون، وهو المراد بالمذكور في " المختصر ") ش: أي مختصر القدوري، ذكر هذا احترازاً من ذوات الأمثال حتى إذا كانت الوديعة والعبد والدواب ليس للحاضر أن يأخذ بالإجماع.
م: (لهما.) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي الحاضر م: (طالبه) ش: أي طالب المودع م (بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه) ش: لأنه مالك لنصيبه حقيقة فلا يتعذر عليه قبض نصيبه بغية الآخر م: (كما في الدين المشترك) ش: أي كما يطلب الحاضر في(10/124)
وهذا لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه وهو النصف. ولهذا كان له أن يأخذه فكذا يؤمر هو بالدفع إليه، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طالبه بدفع نصيب الغائب لأنه يطالبه بالمفرز وحقه في المشاع والمفرز المعين يشتمل على الحقين ولا يتميز حقه إلا بالقسمة وليس للمودع ولاية القسمة، ولهذا لا يقع دفعه قسمة بالإجماع، بخلاف الدين المشترك لأنه يطالبه بتسليم حقه لأن الديون تقتضي بأمثالها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين المشترك بأن باعا عبداً مشتركاً إذا حضر أحدهما كان له أن يطالب المديون، فكذا هذا م: (وهذا) ش: أي توضيح لما ذكره م: (لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه) ش: أي لأن الحاضر يطلب المودع بتسليم ما سلم إليه من الوديعة م: (وهو النصف، ولهذا كان له) ش: أي للمودع م: (أن يأخذه) ش: أي أن يأخذ نصيبه الذي هو النصف م: (فكذا يؤمر هو بالدفع إليه) ش: أي كما أن له أن يأخذ، فكذا يؤمر بالدفع إلى المالك الحاضر.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه طالبه) ش: أي أن الحاضر طالب المودع م: (بدفع نصيب الغائب، لأنه يطالبه بالمفرز) ش: أي المقسوم، وليس له فيه حق م: (وحقه في المشاع والمفرز المعين يشتمل على الحقين) ش: أي حق الحاضر والغائب م: (ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للمودع ولاية القسمة) ش: لأنه ليس بوكيل في ذلك: م: (ولهذا لا يقع دفعة قسمة بالإجماع) ش: حتى لو ملك الباقي في يد المودع ثم حضر الغائب له أن يشاركه في المأخوذ بالإجماع. فثبت أن القسمة ليست بنافذة.
م: (بخلاف الدين المشترك، لأنه يطالبه بتسليم حقه) ش: أي حق المديون، لأنه يسلم مال نفسه لا مال غيره م: (لأن الديون تقضي بأمثالها) ش: لا بأعيانها، فدفعه نصيب الحاضر يصرف في ملك نفسه وليس فيه قسمة على الغائب، أما المودع يدفع مال الغير. ألا ترى إذا غاب واحد وله عند آخر دين في الوديعة فجاء رجل وادعى الوكالة منه يقبض الدين والوديعة فصدقه أمر بتسليم الدين دون الوديعة وقد نظر صاحب " العناية " في صرف الشراح الضمير في قوله بتسليم حقه إلى المديون.
وقال: لأن الإنسان لا يؤمر بالتصرف في ماله بالدفع إلى من لا يجب له عليه ذلك والحق أن الضمير في حقه للشريك لا للمديون، ومعناه لأن الشريك يطالب المديون بتسليم، أي بقضاء حقه، وحقه من حيث القضاء ليس بمشترك بينهما، لأن الديون تقضي بأمثالها، والمثل مال المديون ليس بمشترك بينهما، والقضاء إنما يقع بالمقاصة، وفي نظره نظر؛ لأن عبارة المصنف تشعر بأن الضمير يرجع إلى المديون على ما لا يخفى. وقوله: لأن الإنسان لا يؤمر إلى آخره ليس كذلك؛ لأن المأمور هنا بالدفع، وإنما هو إلى من يجب له عليه ذلك، ولا كلام في عدم جواز الأمر بالدفع إلى من لا يجب عليه ذلك فافهم.(10/125)
وقوله: له أن يأخذه، قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع، كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه ألف لغيره فلغريمه أن يأخذه إذا ظفر به، وليس للمودع أن يدفعه إليه.
قال: وإن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر، ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذلك الجواب عنده في المرتهنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقوله: له أن يأخذه) ش: جواب عن قولهما: ولهذا كان له أن يأخذه والضمير في قوله يرجع إلى القائل المعهود في الذهن، أي قول القائل نصرة لقولهما كذا وكذا م: (قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع) ش: يعني ليس من ضرورة جواز الأخذ استلزام جبر المودع على الدفع، لأن الجبر ليس من ضرورات الجواز يعني من لوازمه لانفكاكه عنه م: (كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه) ش: أي على المودع بالكسر م: (ألف لغيره فلغريمه) ش: أي فلغريم المودع بالكسر م: (أن يأخذه) ش: أي الألف م: (إذا ظفر به) ش: إذا كان من جنس حقه.
قيل في تأويل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لصاحب الحق يد ولسان» : أن المراد أخذ حقه إذا ظفر به م: (وليس للمودع أن يدفعه إليه) ش: أي الغريم، فدلت هذه المسألة على أن الجبر ليس من لوازم الجواز للانفكاك.
[أودع رجل عند رجلين شيئاً مما يقسم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن أودع رجل عند رجلين شيئاً مما يقسم) ش: وهو الذي لا يتعيب بالتفريق الحسي كالمكيل والموزون وما لا يقسم هو ما يتعيب به كالعبد والدابة والثوب الواحد ونحوها م: (لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر، ولكنهما يقتسمانه، فيحفظ كل واحد منهما نصفه) ش: لأن المالك رضي بحفظها، واجتماعهما على حفظ الكل متعذر فيؤمران بالقسمة، لأن المالك قد رضي بها حيث علم بذلك والثابت دلالة كالثابت صريحاً. وإذا دفع أحدهما كله إلى الآخر ضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا التفصيل عند أبي حنيفة م: (وكذلك الجواب عنده في المرتهنين) ش: بأن رهن رجل عند رجلين ما يمكن قسمته فدفع أحدهما إلى الآخر ضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -(10/126)
والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر. وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين. لهما أنه رضي بأمانتهما فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. وله أنه رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله؛ لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل، فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضاء المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض؛ لأن مودع المودع عنده لا يضمن، وهذا بخلاف ما لا يقسم؛ لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه آناء الليل والنهار وأمكنهما المهايأة كان المالك راضيا بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلافاً لهما، ذكره في " المبسوط " م: (والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر) ش: بأن وكل رجل رجلين بشراء شيء؛ فدفع إليهما مالاً مما يقسم فدفعه إلى الآخر فضاع عنده ضمن النصف، وكذا المستصنعين والوصيين والعدلين في الرهن إذا سلم أحدهما إلى الآخر.
م: (وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين) ش: يعني فيما يقسم وفيما لا يقسم م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه رضي بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه، كما فيما لا يقسم) ش: هما قاسا ما يقسم على ما لا يقسم، والجامع وجود الرضا دلالة في الدفع لاعتماده على أمانتهما.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي المالك م: (رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله) ش: أي بحفظ أحد المودعين كل المودع بالفتح م: (لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل) ش: فإذا سلم الكل إلى الآخر م: (فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضاء المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض؛ لأن مودع المودع عنده لا يضمن) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والدال فيهما مفتوحة م: (وهذا) ش: إشارة إلى بيان الفرق بين ما يقسم وما لا يقسم.
م: (بخلاف ما لا يقسم لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه) ش: أي على المودع م: (آناء الليل والنهار) ش: أي ساعاتهما وهو جمع أنى على وزن معى، ويقال أنى وأنوه م: (وأمكنهما المهايأة) ش: وهي القسمة والتناوب م: (كان المالك راضياً بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال) ش: هذا ظاهر.
وقال في " المبسوط ": قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقيس، فإن رهناه بأمانة اثنين لا يكون رضاً بأمانة واحد، فإذا كان الحفظ مما يتأتى منهما عادة لا يصير راضيا بحفظ أحدهما للكل.(10/127)
وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي " الجامع الصغير ": إذا نهاه المودع أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد منه لا يضمن، كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئا يحفظ على يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول؛ لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدا فيلغو. وإن كان له منه بد ضمن لأن الشرط مفيد؛ لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر وإن قال: احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن؛ لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها]
م: (وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمها إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن) ش: لأن هذا الشرط لا يفيد فصار لغواً؛ لأنه لم يكن له بد من التسليم إليها.
م: (وفي " الجامع الصغير ": إذا نهاه المودع) ش: بكسر الدال م: (أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد منه لا يضمن، كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئاً يحفظ في يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته) ش: بعدم شرط الإفادة كما ذكرنا م: (وهو محمل الأول) ش: أي المذكور في الجامع الصغير؛ محمل كما ذكره القدوري مطلقاً، بأنه حتى لا يضمن إذا كان له منه بد، فإن كانت الوديعة شيئا حقيقياً يمكنه استصحابه بنفسه؛ كالخاتم ونحوه فدفعه إلى عياله ضمن م: (لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيداً فيلغو) ش: لأنه شرط تناقض أصله فكان باطلا.
م: (وإن كان له منه بد ضمن) ش: أي وإن كان المودع منه أي من عياله بد أي: فراق بأن كان فيهم من لا يوثق بأمانته فنهاه رب المال عن الدفع إليه ضمن م: (لأن الشرط مفيد؛ لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به) ش: أي بتعين المودع عدم الدفع إلى من في عياله م: (مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر) ش: لأنه شرط مفيد، وأمكن العمل به والشرط المفيد إنما يلغو إذا لم يمكن العمل به.
وعلى هذا إذا نهى عن الدفع إلى امرأته وله امرأة أخرى أمينة أو عن الحفظ في الدار وله أخرى فخاف فهلك ضمن. وإذا نهى عن الدفع إلى امرأته وليس له سواها فخالف لا يضمن، لأن الأول غير مقيد والثاني غير مقدور العمل.
[قال احفظ الوديعة في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار]
م: (وإن قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن، لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز) ش: غالباً، حتى لو تفاوتا ضمن.
وقالت الثلاثة: إن نقلها إلى بيت دونه يضمن، ولو نهاه عن الحفظ في غير هذا البيت(10/128)
وإن حفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز، فكان مفيدا فيصح التقييد.
وإن حفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز، فكان مفيدا فيصح التقييد. ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة، والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة صلح الشرط. قال: ومن أودع رجلا وديعة فأودعها آخر فهلكت فله أن يضمن للأول وليس له أن يضمن الآخر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الأول يرجع على الآخر، وإن ضمن الآخر رجع على الأول. لهما أنه قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعندهم يضمن في الحفظ في بيت آخر سواء كان مثله أو دونه لمخالفته أمر صاحبها، وعندنا في الأمر، وفي النهي لا يضمن إذا لم تتفاوت البينات م: (وإن حفظهما في دار أخرى ضمن، لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فكان) ش: أي الشرط م: (مفيدًا فيصح التقييد) ش: لإمكان العمل به.
م: (ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرًا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة) ش: أي خللًا ظاهرًا.
وكل أمر يتخوف منه فهو عورة، وكذلك كل أمر يستحق منه ومنه عورة الإنسان وعورات الجبال شقوقها، ويقال عورة المكان إذا بدا منه موضع خلل، أو كذلك أعور الفارس ورجل أعور مختل العين م: (صلح الشرط) ش: لكونه مفيدًا.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن أودع رجلا وديعة فأودعها) ش: أي المودع أودعها رجلًا م: (آخر فهلكت فله) ش: أي فللمالك م: (أن يضمن للأول) ش: أي المودع الأول م: (وليس له أن يضمن الآخر) ش: أي مودع المودع م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، ثم المودع يضمن بالوديعة إلى غيره بلا خلاف عند أكثر الفقهاء، وعند ابن أبي ليلى لا يضمن. وفي " الذخيرة ": إنما يضمن المودع الأول بالإيداع إذا هلكت الوديعة بعد أن يفارق الأول الثاني. أما لو هلكت قبل المفارقة لا يضمن بمجرد الدفع إليه، وإنما يضمن بالتضييع.
م: (وقالا: له أن يضمن أيهما شاء) ش: أي المودع أو مودع المودع، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية م: (فإن ضمن الأول لا يرجع على الآخر، وإن ضمن الآخر رجع على الأول) ش: أي فإن ضمن المالك المودع الآخر رجع المودع الآخر على المودع الأول؛ لأنه مغرور من جهة فإنه أودعه على أنه ملكه وأنه لا يلحقه ضمان بالهلاك في يده، فإذا لحقه الضمان رجع عليه.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن المودع الثاني م: (قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب) ش: ومودع المشتري م: (وهذا) ش: توضيح(10/129)
لأن المالك لم يرض بأمانة غيره فيكون الأول متعديا بالتسليم، والثاني بالقبض فيخير بينهما، غير أنه إذا ضمن الأول لم يرجع على الثاني؛ لأن ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه. وإن ضمن الثاني رجع على الأول؛ لأنه عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، وله أنه قبض المال من يد أمين؛ لأنه بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما، فإذا فارقه فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك، وأما الثاني فمستمر على الحالة الأولى ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه، كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره. قال: ومن كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما أنها له أودعها إياه وأبى أن يحلف لهما، فالألف بينهما وعليه ألف أخرى بينهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لوجه زمان الثاني م: (لأن المالك لم يرض بأمانة غيره فيكون الأول متعديًا بالتسليم، والثاني بالقبض فيخير) ش: أي المالك م: (بينهما) ش: أي بين تضمين الأول وبين تضمين الثاني م: (غير أنه إذا ضمن الأول لم يرجع) ش: أي الأول م: (على الثاني لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه عامل له) ش: في القبض والحفظ م: (فيرجع عليه بما لحقه من العهدة) ش: وهو الضمان.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن المودع الثاني م: (قبض المال من يد أمين لأنه) ش: أي المودع الأول م: (بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما) ش: أي من المودع الأول والمودع الثاني، ما داما مجتمعين م: (فإذا فارقه) ش: أي الأول الثاني م: (فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك) ش: أي بسبب تركه الحفظ الملتزم م: (وأما الثاني) ش: أي المودع الثاني م: (فمستمر على الحالة الأولى) ش: وهو القبض من أمين م: (ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره) ش: فهلكت حيث لا يضمن؛ لأنه لم يوجد منه صنع بخلاف مودع الغاصب؛ لأن الأول بمجرد الدفع متعد وللثاني بالأخذ.
[كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما أنها وديعة له]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وما كان في يده ألف فادعاها رجلان كل واحد منهما) ش: أي ادعى كل واحد منهما م: (أنها) ش: أي الألف م: (له أودعها إياه وأبى) ش: أي امتناع صاحب اليد م: (أن يحلف لهما فالألف بينهما) ش: وفي بعض النسخ فالألف لهما.
م: (وعليه) ش: أي على صاحب اليد م: (ألف أخرى بينهما) ش: أي بين المودعين. وصورة المسألة في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في ألف درهم في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعى أنه أودعها إياه فأبى أن يحلف لهما قال تكون هذه الألف بينهما، ويغرم ألفًا أخرى فيكون بينهما نصفين انتهى.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير ": وفي قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب عليه إلا دفع الألف بعينها؛ لأنه لم يأخذ إلا ألفًا واحدة فلا يجب على ألف أخرى.(10/130)
وشرح ذلك أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث، ويحلف لكل واحد على الانفراد لتغاير الحقين، وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية، ولو تشاحا أقرع بينهما تطييبا لقلبهما ونفيا لتهمة الميل. ثم إن حلف لأحدهما يحلف للثاني، فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة، وإن نكل أعني للثاني يقضي له لوجود الحجة. وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول بخلاف ما إذا أقر لأحدهما؛ لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به، أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وشرح ذلك) ش: أي الحكم المذكور م: (أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» م: (ويحلف لكل واحد على الانفراد لتغاير الحقين) ش: لأن كل واحد منهما يدعي ألفًا م: (وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية) ش: لعدم المرجع.
م: (ولو تشاحا) ش: أي لو تنازعا في البداية بالحلف م: (أقرع بينهما تطييبًا لقلبهما ونفيًا لتهمة الميل) ش: أي ميل القاضي إلى أحدهما. م: (ثم إن حلف لأحدهما يحلف للثاني فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة) ش: يعني من جهة المدعين م: (وإن نكل أعني للثاني) ش: يعني بعدما حلف للأول م: (يقضي له) ش: أي للثاني م: (لوجود الحجة) ش: وهي النكول م: (وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول) ش: يعني للأول؛ لأن الثاني ربما يقول إنما نكل لأنك بدأت بالاستحلاف فلا تنقطع الخصومة بينهما.
فحاصل المسألة على أربعة أوجه؛ لأنه إما أن يحلف لكل منهما أو يحلف للأول منهما وينكل للثاني أو بالعكس، أو ينكل لهما فإن حلف لهما لا شيء لهما، وإن حلف للأول ونكل للثاني فالأول له ببدله أو بإقراره، وإن نكل للأول وحلف للثاني فالألف للأول ولا شيء للثاني، وإن نكل لهما فالألف بينهما وعليه ألف آخر بينهما؛ لأن نكوله أوجب لكل واحد منهما كل الألف ليس معه غيره.
م: (بخلاف ما إذا أقر لأحدهما؛ لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به، أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء) ش: بإنزاله مقرا أو باذلًا، فحين نكل الأول لم يثبت الحق له م: (فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء) ش: فإنه لا يقضي بالألف للأول أو الثاني أو لهما جميعًا؛ لأنه حلف للثاني فلا شيء له والألف كله للأول، ولو نكل للثاني أيضًا كان الألف(10/131)
ولو نكل للثاني أيضا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكر في الكتاب لاستوائهما في الحجة، كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفا أخرى بينهما؛ لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله أو بإقراره وذلك حجة في حقه وبالصرف إليهما صار قاضيا نصف حق كل واحد منهما بنصف حق الآخر، فيغرمه. ولو قضى القاضي للأول حين نكل، ذكر الإمام علي البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " أنه يحلف للثاني، وإذا نكل يقضي بها بينهما؛ لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني؛ لأنه يقدمه إما بنفسه أو بالقرعة، وكل ذلك لا يبطل حق الثاني وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينفذ قضاؤه للأول ووضع المسألة في العبد، وإنما نفذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بينهما فلذلك يتوقف على القضاء حتى يظهر وجهه، وهذا بخلاف الإقرار لأحدهما فإنه يقضي بالألف للمقر له لأنه حجة موجبة بنفسه فلا يتوقف على القضاء.
م: (ولو نكل للثاني أيضًا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكره في الكتاب لاستوائهما في الحجة، كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفًا أخرى بينهما؛ لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله) ش: أي لأن المودع المنكر أوجب الحق لهما ببذله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النكول بذل عنده م: (أو بإقراره) ش: أي عندهما؛ لأن النكول إقرار عندهما م: (وذلك) ش: أي الإقرار أو البذل م: (حجة في حقه) ش: أي في حق المودع المنكر م: (وبالصرف إليهما) ش: أي يصرف المودع الألف إلى المدعيين م: (صار قاضيا نصف حق كل واحد منهما بنصف حق الآخر فيغرمه) ش: أي فيغرم الألف الذي صرف إليهما فيصير ألفان م: (ولو قضى القاضي للأول حين نكل) ش: مع أنه ليس له ذلك.
م: (ذكر الإمام علي البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " الجامع الصغير " أنه يحلف للثاني) ش: أراد أنه لا ينفذ قضاؤه فيحلف الثاني م: (وإذا نكل يقضي بها بينهما) ش: بالألف ويغرم ألف أخرى بينهما م: (لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (يقدمه) ش: أي يقدم الأول للحلف م: (إما بنفسه) ش: أراد باختياره لا لدليل أوجب ذلك م: (أو بالقرعة) ش: لتعذر الجمع بينهما م: (وكل ذلك) ش: أي من تقديمه الأول باختياره أو بالقرعة م: (لا يبطل حق الثاني) ش: لأنه فعل ما ليس له فعله، ثم إن الإمام علي البزدوي لم يذكر أنه إذا حلف للثاني ماذا حكمه وذكره أبو الليث في شرح " الجامع الصغير "، فإن حلف يقضي بنكوله للأول، وإن نكل له أيضًا يقضي بنكوله لهما.
م: (وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينفذ قضاؤه للأول) ش: يعني يكون كل الألف له ولا يكون بينهما م: (ووضع) ش: أي الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (المسألة في العبد) ش: بأن كان في يده عبد فادعاه رجلان كل واحد أنه له وأودعه إياه م: (وإنما نفذ) ش: أي قضاء القاضي الأول م:(10/132)
لمصادفته محل الاجتهاد، ولأن من العلماء من قال يقضي للأول ولا ينتظر لكونه إقرار دلالة، ثم لا يحلف للثاني ما هذا العبد لي؛ لأن نكوله لا يفيد بعدما صار للأول، وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه، قال: ينبغي أن يحلفه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أن المودع إذا أقر بالوديعة ودفع بالقضاء إلى غيره يضمنه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا له وهذه فريعة تلك المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لمصادفته محل الاجتهاد؛ ولأن من العلماء من قال يقضي للأول) ش: أي بالنكول م: (ولا ينتظر) ش: أي القاضي م: (لكونه) ش: أي لكون النكول م: (إقرار دلالة) ش: لأن امتناعه عن اليمين يدل على الإقرار م: (ثم لا يحلف للثاني) ش: أي للمدعى الثاني م: (ما هذا العبد لي) ش: يعني لا يحلفه بالاقتصار على لفظ العبد لي، بل يضم إليه ولا قيمته م: (لأن نكوله لا يفيد بعد ما صار للأول) ش: أراد أنه لما أقر به للأول وثبت له حق الأول فلا يفيد إقراره به للثاني؛ لأنه لا يمكنه دفعه إلى الثاني بعد ذلك م: (وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه قال) ش: أي الخصاف: م: (ينبغي أن يحلفه) ش: على هذا الوجه م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافًا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بناء على أن المودع إذا أقر بالوديعة) ش: لإنسان م: (ودفع بالقضاء إلى غيره) ش: أي غير المقر له م: (يضمنه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يضمن ما أقر من الوديعة؛ لأنه أقر بالتزام الحفظ، فمتى أقر به الإنسان فقد سلطه على الأخذ فصار تاركًا للحفظ الواجب عليه بالعقد فيضمن، كما لو دل على فاعل السرقة.
م: (خلافا له) ش: أي لأبي يوسف؛ لأن بمجرد الإقرار لم يفت على الثاني شيء، وإنما الفوت بالدفع بإكراه القاضي فلا يكون موجبًا للضمان، وهذا الخلاف كما علمت فيما إذا كان الدفع بالقضاء، وأما إذا كان بلا قضاء بأن أقر بالوديعة لإنسان ثم قال: أخطأت، بل هي هذا، كان عليه أن يدفعها إلى الأول؛ لأن إقراره بها صحيح ورجوعه بعد ذلك باطل ويضمن للآخر قيمتها لأنه صار مستهلكًا على الثاني لإقراره بها للأول، فيضمن قيمتها، وهذا بالاتفاق.
فإن قلت: ما وجه بناء المسألة المتقدمة على المسألة الثانية؟
قلت: لأن النكول إقرار فبالإقرار بالوديعة ضمن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا بالنكول فيأتي التحليف، وعند أبي يوسف: لا يضمن ثمة بالإقرار وكذا هنا بالنكول فلا فائدة في التحليف.
م: (وهذه) ش: أي هذه المسألة التي ذكرناها من تحليف القاضي المودع الثاني بعد قضائه للأول ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته م: (فريعة تلك المسألة) ش: يعني المسألة التي اختلف أبو(10/133)
وقد وقع فيه بعض الإطناب، والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف ومحمد - رحمهما الله - فيها في الضمان وعدمه، وإنما قال بالتصغير إشارة إلى اختصار تلك المسألة وكثرة فروع المسألة التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله، وأشار إلى ذلك بقوله م: (وقد وقع فيه بعض الإطناب والله أعلم) ش: أي التطويل، يعني دفع الإطناب في الأصل في باب إقرار الرجل بالمال، وكان ينبغي أن يقول فيها؛ لأن مسألة مؤنث، ولكن التذكير إما باعتبار المذكور وإما تسامحًا، فإن الفقهاء يتسامحون في العبارات.
ومن جملة تفريعات تلك المسألة ما لو قال المودع أودعتها أحدكما ولا أدري أيكما، فالمدعيان إذا اصطلحا على أخذها فلهما ذلك، والألف بينهما وليس للمودع الامتناع عن تسليم الألف إليهما، وإن لم يصطلحا ويدعي كل أن الألف له فإنه يحلف لكل واحد.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله: يكفي يمين واحدة ثم إن حلف لهما قطع دعواهما في قول أبي يوسف، وفي قول محمد لهما أن يصطلحا بهذا الاستحلاف على أخذ الألف بينهما، ولو نكل قضى بألف بينهما وضمن ألفًا أخرى بينهما.
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله: لا يضمن ألفًا أخرى، بل يقرع بينهما عند أحمد أو يصطلحا عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن حلف لأحدهما ونكل للآخر قضى بألف للذي نكل ولا يبيع للذي حلفه، وكذا لو قال: علي ألف هذا، أو هذا، أو كل واحد يدعيها فهو على هذه الوجوه والله أعلم.(10/134)
كتاب العارية
قال: العارية جائزة؛ لأنه نوع إحسان قال: وقد استعار النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دروعا من صفوان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب العارية]
[تعريف العارية]
م: (كتاب العارية) ش: وجه المناسبة بين الكتابين أن كلًا منهما أمانة، ويجوز في بابها التخفيف، والتشديد أفصح. قال في " المغرب ": هي نسبة إلى العارة اسم من الإعارة، وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب والعمارة مثل العارية، وقد خطأه على هذا؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باشرها على ما يجيء عن قريب، وقيل: هي مشتقة من التعاور وهو التناوب، فكأنه جعل للمعير نوبة في الانتفاع في ملكه على أن تعود النوبة إليه بالاسترداد أي شيء شاء.
ولهذا كانت الإعارة في المكيل والموزون قرضًا؛ لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك العين فلا تعود النوبة إليه في ملك العين ليكون عارية حقيقة، وإنما تعود النوبة إليه في مثلها، وإنما قدم بيان الجواز على تفسيرها لشدة تعلق الفقه به.
[ما تنعقد به العارية وحكمها]
م: (قال: العارية جائزة؛ لأنه نوع إحسان) ش: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فيكون جائزًا خلافًا لقوم في أنها واجبة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وقد «استعار النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دروعًا من صفوان» ش: أخرج أبو داود والنسائي عن شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه «صفوان بن أمية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه درعًا يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد، قال: " بل عارية مضمونة» .(10/135)
وهي تمليك المنافع بغير عوض. وكان الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هي إباحة الانتفاع بملك الغير؛ لأنها تنعقد بلفظة الإباحة ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك، وكذلك يعمل فيها النهي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وسكت عنه، وقال: له شاهد صحيح، ثم أخرجه عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية أدرعًا وسلاحًا في غزوة حنين، فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعارية مؤداة، قال: " نعم عارية مؤداة» ، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي عن إسحاق بن عبد الله حدثنا خالد بن عبد الله الحذاء به.
فإن قلت: في الروايتين إشكال؛ لأن في أحدهما قال: بل عارية مضمونة، وفي الأخرى قال عارية مؤداة.
قلت: قال صاحب التنقيح: هذا دليل على أن العارية منقسمة إلى مؤداة ومضمونة، قال: ويرجع ذلك إلى المعير، فإن شرط الضمان كانت مضمونة وإلا فهي أمانة، قال: وهو مذهب.
وعنه أنها مضمونة بكل حال. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمن إلا إذا فرط فيهما، وسيجيء تحرير الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى. ومقصود المصنف بهذا هاهنا إثبات جواز العارية فقط، وأما بيان حكمها في الضمان وعدمه، فسيقوله عن قريب.
م: (وهي تمليك المنافع) ش: جنس يتناول الإجارة وغيرها، وقوله م: (بغير عوض) ش: يخرجها م: (وكان الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: هي إباحة الانتفاع بملك الغير) ش: ذكر الضمير مع كون العارية مؤنثة إما باعتبار المذكور، وإما باعتبار أن العارية في الأصل إما مصدر كالعاقبة والكاذبة أو اسم للمصدر، وكل منهما يستوي فيه التذكير والتأنيث بقوله: قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله، واستدل الكرخي على ذلك بأربعة أوجه:
الأول: هو قوله م: (لأنها تنعقد بلفظة الإباحة) ش: فإن قال المعير: أبحت لك هذا الثوب مثلًا يكون عارية، والتمليك لا ينعقد بلفظة الإباحة.
الثاني: هو قوله م: (ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك، وكذلك يعمل فيها النهي) ش: أي لا يشترط في العارية بيان المدة والتمليك يقضي أن تكون المنافع معلومة؛ لأن تمليك المجهول لا يصح ولا يعلم بضرب المدة وهو ليس بشرط في العارية، فكان تمليكًا للمجهول.(10/136)
ولا يملك الإجارة من غيره. ونحن نقول: إنه ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية، ولهذا تنعقد بلفظة التمليك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: تمليكًا لما ملكه كالأجير لا يملك نهي المستأجر عن الانتفاع.
الرابع: هو قوله م: (ولا يملك الإجارة من غيره) ش: أي لا يملك المستعير إجارة ما استعاره، ولو كان تمليكًا جاز له ذلك، كما يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لتملكه المنافع.
م: (ونحن نقول إنه) ش: أي انعقاد العارية، أو يكون وجه التذكير من الضمير ما ذكرنا الآن م: (ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية) ش: فإذا كانت العارية عطية يكون تمليكًا م: (ولهذا تنعقد بلفظة التمليك) ش: مثل أن يقول: ملكتك منافع هذه الدار شهرًا، أو جعلت لك سكنى داري هذه شهرًا، ذكره في " المبسوط ".
وإذا انعقدت بلفظة التمليك يكون تمليكًا. وفي قوله: فإن العارية من العرية مناقشة؛ لأنه أراد أنها مشتقة من العرية كما قال الأترازي وليس كذلك، فإن العارية أجوف واوي، ولهذا ذكره أهل اللغة في باب عور، والعرية ناقص وصرف العلة في لامة فلذلك ذكره أهل اللغة في باب عور، والاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في اللفظ والمعنى، والمراد من التناسب أن يكون في الحروف والترتيب كضرب، فإنه مشتق من الضرب والاشتقاق بين عور وعرو.
فإن قلت: هذا الذي ذكرته في الاشتقاق الصغير، وأما الاشتقاق الكبير فلا يشترط فيه إلا التناسب في اللفظ دون الترتيب كجبذ من الجذب.
قلت: المراد من الاشتقاق حيث أطلق هو الصغير، ولئن سلمنا أن بينهما تناسبًا في اللفظ، ولكن لا نسلم أن بينهما اشتقاقًا كبيرًا أيضًا لعدم المناسبة في المعنى، فإن مادة العارية تدل على التناوب أو التداول، ومادة العارية تدل على الإلهام والإتيان، يقال: عروت عروًا إذا ألهمت به وأتيته طالبًا فهو معرور، فلأن تعروه الأضياف، وتعتريه أي تغشاه، وإن أراد أن معنى العارية مأخوذ من معنى العرية فليس كذلك؛ لما نبين لك من اختلاف المعاني في أصل المادة؛ لأن العرية هي النخلة يجعل صاحبها ثمرها عامًا لرجل محتاج فيعودها المحتاج أي يأتيها، وهذا معنى العطية.
وتفسير المصنف إياها بقوله: وهي العطية ليس تفسيرًا بحسب اللغة، ولكن لما كان فيها الأخذ والعطاء أطلق عليها العطية وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما أدخلت فيها الهاء؛ لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة والأكيلة، ألا ترى أنك إذا أضفت لها النخلة تقول له: نخلة عري فلا يحتاج إلى الهاء؛ لأن الفعيل إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر(10/137)
والمنافع قابلة للملك كالأعيان. والتمليك نوعان بعوض وبغير عوض، ثم الأعيان تقبل النوعين، فكذلك المنافع، والجامع بينهما دفع الحاجة ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك كما في الإجارة فإنها تنعقد بلفظة الإباحة وهي تمليك، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة لعدم اللزوم، فلا تكون ضائرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمؤنث، والمذكر أصل وأولى. وإن أراد أن حكم العارية كحكم العرية فليس كذلك؛ لأن المعير له أن يرجع في العارية متى شاء، والعري ليس له ذلك.
م: (والمنافع قابلة للملك كالأعيان) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: المنافع أعراض لا تنتفي فلا تقبل التمليك، فأجاب به ثم بنى على ذلك قوله م: (والتمليك نوعان بعوض وبغير عوض) ش: وهذا لا نزاع فيه م: (ثم الأعيان تقبل النوعين) ش: أي تمليك العين بعوض كالبيع وتمليكها بغير عوض كالهبة والصدقة م: (فكذلك المنافع) ش: تقبل النوعين بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالعارية م: (والجامع بينهما دفع الحاجة) ش: أي الجامع بين الأعيان والمنافع دفع حاجة الناس إلى نوع التمليك، فكما أنهم محتاجون إلى نوع التمليك في الأعيان، فكذلك محتاجون إلى ذلك في المنافع.
وما قيل: إن هذا استدلال في التعريفات وهي لا تقبله؛ لأن المعرف إذا عرف شيئا بالجامع والمنافع فإن سلم من النقص فذلك، وإن نقض بكونه غير جامع أو مانع يجاب عن النقض إن أمكن، وأما الاستدلال فلأنه يكون في التصديقات وأيضًا فإن هذا قياس في الموضوعات وهو غير صحيح؛ لأن من شرط القياس تعدية الحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره. ولا نص فيه، والموضوعات ليست بحكم شرعي، وموضعه أصول الفقه، وأيضًا من شرط القياس أن يكون الحكم الشرعي متعديا إلى فرع نظيره، والمنافع ليست نظير الأعيان، فجوابه أن هذا التعريف إما لفظي أو رسمي، فإن كان لفظيًا فما ذكر فلبيان المناسبة لا للاستدلال على ذلك وإن كان رسميًا فما ذكر بيان بخواص يعرف بها المعار، ولكن لو عرف العارية بأنها عقد على المنافع بغير عوض وجعل المذكور في الكتاب حكمها يسلم من الشكوك.
م: (ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك) ش: هذا جواب عن قول الكرخي إنها تنعقد بلفظ الإباحة، ووجه ذلك أنه مجاز م: (كما في الإجارة فإنها تنعقد بلفظة الإباحة وهي تمليك) ش: أي والحال أنها تمليك م: (والجهالة لا تفضي إلى المنازعة) ش: هذا جواب عن قوله: ومع الجهالة لا يصح التمليك، ووجهه أن الجهالة المانعة هي المفضية إلى النزاع، وهذه ليست كذلك م: (لعدم اللزوم) ش: لأن المعير له أن يفسخ العقد في كل ساعة لكونها غير لازمة م: (فلا تكون) ش: أي الجهالة م: (ضائرة) ش: يعني مفضية إلى النزاع، بخلاف الإجارة لأنها عقد معاوضة وتعلقت صفة اللزوم بها فتفضي الجهالة فيها إلى النزاع.(10/138)
ولأن الملك إنما يثبت بالقبض وهو الانتفاع، وعند ذلك لا جهالة، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه، ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: وتصح بقوله أعرتك؛ لأنه صريح فيه، وأطعمتك هذه الأرض؛ لأنه مستعمل فيه، ومنحتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن الملك إنما يثبت بالقبض) ش: هذا وجه آخر، أي الملك في العارية يثبت بقبضها م: (وهو الانتفاع، وعند ذلك) ش: أي عند القبض م: (لا جهالة) ش: لأن عند القبض معلوم، فالجهالة قبله لا تفضي إلى المنازعة، وهذا لو علمت المنفعة بالتسمية في الإجارة لا يشترط فيها ضرب المدة كما في المصبغ والخياطة م: (والنهي منع عن التحصيل) ش: هذا جواب عن قوله، وكذلك يعمل فيه النهي.
ووجهه أن عمل النهي ليس باعتبار أنه ليس في العارية تمليك من حيث إنه بالنهي يمنع المستعير بحق التملك م: (فلا يتحصل المنافع على ملكه) ش: لكونه دليل الرجوع والاسترداد لإبطال الملك بعد ثبوته.
م: (ولا يملك بالإجارة) ش: جواب عن قوله: فلا يملك الإجارة من غيره، يعني إنما لا يملك الإجارة م: (لدفع زيادة الضرر) ش: أي بالمعير؛ لأنه ملكها على وجه يتمكن من الاسترداد متى شاء، فلو صحت الإجارة منه لم يتمكن من الاسترداد م: (على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أراد به عند قوله: وليس للمستعير أن يؤجر ما استعاره.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وتصح بقوله: أعرتك لأنه صريح فيه) ش: أي حقيقة في عقد العارية م: (وأطعمتك هذه الأرض لأنه مستعمل فيه) ش: أراد أنه مجاز في تمليك المنفعة؛ لأن الطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك عينه وإن أضيف إلى ما لا يطعم عينه كالأرض يراد به أكل غلتها إطلاقًا لاسم المحل على الحال.
قيل: في عبارته نظر؛ لأنه إذا أراد بقوله: مستعمل أنه مجاز فهو صريح؛ لأنه مجاز متعارف، والمجاز المتعارف صريح كما عرف في الأصول فلا فرق إذًا بين العبارتين.
وأجيب بأن: كليهما صريح لكن أحدهما حقيقة، والآخر مجازًا، فأشار إلى الثاني بقوله: مستعمل، أي مجازًا ليعلم أن الآخر حقيقة.
م: (ومنحتك هذا الثوب) ش: أي أعطيتك؛ لأن منح معناه أعطى، ومنه المنحة: وهي الناقة أو الشاة يعطيها الرجل الرجل ليشرب لبنها ثم يردها إذا ذهب درها، ثم كثر حتى قيل في كل من أعطى شيئًا منح م: (وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة) ش: أي بقوله هذا أعني حملتك على هذه الدابة، وقوله: منحتك هذا الثوب.(10/139)
لأنهما لتمليك العين، وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا، قال: وأخدمتك هذا العبد لأنه أذن له في استخدامه، وداري لك سكنى لأن معناه سكناها لك، وداري لك عمري سكنى لأنه جعل سكناها له مدة عمره، وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك؛ لأنه يحتمل تمليك المنافع فحمل عليه بدلالة آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الشيخ حافظ الدين: كان ينبغي أن يقول إذا لم يرد بهما بدليل التعليل، ثم أجاب بأن الضمير يرجع إلى المذكور، قلت: المذكور شيئان: أحدهما: قوله ومنحتك هذا الثوب والآخر حملتك على هذه الدابة م: (لأنهما) ش: أي لأن قوله منحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة م: (لتمليك العين) ش: يعني حقيقة م: (وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزًا) ش: أي مجازًا من حيث العرف العام.
واستشكل حافظ الدين هنا أيضًا من وجهين:
الأول: أنه جعل هذين اللفظين حقيقة لتمليك العين، ومجازًا لتمليك المنفعة، ثم ذكر في كتاب الهبة في بيان ألفاظها وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحملان الهبة. وعلل بأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل الهبة، وهذا تناقض ظاهر.
والثاني: أنهما لما كان التمليك حقيقة، والحقيقة تراد باللفظ بلا نية عندهم، فعند عدم إرادة الهبة لا يحمل على تمليك المنفعة بل على الهبة.
وتحدى الأترازي بالجواب بقوله: نعم إن لفظ حملتك لا يدل على الإركاب لغة، ولكن يدل على التمليك عرفًا، يقال: حمل الأمير فلانًا، ويراد التمليك ويستعمل للعارية أيضًا، قال تعالى: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] أي لتركبهم، فإذا نوى العارية أو الهبة كان كما نوى، وإن لم ينو شيئًا كان عارية لإنباء المتيقن بها.
قلت هذا جواب عن الاستشكال الثاني على أنه يدل على أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مال إلى النية لما فقدت، يحمل اللفظ على أولى الاحتمالين وهو تمليك المنفعة، وهذا خلاف قاعدة الأصول.
م: (قال: وأخدمتك هذا العبد؛ لأنه أذن له في استخدامه) ش: وذلك يكون عارية م: (وداري لك سكنى؛ لأن معناه سكناها لك) ش: فإذا كان معناه هذا يكون عارية، م: (وداري لك عمري سكنى؛ لأنه جعل سكناها له مدة عمره، وجعل قوله سكنى. تفسيرًا لقوله: لك) ش: لأنه منصوب على التمييز من قوله لك م: (لأنه) ش: أي لأن قوله: لك م: (يحتمل تمليك المنافع) ش: كما يحتمل تمليك العين، فإذا ميزه تيقنت المنفعة م: (فحمل عليه) ش: أي على تمليك المنافع م: (بدلالة آخره) ش: أي آخر الكلام، وهذا حمل المحتمل على المحكم؛ لأنه سكنى في العارية.(10/140)
قال: وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المنحة مردودة والعارية مؤداة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الرجوع في العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء) ش: فسواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة. وقال مالك: لا يجوز الرجوع في الموقتة قبل مضي الوقت فيكون حكمها عنده كالإجارة. وفي " الجواهر ": إذا قال: أعني بغلامك أو ثورك في حرثي يومًا أو يومين فليس بعارية، بل يرجع إلى حكم الإجارة، وكل ما كان من هذا القبيل، فحكمه حكم الإجارة في الصحة والفساد.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المنحة مردودة والعارية مؤداة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " إلى أن قال " العارية مؤداة، والمنحة مردودة» . وقال الترمذي: حديث حسن.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن الجراح بن مليح البهراني أخبرنا حاتم بن حريث الطائي سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة والمنحة مردودة» .
وأخرجه الطبراني في معجمه، وروى هذا الحديث أيضًا من الصحابة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث عبد الله بن عمر، فأخرجه البزار في " مسنده ": حدثنا عبد الله بن عمر عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العارية مؤداة» .
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن إسماعيل ابن أبي زياد السكوني قاضي الموصل أخبرنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الزعيم غارم، والدين مقضي، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة» ، وأعله بإسماعيل هذا. وقال: إنه منكر الحديث وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وأما حديث أنس فأخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " وقد ذكرناه في الكفالة.
قوله: المنحة بكسر الميم وسكون النون، وقد فسرناها عن قريب، قوله: مردودة أي يجب ردها. وجه الاستدلال به ظاهر، وفيه تعميم بعد التخصيص لما عرف أن المنحة عارية خاصة وفيه(10/141)
لأن المنافع تملك شيئا فشيئا على حسب حدوثها، فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض فيصح الرجوع عنه.
قال: والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زيادة مبالغة في أن العارية مستحق الرد.
م: (لأن المنافع تملك شيئًا فشيئًا على حسب حدوثها، فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض) ش: لأن المنافع التي لم تحدث لا يتصور فيها القبض م: (فيصح الرجوع عنه) ش: أي عن ماله الموجود؛ لأن التمليك لا يكون إلا في الموجود.
[ضمان العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن) ش: وفي بعض النسخ: لم يضمنها. وقيد بقوله: من غير تعد؛ لأن هلاكها بالتعدي يوجب الضمان بلا خلاف. ولو شرط الضمان في الدابة هل يصح؟ فالمشايخ مختلفون فيه، كذا في التحفة، وقال في خلاصة الفتاوى: رجل قال لآخر: أعرني ثوبك، فإن ضاع فأنا ضامن له، قال: لا يضمن، ونقله عن المنتقى.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وبقولنا قال مالك. قلت: في مذهبه تفصيل، حيث قال: يضمن فيما يخلى هلاكه، ولا يضمن فيما لا يخلى.
وفي " الجواهر ": العارية نوعان: نوع يظهر هلاكه ولا يكاد يخفى كالرباع والحيوان، فهذا النوع يقبل قول المستعير في هلاكه ما لم يظهر كذبه، وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله.
والنوع الثاني: يخفى هلاكه، ويعاب عليه، وهذا النوع يقبل قول المستعير في هلاك ما لم تقم بينة له.
فإن قامت فلا ضمان عليه فيه، وكذلك ما علم أنه مغير سببه كالسوس في الثوب صدقة فيه في كتاب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع يمينه أنه ما أضاعه ولا أراد فسادًا، فقال أبو إسحاق: وكذلك الفأر على هذا يقرض الثوب، ووافق أشهب وعبد الحكم في النوع الأول، وخالفا في الثاني فرأيا أنه مضمون على المستعير على كل تقدير قامت بينة بهلاكه أم لا.
وقال القاضي أبو محمد: والصحيح أنه لا يضمن. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا: وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعني عدم الضمان قول على وابن مسعود والحسن والنخعي والشعبي والثوري، وعمر بن عبد العزيز وشريح والأوزاعي وابن أبي شبرمة وإبراهيم، وقضى شريح بذلك ثمانين سنة بالكوفة.
وحدث الكرخي في " مختصره " عن الرمادي عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يضمن العارية، إنما هو المعروف إلا أن(10/142)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه، والإذن ثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه، ولهذا كان واجب الرد، وصار كالمقبوض على سوم الشراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تحالف، وحدث أيضا بإسناده إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: العارية بمنزلة الوديعة لا يضمن صاحبها، إلا أن يتعدى.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن لأنه قبض مال غيره لنفسه) ش: احترز به عن الوديعة؛ لأن قبض المودع فيها لأجل المودع لا لمنفعة نفسه م: (لا عن استحقاق) ش: أي لا عن استيجاب قبض بحيث لا ينقصد الآخر بدون رضاه، واحترز به عن المستأجر فإنه يقبض المستأجر لحق له ليس للمالك النقض قبل مضي المدة بدون رضاه م: (فيضمنه) ش: أي إذا كان كذلك يضمن العارية، وتذكير الضمير باعتبار المذكور م: (والإذن ثبت ضرورة الانتفاع) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: قبض بإذنه، ومثله لا يوجب الضمان.
وتحرير الجواب: أن الإذن يثبت ضرورة الانتفاع، والثابت بالضرورة يقدر بقدرها، والضرورة حالة الاستعمال.
فإن هلكت فيها فلا ضمان، وإن هلكت في غيرها لم يظهر فيه الإذن لكونه وراء الضرورة، وهو معنى قوله: م: (فلا يظهر فيما وراءه) ش: أي فلا يظهر الإذن فيما وراء الضرورة، وتذكير الضمير باعتبار المذكور.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الإذن ضروريًا م: (كان واجب الرد) ش: أراد أن مؤنة الرد واجبة على المستعير كما في الغصب م: (وصار كالمقبوض على سوم الشراء) ش: فإنه وإن كان بإذن لكن لما كان قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق إذا هلك ضمن، فكذا هذا، وبقوله قال أحمد وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وإسحاق.
وقال قتادة وعبد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها ضمن وإلا فلا، وقال ربيعة: كل العواري مضمونة، وفي الروضة: إذا تلفت العين في يد المستعير ضمنها سواء تلفت بآفة سماوية أم بفعله بتقصير أم بلا تقصير، هذا هو المشهور، وحكي قول أنها لا تضمن إلا بالتعدي وهو ضعيف، ولو أعار بشرط أن يكون أمانة بقي الشرط وكانت مضمونة.
وفي " حاوي " الحنابلة: إن شرط بقي ضمانها سقط الضمان، وإن تلف حروها باستعماله كحمل مشقة لم يضمن في أصح الوجهين وإن أركب منقطعًا دابته للثواب فتلفت لم يضمن.(10/143)
ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان؛ لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه، والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار، فإنها على المستعير، لا لنقض القبض، والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان) ش: لأن الضمان إما أن يجب بالعقد أو بالقبض أو بالإذن وليس شيء من ذلك بموجب له، أما العقد فلأن اللفظ الذي تنعقد به العارية لا ينبئ عن التزام الضمان م: (لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها) ش: أي أو لإباحة المنافع على اختلاف القولين وما وضع لتملك المنافع أو باجتهاد ولإباحتها لا يتعرض ملك الغير حتى يوجب الضمان عند هلاكه م: (والقبض لم يقع تعديًا لكونه مأذونًا فيه) ش: وإنما يوجب القبض الضمان إذا وقع تعديًا م: (والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع) ش: هذا جواب عن قوله: والإذن يثبت ضرورة الانتفاع، وتقريره القول بالموجب يعني سلمنا أن الإذن لم يكن إلا لضرورة الانتفاع م: (فهو ما قبضه إلا للانتفاع، فلم يقع تعديًا) ش: فلا ضمان بدونه.
م: (وإنما وجب الرد مؤنة) ش: هذا جواب عن قوله: وهذا كان واجب الرد تقريره أن وجوب الرد لا يدل على أنه مضمون؛ لأنه واجب لمؤنة القبض الحاصل للمستعير م: (كنفقة المستعار، فإنها على المستعير لا لنقض القبض) ش: ليدل على أن القبض لا عن استحقاق فيوجب الضمان بخلاف الغصب، فإن الرد فيه واجب لنقض القبض لكونه بلا إذن، فإذا لم يوجب الرد وجب الضمان.
م: (والمقبوض على سوم الشراء مضمون) ش: هذا جواب عن قوله: وصار على المقبوض على سوم الشراء، تقريره أنه ليس بمضمون بالقبض بل بالعقد، وهو معنى قوله م: (بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد) ش: فصار كالمأخوذ بالعقد، وهو يوجب الضمان.
فإن قيل: سلمنا أن الأخذ في العقد، ولكن لا عقد هاهنا.
أجيب: بأن العقد وإن كان معدومًا حقيقة جعل موجودًا تقريرًا صيانة أموال الناس عن الضياع، إذ المالك لم يرض بخروج ملكه مجانًا، وأن المقبوض على سوم الشراء وسيلة إليه، فأقيم مقام الحقيقة نظرًا له، إلا أن الأصل في ضمان العقود هو القيمة لكونها مثلًا كاملا، وإنما يصار إلى الثمن عند وجوب العقد حقيقة، وإذا لم يوجد صير إلى الأصل.
م: (على ما عرف في موضعه) ش: قيل: يريد به نسخ طريقة الخلاف، وقيل: كتاب الإجارات من " المبسوط ". وقال الحاكم في " كافيه ": رجل استعار من رجل سلاحًا ليقاتل به فضرب بالسيف فانقطع نصفين أو طعن بالرهن فحينئذ انكسر، قال: لا ضمان عليه لأنه هلك(10/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من عمل مأذون فيه. وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل دخل الحمام واستعمل قضاع الحمام فانكسرت لا ضمان عليه، وكذا إذا كور الفقاع ليشرب سقط وانكسر لا ضمان عليه؛ لأنه عارية في يده.
فإن قلت: ما تقول في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة» وقد مر في أول الكتاب بتمامه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . أخرجه الترمذي عن شريك وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ... الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» أخرجه البيهقي من حديث قتادة عن الحسن عن سمرة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم إن الحسن نسي حديثه، فقال: هو أمينك فلا ضمان عليه.
قلت: الحديث الأول فيه اضطراب سندًا ومتنًا، وجميع وجوهه لا تخلو عن نظر، ولهذا قال صاحب " التتمة ": الاضطراب فيه كثير ولا حجة فيه عندي في تضمين العارية، ثم على تقدير صحة قوله: مضمونة المراد عليك بدليل قوله: حتى يؤديها إليك، ويحتمل أن يريد اشتراط الضمان والعارية يشترط الضمان مضمونة في رواية للحنفية.
وأخرج النسائي عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتتك رسلي فأعظم ثلاثين درعًا وثلاثين مغفرًا» .
فإن قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعارية مؤداة، قال: بل عارية مضمونة. قال ابن حزم: حديث حسن ليس في شيء مما روي في العارية خبر صحيح غيره، وأما ما سواه فليس بمساوي الاشتغال به، وقد فرق بين الضمان والأداء، وقيل: إنما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل عارية مضمونة» ؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخذ دروع صفوان بغير رضاه بدليل قوله: أغصبًا، إلا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان محتاجًا إلى السلاح، فكان الأخذ له حلالًا، ولكن يشترط الضمان كتناول مال الغير في حالة المخمصة بشرط الضمان.
وقال الأترازي: وقيل: كان هذا اشتراط الضمان على نفسه، وبه أخذ قتادة، وعندنا(10/145)
قال: وليس للمستعير أن يؤجر ما استعاره، فإن أجره فعطب ضمن؛ لأن الإعارة دون الإجارة، والشيء لا يتضمن ما هو فوقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستعير لا يضمن بالشرط أيضًا، ولكن صفوان كان يومئذ حربيًا، ويجوز بين المسلم والحربي من الشرائط ما لا يجوز بين المسلمين، وقد تقدم الآن أن العارية بشرط الضمان مضمونة في رواية، وأخرج عبد الرزاق في " مصنفه " عن عمر عن بعض أصحاب أبي صفوان «عن صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه عاريتين: إحداهما بضمان، والأخرى بغير ضمان» .
والحديث الثاني: قال ابن القطان: المانع من تصحيحه أن شريكا وقيس بن الربيع مختلف فيهما، ولم يحكم الترمذي أيضًا بصحته، ولئن سلمنا أنه صحيح فهو يقتضي وجوب رد العين ولا كلام فيه.
والحديث الثالث: رواه الحسن عن سمرة والحسن لم يسمع منه، وقيل: لم يسمع منه غير حديث العقيقة، وأكثر أهل العلم رغبوا عن رواية الحسن عن سمرة، وأيضًا الأداء فرض ولا يلزم منه الضمان، ولو لزم من هذا اللفظ الضمان المهم أن يضمنوا أهون الودائع؛ لأنها مما قبضت اليد وإذا لم يدل الحديث على الضمان ولم ينسبه أيضًا.
وقال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " باب من قتل عبدًا " بعد ذكر حديث الحسن عن سمرة من قتل عبدًا قتلناه. قال قتادة: ثم إن الحسن نسي الحديث، وقال: لا يقتل حر بعبد، يشبه أن يكون الحسن لم ينس الحديث لكن رغب عنه، وهذه العلة موجودة في الحديث المتقدم أيضًا، فافهم.
[إجارة العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للمستعير أن يؤجر ما استعاره، فإن أجره فعطب) ش: أي هلك م: (ضمن؛ لأن الإعارة دون الإجارة) ش: لأن الإجارة عنده لازم دون الإعارة م: (والشيء لا يتضمن ما هو فوقه) ش: أي لا يستتبع ما هو فوقه؛ لأن القوي لا يجعل تابعًا للضعيف. وقال الحاكم في كافيه: إذا استعار الرجل من الرجل على أن يذهب بها حيث شاء ولم يحتم مكانًا ولا وقتًا ولا ما يحمل عليها فذهب بها إلى الحيرة أو أمسكها بالكوفة شهرًا يحمل عليها أو يؤجرها.
قال: لا ضمان عليه، أي في شيء من ذلك إلا في الإجارة خاصة، فإنه حيث أجرها صار ضامنًا ويتصدق بالغلة؛ لأن أمره بالانتفاع مطلقًا، والمطلق يتناول أي انتفاع شاء وإليه اليقين بفعله إن شاء استعملها في الركوب أو في الحمل عليها وأي ذلك فعل لا يمكن أن يفعل غيره بعد ذلك؛ لأن المطلق إذا تعين بقيد فلا يبقى مطلقًا، ولكن لا يملك الإجارة أصلًا؛ لأنه عقد لازم، والعارية عقد جائز، وبناء الجائز على اللازم لا يجوز.(10/146)
ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازما؛ لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة فأبطلناه. فإن أجره ضمنه حين سلمه؛ لأنه إذا لم تتناوله العارية كان غصبا، فإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك لنفسه، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه أجر ملك نفسه، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤجر إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور، بخلاف ما إذا علم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": وقد قال بعض أصحابنا فإنه يملك الإجارة وتنعقد جائزة لا لازمة، ثم قال: والصحيح أنه لا تنعقد الإجارة. وفي " تحفة الفقهاء ": وليس للمستعير أن يؤاجر، فإن فعل فهو ضامن حين يسلمه إلى المستأجر، ويكون المعير بالخيار إن شاء ضمن المستعير.
م: (ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازمًا) ش: تعليل ثان، ويمكن أن يكون جواب الشبهة ذكرها السائل، وهو ينبغي أن يملك المستعير الإجارة؛ لأنه مالك للمنفعة، ولا ينقطع حق المعير في الاسترداد، بل يصير قيام حق المعير في الاسترداد عذرًا في نقض الإجارة.
فأجاب عنها بقوله: ولأنا لو صححناه عقد إجارة المستعير لا يصح إلا لازمًا؛ لأنه لا يصح أن يكون غير لازم؛ لأنه خلاف مقتضى الإجارة، فإنه عقد لازم فانعقاده غير لازم عكس الموضوع فهذا لا سبيل إليه، وكذا لا سبيل إلى كونه لازمًا: م: (لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير) ش: لأن اللزوم لا يكتسب إلا منه فيكون من مقتضيات عقد العارية.
م: (وفي وقوعه لازمًا زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة) ش: لعدم قدرته عليه إلى الانقضاء فحينئذ يكون عقد الإعارة عقدا لازمًا، وهو أيضًا خلاف المشروع م: (فأبطلناه) ش: أي عقد الإجارة م: (فإن أجره ضمنه) ش: أي ضمن المعير ما أجره م: (حين سلمه) ش: أي المستأجر م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الإجارة م: (إذا لم تتناوله العارية كان غصبًا، فإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك) ش: وحكم الغصب الضمان وفي بغير إذن المالك م: (لنفسه) ش: اللام في لنفسه تتعلق بقبضه. م: (ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه أجر ملك نفسه) ش: لأنه ملكه بالضمان م: (وإن ضمن المستأجر يرجع) ش: أي إن ضمن المعير المستأجر يرجع المستأجر م: (على المؤجر) ش: وهو المستعير م: (إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور) ش: أي عن المستأجر؛ لأن هذا الغرور في ضمن العقد م: (بخلاف ما إذا علم) ش: أي المستأجر بكونها عارية في يد المؤجر حيث لم يرجع عليه؛ لأنه لم يوجد منه الغرور. وقالت الثلاثة: لا يرجع مطلقًا لأنه غاصب ثان فيضمن بفعله.(10/147)
قال: وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل، والمباح له لا يملك الإباحة، وهذا لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة، وقد اندفعت بالإباحة هاهنا. ونحن نقول هو تمليك المنافع على ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة، والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة، فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة، وإنما لا يجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[إعارة المستعير للعارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وله) ش: أي للمعير م: (أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل) ش: كالحمل والاستخدام والسكنى والزراعة، كذا ذكر في نظائر التمرتاشي، وبه قال مالك والشافعي في قول، وفي " مختصر الأسرار ": يجوز للمستعير أن يعير وإن شرط أن لا يعير، إلا أن يكون مما يختلف بالاستعمال.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل) ش: يعني في هذا الباب إنها إباحة المنافع عنده م: (والمباح له لا يملك الإباحة وهذا) ش: أي كون الإعارة إباحة م: (لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة، وقد اندفعت بالإباحة هاهنا) ش: أي في الإعارة، فإذا اندفعت بالإباحة لا يصار إلى التمليك وبه قال أحمد.
م: (ونحن نقول هو تمليك المنافع على ما ذكرنا) ش: يعني في هذا الباب م: (فيملك الإعارة) ش: يعني إذا كانت الإعارة تمليكًا للمنافع يملك المستعير حينئذ الإعارة؛ لأن الشيء يتضمن مثله م: (كالموصى له بالخدمة) ش: أي بخدمة عبد مثلًا يجوز له أن يعيره لتملك المنفعة م: (والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة) ش: هذا جواب عن قوله: والمنافع غير قابلة للملك، وتقريره: لا نسلم أنها غير قابلة للملك، فإنها تمليك بالعقد كما في الإجارة م: (فتجعل كذلك في الإعارة دفعًا للحاجة) ش: أي فيجعل المنافع أيضًا قابلة للملك في الإعارة دفعًا لحاجة الناس م: (وإنما لا يجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل) ش: جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: لو كانت العارية تمليك المنفعة لما تفاوت الحكم في الصحة بين ما يختلف باختلاف المستعمل، وبين ما لا يختلف. وتقرير الجواب أنه إنما لا يجوز إعارة ما استعاره فيما يختلف باختلاف المستعمل.
م: (دفعًا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره) ش: أي فيما لا يختلف باختلاف المستعمل فليس فيه ضرر فقد مر أن الشيء يتضمن مثله، وإن شاء ضمن المستأجر لوجود التعدي منهما، فإن ضمن المستعير لم يرجع على المستأجر؛ لأنه ملك العين(10/148)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة وهي على أربعة أوجه، أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع، وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا بالإطلاق. والثاني: أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا بالتقييد، إلا إذا كان خلافا إلى مثل ذلك أو خيرا منه والحنطة مثل الحنطة، والثالث أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع، والرابع عكسه وليس له أن يتعدى ما سماه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالضمان، فكأنه أجر ملك نفسه فهلك، وإن ضمن المستأجر إن كان لا يعلم أنه عارية فرجع على المستعير؛ لأنه ضمن الدرك بإيجاب عقد فيه بدل، فيكون غرورًا، فأما إذا كان معلم لا يرجع لأنه غرور فيه، والرجوع بحكم الغرور.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي ما ذكرنا من ولاية الإعارة للمستعير م: (إذا صدرت الإعارة مطلقة) ش: أي عن الوقف والانتفاع م: (وهو) ش: أي ما يصدر من عقد الإعارة م: (على أربعة أوجه) ش: وهي قسمة عقلية، والمصارة على الأربعة ضرورة؛ لأن الشيئين هما الإطلاق والتقييد دارًا في الشيئين وهما الوقف والانتفاع فكانت أربعة لا محالة م: (أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع، وللمستعير فيه) ش: أي في هذا الوجه م: (أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملًا بالإطلاق، والثاني: أن تكون مقيدة فيهما) ش: أي في الوقت، والانتفاع بأن قيدها بيوم ونص على نوع منفعة م: (وليس له) ش: أي للمستعير م: (أن يجاوز فيه ما سماه عملًا بالتقييد) ش: مثلًا استعار الدابة ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة فلا يحمل عليها أكثر.
م: (إلا إذا كان خلافًا إلى مثل ذلك) ش: كمن استعار دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة أقفزة من حنطة أخرى م: (أو خيرًا منه والحنطة) ش: أي أو كان خلافًا إلى خير منه، بأن قال: عشرة أقفزة من الحنطة، فحمل عليها عشرة من شعير لا يضمن استحسانًا، وفي القياس: يضمن لأنه مخالف.
وجه الاستحسان: أنه لا فائدة للمالك في تعيين الحنطة إلا إذا تصور دفع زيادة الضرر عن دابته والشعير أخف من الحنطة، والتقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدًا م: (مثل الحنطة) ش: أشار بهذا إلى عدم اشتراط كون الحنطة المحمولة وحنطة المستعير أو لغيره فالحنطة جنس واحد، سواء كانت للمستعير أو لغيره أو عينها المعير أو لم يعينها.
م: (والثالث أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع، والرابع عكسه) ش: أي عكس الثالث، وهو أن تكون مطلقة في حق الانتفاع.
م: (وليس له أن يتعدى ما سماه) ش: أي ليس للمستعير أن يتعدى ما عينه المعير في(10/149)
فلو استعار دابة ولم يسم شيئا، له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت، وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفا؛ لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين الإطلاق، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه.
ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمن؛ لأنه تعين الإركاب.
قال: وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجهين الأخيرين، ثم فرع عليه بالفاء التفريعية بقوله م: (فلو استعار دابة ولم يسم شيئًا، له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت، وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفًا) ش: لأن الناس يتفاوتون في الركوب م: (لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين الإطلاق، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه) ش: وفي بعض النسخ: ليس له أن يُركبه، أي ليس له أن يركب غيره؛ لأن متعين ركوبه، وفي بعض النسخ، ليس له أن يركب أي ليس له أن يركب الدابة أو غيره والتذكير يكون على تأويل الحيوان والحمار والفرس والبغل.
م: (ولو أركب غيره ليس له أن يركبه) ش: أي بنفسه، وتذكير الضمير بالتأويل الذي ذكرناه الآن، ثم ذكر في الكتاب أن المستعير يملك الإعارة، ولا يملك الإجارة، ولم يذكر أنه هل يملك الإيداع، فهذا وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يودع وإليه ذهب الفقيه أبو الليث والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري، والصدر الأجل برهان الأئمة والد الصدر الشهيد في " شرح الجامع الصغير "، وإليه أشار محمد في آخر كتاب العارية، فإنه قال: المعير إذا وجد الدابة المستعارة في يد رجل زعم أنها ملكه فهو خصم، وإن قال الذي في يده قد أودعتها فلان الذي أودعتها منه فليس بخصم، فهذا يدل على أن للمستعير أن يودع، وعليه الفتوى.
وقال الأترازي: هكذا وجدت هذه الرواية منصوصه في آخر كتاب العارية في الأصل، وفي " الكافي ": وقال بعضهم لا يودع قصدًا وكان الكرخي يقول لا يجوز أن يودع، واستدل بمسألة ذكرها في الجامع الصغير وهي أن المستعير إذا بعث العارية إلى صاحبها على يد أجنبي فهلك في يد الرسول ضمن المستعير العارية فليس ذلك الإيداع منه، كذا في " شرح الطحاوي ".
م: (حتى لو فعله ضمن؛ لأنه تعين الإركاب) ش: يعني لو ركبه بنفسه بعد أن أركب غيره ضمنه، وهو الصحيح، وهو اختيار فخر الإسلام، وقال غيره: له أن يركب بعد الإركاب ويركب بعد الركوب ولا يضمن شيئًا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده؛ لأنه يملك الإعارة.
[عارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض) ش: يعني بمنزلة قوله: أقرضتك.(10/150)
لأن الإعارة تمليك المنافع ولا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها، فاقتضى تمليك العين ضرورة، وذلك بالهبة أو القرض، والقرض أدناهما فيثبت، أو لأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد العين فأقيم رد المثل مقامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الكاكي: ولا يعلم فيه خلاف إلا ما نقل عن بعض أصحاب الشافعي هذا إعارة فاسدة، ففي وجه يضمن كما في الصحيحة، وفي وجه لا يضمن لأنه إعارة فاسدة، ذكره في " شرح الوجيز ".
قلت: ذكر في " الروضة ": لا يجوز إعارة الطعام قطعًا والدراهم والدنانير على الأصح.
وقال الإمام: يجري الوجهان في إعارة الحنطة والشعير ونحوهما. وقال المتولي: هذا إذا أطلق إعارة الدراهم، أما إذا صرح بالإعارة للتزين فينتفي أن يقطع بالصحة.
وفي " الجواهر " للمالكية: ولو استعيرت الدراهم والدنانير لتبقى أعيانها كالصيرفي ما يجعلها بين يديه ليرى أنه ذو مال فيقصده البائع والمشتري، أو الرجل يكون عليه دين ونقل ما في يديه فيستعيرها لذلك فهذا يضمن إذا لم تقم البينة على تلفها، ولا يضمن مع الشهادة على ذهابها.
وفي " المغني " قال أبو بكر البلخي: قال أعرتك هذه الصنعة من أكثر من يد فأخذها كلها فعليه مثلها أو قيمتها، لما أن إعارة ما لا ينقطع إلا بهلاكه قرض.
قال أبو الليث: الجواب هكذا إذا لم يكن بينهما مباسطة أو دلالة الإباحة، وقوله: والمكيل يتناول كل مكيل، والموزون يتناول كل موزون، والمعدود يتناول كل المعدود، وقال الحاكم في " كافيه ": وعارية الدراهم والدنانير والفلوس قرض، وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد عددًا مثل الجوز والبيض، انتهى.
وفي العارية وكذلك الأقطان والصوف والإبريسم والميك والكافور وسائر متاع العطر والصيادلة لا يقع عليها الإجارة على منافعها قرض كذلك.
م: (لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يملك الانتفاع بها) ش: أي بالأشياء المذكورة م: (إلا باستهلاك عينها، فاقتضى تمليك العين ضرورة، وذلك) ش: أي تمليك العين م: (بالهبة أو القرض، والقرض أدناهما) ش: يعني ضررا على المعير؛ لأنه يوجب المثل، والهبة لا توجبه م: (فيثبت) ش: أي الأدنى؛ لأنه الثابت يقينا م: (أو لأن من قضية الإعارة الانتفاع) ش: أي انتفاع المستعير م: (ورد العين) ، ش: أي إلى المعير وقد عجز عن رده للاستهلاك م: (فأقيم رد المثل مقامه) ش: أي مقام العين.(10/151)
قالوا: هذا إذا أطلق الإعارة، أما إذا عين الجهة بأن استعار الدراهم ليعاير بها ميزانا أو يزين بها دكانا لم تكن قرضا ولا يكون له إلا المنفعة المسماة، فصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها، أو سيفا محلى يتقلده.
قال: وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس جاز، وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس، أما الرجوع فلما بينا، وأما الجواز فلأنها منفعة معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة، وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير فيكلف تفريغها. ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور، حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد. وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قالوا) ش: أي المشايخ: م: (هذا إذا أطلق الإعارة، أما إذا عين الجهة بأن استعار الدراهم ليعاير بها ميزانا) ش: من عايرت المكاييل أو الموازين إذا قابلها، والمعيار الذي يقاس به غيره ويسوى، وفي بعض النسخ ليعير بها، وهذا خطأ، الصواب يعاير، قال الجوهري: عايروا مكاييلك وموازينك ولا تقل عيروا م: (أو يزين بها) ش: أي بالدراهم والدنانير م: (دكانا لم تكن قرضا، ولا يكون له إلا المنفعة المسماة، فصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها أو سيفا محلى يتقلده) ش: أو منطقة مفضضة أو خاتما ونحو ذلك فكل ذلك لا يكون قرضا؛ لأن الانتفاع بهذه الأعيان مع بقائها يمكن، فصار نظير سائر العواري.
[استعارة الأرض ليبني أو يغرس فيها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس جاز، وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه) ش: أي يكلف المستعير م: (قلع البناء والغرس) ش: بفتح الغين وكسرها، كذا في (المغرب) م: (أما الرجوع فلما بينا) ش: يعني عند قوله: وللمعير أن يرجع متى شاء م: (وأما الجواز فلأنها) ش: أي فلأن م: (منفعة معلومة تملك بالإجارة، فكذا بالإعارة) ش: دفعا للحاجة م: (وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير، فيكلف تفريغها ثم إن لم يكن) ش: أي المعير م: (وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور) ش: يعني من جانب المعير م: (حيث اعتمد إطلاق العقد) ش: وظن أن يتركها في يده مدة طويلة م: (من غير أن يسبق منه الوعد) ش: أي من المعير.
م: (وإن كان) ش: أي المعير م: (وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرنا) ش: من أن له الرجوع متى شاء، وعند مالك ليس له الرجوع قبل مضي المدة.
وفي " الجواهر ": متى كانت العارية إلى أجل معلوم أو كان لها قدر معلوم كعارية الدابة إلى موضع كذا، أو العبد ليبني بناء أو ليخيط له ثوبا فهي له لازمة كهبة الرقاب، فإن لم يضرب أجلا ولا كان لها مدة انقضاء فهي لازمة أيضا بالقول والقبول، وليس له الرجوع فيها ويلزمه إبقاؤها مدة ينتفع بها فيها الانتفاع المعتاد بمثلها عند استيفائها.(10/152)
ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع؛ لأنه مغرور من جهته حيث وقت له، فالظاهر هو الوفاء بالعهد فيرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه، كذا ذكره القدوري في " المختصر ". وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد) ش: أي لما في الرجوع في الوقت من خلف الوعد وهي شعبة من النفاق م: (وضمن المعير ما نقص البناء والغرس) ش: أي نقصان م: (بالقلع) ش: أي بسبب القلع.
ووجهه إما ينظر كم يكون قيمة البناء والغرس إذا بقي إلى المدة المضروبة فيضمن ما نقص من قيمته، أي نقصان البناء والغرس فكلمة ما مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي نقص البناء، فعلى هذا يكون البناء والغرس مرفوعين على الفاعلية على الأول، وعلى الثاني يكونان منصوبين على المفعولية والغرس بكسر الغين، وروي بالفتح على إرادة المغروس فيضمن ما نقص من قيمته، يعني إذا كانت قيمة البناء إلى المدة المضروبة عشرة دنانير مثلا، وإذا قلع في الحال يكون قيمة النقص دينارين يرجع بهما، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يضمن لأن التوقيت والإطلاق سواء لبطلان الأجل في العواري.
ودليلنا هو قوله م: (لأنه مغرور من جهته) ش: أي لأن المستعير مغرور من جهة المعير م: (حيث وقت له، فالظاهر هو الوفاء بالعهد فيرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه، كذا ذكر القدوري في المختصر) ش: حيث قال وإن وقت العارية فرجع قبل الوقت ضمن المعير ما نقض البناء والغرس بالقلع.
فإن قيل: الغرور الموجب للضمان هو ما كان في ضمن عقد المعاوضة، والإعارة ليست كذلك.
قيل له: إن التوقيت من المعير التزام منه لقيمة البناء والغرس إن أراد إخراجه قبل ذلك الوقت معنى، وتقدير كلامه: ابن في هذه الأرض لنفسك على أن أتركها في يدك إلى مدة كذا، فإن لم أتركها فأنا ضامن لك بقية مالك، وذلك لأن كلام العاقل محمول على الفائدة ما أمكن، وحيث كانت الإعارة بدون التوقيت صحيحة شرعا لا بد من فائدة كذكر الوقت وذلك ما قلنا.
م: (وذكر الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو ابن الفضل محمد بن أحمد السلمي المروزي صاحب التصانيف مصنف " الكافي " و " المنتقى " وغير ذلك، استشهد في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين ومائتين م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه(10/153)
وبنائه، ويكونان له إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما، فيكون له ذلك؛ لأنه ملكه. قالوا: إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل، والمستعير صاحب تبع، والترجيح بالأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبنائه، ويكونان) ش: أي الغرس والبناء م: (له) ش: أي لرب الأرض م: (إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما، فيكون له ذلك لأنه ملكه) ش " أي لأن كل واحد من الغرس والبناء ملك المستعير.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ والمتأخرون: م: (إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل، والمستعير صاحب تبع) ش: وهو الغرس أو البناء م: (والترجيح بالأصل) ش: أن يكون بالأصل.
ومذهب الشافعي في هذا ذكره في " الروضة " أن إعارة الأرض للبناء والغرس نوعان: مطلقة ومقيدة، ففي المطلقة للمستعير أن يبني ويغرس ما لم يرجع المعير، فإذا رجع لم يكن له البناء والغرس، ولو فعل وهو عالم بالرجوع قلع مجانا وكلف تسوية الأرض كالغاصب، وإن كان جاهلا فوجهان.
وأما ما بني وغرس قبل الرجوع فإن أمكن رفعه من غير نقص يدخله رفع، وإلا فينظر إن شرط عليه القلع مجانا عند رجوعه وتسوية الحفر لزمه، فإن امتنع قلعه المعير مجانا، وإن شرط القلع دون التسوية، وإن لم يشرط القلع نظر إن أراد المستعير أمكن منه ويلزمه تسوية الحفر على الأصح، وإن لم يرده لم يكن للمعير قلعه مجانا، ولكن يتخير المعير بين ثلاث خصال: أن يبقيه بأجرة يأخذها، أو أن يقلع ويغرم أرش النقص وهو قدر التفاوت بين قيمته ثابتا ومقلوعا، أو أن يتملكه بقيمته.
وفي المقيدة: للمستعير البناء والغرس إلا أن يرجع المعير وله أن يحدد كل يوم غرسا، وبعد انقضاء المدة ليس له إحداث البناء والغرس، وإذا رجع المعير قبل المدة أو بعدها فالحكم كما لو رجع في الأول، لكن هنا وجه أنه لا يتمكن من الرجوع قبل المدة، وقوله: إنه إذا رجع بعد المدة فله القلع مجانا قاله الساجي.
والمذهب الأول ومذهب أحمد ما ذكره في " حاويهم ": وإن أعار أرضا لغرس أو بناء مطلقا أو إلى مدة فرجع وقد شرطا القلع متى رجع أو عند انقضاء المدة ففرغت لزمه القلع ولم يلزم المعير انقضاء، ولا المستعير تسوية الأرض إلا بشرط، وإن لم يشترطا قلعه فللمعير أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه، فإن قلع فللمستعير التسوية وإن بنى ذلك فعليه البيع ولا يبقى مجانا.(10/154)
ولو استعارها ليزرعها لم يؤخذ منه حتى يحصد الزرع وقت أو لم يوقت؛ لأن له نهاية معلومة وفي الترك بالأجر مراعاة الحقين، بخلاف الغرس لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك.
قال: وأجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد، فتكون عليه، وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر؛ لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة للمؤجر معنى، فلا يكون عليه مؤنة رده، وأجرة رد العين المغصوبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: ولو استعارها) ش: أي الأرض م: ليزرعها لم يؤخذ منه حتى يحصد الزرع) ش: قال الأترازي: قيل: ينبغي أي يروي على بناء المفعول، والثلاثي المجرد، والأصح أن يروى بكسر الصاد من الإحصاد، يقال احصد الزرع إذا حان حصاده.
قلت: كلاهما يجوز والأولى الأول للكثرة وقلة الباب الثاني، فافهم.
م: (وقت أو لم يوقت) ش: أراد أن الأرض تترك في يده بطريق الإجارة بأجر المثل سواء عين مدة أو لا، والتوقيت هو تعيين الوقت م: (لأن له) ش: أي للزرع م: (نهاية معلومة وفي الترك بالأجر مراعاة الحقين) ش: أي حق المعير والمستعير كما في الإجارة إذا نقصت المدة، والزرع لم يدرك بعد، فإنه يترك الأرض في يده بأجر مراعاة للجانبين، كذا هنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، ومالك وأحمد في وجه.
وعن أحمد: إن كان مما تحصد قصيلا بلا ضرر فله الرجوع لعدم الضرر فيه.
ثم إذا استحصد الزرع فصاحب الأرض يأخذ الأرض مع الأجر، وقال أبو إسحاق الحافظ: إنما يجب الأجر لصاحب الأرض إذا أجر الأرض منه أو القاضي بعد مضي المدة بدون ذلك، فلا يجب الأجر وفي أكثر الروايات لم يشترط ذلك، وقد قيل: يقتضي تعليل المصنف بقوله: لأن له نهاية معلومة أن لا يجوز الرجوع قبل الوقت في الموقتة؛ لأن له نهاية معلومة ولأن الوقت منصوص عليه هنا، وفي الإعارة للزرع الوقت ثابت دلالة والنص أقوى من الثلاثة دلالة. م: (بخلاف الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك) ش: لأن في إبقائه ضررا له والضرر مدفوع.
[أجرة رد العارية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وأجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة نفسه والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه) ش: لأن الغرم بالغنم، وهذا لا خلاف فيه م: (وأجرة رد العين المستأجرة، على المؤجر؛ لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة للمؤجر معنى) ش: لأنه سلم له ما شرط من أجرة العين م: (فلا يكون عليه) ش: أي على المستأجر م: (مؤنة رده) ش: لما ذكرنا من أن الغرم بالغنم م: (وأجرة رد العين المغصوبة(10/155)
على الغاصب؛ لأن الواجب عليه الرد، والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه، فتكون مؤنة الرد عليه.
قال: وإذا استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها فهلكت لم يضمن، وهذا استحسان، وفي القياس يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها. وجه الاستحسان أنه أتى بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار المالك معتاد كآلة البيت تعار ثم ترد إلى الدار، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى المربط فصح رده، وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن لما بينا. ولو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن؛ لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله وذلك بالرد إلى المالك دون غيره، والوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه بخلاف العواري؛ لأن فيها عرفا حتى لو كانت العارية عقد جوهر لم يردها إلا إلى المعير لعدم ما ذكرناه من العرف فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الغاصب؛ لأن الواجب عليه الرد والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه، فتكون مؤنة الرد عليه) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» ، ولا خلاف فيه.
[هلاك العارية]
[الحكم لو استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها فهلكت]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا استعار دابة فردها إلى اصطبل مالكها فهلكت لم يضمن وهذا) ش: أي عدم الضمان م: (استحسان. وفي القياس: يضمن لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها) ش: وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في الأصح.
م: (وجه الاستحسان أنه أتى بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار المالك معتاد كآلة البيت تعار ثم ترد إلى الدار، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى المربط فصح رده) ش: بفتح الميم موضع الربط. وذكر التمرتاشي عن أبي سلمة: إن كان المربط خارج الدار لم يبرأ لأن الظاهر أنها تكون هنالك بلا حافظ، وقيل: هذا في عادتهم.
م: (وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن) ش: هذا لفظ القدوري أيضا، إلا أن لفظه في أكثر النسخ: وإن استعار عينا فردها إلى دار المالك م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأن رد العواري إلى دار المالك معتاد، فعلى هذا إذا استعار عقدا لم يردها إلا إلي المعير للعرف كذلك.
[الحكم لو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه] 1
م: (ولو رد العين المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن) ش: هذه من مسائل القدوري أيضا م: (لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك بالرد إلى المالك دون غيره، والوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه، بخلاف العواري لأن فيها عرفا، حتى لو كانت العارية عقد جوهر) ش: بكسر العين، وسكون القاف وهو القلادة ويجمع على عقود م: (لم يردها إلا إلى المعير لعدم ما ذكرناه من العرف فيه) ش: أي في حكم رد عقد الجوهر.(10/156)
قال: ومن استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره لم يضمن والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة فله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة. بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس في عياله، وكذا إذا ردها مع عبد رب الدابة أو أجيره؛ لأن المالك يرضى به، ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده إلى عبده، وقيل هذا في العبد الذي يقوم على الدواب، وقيل فيه وفي غيره وهو الأصح؛ لأنه وإن كان لا يدفع إليه دائما يدفع إليه أحيانا، وإن كان ردها مع أجنبي ضمن، ودلت المسألة على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا كما قاله بعض المشايخ _ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال بعضهم يملكه؛ لأنه دون الإعارة، وأولوا هذه المسألة بانتهاء الإعارة لانقضاء المدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره]
م: (قال) ش: أي في (الجامع الصغير) م: (ومن استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره لم يضمن) ش: أراد بالأجير السائس، وبه قال أحمد وقياس قول الشافعي أن يضمن كما في الوديعة م: (والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة، فله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة، بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس في عياله، وكذا إذا ردها) ش: أي الدابة المستعارة م: (مع عبد رب الدابة أو أجيره؛ لأن المالك يرضى به، ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده) ش: أي لو رد المستعير الدابة إلى المالك فهو يرده م: (إلى عبده) ش: وتذكير الضمير في الموضعين باعتبار الحيوان أو الحمار ونحوه.
م: (وقيل هذا) ش: أي عدم الضمان بالرد إلى عند رب الدابة م: (في العبد الذي يقوم إلى الدواب) ش: وهو السائس م: (وقيل فيه وفي غيره) ش: إن قيل عدم الضمان في العبد الذي يقوم على الدواب وفي غيره م: (وهو الأصح) ش: أي القول الثاني وهو الأصح م: (لأنه) ش: أي لأن مالك الدابة م: (وإن كان لا يدفع إليه دائما) ش: أي إلى عبده الذي ليس يقوم على الدواب دايبا بكسر الياء وآخر الحروف بعدها باء موحدة ومعناه دائما م: (يدفع إليه أحيانا) ش: أي في بعض الأحيان م: (وإن كان ردها مع أجنبي ضمن) ش: يعني إذا هلك، لأنه ليس بنائب عن المالك، فصار متعديا م: (ودلت المسألة) ش: أي المسألة المذكورة م: (على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا) ش: لما وضعه في يد الأجنبي للرد كان إيداعا م: (كما قاله بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: منهم الكرخي والبقالي.
م: (وقال بعضهم) ش: أي بعض المشايخ وهم مشايخ العراق: م: (يملكه) ش: أي يملك المستعير الإيداع م: (لأنه دون الإعارة) ش: أي لأن الإيداع دون الإعارة؛ لأنه لما ملك الإعارة مع أن فيها إيداعا وتمليك المنافع، فلأن يملك الإيداع وليس فيه تمليك المنافع أولى، وبه أخذ أبو الليث والفضلي، وفي " الكافي " وعليه الفتوى م: (وأولوا) ش: أي أول مشايخ العراق م: (هذه المسألة بانتهاء الإعارة لانقضاء المدة) ش: أراد أن هذه المسألة فيما إذا كانت العارية موقتة وقد انتهت باستيفاء مدتها، وحينئذ يصير المستعير مودعا والمودع لا يملك الإيداع بالاتفاق.(10/157)
قال: ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني. عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يكتب إنك أعرتني؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له والكتابة بالموضوع أولى، كما في إعارة الدار، وله أن لفظة الإطعام أدل على المراد؛ لأنها تختص بالزراعة والإعارة تنتظمها وغيرها كالبناء، ونحوه فكانت الكتابة بها أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يكتب إنك أعرتني؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له) ش: أي لعقد الإعارة م: (والكتابة بالموضوع له أولى كما في إعارة الدار) ش: حيث لا يكتب أسكنتني، وكذا في إعارة الثوب لا يكتب ألبستني، وبه قالت الثلاثة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن لفظة الإطعام أدل على المراد) ش: من الإعارة م: (لأنها) ش: أي لأن لفظة الإطعام م: (تختص بالزراعة والإعارة تنتظمها) ش: أي تشملها م: (وغيرها) ش: أي وينتظم غيرها أيضا م: (كالبناء ونحوه) ش: مثل نصبا لفسطاط م: (فكانت الكتابة بها) ش: أي لفظة الإطعام م: (أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب) ش: والغرض يصير إليه معلوما بقوله أعرتني، وكذا في الثوب. والله أعلم بالصواب.(10/158)
كتاب الهبة
الهبة عقد مشروع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الهبة]
[تعريف الهبة]
م: (كتاب الهبة) ش: وجه المناسبة بين الكتابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على التمليك، إلا أن العارية مفردة والهبة مركبة؛ لأن في العارية تمليك المنفعة فقط، وفي الهبة تمليك العين مع المنفعة، والهبة في اللغة مصدر من وهب يهب، وأصلها وهب لأنه معتل الفاء كالعدة أصلها وعدة، فلما حذفت الواو تبعا لفعله عوضت عنها الهاء، فقيل هبة وعدة ومعناها إيصال الشيء للغير بما ينفعه، سواء كانت مالا أو غير مال، يقال وهبت له مالا ووهب الله فلانا ولدا صالحا، ويقال وهبه مالا أيضا ولا يقال وهب منه، ويسمى الموهوب هبة وموهبة، والجمع هبات ومواهب واتهبه منه إذا قبله، واستوهبه إذا طلب الهبة، وفي الشرع هي تمليك لمال بلا عوض.
[حكم الهبة]
م: (والهبة عقد مشروع لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ش: هذا الحديث رواه من الصحابة أبو هريرة وابن عمرو بن العاص وابن عمر وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين.
أما حديث أبي هريرة فرواه البخاري في كتابه " المفرد في الآداب " حدثنا عمرو بن خالد ثنا ضمام بن إسماعيل سمعت موسى بن وردان عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «تهادوا تحابوا» . وأخرجه النسائي في كتاب " الكنى " عن أبي الحسين محمد بن بكير الحضرمي عن ضمام بن إسماعيل به، وكذلك رواه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " والبيهقي في " شعب الإيمان " وابن عدي في " الكامل " وأعله بضمام وقال: إن أحاديثه لا يرويها غيره.
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه الحاكم في كتاب " علوم الحديث " فقال: سمعت أبا زكريا العنبري قال: سمعت أبا عبد الله البوشنجي ثنا يحيى بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل المعافري عن عبد الله بن عمرو أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «تهادوا تحابوا» .
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فرواه أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب " من حديث إسماعيل بن إسحاق الراشدي ثنا محمد بن داود بن عبد الجبار عن أبيه(10/159)
وعلى ذلك انعقد الإجماع. وتصح بالإيجاب والقبول والقبض، أما الإيجاب والقبول؛ فلأنه عقد، والعقد ينعقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تهادوا تحابوا» .
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه الطبراني في " معجمه الأوسط " ثنا محمد بن يحيى بن محمد بن السكن ثنا ريحان بن سعيد ثنا عرعرة بن اليزيد ثنا المثنى أبو حاتم العطار عن عبيد الله بن العيزار عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تهادوا تحابوا، وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم» وأخرجه مالك في " الموطأ " مرسلا عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» .
قوله: تهادوا - بفتح الدال وسكون الواو لأنه صيغة خطاب للجماعة من التهادي، وأصله تهادى؛ لأنك تقول تهاد تهاديا تهاديوا قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فصار تهادوا كما في مادة تعالوا وأصله تعاليوا. قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] (آل عمران 64) . قوله: تحابوا بتشديد الباء المضمومة وهو أيضا صيغة خطاب للجماعة، وأصله تحابون ولكن سقطت النون لأنه جواب للأمر، وأصله تحابوا؛ لأنه من التحابب من المحبة، أدغمت الباء في الباء، وقال الحاكم: تحابوا إما بتشديد الباء من الحب، وإما بالتخفيف من المحاباة.
قلت: ترجيح الأول الذي هو المشهور ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن صفية بنت حرب عن أم حكيم بنت وداع أو قال: وادع قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «تهادوا تزيدوا في القلب حبا» .
م: (وعلى ذلك) ش: أي كون الهبة مشروعة م: (انعقد الإجماع) ش: أي إجماع الأمة.
م: (وتصح) ش: أي الهبة م: (بالإيجاب) ش: كقوله وهبت ونحوه، هذا بمجرده في حق الواهب م: (والقبول) ش: كقوله قبلت م: (والقبض) ش: بالجر، أي وبالقبض فلا يتم في حق الموهوب له إلا بالقبول والقبض كما يأتي؛ لأنه عقد تبرع فيتم بالتبرع، ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، وثمرة ذلك فيمن حلف لا يهب فوهب ولم يقبل الموهوب له يحنث. وعند زفر لا يحنث بلا قبول وقبض كما في البيع، فلا يتم، أو حلف على أن لا يهب فلانا فوهبه ولم يقبل يرد في يمينه عندنا.
م: (أما بالإيجاب والقبول فلأنه عقد) ش: أي فلأن الهبة عقد نحو سائر العقود، وذكر(10/160)
بالإيجاب والقبول والقبض لا بد منه لثبوت المالك، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع، وعلى هذا الخلاف الصدقة، ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الضمير باعتبار العقد م: (والعقد ينعقد بالإيجاب والقبول) ش: لأن قيام العقد بهما م: (والقبض لا بد منه لثبوت الملك) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء والتابعين، إلا أن أحمد يقول: إن كانت الهبة عينا تصح بدون القبض في الأصح، وفي المكيل والموزون لا يصح بدون القبض.
م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع) ش: لأنه عقد لازم يقبل الملك فلم يتوقف على القبض كالبيع، ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، وبه قال أبو ثور والشافعي في القديم وابن أبي ليلى وفي كتاب " التفريع " لأصحاب مالك: وفيمن وهب شيئا من ماله لزمه دفعه إلى الموهوب له إذا طالبه به، فإن أبى ذلك حكم به عليه إذا أقر أو قامت عليه البيئة، وإن أنكر الهبة حلف عليها وبرئ منها، وإن نكل عن اليمين حلف الموهوب له وأخذها منه.
وإن مات الواهب قبل دفعها إلى الموهوب له فلا شيء له إذا كان قد أمكنه أخذها ففرط فيها، وإن مات الموهوب له قبل قبضها قام ورثته مقامه في مطالبة الواهب بهبته انتهى. وقال الخرقي من أصحاب أحمد: لا تصح الهبة والصدقة فيما يكال ويوزن إلا بقبضة، ويصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما يصح في البيع. م: (وعلى هذا الخلاف الصدقة) ش: فعندنا يشترط فيها القبض خلافا لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» ش: هذا حديث منكر لا أصل له، والعجب من الكاكي حيث يقول: قيل: هذا الحديث غير مرفوع، بل قول علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يبين ذلك، وليس كذلك بل هذا الذي ذكره المصنف قول إبراهيم النخعي رواه عبد الرزاق في مصنفه وقال: أخبرنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: لا تجوز الهبة حتى تقبض والصدقة تجوز قبل أن تقبض. وأما قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو ما رواه البيهقي من حديث يزيد بن زريع نا سعيد عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن أبي موسى قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا محال ميراث ما لم يقبض.
والأحسن أن يستدل على اشتراط القبض في الهبة بما أخرجه البيهقي من حديث عبد الله(10/161)
والمراد نفي الملك؛ لأن الجواز بدونه ثابت ولأنه عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به وهو التسليم فلا يصح بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن وهب أنا مالك ويونس وغيرهما أن ابن شهاب أخبرهم عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحلها جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك، إلا أني كنت نحلتك من مالي جذاذ عشرين وسقا، فلو كنت جذذته واحترزت به كان لك ذلك، وإنما هم أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله عز وجل.. الحديث، كذا رواه الطحاوي في شرح الآثار وقال: حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن مالكا حدثه ... إلى آخره، فهذا أدل دليل على اشتراك القبض وبه استدل في " المبسوط " وأصحاب الشافعي في كتبهم.
قوله: نحلها، أي وهب لها، والجذاذ بكسر الجيم من جذذت الشيء أجذه بالضم جذا قطعته، وروي جاذ عشرين وسقا.
قال الخطابي: الجاذ بمعنى المجذوذ فاعل بمعنى مفعول والوسق ستون صاعا. والغابة بالغين المعجمة وبعد الألف باء موحدة مخففة وهو موضع مشهور بالمدينة، وفي رواية من ماله بالعالية، وهو أيضا موضع بالمدينة.
م: (والمراد نفي الملك) ش: أي المراد من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» عدم ثبوت حكم الهبة وهو الملك م: (لأن الجواز) ش: أي جواز الهبة م: (بدونه ثابت) ش: أي بدون الملك؛ لأن الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن عقد الهبة م: (عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا) ش: وعقد التبرع لم يلزم به شيء م: (لم يتبرع به وهو التسليم) ش: أي الذي لم يتبرع به هو التسليم م: (فلا يصح) ش: لأن من ضرورات الملك التسليم، ورد بأن المتبرع بالشيء قد يلزمه ما لم يتبرع به إذا كان من تامة ضرورة تصحيحه كمن نذر أن يصلي وهو محدث لزمه الوضوء ومن شرع في صوم أو صلاة لزمه الإتمام.
وأجيب: بأنه مغالطة، فإن ما لا يتم الشيء إلا به فهو واجب إذا كان ذلك الشيء واجبا كما ذكرت في الصوم، فإنه يجب بالنذر أو الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والهبة عقد تبرع ابتداء وانتهاء، فإنه لو وهب وسلم جاز له الرجوع فكيف قبل التسليم فلا يجب ما يتم به.
م: (بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت) ش: لما قاس مالك الهبة على(10/162)
ولا إلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم وحق الوارث متأخر عن الوصية، فلم يملكها. فإن قبضه الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز استحسانا. وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض، والقياس أن لا يجوز في الوجهين، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن القبض، تصرف في ملك الواهب إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح بدون إذنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوصية والوقف في عدم اشتراط القبض، أجاب عن ذلك بقوله بخلاف الوصية أراد أن بين الهبة والوصية فرقا، وهو أن الملك لا يثبت في الوصية إلا بعد الموت، وحينئذ لا يتصور الإلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم، وهو معنى قوله م: (ولا إلزام على المتبرع لعدم أهلية اللزوم) ش: يعني بالموت.
وكذلك القياس على الوقف غير صحيح؛ لأنه إخراج ملك إلى الله تعالى والتصدق بمنفعته، وفيه لا يشترط القبض م: (وحق الوارث متأخر) ش: جواب عما يقال الوارث يخلف الموصي في ملكة فوجب أن يتوقف ملك الموصى له على تسليم الوارث إليه، وتقريره أن حق الوارث متأخر م: (عن الوصية فلم يملكها) ش: أي الوصية، يعني لما يكن الوارث خليفة له فيها ليقام مقام الميت، فلا معتبر لتسليمه؛ لأنه لم يملكها ولا قام مقام المالك فيها.
م: (فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز استحسانا) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره، يعني إن قبض الهبة الموهوب له في مجلس العقد بغير إذن الواهب جاز، وصحت الهبة استحسانا. وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره: فإن أذن له في القبض فقبض الهبة بحضرته أو بغير حضرته جاز القبض، وإن وهب له دينا على رجل وأذن له أن يقبضه من الذي هو عليه جاز إذا قبض ذلك استحسانا أيضا وإن لم يأذن له في قبض الدين لم تجز الهبة وإن قبضه الموهوب له وإن كان ذلك بحضرة الواهب لأن المالك الذي يقبض عن الدين ملك الذي عليه الدين حتى يقبضه صاحب الدين، أو يجعل قبضه إلى غيره فيقبضه الغير.
[اشتراط القبض لانعقاد الهبة]
م: (وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض، والقياس أن لا يجوز في الوجهين) ش: أي فيما إذا قبض في المجلس بإذن الواهب، وفيما إذا قبض بعد الافتراق بدون إذنه.
وبالقياس م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأن القبض تصرف في ملك الواهب إذ ملكه قبل القبض باق) ش: بالاتفاق، بدليل صحة تصرفه من البيع والإعتاق م: (فلا يصح بدون إذنه) ش: لأن التصرف في ملك الغير بغير الإذن غير صحيح.(10/163)
ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك، والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا له على القبض، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق؛ لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به. بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس؛ لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا) ش: أراد به وجه الاستحسان، قيل ذكر لنا هاهنا غير مناسب؛ لأنه ذكر القياس والاستحسان ولم يذكر قول الخصم في المتن، فلم يكن ذكر لنا مناسبا، بل كان المناسب أن يقول وجه الاستحسان.
قلت: لما كان القياس هو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجه الاستحسان قولنا ناسبه أن يقول ولنا، وإن لم يصرح بذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن القبض بمنزلة القبول في الهبة) ش: أي القبض في الهبة بمنزلة القبول في البيع، وقوله في الهبة يتعلق بقوله أن القبض لا بقوله القبول، فافهم، وكون القبض فيها مثل القبول في البيع م: (من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك) ش: أي على القبول، فإذا كان القبض مثل القول لا يثبت حكم الملك إلا بالقبض، كما لا يثبت الملك إلا بالقبول م: (والمقصود منه) ش: أي مقصود الواهب من عند الهبة م: (إثبات الملك) ش: للموهوب له م: (فيكون الإيجاب منه) ش: أي من الواهب م: (تسليطا له على القبض) ش: تحصيلا بمقصوده، فكان أدنى دلالة.
م: (بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق) ش: حيث يشترط فيه الإذن صريحا م: (لأنا) ش: وفي بعض النسخ لأنه، أي لأن الشأن: (إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له) ش: أي للقبض م: (بالقبول والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به) ش: أي بالقبول وهو القبض.
م: (بخلاف ما إذا نهاه) ش: كان ينبغي أن يقول وبخلاف بواو العطف عطفا على قوله بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق، لأن حكمها واحد، وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال يلزم على هذا ما إذا نهى من القبض، فإن التسليط موجود ولم يجوز له القبض، وتقرير الجواب أنه إذا نهاه يعني صريحا م: (عن القبض في المجلس) ش: بأن قال له لا تقبض فإنه لا يصح قبضه في المجلس وبعده م: (لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح) ش: أراد بالدلالة الإذن الحاصل من إيجاب الواهب للقبض، والصريح هو قوله لا تقبض فإن الإذن الذي حصل من الإيجاب دلالة تبطل بوجود صريح النهي؛ لأن الدلالة لا تقابل الصريح وفيه مناقشتان:
الأولى: أن القبض لو كان بمنزلة القبول لما صح الأمر بالقبض بعد المجلس كالبيع. الثانية: أن مقصود البائع من البيع ثبوت الملك للمشتري، ثم إذا تم الإيجاب والقبول والمبيع حاضر لم يجعل إيجاب البائع تسلطا على القبض، حتى لو قبضه المشتري بدون إذنه(10/164)
قال: وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت؛ لأن الأول صريح فيه، والثاني مستعمل فيه، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أكل أولادك نحلت مثل هذا» ، وكذلك الثالث يقال: أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد، وكذا ينعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك، وأعمرتك هذا الشيء، وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحمل الهبة. أما الأول فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، بخلاف ما إذا قال أطعمتك هذه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جاز له أن يسترده ويحبس الثمن.
الجواب عن الأول أن الإيجاب من البائع شطر العقد وهو لا يتوقف على ما وراء المجلس، وفي الهبة وجد عقد تمام وهو يتوقف على ما وراءه. وعن الثانية فإنا لا نسلم أن مقصود البائع من عقد البيع ثبوت الملك للمشتري، بل مقصوده منه تحصيل الثمن لا غير، وثبوت الملك له ضمني فلا يعتبر به.
[ما تنعقد به الهبة وما لا تنعقد]
[انعقاد الهبة بلفظ النحلة والعطية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت؛ لأن الأول) ش: أي قوله وهبت م: (صريح فيه) ش: أي في عقد الهبة م: (والثاني) ش: أي قوله نحلت م: (مستعمل فيه) ش: أي في عقد الهبة، أراد به مجاز فيه وهو أيضا صريح؛ لأن المجاز المتعارف كالصريح.
إلا أن قوله وهبت لما كان صريحا حقيقة ونحلت وإخوته صريحا مجازا فرق بينهما م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أكل أولادك نحلت مثل هذا» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة «عن النعمان بن بشير قال: إن أباه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل ولدك نحلت مثل هذا "؟ قال لا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فأرجعه» . أخرجه البخاري ومسلم في " الهبة " وأبو داود في " البيع " مختلفا والمعنى واحد. والعجب من الكاكي مع ادعائه أن له اطلاعا في الحديث أنه لما ذكر هذا الحديث قال: كذا في " المبسوط "، فهذا قول من لم يحم حول كتب الحديث ولا طرق في سمعه اسم البخاري ومسلم ولا غيرهما.
م: (وكذلك الثالث يقال أعطاك الله ووهبك الله) ش: يعني أراد بالثالث قوله أعطيت أي هو أيضا مستعمل في عقد الهبة مجازا كما يقال أعطاك الله ووهبك الله م: (بمعنى واحد، وكذا ينعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك، وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحمل الهبة) ش: هذه أربعة ألفاظ، ثلاثة تنعقد بها الهبة مطلقا، والرابع وهو حملتك لا ينعقد به إلا بالنية على ما يجيء الآن.
م: (أما الأول) ش: يعني قوله أطعمتك هذا الطعام م: (فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه، يراد به تمليك العين) ش: بغير عوض، فيكون هبة م: (بخلاف ما إذا قال أطعمتك هذه(10/165)
الأرض حيث يكون عارية؛ لأن عينها لا يطعم فيكون المراد أكل غلتها. وأما الثاني فلأن حرف اللام للتمليك. وأما الثالث فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده» وكذا إذا قال: جعلت هذه الدار لك عمرى، لما قلنا. وأما الرابع فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض، حيث يكون عارية لأن عينها لا يطعم) ش: أي لأن الأرض، والتذكير باعتبار المذكور، وفي بعض النسخ لأن عينها وهو الأصوب، فيكون المعنى أطعمتك ما يحصل منها، فكان تمليكا لمنفعة الأرض دون عينها م: (فيكون المراد أكل غلتها) ش: أي إذا كان كذلك يكون من قوله أكل غلة الأرض وهو ريعها. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا في تقرير صاحب " الهداية " نظر؛ لأنه قال إن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، فعلى هذا ينبغي أن يكون المراد من الإطعام في الكفارة التمليك لا الإباحة كما هو مذهب الخصم؛ لأن المراد من الإطعام إطعام الطعام، والطعام يؤكل عينه، فكان الإطعام في الآية مضافا إلى ما يطعم عينه فافهم.
قلت: لا نسلم أنه أضيف إلى ما يؤكل عينه بل هو مضاف إلى عشرة مساكين، فافهم.
م: (وأما الثاني) ش: يعني قوله جعلت هذا الثوب لك م: (فلأن حرف اللام للتمليك) ش: فكان معناه ملكت هذا الثوب لك. ألا ترى أن في التمليك ببدل لا فرق بين لفظ الجعل والتمليك، فكذا في التمليك بغير بدل، وكسوتك هذا الثوب بمعناه لأنه لتمليك العين قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] والكفارة لا تتأدى إلا بتمليك الثوب.
م: (وأما الثالث) ش: يعني قوله وأعمرتك هذا الشيء م: (فلقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده» ش: هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه» .
م: (وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمرى) ش: يقال أعمرته داري أو أرضا أو إبلا إذا أعطيته إياها وقلت " هي لك عمري أو عمرك، فإذا مت رجعت إلي، والعمرى اسم م: (لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله فلأن حرف اللام للتمليك.
م: (وأما الرابع) ش: يعني قوله وحملتك على هذه الدابة م: (فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية) ش: قيل كيف يستقيم هذا القول وقد قال في العارية إن حملتك والتمليك العين.
قلت: قدر هذا النظر هناك.(10/166)
لكنه يحتمل الهبة يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته.
ولو قال: كسوتك هذا الثوب يكون هبة؛ لأنه يراد به التمليك. قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا، أي ملكه منه.
ولو قال: منحتك هذه الجارية كانت عارية لما روينا من قبل،
ولو قال: داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية؛ لأن العارية محكمة في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتحرير الجواب: أن قوله هاهنا حقيقة بالنظر إلى الوضع، وقوله هناك لتمليك العين، يعني في العرف والاستعمال، ولكن الحقيقة ما هجرت بالعرف فيصير كأنة مشترك م: (لكنه يحتمل الهبة، يقال حمل الأمير فلانا على فرس) ش: أي ملكه إياها، وهو معنى قوله م: (ويراد به التمليك فيحمل عليه) ش: أي على التمليك م: (عند نيته) ش: فإذا نوى ما يحتمله لفظه وفيه تشديد عليه فيعتبر نيته.
[قال كسوتك هذا الثوب هل يكون هبة]
م: (ولو قال: كسوتك هذا الثوب يكون هبه) ش: هذا من مسائل " المبسوط " ذكره تفريعا على مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه يراد به التمليك، قال الله تعالى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ش: فإن المراد به تمليك العين لا تمليك المنفعة م: (ويقال كسى الأمير فلانا ثوبا، أي ملكه منه) ش: أي من فلان.
[قال منحتك هذه الجارية أو داري لك هبة سكنى]
م: (ولو قال منحتك هذه الجارية كانت عارية لما روينا من قبل) ش: أراد به ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «المنحة مردودة» ، ولكن إذا نوى التمليك يثبت؛ لأنه محتمل كلامه.
م: (ولو قال: داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية) ش: وهذا من مسائل الجامع الصغير، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: في الرجل يقول: هذا لك هبة سكنى ودفعها إليه قال هذه عارية. وإن قال: هي لك هبة تسكنها فهي هبة، وإن قال هي لك سكن هبة فهي سكنى، انتهى.
ونصب الهبة في الموضعين على الحال والتبيين لما في قوله داري لك من الإبهام م: (لأن العارية محكمة في تمليك المنفعة والهبة تحتملها) ش: أي تحتمل المنافع م: (وتحتمل تمليك العين، فيحمل المحتمل على المحكم) ش: يعني صار المحكم قاضيا على المحتمل، فكأنه قال: سكنى داري لك فيكون عارية، لأن العارية محكم.
فإن قلت: من أين تقول إنها محكم؟
قلت: لأنها لا تحتمل تمليك الرقبة؛ لأنه خرج تفسير الأول الكلام فيعتبر به حكم أول الكلام. قالت الشراح: كان حق الكلام أن يقول: لأن السكنى محكم في تمليك المنفعة، وكذا(10/167)
وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلى سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة لما قدمناه.
ولو قال: هبة تسكنها فهي هبة؛ لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود. بخلاف قوله هبة سكنى؛ لأنه تفسير له.
قال: ولا يجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكره في " المبسوط " حيث قال: لأن السكنى محكم.
وأجيب: بأن السكنى لا يحتمل إلا العارية فأطلق عليه اسم العارية م: (وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلى سكنى) ش: بضم النون وسكون الحاء وهي العطية م: (أو سكنى صدقة) ش: بأن قال داري لك سكنى صدقة م: (أو صدقة عارية) ش: بأن قال داري لك صدقة م: (أو عارية هبة لما قدمناه) ش: ليحمل على المحكم.
م: (ولو قال هبة تسكنها فهي هبة) ش: ذكر في " المبسوط ". ولو قال: داري لك هبة تسكنها، أو قال عمرى لتسكنها وسلمها إليه فهي هبة م: (لأن قوله هبة تسكنها مشورة) ش: بفتح الميم وضم الشين بمعنى الشورى، وهي استخراج رأي على غالب الظن م: (وليس بتفسير له) ش: لأن الفعل لا يصلح تفسيرا للاسم م: (وهو تنبيه على المقصود) ش: بأن قال ملكه الدار عمره ليسكنها وهو معلوم، وإن لم يذكره فلا يتغير به حكم التمليك بمنزلة قوله هذا الطعام تأكله وهذا الثوب تلبسه فإن شاء قبل مشورته وفعل ما قال، وإن شاء لم يقبل.
م: (بخلاف قوله هبة سكنى لأنه تفسير له) ش: لأن قوله سكنى اسم فجاز أن يكون تفسيرا لاسم آخر، فيتغير به أول الكلام كما في الاستثناء والشرط فيكون عارية.
[الهبة فيما يقسم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة) ش: أي مفرغة عن إملاك الواهب، حتى لا تصلح هبة الثمر على الشجر والزرع في الأرض بدون الشجر والأرض، وكذا العكس عندنا م: (مقسومة) ش: احترز به من المشاع، قيل في الفرق بين ما يقسم وبين ما لا يقسم كل شيء يضره التبعيض ويوجب نقصانا في ماليته، فإنه لا يحتمل القسمة كالدراهم والدنانير فهبة بعضه جائز بلا خلاف
وقيل: كل ما يفوت بالقسمة منفعته أصلا كالعبد أو جنس منفعته كالحمام والرجى فهو لا يحتمل القسمة.
وقيل: كل مشترك بين اثنين لو طلب أحدهما قسمة، وإلى الآخر فالقاضي لا يجبره على القسمة، وهو مما لا يحتمل القسمة، ثم الشيوع المقارن للهبة فيما يحتمل القسمة مفسد لا الطارئ، حتى لو وهب شيئا فرجع في بعضه تصح الهبة.(10/168)
وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز في الوجهين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعبرة في الشيوع وقت القبض لا وقت العقد، حتى لو وهب مشاعا وسلم مقسوما يجوز، وكذا لو وهب نصف الدار ولم يسلم، ثم وهب النصف الآخر وسلمه جازت الهبة، أو وهب تمرا في نخل أو زرعا في أرض، ثم سلم بعد ذلك مفرزا يجوز، كذا في " الذخيرة " وغيره فعلم من هذا أن معنى قوله لا يجوز الهبة فيما يقسم إلا مجوزة مقسومة لا تثبت الملك فيه لا يجوزه مقسومة؛ لأن الهبة في نفسها فيما يقسم تقع جائزة، ولكن غير مثبتة للملك. قبل تسلمه مفرزا نظيرا، نظيره البيع بشرط الخيار.
وفي " الحائط " قال علماؤنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا يتم، ويفيد الملك قبل القسمة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنها تامة، وبعض أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا إنها فاسدة، والأصح ما قلناه كالهبة قبل القبض، ولا يقال إنها فاسدة بل غير تامة، كذا هذا.
وأجمعوا على أن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة كالعبد والدابة تامة، كذا قال علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - العالم في طريقة الخلاف. وقال في الطريقة البرهانية قال علماؤنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وهبة المشاع فيما يحتمل القسمة يفيد الملك بالتخلية. وقال شيخ الإسلام أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - المعروف بخواهر زاده في " مبسوطه ": قال علماؤنا: إذا وهب مشاعا يحتمل القسمة لا يجوز سواء كان وهب في الأجنبي أو من شريكه.
وقال الشافعي - رضى الله عنه -: يجوز من الأجنبي ومن الشريك، وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن وهب من الأجنبي لم يجز، وإن وهب من الشريك جاز وأجمعوا على أنه إذا وهب ما لا يحتمل القسمة فإنه يجوز.
م: (وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة) ش: معناه هبة المشاع لا يحتمل القسمة جائزة؛ لأن المشاع غير مقسوم، فيكون المعنى ظاهرا ووهبت النصيب غير المقسوم فيما هو غير مقسوم، وذلك مستنكر ودفعه بما ذكرنا، فافهم.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في الوجهين) ش: أي فيما يحتمل القسمة وفيما لا يحتمل، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله -. وفي " الروضة ": يجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره سواء وهبه للشريك أو غيره، ويجوز هبة الأرض المزروعة مع زرعها وعكسه. وفي " الجواهر " للمالكية: ولا يمتنع بالشيوع، وإن كان قبل القسمة، وتصح هبة المجهول والآبق والكلب.
وفي " فتاوى الحنابلة ": وتصح هبة المشاع وإن تعذرت قسمته، ويصح من الشريك(10/169)
لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه، وهذا لأن المشاع قابل لحكمه وهو الملك، فيكون محلا له، وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع كالقرض والوصية، ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله، والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وغيره سواء كان مما ينقل ويحول أو لم يكن، سواء كان مما ينقسم أو مما لا يأتي قسمته كالشقص في العبد والدابة والجوهرة والسرخي م: (لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه) ش: من الصحيح والفاسد والصرف والسلم وغيره فإن الشيوع لا تمنع تمام القبض في هذه العقود بالإجماع.
م: (وهذا) ش: أي جوازه م: (لأن المشاع قابل لحكمه) ش: أي لحكم عقد الهبة م: (وهو الملك فيكون محلا له) ش: كالمبيع والإرث وكل ما هو قابل لحكم عقد يصلح أن يكون محلا له؛ لأن المحلية غير القابلية أو لازم من لوازمها، فكان العقد صادرا من أهله مضافا إلى محله، ولا مانع ثمة فكان جائزا.
م: (وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال البيع لا يفتقر إلى القبض، بخلاف الهبة فإنه عقد تبرع ومحتاج إلى القبض.
فلو قلنا بجوازه: في المشاع يلزم في ضمنه وجوب ضمان القسمة وهو لم يتبرع به.
فأجاب بقوله: وكونه أي وكون الهبة والتذكير باعتبار الوهب أو المذكور تبرعا لا يبطله الشيوع، يعني لم يعهد ذلك مبطلا في التبرعات.
م: (كالقرض) ش: بأن دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفه قرضا يعمل في النصف الآخر شرك، فإنه يجوز مع أن القبض شرط لوقوع الملك في القرض، ثم لا يشترط القسمة م: (والوصية) ش: بأن أوصى لرجلين بألف درهم فإن ذلك صحيح، فدل على أن الشيوع لا يبطل التبرع حتى يكون مانعا.
م: (ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة) ش: أراد به ما ذكره من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تجوز الهبة إلا مقبوضة» وفيه نظر؛ لأنه قد تقدم أن هذا الحديث لا أصل له ولم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اشتراط القبض في الهبة شيء.
ولو ثبت اشتراط قبض فقبض كل شيء بحسبه م: (فيشترط كماله) ش: أي كمال القبض؛ لأن التنصيص عليه يدل على الاعتناء بوجوده، حتى لو استقبل الحطيم لا تجوز صلاته؛ لأنه بالبيت بالسنة، وهذا؛ لأن الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا، وبدون الإطلاق لا يثبت م: (والمشاع لا يقبله) ش: أي القبض م: (إلا بضم غيره إليه) ش: الموهوب إلى الموهوب م:(10/170)
وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة، ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزمه التسليم. بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به، ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة والمهايأة تلزمه، فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وذلك) ش: أي الغير م: (غير موهوب) ش: وغير ممتاز عن الموهوب، فصارت الحيازة ناقصة فلا ينتهض لإفادة الملك.
م: (ولأن في تجويزه) ش: عقد الهبة في المشاع م: (إلزامه) ش: أي إلزام الواهب م: (شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة) ش: لأنه لو ملكه قبل القسمة لطالبه بالقسمة، فيصير عقد التبرع موجبا ضمان المقاسمة عليه وهو خلاف موضع التبرع.
فإن قيل: هذا ضرر مرضي؛ لأن إقدامه على هبة المشاع يدل على التزامه ضرر القسمة والصائر من الضرر ما لم يكن مرضيا.
أجيب بأن: المرضي منه ليس القسمة، ولا ما يستلزمها لجواز أن يكون راضيا بالملك المشاع، وهو ليس بقسمة ولا يستلزمها، قيل: هذه العلة غير مطردة؛ لأنهم قالوا: لا تجوز الهبة من الشريك وليس ثمة ضرر القسمة، وكذلك قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز هبة واحد من اثنين وليس في ضرر القسمة.
قلت: وجود العلة تراخي في جنس الحكم لا في كل صورة.
م: (ولهذا) ش: أي ولأن تجويز هذا العقد إلزام ما لم يلتزم م: (امتنع جوازه) ش: أي جواز ثبوت الملك م: (قبل القبض لئلا يلزمه التسليم) ش: وهو لا يتحقق بدون مؤنة القسمة م: (بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به) ش: ضرورة م: (ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة) ش: وقد قيل إن هذا الذي ذكره كله مرتب على اشتراط كمال القبض، وفي اشتراط أصله نظر، فكيف باشتراط كماله.
والصحيح جواز هبة المشاع ورهنه وإجازته ووقفه كما يجوز بيعه وقرضه والوصية به، ولا زال الناس على ذلك ولم يرد في رده كتاب ولا سنة ولا إجماع، فإن طلب الموهوب له القسمة وألزم بها الواهب فهو كما إذا ألزم بها البائع وقد باع حصة عما يملكه، فكان أن ذلك لا يمنع من صحة البيع وإن كان فيه إلزام بما لا يلتزمه، فكذلك لا يمنع من صحة الهبة.
م: (والمهايأة تلزمه) ش: هذا جواب سؤال يرد علينا، تقديره أن يقال ينبغي أن لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة؛ لأنه يلزم المهايأة، وفي إيجابها إلزام ما لم يلتزم. وتقرير الجواب أن المهايأة تلزمه م: (فيما لم يتبرع به وهو المنفعة والهبة لاقت العين) ش: فلم يكن ذلك زمانا في عين(10/171)
والوصية ليس من شرطها القبض، وكذا البيع الصحيح وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها غير منصوص عليه، ولأنها عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة، والقرض تبرع من وجه وعقد ضمان من وجه، فشرطنا القبض القاصر فيه دون القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما تبرع، بل هذه من ضرورات الانتفاع يملكه.
ولقائل أن يقول: إلزام ما لم يلتزم الواهب بعقد الهبة إن كان مانعا عن جوازها فقد وجد وإن حصصتم بعودة إلى ما تبرع به كان محكما.
والجواب: بتحصيصه بذلك وبدفع الحكم بأن في عوده إلى ذلك إلزام زيادة عين هي أجرة القسمة على العين الموهوبة بإخراجها عن ملكه وليس في غيره ذلك؛ لأن المهايأة لا تحتاج إليها ولا يلزم ما إذا أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم فإنه يضمن قيمته للموهوب له، وفي ذلك إلزام زيادة عين على ما تبرع به؛ لأن ذلك بالإتلاف لا بعقد التبرع.
م: (والوصية ليس من شرطها القبض) ش: هذا جواب عن قوله كالقبض بالوصية. تقريره أن الشيوع مانع فيما يكون القبض من شرطه لعدم تحققه في المشاع والوصية ليست كذلك م: (وكذا البيع الصحيح وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها) ش: يعني وكذا حكم البيع.. إلى آخره.
أراد به وإن كان القبض فيها شرطا للملك، ولكنه م: (غير منصوص عليه) ش: فلا يصح نفيه. قلنا: كلامنا فيما يكون القبض منصوصا عليه لثبوت الملك ابتداء، وفي الصرف لبقائه في ملكه فليس فيما نحن فيه، وكذا الكرام في السلم، فإن اشتراط قبض رأس المال للاحتراز وهو النسيئة بالنسيئة، وكذا فسره أبو عبيد القاسم بن سلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وروى الحديث أيضا وقال: حدثني زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عنه.
م: (ولأنها) ش: أي ولأن الأشياء المذكورة م: (عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة) ش: يعني تناسب تعلق ضمان القسمة بها، بخلاف الهبة (والقرض تبرع) ش: هذا من تتمة الجواب عن قوله كالقرض والوصية أي القرض تبرع م: (من وجه) ش: بدليل أنه لا يصح من الصبي والعبد م: (وعقد ضمان من وجه) ش: فإن المستقرض مضمون بالمثل م: (فشرطنا القبض القاصر فيه) ش: أي إذا كان كذلك فلشبهة التبرع شرطنا القبض كما في الهبة والشبهة بعقد الضمان لم يشترط القسمة، وهو معنى قوله م: (دون القسمة) ش: كما في البيع، فاكتفى فيه بالقبض(10/172)
عملا بالشبهين على أن القبض غير منصوص عليه فيه.
ولو وهب من شريكه لا يجوز؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع.
قال: ومن وهب شقصا مشاعا فالهبة فاسدة لما ذكرنا، فإن قسمه وسلمه جاز؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاصر م: (عملا بالشبهين) ش: وهما شبه التبرع وشبه الضمان، وانتصاب عملا على التعليل أي لأجل العمل بالشبهين م: (على أن القبض غير منصوص عليه فيه) ش: أي في القرض ليراعى وجوده على أكمل الجهات.
[الحكم لو وهب من شريكه]
م: (ولو وهب من شريكه لا يجوز لأن الحكم يدار على نفس الشيوع) ش: هذا جواب سؤال يقال من جهة الخصم، تقريره أن يقال عدم جواز الهبة في المشاع لا يخلو من أحد الأمرين، إما أن يكون دائرا على نفس الشيوع أو على لازم المطالبة بالقسمة إن قلتم بالأول يبطل بالمشاع الذي لا ينقسم.
وإن قلتم: بالثاني يبطل بما إذا وهب نصيبه من شريكه فإنه لا يجوز عندكم، مع أنه ليس فيه لزوم المطالبة بالقسمة.
وتقدير الجواب: أن الحكم معلق بنفس الشيوع في محل يتصور فيه المطالبة بالقسمة، فأقيم الشيوع مقام المطالبة بالقسمة، لكن في الموضع الذي يتصور فيه القسمة وهيئة نصيبه من شريكه من هذا القبيل، فأقيم الشيوع فيه مقامها. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا في الحقيقة جواب عن قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده هبة المشاع فيما يحتمل القسمة يجوز من الشريك لعدم استحقاق ضمان القسمة.
قلت: هذا يفيد، وإن كان له وجه؛ لأن هذا الكلام من تتمة الجواب فيما أورد الخصم علينا على ما لا يخفى.
[حكم هبة الشقص المشاع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن وهب شقصا) ش: بكسر الشين المعجمة وسكون القاف، أي نصيبا م: (مشاعا فالهبة فاسدة) ش: معناه لا يثبت الملك قبل تسليمه مفرزا؛ لأن الهبة في نفسها جائزة على ما قررناه عن قريب م: (لما ذكرنا) ش: من أن الهبة فيما يقسم لا يجوز إلا محرزة مقسومة م: (فإن قسمه) ش: أي فإن قسم المشاع وأفرز نصيبه م: (وسلمه) ش: إلى الموهوب له م: (جاز) ش: أي يثبت الملك حينئذ في الهبة الفاسدة لو قبضه مشاعا فهلك عند الموهوب له، ذكر ابن رستم أنه يضمن ولا يفيد الملك وبه أخذ الطحاوي.
وقال عصام: يفيد الملك ولا يكون مضمونه في يده، وبه أخذ بعض المشايخ، كذا في(10/173)
لأن تمامه بالقبض، وعنده لا شيوع،
قال: ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة، فإن طحن وسلمه لم يجز، وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم، ولهذا لو استخرجه الغاصب يملكه، والمعدوم ليس بمحل للملك فوقع العقد باطلا فلا ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما تقدم؛ لأن المشاع محل للتمليك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" فتاوى قاضي خان " م: (لأن تمامه بالقبض وعنده) ش: أي عند القبض م: (لا شيوع) ش: فلا فساد.
[الحكم لو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة) ش: الأصل هنا أن المحل إذا كان معدوما حالة العقد لم ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما إذا كان مشاعا فإنه بعد الإفراز لا يحتاج إلى التجديد على ما يجيء الآن م: (فإن طحن) ش: الحنطة م: (وسلمه) ش: الدقيق م: (لم يجز، وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم) ش: يعني ليس بموجود بالفعل، وإنما يحدث بالطحن والعصر ولا معتبر بكونه موجودا بالقوة؛ لأن عامة الممكنات كذلك، ولا تسمى موجودة، وبهذا مخرج الجواب عن ما قيل ينبغي أن يجوز بيع الدهن بالسمسم مطلقا بلا اشتراط أن يكون الدهن الصافي أكثر مما في السمسم.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الموهوب معدوما م: (لو استخرجه الغاصب) ش: بأن غصب سمسما فاستخرج دهنه فإنه م: (يملكه) ش: لأنه وقت الغصب لم يكن موجودا، فلم يرد عليه الغصب م: (والمعدوم ليس بمحل للملك، فوقع العقد باطلا فلا ينعقد إلا بالتجديد) ش: أي إلا بتجديد العقد م: (بخلاف ما تقدم) ش: وهو المشاع، فإنه لا يحتاج فيه إلى تجديد العقد م: (لأن المشاع محل للتمليك) ش: لكونه موجودا وقت العقد، ويتصور القبض منه، لكن لا على سبيل الكمال، وهذا يصح بيعه بالإجماع والمانع فيه لمعنى في غيره وهو العجز عن التسليم، فإذا زال المانع انقلب جائزا.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": ولو وهب رجل لرجل ما في بطن جاريته أو ما في بطن غنمه أو ما في ضروعها، أو وهب له سمنًا من لبن قبل أن يسلى، أو زبدًا منه قبل أن يمخض أو دهنًا من سمسم قبل أن يعصر أو زيتا من زيتون أو دقيقا من حنطة وسلطه على قبضه عند الولادة أو عند استخراج ذلك، فإن ذلك لا يجوز ولا يشبه هذا الدين ولا يسلطه على قبضه؛ لأن الدين الذي في ذمة الغريم لم يجز بيعه منه وهبته له، وغير ذلك مما ذكرنا لا يجوز هذا فيه، انتهى.(10/174)
وهبة اللبن في الضرع والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض، والتمر في النخيل بمنزلة المشاع؛ لأن امتناع الجواز للاتصال وذلك يمنع القبض كالمشاع.
قال: وإذا كانت العين في يد الموهوب له ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيه قبضا؛ لأن العين في قبضه والقبض هو الشرط،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ما لا تجوز هبته]
[هبة اللبن في الضرع والصوف على الظهر]
م: (وهبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض والتمر في النخيل بمنزلة المشاع) ش: يعني لا يجوز كما في المشاع، وعند الثلاثة يجوز، ثم عندنا إذا حلب اللبن وجز الصوف وسلمه وقبضه الموهوب له جاز استحسانًا كما في المشاع إذا وهبه وسلمه، وكذا لو قطع الثمر والزرع وسلمها م: (لأن امتناع الجواز للاتصال) ش: أي يملك الواهب لا لكون هذه الأشياء معدومة بدليل أن الصوف على ظهر الغنم واللبن في الضرع محل التمليك حتى يجوز الصلح عليه عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبالفصل ينعدم الشيوع.
والأصل في حسم هذه المسائل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام القبض، والقبض الناقص يمنع صحة الهبة، فعلى هذا إذا وهب دارًا فيها متاع الواهب أو جرابًا أو جرة ألقى فيها طعام الواهب فالهبة فاسدة، ولا معتبر بالشغل وقت العقد إذا وقع التسليم فارغًا صغرت أو يعتبر الإذن بالقبض بعد التفريغ.
ولا يكفي قوله سلمتها إليك مع الشغل، فلو وهب ما في الدار وما في الجراب أو الجوالق من الطعام فالهبة تامة؛ لأن الموهوب هنا شاغل لملك الواهب وليس بمشغول بملكه، وقيام اليد على التبع لا يوجب قيام اليد على الأصل، بخلاف المسألة الأولى، ونظير ما لو وهب جارية وعليها حلي فوهبها دون حليها وسلمها فالهبة تامة، وكذا الدابة وعليها سرج أو لجام، أو وهب السرج أو اللجام دون الدابة م: (وذلك) ش: أي الاتصال م: (يمنع القبض كالمشاع) ش: ففي الشائع يمنع، فكذا في الاتصال.
[ما تملك به الهبة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا كانت العين في يد الموهوب له) ش: بأن كانت وديعة أو عارية أو نحوها م: (ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيه؛ لأن العين فيه قبضا والقبض هو الشرط) ش: وهو موجود الأصل في ذلك تجانس القبضين يجوز نيابة أحدهما عن الآخر، وتغايرهما يجوز نيابة الأعلى عن الأدنى دون العكس، فإن كان الشيء وديعة في يد شخص أو عارية فوهبه إياه لا يحتاج إلى تجديد قبض؛ لأن كلا القبضين ليس ضمانًا فكانا مجانسين. ولو كان بيده مغصوبًا أو ببيع فاسد فوهبه إياه لم يحتج إلى تجديده؛ لأن الأول أقوى فينوب عن الضعيف؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة فوجد القبض المحتاج إليه وزيادة شيء.
ولو كانت وديعة فباعه منه فإنه يحتاج إلى قبض؛ لأن قبض الأمانة ضعيف فلا ينوب عن قبض الضمان هذا الذي ذكره في " الذخيرة " وغيره.(10/175)
بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون فينوب عنه. وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد؛ لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة. ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا؛ لأنه في يد غيره أو في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر أبو نصر في شرحه: لو كان مضمونًا في يده أو بالمثل بغيره كالمبيع والمرهون لا ينوب عن قبض الواهب بالهبة، ولا بد من تجديد القبض. ولو كان مضمونًا في يد بالقيمة أو بالمثل كالمقبوض على سوم الشراء والمغصوب فوهب له ثبت الملك ولا يحتاج إلى تجديد القبض لوجود أصل القبض وزيادة.
فإن قلت: ما معنى تجديد القبض؟.
قلت: هو أن ينتهي على موضع فيه العين ويمضي وقت يتمكن فيه من قبضها.
م: (بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون، فينوب عنه) ش: أي ينوب قبض الأمانة عن غير المضمون وهو الهبة، وقد مر مستوفى.
م: (وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد) ش: أي بمجرد العقد، وهذا من مسائل القدوري م: (لأنه) ش: أي لأن الذي وهبه م: (في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة) ش: فلا يحتاج إلى قبض آخر ولا يشترط فيه الإشهاد إلى أن فيه احتياطًا للتحرز عن جحود الورثة بعد موته، أو جحود بعد إدراك الولد. وقال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض جديد، أما هل يحتاج إلى القبول لابنه الصغير، فقال الشافعي والقاضي الحنبلي: لا بد أن يقول - بعد قوله: وهبته له -: قبله، وظاهر مذهب أحمد لا يحتاج إلى هذا كقولنا. وقال مالك: لو وهبه بمال لا يعرف بعينه كالأثمان لم يجز إلا أن يضعها على يد غيره ويشهد عليه وعند القاضي لا فرق بين الأثمان وغيرها.
م: (ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده) ش: أي لأن يد المودع كيد المودع بالكسر حكمًا فيمكن أن يجعل قابضًا لولده باليد التي هي قائمة مقام يده.
فإن قلت: لو وهب الوديعة من المودع يجوز، فلو كانت يده كيده لم يكن قابضًا لنفسه.
قلت: يده كيده ما دام عاملًا له وذلك قبل الهبة، وأما بعدها فهو عامل لنفسه.
م: (بخلاف ما إذا كان) ش: أي الموهوب للابن م: (مرهونًا أو مغصوبًا أو مبيعًا بيعًا فاسدًا؛ لأنه في يد غيره) ش: أي غير الأب فلا ينوب قبض المرتهن والغاصب عن قبض الهبة للولد م: (أو في(10/176)
ملك غيره، والصدقة في هذا مثل الهبة وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له، وكذلك كل من يعوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ملك غيره) ش: وفي " الذخيرة ": أرسل غلامه في حاجة ثم بعد الإرسال وهبه صحت الهبة؛ لأنه في يده حكمًا، فلو لم يرجع حتى مات الأب فهو للولد ولا يصير ميراثًا، وكذا لو وهب عبدًا آبقًا من ابنه الصغير، فما دام مترددا في دار الإسلام تجوز الهبة والأب قابض له بنفس الهبة.
وفي " فتاوى أبي الليث ": وهب لابنه الصغير دارًا مشغولًا بمتاع الواهب جاز، وفي " المنتقى " عن محمد: لو وهب داره لابنه وفيها ساكن بأجر لا يجوز، ولو كان بغير أجر يجوز؛ لأن في الأول يتبع قبض غيره فيمنع تمام الهبة بخلاف الثاني م: (والصدقة في هذا مثل الهبة) ش: أراد أن الصدقة في الحكم المذكور كحكم الهبة فيما إذا تصدق على ابنه الصغير ملكها الابن بعقد الصدقة، فلو تصدق عليه بما عند مودعه جاز، بخلاف ما إذا تصدق بما في يد المرتهن والغاصب والمشتري بالشراء الفاسد، والتعليل هو التعليل.
م: (وكذا إذا وهبت له أمه وهو) ش: أي والحال أنه م: (في عيالها والأب ميت ولا وصي له) ش: هاتان الجملتان أيضًا حال، قيد بقوله: في عيالها؛ ليكون لها عليه نوع ولاية، وقيد بموت الأب وعدم الوصي لأن عند وجودهما ليس لها ولاية القبض م: (وكذلك كل من يعوله) ش: يعني كل من يعول الصغير إذا قبض الهبة له يصح كالأخ والعم والأجنبي، وعند الثلاثة إذا وهب للصبي غير الأب من الأولياء لا بد أن يوكل من يقبل له ويقبضه له فيكون الإيجاب منه والقبول والقبض من غيره كما في البيع.
وقال ابن قدامة في " المغني ": والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا سواء، قيل: أطلق جواز قبض هؤلاء.
ولكن ذكر في " الإيضاح " و " مختصر الكرخي ": أن ولاية القبض لهؤلاء إذا لم يوجد واحد من الأربعة وهو الأب ووصيه، والجد أبو الأب بعد الأب ووصيه. فأما مع وجود واحد منهم فلا، سواء كان الصبي في عيال القابض أو لم يكن، وسواء كان ذا رحم محرم منه أو أجنبيا؛ لأنه ليس لهؤلاء ولاية التصرف في ماله، فقيام ولاية من يملك التصرف في المال يمنع ثبوت حق القبض له، فإذا لم يبق واحد منهم جاز قبض من كان الصبي في عياله لثبوت نوع ولاية له حينئذ. ألا ترى أنه يؤدبه ويسلمه في الصنائع، فقيام هذا القدر يطلق حق قبض الهبة لكونه من باب المنفعة.
قلت: هذا ليس بإطلاق، وإنما هو اقتصر في التقييد، وذلك؛ لأن قوله: وكذا كل من يعوله عطف على قوله: وكذا إذا وهبت له أمه، وهو مقيد بقوله: والأب ميت ولا وصي له، فيكون هذا في(10/177)
وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر، فأولى أن يملك النافع. وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب. وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز؛ لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله، وهذا من بابه لأنه لا يبقى إلا بالمال، فلا بد من ولاية التحصيل وهو من أهله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعطوف أيضًا، لكنه اقتصر على ذكر الجد ووصيه للعلم بأن الجد الصحيح مثل الأب في أكثر الأحكام، ووصيه كوصي الأب.
م: (وإن وهب له) ش: أي للصغير م: (أجنبي هبة تمت بقبض الأب؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر، فأولى أن يملك النافع) ش: الضائر فاعل من ضار يضير والضير والضرر، وهو لغة من الضور. وفي بعض النسخ الضار بتشديد الراء، وكلاهما واحد.
م: (وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو) ش: أي وليه م: (وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب. وإن كان) ش: أي اليتيم م: (في حجر أمه) ش: أي كنفها وتربيتها م: (فقبضها له) ش: أي قبض الهبة لليتيم م: (جائز لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله، وهذا من بابه) ش: أي قبض الهبة له من باب الحفظ م: (لأنه لا يبقى إلا بالمال) ش: أي لأن حفظ اليتيم لا يبقى بقاؤه إلى بقوت وملبوس م: (فلا بد من ولاية التحصيل) ش: فلا بد أن يكون بسبيل من التحصيل في حقه، فصار ذلك من ضروراته. وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه؛ لأن له عليه يدًا معتبرة، ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر من أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعًا في حقه؛ لأنه صار كالخلف، والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل.
وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز، معناه إذا كان عاقلا؛ لأنه نافع في حقه م: (وهو من أهله) ش: أي الصبي من أهل التصرف فيما يتمحض نفعا له.
وفي " المبسوط ": هذا جواب الاستحسان وهو قولنا، أما في القياس لا يجوز قبضه بنفسه وإن كان عاقلا، وهو قول الشافعي. وفي رواية عن أحمد إن قبضه بإذن الولي صح، وعنه كقولنا.
فإن قيل: عقل الصبي إما أن يكون معتبرا أولا، فإن كان الثاني وجب أن لا يصح قبضه، وإن كان الأول وجب أن لا يجوز اعتبار الخلف مع وجود أهليته.
فالجواب: أن عقله فيما نحن فيه من تحصيل ما هو نفع معتبر لتوفير المنفعة عليه، وفي اعتبار الخلف توفيرها أيضا؛ لأنه ينفتح به باب آخر في تحصيلها فكان جائزا نظرا له، وهذا لم(10/178)
وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة. بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب. بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونها إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح؛ لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعتبر في المتردد بين النفع والضر لباب المضرة عليه؛ لأن عقله قبل البلوغ ناقص فلا يتم به النظر في عواقب الأمور، فلا بد من الأخذ برأي الولي.
م: (وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف) ش: بكسر الزاي مصدر من زففت العروس إلى زوجها، أي هديتها م: (لتفويض الأب أمورها إليه دلالة) ش: حيث زفها إليه وهي صغيرة وأقامه مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها وقبض الهبة من حفظ المال، لكن لا تبطل بذلك ولاية الأب حتى لو قبضها جاز. وذكر المصنف الزفاف وذكر في " الإيضاح " الدخول.
وفي " الذخيرة ": شرط في قبض الزوج على زوجته الصغيرة أن يكون يجامع مثلها حتى لو لم يجامع مثلها لا يصح قبض الزوج عليها عند بعض أصحابنا، والصحيح أنه إذا كان يعولها صح قبضه عليها، يجامع مثلها أو لا لما ذكرنا. ولو أدركت لم يجز قبض الزوج والأب لأنها صارت ولية نفسها حين بلغت عاقلة، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف ما قبل الزفاف) ش: لأنه قبل الزفاف لا يكون عليها بل مستحقه م: (ويملكه) ش: أي يملك الزوج قبض الهبة م: (مع حضرة الأب) ش: احترز به عما ذكر في " الإيضاح ": أن قبض الزوج لها إنما يجوز إذا لم يكن الأب حيا م: (بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها) ش: أي غير الأم م: (حيث لا يملكونها) ش: أي قبض الهبة لها م: (إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطة في الصحيح) ش: قيل الصحيح متعلق بقوله ويملكه مع حضرة الأب. قال صاحب " النهاية ": وإنما قلت هذا؛ لأن في قوله بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد الموت، أو غيبته غيبة منقطعة ليست رواية أخرى حتى يقع قوله: في الصحيح احترازا عنها.
قلت: كان حق الترتيب في التركيب أن يقول ويملكه مع حضرة الأب في الصحيح، بخلاف الأم وعبارته لا تخلو عن الإبهام م: (لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة) ش: احترز بقوله لا بتفويض الأب عن تصرف الزوج لما ذكرنا أن ولاية الزوج بتفويضه أمورها دلالة إليه، أما قبض غير الأب عليه إنما يصلح للضرورة، ولا ضرورة عند حضور من له ولاية.(10/179)
قال: وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع
وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يصح؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع، كما إذا رهن من رجلين دارا. وله أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما. ولهذا لو كانت الهبة فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح. ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف فيكون التمليك كذلك؛ لأنه حكمه وعلى هذا الاعتبار يتحقق الشيوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وهب اثنان من واحد دارا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز؛ لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع) ش: لأن المانع هو الشيوع عند القبض وقد انتفى. ونقل صاحب " الأجناس " عن الأصل إذا وهب رجلان دارا من رجل جاز في قولهم. ولو وهب رجل من رجلين دارا لم يجز في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: جاز، وفي الرهن من رجلين جاز في قولهم جميعا، وكذلك في الإجارة من رجلين جاز.
م: (وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يصح؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع، كما إذا رهن من رجلين دارا) ش: فإنه يجوز فالهبة أولى؛ لأن تأثير الشيوع في الرهن أكثر منه في الهبة، حتى لا يجوز الرهن في مشاع لا يحتمل القسمة دون الهبة، وبه قالت الثلاثة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما) ش: وهذا يثبت الملك ففي النصف هذا، وفي النصف هذا بالإجماع م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون هذه هبة النصف من كل منهما م: (لو كانت الهبة فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح) ش: فصار كما لو وهب النصف لكل واحد منهما بعقد على حدة م: (ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف) ش: هذا استدلال ثان، والفرق بين الاستدلالين أن الأول من جانب التمليك، وهذا من جانب الملك، فإذا ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف م: (فيكون التمليك كذلك) ش: أي كالملك يكون لكل واحد منهما النصف م: (لأنه حكمه) ش: أي لأن بالتمليك حكم الملك فإذا ثبت الملك مشاعا ثبت التمليك كذلك؛ لأنه حكمه الحكم يثبت بقدر دليله م: (وعلى هذا الاعتبار) ش: أي الاعتبار المذكور، وهو ثبوت الشيوع في التمليك بثبوت الملك مشاعا م: (يتحقق الشيوع) ش: فتفسد الهبة.
فإن قلت: التمليك يحصل بالتسليم، ولا شيوع فيه دون القبض، والملك يتعلق بالقبض لبقي الضمان عن المتبرع، فوجب أن يعتبر جانبه وهو التسليم لا جانب القبض.
قلت: التسليم إنما يعتبر إذا حصل به التمكن من القبض على سبيل الكمال، ولأنه طريق(10/180)
بخلاف الرهن؛ لأن حكمه الحبس ويثبت لكل واحد منهما كملا فلا شيوع، ولهذا لو قضى دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن. وفي " الجامع الصغير ": إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز. ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز. وقالا: يجوز للغنيين أيضا جعل كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن لكل واحد منهما تمليك بغير بدل. وفرق بين الهبة والصدقة في الحكم في الجامع وفي الأصل سوى، فقال وكذلك الصدقة؛ لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما على القبض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للقبض، فإذا لم يتمكن هو من القبض بصفة الكمال يعتبر التسليم.
م: (بخلاف الرهن) ش: جواب استشهاد م: (لأن حكمه الحبس ويثبت لكل واحد منهما) ش: أي من المرتهنين م: (كملا) ش: نصب على الحال من الضمير الذي في ثبت، أي كاملا، فإذا كان حكمه الحبس م: (فلا شيوع ولهذا) ش: توضيح لما ذكره م: (لو قضى) ش: أي المراهن م: (دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن) ش: لأن حكمه الحبس فيتصور أن يكون ملك الحبس ثابتا لكل واحد على الكمال إذ لا تضايف في الحبس، بخلاف ملك العين، فإنه لا يتصور إثباته لكل واحد على الكمال.
م: (وفي الجامع الصغير) ش: إنما ذكر رواية الجامع الصغير لبيان ما وقع من الاختلاف بينهما وبين رواية " المبسوط " م: (إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز، ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز) ش: عند أبي حنيفة. حاصل هذا أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل الهبة مجازا عن الصدقة إذا صادفت الفقير والصدقة مجازا عن الهبة إذا صادفت الغني لوجود المجوز إذ كل منهما تمليك بغير بدل.
م: (وقالا: يجوز للغنيين أيضا) ش: يعني كما يجوز للفقيرين مطلقا فكذلك يجوز للغنيين مطلقا م: (جعل) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن كل واحد منهما) ش: أي من الهبة والصدقة م: (تمليك بغير بدل) ش: فإذا كان كل منهما تمليكا بلا بدل يجوز استعارة أحدهما عن الآخر لوجود العلاقة م: (وفرق) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بين الهبة والصدقة في الحكم) ش: حيث جواز الصدقة والهبة في الحكم م: (في الجامع) ش: حيث جوز الصدقة على الفقيرين ولم يجوز الهبة على الغنيين.
م: (وفي الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (سوى) ش: أي الحكم م: (فقال وكذلك الصدقة) ش: أي لا يجوز الصدقة على رجلين، عنده لا يجوز الهبة، وهذا كما ترى لم يفرق بين الهبة والصدقة في منع الشيوع فيهما عن الجواز، وعلل بقوله م: (لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما) ش: أي لتوقف الهبة والصدقة م: (على القبض) ش: والشيوع يمنع القبض على الكمال.(10/181)
ووجه الفرق على هذه الرواية أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد، والهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان. وقيل هذا هو الصحيح والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين.
ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز. ولو قال: لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان. فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله، وكذا محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ووجه الفرق) ش: أي بين الهبة من اثنين حيث لا يجوز عند أبي حنيفة، وبين الصدقة على اثنين حيث يجوز م: (على هذه الرواية) ش: أي رواية الجامع الصغير م: (أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد) ش: لا شريك له فيقع جميع العين لله تعالى على الخلوص، فلا شيوع فيها، وإنما يصير الفقير نيابة عن الله تعالى بحكم الرزق المودع، فصار كالهبة إذا وقعت الواحد وقبضها اثنان بحكم الوكالة عن الموهوب له م: (الهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان) ش: لأن فرض المسألة فيه م: (وقيل هذا هو الصحيح) ش: أي المذكور في الجامع الصغير من جواز الصدقة على فقيرين هو الصحيح، فإذا كان هذا هو الصحيح يحتاج ما ذكر في الأصل إلى التأويل، أشار إليه بقوله م: (والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين) ش: فيكون مجاز الهبة والمجنون ما ذكرناه فعلى هذا التأويل لا مخالفة بين الروايتين، فلا يحتاج إلى الفرق.
[وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها]
م: (ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز) ش: وبه قالت الثلاثة، التفضيل في الهبة إن كان ابتداء لم يجز بلا خلاف، سواء كان التفصيل بالصاد المهملة بالتفضيل كقوله وهبت ثلثيه الآخر أو بالتساوي كقوله للشخص وهبت لك نصفه ولآخر كذلك هذا لم يذكره في الكتاب وإن كان بعد الإجمال لم يجز عند أبي حنيفة سواء متفاضلا أو متساويا بناء على أصله، وجاز عند محمد مطلقا بناء على أصله.
وفرق أبو يوسف بين المساواة والمفاضلة، ففي المفاضلة لم يجوز. وفي المساواة جوز في رواية، أشار إليها بقوله: م: (ولو قال لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه روايتان) ش: هذا ظاهر كلام المصنف. وجعل السغناقي هذا - أعني: قوله: ولو قال إلى آخره - تفضيلا ابتدائيا. ونقل عن عامة النسخ من " الذخيرة " و " الإيضاح " وغيرهما: أنه لم يجوز بلا خلاف وليس بظاهر؛ لأن المصنف عطف ذلك على التفصيل بعد الإجمال فالظاهر أنه ليس ابتدائيا.
م: (فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مر على أصله وكذا محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وكذا محمد(10/182)
والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع، ولهذا لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مر على أصله؛ لأن هذه هبة واحد من رجلين نص على التفاضل أو التساوي أولا، ألا ترى أن في البيع من رجلين يجعل بيعا واحدا منهما نص على التفاضل أولا فكذا هنا م: (والفرق لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع) ش: هذا دليل على صورة التفصيل بالمهملة بالتفضيل. وعلى صورة بالتساوي على رواية عدم الجواز. وأما رواية الجواز فلكونها غير معدولة عن أصله وهو أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فليست محتاجة إلى الدليل.
وبهذا التوجيه يظهر خلل ما قاله السغناقي أن في قوله: إن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصد ثبوت الملك في البعض نوع إخلال حيث لا يعلم بما ذكر موضع خلافه من الأبعاض وما ليس فيه خلافا من الأبعاض فإنه لو نص على الأبعاض بالتنصيص بعد الإجمال، كما في قوله: وهبت لكما هذه الدار نصفها، ولهذا نصفها جاز، وإنما لا يجوز عند التنصيص على الأبعاض بالتنصيف إذا لم يتقدمه الإجمال، ووجهه ظهور خلله أنه إنما يستدل على ما عدل فيه عن أصله، والمذكور في الكتاب يدل عليه، وأما صورة الجواز فليست بمحتاجة إلى الدليل لجريانها على أصله.
م: (ولهذا) ش: توضيح لدلالة التنصيص على الأبعاض على تحقيق الشيوع في الهبة بالتنصيص على الأبعاض في الرهن، فقال وهذا م: (لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض) ش: بأن قال: رهنتكما هذا الشيء على أن يكون النصف رهنا عند هذا، والنصف الآخر عند هذا كان فاسدا؛ لأن بالتفصيل يتفرق العقد، فكذا هاهنا، أما إذا نص على التناصف فقد أمكن تصحيح العقد يجعل هذا مجازا عن موجب العقد؛ لأن مطلق العقد يقتضيه، فلا يكون حاله التفصيل مخالفا لحالة الإجمال فيصير التفصيل لغوا فلا يختلف العقد، فلم يعتبر شيوعا في العقد، بخلاف ما إذا نص على التفاوت في العقد حيث يفسد العقد؛ لأن التفصيل يخالف الإجمال فيجب اعتباره فيفرق العقد.
وفي " الأسرار ": وكلام محمد أوضح لأن افتراق الملك في الهبة ثابت بنفس العقد هاهنا ولا يثبت بالتفصيل كما لو قال نصفين وإنما يثبت بالتفصيل التفاضل في النصيب والمبطل للهبة نفس الشيوع لا شيوع بأنصبة متفاوتة.
قال الكاكي: وتأخير دليل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " دليل على اختياره قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " نوادر ابن رستم " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو دفع درهمين فقال:(10/183)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما لك هبة والآخر يكون عندك وديعة فضاعا جميعا يضمن درهما، وهو في الآخر أمين، وإنما ضمن الدرهم الهبة لأنه أخذ على فساده؛ لأن الهبة كانت غير مقسومة، وهكذا نقل في " الأجناس " من " النوادر " وهذا يشعر بأن الهبة الفاسدة مضمونة لا يملكها الموهوب. ألا ترى إلى ما ذكر في المضاربة الكبيرة، ولو دفع ألف درهم إلى رجل وقال نصفه هبة ونصفه مضاربة لم يجز الهبة؛ لأنه مشاع، ولو هلك عند القابض ضمن النصف وهو خمسمائة درهم.
وقال الولوالجي في " فتاواه ": رجل معه درهمان قال لرجل لك نصف هذا وقال آخر لك درهم منهما فالمسألة على وجهين إن كانا مستويين لا تجوز الهبة، وإن كانا مختلفين تجوز والفرق في (......) تناولت الهبة أحدهما وهو مجهول. وفي الثاني تناولت قدر درهم منهما مشاع لا يحتمل القسمة. وقال فيها أيضا رجلا وهب لرجلين درهما صحيحا تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن تنصيف الدراهم لا يضر، فكان مشاعا يحتمل القسمة، والصحيح أنه لا يجوز لأن الدرهم الصحيح لا يكسر عادة، فكان مشاعا لا يحتمل القسمة.
وفي " التقريب " للقدوري: قد روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لرجلين وهبت منكما هذه الدار لهذا نصفهما صحت الهبة ولو قال وهبتك منك نصف هذه الدار ومن الآخر نصفها لم تصح الهبة؛ لأن في الأول أوقع العقد صفقة، ثم فسر مقتضى الصفقة في القسمة وفي الثاني فرق أحد الإيجابين عن الآخر.
وفي " التحفة ": هبة رجل من رجلين على أربعة أوجه، أحدها: أن يكون العقد مختلفا، والقبض مختلفا. ثانيا: أن يكون العقد معا والقبض مختلفا وكلاهما لا يجوز، وثالثها: أن يكون العقد مختلفا والقبض مغاير. ورابعا: أن يكون كلاهما معا فإن يقولا قبلناها وقبضناها فهما لا يجوز عند أبي حنيفة خلافا لهما، وهبة العين الواحدة لاثنين من اثنين لا يجوز عنده خلافا لهما. ولو كان من واحد لثلاثة جاز عنده خلافا لهما. قال صاحب " المجتبى ": وفيه نظر. ولو وهب لابنيه صغير وكبير لا يجوز بالاتفاق لتفرق القبض.(10/184)
باب ما يصح رجوعه وما لا يصح قال: وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها. وقال الشافعي: لا رجوع فيها لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرجع الواهب في الهبة إلا الوالد فيما يهب لولده» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يصح رجوعه في الهبة وما لا يصح]
م: (باب ما يصح رجوعه وما لا يصح) ش: لما كانت الهبة غير لازمة حتى صح الرجوع فيها احتاج إلى بيان مواضع الرجوع بعقد باب علمها.
م: (قال: وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها) ش: أي في الهبة، والمراد الموهوب لأن الرجوع إنما يكون في حق الأعيان دون الأقوال. ولصحة الرجوع قيود.
الأول: أن يكون لأجنبي وهو هاهنا من لم يكن ذا رحم محرم منه، فخرج منه من كان ذا رحم وليس بمحرم كبني الأعمام والأخوال ومن كان محرما ليس بذي رحم كالأخ الرضاعي.
الثاني: أن يكون قد سلمها إليه لأنه قبل التسليم يجوز مطلقا.
الثالث: أن لا يقترن بشيء من موانع الرجوع، ولعله لم ينبه على القيدين الأخيرين اعتمادا على أنه يفهم ذلك في أثناء كلامه.
م: (وقال الشافعي: لا رجوع فيه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: «لا يرجع الواهب في الهبة إلا الوالد فيما يهب لولده» ش: وبقوله قال مالك وأحمد في ظاهر مذهبه، وفي هبة الوالد لولده عن أحمد في رواية لا يرجع. وعن مالك: إذا رغب راغب في مواصلة الولد بسبب المال الموهوب بأن زوج لأجله أو جهز لابنته لا رجوع فيه. وكذا إذ انتفع الولد به، وفي غير ذلك له الرجوع. وللشافعي في غير الأب من الأصول قولان: أحدهما: لا رجوع لأن الخبر ورد في الأب، وأصحهما أنهم كالأب. وعن مالك لا رجوع لهم سوى الأم. وقال أحمد: لا رجوع لها أيضا فأما غير الأصول من الأقارب كالأخ والعم وسائر الأقارب كالأجنبي.
وقال ابن الجلاب المالكي في كتاب " التفريع ": وكل من وهب هبة فليس فيها رجعة إلا(10/185)
ولأن الرجوع يضاد التمليك والعقد لا يقتضي ما يضاده، بخلاف هبة الوالد لولده على أصله؛ لأنه لم يتم التمليك لكونه جزءا له. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للوالدين خاصة، فإن لهما الرجعة فيما وهباه لولدهما ما لم يتداين أو يتزوج، فإن تداين أو تزوج لم يكن للوالدين في الهبة رجعة، فإن تغيرت الهبة عند الوالد فليس للوالد فيها رجعة، وإن باعها الولد وأخذ ثمنها لم يكن للوالد إلى الثمن فيها سبيل، انتهى.
وفي " وجيز الشافعية ": ولا رجوع فيها إلا للوالد فيما يهب لولده، وفي معناه الولد والجد وكل أصل. وقيل إنه يختص بالأب، وإن تصدق الأب عليه لفقره ففي الرجوع خلاف، وتلف الموهوب أو زال ملك المتهب فات الرجوع ولا يثبت طلب القيمة، وقال المزني: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته وله أن يرجع في هديته، وإن لم يثبت عليها إلا الأب.
وأما الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاووس عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع فأتم عاد في قيئه» ، قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه أحمد في مسنده والطبراني في معجمه والدارقطني في سننه.
م: (ولأن الرجوع يضاد التمليك، والعقد لا يقتضي ما يضاده) ش: فوجب أن يلزم كالبيع م: (بخلاف هبة الوالد لولده على أصله) ش: أي على أصل الشافعي، فإن من أصله أن للأب حق الملك في مال ابنه؛ لأنه جزؤه فالتمليك منه كالتمليك من نفسه من وجه. وقوله: بخلاف إلى آخره جواب عما يقال فهذه العلة موجودة في هبة الوالد للولد، وتقريره إياك نسلم ذلك م: (لأنه لم يتم التمليك لكونه جزءا له) ش: لأن الولد كسبه أو بعضه فلم يتم التمليك كما في الزكاة.
م: (ولنا قوله عليه الصلاة السلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها» ش: قال(10/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأترازي: فيه نظر؛ لأنه من كلام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا من كلام النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد مر ذكره، وأشار به إلى ما ذكره قبل هذا. وحديث الطحاوي عن سليمان عن عبد الرحمن بن زياد عن شعبة عن جابر الجعفي قال: سمعت القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبزى عن علي قال: الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها.
وحديث الكرخي في " مختصره " قال: حدثنا الحضري قال حدثنا يحيى قال: حدثنا شريك عن جابر عن القاسم عن ابن أبزى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها ".
قلت: كيف يقول الأترازي فيه نظر، فكأنه لم يطلع على كتب القوم. وهذا الحديث قد رواه أبو هريرة وابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن ماجه في " الأحكام " عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها» . وأخرجه الدارقطني في " سننه " وابن أبي شيبة في " مصنفه ". وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فله طريقان: أحدهما: عند الطبراني في " معجمه "، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثني أبي قال: وجدت في كتاب أبي عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وهب هبة فهو أحق بهبته ما لم يثب منها، فإن رجع في هبته فهو كالذي يقيء ثم يأكل قيئه» . الطريق الثاني: عند الدارقطني في " سننه " عن إبراهيم ابن أبي يحيى الأسلمي عن محمد بن عبيد الله عن عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وهب هبة فارتجع فيها فهو أحق بها ما لم يثب منها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه» .
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فرواه الحاكم في " المستدرك " حدثنا أحمد بن حازم بن أبي عزرة حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا، ورواه الدارقطني في " سننه ".(10/187)
أي ما لم يعوض، ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة، فثبت له ولاية الفسخ عند فواته؛ إذ العقد يقبله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: قد قال البيهقي غلط فيه عبيد الله بن موسى، والصحيح رواية عبد الله بن وهب عن حنظلة عن سالم عن أبيه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من قوله، وإسناد حديث أبي هريرة أليق، إلا أن فيه إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف عند أهل الحديث، فلا يبعد منه الغلط، والصحيح رواية سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر فرجح الحديث إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قوله وقال ابن القطان في طريق الطبراني: هو لم يصل إلى العزرمي إلا على لسان كذاب وهو إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، فلعل الخيانة منه.
قلت: حديث ابن عمر صحيح مرفوعا، ورواته ثقات، كذا قال عبد الحق في " الأحكام "، وصححه ابن حزم، وكذا قال الحاكم كما ذكرنا، وقد توبع راويه كما أخرجه الدارقطني عن إسماعيل الصفار عن علي بن سهل عن عبيد الله، فلا حمل على شيخ الحاكم، ولا نسلم للبيهقي أنه وهم، بل يحمل على أن لعبيد الله فيه إسنادين ولا يقال يجوز أن يكون المراد به قبل التسليم فلا يكون حجة؛ لأن ذلك لا يصح؛ لأن قوله أحق يدل على أن لغيره حقا فيها، ولا حق لغيره قبل التسليم. ولأنه لو كان كذلك لخلا قوله ما لم يثب منها عن الفائدة، إذ هو أحق قبله وإن شرط العوض.
م: (أي ما لم يعوض) ش: هذا ليس من الحديث، بل هو تفسير لقوله ما لم يثب وهو على صيغة المجهول من الإثابة وهو التعويض، وأصله من الثوب وهو الرجوع. يقال ثاب الرجل يثوب ثوبا وثوبانا.
م: (ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة فثبت له ولاية الفسخ عند فواته) ش: أي فوات المقصود م: (إذ العقد يقبله) ش: أي الفسخ، قيل فيه نظر؛ لأن المقاصد بالهبات مختلفة، فقد يكون المقصود مكافأة الموهوب عن إحسانه، وقد يكون الحامل على الهبة مجرد المحبة، وقد يكون المقصود نسج المودة أو النفع بالبدن أو بالجاه، وتسمى رشوة أو العوض المالي وليس القصد منحصرا في التعويض بالمال، حتى يقال إنه إذا لم يثب من الهبة بالمال، والتعويض غير مشروط أنه يجوز الرجوع فيه، ويمكن أن يجاب عنه بأن المقصود غالبا هو العوض المالي، أشار إليه بقوله: العادة يعني عادة الناس غالبا من هباتهم التعويض بالمال. ولهذا يقال - الأبادي فروض - وقد تأبدت بالشرع، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» والمعروف كالمشروط، والتفاعل يقتضي وجود الفعل من الجانبين.(10/188)
والمراد بما روي نفي استبداد الرجوع وإثباته للوالد؛ لأنه يتملكه للحاجة، وذلك يسمى رجوعا، وقوله في الكتاب: فله الرجوع لبيان الحكم، أما الكراهة فلازمة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: يشكل على هذا ما إذا وهب لعبد ذي الرحم المحرم، فإن له أن يرجع على قول أبي حنيفة ومع أنه ليس من أهل التعويض. وكذا في هبة الفقير.
قلت: هو من أهل أن يعوض بمنافعه التي توجد منه ومن أهل أن يعوض بكسبه عند إذن المولى. وأما الهبة للفقير فعبارة عن الصدقة، وقال صاحب " العناية ": لأن العادة الظاهرة أن الإنسان يهدي إلى من فوقه ليصونه بجاهه، وإلى من دونه ليخدمه وإلى من يساويه ليعوضه.
قلت: فعلى هذا ليس له الرجوع إلا في الثالث ومع هذا له الرجوع في الكل ما لم يعوض.
م: (والمراد بما روي) ش: أراد به الحديث الذي احتج به الشافعي وهو على صيغة المجهول ويجوز صيغة المعلوم بأن يكون الشافعي أعله، وأشار بهذا الكلام إلى الجواب عن هذا الحديث.
تقريره أن المراد به م: (نفي استبداد الرجوع) ش: أي عدم استقلال الواهب بالرجوع من غير قضاء ولا رضاء إلا الوالد إذا احتاج إلى ذلك، فإنه ينفرد بالأخذ لحاجته بلا قضاء ولا رضى، وهو معنى قوله م: (وإثباته) ش: أي إثبات الرجوع م: (للوالد؛ لأنه يتملكه للحاجة) ش: أي يتملك الرجوع عند حاجته من غير مانع لما ذكرنا م: (وذلك يسمى رجوعا) ش: أراد أن رجوع الوالد عند الحاجة إنما يسمى رجوعا باعتبار الظاهر وإن لم يكن رجوعا في الحكم.
قيل: فيه نظر؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أطلق استثناء الوالد ولم يقيد جواز رجوعه فيما وهب لولدها لحاجة فيجب إجراؤه على إطلاقه، وليحصل الفرق بين أخذ من مال ولد ورجوعه فيما وهبه إياه.
وتأويل آخر أن المراد لا يحل الرجوع ديانة ومروءة، وهذا جاء في أكثر الروايات بلفظ لا يحل، فكان بمنزلة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت شبعان وجاره جنبه طاو» أي لا يليق ذلك ديانة ومروءة. وإن كان جائزا في الحكم إذا لم يكن عليه حق واجب، وهكذا يقول لا يليق الرجوع ديانة ومروءة، فيكون مكروها.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول القدوري في كتابه م: (فله الرجوع لبيان الحكم، أما الكراهة) ش: أي في الرجوع م: (فلازمة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» ش: هذا الحديث أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» زاد أبو داود قال قتادة: ولا تعلم القيء إلا حراما.(10/189)
وهذا لاستقباحه ثم للرجوع موانع، ذكر بعضها فقال: إلا أن يعوضه عنها لحصول المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما في بعض نسخ الهداية: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» وهو كذلك في غالب كتب أصحابنا. وهكذا أخرجه البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عباس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» .
م: (وهذا) ش: أي تشبيه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (لاستقباحه) ش: واستقذاره لا في حرمة الرجوع كما زعم الشافعي، ألا ترى أنه قال في رواية أخرى: «كالكلب يعود في قيئه» ، وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة وبه نقول إنه يستقبح.
قيل: قد استدل المصنف على كراهة الرجوع بهذا الحديث الصحيح، ثم يشترطون في جوازه الرضى أو القضاء، وإذا كان الرجوع بالرضى فلا كلام فيه، ولا إشكال، وأما إذا كان بالقضاء فكيف يسوغ للقاضي الإعانة على مثل هذه المعصية، وكيف يكون إعانة على المعصية التي هي معصية أخرى نتيجة للجواز.
وإذا كان الرجوع قبل القضاء غير جائز فبعده كذلك؛ لأن قضاء القاضي لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال، وإنما قضاء القاضي إعانة لصاحب الحق على وصوله إلى حقه، فإذا كان الرجوع في الهبة لا يحل لا يصير بالقضاء حلالًا، والقاضي غير مشرع.
وقد اعترف المصنف بعد ذلك بأن في الأصل الرجوع في الهبة واه، فكيف يسوغ للقاضي الإقدام على أمر واه ضعيف مكروه، ولا يقال إن اشتراط القضاء ليرتفع الخلاف؛ لأن القضاء في مسائل الخلاف إنما يشترطه المخالف في ثبوت الحكم.
م: (ثم للرجوع موانع ذكر بعضها) ش: أي ذكر القدوري بعض الموانع، قيل الموانع سبعة جمعها القائل في قوله: موانع الرجوع في فصل الهبة بسبعة حروف، دمع خزقه، فالدال الزيادة، والميم موت الواهب، والعين العوض، والخاء الخروج عن ملك الموهوب، والزاي الزوجية، والقاف القرابة، والهاء هلاك الموهوب. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في " مبسوطه " أن الموانع تسعة، وذلك لأن الموت على قسمين، موت الواهب وموت الموهوب له، والتاسع التغير من جنس إلى جنس.
م: (فقال) ش: أي القدوري: م: (إلا أن يعوضه عنها) ش: أي إلا أن يعوض الموهوب له الواهب عن الهبة م: (لحصول المقصود) ش: لأن مقصوده كان التعويض وقد حصل، قال أصحابنا: إن العوض الذي يسقط به الرجوع ما شرط في العقد، فأما إذا عوضه بعد العقد لا يسقط الرجوع؛ لأنه غير مستحق على الموهوب له، وإنما تبرع به ليسقط عن نفسه الرجوع فيكون هبة مبتدأة وليس كذلك إذا شرطت في العقد؛ لأنه يوجب أن يصير حكم العقد حكم(10/190)
أو تزيد زيادة متصلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البيع وتتعلق به الشفعة ويرد بالعيب، فدل ذلك أنه قد صار عوضا عنها.
وذكر في " التحفة ": فأما العوض المتأخر عن العقد فهو لإسقاط الرجوع، ولا يصير في معنى المعاوضة لا ابتداء ولا انتهاء م: (أو تزيد) ش: أي العين الموهوبة م: (زيادة متصلة) ش: كالغرس والبناء والسمن، وبه قال أحمد في رواية، وفي أخرى: لا يمنع الرجوع في هبة الوالد لولده.
وقال الشافعي: لا تمنع هذه من الرجوع في موضع الرجوع. وفي " الروضة ": إن كانت الزيادة متصلة كالولد والكسب رجع في الأصل وبقيت الزيادة للمتهب، ولو كان الموهوب ثوبًا فضيعه الابن رجع في الثوب، والابن شريك في الصبغ، ولو قصره أو كان حنطة فطحنها، أو غزلًا فنسجه، فإن لم تزد قيمته رجع ولا شيء للابن وإن زادت. فإن قلنا: القصارة عين فالابن شريك، وإن قلنا أثر فلا شيء له، ولو كان أرضًا فبنى فيها أو غرس رجع الأب في الأرض، وليس له قطع البناء والغراس مجانًا، لكنه يحرس إلا لبقاء بأجرة، أو التمليك بالقيمة أو القلع، وغرامة النقض كالعارية. انتهى.
ومذهب مالك في هذا الفصل أنه يمنع الرجوع كمذهبنا. وقال في " الجواهر " ولو زادت أي العين الموهوبة في عينها أو نقصت منع ذلك في الرجوع فيها. وقال مطرف وابن الماجشون لا يمنع ذلك من اعتبارها، وفيه أيضًا وبغير الهبة في قيمتها تتغير الأسواق لا يمنع من الرجوع فيها. انتهى. وإنما قيد بقوله متصلة؛ لأن المنفصلة لا تمنع الرجوع بلا خلاف، فإن الجارية الموهوبة إذا ولدت كان للواهب الرجوع.
وفي " الذخيرة ": لو ولدت الجارية بعد الهبة يرجع فيها دون الولد. قال أبو يوسف: إنما يرجع فيها إذا استغنى الولد عنها، والمراد بالزيادة في نفس الموهوب له شيء يوجب زيادة في قيمته ما لو زاد في نفسه ولم يوجب ذلك زيادة في قيمته، كما لو طال الغلاء لا يمنع أيضًا تلك الزيادة يوجب نقصا فيه فلا يمنع الرجوع والزيادة من حيث السعر لا يمنع أيضًا، وكذا الحكم في جميع الحيوانات والثمار وغير ذلك ذكره في " المحيط ".
فإن قيل: ما الفرق بين الرد بالعيب والرجوع في الهبة والمتصلة بالعكس؟.
أجيب: بأن الرد في المنفصلة، إما أن يرد على الأصل والزيادة جميعا أو على الأصل ووجد لا سبيل إلى الأول؛ لأن الزيادة أما أن تكون مقصودة بالرد أو بالتبعية والأول أصح؛ لأن العقد لم يرد عليها، والفسخ يرد على مورد العقد وكذلك الثاني؛ لأن الولد بعد الانفصال لا يتبع الأم لا محالة، ولا إلى الثاني لأنه يبقى الزيادة في يد المشتري مجانًا وهو ربا.(10/191)
لأنه لا وجه إلى الرجوع فيها دون الزيادة لعدم الإمكان، ولا مع الزيادة لعدم دخولها تحت العقد.
قال: أو يموت أحد المتعاقدين لأن بموت الموهوب له ينتقل الملك إلى الورثة، فصار كما إذا انتقل في حال حياته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخلاف الرجوع في الهبة، فإن الزيادة لو بقيت في يد الموهوب له مجانًا لم تفض إلى الربا، وأما في المتصلة فلأن الرد بالعيب إنما هو ممن حصلت على ملكه فيه إسقاط حقه برضاه، فلا تكون الزيادة مانعة عنه، بخلاف الرجوع في الهبة، فإن الرجوع ليس برضى ذلك وباختياره فكانت مانعة.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا وجه إلى الرجوع فيها) ش: أي في العين الموهوبة م: (دون الزيادة لعدم الإمكان) ش: الفصل م: (ولا مع الزيادة) ش: أي لا وجه للرجوع أيضًا مع الزيادة م: (لعدم دخولها تحت العقد) ش: أي لعدم دخول الزيادة في العقد، وليست بموهوبة فلم يصح الرجوع فيها، والفصل غير ممكن ليرجع في الأصل دون الزيادة، فامتنع الرجوع أصلًا.
فإن قلت: حق الرجوع ثابت في حق الأصل فيسري إلى أوصافه.
قلت: ثبوت الحكم في التبع ثبوته في الأصل؛ لأنه عرض قائم بالواهب وليس بوصف للمحل، ولا يقال الملك لا يوصف للزوم من أوصافه. وفي " الذخيرة ": الزيادة من حيث الشعر لا تمنع؛ لأنها ليست بزيادة في العين بل هي زيادة رغبات الناس، والعين بحالها، ولو علمه القرآن أو الحرفة أو أسلم أو قضى دينه فهذا لا يمنع عند أبي حنيفة وزفر - رحمهما الله - لأنها ليست بزيادة في العين كالشعر. وعند أبي يوسف ومحمد وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يمنع لأنها زيادة معنوية. ولو اختلفا في الزيادة فالقول للواهب؛ لأنه ينكر لزوم العقد. وعند زفر القول للموهوب له؛ لأنه ينكر حق الواهب في الرجوع.
[موت أحد المتعاقدين من موانع الرجوع في الهبة]
م: (قال: أو يموت أحد المتعاقدين لأن بموت الموهوب له ينتقل الملك إلى الورثة، فصار كما إذا انتقل في حال حياته) ش: لأن الثابت للوارث وإن كان له حكم البقاء فيما يرجع إلى المحل حتى يرد بالعيب ويرد عليه، ولكن في حق المالك هو ملك جديد لأنه صار له بعد أن لم يكن.
وهنا يجب الاستبراء أو يحل له لو كان صدقة، فصار كأنه انتقل إليه في حال حياته، فيمنع الرجوع وبهذا أخرج الجواب عما يقال لم يجعل موت المورث في حق خيار العيب بمنزلة انتقال الملك إلى الورثة وجعل هاهنا بمنزلة انتقاله إليهم.
وتحقيق الجواب: أن التوريث إنما يجري في الأعيان لا في الأوصاف، وفي خيار العيب يستحق المورث سليمًا والذي اشتراه معيبًا وهو الذي انتقل إلى وارثه، فيكون له الخيار في(10/192)
وإذا مات الواهب فوارثه أجنبي عن العقد إذ هو ما أوجبه قال: أو يخرج الهبة عن ملك الموهوب له؛ لأنه حصل بتسليطه فلا ينقضه، ولأنه يتجدد الملك بتجدد سببه.
قال: فإن وهب لآخر أرضا بيضاء فأنبت في ناحية منها نخلا أو بنى بيتا أو دكانا أو أريا وكان ذلك زيادة فيها فليس له أن يرجع في شيء منها؛ لأن هذه زيادة متصلة. وقوله: " وكان ذلك زيادة فيها ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العين. وأما هاهنا فليس له ذلك لأنه يؤدي إلى توريث الخيار وهو وصف محض فلا يصح.
م: (وإذا مات الواهب فوارثه أجنبي عن العقد إذ هو ما أوجبه) ش: أي ما أوجب الملك للموهوب له، فلا يكون له حق الرجوع بالنص؛ لأنه أوجب الرجوع للواهب وهو ليس بواهب.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (أو يخرج الهبة) ش: أي العين الموهوبة وفي بعض النسخ أو يخرج الموهوب م: (عن ملك الموهوب له؛ لأنه حصل بتسليطه) ش: أي لأن خروج ملك الواهب عن ملك الموهوب له حصل بتسليط الواهب م: (فلا ينقضه) ش: لأن سعي الإنسان في نقص ما تم من جهته مردود، م: (ولأنه يتجدد الملك بتجدد سببه) ش: وهو التمليك، وتبدل الملك كتبدل العين لم يكن له الرجوع، فكذا في تبديل السبب.
[وهب لآخر أرضًا بيضاء فنبت فيها وأراد الرجوع]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فإن وهب لآخر أرضًا بيضاء) ش: أراد به أرضًا خالية مكشوفة عن الشواغل م: (فأنبت) ش: أي الموهوب له م: (في ناحية منها نخلًا أو بنى بيتًا أو دكانًا) ش: وهي مصطبة مرتفعة وعرف الناس الدكان هو الذي يسكنه السوقي وهو معروف م: (أو أريًا) ش: بفتح الهمزة وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف، وهو العلف عند العامة وهو مراد الفقهاء، والأري في اللغة مجلس الدابة، وقد يسمى الآخر " رايًا " وهو حبل يشد الدابة في مجلسها، وهو في التقدير فاعل والجمع " الأراري " يخفف ويشدد بقول منه أرأيت للدابة تارية وتاري.
وبالمكان إذا قام به م: (وكان ذلك) ش: الواو للحال، والتقدير والحال أنه قد كان ذلك، والإشارة إلى المذكور من قوله: أنبت في ناحية منها نخلًا إلى آخره.
وفي " الذخيرة ": وإن كان ذلك لا يعد زيادة كلأري أو يعد نقصانا كالتنور في الكشانية لا يمنع الرجوع، قيد به لأن ما لا يكون كذلك أو كان ولكن لعظم المكان بعد زيادة في قطعة منها لا يمنع الرجوع في غيرها.
م: (زيادة فيها) ش: أي في الأرض، وقد أعاد بعض الشراح الضمير إلى الدار وليس كذلك؛ لأن المذكور هو الأرض، وإنما حمله على ما ذكره في " الجامع الصغير " لصدر الإسلام فإنه ذكر فيه.(10/193)
إشارة إلى أن الدكان قد يكون صغيرا حقيرا لا يعد زيادة أصلا، وقد تكون الأرض عظيمة يعد ذلك زيادة في قطعة منها فلا يمتنع الرجوع في غيرها، قال: فإن باع نصفها غير مقسوم رجع في الباقي؛ لأن الامتناع بقدر المانع، وإن لم يبع شيئا منها له أن يرجع في نصفها لأن له أن يرجع في كلها، فكذا في نصفها بالطريقة الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: وكان ذلك فيما يريد بهذا إن بنى دكانًا بعد ذلك زيادة في الدار، وهذا لأن الزيادة في جانب الدار توجب زيادة في كل الدار، فإنه يزداد قيمة بها كل الدار، كما إذا كان في أجدر عينها بياض فتزال البياض فالزيادة في عينها تكون زيادة في كل الجارية وإن كان في موضع خاص كذلك م: (فليس له أن يرجع في شيء منها؛ لأن هذه زيادة متصلة) ش: فالاتصال يمنع الرجوع.
م: (وقوله: " وكان ذلك زيادة فيها " إشارة) ش: بهذا إلى بيان فائدة التقييد في الجامع الصغير بقوله وكان ذلك زيادة فيها م: (إلى أن الدكان قد يكون صغيرا حقيرا لا يعد زيادة أصلًا، وقد تكون الأرض عظيمة بعد ذلك زيادة في قطعة منها فلا يمتنع الرجوع في غيرها) ش: أي في غير القطعة التي فيها الزيادة.
وقال شيخ الإسلام علي الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي ": وهو إذا كانت الأرض صغيرة يزيدها الغرس، فأما إذا كانت كبيرة وغرس في جانب منها ينقطع حق الرجوع في المكان الذي غرس فيه الأشجار فيكون وضع مسألة الكتاب في الأرض الصغيرة.
قال: وإن كانت الهبة دارًا فانهدم البناء كان له أن يرجع في الباقي؛ لأن هذا نقصان في الهبة، والنقصان لا يمنع الرجوع.
وكذلك إذا استهلك بعض الهبة ببيع أو غيره ينقطع حقه في المسجد أو وضع فيه سواري أو بابًا أو حصى ليس له الرجوع؛ لأنه يترك عادة.
ولو وضع فيه حبًا أو علق قنديلا له الرجوع. والنقل والنقب في اللؤلؤة إن كان يزيد في الثمن يسقط الرجوع.
ولو وهبه عبدًا صغيرا شاخ ونقصه قيمته سقط الرجوع؛ لأنه زاد في يده ولو ازدادت قيمته بالنقل إلى بلد آخر سقط بخلاف ما إذا غلا السعر.
1 -
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فإن باع نصفها غير مقسوم) ش: أي إن باع الموهوب له نصف الأرض الموهوبة حال كونه غير مقسوم م: (رجع في الباقي؛ لأن الامتناع بقدر المانع، وإن لم يبع شيئًا منها له أن يرجع في نصفها؛ لأن له أن يرجع في كلها، فكذا في نصفها بالطريقة الأولى) ش: هذا كله ظاهر غني عن زيادة البيان.(10/194)
وإن وهب هبة لذي رحم محرم منه فلا يرجع فيها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وهب لذي رحم محرم منه وأراد الرجوع]
م: (وإن وهب هبة لذي رحم محرم منه فلا يرجع فيها) ش: وبه قالت الثلاثة، وفي هبة أحد الزوجين لآخر لا رجوع فيها أيضًا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية، وفي أخرى يرجع في هبة المرأة لزوجها دون العكس. م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في " مستدركه " في البيوع والدارقطني والبيهقي في " سننهما " عن عبد الله بن جعفر عن عبد الله بن المبارك عن حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها» .
فإن قلت: هذا الحديث ضعفه البيهقي، وقال ابن الجوزي في التحقيق: وعبد الله بن جعفر هذا ضعيف.
قلت: قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ولكن الشيخ تقي الدين تعقبه في الإلمام، وقال: بل هو على شرط الترمذي.
وخطأ صاحب " التنقيح " ابن الجوزي في تضعيفه عبد الله بن جعفر وقال: بل هو ثقة من رجال الصحيحين، ورواة هذا الحديث كلهم ثقات.
فإن قلت: قال البيهقي: حديث الحسن عن سمرة هذا ليس بالقوي.
قلت: قد ذكر هو في كتاب " البيوع " في سننه حديث الحسن عن سمرة «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع الشاة» وصحح إسناده، وقال: قد احتج البخاري بالحسن عن سمرة.
فالعجب كل العجب من البيهقي إذا كان الحديث له يصححه بالإسناد الذي يضعفه عند كونه عليه، والعجب أيضًا من بعض من يتصدى في إلقاء الأنظار في هذا الكتاب أنه قال: هذا الحديث ضعفه البيهقي وسكت على هذا، ومضى ظانًا أنه نظر.
والعجب أيضًا من الأترازي مع دعواه العريضة في الحديث حيث قال في شرحه مثل هذا في قول عمر، وكذلك قال الكاكي، ثم روى حديث آخر ضعيفًا وسكت عن الصحيح وانتصر بالضعيف.(10/195)
ولأن المقصود صلة الرحم وقد حصل. وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر؛ لأن المقصود فيها الصلة كما في القرابة. وإنما ينظر إلى هذا المقصود وقت العقد حتى لو تزوجها بعدما وهب لها فله الرجوع فيها،
ولو أبانها بعدما وهب فلا رجوع.
قال: وإذا قال الموهوب له للواهب خذ هذا عوضا عن هبتك أو بدلا عنها أو في مقابلتها فقبضه الواهب سقط الرجوع لحصول المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن المقصود صلة الرحم وقد حصل) ش: لأن كل عقد أفاد المقصود يلزم، فإن وهب لقن أخيه أو لأخيه القن يرجع خلافًا لهما في الأولى م: (وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر؛ لأن المقصود فيها الصلة كما في القرابة) ش: يعني أن ما يهبها من الزوجين للآخر نظير القرابة بدليل التوارث من الجانبين من غير حجب وعدم قبول الشهادة م: (وإنما ينظر إلى هذا المقصود وقت العقد حتى لو تزوجها بعدما وهب لها فله الرجوع فيها) ش: لوقوع الهبة لأجنبية، وكان مقصوده الغرض ولم يحصل.
[أبان زوجته بعدما وهب لها وأراد الرجوع في الهبة]
م: (ولو أبانها بعدما وهب فلا رجوع) ش: لأنها وقت الهبة زوجته، وفي جامع قاضي خان: وهبت لزوجها ضيعة على أن لا يطلقها وقتًا معلومًا فطلقها قبله فالهبة باطلة، وإن لم يوقت ثم طلقها بعده فالهبة صحيحة؛ لأنه وفى بالشرط.
وقال الإمام الأسبيجابي في شرح " الكافي ": رجل وهب لامرأة هبة ثم تزوجها فله أن يرجع فيها؛ لأنه لم يقع مجازاة ولا صلة، وإن وهب لها هبة ثم أبانها لم يكن له أن يرجع فيها لأنه حصل المقصود بهذه الهبة وهو تحقيق الصلة حال وقوعها فبطل حق الرجوع.
[قال له خذ هذا عوضًا عن هبتك أو بدلًا عنها فقبضه الواهب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا قال الموهوب له للواهب خذ هذا عوضًا عن هبتك أو بدلًا عنها أو في مقابلتها فقبضه الواهب سقط الرجوع لحصول المقصود) ش: الشرط فيه أن يعلم أنه عوض هبة، فإذا لم يعلم أنه عوض هبة فإذا لم يعلم فله الرجوع في هبته والموهوب له في عوضه.
وفي " جامع قاضي خان " و " الفتاوى ": وصورة التعويض أنه يذكر لفظًا يعلم الواهب أنه عوض هبة بأن يقول الموهوب له خذ هذا عوضًا أو جزاء هبتك أو ثواب هبتك أو بدل هبتك، أما إذا لم يعلم كان لكل منهما الرجوع.
وفي " المبسوط ": سواء كان العوض شيئًا قليلًا أو كثيرًا من جنس الهبة أو ممن غير جنسها؛ لأنها ليست معاوضة محضة، فلا يتحقق فيها الربا، ولا بد أن يكون العوض من مال هو غير الموهوب حتى لو عوض شيئًا من الموهوب بأن كانت الهبة ألف درهم واحد من تلك الدراهم لا يجوز، وكذلك لو كانت الهبة دارًا والعوض بيت منها لا يجوز، وعند زفر يجوز ويشترط(10/196)
وهذه العبارات تؤدي إلى معنى واحد،
وإن عوضه أجنبي عن الموهوب له متبرعا فقبض الواهب العوض بطل الرجوع؛ لأن العوض لإسقاط الحق فيصح من الأجنبي كبدل الخلع والصلح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرائط الهبة في العوض في القبض والإقرار لأنه تبرع م: (وهذه العبارات تؤدي إلى معنى واحد) ش: لأن هذه الألفاظ كلها تدل على المكافأة، فحصل مقصود الواهب وانقطع الرجوع.
م: (وإن عوضه أجنبي عن الموهوب له متبرعًا) ش: أي حال كونه متبرعًا، هذا ليس بقيد فإن الحكم في غير المتبرع كذلك، حتى لو عوضه الأجنبي بأمر الموهوب له عوضه بشرط أن يرجع على الموهوب له بطل الرجوع، وإنما ذكره ليعلم بطلان الرجوع في غير المتبرع بالطريق الأولى، ولكن لو عوضه بأمر الموهوب له لا يرجع بالعوض عليه إلا أن يضمنه الموهوب له صريحًا، بخلاف قضاء الدين، فإنه لو قضى دينًا آخر بأمره يرجع عليه سواء ضمنه صريحًا أو لا.
والفرق أن الأداء في قضاء الدين مستحق عليه، فكان في الأمر بلا أداء إسقاط المطالبة لمال مستحق، فيملك ما في ذمته فيرجع عليه، أما العوض في الهبة غير مستحق على الموهوب له فإنما أمره بأن يتبرع عنه بمال نفسه، والتبرع بمال نفسه على غيره لا يثبت حق الرجوع من غير ضمان.
وقال الكرخي في " مختصره ": لو عوض رجل أجنبي عن الموهوب له الواهب عن هبته وقبض العوض لم يكن للواهب أن يرجع في هبته، سواء عوض بأمر الموهوب له أو بغير أمره، ولا للمعوض أيضًا أن يرجع في العوض على الواهب ولا على الموهوب له.
وقال شمس الأئمة البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكفاية ": ولا يرجع على الموهوب إلا إذا قال عوض عني على أني ضامن م: (فقبض الواهب العوض بطل الرجوع؛ لأن العوض لإسقاط الحق فيصح من الأجنبي) ش: أي لإسقاط حق الرجوع لا لتمليك العين م: (كبدل الخلع والصلح) ش: أي من الأجنبي فإن المرأة تستفيد ببدل الخلع سقوط ملك الزوج عنها.
فجاز أن يكون البدل على الأجنبي وكذلك الصلح عن إنكار؛ لأنه لما يسلم للمصالح سوى سقوط حق الخصوم يجوز أن يجب بدل الصلح على الأجنبي حق ابتداء بدون أن يجب عليه، وكذلك الصلح عن دم العمد؛ لأنه إسقاط، أو كان الصلح عن دين سواء كان بإقرار أو إنكار.
وفي " المبسوط " قال: كصلح الأجنبي مع صاحب الدين من دينه على مال نفسه يجوز ويسقط به الدين عن المديون، وهذا مثله.(10/197)
وإذا استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض لأنه لم يسلم له ما يقابل نصفه. وإن استحق نصف العوض لم يرجع في الهبة إلا أن يرد ما بقي ثم يرجع. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع بالنصف اعتبارا بالعوض الآخر، ولنا أنه يصلح عوضا للكل من الابتداء وبالاستحقاق ظهر أنه لا عوض إلا هو، إلا أنه يتخير؛ لأنه ما أسقط حقه في الرجوع إلا ليسلم له كل العوض، ولم يسلم له فله أن يرده. قال: وإن وهب دارا فعوضه عن نصفها رجع الواهب في النصف الذي لم يعوض؛ لأن المانع خص النصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو استحق نصف الهبة]
م: (وإذا استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض لأنه لم يسلم له ما يقابل نصفه. وإن استحق نصف العوض لم يرجع في الهبة إلا أن يرد ما بقي) ش: أي من العوض م: (ثم يرجع وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرجع بالنصف اعتبارًا بالعوض الآخر) ش: وهو الهبة، وهو قاس أحد العوضين على الآخر؛ لأن كل واحد منهما مقابل بالآخر، كما في بيع العوض بالعوض، فإنه إذا استحق بعض أحدهما يكون للمستحق عليه أن يرجع على صاحبه بما يقابله.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن الباقي م: (يصلح عوضا للكل من الابتداء) ش: وما يصلح أن يكون عوضا عن الكل من الابتداء، يصلح أن يكون عوضا عنه في البقاء؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء م: (وبالاستحقاق ظهر أنه لا عوض إلا هو) ش: أي الباقي.
وعورض بأن الغرض أنه عوض وأجزاء العوض ينقسم على أجزاء المعوض، فإذا كان الكل في الابتداء أعواضا عن الكل كان النصف في مقابلة النصف فكان عوضا عن النصف ابتداء.
وأجيب: بأن ذلك في المبادلات تحقيقا لها، وما نحن فيه ليس كذلك فليس له ذلك الرجوع في شيء من الهبة مع السلامة جزء من العوض لما ذكرنا من الدليل، بخلاف ما إذا كان العوض مشروطا لأنها تتم مبادلة فيودع البدل على المبدل.
والجواب عن قياس زفر أن المعوض يملك الواهب العوض في مقابلة الموهوب قطعا فاعتبر المقابلة والانقسام. وأما الواهب فيملك الهبة ابتداء من غير أن يقابله بشيء ثم أخذ العوض علة لسقوط حق الرجوع، والعلة لا تنقسم على أجزاء الحكم.
م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الواهب م: (يتخير) ش: بين أن يرد ما بقي من العوض ويرجع في الهبة وبين أن يمسكه ولا يرجع بشيء م: (لأنه ما أسقط حقه في الرجوع إلا ليسلم له كل العوض، ولم يسلم له فله أن يرده) ش: أي يرد ما بقي من العوض.
م: (قال: وإن وهب دارا فعوضه عن نصفها رجع الواهب في النصف الذي لم يعوض لأن المانع خص النصف) ش: وغاية ما في الباب أنه لزم من ذلك الشيوع لكنه طارئ فلا يضر كما لو رجع(10/198)
قال: ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم؛ لأنه مختلف بين العلماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في النصف بلا عوض.
فإن قيل: قد تقدم أن العوض لإسقاط الحق فوجب أن يعمل الكل لئلا يلزم تجزؤ الإسقاط كما في الطلاق.
أجيب: بأنه ليس بإسقاط من كل وجه لما تقدم أن فيه معنى المقابلة، فيجوز التجزي باعتباره، بخلاف الطلاق.
[لا يصح الرجوع في الهبة إلا بالبتراضي]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يصح الرجوع) ش: أي في الهبة م: (إلا بتراضيهما) ش: أي بتراضي الواهب والموهوب له م: (أو بحكم الحاكم) ش: أراد أن الواهب يرفع أمره إلى الحاكم ليحكم على الموهوب له بالرد إليه، حتى لو استردها بغير قضاء ولا رضاء كان غاصبا، ولو هلك في يده يضمن قيمته للموهوب له.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يجوز الرجوع في موضع له الرجوع بدون القضاء أو الرضى.
وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في شرح مختصره " الكافي ": ليس للواهب أن يرجع في هبته عند غير قاض؛ لأن العقد انعقد بتراضيهما، فلا ينفرد بالفسخ لعدم ولايته، وإذا فسخ لا ينفسخ إلا بتراضيهما على الفسخ، فيلزمهما بتراضيهما. انتهى.
واختلف المشايخ في معنى قولهم: لا يصح الرجوع إلا بقضاء أو تراض، فمنهم من قال: لأن الرجوع في الهبة مختلف فيه، كما ذكره المصنف، ومنهم من قال: إنما لم يكن للواهب أن يرجع بغير قضاء أو تراض؛ لأن الموهوب له ملك الهبة بالقبض رقبة وتصرفا، فلا يثبت إلا بهما، كما في الرد بالعيب بعد القبض، بخلاف من له خيار الرؤية، حيث ينفرد بالفسخ بعد القبض؛ لأن ما ثبت لفوات مقصود من مقاصد العقد.
ومنهم من قال: بأن الواهب في الرجوع مستوف بدل حقه بعد وقوع الملك للموهوب له رقبة وتصرفا لا يكون إلا بقضاء أو رضاء كما في الرد بالعيب، وكصاحب الدين إذا أراد أن يأخذ دينه من جنس آخر من مال المديون لا يملك إلا بقضاء أو رضاء، بخلاف خيار الرؤية وخيار الشرط، فإن من له الخيار ينفرد بالفسخ من غير قضاء ولا رضى لأنه بالفسخ مستوف عين حقه؛ لأنه لم يثبت هذا الخيار لفوات مقصود من مقاصد العقد، كذا في " المبسوط ".
م: (لأنه) ش: أي لأن الرجوع في الهبة م: (مختلف بين العلماء) ش: قال بعض الشراح منهم تاج الشريعة: لأن له الرجوع عندنا خلافا للشافعي فكان ضعيفا، فلم يعمل بنفسه في(10/199)
وفي أصله وهاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إيجاب حكمه وهو الفسخ ما لم ينضم إليه قرينة ليتقوى بها.
وقال صاحب " العناية ": فيه نظر، والمخلص حمله على اختلاف الصحابة إن ثبت.
قلت: نظيره وارد؛ لأن مذهب أبي حنيفة بالرجوع قد تقرر قبل الشافعي وأمثاله، وكيف يكون اختلاف من لم يوجد وقت اجتهاد المجتهد سببا لكونه ضعيفا، ولكن قوله إن ثبت منه وكيف يقول ذلك بالشك وهو مذهب جماعة من الصاحبة كعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وأخرج ابن أبي شيبه في مصنفه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: هو أحق بها ما لم يعوض منها الهبة، يعني الهبة، وصححه ابن حزم، وقال: لا مخالف لهم من الصحابة.
وأخرج البيهقي من حديث حنظلة عن سالم عن أبيه عن عمر - رضى الله عنه -: من وهب هبة فهو أحق بها، ثم كلام ابن حزم يخدش كلام صاحب " العناية " أيضا؛ لأنه ادعى أنه لا مخالف من الصحابة فمن ذهب منهم إلى الرجوع فحينئذ يتعين على كلامه مختلف بين العلماء من التابعين.
م: (وفي أصله) ش: أي وفي أصل الرجوع م: (وهاء) ش: أي ضعف؛ لأنه ثبت بخلاف القياس لكونه تصرفا في ملك الغير، وهذا يبطل بالزيادة المتصلة وبغيرها من الموانع.
قال السغناقي وتبعه الأترازي والكاكي ناقلين عن " المغرب ": إن وهاء بالمد خطأ وإنما هي الوهي مصدر وهى الجمل وهى وهيا إذا ضعف. وقال صاحب " العناية ": وهو خطأ؛ لأن من المقصور السماعي ليس بخطأ وتخطئة ما ليس بخطأ خطأ.
قلت: قال الجوهري: وهى السقاء وهى وهيا إذا تخرق وانشق. وفي السقاء وهي بالتسكين ووهية على التصغير، وهو خرق قليل وهى الحائط إذا ضعف وهم بالسقوط انتهى.
فهذا كما ترى من باب فعل يفعل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع نحو رمى يرمي، ومصدر هذا الباب يأتي على وزن فعل بفتح الفاء وسكون العين نحو رمى يرمي رميا، ووعى يعي وعيا.
فصاحب " المغرب " يصيب من وجه في قوله وإنما هي الوهي يعني بتسكين العين، ومخطئ من وجه في قوله وهاء بالمد خطأ؛ لأن هذا أيضا مصدر على وزن فعال كما تقول في قلى يقلي قلاء فقلاء على وزن فعال، ووهاء كذلك، وقد قال الجوهري القلي البعض، فإن فتحت القاف مددت نقول قلاه يقليه قلى وقلاء.(10/200)
وفي حصول المقصود وعدمه خفاء، فلا بد من الفصل بالرضاء أو بالقضاء حتى لو كانت الهبة عبدا فأعتقه قبل القضاء نقد، ولو منعه فهلك لا يضمن لقيام ملكه فيه، وكذا إذا هلك في يده بعد القضاء؛ لأن أول القبض غير مضمون وهذا دوام عليه إلا أن يمنعه بعد طلبه؛ لأنه تعد، وإذا رجع بالقضاء أو بالتراضي يكون فسخا من الأصل، حتى لا يشترط قبض الواهب
ويصح في الشائع؛ لأن العقد وقع جائزا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقول صاحب " العناية ": لأن مد المقصور السماعي ليس بخطأ، خطأ؛ لأن جواز مد المقصور السماعي مبني على وجود المقصور حتى يمد، والمصدر بناء على وزن فعل بالتسكين، فمن أين يأتي المد. نعم هذا الذي ذكره إنما يكون إذا كان المصدر على وزن فعل بتحريك العين على أن قصر الممدود أو مد المقصور من ضرورات الأشعار فافهم. فحينئذ ينبغي أن يقدر أو في أصله وهي بالتسكين أو وهاء بالمد وقد وقع في نسخ الهداية كلاهما وكلاهما صحيح بما ذكرنا، والخطأ وهي بتحريك العين والقصر، وهكذا هو التحقيق وافتراء الخطأ والتخبط من التقليد.
م: (وفي حصول المقصود وعدمه خفاء) ش: لأن مقصوده منها إن كان الثواب فقد حصل وكذا إن كان غرضه إظهار الجود والسماحة، وإن كان القرض لم يحصل فعل الوجهين الأولين ليس له الرجوع لحصول المقصود، وعلى الوجه الأخير له الرجوع، فلما تردد أمره احتاج إلى القضاء ليترجح جانب الرجوع على عدمه م: (فلا بد من الفضل بالرضاء أو بالقضاء حتى لو كانت الهبة عبدا فأعتقه) ش: أي الموهوب له م: (قبل القضاء نقد) ش: أي انتقد م: (ولو منعه) ش: أي الموهوب له من الواهب م: (فهلك لا يضمن لقيام ملكه فيه) ش: أي ملك الموهوب له في الموهوب.
م: (وكذا إذا هلك في يده بعد القضاء) ش: أي وكذا لا يضمن الموهوب به إذا هلك الموهوب في يده بعد قضاء القاضي بالرجوع قبل الطلب م: (لأن أول القبض غير مضمون وهذا دوام عليه) ش: أي المتحقق بعد القضاء أو على القبض الذي لم ينعقد سببه للضمان عليه م: (إلا أن يمنعه بعد طلبه لأنه تعد) ش: إلا أن يمنع الموهوب عن الواهب بعد طلبه عند القضاء بالرجوع؛ لأن منعه حينئذ تعد م: (وإذا رجع بالقضاء أو بالتراضي يكون فسخا من الأصل) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وقال زفر: الرجوع بغير القضاء بمنزلة الهبة المبتدأ لعود الملك إليه بتراضيهما فيعتبر عقدا جديدا في حق ثالث فأشبه الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء م: (حتى لا يشترط قبض الواهب) ش: يعني بعد الرجوع، فلو كان كالهبة المبتدأة مثل ما قال زفر شرط القبض.
[الرجوع في الشائع من الهبة]
م: (ويصح في الشائع) ش: يعني يصح الرجوع في الشائع إن رجع عن نصفه، ولو كان كالهبة المبتدأة لما صح الرجوع في النصف الشيوع م: (لأن العقد وقع جائزا) ش: هذا دليل على المطلوب، تقريره أن هذا العقد وقع جائزا غير لازم.(10/201)
موجبا حتى الفسخ من الأصل، فكان بالفسخ مستوفيا حقا ثابتا له، فيظهر على الإطلاق بخلاف الرد بالعيب بعد القبض؛ لأن الحق هناك في وصف السلامة لا في الفسخ فافترقا.
قال: وإذا تلفت العين الموهوبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (موجبا حتى الفسخ من الأصل) ش: لثبوت حق الرجوع م: (فكان بالفسخ مستوفيا حقا ثابتا له، فيظهر على الإطلاق) ش: يعني سواء كان بالتراضي أو بالقضاء؛ لأنهما يفعلان بالتراضي ما يفعل القاضي وهو الفسخ، فيظهر على الإطلاق.
وفسر تاج الشريعة قوله: على الإطلاق، بقوله: أي في الشائع وغيره وفي المقبوض وغير المقبوض، والذي ذكرنا هو أقرب، وهو الذي ذكره بقية الشراح، يظهر ذلك بالتأمل، ولا يلزم على هذا الرد في المرض، فإنه لو رد في مرضه بغير قضاء يعتبر من الثلث ولو كان الرد بالتراضي فسخا من الأصل لاعتبر ذلك من جميع ماله كما في الرد بالقضاء؛ لأن فيه روايتين.
وذكر ابن سماعة فيه القياس والاستحسان، في القياس يعتبر من جميع ماله.
وفي الاستحسان من الثلث؛ لأنه تمليك مبتدأ، ولكن الرد في مرضه باختياره تم بالقصد إلى إبطال حق الورثة عما يعلق حقهم فللرد قصد يعتبر من الثلث، لا لأنه تمليك مبتدأ، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف الرد) ش: هذا جواب عن قياس زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وتقريره أن الرد م: (بالعيب بعد القبض) ش: إنما يكون في صورة القضاء خاصة م: (لأن الحق هناك في وصف السلامة) ش: حتى لو زال العيب قبل رد المبيع بطل الرد السلامة حقه له م: (لا في الفسخ) ش: لأن العيب لا يمنع تمام العقد، فإذا كان ثابتا لم يقتض الفسخ، فإذا تراضيا على ما لم يقتضه العقد من رفعه كان ذلك كابتداء عقد بينهما، وأما القاضي فإنما يقضي أولا بما يقتضيه العقد من وصف السلامة، فإن عجز البائع قضى بالفسخ فلم يكن ما ثبت بالتراضي عين ما ثبت بالقضاء.
م: (فافترقا) ش: أي الرجوع التراضي والرد بالعيب بعد القبض بالتراضي، وإنما قيد بقوله بعد القبض لأن الرد بالعيب قبل القبض فسخ من الأصل سواء كان بالقضاء أو بالرضاء. وفائدة هذا أنه لو وهب لإنسان فوهب الموهوب له لآخر ثم رجع الثاني في هبته كان للأول أن يرجع، سواء رجع الثاني بقضاء أو بغيره خلافا لزفر في غيره، وإذا رد المبيع بعيب على البائع قبل القبض فللبائع أن يرده على بائعه كذلك، وبعد القبض إن كان بقضاء فكذلك، وإن كان بغيره فليس له ذلك.
[الحكم لو تلفت الهبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا تلفت العين الموهوبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له(10/202)
لم يرجع على الواهب بشيء؛ لأنه عقد تبرع فلا يستحق فيه السلامة وهو غير عامل له، والغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب للرجوع لا في ضمن غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يرجع على الواهب بشيء؛ لأنه عقد تبرع فلا يستحق فيه السلامة) ش: لأنه لم يلزمها لا صريحا وهو ظاهر، ولا دلالة؛ لأنه ما سلم له شيء بخلاف المعاوضة؛ لأنه سلم له البدل فيكون ملتزما سلامة البدل م: (وهو غير عامل له) ش: أي الموهوب له غير عامل للواهب، واحترز به عن المودع.
فإنه يرجع على المودع بما ضمن؛ لأنه عامل للمودع في ذلك القبض بحفظهما لأجله. وعن المضارب إذا اشترى شيئا بمال المضاربة ثم استحق رأس المال فضمنه المستحق فإن المضارب يرجع على رب المال؛ لأنه عامل له.
[الغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب للرجوع]
م: (والغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب للرجوع) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال إنه غره بإيجاب الملك له في المحل، واختياره بأنه ملك والغرور يوجب الضمان كالبائع إذا غر المشتري. وتقرير الجواب أن الغرور لا يكون سببا للرجوع في غير المعاوضة كالبيع ونحوه م: (لا في ضمن غيره) ش: أي لا يكون الغرور سببا للرجوع وغير المعاوضة كمن أخبر إنسانا بأمن الطريق فسلك فيه فأخذه اللصوص لم يرجع على المخبر بشيء.
فعلم أن حق الرجوع إنما يثبت باعتبار عقد المعاوضة، حتى لو ضمن الواهب سلامة الموهوب للموهوب له نصا يرجع على الواهب، ذكره في " الذخيرة ". وهذا لو وهب الغاصب ما غصب أو باع أو تصدق أو أجر أو رهن أو أودع أو أعار فهلك ضمنوا ولا يرجع الموهوب على الغاصب والمتصدق عليه على الغاصب، ويرجع المستأجر والمرتهن، ويرجع المشتري بالثمن ولا يرجع السارق من الغاصب ولا غاصب الغاصب، كذا في " فصول الإستروبشتي ".
فإن قلت: لم قال والغرور في ضمن عقد المعاوضة ولم يقل في عقد المعاوضة، فهل في زيادة لفظه ضمن فائدة؟
قلت: نعم فإن في ولد المغرور يرجع بالقيمة على البائع وإن لم توجد المعاوضة في الولد، ولكنه غرور في ضمن عقد المعاوضة فكان أن عقد المعاوضة بسبب الضمان فكذلك ما كان في ضمنه؛ لأن المتضمن يكتسي كسوة التضمين.
فإن قلت: المودع يرجع على المودع بما ضمن، مع أن عقد المعاوضة لم يوجد.
قلت: هذا ليس على الغرور، بل بناء على أنه عامل له كما تقدم آنفا. وقال الكاكي: وقوله والغرور، إلى آخره جواب عما قال الشافعي أنه يرجع على الواهب؛ لأنه غره بالهبة كالبائع إذا غر المشتري.(10/203)
قال: وإذا وهب بشرط العوض اعتبر التقابض في المجلس في العوضين وتبطل بالشيوع؛ لأنه هبة ابتداء، فإن تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع يرد بالعيب وخيار الرؤية وتستحق فيه الشفعة؛ لأنه بيع انتهاء. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - هو بيع ابتداء وانتهاء لأن فيه معنى البيع وهو التمليك بعوض، والعبرة في العقود للمعاني، ولهذا كان بيع العبد من نفسه إعتاقا. ولنا أنه اشتمل على جهتين فيجمع بينهما ما أمكن عملا بالشبهين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا ليس بظاهر على أن أكثر كتب الشافعية ناطقة، بخلاف ما ذكره. وقال الأترازي: في قول المصنف نظر؛ لأن المودع بما ضمنه لكونه يرجع مع أن عقد المعاوضة لم يوجد.
قلت: لقائل أن يقول رجوع المودع بما ضمنه لكونه عاملا للمودع لا للغرور كما ذكرناه.
[الهبة بشرط العوض]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا وهب بشرط العوض) ش: مثل أن يقول وهبتك هذا العبد على أن تهب لي هذا العبد. قال المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا ما ذكره بكلمة على. مثل ما ذكرناه أما لو ذكره بحرف الباء بأن قال وهبتك بهذا الثوب أو بألف درهم وقبله الآخر يكون بيعا ابتداء أو انتهاء بالإجماع م: (اعتبر التقابض في المجلس في العوضين) ش: حتى لو لم يوجد لا يثبت الملك لواحد منهما م: (وتبطل بالشيوع؛ لأنه هبة ابتداء. فإن تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع، يرد بالعيب وخيار الرؤية وتستحق فيه الشفعة لأنه بيع انتهاء) ش: وإن كان هبة ابتداء.
م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: هو بيع ابتداء وانتهاء؛ لأن فيه معنى البيع وهو التمليك بعوض، والعبرة في العقود للمعاني) ش: وبه قال مالك وأحمد، ألا ترى أن الكفالة له بشرط براءة الأصل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصل كفالة. ولو وهب ابنته لرجل كان نكاحا.
ولو وهب عبد لنفسه كان إعتاقا، ولو وهب الدين لمن عليه كان إبراء فاللفظ واحد والعقود مختلفة لاختلاف المعنى والمقصود.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الهبة المذكورة بيعا مطلقا م: (كان بيع العبد) ش: أي بيع المولى للعبد بالمصدر مضاف إلى مفعوله وطوى ذكر الفاعل م: (من نفسه إعتاقا) ش: بأن قال لعبده بعتك نفسك منك بألف درهم مثلا يكون إعتاقا للعبد.
م: (ولنا أنه اشتمل على جهتين) ش: أي جهة الهبة لفظا وجهة البيع معنى م: (فيجمع بينهما ما أمكن عملا بالشبهين) ش: لأن كل ما يشتمل على جهتين وأمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما؛ لأن إعمال الشبهين لو وجد أولى من إهمال أحدهما كالإقالة لما اشتملت على معنى البيع والفسخ جمع بينهما.(10/204)
وقد أمكن؛ لأن الهبة من حكمها تأخر الملك إلى القبض وقد يتراخى عن البيع الفاسد والبيع من حكمه اللزوم، وقد تنقلب الهبة لازمة بالتعويض فجمعنا بينهما، بخلاف بيع نفس العبد من نفسه؛ لأنه لا يمكن اعتبار البيع فيه، إذ هو لا يصلح مالكا لنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما اشتماله على الجهتين فظاهر، وأما إمكان الجمع بينهما فلما ذكره بقوله م: (وقد أمكن) ش: أي الجمع بينهما م: (لأن الهبة من حكمها تأخر الملك إلى القبض) ش: وقد يوجد ذلك في البيع، أشار إليه بقوله م: (وقد يتراخى) ش: أي الملك م: (عن البيع الفاسد والبيع) ش: أي والحال أن البيع م: (من حكمه اللزوم) ش: وبهذا ظهرت المناسبة بين البيع والهبة م: (وقد تنقلب الهبة لازمة بالتعويض) ش: يعني إذا قبض العوض م: (فجمعنا بينهما) ش: أي إذا كانت المناسبة بينهما متحققة جمعنا بينهما.
فإن قيل: المنافاة هنا ثابتة لأن قضية البيع اللزوم وترتب الملك عليه بلا فصل وحكم الهبة على عكسه، وتنافي الملازمين مستلزم لنا في الملزومين فتحقق المنافاة بين البيع والهبة ضرورة.
أجيب: بأن البيع قد يكون غير لازم كالبيع بالخيار وقد لا يترتب الملك عليه كما في البيع الفاسد لتوقفه على القبض فلم يكن اللزوم، والترتب من لوازمه ضرورة والهبة قد تقع لازمة كهبة القريب وبالعوض، وقد يترتب الملك عليها بلا فصل كما لو كانت الهبة في يد الموهوب له فلم يكن عدم اللزوم وعدم الترتيب من لوازمه ضرورة على أن المستحيل الجمع بين المتنافيين في حالة واحدة، فأما إذا جعلناها هبة ابتداء وبيعا انتهاء فلا.
م: (بخلاف بيع نفس العبد من نفسه) ش: هذا جواب عما قاله زفر والشافعي من قولهما، ولهذا كان بيع العبد من نفسه إعتاقا وتقريره أن بيع العبد من نفسه إنما جعل إعتاقا م: (لأنه لا يمكن اعتبار البيع فيه إذ هو لا يصلح مالكا لنفسه) ش: لأنه لا يملك غيره مالا فكيف يملك نفسه مالا.(10/205)
فصل قال: ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يعمل إلا في محل يعمل فيه العقد، والهبة لا تعمل في الحمل لكونه وصفا على ما بيناه في البيوع فانقلب شرطا فاسدا، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وهذا هو الحكم في النكاح والخلع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل من وهب جارية إلا حملها]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل، لما كانت مسائل هذا الفصل متعلقة بالهبة بنوع من التعلق ذكرها في فصل على حدة.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يعمل إلا في محل يعمل فيه العقد، والهبة لا تعمل في الحمل) ش: بأن وهب حمل الجارية دونها، فإنه لا يجوز م: (لكونه وصفا) ش: أي لكون الحمل وصفا لها كأطرافها من اليد والرجل فلا يكون من جنسها فلا يصح استثناؤه؛ لأن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، وأيضا العقد لا يرد على الأوصاف مقصودا حتى لو وهب الحمل لا يصح، فكذا إذا استثنى.
م: (على ما بيناه في البيوع) ش: أي في الفصل المتصل بأول كتاب البيع م: (فانقلب شرطا فاسدا) ش: يعني إذا لم يكن الاستثناء عاملا انقلب شرطا فاسدا؛ لأن اسم الجارية يتناول الحمل تبعا لكونه جزءا منها، فلما استثنى كل كان الاستثناء مخالفا لمقتضى العقد، وهو معنى الشرط الفاسد م: (والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة) ش: لأن الملك في الهبة معلق بفعل حسي وهو القبض، والفعل الحسي لا يبطل بالشرط الفاسد، وإنما الشرط الفاسد يؤثر في العقود الشرعية؛ لأن الحسيات إذا وجدت لا مرد لها، فلا يمكن أن يجعل عدما.
فإن قيل: ما الفرق بين الحمل وبين الصوف على الظهر واللبن في الضرع، فإنه إذا وهب الصوف على ظهر الغنم وأمره بجزه أو اللبن في الضرع وحلبه وقبض الموهوب له، فإنه جائز استحسانا دون الحمل.
الجواب: أن ما في البطن ليس بمال أصلا، ولا يعلم وجوده حقيقة، بخلاف الصوف واللبن. ومن أصحابنا من قال: إن أمره في الحمل بقبضه بعد الولادة فقبض ينبغي أن يجوز استحسانا، والأصح أنه لا يجوز خلافا لأحمد وأبي ثور، فإن عندهما يصح الاستثناء وتصح الهبة في الإماء دون الولد.
م: (وهذا هو الحكم) ش: أي صحة العقد وبطلان الاستثناء هو الحكم م: (في النكاح) ش: بأن قال تزوجتك على هذه الجارية إلا حملها يبطل الاستثناء حتى تصير الجارية مع الحمل مهرا م: (والخلع) ش: بأن جعلت الجارية الحامل بدل الخلع، واستثنت الحمل تكون الجارية والحمل بدل(10/206)
والصلح عن دم العمد لأنها لا تبطل بالشروط الفاسدة. بخلاف البيع والإجارة والرهن لأنها تبطل بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخلع م: (والصلح عن دم العمد) ش: بأن قال صالحتك، وعلى هذا الجارية إلا حملها م: (لأنها لا تبطل بالشروط الفاسدة) ش: أي لأن هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة كالهبة.
م: (بخلاف البيع والإجارة والرهن لأنها تبطل بها) ش: أي بالشروط الفاسدة بأن اشترى جارية أو أجرها أو رهنها إلا حملها فإنه لا يصح لما قلنا.
فإن قلت: ينبغي أن لا يفسد الرهن بالشرط فالهبة لتوقف عقد الرهن على القبض، وهو فعل حسي.
قلت: القبض في باب الرهن حكم للرهن؛ لأن حكمه ثبوت يد الاستيفاء، وحكم العقد يضاف إلى العقد، والشرط الفاسد يؤثر في العقد، أما في الهبة الحكم هو الملك والملك يثبت بالقبض، فكان القبض حكم ركن العلة، والفساد لا يؤثر في الركن فلغى الشرط، كذا في الإيضاح، قال السغناقي: كأنه أراد بالركن غير العقد كما في أركان العبادات، انتهى.
فهذا كما قد علمت ذكر المصنف القسمين في الاستثناء، أحدهما ما يجوز فيه أصل العقد ويبطل الاستثناء، والآخر ما يبطلان فيه جميعا، وبقي قسم ثالث لم يذكره، وهو ما يصح فيهما جميعا كالوصية؛ لأن إفراد الحمل بالوصية جائز، فكذا استثناؤه. ذكر في " شرح الطحاوي ": أن هذه ثلاث مراتب، الأولى: العقد والاستثناء فاسدان نحو البيع والإجازة والكتابة والرهن.
الثانية: العقد جائز والاستثناء فاسد نحو الهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح في دم العمد، ويدخل في العقد الأم والولد جميعا، وكذلك العتق إذا أعتق الجارية واستثنى ما في بطنها صح العتق ولم يصح الاستثناء.
الثالثة: العقد والاستثناء صحيحان نحو الوصية إذا أوصى الرجل بجارية واستثنى ما في بطنها فإنه يصح، وليس هذا كما إذا أوصى بجارية واستثنى خدمتها وغلتها للورثة فالوصية صحيحة والاستثناء باطل؛ لأن الخدمة والغلة لا تجري فيها الميراث دون الأصل، ألا ترى أنه لو أوصى بخدمتها وغلتها لإنسان ثم مات الموصى له بعدما صحت الوصية فإنهما يعودان إلى ورثة الموصي فلا تكون الخدمة موروثة عن الموصى له ولو وقع العقود على ما في البطن، أما عقد البيع فلا يجوز، وكذلك الكتابة عليه لا يجوز وإن قبلت الأم عنه، وكذلك الهبة والصدقة لا يجوز وإن سلم الأم إلى الموهوب له، ولو تزوج عليها فالقسمة باطلة ويجب مهر المثل.
ولو صالح عن القصاص على ما في البطن فإن الصلح صحيح ويبطل القصاص والتسمية(10/207)
ولو أعتق ما في بطنها ثم وهبها جاز؛ لأنه لم يبق الجنين على ملكه فأشبه الاستثناء. ولو دبر ما في بطنها ثم وهبها لم يجز؛ لأن الحمل بقي على ملكه فلم يكن شبيه الاستثناء، ولا يمكن تنفيذ الهبة فيه لمكان التدبير فبقي هبة المشاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باطلة، ويكون للمولى على القاتل الدية، وإنما جاز عتق ما في البطن؛ لأن العتق ينافي وما في البطن موقوف، فكذا الوصية بما في البطن يصح إذا علم وجوده وقت الوصية؛ لأن الوصية أخت الميراث، والميراث تجري فيه فكذا الوصية.
ولو خالع امرأته على ما في بطن جاريتها فالخلع واقع وللزوج الولد إذا كان موجودا في البطن وقت الخلع، وإن لم يكن موجودا كما إذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا فلا سبيل للزوج على ما في البطن ولكنه ينظر إن قالت اخلعني على ما في بطن جاريتي ولم يقل من ولد فلا شيء له عليها، ولو قالت من الولد فإنه يرجع عليها بما ساق إليها من المهر؛ لأنها غرت الزوج حين قالت من ولد وليس في بطنها ولد، وإذا لم تقل من ولد لم تغرر.
وهذا إذا قالت: اخلعني على ما في يدي أو على ما في صندوقي هذا من شيء أو لم تذكر شيئا، فإن كان فيه شيء فللزوج، وإن لم يكن فيه شيء فلا يرجع الزوج عليها بشيء؛ لأنها لم تغره حيث لم تسم له مالا. فأما إذا قالت: اخلعني على ما في صندوقي هذا من متاع، فإن كان فيه شيء من متاع فهو له، وإن لم يكن يرجع عليها بما ساق لها من المهر.
م: (ولو أعتق ما في بطنها ثم وهبها) ش: أي الجارية م: (جاز لأنه لم يبق الجنين على ملكه) ش: أي على ملك الواهب لخروجه عنه بالإعتاق، فلم تكن هبة مشاع فتكون جائزة م: (فأشبه الاستثناء) ش: أي في تحرير الهبة. تقريره أن إعتاق الحمل قبل هبة الجارية مشابه لما إذا وهب الجارية واستثنى حملها.
ووجه المشابهة أن في صورة إعتاق الحمل قبل الهبة لا يبقى الحمل على ملك الواهب، فكذا في استثناء الحمل؛ لأن الحمل لا يبقى أيضا على ملك الواهب بعد الاستثناء لعدم صحة استثناء الحمل.
م: (ولو دبر ما في بطنها ثم وهبها لم يجز؛ لأن الحمل بقي على ملكه فلم يكن شبيه الاستثناء) ش: في التجويز؛ لأن الجواز في الاستثناء كان بإبطاله وجعل الحمل موهوبا م: (ولا يمكن تنفيذ الهبة فيه لمكان التدبير فبقي هبة المشاع) ش: وهي لا تجوز فيما يقسم، وروي أن هبة الأم تجوز بعد تدبير ولدها ذكره في " المبسوط "، ويمكن أن يكون قول المصنف فلم يكن شبيه الاستثناء جوابا لرد هذه الرواية.
فإن قيل: هب أنها هبة مشاع لكنها فيما لا يحتمل القسمة وهي جائزة. والجواب أن(10/208)
أو هبة شيء هو مشغول بملك المالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عرضية الانفصال في ثاني الحال ثابتة لا محالة فأنزل منفصلا في الحال، مع أن الجنين لم يخرج من ملك الواهب، فكان في حكم المشاع يحتمل القسمة.
وكان المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما استشعر هذا السؤال أردفه بقوله م: (أو هبة شيء) ش: بنصف الهبة؛ لأن التقدير أو نفي هبة شيء فيكون حالا عن الضمير الذي في بقي م: (هو مشغول بملك المالك) ش: كما إذا وهب الجوالق وفيه طعام الواهب وذلك لا يصح كهبة المشاع.
وفي " نوادر هشام " قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وهب لابنه الصغير أرضا فيها زرع الأب أو وهب منه دارا والأب فيها ساكن لم تجز الهبة فيهما.
وفي " الهارونيات المجرد " قال أبو حنيفة في رجل تصدق على ابن صغير بدار له وفيها متاع الرجل أو كان الأب فيها ساكنا أو فيها متاع له وليس ساكن فيها أو قوم سكان بغير أجر جازت فكان قابضا لابنه.
ولو كان فيها مكان بأجر كانت الصدقة باطلة.
فإن قيل: قد جعل في " الإيضاح " مسألة هبة الجارية بعد التدبير شبيه الاستثناء، وهبتها بعد الإعتاق غير شبيه الاستثناء على عكس ما ذكره المصنف، فما التوفيق بينهما؟
قلت: مراد صاحب " الإيضاح " بالاستثناء الحقيقي وهو التكلم بالباقي بعد الاستثناء ولكن لم تصح الهبة بذلك الاستثناء لمكان الشيوع وهذا متحقق في مسألة التدبير، لبقاء الملك في المدبر وفي مسألة الإعتاق لم تكن في معنى الاستثناء الذي يورث الشيوع فصح، والمصنف أراد بالاستثناء استثناء الحمل، ومسألة الإعتاق تشابهه في جواز الهبة والتدبير لم يشابهه كما تقدم.
فائدة: صاحب " الإيضاح " هو الإمام ركن الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم الكرماني. قال السمعاني: في معجم شيوخه إمام أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخراسان قدم مرو وتفقه على القاضي محمد بن الحسن الأرده وكان من القضاة ظهرت تصانيفه بخراسان والعراق.
ومن تصانيفه " الجامع الكبير " و " التجريد في القيمة " في مجلد واحد، وشرحه في ثلاث مجلدات وسماه " الإيضاح ". قال السمعاني: سمعت منه وقد كانت ولادته بكرمان في شوال سنة سبع وخمسين وأربعمائة ومات بمرو عشية الجمعة لعشرة بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(10/209)
فإن وهبها له على أن يردها عليه أو على أن يعتقها أو أن يتخذها أم ولد، أو وهب له دارا أو تصدق عليه بدار على أن يرد عليه شيئا منها، أو يعوضه شيئا منها فالهبة جائزة والشرط باطل؛ لأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد، فكانت فاسدة والهبة لا تبطل بها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن وهبها له على أن يردها عليه) ش: أي فإن وهب جارية له، أي لفلان على أن يردها عليه م: (أو على أن يعتقها أو أن يتخذها أم ولد أو وهب له دارا أو تصدق عليه بدار على أن يرد عليه) ش: أي على الواهب م: (شيئا منها) ش: أي من الدار م: (أو يعوضه شيئا منها) .
ش: وهذا متصل بقوله: وتصدق عليه بدار لأنه لو وصل بقوله: أو وهب دارا كان هبة بشرط العوض، والهبة بشرط العوض صحيح، والشرط صحيح حتى يكون هبة ابتداء بيعا انتهاء. وإنما لا يصح اشتراطا العوض في الصدقة لأخ الهبة، اللهم إلا أن أراد بقوله أو يعوضه شيئا منها هو أن يرد بعض الدار الموهوب له على الواهب بطريق العوض قبل الدار فيصح صرف قوله: أو بعضه حينئذ إلى قوله: أو وهب دارا، إلا أنه يلزم التكرار لا فائدة. قاله الكاكي.
قلت: لا يلزم؛ لأن الرد عليه لا يستلزم كونه عوضا فإن كونه عوضا إنما هو بألفاظ تقدم ذكرها. وفي الجامع الصغير عن يعقوب عن أبي حنيفة: في الرجل يهب للرجل هبة أو يتصدق عليه بصدقة على أن يرد عليه ثلثها أو ربعها أو يعوضه ثلثها أو ربعها، قال: الهبة جائزة ولا يرد عليه ولا يعوضه منها شيئا.
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": فإن كانت الهبة ألف درهم والعوض درهم منها لم يكن ذلك عوضا؛ لأن الشيء لا يصلح أن يكون عوضا عن نفسه، وكان للواهب أن يرجع في الهبة لانعدام العوض، وكذلك إذا كانت الهبة دارا والعوض بيت منها وإن وهب له حنطة وطحن بعضها فعوضه دقيقا عن تلك الحنطة كان عوضا لأنه بالطحن صار شيئا آخر فالقطع حق الواهب عنه فصلح عوضا.
وكذلك لو وهب له ثيابا فصبغ منها ثوبا بعصفر أو قميصا ثم عوضه إياه؛ لأن الزيادة القائمة بالثوب صلحت عوضا وقد انقطع حق المالك عنه. وكذلك لو وهب له سويقا فلت بعضه ثم عوضه بعضه.
م: (فالهبة جائزة) ش: هذا جواب أن في قوله فإن وهبها إلى آخره م: (والشرط باطل) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - في رواية عن أبي ثور - وأحمد في صحة الهبة بالشرط الفاسد وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع م: (لأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد) ش: لأن مقتضى ثبوت الملك مطلقا بلا توقيت، فإذا شرط عليه الرد والإعتاق أو غير ذلك يعتد بها م: (فكانت فاسدة والهبة لا تبطل بها) ش: أي بالشروط الفاسدة.(10/210)
ألا ترى أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر
بخلاف البيع؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع وشرط، ولأن الشرط الفاسد في معنى الربا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: للواهب حق فيكون اشتراطه الرد عليه عبارة عن ذلك الحق الثابت.
قلت: قوله على أن يرد إخبار عن لزوم الرد ولزومه غير ذلك الحق إذ ليس من حق الرد لزوم الرد. م: (ألا ترى) ش: إشارة إلى بيان أصل ذلك وهو م: (أن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر» ش: يعني في رجوعها إليه بعد موت المعمر له، وجعلها ميراثا لورثة المعمر له، والحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سلمة عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «العمرى لمن وهبت له» ، وأخرجه مسلم أيضا عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها فإنه من أعمر عمرى فإنها للذي أعمرها حيا وميتا» ، وأخرجه أبو داود والنسائي عن عروة عن جابر قال: «من أمر عمرى فهي له ولعقبه» .
وأخرج البخاري ومسلم أيضا عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العمرى جائزة» .
فإن قلت: يشكل على هذا ما أخرجه مسلم عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول هي لك ولعقبك. فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهري يقول به.
قلت: هذا مقيد بالعقب وغيره من الأحاديث مطلقة، ونحن نعمل بالمطلق والمقيد جميعا ولا نقيد المطلق.
م: (بخلاف البيع) ش: فإنه يبطل بالشروط الفاسدة م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن بيع وشرط» ش: هذا الحديث أخرجه الحارث في مسند أبي حنيفة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» وقد طعنوا في هذا الحديث وقد مر الكلام فيه مستوفى في كتاب البيوع م: (ولأن الشرط الفاسد في معنى الربا) ش: لأنه لما قوبل المبيع بالثمن خلاف الشرط عن العوض، وفيه منفعة لأحدهما أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق. وليس الربا إلا بمال يملك بالعقد من غير عوض، والشرط الذي قلنا له حكم المال لأنه يجوز أخذ(10/211)
وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات.
قال: ومن كان له على آخر ألف درهم فقال: إذا جاء غد فهي لك أو أنت بريء منها. أو قال: إذا أديت إلي النصف فلك النصف أو أنت بريء من النصف الباقي فهو باطل؛ لأن الإبراء تمليك من وجه. إسقاط من وجه، وهبة الدين ممن عليه إبراء، وهذا لأن الدين مال من وجه، ومن هذا الوجه كان تمليكا ووصف من وجه، ومن هذا الوجه كان إسقاطا، ولهذا قلنا إنه يرتد بالرد ولا يتوقف على القبول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعوض عليه م: (وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات) ش: والهبة ليست من المعاوضات فلا يبطل الشرط.
[له على آخر ألف درهم فقال إذا جاء غد فهي لك]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن كان له على آخر ألف درهم فقال إذا جاء غد فهي لك، أو أنت بريء منها، أو قال: إذا أديت إلي النصف فلك النصف أو أنت بريء من النصف الباقي فهو باطل) ش: فإذا كان باطلا يكون الألف عليه على حاله م: (لأن الإبراء تمليك من وجه) ش: لأنه يرتد بالرد م: (إسقاط من وجه) ش: لأنه لا يتوقف على القبول.
م: (وهبة الدين ممن عليه إبراء) ش: وبه قال الشافعي، وهل يقبض الإبراء إلى القبول عنده فيه وجهان، في وجه يفتقر قبل هذا الكلام يستقيم على قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن قال يتم هبة الدين بلا قبول كالإبراء فسوى بينهما أما عندنا الهبة لا تتم بدون القبول والإبراء يتم من غير قبول، هكذا ذكره في المبسوط ولكن ذكر في " المغني ": أن هبة الدين لا تتوقف على القبول في حق المديون.
أما هبة الدين للكفيل تمليك فيتوقف على القبول، وفيه أن هبة دين الصرف والسلم فيه، وإبراؤه يتوقف على القبول، وفي سائر الديون لا يتوقف الإبراء باتفاق الروايات.
وفي الهبة روايتان، قيل في الفرق بينهما أن إبراء بدل الصرف والسلم فيه يوجب انفساخ العقد؛ لأنه يوجب فوات القبض المستحق بالعقد فلم ينفرد أحد العاقدين به فيتوقف قبول الآخر بخلاف الإبراء عن سائر الديون لأنه ليس فيه معنى فسخ عقد ثابت وأن فيه معنى التمليك من وجه، ومعنى الإسقاط من وجه فلا يتوقف على القبول، كذا في " الذخيرة ".
م: (وهذا) ش: توضيح لكون الإبراء تمليكا من وجه وإسقاطا من وجه م: (لأن الدين مال من وجه) ش: حتى تجب فيه الزكاة، ويصح البيع بالدين وفي بعض النسخ لأنه مال، أي لأن الدين م: (ومن هذا الوجه كان تمليكا) ش: أي الإبراء م: (ووصف من وجه)
ش: يعني أنه ليس بمال حتى لا يحنث لو حلف أن لا مال له وله ديون على الناس م: (ومن هذا الوجه كان إسقاطا ولهذا) ش: أي ولأجل هذين المعنيين م: (قلنا إنه يرتد بالرد) ش: هذا آية التمليك م: (ولا يتوقف على القبول) ش: هذا آية الإسقاط، وإطلاق قوله يرتد بالرد يفيد أن عمل(10/212)
والتعليق بالشرط يختص بالإسقاطات المحضة التي يحلف بها كالطلاق والعتاق فلا يتعداها.
قال: والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده لما رويناه، ومعناه أن يجعل داره له مدة عمره، وإذا مات ترد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرد في المجلس وغيره سواء، وهذه الرواية عن السلف إلا ما روي عن الأعمش والإسكاف من وجوب الرد في مجلس الإبراء والهبة.
م: (والتعليق بالشرط يختص بالإسقاطات المحضة التي يحلف بها كالطلاق والعتاق) ش: لأن التعليق بالشرط يمين فما لا يجوز أن يحلف به لا يحتمل التعليق بالشرط كالعفو عن القصاص والإقرار بالمال والحجر على المأذون وعزل الوكيل. وأما الإبراء وإن كان إسقاطا من وجه ولكن ليس من جنس ما يحلف بها فلا يصح تعليقه بالشرط بخلاف ما لو قال أنت بريء من النصف على أن تؤدي إلي النصف الآن؛ لأن ذلك ليس بتعليق بل هو تقييد. ألا ترى أنه لو قال لعبده أنت حر على أن تؤدي إلي ألف درهم فقيل فإنه لا يعتق قبل الأداء، كذا ذكره قاضي خان والمحبوبي م: (فلا يتعداها) ش: أي فلا يتعدى الإسقاطات المحضة إلى ما فيه تمليك.
[حكم العمرى]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده لما رويناه) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - العمرى ... وأبطل شرط العمر وقد بيناه عن قريب، وبقولنا قال الشافعي وأحمد وهو قول جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وروي عن شريح ومجاهد وطاووس والثوري وقال مالك والليث والشافعي في القديم: العمرى تمليك المنافع لا تمليك العين، ويكون للمعمر السكنى، فإذا مات عادت إلى المعمر، وإن قال له ولعقبه كان سكناها لهم فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر، وفي " الجواهر ": أما العمرى فصورتها أن يقول أعمرتك داري أو ضيعتي فإنه قد وهب له الانتفاع بذلك مدة حياته حكما، فإذا مات رجعت الرقبة إلى المالك الذي هو المعمر.
فإن قال: أعمرتك وعقبك فإنه قد وهب له ولعقبه الانتفاع ما بقي منهم إنسان، فإذا لم يبق منهم أحد رجعت الرقبة إلى المالك الذي هو المعمر؛ لأنه وهب له المنفعة ولم يملك الرقبة، وكذلك إذا قال أسكنتك هذا الدار عمرك أو وهبتك سكناها عمرك، أو قال هي لك سكنى أو لك ولعقبك سكنى، فإذا مات المعمر أو انقرض عقبه بعد وفاة المعمر الواهب رجعت الرقبة إلى وارث المعمر يوم مات، انتهى.
م: (ومعناه) ش: أي معنى العمرى أراد تفسيره م: (أن يجعل داره له مدة عمره) ش: أي مدة عمره م: (وإذا مات) ش: أي المعمر بفتح الميم الثانية م: (ترد عليه) ش: أي على المعمر بكسر الميم(10/213)
فيصح التمليك ويبطل الشرط لما روينا، وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جائزة؛ لأن قوله داري لك تمليك، وقوله رقبى شرط فاسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثانية وقيل صورته أن يقول أعمرتك داري هذه، أو هي لك عمرى أو ما عشت أو مدة حياتك أو ما حييت، فإذا مت فهي رد علي أو نحو هذا سميت عمرى لتقييدها بالعمر.
فإن قلت: روي عن ابن الأعرابي: لم يختلف العرف في العمرى والرقبى والمنحة والعرية والعارية والسكنى إنها على ملك أربابها ومنافعها من جعلت له، ونقل إجماع أهل المدينة على ذلك.
قلت: دعوى إجماع أهل المدينة غير صحيحة لاختلاف كثير من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقوله: إنها عند العرب تمليك المنافع لا يضر إذا نقلها الشارع إلى عدم تمليك الرقبة كما في الصلاة والزكاة.
م: (فيصح التمليك ويبطل الشرط لما روينا، وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك وهي أن يقول: أرقبتك هذه الدار وهي لك حياتك على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك، فكأنه يقول: هي لآخرنا موتا سميت رقبى. لأن كل واحد يرقب موت صاحبه، وقال الحسن بن زياد في " المجرد ": وإن قال قد أرقبتك داري هذه، كانت عارية، وإن قال: هي لك رقبى كانت هبة إذا دفعها إليه.
وقال الكرخي في " مختصره ": وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " إملائه " قال أبو حنيفة إذا قال الرجل لرجل: هذه الدار لك رقبى، ودفعها إليه وقال: هذه الدار لك حبيس، ودفعها إليه فهي عارية في يده إذا شاء أن يأخذهما. قال محمد: وهذا قولنا أيضا، ثم قال: وقال أبو يوسف وأنا أرى أنه إذا قال هي لك حبيس فهي له إذا قبض.
وقوله: حبيس باطل وكذلك إذا قال هي لك رقبى. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه ": إذا قال داري لك رقبى أو داري لك هذا حبيس، قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لا تكون هبة، وروى الحسن عن أبي حنيفة ومحمد أنه يكون عارية، وقال أبو يوسف: يكون هبة.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جائزة) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (لأن قوله داري لك تمليك، وقوله رقبى شرط فاسد) ش: فكأنه قال رقبة داري لك فصار م:(10/214)
كالعمرى، ولهما أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى ورد الرقبى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" كالعمرى " ش: في الجواز.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أجاز العمرى ورد الرقبى» ش: وقال ابن قدامة في " المغني ": وحديثهم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أجاز العمرى ورد الرقبى» لا نعرفه. وقال الأترازي: هذا لا يوجب الطعن فإن الثقات مثل ذلك وأبو حنيفة تمسكوا به.
قلت: هذا الكلام لا يرضى به الخصم ولا يقنع به. وكيف ولم يبين فيه من هم رواته وما حالهم وعن أي صحابي أخرجه ومن خرجه من أهل هذا الشأن. وفي " المبسوط " حديثه مروي عن أبي الزبير عن جابر وحديثهما مروي عن الشعبي عن شريح، والحديثان صحيحان فلا بد من التوفيق بينهما.
فنقول: الرقبى قد تكون بمعنى الإرقاب، وقد تكون بمعنى الترقب فحيث قال أجاز الرقبى كان بمعنى الإرقاب بأن يقول رقبة داري لك، وحيث قال رد الرقبى كان من الترقب وهو أن يقول أراقب موتك وتراقب موتي، فإن مت فهي لك، وإن مت فهي لي فيكون هذا تعليق التمليك بالخطر وهو موت المالك قبله وذلك باطل. ثم لما احتمل المعنيان والملك لذي اليد فيها ثابت بيقين، فلا يزيد له بالشك.
والجواب عن قوله داري لك تمليك وذلك إنما يصح إذا لم يفسر هذه الإضافة بشيء أما إذا فسره بقوله رقبى أو حبيس تبين به أنه ليس بتمليك كما في قوله داري لك سكنى تكون عارية. وقوله إنه من الإرقاب بمعنى الرقبة داري لك الاشتقاق من الرقبة مما لم يقله أحد، وإيداع الشيء في اللغة ليس بمستحسن. والصواب أنه بمعنى المراقبة والترقب. وأما قوله الحديثان صحيحان، فإن كان كذلك فالتأويل ظاهر وهو أن يراد بالرد والإبطال شرط الجاهلية وبالإجارة أن يكون ذلك تمليكًا مطلقًا، ويدل عليه ما روى جابر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها، فمن أعمر شيئًا فهي له» . ألا ترى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى ثم أجاز على اختلاف العرضين ويبقى الاشتقاق على أصل واحد كما هو القياس مع سلامة المعنى، انتهى.
قلت: قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أقوى وهو مذهب أحمد والثوري وذلك لأن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها» ،(10/215)
ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك، واللفظ من المراقبة كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل. وإذا لم تصح تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه أبو داود والنسائي وحسنه الترمذي.
وأخرج النسائي أيضًا عن حجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعًا: «من أعمر عمرى فهي لمن أعمرها جائزة، ومن أرقب رقبى فهي لمن أرقبها جائزة» .
وقال ابن المنذر: وروينا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الرقبى والعمرى سواء.
وقوله الاشتقاق من الرقبة مما لم يقله أحد فيه نظر؛ لأنه لا يلزم في صحة الاشتقاق النص عليه من جهة أحد، بل كل موضع يوجد فيه حد الاشتقاق وشرائطه يصح أن يقال هذا مشتق من ذلك، وهاهنا كذلك على ما لا يخفى.
م: (ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك واللفظ من المراقبة) ش: يعني مشتق منها م: (كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل) ش: أراد بالخطر موت المملك قبله م: (وإذا لم تصح) ش: أي الرقبى م: (تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به) ش: وذلك لأنه أطلق له الانتفاع.
وحاصل اختلافهم راجع إلى تفسير الرقبى مع اتفاقهم أنها من المراقبة، فحمل أبو يوسف هذا اللفظ على أنه تمليك للحال، والرجوع إلى الواهب منتظر فيكون كالعمرى.
وقال: المراقبة في نفس التمليك؛ لأن معناه لآخرنا موتًا، فكان هذا تعليقًا للتملك بالخطر، وذا باطل.
وفي " الأسرار ": حمل أبو يوسف حديث بطلان الرقبى على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الرقبة التي بمعنى المراقبة يعني راقب موتي إن مت قبلك فهي لك، فعلى هذا الوجه لا يصح بالاتفاق، وعلى الوجه الأول كالعمرى فيصح بالاتفاق.(10/216)
فصل في الصدقة قال: والصدقة كالهبة لا تصح إلا بالقبض؛ لأنه تبرع كالهبة فلا تجوز في مشاع يحتمل القسمة لما بينا في الهبة ولا رجوع في الصدقة لأن المقصود هو الثواب، وقد حصل. وكذلك إذا تصدق على غني استحسانا؛ لأنه قد يقصد بالصدقة على الغني الثواب وقد حصل. وكذا إذا وهب لفقير لأن المقصود هو الثواب وقد حصل.
قال: ومن نذر أن يتصدق بماله يتصدق بجنس ما يجب فيه الزكاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الصدقة]
م: (فصل في الصدقة) ش: لما شاركت الصدقة الهبة في الشروط وخالفتها في الحكم ذكرها في كتاب الهبة وفصل لها فصلًا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والصدقة كالهبة لا تصح إلا بالقبض) ش: قال الأترازي: لما روى أصحابنا في نسخ " المبسوط " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة، وهذا الحديث حجة على الشافعي في تجويزه الصدقة بلا قبض.
قلت: للشافعي إما أن يقول هذا ليس بثابت، ولئن ثبت فقول الصحابي ليس بحجة عندي م: (لأنه) ش: أي لأن الصدقة والتذكير باعتبار التصدق م: (تبرع كالهبة فلا تجوز في مشاع يحتمل القسمة لما بينا في الهبة) ش: أراد به قوله: لأن تجويزه التزام أشياء لم تلزمه وهو القسمة م: (ولا رجوع في الصدقة لأن المقصود هو الثواب وقد حصل) ش: أي المقصود، فصارت كهبة عوض عنها.
فإن قلت: حصول الثواب في الآخرة فضل من الله ليس بواجب، فمن أين يقطع بحصوله.
قلت: يمكن أن يكون المراد حصول الوعد بالثواب.
م: (وكذلك إذا تصدق على غني) ش: يعني يرجع م: (استحسانًا؛ لأنه قد يقصد بالصدقة على الغني الثواب وقد حصل) ش: فإن من له نصاب وله عيال كثيرة فالناس يتصدقون عليه على فعل الثواب، وهذا يتأدى الزكاة بالتصدق عليه حالة الاشتباه، ولا رجوع فيه بالاتفاق، فكذا عند العلم بحاله لا يثبت له حق الرجوع بالشك. وفي القياس ينبغي أن يرجع؛ لأن الصدقة في حق الغني هبة. وبه قال بعض أصحابنا لأنه إنما يقصد به العوض منه دون الثواب، فصارت الهبة فيه كالصدقة، والهبة في حق الفقير سواء، م: (وكذا إذا وهب لفقير) ش: يعني لا يرجع م: (لأن المقصود هو) ش: من الهبة الفقير م: (الثواب وقد حصل) ش: المقصود.
[نذر التصدق بماله]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن نذر أن يتصدق بماله يتصدق بجنس ما يجب فيه الزكاة)(10/217)
ومن نذر أن يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع. ويروى أنه والأول سواء وقد ذكرنا الفرق، ووجه الروايتين في مسائل القضاء، ويقال له أمسك ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب مالا فإذا اكتسب يتصدق بمثل ما أنفق، وقد ذكرناه من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: اعتبارًا لإيجابه بإيجاب الله فيتصدق بالنقدين وعروض التجارة والسوائم والغلة والثمرة العشرية، ولا يتصدق بغير ذلك من الأموال لأنها ليست بأموال الزكاة. وقال زفر: يجب إخراج الجميع لعموم اللفظ، وبه قال أحمد في رواية. وقال الشعبي: لا يلزمه شيء. وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية: يجب إخراج الثلث كالوصية. وفي " الروضة ": لو قال مالي صدقة أو في سبيل الله ففيه أوجه: أحدها: وهو الأصح عند الغزالي وقطع القاضي حسين به أنه لغو لأنه لم يأت بصيغة الإلزام. والثاني: أنه كما لو قال علي أن أتصدق بمالي فيلزمه التصدق. والثالث: يصير ماله بهذا اللفظ صدقة. وذكر في " التتمة ": إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر أو نواه فهو لو قال: علي أن أتصدق بمالي أو أنفقه في سبيل الله وإلا فلغو. وأما إذا قال إن كلمت فلانًا أو فعلت كذا فمالي صدقة فالذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي أنه بمنزلة قوله فعلي أن أتصدق بمالي أو بجميع مالي أن طريق الوفاء أن يتصدق بجميع ماله. وإذا قال في سبيل الله يتصدق بجميع ماله على الفقراء، انتهى.
وذكر في غيره أنه إن علقه بشرط المنع كان يمينًا فإذا حنث فعليه كفارة والله أعلم.
[نذر التصدق بملكه]
م: (ومن نذر أن يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع) ش: أي بجميع ما يملكه؛ لأن الملك أعم من المال؛ لأنه قد يملك غير المال مثل القصاص والنكاح والخمر، فوجب العمل لعمومه، ولكن يحبس قدر ما ينفق على نفسه وعامليه إلى حين كسبه مالًا آخر فيخرج مثله ولا يقدر بشيء لأن الناس يتفاوتون في ذلك باختلاف أحوالهم في النفقات م: (ويروى أنه) ش: أي الملك م: (والأول) ش: أي المال م: (سواء) ش: لأن الملك عبارة عن الربط والشد والمال ما يصل إليه القلب فيكون في معنى الربط والشد فيتناسبان، وهذه الرواية رواية الحاكم الشهيد م: (وقد ذكرنا الفرق) ش: أي بين المال والملك م: (ووجه الروايتين في مسائل القضاء) ش: أي من هذا الكتاب في مسألة مالي صدقة على المساكين.
م: (ويقال له) ش: أي الناذر يتصدق بملكه م: (أمسك ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب مالًا فإذا اكتسب يتصدق بمثل ما أنفق، وقد ذكرناه من قبل) ش: أي في كتاب القضاء في باب القضاء بالمواريث. وفي " الغاية ": ثم إنه يمسك قوته في قوله جميع ما أملك صدقة لأنه لا بد له منه، ولكن لم يبين محمد في " المبسوط " و " الجامع الصغير " مقدار ما يمسك من القوت، فقال مشايخنا إن كان دهقانًا يمسك قوت سنة؛ لأن القوت لدهقان يتجدد كل سنة، وإن كان تاجرا يمسك قوت شهر؛ لأن التجارة للتاجر لا تنفق كل حين، وإنما ينفق في بعض الأحايين،(10/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقدرنا بالشهر وإن كان محترمًا يمسك قوت يومه لأنه يتجدد له قوت كل يوم، ثم إذا وجد شيئًا يتصدق بمقدار ما أمسك للقوت؛ لأنه استهلك قدر القوت في المال الذي لزمه التصدق به، فصار ضامنًا لمثله.
[حكم التصدق عن الميت] 1
فروع: وفي " الفتاوى الكبرى ": إذا تصدق عن الميت أو دعا له يصل ثواب ذلك إلى الميت، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: لا يلحق الميت ما يفعله عنه من صدقة يتصدق بها له، أو دعاء يدعا له، أو قراءة قرآن إذا قال لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم ولم يتصدق حتى هلك في يده فلا شيء عليه كذا في " الذخيرة ".
رجل أخرج الخبز إلى المسكين فلم يجده فهو بالخيار إن شاء أدى إلى مسكين آخر، وإن شاء لم يؤد لأنه لم يخرج عن ملكه، كذا في التجنيس. رجل تصدق على ابنه الصغير بدار والأب ساكنها قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز. وقال أبو يوسف: يجوز وعليه الفتوى، كذا في " النوازل ". ولو قال: داري في المساكين صدقة فعليه أن يتصدق بها، وإن تصدق بقيمتها أجزأه، كذا في " الاختيار ".(10/219)
كتاب الإجارات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الإجارات]
م: (كتاب الإجارات) ش: وجه المناسبة بين الكتابين اشتمالهما على معنى التمليك، ولكن لما كانت الهبة تمليك العين قدمها على الإجارات التي هي تمليك المنفعة، والعين مقدم، وهو جمع إجارة على فعالة بالكسر اسم للأجر بمعنى الأجرة من أجره إذا أعطاه أجره من باب فعل يفعل بالفتح في الماضي والضم في الحاضر، ولا يمنع أن يكون مصدرًا منه، كما تقول كتب يكتب كتابة.
وهذه المادة تستعمل لمعاني التعويض، تقول أجره الله بأجره ويأجره وهو يأتي من بابين من باب طلب يطلب، ومن باب ضرب يضرب. ومنه الأجر وهو الثواب؛ لأن الله تعالى يعوض العبد به. ويقال لمهر المرأة أجر لأنه عوض من بضعها، قال الله تعالى: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] أي مهورهن.
والبراء أجر العظم يأجر ويأجر أجرًا وأجورًا أي برأ على عثم. وهو أيضًا من البابين المذكورين والجبر، تقول أجر الله يداي جبرها على عثم، وهو انجبار العظم المكسور على غير استواء.
وإعطاء الأجرة، تقول أجره إذا أعطاه أجرته كما ذكرنا. وإذا أردت أن تنقله إلى باب الأفعال تقول آجر بالمد؛ لأن أصله: أأجر بهمزتين إحداهما فاء الفعل والأخرى همزة الفعل، والقاعدة أن الهمزتين إذا اجتمعتا وثانيهما ساكنة تلين، فانقلب للتخفيف، والمصدر منه إيجار فاسم الفاعل من الأول أجر، ومن الثاني مؤجر.
قال صاحب العين آجرت مملوكي أوجره إيجارًا فهو مؤجر، وفي الأساس آجرني داره فاستأجرتها وهو مؤجر، ولا يقال مؤاجر فإنه خطأ وقبيح، أما الخطأ فظاهر وهو أنه من مهموز أفعل. وأما قوله معتل فاعل والقبح أنه استعمل في موضع قبيح.
قلت: تحرير الخطأ فيه أنه اسم الفاعل من أفعل لا يأتي إلا على وزن مفعل كأكرم على مكرم، وكذلك آجر بالمد على وزن أفعل واسم الفاعل منه مؤجر، وأصله مأجر بضم الميم وسكون الهمزة ولكن ليست الهمزة بجنس حركة ما قبلها وهي الواو فقيل مؤجر للتخفيف. وأما مؤاجر فإنه اسم الفاعل من واجر كواعد على مواعد، وهذا بناء على لغة العامة فإنهم يقولون واجرته الدار موضع آجرته إذا أكريتها، فعلى هذا الخطأ في إبدالهم الواو من الهمزة التي في أول الكلمة لا في قولهم مؤاجر؛ لأنه مبني على القاعدة؛ لأن اسم الفاعل من فاعل(10/220)
الإجارة عقد يرد على المنافع بعوض؛ لأن الإجارة في اللغة بيع المنافع والقياس يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة وهي معدومة، وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأتي على مفاعل.
قال صاحب " العناية " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقول أجرته الدار أي أكريتها، والعامة تقول واجرتها والقائل يقول كما يجوز قلب أحد الواوين همزة إذا اجتمعتا في أول الكلمة التحقيق كما في أواقي فإن أصله وواقي جمع واقته فكذلك يجوز قلب إحدى الهمزتين واوا إذا اجتمعتا في أول الكلمة للتخفيف على أن الثقالة في اجتماع الهمزتين أكثر من الثقالة في اجتماع الواوين. وأما القبح الذي ذكروا فيه فهو أن العامة استعملوه في مواضع السبب والتعبير، ولهذا ذكر في باب التعزير من جملة ألفاظ التعزير وفسروه بأنه هو الذي يؤجر أهله للزنا، ثم هل تجيب هذه للغة تعزير، فإن كان المسبوب شريفًا أو فقيهًا يعزر وإن كان غيرها لا.
[تعريف الإجارة]
م: (الإجارة عقد يرد على المنافع بعوض) ش: هذا تفسير الإجارة بالمعنى الشرعي، وإنما قدمه على المعنى اللغوي لأن اللغوي هو الشرعي بلا مخالفة، وهو في بيان شرعيتها. فالشرعي أولى بالتقديم. وقال الأترازي: وينبغي أن يقال عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم إلى مدة معلومة حتى يخرج النكاح؛ لأن التوقيت يعطله، أو يقال عقد على منفعة معلومة لا لاستباحة البضع بعوض معلوم.
قلت: زيادة لفظة الاستباحة تتعين في تفسير النكاح لا في تفسير الإجارة م: (لأن الإجارة في اللغة بيع المنافع) ش: قيل فيه نظر؛ لأن الإجارة اسم للأجرة وهي ما أعطت من كرى الأجير كما صرح به الشراح.
قلت: قد بينت لك عن قريب أن الإجارة تجوز أن تكون مصدرًا فيستقيم الكلام م: (والقياس يأبى جوازه) ش: أي جواز عقد الإجارة م: (لأن المعقود عليه المنفعة وهي معدومة) ش: حالة العقد.
م: (وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح) ش: لأن المعاوضات لا تحتمل الإضافة كالبيع، قيل في كون القياس يأتي جوازه نظر، ولم يذكر على ذلك دليلًا إلا أن إضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح، وهذا الذي جعله دليلًا يحتاج إلى دليل، وما سيوجد نوعان منافع وأحيان، وقياس أحدهما على الآخر فاسد لوجود الفارق بينهما، فإن المعنى الجامع بينهما وهو كون كل منهما يعارضه المعنى الفارق وهو أقوى منه، وهو أن هذا معدوم يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده بخلاف المعدوم الآخر.
وقد أجرى الله العادة بحدوث هذه المنافع، فصارت متحققة الوجود، فإلحاق المعدوم المتحقق الوجود بالموجود أظهر من إلحاقه بالمعدوم المظنون الوجود أو ما لوجوده غاية يمكن تأخير(10/221)
إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه، وقد شهدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقد إلى أن يوجد، فإنما لوجده حال وجود وعدم في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار، وبذلك علل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنع حيث قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة فهل يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق» . وأما ليس له إلا حالة واحدة، والغالب فيه السلامة فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارًا وإن كان فيه مخاطرة يسيرة، فالحاجة داعية إليه.
قلت: لا نسلم فساد القياس المذكور ولا معارضة المعنى الفارق للمعنى في الجامع، وكيف تكون هذه المنافع متحققة الوجود بجريان العادة بحدوثها وهي إعراض لا يبقى زمانين فتكون معدومة بهذا الاعتبار، وبيع المعدوم لا يجوز ولصحة القياس المذكور.
وقال شمس الأئمة السرخسي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيام العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليه ليترتب القبول على الإيجاب كقيام الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام المعقود عليه في جواز السلم، وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء فيستحق بهذه الطريق التمكن من الاستيفاء المعقود عليه.
وقد قيل في وجه إباء القياس جوازه أن موجب العقد التسليم في الحال، وليس في الإجارة ذلك وفيه نظر؛ لأن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه العاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما متفق في هذه الدعوى.
أما الأول فظاهر.
وأما الثاني فكذلك؛ لأنهما تارة يعقدان على الوجه المذكور، وتارة يشترطان التأخير. إما في الثمن وإما في المثمن، وقد يكون للبائع غرض صحيح، ومصلحة في تأخير تسليم المبيع كما كان لجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة.
واتفق العلماء على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة، بل قالوا هذا يستثنى بالعرف، وكذلك من اشترى ثمرة بدا صلاحها ليس عليه أن يجمع القطافين في أوان واحد لقطفها جملة واحدة، وإنما يقطفها كما جرت به العادة.
م: (إلا أنا جوزناه) ش: أي عقد الإجارة م: (لحاجة الناس إليه) ش: قد يحتاج إلى منافع الأعيان لإقامة المصالح، ولا يجد الثمن ليشتري العين، وصاحب الأعيان قد يحتاج إلى الدراهم ولا يتهيأ له البيع، والفقير يحتاج إلى المال والغني إلى الأعمال. فلو لم تجز الإجارة لضاق الأمر على الناس، ولهذا يترك القياس كما جاز السلم لحاجة المفاليس م: (وقد شهدت(10/222)
بصحتها الآثار، وهي قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بصحتها الآثار) ش: وهو جمع أثر بفتحتين، وهو اسم للخبر الذي ترويه عن غيرك.
ومنه عن قولهم حديث مأثور أي نقله الخلف عن السلف وأصله من أثر الحديث آثره أثرًا، إذا ذكرته عن غيرك. وفي الاصطلاح: يطلق على السنة المروية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولًا وفعلًا وعلى الأخبار المروية من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (وهي قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ش: التذكير في الضمير باعتبار ما بعده وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
والحديث رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة وجابر وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه في " سننه " في كتاب الأحكام في باب أجر الأجير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» .
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا عبد الله بن جعفر أخبرني سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه سواء.
وأما حديث جابر فأخرجه الطبراني في " معجمه الصغير " حدثنا أحمد بن محمد بن الصلت البغدادي بمصر حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا شرقي بن القطامي عن أبي الزبير عن جابر قال " قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره، وقال: تفرد به محمد بن زياد.
وأما حديث أنس فأخرجه أبو عبد الله الترمذي الحكيم في كتاب " نوادر الأصول " في الأصل الثاني عشر حدثنا موسى بن عبد الله بن سعيد الأزدي حدثنا محمد بن زياد الكلبي عن بشر بن الحسين الهلالي عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك مرفوعًا نحوه سواء. وأخرجه أبو أحمد بن زنجويه النسائي في كتاب " الأموال " مرسلًا قال حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عثمان بن عثمان الغطفاني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعطوا الأجير أجره» إلى آخره.(10/223)
وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد أعلوا حديث ابن عمر بعبد الرحمن بن زيد وحديث أبي هريرة بعبد الله بن جعفر، وعبد الله هذا هو والد علي بن المديني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس بشيء في الحديث. وحديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشرقي بن القطامي وهو منكر الحديث، ولكن معنى الحديث في الصحيح أخرجه البخاري عن المقبري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي، ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره» .
م: (وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره» ش: هذا الحديث أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه في البيوع " حدثنا معمر، والثوري عن حماد عن إبراهيم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أو أحدهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا فليسم له أجرته» . قال عبد الرزاق: فقلت للثوري يومًا: سمعت حمادًا يحدث عن إبراهيم عن أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا فليسم له أجرته» قال: نعم وحدث به مرة أخرى فلم يبلغ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه الكرخي في " مختصره " حدثنا الحضرمي قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا يزيد بن الحباب عن سفيان عن حماد عن إبراهيم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره» . ورواه محمد بن الحسن في كتاب " الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره» .
وعن عبد الرزاق رواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " فقال أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن حماد عن إبراهيم عن الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا فليبين له أجرته» .(10/224)
وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال عبد الحق في " أحكامه ": إبراهيم لم يدرك أبا سعيد.
ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " موقوفًا على الخدري، وأبي هريرة، فقال: حدثنا وكيع عن سفيان عن حماد عن إبراهيم عن أبي هريرة وأبي سعيد، قالا: «من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره» قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبا زرعة عن هذا الحديث فقال: الصحيح أنه موقوف.
ثم المصنف لم يذكر إلا هذين الحديثين أحدهما معلول والآخر موقوف، وفيها أحاديث صحيحة:
منها: حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري، وقد ذكرناه آنفًا.
ومنها آخر: أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم " فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: " نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» .
ومنها آخر: أخرجه البخاري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «استأجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا من الدليل، هاديًا خريتًا، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث» .
ومنها آخر: أخرجه ابن حبان في " صحيحه «عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزًا من هجر، فأتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فساومنا سراويل، وعنده وزان يزن بالأجر، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زن وأرجح» .
[الإجارة تنعقد ساعة بعد ساعة على حسب حدوث المنافع]
م: (وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة) ش: أي تنعقد الإجارة ساعة بعد ساعة على حسب حدوث المنافع؛ لأن ما هي المعقودة عليها فالملك في البدلين، أيضًا يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة، وعندنا محل العقد المنافع والعين جعلت خلفًا عنها في حق إضافة العقد، وبه قال مالك وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال بعض أصحاب الشافعي: محل العقد العين؛ لأنها الموجودة، والعقد يضاف إليها، ثم عند الثلاثة يجعل العين المعدومة كالموجودة حكما ضرورة تصحيح العقد.
ويتبنى على هذا مسائل:
منها: الأجرة تملك بنفس العقد عند الشافعي وأحمد، وعندنا لا تملك إلا بأحد معان ثلاث، أما شرط التعجيل من غير شرط، أو استيفاء المعقود عليه في العيون، أو بالتمكن من الاستيفاء. وقال مالك: تملك الأجرة لا يكون إلا بالاستيفاء فقط.(10/225)
والدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليرتبط الإيجاب بالقبول ثم عمله يظهر في حق المنفعة تملكا واستحقاقا حال وجود المنفعة ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة والأجرة معلومة لما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها: إذا مات أحد المتعاقدين لم يبطل العقد عند الثلاثة.
ومنها: يجوز عندهم إجارة سكن دار بسكنى دار أخرى.
ومنها: إذا أجر عبدًا ثم أعتقه بقي العقد عندهم.
م: (والدار أقيمت مقام المنفعة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إذا كان انعقاد الإجارة ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة وجب أن يصح رجوع المستأجر في الساعة الثانية قبل أن ينعقد العقد فيها. وإذا استأجر شهرًا مثلًا ليس له أن يمتنع بلا عذر.
وتقرير الجواب أن الدار أقيمت مقام المنفعة م: (في حق إضافة العقد إليها ليرتبط الإيجاب بالقبول) ش: إلزامًا للعقد في المقدار المعين م: (ثم عمله يظهر) ش: أي عمل العقد وهو أثره م: (في حق المنفعة تملكًا واستحقاقًا حال وجود المنفعة) ش: أراد أن حكم اللفظ يتراخى إلى حين وجود المنفعة من حيث الملك والاستحقاق فيثبتان معًا حال وجود المنفعة، بخلاف بيع العين فإن الملك في البيع يثبت في الحال ويتأخر الاستحقاق إلى زمان نقد الثمن.
فإن قلت: ما الفائدة في قوله استحقاقًا؟.
قلت: بينهما مغايرة فلذلك ذكره؛ لأن الاستحقاق لا يكون إلا بعد ثبوت الملك، ولكن في البيع يتأخر كما ذكرنا، بخلاف الملك وأما في الإجارة فمن ضرورة تأخر الملك يتأخر الاستحقاق، وهذا بعد الاستيفاء لا يمكن القول بتراخي الاستحقاق فافهم.
وإنما ذكر قوله يرتبط الإيجاب بالقبول؛ لأنها عقد وهما من أركان العقود، ويجب أن يكونا بلفظين يعبران عن الماضي نحو أن يقول أحدهما أجرت، ويقول الآخر قبلت، ولا ينعقد إذا كان أحدهما ماضيًا والآخر مستقبلًا كما في البيع، وينعقد بلفظ الإعارة حتى لو قال أعرتك هذه الدار شهرًا بكذا، وقال كل شهر بكذا صحت، وحتى لو قال وهبتك منافع هذه الدار شهرًا بكذا أو ملكت منافعها بكذا وينعقد بالتعاطي أيضًا. وقال شيخ الإسلام: ينعقد بلفظ البيع ويجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة مجازًا، وبه قال الشافعي وأحمد. وعن أحمد: لا ينعقد بلفظ البيع كقولنا وينعقد بلفظ الكراء ونحوه.
م: (ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة) ش: أي لا يصح عقد الإجارة حتى تكون المنافع معلومة م: (والأجرة معلومة) ش: وهذان لا خلاف فيهما م: (لما روينا) ش: أشار به على قوله عليه(10/226)
ولأن الجهالة في المعقود عليه وفي بدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع. وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة؛ لأن الأجرة ثمن المنفعة فتعتبر بثمن المبيع
وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام «من استأجر أجيرا فليعلمه أجره» فالحديث دل بعبارته على اشتراط إعلام الأجرة وبدلالته على اشتراط إعلام المنافع؛ لأن اشتراط إعلامها لقطع المنازعة فالمنفعة تشاركها في المعنى م: (ولأن الجهالة في المعقود عليه، وفي بدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع) ش: لأن شرعية المعاوضات لقطع المنازعات والجهالة فيهما مفضية إليها.
م: (وما جاز أن يكون ثمنا في البيع) ش: كالنقود والمكيل والموزون م: (جاز أن يكون أجرة في الإجارة) ش: إلى هنا لفظ القدوري قال الشيخ أبو نصر البغدادي في شرحه: وهذا الذي ذكر ليس على وجه الحد، وإنه لا يجوز غيره يبين ذلك أن الأعيان لا تكون أثمانا وتكون أجرة، وإنما ذكر ذلك لأنه هو الغالب، وقال الأترازي: يعني ما ذكره القدوري مطرد وليس ينعكس وأراد بالأعيان ما لم يكن مثليا كالحيوان، ثم الحيوان إنما يصلح أجرة إذا كان معينا وإلا فلا.
وقال الكرخي في " مختصره " في الفرق بين المبيع والثمن: ما يتعين في العقد فهو مبيع وما لم يتعين فهو ثمن، إلا أن يقع عليه لفظة البيع. قال الفراء: الثمن ما كان في الذمة، فالدراهم والدنانير أثمان أبدا لا يتعين بالعقد على أصول أصحابنا، فإنما يثبت في الذمة، والأعيان التي ليست من ذوات الأمثال مبيعة أدبا، والمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة بين مبيع وثمن.
فإن كانت معينة فهي مبيعة أيضا، وإن كانت غير معينة فإن استعملت استعمال الأثمان فهي ثمن نحو أن يقول اشتريت منك هذا العبد بكذا وكذا حنطة ونصف، وإن استعملت استعمال المبيع كان سلما نحو أن يقول اشتريت منك كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم والفلوس بمنزلة الدراهم والدنانير في أنها لا تتعين بالتعيين، كذا ذكره الشيخ أبو الفضل الكرماني في " الإيضاح ".
م: (لأن الأجرة ثمن المنفعة فتعتبر بثمن المبيع) ش: أن الإجارة بين المنفعة والأجرة ثمنها فيعتبر بالمبيع
[ما يصلح أجرة في الإجارة]
م: (وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان) ش: التي ليست من ذوات الأمثال كالحيوانات والعدديات المتفاوتة فإنها لا تصح ثمنا أصلا لما مر في البيوع أن الأصول ثلاثة ثمن محض كالدراهم، ومبيع محض كالأعيان التي ليست من ذوات الأمثال، وما كان بينهما كالمكيلات والموزونات ثم الأعيان إنما تصح أجرة إذا كانت معينة كما إذا استأجر دارا بثوب معين، وإن كان لا يصلح ثمنا قيل فيه نظر، فإن المقايضة بيع وليس فيها أعيان الجانبين، فلو لم(10/227)
فهذا اللفظ لا ينفي صلاحية غيره لأنه عوض مالي، والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار الدور للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد على مدة معلومة، أي مدة كانت لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت،
وقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصح العين ثمنا كانت بيعا بلا ثمن وهو باطل.
ويمكن أن يجاب عنه بأن النظر على المثال ليس من دواب المناظرين، فإذا كان الأصل صحيحا جاز أن يمثل بمثال آخر كالتمثيل بالمنفعة فإنها تصح أجرة إذا اختلفت جنس المنافع كما إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة ولا يصلح ثمنا أصلا.
م: (فهذا اللفظ) ش: أشار به إلى قوله ما جاز أن يكون ثمنا في البيع، إلى آخر، وهذا لفظ القدوري م: (لا ينفي صلاحية غيره) ش: أي غير الثمن م: (لأنه) ش: أي لأن الأجرة والتذكير على تأويل الأجرة م: (عوض مالي) ش: فيعتمد وجود المال والأعيان والمنافع أموال مجاز أن يقع أجرة، وبه قال الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حتى قالوا يجوز إجارة سكنى دار بسكنى دار؛ لأن السكنى يجوز أن يكون ثمنا فيجوز أن يكون أجرة، وكره الثوري الإجارة بطعام موصوف في الذمة. ثم الأجرة إن كانت من النقود يشترط بيان جنسها وصفتها بأنها جيدة أو وسط أو رديئة، وإن كانت مكيلا أو موزونا أو عدديا متقاربا يشترط فيها بيان القدر والصفة، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء إذا كان له حمل ومؤنة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما والثلاثة، وإن كان عرضا أو ثوبا يشترط فيه شرائط السلم، وفي هذا كله إذا كانت الأجرة حيوانا لا يجوز إلا إذا كان عينا فإعلامه بالإشارة لأنها أبلغ أسباب التعريف، وإن كانت الأجرة حيوانا لا يجوز إلا إذا كان عينا لعدم ثبوت الحيوان في الذمة بدلا عما هو مال.
م: (والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار الدور للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد على مدة معلومة أي مدة كانت) ش: هذا لفظ القدوري، وبه قال كافة أهل العلم إلا أن الأصحاب اختلفوا في مذهبه، فمنهم من قال: له قولان، أحدهما: كقول سائر أهل العلم وهو الصحيح، والثاني: لا يجوز أكثر من سنة؛ لأن الجواز للحاجة ولا حاجة في أكثر من السنة، ومنهم من قال قولا ثالثا: أنها لا تجوز أكثر من ثلاث سنين؛ لأن الغالب أن الأعيان لا تبقى أكثر منها وتتغير الأسعار والأجر.
قلنا: هذا مخالف لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] (القصص: الآية 27) ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم دليل على نسخه م: (لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت) ش: احترز بهذا عن استئجار الأرض للزراعة إلى مدة معلومة، حتى لا يصلح أن يسمى ما يزرع فيها على ما يجيء.
م: (وقوله) ش: أي قول(10/228)
" أي مدة كانت " إشارة إلى أنه يجوز، طالت المدة أو قصرت لكونها معلومة، ولتحقق الحاجة إليها عسى، إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين وهو المختار،
" قال: وتارة تصير معلومة بنفسه كمن استأجر رجلا على صبغ ثوبه أو خياطته، أو استأجر دابة ليحمل عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها لأنه إذا بين الثوب ولون الصبغ وقدره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري: م: (أي مدة كانت إشارة إلى أنه يجوز طالت المدة أو قصرت لكونها معلومة) ش: وفي " الذخيرة ": ولو وقتا مدة الإجارة وقتا لا يعيش إليها أحدهما قبل المدة لا يصح، به أفتى القاضي أبو عاصم العامري؛ لأن الغالب كالمتيقن في حق الأحكام فكانت الإجارة مؤبدة، والتأبيد يبطل الإجارة.
وقال الخصاف: يجوز لأن العبرة للفظ فإنه يقتضي التوقيت ولا عبرة بموت أحدهما قبل انتهاء المدة؛ لأن ذلك عسى يوجد وعسى لا يوجد كما لو زوج امرأة إلى مائة سنة فإنه توقيت لا تأبيد حتى يكون متعة، وإن كانت المدة لا يعيش إليها غالبا، وجعل نكاحا موقوفا اعتبارا للفظ م: (ولتحقق الحاجة إليها عسى) ش: أي إلى المدة الطويلة، وعسى هاهنا وقع مجردا عن الاسم والخبر تقديره عسى الاحتياج إلى المدة الطويلة يتحقق الاحتياج، وأهل العربية يأبون ذلك م: (إلا أن في الأوقاف) ش: استثناء من قوله أي مدة كانت م: (لا تجوز الإجارة الطويلة كيلا يدعي المستأجر ملكها) ش: أي ملك العين المستأجرة.
م: (وهي) ش: أي الإجارة الطويلة في الأوقاف م: (ما زاد على ثلاث سنين وهو المختار) ش: أي المختار في المذهب أن لا يزيد على ثلاث سنين وهو اختيار مشايخ بلخ. وقال غيرهم: يجوز وبه قال أكثر أهل العلم. ولكن يرفع إلى الحاكم حتى يبطله وبه أفتى الفقيه أبو الليث، كذا في " التتمة ". هذا إذا لم يشترط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنة، وأما إذا شرط فليس لمتولي الوقف أن يزيد على ذلك، فإن كانت مصلحة الوقف تقتضي ذلك يرفع إلى الحاكم حتى يحكم بجوازها. وفي شرح " حبل الخصاف " قال بعض مشايخنا: يجوز الإجارة الطويلة على الأوقاف أن يعقدوا عقودا متفرقة كل عقد على سنة فيكتب في الصك كذلك فيكون العقد الأول لازما، والثاني غير لازم لأنه مضاف.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتارة تصير) ش: أي المنافع م: (معلومة بنفسه) ش: أي بنفس العقد م: (كمن استأجر رجلا على صبغ ثوبه أو خياطته أو استأجر دابة ليحمل عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها لأنه إذا بين الثوب) ش: بأنه قطن أو كتان أو صوف أو حرير لأنه متعارف في الصبغ والخياطة م: (ولون الصبغ) ش: بأنه أحمر أو أصفر ونحوهما م: (وقدره) ش:(10/229)
وجنس الخياطة والقدر المحمول وجنسه والمسافة صارت المنفعة معلومة فصح العقد. وربما يقال الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار القصار والخياط، ولا بد أن يكون العمل معلوما وذلك في الأجير المشترك. وقد يكون عقدا على المنفعة كما في أجير الواحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي قدر الصبغ بأن يلقيه في حب الصبغ مرة أو مرتين م: (وجنس الخياطة) ش: بأنها فارسية أو رومية م: (والقدر المحمول) ش: على الدابة بأنه قنطاران م: (وجنسه) ش: أي جنس المحمول بأنه حنطة أو شعير أو علف م: (والمسافة) ش: بأنه يوم أو يومان م: (صارت المنفعة معلومة فصح العقد) ش: لارتفاع الجهالة المفضية إلى النزاع.
م: (وربما يقال) ش: إشارة إلى تخريج بعض المشايخ منهم القاضي أبو زيد فإنه ذكر في " الأسرار " أن الإجارة نوعان بيع منفعة بجنسه وهو إجارة الدار ونحوها وبيع العمل المسمى المعلوم، وإنه يجوز من غير ذكر الوقت، وإنه أنواع ثلاثة: بيع عمل محض كالخياطة ونحوها. وبيع عمل مع عين المال كالصناعة بصبغ الصباغ والاستصناع وهو طلب صناعة في العين، وقد أشار إلى بعض ذلك.
وقال صاحب " التحفة ": الإجارة نوعان، إجارة على المنافع، وإجارة على الأعمال، ولكل نوع شروط وأحكام.
أما الإجارة على المنافع فكإجارة الدور والمنازل والحوانيت والصناع وعبيد الخدمة، والدواب للركوب والحمل، والثياب وحلي البسر، والأواني للاستعمال، والعقد في ذلك كله جائز. وشرط جوازه أن تكون العين المستأجرة معلومة، والأجرة معلومة، والمدة معلومة بيوم أو شهر أو سنة؛ لأنه عقد معاوضة كالبيع وإعلام المبيع، والثمن شرط في البيع، فكذلك هاهنا. إلا أن المعقود عليه هاهنا هو المنافع فلا بد من إعلامها بالمدة والعين الذي عقد عليه الإجارة على منافعه.
وأما الإجارة على الأعمال فكاستئجار الإسكاف والقصار والصباغ وسائر من يشترط عليه العمل في سائر الأعمال من حمل الأشياء من موضع ونحوه، وأحكام هذا مذكورة في الكتاب، أشار إليه بقوله م: (الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار القصار والخياط، ولا بد أن يكون العمل معلوما وذلك) ش: كالخياطة الفارسية والرومية والقصارة مع النشاء أو بدونه م: (في الأجير المشترك) ش: أي كون العقد على العمل في الأجير المشترك م: (وقد يكون عقدا على المنفعة) ش: كاستئجار الرجل يوما أو شهرا للعمل م: (كما في أجير الواحد) ش: بالإضافة.
وفي بعض النسخ بالأجير الواحد والأول أصح؛ لأنه ذكر في " المغرب ": أجير الواحد على الإضافة أي أجير المستأجر الواحد بخلاف أجير المشترك، وفي معناه الأجير الخاص ولو(10/230)
ولا بد من بيان الوقت،
قال: وتارة تصير المنفعة معلومة بالتعيين والإشارة كمن استأجر رجلا لينقل له هذا الطعام إلى موضع معلوم؛ لأنه إذا أراه ما ينقله والموضع الذي يحمل إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حرك الحاء صح؛ لأنه يقال رجل وحد أي واحد م: (ولا بد من بيان الوقت) ش: أي المدة.
[تعيين الأجرة في عقد الإجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتارة تصير المنفعة) ش: أي المنافع م: (معلومة بالتعيين، والإشارة كمن استأجر رجلا لينقل له هذا الطعام إلى موضع معلوم لأنه) ش: أي لأن الرجل المستأجر م: (إذا أراه ما ينقله والموضع الذي يحمل إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد) ش: بدون ذكر المدة، والله أعلم بالصواب.(10/231)
باب الأجر متى يستحق قال: الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بإحدى معاني ثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب وقت استحقاق الأجر في عقد الإجارة]
م: (باب الأجر متى يستحق) ش: لما كانت الإجارة موقوفة على إعلام الأجرة احتاج إلى بيان وقت وجوبها ولو بوب له بابا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الأجرة لا تجب بالعقد) ش: أي بنفس العقد، قال تاج الشريعة: أراد وجوب الأداء. أما نفس الوجوب فثبت بنفس العقد. وقال السغناقي: لا تجب، معناه لا يجب تسليمها وأداؤها بمجرد العقد، وقال صاحب العناية: هذا ليس بواضح؛ لأن نفي وجوب التسليم لا يستلزم نفي التملك كالمبيع، فإنه يملكه المشتري بمجرد العقد، ولا يجب تسليمه ما لم يقبض الثمن. والصواب أن يقال معناه لا يملك لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في الجامع أن الأجرة لا تملك وما لم يملك لم يجب إيفاؤها.
فإن قلت: فإذا لم يستلزم نفي الوجوب نفي التمليك كان أعم منه. وذكر الأعم وإرادة الأخص ليس بمجاز لعدم دلالة الأعم عليه أصلا.
قلت: أخرج الكلام مخرج الغالب وهو أن يكون الأجرة مما ثبت في الذمة ونفي الوجوب فيها وهو يستلزم نفي التمليك لا محالة، وعلى هذا كان قوله يستحق بمعنى يملك يدل على هذا كله قوله، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يملك بنفس العقد وإلا لم يكن محل الخلاف متحدا، انتهى.
قلت: ذكر في " الذخيرة " يجب أن يعلم أن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤها إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط تعجيلها سواء كانت عينا أو دينا، هكذا ذكر محمد في " الجامع) وذكر في الإجارات إن كانت عينا لا تملك بنفس العقد وإن كانت دينا تملك بنفس العقد ويكون بمنزلة الدين المؤجل.
فعامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكره في الجامع. وقال بعضهم ما ذكره في الإجارات قوله أولا وما ذكره في " الجامع " أخرى وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد معاوضة فيوجب المساواة بين البدلين ما أمكن ما لم يغير بالشرط. فلو قلنا أن إيفاءها يجب قبل استيفاء المنفعة تزول المساواة، وبه قال مالك.
م: (وتستحق بإحدى معاني ثلاثة) ش: وفي بعض النسخ بأحد معان ثلاثة، فوجهه أن يكون على تأويل العلل؛ لأن المراد من المعاني العلل، ولكن الفقهاء يكفون عن استعمال العلل(10/232)
إما بشرط التعجيل، أو بالتعجيل من غير شرط، أو باستيفاء المعقود عليه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد، فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل، ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا، والعقد معاوضة ومن قضيتها المساواة، فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لكونها من اصطلاحات الفلاسفة. وقال تاج الشريعة: المسموع من السلف بأحد معان إذ المراد من المعاني العلل م: (إما بشرط التعجيل أو بالتعجيل من غير شرط أو باستيفاء المعقود عليه) ش: وفي العيون أو بالتمكن من الاستيفاء.
قيل: شرط التعجيل شرطا فاسدا؛ لأنه يخالف مقتضى العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة فيفسد العقد.
أجيب: بأن وجوب الأجرة من مقتضيات العقد، والعقد يقتضي ثبوت العقد عقيبه، إلا أن التعجيل سقط لمانع وقد زال المانع كالبيع يقتضي ثبوت الحكم عقيبه وبالخيار، ولا يثبت المانع فإذا ثبت ثبت مضافا إلى العقد السابق كذا هنا.
فإن قلت: كيف يستحق بالتعجيل من غير شرط، والمساواة بين البدلين شرط.
قلت: لأنه عجل بعد انعقاد سبب الوجوب؛ لأن سببه هو العقد، إلا أنه ما عمل عمله في إيجاب الملك في الأجرة للحال لتحقق المساواة، فإذ عجل فقد رضي ببطلان حقه في المساواة فصح كتعجيل الزكاة قبل حولان الحول، وتعجيل الدين المؤجل كالبائع إذا سلم المبيع قبل استيفاء الثمن، فإنه يصح؛ لأنه يعد سبب الوجوب.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد) ش: وهذا صحة الإجارة بأجرة مؤجلة ولو لم يجعل موجوده كان دينا بدين وهو حرام لا محالة، وإذا كانت موجودة وجب ثبوت الحكم بالعقد لوجود المقتضى وانتفاء المانع م: (فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل) ش: ولهذا صح الإبراء عن الأجرة قبل استيفاء المنفعة بالإجماع وصح الارتهان به بالإجماع، وبه قال أحمد.
فإن قيل: الثابت بالضرورة لا يتعدى موضعها فلا يتعدى من صحة العقد إلى إفادة الملك.
فالجواب: أن الضروري إذا ثبت يتبع لوازمه وإفادة الملك من لوازم الوجود عند العقد.
م: (ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا) ش: يعني في أول هذا الكتاب م: (والعقد معاوضة) ش: أي عقد الإجارة معاوضة بلا خلاف م: (ومن قضيتها) ش: أي من قضية المعاوضة م: (المساواة) ش: أي من حكم عقد المعاوضة المساواة بين البدلين م: (فمن(10/233)
ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر، وإذ استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية، وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل من غير شرط؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله. وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر وإن لم يسكنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر) ش: وهو الإبراء تحقيقا للمساواة.
م: (وإذا استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية، وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل) ش: أي الأجرة م: (من غير شرط؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله) ش: أي المستأجر المستعجل.
فإن قلت: ما فائدة هذا الخلاف قد ذكر على والدين في طريقة الخلاف أن فائدته هي أنه لا يثبت لمؤجر ولاية المطالبة بتسليمها في الحال. ولو كانت الأجرة عبدا وهو قريبه لا يعتق عليه في الحال، وعنده ولاية المطالبة في الحال ويعتق عليه في الحال.
والجواب: عن قوله: " ولو لم يجعل موجوده كان دينا بدين وهو حرام " أن ذلك ليس بدين؛ لأن الدين ما يكون في الذمة والمنافع ليست كذلك على أنه أقيمت العين مقام المنفعة فلم يكن دينا بدين، وهذا طريق شائع يتابع لكونه إقامة السبب مقام المسبب. وأما جعل المعدوم موجودا فلم يعهد كذلك.
م: (وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر، وإن لم يسكنها) ش: ذكر هذان البابان أن التمكن من الاستيفاء يقوم مقام الاستيفاء، لا يقال فعلى هذا كان الواجب أن يقول بأحد معان أربعة، أو باستيفاء المعقود عليه أو بالتمكن منه يقوم مقامه أحيانا، ويدل أن الاقتسام لا يكون قسما بذاته، كذا قاله صاحب العناية وفيه نظر. لأنا لا نسلم أن التمكن من الاستيفاء بدل بل هو قسم بذاته، فلذلك عده البعض رابعا. ثم قول المصنف: فعليه الأجرة وإن لم يسكنها ليس على إطلاقه بل مقيد، وبه قال أكثر أهل العلم.
الثاني: أن تكون الإجارة صحيحة، ألا ترى إلى ما قال في تتمة الفتاوى لا يجب الأجرة في الإجارة الفاسدة بالتمكن من استيفاء المنفعة، وإنما تجب بحقيقة الاستيفاء، بخلاف الإجارة الصحيحة، فإن الأجرة تجب فيها بالتمكن من استيفاء المنفعة، ثم في الإجارة الفاسدة. وإنما تجب الأجرة، بحقيقة الاستيفاء إذا وجد التسليم إلى المستأجر من جهة الأجر. أما إذا لم يوجد التسليم إليه من جهة الأجر لا يجب الأجر وإن استوفى المنفعة. ونقله عن شروح " الجامع الكبير ".
والثالث: ما ذكره في الذخيرة وشرح " الأقطع " إن التمكن من المستأجر يجب أن يكون في المكان الذي وقع العقد في حقه، حتى إذا استأجر دابة إلى الكوفة فسلمها المؤجر فأمسكها(10/234)
لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور، فأقمنا تسليم المحل مقامه إذ التمكن من الانتفاع يثبت به، فإن غصبها غاصب من يده سقطت الأجرة؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم وانفسخ العقد فسقط الأجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستأجر ببغداد حتى مضت مدة يمكنه المسير إلى الكوفة فلا أجر. وإن ساقها معه إلى الكوفة ولم يركب وجب الأجر. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يجب الأجر في الوجهين؛ لأن المنافع بلغت تحت يده باختياره.
قلنا: العقد وقع على المسافة كان بالتسليم في غيرها لا يستحق البدل، وينبغي أن يكون التمكن من الاستيفاء من المدة، فإنه لو استأجر دابة إلى الكوفة في هذا اليوم وذهب إليها بعد مضي اليوم بالدابة ولم يركب لا يجب الأجر، وإن استأجر دابة إلى مكة فلم يركبها، بل مشى فإن كان بغير عذر في الدابة فعليه الأجر، وإن كانت لعلة في الدابة بحيث لم يقدر على الركوب لا أجر عليه.
ولو استأجر ثوبا ليلبسه كل يوم بدانق فوضعه في بيته ولم يلبسه حتى مضى عليه سنون فعليه لكل يوم دانق ما دام في الوقت الذي يعلم أنه لو كان لبسه لا ينخرق لتمكن اللبس، فإذا مضى وقت يعلم أنه لو كان يلبسه ينخرق سقط عنه الأجر لتعذر جعله منتفعا به.
وفي النوازل نظر لهذا بالمرأة إذا أخذت الكسوة من الزوج ولم تلبس ولبست ثوب نفسها إذا مضى وقت لو لبسته لبسا معتادا ينخرق كان لها ولاية المطالبة بكسوة أخرى وإلا فلا.
وفي " خلاصة الفتاوى ": إذا أجر دارا وسلمها فارغة إلا بيتا، كان مشغولا بمتاع الأجر أو سلم إليه جميع الدار ثم انتزع بيتا منها من الدار رفع عن الأجر بحصة البيت.
وسكوت المصنف عن هذه القيود للاختصار اعتمادا على دلالة الحال والعرف، فإن حال المسلم دالة على أن يباشر العقد الصحيح، وعلى أن العاقد يجب عليه تسليم ما عقد عليه فارغا عما يمنع من الانتفاع به، والعرف فاش في تسليم المعقود عليه في مدة العقد والمكان، فكان معلوما عادة، وعلى أن الإكراه والغصب مما يمنعان عن الانتفاع فاقتصر عن ذلك اعتمادا عليهما.
م: (لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فأقمنا تسليم المحل مقامه، إذ التمكن من الانتفاع يثبت به) ش: أي بتسليم المحل م: (فإن غصبها) ش: أي العين المستأجرة م: (غاصب من يده سقطت الأجرة؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم وانفسخ العقد) ش: وذكر الفضل قاضي خان في الفتاوى لا لتنفسخ الإجارة ولكن م: (فسقط الأجر) ش: ما دامت في يد الغاصب، وبه قال الشافعي، ولكن له حق الفسخ.(10/235)
وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره إذ الانفساخ في بعضها. ومن استأجر دارا فللمؤجر أن يطالبه بأجر كل يوم لأنه استوفى منفعة مقصودة، إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد؛ لأنه بمنزلة التأجيل، وكذلك إجارة الأراضي لما بينا. ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم غصب العين المؤجرة في بعض مدة الإجارة]
م: (وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره إذ الانفساخ في بعضها) ش: أي بقدر المدة التي وجب فيها الغصب وليس فيه خلاف.
م: (ومن استأجر دارا) ش: ذكر هذا البيان وقد استحقاق مطالبة الأجر، أي من استأجر دارا مدة معلومة م: (فللمؤجر أن يطالبه بأجر كل يوم لأنه استوفى منفعة مقصودة) ش: قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الصواب أن يقال فللمؤجر لأن قولنا أجر الدار هو أفعل لا فاعل، واسم الفاعل منه المؤجر لا المؤاجر.
قلت: قد بينت فيما مضى أن المؤاجر ليس بفاعل من أجر، وإنما هو فاعل من واجر وقد بينت أنه لغة العوام فإنهم يقولون واجر موضع آجر، فبالضرورة إذا أخذوا منه الفاعل يقولون مؤاجر فالخطأ في قولهم واجر لا في قولهم مؤاجر، فافهم.
وقال في شرح " الأقطع ": وقال زفر: لا يطالبه إلا بعد مضي مدة الإجارة ولو كانت مائة سنة وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول؛ لأن جميع المعقود عليه لم يصر مسلما فلا يطالبه ببدله، بخلاف ما إذا بين الاستحقاق مثل أن يقول أجرتك هذا الدار بكذا شيئا على أن تعطيني الأجر بعد شهرين.
ولنا أنه استوفى بعض المعقود عليه فيجب بدله تحقيقا للمعادلة بين المتعاقدين فكان القياس أن تجب الأجرة حالا فحالا، كما لو قبض بعض المبيع واستهلكه، إلا أنهم استحسنوا فأوجبوا الأجرة يوما فيوما تيسيرا.
م: (إلا أن يبين) ش: أي المستأجر م: (وقت الاستحقاق بالعقد؛ لأنه بمنزلة التأجيل) ش: والتأجيل يسقط استحقاق المطالبة إلى انتهاء الأجل م: (وكذلك إجارة الأراضي) ش: يعني إذا أجر الأرض له أن يطالب المستأجر بأجرة كل يوم لأنه منفعة مقصودة، إلا إذا بين وقت الاستحقاق فلا يطالبه إلا في ذلك الوقت لأنه بمنزلة التأجيل م: (لما بينا) ش: وهو قوله: لأنه منفعة مقصودة ... إلى آخره.
م: (ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة؛ لأن سير كل مرحلة مقصود) ش: قال الكاكي: هذا قول الكرخي ذكره في المبسوط والإيضاح. وأما قول أبي حنيفة(10/236)
وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: أولا لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - المرجوع إليه لم يقدر بتقدير، بل قال: كل ما سار مسيرا له من الأجر شيء معروف، فله أن يأخذه بذلك، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي: نسبة ما ذكره القدوري إلى الكرخي عيب جدا؛ لأن الكرخي نص في " مختصره " أنه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأخير، ألا ترى أنه قال فيه.
وقال أبو حنيفة فيما له وقت يطالبه بأجرة كل يوم يمضي من مدة الإجارة، وكذلك في المسافة على قدر ما قطع منها فيما يمكن تحصيل جزء من أجزائه.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذي يكتري إلى مكة للحال أن يطالبه بالأجرة يوما بيوم، وهو قول أبي حنيفة الآخر وهو أيضا قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال أبو يوسف في الدور والمنازل: إذا استأجر الرجل شيئا منها شهر بأجر معلوم فليس له أن يأخذ الأجرة إلا إذا مضى شهر وليس له أن يطالب مثل ذلك، روى ذلك عنه ابن سماعة وبشر بن الوليد وعلي بن الجعد. وروى عنه في الذي استأجر إبلا إلى مكة أنه لا يأخذ الأجر منه حتى يسير الثلث أو النصف وقال استخسر ذلك في الشقة البعيدة.
وقال زفر: إذا استأجر الرجل دارا كل شهر بعشرة دراهم وكل سنة بمائة درهم فليس له أن يأخذ من الأجر شيئا حتى يمضي شهر في قوله كل شهر، وحتى تمضي سنة في قوله سنة. فإن استأجر اثنا عشر سنة بألف درهم لم يكن له أن يطالب بشيء من ذلك حتى تمضي المدة، وكذلك قال في المكر إلى مكة ذاهبا وجائيا أنه لا يطالب بالأجر حتى يذهب ويجيء، وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصول.
وأما في الأصل فهو عندي قوله الأخير؛ لأنه قال في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، وهذا قبل موته ليس بمشهور، انتهى.
وفي " التقريب " للقدوري: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا استأجر إبلا إلى مكة لم يلزمه تسليم الأجرة حتى يرجع، وهو قول زفر ثم رجع أبو حنيفة وقال: كلما سار مرحلة طالبه بقدره، وهو قولهما، وكذا ذكره في " المختلف " في باب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولا لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر،(10/237)
وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها كما إذا كان المعقود عليه العمل. ووجه القول المرجوع إليه أن القياس استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة، إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به فقدرنا بما ذكرنا. قال: وليس للقصار والخياط أن يطالب بالأجرة حتى يتفرغ من العمل؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب الأجر به، وكذا إذا عمل في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها كما إذا كان المعقود عليه العمل) ش: كالخياطة، فإن الخياط لا يستحق الأجر قبل الفراغ.
فإن قيل: قال فلا يتوزع الأجر على أجزائها يعني المنافع، وهو خلاف المشهور أن أجر العوض ينقسم على أجزاء المعوض، وقال المنافع على العمل وهو فاسد؛ لأن شرط انقسام المماثلة بين الأصل والفرع وهو منتف؛ لأنه في المنافع قد استوفى المستأجر بعضها فيلزمه العوض بقدر، ولا كذلك العمل؛ لأنه لم يتسلم من الخياط شيئا.
فالجواب: أن أجزاء العوض ينقسم على أجزاء المعوض وجوبا وليس الكلام فيه وإنما الكلام في استحقاق القبض وفي ذلك لا يتوزع كما في المبيع والتسليم في الخياط، وهو تقدير، إلا أن عمل الخياط لما اتصل بالثوب كان ذلك سليما تقديرا، على أن المصنف لم يلتزم صحة دليل القول المرجوع عنه، فإنه لو كان صحيحا البتة لم يكن للرجوع عنه وجه.
م: (ووجه القول المرجوع إليه أن القياس) ش: يقتضي م: (استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة) ش: بين البدلين م: (إلا أن المطالبة في كل ساعة) ش: هذا الاستثناء لبيان وجه ترك القياس وهو أن المطالبة كلما سار شيئا ولو خطوة م: (تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به) ش: بل المطالبة حينئذ تفضي إلى عدمها، فإن المستأجر لم يتمكن من الانتفاع بأمر من جهة المؤجر فيمتنع الانتفاع من جهة المؤجر، فيمتنع المطالبة. وما أفضى وجوده إلى عدمه فهو منتف م: (فقدرنا بما ذكرنا) ش: من اليوم في الدار والمرحلة في البعير استحسانا.
[وقت استحقاق القصار والخياط ونحوهما للأجرة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للقصار والخياط أن يطالب بالأجرة حتى يتفرغ من العمل) ش: كله م: (لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب الأجر به) ش: وهذا يشير إلى أنه إذا كان ثوبين ففزع أحدهما جاز أن يطلب أجرته لأنه منتفع به م: (وكذا إذا عمل) ش: أي الخياط م: (في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ) .
ش: قال السغناقي: هذا وقع مخالف لعامة روايات الكتب عن " المبسوط " و " الذخيرة " و " المغني " و" شرح الجامع الصغير " لفخر الإسلام وقاضي خان والتمرتاشي و " الفوائد(10/238)
لما بينا، قال: إلا أن يشترط التعجيل لما مر أن الشرط فيه لازم. قال: ومن استأجر خبازا ليخبز في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن تمام العمل بالإخراج فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم. فإن أخرجه ثم احترق من غير فعله فله الأجر؛ لأنه صار مسلما بالوضع في بيته ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الظهيرية " لما أنه ذكر فيها أن العامل في بيت المستأجر يستحق الأجر بقدر عمله، حتى لو سرق الثوب فله الأجر بقدر عمله؛ لأن كل جزء من العمل يصير مسلما إلى صاحب الثوب بالفراغ منه، ولعله اتبع صاحب التجريد أبا الفضل الكرماني في هذا الحكم فإنه ذكره كما ذكر في الكتاب.
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يستحق المطالبة بعد الفراغ من العمل، ولكن يجب بنفس العقد م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به.
م: (قال: إلا أن يشترط التعجيل لما مر أن الشرط فيه لازم) ش: أي في التعجيل م: (قال: ومن استأجر خبازا ليخبز في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن تمام العمل بالإخراج) ش: ذكر هذا البيان حكمين: أحدهما: أن الأجير المشترك لا يستحق الأجرة حتى يفرغ من عمله، والثاني: أن فراغ العمل بماذا يكون ففي استئجار الخباز لا يستحق الأجر حتى يخرج الخبز من التنور؛ لأن كل واحد لا بجنسه على وجه لا ينقطع، فإن قبل خبزه في بيته يمنع أن يخبز لغيره، ومن عمل لواحد فهو أجير واحد واستحقاقه الأجرة لا يتوقف على الفراغ من العمل.
أجيب بأن: أجير الواحد من وقع العقد في حقه على المدة كمن استأجر شهرا لخدمة، وما نحن فيه مستأجر على العمل فكان أجيرا مشتركا يوقف استحقاقه على فراغ العمل.
م: (فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم) ش: وفي المبسوط وهو ضامن، لأن هذا جناية يد ويخير صاحب الخبز إن شاء ضمنه مخبوزا وأعطاه الأجر، وإن شاء ضمنه دقيقا ولم يكن له أجر.
م: (فإن أخرجه) ش: من التنور م: (ثم احترق من غير فعله) ش: أراد أنه هلك من غير صنعته؛ لأن الاحتراق هلاك، أو احترق بنار أخرى أو رماه أحد في التنور م: (فله الأجر) ش: المسمى م: (لأنه صار مسلما) ش: بكسر اللام م: (بالوضع في بيته ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية) ش: فلا ضمان إلا على الجاني. قال العبد الضعيف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد به نفسه م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا) ش: أي قوله لا ضمان عليه أو عدم الضمان في الهلاك بعد(10/239)
عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه أمانة في يده، وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له؛ لأنه مضمون عليه فلا يبرأ إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز وأعطاه الأجر.
قال: ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة فالغرف عليه اعتبارا للعرف.
قال: ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يستحقها حتى يشرجها؛ لأن التشريج من تمام عمله إذ لا يؤمن من الفساد قبله، فصار كإخراج الخبز من التنور، ولأن الأجير هو الذي يتولاه عرفا وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإخراج م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه أمانة في يده وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له) ش: الحاصل صاحب الدقيق بالخباز إن شاء ضمنه مثل دقيقه ولا أجر له م: (لأنه مضمون عليه) ش: لأن قبض الأجير المشترك مضمون عندهما م: (فلا يبرأ) ش: منه بوضعه في منزل ملكه، كما لا يبرأ الغاصب من الضمان بذلك م: (إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز وأعطاه الأجر) ش: ولا ضمان عليه في الحطب والملح عندهما؛ لأن ذلك صار مستهلكا قبل وجوب الضمان عليه، وحال وجوب الضمان في تنور قيمته له كذا في " الذخيرة ". وقال السغناقي: هذا الذي ذكره من الاختلاف اختيار القدوري، وأما عند غيره فهو مجرى على عمومه، فإنه لا ضمان بالاتفاق. أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم يهلك من عمله. وأما عندهما فلأنه هلك بعد التسليم وبه قالت الثلاثة.
قلت: هذا يتم إذا كان الوضع في بيته تسليما.
م: (قال: ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة) ش: وهو طعام العرس، والوكيرة طعام البناء، والنجوس طعام الولادة، وما يطعمه النفساء نفسها خرسة، وطعام الختان أعذار، وطعام القادم من سفره نقيعة، وكل طعام صنع لدعوة مادية جميعا ويقال: فلان يدعو العقر إذا خص وفلان يدعو الجعلي الأجعلي إذا عم كذا قال القتبي وغيره م: (فالغرف) ش: بفتح الغين المعجمة من باب ضرب يضرب وهو جعل الطعام في القصعة م: (عليه) ش: أي على الطباخ م: (اعتبارا للعرف) ش: بضم العين المهملة وهو العادة، وإنما قيد بقوله للوليمة؛ لأنه لو استأجره ليطبخ قدر خاص بعينه لا يكون الغرف عليه ذكره في المغني والمحيط والإيضاح، والمرجع في الجميع الغرف.
م: (ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا) ش: بفتح اللام وكسر الباء الموحدة وهو الآجر اللبني م: (استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قالت الثلاثة م: (وقالا لا يستحقها حتى يشرجها) ش: أي ينضدها بضم بعضها إلى بعض، ومادته بشين معجمة وراء وجيم م: (لأن التشريج من تمام عمله إذ لا يؤمن من الفساد قبله فصار كإخراج الخبز من التنور، ولأن الأجير هو الذي يتولاه) ش: أي التشريج م: (عرفا) ش: أي من حيث العرف والعادة م: (وهو)(10/240)
المعتبر فيما لم ينص عليه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل قد تم بالإقامة والتشريج عمل زائد كالنقل. ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز لأنه غير منتفع به قبل الإخراج.
قال: وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين بعد الفراغ عن عمله حتى يستوفي الأجر لأن المعقود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي العرف م: (المعتبر فيما لم ينص عليه ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل قد تم بالإقامة، والتشريج عمل زائد كالنقل. ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز لأنه غير منتفع به قبل الإخراج) ش: وفائدة الخلاف أنه إذا أفسد المطر قبل التشريج أو تكسر لا أجر له خلافا لهما.
وفي " المبسوط ": هذا كله إذا كان يقيم العمل في ملك المستأجر أما في غير ملكه فما لم يعد عليه ويسلمه إليه لا يستحق الأجر بالاتفاق، حتى لو فسد قبل العد لا أجر له إلا على قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الرندويستي ": لو ضربه في ملك نفسه لا يجب الأجر عنده إلا بالعد عليه بعد إقامته، وعندهما بالعد عليه بعد التشريج.
وقال الكرخي في " مختصره ": وإذا استأجره ليضرب له لبنا في ملكه أو في شيء هو في يده فإن رب اللبن لا يكون قابضا حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خلاف عنه في ذلك.
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - حتى يشرجه فإن هلك اللبن قبل الحد الذي حد كل واحد منهم في قوله فلا أجر له، وإن كان بعد فله الأجر، وإن كان ذلك في غير يده ولا في ملكه لم يكن له الأجر حتى يسلمه منصوبا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومشرجا عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.
[حبس القصار ونحوه للعين لحين استيفاء الأجرة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين بعد الفراغ عن عمله حتى يستوفي الأجر؛ لأن المعقود عليه وصف قائم في الثوب) ش: هذا في الصباغ ظاهر؛ لأن أثر عمله في الثوب موجود وهو الصبغ وأما القصار إذا كان يقصر بالنشاء والبيض فكذلك، وإن كان يقصر بلا شيء، قيل: ليس له أن يحبس؛ لأن البياض قد اشترى بالدرن والوسخ.
فإذا زال ذلك بعمله يظهر ذلك البياض، وقيل له الحبس أيضا. وفي " خلاصة الفتاوى " وهذا إذا كان عمله في دكانه، أما إذا خاط الخياط أو صبغ الصباغ في بيت المستأجر فليس له حق الحبس م: (فله حق الحبس لاستيفاء البدل كما في المبيع) ش: حيث يجوز للبائع حبسه عن المشتري حتى يقبض الثمن، وبه قال الشافعي في وجه. وقال زفر والشافعي في قول(10/241)
عليه وصف قائم في الثوب فله حق الحبس لاستيفاء البدل كما في المبيع، ولو حبسه فضاع في يده لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه غير متعد في الحبس، فبقي أمانة كما كان عنده ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم. وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - العين كانت مضمونه قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى. قال: وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال والملاح؛ لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس، وغسل الثوب نظير الحمل. وهذا بخلاف الآبق حيث يكون للراد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد: ليس له أن يحبس.
م: (ولو حبسه فضاع في يده لا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه غير متعد في الحبس) ش: ولا ضمان إلا على المتعدي م: (فبقي أمانة كما كان عنده) ش: أي عند أبي حنيفة، أي كما كان أمانة قبل الحبس فكذلك بعده م: (ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم) ش: أي قبل تسليمه إلى مالكه فلا يستحق شيئا.
م: (وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - العين كانت مضمونة قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته) ش: حال كونه م: (غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسنبين من بعد إن شاء الله تعالى) ش: يعني في باب ضمان الأجير.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال) ش: بالحاء المهملة والميم أيضا، وهو مكاري الجمل م: (والملاح) ش: وهو الذي يتولى أمر السفن، ويقال له النوتي بلغة أهل مصر م: (لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس) .
ش: لأن العمل الذي هو المعقود عليه حقيقة قد تلاشى واضمحل، وليس لعمله أثر في العين حتى يقوم مقام العمل، فلا يكن له ولاية الحبس ضرورة م: (وغسل الثوب نظير الحمل) ش: يعني إذا لم يكن ثمة من النشاء وغيره سوى إزالة الوسخ بالماء، وأما إذا كان فهي مسألة القصار، وهذا اختيار بعض المشايخ، اختاره المصنف، وذكر في المبسوط وجامع قاضي خان أن إحداث البياض في الثوب بإزالة الدرن بمنزلة عمل له أثر في العين قيل وهو الأصح؛ لأن البياض كان مستترا وقد ظهر بفعله.
م: (وهذا بخلاف الآبق) ش: هذا جواب عما يقال الآبق إذا رآه انسان كان له حق الحبس وان لم يكن لعمله أثر في العين قائم، وتقريره أن يقال الآبق ليس كذلك م: (حيث يكون للراد(10/242)
حق حبسه لاستيفاء الجعل ولا أثر لعمله لأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه فكأنه باعه منه فله حق الحبس وهذا الذي ذكرناه مذهب علمائنا الثلاثة وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له حق الحبس في الوجهين لأنه وقع التسليم باتصال المبيع بملكه فيسقط حق الحبسِ، ولنا أن الاتصال بالمحل ضرورة إقامة تسليم العمل فلم يكن هو راضيا به من حيث إنه تسليم فلا يسقط حق الحبس، كما إذا قبض المشتري بغير رضاء البائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق حبسه لاستيفاء الجعل ولا أثر) ش: أي والحال أنه لا أثر م: (لعمله لأنه) ش: أي الآبق م: (كان على شرف الهلاك وقد أحياه) ش: يرد إلى المولى، والإحياء الذي يتصور من العباد تخليص من الإشراف على الهلاك، وبه فسر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (المائدة: الآية 32) ، إذ الإحياء الحقيقي لله تعالى.
فإن قلت: إذا ذبح شاة أشرفه على الهلاك، فإنه يضمن وإن كان أحيا ملكه.
أجيب: بأن الذابح إن كان مودعا كان أجير المالك، إذا أخبر المالك فالمسألة ممنوعة.
وإن كان أجنبيا فرضاء المالك غير معلوم، فأما الرضى برد الآبق فمعلوم م: (فكأنه باعه منه) ش: أي فكأن المراد باع الآبق من المولى م: (فله حق الحبس) ش: كالبائع له حبس المبيع م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: يعني حق الحبس للصانع بالأجر إذا كان لعمله أثر م: (مذهب علمائنا الثلاثة) ش: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له حق الحبس في الوجهين) ش: يعني في الذي يعلمه فيه أثر، وفي الذي لم يكن. وذكر العتابي قول الشافعي كقول زفر م: (لأنه وقع التسليم باتصال المبيع) ش: أي المعقود عليه م: (بملكه) ش: وفي بعض النسخ: باتصال المعقود عليه وهو الأظهر م: (فيسقط حق الحبسِ) ش: كما لو عمل في بيت الصاحب.
م: (ولنا أن الاتصال بالمحل) ش: إنما وقع م: (ضرورة إقامة تسليم العمل) ش: لأن صبغ ثوب المستأجر بدون الثوب محال م: (فلم يكن هو) ش: أي الصابغ م: (راضيا به) ش: باتصال الملك م: (من حيث إنه تسليم) ش: أي تسليم المعقود عليه للمستأجر، فإذا لم يكن راضيا بذلك م: (فلا يسقط حق الحبس، كما إذا قبض المشتري) ش: المبيع م: (بغير رضاء البائع) ش: فإن للبائع أن يحبس وأن يسلمه المشتري لكونه بغير رضاه.
فإن قلت: إذا استأجر خياطا فخاط في بيت المستأجر فبنفس الخياطة يكون مسلما، فلو لم يكن الاتصال بالمحل تسليما لما وقع التسليم هاهنا.
قلت: رضي الخياط بوقوع الخياطة تسليما لمباشرته ما لا ضرورة فيه وهو الخياطة في بيت(10/243)
قال: وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه فليس له أن يستعمل غيره؛ لأن المعقود عليه اتصال العمل في محل بعينه فيستحق عينه كالمنفعة في محل بعينه وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من يعلمه؛ لأن المستحق عمل في ذمته ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره بمنزلة إيفاء الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المستأجر، بخلاف ما نحن فيه فافترقا.
[شرط على الصانع أن يعمل بنفسه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه) ش: نقل عن حميد الدين الضرير هو مثل أن يقول أن تعمل بنفسك أو بيدك مثلا وإليه أشار المصنف بقوله أن يعمل بنفسه م: (فليس له أن يستعمل غيره؛ لأن المعقود عليه اتصال العمل في محل بعينه) ش: أراد بالمحل نفس الصانع، يعني شرط أن يكون محل هذا العمل هو لا غيره، فلا يجوز أن يستعمل غيره م: (فيستحق عينه) ش: أي عين ذلك العمل م: (كالمنفعة في محل بعينه) ش: كان استأجر دابة بعينها للحمل، فإنه ليس للمؤجر أن يسلم غيرها ولمن استأجر غلاما بعينه ليس للمؤجر أن يدفع غلاما آخر مكانه. قال صاحب " العناية ": وفيه تأمل؛ لأنه إن خالفه إلى خير بأن استعمل من هو أصنع منه في ذلك الفن أو سلم دابة أقوى من ذلك كان ينبغي أن يجوز.
قلت: عرضه تعلق لمعنى علمه عنده فلا ينبغي أن يتعدى إلى غيره وإن كان الغير خيرا منه.
م: (وإن أطلق له العمل) ش: مثل أن يقول خط هذا الثوب أو اصنعه م: (فله أن يستأجر من يعمله؛ لأن المستحق عمل في ذمته ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره) ش: لأن المقصود هو العمل وقد حصل م: (بمنزلة إيفاء الدين) ش: فإن الإيفاء يحصل بالمديون وبالتبرع من غيره.(10/244)
فصل ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب فوجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي له الأجر بحسابه لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره ومراده إذا كانوا معلومين.
وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل بيان عدم استحقاق تمام الأجر أو بعضه]
م: (فصل) ش: لما بين استحقاق تمام الأجر عقبه بالفصل بيان عدم استحقاق تمام الأجر أو بعضه.
م: ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب) ش: أي الرجل إلى البصرة م: فوجد بعضهم) ش: أي بعض عيال المستأجر م: (قد مات فجاء بمن بقي له الأجر بحسابه) ش: قال تاج الشريعة: أي أجرة الذهاب بكمالها واحدة، المجيء بقدره؛ لأن الأجر مقابل بنقل العيال لا بقطع المسافة، ولهذا لو ذهب ولم ينقل أحدا منهم لا يستوجب شيئا: م: (لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره) ش: أي بقدر ما أوفى م: (ومراده) ش: محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال صاحب " العناية ": أي مراد القدوري وهذا غلط؛ لأن القدوري لم يذكر هذه المسألة في " مختصره "، وإنما هذه من مسائل " الجامع الصغير " وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فوجد بعضهم قد مات فحمل من بقي، قال: له من الأجر بحساب ذلك م: (إذا كانوا معلومين) ش: يعني عياله إذا كان عددهم معلوما، قيد به لأنهم إذا كانوا غير معلومين يستحق جميع الأجرة، وهذا اختيار الهندواني. وقال بهذا إذا كانت المؤنة تقل بنقصان العدد، أما إذا كانت مؤنة البعض ومؤنة الكل سواء فإنه يجب الأجر كاملا.
وعن الفضلي استأجر في المصر ليحمل الحنطة من القرية فذهب ولم يجد الحنطة فعاد، إن كان قال أستأجر تلك من المصر حتى أحمل الحنطة من القرية يجب نصف الأجر بالذهاب
ولو كان قال: استأجرتك حتى أحمل من القرية لا يجب شيء؛ لأن في الأولى العقد على شيئين الذهاب إلى القرية والحمل منها، وفي الثانية شرط الحمل ولم يوجد فلا يجب شيء، كذا في " الذخيرة " و " جامع التمرتاشي ".
[استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة فوجد فلانا ميتا فرده]
م: (وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده) ش: أي الكتاب قيد به؛ لأنه لو ترك الكتاب ثمة يستحقه أجر الذهاب بالإجماع م: (فلا أجر له،(10/245)
وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله -: له الأجر في الذهاب لأنه أوفي بعض المعقود عليه وهو قطع المسافة، وهذا لأن الأجر مقابل به لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته. ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب؛ لأنه هو المقصود أو وسيلة إليه وهو العلم بما في الكتاب، ولكن الحكم معلق به وقد نقضه فيسقط الأجر كما في الطعام وهي المسألة التي تلي هذه المسألة. وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع؛ لأن الحمل لم ينتقض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - له الأجر في الذهاب؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه، وهو قطع المسافة وهذا لأن الأجر مقابل به) ش: أي يقطع المسافة م: (لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته) ش: وعند الثلاثة له الأجر في الذهاب والرد أيضا لثبوت الإذن بالرد دلالة إذا وجد ميتا. وذكر أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي يوسف مع محمد وغيره مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب لأنه) ش: أي لأن نقل الكتاب م: (هو المقصود) ش: لما فيه من تعظيم المكتوب إليه وصلة الرحم م: (أو وسيلة إليه) ش: أي النقل وسيلة إلى المقصود م: (وهو العلم بما في الكتاب) ش: لأن إعلام ما فيه لا يتصور إلا بنقل الكتاب م: (ولكن الحكم معلق به) ش: أي بنقل الكتاب، وأراد بالحكم وجوب الأجرة م: (وقد نقضه) ش: أو وقد نقضه الأجير النقل وهو عمله قبل التسليم م: (فيسقط الأجر كما في الطعام) ش: أي كما يسقط الأجر فيما إذا استأجر ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب به ووجده ميتا فرده، فإنه لا أجر له بالاتفاق لنفقة تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام والآن تجيء هذه المسألة، ولهذا قال: م: (وهى المسألة التي تلي هذه المسألة) ش: أي مسألة الطعام هذه هي التي تأتي عقيب مسألة نقل الكتب.
م: (وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع؛ لأن الحمل لم ينتقض) ش: لأن ترك الكتاب ثمة مفيد في الأصل؛ لأنه ربما يصل إلى ورثته فينتفعون به، وهاهنا قيود أبينها لك تكثيرا للفائدة:
الأول: قيد الذهاب بالكتاب ليشير إلى أن هذا فيما ليس له حمل ومؤنة، حتى لو استأجر بالذهاب والمسألة بحالة فلا أجر له بالاتفاق. وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب وهو قياس قول الثلاثة.
الثاني: قيد بالمجيء بالجواب؛ لأنه لو لم يشترط المجيء بالجواب وترك الكتاب ثمة فيما إذا كان ميتا وغائبا فإنه يجب الأجر كاملا.(10/246)
وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام. بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعقود عليه هناك قطع المسافة على ما مر. والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثالث: قيد بالذهاب بالكتاب، حتى لو ذهب إلى فلان بلا كتاب فلا أجر له.
الرابع: قيد بأنه وجده ميتا لأنه إذا لم يجده ميتا وأتى بالجواب يستحق الأجر كاملا.
الخامس: قيد بأنه وجد ميتا حتى لو وجده غائبا ودفع الكتاب إلى آخر ليدفعه إليه أو دفعه إلى فلان وهو لم يقر ورجع بالجواب فله أجر الذهاب.
السادس: قيد استئجاره بتبليغ الكتاب لأنه لو استأجره لتبليغ الرسالة إلى فلان بالبصرة فذهب ولم يجد أو وجد ولم يبلغ برسالته ورجع له الأجر بالإجماع.
السابع: قيد بأنه رد لأنه لو ترك يستحق أجر الذهاب وقد ذكرناه فيما مضى.
[استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فوجد فلانا ميتا فرده]
م: (وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه وهو حمل الطعام) ش: لأن الأجر هاهنا مقابل بصيرورة الطعام محمولا إلى ذلك الموضع الذي عينه؛ لأنه الفرض صحيح عينه وهو الربح وغيره، فإذا رد فقد أبطل هذا الفرض فصار كالخياط إذا خاط الثوب ثم نقض حيث لا أجر له.
م: (بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول نقل الطعام عمل مقابل الأجر لما فيه من المشقة وقد نقضه بالرد، كما في مسألة الخياط إذا نقض. وأما نقل الكتاب فليس بعمل يقابل به الأجر لخفة مؤنته، وإنما الأجر مقابل بقطع المسافة وقد قطعها في الذهاب وهو معنى قوله م: (لأن المعقود عليه هناك) ش: أي في مسألة نقل الكتاب م: (قطع المسافة على ما هو، والله أعلم بالصواب) ش: وهو قوله: لأنه أوفى بعض المعقود عليه وهو قطع المسافة.(10/247)
باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها قال: ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها؛ لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه وأنه لا تتفاوت فصح العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها]
[استئجار الدور والحوانيت للسكنى]
م: (باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها) ش: أي في الإجارة م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قبل صورة المسألة فيما إذا قال استأجرت هذه الدار كذا شهرا، ولم يبين شيئا يعمل فيها السكنى ولا غيرها، فعلى هذا يكون قوله السكنى متصلا بالدور والحوانيت إلى استئجار دور السكنى وحوانيت السكنى من غير أن يبين ما يعمل فيها جائز. ويجوز أن يتعلق قوله السكنى بالاستئجار، أي يجوز استئجار الدور والحوانيت لأصل السكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها كل شيء لا يوهن البناء ولا يفسد وهو الظاهر من كلام القدوري.
قلت: فعلى قول تاج الشريعة يكون قوله للسكنى جوابا لوصفية على قول الأترازي يحتمل الوجهين الجر على الوصفية، والنصب على التعليل فافهم.
ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى، قال تاج الشريعة: السكنى هو صلة الدور والحوانيت لا صلة الاستئجار، يعني ويجوز استئجار الدور والحوانيت المعدة للسكنى، لا أن يقول زمان العقد استأجرت هذه الدار للسكنى فإنه لو نص هكذا وقت العقد لا يكون له أن يعمل فيها غير السكنى والتعليل يدل على ما ذكرت.
م: (وإن لم يبين) ش: المستأجر ما يعمل في الدور والحوانيت، صورته أن يقول: استأجرت هذه الدار شهرا بكذا ولم يبين م: (ما يعمل فيها) ش: من السكنى وغيره فذلك جائز م: (لأن العمل المتعارف فيها) ش: أي في الدور والحوانيت م: (السكنى فينصرف إليه) ش: أي السكنى م: (وأنه) ش: أي وأن السكنى م: (لا تتفاوت فصح العقد) ش: وفي بعض النسخ ولأنه، وهكذا صححه صاحب العناية، ولهذا قال: قوله: ولأنه لا تتفاوت.
جواب: عما عسى أن يقال سلمنا أن السكنى متعارف، لكن قد تتفاوت السكان فلا بد من بيانه.
ووجهه أن السكنى لا تتفاوت وما لا يتفاوت ولا يشتمل على ما يفسد العقد فيصح، وهذا استحسان. وفي القياس لا يجوز لأن المقصود من بناء الدار والحانوت الانتفاع، وهو قد يكون بالسكنى وقد يكون بوضع الأمتعة فينبغي أن لا يجوز ما لم يبين شيئا من ذلك، وبه قال أبو ثور.(10/248)
وله أن يعمل كل شيء للإطلاق إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وله) ش: أي وللمستأجر م: (أن يعمل كل شيء للإطلاق) ش: أي لإطلاق العقد، ويدخل تحت قوله كل شيء الوضوع ووضع المتاع وكسر الحطب للوقود وغسل الثياب وربط الدواب؛ لأن سكناها لا يتم إلا بذلك. وفي الذخيرة إنما يكون له ربط الدواب إذا كان فيها موضع معد له وإن لم يكن فليس له ذلك، وكذا قال " الأسبيجابي ". وفي شرحه: ولو استأجرها للسكنى كل شهر هكذا فله أن يربط فيها دابته وبعيره وشاته ويسكنها من أحب، وهذا إذا كان فيها موضع معد لذلك.
م: (إلا أنه) ش: أي المستأجر، والاستثناء من قوله: وله أن يعمل كل شيء م: (لا يسكن حدادا) ش: قال تاج الشريعة: فتح الحاء هو المسموع واستصوبه السغناقي. والأظهر ما قاله الأترازي وغيره: إنه يجوز فيه الفتح والضم، فعلى الفتح يكون حدادا نصب على الحال، وعلى الضم يكون مفعولا به، ففي الأول ينتفي الإسكان دلالة، وفي الثاني ينتفي السكنى دلالة، وقوله: م: (ولا قصارا ولا طحانا) ش: عطفا على حدادا، ونص في الذخيرة أن المراد رحى الماء أو رحى الثور.
أما رحى اليد فلا يمنع منه؛ لأنه لا يضر بالبناء وهو من توابع السكنى في العادة، ثم قال: ورحى اليد إذا كان يضر بالبناء وهو من توابع السكنى يمنع عنه وإلا لا، هكذا اختاره الحلواني وعليه الفتوى. وقال أيضا فلو قعد حداد أو غيره فانهدم شيء من البناء ضمن ذلك ولا أجر عليه فيما ضمن، وإن لم ينهدم شيء لا يجب الأجر؛ لأن عمل الحدادة والقصارة غير داخل في العقد ويجب استحسانا، وبه قالت الثلاثة.
ولو اختلف المستأجر والآجر في ذلك فقال المستأجر استأجرتها للحدادة والآجر يقول للسكنى دون الحدادة فالقول للآجر؛ لأنه أنكر الإجارة أصلا، ولو أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر لأنه يثبت زيادة الشرط.
وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في شرح الكافي: وإذا استأجر بيتا على أن يقعد فيه قصارا فأراد أن يقعد فيه حدادا فله ذلك إذا كانت مضرتهما واحدة، أو مضرة الحداد أقل لأنه لا يلحقه في ضرر زائد فكان ذلك، وإن كان أكثر مضرة لم يكن له ذلك لتحقق الضرر، وكذلك الوصي والمسلم والذمي والحربي المستأمن والحر والمملوك والمكاتب كلهم سواء في الإجارة.
وقال أيضا في شرح الطحاوي: ومن استأجر حانوتا ولم يسم ما يعمل فيه فله أن يعمل ما بدا له، إلا أنه لا يعمل حدادا ولا قصارا ولا طحانا، وكذلك كل ما يوهن البناء، وكذلك كل شيء استؤجر ولم يبين ذلك فله أن يعمل فيه حسب ذلك العمل إلا في أشياء معدودة إذا(10/249)
لأن فيه ضررا ظاهرا؛ لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة.
قال: ويجوز استئجار الأراضي للزراعة؛ لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها. وللمستأجر الشرب والطريق وإن لم يشترط؛ لأن الإجارة تعقد للانتفاع، ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد، بخلاف البيع؛ لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش والأرض السبخة دون الإجارة فلا يدخلان فيه من غير ذكر الحقوق، وقد مر في البيوع. ولا يصح العقد حتى يسمي ما يزرع فيها لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها وما يزرع فيها متفاوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركبها، أو استأجر ثوبا ولم يبين من يلبسه أو استأجر قدرا للطبخ ولم يبين ما يطبخ فيها فالإجارة في هذا كله فاسدة.
م: (لأن فيه) ش: أي في سكنى الحداد ونحوه أو في إسكانه م: (ضررا ظاهرا لأنه يوهن) ش: أي يضعف م: (البناء فيتقيد العقد بما وراءها) ش: أي بما وراء صنعة الحداد والقصار والطحان م: (دلالة) ش: أي من حيث دلالة الحال على ذلك.
[استئجار الأراضي للزراعة]
م: (قال: ويجوز استئجار الأراضي للزراعة لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها) ش: أي في الأراضي وفيه قيد سنذكره م: (وللمستأجر الشرب) ش: بكسر الشين وهو النصيب من الماء م: (والطريق وإن لم يشترط؛ لأن الإجارة تعقد للانتفاع ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد) ش: يعني وإن لم يذكرهما.
قال الفقيه أبو الليث في شرحه " للجامع الصغير ": وكان أبو جعفر يقول: إذا كانت الإجارات في بلدنا فالشرب لا يدخل في الإجارة بغير شرط؛ لأن الناس يتملون بالماء على الانفراد فلا يجوز أن يدخل فيها إلا بالشرط.
م: (بخلاف البيع) ش: يعني لا يدخلان فيه إلا بالذكر م: (لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش) ش: مع أنه لا ينتفع به في الحال م: (والأرض السبخة دون الإجارة) ش: أي وبيع الأرض السبخة بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وفتح الحاء المعجمة، وعن الكسائي بالإسكان، وهي الأرض التي لا تنبت شيئا والجمع على سباخ م: (فلا يدخلان فيه) ش: أي فلا يدخل الشرب والطريق في البيع م: (من غير ذكر الحقوق وقد مر في البيوع) ش: في باب الحقوق من كتاب البيوع.
م: (ولا يصح العقد) ش: أي عقد استئجار الأراضي الزراعية م: (حتى يسمي ما يزرع فيها) ش: بفتح الباء على بناء الفاعل م: (لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها) ش: أي ولغير الزراعة نحو البناء وغرس الأشجار ونصب الفسطاط ونحوها م: (وما يزرع فيها متفاوت) ش: بضم الياء على بناء المفعول؛ لأن البعض قريب الإدراك والبعض بعيد، أو لأن البعض يضر الأرض(10/250)
فلا بد من التعيين كيلا تقع المنازعة. أو يقول على أن يزرع فيها ما شاء لأنه لما فوض الخيرة إليه ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة،
ويجوز أن يستأجر الساحة ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا لأنها منفعة تقصد بالأراضي، ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه أن يقلع البناء والغرس ويسلمها إليه فارغة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالذرة والبعض لا يضر كالبطيخ م: (فلا بد من التعيين كيلا تقع المنازعة أو يقول) ش: بنصب اللام عطفا على قوله حتى يسمي م: (على أن يزرع فيها ما شاء؛ لأنه لما فوض الخيرة) ش: أي الاختيار وهو بكسر الخاء وفتح التاء آخر الحروف والراء م: (إليه) ش: أي إلى المستأجر م: (ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة) ش: وفي المغني لابن قدامة: لو استأجرها للزرع مطلقا، أو قال لتزرعها ما شئت فإنه يصح ولو زرعها ما شاء، وهو مذهب الشافعي ومالك - رحمهما الله.
وعن شريح لا يصح حتى يبين ما يزرع؛ لأن ضرره يختلف فلم يصح بلا بيان، وهو قولنا فيما أطلق الزرع كما ذكر في الكتاب، ثم لو زرع نوعا من الأنواع - وهذه الصورة - ومضت المدة ففي القياس يجب عليه أجر المثل، وفي الاستحسان يجب المسمى وينقلب العقد جائزا كما لو استأجر ثوبا للبس ولم يبين اللابس لا يجوز لتفاوت الناس فيه، فإن عين اللابس بعد ذلك جاز استحسانا، كذا في الذخيرة وجامع قاضي خان.
[يستأجر الساحة ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا]
م: (ويجوز أن يستأجر الساحة) ش: بالحاء المهملة المخففة، وهي الأرض الخالية عن البناء والشجر م: (ليبني فيها أو ليغرس فيها نخلا أو شجرا) ش: عطف الشجر على النخل من قبيل عطف العام على الخاص، كما في قَوْله تَعَالَى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] (الحجر: الآية 87) ، وفائدته الإشعار بفضل المعطوف عليه.
فإن قلت: المراد هاهنا بيان الحكم لا بيان الفضائل، فما فائدة إفراد النخل ولا يعرفون غيره وإن كانوا يسمعون، فربما كان يتوهم المتوهم أن حكمها مختلف، فلدفع هذا الوهم أفرده بالذكر، ولم أر أحدا من الشراح تعرض لهذا م: (لأنها منفعة تقصد بالأراضي) ش: فيصح لها العقد.
م: (ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه) ش: المستأجر م: (أن يقلع البناء والغرس) ش: بكسر الغين بمعنى المغروس، ولا يجوز الفتح لأنه مصدر فلا يتصور فيه القلع م: (ويسلمها إليه فارغة) ش: أي يسلم الأرض إلى صاحبها حال كونها فارغة من البناء والغروس، ومعناه يجبر على القلع ولا يضمن صاحب الأرض قيمة النقص، وبه قال مالك والمزني.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: إن كانا قد شرطا القلع عند انقضائها فكذلك.(10/251)
لأنها لا نهاية لها، ففي إبقائها إضرار بصاحب الأرض. بخلاف ما إذا انقضت المدة والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن لها نهاية معلومة فأمكن رعاية الجانبين. قال: إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه فله ذلك، وهذا برضاء صاحب الغرس والشجر، إلا أن ينقص الأرض بقلعها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن أطلقا العقد لم يجبر على القلع إلا أن يضمن المالك له قيمة نقضه م: (لأنه لا نهاية لها، ففي إبقائها إضرار بصاحب الأرض) ش: والضرر مدفوع.
م: (بخلاف ما إذا انقضت المدة) ش: أي مدة الإجارة م: (والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن لها) ش: أي للزرع والتأنيث باعتبار المدة، أي لأن لمدة الزرع م: (نهاية معلومة، فأمكن رعاية الجانبين) ش: أي جانب صاحب الأرض بأجر المثل، وجانب صاحب الزرع بالترك إلى الإشهار به، قالت الثلاثة: إن لم يكن ذلك من تفريط المستأجر مثل أن يزرع زرعا لم تجر العادة بكماله قبل انقضاء المدة فحكمه حكم زرع الغاصب يخير المالك بين أخذه بالقيمة أو تركه بأجر المثل. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه يلزمه نقله. وفي " المبسوط " الجواب متحد في حق اعتبار الغرس في الإجارة والعارية والغصب حتى يجب عليهم القلع والتسليم فارغا.
وفي الزرع اختلف الجواب، ففي الغصب يلزم القلع على الغاصب في الحال لأنه متعد، وفي الإجارات يترك إلى وقت الإدراك استحسانا بأجر المثل. وفي العارية المؤقتة وغير المؤقتة لا يأخذها صاحبها إلى أن يستحصد الزرع استحسانا.
م: (قال: إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له) ش: أي لصاحب الشجر أو لصاحب البناء م: (قيمة ذلك مقلوعا) ش: أي حاله كونه مقلوعا؛ لأنه يستحق القلع فتقوم الأرض بدون البناء أو الشجر، وتقوم وبها بناء أو شجر ولصاحب الأرض أن يأمر بقلعه فيضمن فضل ما بينهما كذا ذكر في " الاختيار " وغيره، ولكن الذي يفهم من نفس التركيب أن يغرم قيمة الشجر مقلوعا يعني مرميا على الأرض أن كان لا ينفع إلا للحطب يكون قيمة الحطب، وإن كان ينفع لوجه آخر يكون قيمته من ذلك الوجه، وكذلك قيمة البناء مقلوعا على الأرض الحجر من ناحية، والطين من ناحية م: (ويتملكه فله ذلك) ش: أي يتملك مالك الأرض كل واحد من البناء والشجر م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه إنما يجوز م: (برضاء صاحب الغرس والشجر) ش: لئلا يتضرر بالإجبار م: (إلا أن ينقص الأرض بقلعها) ش: أي بقلع الأشياء المذكورة والبناء والغرس والشجر؛ لأن المذكور هذه الثلاثة.
فإن قلت: المفهوم من الغرس فيما مضى النخل والشجر حيث قال لزمه أن يقلع البناء(10/252)
فحينئذ يتملكها بغير رضاه،
قال، أو يرضى بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا؛ لصاحب الأرض والغاصب لأن الحق له فله أن لا يستوفيه.
قال: وفي " الجامع الصغير " إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة فإنها تقلع؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر.
قال: ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والغرس بعد قوله نخلا أو شجرا، وهاهنا عطف الشجر على الغرس، والمعطوف غير المعطوف عليه، وترك ذكر البناء هاهنا.
قلت: أما ذكر البناء فلأن الغالب نقصان الأرض بقلع الأشجار دون البناء. وأما عطف الشجر على الغرس فليبين لنا فائدة، وهي أن الغرس أعم من الشجر، فالشجر اسم ما له ساق والغرس يتناول ما له ساق وما ليس له ساق، والحكم في النوعين سواء فافهم.
فإن هذا أيضا ما ذكره أحد من الشراح م: (فحينئذ يتملكها بغير رضاه) ش: أي حين وجود نقص الأرض بالقلع يتملك صاحب الأرض البناء والغرس والشجر حال كونها مقلوعة بغير رضى المستأجر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (أو يرضى) ش: أي صاحب الأرض م: (بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا؛ لأن الحق له فله أن لا يستوفيه) ش: لأن من له الحق لا يجبر.
[الحكم لو انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة]
م: (قال: وفي " الجامع الصغير " إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة فإنها تقلع؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر) ش: إنما أورد هذا لبيان أن حكم الرطبة كحكم الشجرة. قال تاج الشريعة: الرطبة كالقصب والكراث.
قلت: الرطبة هي التي يقال لها برسيم والقرط في لغة أهل مصر، ولكن عندهم هي كالزرع يزرع في كل سنة، بخلاف غيرها من البلاد فإنها عندهم كالشجر في طول البقاء وليس له نهاية معلومة، فيحكم في كل بلد بحسب عرفها والطرخون عندنا كالرطبة في طول البقاء، وليس له نهاية معلومة.
[استئجار الدواب للركوب والحمل]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل) ش: يعني لركوب معين إما نصا حقيقة أو تقديرا، وإنما قلنا هكذا؛ لأنه إذا استأجر دابة للركوب ولم يعين من يركبه لا تصح الإجارة، وكذا إذا استأجر ثوبا ليلبسه ولم يعين من يلبسه تفسد الإجارة، نص عليه في " المبسوط " و " الذخيرة " وغيرهما.
فإن قلت: قال القدوري: فإن أطلق الركوب جاز أن يركبها من شاء، وكذلك إن استأجر ثوبا للبس وأطلق على ما يجيء الآن في الكتاب.(10/253)
لأنه منفعة معلومة معهودة، فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من يشاء عملا بالإطلاق، ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعيَّن مرادا من الأصل والناس متفاوتون في الركوب، فصار كأنه نص على ركوبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قيل في التوفيق بين الروايات ما ذكر في " فتاوى قاضي خان " أنه لو أركب غيره أو ركبه بنفسه انقلب جائزا بعدما وقع فاسدا فيكون معنى قوله: فإن أطلق الركوب جاز أن يركبها من شاء، أي لو أركبه ينقلب إلى الجواز بعدما وقع فاسدا، أو يكون المراد ما ذكره الأقطع في شرحه: قوله: فإن أطلق الركوب، أي استأجرها للركوب على أن يركب عليها من شاء، واختاره صاحب " الكافي ".
والأوجه أن يقال: ما ذكره من الفساد جواب القياس، ومن الجواز جواب الاستحسان فذكر في " المبسوط " بعد ذكره وجه القياس: في القياس وفي الاستحسان أن الجهالة المفسدة قد زالت بركوب نفسه وإركاب غيره فجعلنا التعيين في الانتهاء كالتعيين في الابتداء.
فإن قلت: ما الدليل على جواز استئجار الدواب.
قلت: روى الواحدي في كتاب " أسباب نزول القرآن " بإسناده إلى العلاء بن المسيب «عن أبي أمامة التيمي، قال: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وأن قوما يزعمون أنه لا حج لنا، قال ألستم تلبون، ألستم تطوفون بين الصفا والمروة، قال: بلى، قال: إن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فدعاه فتلاها، فقال أنتم الحجاج» فدل الحديث أن استئجار الدواب جائز م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الركوب والحمل م: (منفعة معلومة معهودة) ش: بين الناس.
م: (فإن أطلق الركوب) ش: أراد عمم ولم يقيد بركوب شخص بأن قال على أن تركب من تشاء أو على أن تركب من شئت، أما إذا استأجر للركوب مطلقا لا يجوز كما ذكرناه آنفا م: (جاز له) ش: للمستأجر م: (أن يركب من يشاء) ش: بضم الياء من الإركاب ومن في محل نصب مفعول.
م: (عملا بالإطلاق) ش: أن التعميم كما ذكرنا م: (ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادا من الأصل) ش: أي لأن ركوبه بنفسه أو إركابه غيره تعيين حال كونه مرادا من الأصل وهو الإطلاق والتعميم م: (والناس متفاوتون في الركوب، فصار كأنه نص) ش: في الابتداء م: (على ركوبه) ش: شيء معين.(10/254)
وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما ذكرنا لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس. وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان ضامنا؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فصح التعيين وليس له أن يتعداه، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل لما ذكرنا. فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت، والذي يضر بالبناء خارج على ما ذكرناه.
قال: وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير والسمسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق) ش: أي عمم ولم يقيد بلبس شخص م: (جاز فيما ذكرنا) ش: من العمل بالإطلاق وهو أن يلبس من شاء، ولكن إذا لبس بنفسه أو لبس واحدا ليس له أن يلبس غيره م: (لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس) ش: هذان يرجعان إلى الحكمين المذكورين من قبيل اللف والنشر، فرجع كل واحد منهما إلى ما يليق به من الحكم.
م: (وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب) ش: أي هلك، والضمير فيه يرجع إلى كل واحد من الدابة والثوب م: (كان ضامنا؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس، فصح التعيين وليس له أن يتعداه) ش: لأنه تعيين مفيد لا بد من اعتباره فإذا تعدى ضمن.
م: (وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل) ش: بكسر الميم الثانية وذلك بالفسطاط ونحوه، حتى لو استأجر فسطاطا ودفعه إلى غيره إجارة أو إعارة فنصبه وسكن فيه ضمنه عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لتفاوت الناس في نصبه واختياره مكانه وضرب أوتاده. وعند محمد لا يضمن لأنه كالدار م: (لما ذكرنا) ش: يعني من تفاوت الناس في الاستعمال.
م: (فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل) ش: كالأحصاص المبنية من البردي، والبيوت المبنية من الخشب ونحوها م: (إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت) ش: في المسكن م: (والذي يضر بالبناء خارج) ش: هذا جواب عن سؤال من يقول قد تفاوت السكان أيضا، فإن الحداد ونحوه يضر بالبناء، فأجاب عنه بأن الذي يضر بالبناء خارج، أي مستثنى م: (على ما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله إلا أنه لا يسكن حدادا، إلى آخره.
[الحكم لو سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر) ش: كحنطة أخرى غير الحنطة المعينة م: (أو أقل) ش: ضررا م: (كالشعير والسمسم) ش: قال السغناقي، وتبعه الأترازي: هذا لف(10/255)
لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت، أو لكونه خيرا من الأول. وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد لانعدام الرضاء به. وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها مثل وزنه حديدا؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهره والقطن ينبسط على ظهره،
قال: وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونشر، فالشعير ينصرف إلى المثل، والسمسم إلى أقل إذا كان التقدير فيهما من حيث الكيل لا من حيث الوزن.
قلت: هذا ليس بلف ونشر، بل كل واحد منهما ينصرف إلى الأقل ومثاله، وأما مثل الحنطة في الضرر هو الحنطة الأخرى غير الحنطة المعينة في الإجارة كما ذكرنا، ولا شك أن الشعير أخف من الحنطة سواء كانا وزنا أو كيلا، فكيف يكون مثل الحنطة في الضرر؟ ثم قال: هذا جواب الاستحسان، أما لو سمى قدرا من الحنطة وزنا فحمل مثل الوزن من الشعير يضمن.
وفي " المبسوط ": لا يضمن وهو الأصح، وبه أفتى الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت) ش: فيما إذا كان مثلا م: (أو لكونه خيرا من الأول) ش: فيما إذا كان أقل ضررا.
م: (وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد لانعدام الرضاء به) ش: لأنه يجتمع في موضع واحد فيدق ظهر الدابة. وفي المبسوط وكذا لو حمل وزن الحنطة قطنا يضمن؛ لأنه يأخذ من ظهر الدابة فوق ما يأخذ الحنطة فكان أضر عليها من وجه، كما لو حمل عليها حطبا أو تبنا.
م: (وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها مثل وزنه حديدا؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة، فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهره، والقطن ينبسط على ظهره) ش: إنما ذكر هذا مع كونه معلوما مما سبق لأن ذلك كان نظير المكيل وهذا نظير الموزون.
[استأجر دابة ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها) ش: قيد بالإرداف؛ لأنه لو ركبها وحمل على عاتقه غيره يضمن كل القيمة وإن كانت الدابة تطيق ذلك؛ لأن ثقل الراكب مع الذي حمله يجتمعان في مكان واحد فيكون أشق عليها، كما لو حملها مثل وزن الحنطة حديدا.
وقيد بقوله: " رجلا " لأنه إذا أردف صبيا يضمن قدر الفضل لأن الصبي لا يستمسك بنفسه على الدابة فكان كالمتاع، وهذا إذا كانت الدابة تطيق ذلك، فإن لم تطق يضمن جميع قيمتها. وبه قال الشافعي وروي عن الشافعي: يجب على المردوف نصف الضمان.(10/256)
ولا معتبر بالثقل؛ لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف، ويخفف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية، ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة في الجنايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: " ضمن نصف قيمتها " يعني مع تمام الأجر إذا كان الهلاك بعد البلوغ إلى المقصد ثم المالك بالخيار إن شاء ضمن المستأجر فلا يرجع المستأجر على الغير سواء كان الغير مستعيرا أو مستأجرا، وإن ضمن الرد يرجع على المستأجر إن كان الغير مستأجرا، وإن كان الغير مستعيرا لا يرجع.
وفي " تجريد القدوري ": استأجر دابة ليركبها فأركب غيره مع نفسه يضمن النصف سواء كان أخف أو أثقل، وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركب وحمل مع نفسه حملا يضمن قدر الزيادة إن عطبت الدابة، وهذا إذا لم يركب موضع الحمل بل يكون ركوبه في موضع والحمل في موضع آخر، أما إذا ركب على موضع الحمل ضمن قيمة جميع الدابة، كذا في إجارات شيخ الإسلام خواهر زاده.
م: (ولا معتبر بالثقل، لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف ويخفف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية) ش: أراد بالفروسية معرفة كيفية الركوب كيف يقعد على ظهر الدابة وكيف يضم فخذيه وكيف يحط رجليه في الركب إذا كانت الدابة تركب بالركب وكيف يمسك اللجام والخطام، فإن الدواب لا تطلق ولا تهلك تحت الركاب إلا من هذه الجهات.
م: (ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن) ش: قال في " الكافي ": لأن الآدمي لا يوزن بالقبان وفيه نظر، وقد شاهدنا كثيرا من الناس وزنوا أنفسهم بالقبان ليعرفوا وزنها ولكن لا ينضبط هذا على ما لا يخفى م: (فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة) ش: بضم الجيم جمع جان كالقضاة جمع قاض م: (في الجنايات) .
ش: أراد أن الاعتبار في الجنايات المتعددة عدد الجناة لا عدد الجنايات حتى إن رجلا إذا جرح رجلا جراحة واحدة والآخر عشر جراحات خطأ فمات، فالدية بينهما أنصافا، لأنه ربما سلم المجروح من عشر جراحات ويهلك من جراحة واحدة.
وأورد شبهتين، الأولى: أن الأجر والضمان لا يجتمعان، وهنا قد اجتمعا، لأنه وجب عليه نصف الضمان مع وجوب الآخر كما ذكرنا، الثانية: أنه لو استأجرها ليركبها بنفسه فلو أركب غيره يجب عليه كل القيمة وهاهنا نصف القيمة مع أنه ركب وأركب غيره، مع أن الضرر هاهنا أكثر والضمان يدور مع زيادة الضرر.(10/257)
وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه، فعطبت ضمن ما زاد الثقل؛ لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب عن الأولى بأن انتفاء الأجر عند الضمان إذا ملكه بالضمان بطريق الغصب، لأن الأجر في ملكه، وهاهنا لم يملك شيئا بهذا الضمان مما شغله بركوب نفسه وجميع المسمى بمقابله ذلك، وإنما يضمن ما شغله بركوب الغير ولا أجر بمقابلة ذلك ليسقط عنه لا يقال حين تقرر عليه ضمان نصف القيمة قد ملك نصف الدابة من حيث ضمن فينبغي أن لا يلزمه نصف الأجر؛ لأنا نقول إن الضرر ليس من قبل ثقل الراكب وخفته، وإنما هو باعتبار العدد، ولهذا يوزع الضمان نصفين.
وعن الثانية أنه إذا أركب غيره فهو مخالف في الكل، وهنا هو موافق فيما شغله بنفسه مخالف فيما شغله بغيره. ألا ترى أنه لو استأجرها لركوبه لم يجب الأجر إذا حمل عليها غيره ووجب الأجر إذا ركبها وحمل مع نفسه غيره.
[استأجر دابة ليحمل عليها مقدارا فحمل عليها أكثر منه فعطبت]
م: (وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه) ش: أي من المقدار الذي عينه م: (فعطبت ضمن ما زاد الثقل) ش: بكسرالثاء وفتح القاف وهو ضد الخفة وهو اسم معنى وبالسكون الحمل وهو اسم غيره م: (لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه) ش: وقوله ما زاد الثقل مقيد بما إذا كان المزيد من جنس المسمى، بخلاف ما إذا كان من غير جنسه كما لو استأجرها ليحمل عليها كر شعير فحمل عليها حنطة بمثل ذلك الكيل فهلك ضمن جميع قيمتها.
والفرق أن في الأول هو مأذون في حق المزيد عليه، وفي حق الزيادة فلا يضمن لما أذن فيه. وفي الثاني تحققت المخالفة في الجميع فيضمن، وعند الشافعي وأحمد يضمن قيمتها كلها كما في الغصب، لأنه متعد إذا لم يكن معها صاحبها، وإن كان صاحبها معها فإن تلف بعد التسليم إلى صاحبها لم يضمن، وإن تلف في حال الحمل ضمن.
وفي قدر الضمان قولان، أحدهما: نصف القيمة. والثاني: أنه يسقط وما قابل الزيادة يجب، وإن لم يهلك يجب المسمى، وفيما زاد أجر المثل. وعن مالك خير المالك بين تضمين القيمة بالتعدي وبين أجر المثل.
فإن قيل: ما ذكرتم يتنقض بما إذا استأجر ثورا للطحن به عشرة مخاتيم حنطة فطحن أحد عشر مختوما فهلك ضمن الجميع، وإن كانت الزيادة من الجنس.
أجيب: بأن الطحن إنما يكون شيئا فشيئا فكما طحن العشرة انتهى الإذن فبعد ذلك هو مخالف في استعمال الدابة بغير الإذن فيضمن الجميع. فأما الحمل فيكون جملة واحدة فهو مأذون(10/258)
والسبب الثقل فانقسم عليهما. إلا إذا كان حملا لا يطيقه مثل تلك الدابة فحينئذ يضمن كل قيمتها لعدم الإذن فيها أصلا، لخروجه عن العادة. وإن كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت، ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا فعل فعلا متعارفا؛ لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد، فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإذن مقيد بشرط السلامة؛ إذ يتحقق السوق بدونهما، وهما للمبالغة، فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في بعض، مخالف في بعض، فيوزع الضمان على ذلك.
وفي " تتمة الفتاوى ": استكرى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فجعل في الجوالق عشرين مختوما، فأمر المكاري أن يحمل هو عليها فحمل هو ولم يشاركه المستكري في الحمل، لا ضمان عليه أصلا إذا هلكت الدابة. ولو حملاه جميعا يعني المكاري والمستكري في الحمل لا ضمان عليه أصلا إذا هلكت الدابة.
ولو حملاه جميعا يعني المكاري والمستكري ووضعاه على الدابه يضمن المستكري ربع القيمة. وإن كانت الحنطة في الجوالقين، فحمل كل واحد منهما جوالقا ووضعاهما على الدابة جميعا، لا يضمن المستأجر شيئا، وجعل حمل المستأجر ما كان مستحقا بالعقد.
م: (والسبب الثقل فانقسم عليهما إلا إذا كان حملا) ش: بكسر الحاء م: (لا يطيقه مثل تلك الدابة، فحينئذ يضمن كل قيمتها لعدم الإذن فيها أصلا لخروجه عن العادة) ش: وفي بعض النسخ لخروجه عن طاقة الدابة، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، وفي الشرط يضمن القيمة. م: (وإن كبح الدابة بلجامها) ش: أي جذبها إلى نفسه لتقف ولا تجري م: (أو ضربها فعطبت ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لايضمن إذا فعل فعلا تعارفًا، لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه) ش: وبه قالت الثلاثة وإسحاق وأبو ثور. وقال صاحب " العناية ": وفي عبارته تسامح، لأن المتعارف مراد بمطلق العقد لا داخل تحته.
والجواب: أن اللام في المتعارف للعهد، أي الكبح المتعارف أو الضرب المتعارف، وحينئذ يكون داخلا لا مرادا، لأن العقد المطلق يتناوله وغيره.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإذن مقيد بشرط السلامة؛ إذ يتحقق السوق بدونهما وهما) ش: أي الكبح والضرب م: (للمبالغة فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق) ش: فإنه مقيد بوصف السلامة. وفي " الفتاوى الصغرى ": معلم ضرب الصبي بإذن الأب أو الوصي لم يضمن، وهما لو ضربا بضمنان. وفي العيون: المعلم والأستاذ إذا ضربا الصبي بغير إذن الأب أو الوصي ضمنا، ولو ضرباه بإذنهما لا يضمنان، والأب والوصي إذا ضربه للتأديب فمات؛ ضمنا عند أبي حنيفة خلافا لهما.(10/259)
وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، ثم نفقت فهو ضامن. وكذلك العارية، وقيل: تأويل هذه المسألة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " التتمة ": الأصح أن أبا حنيفة رجع إلى قولهما. وفي " الفتاوى الصغرى " أيضا قال أبو سليمان: إذا ضرب ابنه على تعليم القرآن فمات، قال أبو حينفة: تجب الدية ولا يرثه. وقال أبو يوسف: لا شيء عليه ويرثه. ولو ضرب امرأته على المضجع فماتت يضمن ولا يرثها في قولهما، لأنه ضربها لمنفعة نفسها، بخلاف الأب مع الابن.
م: (وإن استأجرها إلى الحيرة) ش: بكسر الحاء المهمله وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء المهملة وهي مدينة على ميل من الكوفه كان يسكنها النعمان بن المنذر م: (فجاوز بها إلى القادسية) ش: وهو موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا م: (ثم ردها إلى الحيرة ثم نفقت) ش: أي هلكت م: (فهو ضامن، وكذلك العارية) .
ش: أي في العارية أيضا يضمن إذا فعل ذلك، وبه قالت الثلاثة، وهل يجب أجر المثل في الزيادة؛ فعندنا وعند الثوري لا يجب، وعند الشافعي وأحمد يجب أجر المثل في الزيادة.
وحكي عن مالك إذا تجاوز بها إلى مسافة بعيدة خير صاحبها بين أجر المثل وبين المطالبة بقيمتها يوم التعدي، وقد طعن عيسى بن أبان وقال إلحاق الإجارة بالعارية - كما ذكره في الكتاب - غير مستقيم لما أن يد المستأجر كيد المالك حتى يرجع بما لحقه من الضمان على المالك كما في الوديعة، وهذا مؤنة الرد على المالك. بخلاف العارية حيث لا يرجع المستعير على المالك بشيء.
وأجيب عن هذا بأن يد المستأجر يد نفسه لأنه قبضه لمنفعة نفسه كالمستعير، ولكن رجوعه بالضمان للغرور المتمكن بعقد المعارضة، وذلك لا يدل على أن يده ليست كيد نفسه كالمشتري يرجع بضمان المغرور.
فإن قيل: لو استأجرت امرأة ثوبا لتلبسه أياما فلبسته ليلا كانت ضامنة. ثم إذا جاء النهار برئت عن الضمان فعلم أن المستأجر إذا عاد إلى الوفاق يبرأ المرأة الضمان.
قلنا: وجوب الضمان عليها لاستعمال دون اليد، فإن لها أن تمسكه بالليل والنهار، وقد انعدم الاستعمال الذي لم يتناوله العقد بمجيء النهار.
وهاهنا وجوب الضمان صح باعتبار إمساك الدابة بعد المجاوزة بدليله أنه لو لم يركبها فهلكت يضمن، والإمساك وإن أعادها إلى الحيرة يزول بالرد على المالك، أو إلى من نحو من قام مقامه ولم يوجد، كذا ذكره المحبوبي.
م: (وقيل: تأويل هذه المسألة) ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف المشايخ في معنى وضع(10/260)
إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة، فلا يصير بالعود مردودا إلى يد المالك معنى. أما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. وقيل: الجواب مجرى على الإطلاق، والفرق أن المودع مأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك.
وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائبا فلا يبرأ بالعود، وهذا أصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسألة المذكوره فمنهم من قال تأويلها م: (إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة فلا يصير) ش: أي الدابة م: (بالعود) ش: من القادسية إلى الحيرة م: (مردودا إلى يد المالك معنى) ش: فإنه لما كان مودعا معنى فهو نائب المالك والرد إلى النائب رد إلى المالك معنى.
م: (أما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع) ش: بفتح الدال م: (إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق) ش: حيث يخرج عن الضمان.
م: (وقيل: الجواب مجرى على الإطلاق) ش: يعني سواء استأجرها ذاهبا لا جائيا، أو ذاهبا وجائيا فإنه لا يبرأ بالعود عن الضمان، لأن بالمجاوزة صار غاصبا ودخلت الدابة في ضمانه، والغاصب لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك أو على نائبه ولم يوجد، لأن محمدا لم يفصل في " الجامع الصغير " في الجواب بل أطلق.
وقال: هو ضامن من غير قيد م: (والفرق) ش: يعني بين الوديعة وبين الإجارة والعارية م: (أن المودع مأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك) ش: أراد نائب المالك هو المودع بنفسه، لأنه نائبه في الحفظ لقيام الأمر به مطلقا، فإذا عادا إلى الوفاق حصل إلى نائب المالك فبرئ من الضمان.
[في الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال]
م: (وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال) ش: بالتجارة عن الموضع المسمى م: (لم يبق هو نائبا) ش: أي المستأجر أو المعير م: (فلا يبرأ بالعود) ش: أي فلا يبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق.
فإن قيل، غاصب الغاصب إذا رد المغصوب على الغاصب فإنه يبرأ، وإن لم يوجد الرد على المالك أو نائبه.
أجيب: بأنا نزيد في المأخوذ فنقول: يبرأ بالرد إلى أحد هذين أو إلى من لم يوجد منه سبب ضمان يرتفع بالرد عليه، كذا في الفوائد الظهيرية.
م: (وهذا) ش: أي الأجر على الإطلاق م: (أصح) ش: من التفصيل في الجواب. وفي الكافي وقيل: الأول أصح.(10/261)
ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا كان يماثل الأول يتناوله إذن المالك، إذ لا فائدة في التقييد بغيره، إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن فحينئذ يضمن الزيادة. وإن كان لا يسرج بمثله الحمر يضمن؛ لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا. وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن لما قلنا في السرج، وهذا أولى.
وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر ضمن عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر]
م: (ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه، لأنه إذا كان يماثل الأول) ش: أي السرج الثاني إذا كان منثل السرج الأول م: (يتناوله إذن الملك إذ لا فائدة في التقييد بغيره) ش: أي من حيث المنع، أي لا فائدة في القول بأن هذا مقيد بأن لا يسرج بغير هذا السرج الذي عينه صاحبه إذا كان غيره يماثله.
وفي بعض النسخ في التقييد بعينه وهو واضح. قال الكاكي: والأولى في اللفظ هنا أن يقال بعينه. وقال الأترازي: قوله في التقييد بغيره، أي في تقييد الضمان بغير ذلك السرج. ولو قيل بعينه كان أولى في تقييد الإذن بغير ذلك السرج، لأنه وما يماثله سواء فلم يفسد التقييد.
قلت: فكأنما ما وقفا على كون هذه نسخة، فلذلك قال هذا القول.
م: (إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن) ش: استثناء من قوله: فلا ضمان عليه، يعني ضمن إذا كان السرج الثاني زائدا على الأول ثم بين كيفية الضمان بقوله م: (فحينئد يضمن الزيادة) ش: لأنه من جنس المسمى. قال تاج الشريعة: هذا إنما يستقيم إذا كان الهلاك من السرج الثاني. م: (وإن كان لا يسرج بمثله الحمر) .
ش: بأن سرجه بسرج البرذون م: (يضمن) ش: القيمة كلها م: (لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا) ش: فيضمن م: (وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن لما قلنا في السرج وهذا أولى) ش: أي الضمان هاهنا أولى من الضمان فيما إذا أسرجه بسرج لا يسرج بمثله الحمر، لأن السرج من جنس السرج والإكاف ليس من جنس السرج، ولأنه أثقل بالنسبه إلى السرج.
م: (وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر ضمن عند أبي حنيفة) ش: ولم يبين مقدار المضمون اتباعا لرواية " الجامع الصغير " لأنه لم يذكر فيه أنه ضامن لجميع القيمة، ولكن قال: هو ضامن.
وذكر في الإجارات يضمن بقدر ما زاد، فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة روايتان، وإنما المطلق محمول على المفسر، ومنهم من قال فيها روايتان في رواية الإجارات يضمن بقدر(10/262)
وقالا: يضمن بحسابه؛ لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج سواء فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة؛ لأنه لم يرض بالزيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما زاد. وفي رواية الجامع الصغير، يضمن جميع القيمة. قال شيخ الإسلام: وهذا أصح.
م: (وقالا: يضمن بحسابه) ش: وهو رواية عن أبي حنيفة وتكلموا في معنى هذا فقيل: المراد المساحة، حتى لو كان السرج يأخذ من ظهر الدابة قدر شبرين، والإكاف قدر أربعة أشبار يضمن نصف قيمتها.
وقيل: بحسابه في الثقل والخفة، حتى لو كان وزن السرج منوين، والإكاف سته أمناء يضمن ثلثي قيمتها. وقال الحاكم في الكافي: ولو تكارى حمارا عريانا فأسرجه وركبه فهو ضامن له.
وقال الكرخي في " مختصره ": ولو اكترى حمارا عريانا فأسرجه ثم ركبه كان ضامنا. وقال الأسبيجابي في شرح الكافي: وهذا إذا كان حمارا لا يسرج مثله عادة، أما إذا كان يسرج ويركب بالسرج فلا ضمان عليه، لأن المقصود هو الركوب والسرج آلة، فلا يختلف بوضع السرج عليه.
وقال القدوري في شرحه " لمختصر الكرخي ": وقد فصل أصحابنا هذا وقالوا: استأجره ليركب إلى خارج المصر لم يضمن، لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد بغير سرج ولا إكاف، فلما أجره كذلك فقد أذن له من طريق المعنى. وقالوا: وإن استأجره ليركبه في المصر وهو من ذوي الهيئات فله أن يسرجه، لأن مثله لا يركب بغير سرج، وإن كان من دون الناس فأسرجه ضمن، لأن مثله يركب في البلد بغير سرج.
ثم إذا ضمن يضمن جميع القيمة، أو بقدر ما زاد، لأنه ذكر الضمان مطلقا، قال فخر الدين قاضي خان في شرح " الجامع الصغير ": اختلفوا فيه والصحيح أنه يضمن جميع القيمة. وقال الأترازي: ينبغي أن يكون الأصح ضمان قدر الزيادة لأنه استأجر عريانا فأسرجه، فكان السرج كالحمل الزائد على الركوب.
وقال الكرخي في " مختصره ": إن لم يكن عليه لجام فألجمه فلا ضمان عليه إذا كان مثله يلجم بذلك اللجام، وكذلك إن أبدله وذلك لأن الحمار لا يختلف باللجام وغيره ولا يتلف به فلم يضمن بإلجامه.
م: (لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج سواء، فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة، لأنه لم يرض بالزيادة) ش: فكان متعديا فيها فيضمنها(10/263)
فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كانت من جنسه. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإكاف ليس من جنس السرج؛ لأنه للحمل والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر فيكون مخالفا، كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة.
وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس فهلك المتاع فلا ضمان عليه. وإن بلغ فله الأجر. وهذا إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت؛ لأن عند ذلك التقييد غير مفيد. أما إذا كان تفاوت يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد، إلا أن الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كانت من جنسه) ش: أي فصار حكم الزيادة في السرج كحكم الزيادة في الحمل المسمى بأن قال: خمسون بأن كان المسمى حنطة فإنه يضمن الزيادة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإكاف ليس من جنس السرج لأنه للحمل) ش: بفتح الحاء م: (والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر) ش: أراد أن الإكاف ينبسط أكثر مما ينبسط السرج م: (فيكون مخالفا كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة) ش: أي والحال أنه قد شرط للحمل الحنطة. قال صاحب " العناية ": فيه نظر، لأنه عكس ما نحن فيه من المثال، إلا اذا جعل ذلك للمخالفة فقط من غير نظر إلى الانبساط وعدمه.
قلت: ليس فيه عكس، لأن الحديد قدر وزن الحنطة المشروطة لا تأخذ من ظهر الدابة قدر ما تأخذ الحنطة، وهذا ظاهر على أن هذه التشقية والتشبيه لا عموم له فلا حاجة إلى النظر والجواب عنه.
[استأجر حمالا ليحمل له في طريق فسلك غيره فهلك المتاع]
م: (وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس) ش: أي غير الطريق الذي عينه المستأجر، هذه جملة في محل الجر؛ لأنها صفة لقوله: في طريق غيره. قيد بها، لأنه إذا كان لا يسلك الناس فيه يضمن م: (فهلك المتاع فلا ضمان عليه) ش: لعدم مرداة التقييد م: (وإن بلّغ) ش: بالتشديد، كذا السماع من المشايخ، أي فإن بلغ الحمال المتاع ذلك الموضع الذي اشترط أن يحمل إليه - ويجوز التخفيف -، والتأويل م: (فله الأجر) ش: لحصول المقصود م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه من عدم الضمان ووجوب الأجر م: (إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت، لأن عند ذلك) ش: أي عند عدم التفاوت م: (التقييد غير مفيد، أما إذا كان تفاوت) ش: أي إذا كان بين الطريقين تفاوت، وهو أن يكون الذي سلكه أوعر أو أخوف م: (يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد) ش: لأنه إنما قيد ليحفظ متاعه، فإذا خالفه صار متعديا فيضمن، وإن بلغ إليه المكان مع ذلك فله الأجر لحصول المقصود، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (إلا أن الظاهر) ش: هذا جواب إشكال يرد على التفصيل، تقريره أن يقال: إن محمدا أطلق الرواية بأنه لا ضمان عليه فيما إذا أخذ في الطريق الذي يسلكه الناس ولم يقيد فما هذا(10/264)
عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل. وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن لأنه صح التقييد فصار مخالفا. وإن بلغ فله الأجر؛ لأنه ارتفع الخلاف معنى وإن بقى صورة، قال: وإن حمله في البحر فيما يحمله الناس في البر ضمن لفحش التفاوت بين البر والبحر، وإن بلغ فله الأجر لحصول المقصود وارتفاع الخلاف معنى.
قال: ومن استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها؛ لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها، ولا أجر له؛ لأنه غاصب للأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التفصيل؟ فأجاب بقوله إلا أن الظاهر م: (عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل) ش: يعني بين الطريقين بالتفاوت م: (وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن، لأنه صح التقييد فصار مخالفا) ش: صورة ومعنى فيضمن م: (وإن بلغ) ش: بالتشديد يعني وإن بلغ الحمال المتاع ذلك الموضع الذي عينه.
ويجوز بالتخفيف على إسناد الفعل إلى المتاع، يعني إن بلغ المتاع إلى المكان الذي عينه مع سلوكه في الطريق الذي لا يسلكه الناس م: (فله الأجر، لأنه ارتفع الخلاف) ش: أراد به مخالفة المستأجر م: (معنى) ش: أي من حيث المعنى لحصول غرض المستأجر م: (وإن بقي) ش: الخلاف م: (صورة) ش: أي من حيث الصورة، وذلك لأنه سلك غير ما عينه.
م: (قال: وإن حمله في البحر) ش: والحال أنه أمره بالمسير في البر م: (فيما يحمله الناس في البر) ش: أراد حمله في طريق في البحر لا يحمل الناس فيه م: (ضمن لفحش التفاوت بين البر والبحر) ش: حتى إن للمودع أن يسافر بالوديعة من طريق البر دون البحر م: (وإن بلغ) ش: يعني المكان الذي عينه مع حملانه في البحر م: (فله الأجر لحصول المقصود) ش: وهو بلوغ ذلك الشيء إلى الموضع الذي عينه م: (وارتفاع الخلاف معنى) ش: دون صورة وهو ذهابه في غير الطريق الذي عينه ولكن هذا الخلاف غير معتبر بعد حصول المقصود.
[استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة]
م: (قال: ومن استأجر أرضا ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها) ش: بلا خلاف بين أهل العلم م: (لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها، فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها ولا أجر له) ش: أي للمستأجر على المؤجر، لأن الأجر والضمان لا يجتمعان م: (لأنه غاصب للأرض) ش: وعند الشافعي وأحمد رب الأرض مخير بين أخذ الأجر وما نقصت الأرض، وبين أخذ أجر المثل للجميع. وعن أحمد عليه أجر المثل كالغاصب م: (على ما قررناه) ش: إشارة إلى قوله لأن الرطاب أضر بالأرض.(10/265)
على ما قررناه. ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء فإن شاء ضمنه قيمة الثوب، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به درهما. قيل: معناه القرطق الذي هو ذو طاق واحد؛ لأنه يستعمل استعمال القباء. وقيل هو مجرى على إطلاقه لأنهما يتقاربان في المنفعة، وعن أبي حنيفة أنه يضمن من غير خيار؛ لأن القباء خلاف جنس القميص. وجه الظاهر أنه قميص من وجه؛ لأنه يشد وسطه، وينتفع به انتفاع القميص فجاءت الموافقة والمخالفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قيمصا بدرهم فخاطه قباء]
م: (ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قيمصا بدرهم فخاطه قباء فإن شاء ضمنه قيمة الثوب) ش: ويكون القباء للخياط، لأنه ملك الثوب بأداء الضمان م: (وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به درهما) ش: لأن المنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد، وليس فيما وراء المسمى عقد كما لو شرط على النساج أن ينسجه صفيقا فحاكه رقيقا، أو على العكس حيث يلزمه أجر مثله لا يجاوز به ما سمى م: (قيل معناه) ش: أي المراد من القباء هو م: (القرطق الذي هو ذو طاق واحد) ش: وهو تعريب - كرته وبك ناهي - والقرطق الذي يلبسه الأتراك مكان القميص، يقال له بالفارسية - بكهتي - وقال الأترازي: وكان سماعنا بفتح الطاء في القرطق، وهكذا كان تصحيح الإمام حافظ الدين الكبير البخاري، ولكن حفظناه في كتاب مقدمة الأدب سماعا عن الثقات بضم الطاء، ولهما وجه؛ لأنه لما كان معربا تلاعبت به الألسنة كما شاءت.
قلت: ينبغي أن يكون بالفتح، لأنه تعريب - كرته - كما ذكرنا وهو مفتوح التاء، فلما عربوه قلبوا التاء طاء، ولا يلزم منه تغيير الحركة أيضا فافهم. وفي " المغرب " القرطق ذو طاق واحد. وقال الإمام ظهير الدين: القميص إذا قد من قبل كان قباء طاق، واذا خيط جانباه كان قميصا، وهو المراد من القرطق، كذا في " الحياوتة " م: (لأنه يستعمل استعمال القباء) ش: أي لأن القرطق يستعمل استعمال القباء، لأنه يلبس مثل ما يلبس القباء ويدخل اليدان في الكمين فيه كما في القباء.
م: (وقيل: هو مجرى على إطلاقه) ش: أي القباء مجرى على إطلافه من غير أن يأذن أن معناه القرطق م: (لأنهما) ش: أي لأن القميص والقباء م: (يتقاربان في المنفعة) ش: أي في منفعة اللبس من دفع الحر والبرد وستر العورة. م: (وعن أبي حنيفة أنه يضمن من غير خيار) ش: لصاحب الثوب، وهذه الرواية رواها الحسن عن أبي حنيفة وهي قياس قول الثلاثة م: (لأن القباء خلاف جنس القميص) ش: فكان مخالفا من كل وجه، فكان غاصبا من كل وجه، وحكم الغاصب من كل وجه هذا.
م: (وجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أنه) ش: أي القباء م: (قميص من وجه، لأنه يشد وسطه وينتفع به انتفاع القميص) ش: من دفع الحر والبرد وستر العورة م: (فجاءت الموافقة والمخالفة)(10/266)
فيميل إلى أي الجهتين شاء، إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة، ولا يجاوز به الدراهم المسمى كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء، قيل: يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة، والأصح أنه يخير للاتحاد في أصل المنفعة، وصار كما إذا أمر بضرب طست من شبه فضرب منه كوزا فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: الموافقة من حيث إن القباء يشبه القميص من الوجه المذكور. وأما المخالفة فظاهرة، لأنه أمره قميصا وخاطه قباء م: (فيميل) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيميل صاحب الثوب م: (إلى أي الجهتين شاء) ش: فإن مال إلى الخلاف ضمنه قيمة ثوبه وترك القباء عليه. وإن مال إلى الوفاق أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله، وهو معنى قوله م: (إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة) ش: لأنه ما رضي بهذه الصفة وإنما رضي بتلك الصفة المخصوصة. ألا ترى أنه لو خاطه قميصا مخالفا لما وضعه لم يجب المسمى لفوت وصف يقابله المسمى، فهنا أحق.
م: (ولا يجاوز به الدراهم المسمى، كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى) ش: وعند الثلاثة يجب أجر المثل بالغا ما بلغ.
ثم اعلم أن هذا كله إذا تصادق على الأمر بخياطة القميص. ولو قال رب الثوب: أمرتك بخياطة القميص. وقال الخياط بل أمرتني بخياطة القباء فالقول لرب الثوب، وبه قال مالك وأحمد وابن أبي ليلى وأبو ثور.
وعن أحمد في رواية: القول للخياط.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنههم من قال: في المسألة قولان كالمذهبين، ومنهم من قال: الصحيح أن القول لرب الثوب. ومنهم من قال: إنهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان في الثمن، فإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط. وإن اختلفا في الأجر فالقول للمالك لأنه منكر الزيادة، والبينة بينة الخياط، لأنها تثبت الزيادة.
م: (ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء) ش: أي والحال أنه قد أمر بخياطة القباء م: (قيل يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة) ش: وبه قالت الثلاثة م: (والأصح أنه يخير) ش: إن شاء ضمن الخياط قيمة الثوب ولا أجر عليه. وإن شاء أخذ المخيط وأعطاه أجر مثله ولا يجاوز به المسمى م: (للاتحاد في أصل المنفعة) ش: أي منفعة اللبس وستر العورة م: (وصار) ش: أي حكم هذه المسألة م: (كما إذا أمر بضرب طست من شبه) ش: بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة وهو ضرب من النحاس.
قال أبو عمر: والطست والطستة والطس لغات في الطست والجمع طسوس وطساس وطسس وطسات، قال [....] عن أبي عبيد: الطست معربة م: (فضرب منه كوزا فإنه) ش: أي(10/267)
يخير، كذا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن الأمر م: (يخير) ش: بين أن يأخذ الكوز وإعطاءه أجر مثله، وبين أن يضمن المأمور قيمة الشبه ولا أجر عليه م: (كذا هذا) ش: أي فيما إذا خاطه سراويل وقد أمر بالقباء. وقال شمس الأئمة البيهقي في " الكفاية ": قالوا: لو قطعه سراويل لم يجب له أجره إلا أن الرواية تخالف هذا. وقال في " الإيضاح ": كانوا يقولون لو قطعه سراويل لم يجب له أجر من المنفعة فلم يوجد المعقود عليه. قال: والرواية تخالف هذا، فإنه روي عن محمد أنه لو دفع شبها إلى رجل ليُضرب له طست إلى آخر ما ذكره المصنف.(10/268)
باب الإجارة الفاسدة قال: الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع؛ لأنه بمنزلته، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ،
والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الإجارة الفاسدة]
م: (باب الإجارة الفاسدة) ش: عقبها بالصحيحة لأنها تأخذ الحكم منها، وتأخيرها عن الصحيحة إيقاعها في حكمها.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الإجارة تفسدها الشروط) ش: المخالفة لمقتضى العقد كما لو استأجر رحى ماء على أنه إن انقطع ماؤه فالأجر عليه، وكذا لو اشترط تطيين الدار ومرمتها أو تعليق باب عليها أو إدخال جذع في سقفها على المستأجر.
وكذلك اشتراط كرى نهر في الأرض أو ضرب مسنات عليها أو حفر بئر فيها أو أن تصرفها على المستأجر لأنه جعل هذه الأعمال من جملة الأجر وإنها مجهولة غير معلومة، وجهالة بعض الأجر توجب جهالة الباقي فتفسد به الإجارة م: (كما تفسد البيع لأنه) ش: أي لأن الإجارة والتذكير باعتبار العقد م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة البيع.
م: (ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ) ش: كما أن البيع كذلك، وقوله: يقال من الإقالة لا من القول، فإذا كانت مثل القول تفسد بالشروط؛ لأنها مبنية على المضايقة والمماكسة، فالاشتراط يكون مفضيا إلى المنازعة كالبيع، ألا ترى أن النكاح لا يفسد بالشروط لما أنه بني على المسامحة، وأراد بالشروط شروطا لا يقتضيها العقد لا كل شرط كما في البيع.
ولهذا لو استأجر دابة إلى بغداد بشرط أن يعطيه الأجرة إذا رجع من بغداد صح وليس له المطالبة بالأجر إلى أن يرجع، إلا إذا مات ببغداد فحينئذ له أن يأخذ أجر الذهاب، وكذا لو استأجر رجلا ليعمل له هذا العمل بدرهم وشرط عليه أن يفرغ منه اليوم جاز بالاتفاق. بخلاف ما لو استأجر ليعمل هذا العمل اليوم عند أبي حنيفة، كذا في " الفتاوى الصغرى ".
[الواجب في الإجارة الفاسدة]
م: (والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى) ش: هذا إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد، لا باعتبار جهالة المسمى ولا باعتبار عدم التسمية، لأنه لو كان باعتبار واحد منها يجب الأجر بلغ ما بلغ، ذكره في " المغني " و " الذخيرة " و " فتاوى قاضي خان ".
وقال تاج الشريعة: قوله لا يجاوز به المسمى، أي إلا إذا كان المسمى مجهولا نحو ما إذا استأجره على دابة أو ثوب أو أجر منه دارا ليسكنها بعشرة على أن يعمرها ويؤدي نوابها، فإنه ثمة يجب أجر المثل بالغا ما بلغ.(10/269)
وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع الأعيان. ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد لحاجة الناس إليها فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد تبع له فيعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة،
وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية، بخلاف البيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر والشافعي -رحمهما الله - يجب بالغا ما بلغ) ش: أي يجب أجر المثل حال كونه بالغ ما بلغ. وقوله ما بلغ مفعول بالغا، وبه قال مالك وأحمد م: (اعتبارا ببيع الأعيان) ش: أي معتبرين اعتبارا بيع المنافع ببيع الأعيان، فإن البيع إذا فسد وجبت القيمة بالغة ما بلغت، وهذا بناء على أن المنافع عندهم كالأعيان.
م: (ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها) ش: لأن التقويم يستدعي الإحراز وما لا يبقى كيف يحرز م: (بل بالعقد) ش: أي بل يتقوم بالعقد، يعني صارت متقومة شرعا بالعقد م: (لحاجة الناس إليها) ش: أي لأجل حاجة الناس إلى الإجارة التي هي بيع المنافع. حاصل الكلام أن المنافع أغراض لإبقائها، فكما توجد تتلاشى، ولا قيمة لها، ولكنها تقومت بعقد الإجارة لضرورة دفع الحاجة عن الناس، والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة وهو معنى قوله م: (فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها) ش: يعني إذا كان الأمر كذلك يكتفى بالضرورة في العقد الصحيح من الإجارة لأن الضرورة تتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بالإجارة الصحيحة، فيكتفى بها.
م: (إلا أن الفاسد تبع له) ش: هذا جواب عما يقال ينبغي أن لا يجب أجر المثل في الفاسد لعدم الضرورة. فأجاب بأن الفاسد تبع للصحيح فيثبت فيه ما يثبت في الصحيح باعتبار أنه تبعه، والاعتبار للأصل لا للتبع، فصار كأنه لا وجود للفاسد م: (فيعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة) ش: هذا من تتمة الجواب، أي يعتبر في الإجارة الفاسدة ما يجعل به لا في العقد الصحيح عادة، وهو قدر أجر المثل م: (لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة) ش: هذا أيضا جواب عما يقال ينبغي على ما ذكرتم أن يجب أجر المثل بالغا ما بلغ، فأجاب بقوله لكنهما، أي لكن المتعاقدين إذا اتفقا على مقدار معين في العقد الفاسد فقد أسقط الزيادة على المقدار المعين لتراضيهما بالتسمية على ذلك.
[الحكم لو نقص أجر المثل في الإجارة]
م: (وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية) ش: هذا أيضا جواب عما يقال لما سقطت الزيادة في الفاسدة باتفاقهما على مقدار كان ينبغي أن يجب الأجر المسمى بالغا ما بلغ. فأجاب بقوله: وإذا نقص أجر المثل عن المسمى لم تجب الزيادة على المسمى لأجل فساد التسمية، واستقر الواجب على ما هو الأقل من أجر المثل والمسمى.
م: (بخلاف البيع) ش: جواب أيضا عما يقال ينبغي أن لا يعتبر تراضيهما في سقوط الزيادة(10/270)
لأن العين متقوم في نفسه وهو الموجب الأصلي، فإن صحت التسمية انتقل عنه وإلا فلا.
ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور، إلا أن يسمي جملة شهور معلومة؛ لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم، فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في البيع الفاسد، فأجاب بقوله بخلاف البيع م: (لأن العين متقوم في نفسه) ش: يعني بالأصالة بلا ضرورة م: (وهو الموجب الأصلي) ش: أي القيمة هو الموجب الأصلي، وذكر الضمير لتذكير الخبر.
م: (فإن صحت التسمية) ش: في البيع م: (انتقل عنه) ش: أي عن الموجب الأصلي الذي هو القيمة إلى المسمى لصحة التسمية، والضمير في انتقل يرجع إلى الواجب الذي دل عليه قوله هو الموجب الأصلي، وهو أقرب من قول الكاكي انتقل إلى التسمية على تأويل ذكر التسمية، وكذا من قول الأترازي أي انتقل البدل عن الموجب الأصلي إلى المسمى م: (وإلا فلا) ش: أي وإن لم تصح التسمية فلا ينتقل الواجب على الموجب الأصلي الذي هو القيمة.
وفي " شرح الطحاوي ": في الإجارة الفاسدة لا يجب الأجر إذا لم ينتفع بها عندنا وأحمد، وعند الشافعي ومالك يجب أجر المثل بالتمكن ومن الاستيفاء كالصحيح. ولو استأجر شيئا ثم أجره قبل قبضه لا يجوز بلا خلاف. وقيل: يجوز في العقار عند أبي حنيفة.
وإن أجره بعد القبض يجوز بلا خلاف. فلو كانت أجرة الثانية أكثر لا يطيب له الفضل عندنا والثوري والشعبي والنخعي وابن المسيب وأحمد في رواية. وقال الشافعي وأحمد في آخره وأبو ثور وعطاء والحسن والزهري: يطيب له.
[حكم من استأجر دارا كل شهر بدرهم]
م: (ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور إلا أن يسمي جملة شهور معلومة) ش: بأن يقول عشرة أشهر كل شهر بدرهم، وبه قال الشافعي في الأجل. واختاره الإصطخري وأحمد وقال الشافعي في الأصح: الإجارة باطلة. وقال مالك: الإجارة صحيحة، وكلما مضى شهر استحق الأجرة؛ لأن الإجارة لا تكون لازمة عنده، لأن المنافع مقدرة بتقدير الأجر فلا يحتاج إلى ذكر المدة.
م: (لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم) ش: لأن جملة الشهور مجهولة والبعض منها غير محصور، وترجيح البعض من الشهور المتوسط بين الأدنى والجمع ترجيح بلا مرجح، والواحد منها معلوم متيقن فيصح العقد فيه وهو معنى قوله: م: (فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه) ش: أي في الشهر الواحد.(10/271)
وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح. فلو سمى جملة شهور معلومة جاز؛ لأن المدة صارت معلومة. قال: فإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه، وليس للمؤاجر أن يخرجه إلى أن ينقضي، وكذلك كل شهر يسكن في أوله؛ لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو القياس وقد مال إليه بعض المشايخ، وظاهر الرواية أنه يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها؛ لأن في اعتبار الأول بعض الحرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: إذا كان العقد فاسدا في بقية الشهور لكان الفسخ جائزا في الحال.
أجيب: بأن الإجارة من العقود المضافة وانعقاد الإجارة في أول الشهر فقبل الانعقاد وكيف يفسخ. م: (وإذا تم) ش: أي الشهر م: (كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح) ش: الذي كان في شهر واحد.
ثم إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر الأخير هل يصح؟
قال بعض المشايخ على قول أبي يوسف: يصح، وعلى قولهما لا يصح. وقال بعضهم: لا يصح إلا بحضرة صاحبه بالاتفاق كذا في " الذخيرة " م: (فلو سمى جملة شهور معلومة جاز، لأن المدة صارت معلومة) ش: فارتفعت الجهالة، ويجوز في معلومة الأولى الوجهان النصب على الحال من الشهور، والجر على الوصفية.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه) ش: لأن التراضي منهما جرى مجرى ابتداء العقد كالبيع بالتعاطي، وبه قال أحمد خلافا للشافعي م: (وليس للمؤاجر أن يخرجه إلى أن ينقضي) ش: أي الشهر، والكلام في المؤاجر قد مر مرة.
م: (وكذلك كل شهر يسكن في أوله، لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني) ش: أي كذلك يصح العقد في كل شهر يسكن في أوله ويتم أجرا م: (إلا أن الذي ذكره في الكتاب) ش: أي القدوري م: (هو القياس، وقد مال إليه بعض المشايخ) ش: من المتأخرين، لأن رأس كل شهر في الحقيقة هو الساعة التي يهل فيها الهلال فإذا هل مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ.
م: (وظاهر الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها، لأن في اعتبار الأول بعض الحرج) ش: لأن رأس الشهر في العرف هو الليلة الأولى ويومها، فيبقى الخيار فيها اعتبارا للعرف.
واعلم أن مشايخنا قد اختلفوا في وقت الفسخ بعد تمام الشهر قال بعضهم: لكل واحد منهما حق الفسخ حين يتم الشهر الأول، أعني حين يهل الهلال حتى إذا سكن من الشهر الثاني(10/272)
وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز، وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة؛ لأن المدة معلومة بدون التقسيم، فصار كإجارة شهر واحد فإنه جائز، وإن لم يبين قسط كل يوم. ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى، وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره؛ لأن الأوقات كلها في حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ساعة لا يبقى حق الفسخ بعد ذلك، وإليه ذهب القدوري وبعض مشايخنا.
وقال الصدر الشهيد في " الواقعات " في باب الإجارة الجائزة بعلامة السين، والصحيح أن يفسخ في الليلة الأولى واليوم الأول من الشهر الثاني والثالث، فإن خيار الفسخ إنما يثبت له في أول شهر، وأول الشهر هذا. وقال بعض مشايخنا: له الفسخ في الليلة الأولى ويومها، واختاره صاحب " الهداية ".
وفي " الذخيرة " قيل: لم يرد محمد بقوله لكل منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة، بل مراده رأس الشهر عرفا وعادة هو الليلة التي يهل فيها مع يومها، كما قال محمد في كتاب " الأيمان ": حلف ليقضين حقه رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها لم يحنث استحسانا، وقيل: طريق فسخه أن يقول الفاسخ قبل مجيء الشهر: فسخت الإجارة رأس الشهر فتفسخ الإجارة إذا هل، إذا عقد الإجارة مضافا يصح، وكذا فسخه.
وذكر الحاكم أحمد السمرقندي في شروطه في هذه المسألة: لو أعجل أجرة شهرين أو ثلاثة وقبض الأجر ذلك ليس في أحدهما الفسخ في قدر ما عجل به. إذ التعجيل دلالة العقد فيما عجل. ثم إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر صاحبه هل يصح؟ من مشايخنا من قال: إنه على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد لا يصح. وعلى قول أبي يوسف يصح، ومنهم من قال: لا يصح الفسخ هنا إلا بمحضر من صاحبه بلا خلاف، كذا في " الذخيرة ".
م: (وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز، وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة، لأن المدة معلومة بدون التقسيم فصار كإجارة شهر واحد، فإنه جائز وإن لم يبين قسط كل يوم) ش: هاتان مسألتان لا يعلم فيهما خلاف، كذا قال الكاكي.
قيل: قال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي: وقال الشافعي: على القول الذي يجوز الإجارة أكثر من سنة لا يجوز حتى يبين حصة كل سنة.
قلت: هذا الخلاف فيما إذا أجر داره سنين معلومة، فإنه يصح عندنا وإن لم يذكر قسط كل سنة م: (ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى) ش: أي من الوقت الذي سمى بأن يقول من شهر رجب من هذه السنة مثلا.
م: (وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره، لأن الأوقات كلها في حق(10/273)
الإجارة على السواء فأشبه اليمين، بخلاف الصوم؛ لأن الليالي ليست بمحل له. ثم إن كان العقد حين يهل الهلال فشهور السنة كلها بالأهلة لأنها هي الأصل. وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام عند أبي حنيفة - رحمه الله - وهو رواية عن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإجارة على السواء) ش: لذكر الشهر منكور، وفي مثله بيقين الزمان الذي يتعقب السبب م: (فأشبه اليمين) ش: كما إذا حلف لا يكلم فلانا شهرا تعين الشهر الذي وجد منه اليمين فيه، لأن الظاهر من حال العاقد أن يقصد صحة العقد، وصحته بذلك لتعينه لعدم المزاحم م: (بخلاف الصوم) ش: حيث لا يتعين الشهر الذي يعقب نذره فيما إذا نذر أن يصوم شهرا ما لم يعينه، لأن الأوقات كلها ليست فيه على السواء م: (لأن الليالي ليست بمحل له) ش: يوضحه أن الشروع في الصوم لا يكون إلا بعزيمة منه، وربما لا يقترن ذلك بالسبب.
م: (ثم إن كان العقد حين يُهَل الهلال) ش: بضم الياء وفتح الهاء على بناء المفعول أي حين يبصر الهلال، أراد به اليوم الأول من الشهر، كذا قاله الكاكي. وقال الأترازي يجوز على صيغة المبني للفاعل، وعلى صيغة المبني للمفعول جميعا، قال في الجوهرة: هلَّ الهلال وأهل، ودفع الأصمعي هل وقال: لا يقال إلا أهل وأهللنا نحن إذا رأينا الهلال، وأجاز أبو زيد أهل الهلال.
وفسر بعضهم في شرحه قوله حين يهل الهلال بقوله: أراد به اليوم الأول من الشهر، وفيه نظر، لأنه ليس حين يهل الهلال بل هو أول الليلة الأولى من الشهر وهذا لأنه للمنافاة بين الإجارة والأوقات بل الأيام والليالي فيها سواء فلا حاجة إلى اعتبار المدة من أول أيام الشهر، بل يعتبر من أول الشهر وهو ما قلنا.
قلت: قال السغناقي: أهل الهلال على ما لم يسم فاعله ولم يقل غير هذا، وكفى به حجة، وكذانص عليه تاج الشريعة في شرحه.
م: (فشهور السنة كلها بالأهلة؛ لأنها) ش: أي لأن الأهلة م: (هي الأصل) ش: في الشهور العربية، فمهما كان العمل به ممكنا لا يصار إلى غيره، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] (البقرة: الآية 189) ، والأيام بدل عن الأهلة، وإنما يصار إلى البدل إذا تعذر اعتبار الأصل، وهاهنا ممكن فكان له أن يسكنها إلى أن يهل الهلال من الشهر الداخل.
م: (وإن كان) ش: أي العقد م: (في أثناء الشهر) ش: بأن وقعت الإجارة في نصف الشهر أو بعد مضي أيام م: (فالكل بالأيام عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فيكون ثلاثمائة وستين يوما. وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية م: (وهو) ش: أي قول أبي حنيفة م: (رواية عن(10/274)
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول بالأيام والباقي بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، وهي في الأول منها. وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة، ونظيره العدة، وقد مر في الطلاق قال: ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول) ش: أي الشهر الأول م: (بالأيام والباقي بالأهلة) ش: فيكون أحد عشر شهرا بالهلال وشهرا بالأيام، يكمل ما بقي من الشهر الأول من الشهر الأخير.
م: (لأن الأيام يصار إليها ضرورة وهي) ش: أي الضرورة إلى اعتبار الشهر بالأيام م: (في الأول منها) ش: أي في الشهر الأول من الشهور دون الباقي فلا يتعدى إلى غيره، وبه قال الشافعي في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وله أنه) ش: أي ولأبي حنيفة أن الشأن م: (متى تم الأول بالأيام) ش: أي متى تم الشهر الأول بالأيام بالشهر الذي يليه م: (ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة) ش: أي ابتدأ الشهر الثاني بالأيام أيضا ضرورة تكميله، لأنه سمي شهرا وتمامه لا يكون إلا ببعض الثاني.
م: (وهكذا إلى آخر السنة) ش: أي هكذا يكون الحكم في الشهر الثالث والرابع إلى آخر السنة، فحينئذ يجب اعتبار العدد دون الأهلة ضرورة م: (ونظيره العدة) ش: أي نظير هذا الاختلاف مسألة العدة من حيث الاعتبار بالشهور أو بالعدد م: (وقد مر في الطلاق) ش: أي في أول كتاب الطلاق من الكتاب.
قال السغناقي: هذا حوالة غير رابحة مثل هذا الاختلاف لم يرد في الطلاق وما يتعلق به. قال الإمام المحقق برهان السمرقندي متعقبا ما قاله المصنف: غلط صاحب النهاية، فإن الحوالة رابحة، لأنه ذكر في أول كتاب الطلاق: ثم إن كان الطلاق في أول الشهر بقية الشهور بالأهلة - إلى قوله: وفي حق العدة كذلك عند أبي حنيفة.... إلى آخره.
[أجرة الحمام والحجام]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام) ش: خصهما بالذكر لأن لبعض الناس فيه خلافا. وفي " المبسوط " كره بعض العلماء غلة الحجام والحمام، أخذا بظاهر الحديث وقالوا: الحمام بيت الشياطين، وسماه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شر بيت، فإنه تكشف فيه العورات وتصب فيه الغسالات والنجاسات.(10/275)
فأما الحمام فلتعارف الناس ولم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» وأما الحجام فلما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتجم وأعطى الحجام الأجرة. ولأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنهم من فصل بين حمام الرجال وحمام النساء، فقالوا: يكره اتخاذ حمام النساء. وقال القاضي الحنبلي عن أحمد أنه لا يباح أجر الحجام، وممن كره كسبه عثمان وأبو هريرة والحسن والنخغي لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كسب الحجام خبيث» رواه مسلم.
م: (فأما الحمام فلتعارف الناس) ش: يعني لجريان العرف بذلك بين الناس خصوصا في ديار الترك م: (ولم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين) ش: هذا إشارة إلى جواب الاستحسان، لأن القياس عدم الجواز للجهالة، فقال: فلم يعتبر الجهالة لإجماع المسلمين على ذلك م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ش: ذكر هذا دليلا على أن المسلمين إذا أجمعوا على أمر يكون هذا مقبولا، لأن كل ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
ولكن رفع هذا الحديث إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير صحيح، وإنما هو موقوف على ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أحمد في " مسنده " حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ» .
ورواه البزار في " مسنده " والبيهقي في " المدخل "، ورواه أيضا أبو داود الطيالسي في " مسنده " حدثنا المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله فذكره، إلا أنه قال عوض سيئ: قبيح.
ومن طريقه رواه أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة ابن مسعود والبيهقي في كتاب " الاعتقاد "، والطبراني في " معجمه ".
قال ابن عبد الهادي في الكلام على أحاديث " المختصر ": وقد أخطأ بعضهم فرفعه، ثم قال: وقد روي مرفوعا من حديث أنس لكن إسناده ساقط.
م: (وأما الحجام فلما روي «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتجم وأعطى الحجام الأجرة» ش: أخرج البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجره» .
زاد البخاري في لفظه: ولو كان حراما لم يعطه. وفي لفظ: ولو علم كراهيته لم يعطه.(10/276)
استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا.
قال: ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس، وهو أن يؤاجر فحلا لينزو على الإناث لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن من السحت عسب التيس» ، والمراد أخذ الأجرة عليه.
قال: ولا الاستئجار على الأذان والحج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمسلم: ولو كان سحتا لم يعطه. والأحاديث التي وردت في تحريمه منسوخة م: (ولأنه) ش: أي ولأن الاستحجام م: (استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا) ش: كما في سائر الإجارات الصحيحة.
[أخذ أجرة عسب التيس]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس، وهو أن يؤاجر فحلا لينزو على الإناث) ش: عسب الفحل ضرابه، يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا من باب فعَل يفعِل بالفتح في الماضي والكسر في الغابر وفسره المصنف بقوله: وهو ... إلى آخره، وهذا بلا خلاف بين الأئمة الأربعة. وخرج أبو المطالب الحنبلي وبعض أصحاب الشافعي وجهين في جوازه، لأنه انتفاع مباح.
والحاجة تدعو إليه فيجوز كإجارة الظئر للإرضاع، والبئر للاستقاء.
وحجة الجمهور الحديث، أشار إليه بقوله م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إن من السحت عسب التيس» ش: الحديث صحيح ولكن بغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن عسب الفحل» ووهم الحاكم حيث قال بعد إخراجه أنه على شرط البخاري ولم يخرجاه. وأعجب منه زكي الدين المنذري عزاه في " مختصره " للترمذي والنسائي ولم يعزه للبخاري.
وأخرج البزار في مسنده عن أشعث بن سوار عن ابن سيرين عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب وعسب التيس» . وعزاه عبد الحق للنسائي وليس في سننه م: (والمراد أخذ الأجرة عليه) ش: أشار به إلى تفسير الحديث، لأن نفس العسب ليس من السحت، وإنما المراد أخذ الأجر عليه فالمضاف محذوف تقديره: إن من السحت كري عسب التيس.
[الاستئجار على الطاعات كالأذان والحج ونحوها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا الاستئجار على الأذان والحج) ش: أي ولا يجوز، وبه قال أحمد وهو قول عطاء والضحاك والزهري والحسن وابن سيرين وطاووس والنخعي والشعبي. وفي حاوي الحنابلة: ولا يصح الاستئجار على الأذان والإقامة والإمامة وتعليم القرآن والفقه والنيابة في الحج. وعنه يصح ويباح أجره.
كما لو أجره أعطي لذلك شيئا بلا شرط، نص عليه كالرزق من بيت المال لمن نفعه منهم متعد وكالرقبة، وقيل: يجوز تعليم الفقه والحديث والفرائض فقط، ويجوز إجارة كتب العلم المباح للقراءة والنسخ، وفي صحة إجارة المصحف وجهان، ويباح نسخه بأجرة، انتهى.(10/277)
وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه
والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا، وعند الشافعي يصح في كل ما لا يتعين على الأجير؛ لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه) ش: أي وكذا لا يجوز. قال الأترازي: خلافا للشافعي وقال الحاكم في " الكافي ": ولا يجوز أن يستأجر رجل رجلا أن يعلم ولدا القرآن والفقه والفرائض، أو يؤمهم في رمضان، أو يؤذن، وفي " خلاصة الفتاوى " ناقلا عن الأصل: لا يجوز الاستئجار على الطاعات كتعليم القرآن والفقه والأذان والتذكير والتدريس والحج والقر ويعني الأجر.
وعند أهل المدينة يجوز وبه أخذ الشافعي وعصام وأبو نصر والفقيه أبو الليث، ثم قال وكذا لا يجوز. وفي الخلاصة الحيلة أن يستأجر المعلم مدة معلومة ثم يأمره بالتعليم، قيد بالفقه لأنه يجوز الاستئجار لأجل قراءة العلوم الأدبية كاللغة والنحو والتصريف ونحوها والعلوم الحكمية كالطب والمعقول ونحوهما.
م: (والأصل) ش: أي الأصل الذي بني عليه حرمة الاستئجار على هذه الأشياء م: (أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا) ش: لأن هذه الأشياء قربة تقع على العامل، قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] (النجم: الآية 39) ، فلا يجوز أخذ الأجرة من غيره كالصوم والصلاة، قيد بقوله: " يختص بها المسلم " يعني تختص بملة الإسلام، لأنه إذا لم يختص يجوز كما إذا استأجر مسلم ذميا على تعليم التوراة يجوز؛ لأن تعليمها لا يختص بملة الإسلام.
م: (وعند الشافعي يصح في كل ما لا يتعين على الأجير، لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به» ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية وأبو ثور وأبو قلابة، قيد بقوله ما لا يتعين، فإنه أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام الدستوائي حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي راشد الحبراني قال: قال عبد الرحمن بن شبل سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تستكثروا به» ورواه إسحاق بن راهويه وابن أبي(10/278)
وفي آخر ما عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى عثمان بن أبي العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا» :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيبة في مصنفه، وعبد الرزاق في مصنفه، ومن طريق عبد الرزاق رواه عبد بن حميد وأبو يعلي الموصلي والطبراني.
وروي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه البزار في مسنده عن حماد بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعا نحوه سواء.
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن عدي في الكامل عن الضحاك بن نبراس البصري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وأسند عن ابن معين أنه قال في الضحاك بن نبراس هذا: ليس بشيء. وعن النسائي قال: متروك الحديث. قوله: «ولا تأكلوا به» أي: بالقران مثل أن يستأجر رجلا يقرأ على رأس قبر، قيل: هذه القراءة لا يستحق بها الثواب لا للميت ولا للقارئ، قاله تاج الشريعة.
م: (وفي آخر ما عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى عثمان بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا» ش: هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة بطرق مختلفة وأبو داود والنسائي عن حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن عبد الله عن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: «يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: " أنت إمامهم، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا» وكذلك رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم.
وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أشعث بن سوار عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: «إن من آخر ما عهد إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا» قال الترمذي(10/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث حسن.
وأخرج البخاري في تاريخه عن شبابة بن سوار حدثني المغيرة بن مسلم عن سعيد بن طهمان القطيعي عن مغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: " قد فعلت " ثم قال: " صل بصلاة أضعف القوم ولا تتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا» قوله: عهد معناه أوصى يقال عهدت أي أوصيت. قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] (يس: الآية 60) و {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] (البقرة: الآية 124) .
فإن قلت: استدل الشافعي بأنه «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج رجلا بما معه من القرآن» متفق عليه.
وبقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» حديث حسن صحيح.
وبما روي من حديث أبي سعيد الخدري قال: «بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة وأتينا على رجل لديغ في جبهته فداووه فلم ينفعه شيء فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزلوا بكم لعله يكون عندهم شيء ينفع فأتونا فقالوا أيها الرهط، إن سيدنا لديغ، فابتغينا له كل شيء فلم ينفعه، فهل عندكم من شيء؟
فقال بعضهم: نعم ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، لا نأتي حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق فجعل يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فكأنما نشط من عقال، فقام يمشي فآتوهم جعلهم فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتذكروا له الذي كان فننظر ما يأمرنا به فدخلوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له ذلك فقال: (قد أصبتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم» قلت: الجواب عن الأول ليس فيه تصريح بأن التعليم صداق، إنما قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» فيحتمل أنه زوجها إياه بغير صداق إكراما له وتعظيما للقرآن كما روى أنس «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج أم سليم أبا طلحة على إسلامه» .
وسكت عن المهر، لأنه معلوم أنه لا بد منه؛ لأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] ولذكره تعالى في النكاح الطول وهو المال، والقرآن ليس بمال.
ويجوز أن تكون الباء مكان اللام، أي لما معك من القرآن؛ لأن ذلك سبب للاجتماع بينهما، ولعل المرأة وهبت مهرها له باعتبار ذلك.(10/280)
ولأن القربة متى حصلت وقعت على العامل ولهذا تعتبر أهليته، فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم، فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح. وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن الكريم اليوم؛ لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن الثاني المراد منه الجعالة في الرقية، لأن ذكر ذلك في سياق حديث الرقية وهو حديث الذي ذكرناه آنفا عن أبي سعيد الخدري. والرقية نوع مداواة، والمأخوذ عليه جعل، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها، وبهذا أخرج الجواب عن الحديث الثالث وقال ابن الجوزي: قد أجاب أصحابنا عن هذين الحديثين بثلاثة أجوبة:
أحدها: أن القوم كانوا كفارا فجاز أخذ أموالهم.
والثاني: أن حق التضييف واجب ولم يضيفوهم.
والثالث: أن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة عليها. وقال القرطبي في شرح مسلم: ولا نسلم أن جواز الأجر في الرقى يدل على جواز التعليم بالأجر، والحديث إنما هو في الرقية.
م: (ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا تعتبر أهليته) ش: أي أهلية العامل ويشترط نيته لا نية الآمر، ولو انتقل فعل المأمور إلي الآمر بشرط أهليته ونيته كما في الزكاة حتى لو كان المأمور كافرا يصح أداء الزكاة، لأن المؤدي هو الأمري هنا بخلافه م: (فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة) ش: أي كما لا يجوز الاستئجار وأخذ الأجر في الصوم والصلاة بلا خلاف.
م: (ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه) ش: بكسر اللام، عليه أي على التعليم م: (إلا بمعنى من قبل المتعلم) ش: لأن المعلم يلقن الصبي وهو يتلقن بفهمه الثاقب ويتعلم بذهنه الرائق، وهذا يتفاوت بين الصبيان في التعليم وإن كان التعليم واحدا.
وفي بعض النسخ من قبل المعلَّم بفتح اللام المشددة م: (فيكون) ش: أي المعلم الذي يوجد نفسه لتعليم القرآن م: (ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح) ش: والتسليم شرط في الإجازة فيفسد بعدمه. وقوله ما لا يتقدر مفعول لقوله: ملتزما الإيفاء، فلا يصح في النتيجة.
م: (وبعض مشايخنا) ش: وهم أئمة بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لأنه ظهر التواني) ش: أي الفتور والكسل م: (في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضيع حفظ القرآن) ش: لأن المتقدمين منعوا ذلك لرغبة الناس في التعليم حسبه ومروءة في(10/281)
وعليه الفتوى.
قال: ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح وكذا سائر الملاهي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مجازاة الإحسان بالإحسان بلا شرط وقد زال ذلك، ففي هذا الزمان في الامتناع عنه تضييع حفظ القرآن.
وقد تغير الجواب باختلاف الزمان فيفي بذلك إذا ضربوا مدة بذلك حتى يجبر الأب على دفع الأجر إلى العلم وإن لم تضرب أجر المدة بحسب أجر المثل، ويجبر على دفعه وكذا يجبر على الخلوة المرسومة. وقال الإمام الخيزاخزي يجوز لزماننا للإمام والمؤذن والمعلم اخذ الأجر كذا في " الروضة " و" الذخيرة ".
فائدة: الخيزاخزي بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الزاي المعجة والخاء الثانية وكسر الزاي الثانية نسبة إلى قرية خيزاخز من قري بخارى واسمه عبد الله بن الفضل كان مفتي بخارى ولم يقع لي تاريخ وفاته.
م: (وعليه الفتوى) ش: أي على استحسان مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال في تتمة الفتاوى: الاستئجار لتعليم الفقه لا يجوز كالاستئجار لتعليم القرآن وفي الاستئجار لتعليم الحرف روايتان في رواية المبسوط يجوز وفي رواية القدوري لا يجوز وذكر السرخسي عن مشايخ بلخ أنهم اختاروا قول أهل المدينة في جواز استئجار المعلم على تعليم القرآن فنحن أيضا نفتي بالجواز انتهى.
ثم قال فيما استأجر إنسانا ليعلم غلامه أو ولده شعرا أو أدبا أو حرفة مثل الخياطة ونحوها فالكل سواء إن بين المدة سواء بأن استأجره شهرا ليعلمه هذا العلم يجوز ويصح وينعقد العقد على المدة حتى تستحق الأجرة فعلم أو لم يتعلم إذا سلم الأستاذ نفسه لذلك أما إذا لم يبين المدة فينعقد لكن فاسدا، حتى لو علم استحق أجر المثل وإلا فلا.
وكذلك تعلم سائر الأعمال كالخط والهجاء والحساب على هذا، ولو شرط عليه أن يحذقه في ذلك العمل فهو غير جائز، لأن التحذيق ليس في وسع المعلم.
[الاستئجار على الغناء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز الاستئجار على الغناء) ش: بكسر الغين وبالمد وبالكسر مع القصر اسم لليسار، وبالفتح مع القصر الإقامة، ومع المد الكفاية.
أما الأول من غنى بالتشديد غناء وأما الثاني من غنى يغني من باب علم يعلم غنى فهو غني وأما الثالث من غني بالمكان أي أقام وهو أيضا من الباب المذكور وأما الرابع من قولهم ما يغني عنك هذا أي ما ينفعك م: (والنوح) ش: البكاء ورفع الصوت م: (وكذا سائر الملاهي) ش: كالمزمار والطبل وغيرهما، وبه قالت الثلاثة وأبو ثور.(10/282)
لأنه استئجار على المعصية، والمعصية لا تستحق على العقد قال: ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا من الشريك. وقالا: إجارة المشاع جائزة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشافعي والنخعي نكير ذلك ويجوز، أما الاستئجار لكاتب يكتب له غناء ونوحا يجوز عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لهما والثلاثة، وعلى هذا الخلاف الاستئجار على حمل الخمر.
م: (لأنه استئجار على المعصية والمعصية لا تستحق بالعقد) ش: إذ لا يستحق على أخذ شيء يكون به عاصيا شرعا. وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح والمزامير والطبل أو شيء من اللهو ولا على الحداء وقراءة الشعر ولا غيره ولا أجر في ذلك، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، لأنه معصية ولهو ولعب.
[إجارة المشاع]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا من الشريك) ش: وبه قال زفر وأحمد - رحمهما الله تعالى - فيما يقسم كالأرض، وفيما لا يقسم كالعبد.
م: (وقالا: إجارة المشاع جائزة) ش: وبه قال الشافعي ومالك. وقال الكرخي في مختصره: ولا يجوز إجارة المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزفر - إلا أن يكون المستأجر شريكا في العقار فيستأجر نصيب شريكه أو شركائه كله في صفقة واحدة في قول أبي حنيفة، وكذلك قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجلين أجرا دارا لهما من رجل فهو جائز، وإن مات أحد المؤاجرين بطلب الإجارة، وفي نصيب الحي صحيحة على حالها، ولا يجوز أيضا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يستأجر من عقار مائة ذراع ولا من أرض جريبا أو جريبين إذا كانت أكثر من ذلك.
وفي شرح الطحاوي: إجارة المشاع من شريكه جائزة بالإجماع، ومن غير شريكه لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز، وبيع المشاع يجوز من غير شريكه بالإجماع سواء كان مما يحتمل القسمة أو مما لا يحتمل. ورهن المشاع من شريكه أو من غير شريكه سواء كان يحتمل القسمة أو لا يجوز، وعند الشافعي يجوز.
وهبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة جائز وفيما لا يحتمل لا يجوز عندنا وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -يجوز وقرض المشاع جائز بالإجماع، وأما وقف المشاع فأبو حنيفة لا يرى الوقف مشاعا كان أو غيره، وعندهما يجوز الوقف ثم على قول أبي يوسف وقف المشاع جائز وعندهما باطل.(10/283)
وصورته أن يؤجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك. لهما أن للمشاع منفعة، ولهذا يجب أجر المثل والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ فصار كما إذا آجر من شريكه أو من رجلين وصار كالبيع. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز، وهذا لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وصورته) ش: أي صورة عقد إجارة المشاع م: (أن يؤجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك) ش: أو يؤاجر نصف عبد أو نصف دابة من غير الشريك.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن للمشاع منفعة) ش: يعني فيجوز، لأن موجب الإجارة تملك المنفعة م: (ولهذا يجب أجر المثل) ش: أي ولكون المشاع له منفعة يجب أجر المثل عند أبي حنيفة إذا سكن المستأجر فيها، ولو كان فائت المنفعة لما انعقد أصلا إذا استأجر أرضا سبخة م: (والتسليم ممكن بالتخلية) ش: جواب عما يقال إنه إجارة ما لا يقدر على تسليمه، فأجاب بأن التسليم ممكن بالتخلية بأن يرفع الشريك المؤجر متاعه من الدار وخلى بينهما وبين المستأجر.
م: (أو بالتهايؤ) ش: هو تفاعل من التهيئة، يقال: هايأت زيدا وتهايأ القوم وهو أن يتواضعوا على أمر فيتراضوا به، وحقيقته أن يرضى كل واحد منهما بحالة واحدة ويختارها.
م: (فصار كما إذا آجر من شريكه) ش: فلو كان الشيوع مانعا لما جاز من شريكه كالهبة م: (أو من رجلين) ش: أي أو كما إذا آجر من رجلين فإنه يجوز.
وكل واحد من المستأجرين يملك منفعة النصف شائعا، وكذا لو أجر نصف داره شائعا يجوز م: (وصار كالبيع) ش: أي فصار حكم التخلية هنا كحكم التخلية في البيع من حيث إن التخلية تسليم فيه.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز) ش: هذا إما معاوضة وإما ممانعة.
فتقرير الأول: أنه أجر ما لا يقدر على تسليمه، لأن تسليم المشاع وجد سواء كان محتمل القسمة كالدار أو لا كالعبد غير متصور، وما لا يتصور تسليمه لا يصح إجارته لعدم الانتفاع به، والإجارة عقد على المنفعة فيكون هذا دليلا مبتدأ من غير تعرض لدليل الخصم.
وتقرير الثانية أن يقال: لا نسلم انتفاء المانع فإنه آجر ما لا يقدر على تسليمه وعدم التسليم يمنع صحة الإجارة م: (وهذا) ش: توضيح لكون إجارة المشاع إجارة ما لا يقدر على تسليمه م: (لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور) ش: فلا يتصور استيفاء المنفعة، لأن الانتفاع أمر حسي(10/284)
والتخلية اعتبرت تسليما لوقوعه تمكينا وهو الفعل الذي يحصل به التمكن ولا تمكن في المشاع بخلاف البيع لحصول التمكن فيه. وأما التهايؤ فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك وحكم العقد يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد، وشرط الشيء يسبقه، ولا يعتبر المتراخي سابقا. وأما إذا أجر من شريكه فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشائع لا يحتمله.
م: (والتخلية اعتبرت تسليما) ش: جوابا عما قالا والتسليم ممكن بالتخلية.
ووجهه أن التخلية لم تعتبر تسليما لذاتها، حيث اعتبرت، بل لكونها تمكينا، وهو معنى قوله: م: (لوقوعه تمكينا) ش: أي لوقوع التخلية تمكينا من القبض وتذكير الضمير على تأويل رفع الموانع م: (وهو) ش: أي التمكين م: (الفعل الذي يحصل به التمكن) ش: من الانتفاع حسًّا م: (ولا تمكن في المشاع) ش: لأنه معدوم فيه، فالحاصل أن التخلية كأنها اعتبرت علة وهو وسلة إلى التمكن، والتمكين في المشاع غير حاصل ففات المعلول. وإذا فات المعلول لا معتبر بالعلة.
م: (بخلاف البيع لحصول التمكن فيه) ش: لأن المقصود به ليس الانتفاع بل الرقبة، ولهذا جاز بيع الجحش فكان التمكن بالتخلية فيه حاصلا.
م: (وأما التهايؤ) ش: جواب عن قولهما أو بالتهايؤ. وحاصله أن التهايؤ من أحكام العقد بواسطة الملك، وهو معنى قوله: م: (فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك) ش: يعني حكما لثبوت الملك م: (وحكم العقد يعقبه) ش: أي يعقب العقد، لأن حكم الشيء هو الأثر الثابت بعد الضرورة يتأخر عنه م: (والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه) ش: أي: سبق الشيء لتوقف وجود المشروط على وجود الشرط، فالمتوقف عليه سابق لا محالة م: (ولا يعتبر المتراخي سابقا) ش: وهو التهايؤ، لأنه حكم، فمتى اعتبر سابقا يلزم قلب الحكم شرطا، وذا لا يجوز.
م: (وأما إذا أجر من شريكه) ش: جواب عن قولهما فصار: كما إذا أجر من شريكه. ووجهه أنه إذا أجره من شريكه م: (فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع) ش: يعني أن البعض له بحكم الملك، والبعض بحكم الإجارة، وكل المنفعة تحدث على ملكه فلا شيوع حينئذ.
قيل: لو لم يكن فيه الشيوع لجاز الهبة والرهن من الشريك، لكنه لم يجز.
وأجيب: بأن المراد بأن لا شيوع يمنع التسليم وهو المقصود فيما نحن فيه، فالمنفي شيوع موصوف، ويجوز أن يكون الشيوع مانعا فحكم باعتبار دون آخر، فيمنع عن جواز الهبة من حيث القبض، فإن القبض التام لا يحصل في الشائع ويمنع جواز الرهن لانعدام المعقود عليه(10/285)
والاختلاف في النسبة لا يضره على أنه لا يصح في رواية الحسن عنه. وبخلاف الشيوع الطارئ لأن القدرة على التسليم ليس بشرط للبقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو المنفعة، وإنما يتعذر التسليم وذلك لا يوجد في حق الشريك. والتحقيق في هذا الموضع أن الشيوع إما في العين أو في المنفعة، فإن كان في العين فقد منع من الهبة، والرهن دون التسليم في الإجارة، وإن كان في المنفعة فقد منع عن التسليم فيها إن كان ابتداء وإن كان طارئا لم يمنع، فافهم.
م: (والاختلاف في النسبة لا يضره) ش: جواب عما يقال سلمنا أن الكل يحدث على ملكه، لكن مع اختلاف النسبة، لأن الشريك ينتفع بنسبة الملك بنصيب شريكه بالاستئجار فيكون الشيوع موجودا.
فأجاب: بأن الاختلاف في النسبة لا يضره، أي لا يضر كون حدوث كل الانتفاع على ملكه، لأنه لا عبرة لاختلاف الأسباب مع اتحاد الحكم م: (على أنه لا يصح) ش: أي على أن عقد إجارة المشاع من شريكه أيضا لا يصح م: (في رواية الحسن عنه) ش: أي عن أبي حنيفة. وذكر القدوري في التقريب روي الحسن عن أبي حنيفة وزفر بطلان العقد في الجميع يعني إجارة المشاع من الشريك وغيره.
م: (وبخلاف الشيوع الطارئ) ش: بأن أجر رجل من رجلين ثم مات أحدهما فإنه يبقي الإجارة في نصيب الحي شائعا في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي عن خالد بن صبيح عن أبي حنيفة أنه يفسد في حق الحي.
وقال صاحب " العناية ": قوله: " وبخلاف الشيوع الطارئ " ليس له تعلق ظاهر، أراد أن ذكره هاهنا غير مناسب، وليس كذلك، بل تعلقه ظاهر لأنهما أجازا إجارة المشاع قياسا على ما إذا أجر داره من رجلين ثم مات أحدهما، فإنه تبقى الإجارة مع أن فيها الشيوع، كما إذا ذكرنا لا يقال على هذا يكون قوله وبخلاف ما إذا أجر من رجلين تكرارا، لأن قوله بخلاف الشيوع الطارئ مثل أصل قاعدة.
وقوله: " بخلاف ما إذا أجر من رجلين " من الفروع المبنية على هذا الأصل، فلا تكرار في ذكر الأصل من الفرع.
وإنما التكرار يكون إذا كانا رجلين متحدين أو فرعين متحدين م: (لأن القدرة على التسليم ليس بشرط للبقاء) ش: عند الابتداء، كما أن تكبيرة الافتتاح شرط لابتداء الصلاة وليس بشرط للبقاء.(10/286)
وبخلاف ما إذا أجر من رجلين؛ لأن التسليم يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ.
قال: ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] (الطلاق: الآية 6) ، ولأن التعامل به كان جاريا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبله وأقرهم عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبخلاف ما إذا أجر من رجلين، لأن التسليم يقع جملة) ش: لأن العقد أضيف إلى كل الدار، ولا شيوع فيه، لأن كل واحد منهما يستوفي منافعها على ملك المؤجر ويخرج من ملكه جملة م: (ثم الشيوع) ش: الحاصل م: (بتفرق الملك فيما بينهما طارئ) ش: يعني بعد ثبوت الملك لهما، فيتحقق بعد العقد، فيكون طارئا.
فإن قيل: لا نسلم أنه طارئ بل هو مقارن، لأنها تنعقد ساعة فساعة.
أجيب: بأن بقاء الإجارة له حكم الابتداء من وجه لأنها عقد لازم، فلا يكون مقارنا.
قيل: هذا الجواب فاسد، لأن العقد الغير اللازم هو الذي يكون للبقاء فيه حكم الابتداء كما تقدم في الوكالة على أنه لو ثبت هنا ابتداء ذو بقاء سقط الاعتراض، وإنما الخصم يقول لا بقاء للعقد فيها. والصواب أن يقال الطرآن إنما يكون على التسليم لا على العقد، وذلك مما لا شك فيه.
فإن قيل: ينبغي أن تجوز الهبة في اثنين، لأن الشيوع الطارئ فيهما لا يمنع أيضا.
قلت: عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز ثبوته لعله أخرى، وهنا لم يوجد قران الشيوع في الهبة، ولكن وجد مانع آخر وهو عدم إمكان القبض إلا في ضمن قبض نصيب الآخر، والضمني كالعدم. والقبض منصوص عيه في الهبة فاعتبر كماله، والكمال مع كونه ضمنيا لا يتصور.
[استئجار الظئر]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز استئجار الظئر) ش: بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة وهي المرضعة.
م: (بأجرة معلومة) ش: قيد به لأن الأجرة إذا كانت مجهولة لا تصح م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] (الطلاق: الآية 6) ش: المراد بعد الطلاق، أي فإن أرضعن أولادكم لأجلكم فأعطوهن أجورهن، أمر بإيتاء أجورهن فيكون دليلا على جواز إجارة الظئر، يعني إذا لم يتطوعن.
م: (ولأن التعامل به) ش: أي باستئجار الظئر م: (كان جاريا في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي في زمانه م: (وقبله) ش: أي قبل عهده م: (وأقرهم عليه) ش: أي على التعامل به، وتقريرهم(10/287)
ثم قيل إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به، واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب. وقيل إن العقد يقع على اللبن والخدمة تابعة، ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر، والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا، كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه تشريع لهم بذلك م: (ثم قيل) ش: قائله صاحب " الإيضاح "، وصاحب " الذخيرة " وبعض أصحاب أحمد والشافعي م: (إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به) ش: أي بأموره م: (واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب) ش: فيكون كالاستئجار على الخدمة.
م: (وقيل) ش: أي قائله شمس الأئمة السرخسي م: (إن العقد يقع على اللبن والخدمة تابعة) ش: قال شمس الأئمة في " المبسوط ": والأصح أن العقد يرد على اللبن، لأنه هو المقصود وما سوى ذلك من القيام بمصالحه تبع م: (ولهذا) ش: توضيح لما ذهب إليه شمس الأئمة م: (لو أرضعته) ش: أي لو أرضعت الظئر الصغير م: (بلبن شاة لا تستحق الأجر) ش: فدل أن اللبن غير تابع بل معقود عليه م: (والأول أقرب إلى الفقه) ش: أشار بهذا إلى أنه اختار هذا القول، أي القول الأول أقرب إلى الأصول م: (لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها) ش: فإنه لا يجوز، واختار حافظ الدين أيضا هذا القول حيث قال في الكافي: والصحيح هو الأول.
وقال السغناقي: قال شمس الأئمة في " المبسوط ": وزعم بعض المتأخرين أن المعقود عليه المنفعة وهي القيام بخدمة الصبي وما يحتاج إليه. وأما اللبن فيمنع فيه، لأن اللبن عين والعين لا تستحق بعقد الإجارة كلبن الأنعام.
ثم قال: والأصح أن العقد يرد على اللبن، لأنه هو المقصود، وما سوى ذلك من القيام بمصالحه تبع، والمعقود عليه ما هو المقصود وهو منفعة الثدي ومنفعة كل عضو على حسب ما يليق به، هكذا ذكر ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه قال: استحقاق لبن الآدمية بعقد الإجارة دليل على أنه لا يجوز بيعه.
وجواز بيع لبن الأنعام دليل على أنه لا يجوز استحقاقه. وقد ذكر في الكتاب إنها لو ربت الصبي بلبن الأنعام لا تستحق الأجر وقد قامت بمصالحه، فلو كان اللبن تبعا ولم يكن البدل مقابله لا يستوجب الأجر.
ثم قال السغناقي: عجبا لمن تبع بعد هذا الإمام الكبير وبعد أن رأى مثل هذا الدليل الواضح والرواية المنصوصة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأي من خالفه وليس هذا إلا تقليد صرف.(10/288)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب العناية: الدليل ليس بواضح، لأن مدار قوله لأنه هو المقصود وهو ممنوع، بل المقصود هو الإرضاع وانتظام أمر معاش الصبي على وجه خاص يتعلق بأمور وسائط منها اللبن فجعل العين المربية منفعة ونقض القاعدة الكلية أن عقد الإجارة عقد على إتلاف المنافع مع الغنى عن ذلك بما هو وجه صحيح ليس بواضح ولا نسلم له بما روى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ليس بظاهر الرواية.
ولئن كان فنحن بمعنى أن يستحق بعقد الإجارة وإنما الكلام في استحقاقه من حيث كونه مقصودا أو تبعا وليس في كلام محمد ما يدل على شيء من ذلك.
قلت: قول شمس الأئمة هو الأقرب إلى الفقه، لأن الأعيان تحدث شيئا فشيئا من يقع أصلها بمنزلة المنافع فتجوز إجارتها كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والعرية لمن يأكل ثمرة الشجرة ثم يردها، والمتخذ لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها، وإجارة الظئر ثابتة بنص القرآن الموافق للقياس الصحيح.
فيجب أن يكون أصلا يقاس عليها إجارة الشجر لثمرها وإجارة البقر للبنها والشاة ونحوها لا أن تجعل إجارة البقر لشرب لبنها باطلة ويقاس عليها إجارة الظئر كما ذكره المصنف.
وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه، ثم من أصحابه من جوز ذلك مطلقا تبعا لنصه، ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطا.
وقد ورد عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وهذا بمشهد من الصحابة ولم يرد أن أحدا منهم أنكره عليه.
وجوز ذلك بعض أصحاب أحمد، وجوز مالك ذلك تبعا للأرض قدر الثلث ولا شك أن المقصود من الظئر إنما هو اللبن والحمل والخدمة فتبع.
وإذا قيل: إن الخدمة هي الأصل كان في ذلك قلب للوضع، ونظير ذلك ما قيل في الحمام، وأن الأجرة في مقابله العقود في الحمام، وإن استعمال الماء الجاري فيه تبع، وهذا قلب الموضوع أيضا.
بل الحق أن استئجار الظئر إنما هو لإرضاع الولد بلبنها على جاري العادة في ذلك، وإن حمله وإلقامه الثدي ونحو ذلك تبع غير مقصود بالقصد الأول. ومن كابر في ذلك كان بمنزلة المكابر في الحسيات.
وكذلك دخول الحمام إنما هو المقصود فيه بالقصد الأول استعمال مائه. وكيف يقول(10/289)
وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت ما ذكرنا يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة
قال: ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز؛ لأن الأجرة مجهولة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب العناية بل المقصود هو الإرضاع إلى آخره، حيث يجعل اللبن مع كونه أصلا ومقصودا بالذات فرعا وجزءا من جملة الأمور والوسائط التي يتعلق بها انتظام أمر الصبي.
وكيف يقول لما روى ابن سماعة عن محمد غير ظاهر الرواية، وهو من كبار أصحاب محمد وأبي يوسف القاضي وكان من العلماء الكبار الصالحين وكان يصلي كل يوم مائة ركعة.
م: (وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى) ش: أراد به الجواب عن قول أهل المقالة الثانية حيث قالوا: ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر وسيأتي ذلك قريبا من صفحة، بقوله: لأنها لم تأت بعمل فتستحق عليها م: (وإذا ثبت ما ذكرنا) ش: يعني من جواز الإجارة بأحد الطريقين.
م: (يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة) ش: يعني أن الإجارة لما جازت باعتبار الخدمة فتعتبر باستئجار العبد للخدمة، فكل ما جاز ثمة يجوز هنا، وكل ما لا يجوز ثمة لا يجوز هنا، غير أن جواز استئجار الظئر بالطعام والكسوة باعتبار أنها لا تفضي إلى المنازعة.
قيل: هذا تكرار لأنه قد علم من أول المسألة جوازها، حيث صدر الحكم فاستدل فلم يقع هذا التكرار؟
أجيب: أنه أثبت أولا جوازها بالكتاب والسنة ثم رجع إلى إثباتها بالقياس. ويجوز أن يكون توطئة لقوله: ويجوز بطعامها وكسوتها، يعني جازت بأجرة معلومة كسائر الإجارات وبطعامها وكسوتها أيضا، والأصوب أن يجاب بما قلنا آنفا، يعني غرضه من هذا أن يبين أن استئجار الظئر كاستئجار العبد على الخدمة، فكل ما جاز هناك يجوز هنا والعكس أيضا مع اعتبار أمر آخر هنا كما ذكرناه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد في حاوي الحنابلة. ويصح استئجار الظئر بطعامها وكسوتها ولها الوسط، ومع النزاع كإطعام الكفارة.
م: (وقالا: لا يجوز، لأن الأجرة مجهولة) ش: لأن الطعام مجهول الجنس والقدر والصفة، وكذا الكسوة، وبه قال الشافعي.(10/290)
فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ. وله أن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد، فصار كبيع قفيز من صبرة. بخلاف الخبز والطبخ؛ لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة. وفي " الجامع الصغير " فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز، يعني بالإجماع، ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانها، وهذا لا جهالة فيه ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا لما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي شرح " الكافي ": قال أبو يوسف ومحمد: إن سموا لها طول كل ثوب وعرضه ورفعته وضروبا لذلك أجلا فهو جائز، وكذلك الطعام إن سموا لها كل يوم كيلا من الدقيق فهو جائز، وإنما وجب لها الوسط من الطعام والكسوة إذا لم يوصف عند أبي حنيفة، لأن البدل إذا ثبت في الذمة مطلقا وجب الوسط منه، كالمهر والدية م: (فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ) ش: يعني كما استأجر امرأة للخبز له كل يوم عشرة أمناء وتطبخ له عشرة أرطال من اللحم مثلا، وتكون الأجرة الطعام والكسوة فإنه لا يجوز، وهذا يلزم مالكا وأحمد فإنهما يخيران ذلك.
م: (وله أن الجهالة) ش: أي الجهالة المذكورة م: (لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد) ش: والجري على موجب مرادهن ولا يمنع إلا الجهالة المفضية إلى المنازعة، والأظآر على وزن أفعال جمع ظئر م: (فصار كبيع قفيز من صبرة) ش: فإنه يجوز وللبائع أن يعطي من أي جانب شاء، لأنها جهالة لا تفضي إلى المنازعة م: (بخلاف الخبز والطبخ، لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة) ش: فلذلك لا يجوز.
م: (وفي " الجامع الصغير " فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها) ش: أي أجل الكسوة، أراد به وقت العطاء م: (وذرعها فهو جائز يعني بالإجماع) ش: ذكر رواية الجامع الصغير إشارة إلى ما يجعله مجمعا عليه بمعرفة الجنس والأجل والمقدار م: (ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانها) ش: أي مكان المسمى من الدراهم م: (وهذا لا جهالة فيه) ش: أي جعل الأجرة على هذا الوجه لا جهالة فيه.
قال السغناقي: هذا التفسير الذي ذكره لا يستفاد من ذلك اللفظ، ولكن يحتمل أن يكون معناه مسمى الدراهم المقدرة بمقابلة طعامها ثم أعطى الطعام بأن الدراهم المسماة؛ لأنه ذكر في " الجامع الصغير " لفخر الإسلام.
أما إذا سمى الطعام دراهم فإن معناه أن يجعل الدراهم به فلا شك في جوازه ثم يستبدل به طعاما فيصح، قيل: لو زيد في كلام المصنف بعد قوله: أن يجعل الأجرة دراهم لفظة بدلا استفاد المعنى الذي، قاله السغناقي م: (ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا لما قلنا) ش: أشار به(10/291)
ولا يشترط تأجيله؛ لأن أوصافها أثمان، ويشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان القدر والجنس؛ لأنه إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم.
قال: وليس للمستأجر أن يمنع زوجا من وطئها لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن من إبطال حقه، ألا ترى أن له أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به صيانة لحقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى قوله لا جهالة فيه.
م: (ولا يشترط تأجيله) ش: أي تأجيل الطعام المسمى أجرة، م: (لأن أوصافها) ش: أي أوصاف الطعام والتأنيث بتأويل الحنطة م: (أثمان) ش: أراد أن المكيل والموزون إذا كان موصوفا غير مشار ثمن بدليل ثبوته في الذمة فلا يشترط بيان الأجل كما في سائر الأثمان.
وهذا احتراز عن الطعام إذا كان مسلما فيه فإن الطعام فيه مبيع مع كونه دينا فاشترط تأجيله م: (ويشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة) ش: إن كان له حمل ومؤنة م: (خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع) ش: أي في باب السلم م: (وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا) ش: يعني إذا استأجرها بثياب يشترط فيه جميع شرائط السلم من بيان الأجل م: (مع بيان القدر والجنس) ش: لأن وجوب الثياب دينا في الذمة عرف شرعا.
بخلاف القياس، فيقتصر على مورده، والشرع ورد بطريق السلم فيشترط جميع شرائط السلم م: (لأنه) ش: أي لأن وجوب الكسوة م: (إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم) ش: وفي بعض النسخ: إنما صار مبيعا والمعنى فهم مما ذكرنا آنفا.
م: (قال: وليس للمستأجر أن يمنع زوجها) ش: أي زوج الظئر م: (من وطئها، لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن) ش: أي المستأجر م: (من إبطال حقه) ش: وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك: ليس له وطؤها إلا برضى المستأجر، لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه بالحبل.
قلنا: الوطء حق مستحق له قبل العقد بعقد النكاح وهو باق فلا يسقط بأمر موهم.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما سبقه م: (أن له) ش: أي لزوج الظئر م: (أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به) ش: أي بعقد الإجارة م: (صيانة لحقه) ش: أي لحق الزوج، وبه قالت الثلاثة. وعن الشافعي في وجه لا يصلح العقد بغير رضاه وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو زوج بعد عقد الإجارة له الفسخ بالإجماع.
وقيل: إن كان الزوج ممن يشبه أن تكون امرأة ظئرا فله الفسخ لدفع الضرر عنه وإلا لا.(10/292)
إلا أن المستأجر يمنعه عن غشيانها في منزله؛ لأن المنزل حقه. فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها؛ لأن لبن الحامل يفسد الصبي، فلهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا وعليها أن تصلح طعام الصبي؛ لأن العمل عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأصح: أنه له ذلك مطلقا، وهذا كان زوجها معروفا وكان مجهولا لا يعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له الفسخ، لأن العقد قد لزمها وقولها غير مقبول في المستأجر، لأنه يمكن منه المواضعة مع هذا الرجل، وهو نظير المنكوحة إذا كانت مجهولة الحال فأقرت بالرق على نفسها لا يصدق في إبطال النكاح.
م: (إلا أن المستأجر يمنعه) ش: أي يمنع زوج المرضعة م: (عن غشيانها في منزله، لأن المنزل حقه) ش: فلا يدخل إلا بإذنه م: (فإن حبلت) ش: أي الظئر م: (كان لهم) ش: أي لأهل الصغير م: (أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها، لأن لبن الحامل يفسد الصبي فلهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا) ش: وكذا إذا كانت سارقة يخاف منها على المتاع. وكذا إذا تقيأ الصبي لبنها. وكذا إذا كانت فاجرة بينا فجورها، بخلاف ما إذا كانت كافرة حيث لا تفسخ، لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر بالصبي. وكذا إذا أرادوا السفر فتأبى الخروج معهم فهو عذر.
وأما عذرها فمرض يصيبها لا تستطيع معه الإرضاع، وكذا إذا لم تكن معروفة بالظؤورة فلها أن تفسخ. وكذا إذا لم يكفوا عن إيصائها بسنتهم كان لها الفسخ، كذا في " المبسوط ".
ولو استأجر امرأته لإرضاع ولده منها لا يجب الأجر، وبه قال الشافعي: والقاضي الحنبلي. وقال مالك وأحمد: يجوز.
قلنا: هذا يجب عليه ديانة وإن كانت لا تجبر على ذلك، كما لو استأجرها لكنس البيت أو الطبخ أو الغسل أو غير ذلك. وفي " المبسوط ": ولو استأجرها لإرضاع ولدها منه بمال الولد، وللولد مال صح في رواية ابن رستم عن محمد ويكون لها الأجرة في مال الولد. ولو استأجرها لإرضاع ولده من غيرها لا يجوز بلا خلاف وكان لها الأجر. ولو استأجر خادمها لترضع ولدا منها لا يجب الأجر.
ولو استأجر مكاتبتها جاز. ولو أرضعت خادمة الظئر الصبي فلها الأجر، لأنه لم يشترط الإرضاع بنفسها، كذا في " الذخيرة ".
وقال أحمد، وأبو ثور: لا أجر لها كما لو اشترى لبن الغنم، ويجوز استئجار أمته وأخته وابنته لرضاع ولده وكذا سائر أقاربه بلا خلاف.
م: (وعليها) ش: أي على الظئر م: (أن تصلح طعام الصبي، لأن العمل عليها) ش: أي العمل(10/293)
والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر. أما الطعام فعلى والد الولد. وما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدهن والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة.
وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها؛ لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها وهو الإرضاع، فإن هذا إيجار وليس بإرضاع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الراجع إلى منفعة الصبي على الظئر. م (والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب) ش: أراد أن الأصل في الإجارة إذا وقعت على عمل فيما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط في الإجارة على الأجير فالمرجع فيه العرف م: (فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر) ش: وبه قالت الثلاثة.
وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه لا يلزمها. قال تاج الشريعة: أراد غسل الثياب عن البول والغائط لا عن الدرن والوسخ م: (أما الطعام فعلى والد الولد) ش: أراد طعام الصبي.
م: (وما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدهن والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة) ش: لأن في توابع المقصود يرجع إلى العادة، ولهذا قالوا فيمن استأجر فيمان فالزنبيل واللبن على صاحب اللبن للعرف، وإن كان العرف في بلد على خلافهم يؤخذ به. وقالوا في الخياط الخيط عليه، وحط التراب على القبر على الحافر إن كان في بلد يتعاملون به.
وقالوا في الطباخ إذا استؤجر في عرس إخراج المرق عليه، فإن طبخ قدرا خاصة فليس عليه، وهذا مبني على العادة. وإدخال الحمل المنزل فيما إذا تكارى الدابة فعلى ما يفعله الناس.
فأما الصعود به على السطح أو الغرفة فليس عليه إلا إذا شرط. ولو كان حمالا على ظهره فيجب عليه الإدخال وليس عليه الصعود به للعرف، وأراد بالدهن الزيت غالبا، لأن الصغير لا بد من دهنه بالزيت أحيانا وإن كان يتناول غيره من الأدهان. وأراد بالريحان الآس، وهو الذي يقال له المرسين بلغة أهل مصر، فإن كان الصغير لا يستغنى عنه البتة، والريحان اسم لكل نبت طيبة الريح.
م: (وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها) ش: وبه قالت الثلاثة م: (لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها وهو الإرضاع فإن هذا إيجار وليس بإرضاع) ش: هذا هو العذر الموعود قبله بقوله: وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة.
وقال صاحب " العناية ": وهذا دليل ظاهر على ما قدمنا، فإنه إنما لم يجب الأجر لاختلاف العمل لا لانتفاء اللبن، ولهذا لو أوجر الصبي بلبن الظئر في المدة لم يستحق الأجرة(10/294)
وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعلم بهذا أن المعقود عليه هو الإرضاع والعمل دون العين وهو اللبن.
قلت: قد مر الجواب عن هذا على أن السغناقي قال يجوز أن يكون هذا الحكم غير مسلم عند شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: إيجار مصدر أوجرته إذا صببت في وسط فمه دواء. وكذا وجرته. والوجور بفتح الواو اسم لتلك الدواء.
فإن قلت: الظئر أجير خاص أو أجير مشترك؟
قلت: دل كلام مصنف المبسوط أنها أجير خاص، حيث قال: لو ضاع الصبي في يدها أو وقع فمات أو سرق الصبي أو من متاعه وثيابه في يدها لم تضمن الظئر، لأنها بمنزلة الأجير الخاص لورود العقد على منافعها في المدة. ألا ترى أنها ليس لها أن تؤجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل، والأجير الخاص أمين فيما في يده.
ودل كلام صاحب " الذخيرة " أنها تجوز أن تكون خاصا وأن يكون مشتركا، فإنها لو أجرت نفسها لقوم آخرين لذلك ولم يعلم الأولون فأرضعت كل واحد منهما وفوعت أثمت، وهذا جناية منها ولها الأجر منهما كاملا على الفريقين وهذا يدل على أنها تحتملها فاعتبار أنها تستحق الأجر منهما كاملا كالأجير المشترك وباعتبار أنها أتمت لما فعلت كالأجير الخاص وفيه نظر لا يخفى.
وقال علاء الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي ": المسائل متعارضة في هذا الباب بعضها يدل على أنها في معنى أجير الواحد وبعضها يدل على أنها في معنى الأجير المشترك، والصحيح: أنه إن دفع الولد إليها لترضعه فهي أجير مشترك. وإن حملها إلى منزله فهي أجير واحد.
وقال الكرخي في " مختصره ": والظئر بمنزلة الأجير الخاص وليس لها أن تؤجر نفسها من غير الأولين م: (وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى) ش: وهو المعنى الذي ذكره من قوله، لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها ... إلى آخره.
م: (أنه اختلف العمل) ش: بفتح همزة أن لأنها بدل من المعنى وفي بعض النسخ وهو أنه وفي بعضها: لأنه والصحيح الذي ضبطه مشايخنا هو الأول.
وقال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولو استأجر ظئرا ترضع صبيا في بيتها فجعلت تؤجر بلبن الغنم وتغذوه بكل ما تصلحه حتى استكمل الحولين ولها لبن لم ترضعه منه بشيء أو ليس لها لبن فلا أجر لها، لأنها لم ترضعه.(10/295)
قال: ومن دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف فله أجر مثله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن جحدت ذلك وقالت: قد أرضعته فالقول قولها مع يمينها إلا أن تقوم البينة على خلاف ذلك فيؤخذ بها؛ لأنها أقوى. وإن أقاما جميعا البينة أخذت بينتها، لأنها تثبت استحقاق الأجر عليه، فإن استأجرت له ظئرا فأرضعته كان مثل هذا في القياس، ولكن استحسن أن يكون لها الأجر.
[دفع إلى حائك غزلا لينسج بالنصف]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن دفع إلى حائك غزلا لينسج بالنصف) ش: فالإجارة فاسدة فلذلك قال: م: (فله أجر مثله) ش: أي فللحائك أجر مثله، لأن هذا حكم الإجارة الفاسدة.
وفي " المبسوط " حكى الحلواني عن أستاذه أبي علي النسفي أنه كان يفتي بجواز دفع الثوب إلى الحائك لينسجه بالنصف في دياره بنصف؛ لأن فيه عرفا ظاهرا، وكذا مشايخ بلخ يفتون بجواز هذه الإجارة من الثياب للتأمل والقياس قد يتركه بالتعامل كما في الاستصناع.
قال: والأصح عندي أن ما ذكره في الكتاب أصح، لأن هذا في معنى قفيز الطحان على ما يجيء عن قريب.
وقالوا في شرح " الجامع ": وكذلك إذا استأجر حمارا ورجلا يحمل طعاما بقفيز منه محمولا فالإجارة فاسدة ويجب أجر المثل، وقال الفقيه أبو الليث: هذا قول المتقدمين، ولأن مشايخ بلخ يجيزون ذلك مثل نصر بن يحيى ومحمد بن مسلمة.
وفي " خلاصة الفتاوى ": رجل دفع إلى حائك غزلا وأمره بأن ينسج له ثوبا وبين صفته على أن ربعه أو ثلثه للحائك أجرا لعمله لم يجز، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يفتي بجوازه ويجعله بحكم العرف.
قال: والفتوى على جواب الكتاب. وفي " صحيح البخاري " قال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحاكم والزهري وقتادة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بأس أن يعطي الثوب بالثلث والربع ونحوه.
قال صاحب " العناية ": فإن قيل إذا كان عرف دياره على ذلك فهل يترك به القياس. قيل: لا، لأنه في معناه من كل وجه، يعني في معنى قفيز الطحان بالعرف.
قلت: الدلالة لا عموم لها حتى يخص عرف ذلك في موضعه. انتهى
قلت: قال تاج الشريعة: كان تجويز هذا يعني بها الإجارة التي أفتى بها مشايخ بلخ وأبو علي النسفي بطريق تخصيص دلالة النص الذي يحوك الثوب ببعضه، غير أن الحائك نظيره(10/296)
وكذا إذا استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيكون النص وارد فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك علمنا في قفيز الطحان كان تخصيصا لدلالة النص لا تركا للنص أصلا، انتهى. فهذا صريح أن دلالة النص تخص، والتخصيص لا يكون إلا في العموم، على أنا نقول إن هذا الحديث الذي يتمسكون تارة بعمومه وتارة بخصوصه غير صحيح.
قال ابن قدامة في " المغنى ": وهذا الحديث لا نعرفه ولا يثبت عندنا صحته. وقال الشيخ شمس الدين ابن القيم: هذا الحديث لا يثبت بوجه، مع أن لفظ الحديث «نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان على ما نبينه عن قريب» .
وقوله: نهي مبنى لما لم يسم فاعله، ولا يلزم أن يكون الناهي هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأي فرق بين أن يستأجره ليطحن له حنطة بقفيز حنطة أو بقفيز من طحين غيرها، بل هذا فرق صوري لأنا ننزله ولا يتعلق بذلك مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا عذر ولا منازعة ولا ضرر. وأي غرر أو مفسدة في أن يدفع إليه غزله لينسجه ثوبا بذراع أو زيتونا ليعصرها زيتا بجزء معلوم منه وأمثال ذلك
مما هو مصلحة للمتعاقدين
فقد لا يكون معه أجرة سوى ذلك الغزل أو الحب، ويكون الأجر محتاجا إليه وقد تراضيا بذلك فجوزناه.
وقال القياس: وحاجة الناس وهو قول عطاء والزهري وأيوب ويعلى بن حكيم وقتادة وأحمد وإسحاق. واحتج أحمد بحديث جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أعطى خيبر على الشطر» .
ولم يثبت عن الشارع ما يمنع ولا يترتب عليه شيء من الفساد بل هو
مصلحة محضة،
والمصنف أيضا لم يقم دليلا على ما ادعاه من الفساد سوى أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوخ أو المحمول، وحصول بفعل الأجير فلا بعد هو قادر بفعل غيره، وهذا لا يعول، فإن المزارع يأخذ جزءا من الخارج والمضارب جزءا من الربح. والمعنى المذكور موجود في كل منهما، بل هذا أولى بالجواز من المضاربة والمزارعة، فإن الذي يأخذ منه الجزء هنا محقق الوجود وهناك معدوم على خطر الوجود لم يكن هذا المعنى مانعا من جواز المزارعة والمضاربة، فهنا أحق وأولى أن لا يمنع.
[استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه]
م: (وكذا إذا استأجر حمارا يحمل عليه طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة، لأنه جعل الأجر بعض(10/297)
ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان، وقد نهى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عنه وهو أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه، وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات لا سيما في ديارنا، والمعنى فيه أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوج أو المحمول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان) ش: فإذا صار في معناه صار حكمه كحكمه م: (وقد نهى النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عنه) ش: أي نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن قفيز الطحان. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في " سننيهما " عن عبيد الله بن موسى، ثنا سفيان عن هشام بن أبي كليب، عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان» . وأخرجه أبو يعلى الموصلي في " مسنده " عن ابن المبارك ثنا سفيان به، وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة الدارقطني قال فيه: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا مبنيا للفاعل كما قاله المصنف، وتعقبه ابن القطان في كتابه، وقال: إني تتبعته في كتاب الدارقطني من كل الروايات فلم أجده إلا هكذا: «نهي عن عسب الفحل وقفيز الطحان» مبنيا للمفعول.
م: (وهو) ش: أي قفيز الطحان، أي تفسيره م: (أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه) ش: وكذا لو استأجر رجلا ليطحن له هكذا، والحنطة في جواز ذلك أن يشترط صاحب الحنطة قفيزا من الدقيق الجيد ولم يقل من هذا الحنطة، لأن الدقيق إذا لم يكن مضافا إلى حنطة بعينها يجب في الذمة. ثم إذا جاز يعطيه من دقيق هذه الحنطة م: (وهذا أصل كبير) ش: أي جعل الأجر بعض ما يخرج من عمل الأجير أصل عظيم م: (يعرف به فساد كثير من الإجارات) ش: كما إذا استأجر أن يعصر له سمسما بمن من دهنه، وكذا إذا دفع أرضه ليغرس شجرا على أن تكون الأرض والشجر بينهما نصفان لم يجز ذلك والشجر لرب الأرض وعليه قيمة الشجر وأجر ما عمل.
وكذا لو استأجر امرأة لتقول هذا القطن وهذا الصوف برطل في الغزل وكذا عجن الطحن بالنصف، ودياس الدخن بالنصف، وحصاد الحنطة بالنصف ونحو ذلك، وكل ذلك لا يجوز م: (لا سيما في ديارنا) ش: أي خصوصا في ديارنا ودياره بلاد فرغانة وراء جيحون ومدينة مرغينان، وهي من بلاد فرغانة.
م: (والمعنى فيه) ش: أي في النهي عن قفيز الطحان م: (أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر) ش: لأن المسمى غير مقدور التسليم عند العقد م: (وهو بعض المنسوج) ش: في مسألة الحائك م: (أو المحمول) ش: أي وبعض المحمول في مسألة استئجار الحمال لحمل الطعام وليس له حكم(10/298)
وحصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرا بقدرة غيره، وهذا بخلاف ما إذا استأجره ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر؛ لأن المستأجر ملك الأجر في الحال بالتعجيل فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر؛ لأنه ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجود لأنه غير واجب في الذمة فكان معدوما فيعجز عن تسليمه، لأن وجوده م: (وحصوله بفعل الأجير فلا يعد) ش: أي المستأجر م: (هو قادرا بقدرة غيره) ش: إذ العبرة بقدرة نفسه.
وفي " مبسوط صدر الإسلام وجامعه " معنى النهي في قفيز الطحان، ونظائره أنه جعل شرط صحة العقد بناء على حكم العقد، لأنه لا يمكنه تسليمه إلا بعد العمل، وشرط العقد لا يجوز أن يكون حكم العقد، لأنه خلاف وضع الشرع إذ الشرط يسبقه والحكم يعقبه.
م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي ذكرنا من فساد الإجارة فيما إذا استأجر حمارا ليحمل طعاما بقفيز منه م: (بخلاف ما إذا استأجره) ش: أي الحمار م: (ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر) ش: هذا من مسائل إجارات " الجامع الكبير ".
وهنا مسألة أخرى وهي ما إذا استأجر رجلا ليحمل له كر حنطة إلى بغداد مثلا بنصفه كانت الإجارة فاسدة وله أجر مثله إن بلغ بغداد لا يجاوز قيمته نصف الكر عندنا. والفرق بينهما أن الحنطة هنا صارت محمولة بعمل الأجير فكان في معنى قفيز الطحان فيكون فاسدا فيجب أجر المثل.
وأما في مسألة الكتاب فلما أشار إليه بقوله م: (لأن المستأجر) ش: بفتح الجيم وهو الأجير م: (ملك الأجر في الحال بالتعجيل) ش: لأن تسليم الأجرة بحكم التعجيل يوجب الملك في الأجرة م: (فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر، لأنه ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه) ش: وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قيل: هاهنا نظير أن الأول في قوله حيث لا يجب الأجر كيف يقول لا يجب، لأنه قد وجب وقبض وهو نصف الطعام، ثم يقول لأن المستأجر ملك الأجر.
والثاني في قوله لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه نظر، فإن هذا ممنوع، لأن صورة المسألة أن الطعام مشترك بينهما، فكيف يقال إن كل جزء منه يكون الشريك الحامل له عاملا لفسد، وإن كان مراده أن ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملا لشريكه يعكس عليه ويقال: إنه إذا كان ما من جزء إلا وهو مشترك ببينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملا لشريكه.(10/299)
ولا يجاوز بالأجر قفيزا؛ لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب الأقل مما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه رضي بحط الزيادة، وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد، لأن المسمى هناك غير معلوم فلم يصح الحط. قال: ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم اليوم بدرهم فهو فاسد، وهذا عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقال أبو يوسف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولكن الحق أن الجزء الذي لشريكه ليس هو عاملا لنفسه فيه، بل لشريكه فهو في الحقيقة عامل لنفسه، وعامل لشريكه فأخذه الأجرة في مقابلة عمله لشريكه. ولو قال ما من قفيز أو ما من حبة أو نحو ذلك لكان أقرب من قوله من جزء، لأن الجزء ينطلق على الشائع والتعميم فيه غير ممنوع.
م: (ولا يجاوز بالأجر قفيزا) ش: هذا يتصل بقوله وكذا إذا استأجر حمارا ليحمل طعاما بقفيز منه، وانتصاب قفيزا على المفعولية والفاعل هو قوله بالأجر على رأي من يجوز إسناد الفعل إلى الجار والمجرور، وهذا إذا كان لا يجوز على البناء للفاعل يكون الفاعل هو الضمير في لا يجاوز الراجع إلى المستأجر، وتكون الباء للمصاحبة، والتقدير: لا يجاوز المستأجر مع الأجر قفيز الذي كان أجرة م: (لأنه لما فسدة الإجارة فالواجب الأقل مما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه) ش: أي لأن الحامل م: (رضي بحط الزيادة) ش: أي الزيادة على أحدهما من المسمى ومن أجر المثل، أما رضاه بالمسمى فعقده عليه، وأما رضاه بأجر المثل فإقدامه على الإجارة الفاسدة.
م: (وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد لأن المسمى هناك) ش: وهو نصف الحطب م: (غير معلوم فلم يصح الحط) ش: وعند أبي يوسف: لا يجاوز بأجره نصف ثمن ذلك لأنه قد رضي بنصف المسمى حيث اشتركا كما لو استأجر لحمل الحنطة بقفيز منها.
[استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة اليوم بدرهم]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم) ش: وهو جمع مختوم وهو الصاع بعينه ويشهد عليه حديث الخدري «الوسق ستون مختوما» وسمي به لأنه يجعل على أعلاه خاتم مطبوع كيلا يزاد ولا ينقص.
وفي " المبسوط ": المختوم والقفيز واحد قوله هذه مفعول بقوله ليخبز، والعشرة، صفته، والمخاتيم مجرور بالإضافة كما في قولك الخمسة الأثواب على رأي الكوفيين، وقوله: م: (اليوم) ش: نصب على الظرف أي اليوم.
م: (بدرهم) ش: يتعلق بقوله استأجر م: (فهو فاسد) ش: أي عقد هذه الإجارة فاسد م: (وهذا) ش: أي فساد هذا العقد م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف:(10/300)
ومحمد - رحمهما الله - في الإجارات: هو جائز؛ لأنه يجعل المعقود عليه عملا، ويجعل ذكر الوقت للاستعجال تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة. وله أن المعقود عليه مجهول؛ لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح، ونفع المستأجر في الثاني ونفع الأجير في الأول فيفضي إلى المنازعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومحمد - رحمهما الله - في الإجارات) ش: أي من إجارات " المبسوط " م: (هو جائز) ش: وبه قالت الثلاثة.
وإنما قيد قولهما بهذا القيد، لأنه لم يذكر قولهما في " الجامع الصغير " وفي " المبسوط " قولهما استحسان م: (لأنه يجعل المعقود عليه عملا) ش: لأنه المقصود في الإجارات.
م: (ويجعل ذكر الوقت للاستعجال) ش: لا لتعلق العقد به، فكان إذا استأجره بعمل على أن يفرغ منه في نصف النهار كان له الأجر كاملا، ولو لم يفرغ في اليوم فعليه أن يعمله في الغد، لأنه صار أجيرا مشتركا والحمل على هذا ما لا بد منه م: (تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة) ش: بما ذكرنا من الحمل.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (أن المعقود عليه مجهول) ش: لأنه ذكر سببين مختلفين يصلح كل واحد منهما أن يكون معقودا عليه م: (لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها، وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح) ش: لأحدهما على الآخر في الأولوية.
م: (ونفع المستأجر في الثاني) ش: وهو كون العمل معقودا عليه حتى لا يجب الأجر إلا بتسليم العمل إليه م: (ونفع الأجير في الأول) ش: وهو كون ذكر الوقت موجبا لكون المنفعة معقودا عليها، حتى يستحق الأجر بمجرد تسليم النفس في المدة وإن لم يعمل فجاز أن يطلب الأجير أجره نظرا إلى الأول ويمنعه المستأجر نظرا إلى الثاني م: (فيفضي إلى المنازعة) .
ش: فإن قيل: ما الفرق بين هذه وبين ما إذا قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم؟، فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجاز الشرط الأول، وجعل ذكر الوقت للتعجيل وبينهما وبين ما إذا استأجر رجلا ليخبز له قفيز دقيق على أن يفرغ عنه اليوم فإن الإجارة فيها جائزة بالإجماع.
أجيب في الفرق بينهما وبين الأول بأن دليل المجاز وهو نقصان الأجر للتأخير فيها صرفه عن حقيقته التي هي للتوقيت آتي المجاز الذي هو التعجيل، وليس في مسألتنا ما يعرفه عنها فلا يصار إلى المجاز، وكذلك بينها وبين الثانية، فإن كله " على " فيها معنى الشرط على ما عرف في موضعه، فحيث جعله شرطا دل على أن مراده التعجيل.(10/301)
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تصح الإجارة إذا قال في اليوم وقد سمي عملا. لأنه للظرف فكان المعقود عليه العمل بخلاف قوله اليوم وقد مر مثله في الطلاق.
قال: ومن استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها ويسقيها فهو جائز؛ لأن الزراعة مستحقة بالعقد ولا يتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب فكان كل واحد منهما مستحقا، وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد، فإن شرط أن يثنيها أو يكري أنهارها أو يسرقنها فهو فاسد؛ لأنه يبقى أثره بعد انقضاء المدة وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، وما هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤيده ما روي عن أبي حنيفة وهو قوله م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تصح الإجارة إذا قال في اليوم وقد سمي عملا) ش: أي سمي المعقود عليه عملا كأنه قال: إن عملت في بعض اليوم م: (لأنه للظرف) ش: أي لأن في الظرف لا للمدة والمظروف لا يستغرق الظرف م: (فكان المعقود عليه العمل) ش: لأنه كأنه قال: إن عملت في بعض اليوم وذلك يفيد التعجيل فكان العمل هو المعقود عليه.
م: (بخلاف قوله اليوم) ش: لأنه للمدة، لأنه بدون في فيستقر جميع الظرف فيصلح أن يكون معقودا عليه، ويلزم الجهالة. وقال تاج الشريعة: إذا لم يذكر حرف في مستوعب الظرف فبالنظر إلى قوله لتخبز لي هذه العشرة المخاتيم يكون المعقود عليه هو العمل.
وبالنظر إلى قوله اليوم يكون المعقود عليه هي المنفعة فجهل المعقود عليه ففسدت الإجارة م: (وقد مر مثله في الطلاق) ش: أي فصل إضافة الطلاق إلى الزمان في قوله أنت طالق في غد وقال: نويت آخر النهار.
[استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها ويسقيها]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن استأجر أرضا على أن يكربها) ش: من كرب الأرض كربا قلبها للحرث من باب طلب يطلب م: (ويزرعها ويسقيها فهو جائز، لأن الزراعة مستحقة بالعقد ولا يتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب، فكان كل واحد منهما مستحقا وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد) ش: لأن الشرط الملائم لا يفسد العقد.
م: (فإن شرط أن يثنيها) ش: من التثنية ويجيء الآن، أما المراد من التثنية م: (أو يكري أنهارها) ش: أي يحضر من الكري وهو الحضر م: (أو يسرقنها) ش: من سرقنت الأرض إذا جعلت السرقين ويسمى السرجين وهي الزبل م: (فهو فاسد) ش: أي فإن العقد فاسد م: (لأنه يبقى أثره) ش: أي أثر كل واحد من المذكورات وهي التثنية والكري والسقنة م: (بعد انقضاء المدة، وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين) ش: وهو رب الأرض م: (وما هذه(10/302)
حاله يوجب الفساد؛ لأن مؤاجر الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة، فيصير صفقتان في صفقة وهو منهي عنه. ثم قيل المراد بالتثنية أن يردها مكروبة ولا شبهة في فساده. وقيل أن يكربها مرتين وهذا في موضع تخرج الأرض الربع بالكراب مرة والمدة سنة واحدة. وإن كانت ثلاث سنين لا تبقى منفعة، وليس المراد بكري الأنهار الجداول بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح، لأنه تبقى منفعته في العام القابل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاله يوجب الفساد، لأن مؤاجر الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة فيصير صفقتان في صفقة وهو منهي عنه) ش: أي كون الصفقتين في صفقة منهي عنه، أي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
روى أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " حدثنا حسن وأبو النصر وأسود بن عامر قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صفقتين في صفقة واحدة» . قال شريك: قال سماك هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول هذا نقدا بكذا ونسيئة بكذا وقد مر الكلام فيه مستوفى في البيوع.
م: (ثم قيل: المراد بالتثنية أن يردها) ش: أي الأرض م: (مكروبة ولا شبهة في فساده) ش: لأنه لا يقتضيه العقد، لأن الزراعة لا تتوقف عليه م: (وقيل أن يكربها مرتين وهذا في موضع تخرج الأرض الربع بالكراب مرة، والمدة) ش: أي مدة الإجارة م: (سنة واحدة) ش: فإذا كان كذلك يفسد العقد أيضا، لأن فيه منفعة لأحدهما.
م: (وإن كانت) ش: أي المدة م: (ثلاث سنين لا تبقى منفعة) ش: فلا يفسد العقد أيضا، لأن فيه من مقتضيات العقد، وكذا إذا كان الكراب مرتين والمدة سنة، ولكن لا تخرج الأرض البديع إلا بالكراب مرتين، لأنه ليس فيه منفعة لأحدهما.
وقد ذكر الفقيه أبو الليث عن مشايخنا أنهم قالوا: هذا الجواب في بلادهم، أما في بلاد الخضرة نحو المزارعة بهذا الشرط لأن منفعة التثنية في بلاد الخضرة لا تبقى بعد انقضاء المدة، فإن الأرض وإن كربت مرارا قلما تبقى منفعتها إلى العام الثاني.
م: (وليس المراد بكري الأنهار الجداول) ش: وهو جمع جدول وهو النهر الصغير م: (بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح) ش: احترز به عن قول من قال: المراد بالأنهار الجداول وهو قول خواهر زاده، وبه كان يفتي، فإنه كان سوى بين الأنهار، وبين الجداول عملا بإطلاق لفظ الكتاب م: (لأنه تبقى منفعته) ش: أي منفعة كري الأنهار العظام م: (في العام القابل) ش: ومنفعة(10/303)
قال: وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو جائز، وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى، واللبس باللبس، والركوب بالركوب. له أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين ولا يصير دينا بدين. ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة، والى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجداول لا تبقى إلى العام القابل، كذا ذكره المحبوبي.
فكان المستأجر هو المنتفع بالجداول خاصة وهو واجب على المستأجر بدون الشرط، فكان شرطا يفيد العقد فلا يفسد به. وصاحب المحيط اختار القول الذي نفاه المصنف.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه) ش: أي لا يجوز أصلا.
هكذا فسره غالب الشراح ولم يبين أحد منهم وجه العدول عن لفظه لا يجوز أو يفسد إلى هذا اللفظ إلا تاج الشريعة، فإنه قال من دأب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يذكر الأخير فيما لم يجد نصا صريحا في فساده ليكون بيان الفساد بطريق الاقتضاء لا بالإفصاح.
فإن قلت: ما وجه تفسير لا خير هل يجوز أصلا؟
قلت: لأن النفي للجنس، فإذا انتفت الخيرية من كل وجه ينتفي الجواز أصلا.
م: (وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو جائز) ش: اختلف جنس المنفعة وأنفق، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -، وعلى هذا الخلاف م: (وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى واللبس باللبس والركوب بالركوب) ش: بأن أجر داره ليسكنها بسكنى دار أخرى أو ثوبا ليلبسه بلبس ثوب آخر ودابة ليركبها بركوب دابة أخرى م: (له) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين) ش: على المؤجر ولو لم تكن المنافع بمنزلة الأعيان لكان ذلك دينا بدين، وهو لا يجوز، أشار إليه بقوله م: (ولا يصير دينا بدين) ش: أي الإجارة بأجرة دين.
م: (ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النَّساء عندنا) ش: بفتح النون أي التأجيل م: (فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة) ش: صار حكم هذه الإجارة كحكم بيع الثوب القوهي بالثوب القوهي إلى أجل. وهو بضم القاف وسكون الواو وكسر الهاء نسبة إلى قوهستان كورة من كور فارس.
وإنما لم يجز البيع هنا، لأن أحد وصفي علة الربا كاف في حرمة النساء وهو الجنس، فكذا في المنافع إذا وجد فيها الجنس يحرم م: (وإلى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي ما ذكر من الحكمين، أعني حكم استئجار الأرض لزراعتها بزراعة أرض أخرى وما أشبهها.(10/304)
ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة ولا حاجة عند اتحاد الجنس. بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة
قال: وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحكم بيع القوهي بقوهي أشار محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ما روى ابن سماعة كتب من بلخ إلى محمد، وقال لم لا يجوز إجارة سكنى دار بسكنى دار؟ فكتب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوابه: إنك أطلت الفكرة فأصابتك الحياة وجالست الجنائي فكانت منك ذلة، أما علمت أن إجارة سكنى دار بسكنى دار كبيع قوهي بقوهي نساء. الجنائي اسم محدث ينكر الخوض على ابن سماعة في هذه المسائل ويقول لا برهان لكم عليها.
م: (ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة) ش: هذا طريق آخر في فساد الإجارة المذكورة، وهي أن الإجارة إنما شرعت على خلاف القياس لحاجة الناس م: (ولا حاجة عند اتحاد الجنس) ش: لأنه كان متمكنا من السكنى قبل ذلك العقد فلا يحصل بالعقد إلا ما كان متمكنا منه باعتبار ملكه، والكمال من باب الفصول والإجارة ما شرعت لاستيفاء الفصول م: (بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة) ش: بأن استأجر ركوبا بلبوس لتحقق الحاجة فيجوز.
فإن قيل: النساء ما يكون عن اشتراط أجل في العقد، وتأخير المنفعة فيما نحن فيه ليس كذلك.
أجيب: إنهما لما أقدما على عقد يتأخر المعقود عليه فيه ويحدث شيئا فشيئا كان ذلك أبلغ في وجوب التأخير من المشروط، فألحق به دلالة احتياطا عن شبهة الحرمة، قيل فيه نظر، لأن النساء شبهة الحرم فبالإلحاق به يكون شبهة الشبهة وليس بحرمة. أجيب بأن الثابت بالدلالة كالثابت بالعبارة فبالإلحاق تثبت الشبهة لا شبهتها.
فإن قيل: قبل النساء إنما يتصور في مبادلة موجود في الحال بما ليس كذلك، وفيما نحن فيه ليس كذلك، فإن كل واحد منهما ليس بموجود بل يحدثان شيئا فشيئا.
أجيب: بأن الذي لم تصحبه الباء يقام فيه العين مقام المنفعة ضرورة تحقق المعقود عليه دون ما تصحبه لفقدانها فيه ولزوم وجود أحدهما حكما وعدم الآخر وتحقق النساء. ثم لو استوفى المنفعة عند اتحاد الجنس فعليه أجر المثل في ظاهر الرواية، لأنه استوفى المنفعة بالإجارة الفاسدة وذكر الكرخي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا شيء عليه.
[استأجره على أن يحمل نصيبه من الطعام فحمل الطعام كله]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له) ش: يعني: لا المسمى ولا أجر المثل.(10/305)
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له المسمى " لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائع جائز، فصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشترك ليخيط له الثياب. ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعلى قياس قول أبي حنيفة ينبغي أن يجب أجر المثل كما في إجارة المشاع، لكن الفرق أن فساد العقد هناك للعجز عن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لا لانعدام الاستيفاء أصلا " وهنا البطلان لتعذر الاستيفاء أصلا وبدون الاستيفاء لا يجب الأجر في العقد الفاسد.
وقال الكرخي في " مختصره ": قال ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الطعام بين رجلين ولأحدهما سفينة فأراد أن يخرجا بالطعام من بلدهما إلى بلد آخر فاستأجر أحدهما نصف سفينة صاحبه بحصته بعشرة دراهم فهو جائز، وكذلك لو أراد أن يطبخ الطعام فاستأجر نصف الرحى الذي لشريكه، قال وكذلك لو استأجر منه نصف جواليقه هذا ليحمل فيها هذا ليحمل فيها هذا الطعام إلى مكة فهو جائز.
ولو استأجر عبد صاحبه أو دابة صاحبه أو دابة عبد صاحبه ليحمل، أو استأجر العبد ليحفظ الطعام وهو استأجر العبد والدابة كله أو نصفه فإن ذلك لا يجوز. فإن حمل على الدابة فلا أجر له. ثم قال الكرخي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكل شيء استأجر من صاحبه، مما يكون عملا فإنه لا يجوز، وإن عمله فلا أجر له، وكل شيء ليس يكون عملا استأجر أحدهما من صاحبه فهو جائز.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له المسمى، لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائع جائز) ش: وبه قال أحمد م: (فصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب) ش: حيث يجب الأجر.
م: (ولنا أنه استأجره) ش: أي أن أحد الشريكين استأجر الآخر م: (لعمل لا وجود له) ش: فصار كإجارة ما لا منفعة له.
قيل: هذا ممنوع بل لعمله وجود، وإلا يلزم أن الحصة التي لشريكه لا وجود لها لكونها شائعة، ولو كان ذلك صحيحا لكانت حصته أيضا لا وجود لها لكونها شائعة، وهذا من نوع السفسطة وإن كان الحقائق، وفيه نظر، لأن معنى قوله وجود له لا يتميز وجوده، ومنكر هذا منكر الحقائق م: (لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع) ش: إذ الحمل يقع على معين، والشائع ليس بمعين وهذا ضرب النصب الشائع في العبد المشترك لا يتصور.
وكذا وطء الجارية المشركة لا يتصور. وكذا وطء الجارية المشتركة في النصيب الشائع لعدم تصور الفعل الحسي في الشائع.(10/306)
بخلاف البيع؛ لأنه تصرف حكمي، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر. ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم، بخلاف الدار المشتركة؛ لأن المعقود عليه هنالك المنافع، ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام. وبخلاف العبد؛ لأن المعقود عليه إنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلنا: إذا حمل الكل فقد حمل البعض لا محالة، فيجب الأجر.
قلت: حمل الكل حمل المعين ونصيبه ليس بمعين فيما وجد نصيبه.
م: (بخلاف البيع) ش: جواب عن قياس الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على البيع، فأجاب بأن البيع ليس كذلك م: (لأنه تصرف حكمي) ش: أي شرعي، والتصرف في الشائع شرعا كما إذا باع أحد الشريكين نصيبه م: (وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر) ش: لأن الأجر يترتب على ذلك.
م: (ولأن ما من جزء يحمله) ش: دليل آخر على المطلوب وجهه أن حامل الشيء ما يحمل من جزئه م: (إلا وهو شريك فيه) ش: وكل من حمل شيئا كان شريكا فيه م: (فيكون عاملا لنفسه) ش: ومن كان عاملا لنفسه م: (فلا يتحقق التسليم) ش: منه فلا يستحق أجرا على غيره.
فإن قيل: لا يخلو من أنه عامل لنفسه فقط، أو عامل لنفسه ولغيره فالأول ممنوع فإنه شريك والثاني حق، لكن عدم استحقاقه الأجر على فعله لنفسه لا يستلزم عدمه بالنسبة إلى ما وقع لغيره.
أجيب: أنه عامل لنفسه فقط؛ لأن عمله لنفسه فقط أصل وموافق للقياس، وعمله لغيره ليس بأصل بل يتأتى على أمر مخالف للقياس للحاجة، وهي تندفع بجعله عاملا لنفسه لحصول مقصود المستأجر، فاعتبر جهة كونه عاملا لنفسه فقط فلم يستحق الأجر.
فإن قيل: المحمول مشترك فينبغي أن يكون الحمل كذلك.
أجيب: بأن وقوع الحمل مشتركا محال لأنه عوض يتجزأ.
م: (بخلافه الدار المشتركة) ش: جواب عن قياس الخصم على استئجار الدار المشتركة فقال: م: (لأن المعقود عليه هنالك المنافع) ش: أي منافع الدار والبدل بمقابلتها ولا شركة له في ذلك. م (ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام) ش: فإنه إذا تسلم البيت ولم يضع فيه الطعام أصلا وجب عليه الأجر بخلاف الحمل، فان المعقود عليه هو العمل، وتسليمه في الشائع لا يتحقق كما مر.
م: (وبخلاف العبد) ش: جواب عن قياس على استئجار العبد المشترك، ووجهه أن المستأجر للعبد المشترك يملك منفعة نصيب صاحبه، وهو معنى قوله م: (لأن المعقود عليه إنما هو(10/307)
ملك نصيب صاحبه، وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع. ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة؛ لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها. وكذا ما يزرع فيها مختلف فمنه ما يضر بالأرض وما لا يضر بها غيره فلم يكن المعقود عليه معلوما. فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى، وهذا استحسان. وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه وقع فاسدا. فلا ينقلب جائزا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ملك نصيب صاحبه) ش: وفي بعض النسخ ملك صاحبه.
م: (وأنه) ش: أي ملك نصيب صاحبه م: (أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع) ش: كما في البيع، بخلاف الحمل، لأنه فعل حسي.
[استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها]
م: (ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها) ش: أي استأجرها للزراعة ولم يبين م: (أو أي شيء يزرعها) ش: من أنوع الحبوب م: (فالإجارة فاسدة) ش: بجهالة المعقود عليه وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في الصورتين، وكان له أن يفعل في الأول ما يشبهه من البناء والغرس، والزرع، فإن أشبه الجميع وكان بعضه بالأرض من بعض لم يصح العقد.
وفي الثاني وهو أن يذكر الزرع صح العقد ولا يزرع إلا ما يشبهه، ذكره في الجواهر. أما لو استأجرها ليزرع فيها ما شاء أو يغرس ما شاء يجوز بالإجماع. ولو قال لتزرعها ما شئت وتغرسها ما شئت صح أيضا وهو المنصوص عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخالفه أكثر صحبه.
وقالوا: لا يجوز لأنه لا يدرك كم يزرع وكم يغرس. وقال بعضهم يصح ويغرس نصفها ويزرع نصفها م: (لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها) ش: نحو البناء والغرس وحفظ الأمتعة ونحوها. م: (وكذا ما يزرع فيها مختلف فمنه) ش: أي مما يزرع م: (ما يضر بالأرض وما لا يضر بها غيره) ش: كالدرة والدرزقان ضررهما بالأرض أكثر من ضرر الحنطة والشعير، ومنه ما لا يضر كالقطن والبطيخ م: (فلم يكن المعقود عليه معلوما) ش: فيفسد العقد للجهالة.
م: (فإن زرعها) ش: أي الأرض نوعا من أنوع الزراعة في المسألة المذكورة م: (ومضى الأجل) س: المضروب فيها م: (فله المسمى) ش: أي فللمولى ما سمي عند العقد م: (وهذا) ش: أي وجوب المسمى لانقلاب العقد صحيحا.
م: (استحسان. وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والشافعي وأحمد م (لأنه) ش: أي العقد م: (وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا) ش: فيجب أجر المثل.
م: (وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت) س: بوقوع ما وقع فيها من الزرع م: (قبل تمام العقد) ش: ينقض القاضي م: (فينقلب جائزا) ش: لأن الإجارة عقد يعقد للاستقبال، فإذا شهد المزروع في بعض المدة وعرف أنه ضار وليس بضار فقد ارتفعت الجهالة المفضية إلى النزاع في ذلك الوقت.(10/308)
وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا كما إذا ارتفعت في حالة العقد، وصار كما إذا اسقط الأجل المجهول قبل مضيه والخيار الزائد في المدة.
ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في بعض الطريق فلا ضمان عليه؛ لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر وإن كانت الإجارة فاسدة، فإن بلغ إلى بغداد فله الأجر المسمى استحسانا على ما ذكرنا في المسألة الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كما إذا ارتفعت في حالة العقد) ش: لأن كل جزء منه بمنزلة ابتدائه. ولو ارتفعت من الابتداء جاز فكذا هنا م: (وصار كما إذا اسقط الأجل المجهول قبل مضيه) ش: بأن باع إلى الحصاد والدياس فأسقط الأجل قبل أوان الحصاد والدياس م: (والخيار الزائد في المدة) ش: بأن شرط الخيار أربعة أيام مثلا ثم أسقط اليوم الرابع قبل هذا رد المختلف على المختلف، فإن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقل بالانقلاب إلى الجواز لا هنا ولا هناك.
أجيب: بأنه لما أثبت ذلك بدليله فيما تقدم ذكره هنا بطريق مبادئ فيكون مثل الإيضاح لما وقع الكلام فيه من المقيس فيه، وإن كان هو مختلفا في نفسه.
وقيل: هذا تكرار، لأنه ذكر في الأول باب ما يجوز من الإجارة، ويجوز استئجار الأراضي للزراعة ولا يصح العقد حتى يسمى ما يزرع فيها.
أجيب: بأن ذلك وضع القدوري وهذا وضع الجامع الصغير يشتمل على زيادة فائدة، وهي قوله: وإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى وفيه نظر؛ لأن اختلاف الوضعين لا ينبغي التكرار في حكم واحد وكان ينبغي ذكر الفائدة الزائدة هناك.
[استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم فحمل ما يحمل الناس فنفق]
م: (ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق) ش: أي الحمار أي هلك م: (في بعض الطريق فلا ضمان عليه، لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر) ش: لأنه قبضها بإذن المالك م: (وإن كانت الإجارة فاسدة) ش: حرف إن واصلة بما قبله. لأن حكم الفاسد يؤخذ من الصحيح، ولا يعلم خلاف بأن هذه الإجارة فاسدة، والفاسدة في حكم الصحيحة في أن العين المستأجرة أمانة فلا يضمن بلا تعد، وإنما قيد بقوله حمل ما يحمله الناس، وأراد به الحمل المعتاد لأنه إذا حمل غير المعتاد فهلك الحمار يجب أن يضمن، وإنما لم يجب الضمان في الحمل ألمعتاد لعدم المخالفة؛ لأن مطلق الإذن ينصرف إلى المعتاد ولم يتعد المعتاد.
م: (فإن بلغ إلى بغداد فله الأجر المسمى استحسانا على ما ذكرنا في المسألة الأولى) ش: وهو قوله وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد، فإنه لما حمل عليه ما يحمل الناس من(10/309)
وإن اختصما قبل أن يحمل عليه. وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع نقضت الإجارة دفعا للفساد إذ الفساد قائم بعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحمل فقد تعين الحمل وارتفعت الجهالة المفضية إلى النزاع، فانقلب إلى الجواز ووجب المسمى. وفي القياس يجب أجر المثل وهو قول زفر والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وإن اختصما قبل أن يحمل عليه) ش: أي على الحمار م: (وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع) ش: أي واختصما في المسألة الأولى وهي ما إذا استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها ... إلى آخره.
م: (نقضت الإجارة دفعا للفساد، إذ الفساد قائم بعد) ش: أي فساد العقد باق وثابت بعد الإجارة قبل الحمل على الحمار وقبل الزراعة في الأرض قال دفعا للفساد بالدال. ولو قال رفعا للفساد بالراء كان أولى لأن الفساد قائم يحتاج إلى الرفع، والدفع لا يكون إلا في غير القائم فافهم.(10/310)
باب ضمان الأجير قال: الأجراء على ضربين، أجير مشترك وأجير خاص، فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل أو أثره، كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد فمن هذا الوجه يسمى أجيرا مشتركا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ضمان الأجير]
[ضمان الأجير المشترك]
م: (باب ضمان الأجير) ش: الأجير على وزن فعيل لكن بمعنى فاعل، أي آجر. قال الأترازي: فعيل بمعنى مفاعل من باب أجر، واسم الفاعل منه مؤجر.
قلت: هذا غلط؛ لأن فعيلا بمعنى فاعل لا يكون إلا من الثاني، وكيف يقول بمعنى مفاعل من باب أجره يعني به من المزيد بدليل قوله واسم الفاعل منه مؤجر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الأجراء على ضربين) ش: الأجراء على وزن فعلاء جمع أجير، قيل: هذا انقسام الشيء إلى نفسه وهو باطل.
أجيب: بأن الانقسام إذا دخل على الجمع ولا معهود يبطل معنى الجمع، فيكون الجنس فيصح الانقسام م: (أجير مشترك) ش: وسؤال عن وجه تقديمه على الخاص دوري م: (وأجير خاص) ش: أي والثاني أجير خاص م: (فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار) ش: قيل: هذا التعريف دوري، لأنه لا يعلم من لا يستحقها قبل العمل حتى يعلم الأجير المشترك فيكون معرفة المعروف موقوفة على معرفة المعرف وهو الدور.
أجيب: بأنه قد علم مما سبق في باب الأجرة متى تستحق أن بعض الأجراء يستحق الأجرة بالعمل فلم يتوقف معرفته على معرفة معرف. وقال الكاكي: هذا تعريفه بالأجلى الأشهر.
قلت: بل هو تعريف بالمساوي على ما لا يخفى. قيل: قوله من لا يستحق الأجرة حتى يعمل مفرد، والتعريف بالمفرد لا يصح عند أكثر المحققين. أجيب: بأن قوله كالقصار، الصباغ منضم إليه فصار تعريفا بالمثال وهو صحيح. قيل: فيه نظر؛ لأن قوله: لأن المعقود عليه ينافي ذلك؛ لأن التعليل على التعريف غير صحيح.
قلنا: هذا من التعريفات اللفظية فلا يحتاج إلى هذه التكلفات.
م: (لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل) ش: هو القصارة م: (أو أثره) ش: أي أو أثره، أي أثر العمل كالصبغ م: (كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد، فمن هذا الوجه) ش: أي من حيث إن منافعه لم تصر مستحقة لواحد م: (يسمى أجيرا مشتركا) ش: بين الناس غير مخصوص لواحد بعينه.(10/311)
قال: والمتاع أمانة في يده، فإن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويضمنه عندهما إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر. لهما ما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك، ولأن الحفظ مستحق عليه إذ لا يمكنه العمل إلا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: والمتاع أمانة في يده، فإن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والحسن بن زياد والشافعي في قول، وأحمد في رواية وإسحاق والمزني.
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ويضمنه عندهما) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، ومالك وابن أبي ليلى وعطاء وطاووس ومجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر) ش: لأن الحفظ عنه غير واجب فلا يضمن لعدم الجناية والتقصير.
م: (لهما ما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك) ش: روى البيهقي من طريق الشافعي أخبرنا إبراهيم بن يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أنه كان يضمن الصباغ والصائغ وقال: لا يصلح للناس إلا ذلك ".
وروي عن خلاس عن على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يضمن الأجير. قال البيهقي: الأول فيه انقطاع يعني بين أبي جعفر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثاني يضعفه أهل الحديث ويقولون أحاديث خلاس عن علي من كتاب. واستدل ابن الجوزي في " التحقيق " على أنه لا ضمان على الأجير المشترك بما رواه الدارقطني حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا عبد الله بن شبيب حدثني إسحاق بن محمد ثنا يزيد بن عبد الملك عن محمد بن عبد الرحمن الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضمان على مؤتمن» وقال صاحب التنقيح: هذا إسناد لا يعتمد عليه ويزيد بن عبد الملك ضعفه أحمد وغيره. وقال النسائي: متروك الحديث وعبد الله بن شبيب ضعفوه.
م: (ولأن الحفظ مستحق عليه) ش: أي واجب م: (إذ لا يمكنه العمل إلا به) ش: أي بالحفظ.(10/312)
فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر، بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره؛ لأنه لا تقصير من جهته، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين أمانة في يده؛ لأن القبض حصل بإذنه، ولهذا لو هلك بسبب لا يمكن الاحتراز عنه لا يضمنه. ولو كان مضمونا يضمنه كما في المغصوب، والحفظ مستحق عليه تبعا لا مقصودا، ولهذا لا يقابله الأجر، بخلاف المودع بالأجر؛ لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا حتى يقابله الأجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[هلاك العين المؤجرة بسبب يمكن الاحتراز عنه]
م: (فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر) ش: لأنه صار بالتقصير تاركا ذلك الحفظ المستحق فيضمن، فصار مثل الدق، فالمستحق بالعقد دق سليم عن عيب التحرق، فإذا انحرق كان ضامنا م: (بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره) ش: مثل بسيل الغالب والفار على بلد هو فيه م: (لأنه لا تقصير من جهته) ش: فلم يكن متعديا فلا يضمن.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العين أمانة في يده، لأن القبض حصل بإذنه) ش: لإقامة العمل فيه فلا يكون مضمونا عليه كالمودع وأجير الواحد م: (ولهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لو هلك بسبب لا يمكن الاحتراز عنه لا يضمنه ولو كان مضمونا) ش: يعني ولو كان المتاع مضمونا في يده م: (يضمنه كما في المغصوب) ش: أي كما يضمن في المغصوب في الحالين م: (والحفظ مستحق عليه تبعا) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: الاعتبار غير صحيح، لأن ما نحن فيه الحفظ مستحق عليه تبعا م: (لا مقصودا) ش: أي غير معقود عليه، لكنه وسيلة إليه وذلك، لأن العقد وارد على العمل لكونه أجيرا مشتركا، والحفظ ليس بمقصود أصلي بل لإقامة العمل، فكان تبعا فلم يكن مقصودا م: (ولهذا) ش: أي ولكون الحفظ مستحقا عليه تبعا لا مقصودا م: (لا يقابله الأجر) ش: أي لا يقابل الحفظ الأجر.
م: (بخلاف المودع بالأجر، لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا) ش: لأن المقصود بالذات هو الحفظ م: (حتى يقابله الأجر) ش: أي حتى يقابل الحفظ فيها مقصودا بخلاف الأجير المشترك، فإن المقصود فيه العمل فلا يكون عقد معاوضة فلا يقتضي السلامة.
قيل: هذه المسألة مختلفة بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فلهذا اختار المتأخرون الفتوى بالصلح على النصف، لأن فيه عملا بأقوال الصحابة وفيه نظر، لأن هذا قول خارج عن أقوال الصحابة وترك للعمل بأقوالهم أن الصحابة اختلفوا على القولين لا غير إما الضمان أو عدم الضمان.
وفي " الخلاصة ": بعض العلماء أفتوا بقولهما، وأئمة سمرقند أفتوا بالصلح على(10/313)
قال: وما أتلف بعمله كتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل وغرق السفينة من مده مضمون عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصف. وكان الإمام المرغيناني يفتي بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل له: من قال بالصلح هل يجبر لو امتنع؟، قال: لا. وقال: كنت أفتي زمانا بالصلح فرجعت لهذا، القاضي الإمام قاضي خان يفتي بقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال تاج الشريعة: ذكر الفقيه أبو الليث أن الفتوى على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم عندهما إن شاء المالك ضمنه المقصور وأعطى الأجرة غير مقصورة ولا أجر له.
م: (قال: وما أتلف بعمله) ش: أي بعمل الأجير المشترك م: (كتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل، وغرق السفينة من مده) ش: من مد الملاح السفينة، فالمصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل مطوي ذكره، والغرق بفتح الراء مصدر غرق في الماء إذا غار.
م: (مضمون عليه) ش: أي على الأجير المشترك، ورفع مضمون على أنه خبر المبتدأ وهو قوله وما به. قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول: وروي ذلك عن عمر وعبيد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم.
وقال الكرخي في " مختصره ": وأجمع أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى أنه مضمون بالعمل الذي يأخذ عليه الأجر فيضمن القصار ما تحرق في دقه أو من عده أو من غمزه أو من بسطه.
وكذلك الصباغ في ذلك كله. ويضمن أيضا في طبخ الثوب إذا كان مما يطبخ، وكذلك الملاح يضمن ما كان في مدة أو خدمة أو ما يعالج به السفينة للمسيرة. وكذلك الحمال إذا أسقط ما حمله من رأسه أو يده أو عثر فسقط ما معه فإنه يضمن ذلك كله، وكذلك المكاري إذا كان من سوقه أو من قوده وانقطع الحبل الذي شده على المتاع وفسد كل هؤلاء يضمنون ما يفسد به المتاع من فساد يلحقه منه عند حمله سفينة أو بسوقه لدابة عليها المتاع أو قوده.
وقال حماد بن أبي سليمان وزفر والحسن بن زياد: هو مؤتمن في ذلك لم يضمن إلا إن تعدى.
وفي " التحفة " وإن تخرق بدق أجير القصار لا ضمان عليه، ولكن يجب الضمان على الإسناد. وفي " شرح الكافي ": ولو وطئ الأجير على ثوب القصار مما لا يوطأ فخرقه كان ضمانه عليه.(10/314)
وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا ضمان عليه؛ لأنه أمره بالفعل مطلقا فينتظمه بنوعيه المعيب والسليم وصار كأجير الواحد ومعين القصار. ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح؛ لأنه هو الوسيلة إلى الأثر وهو المعقود عليه حقيقة. حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر فلم يكن المفسد مأذونا فيه. بخلاف المعين؛ لأنه متبرع فلا يمكن تقييده بالمصلح؛ لأنه يمتنع عن التبرع، وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده. وبخلاف الأجير الواحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وانقطاع الحبل من قلة اهتمامه فكان من صنيعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا ضمان عليه) ش: قال الربيع هذا مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي ذلك عن عطاء وطاووس م: (لأنه أمره) ش: أي لأن صاحب المتاع من الأجير المشترك م: (بالفعل مطلقا) ش: بأن استأجره ليدق الثوب ولم يرد على ذلك ما يدل على السلامة.
م: (فينتظمه بنوعيه) ش: أي فينتظم المطلق بنوعي الفعل م: (المعيب والسليم) ش: بالجر فيهما على أنه عطف بيان أو بدل، ويجوز الرفع فيهما على تقدير أحدهما المعيب والآخر السليم م: (وصار كأجير الواحد ومعين القصار) ش: حيث لا ضمان عليهما.
م: (ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح) ش: وفي بعض النسخ الصالح م: (لأنه هو الوسيلة إلى الأثر) ش: الحاصل في العين من فعله م: (وهو المعقود عليه حقيقة) ش: لكونه هو المقصود م: (حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر) ش: وإذا كان كذلك كان الأمر مقيدا بالسلامة م: (فلم يكن المفسد) ش: من العمل م: (مأذونا فيه) ش: كما لو وصف نوعا من الدق فجاءه بنوع آخر.
م: (بخلاف المعين) ش: أي معين القصار م: (لأنه متبرع فلا يمكن تقييده) ش: أي تقييد عمله م: (بالمصلح، لأنه يمتنع عن التبرع وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده) ش: أي بالمصلح قبل الملتزم أن يلتزم جواز الامتناع عن التبرع فيما يحصل به المضرة لغير من تبرع له.
ولو علل بأن التبرع بالعمل بمنزلة الهبة وهي لا تقتضي السلامة كان أسلم م: (وبخلاف الأجير الواحد على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي أجير المستأجر الواحد، وسيأتي في آخر الباب.
م: (وانقطاع الحبل) ش: جواب عما عسى أن يقال انقطاع الحبل ليس من صنع الأجير، فما وجه ذكره من جملة ما تلف بعمله، فأجاب بقوله: م: (من قلة اهتمامه فكان من صنيعه) ش: أراد أنه إنما انقطع من قلة افتقاده كل ساعة، لأنه ربما ينحل انبرامه أو يبلى من كثرة الاستعمال ولا(10/315)
قال: إلا أنه لا يضمن به بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده؛ لأن الواجب ضمان الآدمي وأنه لا يجب بالعقد، وإنما يجب بالجناية، ولهذا يجب على العاقلة وضمان العقود لا تتحمله العاقلة. قال: وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه أجره بحسابه أما الضمان فلما قلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يهون عليه تجديده وتبديله بأقوى منه م: (قال: إلا أنه) ش: استثناء من قوله مضمون، أي إلا أن الأجير المشترك م: (لا يضمن به) ش: أي بفعله م: (بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده) ش:
قيل: إذا كان يستمسك على الدابة ويركب وحده وإلا فهو كالمتاع، والصحيح أنه لا فرق.
وكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الوضيع، وكذا ذكره التمرتاشي. وفي " الاختيار ": ولو غرقت في موج أو ريح أو صدم جبل أو زوحم الجمال فلا ضمان عليهم، لأنهم لا فعل لهم في ذلك م: (لأن الواجب ضمان الآدمي وأنه) ش: أي ضمان الآدمي م: (لا يجب بالعقد، وإنما يجب بالجناية، ولهذا يجب على العاقلة وضمان العقود لا تتحمله العاقلة) ش: لأنهم لا يتحملون إلا ضمان الجنايات.
[استأجر من يحمل له دنا فوقع في بعض الطريق فانكسر]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر فإن شاء ضمنه قيمته) ش: أي قيمة الدن م: (في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه أجره بحسابه) ش: قال السغناقي إنما وضع المسألة في الفرات، لأن الدنان الجديدة كانت تباع هنالك، قيد بقوله في بعض الطريق، لأنه لو انكسر بعدما انتهى إلى المكان المشروط من جناية يده فلا ضمان عليه وله الأجر. وكذا نقل الإمام صاعد النيسابوري، كذا في " المبسوط ".
وقوله: فانكسر ليس بقيد، فإنه لو كسره عمدا فالحكم كذلك عندنا. وعند زفر والشافعي - رحمهما الله - إن انكسر لا ضمان عليه لما قلنا.
وإن كسره يضمن قيمته في المكان الذي كسره ويعطيه أجر ما حمل. في شرط الطحاوي فلو زحمه الناس حتى انكسر فإنه لا يضمن بالإجماع، لأن ذلك بمنزلة الخرق الغالب والغرق الغالب، ولو أنه هو الذي زحم الناس حتى انكسر فإنه يضمن بالإجماع.
م: (أما الضمان فلما قلنا) ش: أنه أجير مشترك وقد تلف المتاع بصنعه فيضمن، وفي " شرح الطحاوي " والراعي بمنزلة الأجير المشترك إذا كان يرعى للعامة فما تلف من سوقه وضربه إياها بخلاف العادة فإنه يضمن، لأنه من جناية يده. وإذا ساق الدواب على السرعة، فإذا(10/316)
والسقوط بالعثار أو بانقطاع الحبل وكل ذلك من صنيعه. وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق والحمل شيء واحد تبين أنه وقع تعديا من الابتداء من هذا الوجه. وله وجه آخر وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن من الابتداء تعديا عند الكسر فيميل إلى أي الوجهين شاء. وفي الوجه الثاني له الأجر بقدر ما استوفى. وفي الوجه الأول لا أجر له؛ لأنه ما استوفى عمله أصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زحمت على القنطرة ودفعت بعضها بعضا فسقطت إلى الماء وعطبت فإنه يضمن، لأنه من جناية يده. ولو أن رجلا قال: استأجرتك لترعى غنمي خاصة مدة معلومة فهذا أجير الواحد.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الراعي إذا كان مشتركا لا يجب عليه رعي الأولاد التي تحدث فإن شرط عليه في أصل العقد يجب عليه رعي الأولاد م: (والسقوط بالعثار) ش: أي سقوط الحامل يحصل بالعثار م: (أو بانقطاع الحبل، وكل ذلك من صنيعه وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق والحمل شيء واحد) ش: أي والحال أن الحمل شيء واحد حكما إذ الحمل المستحق بالعقد ما ينتفع به وهو أن يجعله محمولا إلى موضع بعينه م: (تبين أنه وقع تعديا من الابتداء) ش: أي من ابتداء العقد م: (من هذا الوجه) ش: يتعلق بقوله وقع تعديا، وأراد به الوجه الذي ذكره وهو أن الحمل شيء واحد فيكون انكساره في الطريق كانكساره ابتداء.
م: (وله وجه آخر) ش: أي لوجوب الضمان وجه آخر. م: (وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن من الابتداء تعديا) ش: لأن ابتداءه به في الحقيقة سليم م: (وإنما صار تعديا عند الكسر) ش: أراد أنه كان في الابتداء غير متعد، فلما كسره ظهر أنه متعد، ولكن ما كان ظهوره إلا عند الكسر، فإذا كان جهة الضمان دائر بين الأمرين م: (فيميل إلى أي الوجهين شاء) .
م: (وفي الوجه الثاني) ش: وهو ما إذا شاء تضمين قيمته في المكان الذي انكسر م: (له الأجر بقدر ما استوفى، وفي الوجه الأول) ش: وهو ما إذا شاء تضمين قيمته في المكان الذي حمله م: (لا أجر له، لأنه ما استوفى عمله أصلا) ش: فالوجه الأول وجه حكمي.
فلهذا قلنا: إنه ليس يجمع بين الأجر والضمان، لأنهما لا يجتمعان عنده إذا كانا في حالة واحدة، وقد اختلفت الحالة هنا، لأنه في الوجه الثاني جعل المتاع أمانة عنده من حيث حمل إلى أن كسر والأجر يجب في حالة الأمانة، وإنما صار مضمونا في حالة الكسر وهذه حالة أخرى.
فإن قلت: كان ينبغي أن لا يخير عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكن يضمن قيمته في المكان الذي انكسر، لأن المال أمانة عند الأجير المشترك عنده، وإذا كان أمانة وجب أن لا يضمن قيمته في المكان الذي حمله منه.(10/317)
قال: وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك وفي " الجامع الصغير " بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت، أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه، وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان. ووجهه أنه لا يمكنه التحرز عن السراية؛ لأنه يبتنى على قوة الطبائع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا ليس كذلك على الإطلاق، ولكن القبض يقع على وصف التوقف عنده، فإن ظهر بصنعه ظهر أنه كان مضمونا عليه، فجاز أن يكون له الخيار.
[فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ) ش: فصد من باب ضرب يستعمل في الآدمي، وبزغ من باب فتح يستعمل في الحيوان يقال بزغ البيطار الدابة إذا شقها بالمبزاغ وهو مثل مشرط الحجام، ومادته باء موحدة وزاي وغين معجمتان م: (ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك) ش: أي فيما هلك، ولا يعلم فيه خلاف.
قيد بقوله ولم يتجاوز الموضع المعتاد، لأنه إذا تجاوز الموضع المعتاد يضمن. وقال صاحب " الاختيار ": ولا ضمان على الفصاد والبزاغ، إلا أن يتجاوز الموضع المعتاد، لأنه إذا فعل المعتاد لا يمكنه الاحتراز عن السراية، لأنه ينبي على قوة المزاج وضعفه، وذلك غير معلوم فلا يتقيد فيه.
بخلاف دق الثوب، لأن رقته وثخانته تعرف لأهل الخبرة فيتقيد بالصلاح. وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": إذا شرط على الحجام والبزاغ العمل على وجه لا يسري لا يصح هذا الشرط، لأنه ليس في وسعه ذلك. ولو شرط على القصار العمل على وجه لا ينخرق صح، لأنه وسعه ذلك.
م: (وفي " الجامع الصغير " بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت) ش: أي هلكت م: (أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه) ش: إنما أعاد المسألة المذكورة بينهما على مزيد فائدة المار إليها بقوله م: (وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان) ش: أراد بهما عبارة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبارة " الجامع الصغير ".
وأراد بنوع بيان من القدوري أنه ذكر عدم التجاوز عن الموضع المعتاد، ويفيد أنه إن تجاوز ضمن، وبنوع بيان من " الجامع الصغير " أنه بين الأجرة، وكون الحجامة بأمر المولى والهلاك، ويفيد أنه إذا لم يكن بأمره يضمن.
م: (ووجهه) ش: أي وجه عدم الضمان م: (أنه لا يمكنه التحرز عن السراية، لأنه يبتنى على قوة الطبائع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل) ش: لئلا يتقاعد الناس عنه(10/318)
ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه؛ لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد، فأمكن القول بالتقييد. قال: والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل، كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم، وإنما سمي أجير واحد؛ لأنه لا يمكنه أن يعمل لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مع مساس الحاجة م: (ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه) ش: أشار به إلى قوله، لأن الاحتراز عن التحريق بالدق ممكن ليمكن التقييد بالمصلح م: (لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد فأمكن القول بالتقييد) ش: بالمصلح.
وفي بعض النسخ ودقته بالدال، وكلاهما بمعنى واحد، ثم إذا تجاوز المعتاد يضمن، ولم يبين قدر ذلك الضمان على تقدير الحياة أو الموت كم هو؟ قيل: ذلك بحسب قدر التجاوز حتى إن الختان لو ختن فقطع الحشفة ينظر إن برئ فعليه كمال دية النفس وإن مات فعليه نصف الدية.
وهذا من العجب إذ هو مخالف لجميع مسائل الديات، فإنه كلما زاد أثر جنايته انتقص ضمانه وينبغي أن يزداد ضمانه، كما في قطع اليد وقتله خطأ، وقد ذكر السرخسي في " مبسوطه " فقال محمد في " النوادر ": أنه لما برئ كان عليه ضمان الحشفة وهي عضو مقصود لا ثاني له في النفس، فيتقدر بدله ببدل النفس كما في قطع اللسان.
ولو مات حصل تلف النفس بفعلين أحدهما مأذون فيه وهو قطع الجلد والآخر غير مضمون وهو قطع الحشفة فعليه نصف بدل النفس لذلك.
فإن قيل: التنصيف بالبدل يعتمد التساوي في السبب وقد انتفى، لأن قطع الحشفة أشد إفضاء إلى التلف من قطع الجلدة لا محالة، فكان كقطع اليد مع حر الرقبة.
أجيب: بأن كل واحد يحتمل أن يقع إتلافا وأن لا يقع، والتفاوت غير مضبوط فكان هذا بخلاف الحر، فإنه لا يحتمل أن لا يقع إتلافا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل) ش: ما كان يرد على الأجير المشترك يرد هنا، فالجواب هو الجواب، ثم إنه إنما يستحق الأجرة بتسليم نفسه بدون العمل إذا تمكن من العمل.
حتى لو سلم نفسه ولم يتمكن من العمل لعذر منعه لم يجب الأجر، فإنه ذكر في " الذخيرة " لو استأجره لاتخاذ الطين أو غيره في الصحراء فمطر ذلك اليوم بعدما خرج الأجير إلى الصحراء لا أجر له، وبه كان يفتي المرغيناني.
م: (كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم) ش: أي لو استأجر شهرا لرعي الغنم، هذا هو الأجير الخاص، لأنه مخصوص بواحد م: (وإنما سمي أجير واحد، لأنه لا يمكنه أن يعمل(10/319)
لأن منافعه في المدة صارت مستحقة له، والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا يبقى الأجر مستحقا وإن نقض العمل. قال: ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده ولا ما تلف من عمله. أما الأول فلأن العين أمانة في يده؛ لأنه قبض بإذنه وهذا ظاهر عنده، وكذا عندهما؛ لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس، ولأجير الواحد لا يتقبل الأعمال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لغيره) ش: أي لغير المستأجر. وقوله أجير مضاف إلى لفظة وحد، والوحد بفتح الواو وسكون الحاء بمعنى الواحد وهو صفة موصوفها محذوف تقديره أجير مستأجر واحد، ويجوز تحريك الحاء أيضا م: (لأن منافعه في المدة) ش: أي منافع الأجير الخاص في المدة المضروبة للعمل م: (صارت مستحقة له) ش: أي للمستأجر م: (والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا) ش: أي ولأجل أن الأجر مقابل بالمنافع، والمنافع مستحقه له م: (يبقى الأجر مستحقا، وإن نقض العمل) ش: على بناء المجهول في نقض، بخلاف الأجير المشترك، فإنه روي عن محمد لو فتق الخياط أو غيره الثوب بعدما عمل قبل أن يقبض رب الثوب فلا أجر للخياط، لأنه لم يسلم العمل لرب الثوب ولا يجبر الخياط على أن يعيد العمل، لأنه لو أجبر عليه أجبر بحكم العقد الذي جرى بينهما، وذلك العقد قد انتهى بتمام العمل وإن كان الخياط وهو الذي فتق فعليه أن يعيد العمل، ولو كان أجيرا خاصا فينقضه استحق الأجر والإسكاف كالخياط.
[ضمان الأجير الخاص]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده) ش: بأن سرق منه أو غاب أو غصب م: (ولا ما تلف من عمله) ش: بأن انكسر القدوم في عمله أو تخرق الثوب من دقه أو انفسد الطبخ أو احترق الخبز ونحو ذلك، وبه قالت الثلاثة. وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه قولان: في قول: يضمن كالأجير المشترك وهو المنصوص عليه، ذكره في " الحلية ". ومنهم من قال: لا يضمن قولا واحدا، هذا كله إذا لم يتعمد الفساد، فإن تعمد ذلك ضمن كالمودع بلا خلاف.
م: (أما الأول) ش: وهو ما إذا تلف في يده م: (فلأن العين أمانة في يده، لأنه قبض بإذنه) ش: أي بإذن المستأجر م: (وهذا ظاهر عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكذا عندهما، لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس) ش: فإنه يقبل أعيانا كثيرة رغبة في كثرة الأجر، وقد يعجز عن قضاء حق الحفظ فيها فيضمن حتى لا يقصر في حفظها ولا يأخذ إلا ما يقدر على حفظه م: (ولأجير الواحد) ش: بإضافة الأجير إلى الواحد، ولا يمتنع في هذه الإضافة دخول اللام في المضاف، لأن الإضافة لفظية. وفي بعض النسخ وأجير الواحد بدون اللام في الأجير.
وهذا أشهر وأصوب وهو مبتدأ وخبره قوله م: (لا يتقبل الأعمال) ش: بل يسلم نفسه م:(10/320)
فتكون السلامة غالبا فيؤخذ فيه بالقياس. وأما الثاني فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر، فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه، فصار فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه، فلهذا لا يضمنه والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فتكون السلامة غالبا فيؤخذ فيه بالقياس) ش: وهو عدم الضمان.
م: (وأما الثاني) ش: وهو ما إذا تلف بعمله م: (فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر) ش: بتسليم النفس، ولهذا يستحق الأجر بتسليم نفسه بدون العمل م: (فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير) ش: أي الأجير م: (نائبا منابه، فصار فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه، فلهذا لا يضمنه والله أعلم) ش: كما في الإكراه الملجئ.(10/321)
باب الإجارة على أحد الشرطين وإذا قال للخياط: إن خطت هذا الثوب فارسيا فبدرهم، وإن خطته روميا فبدرهمين جاز، وأي عمل من هذين العملين عمل استحق الأجر به، وكذا إذا قال لصباغ: إن صبغته بعصفر فبدرهم، وإن صبغته بزعفران فبدرهمين. وكذا إذا خيره بين شيئين بأن قال أجرتك هذه الدار شهرا بخمسة أو هذه الدار الأخرى بعشرة، وكذا إذا خيره بين مسافتين مختلفتين بأن قال أجرتك هذه الدابة إلى الكوفة بكذا أو إلى واسط بكذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الإجارة على أحد الشرطين]
م: (باب الإجارة على أحد الشرطين) ش: لما بين الإجارة على شرط إذا كان مفسدا شرع في بيان الشرطين، والاثنان بعد الواحد.
م: (وإذا قال للخياط: إن خطت هذا الثوب فارسيا) ش: أي خياطا فارسيا بمعنى خياطة فارسية أي منسوبة إلى صنعة فارس وهي التي تكون فيها الخياطة غرزة غرزة. وقوله: م: (فبدرهم) ش: جواب الشرط والتقدير فأجرتك بدرهم م: (وإن خطته روميا) ش: أي خياطا روميا يعني خياطة روميه أي منسوبة إلى صنعة الروم وهي التي تكون الخياطة فيها غرزتين، وكذلك قوله م: (فبدرهمين) ش: جواب الشرط بالتقدير الذي ذكرناه، وقوله م: (جاز) ش: جواب إذا، أي جاز هذا الشرط المتنوع م: (وأي عمل من هذين العملين) ش: أي الخياطة الفارسية والخياطة الرومية م: (عمل) ش: أي الخياط م: (استحق الأجر به) ش: أي الأجر المسمى بالعمل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية، وإسحاق وأبو ثور والثوري: لا يصح العقد وهو القياس، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا ثم رجع عنه. وجه القياس أنه عقد معاوضة ولم ينعقد فيه العوض والمعوض، فلم يصح وله أجر المثل إذا عمل. وجه الاستحسان أن الأجر يجب بالعمل وعند العمل ما يلزمه عن البدل معلوم فلا تبقى الجهالة في المعقود عليه ولا في بدله.
م: (وكذا إذا قال لصباغ إن صبغته بعصفر) ش: وهو زهر القرطم م: (فبدرهم) ش: أي فأجرتك تكون بدرهم م: (وإن صبغته بزعفران فبدرهمين) ش: بفتح الزاي والفاء جميعا م: (وكذا إذا خيره) ش: أي وكذا يصح إذا خير الأجير المستأجر م: (بين شيئين بأن قال أجرتك هذه الدار شهرا بخمسة أو هذه الدار الأخرى بعشرة) ش: فأي دار سكنها يلزمه ما عينه من الأجرة م: (وكذا إذا خيره) ش: أي وكذا يجوز إذا خير المؤجر المستأجر م: (بين مسافتين مختلفتين بأن قال أجرتك هذه الدابة إلى الكوفة بكذا أو إلى واسط بكذا) ش: يلزمه عشرة، وإن سافر إلى واسط يلزمه خمسة.(10/322)
وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء، وإن خيره بين أربعة لم يجز والمعتبر في جميع ذلك البيع، والجامع دفع الحاجة غير أنه لا بد من اشتراط الخيار في البيع وفي الإجارة لا يشترط ذلك؛ لأن الأجر إنما يجب بالعمل وعند ذلك يصير المعقود عليه معلوما وفي البيع يجب الثمن بنفس العقد فتتحقق الجهالة على وجه لا ترتفع المنازعة إلا بإثبات الخيار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء) ش: أي في الصور المذكورة بأن قال إن خطته فارسيا فلك درهم، إن خطته روميا فلك درهمان، وإن خطته تركيا أو نحو ذلك فلك ثلاثة دراهم، فأي الأعمال عمل استحق الأجر المسمى.
وكذلك إذا قال إن صبغته بعصفر فلك درهم، وإن صبغته بزعفران فلك درهمان، وإن صبغته بورس ونحوه فلك ثلاثة دراهم.
وكذا لو قال: إن سكنت هذه الدار كل شهر فعليك خمسة، وإن سكنت هذه فعليك عشرة، وإن سكنت هذا فخمسة عشر.
وكذا إذا قال: أجرتك هذه الدابة إلى بغداد بعشرة أو إلى واسط بخمسة عشر أو إلى الكوفة بعشرين.
م: (وإن خيره بين أربعة لم يجز) ش: أي وإن خير بين أربعة أنواع من الفعل لم يجز بأن قال: إن خطته فارسيا فلك درهم، وإن خطته روميا فلك درهمان، وإن خطته تركيا فثلاثة، وإن خطته هنديا فأربعة وقس الباقي على هذا، وكذلك الزراعة جاز إلى الثلاثة، كما إذا قال للمزارع: إن زرعتها بغير كراب فلك ربع الخارج، وإن زرعتها بكراب فلك ثلاثة، وإن زرعتها بكرابين فلك نصفه وإلى ذلك عمل فله شرط.
م: (والمعتبر في جميع ذلك البيع) ش: فإذا باع أحد الثوبين أو أحد الأثواب الثلاثة جاز، وإذا باع أحد الأثواب الأربعة لم يجز فكذا في الإجارة م: (والجامع) ش: في وجه إلحاق الإجارة بالبيع في هذه الصور م: (دفع الحاجة) ش: أي حاجة الناس وضروراتهم. ثم أشار إلى بيان الفرق بينهما من وجه بقوله م: (غير أنه) ش: أي أن الشأن م: (لا بد من اشتراط الخيار في البيع) ش: فإنه إذا خيره بين ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء يكون للمشتري الخيار، وكذا إذا خيره بين الثلاثة م: (وفي الإجارة لا يشترط ذلك) ش: أي الخيار م: (لأن الأجر إنما يجب بالعمل، وعند ذلك يصير المعقود عليه معلوما) ش: فلا يحتاج إلى إثبات الخيار.
م: (وفي البيع يجب الثمن بنفس العقد فتتحقق الجهالة على وجه لا ترتفع المنازعة إلا بإثبات الخيار) ش: وبهذا التعليل خرج الجواب عما قيل ما الفرق بين هذا وبين البيع والنكاح حيث يفسدان بالشرط، ولا تفسد الإجارة، فإنه لو قال بعت منك هذا العبد بألف درهم أو هذه(10/323)
ولو قال إن خطته اليوم فبدرهم وإن خطته غدا فبنصف درهم، فإن خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غدا فله أجر مثله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجاوز به نصف درهم. وفي " الجامع الصغير ": لا ينقص من نصف درهم ولا يزاد على درهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجارية بمائة دينار أو زوجتك أمتي هذه بمائة درهم أو ابنتي فلانة بمائة دينار فقال قبلت كان باطلا.
[قال إن خطته اليوم فبدرهم وإن خطته غدا فبنصف درهم]
م: (ولو قال إن خطته اليوم فبدرهم وإن خطته غدا فبنصف درهم، فإن خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غدا فله أجر مثله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن الشرط الأول جائز، والثاني فاسد، ولهذا يجب المسمى في الأول وأجر المثل في الثاني م: (لا يجاوز به نصف درهم) ش: أي لا يجاوز بأجر المثل نصف درهم، لأنه هو المسمى في اليوم الثاني.
م: (وفي " الجامع الصغير ": لا ينقص من نصف درهم ولا يزاد على درهم) ش: ذكر هذا تنبيها على اختلاف الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا خاطه في اليوم الثاني فالأول ما ذكره القدوري وهو الصحيح، والثاني ما ذكره في " الجامع الصغير "، لأن التسمية الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني فتعتبر لمنع الزيادة، وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان، فإن خاطه في اليوم الثاني يأتي بيانه عن قريب.
وقال الكرخي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " فإن خاطه من بعد الغد فله أجر مثله في قولهم جميعا. واختلف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أجر المثل على ما حكاه في الوجه الأول يزاد على أجر الأول ولا ينقص من الأجر الثاني. وروي عنه إن كان أجر مثله أقل من الأجر الثاني فله الأقل من الأجر الثاني. وقال في الإملاء: في هذه المسألة له أجر مثله لا يتجاوز به درهما، انتهى.
وقال القدوري في " شرحه ": واختلفت الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا خاطه في اليوم الثاني، فقال في إحدى الروايتين له أجر مثله لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم، وهذا رواية الأصل والجامع الصغير. ورواية محمد في الأصل وإحدى الروايتين عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره وإحدى روايتي ابن سماعة أيضا عن محمد في نوادره. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نوادره رواية أخرى أن له في اليوم الثاني أجر مثله لا يزاد على نصف درهم وهي الرواية الصحيحة، انتهى.
وقال فخر الإسلام في شرح " الجامع الصغير " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": أنه يجب في شرط الثاني أجر مثله لا يجاوز به نصف درهم وينقص عنه وهو اختيار الكرخي.(10/324)
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: الشرطان جائزان. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشرطان فاسدان؛ لأن الخياطة شيء واحد، وقد ذكر بمقابلته بدلان على البدل، فيكون مجهولا، وهذا لأن ذكر اليوم للتعجيل وذكر الغد للترفيه فيجتمع في كل يوم تسميتان. ولهما أن ذكر اليوم للتأقيت وذكر الغد للتعليق فلا يجتمع في كل يوم تسميتان. ولأن التعجيل والتأخير مقصودان فنزل منزلة اختلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: الشرطان جائزان) ش: ففي أيهما خاط يستحق المسمى فيه م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشرطان فاسدان) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في ظاهر مذهبه والثوري وإسحاق وهو القياس م: (لأن الخياطة شيء واحد) ش: لأنه استأجره على مطلق الخياطة فالفعل غير مختلف وإنما يختلف الزمان م: (وقد ذكر بمقابلته بدلان على البدل) ش: أي بمقابلة شيء واحد الذي هو الخياطة، وأراد بالبدلين هو درهم ونصف درهم. وأراد بقوله على البدل على الطريق البدل م: (فيكون مجهولا) ش: أي فيكون البدل الذي هو الأجر مجهولا فصار كأنه قال: خطته بدرهم ونصف دراهم وهو باطل، فكذا هذا.
م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن ذكر اليوم للتعجيل) ش: لا للتوقيت لأنه خال إفراد العقد باليوم بقوله: خطته اليوم بدرهم كان للتعجيل لا للتوقيت حتى لو خاطه في الغد استحق الأجر فكذا هما م: (وذكر الغد للترفيه) ش: لا للإضافة والتعليق ولهذا لو أفرد العقد في الغد بأن قال خطته غدا بنصف درهم ثبت هذا العقد في اليوم حتى لو خاطه اليوم استحق نصف درهم م: (فيجتمع في كل يوم تسميتان) ش: فيبطل العقد للجهالة بيان ذلك أما في اليوم الأول فلأن ذكر الغد للترفيه كان العقد المضاف إلى غد ثابت اليوم مع عقد اليوم وأما في الغد فلأن العقد المنعقد في اليوم باق لأن ذكر اليوم للتعجيل فيجتمع مع المضاف إلى غد فهذا بيان اجتماع التسميتين في كل يوم.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن ذكر اليوم للتأقيت) ش: لأنه حقيقة، فكان قوله: إن خطته اليوم فبدرهم مقتصرا على اليوم فبانقضاء اليوم لا يبقى إلى الغد، بل ليقضي بانقضاء الوقت م: (وذكر الغد للتعليق) ش: أي للإضافة، لأن الإجارة لا تقبل التعليق، لكن تقبل الإضافة لم يكن العقد ثابتا في الحال. وقال الكاكي: ولهذا ذكر في بعض النسخ وذكر الغد للإضافة م: (فلا يجتمع في كل يوم تسميتان) ش: فيصح الشرطان م: (ولأن التعجيل والتأخير مقصودان) ش: دليل آخر لهما، ومعناه أن المعقود عليه واحد وهو العمل ولكن بصفة خاصة فيكون مراده التعجيل لبعض أغراضه في اليوم من التجمل والبيع بزيادة فائدة فيفوت ذلك ويكون التأجيل مقصودا م: (فنزل) ش: باختلاف الغرض م: (منزلة اختلاف(10/325)
النوعين ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذكر الغد للتعليق حقيقة ولا يمكن حمل اليوم على التأقيت لأن فيه فساد العقد لاجتماع الوقت والعمل. وإذا كان كذلك يجتمع في الغد تسميتان دون اليوم فيصح الأول ويجب المسمي ويفسد الثاني ويجب أجر المثل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النوعين) ش: من العمل كما في الخياطة الفارسية والرومية.
فإن قلت: قد جعلا ذكر اليوم في مسألة خبز المخاتيم للتعجيل فما لهما لم يجعلا كذلك هاهنا.
قلت: هنالك حملا على المجاز تصحيحا للعقد، وهاهنا حملا على الحقيقة للتصحيح أيضا إذا لو عكس الأمر في الفصلين يلزم إبطال ما قصد العاقدان في صحة العقد، والأصح تصحيح تصرف العاقل ما أمكن.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذكر الغد للتعليق) ش: أي للإضافة، ويجوز أن يقال عبر عن الإضافة بالتعليق إشارة إلى أن النصف في الغد ليس بتسمية جديدة لأن التسمية الأولى باقية وإنما هو يحط النصف لأمر التأخير فيكون معناه ذكر الغد للتعليق أي لتعليق الحط بالتأخير وهو يقبل التأخير م: (حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة، فإذا كان حقيقة وأمكن العمل بها لا يصار إلى المجاز فلا يجتمع تسميتان في اليوم م: (ولا يمكن حمل اليوم على التأقيت) ش: الذي هو حقيقة اليوم م: (لأن فيه فساد العقد لاجتماع الوقت والعمل) ش: فإذا نظرنا إلى ذكر العمل كان الأجير مشتركا.
وإذا نظرنا إلى ذكر اليوم كان أجيرا واحدا، وهما متنافيان لتنافي لوازمهما، فإن ذكر العمل يوجد عدم وجوب الأجرة ما لم يعمل. وذكر الوقت يوجب وجوبها عند تسليم النفس في المدة، وتنافي اللوازم يدل على تنافي الملزومات ولذلك عدلنا عن الحقيقة التي هي للتأقيت إلى المجاز الذي هو التعجيل م: (وإذا كان كذلك يجتمع في الغد تسميتان دون اليوم فيصح الأول) ش: أي الشرط الأول م: (ويجب المسمى ويفسد الثاني) ش: أي الشرط الثاني م: (ويجب أجر المثل) ش: لا مقتضى الإجارة الفاسدة.
قيل: في جعل اليوم للتعجيل صحة الإجارة الأولى وفساد الثانية، وفي جعله للتوقيت فساد الأولى وصحة الثانية، ولا رجحان لأحدهما على الآخر فكان تحكما.
أجيب بأن فساد الإجارة الثانية يلزم في ضمن صحة الأولى، والضمان غير معتبرة.
قيل: هذا يشكل على قول أبي حنيفة بمسألة المخاتيم، فإنه جعل فيها ذكر اليوم للتأقيت وفساد العقد، وهاهنا التعجيل وصححه.(10/326)
لا يجاوز به نصف درهم لأنه هو المسمى في اليوم الثاني وفي " الجامع الصغير " لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم لأن التسمية الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني، فتعتبر لمنع الزيادة وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان، فإن خاطه في اليوم الثالث لا يجاوز به نصف درهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: بأن ذكر اليوم للتأقيت حقيقة فلا يترك ما لم يمنع مانع كما نحن فيه، فإن الحمل على الحقيقة مفسد للعقد فمنع لذلك وقام الدليل على المجاز وهو نقصان الأجر للتأخير بخلاف حالة الانفراد فإنه لا دليل ثمة على المجاز فكان التأقيت مرادا وفسد العقد.
ورد بأن دليل المجاز قائم وهو تصحيح العقد على تقدير التعجيل فيكون مرادا نظرا إلى ظاهر الحال.
وأجيب: أن الجواز بظاهر الحال في حيز النزاع فلا بد من دليل زائد على ذلك، وليس بموجود بخلاف ما نحن فيه، فإن نقصان الأجر دليل زائد على الجواز بظاهر الحال م: (لا يجاوز به نصف درهم) ش: أي بأجر المثل قد قلنا فيما مضى: إن هذا إسناد الفعل بالجار والمجرور على رأي الكوفيين فيكون الثاني محل الرفع ونصف درهم منصوب على المفعولية وقال زفر والثلاثة: يجب أجر المثل بالغا ما بلغ م: (لأنه) ش: أي نصف درهم م: (هو المسمى في اليوم الثاني) ش: فإن قلت: فالدرهم أيضا سمي في اليوم الثاني لأن اليوم جعل للتعجيل فصار وجوده كعدمه في الغد فلا يكون راضيا بحط نصف من الدرهم.
قلت: هذا مسلم، لكن ذكر النصف في الغد بطريق التصريح بخلاف ذكر الدرهم فهو مصرح في اليوم دون الغد.
م: (وفي الجامع الصغير لا يزاد على الدرهم ولا ينقص من نصف درهم) ش: لما أعاد لفظ الجامع لبيان الدليل على اختلاف الرواية، ولكن لو ذكره هناك كان أولى وأبعد من التكرار ظاهرا وقال الأترازي: إنما أعاد لفظ الجامع للمخالفة الظاهرة بين رواية الجامع والرواية الأولى.
قلت: هذا وقوع فيما هرب عنه، لأنه بين هناك تلك المخالفة وإنما الإعادة لما ذكرنا م: (لأن التسمية الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني فتعتبر لمنع الزيادة، وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان) ش: منع الزيادة عن الدرهم ومنع النقصان عن نصف درهم.
م: (فإن خاطه في اليوم الثالث لا يجاوز به نصف درهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو(10/327)
الصحيح لأنه إذا لم يرض بالتأخير إلى الغد فبالزيادة عليه إلى ما بعد الغد أولى. ولو قال: إن أسكنت في هذا الدكان عطارا فبدرهم في الشهر، وإن أسكنت في هذا الدكان حدادا فبدرهمين جاز، وأي الأمرين فعل استحق المسمى فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا الإجارة فاسدة وكذا إذا استأجر بيتا على أن يسكن فيه فبدرهم وإن أسكنت فيه حدادا فبدرهمين فهو جائز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز. ومن استأجر دابة إلى الحيرة بدرهم وإن جاوز بها إلى القادسية فبدرهمين فهو جائز ويحتمل الخلاف
ومن استأجرها إلى الحيرة على أنه إن حمل عليها كر شعير فبنصف درهم وإن حمل عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصحيح) ش: احترز به عن الرواية الأخرى وهو أنه لا يزاد على درهم ولا ينقص عن درهم كذا في التقريب " م: (لأنه إذا لم يرض بالتأخير إلى الغد فبالزيادة عليه إلى ما بعد الغد أولى) ش: بأن لا يرضى وأما عندهما فالصحيح أنه ينقص من نصف الدرهم ولا يزاد عليه ذكره في الإيضاح.
[قال إن أسكنت في هذا الدكان عطارا فبدرهم أو حدادا فبدرهمين]
م: (ولو قال: إن أسكنت في هذا الدكان عطارا) ش: أي حال كونك عطارا وفي بعض النسخ إن أسكنته عطارا فعلى هذا يكون عطارا مفعولا م: (فبدرهم) ش: أي فالأجرة بدرهم م: (في الشهر، وإن أسكنت في هذا الدكان حدادا) ش: أي حال كونه حدادا. وفي بعض النسخ وإن أسكنته حدادا فعلى هذا يكون حدادا مفعولا م: (فبدرهمين) ش: أي فالأجرة بدرهمين م: (جاز وأي الأمرين فعل استحق المسمى فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا الإجارة فاسدة) ش: وبه قالت الثلاثة م: (وكذا) ش: أي على الخلاف م: (إذا استأجر بيتا على أن يسكن فيه فبدرهم) ش: يعني أن يسكن هو بنفسه فالأجرة بدرهم م: (وإن أسكنت فيه حدادا فبدرهمين فهو جائز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز ومن استأجر دابة إلى الحيرة) ش: بكسر الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء مدينة قديمة عند الكوفة م: (بدرهم وإن جاوز بها) ش: أي بالدابة المستأجرة م: (إلى القادسية فبدرهمين فهو جائز ويحتمل الخلاف) ش: يعني حكم هذه المسألة يحتمل الخلاف لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر هذه المسألة في الجامع الصغير ولم يجعلا فيه خلافا فيحتمل أن يكون هذا قول الكل ويحتمل أن يكون قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يجوز كما في نظائرها في المسائل.
وفي " الغاية ": مال الفقيه أبو الليث إلى الاتفاق يعني أن فيها يجوز بالاتفاق ومال فخر الإسلام إلى الخلاف يعني أن المذكور فيها قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لا يجوز وإليه ذهب العتابي وغيره.
[استأجر الدابة على أنه إن حمل عليها كر شعير فبنصف درهم]
م: (ومن استأجرها إلى الحيرة على أنه إن حمل عليها كر شعير فبنصف درهم وإن حمل عليها(10/328)
كر حنطة فبدرهم فهو جائز في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز وجه قولهما أن المعقود عليه مجهول وكذا الأجر أحد الشيئين وهو مجهول والجهالة توجب الفساد بخلاف الخياطة الرومية والفارسية لأن الأجر يجب بالعمل، وعنده ترتفع الجهالة أما في هذه المسائل يجب الأجر بالتخلية والتسليم فتبقى الجهالة، وهذا الحرف هو الأصل عندهما ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه خيره بين عقدين صحيحين مختلفين فيصح كما في مسألة الرومية والفارسية وهذا لأن سكناه بنفسه يخالف إسكانه الحداد ألا ترى أنه لا يدخل ذلك في مطلق العقد وكذا في أخواتها والإجارة تعقد للانتفاع، وعنده ترتفع الجهالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كر حنطة فبدرهم فهو جائز في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يجوز) ش: الكر بضم الكاف وتشديد الراء م: (وجه قولهما أن المعقود إليه مجهول، وكذا الأجر أحد الشيئين وهو مجهول، والجهالة توجب الفساد) ش: أي الجهالة الواحدة توجب الفساد، فكيف الجهالتان.
م: (بخلاف الخياطة الرومية والفارسية) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال مسألة الخياطة الرومية والفارسية فيها جهالة المعقود عليه وكانت صحيحة. وتقرير الجواب أن يقال بالفرق بينهما م: (لأن الأجر) ش: أي ثمة م: (يجب بالعمل وعنده ترتفع الجهالة أما في هذه المسائل يجب الأجر بالتخلية) ش: في الدار والدكان م: (والتسليم) ش: من الدار والدكان والدابة م: (فتبقى الجهالة) ش: لأن الأجر مجهول عند التسليم فيفضي إلى المنازعة م: (وهذا الحرف) ش: أي هذا المعنى وهو قوله يجب الأجر بالتخلية والتسليم فتتنفي الجهالة م: (وهو الأصل عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه خيره بين عقديين صحيحين مختلفين) ش: أي السكنى وعمل الحداد مختلفان. م: (فيصح) ش: عند الاجتماع كما يصح عند الانراد م: (كما) ش: يصح م: (في مسألة الرومية والفارسية وهذا) ش: أي كونهما مختلفين م: (لأن سكناه بنفسه يخالف إسكانه الحداد. ألا ترى أنه) ش: أي إسكان الحداد قال صاحب العناية والصحيح أن الضمير للشأن وأشار إلى إسكان الحداد بحرف الإشارة بقوله م: (لا يدخل ذلك في مطلق العقد) ش: أي لا يدخل إسكان الحداد في مطلق عقد الإجارة.
م: (وكذا في أخواتها) ش: يعني إذا استأجر ليركب هو بنفسه ليس له أن يركب غيره م: (والإجارة تعقد) ش: جواب عن قوله: تحت الأجر بالتخليه.... إلى آخره.
وتقديره أن الإجارة تعقد م: (للانتفاع وعنده) ش: أي عند الانتفاع م: (ترتفع الجهالة) ش: أما ترك الانتفاع عن التمكن فنادر ولا معتبر به.(10/329)
ولو احتيج إلى الإيجاب بمجرد التسليم. يجب أقل الأجرين للتيقن به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو احتيج إلى الإيجاب) ش: أي إيجاب الأجر م: (بمجرد التسليم) ش: أي بمجرد التخلية بأن يسلم ولم ينتفع به م: (يجب أقل الأجرين) ش: كما إذا ذكر درهما ودرهمين فالدرهم أقل الأجرين.
وبعضهم قال: يجب في كل منهما نصفه، لأن السكنى إذا لم توجد يكون التسليم لهما لعدم أولوية أحدهما من الآخر فيجعل النصف لهذا أو النصف للآخر، فيجب نصف كل واحد منهما. وقيل: يجب الأول وينصف الفصل م: (للتيقن به) ش: أي بالأقل إذ الفضل لا يجب بالشك.(10/330)
باب إجارة العبد قال: ومن استأجر عبدا ليخدمه فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك؛ لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمهما الإطلاق، ولهذا جعل السفر عذرا فلا بد من اشتراطه كإسكان الحداد والقصار في الدار، ولأن التفاوت بين الخدمتين ظاهر، فإذا تعينت الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب.
ومن استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه الأجر فليس للمستأجر أن يأخذ منه الأجر. وأصله أن الإجارة صحيحة استحسانا إذا فرغ من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب إجارة العبد]
م: (باب إجارة العبد) ش: أخره عن الحر لانحطاط درجته في المعاملات.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن استأجر عبدا ليخدمه فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك) ش: أي السفر كإسكان الحداد والقصار، وحتى لو سافر به يضمن لمولاه، لأنه صار عاصيا. ولو رده إلى مولاه سالما لا أجر له عندنا خلافا للثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمهما الإطلاق) ش: أي إطلاق العقد.
واعترض: بأن المستأجر في ملك منافعه كالمولى، وللمولى أن يسافر بعبده، فكذا المستأجر. وأجيب بأن المولى إنما يسافر به، لأنه يملك رقبته والمستأجر ليس كذلك ونوقض لمن ادعى دارا وصالحه المدعى عليه على خدمة عبد سنة فإن للمدعي أن يخرج بالعبد إلى السفر وإن لم يملك رقبته.
وأجيب: بأن مؤنة الرد في باب الإجارة على الأجر بعد انتهاء العقد فبالإخراج يلزمه ما لا يلزم في الصلح ليست مؤنة الرد على المدعى عليه، لأنه يزعم أنه يملك الخدمة بغير شيء فهو كالموصى له بالخدمة، فمؤنة الرد عليه دون الوارث. م: (ولهذا) ش: أي ولاشتمال السفر على زيادة مشقة م: (جعل السفر عذرا) ش: فإن استأجر غلاما ليخدمه في المصر ثم أراد المستأجر السفر فهو عذر في فسخ الإجارة، لأنه لا يتمكن من المسافرة به م: (فلا بد من اشتراطه) ش: أي إذا كان كذلك فلا بد من اشتراط السفر.
م: (كإسكان الحداد والقصار في الدار) ش: فإنه ليس له ذلك إلا بالاشتراط م: (ولأن التفاوت بين الخدمتين) ش: أي خدمة الحضر وخدمة السفر م: (ظاهر، فإذا تعينت الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب) ش: فإن استأجر دابة ليركب نفسه فليس له أن يركب غيره للتفاوت بين الراكبين فكذلك هاهنا.
[استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه الأجر]
م: (ومن استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه الأجر) ش: أراد أنه أعطاه الأجر بعد العمل م: (فليس للمستأجر أن يأخذ منه الأجر) ش: أي ليس له أن يسترد الأجر منه. وصورة المسألة في(10/331)
العمل، والقياس أن لا يجوز لانعدام إذن المولى وقيام الحجر، فصار كما إذا هلك العبد، وجه الاستحسان أن التصرف نافع على اعتبار الفراغ سالما، ضار على اعتبار هلاك العبد، والنافع مأذون فيه كقبول الهبة. وإذا جاز ذلك لم يكن للمستأجر أن يأخذ منه الأجر، ومن غصب عبدا فأجر العبد نفسه فأخذ الغاصب الأجر فأكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل استأجر عبدا محجورا عليه شهرا فعمل عنده فأعطاه الأجر قال أجيز ذلك، وليس للمستأجر أن يأخذ الأجر، انتهى.
وقال الحاكم في " الكافي ": وإذا أجر العبد المحجور نفسه من رجل سنة بمائة درهم ليخدمه فخدمه ستة أشهر ثم أعتق فالقياس أنه لا أجر له فيما مضى، لأن المستأجر صار ضامنا فلا يجتمع الأجر والضمان، ولكنا نستحسن إذا سلم العبد أن يجعل له الأجر فيما مضى فيأخذه العبد ويدفعه إلى مولاه.
ويجوز الإجارة فيما بقي من السنة للعبد ولا خيار له في نقض الإجارة، لأنها جازت بعد عتقه بغير إجازة المولى وكذلك الجواب إذا كان قبض الإجارة في حال رقه ويكون للعبد منها حصة ما بقي، وللمولى حصة ما مضى.
م: (وأصله) ش: أي أصل هذا الحكم م: (أن الإجارة صحيحة استحسانا إذا فرغ من العمل والقياس أن لا يجوز) ش: الإجارة م: (لانعدام إذن المولى وقيام الحجر) ش: في العهد فيصير كالغاصب بالاستعمال ولا أجر على الغاصب م: (فصار كما إذا هلك العبد) ش: فإنه يجب للمولى قيمته دون الأجر، لأنه ضامن بالغصب، والأجر بالضمان لا يجتمعان. وعند الثلاثة يجب أجر المثل بقدر العمل.
م: (وجه الاستحسان أن التصرف نافع على اعتبار الفراغ سالما ضار على اعتبار هلاك العبد والنافع مأذون فيه كقبول الهبة، وإذا جاز ذلك) ش: أي العقد بعدما سلم من العمل صح قبض العبد الأجرة، لأنه هو العاقد وقبض البدل، ومتى صح قبضه م: (لم يكن للمستأجر أن يأخذ منه الأجر) ش: يعني لم يكن له أن يرد الأجر منه.
وكذا الحكم في الصبي المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل، إلا أنه لو هلك الصبي من العمل فعلى عاقلة المستأجر الدية، وعليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك، بخلاف العبد المحجور إذا هلك من العمل يجب عليه قيمته ولا أجر عليه لما ذكرنا أنه صار غاصبا.
م: (ومن غصب عبدا فأجر العبد نفسه فأخذ الغاصب الأجر فأكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: قيد بقوله فأجر العبد نفسه، لأنه لو أجره الغاصب كان الأجر له لا للمالك وضمان على الغاصب بالأكل باتفاق.(10/332)
وقالا هو ضامن؛ لأنه أكل مال المالك بغير إذنه، إذ الإجارة قد صحت على ما مر. وله أن الضمان إنما يجب بإتلاف مال محرز؛ لأن التقوم به وهذا غير محرز في حق الغاصب؛ لأن العبد لا يحرز نفسه عنه فكيف يحرز ما في يده. وإن وجد المولى الأجر قائما بعينه أخذه؛ لأنه وجد عين ماله، ويجوز قبض العبد الأجر في قولهم جميعا؛ لأنه مأذون له في التصرف على اعتبار الفراغ على ما مر.
ومن استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا بأربعة وشهرا بخمسة فهو جائز، والأول منهما بأربعة؛ لأن الشهر المذكور أولا ينصرف إلى ما يلي العقد تحريا للجواز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعند الثلاثة يرجع المالك على الغاصب بأجر المثل كما لو أجر العبد نفسه، وإن أجره المولى فليس للعبد أن يقبض الأجرة إلا بوكالة المولى، لأنه هو العاقد م: (وقالا: هو ضامن، لأنه أكل مال المالك بغير إذنه إذ الإجارة قد صحت على ما مر) ش: أشار به إلى وجه الاستحسان المذكور آنفا، وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الضمان إنما يجب بإتلاف مال محرز، لأن التقوم به) ش: أي تقوم المال يثبت بالإحراز م: (وهذا) ش: أي هذا المال م: (غير محرز في حق الغاصب، لأن العبد لا يحرز نفسه عنه) ش: أي عن الغاصب م: (فكيف يحرز ما في يده) ش: وهذا لأن الإحراز إنما يكون بيد المالك أو يد نائبه، ويد الغاصب ليست لهما، ويد العبد كذلك لأنه في يد الغاصب.
فإن قيل: الغاصب إذا استهلك ولد المغصوبة ضمنه والإحراز فيه.
أجيب: بأنه تابع للأم لكونه جزءا منها وهي محرزة، بخلاف الأجر فإنه حصل من المنافع وهي غير محرزة.
م: (وإن وجد المولى الأجر قائما بعينه أخذه، لأنه وجد عين ماله) ش: ولا يلزم من بطلان التقوم والعصمة بطلان الملك كما في نصاب السرقة بعد القطع، فإنه يأخذ إذا وجد ولا يضمن بإتلافه عندنا م: (ويجوز قبض العبد الأجر في قولهم جميعا، لأنه مأذون له في التصرف على اعتبار الفراغ على ما مر) ش: أشار به إلى قوله والنافع مأذون فيه، وفائدة هذا تظهر في حق خروج المستأجر عن عهدة الأجرة فإنه يحصل بالأداء إليه.
[استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا بأربعة وشهرا بخمسة]
م: (ومن استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا بأربعة وشهرا بخمسة فهو جائز والأول منهما) ش: أي والشهر الأول من الشهرين م: (بأربعة، لأن الشهر المذكور أولا ينصرف إلى ما يلي العقد تحريا للجواز) ش: أي طلبا لصحة العقد، كما لو سكت عليه فقال استأجرت عبدك هذا شهرا هكذا فإنه ينصرف إلى ما يليه تحريا لصحة العقد، فكذا هذا.(10/333)
ونظرا إلى تنجز الحاجة فينصرف الثاني إلى ما يلي الأول ضرورة.
ومن استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه في أول الشهر ثم جاء آخر الشهر وهو آبق أو مريض فقال المستأجر أبق أو مرض حين أخذته، وقال المولى لم يكن ذلك إلا قبل أن تأتيني بساعة فالقول قول المستأجر. وإن جاء به وهو صحيح فالقول قول المؤجر؛ لأنهما اختلفا في أمر محتمل فيرجع بحكم الحال، إذ هو دليل على قيامه من قبل، وهو يصلح مرجحا وإن لم يصلح حجة في نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقريره أنه لما قال شهرا بأربعة على سبيل التكبير فلم يتعين الشهر الذي يليه يكون الشهر مجهولا والإجارة تفسد بالجهالة، فصرفناه إلى ما يلي العقد تحريا للجواز م: (ونظرا إلى تنجز الحاجة) ش: فإن الإنسان إنما يستأجر الشيء لحاجة تدعوه إلى ذلك، والظاهر وقوعها عند العقد.
وإذا انصرف الأول إلى ما يلي العقد والثاني معطوف عليه م: (فينصرف الثاني إلى ما يلي الأول ضرورة) ش: وكذا لو استأجر ثلاثة أشهر: شهرين بدرهمين وشهرا بخمسة قالا: الأولان بدرهمين، وبقولنا قال مالك وأحمد، وقال الشافعي وبعض أصحاب أحمد: لا يصح هذا العقد حتى يسمي السنة أو الشهر ويذكر أي سنة أو أي شهر فيما إذا قال أجرتك شهرا أو سنة.
فإن قيل: مبنى هذا الكلام على أنه ذكر منكرا مجهولا، والمذكور في الكتاب ليس كذلك.
قيل له: المذكور في الكتاب قول المستأجر، واللام في العهد لما كان في كلام المؤجر من المنكر، فكأن المؤجر قال أجرت عبدي هذا شهرين شهرا بأربعة وشهرا بخمسة.
[استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه ثم آبق العبد أو مرض]
م: (ومن استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه في أول الشهر ثم جاء آخر الشهر وهو آبق أو مريض) ش أي والحال أنه آبق أو مريض م: (فقال المستأجر أبق أو مرض حين أخذته، وقال المولى لم يكن ذلك إلا قبل أن تأتيني بساعة فالقول قول المستأجر) ش: أي لا يجب الأجر، وبه قال أحمد في رواية م: (وإن جاء به) ش: أي بالعبد م: (وهو صحيح فالقول قول المؤجر) ش: أي المالك، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في رواية م: (لأنهما اختلفا في أمر محتمل فيرجع بحكم الحال) ش: وفي بعض النسخ فيترجح م: (إذ هو) ش: أي الحال م: (دليل على قيامه) ش: أي قيام أمر محتمل م: (من قبل) ش: أي من قبل الاختلاف م: (وهو يصلح مرجحا) ش: أي الحال يصلح مرجحا.
هذا جواب سؤال وهو أن يقال الحال يصلح للدفع عندنا للاستحقاق، كما عرف في الأصول، فإذا جاء بالعبد وهو صحيح فالقول للمالك ويستحق الأجر ومطالبة المستأجر بالأجر فالحال حينئذ كانت موجبة للاستحقاق.
فأجاب بقوله: وهو يصلح مرجحا م: (وإن لم يصلح حجة في نفسه) ش: يعني أن(10/334)
أصله الاختلاف في جريان ماء الطاحونة وانقطاعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاستحقاق يثبت هنا بالعقد وتسليم العبد إليه في المدة لكن المستأجر يدعي ما ينافي الوجوب معرضا بعد ظهور السبب، والظاهر يكفي شاهدا للمؤجر في إنكاره فيكون مرجحا لكلام المؤجر لا موجبا للاستحقاق فهي في الحقيقة دافعة لاستحقاق السقوط بعد الثبوت لا موجبة.
م: (أصله) ش: أي أصل هذا الحكم. وقال الكاكي: أي أصل هذا الاختلاف بين المالك والمستأجر م: (الاختلاف في جريان ماء الطاحونة وانقطاعه) ش: فإنه بحكم الحال. فإن كان الماء منقطعا وقت الخصومة فالقول للمستأجر فيما مضى، وإن كان جاريا فالقول لرب الرحى مع يمينه.
ولو اختلفنا في قدر الانقطاع فالقول للمستأجر والبينة للمؤجر، وعلى هذا لو أعتق جارية ولها ولد فقال المولى أعتقتك بعد الولادة والولد ملكي، وقالت أعتقتني قبل الولادة.
وقد عتق بإعتاقي فالقول لمن كان الولد في يده، واعتبار الولدين لا بحكم الحال. وكذا لو باع شجرا فيه ثم قال البائع بعت الأشجار دون الثمار، المشتري يقول اشتريتها مع الثمار قالوا: ينظر إن كان الثمار في يد البائع فالقول له، وإن كان في يد المشتري فالقول للمشتري، وكذا ذكره التمرتاشي والمحبوبي.
فروع: قال الحاكم في " الكافي ": رجل أجر عبده من رجل سنة بمائة درهم للخدمة فخدمه سته أشهر ثم أعتقه المولى فالعبد بالخيار إن شاء فسخ الإجارة وكان أجر ما مضى عليها وللعبد أجر ما بقي من المدة، إلا أن المولى هو الذي يقول قبض جميع الأجرة وليس للعبد نقضها بعدما اختار المضي عليها. وإن كان المستأجر عجل الأجرة كلها للمولى قبل أن يعمل شيئا في أول الإجارة، فالأجرة كلها للمولى إذا اختار العبد المضي على الإجارة، لأن المولى ملك الأجرة قبل عتقه، فإن كانت الأجرة شيئا معينة في جميع هذه الوجوه فالجواب فيه كالجواب في الدراهم.
وأما صداق المرأة المعتقة إذا اختارت النكاح فهو للمولى إن كان قبضه أو لم يقبضه، لأنه وجب بالعقد والآخر يجب يوما فيوما إذا لم يكن قبضه كذلك.
الجواب في العبد إذا أولى إجارة نفسه بإذن المولى، لأن العبد هو الذي يلي القبض وهو الذي يطالب بالرد فيما يجب رده من المقبوض عند الفسخ ويرجع به هو على المولى عينا كان ذلك في يد المولى أو مستهلكا، لأنه إنما وجب بعد العتق وانفسخ.
وكذلك الأمة إذا زوجت نفسها بإذن مولاها ثم أعتقت فلها الخيار، وكذلك الصبي إذا أجره الوصي في عمل فلم يتم العمل حتى بلغ الغلام مبلغ الرجال فهو بالخيار في المضي على(10/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإجارة أو فسخها، وكذلك الأب إذا أجر ابنه ثم أدرك الابن. ولو كان الأب أو الوصي أجر دار الصبي سنين معلومة فأدرك الغلام لم يكن له أن يبطل الإجارة، لأنهما في ماله بمنزلة وكيل الكبير.
ٍ(10/336)
باب الاختلاف قال: وإذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب أمرتك أن تعمله قباء، وقال الخياط قميصا. أو قال صاحب الثوب للصباغ أمرتك أن تصبغه أحمر فصبغته أصفر، وقال الصباغ لا بل أمرتني أصفر فالقول لصاحب الثوب؛ لأن الإذن يستفاد من جهته. ألا ترى أنه لو أنكر أصل الإذن كان القول قوله، فكذا إذا أنكر صفته لكن يحلف؛ لأنه أنكر شيئا لو أقر به لزمه. قال: وإذا حلف فالخياط ضامن، ومعناه ما مر من قبل أنه بالخيار إن شاء ضمنه وإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثله. وكذا يخير في مسألة الصبغ إذا حلف إن شاء ضمنه قيمة الثوب أبيض، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به المسمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اختلاف المتعاقدين في الإجارة]
م: (باب الاختلاف) ش: لما ذكر اتفاق المتعاقدين شرع في بيان اختلافهما وهو فرع، فلذلك أخره.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب أمرتك أن تعمله قباء. وقال الخياط قميصا، أو قال صاحب الثوب للصباغ أمرتك أن تصبغه أحمر فصبغته أصفر، وقال الصباغ لا بل أمرتني أصفر فالقول لصاحب الثوب) ش: أي مع يمينه، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال أحمد وابن أبي ليلى والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول: القول للخياط والصباغ.
وقال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - له قول ثالث، وهو أنهما يتحالفان كالمتبايعين يختلفان في الثمن، وإذا تحالفا سقط الضمان عن الخياط وسقط الأجر، وبعضهم قال: الصحيح أن القول لرب الثوب م: (لأن الإذن يستفاد من جهته) ش: أي من جهة رب الثوب.
م: (ألا ترى أنه لو أنكر أصل الإذن كان القول قوله) ش: بأن أنكر عقد الإجارة أصلا كان القول لصاحب الثوب م: (فكذا إذا أنكر صفته) ش: أي صفة الإذن بخلاف المضاربة، لأن الأصل في المضاربة العموم في أنواع التجارة فالخصوص عارض، فكان القول لمن ينكر العارض م: (لكن يحلف) ش: أي صاحب الثوب م: (لأنه أنكر شيئا لو أقر به لزمه) ش: أي لزمه ذلك الشيء بإقراره.
م: (قال: وإذا حلف فالخياط ضامن، ومعناه ما مر من قبل) ش: أي قبيل باب الإجارة الفاسدة في قوله ومن دفع إلى الخياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء م: (أنه بالخيار إن شاء ضمنه، وإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثله) ش: لا يجاوز به المسمى م: (وكذا يخير في مسألة الصبغ إذا حلف إن شاء ضمنه قيمة الثوب أبيض، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به المسمى) .(10/337)
وذكر في بعض النسخ يضمنه مازاد الصبغ فيه؛ لأنه بمنزلة الغاصب.
وإن قال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بل بأجر فالقول قول صاحب الثوب؛ لأنه ينكر تقوم عمله إذ هو يتقوم بالعقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعترض: بأن هناك اتفق المتعاقدان على المأمور به والأجير خالف، وهاهنا قد اختلف في ذلك، وكيف يكون هذا مثل ذلك. وأجيب: بأنها مثلها انتهاء لا ابتداء، إلا أنه ذكر هذا الحكم هنا بعد يمين صاحب الثوب، ولما حلف كان القول قوله فلم يبق الخلاف الآخر اعتبارا، فكانتا في الحكم سواء.
م: (وذكر في بعض النسخ) ش: أي بعض نسخ القدوري م: (يضمنه ما زاد الصبغ فيه) ش: أي يضمن صاحب الثوب قيمة زيادة الصبغ للصباغ، فالأول أعني قوله لا يجاوز به المسمى ظاهر الرواية، والثانية أعني قوله يضمنه ما زاد الصبغ فيه رواية ابن سماعة عن محمد.
وجه الظاهر وهو الأصح أن الصبغ آلة للعمل المستحق على الصباغ بمنزلة الحرب والصابون من عمل الغسال، فلا يصير صاحب الثوب مشتريا للصبغ حتى تعتبر القيمة عند فساد السبب.
ووجه رواية ابن سماعة ما أشار إليه بقوله م: (لأنه بمنزلة الغاصب) ش: يعني أن الصباغ بمنزلة الغاصب والحكم في الغصب كذلك وهو أن الغاصب إذا صبغه أحمر أو أصفر فإن شاء رد الثوب وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد الصبغ فيه فكذلك هنا.
وفي " خلاصة الفتاوي ": والصباغ إذا خالف بصبغ الأصفر فكان الأحمر إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض وإن شاء أخذه وأعطاه ما زاد الصبغ فيه ولا أجر له، ولو صبغ رديئا إن لم يكن فاحشا لا يضمن وإن كان فاحشا بحيث يقول أهل تلك الصنعة إنه فاحش يضمن قيمته ثوب أبيض.
وفي " المحيط ": لو أمره أن يصبغه بزعفران أو بقم فصبغه غير ما سمي إلا أنه لم يشبع صبغه وقد أمر صاحب الثوب أن يشبعه فالمالك بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض وسلم له الثوب، وإن شاء أخذه، وأعطاه أجره مثله لا يزاد على المسمى في الأصل. إلى هنا لفظ " الخلاصة ".
[قال صاحب الثوب عملته لي بغير أجر وقال الصانع بل بأجر]
م: (وإن قال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر وقال الصانع: بل بأجر فالقول قول صاحب الثوب) ش: عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م (لأنه) ش: أي لأن صاحب الثوب م: (ينكر تقوم عمله إذ هو) ش: أي العمل م: (يتقوم بالعقد(10/338)
وينكر الضمان، والصانع يدعيه والقول قول المنكر. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان الرجل حريفا له أي خليطا له فله الأجر وإلا فلا؛ لأن سبق ما بينهما يعين جهة الطلب بأجر جريا على معتادهما. وقال محمد: إن كان الصانع معروفا بهذه الصنعة بالأجر فالقول قوله؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجله جرى ذلك مجرى التنصيص على الأجر اعتبارا للظاهر، والقياس ما قاله أبو حنيفة؛ لأنه منكر. والجواب عن استحسانهما أن الظاهر للدفع؛ والحاجة هاهنا إلى الاستحقاق والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وينكر الضمان والصانع يدعيه والقول قول المنكر. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان الرجل حريفا له أي خليطا له) ش: بأن تكون تلك المعاملة منها بأجر حريف الرجل من يكون بينه وبينه أخذ وإعطاء ومعاملة، وأصله من الحرفة والاحتراف وهو الاكتساب.
م: (فله الأجر وإلا فلا) ش: أي وإن لم يكن حريفا له فلا أجرة م: (لأن سبق ما بينهما يعين جهة الطلب بأجر جريا على معتادهما) ش: أي سبق ما بين رب الثوب والصباغ مثلا من التعامل والتقاطع على الأجر يعين جانب الطلب جريا على عادتهما من التعامل بالأجرة.
م: (وقال محمد: إن كان الصانع معروفا بهذه الصنعة بالأجر) ش: بأن اتخذ دكانا وانتصب لعمل الصباغة أو القصارة م: (فالقول قوله، لأنه لما فتح باب الحانوت لأجله جرى ذلك مجرى التنصيص على الأجر اعتبارا للظاهر) ش: وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال شيخ الإسلام وصاحب " المحيط ": الفتوى على قول محمد م: (والقياس ما قاله أبو حنيفة لأنه منكر) ش: للإجارة والمنافع لا تتقوم إلا بالعقد عندنا بخلاف ما لو دفع إلى آخر عينا ثم اختلفا فقال الدافع قرض، وقال الآخر: هبة فالقول لمن يدعي القرض، لأن العين متقوم بنفسه فالآخر يدعي الإبراء عن قيمته فالقول لمنكر الإبراء وهو مدعي القرض.
م: (والجواب عن استحسانهما أن الظاهر للدفع) ش: أي الظاهر يصلح للدفع عن نفسه م (
والحاجة
هاهنا إلى الاستحقاق والله أعلم) ش: لا للدفع، نظيره دار في يد رجل فزعم آخر أنه ملكه فالقول للذي في يده، وإن كان غيره يدعيهما ولا شرع في يد بلا حجة، فلو بيعت دارا بجنبها فأراد أن يأخذها بالشفعة لا يأخذها بمجرد اليد حتى يقيم بينة أنه ملكه لأن ثبوت الملك بظاهر اليد يصلح للدفع لا للاستحقاق والأخذ من يد المشتري استحقاق فلا يملكه بدون البينة، كذا هنا.
فروع: قال الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولو أسلم ثوبا إلى صباغ يصبغه أحمر فصبغه ثم اختلفا فقال الصباغ صبغته بدرهم وقال رب الثوب: صبغته بدانقين فإني أنظر إلى ما زاد الصبغ فيه فإن كان درهما أو أكثر فله درهم لأن الحال يصلح حكما في الباب، فكان القول(10/339)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول من يشهد له الظاهر مع يمينه، وإن كان أقل من دانقين أعطيته بعد أن يحلف رب الثوب صبغه إلا بدانقين.
وإن كان الصبغ سواد فالقول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه زيادة أجر وهو ينكر ولو قال رب الثوب صبغته لي بغير أجر كان القول قوله، لأن السواد ينقض الثوب، أما إذا كان صبغا يزيد في الثوب فقال رب الثوب: صبغته بغير أجر وقال الصباغ: صبغته بدرهم فإنهما يتحالفان؛ لأن هذا يدعي الهبة والآخر يدعي التجارة فكان كل منهما مدعيا ومدعى عليه ثم يضمن رب الثوب ما زاد الصبغ في مقدار الأجرة ولا يجوز به درهم.
ولو اختلف رب الثوب في مقدار الأجر فإن كان لم يأخذ في العمل تخالفا وترادا أو إن كان بعده فالقول قول رب الثوب ولا يتخالفان، وكذلك لو قال عملته لي بغير أجر فالقول قول رب الثوب لأن العمل يتقوم بالعقد وهو ينكر العقد.(10/340)
باب فسخ الإجارة قال: ومن استأجر دارا فوجد بها عيبا يضر بالسكنى فله الفسخ؛ لأن المعقود عليه المنافع وإنها توجد شيئا فشيئا فكان هذا عيبا حادثا قبل القبض فيوجب الخيار كما في البيع. ثم المستأجر إذا استوفى المنفعة فقد رضي بالعيب فيلزمه جميع البدل كما في البيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب فسخ الإجارة]
م: (باب فسخ الإجارة) ش: تأخير هذا الباب ظاهر المناسبة، لأن الفسخ رفع العقد السابق فبالضرورة وهو متأخر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن استأجر دارا فوجد بها عيبا يضر بالسكنى فله الفسخ) ش: أي فللمستأجر ولاية الفسخ، قيد العيب بالإضرار بالسكنى، لأنه إذا كان عيبا لا يضر بالسكنى كحائط سقط لم يكن محتاجا إليه في السكنى لم يثبت الخيار. وكذا لو كان المستأجر عبدا للخدمة فسقط شعره أو ذهبت إحدى عينيه وذلك لا يضر بالخدمة لم يثبت الخيار، كذا في " الإيضاح ".
وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": إذا سقط حائط أو انهدم بيت من الدار المستأجرة للمستأجر أن يفسخ، ولا يملك الفسخ بغيبة المالك بالإجماع، لأن هذا رد بالعيب وذلك لا يصلح إلا بحضرة المالك بالإجماع وإنما الخلاف في الرد بخيار الشرط. وإن انهدمت الدار كلها فله الفسخ من غير حضرة المالك، لكن الإجارة لا تنفسخ ما لم يفسخ، لأن الانتفاع بالعرصة ممكن وإليه ذهب خواهر زاده.
وفي إجارات شمس الأئمة: إذا انهدمت الدار كلها فالصحيح أنه لا تنفسخ الإجارة، لكن سقط الأجر عنه فسخ أو لم يفسخ. وإذا استأجر أرضا للزراعة فزرع فاصطلمه آفة وجب أجر ما مضى وسقط أجر ما بعد الاصطلام.
م: (لأن المعقود عليه المنافع) ش: هذا دليل على المذكور. وقيل: هذا دفع شبهة ترد على الإجارة من جانب البيع، وهي أن يقال: إن عقد الإجارة عقد لازم كالبيع، والعيب الحادث في البيع بعد قبض المشتري لا يثبت الرد، فكان ينبغي أن لا يرد في الإجارة بعد القبض أيضا.
فأجاب عنه بقوله: لأن المعقود عليه المنافع م: (وإنها توجد شيئا فشيئا) ش: يعني شيئا بعد شيء، وكل ما كان كذلك فكل جزء منه بمنزلة الابتداء م: (فكان هذا عيبا حادثا قبل القبض) ش: وإن كان بعد القبض صورة م: (فيوجب الخيار) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فيوجب الخيار م (كما في البيع) ش: فإنه إذا حدث فيه العيب قبل القبض ينفرد المشتري بالفسخ كذلك هنا، وعلى هذا لا فرق بين أن يكون العيب حادثا بعد قبض المستأجر أو قبله؛ لأن الذي حدث بعد(10/341)
وإن فعل المؤجر ما أزال به العيب فلا خيار للمستأجر لزوال سببه. قال: وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة أو انقطع الماء عن الرحى انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد فات وهي المنافع المخصوصة قبل القبض فشابه فوت المبيع قبل القبض وموت العبد المستأجر. ومن أصحابنا من قال: إن العقد لا ينفسخ؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها فأشبه الإباق في البيع قبل القبض. وعن محمد أن الآجر لو بناها ليس للمستأجر أن يمتنع ولا للآجر وهذا تنصيص منه على أنه لم ينفسخ لكنه يفسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قبض المتسأجر كان قبل قبض المعقود عليه وهو المنافع.
م: (ثم المستأجر إذا استوفى المنفعة فقد رضي بالعيب فيلزمه جميع البدل) ش: وبه قال الشافعي في الأظهر ومالك وأحمد. وقال الشافعي في وجه: لا يلزمه جميع الأجر م: (كما في البيع) ش: إذا رضي بالعيب لا يرجع بالنقصان كذلك هاهنا إذا رضي بالعيب لا يكون له أن ينقص في أجرة الدار شيئا في مقابلة العيب م: (وإن فعل المؤجر ما أزال به العيب) ش: بأن أصلح في الدار المستأجرة ما كان يضر بالسكنى م: (فلا خيار للمستأجر لزوال سببه) ش: أي سبب الخيار وهو العيب المضر بالسكنى قبل فسخ العقد.
م: (قال: وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة) ش: بكسر الشين م: (أو انقطع الماء عن الرحى انفسخت الإجارة) ش: وبه قالت الثلاثة. وعن بعض أصحاب أحمد والشافعي - رحمهما الله - في الأرض التي انقطع ماؤها لم تنفسخ الإجارة كما قاله بعض أصحابنا على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى م: (لأن المعقود عليه قد فات وهو المنافع المخصوصة قبل القبض فشابه فوت المبيع قبل القبض وموت العبد المستأجر) ش: بفتح الجيم.
م: (ومن أصحابنا من قال) ش: أراد بذلك شيخ الإسلام وشمس الأئمة السرخسي وغيرهما فإنهم قالوا م: (إن العقد لا ينفسخ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها) ش: لأن أصل الموضع مسكن بعد انهدام البناء ويتأتى فيه السكنى بنصف فسطاط، وفي انقطاع الماء لو فاتت من كل وجه لكنه يحتمل العود م: (فأشبه الإباق في البيع قبل القبض) ش: وذلك لا يوجب الانفساخ.
واستدل هؤلاء على صحة ما ذهبوا إليه بما روى هشام عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأشار إليه المصنف بقوله م: (وعن محمد أن الآجر لو بناها ليس للمستأجر أن يمتنع ولا للآجر) ش: يعني لو استأجر بيتا فانهدم ثم بناه الآجر فليس للمستأجر أن يمتنع من القبض ولا للآجر.
م: (وهذا تنصيص منه) ش: أي هذا الذي رويتنصيص عن محمد م: (على أنه) ش: أي على أن عقد الإجارة م: (لم ينفسخ، لكنه يفسخ) ش: يستحق الفسخ. وقال في " الكافي ": وهو(10/342)
ولو انقطع ماء الرحى والبيت مما ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته؛ لأنه جزء من المعقود عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصح وأما من قال بأنها تنفسخ فإنهم أيضا استدلوا على ذلك بما ذكره محمد في كتاب البيوع، ولو سقطت الدار فله أن يخرج سواء كان صاحب الدار حاضرا أو غائبا فهذا إشارة إلى الانفساخ بمجرد الانهدام حيث ما شرط حضرة صاحبها، لأنه رد بعيب، وهو لا يصلح إلا بحضرة المالك بالإجماع.
وفي " الغاية ": والذي قال ينفسخ بانهدام ثم يعود بالبناء، ومثله جائز كما في الشاة المبيعة إذا ماتت في يد البائع ينفسخ العقد، ثم إذا دبغ جلدها يعود القدر بقدرها فكذا هذا، وهذا بخلاف السفينة إذا انقضت وصارت ألواحا ثم ركبت وأعيدت سفينته لم يجبر على تسليمها إلى المستأجر؛ لأن السفينة بعد النقض إذا أعيدت صارت سفينة أخرى، ألا ترى أن من غصب ألواحا وجعلها سفينة ينقطع حق المالك، فأما عرصة الدار لا تتغير بالبناء عليها.
[انقطع ماء الرحى والبيت المؤجر مما ينتفع به لغير الطحن]
م: (ولو انقطع ماء الرحى والبيت مما ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته، لأنه جزء من المعقود عليه) ش: هذا أورده تشبيها بالدابة على أنه لا ينفسخ بانقطاع الماء.
وفي الأصل إذا انقطع ماء الرحى ينفسخ ويثبت الخيار للعاقد، فإن لم ينفسخ حتى عاد الماء لزمه الإجارة فيما بقي من الشهر لزوال الموجب للفسخ ويرفع الأجر عنه بحساب ذلك، أي بحساب ما انقطع إنما في المدة، ولو لم يفسخها ومضت المدة فلا أجر عليه في ذلك. ولو نقص ماء الرحى إن كان النقصان فاحشا فله حق الفسخ وإلا فلا، لأن مدة الإجارة لا تخلو عن نقصان غير فاحش غالبا ويخلو عن نقصان فاحش.
قال القدوري في " شرحه ": إذا صار يطحن أقل من نصف طحنه - فهو فاحش - وفي " الخلاصة " قال الناطفي: إذا طحن نصف ما كان يطحن فللمستأجر رده أيضا. ولو لم يرد حتى طحن نصف ما كان يطحن، فللمستأجر رده أيضا، ولو لم يرده حتى طحن كان هذا رضى منه وليس له أن يرد الرحى بعد ذلك، ثم في " الخلاصة " وهذه الرواية تخالفه رواية القدوري أن من استأجر رحى ستة أشهر فأمسك الرحى حتى مضت السنة فعليه أجر ستة أشهر، وإن كان البيت ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته. ولو استأجر عبدا فمرض فهو كالرحى.
وفي " الشمائل ": انكسار أحد الحجرين عذرا فإن أصلح رب الرحى قبل الفسخ لا ينفسخ. وفي شرح " الكافي ": فإن انقطع الماء عن الرحى فلم يعمل رفع عنه من الأجر بحساب ذلك، له أن ينقض الإجارة، فإن لم ينقضها حتى عاد الماء لزمته الإجارة وإن اختلفا في مقدار الانقطاع فالقول قول المستأجر، لأنه ينكر تقرر الأجر عليه.(10/343)
قال: وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة لنفسه انفسخت؛ لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة له أو الأجرة المملوكة له لغير العاقد مستحقة بالعقد؛ لأنه ينتقل بالموت إلى الوارث وذلك لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قال المؤجر لم ينقطع الماء وقال المستأجر قد انقطع بحكم الحال فيكون انقطاعه وجريانه في الحال دليلا على الماضي، لأن الحال يصلح دليلا على الماضي عند الاشتباه.
[موت أحد المتعاقدين في عقد الإجارة]
م: (قال: وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد) ش: أي والحال أنه قد عقد م: (الإجارة لنفسه انفسخت) ش: أي الإجارة، وبه قال الثوري والليث. وقالت الثلاثة وأبو ثور وإسحاق لا تنفسخ والإجارة بحالها، ويقوم وارثها مقامها سواء مات أحدهما أو كلاهما، لأن المنافع كالأعيان عندهم، والعقد لازم فلا ينفسخ بموت العاقد كما لو زوج أمته ثم مات.
م: (لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة له أو الأجرة المملوكة له لغير العاقد مستحقة بالعقد) ش: أي حال كونها مستحقة بالعقد، والدليل على صيرورتها لغير العاقد مع كون الاستحقاق بالعقد وهو قوله م: (لأنه ينتقل بالموت) ش: التحقيق هنا أن يجعل الضمير في أنه إلى ما يتركه الميت، ويراد بالموت موت المورث، والمعنى لأن الذي يتركه الميت ينتقل بالموت م: (إلى الوارث) ش: ثم يرتب الحكم على هذا عند موت المؤجر، أو مات المستأجر، أما إذا مات المؤجر فقد انتقلت رقبة الدار إلى الوارث والمستحق عن المنافع التي حدثت على ملكه فقد فات بموته فبطلت الإجارة لفوات المعقود عليه، لأن بعد موته تحدث المنفعة على ملك الوارث.
واما إذا مات المستأجر فلو بقي العقد لبقي على أن يخلفه الوارث وذا لا يتصور، لأن المنفعة الموجودة في حياته تلاشت فكيف يورث المعدوم، والتي تحدث ليست بمملوكة له ليخلفه الوارث فيها إذ الملك لا يسبق الوجود، وإذا ثبت انتفاء الإرث تعين بطلان العقد.
م: (وذلك لا يجوز) ش: أي صيرورة المنفعة المملوكة أو الأجرة المملوكة لغير العاقد حال كونها مستحقة بالعقد لا يجوز، وذكر اسم الإجارة باعتبار كون ذلك وهو عبارة عن الصيرورة التي دل عليها قوله: تصير المنفعة، ولا يشكل ما ذكره بما إذا استأجر دابة إلى مكان معين فمات صاحب الدابة في وسط الطريق حيث لا تنفسخ الإجارة، وللمستأجر أن يركبها إلى المكان المسمى بالأجر فقد مات أحد المتعاقدين، وقد عقد لنفسه ولم ينفسخ العقد، لأن ذلك للضرورة فإنه يخاف على نفسه وماله حيث لا يجد دابة أخرى في وسط المفازة، ولا يكون ثمة قاض يرفع الأمر إليه فيستأجر الدابة منه.
حتى قال بعض المشايخ: إن وجد ثمة دابة أخرى يحمل عليها متاعه تنتقض الإجارة. وكذا لو مات في موضع فيه قاض تنتقض الإجارة لعدم الضرورة، وكان عدم الانفساخ(10/344)
وإن عقدها لغيره لم تنفسخ مثل الوكيل والوصي والمتولي في الوقف لانعدام ما أشرنا إليه من المعنى.
قال: ويصح شرط الخيار في الإجارة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاستحسان الضروري، والمستحسن لا يورد الانقضاء على القياس، كذا في " المبسوط " و" الذخيرة ".
ونوقض أيضا بموت الكل فإنه ينفسخ بموته مع أنه غير العاقد.
وأجيب: بأن المراد بالعاقد من وقع لأجله العقد، حتى لو كان العقد لغيره كالوكيل والأب والوصي والمتولي في الوقت لا ينفسخ العقد بموته لبقاء المستحق عليه، وقيل في جوابه وهو أحسن وهو أنا قد قلنا إن كل ما مات العاقد لنفسه انفسخ ولم تلتزم بأن كلما انفسخ يكون بموت العاقد، لأن العكس غير لازم في مثله.
وفي " الخلاصة ": أحد المتعاقدين لو جن جنونا مطبقا لا تنفسخ الإجارة. وفي الأجناس إذا أجر الأب أرض ابنه الصغير أو الوصي ومات لا تبطل الإجارة، وكذلك لا تبطل إجارة الظئر بموت والد الصبي الذي استأجرها، ويبطل بموت الصبي والمستأجرة. وقال الكرخي في " مختصره ": وإن مات الظئر قبل المدة أو مات الصبي انتقضت الإجارة وكان لها من الأجر بحسب ما مضى من المدة قبل الموت.
وفي " الأجناس ": لو أجر الواقف ثم مات قبل انقضاء المدة لا تبطل الإجارة. وفي " الذخيرة ": القياس أن يبطل وبه أخذ أبو بكر الإسكاف. وفي الاستحسان لا تبطل؛ لأنه أجر لغيره كالوكيل. وفي " الأجناس ": ولو مات رب الإبل في بعض طريق المفازة للمستأجر أن يركبها على حاله وعليه الكرى المسمى إلى أن يأتي مكة فيدفع ذلك إلى القاضي، فإن شاء سلم له الكرى إلى الكوفة، وإن شاء فسخ الإجارة.
وفي كتاب " الشروط " لمحمد بن الحسن: لو مات المكاري في مصر من الأمصار وركب المستأجر ضمن إن هلك الإبل إلا بإذن القاضي.
م: (وإن عقدها) ش: أي الإجارة م: (لغيره لم تنفسخ مثل الوكيل والوصي والمتولي في الوقف لانعدام ما أشرنا إليه من المعنى) ش: وفي بعض النسخ لانعدام ما ذكرنا، وأراد به قوله: لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة.... إلى آخره.
[شرط الخيار في الإجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويصح شرط الخيار في الإجارة) ش: ويعتبر ابتداء المدة من وقت سقوط الخيار وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح) ش: شرط الخيار، وله في ثبوت خيار المجلس وجهان. ولو كانت الإجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه: في وجه لا يثبت فيها الخياران وفي وجه يثبت خيار المجلس لا خيار الشرط، كذا(10/345)
لأن المستأجر لا يمكنه رد المعقود عليه بكماله لو كان الخيار له لفوات بعضه، ولو كان للمؤاجر فلا يمكنه التسليم أيضا على الكمال، وكل ذلك يمنع الخيار. ولنا أنه عقد معاملة لا يستحق القبض فيه في المجلس فجاز اشتراط الخيار فيه كالبيع، والجامع بينهما دفع الحاجة
وفوات بعض المعقود عليه في الإجارة لا يمنع الرد بخيار العيب، فكذا بخيار الشرط، بخلاف البيع وهذا لأن رد الكل ممكن في البيع دون الإجارة، فيشترط فيه دونها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في " الحلية ".
م: (لأن المستأجر لا يمكنه رد المعقود عليه بكماله لو كان الخيار له لفوات بعضه) ش: أي بعض المعقود عليه، لأن بعضه فات في مدة الخيار، فلا يتمكن من رد كل المعقود عليه، مع أن رد الكل مستحق بالخيار، فإذا لم يتمكن بطل.
م: (ولو كان) ش: الخيار م: (للمؤاجر فلا يمكنه التسليم أيضا على الكمال) ش: لفوات بعضه في مدة الخيار، فصار كما لو تلف بعض المبيع في يد البائع إذا باع، بشرط الخيار م: (وكل ذلك) ش: يعني من عدم إمكان رد المعقود عليه بكماله إذا كان الخيار للمستأجر، وعدم إمكان التسليم أيضا على الكمال إذا كان الخيار للمؤجر م: (يمنع بالخيار) ش: أي ثبوته.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن عقد الإجارة م: (عقد معاملة) ش: احترز به عن النكاح فإن مطلق المعاملة تنصرف إلى المعاوضات التي يلحقها الفسخ بالإقالة.
وفي بعض النسخ عقد مقابلة أي معاوضة م: (لا يستحق القبض فيه في المجلس) ش: احترز به عن الصرف والسلم، فإن قبض البدل شرط فيهما، فلهذا لم يجز الخيار فيهما م: (فجاز اشتراط الخيار فيه) ش: أي عقد الإجارة.
م: (كالبيع) ش: أي كما يجوز شرط الخيار في البيع م: (والجامع بينهما) ش: أي بين الإجارة والبيع، وأشار به إلى وجه القياس وهو م: (دفع الحاجة) ش: فإنه لما كان عقد معاملة يحتاج إلى التروي لئلا يقع فيه الغبن.
وأثبت الشارع فيه الخيار دفعا لهذه الحاجة، فكذلك الإجارة، لأنه يغبن فيها، فشرع الخيار دفعا للغرور ومنعا للزوم.
[فوات بعض المعقود عليه في الإجارة]
م: (وفوات بعض المعقود عليه في الإجارة لا يمنع الرد بخيار العيب) ش: بالإجماع م: (فكذا) ش: لا يمنع الرد م: (بخيار الشرط، بخلاف البيع) ش: متعلق بقوله وفوات بعض المعقود عليه في البيع يمنع الرد دون الإجارة م: (وهذا) ش: أي الفرق بين البيع والإجارة م: (لأن رد الكل ممكن في البيع دون الإجارة فيشترط) ش: أي رد الكل م: (فيه) ش: أي في البيع م: (دونها) ش: أي(10/346)
ولهذا يجبر المستأجر على القبض إذا سلم المؤجر بعد مضي بعض المدة. قال: وتفسخ الإجارة بالأعذار عندنا. وقال الشافعي: لا تفسخ إلا بالعيب. لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى يجوز العقد عليها فأشبه البيع، ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها، فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتفسخ به، إذ المعنى يجمعهما وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به، وهذا هو معنى العذر عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون الإجارة.
وفي بعض النسخ دونه أي دون عقد الإجارة لما أن التكليف بحسب الوسع والطاقة م: (ولهذا) ش: أي ولكون رد الكل ممكنا في البيع دون الإجارة م: (يجبر المستأجر على القبض إذا أسلم المؤجر بعد مضي بعض المدة) ش: لأن التسليم بكماله غير ممكن، وهذا عندنا خلافا للشافعي، فعنده لا يجبر وللمستأجر الفسخ في باقي المدة.
صورته أن يستأجر دارا سنة حتى مضى شهرا ثم تحاكما لم يكن للمستأجر أن يمتنع من القبض في باقي السنة عندنا ولا للمؤجر أن يمنعه من ذلك. وقال الشافعي: للمستأجر أن يفسخ العقد فيما بقي بناء على أصله أن المنافع في حكم الأعيان، فبفوات بعض ما يتناوله العقد يخير فيما بقي لاتحاد الصفة، وعندنا عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة فلا يمكن تفرق الصفقة مع تفرق المعقود.
[فسخ الإجارة بالأعذار]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتفسخ الإجارة بالأعذار عندنا) ش: وعند شريح تفسخ بعذر وبغير عذر، وبه قال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن الإجارة عندهما عقد غير لازم لا عقد على المعدوم فلا يتعلق به اللزوم كالعارية.
م: (وقال الشافعي: لا تفسخ إلا بالعيب) ش: وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور م: (لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى يجوز العقد عليها) ش: أي على المنافع كما يجوز على الأعيان م: (فأشبه البيع) ش: كما أن البيع لا يفسخ إلا بالعيب، فكذا الإجارة.
م: (ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها، فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في العيب فتفسخ به) ش: أي بالعذر م: (إذ المعنى) ش: المجوز للفسخ م: (يجمعهما) ش: أي يجمع الإجارة والبيع جميعا م: (وهو) ش: أي المعنى الجامع م: (عجز العاقد عن المضي في موجبه) ش: أي في موجب العقد م: (إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به) ش: أي بالعقد م: (وهذا هو معنى العذر عندنا) ش: فإن جواز هذا العقد
للحاجة
ولزومه لتوفير المنفعة على المتعاقدين، فإذا آل الأمر إلى الضرر أخذنا فيه بالقياس.(10/347)
وهو كمن استأجر حدادا ليقلع ضرسه لوجع به فسكن الوجع، أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام الوليمة فاختلعت منه تفسخ الإجارة؛ لأن في المضي عليه إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد،
وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله، وكذا إذا أجر دكانا أو دارا ثم أفلس ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في الديون؛ لأن في الجري على موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد وهو الحبس؛ لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر. ثم قوله فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر إلى قضاء القاضي في النقض، وهكذا ذكر في الزيادات في عذر الدين. وقال في " الجامع الصغير ": وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه تنتقض، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي. ووجهه أن هذا بمنزلة العيب قبل القبض في المبيع على ما مر، فيتفرد العاقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهو) ش: أي العذر، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محجوج بهذه المسائل م: (كمن استأجر حدادا) ش: أراد به قلاع السن وهو الذي يسمى المزين في عرف أهل مصر وإطلاق الحداد عليه باعتبار تلك البلاد، فإن عندهم لا يقلع السن غالبا إلا الحداد م: (ليقلع ضرسه لوجع به) ش: أي لأجل وجع كائن بالضرس.
م: (فسكن الوجع) ش: فإن الإجارة تنفسخ فيه م: (أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام الوليمة) ش: أي العرس م: (فاختلعت منه) ش: أي فاختلعت المرأة من الرجوع أو ماتت المرأة، فإن الإجارة تنفسخ فيه أيضا بالإجماع م: (تنفسخ الإجارة، لأن في المضي عليه) ش: أي على العقد م: (إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد) ش: فيثبت له حق الفسخ دفعا لذلك الضرر.
[استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله]
م: (وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله، وكذا إذا أجر دكانا أو دارا ثم أفلس ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في الديون، لأن في الجري على موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد وهو الحبس) ش: أي ذلك الضرر الزائد هو الحبس، لأنه إذا بقيت الإجارة مع ذلك يحبسه القاضي لقضاء الدين والحبس ضرر زائد م: (لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر) ش: لا سيما إذا كانت له عقار مستأجر.
م: (ثم قوله) ش: أي قول القدوري في " مختصره " م: (فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر إلى قضاء القاضي في النقض وهكذا ذكر) ش: أي محمد م: (في الزيادات في عذر الدين. وقال في " الجامع الصغير ": وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه تنتقض، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي، ووجهه) ش: أي وجه ما ذكرنا في " الجامع الصغير ".
م: (أن هذا بمنزلة العيب قبل القبض في المبيع على ما مر) ش: في البيع وغيره م: (فيفرد العاقد(10/348)
بالفسخ. ووجه الأول أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من إلزام القاضي. ومنهم من وفق فقال: إن كان العذر ظاهرا لا يحتاج إلى القضاء، وإن كان غير ظاهر كالدين محتاج إلى القضاء لظهور العذر. ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر فهو عذر؛ لأنه لو مضى على موجب العقد يلزمه ضرر زائد؛ لأنه ربما يذهب للحج فذهب وقته، أو لطلب غريمه فحضر أو للتجارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفسخ، ووجه الأول) ش: وهو الذي ذكره القدوري م: (أنه فصل مجتهد فيه) ش: لأن فيه خلاف الشافعي ومالك وأحمد م: (فلا بد من إلزام القاضي) ش: ليرتفع الخلاف.
م: (ومنهم) ش: أي ومن المشايخ م: (ومن وفق) ش: أي بين روايتي الجامع الصغير والزيادات م: (فقال إن كان العذر ظاهرا) ش: بأن اختلفت المرأة أو ماتت فيما إذا استأجر لطبخ طعام الوليمة، أو مات الولد إذا استأجره ليختنه أو برأت يدًا إذا استأجر لقطعها من الأكلة أو سكن وجع سنه إذا استأجر لقلعه م: (لا يحتاج إلى القضاء، وإن كان غير ظاهر كالدين يحتاج إلى القضاء لظهور العذر) ش: أي لأن يظهر العذر، وصحح المحبوبي وقاضي خان هذا وصحح شمس الأئمة ما ذكر في الزيادات.
ثم اختلفوا في فسخ القاضي:
قيل: يبيع الدار فينفذ البيع فتفسخ الإجارة ضمنا، وإنما لا ينقض قصدا، لأنه لو نقضها قصدا أو بما لا يتفق المبيع فيكون النقض إبطالا لحق المستأجر قصدا، وأنه لا يجوز.
وقيل: يفسخ الإجارة ثم يبيع الدار.
وفي " الذخيرة ": ولو أظهر المستأجر في الدار الشر كشرب الخمر وأكل الربا والزنا واللواطة يؤمر بالمعروف، وليس للمؤجر ولا لجيرانه أن يخرجوه من الدار وذلك لا يصير عذرا في فسخ الإجارة، ولا خلاف للأئمة الأربعة في الجواهر إن رأى السلطان أن يخرجه فعل.
وقال ابن حبيب: لو أظهر الفسق في دار نفسه ولم يمتنع بالأمر بالمعروف، ويقول داري أنا آتي فيها ما أريد، تباع عليه داره.
[استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر]
م: (ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر) ش: يقال: بدا لي في هذا الأمر بَداءٌ أي تغير رأيي عما كان عليه، وفلان ذو بدوات إذا بدا له الرأي بعد الرأي، كذا في " المجمل ".
وقال ابن دردي: بدا لي الشيء وبدا إذا ظهر، وبدا لي في الأمر إذا ضربت عبد بدو أو بداء، كذا في " الجمهرة " م: (فهو عذر، لأنه لو مضى على موجب العقد يلزمه ضرر زائد، لأنه ربما يذهب للحج) ش: وفي بعض النسخ إلى الحج م: (فذهب وقته أو لطلب غريمه) ش: أي أو كان استأجر دابة ليذهب بطلب غريمه م: (فحضر) ش: إلى غريمه م: (أو للتجارة) ش: أي أو استأجر دابة(10/349)
فافتقر. وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر؛ لأنه يمكنه أن يقعد ويبعث الدواب على يد تلميذه أو أجيره. ولو مرض المؤاجر فقعد فكذلك الجواب على رواية الأصل. وذكر الكرخي أنه عذر لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند الضرورة دون الاختيار. ومن أجر عبده ثم باعه فليس بعذر لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد، وإنما يفوته الاسترباح وإنه أمر زائد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليتجر عليها م: (فافتقر، وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر، لأنه يمكنه أن يقعد ويبعث الدواب على يد تلميذه أو أجيره، ولو مرض المؤاجر) ش: أراد به المكاري م: (فقعد) ش: عن المضي م: (فكذلك الجواب على رواية الأصل) ش: يعني كذلك ليس بعذر، لأنه يمكنه أن يرسل من يتبع هذه الغاية.
م: (وذكر الكرخي أنه عذر، لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند الضرورة) ش: فهي كالمرض م: (دون الاختيار) ش: نحو ما بدا له عن السفر بتغير رأيه م: (ومن أجر عبده ثم باعه فليس بعذر، لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد) ش: وهو إبقاؤه، وما لزمه إلا قدر ما التزمه عند العقد وهو الحجر على نفسه من التصرف في المستأجر إلى انتهاء المدة.
م: (وإنما يفوته الاسترباح) ش: بأن يتصرف فيه قبل مضي المدة م: (وإنه) ش: أي الاسترباح م: (أمر زائد) ش: إذ لو نقضنا الإجارة به لما سلمت إجارة أبدا ولبطلت حوائج الناس، ثم هل يجوز هذا البيع؟.
اختلفت الرويات فيه، قال شمس الأئمة: والصحيح من الرواية أن البيع موقوف على سقوط حق المستأجر وليس للمستأجر أن يفسخ البيع، وإليه مال الصدر الشهيد، حتى لو قال ينبغي أن يكتب المفتي في جوابه لا يجوز في حق المستأجر ولو جاز أيام الفسخ ينفذ البيع وتنفسخ الإجارة.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول ومالك: ويصح البيع من المستأجر دون غيره. وقال في " مختصر الطحاوي " ومن أجر داره ثم باعها قبل انقضاء المدة فيها ونقض البيع عليه فيها فإن بعضه كان منتقضا ولم يعد بعد ذلك، وإن لم ينقضه حتى فرغت الدار من الأجرة تم ذلك البيع فيها وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - القديم.
وروى عنه أصحاب " الإملاء " أنه قال: لا سبيل للمستأجر إلى نقض البيع فيها والإجارة فيها كالعيب فيها، فإن كان المشتري عالما به فقد برئ البالغ منه وللمشتري قبض الدار بعد انقضاء الإجارة فيها، وإن لم يكن علم بذلك كان بالخيار إن شاء نقض البيع فيها للعيب الذي وجده بها، وإن شاء أمضاه.(10/350)
قال: وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل فهو عذر؛ لأنه يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده، وهو رأس ماله وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ومن أجر دارا ثم باعها قبل انقضاء مدة الإجارة فإن البيع جائز فيما بين البائع والمشتري، حتى إن المدة لو انقضت كان البيع لازما للمشتري، وليس له أن يمنع عن الأخذ إلا إذا طالب المشتري البائع بالتسليم قبل انقضاء مدة الإجارة فلم يمكنه ذلك وفسخ القاضي العقد فيما بينهما، فإنه لا يعود جائزا بمضي المدة. ولو أن المستأجر أجاز البيع جاز وبطلت الإجارة فيما بقي من المدة. ولو فسخ فإنه لا ينفسخ البيع بينهما حتى إن المدة إذا انقضت كان للمشتري أن يأخذه، هذا في ظاهر الرواية.
وروى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المستأجر له أن ينقض البيع، فإذا نقض البيع فإنه لا يعود. وروي عن أبي يوسف أنه قال ليس للمستأجر نقض البيع والإجارة فيها كالعيب، وقد ذكرنا حكمه الآن. ولو آجر داره من رجل ثم أجرها من آخر فإن عقد الثاني يكون موقوفا على إجارة المستأجر الأول فإن أبطله بطل، بخلاف البيع فإن هناك إن أبطله لم يبطل.
والفرق أن عقد الإجارة على المنفعة وهي مملوكة للمستأجر الأول، فإن أجاز مالكها جاز وإلا لا، وأما البيع فإنما يقع على العين وهي مملوكة للمؤجر، إلا أن للغير حقا فيه فإن زال حق الغير نفذ البيع. ولو أجاز المستأجر الأول الإجارة الثانية صحت الإجارة الثانية، والأجرة للمستأجر الأول. ولا تكون لصاحب الدار، بخلاف البيع، لأن هناك الثمن لصاحب الملك، والفرق ما ذكرنا، وبالإجارة لا ينفسخ عقد المستأجر الأول ما لم تمض مدة الثاني فإذا مضت فحينئذ تنقضي المدتان جميعا إن كانت مدتهما واحدة، وإن كانت مدة الثاني أطول من مدة الأول فللأول أن يسكن الدار حتى تتم المدة.
وكذلك لو رهنها المؤجر قبل انقضاء مدة الإجارة والعقد جائز فيما بينه وبين المرتهن ولكن للمستأجر أن يحبس إلى أن تنقضي مدته، ولو رهن داره من رجل وقبضها المرتهن ثم باعها الراهن من آخر فالعقد جائز بين البائع والمشتري.
وفي حق المرتهن لا يجوز، وله أن يحبسه حتى يستوفي ماله، فإذا أمسكها الراهن يسلم الدار إلى المشتري، إلا أن هاهنا إذا أجر المرتهن جاز ويسلم الدار إلى المشتري والثمن يكون رهنا مكان الدار، لأن له حق حبس العين، وكذا بدله.
[استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل]
م: (قال: وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل فهو عذر، لأنه يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده وهو رأس ماله، وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه) ش: بأن يشتري(10/351)
أما الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط والمقراض فلا يتحقق الإفلاس فيه. وإن أراد ترك الخياطة وأن يعمل في الصرف فهو ليس بعذر؛ لأنه يمكنه أن يقعد الغلام للخياطة في ناحية وهو يعمل في الصرف في ناحية، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل آخر حيث جعله عذرا ذكره في الأصل؛ لأن الواحد لا يمكنه الجمع بين العملين، أما هاهنا العامل شخصان فأمكنهما.
ومن استأجر غلاما ليخدمه في المصر ثم سافر فهو عذر؛ لأنه لا يعرى عن إلزام ضرر زائد؛ لأن خدمة السفر أشق، وفي المنع من السفر ضرر، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون عذرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثياب ويخيطها ويبيعها كما هو عرف أهل الكوفة م: (أما الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط) ش: بكسر الميم وهو اسم للآلة التي يخاط بها الثياب.
م: (والمقراض) ش: بكسر الميم اسم للآلة التي يقطع بها الثياب من القرض وهو القطع، وسمي المقص أيضا م: (فلا يتحقق الإفلاس فيه) .
ش: قيل: ويتحقق إفلاسه بأن تظهر خيانته عند الناس فيمتنعون عن تسليم الثياب إليه، أو يلحقه ديون كثيرة ويصير بحيث إن الناس لا يأتمنونه على أمتعتهم.
م: (وإن أراد ترك الخياطة وأن يعمل في الصرف فهو ليس بعذر، لأنه يمكنه أن يقعد الغلام للخياطة في ناحية وهو يعمل في الصرف في ناحية. وهذا بخلاف ما إذا استأجر دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل آخر حيث جعله) ش: أي جعله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (عذرا ذكره في الأصل) ش: أي في " المبسوط ".
م: (لأن الواحد لا يمكنه الجمع بين العملين، أما هاهنا) ش: أي في مسألة ترك الخياطة وإرادة عمل الصرف م: (العامل شخصان) ش: أحدهما المستأجر والآخر الغلام المستأجر م: (فأمكنهما) ش: العمل لعدم التعذر.
[استأجر غلاما ليخدمه في المصر ثم سافر]
م: (ومن استأجر غلاما ليخدمه في المصر ثم سافر فهو) ش: أي سفره م: (عذر) ش: فتفسخ به الإجارة م: (لأنه لا يعرى عن إلزام ضرر زائد، لأن خدمة السفر أشق. وفي المنع من السفر ضرر، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون عذرا) ش: وفي " الذخيرة ": لو قال المؤجر للقاضي: إنه لا يريد السفر ولكن يريد فسخ الإجارة، وقال المستأجر: أريد السفر فيقول القاضي للمستأجر مع من تخرج؟، فإن قال: مع فلان وفلان فالقاضي يسألهم أن فلانا هل يخرج معكم؟ وهل استعد للخروج؟ فإن قالوا: نعم يثبت العذر وإلا فلا. وقيل القاضي يحكم بزيه وثيابه. فإن كانت ثيابه ثياب سفر يجعله مسافرا وإلا فلا.
وقيل: لو أنكر المؤجر السفر فالقول له.(10/352)
وكذا إذا أطلق لما مر أنه يتقيد بالحضر، بخلاف ما إذا أجر عقارا ثم سافر؛ لأنه لا ضرر إذ المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته، حتى لو أراد المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: القاضي يحلف المستأجر بالله إنك عزمت على السفر وإليه مال القدوري والكرخي. ولو أراد رب العبد السفر لا يكون ذلك عذرا.
م: (وكذا إذا أطلق) ش: أي إجارة العبد للخدمة قبل أن يقول استأجرت هذا العبد للخدمة ولم يقل في الحضر أو في السفر لا يكون له أن يسافر به م: (لما مر أنه يتقيد بالحضر) ش: أي لما مر في فصل إجارة العبد من أنه ليس له أن يسافر به، إلا أن يشترط ذلك.
م: (بخلاف ما إذا أجر عقارا ثم سافر، لأنه لا ضرر، إذ المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته، حتى لو أراد المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر) ش: للمستأجر، والضرر مدفوع، والله أعلم.(10/353)
مسائل منثورة
قال: ومن استأجر أرضا أو استعارها فأحرق الحصائد فاحترق شيء في أرض أخرى فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد في هذا التسبيب، فأشبه حافر البئر في دار نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل منثورة في الإجارة]
م: (مسائل منثورة) ش: مسائل مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذه مسائل. وقوله منثورة بالرفع صفة المسائل، وتقدم معنى النثر.
م: (قال: ومن استأجر أرضا أو استعارها فأحرق الحصائد) ش: وهو جمع حصيد وهو الزرع المحصود، وأريد هاهنا ما يبقى من أصول الزرع المحصود في الأرض، وحصد الزرع جزه من باب طلب وضرب م: (فاحترق شيء في أرض أخرى فلا ضمان عليه، لأنه غير متعد في هذا التسبيب) ش: وفي بعض النسخ في هذا السبب فإنه مسبب لا مباشر، والضمان بطريق التسبيب يعتمد التعدي في التسبيب م: (فأشبه حافر البئر في دار نفسه) ش: فإن من حفر بئرا في ملكه فوقع فيها إنسان فهلك لا يضمن.
ولو رمى سهما في ملكه فأصاب إنسانا أو مالا فهلك يضمن، لأنه مباشر فلم يتوقف على التعدي، ولهذا، لأن المباشرة علة فلا يبطل حكمها بعذر، فأما التسبيب فليس بعلة فلا بد من صفة العدوان ليلحق بالعلة، وإحراق الحصائد هنا مباح وليس بتعد فلا يضاف التلف إليه.
ونقل صاحب " الأجناس " عن زيادات الأصل: لو وضع جمرا في الطريق فحركته الريح فذهب به من ذلك الموضع فأحرق شيئا لم يضمن من قبل أنه قد تغير عن حاله التي وضع عليها. وكذلك وإذا وضع حجرا.
وفي " الواقعات ": رجل أحرق شوكا أو بيتا في أرض، فذهبت الريح بالشرارات إلى أرض جاره فأحرق أرضه، إن كانت النار تبعد من أرض الجار على وجه لا يصل إليه شرر النار في العادة فلا ضمان عليه، لأن ذلك حصل بفعل النار وأنه جبار، ولو كان أرضه على وجه يصل إليه شرر النار فإنه يضمن لأن له أن يوقد النار في أرضه، ولكن على وجه لا يتعدى ضرره إلى أرض جاره، وهذا كما إذا سقى أرض نفسه فتعدى إلى أرض جاره. وكذلك لو أن رجلا اتخذ في داره هدفا يرمي إليه فجاز السهم داره وصار إلى دار جاره وقتل رجلا أو أفسد مالا فهو ضامن قيمة المال ودية المقتول على عاقلته.
وكذلك الحداد لو أخرج الحديدة من الكورة وذلك في حانوته ووضعه على العلاة وضربه بمطرقة فخرج شررها إلى طريق العامة فأحرق رجلا أو فقأ عينه فديته على عاقلته. ولو أحرق ثوب إنسان فقيمته على الحداد في ماله. ولو لم يضربه بالمطرقة حتى وضعه على العلاة فأخرج(10/354)
وقيل: هذا إذا كانت الرياح هادنة ثم تغيرت. أما إذا كانت مضطربة يضمن؛ لأن موقد النار يعلم أنها لا تستقر في أرضه. قال: وإذا قعد الخياط أو الصباغ في حانوته من يطرح عليه العمل بالنصف فهو جائز؛ لأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، فهذا لوجاهته يقبل وهذا لحذاقته يعمل فينتظم بذلك المصلحة، فلا تضره الجهالة فيما يحصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الريح شرره فأصاب ما أصاب فهو هدر.
وفي " المسائل ": سقى أرضه فسال من مائه في أرض رجل فغزتها أو ترت لا ضمان عليه، لأنه غير متعد في التسبيب. وكذا إذا أحرق كلأ أو حصائد في أرضه فذهب النار فأحرق شيئا لغيره لم يضمن لا جرم وإن كان يوم ريح فعلم أنه يذهب منها فقيل يضمن.
م: (وقيل هذا) ش: قائله شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي قال المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، هذا الذي قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " عن عدم الضمان بإحراق الحصائد إذا احترق شيء من أرض أخرى م: (إذا كانت الرياح هادنة) ش: حين أوقد النار.
قال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: " هادنة " بالنون أي ساكنة من هدن إذا سكن، وفي نسخة هادئة من هدأ بالهمز، أي سكن، قال الشاعر:
إن السباع لتهدي في فراسيها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا
أي لتسكن. وأصله لتهدأ بالهمزة، حذفه الشاعر وقبله بيت آخر وهو:
ليت السباع لنا كانت مجاورة ... فإننا لا نرى فيمن ترى أحدا
م: (ثم تغيرت) ش: قويت واشتدت م: (أما إذا كانت مضطربة) ش: حين أوقدها م: (يضمن، لأن موقد النار يعلم أنها لا تستقر في أرضه) ش: ولكنها تذهب بها إلى أرض الجيران، فصار كأنه ألقاها في أرضهم.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا قعد الخياط أو الصباغ في حانوته من يطرح عليه العمل بالنصف) ش: بأن كان صاحب الدكان ذا جاه لا حذاقة له في العمل فأقعد من يعلم ويعمل بالنصف م: (فهو جائز) ش: أي استحسانا م: (لأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، فهذا لوجاهته يقبل، وهذا لحذاقته يعمل فينتظم بذلك المصلحة فلا تضره الجهالة فيما يحصل) .
ش: وفي القياس لا يجوز، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن رأس مال صاحب الدكان المنفعة وهي لا تصلح رأس مال الشركة، ولأن التقبل للعمل على ما ذكر صاحب الدكان فيكون العامل أجيره بالنصف وهو مجهول، وإن تقبل العمل العامل كان مستأجرا لموضع(10/355)
قال: ومن استأجر جملا يحمل عليه محملا وراكبين إلى مكة جاز وله المحمل المعتاد. وفي القياس لا يجوز وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للجهالة، وقد يفضي ذلك إلى المنازعة. وجه الاستحسان أن المقصود هو الراكب وهو معلوم، والمحمل تابع وما فيه من الجهالة يرتفع بالصرف إلى المتعارف فلا يفضي ذلك إلى المنازعة. وكذا إذا لم ير الوطاء والدثر. قال: وإن شاهد الجمال المحمل فهو أجود؛ لأنه أنفى للجهالة وأقرب إلى تحقيق الرضاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جلوسه من دكانه بنصف ما يعمل وهو مجهول.
والطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مال إلى وجه القياس، وقال: القياس عندي أولى من الاستحسان، وقد علل الشراح في وجه الاستحسان بأن هذه ليست بإجارة، وإنما هي شركة الصنائع وهي شركة التقبل، وهذا مخالف لما ذكره المصنف، فإنه صرح بأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، ولكن قوله فهذا لوجاهته يقبل، وهذا لحذاقته يعمل النسب لشركة التقبل على ما لا يخفى، ثم إن هذا إذا كانت شركة لا إجارة لم تضره الجهالة فيما يحصل كما في الشركة.
[استأجر جملا يحمل عليه محملا وراكبين إلى مكة]
م: (قال: ومن استأجر جملا يحمل عليه محملا) ش: بفتح الميم الأولى وكسر الثانية وهو الزوج من المحارة يعقد في كل واحد شخص. وفي المغرب بفتح الميم الأولى وكسر الثانية، وعلى العكس الهودج الكبير الحجاجي م: (وراكبين إلى مكة جاز) ش: هذا العقد م: (وله) ش: أي للمستأجر.
م: (المحمل المعتاد) ش: أراد أنه يتعين المحمل المعتاد بين الناس م: (وفي القياس لا يجوز وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للجهالة) ش: وأحمد في الطول والعرض والثقل م: (وقد يفضي ذلك إلى المنازعة) ش: فلا يجوز.
م: (وجه الاستحسان أن المقصود هو الراكب وهو معلوم) ش: لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب م: (والمحمل تابع) ش: للراكب م: (وما فيه) ش: أي في المحمل م: (من الجهالة يرتفع بالصرف إلى المتعارف) ش: أي إلى المحمل المتعارف م: (فلا يفضي ذلك إلى المنازعة) ش: فيجوز م: (وكذا) ش: أي يجوز أيضا م: (إذا لم ير) ش: أي الجمال م: (الوطاء) ش: بكسر الواو وبالمد وهو الفراش م: (والدثر) ش: بضم الدال والثاء المثلثة جمع. وقال وهو ما يلقى عليك من كساء أو غيره م: (قال: وإن شاهد الجمال المحمل فهو أجود، لأنه أنفى للجهالة وأقرب إلى تحقيق الرضاء) ش: لأن بمشاهدة الجمال إياه يرتفع النزاع أصلا.
وفي " المحيط ": استأجر بعيرين إلى مكة ليحمل على أحدهما محملا فيه رجلان وما لهما من الوطاء والدثر ولم ير الجمال الوطاء والدثر وعلى الآخر زاملته عليه كذا مختوما من السويق وما يصلحه من الزيت والخل وما يكفي من الماء ولم يبين قدره وما يصلح من الحبل(10/356)
قال: ومن استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد فأكل منه في الطريق جاز أن يرد عوض ما أكل؛ لأنه استحق عليه حملا سمي في جميع الطريق فله أن يستوفيه. وكذا غير الزاد من المكيل والموزون، ورد الزاد معتاد عند البعض كرد الماء، فلا مانع من العمل بالإطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمعاليق من قربة والميضأة والمطهرة ولم يبين وزنه، أو شرط أن يحمل من مكة من هدايا مكة، أما لحمل الناس فهذا جائز استحسانا للتعارف، وله أن يحمل ما هو متعارف.
وحكي مثله عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: لا بد من معرفة المحمل والوطاء والدثر والمعاليق وتقدير الزاملة. واختلف أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في المعاليق كالقدر ومثله فقيل: لا يجوز حتى يعرف قولا واحدا، وقيل فيه قولان.
[استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد فأكل منه في الطريق]
م: (قال: ومن استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد فأكل منه في الطريق جاز أن يرد عوض ما أكل) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي قول يعتبر العرف إن جرى بالاستبدال يستبدل وإلا لا، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذا الخلاف إذا أطلق، أما إذا شرط الاستبدال فلا خلاف، ولو شرط عدم الاستبدال لا يستبدل بلا خلاف ولو سرق أو هلك بغير أكل أو بأكل غير معتاد يستبدل بلا خلاف م: (لأنه استحق عليه حملا سمي في جميع الطريق فله أن يستوفيه، وكذا غير الزاد) ش: أي وكذا له أن يرد غير الزاد فيما إذا استأجر دابة ليحمل عليها قدرا معينا م: (من المكيل والموزون) ش: إذا نقص منهما، ويحتمل أن يكون المعنى وله أن يرد المكيل أو الموزون مثل ما أكل من الزاد، قاله تاج الشريعة.
م: (ورد الزاد معتاد عند البعض) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال مطلق العقد محمول على العادة، وفي عادة المسافرين لا يردون شيئا مكان ما أكلوا. فأجاب بقوله ورد الزاد معتاد عند بعض الناس م: (كرد الماء) ش: فإنهم يردون بدله عند الشرب والاستعمال، فإذا العرف مشترك فلا يصلح مقيدا م: (فلا مانع من العمل بالإطلاق) ش: وهو أنهما أطلقا العقد على حمل قدر معلوم في مسافة معلومة، ولم يقيدا بعدم رد قدر ما نقص من المحمول فوجب جواز رد قدر ما نقص عملا بالإطلاق وعدم المانع.
فرع: وفي " المحيط ": اشترك اثنان في إجارة دابة على أن يتعاقبا في الركوب ولم يبينا مقدار ركوب كل واحد جاز للعرف، وبه قالت الثلاثة. وقال المزني لا يجوز أكثر العقبة إلا مضمونة في الذمة وهو أن يبين مقدار ركوب كل واحد بالزمان والفرسخ، والله أعلم.(10/357)
كتاب المكاتب
قال: وإذا كاتب المولى عبده أو أمته على مال شرطه عليه وقبل العبد ذلك صار مكاتبا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المكاتب]
م: (كتاب المكاتب) ش: المناسبة بين الكتابين كون كل منهما عقد يستفاد به المال بمقابلة ما ليس بمال على وجه يحتاج فيه إلى ذكر العوض بالإيجاب والقبول بطريق الأصالة يخرج النكاح والطلاق والعتاق على مال، فإن ذكر العوض فيها ليس بطريق الأصالة قبل ذكره عقب العتاق كان أنسب، لأن في الكتابة الولاء، والولاء حكم من أحكام العتق.
ورد بأن العتق إخراج الرقبة عن الملك بلا عوض، والكتابة ليست كذلك، بل فيها ملك الرقبة لشخص ومنفعته لغيره وهو أنسب للإجارة؛ لأن نسبة الذاتيات أولى من العرضيات، وقدم الإجارة لشبهها بالبيع من حيث التمليك والشرائط، فكان أنسب بالتقديم.
ثم الكتابة مأخوذ من الكتاب وهو الجمع، يقال كتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة، ومنه كتبت الكتاب؛ لأنه جمع الحروف، وسمي هذا العقد كتابة لما فيه من جمع النجم إلى النجم. وقيل: سمي كتابة لما يكتب فيه من الكتاب على العبد للمولى وللمولى على العبد.
فإن قيل: سائر العقود يوجد فيها معنى الكتابة فلم لا يسمى بهذا الاسم؟
أجيب: بأنه لا يبطل التسمية كالقارورة سميت بهذا الاسم لقرار المائع فيها، ولم يسم الكوز ونحوه قارورة وإن كان يقر المائع فيه لئلا تبطل الأعلام.
وشرعا هو عقد بين المولى وعبده بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه من كل وجه يوجب التحرير يدا في الحال، ورقبة في المآل، ولا يلزم عليه تعليق العتق على مال، لأنه لا يحتاج فيه إلى لفظ الكتابة، بل يحصل بقوله أعتقتك على كذا.
والفرق بينهما في الحكم أن الكتابة عقد يقال ويفسخ، بخلاف العتق، لأنه من جانب المولى يمين والمكاتب بملك كتابة عبد أو المعتق على مال.
[مشروعية الكتابة وما تنعقد به]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا كاتب المولى عبده أو أمته على مال شرطه عليه وقبل العبد ذلك صار مكاتبا) ش: إنما استعمل هذا من باب المفاعلة التي تقتضي الاشتراك بين الاثنين، لأن المولى كتب على نفسه العتق والعبد الأداء فاشتركا في أصل الفعل فالمولى مكاتب بكسر التاء، والعبد مكاتب بفتحها، ويأتي الآن بيان القيود التي فيه.(10/358)
أما الجواز فلقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: الآية 33) ، وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء، وإنما هو أمر ندب هو الصحيح، وفي الحمل على الإباحة إلغاء الشرط، إذ هو مباح بدونه. أما الندبية فمعلقة به، والمراد بالخير المذكور على ما قيل أن لا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يضر بهم فالأفضل أن لا يكاتبه وإن كان يصح لو فعله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أما الجواز) ش: أي جواز الكتابة يعني الدليل على جوازها م: (فلقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: الآية 33) ش: أي كاتبوا الذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم ودلالة هذا على مشروعية العقد لا تخفى على عارف بلسان العرب، سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره.
ولما كان مقصود المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيان أن عقد الكتابة أمر مندوب أو واجب تعرض لذلك بقوله م: (وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء) ش: أي قوله {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ليس أمر إيجاب، واحترز بقوله الفقهاء عن داود الظاهري ومن تابعه، وعمرو بن دينار وعطاء ورواية صاحب التقريب عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا تجب الكتابة إذا سئل العبد، وكان ذا أمانة وذا كسب، لأن الأمر للوجوب.
ونفى المصنف ذلك بقوله: م: (وإنما هو أمر ندب هو الصحيح) ش: احترز به عن قوله بعض مشايخنا إن الأمر للإباحة ثم بين ما يلزم من المحذور من هذا القول بقوله: م: (وفي الحمل على الإباحة إلغاء الشرط) ش: وهو قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: الآية 33) .
م: (إذ هو) ش: أي عقد الكتابة م: (مباح بدونه) ش: أي بدون شرط. تقريره أن في الحمل على الإباحة ألغى الشرط، لأنها ثابتة بدونه بالاتفاق، وكلام الله تعالى منزه عن ذلك. وفي الحمل على الندب إعمال له، لأن الندبية معلقة به، وهو معنى قوله م: (أما الندبية فمعلقة به) ش: أي بالشرط، وبين ذلك بقوله م: (والمراد بالخير المذكور) ش: يعني في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] .
م: (على ما قيل: أن لا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يضر بهم فالأفضل أن لا يكاتبه) ش: بأن كان غير أمين ولا مشتغل بالكسب م: (وإن كان يصح لو فعله) ش: واصل بما قبله، يعني وإن كان يضر بهم لو فعل المولى عقد الكتابة صح، وفسرت الثلاثة الخيرية بمثل قولنا وهي الأمانة والكسب، وبه قال عمرو بن دينار.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر، وعطاء: الخير الكسب خاصة. وعن الثوري والحسن البصري أنه الأمانة والدين خاصة، وقيل هو الوفاء والأمانة والصلاح. وإذا فقد الأمانة فالكسب لا يكره عندنا. وبه قال الشافعي ومالك - رحمهما الله -. وقال أحمد(10/359)
وأما اشتراط قبول العبد فلأنه مال يلزمه فلا بد من التزامه. ولا يعتق إلا بأداء كل البدل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما عبد كوتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإسحاق وأبو الحسين بن القطان من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكره.
م: (وأما اشتراط قبول العبد فلأنه مال يلزمه، فلا بد من التزامه) ش: وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (ولا يعتق إلا بأداء كل البدل) ش: وهذا قول جمهور الفقهاء م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما عبد كوتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة: وأبو داود والنسائي في العتق والترمذي في " البيوع "، وابن ماجه في " الأحكام " عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد وإذا عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» هذا لفظ أبي داود
ولفظ الترمذي سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كاتب عبدا على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق، أو قال عشرة دراهم ثم عجز فهو رقيق» ، وقال: غريب.
ولفظ ابن ماجه «أيما عبد كوتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق ثم عجز فهو رقيق» . وأخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عباس الحريري، عن عمرو بن شعيب به وكذلك الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه كلاهما بلفظ أبي داود.
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ش: هذا أخرجه أبو داود في العتاق عن إسماعيل بن عياش عن سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي من كتابته درهم» ، وفيه إسماعيل بن عياش لكنه عن شيخ شامي وهو ثقة.
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم أو أوقية» ، وسليمان بن أرقم ضعيف.(10/360)
وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وما اخترناه قول زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أحمد وأبي داود والنسائي وابن معين أنه متروك. وقال ابن عدي: ولعل البلاء فيه من المسيب بن شريك وهو الذي رواه عن سليمان، فإنه أشر من سليمان.
وروى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الموطأ " عن نافع عن ابن عمر موقوفا: «المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته» ، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على عمر وابن عمر وعلي وزيد بن ثابت وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يروه مرفوعا أصلا. والعجب من الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: وقوله قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» من كلام زيد بن ثابت.
ثم نقول ولكن روى الشيخ أبو جعفر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الآثار " وقال حدثنا الخطاب بن عثمان قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» ، فنفى أولا أن يكون هذا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم استدرك وقال: رواه الطحاوي.
م: (وفيه اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي وفي وقت عتق المكاتب اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فعند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يعتق كما أخذ الصحيفة من مولاه يعني يعتق بنفس العقد وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة.
روى عبد الرزاق في " مصنفه " عن عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا بقي عليه خمس أواق أو خمسة أوسق فهو غريم، وعند ابن مسعود يعتق إذا أدى قيمة نفسه، وروى عبد الرزاق أيضا عن المغيرة عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: إذا أدى قدر ثمنه فهو غريم، وعند زيد بن ثابت لا يعتق ولو بقي عليه درهم، وهو الذي اختاره أصحابنا، أشار إليه بقوله: م: (وما اخترناه قول زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما اختاره لأنه مؤيد بالأحاديث التي ذكرناها آنفا، وبه قال الثلاثة أيضا.
وحديث زيد أخرجه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مسنده " اخبرناه ابن عيينة عن ابن نجيح عن مجاهد أن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه درهم، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا سفيان الثوري عن ابن نجيح به سواء ومن طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه البيهقي في " سننه "، ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " أخبرنا ربيع عن سفيان به وذكره البخاري في " صحيحه " تعليقا فقال: وقال زيد بن ثابت: هو عبد(10/361)
ويعتق بأدائه، وإن لم يقل المولى إذا أديتها فأنت حر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما بقي عليه درهم.
وعند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعتق بقدر ما أدى، وبه قالت الظاهرية عن عبد الرزاق أخبرنا سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن الشعبي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: في المكاتب يعجز قال يعتق، وبمثل ما ذهب إليه زيد روي عن عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا خالد الأحمر عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن معمر الجهني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ".
وأخرج أيضا عن يزيد بن هارون عن عباد بن منصور عن حماد بن إبراهيم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريح أخبرني عبد الكريم بن أبي المحارق أن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقولون: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأخرج أيضا عن ابن معشر عن سعيد المقبري عن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ".
م: (ويعتق بأدائه) ش: أي يعتق المكاتب بأدائه جميع بدل الكتابة م: (وإن لم يقل المولى إذا أديتها فأنت حر) ش: الضمير في أديتها يرجع إلى الألف مثلا أو نحوها، ويرجع إلى المال، ولكن التأنيث باعتبار المكاتبة، فإن المكاتبة قد تطلق على البدل، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتق ما لم يقل كاتبتك على كذا إن أديته فأنت حر. وفي " شرح الوجيز ": ولو لم يصرح بتعليق العتق بالأداء ولكن نواه عليه في كاتبتك على كذا صحت الكتابة، وإن لم يصرح بالتعليق ولا نواه لم يحصل العتق ولم تصح الكتابة.
وعن بعض الصحابة إن كان الرجل فقيها صحت كتابته بمجرد لفظ كاتبتك على كذا وإلا فلا بد من تعليق الحرية أو بيته، وأصلا لاختلاف راجع إلى تفسير الكتابة شرعا، فعند ضم نجم إلى نجم فلو صرح وقال: ضربت عليك ألفا على أن تؤديها إلي في كل شهر كذا لا يعتق.
وكذا إذا قال: كاتبتك ولم يقل: إن أديت إلي فأنت حر لا يعتق، فكذا هنا. وعندنا هو ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة عند الأداء فلا يحتاج إلى تعليق العتق بالأداء كما في " مبسوط " شيخ الإسلام.(10/362)
لأن موجب العقد يثبت من غير التصريح به كما في البيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن موجب العقد يثبت من غير التصريح به) ش: أي بالشرط، وهو قوله: إن أديت أو إذا أديت، وقد حققنا أصلا الخلاف الآن. وفي شرح " الكافي ": والحاصل أنه إذا قال لعبده: كاتبتك على ألف درهم على أن تؤدي إلي كل شهر كذا فأنت حر، فإنه يكون كتابة، لأن معنى الكتابة ليس إلا الإعتاق على مال مؤجل بنجم بنجوم معلومة ولكن إنما يجوز إذا قبل الكتابة، لأنه عقد معاوضة فلا بد من الإيجاب والقبول.
وكذلك لو قال كاتبتك على ألف درهم ونجمه وسمى النجوم وقبل العبد فإنه يكون كتابة وإن لم يعلق المعتق بالأداء ولم يقل على أنك إن أديت إلي ألفا فأنت حر، لأنه عقد معاوضة فيعتق بحكم المعاوضة لا بحكم الشرط. وعلى قول الشافعي لا بد من التعليق بشرط الأداء. ولو قال لعبده: إن أديت إلي ألفا فأنت حر فأداه يعتق، لأن المعتق معلق بالأداء فقد وجد شرطه. قال الكرخي: ولا يكون هذا كتابة وإن كان ثمة معنى الكتابة من وجه، حتى إن العبد إذا جاء بالبدل فإنه يجبر على قبوله.
أي يصير المولى قابضا له بالتخلية كما في الكتابة وإن لم يقبل المولى استحسانا عندنا، خلافا لزفر، فبيان التفرقة بين التعليق والكتابة في مسألة فإنه إذا مات العبد هنا قبل الأداء فترك مالا فالمال كله للمولى ولا يؤدي عنه فيعتق، بخلاف الكتابة. وكذا لو مات المولى وفي يد العبد كسب فالعبد رقيق يورث عنه مع اكتسابه، بخلاف الكتابة ولكانت هذه أمة فولدت ثم أدت فعتقت يعتق ولدها.
ولو قال العبد للمولى حط عني مائة فحطه المولى عنه فأدى تسعمائة فإنه لا يعتق، بخلاف الكتابة. ولو أبرأ المولى عن الألف العبد لم يعتق. ولو أبرأ الكاتب عن بدل الكتابة يعتق. ولو باع هذا العبد ثم اشتراه وأدى إليه يجبر على القبول عند أبي يوسف. وقال محمد في " الزيادات ": لا يجبر على قبولها، فإن قبلها عتق، وكذلك لو رد إليه بخيار أو عيب.
وأما الإعتاق على مال فهو خلاف الكتابة وخلاف تعليق العتق بالأداء، فإنه إذا قال لعبده: أنت حر على ألف درهم فقبل العبد فإنه يعتق من ساعته ويكون البدل واجبا في ذمته. وكذا إذا قال أنت حر على قيمة رقبتك وقبل ذلك فإنه يعتق من ساعته ويكون البدل واجبا في ذمته. وكذا إذا قال أنت حر على قيمة رقبتك، وقبل ذلك فإنه يعتق كذا في " التحفة " وغيره.
م: (كما في البيع) ش: يعني كما يحتاج ثمة إلى قول البائع للمشتري إن ملكتني الثمن ملكت المبيع إن دخول هذا لا لمعنى في مقتضى لفظ البيع، يعني عن التصريح به بكذا، هذا لا يحتاج إلى التصريح بقوله إن أديت كذا فأنت حر.(10/363)
ولا يجب حط شيء من البدل اعتبارا بالبيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يجب حط شيء من البدل) ش: أي من بدل الكتابة عن العبد، بل هو مندوب وبه قال مالك والثوري. وقال الشافعي وأحمد: يجب به.
وقال أصحاب الظاهر: وفي وقت وجوبه وجهان: أحدهما بعد العتق، والثاني بعد أداء أكثر البدل، وقدره الشافعي بما يقع عليه اسم المال لاختلاف أقوال الصحابة في قدر المحطوط والاقل يتنفر، وكذا قال صاحب " العناية ". وقال الشافعي: يستحق عليه ربع البدل وهو قول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: نص الشافعي ما ذكرناه وحط ربع البدل هو قول أحمد وأسند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله تعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: الآية 33) ، ومطلق الأمر للوجوب.
ولنا ما أشار إليه بقوله م: (اعتبارا بالبيع) ش: أراد أن عقد الكتابة عقد معاوضة فلا يجب الحط فيه، كما لا يجب في البيع، والأمر في الآية للندب؛ لأنه معطوف على الأمر بالكتابة، لأن الأصل أن يكون المعطوف في حكم المعطوف عليه، كذا في " المبسوط " و" الزيادات " هذه جملة تامة فلا يوجب المشاركة كما في قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (البقرة: الآية 43) .
وأجيب: بأن هذا ليس مثل تلك الجملة، لأن الثانية مرتبطة بالأولى برجوع الضمير إليها، فلم تكن مستبدة بنفسها فصح الاستدلال بالعطف، وفيه نوع تأمل، والتحقيق أن دلالة الآية على ما ادعاه حقيقة جدا، لأنه قال من مال الله وهو يطلق على أموال القرب كالصدقات والزكاة، فكأن الله أمرنا أن نعطي المكاتبين في صدقاتنا ليستعينوا به على أداء الكتابة والمأمور به الإيتاء وهو الإعطاء والحط لا يسمى إعطاء، والمال الذي آتانا الله هو في أيدينا لا الوصف الثابت في ذمة المكاتبين، فحمله على حط شيء من بدل الكتابة عمل بلا دليل.
وقال ابن حزم في " المحلى ": ناقض الشافعي في قوله حيث حمل قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] على الندب، وقوله {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] على الوجوب وهذا محكم انتهى.
وقال ابن جرير الطبري في " التهذيب ": وفي حديث بريرة أيضا الدلالة على صحة قولنا في قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] (النور: الآية 33) ، يعني من أهل الأموال الذين وجبت في أموالهم الصدقات فأمرهم الله تعالى بإعطاء المكاتبين منها ما فرض لهم فيها بقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ولولا ذلك لم تكن بريرة تسأل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولا ضرورة له مع إمكان عجزها عن الكتابة إذا لم تجد سبيلا لا إلى الأداء والرجوع إلى ما كانت عليه من وجوب(10/364)
قال: ويجوز أن يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما. وقال الشافعي: لا يجوز حالا ولا بد من نجمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفقتها على مواليها، ولكنها لما علمت إن شاء الله تعالى ما فرض في أموال أهل الأموال لمن كان بمثل حالها حقا بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وبقوله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] تعرضت لطلب ذلك، وفي ذلك دلالة بينة على أن المراد بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] أهل الأموال.
والدلالة على خطأ من زعم أن قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] يعني به أموال المكاتبين خاصة دون سائر الناس غيرهم، وإنهم أمروا أن يضعوا عنهم من كتابتهم ولولا كان كما قالوا لقال منعوا عنهم من كتابتهم، ولو كان أمر بإعطائهم من مال الله كتابتهم لقال من مال الذي آتاكم، فإذا لم يكن ذلك محصورا على أموالهم كان معلوما أنه خطاب لذوي الأموال بإتيانهم ما فرض الله لهم في أموالهم، انتهى.
ولئن سلمنا أن المراد بذلك الموالي فالأمر محمول على الندب كما فعل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وكما مثل هو وغيره في الأمر بالإشهاد على البيع والكتابة، وقد قالت بريرة: كاتبت أهلي على تسع وأدنى، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إن أحب أهلك أن أعدها لهم، فلو كان الحط واجبا لقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عليها أقل من ذلك إن عليهم أن يحطوا عنها ولأخبر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسقوط البعض عنها.
وفي الصحيح أن بريرة جاءت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستعين في كتابتها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقضي عنك كتابتك» فدل على وجوب الجميع عليها ولا يرون حطيطه لها منه، وأعان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمان على كتابته ولم يأخذ مولاه بحط شيء منها وكل ما ذكره البيهقي في هذا الباب عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم وضعوا شيئا من الكتابة فليس في شيء منه أنهم كانوا يرون ذلك واجبا عليهم فحمل على أنهم فعلوا ذلك على سبيل الندب والفضل.
[حكم اشتراط تعجيل المال أو تأجيله في الكتابة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز أن يشترط المال حالا) ش: أراد بالمال بدل الكتابة م: (ويجوز مؤجلا) ش: بأن يجعله إلى شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين م: (ومنجما) ش: أي مقسطا مؤقتا، واشتقاقه من النجم وهو الساطع، ثم سمي به الوقت، ومنه سمي المنجم، ثم سمي ما يؤدي فيه من الوظيفة، ثم منه فقالوا: نجمت المال إذا أديت نجوما، والكتابة الحالة مثل أن يقول كاتبتك على ألف درهم، وبه صرح الولوالجي في " فتاواه "، والكتابة المؤجلة مثل أن يقول كاتبتك على ألف درهم إلى سنة يؤدي كل شهر من النجم، كذا وكل ذلك جائز.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز حالا) ش: غير مؤجل م: (ولا بد من نجمين) ش: وبه قال(10/365)
لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الأهلية قبله للرق، بخلاف السلم على أصله؛ لأنه أهل للملك، فكان احتمال القدرة ثابتا، وقد دل الإقدام على العقد عليها، فتثبت به ولنا ظاهر ما تلونا من غير شرط التنجيم، ولأنه عقد معاوضة والبدل معقود به فأشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحمد في ظاهر الرواية م: (لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل) ش: أي لأن المكاتب لا يقدر على أداء البدل في الحال م: (لعدم الأهلية قبله للرق) ش: أي لعدم أهلية الملك قبل عقد الكتابة لأجل الرق، لأنه كان مملوكا لا يقدر على شيء وفي زمان يسير لا تثبت القدرة عادة على الكسب على مال كثير.
م: (بخلاف السلم على أصله) ش: أي بخلاف السلم على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث جوزه م: (لأنه أهل للملك) ش: أي لأن المسلم إليه أهل للملك قبل العقد لا يقال هذا إضمار قبل الذكر، لأنا لا نقول السلم يدل عليه، لأنه لا تقوم إلا بالمتعاقدين أحدهما المسلم إليه م: (فكان احتمال القدرة ثابتا) ش: وهو عقد جرى بين الحرين والظاهر هو القدرة على ما التزمه م: (وقد دل الإقدام على العقد عليها فثبت به) ش: أي إقدام المسلم إليه على عقد السلم عليها أي على القدرة فتثبت أي القدرة.
ولقائل أن يقول: احتمال القدرة في حق المكاتب أثبت، لأن المسلمين مأمورون بإعانته والطرق متسعة استدانة وقرض واستيهاب، واستعانة بالزكاة والكفارات والعشور والصدقات، وقد دل الإقدام على العقد عليها فتثبت.
م: (ولنا ظاهر ما تلونا) ش: وهو قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] م: (من غير شرط التنجيم) ش: والتأجيل فلا جواز على النص بالرأي وبقولنا قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الجواهر " قال أبو بكرة: ظاهر قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التنجيم والتأجيل شرط فيه، ثم قال: وعلماؤنا النظار يقولون إن الكتابة الحالة جائزة ويسمونها قطاعة وهو القياس.
م: (لأنه) ش: أي ولأن عقد الكتابة م: (عقد معاوضة والبدل معقود به) ش: أي بالعقد، تحرير هذا الكلام أن عقد المعاوضة يعتمد المعقود عليه ولا بد منه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ووجود المعقود به ليس كذلك للإجماع على جواز اتباع من لا يملك الثمن وبدل الكتابة معقود به لا محالة م: (فأشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة عليه) ش: أي على الثمن.
والحاصل أن بدل الكتابة ثمن من وجه، وهذا لا يجوز الاستدلال به على القبض وبيع من وجه، وهذا عجز عن الأداء يفسخ العقد فوفرنا على الشبهين حظهما لذلك الفسخ عند العجز،(10/366)
بخلاف السلم على أصلنا؛ لأن المسلم فيه معقود عليه فلا بد من القدرة عليه. ولأن مبنى الكتابة على المساهلة فيمهله المولى ظاهرا، بخلاف السلم؛ لأن مبناه على المضايقة وفي الحال كما امتنع من الأداء يرد إلى الرق.
قال: وتجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع والشراء لتحقق الإيجاب والقبول، إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه، وهو بناء على مسألة إذن الصبي في التجارة، وهذا بخلاف ما إذا كان لا يعقل البيع والشراء؛ لأن القبول لا يتحقق منه فلا ينعقد العقد، حتى لو أدى عنه غيره لا يعتق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولعدم اشتراط القدرة عليه عند العقد.
م: (بخلاف السلم على أصلنا، لأن المسلم فيه معقود عليه فلا بد من القدرة عليه) ش: لما ذكرنا أن العقد يعتمد ولا بد منه م: (ولأن مبنى الكتابة على المساهلة) ش: لأنه عقد كرم، إذ العبد وما يملكه لمولاه م: (فيمهله المولى ظاهرا، بخلاف السلم، لأن مبناه) ش: أي مبنى السلم م: (على المضايقة) ش: والمماكسة فالظاهر أنه لا يؤخر عند توجه المطالبة نحوه م: (وفي الحال كما امتنع من الأداء) ش: أي في عقد الكتابة الحال كما امتنع المكاتب م: (يرد في الرق) ش: بالتراضي أو بقضاء القاضي، بخلاف المسلم.
[كتابة العبد الصغير]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل البيع والشراء لتحقق الإيجاب والقبول، إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه) ش: أراد من قوله يعقل يعلم أن السر إيجاب سالب البيع والشراء، ومعرفة ذلك أن الصبي إذا أعطى فلوسا وأخذ الحلوى ثم أخذ يبكي ويقول أعطني فلوسي فهو علامة كونه غير عاقل.
وإن أخذ الحلوى ولم يسترد فلوسه فهو عاقل، كذا نقل عن السلف. قال تاج الشريعة وفي (شرح الطحاوي: وإذا كان لا يعقل لا يجوز إلا إذا قبل عنه إنسان فإنه يجوز ويتوقف على إداركه، فإن أدى هذا القابل عتق. والقياس أن يكون له استرداده وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الاستحسان " ليس له ذلك.
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه) ش: أي في الحكم المذكور. وفي بعض النسخ يخالفنا في ذلك م: (وهو) ش: أي هذا الخلاف منه م: (بناء على مسألة إذن الصبي في التجارة) ش: فإنه لا يجوز عنده فلا يصح الأول له. وعندنا يجوز، لأنه من أهل التصرف إذا عقل العقد ونقصان رأيه يتميز برأي الولي والتصرف نافع فيصح الإذن م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه م: (بخلاف ما إذا كان لا يعقل البيع والشراء، لأن القبول لا يتحقق منه فلا ينعقد العقد) ش: لأن العقد لا ينعقد بدون القبول.
م: (حتى لو أدى عنه) ش: أي عن الغير غير المميز م: (غيره لا يعتق) ش: لأن أداء البدل إنما(10/367)
ويسترد ما دفع.
قال ومن قال لعبده جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نجوما أول النجم كذا وآخره كذا، فإذا أديتها فأنت حر، وإن عجزت فأنت رقيق، فإن هذه مكاتبة؛ لأنه أتى بتفسير الكتابة.
ولو قال: إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حر، فهذه مكاتبة في رواية أبي سليمان، لأن التنجيم يدل على الوجوب وذلك بالكتابة. وفي نسخ أبي حفص - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تكون مكاتبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتصور في عقد منعقد لا في عقد باطل م: (ويسترد ما دفع) ش: من المال، لأنه أداء بسبب باطل.
[ألزم عبده بألف يؤديها نجوما فإن أداها فهو حر وإلا فهو رقيق]
م: (قال: ومن قال لعبده جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نجوما أول النجم كذا وآخره كذا، فإذا أديتها فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق فإن هذه مكاتبة، لأنه أتى بتفسير الكتابة) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل قال لعبده إلى آخره. وقوله: لأنه أي لأن المولى.
وفي " الكافي ": صح استحسانا، والقياس أن لا يصح، لأن ذكر النجوم فضل في الكتابة عندنا وجود ذكرها كعدمها، فبقي قوله: قد جعلت عليك ألف درهم وهو بظاهره ضريبة، وقوله: إن أديت فأنت حر تعليق.
وجه الاستحسان أن العبرة في العقود للمعاني، ألا ترى أن المضاربة بشرط الربح كله لرب المال بضاعة وبشرط المضاربة إقراض، وقد وجد معنى الكتابة هنا، لأن معنى الكتابة سنة، وعادة هذا وعند الإطلاق يصح، فعند التفسير أولى ولا بد من قوله: فإذا أديت فأنت حر.
بخلاف قوله: كاتبتك على كذا حيث لا يحتاج عندنا إلى ذكره، لأن قوله: جعلت عليك ألف درهم على أن تؤديها كما يحتمل معنى الكتابة يعني يحتمل معنى الضريبة فلا يتعين إلا بقوله: فإذا أديت فأنت حر، بخلاف قوله: كاتبتك، فإن الاحتمال يتقدم هاهنا. وأما قوله: إن عجزت فأنت رقيق فضل غير محتاج إليه ولا في قوله كاتبتك، وإنما ذكره للتفسير والحث على أداء المال عند النجوم.
[قال لعبده إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حر]
م: (ولو قال: إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حر فهذه مكاتبة في رواية أبي سليمان، لأن التنجيم يدل على الوجوب) ش: لأنه يستعمل التيسير، وذا إنما يكون عند الوجوب، لأن المولى لا يستوجب على عبده شيئا م: (وذلك بالكتابة) ش: أي وجوب الدين للمولى على العبد لا يكون إلا بعقد الكتابة، وأبو سليمان هذا اسمه موسى بن سليمان الجوزجاني صاحب الإمام محمد بن الحسن وكانت وفاته بعد المائتين من البحرق ونسبته إلى جوزجان مدينة بخراسان مما يلي بلخ.
م: (وفي نسخ أبي حفص - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تكون مكاتبة) ش: أي وفي رواية: لا تكون(10/368)
اعتبارا بالتعليق بالأداء مرة،
قال: وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ولم يخرج عن ملكه. أما الخروج من يده فلتحقيق معنى الكتابة لغة وهو الضم فيضم مالكية يده إلى مالكية نفسه أو لتحقيق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج إلى السفر وإن نهاه المولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكاتبة. قال فخر الإسلام في " مبسوطه ": وهو الأصح م: (اعتبارا بالتعليق بالأداء مرة) ش: يعني إذا قال: إن أديت إلي ألفا لا تكون كتابة ويكون تعليق الحرية بالشرط، ولا يلزم قبول العبد والتنجيم لا يدل على الكتابة لصحتها بدونه كما في الكتابة الحالة، وصححه التنجيم بدونه كما في الضريبة ولما لم يكن أداء معه وجودا وعدما لم يدل على التنجيم على الكتابة والتفاوت بين رواية أبي حفص وأبي سليمان إن العبد إذا أدى الألف مرة لا يعتق على رواية أبي حفص لأن الشرط أن يؤدي كل شهر مائة.
وعلى الرواية الأخرى يعتق، لأنه أدى بدل الكتابة. وأبو حفص هذا هو أبو حفص الكبير الإمام المشهور من أصحاب محمد بن الحسن واسمه أحمد بن حفص، وفاته سنة سبع عشر ومائتين.
[ما يترتب على المكاتبة الصحيحة]
م: (قال) ش: القدوري م: (وإذا صحت الكتابة) ش: بخلوها عن المفسد بعد تحقق المقتضى م: (خرج المكاتب عن يد المولى ولم يخرج عن ملكه) ش: احترز عن قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعنده يعتق بمجرد العقد كما ذكرنا.
م: (أما الخروج من يده فلتحقيق معنى الكتابة لغة وهو ضم) ش: كما ذكرنا في أول الكتاب أنه مشتق بمعنى الضم، يقال: كتبت البغلة إذا ضمت بين شفريها بحلقة م: (فيضم مالكية يده إلى مالكية نفسه) ش: أي مالكية يده الحاصلة في الحال إلى مالكية نفسه التي تحصل عند الأداء قبل مالكية النفس في الحال ليست بموحدة فكيف يتحقق الضم، وضم الشيء إلى الشيء يقتضي وجودهما.
أجيب بأن: مالكية النفس قبل الأداء ثابتة من وجه. ولهذا لو جنى عليه المولى وجب عليه الأرش. ولو وطئ المكاتبة لزمه العقر فيتحقق الضم م: (أو لتحقيق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك) ش: أي المكاتب م: (البيع والشراء والخروج إلى السفر وإن نهاه المولى) ش: أي عن السفر، وسواء كان السفر طويلا أو قصيرا، وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في قول. وقال في قول آخر: لا يخرج إلى السفر بغير إذن السيد، وبه قال مالك، وفصل بعض أصحاب الشافعي فقال: إن كان السفر طويلا لا يخرج بغير إذنه، وإن كان قصيرا يخرج.(10/369)
وأما عدم الخروج عن ملكه فلما روينا، ولأنه عقد معاوضة، ومبناه على المساوة وينعدم ذلك بتنجز العتق ويتحقق بتأخره؛ لأنه يثبت له نوع مالكية ويثبت له في الذمة حق من وجه، فإن أعتقه عتق بإعتاقه؛ لأنه مالك لرقبته ويسقط عنه بدل الكتابة لأنه ما التزمه إلا مقابلا بحصول العتق له وقد حصل دونه.
قال: وإذا وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر؛ لأنها صارت أخص بأجزائها توصلا إلى المقصود بالكتابة وهو الوصول إلى البدل من جانبه وإلى الحرية من جانبها بناء عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وأما عدم الخروج عن ملكه فلما روينا) ش: من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» . ولو قال: ذكرنا كان أحسن، لأنه ذكر الحديث وما رواه اللهم إن كان قد رواه في غير هذا الكتاب فيصدق عليه أنه رواه.
م: (لأنه عقد معاوضة) ش: أي ولأن عقد الكتابة عقد معاوضة كما مر م: (ومبناه على المساواة) ش: أي مبنى عقد المعاوضة على التساوي م: (وينعدم ذلك) ش: أي المساواة على تأويل التساوي م: (بتنجز العتق ويتحقق بتأخره) ش: أي تتحقق المساواة بتأخر العتق م: (لأنه يثبت له) ش: أي للعبد الذي كوتب م: (نوع مالكية) ش: وهو مالكية اليد م: (ويثبت له في الذمة) ش: أي يثبت للمولى في ذمة المكاتب م: (حق من وجه) ش: وهو أصل البدل، وإنما كان حق من وجه لضعفه، فإنه ثابت في الذمة مع المنافي، إذ المولى لا يستوجب على العبد دينا، وهذا لا تصح به الكفالة، فلو ثبت به العتق ناجزا كما قال ابن عباس على ما فاتت المساواة لا يقال المساواة فاتت على ذلك التقدير أيضا، لأن نوع المالكية ثابت عليه من وجه، فأين المساواة، لأن نوع مالكيته أيضا ضعيف لبطلانه بعوده رفيقا.
م: (فإن أعتقه) ش: أي فإن أعتق المولى المكاتب بأن نجز عتقه م: (عتق بإعتاقه، لأنه مالك لرقبته ويسقط عنه بدل الكتابة؛ لأنه ما التزمه) ش: أي لأن المكاتب ما التزم بدل الكتابة م: (إلا مقابلا) ش: بفتح الباء م: (بحصول العتق له) ش: أي ببدل الكتابة م: (وقد حصل دونه) ش: أي حصل العتق دون بدل الكتابة.
[الحكم لو وطئ المولى مكاتبته]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال مالك: لا عقر عليه. وقال أحمد: إن شرط عليها الوطء لا عقر عليه، وإلا يحد ويؤدب، لأنه وطء حرام وعن الحسن البصري قال: يجب الحد، لأنه وطئ في غير ملكه، وعندنا وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا شرط وطأها تفسد الكتابة، وعند مالك يفسد الشرط ويصح العقد.
وعند أحمد يصح كلاهما م: (لأنها صارت أخص بأجزائها توصلا إلى المقصود بالكتابة وهو الوصول إلى البدل من جانبه، وإلى الحرية من جانبها بناء عليه) ش: أي على الوصول إلى البدل من(10/370)
ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان وإن جنى عليها أو على ولدها لزمته الجناية لما بينا. وإن أتلف مالا لها غرم. لأن المولى كالأجنبي في حق أكسابها ونفسها، إذ لو لم يجعل كذلك لأتلفه المولى فيمتنع حصول الغرض المبتغى بالعقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جانبه م: (ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان) ش: حيث قابلها الشرع بالأعيان، قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (النساء: الآية 24) ، والآدمي مفرغ منها. ولهذا لو استحقت الجارية يغرم المشتري من العقر وقيمة الولد دون المنفعة، فعلم أن الوطء في حكم جزء العين ولو كان في حكم المنفعة لما غرم.
فإن قلت: إذا اشترى جارية ثيبا فوطئها ثم باعها مرابحة ليس عليه أن يبين أنه وطئها. وإذا لحقت بالأعيان لوجب البيان.
قلت: لا يجب، لأنه لا يقابله شيء من الثمن م: (وإن جنى عليها أو على ولدها لزمته الجناية) ش: هذا لفظ القدوري، أي وإن جنى المولى على المكاتبة أو جنى على ولدها لزمته الجناية كما لزمه أرش الجناية على العبد المرهون، وفي الكفاية لشمس الأئمة البيهقي: جناية المولى على مكاتبه عمدا لا يوجب المعقود لأجل الشبهة، ولو قتل المكاتب مولاه لا يجب القود م: (لما بينا) ش: أشار إلى قوله، لأنها صارت الغرض بأجزائها.
م: (وإن أتلف) ش: أي المولى م: (مالا لها) ش: أي للمكاتبة م: (غرم، لأن المولى كالأجنبي في حق أكسابها ونفسها) ش: وفي بعضها النسخ في حق أكسابها ونفسه م: (إذ لو لم يجعل كذلك لأتلفه المولى) ش: أي على تأويل أنه ملكه م: (فيمتنع حصول الغرض المبتغى) ش: أي المطلوب م: (بالعقد) ش: هو حصول الحرية لها والمال له.(10/371)
فصل في الكتابة الفاسدة قال: وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير أو على قيمته فالكتابة فاسدة، أما الأول فلأن الخمر والخنزير لا يستحقه المسلم لأنه ليس بمال في حقه فلا يصلح بدلا فيفسد العقد. وأما الثاني فلأن القيمة مجهولة قدرا وجنسا ووصفا فتفاحشت الجهالة وصار كما إذا كاتب على ثوب أو دابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الكتابة الفاسدة]
م: (فصل في الكتابة الفاسدة) ش: وجه تأخير الفاسد عن الصحيح لا يحتاج المنفي إلى دليل.
م: (قال: وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير أو على قيمته) ش: أي على قيمة نفس العبد مثل أن يقول كاتبتك على قيمتك م: (فالكتابة فاسدة) ش: بلا خلاف للثلاثة، وكذا إذا كان المولى ذميا والعبد مسلما لا يجوز كتابته على خمر أو خنزير.
م: (أما الأول) ش: وهو ما إذا كانت على خمر أو خنزير م: (فلأن الخمر والخنزير لا يستحقه المسلم، لأنه ليس بمال متقوم في حقه) ش: يعني ليس بمال متقوم في حق المسلم م: (فلا يصلح بدلا فيفسد العقد) ش: لأنه صار عقدا بلا بدل.
م: (وأما الثاني) ش: وهو ما إذا كاتبه على قيمته م: (فلأن القيمة) ش: أي قيمة العبد م: (مجهولة قدرا) ش: أي من حيث القدر، يعني مائة أو مائتين م: (وجنسا) ش: يعني ومن حيث الجنس، يعني ذهبا أو فضة م: (ووصفا) ش: يعني من حيث الوصف يعني جيدا أو رديئا م: (فتفاحشت الجهالة وصار كما إذا كاتب على ثوب أو دابة) ش: ولم يبين جنسها فإنها تفسد وتفحش الجهالة. الأصل أن ما صلح بدلا في الكتابة، لأنها مبادلة مال بما ليس بمال، إذ البدل في الحال مقابل كل الحجر وهو ليس بمال، فصار كالنكاح.
فإن قلت: لو كاتبه على عبد يصح، وبه قال مالك، خلافا للشافعي وأحمد - رحمهما الله -، ويجب عليه قيمة عبد وسط، حتى لو أتى بالعبد الوسط أو قيمته يجبر المولى على القبول. وإن كاتب على القيمة يجبر بهذه التسمية، فينبغي أن يجوز إذا صرح بالقيمة.
قلت: القيمة فيما نحن بصدده تجب قصدا لا حكما لمكان التصريح بالقيمة، وتجب ثم حكما لا قصدا لأنه تصريح بالعبد وقد يثبت الشيء حكما وضمنا لغيره وإن كان لا يثبت قصدا كبيع الأجنبية ونحوها.
فإن قلت: لما لا تجعل قوله: كاتبتك على ثوب كناية ثمن قوله إن أديت إلي ثوبا فأنت حر فإن في هذه الصورة يعتق بأداء أي ثوب كان.(10/372)
ولأنه تنصيص على ما هو موجب العقد الفاسد؛ لأنه موجب للقيمة، قال: فإن أدى الخمر عتق، وقال زفر: لا يعتق إلا بأداء قيمة نفسه؛ لأن البدل هو القيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا يمكنه ذلك، لأن الكتابة متى صحت كان حكمه تعلق بالعبد بثوب معين، لأن الثوب مجهول فلا يمكن أن يجعل كناية عنه.
م: (ولأنه تنصيص) ش: تعليل آخر، أي ولأن قوله: كاتبتك على قيمتك تنصيص م: (على ما هو موجب العقد الفاسد) ش: أي القيمة، أراد أن العقد الفاسد يوجب القيمة، وهو معنى قوله م: (لأنه) ش: أي لأن العقد الفاسد م: (موجب للقيمة) ش: فالتنصيص على قيمة العبد تنصيص على موجب العقد الفاسد. ولو نص على العقد الفاسد ينعقد بوصف الفساد، فكذا إذا نص على موجبه.
م: (قال: فإن أدى الخمر عتق) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا الذي ذكره ظاهر الرواية عن أصحابنا، وعليه نص الحاكم في الكافي. وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب العيون: رجل كاتب عبده على خمر فالكتابة فاسدة، فإن أدى القيمة عتق.
وإن أدى الخمر لا يعتق، وهذا قول زفر. وقال أبو يوسف: أيهما أدى عتق. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتق بأداء الخمر، إلا أن يقول: إن أديت فأنت حر فإنه يعتق وعليه قيمة نفسه، قال الفقيه: هذا كله خلاف رواية المبسوط، فإن في رواية " المبسوط ": لا يعتق بأداء القيمة ويعتق بأداء الخمر وإن قال المولى: إذا أديت إلي فأنت حر فعليه قيمته، انتهى.
وفي " المبسوط ": فإن أداه قبل أن يترافعا إلى القاضي، وقد كان قال له: أنت حر إذا أديته إذ لم يعلمه فإنه يعتق لأن هذا العقد منعقد مع فساده فتعتق بالأداء وعليه قيمة نفسه، لأن العقد فاسد فيلزمه أو رقبة لأهل الفساد، وقد تعذر رده بنفوذ العتق فيه، فيلزمه قيمته كالمشتري شراء فاسدا إذا عتق المبيع قبل القبض.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتق) ش: يعني وإن أدى الخمر م: (إلا بأداء قيمة نفسه، لأن البدل هو القيمة) ش: يعني في الكتابة الفاسدة، وقد وقع هكذا في بعض النسخ إلا بأداء قيمة الخمر. قال في الكافي: هذا مشكل.
قلت: لأنه مخالف لعامة الروايات، فإن عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتق إلا بأداء القيمة محلاة بالألف واللام بدون إضافته، وفيه أيضا إجمال. وقال الكاكي: النسخة الصحيحة لا تعتق إلا بأداء قيمة نفسه كما هو مذكور في عامة النسخ.
قلت: هذا دعوى منه، بل غالب النسخ لا يعتق إلا بأداء قيمة الخمر، ولهذا لما قال صاحب " الكافي ": وهذا مشكل سكت، ولم يقل النسخة الصحيحة كذا. وكذا ذكر تاج الشريعة في(10/373)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتق بأداء الخمر؛ لأنه بدل صورة ويعتق بأداء القيمة أيضا لأنه هو البدل معنى. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما يعتق بأداء عين الخمر إذا قال إن أديتها فأنت حر؛ لأنه حينئذ يكون العتق بالشرط لا بعقد الكتابة، وصار كما إذا كاتب على ميتة أو دم ولا فصل في ظاهر الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الكفاية " حيث قال: قوله: لايعتق إلا بأداء قيمة الخمر، وذكر في المبسوط قيمة نفسه مكان قيمة الخمر، وفي " مبسوط " خواهر زاده: وإذا وكل رجلا بأن يعتق عبدا على جعل فأعتقه على خمر أو خنزير جاز، وعلى العبد قيمة نفسه.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يعتق بأداء الخمر لأنه بدل صورة) ش: قال السغناقي: هذا الحكم الذي ذكر هو ظاهر الرواية عند علمائنا الثلاثة على ما ذكره في " المبسوط " و " الذخيرة "، فعلى هذا كان من حقه أن لا يخص أبا يوسف وأن يذكر بكلمة عنه.
وقال صاحب " العناية ": هذا صحيح إن كان الألف واللام في القيمة أعني في قوله: ويعتق بأداء القيمة أيضا بدلا عن نفسه. وأما إذا كان بدلا عن الخمر كما ذكره في بعض الشروح فيجوز أن يكون ذلك على ظاهر الرواية عن أبي يوسف.
قلت: سواء جعل الألف واللام في القيمة بدلا عن نفسه أو عن الخمر فعتقه بأداء الخمر هو ظاهر الرواية عندهم، وما قاله السغناقي باق، والشراح ما جعلوا الألف واللام في القيمة إلا بدلا عن نفسه كما صرح بذلك تاج الشريعة وغيره.
والحاصل أن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أيهما أدى المشروط أو قيمه نفسه يعتق، وعندهما، إنما يعتق بأداء المشروط إذا قال: إن أديتها فأنت حر، لأن العتق يكون بالشرط حينئذ، وصار كما لو كانت على ميتة أو دم فإنه لا يعتق إلا إذا نص على الشرط، وفي ظاهر الرواية يعتق بأداء الخمر، صرح بذكر الشرط أو لم يصرح على ما يجيء الآن. م: (ويعتق بأداء القيمة أيضا) ش: أي قيمة نفسه، قال تاج الشريعة وغيره: كما ذكرنا م: (لأنه هو البدل معنى) ش: أي لأن أداء قيمة نفسه هو البدل من حيث المعنى.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما يعتق بأداء عين الخمر إذا قال: إن أديتها فأنت حر) ش: فحينئذ يعتق وعليه قيمة نفسه، لأن العقد الفاسد إذا أتلف فيه المعقود عليه ويجب فيه القيمة كالمبيع إذا أتلف في البيع الفاسد في يد المشتري م: (لأنه حينئذ يكون العتق بالشرط لا بعقد الكتابة وصار كما إذا كاتب على ميتة أو دم) ش: أي بحصول شرط تعلق به العتق كما إذا كاتب على ميتة أو دم حيث لا يعتق بأدائها، إلا إذا قال المولى إذا أديته الميتة أو الدم فأنت حر، أما إذا لم يقل فلا يعتق بأدائهما، لأن العتق لم ينعقد أصلا فيعتبر فيه التعليق م: (ولا فصل في ظاهر الرواية) ش:(10/374)
ووجه الفرق بينهما وبين الميتة أن الخمر والخنزير مال في الجملة فأمكن اعتبار معنى العقد فيهما وموجبه العتق عند أداء العوض المشروط. وأما الميتة فليست بمال أصلا فلا يمكن اعتبار معنى العقد فيه، فاعتبر فيه معنى الشرط وذلك بالتنصيص عليه. وإذا أعتق بأداء عين الخمر لزمه أن يسعى في قيمته؛ لأنه وجب عليه رد رقبته لفساد العقد وقد تعذر بالعتق، فيجب رد قيمته كما في البيع الفاسد إذا تلف المبيع.
قال: ولا ينقص عن المسمى ويزاد عليه؛ لأنه عقد فاسد فتجب القيمة عند هلاك المبدل بالغة ما بلغت، كما في البيع الفاسد، وهذا لأن المولى ما رضي بالنقصان والعبد رضي بالزيادة كيلا يبطل حقه في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني بأداء الخمر، سواء كان في العقد إن أديت الخمر فأنت حر أو لم يقل ذلك. م: (ووجه الفرق بينهما وبين الميتة) ش: أي في ظاهر الرواية بين الخمر والخنزير وبين الميتة م: (أن الخمر والخنزير مال في الجملة) ش: وإن لم يكن متقوما في حكم المسلم م: (فأمكن اعتبار معنى العقد فيهما) ش: باعتبار المالية، ومعنى العقد هو المعاوضة م: (وموجبه العتق) ش: أي موجب معنى العقد هو العتق م: (عند أداء العوض المشروط، وأما الميتة فليست بمال أصلا، فلا يمكن اعتبار معنى العقد فيه، فاعتبر فيه معنى الشرط، وذلك) ش: أي اعتبار معنى الشرط م: (بالتنصيص عليه) ش: أي على الشرط، وهو أداء الميتة.
م: (وإذا أعتق بأداء عين الخمر لزمه أن يسعى في قيمته، لأنه وجب عليه رد رقبته لفساد العقد) ش: لأن موجب العقد الفاسد رد المعقود عليه م: (وقد تعذر بالعتق فيجب رد قيمته كما في البيع الفاسد إذا تلف المبيع) ش: في يد المشتري بعد القبض.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا ينقص) ش: أي حال كونها بالغة م: (ما بلغت كما في البيع الفاسد) ش: إذا تلف المبيع تجب قيمة المبيع لتعذره م: (وهذا) ش: أي وجوب القيمة بالغة ما بلغت م: (لأن المولى ما رضي بالنقصان) ش: أي عن المسمى حيث أوجب العقد فيه وإن كانت القيمة أقل.
فإن قلت: ينبغي أن لا يعتبر رضى الولي في النقصان كما في البيع الفاسد، حيث ينقص عن المسمى ويزاد عليه.
قلت: حقيقة المبادلة موجودة ثمة، لأن البائع يصل إليه عوض حقه بالتمام، والواجب هو القيمة، وإنما يصار إلى المسمى عند صحة التسمية، أما هنا فالمولى محسن لأنه يبيع ماله بماله و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وهو إنما رضي بزوال ملكه بقدر ما سمى فلا يجوز النقصان عنه.
م: (والعبد رضي بالزيادة) ش: على المسمى م: (كيلا يبطل حقه) ش: أي حق العبد م: (في(10/375)
العتق أصلا فتجب القيمة بالغة ما بلغت. وفيما إذا كاتبه على قيمته يعتق بأداء القيمة؛ لأنه هو البدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العتق أصلا) ش: لأنه إن لم يرض بها يمتنع المولى عن العتق فيفوت له إدراك شرف الحرية.
فإن قلت: هذا الإبطال إذا لم يعتق بأداء غير الخمر، أما إذا عتق فلا يلزم هذا.
قلت: يحتمل أن القاضي يرى صحة ما روي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما إذا كاتبه على خمر ولم يقل إن أديتها فأنت حر فأدى الخمر لا يعتق، فلو قضى بتلك الرواية يبطل حقه في العتق.
فإن قلت: يحتمل أن المصنف- رَحِمَهُ اللَّهُ - اختار في إتمام التسمية غير ظاهر الرواية. قال السغناقي: قوله: كيلا يبطل حقه في العتق لا يصلح تعليلا لقوله: والعبد رضي بالزيادة لأنه يمكن أن يكون العبد غير راض بالزيادة على المسمى وإن بطل حقه في العتق، لأن ذلك نفع شرب بالضرر، لأن تحمل الزيادة أضر عليه من العتق، وكم من عبد لا يرضى بنفس العتق من غير بدل.
وفي وقت غرق الطعام فأولى أن لا يرضى عند إيجاب الزيادة على المسمى، والأولى في التعليل أن يقال: لما عقد مع مولاه عقد الكتابة الفاسدة وأقدم عليه باختياره ورضاه كان قابلا قيمة نفسه بالغة ما بلغت، إذ قيمة نفسه قد تزيد على المسمى.
قلت: هذا الذي ذكره معارض بالمثل، لأنه يمكن أن يكون العبد راضيا بالزيادة على المسمى وإن حصل له ضرر في الزيادة لاستشرافه شرف الحرية، ولو كان في وقت غرة الطعام بل هذا هو الغالب في العبد، لأن أصل مقصودهم خلاصهم عن أسر الرقبة وتولي أمور أنفسهم فالمصنف ذكر هذا بناء على الغالب والمغلوب في مقابلة الغالب كحكم العدم وادعاء الأولوية في التعليل الذي ذكره لا برهان له فيها، لأن إقدامه على عقد هذه الكتابة الفاسدة ربما يكون عن جهل معتقدا أنها صحيحة إذ لولا حقيقتها ما أقدم عليها، لأن حال المسلم بناء في ذلك.
م: (فتجب القيمة بالغة ما بلغت) ش: أي فتجب قيمة العبد حال كونها بالغة ما بلغت، وما بلغت في محل النصب باسم الفاعل.
م: (وفيما إذا كاتبه على قيمته) ش: هذا راجع إلى قوله في أول الفصل أو على قيمة نفسه م: (يعتق بأداء القيمة، لأنه هو البدل) ش: أي لأن القيمة هو الفرض، إنما ذكر الضمير إما باعتبار المذكور، وإما بتذكر الخير ولم يذكر بماذا تعرف القيمة.(10/376)
وأمكن اعتبار معنى العقد فيه وأثر الجهالة في الفساد بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب حيث لا يعتق بأداء ثوب؛ لأنه لا يوقف فيه على مراد العاقد لاختلاف أجناس الثوب فلا يثبت العتق بدون إرادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة " و " مبسوط " شيخ الإسلام: وقيمته تعرف بتصادقهما، لأن الحق فيما بينهما وإما بتقويم القومين، فإن اتفق الإتيان منهم على شيء جعل ذلك قيمة له وإن اختلفا لا يعتق ما لم يؤد أقصى القيمتين، لأن شرط العتق لا يثبت م: (وأمكن اعتبار معنى العقد فيه) ش: أي أمكن اعتبار معنى عقد الكتابة في أداء القيمة بأن أدى ما لا يختلف المقومون فيه بأن يقوم أحدهم بثلاثين والآخر بخمسة وثلاثين، والآخر بأربعين، فلما لم يجاوز أحدهم من أربعين وقد أدى أربعين يكون مؤديا قيمتها.
م: (وأثر الجهالة في الفساد) ش: هذا جواب عما يقال القيمة مجهولة فكان الواجب أن يقيد البطلان ولا يعتق بأداء القيمة فقال وأثر الجهالة، أي جهالة القيمة في فساد العقد لا فساد العقد لا في بطلان كما في البيع فإنها تفسده ولا تبطله.
م: (بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب) ش: هذا أيضا جواب عما يقال: الكتابة على ثوب كالكتابة على قيمة العبد فكان ينبغي أن يعتق بأداء الثوب كما عتق بأداء القيمة. فقال بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب م: (حيث لا يعتق بأداء ثوب، لأنه لا يوقف فيه) ش: أي في الثوب م: (على مراد العاقد) ش: لأنه لا يزيد ملكه بأي ثوب كان بل ثوب معين ولا يدري أن هذا المؤدى هو ذلك المعني أم لا.
م: (لاختلاف أجناس الثوب فلا يثبت العتق بدون إرادته) ش: أي إرادة المولى أراد أن المتعين ينبغي أن يكون مرادا له حتى يثبت العتق، والإطلاق على ذلك متعذر لاختلاف أجناسه فلا يعتق بدون إرادته، بخلاف القيمة، لأنها وإن كانت مجهولة يمكن استدراك مراده بتقويم المقومين.
فإن قلت: فإن أدى القيمة فيما إذا كاتبه على ثوب يعتق أولا. قلت: ذكر في " الذخيرة " أن الأصل عند علمائنا الثلاثة أن المسمى متى كان مجهول القدر أو الجنس فإنه لا يعتق العبد بأداء القيمة ولا تنعقد هذه الكتابة أصلا لا على المسمى ولا على القيمة.
فإن قلت: ينبغي أن يؤدي ثوبا اعتبارا بجهة التعليق، إذ الكتابة تتضمن المعاوضة والتعليق، فإذا بطل معنى المعاوضة لجهالة الثوب يبقى معنى التعليق فيعتق، كما لو قال: إن أديت إلي ثوبا فأي ثوب أدى عتق، كذلك هاهنا.
قلت: التعليق في ضمن المعاوضة فإذا بطلت جهة المعاوضة بطلت تلك الجهة الأخرى(10/377)
قال: وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه لغيره لم يجز؛ لأنه لا يقدر على تسليمه ومراده شيء يتعين بالتعيين حتى لو قال كاتبتك على هذه الألف الدراهم وهي لغيره جاز؛ لأنها لا تتعين في المعاوضات فيتعلق بدراهم دين في الذمة فيجوز. وعن أبي حنيفة رواه الحسن أنه يجوز حتى إذا ملكه وسلمه يعتق، وإن عجز يرد في الرق؛ لأن المسمى مال والقدرة على التسليم موهومة فأشبه الصداق. قلنا: إن العين في المعاوضات معقود عليه، والقدرة على المعقود عليه شرط للصحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا، لأن المتضمن يبطل ببطلان المتضمن.
[كاتبه على شيء بعينه لغيره]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه) ش: الثوب والعبد م: (لغيره) ش: أي حال كون الشيء لغير العبد لا يقال: قوله شيء نكرة فلا يقع ذو الحال، لأنه تخصص بالصفة، أعني قوله: بعينه فإن تقديره على شيء معين م: (لم يجز) ش: أي عقد هذه الكتابة م: (لأنه لا يقدر على تسليمه) ش: ذلك الشيء إلى مولاه، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك: يجوز ويشتريه ويؤديه وإن لم يبعه الغير يؤدي قيمته م: (ومراده شيء يتعين بالتعيين) ش: أي مراد محمد من قوله: على شيء يتعين بالتعيين كالعبد والثوب وغيرهما من المكيل والموزون.
م: (حتى لو قال: كاتبتك على هذه الألف الدراهم وهي لغيره) ش: أي والحال أن هذا الألف لغير العقد م: (جاز) ش: أي عقد الكتابة م: (لأنها) ش: أي لأن الدراهم وكذا الدنانير م: (لا تتعين في المعاوضات فيتعلق) ش: العقد م: (بدراهم دين في الذمة فيجوز) ش: وعند الشافعي وأحمد: لا يجوز هذا أيضا لتعين الدراهم والدنانير عندهما.
م: (وعن أبي حنيفة رواه الحسن أنه يجوز حتى إذا ملكه وسلمه يعتق) ش: أي حتى لو ملك ذلك العين وسلمه المولى عتق، وقال أشهب المالكي: إذا ملكه قبل الفسخ وسلمه جاز م: (وإن عجز يرد في الرق) ش: أي وإن عجز العبد عن تسليم العين المذكور إلى مولاه يرد في الرق م: (لأن المسمى مال، والقدرة على التسليم موهومة) ش: أي قدرة العبد على تسليم العين إلى مولاه بما يحدث له فيه من الملك موهومة م: (قأشبه الصداق) ش: أي أشبه بدل الكتابة من مال الغير صداق المرأة من مال الغير بأن يتزوجها على عبد الغير تصح التسمية فكذا هنا تصح التسمية، فإذا قدر على تسليمه جاز، وإذا لم يجز المالك في النكاح رجعت المرأة على الزوج بقيمة العبد أو بمهر المثل. ولو كانت التسمية فاسدة لرجعت بمهر المثل.
م: (قلنا: إن العين في المعاوضات) ش: هذا إشارة إلى بيان وجه الظاهر، وهو أن العين في المعاوضات، وأراد بالعين بدل الكتابة م: (معقود عليه والقدرة على المعقود عليه شرط للصحة)(10/378)
إذا كان العقد يحتمل الفسخ كما في البيع، بخلاف الصداق في النكاح؛ لأن القدرة على ما هو المقصود بالنكاح ليس بشرط فعلى ما هو تابع فيه أولى. فلو أجاز صاحب العين ذلك فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز؛ لأنه يجوز البيع عند الإجازة فالكتابة أولى. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز اعتبارا بحال عدم الإجازة على ما قال في الكتاب، والجامع بينهما أنه لا يفيد ملك المكاسب وهو المقصود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي شرط صحة العقد، ولهذا لم يجز بيع الآبق م: (إذا كان العقد يحتمل الفسخ) ش: أي والكتابة تحتمل الفسخ فشرط القدر على المعقود عليه م: (كما في البيع) ش: فإنه يحتمل الفسخ فيشترط فيه القدرة على المعقود عليه.
فإن قلت: البدل في الكتابة له حكم الثمن بدليل جواز الكتابة الحالية الثمن معقود به لا معقود عليه، فلا تكون القدرة عليه شرطا.
قلت: هذا إذا كان من النقود وليس الكلام فيه، وإنما كلامنا في العين فيصير عقد الكتابة بمنزلة المقايضة فيصير للبدل حكم المبيع فيشترط القدرة عليه.
م: (بخلاف الصداق في النكاح) ش: هذا جواب عن قوله: فأشبه الصداق وذلك م: (لأن القدرة على ما هو المقصود بالنكاح) ش: وهو منافع البضع أو التوالد والتناسل م: (ليس بشرط) ش: حتى لو تزوج رضيعة يجوز م: (فعلى ما هو تابع فيه أولى) ش: أي فالقدرة على ما هو تابع وهو الصداق يصح، والكتابة بدون ذكر البدل لا يصح فوضح الفرق.
م: (فلو أجاز صاحب العين ذلك) ش: أراد في قوله وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه لغيره لم يجز، أي لو أجاز مالك العين ذلك يعني ما قاله المولى لعبده م: (فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز، لأنه يجوز البيع عند الإجازة) ش: بأن اشترى شيئا بمال الغير فأجازه الغير يجوز مع أنه مبني على المضايقة والمماكسة م: (فالكتابة أولى) ش: بالجواز، لأن مبناها على المسامحة. وقيل: لأنها لا تفسد بالشرط الفاسد، بخلاف البيع، فصار صاحب المال مفوضا المال من العبد فتصير العين من أكسابه.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز) ش: أي وإن أجاز صاحب العبد، وهذه رواية ابن سماعة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بحال عدم الإجازة على ما قال في الكتاب) ش: أي " الجامع الصغير "، أشار به إلى قوله: وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه لغيره لم يجزه م: (والجامع بينهما أنه) ش: أي عقد الكتابة م: (لا يفيد ملك المكاسب وهو المقصود) ش: أي والحال أن ملك المكاسب هو المقصود في الحال.(10/379)
لأنها تثبت للحاجة إلى الأداء منها ولا حاجة فيما إذا كان البدل عينا معينا، والمسألة فيه على ما بيناه. وعن أبي يوسف أنه يجوز، أجاز ذلك أو لم يجز، غير أنه عند الإجازة يجب تسليم عينه، وعند عدمها يجب تسليم قيمته كما في النكاح، والجامع بينهما صحة التسمية لكونه مالا. ولو ملك المكاتب ذلك العين فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه أبو يوسف أنه إذا أداه لا يعتق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: المقصود من عقد الكتابة هو الحرية.
قلت: موجب الشيء ما يكون عقيب ذلك الشيء، وما يعقب الكتابة هو ملك الحر وملك المكاسب. وأما الحرية فعند انقضاء عقد المكاتبة لا عقيبه، فيكون الموجب هو ملك المكاسب.
م: (لأنها) ش: أي لأن الكتابة: وفي بعض النسخ " لأنه " أي لأن عقد الكتابة م: (تثبت للحاجة إلى الأداء منها) ش: أي من المكاسب م: (ولا حاجة فيما إذا كان البدل عيناً معيناً) ش: لغيره، لأن العقد لم ينعقد إذا كان البدل عيناً لغيره فلم يحتج إلى أداء منه، لأن الاحتياج إليه عند صحة العقد م: (والمسألة فيه) ش: أي فرض المسألة فيما إذا كان البدل عينا معينا، وقد أشار بقوله: معينا بعد قوله: عينا احترازا من الدراهم والدنانير المعينة، فإنها وإن عينت لا تتعين عندنا، فتجوز الكتابة حتى إذا كاتبه على ألف فلأن هذه جازت، فإن أدى تلك الألف أو ألفا أخرى عتق م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله ومراده شيء يتعين بالتعيين.
م: (وعن أبي يوسف أنه يجوز أجاز ذلك أو لم يجز) ش: أي روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحكم المذكور وهو ما إذا كاتبه على شيء بعينه لغيره أجاز مالك الشيء أو لم يجزه م: (غير أنه عند الإجازة يجب تسليم عينه) ش: أي غير أن الشأن عند إجازة مالك الشيء يكون العقد على شيء يجب على الكاتب تسليم عين ذلك الشيء إلى المولى م: (وعند عدمها يجب تسليم قيمته) ش: أي وعند عدم إجازة مالك الشيء يجب على المكاتب تسليم قيمة ذلك الشيء.
م: (كما في النكاح) ش: فإنه إذا نكح امرأة على عبد رجل بعينه يصح العقد، فإن رضي مالك العبد يدفعه إليها فبها وإلا فيجب على الزوج قيمة العبد م: (والجامع بينهما صحة التسمية لكونه مالا) ش: أي المعنى الجامع بين المقيس الذي هو الكتابة المذكورة والمقيس عليه الذي هو النكاح صحة التسمية في كل منهما لكونه مالا، أي لكون التسمية والتذكير باعتبار المسمى مالا.
م: (ولو ملك المكاتب ذلك العين) ش: أراد أن مالك العين لم يجز، ولكن ملك المكاتب العين بسبب من أسباب الملك م: (فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رواه أبو يوسف أنه إذا أداه لا يعتق) ش: أي روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه أي المكاتب إذا أدى تلك العين التي ملكها لا(10/380)
وعلى هذه الرواية لم ينعقد العقد إلا إذا قال له: إذا أديت إلي فأنت حر، فحينئذ يعتق بحكم الشرط، وهكذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعنه أنه يعتق قال ذلك أو لم يقل؛ لأن العقد ينعقد مع الفساد لكون المسمى مالا فيعتق بأداء المشروط. ولو كاتبه على عين في يد المكاتب ففيه روايتان وهي مسألة الكتابة على الأعيان، وقد عرف ذلك في الأصل. وقد ذكرنا وجه الروايتين في كفاية المنتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعتق م: (وعلى هذه الرواية لم ينعقد العقد إلا إذا قال له: إذا أديت إلي فأنت حر، فحينئذ يعتق بحكم الشرط) ش: هذه الرواية هي ظاهر الرواية أن عقد الكتابة لا ينعقد من الأول إلا بالشرط بأن يقول المولى إذا أديت إلي هذه العين فأنت حر فإنه يعتق عند الأداء لوجود الشرط ولا يعتق بالعقد لعدم انعقاده م: (وهكذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وهكذا روي أيضا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثلما روى هو عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعتق إلا بالشرط، وهذا رواية الحسن بن أبي مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن قول زفر مثل ذلك.
م: (وعنه أنه يعتق قال ذلك أو لم يقل) ش: أي وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواه عن أصحاب " الإملاء ": أنه يعتق بدفع العين إلى مولاه سواء قال المولى إن أديت إلي فأنت حر أو لم يقل م: (لأن العقد ينعقد مع الفساد لكون المسمى مالا فيعتق بأداء المشروط) ش: كما لو كاتبه على خمر فأدى فإنه يعتق.
م: (ولو كاتبه على عين في يد المكاتب) ش: بأن كان مأذونا في التجارة والمراد عين معين سوى الدراهم والدنانير، فإنه لو كاتبه على دراهم أو دنانير في يد العبد من كسبه تجوز الكتابة باتفاق الروايات، ذكره شيخ الإسلام في " مبسوطه ".
م: (ففيه روايتان) ش: أي ففي حكمه روايتان في رواية كتاب الشرب من الأصل يجوز، وفي رواية كتاب المكاتب من الأصل لا يجوز م: (وفي مسألة الكتابة على الأعيان) ش: وهي التي ذكرت قبيل هذا بقوله: وإن كاتبه على شيء بعينه لم يجز.
وعن أبي حنيفة رواه الحسن: يجوز م: (وقد عرف ذلك في الأصل) ش: أي قد عرف حكم ما ذكر من الكتابة على شيء بعينه في " المبسوط ".
م: (وقد ذكرنا وجه الروايتين) ش: يعني الجواز وعدم الجواز م: (في كفاية المنتهى) ش: وهو كتاب صنفه المصنف- رَحِمَهُ اللَّهُ - كتاب حافل عظيم لم يقع في هذه الديار، قيل: إنه موجود في بلاد الهند وأحاله عليه ولم يذكره هنا لطول الكلام فيه.
وجه روايته أنه كتابة على مال معلوم مقدور التسليم فيجوز، ولأن البيع يجوز بإجازة مالك(10/381)
قال وإن كاتبه على مائة دينار على أن يرد المولى إليه عبدًا بغير عينه فالكتابة فاسدة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي جائزة ويقسم المائة الدينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فبطل منها حصة العبد فيكون مكاتبا بما بقي؛ لأن العبد المطلق يصلح بدل الكتابة وينصرف إلى الوسط، فكذا يصلح مستثنى منه وهو الأصل في إبدال العقود. ولهما أنه لا يستثنى العبد من الدنانير، وإنما يستثنى قيمته والقيمة لا تصلح بدلاً فكذلك مستثنى.
قال وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة استحسانًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العين فالكتابة أولى. وجه رواية عدم الجواز أن كسب العبد وقت العقد وقت ملك المولى فصار كما إذا كاتبه على عين من أعيان مال المولى وإنه لا يجوز، فكذا هذا.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن كاتبه على مائة دينار على أن يرد المولى إليه عبدا بغير عينه فالكتابة فاسدة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-) ش: قيد بقوله: على عبد بغير عينه، لأنه لو كان العبد معينا يجوز بالاتفاق لجواز بيع المعين بالاتفاق، فكذا استثناؤه عند الثلاثة لا يجوز في العين وغيره لأنه شرط فاسد وصفقة في صفقة.
م: (وقال أبو يوسف: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي جائزة ويقسم المائة الدينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فتبطل منها حصة العبد فيكون مكاتبا بما بقي) ش: حتى إذا كان بدل الكتابة مائة، وقيمة العبد خمسين يجب على المكاتب إذا خمسون ويسقط خمسون في مقابلة العبد م: (لأن العبد المطلق يصلح بدل الكتابة وينصرف إلى الوسط) ش: وهذا بالاتفاق بكل ما يصلح بدلا م: (فكذا يصلح مستثنى منه) ش: أي حال كونه مستثنى منه، فهذا استثناء من حيث المعنى هو الأصل أي كون كل ما صلح بدلا صلحا مستثنى من البدل م: (وهو الأصل في أبدال العقود) ش: بفتح الهمزة جمع بدل.
الحاصل أن الأصل أن كل ما يصلح إيراد العقد عليه بانفراده يصح استثناؤه من العقد والعبسد المطلق يصح إيراد العقد عليه ابتداء هاهنا، فكذا استثناؤه من العقد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- م: (أنه لا يستثنى العبد من الدنانير) ش: هذا قول بالموجب، يعني: سلمنا هذا الأصل، ولأن إنما تكون فيما يصلح الاستثناء، وهاهنا ليس كذلك، لأنه لا يستثنى العبد من الدينار لاختلاف الجنس م: (وإنما يستثنى قيمته) ش: يعني إنما يصح استثناء العبد من الدينار بحسب قيمته لا بحسب نفس العبد م: (والقيمة لا تصلح بدلا) ش: لتفاحش الجهالة من حيث الجنس والقدر والوصف م: (فكذلك مستثنى) ش: أي فكذلك لا يصلح حال كونه مستثنى.
[كاتبه على حيوان غير موصوف]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة استحسانًا(10/382)
ومعناه أن يبين الجنس ولا يبين النوع والصفة وينصرف إلى الوسط ويجبر على قبول القيمة وقد مر في النكاح
أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول دابة لا يجوز؛ لأنه يشتمل أجناسا مختلفة فتتفاحش الجهالة. وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ومعناه) ش: أي معنى قول القدوري جائزة م: (أن يبين الجنس) ش: كالعبد والفرس م: (ولا يبين النوع) ش: أنه تركي أو هندي م: (والصفة) ش: أنه جيد أو رديء م: (وينصرف إلى الوسط) ش: فيجوز العقد، وبه قال مالك، وإنما ينصرف إلى الوسط كما في الزكاة والدية نظرا إلى الجانبين، ثم الوسط عند أبي حنيفة في العبد الذي قيمته أربعون درهما.
وعندهما على قدر غلاء السعر ورخصه ولا ينظر في قيمة الوسط إلى قيمة المكاتب، لأن عقد الكتابة عقد إرفاق، فالظاهر أن يكون البدل على أقل من قيمة المكاتب م: (ويجبر على قبول القيمة) ش: أي يجبر المولى، لأنها أصل من حيث إن المسمى يعرف بها فيجبر على القبول م: (وقد مر في النكاح) ش: أي في باب المهر، فإنه إذا تزوجها على حيوان وبين جنسه ولم يبين نوعه وصفته فإنه يجوز وينصرف إلى الوسط.
م: (أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول: دابة لا يجوز، لأنه يشتمل) ش: أي لأن قوله: دابة يشتمل م: (أجناسا مختلفة) ش: مما يدب على وجه الأرض م: (فتتفاحش الجهالة) ش: فيفضي إلى المنازعة فلا يجوز م: (وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف) ش: بفتح الواو وكسر الصاد على وزن فعيل اسم للغلام، والجمع وصفاء، والجارية وصيفة وجمعها وصائف، هذا الذي ذكره الفقهاء.
وذكر في " العباب " الوصيف الخادم غلاما كان أو جارية، يقال: وصف الغلام بالضم إذا بلغ الخدمة، والجمع وصفاء. وقال ثعلب: ربما قالوا للجارية: وصيفة والجمع وصائف انتهى. فعلى هذا الفرق الذي ذكره الفقهاء بين الوصيف الذكر والوصيفة للأنثى يكون على هذه الرواية.
فإن قلت: إن العبد إذا كان يطلق على الذكر والأنثى فلا يكون في عطف الوصيف عليه زيادة فائدة بل في المعنى يكون عطف الشيء على مثله.
قلت: العبد في المعرف لا يطلق إلا على الذكر من الأرقاء بدليل أنهم يستعملون في المقابلة الجارية أو الأمة فالوصيف أعم فيكون من عطف العام على الخاص. وإن كان إطلاقه عليهما جميعا كالوصيف يكون العطف أيضا صحيحا مفيدا لفائدة، وهي أن الوصيف اسم لمن يوصف بالخدمة بأن كان قادرا عليها، والعبد أعم من أن يبلغ الخدمة أولى، فعلى هذا يكون عطف العام على الخاص.(10/383)
فالجهالة يسيرة ومثلها يتحمل في الكتابة فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه. وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز وهو القياس؛ لأنه معاوضة فأشبه البيع. ولنا أنه معاوضة مال بغير مال أو بمال لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح، والجامع أنه يبتني المسامحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالجهالة يسيرة) ش: لأنها ترجع إلى الوصف دون الذات م: (ومثلها يتحمل في الكتابة) ش: لأنها تشبه البيع من حيث إنها معاوضة، ألا ترى أنها تقال وتفسخ لشبه النكاح أيضا من حيث إنها معاوضة مال بما ليس بمال، فإذا كانت الجهالة في أصلها منع الجواز لشبه البيع، وإذا كانت في الوصف لا يمنع لشبه النكاح.
م: (فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه) ش: أي في عقد الكتابة كما لو قال كاتبتك إلى الحصاد والدياس أو العطاء صحت الكتابة، لأن مبناها على المسامحة.
فإن قلت: كيف جعل المصنف هاهنا العبد جنسا واحدا وجعل في الوكالة أجناسا مختلفة حتى لم يجوز الوكالة بشري العبد مطلقا.
قلت: اللفظ إن شمل أجناسا عالية كالدابة مثلا، أو متوسطة كالمركوب منع الجواز مطلقا في الكتابة والوكالة والنكاح والبيع وغيرها، وإن شمل أجناسا سافلة كالعبد منعه فيما يبتني على المماكسة كالبيع والوكالة لا فيما بني على المسامحة كالكتابة والنكاح.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، وهو القياس) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومذهبهما هو القياس م: (لأنه معاوضة) ش: أي لأن عقد الكتابة عقد معاوضة مال بمال م: (فأشبه البيع) ش: في أن تسمية البدل شرط فيها كما هي شرط فيه، والبيع مع البدل المجهول والأجل المجهول لا يجوز، فكذا الكتابة.
م: (ولنا أنه) ش: أي عقد الكتابة م: (معاوضة مال بغير مال) ش: أي في الابتداء، لأن البدل في الابتداء مقابل بفك الحجر وهو ليس بمال م: (أو بمال) ش: أي في معاوضة مال في الانتهاء لأنه يقابل الرقبة م: (لكن على وجه يسقط الملك فيه) ش: لأن العبد لا يتملك مالية نفسه، بل يسقط ملك المولى.
م: (فأشبه النكاح) ش: لأن منافع البضع مال عند الدخول، فيكون معاوضة مال بمال، ألا ترى أن الشرع جعلها كالأعيان لكن على وجه يسقط الملك للزوج، ولهذا لا يقدر على تمليكها.
م: (والجامع) ش: أي المعنى الجامع في كون الكتابة كالنكاح م: (أنه يبتنى على المسامحة) ش: أي أن عقد الكتابة يبتنى على المسامحة كالنكاح، وهذا المقدار كان في إلحاقها بالنكاح م:(10/384)
بخلاف البيع؛ لأن مبناه على المماكسة.
قال: وإذا كاتب النصراني عبده على خمر فهو جائز، معناه إذا كان مقدارا معلوما والعبد كافرا؛ لأنها مال في حقهم بمنزلة الخل في حقنا وأيهما أسلم فللمولى قيمة الخمر؛ لأن المسلم ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها. وفي التسليم ذلك إذ الخمر غير متعين فيعجز عن تسليم البدل، فيجب عليه قيمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(بخلاف البيع، لأن مبناه على المماكسة) ش: هذا جواب عن قول الشافعي، فأشبه البيع أشار بأن قياسه الكتابة على البيع باطل الوجود، قال الفارق وهو ابتناء البيع على المماكسة والمضايقة، وابتناء الكتابة على المسامحة والمساهلة.
[كاتب النصراني عبده على خمر]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كاتب النصراني عبده على خمر فهو جائز، معناه إذا كان مقدارا معلوما والعبد كافرا) ش: أي معنى الذي في " الجامع الصغير " إذا كان الخمر مقدارا معلوما، وأن يكون العبد أيضا نصرانيا.
ولو أتى بعبارة محمد كما هي لما كان يحتاج إلى هذا التفسير فإنه قال محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل نصراني كاتب عبدا له نصرانيا على أرطال خمر قال: المكاتبة جائزة ولما لم يأت بهذه العبارة، أشار بهذا إلى أنه لا بد من قيدين في جواز هذا الكتابة.
الأول: أن يكون الخمر مقدارا معلوما، لأن الجهالة مانعة، والثاني: أن يكون العبد كافرا إلا إذا كان مسلما لا يجوز.
ولكن مع هذا إذا أدى الخمر يعتق لتضمن الكتابة تعليق العتق بأداء البدل المذكور، وصار كما لو كاتب المسلم عبد المسلم على خمر فأدى المكاتب الخمر فإنه يعتق، كذا ذكره بعض المشايخ كالقاضي ظهير الدين والرازي ونجم الدين (....
... ) والنيسابوري في " شرح الجامع الصغير ". وفي " شرح الطحاوي " و" التمرتاشي ": لو أدى الخمر لا يعتق. ولو أدى القيمة يعتق.
م: (لأنها مال في حقهم بمنزلة الخل في حقنا، وأيهما أسلم) ش: أي من المولى والعبد م: (فللمولى قيمة الخمر) ش: وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية عنه تفسد الكتابة؛ لأنه لا يمكنه تسليم البدل فصار كأنه عجز نفسه.
م: (لأن المسلم ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها، وفي التسليم ذلك) ش: أي التمليك والتملك باعتبار كل واحد م: (إذ الخمر غير متعين فيعجز عن تسليم البدل فيجب عليه قيمته) ش: أشار ب إذا التعليلية أن الخمر في المسألة المذكورة غير معينة فالملك يثبت فيها بمجرد عقد الكتابة.(10/385)
وهذا بخلاف ما إذا تبايع الذميان خمرا ثم أسلم أحدهما حيث يفسد البيع على ما قاله البعض؛ لأن القيمة تصلح بدلا في الكتابة في الجملة فإنه لو كاتب على وصيف وأتى بالقيمة يجبر على القبول فجاز أن يبقى العقد على القيمة، أما البيع لا ينعقد صحيحا على القيمة فافترقا. قال: وإذا قبضها عتق؛ لأن في الكتابة معنى المعاوضة، فإذا وصل أحد العوضين إلى المولى سلم العوض الآخر للعبد وذلك بالعتق، بخلاف ما إذا كان العبد مسلما حيث لم تجز الكتابة؛ لأن المسلم ليس من أهل التزام الخمر، ولو أداها عتق وقد بيناه من قبل والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرناه م: (بخلاف ما إذا تبايع الذميان خمرا ثم أسلم أحدهما حيث يفسد البيع على ما قاله البعض) ش: لأن الأجر كما وقع عن تسليم المسمى لا تصلح عوضا في البيع بحال ففسد.
قيد بقوله: على ما قاله البعض؛ لأنه ذكر بعض المشايخ ينبغي أن يكون الجواب في البيع كالجواب في الكتابة والرواية في الكتابة رواية في المبيع.
م: (لأن القيمة تصلح بدلا في الكتابة في الجملة) ش: أي لأن قيمة الخمر تصلح بدلا في عقد الكتابة.
وأظهر ذلك بقوله م: (فإنه لو كاتب على وصيف) ش: أي عبد للخدمة م: (وأتى بالقيمة يجبر على القبول، فجاز أن يبقى العقد على القيمة) ش: لأن البقاء أسهل من الابتداء م: (أما البيع لا ينعقد صحيحا على القيمة فافترقا) ش: أي البيع والكتابة.
م: (قال: وإذا قبضها عتق) ش: أي إذا قبض المولى قيمة الخمر، وهذا لفظ الصدر الشهيد في الجامع الصغير، أما لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإذا أداها عتق، وقد ذكر فيما مضى م: (لأن في الكتابة معنى المعاوضة، فإذا وصل أحد العوضين إلى المولى سلم العوض الآخر للعبد وذلك بالعتق، بخلاف ما إذا كان العبد مسلما حيث لم تجز الكتابة، لأن المسلم ليس من أهل التزام الخمر) ش: لكونها غير مال متقوم في حقه فلا يصح.
م: (ولو أداها عتق) ش: أي ولو أدى الخمر عتق، أراد أن العبد المسلم إذا أدى الخمر عتق أيضا لوجود معنى التعليق كما ذكرناه مستقصى مع الخلاف فيه م: (وقد بيناه من قبل والله أعلم) ش: أشار به إلى ما ذكره في أول الفصل بقوله فإن أدى الخمر عتق.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعتق. وفي شرح الكافي ذمي ابتاع عبدا مسلما فكاتبه قال هو جائز ولا يرد، لأن تخليصه بإزالة ملكه عن المسلم وبالكتابة يجعل هذا المعنى، وإن كاتبة على خمر أو خنزير لم يجز، فإن أدى الخمر عتق وعليه قيمته كما في البيع الفاسد.(10/386)
باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله قال: ويجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر؛ لأن موجب الكتابة أن يصير حرا يدا، وذلك بمالكية التصرف مستبدا به تصرفا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل والبيع والشراء من هذا القبيل، وكذا السفر؛ لأن التجارة ربما لا تتفق في الحضر فتحتاج إلى المسافرة ويملك البيع بالمحاباة؛ لأنه من صنيع التجار، فإن التاجر قد يحابي في صفقة واحدة ليربح في أخرى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله]
م: (باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله) ش: لما بين أحكام الكتابة وأنواعها شرع في بيان ما يجوز للمكاتب أن يفعله وما لا يجوز، فإن جواز التصرف يبتنى على العقد الصحيح.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر) ش: خلافا لمالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (لأن موجب الكتابة أن يصير حرا يدا، وذلك بمالكية التصرف مستبدا به) ش: أي حال كونه مستقلا بالتصرف م: (تصرفا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل) ش: أي بدل الكتابة، وانتصاب تصرفا.
م: (والبيع والشراء من هذا القبيل) ش: أي من قبيل التصرف الذي يوصل المتعاقدين إلى مقصودهما، لأن مقصود البائع الوصول إلى الثمن ومقصود المشتري الوصول إلى العين وذا لا يحصل إلا بالبيع والشراء، وكذلك هاهنا مقصد السيد الوصول إلى بدل الكتابة، ومقصود العبد منه الحرية، وذا يحصل بالبيع والشراء.
م: (وكذا السفر؛ لأن التجارة ربما لا تتفق في الحضر فتحتاج إلى المسافرة) .
ش: فإن قلت: فيه غرور وخطر.
قلت: يبطل بالرهن والوديعة، فإن فيهما ذلك ويصحان من المكاتب م: (ويملك البيع بالمحاباة) ش: وهي بيع شيء يساوي مائة بتسعين مثلا وهو على وزن مفاعلة من حابى يحابي وثلاثية حتى يقال حباه حبوة أي أعطاه والحباء العطاء وحاباه في البيع محاباة. وقال الثلاثة: لا يملك البيع بالمحاباة لأنه تبرع كالهبة والعتق.
ولنا ما قاله بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن البيع بالمحاباة م: (من صنيع التجار، فإن التاجر قد يحابي في صفقة واحدة) ش: استجلابا لقلوب الناس إليه م: (ليربح في أخرى) ش: أي في صفقة أخرى، وهذا كما ترى لم يذكر فيه الخلاف.
وقال في " شرح الطحاوي ": لا يجوز للمكاتب البيع إلا على المعروف في قولهما، ويجوز في قول أبي حنيفة يجوز بيع المكاتب بالقليل والكثير. وقالا بما يتغابن في مثله.(10/387)
قال: فإن شرط عليه أن لا يخرج من الكوفة فله أن يخرج استحسانا، لأن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد وهو مالكية اليد على جهة الاستبداد وثبوت الاختصاص بنفسه فبطل الشرط وصح العقد؛ لأنه شرط لم يتمكن في صلب العقد وبمثله لا تفسد الكتابة، وهذا لأن الكتابة تشبه البيع وتشبه النكاح فألحقناها بالبيع في شرط تمكن في صلب العقد كما إذا شرط خدمة مجهولة؛ لأنه في البدل وبالنكاح في شرط لم يتمكن في صلبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شرط المولى على المكاتب أن لا يخرج من الكوفة]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فإن شرط عليه) ش: أي فإن شرط المولى على المكاتب م: أن لا يخرج من الكوفة) ش: هذا ليس بقيد، بل الحكم في غير الكوفة كذلك، وتخصيصها بالذكر باعتبار وضع المسألة فيها م: (فله أن يخرج استحسانا) ش: وبه قال الشافعي. وفي قول لا يجوز له الخروج بدون الشرط، فبالشرط أولى وهو القياس.
وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله م: (لأن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد وهو مالكية اليد على جهة الاستبداد) ش: أي الاستقلال، يقال فلان استبد برأيه أي انفرد م: (وثبوت الاختصاص بنفسه) ش: أي اختصاص العمل في الكوفة م: (فبطل الشرط) ش: أي شرط المولى عدم خروجه من الكوفة م: (وصح العقد) ش: أي عقد الكتابة، وهذا في نفس الأمر جواب عما قيل هذا الشرط يقتضي بطلان العقد كما في البيع.
فقال وصح العقد م: (لأنه شرط) ش: أي لأن هذا الشرط الذي شرطه المولى شرطا م: (لم يتمكن في صلب العقد) ش: لأن الداخل في صلب العقد ما يكون في البدلين وهنا ليس كذلك؛ لأنه شرط في بدل الكتابة ولا فيما يقابله م: (وبمثله) ش: أي بمثل هذا الشرط م: (لا تفسد الكتابة) ش: وإنما تفسد إذا تمكن من الشرط في صلب العقد نحو ما إذا قال كاتبتك على أن تخدمني مدة أو زمانا، أو كاتب جارية على ألف بشرط أن يطأها مادامت مكاتبة ونحو ذلك.
م: (وهذا) ش: أي هذا التفصيل بين كون الشرط المتمكن في صلب العقد مفسدا وبين كون الشرط الغير المتمكن غير مفسد م: (لأن الكتابة تشبه البيع) ش: من حيث إنها تحمل الفسخ في الابتداء م: (وتشبه النكاح) ش: أي تشبه النكاح من حيث إنها لا تحتمل الفسخ في الابتداء وتشبه الهبة والنكاح بعد تمام المعقود بالأداء.
قال تاج الشريعة: تشبه البيع من حيث إنها معاوضة ولا تصح بدون البدل، ويحتمل الفسخ قبل الأداء، ويشبه النكاح من حيث إنها معاوضة مال بغير مال م: (فألحقناها بالبيع في شرط تمكنه في صلب العقد كما إذا شرط خدمة مجهولة) ش: بأن قال كاتبتك على أن تخدمني مدة كما ذكرنا عن قريب م: (لأنه في البدل) ش: أي لأن الشرط في البدل فيكون في صلب العقد م: (وبالنكاح) ش: أي ألحقناه بالنكاح م: (في شرط لم يتمكن في صلبه) ش: أي في صلب العقد(10/388)
هذا هو الأصل، أو نقول إن الكتابة في جانب العبد إعتاق؛ لأنه إسقاط الملك، وهذا الشرط يخص العبد فاعتبر إعتاقا في حق هذا الشرط، والإعتاق لا يبطل بالشروط الفاسدة.
هذا هو الأصل، قال: ولا يتزوج إلا بإذن المولى؛ لأن الكتابة فك الحجر مع قيام الملك ضرورة التوسل إلى المقصود والتزوج ليس وسيلة إليه. ويجوز بإذن المولى؛ لأن الملك له ولا يهب ولا يتصدق إلا بالشيء اليسير؛ لأن الهبة والصدقة تبرع وهو غير مالك ليملكه، إلا أن الشيء اليسير من ضرورات التجارة؛ لأنه لا يجد بدا من ضيافة وإعارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيصح العقد ويبطل الشرط م: (وهذا هو الأصل) ش: أي العمل بالشبهين عند دلالة الدليلين المتقابلين هو الأصل.
م: (أو نقول إن الكتابة في جانب العبد إعتاق) ش: لأن الإعتاق إزالة الملك لا إلى أحد والكتابة كذلك؛ لأنه لا يحصل للمكاتب شيء، وإنما يسقط عنه ملك مولاه م: (لأنه إسقاط الملك) ش: أي لأن عقد الكتابة إسقاط الملك وفك الحجر وإطلاق اليد بمنزلة الإعتاق. م: (وهذا الشرط يخص العبد) ش: أي شرط عدم الخروج يحتمل العبد، أي يتعلق به م: (فاعتبر) ش: أي عقد الكتابة م: (إعتاقا في حق هذا الشرط) ش: أي شرط عدم الخروج م: (والإعتاق لا يبطل بالشروط الفاسدة) ش: كما لو أعتق عبدا على أنه نائبه فإن الشرط باطل والإعتاق صحيح لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الولاء لمن أعتق» فدل الحديث على أن الشرط الفاسد لا يبطل الإعتاق.
[لا يتزوج المكاتب إلا بإذن المولى]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يتزوج إلا بإذن المولى) ش: وبه قالت الثلاثة.
وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن شرط عليه أن لا يتزوج إلا بإذنه لم يتزوج بغير إذنه وإن لم يشترط ذلك جاز له التزوج بغير إذنه ليملكه منافع نفسه م: (لأن الكتابة فك الحجر مع قيام الملك ضرورة التوصل إلى المقصود) ش: أي لأجل ضرورة التوسل إلى المقصود فمقصود المولى البدل، وذلك بقيام الملك، ومقصود المكاتب تحصيل الكسب للإيفاء م: (والتزوج ليس وسيلة إليه) ش: أي إلى المقصود، لأن التزوج ليس من اكتساب المال، بل فيه التزام المهر والنفقة، وأعاد تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الضمير في اليد إلى الاكتساب وليس بظاهر.
م: (ويجوز) ش: أي التزوج م: (بإذن المولى؛ لأن الملك له) ش: معنى الملك قائم فيه فهو كالحر فلا يجوز له إلا بإذن م: (ولا يهب ولا يتصدق إلا بالشيء اليسير) ش: أي ما دون الدرهم؛ لأنه قليل يتوسع فيه الناس قاله تاج الشريعة م: (لأن الهبة والصدقة تبرع، وهو غير مالك ليملكه) ش: بتشديد اللام م: (إلا أن الشيء اليسير من ضرورات التجارة؛ لأنه لا يجد بدا) ش: أي مفارقة م: (من ضيافة) .
ش: وفي بعض النسخ من إضافة فالأول من ضاف والثاني من أضاف م: (وإعارة) ش:(10/389)
ليجتمع عليه المجاهزون
ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته وتوابعه ولا يتكفل؛ لأنه تبرع محض فليس من ضرورات التجارة والاكتساب ولا يملكه بنوعيه نفسا ومالا؛ لأن كل ذلك تبرع ولا يقرض؛ لأنه تبرع ليس من توابع الاكتساب، فإن وهب على عوض لم يصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شيء مثل الدار أو الثياب استجلابا لقلوبهم م: (ليجتمع عليه المجاهزون) ش: أي على المكاتب وهو جمع مجاهز وهو عند العامة الغني من التجار، وكأنه أريد به المجهز وهو الذي يبعث التجارة بالجهاز وهو فاخر المتاع ويسافر به، كذا قال في المغرب أراد إطلاق المجاهز على الغني لغة العامة والعرب لم تتكلم به، والمستعمل في اللغة المجهز ولكنه أعم من أن يكون في بعث التجارة بالجهاز وغيره، يقال جهز بعثه وجهز الجيش وجهز الغازي والميت وغير ذلك وتجهز للسفر إذا استعد والجهاز بفتح الجيم وكسرها جهاز العريس.
م: (ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته وتوابعه) ش: فالمكاتب يملك التجارة فيملك ما هو من ضرورات التجارة كالضيافة والإعارة والشيء اليسير من الهبة أو الصدقة م: (ولا يتكفل) ش: سواء كان بأمر المكفول عنه أو بغير أمره وسواء كان بإذن مولاه أو بغير إذنه وحكم كفالته في المال ككفالة المحجور عليه يصح في حقه بعد المعتق لا في الحال م: (لأنه تبرع محض) ش: أي لأن التكفل تبرع خالص م: (فليس من ضرورات التجارة والاكتساب ولا يملكه بنوعيه) ش: أي لا يملك التكفل بنوعيه وهما التكفل بالنفس والتكفل بالمال وفسرهما بقوله: م: (نفسا ومالا) ش: وانتصابهما بتقدير أعني م: (لأن كل ذلك تبرع) ش: أي لأن كل التكفيل تبرع، يعني سواء كان بالنفس أو بالمال أو بأمر المكفول عنه أو بغير أمره.
أما بغير الأمر فظاهر، وكذا بالأمر لأن الكفيل عند الأداء كالقرض للمكفول عنه والإقراض تبرع؛ لأنه إعارة، وكذا الكفالة بالنفس تبرع محض.
فإن قلت: بدل الكتابة مال في ذمته وتسليم النفس لا ينافي ذلك.
قلت: ربما يعجز عن ذلك فيحبس عليه فيمتنع من الكسب فيتضرر.
وفي " الكافي " للحاكم: ولا يجوز كفالة المكاتب بالمال ولا بالبدل بإذن المولى وبانفراده، وكذلك قبول الحوالة، فإن تكفل بإذن سيده ثم عجز لم تلزمه تلك الكفالة، لأن ضمانه كان باطلا وإن أذن فعتق لزمته الكفالة؛ لأنه كفل وهو بمنزلة العبد، ولو أن عبدا محجورا كفل بكفالته ثم عتق لزمته الكفالة. ولو كان المكاتب صغيرا حين كفل لم يؤخذ بها وإن عتق لزمته الكفالة.
م: (ولا يقرض لأنه تبرع ليس من توابع الاكتساب) ش: حتى لو أقرض لا يطلب للمستقرض أكله، إلا أن يكون مضمونا عليه حتى لو تصرف فيه يجوز م: (فإن وهب على عوض لم يصح،(10/390)
لأنه تبرع ابتداء. فإن زوج أمته جاز؛ لأنه اكتساب للمال فإنه يتملك به المهر فدخل تحت العقد. قال: وكذلك إن كاتب عبده والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي - رحمهما الله -؛ لأن مآله العتق والمكاتب ليس من أهله كالإعتاق على مال. وجه الاستحسان أنه عقد اكتساب للمال فيملكه كتزويج الأمة وكالبيع، وقد يكون هو أنفع له من البيع؛ لأنه لا يزيل الملك إلا بعد وصول البدل إليه والبيع يزيله قبله، ولهذا يملكه الأب والوصي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه تبرع ابتداء) ش: والتبرع غير داخل في عقد الكتابة م: (فإن زوج أمته جاز لأنه اكتساب للمال فإنه يتملك به المهر، فدخل تحت العقد) ش: أي عقد الكتابة، وكذا له أن يوكل بتزويجها، بخلاف ما لو زوجت المكاتبة نفسها حيث لا يجوز.
فإن قلت: فعلى التعليل المذكور ينبغي أن يجوز.
قلت: لأن رقبتها باقية على ملك المولى فيمنع ثبوت ولاية الاستبداد بها بالتزويج. ولأنه عيب، فربما يعجز، فينبغي هذا العيب من ملك المولى.
فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن يملك المكاتب تزويج ابنته ومع هذا لا يجوز.
قلت: نعم لكن ابنته مملوكة لمولاه وأمته لا حتى ينفذ عتق المولى في ابنته دون أمته. ولو عجز وحاضت ابنته حيضة لا يجب على المولى أسيرا جديدا فيها ويلزمه ذلك في أمته ومكاتبته. ولو زوج المكاتب أمته عن عبد فعن أبي يوسف أنه لا يجوز، وفي ظاهر الرواية لا يجوز.
م: (قال وكذلك إن كاتب عبده) ش: أي يجوز، وبه قال مالك والقاضي الحنبلي وأهل الظاهر م: (والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي - رحمهما الله - ش: وقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن مآله العتق) ش: أي مآل عقد الكتابة العتق م: (والمكاتب ليس من أهله) ش: أي من أهل العتق م: (كالإعتاق على مال) ش: أي إذا قال المكاتب لعبده أد إلي ألفا وأنت حر لا يجوز هذا التعليق فكذا لا يجوز له أن يكاتب عبده لأن الكتابة بالمال كالتعليق.
م: (وجه الاستحسان أنه عقد اكتساب للمال فيملكه كتزويج الأمة وكالبيع) ش: أي كما يملك تزويج أمته والبيع والشراء؛ لأنه عقد اكتساب للمال م: (وقد يكون هو) ش: أي عقد الكتاب م: (أنفع له من البيع؛ لأنه) ش: أي لأن عقد الكتابة م: (لا يزيل الملك) ش: أي ملك المولى عن العبد المكاتب م: (إلا بعد وصول البدل إليه والبيع يزيله قبله) ش: أي البيع يزيل الملك قبل وصول البدل وهو الثمن إليه، فلما ملك البيع فالكتابة أولى م: (ولهذا يملكه الأب والوصي) ش: أي ولأجل أن الكتابة لا تزيل الملك قبل وصول البدل إليه بملك الأب الصغير أو وصيه أن يكاتب عبده الصغير.(10/391)
ثم هو يوجب للمملوك مثل ما هو ثابت له، بخلاف الإعتاق على مال؛ لأنه يوجب فوق ما هو ثابت له. قال: فإن أدى الثاني قبل أن يعتق الأول فولاؤه للمولى؛ لأن له فيه نوع ملك ويصح إضافة الإعتاق إليه في الجملة فإذا تعذر إضافته إلى مباشر العقد لعدم الأهلية أضيف إليه كما في العبد إذا اشترى شيئا يثبت الملك للمولى. قال: فلو أدى الأول بعد ذلك وعتق لا ينتقل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم هو يوجب للمملوك مثل ما هو ثابت له) ش: أي ثم المكاتب الأول يثبت للمملوك، أي للمكاتب أراد أنه يثبت بالكتابة مالكية التصرف للثاني والأصل أن من ملك شيئا يملك تمليكه إلى غيره كالمعير يعير، والمستأجر يستأجر، بخلاف المودع، لأن المالك لم يرض بدفعه إلى غيره.
م: (بخلاف الإعتاق على مال لأنه) ش: أي لأن الإعتاق على مال م: (يوجب فوق ما هو ثابت له) ش: أي يثبت للمكاتب فوق ما هو ثابت له، تحريره أن الإعتاق على مال فوق الكتابة؛ لأنه إزالة الملك في الحال على وجه لا يرد له، وهذا غير ثابت للمكاتب، ففي تجويزه إثبات أمر للمكاتب فوق ما هو ثابت له، وذلك لا يجوز.
م: (قال فإن أدى الثاني) ش: أي مكاتب المكاتب، أي أدى بدل كتابته م: (قبل أن يعتق الأول) ش: أراد قبل أداء الأول بدل الكتابة لأنه لا يعتق إلا بالأداء م: (فولاؤه للمولى) ش: أي ولاء مكاتب المكاتب يكون للمولى يعني يعتق لتحقق الشرط، ويكون ولاؤه للمولى م: (لأن له فيه نوع ملك) ش: أي لأن للمولى في المكاتب الثاني نوع ملك، لأن الثاني مكاتب للمولى بواسطة الأول فكان كتابه للمولى للأول بمنزلة علة، ولهذا لو عجز الأول كان الثاني ملكا للمولى كالأول م: (ويصح إضافة الإعتاق إليه) ش: أي إلى المولى م: (في الجملة) ش: يقال مولى زيد ومعتق معتقه، ولهذا يدخل في الاستئمان على مواليه.
ولو أوصى لمولى فلان وليس له معتق في الأحياء وله معتق معتق يستحق هو الوصية م: (فإذا تعذر إضافته) ش: أي إضافة عتق الثاني م: (إلى مباشر العقد) ش: وهو المكاتب الأول الذي هو العلة م: (لعدم الأهلية) ش: أي لعدم أهلية مباشرة العقد لكونه رقيقا م: (أضيف إليه) ش: أي أضيف العقد إلى المولى الذي هو العلة؛ لأن الحكم كما يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة عند تعذر الإضافة إلى العلة م: (كما في العبد إذا اشترى شيئا يثبت الملك للمولى) ش: فإنه يثبت الملك للمولى لتعذر إثباته للعبد لعدم الأهلية.
م: (قال: فلو أدى الأول) ش: أي المكاتب الأول م: (بعد ذلك) ش: أي بعد أداء الثاني بدل الكتابة وعتقه، وكون ولايته للمولى م: (وعتق) ش: أي الأول لأداء بدل الكتابة م: (لا ينتقل(10/392)
الولاء إليه؛ لأن المولى جعل معتقا، والولاء لا ينتقل من المعتق وإن أدى الثاني بعد عتق الأول فولاؤه له؛ لأن العاقد من أهل ثبوت الولاء وهو الأصل فيثبت له، قال: وإن أعتق عبده على مال أو باعه من نفسه أو زوج عبده لم يجز؛ لأن هذه الأشياء ليست من الكسب ولا من توابعه، أما الأول فلأنه إسقاط الملك عن رقبته وإثبات الدين في ذمة المفلس فأشبه الزوال بغير عوض، وكذا الثاني لأنه إعتاق على مال في الحقيقة، وأما الثالث فلأنه تنقيص للعبد وتعييب له وشغل رقبته بالمهر والنفقة، بخلاف تزويج الأمة لأنه اكتساب لاستفادته المهر على ما مر. قال: وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولاء إليه) ش: أي إلى المكاتب الأول م: (لأن المولى جعل معتقا والولاء لا ينتقل من المعتق) ش: لأن المولى معتق مباشرة من وجه، بخلاف جر الولاء، فإن ثمة مولى الجارية ليس بمعتق للولد مباشرة ولكن تسبيبا باعتبار إعتاق الأم، والأصل أن الحكم لا يضاف إلى السبب إلا عند تعذر الإضافة إلى العلة. والتعذر عند عدم عتق الأب، فإذا أعتق زالت الضرورة فينتقل الولاء إلى قوم الأب.
م: (وإن أدى الثاني بعد عتق الأول) ش: أي إن أدى المكاتب الثاني بدل المكاتبة بعد عتق المكاتب الأول بأداء بدل الكتابة م: (فولاؤه له) ش: أي ولاء الثاني للأول م: (لأن العاقد من أهل ثبوت الولاء وهو الأصل) ش: لأنه مباشر للعتق م: (فيثبت له) ش: أي للعاقد وهو المكاتب الأول.
[الحكم لو أعتق المكاتب عبدا على مال]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن أعتق عبده على مال) ش: أي إن أعتق المكاتب عبدا على مال م: (أو باعه من نفسه) ش: أي أو باع المكاتب نفس العبد من العبد م: (أو زوج عبده لم يجز، لأن هذه الأشياء ليست من الكسب ولا من توابعه) ش: أراد من توابع الكسب ضروراته مثل إضافة من يعامل معه، والإعارة له والإهداء إليه بشيء يسير.
م: (أما الأول) ش: أي إعتاق عبده على مال م: (فلأنه إسقاط الملك عن رقبته وإثبات الدين في ذمة المفلس فأشبه الزوال بغير عوض، وكذا الثاني) ش: وهو بيع عبده على مال فلأنه إسقاط الملك عن رقبته وإثبات الدين في ذمة المفلس.
وكذا الثاني وهو بيع عبد من نفسه م: (لأنه إعتاق على مال في الحقيقة. وأما الثالث) ش: وهو تزويج عبده م: (فلأنه تنقيص للعبد وتعييب له) ش: لأن من اشترى عبدا ووجد له زوجة يتمكن من الرد بذلك العيب م: (وشغل رقبته بالمهر والنفقة، بخلاف تزويج الأمة؛ لأنه اكتساب لاستفادته المهر على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: وإن زوج أمته جاز لأنه اكتساب للمال. م: (قال وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب) ش: في جميع ما ذكر، أي يجوز لهما تزويج أمته وكتابة عبده، وبه قال مالك وأحمد.(10/393)
لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب، ولأن في تزويج الأمة والكتابة نظرا له ولا نظر فيما سواهما والولاية نظرية. قال: فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يزوج أمته، وعلى هذا الخلاف المضارب والمفاوض والشريك شركة عنان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن أحمد يجوز إعتاقهما على مال أيضا. وقال الشافعي لا يملكان كالمكاتب شيئا من ذلك م: (لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب، ولأن في تزويج الأمة والكتابة نظرا له) ش: أما في تزويج الأمة فلما مر آنفا. وأما في الكتابة فلأنه بالعجز يرد رقيقا، فربما كان العجز بعد أداء نجوم، وذلك لا شك في كونه نظرا م: (ولا نظر فيما سواهما) ش: أي ما سوى تزويج الأمة والكتابة م: (والولاية نظرية) ش: هذا الكلام في معرض التعليل، يعني إنما لا يجوز سواهما، لأن ولايتهما نظرية ولا نظر في غيرهما.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فأما المأذون له) ش: أي العبد المأذون له في التجارة م: (فلا يجوز له شيء من ذلك) ش: أي مما ذكر من الأشياء. وفي بعض النسخ فلا يملك شيئا من ذلك م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يزوج أمته) ش: أي للمأذون تزويج أمته م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (المضارب والمفاوض والشريك شركة عنان) ش: قال السفناقي: الأصل في هذا أن كل من كان تصرفه عاما في التجارة وغيرها يملك تزويج الأمة كالأب والوصي والجد والمفاوض والمكاتب والقاضي وأمين القاضي وكل من كان تصرفه خاصا في التجارة كالمضارب وشريك العنان والمأذون لا يملك تزويج الأمة عند أبي حنيفة ومحمد، كذا ذكره الإمام قاضي خان والمحبوبي.
قلت: وعن هذا قال الكاكي قيل لفظ المفاوض هاهنا سهو من المكاتب لما أن المفاوض كالمكاتب. وقال صاحب العناية ذكر في بعض الشروح أن المفاوض يجوز له أن يكاتب عبد الشركة بلا خلاف. واستدل بنقل عن الكرخي وغيره ليس فيه ذكر الخلاف. وقال: ترك ذكر الخلاف دليل على الاتفاق وفيه ما فيه.
قلت: أراد ببعض الشروح شرح الأترازي فإنه قال في قوله وعلى هذا الخلاف المضارب ... إلى آخره.
ولنا في هذا النقل نظر، لأن المفاوض يجوز له تزويج الأمة بالاتفاق ولا يجوز ذلك من أحد شريكي العنان عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا ترى إلى ما نص الكرخي في " مختصره " في باب المفاوضة: ويجوز لأحد المفاوضين أن يكاتب عبيد التجارة ويأذن لهم في التجارة، ولا يجوز أن يعتق شيئا من رقيق التجارة على مال، ولا يجوز أن يزوج العبد أيضا،(10/394)
هو قاسه على المكاتب واعتبره بالإجارة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجوز أن يزوج الأمة، ويجوز أن يدفع المال مضاربة، إلى هنا لفظ الكرخي وذكر تزويج الإماء للمفاوض بلا ذكر الخلاف كما ترى، وكذلك أثبته القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه.
وفي شرح " الكافي ": ولأحد المفاوضين أن يكاتب عبدا من تجارتهما وله أن يأذن له في التجارة وليس له أن يعتق على مال ولا أن يزوج الأمة، وليس لشريك العنان أن يزوج الأمة ولا أن يكاتب، وكذلك المضارب.
وقال الفقيه أبو الليث في شرح " الجامع الصغير " فهؤلاء الأصناف الأربعة لا يجوز عتقهم عن مال، ويجوز كتابتهم. وفي الاستحسان وفي قول بشر لا تجوز كتابتهم، وإن زوج أحد من هؤلاء أمة جاز النكاح بالاتفاق. انتهى. وأراد بالأصناف الأربعة الأب والوصي والشريك المفاوض والمكاتب، ثم قال الفقيه ولو كان عبدا مأذونا أو شريك عنان أو مضاربا زوج أحد هؤلاء الثلاثة لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- ويجوز في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يجوز كتابة هؤلاء النفر الثلاثة بالاتفاق. ولو زوج أحد من هؤلاء النفر الثلاثة أو من النفر الأربعة التي ذكرنا العبد امرأة لم يجز بالاتفاق.
وفي شرح الطحاوي: الأب والوصي والمفاوض لا يملكون العتق على مال ويملكون الكتابة، وهؤلاء الثلاثة يملكون تزويج الأمة وليس لهم تزويج العبد. وأما الصبي المأذون والعبد المأذون والشريك شركة عنان والمضارب لا يجوز الكتابة ولا تزويج العبد بالإجماع، وفي تزويج الأمة اختلاف عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز، انتهى. فعلم أن المفاوض لا خلاف فيه في تزويجه الأمة.
م: (هو قاسه) ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قاس المأذون في جواز تزويج الأمة م: (على المكاتب) ش: حينئذ يجوز له تزويج الأمة م: (واعتبره بالإجارة) ش: أي اعتبر التزويج بالإجارة، فإن المأذون له يجوز له أن يؤجر عبده وأمته، فكذلك يجوز له أن يزوج أمته.
فإن قلت: لم اختار لفظ القياس في الأول والاعتبار في الثاني.
قلت: نقل الأترازي عن بعضهم أنه قال: استعمل لفظ القياس في المعنيين وهما المأذون والمكاتب ولفظ الاعتبار في الفعلين وهما التزويج والإجارة، لأن المماثلة بين هذين المعنيين ظاهرة إذا لكل منهما، فك الحجر وإطلاق التصرف فاستعمل لفظ القياس كذلك. وأما في هذين الفعلين فالمماثلة بينهما من حيث الفعلية لما أن الإجارة من المعاوضات المالية من الجانبين، بخلاف التزويج، فكان استعمال لفظ الاعتبار أليق.
وقال صاحب العناية: فيه نظر لأن المراد بالقياس إن كان هو الشرع فذلك لا يكون بين(10/395)
ولهما أن المأذون له يملك التجارة، وهذا ليس بتجارة، فأما المكاتب يملك الاكتساب، وهذا اكتساب. ولأنه مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة دون الإجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال ولهذا لا يملك هؤلاء كلهم تزويج العبد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عينين، وإن كان غير ذلك فلا نسلم أولويته.
قلت: المراد من القياس معناه اللغوي، وهو التقدير، يقال قاس الطبيب الجراحة إذا قدر بالمسمار غورها، والمساواة أيضا يقاس الفعل بالفعل، أي ساوى أحدهما بالآخر وجعله على مثاله، وهذا المعنى ظاهر بين المأذون والمكاتب، لأن بينهما مساواة في فك الحجر وإطلاق التصرف، والاعتبار رد الشيء إلى نظيره، فاستعمال هذا بين التزويج والإجارة، لأن أحدهما نظير للآخر في الفعلية؛ لأن كل منهما تصرف مطلقا ودعوى صاحب العناية - رَحِمَهُ اللَّهُ - الترادف بين القياس والاعتبار غير ظاهرة تحتاج إلى برهان.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- م: (أن المأذون له يملك التجارة، وهذا) ش: أي تزويج الأمة م: (ليس بتجارة) ش: لأنه ليس مبادلة المال بالمال والتجارة كذلك م: (فأما المكاتب يملك الاكتساب، وهذا) ش: أي تزويج الأمة م: (اكتساب) ش: لأنه اسم لما يوصل به المال، وبالتزويج يصل المولى إلى المهر، فكان اكتسابا.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن تزويج الأمة، وهذا دليل آخر م: (مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة) ش: أراد أن اعتبار التزويج بالكتابة أولى من اعتباره بالإجارة، لأن التزويج مبادلة المال بغير المال، وكذا الكتابة في الابتداء مبادلة مال بغير المال م: (دون الإجارة) ش: يعني لا يعتبر بالإجارة م: (إذ هي) ش: أي الإجارة م: (مبادلة المال بالمال) ش: لأن المنفعة قائمة مقام العين، فيكون في حكم المال، ولهذا يصلح مهرا في النكاح وانتفاء النكاح شرع بالمال م: (ولهذا) ش: أي ولأن التزويج ليس من التجارة م: (لا يملك هؤلاء كلهم تزويج العبد) ش: أي المكاتب والمأذون والمضارب والمفاوض وشريك العنان؛ لأن تزويج العبد ليس من التجارة؛ لأنه ليس مبادلة المال بالمال ولا هو من اكتساب المال. وقال أبو الخطاب الحنبلي يجوز للمكاتب تزويج عبد، ولنا ما ذكرناه.(10/396)
فصل قال: وإذا اشترى المكاتب أباه وابنه دخل في كتابته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان من يدخل في الكتابة]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان من يدخل في الكتابة، وبين فيما مضى من يدخل أصلا. وهاهنا يبين من يدخل تبعا، والتبع يلي الأصل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا اشترى المكاتب أباه وابنه دخل في كتابته) ش: هاهنا أمور، الأول: أنه قدم أباه على ابنه للتعظيم.
وأما في ترتيب قوة الدخول في كتابته فالابن مقدم على الأب، سواء كان مولودا في الكتابة أو مشترى، والمولود مقدم على المشترى، فإن المولود يظهر في حقه جميع أحكام الكتابة بطريق التبعية فإنه يحرم بيعه حال حياته ويقبل منه الكتابة على نجوم الأب والمشترى يحرم بيعه حال الحياة ويقبل منه البدل بعد موت الأب حالا، ولا يمكن من السعاية على نجوم الأب ليظهر نقصان حاله عن المولود في الكتابة في التبعية. وأما الأب فإنه يحرم بيعه حالة حياة ابنه المكاتب ولم يقبل منه البدل بعد موته لا حالا ولا مؤجلا.
الثاني: أنه قال دخل في الكتابة ولم يقل صار مكاتبا لكان أصلا ولبقيت كتابته بعد عجز المكاتب الأصلي وليس كذلك، بل إذا عجز المكاتب مع الأب لما أن كتابة الداخل بطريق التبعية لا الأصالة.
الثالث: أن حكم أمه إذا اشتراها مثل أبيه أو ابنه ولم يذكرها اكتفاء بالأب، ولو ذكرها كان أولى، وهؤلاء كلهم يدخلون في كتابته تبعا له، حتى يردون إلى الرق بعجزه كما نبهنا عليه.
وفي " الأجناس ": لو اشترى المكاتب أباه أو جده أو ولده أو أمه، ليس له بيعهم في قول أبي حنيفة. وقالا: ليس له بيع هؤلاء. وفي المجرد قال أبو حنيفة: للمكاتب أن يكاتب أبوه وأولاده المشتراة، فدل أنهم لم يكاتبوا عليه، هكذا ذكر صاحب " الأجناس ".
الرابع: يحتاج إلى بيان الفرق بين المشتري في الكتابة من الأولاد بين ما إذا كاتب عبدا على نفسه ولد الصغير، فإنه إذا أعتق المشتري لم يسقط من البدل شيء. وإذا أعتق الصغير سقط من البدل ما يخصه وهو أن المشتري تبع من كل وجه ولا معتبر به في أمر البدل لتقرره قبل دخوله في الكتابة وأما الصغير فقد كان مقصودا بالعقد من وجه وكان البدل في مقابلته ومقابلة والده، فلهذا يسقط ما يخصه.(10/397)
لأنه من أهل أن يكاتب وإن لم يكن من أهل الإعتاق فيجعل مكاتبا تحقيقا للصلة بقدر الإمكان، ألا ترى أن الحر متى كان يملك الإعتاق يعتق عليه،
وإن اشترى ذا رحم محرم منه لأولاد له لم يدخل في كتابته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا يدخل اعتبارا بقرابة الولادة إذ وجوب الصلة ينتظمهما، ولهذا لا يفترقان في الحر في حق الحرية. وله أن للمكاتب كسبا لا ملكا غير أن الكسب يكفي للصلة في الولاد، حتى إن القادر على الكسب يخاطب بنفقة الوالد والولد، ولا يكفي بغيرها حتى لا تجب نفقة الأخ إلا على الموسر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخامس: أن شراءه ذوي أرحامه يجوز عندنا وعند الثلاثة لا يجوز؛ لأنه تصرف تبرع كالإعتاق. وقال القاضي الحنبلي يجوز؛ لأنه تصرف لا ضرر فيه من السيد، أما لو اشترى قريبه بإذن السيد ففي صحته للشافعي قولان. وعن أبي إسحاق المروزي من أصحابه القطع بالصحة، وعند أحمد يجوز، ثم على قول الصحة يتكاتب عليه ثم في كل تصرف لا يجوز للمكاتب فإذا فعله بإذن السيد للشافعي فيه قولان في قول يجوز وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله.
م: (لأنه) ش: أي لأن المكاتب م: (من أهل أن يكاتب) ش: على وزن بناء الفاعل م: (وإن لم يكن من أهل الإعتاق فيجعل مكاتبا) ش: بكسر التاء م: (تحقيقا للصلة بقدر الإمكان، ألا ترى أن الحر متى كان يملك الإعتاق يعتق عليه) ش: أراد أن الحر إذا ملك لذي رحم محرم يعتق عليه تحقيقا لصلة الرحم، فكذا إذا ملك المكاتب قريبه يتكاتب عليه تحقيقا لصلة الرحم بقدر الإمكان.
[الحكم لو اشترى المكاتب ذا رحم محرم منه لأولاد له]
م: (وإن اشترى ذا رحم محرم منه لأولاد له) ش: كالأخ والأخت والعم والعمة م: (لم يدخل في كتابته عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا يدخل اعتبارا بقرابة الولادة إذ وجوب الصلة ينتظمهما) ش: أي ينتظم قرابة الولادة وذا الرحم المحرم غير الولادة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن وجوب الصلة ينتظم القبلين م: (لا يفترقان في الحر في حق الحرية) ش: أي إذا اشترى الحر أباه يعتق عليه فكذا إذا اشترى أخاه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن للمكاتب كسبا لا ملكا) ش: لوجود ما ينافيه وهو الرق، ولهذا لا يفسد نكاح امرأته لو اشتراها وتحل الصدقة له، وإن أصاب كسبا ولا يملك الهبة كذا في الأسرار م: (غير أن الكسب يكفي للصلة في الولاد) ش: أراد أن قدرته على الكسب توجب الصلة في قرابة الولادة م: (حتى إن القادر على الكسب يخاطب بنفقة الوالد والولد) ش: وإن لم يكن موسرا م: (ولا يكفي بغيرها) ش: أي ولا يكفي الكسب بغير الصلة م: (حتى لا يجب نفقة الأخ) ش: المعسر على الأخ المعسر، وإن كان يقدر على الكسب والدخول في الكتابة بطريق الصلة فيختص بموضع وجوب الصلة م: (إلا على الموسر) ش: أي على الأخ(10/398)
ولأن هذه قرابة توسطت بين بني الأعمام وقرابة الولاد فألحقناها بالثاني في العتق، وبالأول في الكتابة وهذا أولى؛ لأن العتق أسرع نفوذا من الكتابة حتى إن أحد الشريكين إذا كاتب كان للآخر فسخه، وإذا أعتق لا يكون له فسخه.
قال: وإذا اشترى أم ولده دخل ولدها في الكتابة ولم يجز بيعها، ومعناه إذا كان معها ولدها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الموسر.
م: (ولأن هذه قرابة) ش: أي قرابة الأخوة م: (توسطت بين بني الأعمام) ش: التي هي القرابة البعيدة م: (وقرابة الولاد) ش: أي وبين قرابة الولاد التي هي القرابة القريبة. الحاصل أن الأخ يشبه بني الأعمام في حق الزكاة وحل الحيلة وقبول الشهادة وجريان القصاص، ويشبه الولاء في حرمة المناكحة واقتراض الصلة وحرمة الجمع بينهما إنكاحا.
فالمشابه للشيئين ذو حظ منهما، فعملنا بالشبهين م: (فألحقناها بالثاني) ش: أي إذا كان كذلك فألحقنا قرابة الإخوة التي هي المتوسطة بالثاني وهو قرابة الولاد م: (في العتق) ش: حتى إذا ملك الحر أخاه يعتق عليه، كما إذا ملك والد ولده م: (وبالأول في الكتابة) ش: أي ألحقناها بالأول وهو القرابة البعيدة التي أي بنو الأعمام في حكم الكتابة، حتى إذا ملك المكاتب أخاه لم يدخل في كتابته، كما إذا ملك ابن عمه عملا بالشبهين وتوفيرا لهما حفظهما.
م: (وهذا أولى) ش: أي العمل على هذا الوجه أولى من العكس م: (لأن العتق أسرع نفوذا من الكتابة، حتى إن أحد الشريكين إذا كاتب) ش: العبد المشترك بينهما م: (كان للآخر فسخه، وإذا أعتق لا يكون له فسخه) ش: أي فسخ العتق.
فلو قلنا يتكاتب عليه أخوه إذا اشتراه وجب علينا أيضا أن نقول إذا ملك الحر أخاه يعتق عليه أيضا، فحينئذ تلزم العمل بشبه قرابة بني الأعمام، فلا يبقى حينئذ قرابة الأخوة متوسطة بين القرابتين، لأن المتوسط ذو حظ من الجانبين، فما لم يعمل لهما لم يبق المتوسط متوسطا.
[الحكم لو اشترى المكاتب أم ولده]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا اشترى أم ولده دخل ولدها في الكتابة) ش: أراد اشتراء أم ولده ومعها ولده منها على ما يجيء الآن، والأصل في هذا أن المكاتب إذا اشترى امرأته لا يبطل نكاحها لعدم الملك حقيقة في رقبتها، وله ملك اليد لا يبطل النكاح م: (ولم يجز بيعها) ش: أي بيع أم ولده بعد أن اشتراها ومعها ولده منها، أما إذا اشترى امرأته ولم يكن لها ولد منه فله أن يبيعها، لأن النكاح ليس بسبب لاستحقاق الصلة، فلا يمتنع البيع بسببه، وكذا المكاتبة إذا اشترت زوجها لم يبطل نكاحها وله أن يطأها بالنكاح؛ لأنها لم تملك رقبته حقيقة.
م: (ومعناه إذا كان معها ولدها) ش: أي معنى قول محمد إذا اشترى أم ولده دخل ولدها في(10/399)
أما دخول الولد في الكتابة فلما ذكرناه. وأما امتناع بيعها فلأنها تبع للولد في هذا الحكم. قال عليه الصلاة والسلام: «أعتقها ولدها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكتابة ولم يجز بيعها إذا كان منها ولدا م: (أما دخول الولد في الكتابة فلما ذكرناه) ش: أراد به ما ذكره في أول الفصل؛ لأنه من أهل أن يكاتب م: (وأما امتناع بيعها فلأنها تبع للولد في هذا الحكم) ش: أي في حكم الحرية.
فإن قلت: إذا ثبت للولد حقيقة فينبغي أن لا يثبت للأم حقها، وهاهنا ثبت للولد حق الحرية، فينبغي أن لا يثبت للأم تحقيقا لانحطاط رقبتها عن الولد.
قلت: للكتابة أحكام منها عدم جواز البيع فيثبت للأم هذا الحكم دون الكتابة تحقيقا لانحطاط رتبتها.
فإن قلت: لم لا تصير مكاتبة تبعا للولد.
قلت: العقد إنما ورد على المكاتب، والولد جزؤه، فيكون واردا عليه بخلاف الأم.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أعتقها ولدها ") » ش: أورده دليلا على عدم جواز بيع أما الولد المذكور؛ لأنها عتقت بعتق ولدها؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر بهذا، ثم هذا الحديث أخرجه البيهقي من رواية أبي أويس وأبي بكر بن أبي سبرة عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس ولم يذكر أبو أويس «ابن عباس قال: لما ولدت أم إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال " أعتقها ولدها» .
ثم البيهقي رواه من حديث زياد بن أيوب نا بقية عن سعيد بن زكريا عن ابن أبي بشارة عن ابن أبي حسين عن عكرمة «عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتقها ولدها» ثم قال: ولحديث عكرمة علة عجيبة، ثم روى عن سعيد بن مسروق عن عكرمة عن عمر قال: «أعتقها ولدها، وإن كان سقطا» .
ثم روى عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر نحوه، قال فعاد الحديث إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم جعله الصحيح.
قلت: هاتان قضيتان مختلفتان لفظا، روى عكرمة إحداهما مرفوعة والأخرى موقوفة، فلا تعلل إحداهما بالأخرى. وقد أخرج الحاكم في " المستدرك " الرواية المرفوعة وقال صحيح الإسناد ثم ذكر لها متابعة. وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عاصم عن أبي بكر النهشلي عن حسين بن عبد الله، والنهشلي أخرج له مسلم ووثقه جماعة. وقد جاء للحديث متابعة من وجه آخر بسند جيد.(10/400)
وإن لم يكن معها ولدها فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأنها أم ولد خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وله أن القياس أن يجوز بيعها وإن كان معها ولد؛ لأن كسب المكاتب موقوف فلا يتعلق به ما لا يحتمل الفسخ، إلا أنه يثبت هذا الحق فيما إذا كان معها ولد تبعا لثبوته في الولد بناء عليه وبدون الولد لو ثبت يثبت ابتداء والقياس ينفيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال ابن حزم: روينا من طريق قاسم بن أصبغ حدثنا مصعب عن محمد حدثنا عبيد الله ابن عمر هو الوقي عن عبد الكريم الحريري عن عكرمة عن «ابن عباس قال: " لما ولدت مارية أم ابراهيم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتقها ولدها» ثم قال ابن حزم: وهذا خبر جيد السند كل رواته ثقات. وقال في كتاب البيوع صحيح السند وقد بسطنا الكلام فيه في باب الاستيلاد.
م: (وإن لم يكن معها ولدها فكذلك الجواب) ش: يعني لم يجز بيعها م: (في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - ولأنها أم ولد، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن القياس أن يجوز بيعها وإن كان معها ولد، لأن كسب المكاتب موقوف) ش: أي متردد بين أن يؤدي البدل فيعتق وما فضل من البدل له، وبين أن يعجز فيعود هو وماله للمولي.
ولهذا لا يفسد نكاح امرأته بشرائها ولا تصح تبرعاته فعلم أنه لا ملك له م: (فلا يتعلق به) ش: أي بكسبه م: (ما لا يحتمل الفسخ) ش: وهو الاستيلاد إذ لو تعلق لكان كسبه غير محتمل للفسخ أو كان الاستيلاد محتملا للفسخ، وكلاهما لا يجوز. والتحرير أن كسبه موقوف وكل موقوف يقبل الفسخ فكسب المكاتب يقبل الفسخ، وما يقبل الفسخ لا يجوز أن يتعلق به ما لا يقبل الفسخ كالاستيلاد، لأن ما لا يقبله أقوى من الذي يقبله والأقوى لا يجوز أن يكون تبعا للأدنى.
م: (إلا أنه يثبت هذا الحق) ش: وهو امتناع البيع م: (فيما إذا كان معها ولد تبعا لثبوته) ش: أي لثبوت امتناع البيع م: (في الولد بناء عليه وبدون الولد لو ثبت) ش: هذا الحق م: (يثبت ابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر م: (والقياس ينفيه) ش: يعني لا نص فيه يترك به القياس، بخلاف ما إذا كان معها الولد.
فإن قلت: القياس كما ينفيه ابتداء ينفيه مع الولد على ما ذكر في أول الدليل فخصص نفيه بالابتداء مع أنه مناف لصدر الكلام تحكم.
قلت: ليس بتحكم وإنما هو من باب الاستحسان بالأثر، وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها(10/401)
وإن ولد له ولد من أمة له دخل في كتابته لما بينا في المشترى فكان حكمه كحكمه وكسبه له؛ لأن كسب الولد كسب كسبه ويكون كذلك قبل الدعوة. فلا ينقطع بالدعوة اختصاصه. وكذلك إن ولدت المكاتبة ولدا؛ لأن حق امتناع البيع ثابت فيها مؤكدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولدها:» ، ولا شك أن الولد إنما يعتق الأم إذا ملكه الأب.
[الحكم لو ولد للمكاتب ولد من أمة له]
م: (وإن ولد له ولد من أمة له دخل في كتابته لما بينا) ش: أشار به إلى قوله؛ لأنه من أهل أن يكاتب وإن لم يكن من أهل العتق م: (في المشترى) ش: أي في الولد المشترى.
فإن قلت: المكاتب لا يملك التسري ولا وطء أمته وبه قالت الثلاثة، فمن أين له ولد حتى يدخل في كتابته.
قلت: نعم، إلا أن له في ملك مكاتبه يدا كالحر، وذلك يكفي لثبوت النسب منه عند الدعوة وإن لم يحل وطؤه كما في الجارية المشتركة، وجارية الابن إذا وطئها الأب وادعى الولد، والدليل على أن المكاتب مثل الحر في ادعاء ما ذكره في المبسوط بقوله جارية بين حر ومكاتب ولدت فادعاه المكاتب قال الولد ولده، والجارية أم ولد له، ويضمن نصف عقرها ونصف قيمتها.
ولا يضمن من قيمة الولد شيئا؛ لأن المكاتب بماله في حق الملك في كسبه يملك الدعوة كالحر، فبقيام الملك فه في نصفها هنا يثبت نسب الولد منه من وقت العلوق، ويثبت لها حق أمية الولد في حق امتناع البيع تبعا لثبوت حق الولد.
م: (فكان حكمه كحكمه) ش: أي حكم الولد كحكم المكاتب، وبه قالت الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وعند الظاهرية ولده من جاريته حر وهل تصير الأمة أم ولد له؟، للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه قولان، أحدهما أنها تصير أم ولد له، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والثاني لا تصير أم ولد له، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكسبه له) ش: أي كسب الولد لوالده م: (لأن كسب الولد كسب كسبه) ش: إذ الولد كسبه م: (ويكون كذلك قبل الدعوة) ش: بكسر الدال، أي قبل دعوة النسب، أراد أن الولد والكسب كانا له قبل الدعوة م: (فلا ينقطع بالدعوة اختصاصه) ش: أي اختصاص المكاتب بكسب ولده، أراد اختصاصاه الذي كان ثابتا قبل الدعوة.
م: (وكذلك إن ولدت المكاتبة ولدا) ش: أي من زوجها أو من زنا يدخل في كتابتها، وبه قالت الثلاثة م: (لأن حق امتناع البيع ثابت فيها مؤكدا) ش: أي مقررا، فصار من الأوصاف القارة الشرعية، والأوصاف القارة الشرعية في الأمهات كالتدبير والاستيلاد والحرية والرق يسري إلى الأولاد، فأشار إلى ذلك بقوله مؤكدا، واحترز به عن ولد الآبقة، فإن بيعها لا يجوز وبيع(10/402)
فيسري إلى الولد كالتدبير والاستيلاد. قال: ومن زوج أمته من عبده ثم كاتبها فولدت منه ولدا دخل في كتابتها وكان كسبه لها؛ لأن تبعية الأم أرجح ولهذا يتبعها في الرق والحرية، قال: وإن تزوج المكاتب بإذن مولاه امرأة زعمت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولدها يجوز، لأن امتناع البيع في الآبقة غير مؤكد إذ الإباق مما لا يدوم، وكذا بيع المستأجرة والحابية، فإن الأمة إذا اتصفت بهما امتنع بيعها إلا مقرونا بشيء، لكنه ليس بمؤكد.
فقولهم الأوصاف القارة احترازا عن مثل هذين الوصفين. وقولهم الشرعية احترازا عن السواد والبياض والطول القصر، فإنها لا تسري، وإذا سرت كتابتها إلى ولدها لم يجز بيعه كما لم يجز بيع أمه، وقال الشافعي في قول: إن للولد ملك المولى فيتصرف فيه كيف شاء.
م: (فيسري إلى الولد) ش: أي يسري هذا الوصف وهو حق امتناع البيع إلى الولد م: (كالتدبير والاستيلاد) ش: أي كما يسري الوصف الثابت المؤكد في المدبر وأم الولد إلى أولادها.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن زوج أمته من عبده ثم كاتبها فولدت منه ولدا دخل في كتابتها) ش: هذا أيضا بناء على أن الأوصاف القارة الشرعية في الأمهات تسري إلى الأولاد، ولهذا كان الولد داخلا في كتابة الأم م: (وكان كسبه لها؛ لأن تبعية الأم أرجح) ش: لما ذكرنا أن الأوصاف القارة الشرعية في الأمهات تسري إلى الأولاد. ثم استوضح ذلك بقوله م: (ولهذا يتبعها في الرق والحرية) ش: أي يتبع الولد الأم.
وقع في بعض النسخ دخل في كتابتها وكسبه لها، أي في الدخول يتبعها خاصة والأول هو الأوجه، لأن فائدة الدخول هو الكسب، فإن قد ذكر في " المبسوط ": لو قتل الابن قاتل خطأ فقيمته للأبوين جميعا، ولا يختص بها الأم فينبغي أن تكون في مسألتنا كذا.
قلت: تلك المسألة متصورة فيما إذا قبل الوالدين الكتابة عليه، وحالهما في ذلك سواء، إذ لا ولاية لهما عليه، ولا يمكن جعل تلك القيمة للمولى، لأن الولد صار مكاتبا بقبولهما، فلم يبق للمولى سبيل على كسبه وعلى قيمة رقبته فلا بد أن تؤخذ القيمة عنه فتكون للأبوين لأنهما كانا ينفقان عليه في حياته، وكانا أحق بحضانته.
وأما الولد المولود في الكتابة، فإن ثبوت الكتابة هاهنا بطريق التبعية وجانب الأم يترجح في ذلك؛ لأنه جزء منها، وهناك ثبوت الكتابة بالقبول وهما في القبول سواء. وفي " الكافي ": لو قبل المولود في الكتابة يكون قيمته للأم ككسبه، وبه قال الشافعي في قول، وأحمد ومالك. وفي قول للسيد؛ لأنه لا يدخل الولد في كتابتها في قول فيكون قنا للسيد يجوز بيعه وإعتاقه.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن تزوج المكاتب بإذن مولاه امرأة زعمت)(10/403)
أنها حرة فولدت منه ولدا ثم استحقت فأولادها عبيد، ولا يأخذهم بالقيمة، وكذلك العبد يأذن له المولى بالتزوج، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أولادها أحرار بالقيمة؛ لأنه شارك الحر في سبب ثبوت هذا الحق وهو الغرور، وهذا لأنه ما رغب في نكاحها إلا لينال حرية أولاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي ادعت م: (أنها حرة فولدت منه ولدا، ثم استحقت فأولادها عبيد ولا يأخذهم) ش: أي المكاتب لا يأخذ الأولاد م: (بالقيمة) ش: أي بقيمة يؤديها إلى المستحق عندهما على ما يأتي.
م: (وكذلك العبد يأذن له المولى بالتزوج) ش: فتزوج لقوله من زوجة ثم استحقت فإن ولده عبد عندهما ولا يأخذ بالقيمة م: (وهذا) ش: أي الحكم الذي ذكرنا في الوجهين م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولادها أحرار بالقيمة) ش: وبه قال زفر والثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول كقولهما وأكثرهم ذكروا قول أبي يوسف مع أبي حنيفة إلا أن أبا الليث ذكر قول أبي يوسف مع محمد وما ذكره الجمهور أصح؛ لأنه قول المرجوع إليه، وبه صرح القدوري في كتاب التقريب، فقال قال أبو حنيفة وًأبو يوسف لا يثبت للعبد حكم الغرور وأولاده عبيد.
وروى زفر عن أبي حنيفة أنه يكون مغرورا، وهو قول أبي يوسف الأول، وذكر رجوعه في الدعوى. وقال محمد أولاده أحرار ثم على قول محمد إن كان التزوج من هؤلاء أعني العبد والمكاتب والمدبر بإذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر في الحال. وإن كان بغير إذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر بعد العتق، هذا إذا غرته المرأة بقولها أنها حرة أو غرها بأن زوجها منه حر على أنها حرة، فإن الأب يرجع بقيمة الولد على الزوج في الحال، وإن كان الذي غره عبدا أو مدبرا أو مكاتبا فلا رجوع له عليهم حتى يعتقوا، سواء كان العبد مأذونا له أو لم يكن.
وأما إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة فأخبره رجل أنها حرة ولم يزوجها أباها أو تزوجها رجل على ظن أنها حرة وما قالت زوجني فإني حرة فإنه لا يرجع على المخبر ولا على المرأة ولكن يرجع بقيمة الولد على الأمة إذا أعتقت؛ لأنها غرته حين زوجت نفسها على أنها حرة وضمان الغرور كضمان الكفالة.
م: (لأنه) ش: أي لأن المكاتب م: (شارك الحر في سبب ثبوت هذا الحق) ش: وهو كون الأولى حرا بالقيمة م: (وهو الغرور) ش: أي سبب ثبوت هذا الحق هو الغرور وهما مشتركان فيه م: (وهذا) ش: أي وجه اشتراكهما في هذا السبب م: (لأنه) ش: أي لأن المكاتب م: (ما رغب في نكاحها) ش: أي في نكاح تلك المرأة التي زعمت أنها حرة م: (إلا لينال حرية أولاده) ش: وفي بعض النسخ حرية الأولاد.(10/404)
ولهما أنه مولود بين رقيقين، فيكون رقيقا، وهذا لأن الأصل أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية وخالفنا هذا الأصل في الحر بإجماع الصحابة، وهذا ليس في معناه؛ لأن حق المولى هناك مجبور بقيمة ناجزه وهاهنا بقيمة متأخرة إلى ما بعد العتاق فيبقى على الأصل فلا يلحق بالمكاتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أنه مولود بين رقيقين) ش: لأن أباه رقيق ما دام في الكتابة وأمه ظهرت رقبتها بثبوت الاستحقاق م: (فيكون رقيقا) ش: كما إذا كان عالما بحالها م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن الأصل أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية) ش: يعني لأن القياس اتباع الولد الأم في الرق والحرية؛ لأنه جزؤها.
م: (وخالفنا هذا الأصل) ش: أي تركنا هذا القياس المذكور م: (في الحر) ش: أي فيما إذا كان الرجل حرا م: (بإجماع الصحابة) ش: فيه نظر لوجود الاختلاف من الصحابة على ما روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " في البيوع، حدثنا أبو بكر بن عياش عن مطرف عن عامر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في رجل اشترى جارية فولدت منه أولادا ثم أقام رجل البينة أنها له قال ترد عليه ويقوم عليه ولدها فيغرم الذي باعها ما غرمه.
قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن أبي قسيط عن سليمان بن يسار أن أمة أتت قوما فغرتهم وزعمت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت له أولادا فوجدها أمة فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقيمة أولادها في كل مغرور غره، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن خلاس: أن أمة أتت ناسا فزعمت أنها حرة فتزوجها رجل ثم إن سيدها ظهر عليها فقضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها وأولادها لسيدها وجعل لزوجها ما أدرك من متاعه.
م: (وهذا) ش: أي ولد المكاتب م: (ليس في معناه) ش: أي ليس في معنى ولد الحر م: (لأن حق المولى هناك) ش: أي في مسألة الحر م: (مجبور بقيمة ناجزة) ش: أي حالة أراد أن الحكم حرية الولد مع مراعاة حق المستحق وهو المولى بإيجاب قيمته في الحال م: (وهاهنا بقيمة متأخرة إلى ما بعد العتاق) ش: فكان المانع من الإلحاق به موجودا وهو الضرر اللاحق بالمستحق بالتأخير م: (فيبقى على الأصل) ش: وهو أن يكون الولد تابعا لها م: (فلا يلحق بالمكاتب) ش: في هذا الحكم.
واعلم أن قوله لأن حق المولى هناك تجوز بقيمة ناجزة.. إلى آخره يدل على أن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاد المكاتب في الصورة المذكورة أحرار بقيمة متأخرة إلى ما بعد العتق، وهكذانص عليه في شرح " الجامع الصغير "، وفي " المبسوط " خلاف هذا وهو أن قيمة الأولاد والمهر يجب في الحال لوجود الإذن من المولى.(10/405)
قال: وإن وطئ المكاتب أمة على وجه الملك بغير إذن المولى ثم استحقها رجل فعليه العقر يؤخذ به في الكتابة، وإن وطئها على وجه النكاح لم يؤخذ به حتى يعتق، وكذلك المأذون له. ووجه الفرق أن في الفصل الأول ظهر الدين في حق المولى لأن التجارة وتوابعها داخلة تحت الكتابة وهذا العقر من توابعها؛ لأنه لولا الشراء لما سقط الحد وما لم يسقط الحد لا يجب العقر، أما لم يظهر في الفصل الثاني؛ لأن النكاح ليس من الاكتساب في شيء فلا ينتظمه الكتابة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[وطئ المكاتب أمة على وجه الملك]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن وطئ المكاتب أمة على وجه الملك) ش: يعني اشترى مكاتب أمة بشراء صحيح ووطئها م: (بغير إذن المولى) ش: والباقية تتعلق بقوله وطئ، وإنما قال بغير إذن المولى ليتبين به فائدة هذا الحكم في إذن المولى، فلأن يؤاخذ به الإذن بالطريق الأولى.
ألا ترى أنه يفترق هذا فيما إذا وجد الوطء في النكاح فإنه لو كان مأذونا بالنكاح فنكحها ووطئها يؤاخذ بمهرها في الحال. ولو لم يكن مأذونا به لا يؤاخذ بالمهر في الحال بل يؤخر إلى ما بعد العتق م: (ثم استحقها رجل فعليه العقر) ش: أي مهر المثل م: (يؤخذ به في الكتابة) ش: في حال الكتابة من غير تأخير إلى الإعتاق.
م: (وإن وطئها على وجه النكاح) ش: أي بغير إذن المولى بالنكاح م: (لم يؤخذ به) ش: أي بالعقر م: (حتى يعتق، وكذلك المأذون له) ش: أي العبد المأذون له في التجارة سواء كان قنا أو مدبرا. حكمه كذلك.
م: (ووجه الفرق) ش: أي بين الوطء على وجه الملك والوطء بالنكاح م: (أن في الفصل الأول) ش: وهو الوطء على وجه الملك م: (ظهر الدين في حق المولى، لأن التجارة وتوابعها) ش: توابع التجارة كالإعارة والضيافة والهدية اليسيرة، ولكن المراد هنا هو العقر فإنه من توابع التجارة؛ لأنه لولا الشراء لما لزم العقر بل لزم الحد فصار وجوب العقر ملحقا بدين التجارة؛ لأنه من التوابع فتكون م: (داخلة تحت الكتابة) ش: لأنه إنما ملك الشراء بسبب الكتابة.
فالحاصل أن الكتابة أوجبت الشراء، والشراء أوجب سقوط الحد، وسقوط الحد أوجب العقر، فالكتابة أوجبت العقر، وهو معنى قوله م: (وهذا العقر) ش: أي الذي وجب على المكاتب بسبب وطء المشتراة م: (من توابعها) ش: أي من توابع الكتابة م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لولا الشراء لما سقط الحد وما لم يسقط الحد لا يجب العقر، أما لم يظهر في الفصل الثاني) ش: وهو الوطء بالنكاح م: (لأن النكاح ليس من الاكتساب في شيء فلا ينتظمه الكتابة) ش: أي فلا يشمله الكتابة.
فوجوب العقر هنا باعتبار شبهة النكاح وهو ليس من التجارة والاكتساب فيتأخر إلى ما(10/406)
كالكفالة.
قال: وإذا اشترى المكاتب جارية شراء فاسدا ثم وطئها فردها أخذ بالعقر في المكاتبة، وكذلك العبد المأذون له لأنه من باب التجارة فإن التصرف تارة يقع صحيحا ومرة يقع فاسدا والكتابة والإذن ينتظمانه بنوعيه كالتوكيل، فكان ظاهرا في حق المولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد عتقه م: (كالكفالة) ش: يعني إذا كفل المكاتب يؤخذ به الحرمة، لأن الكتابة لا ينتظمها.
[اشترى المكاتب جارية شراء فاسدا ثم وطئها فردها]
م: (قال: وإذا اشترى المكاتب جارية شراء فاسدا ثم وطئها فردها أخذ بالعقر في المكاتبة) ش: أي في حال الكتابة م: (وكذلك العبد المأذون له؛ لأنه) ش: أي لأن الشراء م: (باب التجارة، فإن التصرف تارة يقع صحيحا ومرة يقع فاسدا، والكتابة والإذن ينتظمانه) ش: أي الشراء م: (بنوعيه) ش: وهما الصحيح والفاسد م: (كالتوكيل) ش: يعني إذا وكل وكيلا يتناول الصحيح والفاسد م: (فكان) ش: أي العقر م: (ظاهرا في حق المولى) ش: لوجود الإذن منه.(10/407)
فصل قال: وإذا ولدت المكاتبة من المولى فهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة وإن شاءت عجزت نفسها وصارت أم ولد له؛ لأنها تلقتها جهتا حرية عاجلة ببدل وآجلة بغير بدل فتخير بينهما ونسب ولدها ثابت من المولى وهو حر؛ لأن المولى يملك الإعتاق في ولدها وما له من الملك يكفي لصحة الاستيلاد بالدعوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان مسائل في الكتابة]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان مسائل أخرى من هذا الباب، وأتى بها في فصل لكونها نوعا من جنس مسائل الباب.
م: (قال: وإذا ولدت المكاتبة من المولى، فهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها، وصارت أم ولد له) ش: سواء صدقته المكاتبة في ذلك أم كذبته، لأن للمولى في رقبتها حقيقة الملك، وللمكاتب حق الملك، فترجحت الحقيقة على الحق، فيثبت من غير تصديق، بخلاف ما لو ادعى ولد أمة المكاتبة، فإن ثمة لا يثبت النسب إلا بتصديق المكاتبة، لأن للمولى حق الملك في اكتسابها دون حقيقته، فيحتاج إلى التصديق م: (لأنها) ش: أي لأن الشأن، وهذا إشارة إلى دليل المتخير م: (تلقتها) ش: أي المكاتبة.
وفي بعض النسخ تلقاها م: (جهتا حرية) ش: أي جهتان للحرية، فبالإضافة سقطت النون وارتفاعها بالفاعلية بقوله تلقتها م: (عاجلة ببدل) ش: أي أحد الجهتين عاجل ببدل وهو المضي على الكتابة م: (وآجلة بغير بدل) ش: أي الأخرى آجل بلا بدل، وهو أن تعجز نفسها وتصير أم ولد فتعتق بعد موته م: (فتخير بينهما) ش: أي إذا كان أمرها دائر بين الجهتين فتخير بينهما م: (ونسب ولدها ثابت من المولى) ش: سواء جاءت به لستة أشهر أو لأكثر من ستة أشهر م: (وهو حر) ش: أي الولد لا يعلم فيه خلاف.
م: (لأن المولى يملك الإعتاق في ولدها) ش: لأن الدعوة من المولى كالتحرير، وإنه يملك تحرير ولدها من غيره قصدا، فلأن يملك ذلك ضمنا للدعوة بالطريق الأولى م: (وماله) ش: بفتح اللام، أي والذي له م: (من الملك) ش: في الجارية م: (يكفي لصحة الاستيلاد بالدعوة) ش: هذا في الحقيقة جواب عما عسى أن يتوهم أن ملك المولى في المكاتبة ناقص. فلا تصح دعوته، فقال الذي له من ملك الرقبة فيها كان لصحة الاستيلاد، وإن لم يكن له ملك اليد، وملكه فيها أقوى من ملك المكاتب في مكاتبته بدليل جواز إعتاق المولى مكاتبته دون المكاتب، والمكاتب إذا ادعى نسب الولد من مكاتبته يثبت نسبه، فلأن يثبت من المولى أولى.(10/408)
وإذا مضت على الكتابة أخذت العقر من مولاها لاختصاصها بنفسها وبمنافعها على ما قدمنا، ثم إن مات المولى عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة، وإن ماتت هي وتركت مالا تؤدي منه مكاتبتها وما بقي ميراث لابنها جريا على موجب الكتابة. فإن لم تترك مالا فلا سعاية على الولد لأنه حر. ولو ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى إلا أن يدعي لحرمة وطئها عليها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا مضت على الكتابة) ش: أراد أنها إذا اختارت الكتابة ومضت عليها م: (أخذت العقر من مولاها) ش: أي مهر المثل، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قول م: (لاختصاصها بنفسها وبمنافعها على ما قدمنا) ش: أشار به إلى قوله في فصل الكتابة الفاسدة أنها صارت أخص بأجزائها.
م: (ثم إن مات المولى) ش: يعني بعد مضيها على المكاتبة م: (عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة) ش: ولا خلاف فيه؛ لأنها التزمت المال لتسلم لها رقبتها بجهة الكتابة ولم تسلم بهذه الجهة فلم يجب البدل.
فإن قلت: كان الواجب أن لا يسقط، لأن الأكساب تسلم لها وهذا آية بقاء الكتابة.
قلت: الكتابة تشبه المعاوضة، فبالنظر إلى ذلك لا يسقط البدل، ويشبه الشرط فبالنظر إليه يسقط، ألا ترى أنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طلقها ثلاثا تبطل، فلما عتقت بالاستيلاد بطلت جهة الكتابة فعملنا بالشبهين. وقلنا بسلامة الإكساب عملا يشبه المعاوضة. وقلنا بسقوط بدل الكتابة عملا بشبه الشرط.
م: (وإن ماتت هي وتركت مالا؛ تؤدي منه مكاتبتها) ش: أي بدل كتابتها م: (وما بقي ميراث لابنها جريا على موجب الكتابة) ش: وقال أحمد: ما في يدها للسيد، وبه قال الشافعي في قول لبطلان الكتابة. فيكون العتق باستيلاد، فلا يكون ما في يدها للسيد ميراثا لابنها.
وقال مالك: من كان معها في كتابتها من ورثتها يؤدي ما بقي من الكتابة ويرث من ذكرنا ممن كان في الكتابة على قسمة الميراث، ولا يرث منها وارث آخر. قال ابن حزم: هذا قول لم يعرف من أحد وخلاف القرآن والسنة والمعقول.
م: (فإن لم تترك مالا فلا سعاية على الولد؛ لأنه حر. ولو ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى) ش: بالسكوت؛ لأنه بسبب ولد أم الولد إنما يثبت بالسكوت إذا لم تكن محرم الوطء. وهذا محرم وطؤها م: (إلا أن يدعي لحرمة وطئها عليها) ش: وفي " مبسوط شيخ الإسلام " هذا إذا مضت على المكاتبة، أما لو عجزت بنفسها ولم تمض ثم ولدت فإنه يلزم المولى دون الدعوة لحل وطئها حينئذ.(10/409)
فلو لم يدع وماتت من غير وفاء يسعى هذا الولد؛ لأنه مكاتب تبعا لها. فلو مات المولى بعد ذلك عتق وبطل عنه السعاية؛ لأنه بمنزلة أم الولد إذ هو ولدها فيتبعها،
قال: وإذا كاتب المولى أم ولده جاز لحاجتها إلى استفادة الحرية قبل موت المولى وذلك بالكتابة ولا تنافي بينهما؛ لأنه تلقتها جهتا حرية، فإن مات المولى عتقت بالاستيلاد لتعلق عتقها بموت السيد وسقط عنها بدل الكتابة؛ لأن الغرض من إيجاب بدل العتق عند الأداء، فإذا عتقت قبله لا يمكن توفير الغرض عليه، فسقط وبطلت الكتابة لامتناع إبقائها من غير فائدة، غير أنه تسلم لها الأكساب والأولاد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلو لم يدع) ش: أي المولى نسب الولد الثاني م: (وماتت من غير وفاء يسعى هذا الولد؛ لأنه مكاتب تبعا لها) ش: أي لأن الولد الثاني دخل في كتابة أمه، وهذا يؤدي كتابتها على نجوم أمه م: (فلو مات المولى بعد ذلك) ش: أي بعد المكاتبة م: (عتق) ش: أي الولد الثاني م: (وبطل عنه السعاية لأنه بمنزلة أم الولد) ش: أي لأن الولد بمنزلة أم الولد م: (إذ هو ولدها) ش: أي لأنه ولدها م: (فيتبعها) ش: فهي لا تسعى بعد موت السيد، فكذا ولدها تبعا لها.
[الحكم لو كاتب المولى أم ولده أو مدبرته]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا كاتب المولى أم ولده جاز) ش: والقياس أن لا يجوز عند أبي حنيفة لعدم تقومها، فكيف يؤخذ بمقالته بدل الكتابة، لكن لو جوزه باعتبار أن عقد الكتابة ترد على المملوك ليتوصل به إلى ملك اليد والمكاتب في المال والحرية في ثاني الحال م: (لحاجتها إلى استفادة الحرية قبل موت المولى) ش: كحاجة غيرها م: (وذلك بالكتابة) ش: فكان جائزا م: (ولا تنافي بينهما) ش: أي بين الكتابة والاستيلاد.
وهذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: أحد ما يقتضي العتق ببدل والآخر بلا بدل، والعتق الآخر لا يثبت بهما فكانا متنافيين، فقال لا تنافي بينهما م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (تلقتها جهتا حرية) ش: وهما حصول الحرية بالبدل معجلا، وحصولها بلا بدل مؤجلا. وقال: أي القاضي من أصحاب الشافعي: لا يجوز كتابة أم الولد؛ لأن الشافعي قال إذا استولد المكاتبة صارت أم الولد بحالها، وبه قال أحمد.
م: (فإن مات المولى عتقت بالاستيلاد) ش: يعني إن مات المولى قبل أداء بدل الكتابة ولفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا مات المولى سقط عنها مال الكتابة، هكذا أثبته في " شرح الأقطع "، قال الحاكم الشهيد في " الكافي ": فإن مات المولى قبل أن تؤدى عتقت ولا شيء عليها م: (لتعلق عتقها بموت السيد وسقط عنها بدل الكتابة، لأن الغرض من إيجاب بدل العتق عند الأداء، فإذا عتقت قبله لا يمكن توفير الغرض عليه) ش: أي على المولى م: (فسقط) ش: أي بدل الكتابة م: (وبطلت الكتابة لامتناع إبقائها من غير فائدة) ش: بالنسبة إلى البدل م: (غير أنه تسلم لها الأكساب والأولاد) ش: أي يعتق الأولاد ويخلص لها الكسب.(10/410)
لأن الكتابة انفسخت في حق البدل وبقيت في حق الأكساب والأولاد؛ لأن الفسخ لنظرها، والنظر فيما ذكرنا ولو أدت المكاتبة قبل موت المولى عتقت بالكتابة؛ لأنها باقية.
قال: وإن كانت مدبرته جاز لما ذكرنا من الحاجة، ولا تنافي إذ الحرية غير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال تاج الشريعة أي الأولاد التي اشترتها المكاتبة في حال الكتابة لا الأولاد التي ولدت من مولاها وهذا في الحقيقة لدفع شبهة ترد وهي أن استتباع الأولاد في الحرية والرقبة بالأم إنما يكون إن لو كانت الأولاد متصلة بالأم حالة الحرية والرقبة، وهاهنا الأولاد منفصلة عنها حال عتقها، فكيف يعتق الأولاد بعتقها عند موته؟ فأجاب عنها بهذا، وقال: عدم العتق للأولاد المنفصلة إنما يكون إذا لم تكن الأولاد داخلة في كتابة الأم بطريقة التبعية، وهاهنا دخلت في كتابتها تبعا لها، فلذلك عتقوا بعتقها وبطلت الكتابة في حق الأم في حق البدل وتبقى في حقها في حق الأولاد والأكساب، وإليه أشار بقوله.
م: (لأن الكتابة انفسخت في حق البدل) ش: أي في حق الأم في حق بدل الكتابة م: (وبقيت) ش: أي الكتابة م: (في حق الأكساب والأولاد؛ لأن الفسخ لنظرها) ش: أي لأن فسخ الكتابة أي بطلانها لأجل نظرها م: (والنظر فيما ذكرنا) ش: وهو سقوط الكتابة في حق البدل وبقاؤها في حق الأولاد والأكساب؛ لأنه على تقدير إنقاصها في حق الأولاد والأكساب تصير الأولاد أرقاء لورثة المولى، وكذا تصير الأكساب ملكا لهم وله نظر لهم في ذلك.
قيل: في كلامه تعالى؛ لأنه علل البطلان بانتفاع بقاء الكتابة من غير فائدة، ثم علله بالنظر لها والمعلول الواحد بالشخص لا يعلل بعلتين مختلفتين.
وأجيب: بأن للكتابة جهتين جهة هي للمكاتب، وجهة هي عليه وعلل الثانية بالأولى.
م: (ولو أدت المكاتبة) ش: بنصب المكاتبة، أي لو أدت أم الولد بدل الكتابة وفي بعض النسخ ولو أدت بدل الكتابة م: (قبل موت المولى عتقت بالكتابة) ش: لا بالاستيلاد م: (لأنها باقية) ش: أي لأن الكتابة باقية، وبه قال مالك وأحمد. وقال الشافعي: لا تعتق لبطلان الكتابة على ما ذكره ابن القاضي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن كاتب مدبرته جاز) ش: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن الشافعي أن التدبير وصية، والكتابة رجوع عنها، وإنما وضع المسألة في المدبرة لمناسبة أم الولد، وإن كانت هذه الأحكام في المدبر أيضا كذلك. وفي " المبسوط " وضعها في المدبر م: (لما ذكرنا من الحاجة) ش: عند قوله لحاجتها إلى استفادة الحرية قبل موت المولى وذلك بالكتابة م: (ولا تنافي) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: التدبير يقتضي الحرية بلا بدل، والكتابة ببدل فبينهما منافاة فقال: ولا تنافي بين الكتابة والتدبير م: (إذ الحرية غير(10/411)
ثابتة، وإنما الثابت مجرد الاستحقاق
وإن مات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار بين أن تسعى في ثلثي قيمتها أو جميع مال الكتابة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تسعى في الأقل منهما. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تسعى في الأقل من ثلثي قيمتها وثلثي بدل الكتابة، فالخلاف في الخيار والمقدار، فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المقدار ومع محمد في نفي الخيار، أما الخيار ففرع تجزؤ الإعتاق، والإعتاق عنده لما تجزأ بقي الثلثان رقيقتها وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين معجلة بالتدبير، ومؤجلة بالكتابة فتخير. وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة ووجب عليها أحد المالين فتختار الأقل لا محالة، فلا معنى للتخيير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثابتة) ش: في المدبرة م: (وإنما الثابت مجرد الاستحقاق) ش: أي استحقاق الحرية لا حقيقتها فتوجهت إليها جهتا عتق عاجل ببدل وآجل بلا بدل، فانتفى التنافي.
م: (وإن مات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار بين أن تسعى في ثلثي قيمتها أو جميع مال الكتابة) ش: أراد ثلثي قيمتها مدبرة لا قنة، لأن الكتابة عقدت حال كونها مدبرة، قيد بقوله: ولا مال له؛ لأنه لو كان له مال غيرها تخرج هي من الثلث؛ تعتق ويسقط عنها بدل الكتابة، كما لو أعتقها، ذكره في المبسوط، وقد علم أن المدبر يعتق من الثلث عند أكثر أهل العلم، إلا عند النخعي وداود م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذا المذكور من الخيار بين السعي في ثلثي القيمة، وجميع بدل الكتابة هو عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تسعى في الأقل منهما) ش: أي من ثلثي القيمة وجميع بدل الكتابة ولا تجبر م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تسعى في الأقل من ثلثي قيمتها وثلثي بدل الكتابة فالخلاف) ش: بين أصحابنا الثلاثة في موضعين م: (في الخيار والمقدار، فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المقدار. ومع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفي الخيار، أما الخيار ففرع تجزؤ الإعتاق، والإعتاق عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (لما تجزأ بقي الثلثان رقيقتها) ش: لأنه لم يخرج من الثلث.
وفي بعض النسخ بقي الثلثان رقيقا م: (وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين) ش: أحدهما م: (معجلة بالتدبير) ش: والأخرى م: (ومؤجلة بالكتابة فتخير) ش: على صيغة المجهول من المضارع؛ لأن في التخيير فائدة لجواز أن يكون أداء أكثر المالين أيسر باعتبار الأجل وأداء أقل المالين أعسر لكونه حالا وإن كان حبس المال متحدا. م: (وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة ووجب عليها أحد المالين) ش: وهما بدل الكتابة والقيمة م: (فتختار الأقل لا محالة) ش: بفتح الميم لأن العاقل لا يختار إلا الأقل م: (فلا معنى للتخيير) ش: لأنه لما بقي عليها بدل الكتابة حالا ووجب عليها ثلثا القيمة بالتدبير حالا لم يكن التخيير مفيدا.
فيلزمه أقل المالين بلا خيار، كما لو أعتق عبده على ألف أو ألفين فإنه يلزمه الأقل بلا خيار(10/412)
وأما المقدار فلمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قابل البدل بالكل وقد سلم لها الثلث بالتدبير، فمن المحال أن يجب البدل بمقابلته، ألا ترى أنه لو سلم لها الكل بأن خرجت من الثلث يسقط كل بدل الكتابة، فهاهنا يسقط الثلث، فصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة. ولهما أن جميع البدل مقابل بثلثي رقبتها فلا يسقط منه شيء، وهذا لأن البدل وإن قوبل بالكل صورة وصيغة لكنه مقيد بما ذكرنا معنى وإرادة؛ لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عندهم، فكذا هنا.
فإن قلت: ينبغي أن يسعى في ثلثي قيمتها عندهما، لأن الإعتاق لما لم يتخير عندهما بعتق كلها بالتدبير يعتق بعضها، وانفسخت الكتابة فوجبت السعاية في ثلثي قيمتها فحسب.
قلت: صحة كتابة المدبر للنظر لها وهو في أداء بدل الكتابة لاحتمال كونه فجاء الاختيار.
م: (وأما المقدار فلمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قابل البدل بالكل) ش: أي أن المولى قابل كل الكتابة بكل الذات؛ لأنه أضاف العقد إلى ذاتها، فقال كاتبتك على هذا والمحل قابل لها كالقنة فتصير كلها مكاتبة م: (وقد سلم لها الثلث بالتدبير) ش: فيجب أن يسقط بقدر من ثلث البدل، وبه قال مالك م: (فمن المحال أن يجب البدل بمقابلته) ش: أي بمقابلة التدبير؛ لأنه سقط من الثلث، فإذا أوجبنا البدل بمقابلة كله يكون خلفا وهو باطل.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أنه) ش: أي الشأن م: (لو سلم لها الكل) ش: أي كل البدل م: (بأن خرجت من الثلث يسقط كل بدل الكتابة فهاهنا يسقط الثلث) ش: يعني فيما إذا لم يخرج من الثلث يسقط م: (فصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة) ش: يعني لو كاتب عبده أولا ثم دبره ثم مات ولا مال سواه يسقط عنه ثلث البدل بالاتفاق، وهي المسألة التي تلي هذه المسألة؛ لأنه عتق ثلثه بالتدبير، ولهذا لو أدى كل البدل في حياته يعتق كله، فلو كان ثلثه يستحق بالتدبير ولم يرد عليه عند الكتابة لما عتق كله بالأداء.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن جميع البدل مقابل بثلثي رقبتها، فلا يسقط منه شيء، وهذا) ش: أي بيان ذلك وتوضيحه م: (لأن البدل وإن قوبل بالكل) ش: أي لأن بدل الكتابة وإن قوبل بكل ذات المدبرة م: (صورة) ش: أي من حيث الصورة، حيث قال: كاتبتك، فإنه مقابل بكل صورة م: (وصيغة) ش: أي: ومن حيث الصيغة أيضا، لأن كان الخطاب عبارة عن كل الذات.
م: (لكنه مقيد بما ذكرنا) ش: أي كل البدل مقيد بما ذكرنا، وهو مقابلة بثلثي رقبتها م: (معنى وإرادة) ش: أي من حيث المعنى والإرادة، لأن البدل قوبل بما يصح مقابلته، وما لا يصح فيما يصح، فصح فيما يصح مقابلته م: (لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا) ش: يعني بالتدبير، ولكن(10/413)
والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته وصار هذا كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كان جميع الألف بمقابلة الواحدة الباقية لدلالة الإرادة، كذا هاهنا، بخلاف ما إذا تقدمت الكتابة وهي المسألة التي تليه؛ لأن البدل مقابل بالكل إذ لا استحقاق عنده في شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاستحقاق غير متقرر لجواز أن تموت قبل المولى، فإذا مات تقرر الاستحقاق، فبطلت الكتابة بمقابلة ما وراء المستحق بالتدبير، وهو الثلث.
م: (والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته) ش: فتعين أن يكون جميع البدل بمقابلة ثلثي رقبتها فلا يسقط منه شيء.
فإن قلت: لو كان كذلك لما عتق الجميع إذا أدت كل البدل قبل موت المولى؛ لأنه في مقابلة الثلثين لا الكل.
قلت: أما هذا لا يلزم على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يقول يجزئ الإعتاق، وأما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فالجواب ما مر إن حكمنا بصحة الكتابة نظرا للمدبر وليس من النظر أن يبقى بعضه غير حر ويغرم كل البدل، فاعتبرنا المقابلة الصورية قبل موت المولى نظرا له.
م: (وصار هذا) ش: هذا الحكم م: (كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كان جميع الألف بمقابلة الواحدة الباقية لدلالة الإرادة) ش: أي إرادة المطلق، لأن الظاهر أنه يدفع الألف في مقابلة الطلقة الواحدة الباقية لوقوع الطلقتين أولا بلا مال، ثم تطليقه ثلاثا على ألف يدل على أن مراده مقابلة الألف بالواحدة الباقية.
فإن قلت: كيف تكون هذه المسألة المدبرة التي كوتبت، لأن وقوع الطلقتين هناك ظاهر، فلأجل هذا جعل البدل بإزاء ما بقي فللمدبرة حق العتق والملك كامل فيها، ولهذا حل وطؤها فيجوز أن يثبت بإزائه البدل.
قلت: قد سقطت مالية هذا الثلث هاهنا، ولهذا لو أتلفها إنسان لا يضمن إلا قيمة الثلثين، فيكون البدل بأي الباقي م: (كذا هاهنا) ش: أي هذا الحكم في مسألة المدبرة التي كوتبت.
م: (بخلاف ما إذا تقدمت الكتابة) ش: جواب عما قاسه محمد بقوله: وصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة م: (وهي المسألة التي تليه) ش: أي المسألة التي فيها تأخير التدبير عن الكتابة هي التي تأتي تلو الحكم الذي فيه تأخير الكتابة عن التدبير م: (لأن البدل مقابل بالكل، إذ لا استحقاق عنده في شيء) ش: أي عند عقد الكتابة، فيكون البدل في مقابلة الكل، فإذا عتق بعض(10/414)
فافترقا،
قال: وإن دبر مكاتبته صح التدبير لما بينا ولها الخيار إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها وصارت مدبرة؛ لأن الكتابة ليست بلازمة في جانب المملوك، فإن مضت على كتابتها فمات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار إن شاءت سعت في ثلثي مال الكتابة، أو ثلثي قيمتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: تسعى في الأقل منهما فالخلاف في هذا الفصل في الخيار بناء على ما ذكرنا، أما المقدار فمتفق عليه، ووجهه ما بينا.
قال: وإذا أعتق المولى مكاتبه عتق بإعتاقه لقيام ملكه فيه وسقط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرقبة بعد ذلك بالتدبير سقط حصته من بدل الكتابة م: (فافترقا) ش: أي افترق حكم تقدم الكتابة على التدبير، وحكم تأخرها، فلم يصح قياس محمد على تقدمها.
م: (قال) ش: القدوري م: (وإن دبر مكاتبته صح التدبير) ش: ولا يعلم فيه خلاف؛ لأنه يملك بتخير العتق فيه، فيملك التعليق بشرط الموت أيضا، وكذ الحكم في مدبر مكاتبة، لكن ذكر لفظ التأنيث لما ذكرنا من المناسبة م: (لما بينا) ش: إشارة إلى قوله تلقتها جهتا حرية م: (ولها الخيار إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها وصارت مدبرة؛ لأن الكتابة ليست بلازمة في جانب المملوك) ش: وبه قالت الثلاثة، لأن النفقة والجناية على المكاتب في حال الكتابة. وإذا عجزت نفسه كان كل ذلك على المولى، فله أن يدفع عن نفسه ذلك.
وفي " الذخيرة ": هذا فصل اختلف المشايخ فيه، وهو أن المكاتب إذا أراد تعجيز نفسه وقال المولى لا أعجزك هل تفسخ الكتابة؟ قال محمد بن سلمة: إذا أبى المولى ذلك التعجيز فله ذلك ولا تفسخ الكتابة بتعجيز، قال أبو بكر البلخي: هذا خلاف ما ذكره أصحابنا في كتبهم، فإنهم قالوا للعبد أن يعجز نفسه.
م: (فإن مضت على كتابتها فمات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار إن شاءت سعت في ثلثي مال الكتابة أو ثلثي قيمتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا تسعى في الأقل منهما فالخلاف) ش: بين أصحابنا الثلاثة م: (في هذا الفصل في الخيار بناء على ما ذكرنا) ش: أراد به قوله أما الخيار ففرع يجزئ الإعتاق.. إلى آخره.
م: (أما المقدار) ش: وهو القول بالثلثين سواء كان ذلك في بدل الكتابة أو قيمتها على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا على قولهما م: (فمتفق عليه، ووجهه ما بينا) ش: أشار به إلى قوله لأن البدل مقابل بالكل إلى آخره، هذا لهما، أما محمد فإنه لما مر على أصله لا يحتاج إلى فرق.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أعتق المولى مكاتبه عتق بإعتاقه لقيام ملكه فيه، وسقط(10/415)
بدل الكتابة؛ لأنه ما التزمه إلا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه، والكتابة وإن كانت لازمة في جانب المولى ولكنه يفسخ برضاء العبد، والظاهر رضاه توسلا إلى عتقه بغير بدل مع سلامة الأكساب له؛ لأنا نبقي الكتابة في حقه.
قال: وإن كاتبه على ألف درهم إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة، فهو جائز استحسانا. وفي القياس لا يجوز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدل الكتابة لأنه) ش: أي لأن المكاتب م: (ما التزمه إلا مقابلا بالعتق، وقد حصل له دونه) ش: أي حصل له العتق بلا بدل الكتابة م: (فلا يلزمه) ش: أي إذا حصل له العتق بلا بدل، فلا يلزمه البدل بعده م: (والكتابة وإن كانت لازمة) ش: جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: الكتابة من جانب المولى فلا يقبل الفسخ فقال والكتابة وإن كانت لازمة م: (في جانب المولى، ولكنه يفسخ) ش: أي لكن عقد الكتابة.
وفي بعض النسخ: لكنها - أي الكتابة- تفسخ م: (برضاء العبد، والظاهر رضاه) ش: لأن اللزوم كان لتعلق حقه، فإذا رضي بالفسخ فقد أسقط حقه، كما لو باعها المولى أو أجره برضاه، والظاهر رضاه.
م: (توسلا إلى عتقه بغير بدل) ش: لأنه إذا رضي به ببدل قبلا بدل يكون أرضى م: (مع سلامة الأكساب له) ش: هذا جواب عن ما عسى أن يقال: قد يكون راضيا ببدل نظرا إلى سلامة الأكساب له فقد تكون الأكساب كثيرة بفضل بعد أداء البدل منها له جملة، فقال الأكساب سالمة له.
م: (لأنا نبقي الكتابة في حقه) ش: أي في حق الأكساب ذكر الضمير على تأويل المكسوب أو المال. قال تاج الشريعة: أي في حق الكسب أو المكاتب وقوله أو المكاتب لا وجه له على ما لا يخفي. وقال الكاكي: ذكر هذا دفعا لشبهة ترد على قوله مع سلامة الأكساب له وهي ما يقال ينبغي أن لا تسلم له الأكساب، ويجب أن يكون للمولى كما قالت الأئمة الثلاثة.
لأن الأكساب أكساب عبده، كما لو عجز نفسه وعاد إلى الرق، والأكساب في يده بجامع أن في كل منهما انفساخ الكتابة، فأجاب عنها بقوله: لأنا نبقي الكتابة في حق الأكساب نظرا للمكاتب، كما أن انفساخ تمثله للمكاتب بعد الإعتاق وفيه نظر.
لأن الرواية لم توجد في كتب محمد ومن بعده من المتقدمين كالطحاوي والكرخي وأبي الليث وغيرهم ينبغي أن تكون الأكساب للمولى بعدما أعتقه كما تجزئ بعد المكاتبة.
[كاتبه على ألف درهم إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن كاتبه على ألف درهم إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة فهو جائز استحسانا. وفي القياس: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي ومالك. وفي(10/416)
لأنه اعتياض عن الأجل وهو ليس بمال والدين مال فكان ربا، ولهذا لا يجوز مثله في الحر ومكاتب الغير. وجه الاستحسان أن الأجل في حق المكاتب مال من وجه؛ لأنه لا يقدر على الأداء إلا به فأعطي له حكم المال وبدل الكتابة مال من وجه حتى لا تصح الكفالة به فاعتدلا، فلا يكون ربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" الحلية " وبه قال أبو يوسف وزفر.
م: (لأنه اعتياض عن الأجل) ش: أي لأن هذا الصلح اعتياض عما ليس بمال بما هو مال، لأن الأجل غير مال، وهو معنى قوله م: (وهو ليس بمال والدين مال، فكان ربا) ش: لأن الكتابة عقد معاوضة، وهذا لا يجوز في عقد المعاوضة، وإذا لم يجز ذلك كان خمسمائة بدلا عن ألف وذلك عين الربا.
لا يقال هلا جعلت إسقاطا لبعض الحق ليجوز، لأن الإسقاط إنما يتحقق في المستحق والمعجل لم يكن مستحقا.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه ربا م: (لا يجوز مثله) ش: أي مثل هذا الصلح م: (في الحر) ش: بأن كان للحر على مثله دين مؤجل فصالحه على نصف حقه معجلا لا يجوز وقد مر في الصلح، م: (ومكاتب الغير) ش: بأن كان على مكاتب الغير ألف إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة لا يجوز.
م: (وجه الاستحسان أن الأجل في حق المكاتب مال من وجه لأنه لا يقدر على الأداء إلا به) ش: أي على الأداء البدل إلا بالأجل. م: (فأعطى له حكم المال وبدل الكتابة مال من وجه حتى لا تصح الكفالة به) ش: أي ببدل الكتابة، فلو كان مالا من كل وجه لصحت الكفالة به م: (فاعتدلا) ش: إذا كان الأمر كذلك فاعتدل الأجل ومال الكتابة تحرير بأن الأجل مال من وجه باعتبار أنه لا قدرة له إلا به، وبدل الكتابة مال من وجه.
ألا ترى أنه لا يصلح نصابا للزكاة، والمكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده شيئا فصار كالحقوق التي ليست بمال، ولهذا لا تصح الكفالة به، فإذا كان مالا من وجه والأجل أيضا مال من وجه فاستويا م: (فلا يكون ربا) ش: لوجود الاعتدال وهو المساواة وبه قال أحمد.
قيل: فيه نظر من وجهين، الأول: أن المال ما يتمول به وهو يعتمد الإحراز وذلك في الأجل غير متصور. الثاني: أن قوله فأعطى له حكم المال ليس بمستقيم لفظا ومعنى.
أما لفظا فلأن أعطى متعد إلى مفعوليه بلا واسطة وقد استعمله باللام، وأما معنى فلأنه قال: الأجل في حق المكاتب مال من وجه، فإن أراد بقوله فأعطى له حكم المال من كل وجه(10/417)
ولأن عقد الكتابة عقد من وجه دون وجه، والأجل ربا من وجه فيكون شبهة الشبهة، بخلاف العقد بين الحرين؛ لأنه عقد من كل وجه فكان ربا، والأجل فيه شبهة.
قال: وإذا كاتب المريض عبده على ألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف ثم مات ولا مال له غيره ولم يجز الورثة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فات الاعتدال، إذ الدين مال من وجه، وإن المراد حكم المال من وجه فهو تحصيل للحاصل.
أجيب عن الأول: أن ما ذكرتم أن المال ما يتمول به وبحرز صحيح إذا كان ملاء من كل وجه، وليس ما نحن فيه كذلك، وإنما المراد به هاهنا أنه وسيلة إلى تحصيل مقصود المكاتب وهو في ذلك كعين الدراهم لتوقف قدرة الأداء عليه توقفها على عين الدراهم.
وعن الثاني: بأن أعطى ضمن يعني اعتبر ومعناه اعتبر لأجل حكم المال، فإن الشيء يجوز أن يكون جهة في شيء ولا يكون معتبراً فبين بأنه اعتبر له تلك الجهة تصحيحا للقصد ونظراً للمكاتب.
م: (ولأن عقد الكتابة عقد من وجه دون وجه) ش: لأنه إسقاط باعتبار أنه فك الحجر، ولعقد الكتابة شبه بالتعليق بالشرط؛ لأنه تعليق العتق بشرط الأداء، فيكون من هذا الوجه يمينا.
م: (والأجل ربا من وجه) ش: (لأن حقيقة الربا يكون بين المالين والأجل ليس بمال م: (فيكون شبهة الشبهة) ش: أي يكون كون الأجل ربا شبهة وقعت في شبهة العقد، فشبهة الشبهة لا اعتبار لها، والشبهة هي المعتبرة دون شبهة الشبهة.
فإن قلت: لو كان عقد المكاتبة عقداً من وجه كما ذكرتم كان ينبغي أن يجوز بيع المولى من مكاتبه درهماً بدرهمين، وذا لا يجوز ذكره في (المبسوط) .
قلت: المكاتب كالأجنبي من وجه فتجري بينهما صريح الربا بدون شبهة لما ذكرنا، كذا ذكره المحبوبي م: (بخلاف العقد بين الحرين) ش: جواب عن قوله ولهذا لا يجوز مثله في الحر.
تقريره؛ لأن العقد بين الحرين، أي عقد الصلح بين الحرين على الوجه المذكور إنما لا يجوز م: (لأنه عقد من كل وجه فكان ربا والأجل فيه شبهة) ش: فاعتبرت، فلذلك لم يصح.
[كاتب المريض عبده على ألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف ومات]
م: (قال) ش: أي في (الجامع الصغير) م: (وإذا كاتب المريض عبده على ألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف) ش: أي والحال أن قيمة المكاتب ألف درهم م: (ثم مات) ش: أي المولى م: (ولا مال له غيره) ش: أي والحال أنه لا مال للمولى غير المكاتب.
م: (ولم يجز الورثة) ش: أي التأجيل؛ لأن المريض لم يتصرف في حق الورثة إلا في حق التأجيل فكان لهم أن يردوه، إذ بتأجيل المال أخر حقهم، وفيه ضرر عليهم فلا يصح بدون(10/418)
فإنه يؤدي ثلثي الألفين حالا والباقي إلى أجله، أو يرد رقيقا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤدي ثلثي الألف حالا والباقي إلى أجله؛ لأن له أن يترك الزيادة بأن يكاتبه على قيمته فله أن يؤخرها، فصار كما إذا خالع المريض امرأته على ألف إلى سنة جاز؛ لأن له أن يطلقها بغير بدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إجازتهم م: (فإنه) ش: أي المكاتب م: (يؤدي ثلثي الألفين حالاً) ش: وهو ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم.
م: (والباقي) ش: بنصب الياء يؤدي الباقي وهو ستمائة وست وستون وثلثا درهم م: (إلى أجله) ش: أي على الذي عليه م: (أو يرد رقيقاً) ش: أي أو يرد المكاتب إلى حاله التي كان فيها رقيقاً م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) .
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يؤدي ثلثي الألف حالاً والباقي) ش: أي يؤدي الباقي م: (إلى أجله) ش: الذي عينه م: (لأن له) ش: أي للمريض م: (أن يترك الزيادة) ش: أي على القيمة لأنه لم يتعلق بها حق الورثة.
ثم فسر ترك الزيادة على القيمة بقوله م: (بأن يكاتبه على قيمته) ش: أي يكاتبه على قدر قيمته وهو الألف م: (فله أن يؤخرها) ش: أي الزيادة، لما جاز له ترك أصله جاز له ترك وصفه وهو التعجيل بالطريق الأولى.
ألا ترى أنه يجوز له أن يكاتبه على قدر قيمته، فالزيادة على قيمته لا تعتبر من ماله، وإنما يعتبر من ماله الألف، فلا يصح في ذلك تأجيله في ثلثي الألف، ويصح فيه الزيادة.
قال صاحب (العناية) ولو قال: لأن له أن يترك الزيادة وثلث الألف فله أن يؤخرهما كان أحسن فتأمل.
قلت: لما كان جواز ترك الزيادة على القيمة لعدم تعلق حق الورثة به فكذلك ترك ثلث الألف؛ لأنه لا حق لهم فيهما، وحقهم في الثلثين، فمن فهم ذلك يلزم فهم هذا فلا حاجة حينئذ إلى ما ادعاه من الأجنبية.
م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا خالع المريض امرأته على ألف إلى سنة جاز؛ لأن له أن يطلقها بغير بدل) ش: أراد أنه لو خالع امرأته في مرض موته على ألف إلى سنة ولا مال له غيره ولم يجز الورثة التأجيل فإنه يعتبر من كل المال؛ لأنه لو تركه صح بأن يطلقها بلا بدل فصح تأجيله.(10/419)
لهما أن جميع المسمى بدل الرقبة حتى أجرى عليه أحكام الأبدال وحق الورثة متعلق بالمبدل فكذا بالبدل، والتأجيل إسقاط معنى فيعتبر من ثلث الجميع، بخلاف الخلع؛ لأن البدل فيه لا يقابل المال فلم يتعلق حق الورثة بالمبدل فلا يتعلق بالبدل، ونظير هذا إذا باع المريض داره بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألف ثم مات ولم يجز الورثة فعندهما يقال للمشتري أد ثلثي جميع الثمن حالا، والثلث إلى أجله وإلا فانقض البيع، وعنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن جميع المسمى بدل الرقبة حتى أجرى عليه) ش: أي على بدل الرقبة، وفي بعض النسخ عليها. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي على الزيادة.
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - والتأنيث بتأويل العين التي كوتب عليها، وإنما قال هذا دفعاً لوهم من يقول إن الكتابة صلة لأنه بدل ما ليس بمال وهو فك الحجر، فكان كالخلع، وكان قياس محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيحاً فقال إن له حكم العوض، ولهذا لو كان بدل الكتابة داراً يأخذها الشفيع.
م: (أحكام الأبدال) ش: من أخذ الحق بالشفعة وجريان بيع المرابحة وحق الحبس في المطالبة، فإنه لو باع داراً قيمتها ألف بألفين فالشفيع يأخذها بألفين، وكذا لو باعها المشتري مرابحة يبيعها بألفين، ولو أدى المشتري ألفا وماطل في ألف للبائع أن يحبسه.
م: (وحق الورثة متعلق بالمبدل فكذا بالبدل) ش: لأن المبدل لما كان متقوماً كان حكم بدله حكمه، فجميع المسمى متعلق به حق الورثة، وما تعلق به حق الورثة جاز للمريض إسقاط ثلثه م: (والتأجيل إسقاط معنى) ش: أي إسقاط حق الورثة معنى.
م: (فيعتبر) ش: أي التأجيل م: (من ثلث الجميع) ش: أي جميع البدل م: (بخلاف الخلع؛ لأن البدل فيه لا يقابل المال) ش: لأن البضع في حالة الخروج لا يعتبر مالاً م: (فلم يتعلق حق الورثة بالمبدل، فلا يتعلق بالبدل) ش: أراد أن حق الورثة لم يتعلق بالمبدل لكونه غير مال، فكذا لا يتعلق بالبدل.
م: (ونظير هذا) ش: أي نظير أصل المسألة المذكورة م: (إذا باع المريض داره بثلاثة آلاف إلى سنة، وقيمتها ألف ثم مات ولم يجز الورثة) ش:، أي التأجيل م: (فعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقال للمشتري أد ثلثي جميع الثمن حالاً، والثلث إلى أجله) ش: أي أداء الثلث إلى أجله الذي عينه.
م: (وإلا) ش: أي وإن لم ترض بذلك م: (فانقض البيع، وعنده) ش: أي عند محمد -(10/420)
يعتبر الثلث بقدر القيمة لا فيما زاد عليه لما بينا من المعنى
قال: وإن كاتبه على ألف إلى سنة وقيمته ألفان ولم يجز الورثة، يقال له أد ثلثي القيمة حالا أو ترد رقيقا في قولهم جميعا؛ لأن المحاباة هاهنا في القدر والتأخير فاعتبر الثلث فيهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبر الثلث بقدر القيمة لا فيما زاد عليه) ش: أي على الثلث، فيقال له عنده عجل ثلثي القيمة والباقي عليك إلى أجل م: (لما بينا من المعنى) ش: أشار به إلى ما ذكر من الدليل من الطرفين.
والحاصل أن المكافأة في جميع الثمن وصية من الثلث عندهما؛ لأن التأجيل تبرع من المريض من حيث إن الوارث يصير ممنوعاً عن المال بسبب التأجيل كما يصير ممنوعا بنفس التبرع وتبرع المريض يعتبر من ثلث المال وجميع الثمن هنا بدل الرقبة لجريان أحكام الأبدال كما ذكرنا، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأجل فيما زاد يصح من رأس المال ويعتبر في قدر القيمة من الثلث.
[كاتب المريض عبده على ألف إلى سنة وقيمته ألفان ولم يجز الورثة]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن كاتبه على ألف إلى سنة وقيمته ألفان ولم يجز الورثة، يقال له أد ثلثي القيمة حالاً أو ترد رقيقاً في قولهم جميعا؛ لأن المحاباة هاهنا في القدر) ش: وهو إسقاط ألف درهم.
م: (والتأخير) ش: وهو تأجيل الألف الأخرى م: (فاعتبر الثلث فيهما) ش: أي يصح تصرفه في ثلث قيمته في الإسقاط والتأخير، لكن لما سقط ذلك الثلث لم يبق التأخير أيضاً، ولم يصح تصرفه في ثلثي القيمة لا في حق الإسقاط ولا في حق التأخير، والله أعلم.(10/421)
باب من يكاتب عن العبد قال: وإذا كاتب الحر عن عبد بألف درهم، فإن أدى عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل فهو مكاتب وصورة المسألة أن يقول الحر لمولى العبد كاتب عبدك على ألف درهم على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فكاتبه المولى على هذا فيعتق بأدائه بحكم الشرط، وإذا قبل العبد صار مكاتبا؛ لأن الكتابة كانت موقوفة على إجازته وقبوله إجازة، ولو لم يقل على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فأدى لا يعتق قياسا؛ لأنه لا شرط والعقد موقوف. وفي الاستحسان يعتق؛ لأنه لا ضرر للعبد الغائب في تعليق العتق بأداء القائل فيصح في حق هذا الحكم، ويتوقف في حق لزوم الألف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب من يكاتب عن العبد]
م: (باب من يكاتب عن العبد) ش: أي هذا الباب في بيان من يكاتب بطريق الفضول أو النيابة عن العبد وتأخيره عن تصرفات الأصيل ظاهر البيان.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كاتب الحر عن عبد بألف درهم فإن أدى عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل فهو مكاتب) ش: أي يصير مكاتباًُ وقوله عن عبد، أي قبل الحر الأجنبي عقد الكتابة عن العبد فضولياً، وقيد بالحر احترازا عن المسألة التي تليها.
م: (وصورة المسألة) ش: أي المسألة المذكورة م: (أن يقول الحر لمولى العبد كاتب عبدك على ألف درهم على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فكاتبه المولى على هذا فيعتق بأدائه) ش: أي بأداء الحر، وذا يصح من غير قبول العبد ولا يعلم فيه خلاف. م: (بحكم الشرط) ش: لأنه تعليق العتق بأداء الألف م: (وإذا قبل العبد صار مكاتبا) ش: خلافا للثلاثة، فإن عندهم يبطل العقد ولا يتوقف م: (لأن الكتابة كانت موقوفة على إجازته) ش: أي على إجازة العبد م: (وقبوله إجازة) ش: لأنه عقد جرى بين فضولي ومالك فيتوقف على إجازة من له الإجازة، فإن قبله كان هذا إجازة منه، فيصير مكاتباً؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو وكله العبد بذلك فقد عقده عليه فكذا إذا جاز بعد العقد.
م: (ولو لم يقل على أني) ش: أي لو لم يقل الحر المذكور لمولى العبد على أني م: (إن أديت إليك ألفاً فهو حر) ش: بل قال كاتبه على ألف فقال: فعلت عليه.
م: (فأدى) ش: أي فأدى الحر الألف م: (لا يعتق قياساً) ش: وبه قالت الثلاثة م: (لأنه لا شرط) ش: حتى يعتق بوجوده م: (والعقد موقوف) ش: على إجازة العبد، فإن أجاز جاز لما قلنا. م (وفي الاستحسان يعتق لأنه لا ضرر للعبد الغائب في تعليق العتق) ش: أي في توقف العتق م: (بأداء القائل فيصح) ش: أي العقد م: (في حق هذا الحكم، ويتوقف في حق لزوم الألف(10/422)
على العبد وقيل هذه هي صورة مسألة الكتاب. ولو أدى الحر البدل لا يرجع على العبد؛ لأنه متبرع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على العبد) ش: نظراً للعبد وتصحيحاً للعقد بقدر الإمكان.
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين البيع، فإن بيع الفضولي يتوقف على إجازة المجيز فيما له وفيما عليه، وهنا لا يتوقف فيما له؟ قلت: إن ما له هاهنا إسقاط وهو لا يتوقف على القبول وما عليه إلزام وهو يتوقف عليه. م: (وقيل هذه هي صورة مسألة الكتاب) ش: أراد أن المسألة التي قال فيها: كاتب عبدك على ألف، ولم يقل: على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر، هي صورة مسألة " الجامع الصغير " وأشار بهذا إلى أن شراح " الجامع الصغير "- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اختلفوا في صورة المسألة فصورها بعضهم بما ذكره بقوله: وصورة المسألة أن يقول...... إلى آخره، وصورها آخرون بما ذكره في قوله: ولو لم يقل على أني
إلى آخره.
م: (ولو أدى الحر البدل لا يرجع على العبد؛ لأنه متبرع) ش: حيث لم يأمره بالأداء ولا هو مضطر في أدائه وحل له أن يسترد ما أدى إلى المولى إن أداه بحكم الزمان يسترده؛ لأن ضمانه كان باطلا وصورته أن يقول كاتب عبدك على ألف على أني ضامن يرجع عليه لأن ضمانه كان باطلا لأنه ضمن غير الواجب وإن أداه بغير ضمان لا يرجع لأنه متبرع، فلو أدى البعض له أن يرجع، سواء أدى بضمان أو غير ضمان، ولكن لو أدى البعض بعد إجازة العبد لا يرجع؛ لأن ثم حصل مقصود آخر وهو براءة ذمة العبد عن بعض البدل، هذا إذا أراد أن يرجع على المولى قبل إجازة العبد، فلو أراد الرجوع بعد إجازة العبد، فلو أدى بحكم الضمان يرجع لما ذكرنا، وإن أدى بغير الضمان لا يرجع سواء أدى الكل أو البعض، هذا إذا قال الحر للمولى كاتب عبدك على ألف.
فإن قال: أعتقته بألف فهو على أربعة أوجه: إما أن يقول أعتقه بألف ولم يزد عليه، أو قال: أعني بألف، أو قال: أعتقه بألف، أو قال: أعتقه عن نفسك بألف علي، ففي الأول لا يجب على الفضولي شيء إذا أعتقه. ولو أدى يسترد منه، ولو استهلكه يضمنه وفي الثاني يقع العتق عن الأمر، ويلزمه المال عند علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - استحسانا اقتضاء. وفي الثالث لا يلزمه شيء من المال؛ لأن الولاء يثبت للمأمور، فهو المنتفع بملكه فلا يستوجب البدل على الأمر؛ لأنه منفعة للزوج في إيقاع الطلاق، كما ذكره شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصدر الشهيد، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المال يلزم الأمر بالإعتاق، ويقع العتق عنه؛ لأن قوله على إيجاب ضمان على نفسه، ولا حجه له إلا بعد وقوع العتق عنه. وفي الوجه الرابع لا يلزمه المال وله أن يسترده إذا أداه إليه كما في قوله كل طعامك بعوض علي، بخلاف قوله طلق امرأتك عن نفسك بألف علي حيث يلزمه الألف لما ذكرنا كذا في (جامع شيخ الإسلام) .(10/423)
قال: وإذا كاتب العبد عن نفسه، وعن عبد آخر لمولاه، وهو غائب، فإن أدى الشاهد، أو الغائب عتقا، ومعنى المسألة أن يقول العبد كاتبني بألف درهم على نفسي وعلى فلان الغائب، وهذه الكتابة جائزة استحسانا. وفي القياس تصح على نفسه لولايته عليها، ويتوقف في حق الغائب لعدم الولاية عليه. وجه الاستحسان أن الحاضر بإضافة العقد إلى نفسه ابتداء جعل نفسه فيه أصلا والغائب تبعا، والكتابة على هذا الوجه مشروعة كالأمة إذا كوتبت دخل أولادها في كتابتها تبعا، حتى عتقوا بأدائها. وليس عليهم من البدل شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كاتب المولى عبدا عن نفسه وعن عبد آخر لمولاه وهو غائب]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كاتب العبد) ش: أي إذا كاتب المولى عبدا م: (عن نفسه وعن عبد آخر لمولاه وهو غائب) ش: بجر غائب؛ لأنه صفة لقوله عبد آخر م: (فإن أدى الشاهد أو الغائب عتقا) ش: أي الشاهد والغائب جميعا. م: (ومعنى المسألة) ش: أراد شرح المسألة المذكورة المنقولة من " الجامع الصغير " م: (أن يقول العبد كاتبني بألف درهم على نفسي وعلى فلان الغائب وهذه الكتابة جائزة استحسانا. وفي القياس تصح) ش: أي الكتابة.
م: (على نفسه لولايته عليها، ويتوقف في حق الغائب لعدم الولاية عليه) ش: كما لو جمع بين عبده وبين عبد غيره فباعهما. وعند الثلاثة لا يصح في حق العبد الغائب.
م: (وجه الاستحسان أن الحاضر بإضافة العقد إلى نفسه ابتداء جعل نفسه فيه أصلا والغائب تبعا، والكتابة على هذا الوجه مشروعة، كالأمة إذا كوتبت دخل أولادها في كتابتها تبعا حتى عتقوا بأدائها، وليس عليهم من البدل شيء) ش: فإذا نفذ العقد فلا يتوقف على قبول الغائب شيء من بدل الكتابة، ولا يعتبر رده الكتابة إجازة.
ولو اكتسب شيئا لا يأخذه المولى من يده وليس للمولى أن يبيعه من غيره ولو أبرأه المولى أو وهبه بدل الكتابة لا يصح، إذ ليس عليه شيء من البدل، أما لو أبرأ الحاضر أو وهبه البدل عتقا جميعا، كذا ذكره المحبوبي وغيره.
فإن قيل: ليس ما نحن فيه كالمستشهد بها، لأن الأولاد تابعة لها من كل وجه، حتى إن المولى لو أعتق الأولاد، لم يسقط من البدل شيء ويعتق الأولاد، إذ لا عتق لمولى الأم، بخلاف العبد الغائب، فإنه مقصود بالكتابة من وجه، حيث أضيف العقد إليهما مقصودا، حتى إن المولى إذا أعتق الحاضر نفذ عتقه وبطلت الكتابة، ولا يعتق العبد الغائب سقطت حصته من الكتابة، ويجب على الحاضر حصته لا غير، ولا يلزم من نفوذ ما هو تبع محض بلا توقف على قبول نفوذ مما هو مقصود من وجه بلا توقف.
فالجواب: أن ما ذكرت يجوز أن يكون وجها القياس.
وأما في الاستحسان فالنظر إلى ثبوت العقد بالتبعية في البعض من غير نظر في أن يكون(10/424)
وإذا أمكن تصحيحه على هذا الوجه ينفرد به الحاضر، فله أن يأخذه بكل البدل؛ لأن البدل عليه لكونه أصلا فيه، ولا يكون على الغائب من البدل شيء لأنه تبع فيه.
قال وأيهما أدى عتقا ويجبر المولى على القبول، أما الحاضر فلأن البدل عليه، وأما الغائب فلأنه ينال به شرف الحرية وإن لم يكن البدل عليه، وصار كمعير الرهن إذا أدى الدين يجبر المرتهن على القبول لحاجته إلى استخلاص عينه وإن لم يكن الدين عليه. قال: وأيهما أدى لا يرجع على صاحبه؛ لأن الحاضر قضى دينا عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه جهة أصالة أو لا تصحيحا للعقد، ونظر المكاتب، ولاشتماله على المسامحة.
م: (وإذا أمكن تصحيحه على هذا الوجه ينفرد به الحاضر فله) ش: أي فللمولى م: (أن يأخذه) ش: أي أن يأخذ العبد الحاضر م: (بكل البدل؛ لأن البدل عليه لكونه أصلا فيه، ولا يكون على الغائب من البدل شيء؛ لأنه تبع فيه) ش: أي في العقد، وهذا بذلك على أن النظر في مجرد التبعية لا معتبر بجهة الأصالة في انعقاد العقد عليه.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وأيهما أدى عتقا) ش: أي الشاهد والغائب، قيل: هذا تكرار؛ لأنه قال في أول المسألة، فإن أدى الشاهد أو الغائب عتقا.
وأجيب: بأنه أعاده تمهيدا لقوله م: (ويجبر المولى على القبول) ش: وفي القياس لا يجبر في الغائب، وبه قالت الثلاثة، لأن الغائب متبرع غير مطالب بشيء من البدل، ولكن الاستحسان أن يجبر عليه حتى يعتقا جميعا بأداء الغائب، لأن حكم العقد ثبت في الغائب فيما لا يضر به، ولكنه بمنزلة البيع بحكم العقد في حق الحاضر.
وفي " جامع المحبوبي ": إلا أنه يقبل منه المال حالا ولا يمكنه من السعاية على نجوم الحاضر نص عليه محمد في المكاتب.
وأشار المصنف إلى وجه الاستحسان بقوله م: (أما الحاضر فلأن البدل عليه، وأما الغائب فلأنه ينال به شرف الحرية، وإن لم يكن البدل عليه، وصار كمعير الرهن إذا أدى الدين) ش: بأن استعار إنسان من آخر شيئا ليرهن ثم أدى المعير الدين.
م: (يجبر المرتهن على القبول لحاجته إلى استخلاص عينه) ش: وفي بعض النسخ إلى استخلاص الرهن عنه.
م: (وإن لم يكن الدين عليه) ش: أي على معير الرهن، فكذا هنا يجبر المولى على القبول من الغائب وإن لم يكن البدل عليه؛ لأنه محتاج إلى استفادة الحرية.
م: (قال: وأيهما أدى لا يرجع على صاحبه، لأن الحاضر قضى دينا عليه) ش: ومثله لا يرجع م:(10/425)
والغائب متبرع به غير مضطر إليه. قال: وليس للمولى أن يأخذ العبد الغائب بشيء لما بينا، فإن قبل العبد الغائب أو لم يقبل فليس ذلك منه بشيء، والكتابة لازمة للشاهد؛ لأن الكتابة نافذة عليه من غير قبول الغائب فلا يتغير بقبوله كمن كفل عن غيره بغير أمره فبلغه فأجازه لا يتغير حكمه، حتى لو أدى لا يرجع عليه، كذا هذا،
قال: وإذا كاتبت الأمة عن نفسها وعن ابنين لها صغيرين فهو جائز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(والغائب متبرع به غير مضطر إليه) ش: أي من جهة الحاضر، بخلاف معير الرهن، فإنه مضطر فيه.
فإن قيل: الغائب هاهنا معير الرهن مضطر، ولهذا يرجع على المستعير بما أدى، فكيف قال غير مضطر إليه. فالجواب أنه كهو في جواز الأداء من غير دين عليه لا في الاضطرار.
فإن الاضطرار إنما هو إذا فات له شيء حاصل، وهاهنا ليس كذلك، بل إنما هو بعوضيه أن يحصل له الحرية، وهذا كما يقال عدم الربح لا يسمى خسرانا.
فإن قلت: حق الحرية حاصل بالكتابة فإنه لو لم يؤده فكان مضطرا.
قلت: هو متوهم، وهو حق الرجوع لم يكن تابعا فلا يثبت به.
م: (قال: وليس للمولى أن يأخذ العبد الغائب بشيء لما بينا) ش: أراد قوله؛ لأنه تبع فيه.
م: (فإن قبل العبد الغائب أو لم يقبل فليس ذلك منه بشيء) ش: يعني لا يؤثر قبوله في لزوم بدل الكتابة عليه، وكذلك رده لا يؤثر في رد عقد الكتابة عن الحاضر.
م: (والكتابة لازمة للشاهد، لأن الكتابة نافذة عليه) ش: أراد بالشاهد العبد الحاضر، يعني أن الكتابة لزمت الحاضر قبل إجازة الغائب، فبعد إجازته لا يتغير ذلك، والأصل هذا لم يكن للمولى أن يأخذ الغائب وإن قبل.
م: (من غير قبول الغائب، فلا يتغير بقبوله) ش: يعني أن الكتابة قبل القبول نافذة على الشاهد من غير وجوب البدل، فلا يتغير بقبوله.
فليس للمولى أن يأخذه بشيء من بدل الكتابة. م: (كمن كفل عن غيره بغير أمره فبلغه فأجازه لا يتغير حكمه، حتى لو أدى لا يرجع عليه، كذا هذا) ش: أي حكم الغائب.
[كاتبت الأمة عن نفسها وعن ابنين لها صغيرين]
م: (قال: وإذا كاتبت الأمة عن نفسها وعن ابنين لها صغيرين فهو جائز) ش: يعني إذا قبلت عقد الكتابة عن نفسها وعن ابنيها فالعقد جائز والحكم في العبد كذلك، وليس في وضع المسألة في أمة فائدة سوى ما ذكره الفقيه أبو جعفر في " كشف الغوامض " أن رواية الجامع من الفائدة ما(10/426)
وأيهم أدى لم يرجع على صاحبه، ويجبر المولى على القبول ويعتقون؛ لأنها جعلت نفسها أصلا في الكتابة وأولادها تبعا على ما بينا في المسألة الأولى وهي أولى بذلك من الأجنبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس في مكاتب المبسوط فإن هناك المسألة فمن كاتب عبدا على نفسه وأولاده الصغار.
فلولا رواية " الجامع الصغير " لكان لقائل أن يقول للأب على الصغير من الولاية ما ليس للأم، فرواية " الجامع الصغير " تبين أن ذلك كله سواء، وفائدة وضع المسألة في الصغيرين وإن كان في الكبيرين كذلك هي ترتيب ما ذكره من الجواب بقوله وأيهم أدى لم يرجع على صاحبه ويعتقون؛ لأنه لولا هذا الوضع كان لقائل أن يقول في مثل هذا الموضع إذا أدى أحد الابنين ينبغي أن لا يعتق الابن الآخر؛ لأنه لا أصالة بينهما ولا تبعية، بخلاف الأمة وابنها. فإن أداء الأم كأداء ابنها بطريق أنها تستتبعه، وكذلك أداء الابن كأداء أمه لدخوله في كتابتها تبعا. أما أداء رهن الابن ليس كأداء أخيه لما أنه لا تبعية بينهما، ولهذا وضع هذه المسألة في المبسوط في الأولاد الصغار ليفيد هذه الفائدة، ولكن اختار في الجامع لفظ التثنية؛ لأنه أقل ما يتحقق فيه هذه الفائدة. وقال تاج الشريعة: إنما قيد بالصغيرين ليجوز مطلقا قياسا واستحسانا.
م: (وأيهم أدى لم يرجع على صاحبه ويجبر المولى على القبول ويعتقون؛ لأنها جعلت نفسها أصلا في الكتابة وأولادها تبعا على ما بينا في المسألة الأولى) ش: وهي كتابة العبد عن نفسه وعن العبد الغائب، وذلك أن الأم إذا أدت فقد أدت دينا على نفسها، وكل من الولدين إن أدى فهو متبرع غير مضطر، وفي ذلك لا رجوع.
فإن قلت: إذا أدى أحدهما ينبغي أن لا يعتق الابن الآخر؛ لأنه لا أصالة بينهما ولا تبعية.
قلت: إن أحدهما إذا أدى كان أداؤه كأداء الأم؛ لأنه تابع لها من كل وجه. ولو أدت الأم عتقوا، فكذا إذا أدى أحدهما.
م: (وهي أولى بذلك من الأجنبي) ش: أي الأم أولى بذلك من الأجنبي. قال تاج الشريعة: أي من العبد الأجنبي، أي لما جاز هذا العقد في حق الأجنبي على ما ذكر في المسألة الأولى فأولى أن يجوز عند الأم في حق ولدها، لأن ولدها أقرب إليها من الأجنبي.
قال صاحب العناية: لعله إشارة إلى ما ذهب إليه بعض المشايخ أن ثبوت الجواز هنا قياس واستحسان، لأن الولد تابع لها، بخلاف الأجنبي وأرى أنه الحق والله أعلم.
قلت: أشار بذلك إلى ما قاله تاج الشريعة بقوله إنما قيد الصغيرين ليجوز مطلقا قياسا واستحسانا، وقد ذكرناه آنفا.(10/427)
باب كتابة العبد المشترك قال: وإذا كان العبد بين رجلين أذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه بألف درهم ويقبض بدل الكتابة، فكاتب وقبض بعض الألف ثم عجز فالمال للذي قبض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا هو مكاتب بينهما، وما أدى فهو بينهما. وأصله أن الكتابة تتجزأ عنده، خلافا لهما، بمنزلة العتق؛ لأنها تفيد الحرية من وجه فتقتصر على نصيبه عنده للتجزؤ. وفائدة الإذن أن لا يكون له حق الفسخ كما يكون له إذا لم يأذن وإذنه له بقبض البدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كتابة العبد المشترك]
م: (باب كتابة العبد المشترك) ش: أي هذا باب في بيان أحكام العبد المشترك، ولما كان الواحد قبل الاثنين قدم حكم كتابة الواحد، ثم أعقبه بحكم كتابة الاثنين وما فوقهما. م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان العبد بين رجلين) ش: وفي بعض النسخ بين شريكين وهي أولى م: (أذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه) ش: بأن قال كاتب نصيبك من العبد م: (بألف درهم ويقبض) ش: بنصب الضاد، أي وأن يقبض م: (بدل الكتابة فكاتب وقبض بعض الألف ثم عجز فالمال للذي قبض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: هو مكاتب بينهما) ش: أي بين الشريكين م: (وما أدى) ش: أي المكاتب من المال م: (فهو بينهما) ش: أي بين الشريكين م: (وأصله) ش: أي أصل الاختلاف. وقال الكاكي: أصل قوله فالمال للذي قبض.
م: (أن الكتابة تتجزأ عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (خلافا لهما بمنزلة العتق) ش: أي بمنزلة تجزؤ الإعتاق عنده خلافا لهما. ولما كانت لا تجزؤ عندهما كان بكتابة أحدهما نصيبه صار كله مكاتبا على ما يجيء الآن. م: (لأنها) ش: أي لأن الكتابة م: (تفيد الحرية من وجه) ش: لأن يكون حرا من حيث اليد م: (فتقتصر على نصيبه عنده) ش: أي فتقتصر الكتابة على نصيب المكاتب بكسر التاء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (للتجزؤ) ش: أي لأجل تجزؤ الكتابة.
م: (وفائدة الإذن) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال إذا كانت الكتابة تتجزأ فما الفائدة في إذن أحدهما للآخر بالكتابة، فقال: وفائدة الإذن م: (أن لا يكون له) ش: أي الشريك الذي لم يكاتب م: (حق الفسخ كما يكون له إذا لم يأذن، وإذنه له بقبض البدل) ش: أي الشريك الذي لم يكاتب.
قال الكاكي: إنما ذكر هذا، يعني قوله: وفائدة الإذن لئلا يتوهم أن الإذن شرط في حق جواز كتابة نصيبه، فإنه لو كاتب نصيبه صحت الكتابة ونفذت بالإجماع عند أبي حنيفة -(10/428)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في نصيبه. وعندهما في الكل ويثبت للساكت حق الفسخ بالاتفاق، فلو لم يفسخ حتى أدى البدل عتق حظه عند أبي حنيفة، وللساكت أن يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من البدل؛ لأنه عبد مشترك.
قلت: كيف يقول نفذت بالإجماع، وفيه خلاف مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما نبين، فنقول: إن أذن أحد الشريكين للآخر بالكتابة جازت، خلافا لمالك والشافعي في قول، وبغير الإذن أيضا يجوز عندنا، ولكن لصاحبه نقضه.
وقال الشافعي ومالك: لا يجوز. وقال أحمد والحسن وابن أبي ليلى: يجوز بغير الإذن أيضا ولا ينقضه صاحبه، فإذا أدى العبد البدل ومثله للساكت يعتق.
فإن قيل: الكتابة إما أن يعتبر فيها معنى المعاوضة أو معنى الإعتاق أو معنى تعليق العتق بأداء المال. ولو وجد شيء من ذلك من أحد الشريكين بغير إذن صاحبه ليس للآخر ولاية الفسخ، فمن أين كتابة ذلك؟
أجيب: بأن الكتابة ليست عين كل واحد من المعاني المذكورة، وإنما هي تشتمل عليها، فيجوز أن يكون لها حكم يختص وهو ولاية الفسخ لمعنى توجيه، وهو إلحاق الضرر ببطلان حق البيع للشريك الساكت بالكتابة.
ويصرف الإنسان في خالص حقه إنما يتنوع إذا لم يقصر به الغير، ثم المحل وهي الكتابة تقبل الفسخ، ولهذا ينفسخ بتراضيهما فيتحقق المقتضى، وانتفى المانع.
وأما المعاني المذكورة فالمعاوضة وإن قبلت الفسخ لكن ليس فيها ضرر لصاحبه، فإنه إذا باع نصيبه لم يبطل على صاحبه بيع نصيبه والإعتاق والتعليق وإن كان فيها ضرر، لكن المحل لا يقبل الفسخ، أما الإعتاق فظاهر، وأما التعليق فلأنه يمين.
ثم اعلم أن هذا الذي ذكرنا إذا كاتبه أحد الشريكين، فأما إذا كاتبه الشريكان معا كتابة واحدة يجوز، وبه قالت الثلاثة، فإذا أدى إلى أحدهما حصته لم يعتق نصيبه أو وهب له عتق.
ثم المكاتب بالخيار بعد إعتاق أحدهما إن شاء عجز ويكون الشريك بالخيار بين التضمين والسعاية في نصف القيمة، والعتق في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين العتق والسعاية إن كان معسرا، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن المعتق إن كان موسرا ويسعى العبد من نصف قيمته إن كان معسرا. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن الأقل من نصف القيمة ونصف ما بقي من كتابته، وكذا العبد يسعى في الأقل عند البدل، أي بدل الكتابة.(10/429)
إذن للعبد بالأداء فيكون متبرعا بنصيبه عليه، فلهذا كان كل المقبوض له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذن للعبد بالأداء فيكون) ش: أي الشريك الآذن م: متبرعا بنصيبه ش: من الكسب م: (عليه) ش: قال صاحب العناية: أي على المكاتب، فلهذا كان كل المقبوض له، ويجوز أن يكون ضمير عليه للعبد، أي فيكون الآذن متبرعا بنصيبه على العبد.
قلت: فيه تعسف والضمير للعبد كما قال غيره من الشراح م: (فلهذا) ش: أي فلأجل الكون الشريك الآذن متربعا بنصيبه من الكسب م: (كان كل المقبوض له) ش: أي لشريك الكاتب، ثم إذا تبرع الآذن بقبض الشريك لم يرجع.
فإن قيل: المتبرع يرجع بما تبرع إذا لم يحصل مقصودة من التبرع كمن تبرع بأداء الثمن عن المشتري ثم هلك المبيع قبل القبض أو استحق كان له الرجوع لعدم حصول مقصوده من التبرع وسلامة المبيع للمشتري.
أجيب: بأن المتبرع عليه هو المكاتب من وجه من حيث إن مقصود الأول قضاء دينه من ماله وبعد العجز صار عبدا له من كل وجه، والمولى لا يستوجب على عبده شيئا بخلاف البائع أو الزوج؛ لأن ذمتهما صالحة لوجوب دين المتبرع ويثبت له الحق الرجوع إذا لم يحصل مقصوده.
وفي " الكافي " ليس للساكت أن يأخذ منه نصيبه؛ لأن الإذن له بقبض البدل إذن للمكاتب بالأداء والإذن بالأداء تبرع منه بنصيبه من الكسب على المكاتب وقد تم بقبض المكاتب فسلم كله كرب الوديعة إذا أمر المودع بقضاء دينه مع الوديعة سنقضي لم يبق لرب الوديعة عليه سبيل، هكذا هذا إلا إذا نهاه قبل الأداء فيصح نهيه؛ لأنه تبرع ولم يتم ولو أذن وهو مريض وأدى من كسب بعض الكتابة صح من كل ماله؛ لأن الكسب إذا لم يكن موجود حالة الإذن فالآذن لم يتبرع بشيء من ماله حتى يعتبر من الثلث.
وإنما يتبرع لمنافع العبد حيث أذن له بصرفها في أداء بدل الكتابة وتبرع المريض بالمنافع يعتبر من جميع المال لا من الثلث؛ لأن حق الورثة يتعلق بالأعيان لا المنافع، وإن كان قد اكتسب قبل الكتابة فأذن فأذن له في أداء بدل الكتابة يعتبر من الثلث لوجود الكسب وقت الإذن وتعلق حق الورثة.(10/430)
وعندهما الإذن بكتابة نصيبه إذن بكتابة الكل لعدم التجزؤ، فهو أصيل في النصف وكيل في النصف، فهو بينهما والمقبوض مشترك بينهما فيبقى كذلك بعد العجز.
قال: وإذا كانت جارية بين رجلين كاتباها فوطئها أحدهما فجاءت بولد فادعاه ثم وطئها الآخر فجاءت بولد فادعاه ثم عجزت فهي أم ولد للأول؛ لأنه لما ادعى أحدهما الولد صحت دعوته لقيام الملك له فيه، وصار نصيبه أم ولد له؛ لأن المكاتبة لا تقبل النقل من ملك إلى ملك فتقتصر أمومية الولد على نصيبه كما في المدبرة المشتركة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعندهما الإذن بكتابة نصيبه إذن بكتابة الكل لعدم التجزؤ فهو) ش: أي الشريك المكاتب م: (أصيل في النصف) ش: الذي له م: (وكيل في النصف) ش: الذي لشريكه.
م: (فهو) ش: أي البدل م: (بينهما والمقبوض مشترك بينهما فيبقى كذلك بعد العجز) ش: أي كما لو كاتباه فعجز وفي يده من الأكساب فهي بينهما فكأن المصنف مال إلى قولهما، فلذلك أخره فافهم.
[جارية بين رجلين كاتباها فوطئها أحدهما فجاءت بولد فادعاه]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كانت جارية بين رجلين كاتباها فوطئها أحدهما فجاءت بولد فادعاه) ش: أي فادعى الواطئ الولد وصحت دعوته وثبت النسب منه م: (ثم وطئها الآخر فجاءت بولد فادعاه) ش: أي فادعى الواطئ الآخر الولد وصحت دعوته وتثبت النسب منه كما في المدبرة المشتركة فإنه يقتصر على أمية الولد فيها على نصيبه بالإجماع م: (ثم عجزت فهي أم ولد للأول) ش: أي الجارية كلها تصير أم ولد للواطئ الأول بطريق التبيين.
م: (لأنه لما ادعى أحدهما الولد صحت دعوته لقيام الملك فيه) ش: أي في نصيبه، وفي بعض النسخ فيها أي في الجارية م: (وصار نصيبه أم ولد له) ش: بناء على أن الاستيلاد في المكاتبة يتجزأ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا وجه لتكميل الاستيلاد إلا بتملك نصيب صاحبه وهذا لا يمكن، أشار إليه بقوله.
م: (لأن المكاتبة لا تقبل النقل من ملك إلى ملك) ش: بسائر الأسباب فكذا بالاستيلاد م: (فتقتصر أمومية الولد على نصيبه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك يقتصر كون الجارية أم ولد على نصيب الواطئ الأول. م: (كما في المدبرة المشتركة) ش: بأن استولدها أحدهما فإنه تقتصر أمومية الولد على نصيبه بالإجماع فيتحرى الاستيلاد بالاتفاق والمشتركة الجامع أن كلا من الكتابة والتدبير يمنع الانتقال من ملك إلى ملك.
فإن قلت: التدبير لا يقبل الفسخ والكتابة تقبل فجاز أن يكون الاقتصار على النصف في المدبرة لعدم قبول التدبير للانفساخ.(10/431)
وإذا ادعى الثاني ولدها الأخير صحت دعوته لقيام ملكه ظاهرا، ثم إذا عجزت بعد ذلك جعلت الكتابة كأن لم تكن وتبين أن الجارية كلها أم ولد للأول؛ لأنه زال المانع من الانتقال ووطؤه سابق، ويضمن لشريكه نصف قيمتها؛ لأنه تملك نصيبه لما استكمل الاستيلاد ونصف عقرها لوطئه جارية مشتركة، ويضمن شريكه كمال العقر وقيمة الولد ويكون ابنه؛ لأنه بمنزلة المغرور؛ لأنه حين وطئها كان ملكه قائما ظاهرا
وولد المغرور ثابت النسب منه حر بالقيمة على ما عرف، لكنه وطئ أم ولد الغير حقيقة فيلزمه كمال العقر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الاقتصار لعدم قبول التدبير الانتقال من ملك إلى ملك على أن نقول الكتابة لازمة في حق المولى أيضا.
فإن قلت: جاز أن تنفسخ الكتابة بعجزها.
قلت: جاز أن ينفسخ التدبير والاقتصار أيضا بقضاء القاضي.
م: (وإذا ادعى الثاني ولدها الأخير صحت دعوته لقيام ملكه ظاهرا) ش: قيد بقوله ظاهرا؛ لأن الظاهر أن تمضي على كتابتها فكان ملكه باقيا، وأما بالنظر إلى التعجيز لم يبق ملكه فيها.
م: (ثم إذا عجزت بعد ذلك جعلت الكتابة كأن لم تكن، وتبين أن الجارية كلها أم ولد للأول؛ لأنه زال المانع من الانتقال ووطؤه سابق) ش: أي فتصير أم ولد من ذلك الوقت لأن السبب هو الوطء فصار كما إذا سقط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يستحق الزوائد.
م: (ويضمن لشريكه نصف قيمتها) ش: أي نصف قيمة الجارية م: (لأنه تملك نصيبه لما استكمل الاستيلاد ونصف عقرها) ش: أي ويضمن أيضا نصف عقر الجارية م: (لوطئه جارية مشتركة) ش: أي لأجل وطئه الجارية المشتركة م: (ويضمن شريكه) ش: أي الشريك الثاني م: (كمال العقر) ش: أي عقر الجارية.
فيكون النصف بالنصف قصاصا، ويبقى للأول على الثاني نصف العقر م: (وقيمة الولد) ش: أي ويضمن أيضا قيمة الولد م: (ويكون) ش: أي الولد م: (ابنه) ش: بالنظر الثاني بالنظر إلى الظاهر والحقيقة كما بالنظر إلى الظاهر، فيكون الولد ابنه، أي ابن الثاني بالنظر إلى الظاهر، فيكون الولد ابنه بالقيمة، م: (لأنه بمنزلة المغرور؛ لأنه حين وطئها كان ملكه قائما ظاهرا) ش: لأنه وطئها على حسبان أن نصفها ملكه، وظهر بالعجز بطلان الكتابة فتبين أن لا ملك له فصار كالمغرور.
م: (وولد المغرور ثابت النسب منه حر بالقيمة على ما عرف) ش: في موضعه في باب الاستيلاد، وأما بالنظر إلى الحقيقة فلزوم كمال العقر أشار إليه بقوله م: (لكنه وطئ أم ولد الغير حقيقة فيلزمه كمال العقر) .(10/432)
وأيهما دفع العقر إلى المكاتبة جاز؛ لأن الكتابة ما دامت باقية فحق القبض لها لاختصاصها بمنافعها وأبدالها. وإذا عجزت ترده إلى المولى لظهور اختصاصه وهذا الذي ذكرنا كله قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله- هي أم ولد للأول، ولا يجوز وطء الآخر؛ لأنه لما ادعى الأول الولد صارت كلها أم ولد له؛ لأن أمومية الولد يجب تكميلها بالإجماع ما أمكن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يضمن الثاني قيمة الولد الأول عند أبي حنيفة لأن حكم ولد أم الولد حكم أمه، ولا قيمة لأم الولد عنده فكذا لابنها.
أجيب: بأن هذا على قولهما، وأما على قوله فليس عليه ضمان قيمة الولد.
قيل: هذا ليس بشيء.
والجواب الصحيح: أن عن أبي حنيفة روايتين في تقوم أم الولد، فيكون الولد متقوما على أحدهما فكان حرا بالقيمة.
وقيل: عدم تقومها ليس على الإطلاق بل متقوم في الجملة فإنه لو كاتب أم ولده جاز بالاتفاق وفيه نظر؛ لأن جواز كتابتها لا يدل عند تقومها لاحتمال أن تنعقد الكتابة في حقها بمعني التعليق لا المعارضة.
وأجيب: بأنه لا يسلم انعقادها تعليقا بدليل ردها إلى الرق عند العجز ويبطل الكتابة، ولا يمكن إبطال التعليق بوجه.
قيل: إبطاله عند العجز لفوات وصف الشرط وهو أن يؤدي كل شهر كذا، وعند العجز فات هذا الوصف.
وأجيب: بأنه لو كان كذلك لم يكن إبقاء عند الكتابة إذا لم يطلب المولى، ورده إلى الرق، ولما صح إبطاله يطلب إلى المولى عند العجز وبقاؤه عند عدم طلبه دل أنه انعقد كتابة لا تعليقا.
م: (وأيهما دفع العقر إلى المكاتبة) ش: يعني قبل العجز م: (جاز؛ لأن الكتابة ما دامت باقية فحق القبض لها لاختصاصها بمنافعها وأبدالها) ش: بفتح الهمزة جمع بدل م: (وإذا عجزت ترده) ش: أي العقر م: (إلى المولى لظهور اختصاصه) ش: أي اختصاص المولى به. م: (وهذا الذي ذكرنا كله قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله - هي أم ولد للأول) ش: وهي مكاتبة له تعتق له بأداء البدل إلى الأول.
م: (ولا يجوز وطء الآخر) ش: أي الثاني من الشريكين م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لما ادعى الأول الولد صارت أم ولد له؛ لأن أمومية الولد يجب تكميلها بالإجماع ما أمكن) ش: لأن(10/433)
وقد أمكن بفسخ الكتابة لأنها قابلة للفسخ فتفسخ فيما لا تتضرر به المكاتبة وتبقى الكتابة فيما وراءه. بخلاف التدبير لأنه لا يقبل الفسخ، وبخلاف بيع المكاتب؛ لأن في تجويزه إبطال الكتابة، إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبا. وإذا صارت كلها أم ولد له
فالثاني وطئ أم ولد الغير فلا يثبت نسب الولد منه، ولا يكون حرا عليه بالقيمة غير أنه لا يجب الحد عليه للشبهة ويلزمه جميع العقر؛ لأن الواطئ لا يعرى عن إحدى الغرامتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاستيلاد وطلب الولد وإنه يقع بالفعل والفعل لا يتجزأ.
ولكن كذا ما يثبت به، ولهذا لا يكمل في القنة بالإجماع م: (وقد أمكن) ش: أي تكميل الاستيلاد هاهنا م: (بفسخ الكتابة؛ لأنها قابلة للفسخ فتفسخ) ش: تكميلا للاستيلاد م: (فيما لا تتضرر بها المكاتبة) ش: وهو أمومية الولد لأنه لا ضرر لها فيها بل لها فيها نفع حيث لم يبق محلا للابتدال بالبيع والهبة.
ويعتق مجانا بعد موت المولى م: (وتبقى الكتابة فيما وراءه) ش: ما لا يتضرر وهو كونها أحق في أكسابها وأكساب ولدها وسقوط الحد عن الثاني في وطئه.
م: (بخلاف التدبير) ش: جواب عن قياس أبي حنيفة المنازع فيه على المدبرة المشتركة.
وتقريره أن المدبر بخلاف ذلك م: (لأنه لا يقبل الفسخ) ش: يعني إلا إذا استولد مدبرة مشتركة فإنه لا يكمله، ويقتصر على نصيب المستولد؛ لأنه لا يمكن تكميلها إذ التدبير لا يقبل الفسخ فيكون مانعا للنقل من ملك إلى ملك.
م: (وبخلاف بيع المكاتب) ش: هذا جواب عن سؤال يرد على المدبرة بأن قيل: هلا قلتم بفسخ الكتابة ضمنا لصحة البيع فيما إذا باع المكاتب كما قلتم بفسخ الكتابة ضمنا لصحة الاستيلاد فقال م: (لأنه في تجويزه) ش: أي البيع.
م: (إبطال الكتابة إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبا) ش: ولو أبطلناها يتضرر به المكاتب وفسخ الكتابة فيما يتضرر به المكاتب لا يصح , وقيل: يجوز أن يكون قوله: وبخلاف بيع المكاتب بيانا لقوله وتبقى الكتابة فيما وراءه، فإن البيع مما لا يتضرر به فتبقى الكتابة كما كانت. م: (وإذا صارت كلها أم ولد له) ش: أي للأول هذا كلام متصل بقوله: صارت كلها أم ولد للأول يعني لما ادعى الأول صارت كلها أم الولد له.
م: (فالثاني وطئ أم ولد الغير فلا يثبت نسب الولد منه، ولا يكون حرا عليه بالقيمة غير أنه لا يجب الحد عليه للشبهة) ش: وهي شبهه كونها مكاتبة بينهما بدليل ما ذكره أبو حنيفة، أو أنها تبقى مكاتبة فيما يتضرر به بالإجماع ولا حد على واطئ مكاتبته م: (ويلزمه جميع العقر؛ لأن الواطئ لا يعرى عن إحدى الغرامتين) ش: وهما الحد والعقر.(10/434)
وإذا بقيت الكتابة وصارت كلها مكاتبة له قيل يجب عليها نصف بدل الكتابة؛ لأن الكتابة انفسخت فيما لا تتضرر به المكاتبة ولا تتضرر بسقوط نصف البدل. وقيل يجب كل البدل لأن الكتابة لم تنفسخ إلا في حق التملك ضرورة فلا يظهر في حق سقوط نصف البدل وفي إبقائه في حقه نظر للمولى. وإن كان لا تتضرر المكاتبة بسقوطه
والمكاتبة هي التي تعطى العقر لاختصاصها بإبدال منافعها. ولو عجزت وردت في الرق ترد إلى المولى لظهور اختصاصه على ما بينا. قال: ويضمن الأول لشريكه في قياس قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - نصف قيمتها مكاتبة؛ لأنها تملك نصيب شريكه وهي مكاتبة فيضمنه موسرا كان أو معسرا؛ لأنه ضمان التملك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا بقيت الكتابة) ش: متصلة بقوله: وتبقى الكتابة فيما وراء ما لا يتضرر م: (وصارت كلها مكاتبة له) ش: أي للأول م: (قيل) ش: هذا جزاء إذا بقيت وقائله الأتريدي.
م: (يجب عليها نصف بدل الكتابة؛ لأن الكتابة انفسخت فيما لا تتضرر به المكاتبة ولا تتضرر بسقوط نصف البدل وقيل) ش: وهو قول عامة المشايخ.
م: (يجب كل البدل؛ لأن الكتابة لم تنفسخ إلا في حق التملك ضرورة) ش: أي لضرورة تكميل الاستيلاد م: (فلا يظهر في حق سقوط نصف البدل) ش: لأن الثابت بالضرورة لا يتعدى فيبقى العقد الأول كما كان.
م: (وفي إبقائه) ش: أي إبقاء عقد الكتابة قيل يجوز أن يكون هذا جوابا عما يقال: الكتابة تنفسخ فيما لا يتضرر به المكاتب، وهي لا تتضرر بسقوط نصف البدل فيجب أن تنفسخ.
ووجهه أن في إبقاء عقد الكتابة م: (في حقه) ش: أي في حق نصف البدل م: (نظر للمولى) ش: المستولد م: (وان كان لا تتضرر المكاتبة بسقوطه) ش: أي بسقوط البدل فرجحنا جانب المولى؛ لأن الأصل في الكتابة عدم الفسخ.
م: (والمكاتبة: هي التي تعطي العقر لاختصاصها بإبدال منافعها ولو عجزت وردت في الرق يرد إلى المولى لظهور اختصاصه) ش: أي اختصاص المولى الأول المستولد م: (على ما بينا) ش: أي في تعليل أبي حنيفة.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير " م: (ويضمن الأول لشريكه في قياس قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في إعتاق المكاتب بين اثنين فإن عنده يضمن المعتق قيمة نصيب شريكه مكاتبا. فكذلك هنا يضمن م: (نصف قيمتها مكاتبة) ش: أي حال كونها مكاتبة م: (لأنها تملك نصيب شريكه وهي مكاتبة فيضمنه) ش: أي النصف سواء م: (موسرا أو كان أو معسرا؛ لأنه ضمان التملك) ش: وهو لا يختلف باليسار والإعسار.(10/435)
وفي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن الأقل من نصف قيمتها ومن نصف ما بقي من بدل الكتابة؛ لأن حق شريكه في نصف الرقبة على اعتبار العجز وفي نصف البدل على اعتبار الأداء فللتردد بينهما يجب أقلهما.
قال: وإذا كان الثاني لم يطأها ولكن دبرها ثم عجزت بطل التدبير؛ لأنه لم يصادف الملك أما عندهما فظاهر؛ لأن المستولد تملكها قبل العجز، وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأنه بالعجز تبين أنه تملك نصيبه من وقت الوطء، فتبين أنه مصادف ملك غيره والتدبير يعتمد الملك بخلاف النسب؛ لأنه يعتمد الغرور على ما مر. قال: وهي أم ولد للأول فلأنه تملك نصيب شريكه وكمل الاستيلاد على ما بينا ويضمن لشريكه نصف عقرها لوطئه جارية مشتركة ونصف قيمتها؛ لأنه تملك نصفها بالاستيلاد وهو تملك بالقيمة والولد ولد للأول؛ لأنه صحت دعوته لقيام المصحح، وهذا قولهم جميعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن الأقل من نصف قيمتها ومن نصف ما بقي من بدل الكتابة؛ لأن حق شريكه في نصف الرقبة على اعتبار العجز، وفي نصف البدل على اعتبار الأداء فللتردد بينهما) ش: أي بين الاعتبارين م: (يجب أقلهما) ش: لأنه متيقن.
قال: ش: أي في " الجامع الصغير " م: (وإذا كان الثاني لم يطأها ولكن دبرها) ش: أي بعدما استولدها الأول م: (ثم عجزت بطل التدبير؛ لأنه لم يصادف الملك أما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (فظاهر لأن المستولد تملكها قبل العجز) ش " فانفسخت الكتابة قبل التدبير فلا يصح تدبيره. م: (وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأنه بالعجز تبين أنه تملك نصيبه من وقت الوطء فتبين أنه) ش: أي التدبير م: (مصادف ملك غيره , والتدبير يعتمد الملك) ش: أي غير المدبر في التدبير يعتمد ظاهر الملك , فلا يصح بدونه.
م: (بخلاف النسب؛ لأنه يعتمد الغرور) ش: لا الملك يعني يثبت النسب بمجرد الغرور كما لو اشترى أمة فاستولدها فاستحقت لم يبطل النسب، وكان الولد حرا بالقيمة فكذا هاهنا م: (على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: ويكون ابنه؛ لأنه بمنزلة المغرور. م: (قال: وهي أم ولد للأول) ش: أي الجارية التي دبرها الثاني بعد استيلاد الأول ثم عجزت أم ولد للأول م: (لأنه تملك نصيب شريكه وكمل الاستيلاد على ما بينا) ش: يعني في تعليل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وهو قوله وتبين أن الجارية كلها أم ولد للأول؛ لأنه زال المانع من الانتقال م: (ويضمن لشريكه نصف عقرها لوطئه جاريه مشتركة ونصف قيمتها؛ لأنه تملك نصفها بالاستيلاد، وهو تملك بالقيمة والولد ولد للأول؛ لأنه صحت دعوته لقيام المصحح) ش: وهو الملك في المكاتبة م: (وهذا قولهم جميعا) ش: وإن الاختلاف مع بقاء الكتابة وهاهنا ما بقيت؛ لأنه لما استولدها الأول ملك نصف شريكه ولم يبق ملك للمدبر فيها فلا يصح تدبيره.(10/436)
ووجهه ما بينا قال: وإن كانا كاتباها ثم أعتقها أحدهما وهو موسر ثم عجزت يضمن المعتق لشريكه نصف قيمتها ويرجع بذلك عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: لا يرجع عليها؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق تصير كأنها لم تزل قنة. والجواب فيه على الخلاف في الرجوع وفي الخيارات وغيرها كما هو مسألة تجزؤ الإعتاق، وقد قررناه في الإعتاق، فأما قبل العجز ليس له أن يضمن المعتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الإعتاق لما كان يتجزأ عنده كان أثره أن يجعل نصيب غير المعتق كالمكاتب فلا يتغير به نصيب صاحبه؛ لأنها مكاتبة قبل ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجهه ما بينا) ش: أي في تعليل القولين، أما طرف أبي حنيفة فقد ذكرنا آنفا من قوله وتبين أن الجارية.... إلى آخره وأما طرفهما قوله: لأنه لما ادعى الأول صارت كلها أم ولد له
إلى آخره.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير) م: (وإن كانا كاتباها) ش: أي الجارية م: (ثم أعتقها أحدهما وهو موسر) ش: أي والحال أنه موسر غني م: (ثم عجزت يضمن لشريكه نصف قيمتها) ش: أي قيمة الجارية.
م: (ويرجع بذلك) ش: وفي بعض النسخ يرجع به م: (عليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا لا يرجع عليها؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق تصبر كأنها لم تزل قنة. والجواب فيه) ش: أي في إعتاق أحد الشريكين القن م: (على الخلاف في الرجوع) ش: فإن عند أبي حنيفة إذا ضمن الساكت المعتق فالمعتق يرجع على العبد وعندهما لا يرجع.
م: (وفي الخيارات) ش: فعند أبي حنيفة الساكت مخير بين الخيارات الثلاثة إن شاء أعتق وإن شاء استسعى في العبد، وإن شاء ضمن لشريكه قيمة نصيبه. وعندهما ليس إلا الضمان مع اليسار والسعاية مع الإعسار م: (وغيرها) ش: أي وغير الخيارات وهو الولاء وتريد الاستسعاء فإن عند أبي حنيفة إن أعتق الساكت أو استسعى فالولاء بينهما وإن ضمن المعتق فالولاء للعتق.
وعندها للمعتق في الوجهين جميعا وإلى ترديد الاستسعاء فإنهما لا يريان الاستسعاء مع اليسار ويقولان إن كان المعتق موسرا يضمن نصيب الساكت، وإن كان معسرا يسعى العبد لنصيب الساكت وأبو حنيفة يراه م: (كما في مسألة تجزؤ الإعتاق وقد قررناه في الإعتاق) ش: في باب العبد يعتق بعضه هذا كله إذا عجز.
م (فأما قبل العجز ليس أن يضمن المعتق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإعتاق لما كان يتجزأ عنده كان أثره أن يجعل نصيب غير المعتق كالمكاتب فلا يتغير به نصيب صاحبه؛ لأنها مكاتبه قبل ذلك) ش: إن معتق البعض عنده كالمكاتب وهنا نصيب صاحبه مكاتب بالكتابة السابقة فلا(10/437)
وعندهما لما كان لا يتجزأ بعتق الكل فله أن يضمنه قيمة نصيبه مكاتبا إن كان موسرا ويستسعى العبد إن كان معسرا لأنه ضمان إعتاق فيختلف باليسار والإعسار. قال: وإن كان العبد بين رجلين دبره أحدهما ثم أعتقه الآخر وهو موسر فإن شاء الذي دبره يضمن المعتق نصف قيمته مدبرا، وإن شاء استسعى العبد وإن شاء أعتق وإن أعتقه أحدهما ثم دبره الآخر لم يكن له أن يضمن المعتق ويستسعى للعبد أو يعتق، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجهه أن التدبير يتجزأ عنده فتدبير أحدهما يقتصر على نصيبه لكن يفسد به نصيب الآخر فيثبت له خيرة الإعتاق والتضمين والاستسعاء كما هو مذهبه، فإذا أعتق لم يبق له خيار التضمين والاستسعاء وإعتاقه يقتصر على نصيبه؛ لأنه يتجزأ عنده ولكن يفسد به نصيب شريكه فله أن يضمنه قيمة نصيبه وله خيار العتق والاستسعاء أيضا كما هو مذهبه ويضمنه قيمة نصيبه مدبرا؛ لأن الإعتاق صادف المدبر. ثم قيل قيمة المدبر تعرف بتقويم المقومين وقيل يجب ثلثا قيمته وهو قن لأن المنافع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير مكاتبا بالإعتاق، وإنما يؤثر في نصيب صاحبه يجعل مكاتبا بعد العجز فلهذا تقتصر ولاية التضمين على ما بعد العجز م: (وعندهما لما كان لا يتجزأ بعتق الكل فله أن يضمنه قيمة نصيبه مكاتبا إن كان موسرا ويستسعى العبد إن كان معسرا؛ لأنه ضمان إعتاق فيختلف باليسار والإعسار) ش: أي يختلف الضمان بيسار المعتق وإعساره.
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن كان العبد بين رجلين دبره أحدهما ثم أعتقه الآخر وهو موسر فإن شاء الذي دبره يضمن المعتق نصف قيمته مدبرا، وإن شاء استسعى العبد وإن شاء أعتق) ش: هذا ظاهر وإن عكس المسألة أشار إليه بقوله. م: (وان أعتقه أحدهما ثم دبره الآخر لم يكن له أن يضمن المعتق ويستسعى العبد أو يعتق، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجهه أن التدبير يتجزأ عنده فتدبير أحدهما يقتصر على نصيبه لكن يفسد به) ش: أي بالتدبير م: (نصيب الآخر) ش: لسد باب النقل عليه م: (فيثبت له خيرة الإعتاق) ش: أي فيثبت له الخيار م: (والتضمين والاستسعاء كما هو مذهبه) ش: أي مذهب أبي حنيفة.
م: (فإذا أعتق لم يبق له خيار التضمين والاستسعاء وإعتاقه يقتصر على نصيبه لأنه يتجزأ عنده ولكن يفسد به) ش: أي بالإعتاق م (نصيب شريكه) ش: لسد باب الاستخدام عليه م: (فله أن يضمن قيمة نصيبه، وله خيار العتق والاستسعاء أيضا كما هو مذهبه) ش: أي مذهب أبي حنيفة م: (ويضمنه قيمة نصيبه مدبرا) ش: أي حال كونه مدبرا م: (لأن الإعتاق صادف المدبر) ش: فيعتبر قيمته مدبرا.
م: (ثم قبل قيمة المدبر تعرف بتقويم المقومين. وقيل يجب ثلثا قيمته وهو قن؛ لأن المنافع(10/438)
أنواع ثلاثة: البيع وأشباهه، والاستخدام وأمثاله، والإعتاق وتوابعه. والفائت البيع فيسقط الثلث. وإذا ضمنه لا يتملكه بالضمان؛ لأنه لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك كما إذا غصب مدبرا فأبق
وإن أعتقه أحدهما أولا كان للآخر الخيارات الثلاثة عنده، فإذا دبره لم يبق له خيار التضمين وبقي خيار الإعتاق والاستسعاء؛ لأن المدبر يعتق ويستسعى. وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله: إذا دبره أحدهما فعتق الآخر باطل؛ لأنه لا يتجزأ عندهما فيتملك نصيب صاحبه بالتدبير ويضمن نصف قيمته موسرا كان أو معسرا؛ لأنه ضمان تملك فلا يختلف باليسار والإعسار ويضمن نصف قيمته قنا؛ لأنه صادفه التدبير وهو قن وإن أعتقه أحدهما فتدبير الآخر باطل؛ لأن الإعتاق لا يتجزأ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنواع ثلاثة: البيع) ش: أي أحدها م: (وأشباهه) ش: أي أشباه البيع في كونه خروجا عن البيع كالهبة والصدقة والإرث والوصية؛ لأن في كل ذلك يزول الملك عن الرقبة كالبيع.
م: (والاستخدام) ش: أي النوع الثاني الاستخدام م: (وأمثاله) ش: أي أمثال الاستخدام نحو الإجارة والإعارة والوطء م: (والإعتاق) ش: أي النوع الثالث الإعتاق م: (وتوابعه) ش: أي توابع الإعتاق كالكتابة والاستيلاد والتدبير والإعتاق على مال؛ لأن كل واحد منهما يؤول إلى الحرية كالإعتاق م: والفائت البيع ش: أي الفائت من هذه الأنواع في المدبر النوع الذي هو البيع يعني جوازه م: (فيسقط الثلث وإذا ضمنه لا يتملكه بالضمان؛ لأنه) ش: أي لأن المدبر م: (لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك كما إذا غضب مدبرا فأبق) ش: فإنه يضمنه ولا يتملكه، فكان ضمان حيلولة لا ضمان تملك.
م: (وإن أعتقه أحدهما أولا كان للآخر الخيارات الثلاثة) ش: أي خيار الإعتاق والتضمين والاستسعاء م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م (فإذا دبره لم يبق له خيار التضمين) ش: لأنه بمباشرة التدبير يصير مبرئا للعتق عن الضمان؛ لأن تضمينه متعلق بشرط تملك العين بالضمان وقد فات ذلك بالتدبير.
بخلاف الأول فهاهنا نصيبه كان مدبرا حين أعتق فلا يكون شرط التضمين تمليك العين منه كذا ذكره المحبوبي م: (وبقي خيار الإعتاق والاستسعاء؛ لأن المدبر يعتق ويستسعى، وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله - إذا دبره أحدهما فعتق الآخر باطل؛ لأنه لا يتجزأ عندهما فيتملك نصيب صاحبه بالتدبير ويضمن نصف قيمته موسرا كان أو معسرا؛ لأنه ضمان تملك فلا يختلف باليسار والإعسار ويضمن نصف قيمته قنا) ش: أي حال كونه قنا.
م: (لأنه صادفه التدبير وهو قن. وإن أعتقه أحدهما فتدبير الآخر باطل؛ لأن الإعتاق لا يتجزأ(10/439)
فيعتق كله فلم يصادف التدبير الملك وهو يعتمده ويضمن نصف قيمته إن كان موسرا، ويسعى العبد في ذلك إن كان معسرا؛ لأن هذا ضمان الإعتاق فيختلف ذلك باليسار والإعسار عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعتق كله فلم يصادف التدبير الملك وهو يعتمده) ش: أي التدبير يعتمد الملك م: (ويضمن نصف قيمته إن كان موسرا ويسعى العبد في ذلك) ش: أي في النصف م: (إن كان معسرا؛ لأن هذا ضمان الإعتاق فيختلف ذلك باليسار والإعسار عندهما) .(10/440)
باب موت المكاتب وعجزه وموت المولى قال: وإذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله، فإن كان له دين يقبضه أو مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه، وانتظر عليه اليومين أو الثلاثة نظرا للجانبين. والثلاثة هي المدة التي ضربت لإبلاء الأعذار كإمهال الخصم للدفع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب موت المكاتب وعجزه وموت المولى]
م: (باب موت المكاتب وعجزه وموت المولى) ش: أي هذا باب في بيان أحكام الكتابة عند موت المكاتب وعند عجزه عن أداء مال الكتابة وعند موت المولى، وتأخير هذه الأحكام ظاهر التناسب؛ لأن الموت والعجز بعد العتق.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا عجز المكاتب عن نجم) ش: النجم هو الطالع، ثم سمي به الوقت المضروب، ومنه قال الشافعي أقل التأجيل نجمان، أي شهران، ثم سمي به ما يؤدي الوظيفة ومنه حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حط عن مكاتب أول نجم حل عليه، أي أول وظيفة من وظائف بدل الكتابة، ومنه قولهم نجم الدية، أي أداؤها نجوما، والمعنى هنا إذا عجز عن وظيفة من وظائف بدل الكتابة.
م: (نظر الحاكم في حاله، فإن كان له دين يقبضه) ش: أي يطلبه ويقبضه، م: (أو مال يقدم عليه) ش: يعني يأتي من وجه من المؤجر م: (لم يعجل) ش: أي القاضي م: (بتعجيزه) ش: المصدر مضاف إلى مفعوله. وطرأ ذكر الفاعل بتعجيز القاضي إياه، ويجوز أن يكون مضافا إلى فاعله وطوى ذكر المفعول م: (وانتظر عليه اليومين أو الثلاثة نظرا للجانبين) ش: أي جانب المولى وجانب المكاتب.
وقال الشافعي وأحمد: فإن كان له مال عند غائب مسافة السفر لم يلزم التأخير لطول المدة، وإن كان ما دونها لزمه التأخير إلى أن يحضره ودينه على إنسان إن كان حالا، ومن عليه [ ... ] وجب التأخير إلى استيفائه.
كما لو كانت له وديعة عند غيره وإن كان مؤجلا أو على معسر فلا يجب التأخير ولو حل نجم وهو نقد وله عروض يلزمه التأخير إلى بيعه. وفي (شرح الوجيز) مدة التأخير للبيع ثلاثة أيام ولا يلزم أكثر من ذلك، وعند مالك إذا عجز نجم يفسخ الكتابة بعد أن يتلوم الأيام وتجتهد في مدة التلوم فيمن يرجى له دون من لا يرجى، كذا في " الجواهر ".
م: (والثلاثة) ش: أي ثلاثة أيام م: (هي المدة التي ضربت لإبلاء الأعذار) ش: أي لإظهارها م: (كإمهال الخصم للدفع) ش: أي لأجل دفعه المدعي؛ لأن المراد من الخصم هو المدعى عليه، والألف واللام فيه بدل من المضاف إليه، وصورته أن يتوجه عليه الحكم وقال لي بنية حاضرة(10/441)
والمديون للقضاء فلا يزاد عليه، فإن لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا توالى على المكاتب نجمان رد في الرق علقه بهذا الشرط، ولأنه عقد إرفاق حتى كان أحسنه مؤجله، وحالة الوجوب بعد حلول نجم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤخر يوما أو يومين أو ثلاثة.
م: (والمديون للقضاء) ش: بالجر عطفا على كإمهال، أي وكإمهال المديون لأجل قضاء الدين، صورته ادعى عليه رجل مالا وأثبته فقال: أمهلني يوما أو يومين أو ثلاثة لأدفعه إليك فإنه يمهل إلى ثلاثة ولا يزاد.
وجعلوا التقدير من باب التعجيل دون التأخير، والأصل فيه قصة موسى مع الخضر صلوات الله عليهما وسلامه حيث قال في الكرة الثالثة {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] (الكهف: الآية 78) ، وكذلك قدر صاحب الشرع مدة الخيار ثلاثة أيام ونظائره كثيرة م: (فلا يزاد عليه) ش: أي على ما ذكره من المدة.
م: (فإن لم يكن له وجه) ش: أي جهة يتحصل منها المال م: (وطلب المولى تعجيزه عجزه) ش: أي القاضي م: (وفسخ الكتابة، وهذا) ش: أي الذي ذكرنا. م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا توالى على المكاتب نجمان رد في الرق) ش: رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " في " البيوع "، حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " في إذا تتابع على المكاتب نجمان فلم يؤد نجومه رد في الرق ".
ورواه البيهقي في " سننه " من حديث الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (علقه بهذا الشرط) ش: أي علقه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بهذا الشرط، والمعلق بالشرط معدوم قبله، وهذا لا يعرف قياسا، فكان كالمروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه قال أحمد وابن أبي ليلى وابن عيينة والحسن - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقيل: هذا استدلال بمفهوم الشرط وهو ليس بناهض؛ لأنه يفيد الوجود عند الوجود فقط. والجواب ما أشار إليه " فخر الإسلام ": أنه معلق بشرطين والمعلق بشرطين لا ينزل عن أحدهما كما لو قال إن دخلت هذين الدارين فأنت طالق. م: (ولأنه) ش: أي ولأن عقد الكتابة م: (عقد إرفاق) ش: أي رفق مبناه على المسامحة م: (حتى كان أحسنه مؤجله) ش: أي أحسن عقد الكتابة مؤجله، أراد أن التأجيل والتنجيم أحسن من الكتابة الحالة، وإن كانت الحالة جائزة عندنا، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - لازمان م: (وحالة الوجوب بعد حلول نجم) ش: أي حالة وجوب الأداء، يعني إذا تم النجم الأول صار المال حالا(10/442)
فلا بد من إمهال مدة استيسارا
وأولى المدد ما توافق عليه العاقدان. ولهما أن سبب الفسخ قد تحقق وهو العجز؛ لأن من صبر عن أداء نجم واحد يكون أعجز عن أداء نجمين، وهذا؛ لأن مقصود المولى الوصول إلى المال عند حلول نجم وقد فات فيفسخ إذا لم يكن راضيا به دونه. بخلاف اليومين والثلاثة؛ لأنه لا بد منها لإمكان الأداء فلم يكن تأخيرا، والآثار متعارضة، فإن المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن مكاتبة له عجزت عن أداء نجم فردها فسقط الاحتجاج بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعجز عن البدل في الحال لا يثبت الفسخ إلا بعد تأجيل مدة أخرى م: (فلا بد من إمهال مدة استيسارا) ش: يعني تمكينا للعبد من الأداء أزيل لعذره.
م: (وأولى المدد ما توافق عليه العاقدان) ش: أي حق الآجال مجتمع عليه العاقدان وهو النجم الثاني فإذا مضى مضى الثاني تحقق العجز فيوجب الفسخ لوجود مدة التأجيل الذي اتفق عليها العاقدان. م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن سبب الفسخ قد تحقق وهو العجز؛ لأن من عجز عن أداء نجم واحد يكون أعجز عن أداء نجمين، وهذا) ش: أي كون العجز سببا للفسخ.
م: (لأن مقصود المولى الوصول إلى المال عند حلول نجم وقد فات فيفسخ إذا لم يكن راضيا به دونه) ش: أي فيفسخ المولى الكتابة إذا لم يكن راضيا لبقاء الكتابة بدون ذلك النجم الذي شرط أو فيفسخ القاضي إذا لم يكن المولى راضيا به بدونه على اختلاف الروايتين، فإن المكاتب إذا عجز عن أداء بدل الكتابة ولم يرض بالفسخ فهل يستبدل المولى به ويحتاج إلى قضاء القاضي، فيه روايتان.
م: (بخلاف اليومين والثلاثة؛ لأنه لا بد منها لإمكان الأداء فلم يكن تأخيرا) ش: هذا كأنه جواب عما يقال إذا كان مقصودا لمولى الوصول إلى المال عند حلول نجم كان ينبغي أن يتمكن عن الفسخ من غير إمهال، فأجاب بخلاف اليومين..... إلى آخره.
م: (والآثار متعارضة) ش: جواب عما استدل به أبو يوسف بأثر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فبين ذلك بقوله: م: (فإن المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن مكاتبة له عجزت عن أداء نجم فردها) ش: فهذا يعارض آثر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (فسقط الاحتجاج بها) ش: أي بالآثار للتعارض، فإن الأثرين إذا تعارضا وجهل التاريخ تساقطا، فيصار إلى ما بعدهما من الحجة، فبقي ما قالاه من الدليل بقوله: إن سبب الفسخ متحقق سالما عن المعارض.
قلت: هذا الذي ذكره الشراح كلهم، وفيه نظر؛ لأن الأثر الذي نسبه المصنف إلى ابن عمر(10/443)
قال: فإن أخل بنجم عند غير السلطان فعجز فرده مولاه برضاه فهو جائز؛ لأن الكتابة تفسخ بالتراضي من غير عذر، فبالعذر أولى. ولو لم يرض به العبد لا بد من القضاء بالفسخ؛ لأنه عقد لازم تام فلا بد من القضاء أو الرضاء كالرد بالعيب بعد القبض. قال: وإذا عجز المكاتب عاد إلى أحكام الرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يصح على هذا الوجه ولا أخرجه أحد من أصحاب الآثار. وإنما المنقول عنه ما رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ثنا وكيع وابن أبي زائدة عن أبان بن عبد الله البلخي عن عطاء أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كاتب غلاما على ألف دينار فأداها إلا مائة فرده في الرق، والأثر الذي استدل به أبو يوسف ثابت فكيف يقع التعارض بين ما ثبت وبين ما لم يثبت، والآفة في مثل هذا الموضع من التقليد.
[الحكم لو أخل المكاتب بنجم]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (فإن أخل بنجم) ش: المراد بالإخلال بمركزه إذا ترك موضعه الذي عينه الأمير.
وقال تاج الشريعة: خل الرجل افتقر وذهب ماله، وكذلك أخل به م: (عند غير السلطان) ش: أي عند غير القاضي، والقاضي يطلق عليه السلطان، وكذا على كل من له حكم حتى إن الرجل سلطان في بيته، والسلطان في الأصل اسم للحجة ثم أطلق على الحاكم بطريق قولهم للرجل العادل عدل.
م: (فعجز فرده مولاه برضاه فهو جائز؛ لأن الكتابة تفسخ بالتراضي من غير عذر، فبالعذر أولى ولو لم يرض به العبد لا بد من القضاء بالفسخ؛ لأنه عقد لازم) ش: من جهة المولى لا يقدر على الانفراد م: (تام) ش: يعني ليس فيه شرط خيار.
م: (فلا بد من القضاء أو الرضاء كالرد بالعيب بعد القبض) ش: يعني إذا وجد المشتري بالبيع عيبا بعد القبض فإنه لا ينفرد بالفسخ، فكذا هذا، وبه قال مالك والشافعي في قوله وفيه رواية أخرى ذكرها في الذخيرة أن هذا عيب يمكن قبل أداء الكتابة فينفرد بالفسخ بدون القضاء، كما لو وجد المشتري عيبا قبل القبض وبه قال الشافعي في قول وأحمد.
[حكم عجز المكاتب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا عجز المكاتب عاد إلى أحكام الرق) ش: قال الأترازي: وقوله: عجز وقع في الفسخ على صيغة المبني للفاعل من الثلاثي، وكذلك إن كان وقع أيضا.
وعندي الوجه فيه أن يقال بلفظ المبني للمفعول من مزيد الثلاثي؛ لأن بمجرد العجز لا تنفسخ الكتابة ولا يعود المكاتب إلى الرق، بل يحتاج بعد ذلك إلى القضاء أو الرضى، ألا ترى إلى ما قال في أول الكتاب وإذا عجز المكاتب لم يعجل الحاكم تعجيزه، وقال أيضا فإن لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه إن طلب المولى من الحاكم تعجيز المكاتب عجزه(10/444)
لانفساخ الكتابة، وما كان في يده من الأكساب فهو لمولاه؛ لأنه ظهر أنه كسب عبده، وهذا؛ لأنه كان موقوفا عليه أو على مولاه وقد زال التوقف.
قال: فإن مات المكاتب وله مال لم تنفسخ الكتابة وقضى ما عليه من ماله وحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته وما بقي فهو ميراث لورثته ويعتق أولاده، وهذا قول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحاكم، ويدل على هذا ما قال الشيخ أبو نصر في شرحه في التعليل بقوله وذلك لأن في تعجيزه فسخ الكتابة.
قلت: لا يحتاج تطويل عظيم بل الأوجه عجز على بناء الفاعل من الثلاثي؛ لأن هذا الكلام مترتب على ثبوت العجز قبل هذا فكان هذا مطاوع لذلك العقل المتعدي، أعني التعجيز السابق، فكأن قائلا يقول إذا عجز المكاتب بحكم الحاكم أو برضاه كيف يكون حكمه، فقال وإذا عجز عاد إلى الرق فافهم.
م: (لانفساخ الكتابة، وما كان يده من الأكساب فهو لمولاه؛ لأنه ظهر أنه كسب عبده، وهذا) ش: أي وجه الظهور. م: (لأنه) ش: أي لأن الكسب م: (كان موقوفا عليه أو على مولاه) ش: لأنه إن أدى بدل الكتابة فهو له وإلا فلمولاه م: (وقد زال التوقف) ش: بالعجز.
[الحكم لو مات المكاتب وله مال]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن مات المكاتب وله مال لم تنفسخ الكتابة وقضى ما عليه) ش: أي من بدل الكتابة م: (من ماله وحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته وما بقي) ش: من ماله بعد أداء بدل الكتابة م: (فهو ميراث لورثته ويعتق أولاده) ش: أي المولودون في الكتابة وكذا المشترون فيها.
م: (وهذا قول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المحارق - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ابنه قال: بعث علي محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على مصر فكتب إليه يسأله عن مكاتب مات وترك مالا وولدا، فكتب إليه إن كان ترك مكاتبه يدعى مواليه فيستوفون، وما بقي كان ميراثا لولده. ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري وإسرائيل عن سماك مثل ذلك.
فإن قلت: أخرجه البيهقي في سننه من طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنا عبد الله ابن الحارث عن ابن جريج.
قلت: لعطاء المكاتب يموت وله ولد أحرار ويدعي أكثر مما بقي عليه من كتابته، قال: يقضى عنه ما بقي وما فضل فلبنيه.(10/445)
وبه أخذ علماؤنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبطل الكتابة ويموت عبدا وما تركه لمولاه، وإمامه في ذلك زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن المقصود من الكتابة عتقه وقد تعذر إثباته فتبطل، وهذا لأنه لا يخلو إما أن يثبت بعد الممات مقصورا أو يثبت قبله أو بعده مستندا لا وجه إلى الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أبلغك هذا عن أحمد، قال زعموا أن عليا كان يقضي به وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أدري أثبت عنه أم لا.
قلت: هذا ثابت عن علي كما ذكرناه والحسن. وقال مالك نحوا من ذلك وقال ابن حزم: وبه يقول معبد والحسن وابن سيرين والنخعي والشعبي وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة والحسن بن حي وإسحاق بن راهويه. وأما قول ابن مسعود فرواه البيهقي من حديث محمد بن سالم عن الشعبي قال كان عبد الله يقول يؤدي إلى مواليه ما بقي عليه من مكاتبة ولورثته ما بقي.
م: (وبه) ش: أي بقول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (أخذ علماؤنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تبطل الكتابة ويموت) ش: أي المكاتب م: (عبدا وما تركه لمولاه) ش: وبه قال أحمد وقتادة وأبو سليمان وعمر بن عبد العزيز. وقال الأترازي: وبه قال النخعي والشعبي.
قلت: قد ذكرناه عن ابن حزم آنفا أنه ذكر النخعي والشعبي فيمن قال بقولنا، م: (وإمامه) ش: أي إمام الشافعي.
م: (في ذلك) ش: أي فيما ذهب إليه م: (زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: رواه البيهقي من حديث محمد بن سالم عن الشعبي قال: كان زيد يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم لا يرث ولا يورث.
م: (ولأن المقصود من الكتابة) ش: هذا استدلال بالمعقول، تقريره: أن المقصود من الكتابة م: (عتقه) ش: أي عتق المكاتب م: (وقد تعذر إثباته) ش: أي إثبات العتق؛ لأن الميت المكاتب ليس بمحل للعتق م: (فتبطل) ش: أي الكتابة.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى بيان بطلان العتق م: (لأنه) ش: أي لأن العتق م: (لا يخلو إما أن يثبت بعد الممات مقصورا) ش: أي على ما بعد الموت م: (أو يثبت قبله) ش: أي قبل الموت م: (أو بعده مستندا) ش: أي أو يثبت بعد الموت حال كونه مستندا إلى حال حياته، فهذا ثلاثة أحوال كلها باطلة. أشار إليه بقوله: م: (لا وجه إلى الأول) ش: وهو أن يثبت بعد الممات مقصودا م:(10/446)
لعدم المحلية، ولا إلى الثاني لفقد الشرط وهو الأداء، ولا إلى الثالث لتعذر الثبوت في الحال، والشيء يثبت ثم يستند. ولنا أنه عقد معاوضة ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو المولى، فكذا بموت الآخر، والجامع بينهما الحاجة إلى إبقاء العقد لإحياء الحق، بل أولى؛ لأن حقه آكد من حق المولى حتى لزم العقد في جانبه والموت أنفى للمالكية منه للمملوكية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لعدم المحلية) ش: لأن الميت ليس بمحل لإنشاء العتق، ولا بد له من محل. م: (ولا إلى الثاني) ش: أو إلى قضاء الثاني وهو أن يثبت العتق قبل الموت م: (لفقد الشرط، وهو الأداء) ش: لأن المعلق بالشرط لا يسبق الشرط وإلا يلزم وجود المشروط.
قيل: وجود الشرط وهذا بخلاف موت المولى، فإن العقد يبقى ويعتق بالأداء إلى ورثته؛ لأن المولى ليس بمعقود عليه، بل هو عاقد والعقد يبطل بهلاك المعقود عليه لا بموت العاقد.
م: (ولا إلى الثالث) ش: أي ولا وجه أيضا إلى الثالث، وهو أن يثبت العتق بعد الممات يستند إلى حال حياته؛ لأن الشيء يثبت في الحال ثم يستند وهذا الشيء لم يثبت بعد، وهو معنى قوله م: (لتعذر الثبوت في الحال) ش: أي ثبوت العتق م: (والشيء يثبت ثم يستند) ش: هذا لم يثبت فلم يستند م: (ولنا أنه) ش: أي أن عقد الكتابة م: (عقد معاوضة) ش: احترز به عن النكاح والوكالة ونحوهما م: (ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو المولى) ش: فالكتابة لا تبطل بموت المولى م: (فكذا بموت الآخر) ش: وهو المكاتب م: (والجامع بينهما) ش: أي بين موت المولى وموت المكاتب في عدم البطلان.
م: (
الحاجة إلى إبقاء العقد لإحياء الحق
) ش: يعني إذا جاز إبقاء العقد بعد موت المولى لحاجته إليه ليصل إلى مقصوده وهو الولاء، فكذا يجوز إبقاء العقد بعد موت المكاتب لحاجته ليصل إلى مقصوده، وهو شرف الحرية م: (بل أولى) ش: أي بل إبقاء العقد في جانب المكاتب أولى م: (لأن حقه) ش: أي حق المكاتب، م: (آكد من حق المولى، حتى لزم العقد في جانبه) ش: حتى لو أراد المولى أن يبطله ليس له ذلك، بخلاف المكاتب , فإن الذي استحق المولى من قبله ليس بلازم، حتى لو عجز نفسه يبطل حقه، فإذا لم يبطل حق المولى بموته فحق المكاتب. وأنه ألزم أولى أن لا تبطل.
قيل: قوله ولا يجوز أن يكون جوابا عما يقال ليس موت المكاتب كموت العاقد؛ لأن العقد يبطل بموت المعقود عليه وهو المكاتب دون العاقد، وجهه ما بيناه آنفا. م: (والموت أنفى) ش: بالنون والفاء من النفي، وهو صيغة افعل للتفضيل م: (للمالكية منه) ش: أي من الموت م: (للمملوكية) ش: أراد أن موت المكاتب؛ لأن بقاء الكتابة تنتقل من صرف المكاتب إلى المالكية والمعتقة، وهي عبارة عن القادرية والفاعلية ومن طرف المكاتب إلى المملوكية وهي عبارة عن(10/447)
فينزل حيا تقديرا، أن يستند الحرية باستناد سبب الأداء إلى ما قبل الموت، ويكون أداء خلفه كأدائه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المقدورية والمفعولية والموت آنفا للقادرية والفاعلية منه للمقدورية والمفعولية، إذ القادرية لا تجتمع مع الموت والمقدورية تجتمع معه.
ولما أسقط الشرع اعتبار أقوى المناقضين في فصل موت المكاتب لحاجة العبد لا حصول شرف الحرية وحاجة المالك إلى ما يتعلق بالمعتقية من الآثار والأحكام، فلأن يسقط اعتبار أدنى المناقضين كان ذلك أولى، أو نقول المالكية قدرة المملوكية عجز، والموت عجز أيضا، فالمنافاة بين القدرة والعجز والتحقيق هاهنا أن الإجماع انعقد على جعل المولى معتقا بعد موته بالطريق الأولى؛ لأن الإعتاق فعل، وكونه معتقا وصف وليس بفعل، والموت ينافي الأفعال ولا ينافي الصفات، فإذا جعل معتقا بعد الموت كان جعل المكاتب معتقا بالطريق الأولى.
م: (فينزل حيا تقديرا) ش: إذا كان الأمر كذلك ينزل المكاتب حيا تقديرا، وهذا جواب عن الترديد الذي ذكره الخصم.
تحريره أن ثبوت الحرية على كل طريق ممكن ولا يلزم الفساد؛ لأنه لو ثبت الحرية بعد الموت ينزل حيا كما ينزل الميت في حق بقاء التركة، على حكم ملكه فيما إذا كان عليه دين مستغرق.
وفي حق التجهيز والتكفين وتنفيذ الوصايا في الثلث لو ثبت قبل الموت تستند الحرية مع إسناد سببها، وهو معنى قوله م: (أو يستند الحرية) ش: وفي بعض النسخ أو يسند الحرية م: (باستناد سبب الأداء) ش: الذي هو عقد الكتابة م: (إلى ما قبل الموت) .
ش: فإن قيل: يلزم تقديم المشروط على الشرط.
أجاب المصنف: بقوله م: (ويكون أداء خلفه كأدائه) ش: فلا يلزم من ذلك ولا يتوهم أن العتق يتقدم على الأداء، بل يقدر الأداء قبل العتق.
فإن قيل: الأداء فعل حسي، والإسناد إنما يكون في التصرفات الشرعية.
أجيب: نعم فعل النائب مضاف إلى المنوب، وهذه الإضافة وشريعته من رمى صياد فمات الرامي قبل أن يصيب ثم أصاب صار مالكا له ويورث عنه، والميت ليس بأهل.
ولكن لما صح السبب والملك يجب بعد تمام السبب فالملك وتمامه بالإضافة إلى آخر من أجزاء حياته فكذا هاهنا لما كان السبب منعقدا وهو عقد الكتابة والعتق موقوف على الأداء، والأداء جائز بعد الموت.(10/448)
وكل ذلك ممكن على ما عرف تمامه في الخلافيات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحكم هو وقوع العتق مما يمكن إثباته من حين الموت كالملك، ثم حكمنا بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته إما بأن يقام الترك الموجود في أجزاء حياته مقام التخلية من المال والمولى وهو الأداء المستحق عليه، أو يكون أداء خلفه كأدائه.
توضيح هذا: أنه متى غلب على ظنه الموت وظهرت أماراته وانقطع رجاء الحياة يكون الظاهر أنه يخلي بين المال والمولى ليصل بذلك إلى شرف حرية نفسه، وحرية أولاده وسلامة أكسابه.
فعلم من ذلك أن الإشراف على الموت سبب لأداء المال، فإذا أدى خلفه عنه استند الأداء إلى ما قبل الموت، فصار كأنه أداه بنفسه، ويكون المراد من قوله بإسناد سبب الأداء، أي بإسناد هو الأداء لا العقد، إذ لو أريد من سبب الأداء العقد لاستند الأداء إلى زمان العقد وليس كذلك، بل الاستناد إلى ما قبيل الموت.
ولو أريد بالسبب الموت فله وجه أيضا؛ لأنا إنما نثبت الإسناد بالضرورة وهي تندفع بالاستناد إلى ما قبيل الموت.
فلا تستند إلى أول العقد، هذا ما قرره شيخ تاج الشريعة - رحمهما الله -.
فإن قيل، لو قذفه قاذف بعد إذا أبدل الكتابة في حياته يحد قاذفه، ولو حكم بحريته في آخر حياته ينبغي أن يحد قاذفه والحال أنه لا يحد.
قلنا: تثبت الحرية في آخر حياته لضرورة حاجته إليها، والثابت بالضرورة لا يعدي موضعها، فلا تظهر في حق أخصائه، فلا يحد قاذفه، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، والحرية هاهنا تثبت مع الشبهة، وما يثبت الاستناد يثبت من وجه.
م: (وكل ذلك ممكن) ش: والإشارة إلى ما ذكره من قوله وينزل حيا، وقوله أو يستند الحرية ... إلى آخره، ويكون أداء خلفه كأدائه م: (على ما عرف تمامه) ش: أي تمام أصل هذا الخلاف م: (في الخلافيات) ش: أراد بها نسخ الخلافيات، فإن المحققين من أصحابنا المتقدمين صنفوا نسخا مشتملة على المسائل الفقهية الخلافية، وطريقة الخلاف. وذكروا فيها كثيرا من المسائل الخلافية، غير أنهم ما ذكروا من مسائل المكاتب إلا هذه المسألة وحدها.
وقد قال صاحب " العناية ": عليك باستحضار القواعد الأصولية لاستخراج ما يحتاج إليه القياس، فإن تعذر ذلك فراجع إلى الأصول الجدلية بادعاء إضافة الحكم إلى المشترك وسد طريق ما يرد من ورده وادعى الإضافة إلى المختص في هذا الموضع وأمثاله، فإن يسر الله(10/449)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليك ذلك يقبض من عنده بعد الجثو على الركب بحضرة المحققين، فذلك الفوز العظيم قدره، وإلا فإياك ودعوى معرفة الهداية، فتكون من الجهلة الذين ظهر عند ذوي التحصيل عذرهم فألحق بالآخرين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا انتهى كلامه.
فنقول - وبالله التوفيق -: المدعي هاهنا أن موت المكاتب لا يوجب الفسخ؛ لأن موت المولى لا يوجبه، فكذا موت المكاتب؛ لأن العدم في الصورة الاتفاقية ثابت بالإجماع، فكذا في النزاعية بالقياس عليه؛ لأن العدم في الاتفاقية إنما كان لتحصيل المصالح المتعلقة بالعقد بشهادة المناسبة، فكذا في النزاعية وهي الإضافة في الدعوى، فإن منع حققها في تلك الصورة.
أجيب: إنما هي محققة فيها، فإن المسألة المتعلقة بالعقد أمور مطلوبة، فإن منع المطلوبة أجيب بأنه مكابرة؛ لأنها هي المطلوبة في التحقيق عند العقلاء، فإن كان عاقلا لو خير بين أن يحصل المصالح المتعلقة بالعقد وبين أن لا يحصل فإنه كان يختار الحصول على عدم الحصول.
فإن قيل: الأصل في الحكم في الأصل أن لا يضاف إلى المشترك لرجحانه.
أجيب: بأن الحكم يضاف إلى ما هو اللازم فيهما أو في الفرع على تقدير اللزوم في الأصل، وأنه هو المشترك بينهما.
تحقيقه أن الحكم في الأصل أن يضاف إلى المشترك؛ لأنه يضاف إليه أو إلى ما يحقق الإضافة إليه، يعني تحقق إضافة إلى الإضافة إلى المشترك لقيام الدليل على كل واحد منهما وهو المناسبة. فأما ما كان يكون مضافا إلى المشترك فإذا ثبت هذا نقول العدم في الاتفاقية يدل على أحد الأمرين، أحدهما المشترك بين الوجوبين، وهو كون الوجوب محصلا للمصالح المتعلقة بالعقد لا يكون عنه أصلا. يعني لا في الأصل وهو الصورة الاتفاقية، ولا في الفرع وهو الصورة النزاعية.
والثاني المشترك بين العدمين وهو المانع عن الوجوب قطعا، فإنه إذا لم يتحقق أحدهما يلزم الوجوب في الاتفاقية بالمقتضى السالم عن المعارضين القطعيين، أحدهما مانعة المشترك بين العدمين، معاوضة للمقتضى للوجوب. وأما بيان الأمرين فلأنها تقتضي العدم لأن المشترك بين العدمين إذا كان مانعا فيهما كان العدم في الاتفاقية ثابتا. وأما كون شمول العدم معارضا للمقتضى للوجوب الظاهر، وأما بيان سلامة المقتضى على تقدير عدم الأمرين فإنهما منتفيان على هذا التقدير.(10/450)
وقال: وإن لم يترك وفاء وترك ولدا مولودا في الكتابة سعى في كتابة أبيه على نجومه، فإذا أدى حكمنا بعتق أبيه قبل موته وعتق الولد؛ لأن الولد داخل في كتابته وكسبه ككسبه، فيخلفه في الأداء، وصار كما إذا ترك وفاء وإن ترك ولدا مشترى في الكتابة قيل له: إما أن تؤدي بدل الكتابة حالة أو ترد رقيقا قال: وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما عندهما يؤديه إلى إجله اعتبارا بالولد المولود في الكتابة، والجامع أنه مكاتب عليه تبعا له، ولهذا يملك المولى إعتاقه، بخلاف سائر أكسابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما انتفاء مانعية المشترك فظاهر، وأما انتفاء شمول العدم فلانتفاء لازمه وهو عدم علية المشترك من لوازم شمول العدم من لوازم علية المشترك بالضرورة أن المشترك بين الوجوبين إذا كان علة راجحة للوجوب في إحدى الصورتين يلزم الوجوب في الأخرى عملا بالعلة الراجحة فيلزم شمول العدم، فثبت أن العدم في النزاعية من لوازم أحد الأمرين، فيكون العدم في الاتفاقية مستلزما لأحدهما بالضرورة ودليل على الآخر والحال أن العدم في الاتفاقية مستلزما لأحدهما بالضرورة، ودليل على الآخر والحال أن العدم في الاتفاقية ثابتة بالإجماع فيلزم أحد الأمرين، فأيهما لزم يلزم المدعي وهو العدم في النزاعية، فافهم.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن لم يترك وفاء) ش: أي ما يؤدي به بدل الكتابة م: (وترك ولدا مولودا في الكتابة سعى في كتابة أبيه على نجومه) ش: وهذا بالاتفاق لدخوله في كتابته م: (فإذا أدى حكمنا بعتق أبيه قبل موته وعتق الولد) ش: أي حكمنا بعتق الولد أيضا م: (لأن الولد داخل في كتابته وكسبه ككسبه، فيخلفه في الأداء، وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا ترك وفاء) ش: يعني لو ترك وفاء كان يعطي بدل الكتابة منه ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته ويعتق ولده أيضا.
م: (وإن ترك ولدا مشترى في الكتابة قيل له إما أن تؤدي بدل الكتابة حالة أو ترد رقيقا قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا) ش: يعني هذا الحكم المذكور في الولد المشترى م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يؤديه إلى أجله اعتبارا بالولد المولود في الكتابة) ش: أي قياسا عليه م: (والجامع) ش: أي المعني الجامع بين المقيس والمقيس عليه م: (أنه مكاتب عليه) ش: أي أن الولد المشترى مكاتب على أبيه المكاتب م: (تبعا له) ش: أي حال كونه تابعا لأبيه م: (ولهذا) ش: أي لأجل كونه تبعا له م: (يملك المولى إعتاقه) ش: أي إعتاق الولد المشترى في الكتابة، وهذا الاستدلال على أن المشترى في الكتابة كالمولود فيها م: (بخلاف سائر أكسابه) ش: فإن المولى لا تصرف له في أكسابه، ولهذا لا يقدر على إعتاق عبده، وبقولهما قال مالك.(10/451)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الفرق بين الفصلين أن الأجل يثبت شرطا في العقد فيثبت في حق من دخل تحت العقد والمشترى لم يدخل؛ لأنه لم يضف إليه العقد ولا يسري حكمه إليه لانفصاله، بخلاف المولود في الكتابة؛ لأنه متصل وقت الكتابة فيسري الحكم إليه، وحيث دخل في حكمه سعى في نجومه، فإن اشترى ابنه ثم مات وترك وفاء ورثه ابنه؛ لأنه لما حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته يحكم بحرية ابنه في ذلك الوقت؛ لأنه تبع لأبيه في الكتابة، فيكون هذا حرا يرث عن حر، وكذلك إن كان هو وابنه مكاتبين كتابة واحدة؛ لأن الولد إن كان صغيرا فهو تبع لأبيه، وإن كان كبيرا جعلا كشخص واحد، فإذا حكم بحرية الأب يحكم بحريته في تلك الحالة على ما مر.
قال: وإن مات المكاتب وله ولد من حرة وترك دينا وفاء بمكاتبته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الفرق بين الفصلين) ش: يعني فصل الولد المشترى في الكتابة وفصل الولد المولد فيها م: (أن الأجل يثبت شرطا في العقد فيثبت في حق من دخل تحت العقد والمشترى) ش: أي الولد المشترى م: (لم يدخل) ش: أي في العقد م: (لأنه لم يضف إليه العقد ولا يسري حكمه إليه) ش: أي حكم العقد إلى الولد م: (لانفصاله) ش: أي لكونه منفصلا وقت العقد لا تبعا له.
م: (بخلاف المولود في الكتابة؛ لأنه متصل) ش: أي لكونه متصلا به م: (وقت الكتابة، فيسري الحكم إليه، وحيث دخل في حكمه سعى في نجومه) ش: أي حيث دخل الولد المولود في الكتابة في حكم عقد الكتابة سعى في نجوم والده المكاتب.
م: (فإن اشترى ابنه ثم مات) ش: ذكر تفريعا على مسألة القدوري، وهو من مسائل الجامع الصغير م: (وترك وفاء ورثه ابنه؛ لأنه لما حكم بحريته في آخر جز من أجزاء حياته، يحكم بحرية ابنه في ذلك الوقت؛ لأنه تبع لأبيه في الكتابة، فيكون هذا حرا يرث عن حر، وكذلك) ش: الحكم م: (إن كان هو وابنه مكاتبين كتابة واحدة) ش: قيد به؛ لأنه لو كانا مكاتبين كل واحد بعقد على حدة لا يرثه ابنه، كذا ذكره المحبوبي م: (لأن الولد إن كان صغيرا فهو تبع لأبيه، وإن كان كبيرا جعلا كشخص واحد، فإذا حكم بحرية الأب يحكم بحريته) ش: أي بحرية الولد في حال حرية الأب م: (في تلك الحالة) ش: يعني آخر جزء من أجزاء حياته م: (على ما مر) ش: من استناد الحرية باستناد سبب الأداء إلى ما قبل الموت.
[مات وله ولد من حرة وترك دينا وفاء بمكاتبته ثم جنى الولد]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإن مات المكاتب وله ولد من حرة وترك دينا وفاء بمكاتبته) ش: أي ترك دينا على الناس فيه وتأييد الكتابة إنما قال دينا؛ لأنه لو كان عينا لا يتأتى القضاء بالإلحاق بالأم، إذ يمكن الوفاء في الحال.(10/452)
فجنى الولد فقضى به على عاقلة الأم لم يكن ذلك قضاء بعجز المكاتب؛ لأن هذا القضاء يقرر حكم الكتابة؛ لأن من قضيتها إلحاق الولد بموالي الأم وإيجاب العقل عليهم، لكن على وجه يحتمل أن يعتق فيجر الولاء إلى موالي الأب والقضاء بما يقرر حكمه لا يكون تعجيزا.
وإن اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولائه فقضى به لموالي الأم فهو قضاء بالعجز؛ لأن هذا الاختلاف في الولاء مقصود، وذلك يبتنى على بقاء الكتابة وانتقاضها، فإنها إذا فسخت مات عبدا واستقر الولاء على موالي الأم، وإذا بقيت واتصل بها الأداء مات حرا وانتقل الولاء إلى موالي الأب، وهذا فصل مجتهد فيه فينفذ ما يلاقيه من القضاء، فلهذا كان تعجيزا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال السغناقي: ذكر هذه المسألة والتي بعدها وهي قوله: فإن اختصم موالي الأم إلى آخره لبيان الفرق بينهما م: (فجنى الولد فقضى به) ش: أي بأرش الجناية أو بموجب الجناية م: (على عاقلة الأم لم يكن ذلك قضاء بعجز المكاتب؛ لأن هذا القضاء يقرر حكم الكتابة) ش: وكل ما يقرر شيئا لا يبطله م: (لأن من قضيتها) ش: أي قضية الكتابة م: (إلحاق الولد بموالي الأم وإيجاب العقل عليهم) ش: فلا ينافي القضاء على عاقلها كون الأب مكاتبا.
م: (لكن على وجه) ش: يعني استلزام الكتابة إلحاق الولد بموالي الأم وإيجاب العقل عليهم على وجه م: (يحتمل أن يعتق) ش: المكاتب م: (فيجر الولاء إلى موالي الأب) ش: لأن الولاء كالنسب، والنسب إنما يثبت من قوم الأم عند تعذر إثباته من الأب، حتى لو ارتفع المانع من إثباته منه كما إذا كذب الملاعن نفسه عاد النسب إليه، فكذلك الولاء، فكان إيجاب العقل من لوازمها وثبوت اللازم ثبوت ملزومه م: (والقضاء بما يقرر حكمه) ش: أي حكم عقد الكتابة م: (لا يكون تعجيزا) ش: لأن كل ما يقرر شيئا لا يبطله لئلا يعود على موضوعه بالنقض.
م: (وإن اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولائه) ش: هذه هي المسألة الثانية، صورتها مات هذا الولد بعد الأب واختصم موالي الأب وموالي الأم، فقال موالي الأم مات رقيقا والولاء لنا، وقال موالي الأب مات حرا والولاء لنا م: (فقضى به) ش: أي بولايته م: (لموالي الأم فهو قضاء بالعجز) ش: فتفسخ الكتابة اقتضاء م: (لأن هذا الاختلاف في الولاء مقصود) ش: لأن كلا من الفريقين قصدهم الولاء م: (وذلك يبتنى على بقاء الكتابة وانتقاضها، فإنها إذا فسخت مات عبدا، واستقر الولاء على موالي الأم، وإذا بقيت) ش: أي الكتابة م: (واتصل بها الأداء مات حرا وانتقل الولاء إلى موالي الأب، وهذا) ش: أي بقاء الكتابة وانتقاضها م: (فصل مجتهد فيه) ش: لما ذكرنا أن في مذهب زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الكتابة تنفسخ لموت المكاتب، فإذا كان كذلك م: (فينفذ ما يلاقيه من القضاء) ش: لأن صيانة القضاء المجمع عليه أولى من إمضاء كتابته، واختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في بقائها.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل نفوذ القضاء م: (كان تعجيزا) ش: فتفسخ الكتابة قبل فسخ(10/453)
قال: وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى لتبدل الملك، فإن العبد يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكتابة معنى على نفوذ القضاء ولزومه، وذلك لصيانة القضاء عن البطلان، وفي صيانته بطلان ما يجبر عليه وهو الكتابة رعاية لحق المكاتب وليس أحد البطلانين أرجح.
أجيب: بما ذكرنا آنفا من أن صيانة القاضي.... إلى آخره.
ثم اعلم أن في مسألة الإرث إذا ظهر للولد ولاء من قبل الأب عند أداء البدل، فهو إلى الأم لا يرجعون بما عقلوا من جناية الولد في حياة المكاتب على موالي الأب؛ لأنه إنما حكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته فلا يستند عتقه إلى أول عقد الكتابة، فكان موالي الأم عند حياته مواليه حقيقة، فلم يرجعوا بما عقلوا، إنما يرجعون بما عقلوا عن جناية بعد موت الأب قبل أداء البدل؛ لأن عتق الأب لما استند إلى حال حياته بين أن ولاءه كان لموالي الأب في ذلك الوقت، وموالي لا يجبرون على الأداء فيرجعون بما أدوا.
وذكر التمرتاشي هذا الذي ذكرنا فيما إذا مات عن وفاء، فإن مات لا عن وفاء قال الإسكاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تنفسخ الكتابة، حتى لو تطوع إنسان بأداء بدل الكتابة لا يقبل منه. وقال أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تنفسخ ما لم يقض بعجزه، حتى لو تطوع قبل القضاء يقبل منه.
[حكم ما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه) ش: أراد أن المكاتب إذا أخذ شيئا من الزكاة وأداه إلى مولاه من بدل الكتابة م: ثم عجز) ش: أي عن الكتابة م: (فهو طيب للمولى لتبدل الملك) ش: أي لتغير الملك بتغير السبب م: (فإن العبد يتملكه صدقة) ش: أي حال كونه صدقة م: (والمولى عوضا عن العتق) ش: أي يتملكه المولى حال كونه عوضا عن العتق، وفي بعض النسخ عوضا عن العين.
فإن قلت: إن ملك الرقبة للمولى فإنه يتبدل الملك.
قلت: إن ملك الرقبة للمولى مقلوب في مقابلة ملك السيد، ولهذا التصرف للمكاتب لا للمولى، وله أن يمنع المولى من التصرف وبالعجز يصير الأمر على العكس، فكان تبدلا وقد نظر صاحب العناية فيه بأن قال لا نسلم أن ذلك تبدل، ولئن كان فلا نسلم أن مثله بمنزلة تبدل العين، ولعل أن يقال المولى لم يكن له ملك يد قبل العجز وحصل به فكان تبدلا.
قلت: أول كلامه منع مجرد، والثاني دعوى بلا برهان. وقوله ولعل الأولى فيه نظر؛ لأنه لم يكن له ملك يد فله ملك رقبة، وليس المراد منه التبدل حقيقة بأن يراد تبدل الذات، وإنما المراد التبدل الحكمي فافهم.(10/454)
وإليه وقعت الإشارة النبوية في حديث بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «هي لها صدقة ولنا هدية» . وهذا بخلاف ما إذا أباح للغني والهاشمي؛ لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك، فلا نطيبه، ونظيره المشتري شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملكه يطيب،
ولو عجز قبل الأداء إلى المولى فكذلك الجواب، وهذا عند محمد - رحمه الله - ظاهر؛ لأن بالعجز يتبدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإليه) ش: أي وإلى التبدل ويحل بعد التبدل م: (وقعت الإشارة النبوية في حديث بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هي لها صدقة ولنا هدية) ش: يروى عنها قالت: «جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، قالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم قالوا: إلا أن يكون الولاء لهم. فسمع ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال: " خذيها واشترطي الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس فحمد الله ثم قال: " أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله حق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» .
وأخرج البخاري ومسلم أيضا «ودخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبرمته على النار فقرب إليه خبزا وإدام من أدم البيت فقال: " لم أر البرمة " فقيل لحم تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة، قال: " هو لها صدقة ولنا هدية ".»
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (بخلاف ما إذا أباح للغني والهاشمي) ش: أي بخلاف ما إذا أباح الفقير ما أخذه من مال الزكاة لغني أو هاشمي فإنه لا يباح لهما م: (لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح فلم يتبدل الملك فلا نطيبه) ش: فلم يتبدل سبب الملك، ولهذا ليس للضيف أن يعطي شيئا مما تقدم عليه؛ لأنه لم يصر ملكا حتى يتولى الإعطاء إلى الغير.
م: (ونظيره) ش: أي نظير ما ذكر م: (المشتري شراء فاسدا) ش: بأن اشترى رجل طعاما مأكولا بيعا فاسدا م: (إذا أباح لغيره لا يطيب له) ش: أي لا يطيب للغير تناوله؛ لأن في الأولى الملك غير مستقر لوجود الفسخ، بخلاف الثاني م: (ولو ملكه يطيب) ش: بأن باعه بيعا صحيحا أو وهبه حل له التناول.
م: (ولو عجز قبل الأداء إلى المولى) ش: أي ولو عجز المكاتب عن الكتابة قبل أداء ما أخذه من الزكاة إلى المولى م: (فكذلك الجواب) ش: يعني أنه طيب للمولى على الصحيح م: (وهذا) ش: أي وكون هذا طيبا قبل الأداء أيضا م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظاهر؛ لأن بالعجز يتبدل(10/455)
الملك عنده، وكذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان بالعجز يتقرر ملك المولى عنده؛ لأنه لا خبث في نفس الصدقة، وإنما الخبث في فعل الأخذ لكونه إذلالا به فلا يجوز ذلك للغني من غير حاجة، وللهاشمي لزيادة حرمته، والأخذ لم يوجد من المولى فصار كابن السبيل إذا وصل إلى وطنه، والفقير إذا استغنى وقد بقي في أيديهما ما أخذا من الصدقة حيث يطيب لهما، وعلى هذا إذا أعتق المكاتب واستغنى يطيب له ما بقي من الصدقة في يده. قال: وإذا جنى العبد فكاتبه مولاه ولم يعلم بالجناية ثم عجز فإنه يدفع أو يفدي؛ لأن هذا. موجب جناية العبد في الأصل ولم يكن عالما بالجناية عند الكتابة، حتى يصير مختارا للفداء، إلا أن الكتابة مانعة من الدفع، فإذا زال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الملك عنده) ش: بقيد الملك، فإن عند المكاتب إذا عجز ملك المولى إكسابه ملكا مبتدأ، وهذا وجب نقض الإجارة في المكاتب إذا أجر أمته ظئرا ثم عجز م: (وكذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وكذا يطيب له عند أبي يوسف أيضا.
م: (وان كان بالعجز يتقرر ملك المولى عنده) ش: فإن للمولى نوع ملك في إكسابه وبالعجز يتأكد ذلك الحق، يصير المكاتب فيما مضى كالعبد المأذون، ولهذا إذا أجر المكاتب أمته ظئرا ثم عجز لا يوجب فسخ الإجارة م: (لأنه لا خبث في نفس الصدقة) ش: وإلا لما فارقها أصلا م: (وإنما الخبث في فعل الأخذ لكونه إذلالا به) ش: أي بالأخذ م: (فلا يجوز ذلك) ش: أي الإذلال والهوان م: (للغني من غير حاجة، وللهاشمي لزيادة حرمته والأخذ لم يوجد من المولى فصار كابن السبيل إذا وصل إلى وطنه، والفقير إذا استغنى وقد بقي) ش: أي والحال أهـ قد بقي م: (في أيديهما ما أخذا من الصدقو حيث يطيب لهما) ش: أي لابن السبيل الواصل وطنه، والفقير الذي استغنى ولهذا لو مات ابن السبيل والفقير حل لوارثهما الغني ما تركاه من الصدقة.
م: (وعلى هذا) ش: أي على ما ذكرنا م: (إذا أعتق المكاتب واستغنى يطيب له ما بقي من الصدقة في يده) ش: لأن الخبث ليس في نفس الصدقة وقد قال بعض المشايخ على قول أبي يوسف لا يطيب؛ لأن المكاتب عنده لا يملك إكسابه ملكا مبتدأ وبالعجز يتأكد ذلك، والصحيح ما ذكره المصنف على الإطلاق، فلذلك بينها عليه بالصحيح.
[جنى العبد فكاتبه مولاه ولم يعلم بالجناية ثم عجز]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (وإذا جنى العبد فكاتبه مولاه ولم يعلم بالجناية ثم عجز فإنه) ش: أي فإن المكاتب الذي عجز م: (يدفع) ش: على صيغة المجهول، أي يدفع إلى ولي الجناية م: (أو يفدي) ش: على صيغة المجهول أيضا، أراد أن المولى لا يكون مختارا م: (لأن هذا موجب جناية العبد في الأصل) ش: أي لأن هذا الحكم يعني أحد الأمرين هو مقتضى جناية العبد في أصل المسألة كما علم في بابه م: (ولم يكن) ش: أي المولى م: (عالما بالجناية عند الكتابة، حتى يصير مختارا للفداء، إلا أن الكتابة مانعة من الدفع) ش: لتعذره م: (فإذا زال) ش: أي المانع م:(10/456)
عاد الحكم الأصلي،
وكذلك إذا جنى المكاتب ولم يقض به حتى عجز لما قلنا من زوال المانع، وإن قضى به عليه في كتابته ثم عجز فهو دين يباع فيه لانتقال الحق من الرقبة إلى قيمته بالقضاء، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وقد رجع أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إليه، وكان يقول أولا: يباع فيه وإن عجز قبل القضاء، وهو قول زفر؛ لأن المانع من الدفع وهو الكتابة قائم وقت الجناية، فكما وقعت انعقدت موجبة للقيمة، كما في جناية المدبر وأم الولد. ولنا أن المانع قابل للزوال للتردد ولم يثبت الانتقال في الحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(عاد الحكم الأصلي) ش: وهو الدفع والفداء.
م: (وكذلك) ش: أي وكما مر من عود الحكم الأصلي م: (إذا جنى المكاتب ولم يقض به) ش: أي بموجب الجناية عليه م: (حتى عجز) ش: عن الكتابة، يعني يدفع أو يفدي م: (لما قلنا من زوال المانع) ش: من الدفع م: (وإن قضى به عليه في كتابته) ش: أي وإن قضى بموجب الجناية على المكاتب م: (ثم عجز فهو دين) ش: أي ما قضى به من موجب الجناية دين في ذمته. م: (يباع فيه) ش: وعند الثلاثة بالعجز يرد إلى الرق يجبر سيده، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا يباع في قيمته في الفصلين، إلا أن يقضي المولى عنه على ما يأتي الآن م: (لانتقال الحق من الرقبة إلى قيمته بالقضاء) ش: أراد انتقال الحق بالقضاء من الموجب الأصلي وهو دفع الرقبة إلى القيمة قبل زوال المانع، فإذا زال لم يعد الحكم الأصلي صيانة القضاء م: (وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقد رجع أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إليه) ش: أي إلى قولهما.
م: (وكان يقول أولا: يباع فيه) ش: أي في موجب الجناية م: (وإن عجز قبل القضاء وهو قول زفر؛ لأن المانع من الدفع) ش: إلى ولي الجناية م: (وهو الكتابة قائم وقت الجناية، فكما وقعت) ش: الجناية م: (انعقدت موجبة للقيمة كما في جناية المدبر وأم الولد) ش: فإن جنايتهما موجبة للقيمة بنفس الوقوع، إلا أن حكم جناية المدبر وجوب القيمة على المولى؛ لأن كسبه له، وحكم جناية المكاتب؛ لأن كسبه ملكه.
وقوله: انعقدت موجبة يشير إلى أن الواجب هو القيمة لا الأقل منها ومن أرش الجناية، وهو مخالف لما ذكر من رواية الكرخي و" المبسوط " أن الواجب هو الأول من القيمة ومن أرش الجناية، وعلى هذا يكون تأويل كلامه إذا كانت القيمة أقل من أرش الجناية.
م: (ولنا أن المانع) ش: من الحكم الأصلي م: (قابل للزوال) ش: لقبول الكتابة الفسخ والزوال م: (للتردد) ش: أي لتردد المكاتب بين أن يؤدي فيعتق وبين أن يعجز فيرد إلى الرق م: (ولم يثبت الانتقال في الحال) ش: أي الانتقال عن الموجب الأصلي.(10/457)
فيتوقف على القضاء والرضا وصار كالعبد المبيع إذا أبق قبل القبض يتوقف الفسخ على القضاء لتردده واحتمال عوده، كذا هذا بخلاف التدبير والاستيلاد؛ لأنهما لا يقبلان الزوال بحال.
قال: وإذا مات مولى المكاتب لم تنفسخ الكتابة كيلا يؤدي إلى إبطال حق المكاتب إذ الكتابة سبب الحرية وسبب حق المرء حقه، وقيل له أد المال إلى ورثة المولى على نجومه؛ لأنه استحق الحرية على هذا الوجه، والسبب انعقد كذلك، فيبقى بهذه الصفة ولا يتغير إلا أن الورثة يخلفونه في الاستيفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: قوله ولم يثبت الانتقال عن الحال متنازع فيه؛ لأن مذهب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن جناية المكاتب تصير مالا في الحال من غير توقف على الرضا والقضاء، فما وجب أخذه في الدليل.
قلنا: ظهوره فإن التردد في زوال المانع يمنع الانتقال لإمكان عود الموجب الأصلي. م: (فيتوقف على القضاء والرضا، وصار كالعبد المبيع إذا أبق قبل القبض يتوقف الفسخ على القضاء لتردده واحتمال عوده، كذا هذا) ش: أي لحكم العبد المبيع الآبق قبل القبض حكم المكاتب المذكور م: (بخلاف التدبير والاستيلاد؛ لأنهما لا يقبلان الزوال بحال) ش: فكان الموجب في الابتداء هو القيمة.
[هل تنفسخ الكتابة بموت المولى]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا مات مولى المكاتب لم تنفسخ الكتابة كيلا يؤدي إلى إبطال حق المكاتب) ش: أي العبد المكاتب م: (إذ الكتابة سبب الحرية وسبب حق المرء حقه) ش: لإفضائه إلى وصوله. الحاصل أن الحرية حق العبد، والكتابة سببها، فتكون الكتابة حقه، والحق لا يبطل بالموت كما لو كان على آخر دين ومات الآخر م: (وقيل له) ش: أي للمكاتب م: (أد المال إلى ورثة المولى على نجومه) ش: أي مؤجلا م: (لأنه استحق الحرية على هذا الوجه، والسبب انعقد كذلك فيبقى بهذه الصفة، ولا يتغير) ش: وهذا لأن المولى لما كان صحيحا صح تصرفه بتأجيل الكل كإسقاطه، بخلاف ما إذا كان مريضا وكاتب، فإن المكاتب يؤدي ثلث القيمة حالا أو يؤدي رقيقا لأنه لما كان مريضا لم يصح تصرفه بتأجيل غير الثلث كإسقاطه.
فإن قلت: أين علم هاهنا أن المولى كان صحيحا.
قلت: وضع المسألة على الإطلاق يدل على ذلك؛ لأن ذلك هو المطلق من الأحوال. م: (إلا أن الورثة) ش: استثناء من قوله فلا يتغير قبل، كأنه جواب عما يقال كيف لا يتغير سبب الحرية وقد كان له حق استيفاء البدل، فصار للورثة وهو نظير، فقال: إلا أن الورثة م: (يخلفونه في الاستيفاء) ش: فلا يكون تغيرا في عود الكتابة لأنها باقية، كما كانت، فكما أن في سائر الديون يخلفونه فيه ولا يسمى ذلك تغيرا فكذلك دين الكتابة.(10/458)
فإن أعتقه أحد الورثة لم ينفذ عتقه؛ لأنه لم يملكه، وهذا؛ لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذا بسبب الوراثة، وإن أعتقوه جميعا عتق وسقط عنه بدل الكتابة؛ لأنه يصير إبراء عن بدل الكتابة فإنه حقهم، وقد جرى فيه الإرث،
وإذا برئ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق كما إذا أبرأه المولى، إلا أنه إذا أعتقه أحد الورثة لا يصير إبراء عن نصيبه؛ لأنا نجعله إبراء اقتضاء تصحيحا لعتقه،
والإعتاق لا يثبت بإبراء البعض أو أدائه في المكاتب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الطحاوي في " مختصره ": ومن مات وله مكاتب كاتب المكاتبة التي على المكاتب موروثة من مولاه كما يورث عنه سائر أمواله سواها، وكان للمكاتب إذا أدى لمولاه لا لورثته.
وقال الأسبيجابي في " شرحه ": المكاتب لا يورث وإنما يورث ما في ذاته من الكتابة فإن أدى وعتق يكون الولاء من الميت لا من الورثة حتى إنه يرثه المذكور من عصبة الميت دون الإناث.
[هل ينفذ عتق أحد الورثة للمكاتب]
م: (فإن أعتقه أحد الورثة لم ينفذ عتقه؛ لأنه لم يملكه) ش: أي لأن المعتق لم يملك المكاتب حتى يصح عتقه. وفي شرح " الأقطع ": وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينفذ عتقه، وهذا الخلاف فرع على أصل وهو أن المكاتب لا يصح بيعه ولا يصح أن يملك.
وقال الشافعي - في أحد قوليه -: يجوز م: (وهذا) ش: توضيح لما قبله م: (لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك، فكذا بسبب الوراثة) ش: فإن لم يملك لم يصح عتقه؛ لأنه لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم م: (وإن أعتقوه جميعا) ش: أي مجتمعين م: (عتق) ش: استحسانا، والقياس أن لا يعتق هنا أيضا؛ لأنه أضيف تصرفهم إلى ما ليس بملكهم، غير أن الاستحسان جوزه فصح م: (وسقط عنه بدل الكتابة؛ لأنه) ش: أي لأن عتقهم جميعا م: (يصير إبراء عن بدل الكتابة) ش: هذا وجه الاستحسان م: (فإنه) ش: أي بدل الكتابة م: (حقهم وقد جرى فيه الإرث) ش: أي في بدل الكتابة فلهم أن يتركوا حقهم.
[برئ المكاتب عن بدل الكتابة]
م: (وإذا برئ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق، كما إذا أبرأه المولى) ش: فإنه كان يسقط ويعتق، فكذلك هاهنا م: (إلا أنه إذا أعتقه أحد الورثة) ش: وهذا جواب عما يقال اجعل إعتاق أحد الورثة إبراء عن نصيبه فقال: م: (لا يصير) ش: أي إعتاق أحد الورثة، وفي بعض النسخ لا يكون م: (إبراء عن نصيبه؛ لأنا نجعله إبراء) ش: أي لأنا نجعل إعتاق الكل إبراء م: (اقتضاء) ش: أي بطريق الاقتضاء هم يجعلون غير المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق م: (تصحيحا لعتقه) ش: لأنه لا يتصور من الورثة إلا بهذا الطريق؛ لأنهم ما ملكوا فجعل إعتاقهم إبراء للبدل تصحيحا لتصرفهم وصونا لكلامهم عن الإلغاء.
م: (والإعتاق لا يثبت بإبراء البعض) ش: أي الإعتاق لا يثبت في المكاتب بإبراء بعض بدل الكتابة م: (وأدائه) ش: أي أو أداء بعض البدل وقوله م: (في المكاتب) ش: يرجع إلى(10/459)
لا في البعض ولا في الكل، ولا وجه إلى إبراء الكل لحق بقية الورثة، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصورتين م: (لا في البعض) ش: أي لا يثبت في بعض المكاتب م: (ولا في الكل) ش: أي في كل المكاتب، وفي بعض النسخ لا في بعضه ولا في كله، إن أعتقه معلق بسقوط جميع البدل، فإذا لم يكن إثبات المقتضي لا يثبت المقتضى. م: (ولا وجه إلى إبراء الكل) ش: يعنى في صورة إبراء البعض؛ لأن الكل حق الكل وهو معنى قوله م: (لحق بقية الورثة والله أعلم) ش: لأن الكل مشتركون فيه.
فائدة: شرط الخيار جائز في عقد الكتابة عندنا خلافا للثلاثة.
تم الجزء العاشر من البناية في شرح الهداية
ويليه الجزء الحادي عشر مبتدئا بكتاب الولاء(10/460)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الولاء
قال: الولاء نوعان ولاء عتاقة ويسمى ولاء نعمة، وسببه العتق على ملكه في الصحيح، حتى لو عتق قريبه عليه بالوراثة كان الولاء له وولاء موالاة، وسببه العقد، ولهذا يقال: ولاء العتاقة، وولاء الموالاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الولاء]
[تعريف الولاء وأنواعه]
م: (كتاب الولاء) ش: أورده عقيب المكاتب؛ لأنه من آثار زوال ملك الرقبة، قيل: الإعتاق أيضا زوال ملك الرقبة فكان ينبغي أن يذكر عقيبه. أجيب بأن فيه أثرا من آثار المكاتب وهو المرجح لإيراده هاهنا دون عقيب الإعتاق، ثم الولاء والولاية بالفتح النصرة والمحبة، إلا أنه اختص في الشرع بمولى العتق، والموالاة اشتقاقه من الولي وهو القرب، وحصل الثاني بعد الأول من غير فصل. وفي عرف الفقهاء عبارة عن تناصر يوجب الإرث والعقل.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الولاء نوعان ولاء عتاقة) ش: أي أحدهما ولاء عتاقة، وتنوع الولاء إلى نوعين باختلاف السبب م: (ويسمى) ش: أي ولاء العتاقة م: (ولاء نعمة) ش: اقتداء بكتاب الله تعالى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] (سورة الأحزاب الآية: 37) أي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق، والآية في زيد بن حارثة مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (وسببه) ش: أي سبب ولاء العتاقة م: (العتق على ملكه في الصحيح) ش: احترز بالصحيح عن قول أكثر أصحابنا حيث قالوا: إن سببه الإعتاق مستدلين بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وجه الصحيح ما أشار إليه بقوله م: (حتى لو عتق قريبه عليه) ش: أي على الشخص م: (بالوراثة) ش: بأن ورث ابنه وأباه م: (كان الولاء له) ش: أي للذي ورثه ولا إعتاق هنا، فعلم أن السبب هو العتق والحكم يضاف إلى سببه، يقال: ولاء العتاقة، ولا يقال ولاء العتاق.
وقال الأترازي: استدلالهم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ضعيف فإن من يملك القريب يعتق عليه ويثبت الولاء بإجماع أهل العلم وفيه نظر؛ لأن عندهم إذا ملك قريبه يعتق عليه، ولا يثبت الولاء لعدم الإعتاق، نص عليه تاج الشريعة وغيره، فكيف يقول: ويثبت الولاء بإجماع أهل العلم. والأوجه أن يقال: جعل العتق سببا أولى لعمومه بخلاف الإعتاق، ولأن في الإعتاق عتقا بدون عكس، والاستدلال بما فيه العموم أولى.
م: (وولاء موالاة) ش: أي النوع الثاني: ولاء موالاة وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى م:(11/3)
والحكم يضاف إلى سببه والمعنى فيهما التناصر، وكانت العرب تتناصر بأشياء. وقرر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تناصرهم بالولاء بنوعيه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن مولى القوم منهم وحليفهم منهم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وسببه) ش: أي ولاء الموالاة م: (العقد، ولهذا يقال: ولاء العتاقة وولاء الموالاة) ش: بإضافة الولاء إلى العتاقة والموالاة م: (والحكم يضاف إلى سببه) ش: كما عرف في الأصول م: (والمعنى فيهما التناصر) ش: هذا بيان مفهومهما الشرعي، أراد أن الولاء في الشرع عبارة عن التناصر، سواء كان ذلك ولاء عتاقة أو ولاء موالاة ومن آثار التناصر العقد والإرث.
ثم أشار إلى بيان ذلك بقوله م: (وقد كانت العرب تتناصر بأشياء) ش: بالقرابة والصداقة والمؤاخاة والحلف والعصبية وولاء العتاقة وولاء الموالاة.
م: (وقرر النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تناصرهم بالولاء بنوعيه) ش: وهما ولاء العتاقة وولاء الموالاة ثم فسر ذلك بقوله م: (فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن مولى القوم منهم وحليفهم منهم» ش: هذا الحديث رواه أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
الأول رفاعة بن رافع الزرقي روى حديثه أحمد في "مسنده " وابن أبي شيبة في "مصنفه " في كتاب "الأدب" حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن أبي عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة أي رافع الزرقي عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مولى القوم منهم وابن أختهم منهم وحليفهم منهم» ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الطبراني في "معجمه " ورواه الحاكم في "المستدرك " في تفسير سورة الأنفال، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه البخاري في كتابه المفرد في الأدب ثنا عمرو بن خالد الحراني ثنا زهير ثنا عبد الله بن(11/4)
والمراد بالحليف مولى الموالاة لأنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عثمان به، وذكر فيه قصة ولفظه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: "اجمع لي قومك" فجمعهم فلما حضروا باب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال قد جمعت لك قومي فسمع ذلك الأنصار فقالوا قد نزل في قريش الوحي فجاء المستمع والناظر يسمعون ما يقال لهم فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام بين أظهرهم فقال: "هل فكيم من غيركم"، قالوا: نعم فينا حليفنا وابن أخينا وموالينا فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حليف القوم..» إلى آخره، ورواه أحمد أيضا ثنا عفان ثنا بشر بن المفضل ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم به.
الثاني: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى حديثه البزار في "مسنده " ثنا رزيق بن البخت ثنا محمد بن عمرو بن وائل عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حليف القوم منهم وابن أخيهم منهم» .
الثالث: عمرو بن عوف، روى حديثه الدارمي وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في "معجمه " من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عمرو بن عوف «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قاعدا معهم فدخل بينهم ثم قال: "ادخلوا علي ولا يدخل علي إلا قرشي" قال فتسللت فدخلت فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا معشر قريش هل معكم أحد ليس منكم"، قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: معنا ابن الأخت والمولى والحليف فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابن أخت القوم منهم وحليفهم منهم ومولاهم منهم» ومن طريق ابن أبي شيبة رواه إبراهيم الحربي في كتابه " غريب الحديث ".
الرابع: عتبة بن غزوان روى حديثه الطبراني في "معجمه ": ثنا الحسن بن على العمر، ثنا عبد الملك بن بشير الشامي، ثنا عمر أبو حفص، ثنا عتبة بن غزوان عن أبيه ابن غزوان «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوما لقريش: "هل فيكم من ليس منكم" قالوا: ابن أختنا عتبة بن غزوان، قال: "ابن أخت القوم منهم، وحليف القوم منهم» ورواه ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا محمد بن عمر الواقدي حدثنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدي عن عتبة بن غزوان فذكره، فهذه الأحاديث ترد على أبي الحسن بن الغر حيث يقول في كتابه " التنبية على مشكلات الهداية " الثابت مولى القوم منهم، وأما قوله وحليف القوم منهم فلا تعرف في كتب الحديث هذه الزيادة.
م: (والمراد بالحليف مولى الموالاة لأنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف) ش: أي المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وحليفهم هو مولى الموالاة» ولقائل أن يقول لا نسلم أن يكون المراد بالحليف مولى الموالاة ومن أين علم أنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف، بل الحلف أنهم كانوا يتحالفون على أن يكونوا يدا(11/5)
قال: وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» . ولأن التناصر به فيعقله وقد أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ويصير الولاء كالولاد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحدة على من عاداهم وخالفهم ولا يفهم من ذلك عقد الموالاة.
[ولاء العبد المعتق]
[الولاء لمن أعتق]
م: (قال) ش: أي: القدوري م: (وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما اشترت بريرة اشترط أهلها أن ولاءها لهم فسألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق» . أخرجه البخاري في المكاتب، ومسلم وأبو داود في العتق والترمذي في الولاء، والنسائي وابن ماجه في الأحكام، وأخرجه أيضا مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال «أرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن تشتري جارية تعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق» .
وقال عبد الحق في " الجمع بين الصحيحين " وأخرجه البخاري من حديث ابن عمر في المكاتب وفي الفرائض، وجه الاستدلال بهذا الحديث أن الحكم إذا ترتب على مشتق دل على أن المشتق منه علة لذلك.
فإن قلت: الاستدلال به على هذا الوجه يناقض جعل العتق سببا؛ لأن أعتق مشتق من الإعتاق.
قلت: الأصل في الاشتقاق مصدر الثلاثي وهو العتق.
م: (ولأن التناصر به) ش: أي بسبب الإعتاق، أي يحصل بسببه م: (فيعقله) ش: أي إذا كان المولى ينتصر بمولاه بسبب العتق فيعلقه؛ لأنه إذا غنم بنصره يغرم عقله م: (وقد أحياه معنى) شي: أي وقد أحيا المولى مولاه من حيث المعنى م: (بإزالة الرق عنه) ش: الذي هو جزء الكفر الأصلي والكفر موت معنى والرقيق هالك حكما، ألا ترى أنه لا يثبت في حقه كثير من الأحكام التي تعلقت بالأحياء نحو القضاء والشهادة والسعي إلى الجمعة والخروج إلى العيدين وأشباه ذلك، وبالإعتاق تثبت هذه الأحكام في حقه، فكان إحياء معنى، ومن أحيا غيره معنى م: (فيرثه) ش: كالوالد م: (ويصير الولاء كالولاد) ش: فالولاد يوجب الإرث فكذلك الولاء.
فإن قلت: ينبغي أن يرث المعتق من المعتق أيضا إذا لم يترك المعتق عصبة نسبية كما هو قول الحسن بن زياد.
قلت: المعتق أجنبي منه وقد جاء في المعتق نص بخلاف القياس فلا يقاس عليه غيره، وذكر الإمام سراج الدين في شرح الفرائض للسراجي أن المعتق لا يرث من المعتق عند العامة.(11/6)
ولأن الغنم بالغرم، وكذلك المرأة تعتق لما روينا «ومات معتق لابنة حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عنها وعن بنت فجعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المال بينهما نصفين»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال إسحاق بن راهويه والحسن بن زياد وبشر المريسي: يرث لما روي «أن رجلا مات على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن له وارث إلا عبدا كان أعتقه فدفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميراثه إليه» والصحيح قول العامة؛ لأن ذلك الحديث غير صحيح، ولئن صح فهو منسوخ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ، وكذلك معارض بقول علي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حيث قالا: لا ميراث للمعتق.
م: (ولأن الغنم بالغرم) ش: أي لأن الغنيمة بالغرامة وهذا يخدم الوجهين فلذلك أخره م: (وكذا المرأة تعتق) ش: أي وكذا حكم المرأة التي تعتق، يعني ولا معتق لها. وقوله تعتق جملة وقعت حالا وليست بصفة لأنها نكرة فلا تقع صفة لمعرفة م: (لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وكلمة من عامة تتناول الذكور والإناث م: «ومات معتق لابنة حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عنها وعن بنت فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال بينهما نصفين» ش: هذا معطوف على قوله لما روينا معنى، ذكره استدلالا على ثبوت الولاء للمرأة وجميع الشراح سكتوا عن بيان أصل هذا الحديث وعن بيان اسم ابنة حمزة هذا.
وعن بيان حكمه في الصحة فنقول وبالله التوفيق: هذا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه في سننيهما في الفرائض عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد عن ابنة حمزة بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مات مولى وترك ابنة له فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله بيني وبين ابنته فجعل إلي النصف ولها النصف» .
ثم أخرجه النسائي عن عبد الله بن عون عن الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد أن «ابنة حمزة أعتقت مملوكا لها فمات وترك ابنته ومولاته..» الحديث، قال وهذا أولى بالصواب من(11/7)
ويستوي فيه الإعتاق بمال وبغيره لإطلاق ما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث ابن أبي ليلى وابن أبي ليلى كثير الخطأ.
وروى الدارقطني في سننه في الفرائض عن سليمان بن داود حدثنا يزيد بن زريع ثنا سعيد عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته النصف ولابنة حمزة النصف» انتهى.
ففي هذا الحديث السابق أن المولى لابنته وأنها التي أعتقته، ولكنه ضعيف فقد قال صاحب " التنقيح ": وسليمان بن داود هذا هو الشاذكوني وقد ضعفوه وكذبه ابن معين وغيره، وقال أبو حاتم: متروك الحديث.
وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل صعيد وأما اسم ابنة حمزة هذا فهو أمامة صرح به الحاكم في "المستدرك " فرواه في كتاب الفضائل عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عبد الله بن شداد وهو أخو أمامة بنت حمزة لأنها عن أخته أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب فذكره بلفظ النسائي وسكت عنه، هكذا وقع فيه اسمها أمامة، قال ابن الأثير: وهو الصحيح.
وقال ابن عساكر في أطرافه لم تكن ابنة حمزة هذه أمامة، فلا أدري من هي انتهى.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الله بن شداد عن فاطمة بن حمزة بن عبد المطلب قالت: «مات مولى وترك بنته فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله بيني وبين ابنته فجعل لي النصف ولها النصف» . من طريق ابن أبي شيبة رواه الطبراني في "معجمه ".
ورواه ابن أبي شيبة أيضا حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي الجعد عن عبد الله بن شداد عن فاطمة بنت حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكره، ففي هذين الكتابين اسمها فاطمة ورواه أبو داود في "المراسيل " عن شعبة عن الحكم عن عبد الله بن شداد وقالوا: «أتدرون ما ابنة حمزة مني كانت أختي لأمي وإنها أعتقت مملوكا لها فتوفي وترك ابنته ومولاته، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ميراثه بينهما نصفين» .
وروى أبو داود أيضا في مراسيله ما يخالف هذا عن إبراهيم «قال توفي مولى لحمزة بن عبد المطلب فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنت حمزة النصف وقبض النصف» والله أعلم.
م: (ويستوي فيه) ش: أي في ثبوت الولاء م: (الإعتاق بمال وبغيره) ش: أي: وبغير المال، وكذا العتق بقرابة أو كتابة عند الأداء، وتدبير أو استيلاد بعد الموت، وسواء أيضا كان العتق حاصلا ابتداء أو بجهة الواجب ككفارة اليمين وما أشبهها م: (لإطلاق ما ذكرناه) ش: يعني قوله(11/8)
قال: فإن شرط أنه سائبة فالشرط باطل والولاء لمن أعتق؛ لأن الشرط مخالف للنص فلا يصح
قال: وإذا أدى المكاتب عتق والولاء للمولى وإن عتق بعد موت المولى؛ لأنه عتق عليه بما باشر من السبب وهو الكتابة وقد قررناه في المكاتب، وكذا العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وعتقه بعد موته؛ لأن فعل الوصي بعد موته كفعله والتركة على حكم ملكه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ، وما ذكره من المعنى المعقول.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن شرط أنه سائبة) ش: أي أن العبد يكون حرا أولا ولا بينة، من ساب الماء يسيب إذا جرى وذهب كل مذهب. قال الصغاني في " العباب ": السائبة العبد كان الرجل إذا قال لغلامه أنت سائبة فقد عتق، ولا يكون ولاؤه لمعتقه ويضع ماله حيث شاء ولا عقل بينهما، والسائبة أيضا الناقة التي كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه م: (فالشرط باطل والولاء لمن أعتق؛ لأن الشرط مخالف للنص) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعتق م: (فلا يصح) ش: أي إذا كان مخالفا للنص، فلا يصح.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وعند أحمد لم يكن به الولاء عليه إن أعتقه سائبة، فلو أخذ من ميراثه شيئا رده في مثله. وفي المنصوص عن أحمد لو خلف مالا ولم يدع وارثا اشترى بماله رقابا فأعتقهم؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أعتق عبدا سائبة فمات فاشترى بماله رقابا فأعتقهم. وقال مالك ومكحول وأبو العالية والزهري وعمر بن عبد العزيز يجعل ولاؤه لجماعة المسلمين، كذا فعله بعض الصحابة.
[ولاء المكاتب]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أدى المكاتب) ش: أي بدل الكتابة م: (عتق والولاء للمولى، وإن عتق بعد موت المولى؛ لأنه عتق عليه بما باشر من السبب وهو الكتابة وقد قررناه في المكاتب) ش: أي قررنا في باب الكتابة أن ولاءه لمولاه، وهو قول عامة الفقهاء.
وعن عمرو بن دينار: لا ولاء على المكاتب لأنه اشترى نفسه من سيده فلم يكن عليه ولاؤه، كما لو اشتراه أجنبي، وقال مكحول: المكاتب إذا شرط ولاء مع رقبته جاز، وقال قتادة: من لم يشترط ولاء مكاتبه، فلمكاتبه أن يوالي من شاء، وللجمهور حديث بريرة وقد مضى مستقصى.
م: (وكذا العبد الموصى بعتقه) ش: أي وكذا يكون ولاؤه للميت لأن العتق يقع عنه م: (أو بشرائه) ش: أي أو الموصى بشرائه م: (وعتقه بعد موته؛ لأن فعل الوصي بعد موته) ش: أي بعد موت الموصي م: (كفعله) ش: أي كفعل الموصي في حياته م: (والتركة على حكم ملكه) ش: أي على حكم ملك الموصي الميت في حق الوصية.(11/9)
وإن مات المولى عتق مدبروه وأمهات أولاده لما بينا في العتاق وولائهم له؛ لأنه أعتقهم بالتدبير والاستيلاد. ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه لما بينا في العتاق وولاؤه له لوجود السبب وهو العتق عليه. وإذا تزوج عبد رجل أمة لآخر فأعتق مولى الأمة الأمة وهي حامل من العبد عتقت وعتق حملها وولاء الحمل لمولى الأم لا ينتقل عنه أبدا؛ لأنه عتق على معتق الأم مقصودا إذ هو جزء منها يقبل الإعتاق مقصودا فلا ينتقل ولاؤه عنه عملا بما روينا وكذلك إذا ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر للتيقن بقيام الحمل وقت الإعتاق أو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر لأنهما توأمان يتعلقان معا وهذا بخلاف ما إذا والت رجلا وهي حبلى والزوج والى غيره حيث يكون ولاء الولد لمولى الأب؛ لأن الجنبين غير قابل لهذا الولاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن مات المولى عتق مدبروه وأمهات أولاده لما بينا في العتاق وولاؤهم له؛ لأنه أعتقهم بالتدبير والاستيلاد) ش: فيه لف ونشر، فقوله بالتدبير يرجع إلى قوله مدبروه، وقوله والاستيلاد يرجع إلى قوله وأمهات أولاده م: (ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه لما بينا في العتاق، وولاؤه له لوجود السبب وهو العتق عليه) ش: أي على الذي ملك، وقد مر في العتاق مستقصى.
م: (وإذا تزوج عبد رجل أمة لآخر) أي لرجل آخر، وفي بعض النسخ أمة رجل آخر م: (فأعتق مولى الأمة الأمة وهي حامل) ش: أي والحال أن الأمة حامل م: (من العبد عتقت وعتق حملها) ش: تبعا لها م: (وولاء الحمل لمولى الأم لا ينتقل عنه أبدا؛ لأنه عتق على معتق الأم) ش: بكسر التاء م: (مقصودا إذ هو جزء منها يقبل الإعتاق مقصودا) ش: أي حال كونه مقصودا بالعتق؛ لأنه أضاف الإعتاق إلى جميع أجزائها وهو منها، فيعتق مقصودا كالأم، فإذا كان كذلك م: (فلا ينتقل ولاؤه عنه عملا بما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» .
م: (وكذلك إذا ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر) ش: من حين أعتقت م: (للتيقن بقيام الحمل وقت الإعتاق) ش: أي للتيقن بوجوده في البطن حين الإعتاق فيعتق م: (أو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر) ش: أي يوم مثاله وللآخر بعد يوم م: (لأنهما توأمان يتعلقان معا) ش: لأن المدة المتخللة بين الولادتين إذا كانت أقل من ستة أشهر يكون الولد توأما وحكم التوأم لا يختلف وإذا ثبت وجود أحدهما وقت الإعتاق ثبت وجود الآخر، فقد جرى عليهما عتق مقصود، فلا ينتقل الولاء.
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (بخلاف ما إذا والت رجلا وهي حبلى) ش: أي والحال أنها حبلى م: (والزوج والى غيره حيث يكون ولاء الولد لمولى الأب؛ لأن الجنين غير قابل لهذا الولاء(11/10)
مقصودا؛ لأن تمامه بالإيجاب والقبول هو ليس بمحل له. قال: فإن ولدت بعد عتقها لأكثر من ستة أشهر ولدا فولاؤه لموالي الأم؛ لأنه عتق تبعا للأم لاتصاله بها بعد عتقها فيتبعها في الولاء ولم يتيقن بقيامه وقت الإعتاق حتى يعتق مقصودا، فإن أعتق الأب جر الأب ولاء ابنه وانتقل عن موالي الأم إلى موالي الأب؛ لأن العتق هاهنا في الولد يثبت تبعا للأم بخلاف الأول، وهذا لأن الولاء بمنزلة النسب. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "الولاء لحمة كلُحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقصودا؛ لأن تمامه بالإيجاب والقبول وهو) ش: أي الجنين م: (ليس بمحل له) ش: أي للإيجاب والقبول فهذا أظهر الفرق بين الصورتين.
م: (قال: فإن ولدت بعد عتقها لأكثر من ستة أشهر ولدا فولاؤه لموالي الأم؛ لأنه عتق تبعا للأم لاتصاله بها) ش: أي لاتصال الولد بالأم م: (بعد عتقها فيتبعها في الولاء) ش: لولاء الأم لمولى الأم، فكذا ولاؤه تبعا لها م: (ولم يتيقن بقيامه) ش: أي بقيام الولد أي بوجوده م: (وقت الإعتاق، وحتى يعتق مقصودا) ش: كما في الفصل الأول فلا جرم عتق تبعا لها.
م: (فإن أعتق) ش: وهو م: (الأب) ش: فلذلك فسره بقوله: م: (جر الأب ولاء ابنه) ش: إلى مواليه م: (وانتقل عن موالي الأم إلى موالي الأب) ش: وهو وقول جمهور الفقهاء، والتابعين، والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال داود، وميمون بن مهران، وحميد بن عبد الرحمن: إن الولاء لا يجري عن موالي الأم، وقد روي عن عثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثل هذا م: (لأن العتق هاهنا) ش: أي فيما إذا ولدت لعتقها أكثر من ستة أشهر م (في الولد يثبت تبعا) ش: لا مقصودا، والأصل إذ العتق متى ثبت مقصودا لا ينتقل الولاء كما بينا، ومتى ثبت بطريق التبعية ينتقل، وهنا ثبت العتق تبعا م: (للأم) ش: لعدم التيقن بقيامه وقت الإعتاق، فإذا تبعها في العتق تبعها في الولاء أيضا كما ذكرنا لعدم أهلية الأب، فإذا صار الأب أهلا بالإعتاق عاد الولاء إليه.
م: (بخلاف الأول) ش: أي الفصل الأول، وهو ما إذا أعتقها وهي حامل، أو ولدت لأقل من ستة أشهر، فإن العتق فيه ثبت مقصودا فلا ينتقل الولاء فيه ألبتة م: (وهذا) ش: أي انتقال الولاء من موالي الأم إلى موالي الأب م: (لأن الولاء بمنزلة النسب) ش: والنسب إلى الآباء، فكذا الولاء، وإنما جعل لموالي الأم بطريق التبعية ضرورة لعدم وجود مولى للأب، فإذا ارتفعت هذه الضرورة بحدوث المولى له عاد إليه، ثم استدل على كون الولاء بمنزلة النسب بقوله: م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث» ش: هذا الحديث رواه ثلاثة(11/11)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الصحابة:
الأولي: عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه " في القسم الثاني عن بشر بن الوليد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع، ولا توهب» . ورواه الشافعي في "مسنده": أخبرنا محمد بن الحسن عن أبي يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم عن عبد الله بن دينار به.
ومن طريق الشافعي رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الفرائض، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وبطريق آخر أخرجه الحاكم في كتاب " مناقب الشافعي" عن علي بن سليمان الأخميمي ثنا محمد بن إدريس الشافعي، ثنا محمد بن الحسن، ثنا أبو يوسف، عن أبي حنيفة، عن عبد الله بن دينار، قال الحاكم: كذا قال فيه عن أبي حنيفة وهو وهم. قال الشافعي: رواه عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن عبد الله بن دينار نفسه.
وبطريق آخر أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن محمد بن زياد، حدثنا يحيى بن سليم الطالقي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، وقال: لم يروه عن إسماعيل بن أمية إلا يحيى بن سليم.
الثاني: ابن أبي أوفى، أخرج حديثه الطبراني في معجمه عن عبيد بن القاسم الأسدي، عن إسماعيل بن ابي خالد عن ابن أبي أوفى، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع، ولا توهب» ورواه ابن عدي في الكامل واعله بعبيد بن القاسم، ونقل عن ابن معين أنه قال فيه: كان كذابا.
الثالث: أبو هريرة، أخرج حديثه ابن عدي في الكامل عن يحيى بن أبي أنيسه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحم ... » إلى آخره، سواء واعله بيحيى بن أبي أنيسه، وأسند تضعيفه عن البخاري، والنسائي، وأحمد، وعلى بن المديني، وابن معين.
فإن قلت: ذكر البيهقي حديث النهي عن بيع الولاء وهبته، ثم ذكر عن الشافعي انا محمد بن الحسن عن يعقوب بن إبراهيم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع، ولا توهب» ثم ذكر عن أبي بكر النيسابوري قال: هذا خطأ؛ لأن(11/12)
ثم النسب إلى الآباء فكذلك الولاء، والنسبة إلى موالي الأم كانت لعدم أهلية الأب ضرورة، فإذا صار أهلا عاد الولاء إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثقات لم يرووه هكذا، وإنما رواه الحسن مرسلا، ثم قال البيهقي: روي من أوجه أخر كلها ضعيفة.
قلت: يرد عليهما ما ذكرناه من حديث عبد الله بن عمر حديث عبد الله بن أبي أوفى من الطريق الذي أخرجه الطبري في تهذيب الآثار وهو طريق صحيح فقال: حدثني موسى بن سهل الرملي، ثنا محمد بن عيسى يعني الطباع ثنا عبد بن القاسم عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع، ولا توهب» .
ثم اعلم أنه ليس في الحديث بوجوهه المذكورة "ولا يورث" قال الدارقطني في كتاب العلل: ورواه أيوب بن سليمان الأعور عن عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن عبد الله بن دينار به " لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث " فزاد فيه ولا يورث ثم قال: ولم أجد في شيء من طريق الحديث "ولا يورث".
قوله: «لحمة كلحمة النسب» ، أي تشابك ووصلة كوصلة النسب، قالوا: يورث عند جمهور العلماء، والفقهاء، وأصحاب الظاهر، وقد شذ شريح وقال بأنه يورث كالمال عن المعتق، فمن ملك شيئا من الولاء حال حياته فهو لورثته وكان بين ابن المعتق وبنته للذكر مثل حظ الأنثيين. وعن سليمان بن يسار أنه كان مولى لميمونة فوهبت ولاءها لابن عباس رضي الله عنهما، وللجمهور ما مر ذكره.
فإن قلت ما معنى قولهم: الولاء لا يورث.
قلت: معناه مما لا يورث عينه، يعني لا يجري فيه سهام الورثة ولكن يورث به، وهو قول علي، وزيد، وإحدى الروايتين عن ابن مسعود رضي الله عنهم، وبه أخذ علماؤنا، وفي رواية أخرى لابن مسعود أن الولاء مما يورث عينه كما المال يجري فيه سهام الورثة، وهو قول شريح، والنخعي، وقد روي مثله عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، حتى لو ترك المعتق أبا، وابنا كان لأبيه السدس، والباقي لابنه، وكذلك إذا ترك ابنا وابنة فميراث المعتق بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
م: (ثم النسب إلى الآباء فكذلك الولاء) ش: إلى الآباء م: (والنسبة إلى موالي الأم كانت لعدم أهلية الأب ضرورة) ش: لكونه عبدا م: (فإذا صار أهلا) ش: بالحرية م: (عاد الولاء إليه) ش:(11/13)
بمنزلة ولد الملاعنة ينسب إلى قوم الأم ضرورة. فإذا أكذب الملاعن نفسه ينسب إليه بخلاف ما إذا أعتقت المعتدة عن موت أو طلاق فجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الموت أو الطلاق حيث يكون الولد مولى لموالي الأم، وإن أعتق الأب لتعذر إضافة العلوق إلى ما بعد الموت والطلاق البائن لحرمة الوطء، وبعد الطلاق الرجعي لما أنه يصير مراجعا بالشك فأسند إلى حالة النكاح فكان الولد موجودا عند الإعتاق فعتق مقصودا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لارتفاع الضرورة م: (بمنزلة ولد الملاعنة ينسب إلى قوم الأم ضرورة) ش: لأجل اللعان الثاني نسبة إلى الأب م: (فإذا أكذب الملاعن نفسه ينسب إليه) ش: أي إلى الملاعن وهو الأب لارتفاع الضرورة بالإكذاب.
فإن قيل: الولاء كالنسب، والنسب لا يحتمل الفسخ بعد ثبوته، فكذا الولاء يجب أن لا ينفسخ بعد ثبوته.
قلنا: لا تنفسخ، ولكن حدث ولاء المولى منه، فقدم عليه، كما نقول في الأخ أنه عصبة، فإذا حدث من هو أولى منه في الإرث لا يبطل تعصيبه، ولكن يقدم عليه.
م: (بخلاف ما إذا أعتقت المعتدة عن موت أو طلاق) ش: هذا يبطل بقوله: فإذا صار أهلا عاد الولاء إليه يعني هنا يعود الولاء، وهاهنا لا يعود. قوله: إذا أعتقت المعتدة عن موت بأن كانت الأمة امرأة مكاتب فمات عن وفاة، أو طلاق أي: أو أعتقت المعتدة عن طلاق، وأطلق الطلاق ليشمل البائن، والرجعي جميعا، وكذا أطلق الطلاق الحاكم الشهيد، والطحاوي قيده بالبائن في "مختصره "، واتبعه الإمام الإسبيجابي في "شرحه " م: (فجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الموت أو الطلاق حيث يكون الولد مولى لموالي الأم. وإن أعتق الأب لتعذر إضافة العلوق إلى ما بعد الموت) ش: لاستحالته من الميت م: (والطلاق البائن) ش: أي ولتعذر إضافة العلوق إلى ما بعد الطلاق البائن م: (لحرمة الوطء) ش: بعد الطلاق البائن م: (وبعد الطلاق الرجعي) ش: أي ولتعذر إضافة العلوق أيضا إلى ما بعد الطلاق الرجعي.
م: (لما أنه يصير مراجعا بالشك) ش: لأنه لو حمل وطؤه في العدة يصير مراجعا، ولو حمل إلى ما قبل الطلاق لا يصير مراجعا، والمراجعة لم تكن فلا يثبت بالشك، فإذا تعذر إضافته إلى ما بعد ذلك م: (فأسند إلى حالة النكاح فكان الولد موجودا عند الإعتاق فعتق مقصودا) ش: ومن أعتق مقصودا لا ينتقل ولاؤه كما تقدم، وتبين من هذا أنها إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر، كان الحكم كذلك بطريق الأولى للتيقن بوجود الولد عند الموت والطلاق، وأما إذا جاءت به لأكثر من سنتين فالحكم فيه يختلف بالطلاق البائن والرجعي: ففي البائن مثل ما كان.(11/14)
وفي " الجامع الصغير " فإذا تزوجت معتقة بعبد فولدت أولادا فجنى الأولاد فعقلهم على موالي الأم لأنهم عتقوا تبعا لأمهم ولا عاقلة لأبيهم ولا موالي فألحقوا بموالي الأم ضرورة كما في ولد الملاعنة على ما ذكرنا، فإن أعتق الأب جر ولاء الأولاد إلى نفسه لما بينا، ولا يرجعون على عاقلة الأب بما عقلوا لأنهم حين عقلوه كان الولاء ثابتا لهم، وإنما يثبت للأب مقصورا لأن سببه مقصور، وهو العتق بخلاف ولد الملاعنة إذا عقل عنه قوم الأم ثم أكذب الملاعن نفسه حيث يرجعون عليه؛ لأن النسب هناك يثبت مستندا إلى وقت العلوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الرجعي فولاء الولد لموالي الأب للتيقن بمراجعته.
وفي " الكافي ": وما وقع في نسخ " الهداية " فجاءت بالولد لأكثر من سنتين لا يكاد يصح.
والصحيح ما ذكر في " شرح الطحاوي " لأقل من سنتين كما ذكرت، وعليه يدل التعليل المذكور فيها، فالظاهر أنه وقع من الكتاب، انتهى.
قلت: وقع في بعض النسخ لأقل من سنتين، وفي نسختي أيضا كذلك، وكذا ذكر في " المبسوط " لأقل من سنتين أو لتمام السنتين؛ لأن النسب تنسب إلى سنتين. ومن ضرورته أن يكون العلوق قبل الطلاق.
م: (وفي " الجامع الصغير ": فإذا تزوجت معتقة بعبد فولدت أولادا فجنى الأولاد فعقلهم على موالي الأم؛ لأنهم عتقوا تبعا لأمهم، ولا عاقلة لأبيهم ولا موالي) ش: لكونه في الرقبة م: (فألحقوا بموالي الأم ضرورة كما في ولد الملاعنة) ش: حيث تنسب إلى قوم الأم ضرورة م: (على ما ذكرنا) ش: أراد به قوله: كولد الملاعنة ينتسب إلى قوم الأم.. إلى آخره، وإنما ذكر لفظ " الجامع الصغير " لاشتماله على بيان العقل.
م: (فإن أعتق الأب) ش: أرد به العبد الذي هو زوج المعتقة المذكورة م: (جر ولاء الأولاد إلى نفسه لما بينا) ش: أراد به قوله: فإن أعتق الأب جر به ولاء ابنه.. إلى آخره.
م: (ولا يرجعون) ش: أي عاقلة الأم م: (على عاقلة الأب بما عقلوا؛ لأنهم حين عقوله كان الولاء ثابتا لهم، وإنما يثبت للأب مقصورا) ش: أي على زمان عتق الأب م: (لأن سببه) ش: وهو عتق الأب م: (مقصور) ش: أي غير مستند إلى وقت سابق م: (وهو العتق) ش: أي السبب هو العتق.
م: (بخلاف ولد الملاعنة إذا عقل عنه قوم الأم ثم أكذب الملاعن نفسه حيث يرجعون) ش: أي قوم الأم م: (عليه) ش: أي على الملاعن، أي على عاقلته م: (لأن النسب هناك يثبت مستندا إلى وقت العلوق) ش: لا من وقت الإكذاب فإنه لا يتصور أن لا يكون عند العلوق ولد الإنسان ثم(11/15)
وكانوا مجبورين على ذلك فيرجعون.
قال: ومن تزوج من العجم بمعتقة من العرب فولدت له أولادا فولاء أولادها لمواليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير ولدا له بعد فتبين أن النسب كان ثابتا من الأب حين جنى، وأن موجب جنايته على عاقلة الأب وأجبر عاقلة الأم على القضاء فيرجعون عليهم بذلك، وهو معنى قوله:
م: (وكانوا مجبورين على ذلك) ش: أي وكان عاقلة الأم مجبورين على القضاء م (فيرجعون) ش: على عاقلة الأب؛ لأنهم قضوا دينا، عن غيرهم بحكم القاضي فلهم الرجوع.
[تزوج من العجم بمعتقة من العرب فولدت له أولادا لمن ولاؤهم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن تزوج من العجم) ش: وهو جمع عجمي، وهو خلاف العربي وإن كان فصيحا م: (بمعتقة من العرب فولدت له أولادا فولاء أولادها لمواليها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وكذا أموالهم لذوي أرحامه، حتى لو ترك هذا الولد عمة أو خالة لم يكن لها شيء في وجود معتق الأم وعصبته.
وفي " الزاد " و" شرح الأقطع " صورة المسألة بالحر العجمي الذي ليس بمعتق ليس بمعتق لأحد سواء كان له ولاء موالاة أو لم يكن. وفي " الفوائد ": هذه المسألة على وجوه.
إن زوجت نفسها من عربي فولاء الأولاد لقوم الأب في قولهم؛ لأن الشرف بأنساب الأعراب أقوى.
وإن زوجت نفسها من العجمي الذي له آباء في الإسلام فولاء الأولاد لقوم الأب عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلا ريب، وعلى قولهما اختف المشايخ، حكي عن أبي بكر الأعمش وأبي بكر الصفار أنه لقوم الأب، وقال غيرهما لقوم الأم.
وإن زوجت نفسها من رجل أسلم من أهل الحرب والى أحدا أو لم يوال وهي مسألة الكتاب.
وإن زوجت نفسها من عبد أو مكاتب فولاء الولد لموالي الأم إجماعا، إلا إذا أعتق العبد فيجد الولاء، وفي " المبسوط ": إذا كانت الأمة معتقة إنسان والأب مسلم نبطي لم يعتقه أحد فالولد مولى لمولي الأم، وكذا إذا كان نبطي كافر ثم أسلم ووالى رجلا فعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يكون الولد مولى لموالي الأم، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفصلين لا يكون الولد مولى لموالي الأم ولكنه منسوب إلى قوم أبيه؛ لأنه كالنسب والنسب إلى الآباء.
وفي " مغني الحنابلة ": إذا كان الأب حر الأصل فالولد يتبعه ولا يكون عليه ولاء وهو قول أكثر أهل العلم، سواء كان الأب عربيا أو عجميا، وسواء كان مسلما أو ذميا أو مجهول النسب(11/16)
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهو قول محمد. وقال: أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حكمه حكم أبيه؛ لأن النسب إلى الأب كما إذا كان الأب عربيا، بخلاف ما إذا كان الأب عبدا؛ لأنه هالك معنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو معلومه، وهو قول أبي يوسف ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن شريح من أصحاب الشافعي.
وقال ابن اللبان من أصحاب الشافعي: وقيل هذا قول أبي حنيفة، وبه قال القاضي الحنبلي إن كان مجهول النسب يثبت الولاء على ولده إلى الأم إن كانت موالاة، وهو ظاهر مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال القاضي الحنبلي.
وقيل هذا قول أبي حنيفة ومحمد وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ولكن ذكر في " الحلية ": فإن كان الأب حر الأصل والأم معتقة ثبت الولاء على الولد، سواء كان الأب عربيا أو عجميا. وقال أبو حنيفة: إن كان عجميا يثبت الولاء على الولد وبناؤه على أصله في جواز استرقاق عبدة الأوثان من العجم دون العرب.
فإن كان الأب معتقا والأم حرة الأصل فهل يثبت الولاء على الولد، فيه وجهان: أحدهما أنه لا يثبت، والثاني أنه يثبت، أما إذا كان الأب مجهول النسب محكوما بحريته بالظاهر والأم معتقة قيل يثبت الولاء على الولد لمولى الأم. قال أبو العباس: قياس قول الشافعي لا يثبت، كما لو كان معروف النسب. وقال ابن اللبان: يثبت وهو قول أبي حنيفة ومحمد وأحمد.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهو قول محمد) ش: أي قول أبي حنيفة هو قول محمد بن الحسن أيضا م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حكمه حكم أبيه) ش: فلا يكون عليه ولاء إعتاقه، وإنما يورث ماله حين انعدام ذوي أرحامه، كما إذا كان الأب عربيا والأم معتقة فلأنه لا يكون ولاؤه لموالي أمه م: (لأن النسب إلى الأب كما إذا كان الأب عربيا) ش: إنما كان النسب إلى الابن لأنه منسوب إليه، قال عز وجل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فصار ملحقا بالأب، فأخذ حكمه، كأنه حي من كل وجه لأنه حر.
م: (بخلاف ما إذا كان الأب عبدا) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لما كان النسب إلى الإماء وجب أن يستوي الأب الحر والعبد، وليس كذلك. فأجاب بقوله بخلاف ما إذا كان الأب عبدا م: (لأنه) ش: أي لأن العبد م: (هالك معنى) ش: لأنه لا يملك شيئا، ولأنه أثر الكفر والكفر موت حكمي، قال الله تعالى: {لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] (سورة الأنعام: الآية 122) ، فصار حال هذا الولد في الحكم حال من الأب له فنسب إلى موالي الأم، وهذا المعنى معدوم إذا كان الأب حرا؛ لأن الحرية حياة باعتبار صفة المالكية والعرب والعجم فيه سواء.(11/17)
ولهما أن ولاء العتاقة قوي معتبر في حق الأحكام حتى اعتبرت الكفاءة فيه والنسب في حق العجم ضعيف، فإنهم ضيعوا أنسابهم، ولهذا لم تعتبر الكفاءة فيما بينهم بالنسب والقوي لا يعارضه الضعيف، بخلاف ما إذا كان الأب عربيا لأن أنساب العرب قوية معتبرة في حكم الكفاءة والعقل كما أن تناصرهم بها فأغنت عن الولاء، قال: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخلاف في مطلق المعتقة والوضع في معتقة العرب وقع اتفاقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لو كان هالكا لما جرى القصاص. قلت: جريانه لآدميته لا لحريته ورقه ولا نقصان في ذلك.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (أن ولاء العتاقة قوي معتبر في حق الأحكام) ش: لأنه ولاء نعمة م: (حتى اعتبرت الكفاءة فيه) ش: أي في ولاء العتاقة، حتى لا يكون معتق العجم كفئا لمعتقة العرب، ولهذا يجوز إبطال حرمة العجم بالاسترقاق م: (والنسب في حق العجم ضعيف فإنهم) ش: أي فإن العجم م: (ضيعوا أنسابهم) ش: حيث لم يعتبروا ذلك قبل الإسلام، وكان تفاخرهم وتقييدهم بعمارة الدنيا حتى جعلوا من له أب واحد في الإمارة ليس كفئا لمن له أبوان في ذلك. وتفاخرهم بعد الإسلام بالإسلام، وإليه أشار سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قيل له سلمان ابن من؟ فقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونهم ضيعوا أنسابهم م: (لم تعتبر الكفاءة فيما بينهم بالنسب والقوي لا يعارضه الضعيف، بخلاف ما إذا كان الأب عربيا؛ لأن أنساب العرب قوية معتبرة في حكم الكفاءة والعقل، لما أن تناصرهم بها) ش: أي بالأنساب م: (فأغنت عن الولاء) ش: أي أغنت أنسابهم عن التناصر بالولاء.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه م: (في مطلق المعتقة) ش: إنما قال ذلك لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المعتقة مطلقا، حتى لو تزوج بمعتقة غير العربي كان كذلك م: (والوضع في معتقة العرب وقع اتفاقا) ش: أي وضع القدوري هذه المسألة في "مختصره " بقوله: ومن تزوج من العجم بمعتقة العرب وقع على سبيل الاتفاق له القصد، قيل تعليل قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في قوله والنسب في حق العجم ضعيف يرجح ولاء العتاقة إذا كانت المعتقة من العرب؛ لأن الولاء لحمة كلحمة النسب، والنسب في حق العرب قوي، فكذلك معتقهم يحكي حكاية النسب، فكان قربا فرجح حينئذ معتق العرب على المنسوب في المعجم لا مطلق المعتق.(11/18)
وفي " الجامع الصغير ": نبطي كافر تزوج بمعتقة قوم ثم أسلم النبطي ووالى رجلا ثم ولدت أولادا، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: مواليهم موالي أمهم، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مواليهم موالي أبيهم؛ لأن الولاء وإن كان أضعف فهو من جانب الأب فصار كالمولود بين واحد من الموالي وبين العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجيب: بأن الضعف والقوة فيما إذا كان في جانب الأب، حتى إن الأب إذا كان عربيا والأم معتقة إنسان فولاء الولد لقوم الأب بالاتفاق. وأما في جانب الأم فألحقوه بمجرد كونها معتقة على نسب العجم، ألا ترى أنهما تعرضا لمطلق ولاء العتاقة، فإن من له أب واحد في الحرية لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الحرية، وأما في النسب فليس كذلك، فإن من له أب واحد في الخلافة أو الإمارة يكون كفؤا لمن له أبوان فيهما، فعلم بهذا أنهما يرجحان مجرد ولاء العتاقة، سواء كان معتق العرب أو العجم على نسب العجم، فصح قوله الخلاف في مطلق المعتقة.
[تزوج بمعتقة قوم ثم أسلم النبطي ووالى رجلا ثم ولدت أولادا]
م: (وفي " الجامع الصغير ": نبطي) ش: النبطي واحد النبط وهم جبل من الناس بسواد الطرق، وعند الفقيه أبي الليث النبطي رجل من غير العرب. وفي " العباب " قال ابن دريد: النبط جبل معروف وهم النبيط والأنباط، وقال غيره النبط والنبيط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين والجمع أنباط، يقال رجل نبطي ونباطي ونباطا مثل يمني ويماني، وحكى يعقوب نُباطي بضم النون.
فإن قلت: لم ذكر لفظ " الجامع الصغير ".
قلت: لبيان أن محمدا ذكر المعتقة مطلقا ولاشتماله على ولاء الموالاة بحيث قال نبطي م: كافر تزوج بمعتقة قوم) ش: أي بمعتقة كافرة نصرانية، إنما قلت هكذا ليتصور المسألة إذ المسلمة لا تزوج تحت الكافر بعقد النكاح، وكذلك قال فخر الإسلام: معنى هذا أن تكون المعتقة كافرة كتابية إنما قيد بالكتابية؛ لأن غير الكتابية من الكفار لا يجوز أن يبقى نكاحها بعد إسلام الزوج فافهم.
مِ: (ثم أسلم النبطي ووالى رجلا) ش: أي عقد عقد الموالاة م: (ثم ولدت أولادا) .
م: (قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: مواليهم موالي أمهم، وقال أبو يوسف: مواليهم موالي أبيهم؛ لأن الولاء وإن كان أضعف فهو من جانب الأب، فصار كالمولود بين واحد من الموالي وبين العربية) ش: يعني بين العجم الأصلي والعربية الأصلية، فيكون النسب للأب بالاتفاق، توضيحه أن واحدا من العجم إذا تزوج بعربية وهما حران غير معتقين لحر فولدت أولادا فإنهم ينسبون إلى قوم أبيهم، فكذا إذا كانت معتقة، وهنا لأن النسبة إلى الأم(11/19)
ولهما أن ولاء الموالاة أضعف حتى يقبل الفسخ وولاء العتاقة لا يقبله، والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي. ولو كان الأبوان معتقين فالنسبة إلى قوم الأب لأنهما استويا والترجيح لجانبه لشبهه بالنسب أو لأن النصرة به أكثر.
قال: وولاء العتاقة تعصيب وهو أحق بالميراث من العمة والخالة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي اشترى عبدا فأعتقه: «هو أخوك ومولاك إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو خير لك وشر له، ولو مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضعيفة، لهذا لا يستحق لها العصوبة.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (أن ولاء الموالاة أضعف) ش: من ولاء العتاقة م: (حتى يقبل الفسخ) ش: بأن أراد أحدهما فسخه م: (وولاء العتاقة لا يقبله) ش: أي الفسخ م: (والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي) ش: أراد بالضعف ولاء الموالاة، وبالقوي ولاء العتاقة.
م: (ولو كان الأبوان معتقين فالنسبة إلى قوم الأب لأنهما استويا) ش: أي لأن الأبوين استويا في المعتوقية م: (والترجيح لجانبه) ش: أي لجانب الأب م: (لشبهه) ش: أي لشبهه الولد م: (بالنسب) ش: بالحديث المذكور م: (أو لأن النصرة به) ش: أي بقوم الأب م: (أكثر) ش: من النصرة بقوم الأم.
[ولاء العتاقة تعصيب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وولاء العتاقة تعصيب) ش: أي موجب للعصوبة والتعصيب هو جعل الإنسان عصبة، ومنه قولهم الذكر يعصب الأنثى، أي يجعلها عصبة م: (وهو) ش: أي مولى العتاقة م: (أحق بالميراث من العمة والخالة) ش: وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تقدم ذوي الأرحام على مولى العتاقة، وروي عن عمر وعلي مثله.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي اشترى عبدا فأعتقه: «هو أخوك ومولاك إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهر خير لك وشر له. ولو مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته» ش: الكلام في هذا الحديث على أنواع، الأول أنه أخرجه الدارمي في "مسنده " أخبرنا يزيد بن هارون عن الأشعث عن الحسن «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل فقال: إني اشتريت هذا فأعتقته فما ترى(11/20)
وورث ابنة حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على سبيل العصوبة مع قيام وارث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه، قال: "أخوك ومولاك إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو شر له وخير لك"، قال: فما ترى في ماله؟ قال: "إن مات ولم يدع وارثا فلك ماله» .
ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا أبو عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أراد رجل أن يشتري عبدا فلم يقض بينه وبين صاحبه، فحلف رجل من المسلمين بعتقه فاشتراه فأعتقه فذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو شر له وخير لك"، قال: فكيف بميراثه؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن لم يكن له عصبة فهو لك» .
ورواه أيضا محمد في كتاب الولاء من الأصل عن أبي يوسف عن إسماعيل بن سلم عن الحسن البصري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
النوع الثاني: أن هذا الحديث مرسل من مراسيل الحسن البصري الصحيحة وهي مقولة عندنا يعمل بها.
النوع الثالث: في معناه فقوله: هو أخوك يعني في الدين، قوله: إن شكرك يعني إن شكرك بالمجازاة على ما صنعت إليه فيه خير له؛ لأنه انتدب لما ندب إليه، ولأنه يثاب بمقابلة شكره؛ لأن شكر النعمة مندوب، قوله: وشر لك لأنه أوصل إليك بعض الثواب في الدنيا فينقص بقدره في الآخرة من الثواب.
قوله: وإن كفرك فهو خير لك لأنه يبقى ثواب العمل كله في الآخرة وشر له؛ لأنه كفر النعمة وكفران النعمة قبيح، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» ، رواه أحمد وغيره قوله: ولم يترك وارثا أي وارثا وهو عصبته. قوله: كنت أنت عصبته يدل على أن المراد لم يترك عصبة حيث لم يقل كنت أنت وارثه.
م: (وورث) ش: بالتشديد أي ورث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (ابنة حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على سبيل العصوبة مع قيام وارث) ش: وهو بنت الميت، وذلك لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى بنت الميت(11/21)
وإذا كان عصبة يقدم على ذوي الأرحام وهو المروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى من المعتق؛ لأن المعتق آخر العصبات، وهذا لأن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "ولم يترك وارثا" قالوا: المراد منه وارث هو عصبة بدليل الحديث الثاني فتأخر عن العصبة دون ذوي الأرحام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النصف والباقي لبنت حمزة» وقد مر بيان الحديث من قريب مستوفى.
م: (وإذا كان) ش: أي المعتق بكسر التاء م: (عصبة) ش: أي المعتق بفتح التاء م: (يقدم على ذوي الأرحام) ش: لأن العصبة هو الذي يأخذ ما أبقته أصحاب الفرائض وهو مقدم على ذوي الأرحام م: (وهو المروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: يعني تقديم المولى على ذوي الأرحام، وهو المروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يثبت هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل الثابت عنه خلاف ذلك، فإن عبد الرزاق أخرج في "مصنفه " وقال أخبرنا الثوري أخبرني منصور عن حصين عن إبراهيم قال: كان عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يورثان ذوي الأرحام دون الموالي فقلت لعلي بن أبي طالب فقال كان أشدهم في ذلك، انتهى.
والذي ذكره هو المروي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرج عبد الرزاق في "مصنفه " قال: أخبرنا عمر عن قتادة أن زيد بن ثابت كان يورث الموالي دون ذوي الأرحام. ولو قال "المصنف" وهو المروي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لكان أصح وأبعد من الخطأ.
م: (فإن كان للمعتق) ش: بفتح التاء م: (عصبة من النسب فهو أولى من المعتق؛ لأن المعتق) ش: بكسر التاء م: (آخر العصبات) ش: لأنه عصبة سببية فتأخر عن العصبة النسبية م: (وهذا) ش: أي كون العصبة من النسب أولى بالميراث من المولى م: (لأن قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإن لم يترك وارثا قالوا المراد منه وارث هو عصبة» ش: يرفع قوله عصبة على أنه صفة لقوله وارث م: (بدليل الحديث الثاني) ش: الباء تتعلق بقوله قالوا، أي قالت: العلماء ذلك مستدلين بالحديث الثاني وهو حديث بنت حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعلها عصبة مع وجود الوارث.
لأن البنت الصلبية وارثة وليست بعصبة، فعلم بهذا أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن مات ولم يترك وارث وارثا هو عصبة لا وارث مطلق م: (فتأخر) ش: أي الموالي م: (عن العصبة) ش: أي عن عصبة المعتق بفتح التاء م: (دون ذوي الأرحام) ش: يعني لا يتأخر عنهم، بل يتقدم عليهم كما ذكرنا.(11/22)
قال: فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى منه لما ذكرنا وإن لم يكن له عصبة من النسب فميراثه للمعتق تأويله: إذا لم يكن هناك صاحب فرض ذو حال. أما إذا كان فله الباقي بعد فرضه؛ لأنه عصبة على ما روينا، وهذا لأن العصبة من يكون التناصر به لبيت النسبة وبالموالي الانتصار على ما مر والعصبة تأخذ ما بقي، فإن مات المولى ثم مات المعتق فميراثه لبني المولى دون بناته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن كان للمعتق) ش: بفتح التاء م: (عصبة من النسب فهو أولى منه لما ذكرنا) ش: أراد به قوله: وإذا كان عصبة تقدم على ذوي الأرحام م: (وإن لم يكن له عصبة من النسب فميراثه للمعتق) ش: بكسر التاء، وهو المولى م: (تأويله) ش: أي تأويل قول القدوري فميراثه للمعتق م: (إذا لم يكن هناك صاحب فرض ذو حال) ش: ذكروا لهذه الجملة تأويلين.
أحدهما: أن معنى قوله صاحب فرض ذو حال الفرض كالأب والجد، فإن لهما حالا سوى حال الفرض وهي العصوبة، فالمعتق لا يرث مع وجودهما، بل الأب أو الجد يأخذ الباقي بعد فرضه.
والثاني: أن معناه ذو حال واحد كالبنت، فإن كان مثل ذلك فللمعتق الباقي بعد فرض ذلك الوارث. وقال الأترازي: يكون الضمير في فله الباقي على التأويل الأول راجعا إلى صاحب الفرض، وعلى الثاني إلى المعتق.
وقال صاحب " العناية " والثاني أوجه؛ لأنه علل قوله م: (أما إذا كان فله الباقي بعد فرضه) ش: أي بعد أخذ فرضه بقوله م: (لأنه عصبة على ما روينا) ش: أشار به إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولو مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته» م: (وهذا) ش: أشار إلى قوله م: (لأن العصبة من يكون التناصر به لبيت النسبة) ش: أي القبيلة، يقال للقبيلة الواحدة بيت النسبة م: (وبالموالي التناصر) ش: أي ويكون بالمولى الانتصار، وهكذا في بعض النسخ، م: (على ما مر) ش: أشار به إلى ما ذكره في أول كتاب الولاء بقوله وكانت العرب تناصر بأشياء وقرر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناصرهم بالولاء بنوعيه م: (والعصبة يأخذ ما بقي) ش: هذا من تمام الدليل، وتقريره فله الباقي؛ لأنه عصبة والعصبة تأخذ الباقي.
م: (فإن مات المولى ثم مات المعتق فميراثه لبني المولى دون بناته) ش: أراد أن الذكور من أولاد المولى يرثون العتق دون الإناث منهم، حتى لو مات ولم يترك إلا بنت المعتق فميراثه لبيت المال(11/23)
وليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن بهذا اللفظ ورد الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي آخره: أو جر ولاء معتقهنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا لبنت المعتق في ظاهر الرواية، ولكن بعض مشايخنا يفتون بدفع المال إليها في هذا الزمان لعدم بيت المال وقصور احتياط القضاة وبيت المال كان في زمن الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولهذا أفتوا بإعطاء المال للابن والابنة من الرضاع لا لبيت المال لعدمه، كما أفتى أصحاب الشافعي بإرث ذوي الأرحام في هذا الزمان لعدم بيت المال، كذا في " الذخيرة " " وفرائض السجاوندي ".
ثم استدل على ذلك بقوله م: (لأنه ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن، بهذا اللفظ ورد الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي آخره «أو جر ولاء معتقهن» ش: الكلام فيه على أنواع: الأول: أن هذا لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما أخرج البيهقي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يجعلون الولاء أكبر من العصبة ولا يرثون النساء من الولاء إلا ما أعتقن.
وأخرج أيضا عن إبراهيم قال: كان عمر وعلي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا يرثون النساء من الولاء إلا ما أعتق. وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه " عن الحسن أنه قال: لا ترث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو كاتبن.
وأخرج نحوه عن ابن سيرين وابن المسيب وعطاء والنخعي، وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا الحسن بن عمارة عن الحكم عن يحيى بن الحرار عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تورث النساء من الولاء إلا ما كاتبن أو أعتقن.
النوع الثاني: في معناه: فقوله: إلا ما أعتقن كلمة هاهنا بمعنى من كما في قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] (سورة الشمس الآية: 5) ، أي ومن بناها، وهاهنا محذوفات مقدرة منها المستثنى منه فتقدير الكلام ليس للنساء من الولاء شيء إلا ولاء ما أعتقته أو ولاء ما أعتقه من أعتقنه أو ولاء ما كاتبن أو ولاء ما كاتبه من كاتبنه، وذكر في شرح كتب الفرائض بعد قوله أو كاتب أو كاتبن أو دبرن أو دبر من دبرن أو جر ولاء معتقهن أو معتق معتقهن، انتهى.
وكذلك التقدير في هذا ولاء ما دبره أو ولاء ما دبره من دبره أو جر ولاء معتق معتقهن،(11/24)
وصورة الجر قدمناها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو ولاء معتق معتقهن أو ولاء مكاتب مكاتبهن، أو ولاء مدبرهن أو ولاء مدبر مدبرهن والولاء الذي هو مجرور معتقهن أو الولاء الذي هو مجرور معتق معتقهن.
النوع الثالث: في صورة ما ذكر، فصورة ولاء معتقهن ظاهرة بأن أعتقت عبدها ثم مات المعتق وترك معتقته هذا فولاه لها، فلو أعتق معتقها عبدا آخر ومات المعتق الأول، ثم الثاني فولاء الثاني لها أيضا، وهذا صورة معتق المعتق، وصورة ولاء مكاتبهن بأن قالت امرأة لعبدها كاتبتك: عل ألف درهم مثلا فقبل العبد ذلك.
فإذا أدى بدل الكتابة يكون ولاؤه للمرأة، وصورة ولاء مكاتب مكاتبهن بأن كاتب هذا المكاتب عبدا فولاء مكاتب المكاتب لها أيضا إذا لم يكن المكاتب الأول.
وصورة ولاء مدبرهن بأن دبرت امرأة عبدها بأن قالت له: أنت حر إن دبرتني أو بعد موتي أو إذا مت ونحوه، ثم ارتدت والعياذ بالله وألحقت بدار الحرب وقضى القاضي بإلحاقها فعتق مدبرها ثم جاءت المرأة إلى دار الإسلام ثم مات المدبر وترك مدبرته هذا فولاؤه لها وصورة ولاء مدبر مدبر مدبرهن بأن اشترى هذا المدبر بعد الحكم بعتقه عبدا ثم دبره ثم مات وجاءت المرأة إلى دار الإسلام قبل موت مدبرها أو بعده ثم مات المدبر الثاني فولاؤه لمدبرة مدبره، وصورة جر ولاء معتقهن بأن زوجت امرأة عبدها معتقة الغير فولدت منه.
ولهذا يثبت نسب الولد منه ويكون حدا تبعا لأمه؛ لأن الولد تبع الأم في الرق والحرية وولاء الولد لمولى الأم يعقلون عنه ويرثون منه، فلو أن المرأة أعتقت العبد جر بإعتاقها إياه ولاء ولده إلى نفسه ثم من نفسه إلى مولاه. حتى لو مات المعتق ثم مات ولده وترك معتقة أبيه فولاؤه انتقل من موالي أمه إليها وصورة جر ولاء معتق معتقهن بأن أعتقت امرأة عبدا ثم اشترى المعتق عبدا وزوج معتقة غيره من عبد فولد بينهما ولد فولاء هذا الولد لمولى أمه، فلو أن المعتق أعتق عبده جر بالإعتاق ولاء معتقه إلى نفسه ثم يرجع منه إلى مولاه.
م: (وصورة الجر قدمناها) ش: وفي بعض النسخ قد بيناها، وأشار به إلى قوله فإن ولدت بعد عتقها أكثر من ستة أشهر إلى أن قال جر الأب ولاء ابنه، والجد هل يجر الولاء، فقال الحاكم في "كافيه ": قال الشعبي: إذا أعتق الجد جر الولاء.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يجر الجد الولاء ولا يكون مسلما بإسلام الجد. وفي " السروجية " قال شريح وسفيان ومالك وأهل المدينة: إن الجد يجر ولاء ولد الابن من موالي نفسه.
وبه قال الأوزاعي وابن أبي ليلى وابن المبارك. وقال زفر إن كان الأب حيا فالجد لا يجر(11/25)
ولأن ثبوت المالكية والقوة في المعتق من جهتها، فينسب الولاء إليها وينسب إليها من ينسب إلى مولاها، بخلاف النسب؛ لأن سبب النسبة فيه الفراش وصاحب الفراش إنما هو الزوج والمرأة مملوكة لا مالكة.
وليس حكم ميراث المعتق مقصورا على بني المولى بل هو لعصبته الأقرب فالأقرب؛ لأن الولاء لا يورث ويخلفه فيه من تكون النصرة به، حتى لو ترك المولى أبا وابنا فالولاء للابن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الولاء، وإن كان ميتا يجر الولاء. وفي " الأسرار " و" شرح الأقطع " ثم قال الشافعي: يجر الولاء.
ولنا: أن الجد يدلى إليه بواسطة فلم يجر الولاء كالأخ والعم، ولا يكون مسلما بإسلام الجد، إذ لو جاز اتباعه الجد في الإسلام جاز اتباعه جد الجد إلى ما لا نهاية له فيلزم أن يكون الكفار كلهم مسلمين تبعا لآدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ولا وجه إلى ذلك للزوم الجمع بين النقيضين.
م: (ولأن ثبوت المالكية) ش: هذا دليل ثان عقلي على أن ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن فأعتق من أعتقن، تقديره أن ثبوت المالكية يعني كونه مالكا م: (والقوة في المعتق) ش: بفتح التاء م: (من جهتها) ش: أي من جهة المعتقة، وكل من ثبت من جهته شيء ينسب إليه؛ لأنه علته إذ ذاك تنتسب بالولاء إليها، أي إلى المعتقة م: (فينسب الولاء إليها وينسب إليها من ينسب إلى مولاها) ش: أي مولى المعتقة؛ لأن معتق المعتق ينسب إلى معتقه بالولاء، وفي ذلك لا فرق بين الرجل والمرأة.
م: (بخلاف النسب) ش: فإنه لا يثبت إلا من الفراش م: (لأن سبب النسبة فيه الفراش، وصاحب الفراش إنما هو الزوج) ش: لأنه المالك م: (والمرأة مملوكة لا مالكة) ش: فلا ينسب إليه الفراش.
م: (وليس حكم ميراث المعتق) ش: بفتح التاء م: (مقصورا على بني المولى، بل هو لعصبته الأقرب فالأقرب؛ لأن الولاء لا يورث) ش: حتى يكون لأصحاب الفروض منه نصيب، فلو كان بالإرث لكان الذكر والأنثى سواء، ولكن الولاء باعتبار النصرة والنصرة بالذكور لا الإناث للضعف بينهن فيخلف المولى الذي أعتق العبد في الولاء من يتحقق النصرة به، فكان الولاء للذكور دون الإناث، وهو معنى قوله: م: (ويخلفه فيه) ش: أي يخلف المولى الذي أعتق في الولاء م: (من تكون النصرة به) ش: والنصرة بالذكور دون الإناث م: (حتى لو ترك المولى أبا وابنا فالولاء للابن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله) ش: صورته امرأة أعتقت عبدا ثم مات العبد فميراثه للابن خاصة عندهما.
وبه قال الشافعي ومالك والثوري والشعبي والزهري وابن المسيب وعطاء والحسن والحكم وقتادة وأكثر الفقهاء، وهو قول أبي يوسف أولا ثم رجع وقال لأبيهما السدس والباقي(11/26)
لأنه أقر بها عصوبة، وكذلك الولاء للجد دون الأخ عند أبي حنيفة لأنه أقرب في العصوبة عنده، وكذا الولاء لابن المعتقة حتى يرثه دون أخيها لما ذكرنا، إلا أن عقل جناية المعتقة على أخيها لأنه من قوم أبيها، وجنايته كجنايتها. ولو ترك المولى ابنا وأولاد ابن آخر معناه بني ابن آخر فميراث المعتق للابن دون بني الابن؛ لأن الولاء للكبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للابن؛ لأن الأب عصبة كالابن، والابن والأب في القرب سواء فيكون حكمهما سواء، وبه قال أحمد والنخعي والأوزاعي ومشايخ وإسحاق.
م: (لأنه) ش: أي لأن الابن م: (أقربهما عصوبة) ش: أي من حيث العصوبة والولاء بالعصوبة ولا يظهر عصوبة الأب مع الابن م: (وكذلك الولاء للجد دون الأخ عند أبي حنيفة) ش: يعني لو ترك جد موالاة أبا ابنه وأخاه لأب وأم وأخاه لأب وأم أو لأب كان ميراثه للجد عند أبي حنيفة م: (لأنه أقرب) ش: أي لأن الجد أقرب من الأخ م: (في العصوبة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أبو ثور.
وعند أبي يوسف ومحمد كلاهما سواء، وبه قال أحمد والشافعي في قول لأنهما عصبتان، فيكون الولاء بينهما نصفين كالأخوين، وعند مالك أن المال للأخ وهو قول عن الشافعي وهكذا روي عن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وكذا الولاء لابن المعتقة حتى يرثه) ش: الضمير يرجع إلى المعتق، صورته امرأة أعتقت عبدا ثم ماتت وتركت ابنها وأخاها ثم مات العبد ولا وارث له غيرها فالميراث لابنها م: (دون أخيها) ش: وعليه إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء، وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ماتت وخلفت ابنها وأخاها وابن أخيها أن ميراث مولاها لأخيها وابن أخيها دون ابنها فقد رجع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى قول الجماعة م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله لأنه أقربهما عصوبة.
م: (إلا أن عقل جناية المعتقة) ش: بفتح التاء م: (على أخيها) ش: أي على أخ المعتقة م: (لأنه من قوم أبيها) ش: أي لأن الأخ من قوم أبيها، والأصل في العقل قوم الأب وابنها لا ينسب إلى قوم أبيها، بل ينسب إلى قوم زوجها م: (وجنايته كجنايتها) ش: أي جناية المعتق كجناية المعتقة م: (ولو ترك المولى ابنا وأولاد ابن آخر، معناه بني ابن آخر فميراث المعتق) ش: بفتح التاء م: (للابن دون بني الابن؛ لأن الولاء للكبر) ش: بضم الكاف وسكون الباء الموحدة، وكبر الشيء في اللغة معظمة، قال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] (سورة النور: الآية 11) ، قرأ يعقوب وحميد الأعرج بالضم، قال ابن السكيت: يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث. وفي " العباب " وقولهم هو كبر قومه بالضم، أي هو أقعدهم في النسب.(11/27)
هو المروي عن عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي الحديث: «الولاء للكبر» وهو أن يموت الرجل ويترك ابنا وابن ابن فالولاء للابن دون ابن الابن، وقوله الكبر أي للأقرب، انتهى.
وقال الكاكي: أي لأكبر أولاد المعتق، والمراد أقربهم نسبا لا أكبرهم سنا، ألا ترى أن المعتق إذا مات وترك ابنين كبيرا وصغيرا ثم مات المعتق والولاء بينهما نصفان لاستوائهما في القرب إلى الميت من حيث النسب، كذا ذكره شيخ الإسلام.
وقال الأسبيجابي في شرح "الكافي ": وأرادوا بالكبر القرب؛ لأن الأكبر من الأولاد يكون وجوده أقرب إلى وجود الأب من غيره، فكنوا به عنه، وفي " شرح الأقطع " وقولهم الولاء لكبر خرج على المعتاد وهو أن الابن يكون أكبر من ابن الابن في أكثر الأحوال وإن كان في حالة قد يكون ابن الابن أكبر من عمه. وقال في " المغرب " المراد أقرب الأولاد نسبا لا أكبرهم سنا. وقال في " الفائق " في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مات رجل من خزاعة أو من الأزد ولم يدع وارثا، فقال: ادفعوه إلى أكبر خزاعة» أي ادفعوا ماله إلى أكبرهم وهو أقربهم إلى الجد الأول، ولم يرد كبر السن. وقال الحاكم في "كافيه " وتفسيره عندهم، أي تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء للكبر» ، رجل أعتق عبدا ثم مات وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ثم مات المعتق فميراثه لابن المعتق لصلبه دون ابن ابنه، وكذلك القول في كل عصبة على هذا القياس في أن الولاء للكبر منهم ذلك الوقت.
وقال في شرح " الطحاوي ": ولو مات وترك خمسة بني ابن المعتق وابن ابن المعتق من آخر فالميراث أسداسا؛ لأنهم يرثون بالعصبة وعصوبتهم بالسوية.
م: (هو المروي عن عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي قولهم: الولاء للكبر مروي عن جماعة معدودة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (منهم عمر وعلي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: روى الدارمي في "مسنده " أخبرنا يزيد بن هارون أن أشعث عن الشعبي عن عمر وعلي وزيد أنهم قالوا: الولاء لكبر، قالوا: يعنون بالكبر ما كان أقرب بأم وأب ورواه من طريق آخر وزاد فيه ابن مسعود. ورواه القاسم بن حزم السرقسطي في كتاب " غريب الحديث " أخبرنا محمد بن علي حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم عن علي وزيد وعبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم كانوا يقولون: الولاء لكبر، قال ومعناه لا تفد الناس بالمعتق يوم يموت المعتق. وقال في موضع آخر قال يعقوب الولاء للكبر بضم الكاف وهو أكبر ولد الرجل.(11/28)
وغيرهم أجمعين، ومعناه القرب على ما قالوا والصلبيّ أقرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وغيرهم أجمعين) ش: مثل عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأبو مسعود البدري وزيد بن ثابت، وقد أخرج البيهقي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت أنهم كانوا يجعلون الولاء للكبر من العصب، وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا الثوري عن منصور عن إبراهيم أن عمر وعلي وزيد بن ثابت كانوا يجعلون الولاء للكبر، وبه قال عطاء وطاوس وسالم بن عبد الله والحسن وابن سيرين والشعبي وإسحاق وأبو ثور وداود وغيرهم م: (ومعناه) ش: أي معنى قوله: الولاء للكبر م: (القرب على ما قالوا والصلبيّ أقرب) ش: أي الابن الصلبي أقرب إلى الميت.(11/29)
فصل في ولاء الموالاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في ولاء الموالاة]
م: (فصل في ولاء الموالاة) ش: إنما أخره على ولاء العتاقة لأنه أقوى من ولاء الموالاة، ولأنه غير قابل للنقل في جميع الأحوال، بخلاف ولاء الموالاة، فإن للمولى أن ينقل فيه قبل العقل، ولأن ولاء العتاقة مجمع عليه وقد مر معناها اللغوي.
وأما معناها الشرعي فما ذكره في شرح " الطحاوي " وهو أن يقول: أنت مولاي جنايتي عليك وجنايتك علي وميراثي لك إن مت، فإذا مات كان ميراثه للأعلى إن لم يكن له وارث ولا يرث الأسفل من الأعلى إلا إذا شرط ميراث الأعلى لنفسه.
ومن أسلم على يد رجل فبنفس الإسلام لا ينعقد له الولاء، وله أن يوالي من شاء إن شاء والى مع الذي أسلم على يديه، وإن شاء والى مع غيره وله أن يتحول بولايته إلى غيره ما لم يعقل عنه، فبعد ذلك ليس له أن يوالي غيره.
فإذا كان أبوه في دار الحرب فانقطع فأعتقه مولاه يثبت ولاؤه مع معتقه وجر ولاء الولد إلى نفسه، واللقيط جر جنايته على بيت المال وميراثه لبيت المال، فإذا أدركه كان له أن يوالي مع من شاء إلا إذا عقل عنه بيت المال فميراثه لبيت المال وليس له أن يوالي أحدا.
وقال شيخ الإسلام في شرح " الكافي ": الولاء أن يقول له إني رجل غريب ليس لي عشيرة ولا ناصر فضم إلى عشيرتك حتى أعد من جملتك فتنصرني وتحمل عني نوائبي، وإن مت كان ميراثي لك فيقبل منه فينعقد بينهما عقد موالاة بهذا.
وذكر في " الذخيرة " أن يسلم الرجل على رجل فيقول للذي أسلم على يديه أو لغيره واليتك على أني إن مت فميراثي لك، وإن حييت فعقلي عليك وعلى عاقلتك، وقبل الآخر، ولا يثبت أحكامه بمجرد الإسلام بدون عقد الموالاة، ذكره في " الذخيرة " و" جامع التمرتاشي ".
وفي " المبسوط " الإسلام على يد ليس بشرط لصحة العقد، وإنما ذكره على سبيل العادة.
وفي " العناية ": لا يثبت الولاء بمجرد الإسلام ما لم يعقد عقد الموالاة، وهذا هو مذهب أصحابنا والشعبي ومالك والثوري وعند عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والليث بن سعد يثبت الولاء بمجرد الإسلام على يد رجل، كذا ذكره سراج الدين أبو طاهر السجاوندي في شرح "فرائضه " انتهى.
وكذا الإسلام على يده ليس بكاف لثبوت ولاء الموالاة عند أكثر أهل العلم إلا ما روي عن الروافض وأحمد في رواية. وروي أيضا عن إبراهيم وإسحاق وعمر بن عبد العزيز وعمر بن(11/30)
قال: وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه على أنه يرثه ويعقل عنه إذا جنى أو أسلم على يد غيره ووالاه فالولاء صحيح وعقله على مولاه، فإن مات ولا وارث له غيره فميراثه للمولى.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الموالاة ليس بشيء؛ لأن فيه إبطال حق بيت المال، ولهذا لا يصح في حق وارث آخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخطاب لما روى راشد بن سعد أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قال «من أسلم على يديه رجل فهو مولاه يرثه» .
قلنا: هذا حديث ضعيف.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أسلم الرجل على يد رجل ووالاه على أنه يرثه ويعقل عنه إذا جنى أو أسلم على يد غيره ووالاه فالولاء صحيح وعقله على مولاه) ش: وله ثلاث شرائط:
أحدها: أن يكون مجهول النسب بأن لا ينسب إلى غيره، وأما نسبة غيره إليه فغير مانع.
والثانية: أن لا يكون له ولاء عتاقة ولا موالاة مع أحد وقد عقل عنه.
والثالثة: أن لا يكون غريبا.
فإن قيل: من شرط العقل عقل الأعلى وحريته، فإن موالاة الصبي والعبد باطلة، فكيف جعل الشرائط ثلاثا. وأجيب: بأن المذكورة هي الشرائط العامة المحتاج إليها في كل واحد من الصور، وأما ما ذكرت فإنما هو نادر فلم تذكر.
م: (فإن مات ولا وارث له غيره) ش: أي فإن مات الموالي والحال أنه لا وارث له غير الذي والاه م: (فميراثه للمولى) ش: أي المولى الذي والاه.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الموالاة ليس بشيء) ش: أي عقد الموالاة ليس بشيء في حق الاستحقاق والإرث والتذكير بهذا الاعتبار، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله وهو وقول الشعبي م: (لأن فيه) ش: أي في التوريث بعقد الموالاة م: (إبطال حق بيت المال) ش: وذلك لأن الإرث إما بالقرابة أو بالزوجية بالنص أو بالعتق بالحديث، ولم يوجد واحد منهما، وعند عدم الوارث يكون لبيت المال، وفي عقدهما الموالاة إبطال حق بيت المال، وكان تصرفا قصد به وضع الشرع فلا يصح م: (ولهذا لا يصح في حق وارث آخر) ش:، أي ولأجل ما ذكرنا لا يصح عقد الموالاة في حق وارث آخر، فكذا لا يصح في حق بيت المال؛ لأنه بمنزلة الورثة عند عدمهم.(11/31)
ولهذا لا يصح عنده الوصية بجميع المال، وإن لم يكن للموصي وارث لحق بيت المال، وإنما يصح في الثلث. ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] (النساء: الآية 33) ، والآية في الموالاة، «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل أسلم على يد رجل آخر ووالاه فقال: هو أحق الناس به محياه ومماته»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: توضيح آخر لما ذكرنا م: (لا يصح عنده الوصية بجميع المال وإن لم يكن للموصي وارث لحق بيت المال) ش: أي لأجل حقه لأنه في تجويزه إبطال حقه م: (وإنما يصح في الثلث) ش: بالنص المشهور. م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] (سورة النساء: الآية33)) ش: أي عاقدتم، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] (سورة النبأ: الآية 40) أي نفسه، إلا أنه أضاف العقد إلى أيماننا؛ لأن أكثر الكسوب تجري على اليد، وليس المراد به القسم، بل المراد الصفقة باليمين بأن عادة المتعاقدين جرت بأن يأخذ كل واحد منهما بيمين الآخر إذا عاقد فسمي العقد صفقة لهذا.
قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] أي من الميراث؛ لأن المراد من المعطوف عليه، وهو قوله: {الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] بيان النصيب على جهة الاستحقاق إرثا، فكذا المراد مما يعطف عليه، أو المعطوف في حكم المعطوف عليه ولم ينسخ هذا النصيب بآية المواريث لأن المولى لا يرث إلا بعد العصبة والرحم فلا يقع بينهما تعارض ولا تناسخ.
م: (والآية في الموالاة) ش: أي عقد الموالاة كما ذكرنا م: «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل أسلم على يد رجل آخر ووالاه فقال: "هو أحق الناس به محياه ومماته» ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة في الفرائض، فأبو داود رواه عن يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمرو بن عبد العزيز قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عن عمر بن عبد العزيز عن قبيصة ابن ذؤيب «عن تميم الداري قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما السنة في الرجل يسلم على يد رجل من المسلمين. قال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته» .(11/32)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والترمذي عن أبي أسامة، وابن مثنى، ووكيع ثلاثتهم عن عبد العزيز عن عبد الله بن موهب عن تميم الداري فذكره. والنسائي عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن موهب، عن تميم نحوه. وابن ماجه، عن وكيع، عن عبد العزيز بن عمرو، عن عبد الله بن موهب، عن تميم نحوه.
فإن قلت: قال البيهقي: هذا الحديث حيث ذكره من طريق يعقوب بن سفيان حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمرو عن عبد الله بن موهب سمعت تميما.. إلى آخره. ثم قال: قال يعقوب: هذا خطأ؛ ابن موهب لم يسمع من تميم ولا لحقه. ثم أخرجه من طريق يعقوب عن عبد الله بن يوسف عن يحيى بن حمزة عن عبد العزيز عن ابن موهب، وعن قبيصة بين ذؤيب عن تميم ثم من طريق أبي داود المذكورة. ثم قال: فعاد الحديث مع ذكر قبيصة فيه إلى الإرسال ثم ذكر أن الشافعي قال: ابن موهب ليس بالمعروف عندنا، ولا نعلمه لقي تميما، ومثل هذا لا يثبت عندنا، ولا عندك من قبل أنه مجهول ولا أعلمه متصلا.
قلت: أخرجه الحاكم من طريق ابن موهب عن تميم ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وعبد الله بن موهب بن زمعة مشهور، ومشاهد عن تميم حديث قبيصة. وأخرج ابن أبي شيبة الحديث في "مصنفه " عن وكيع عن عبد العزيز، وصرح فيه بسماع ابن موهب من تميم كرواية أبي نعيم. وأخرجه ابن ماجه في "سننه " عن ابن أبي شيبة كذلك، فهذان ثقتان جليلان صرحا في روايتهما بسماع ابن موهب من تميم، وأدخل يزيد بن خالد، وهشام، وأبي يوسف بينهما قبيصة.
فإن كان الأمر كما ذكر أبو نعيم ووكيع حمل على أنه سمع منه بواسطة، وبدونها، وإن ثبت أنه لم يسمع منه ولا لحقه فالواسطة هو قبيصة ثقة أدرك زمان تميم بلا شك، فعنعنته محمولة على الاتصال، فلا أدري ما معنى قول البيهقي، فعاد الحديث مع ذكره إلى الإرسال.
وقال صاحب " الكمال ": ابن موهب ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء فلسطين، وروى عنه عبد العزيز بن عمر، والزهري، وابنه يزيد بن عبد الله، وعبد الملك بن أبي جميلة، وعمر بن مهاجر.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمر وهو ثقة عن ابن(11/33)
وهذا يشير إلى العقل والإرث في الحالتين هاتين، ولأن ماله حقه فيصرفه إلى حيث يشاء والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق لا أنه مستحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موهب الهمداني وهو ثقة، قال: سمعت تميما وكذا ذكر الصيرفي في كتابه بخطه فدل ذلك على أنه ليس بمجهول لا عينا ولا حالا، ثم الظاهر أن الشافعي يخاطب محمد بن الحسن لأنه المخالف في هذه المسألة هو وأصحابه وقد عرف من مذهبهم أن الجهالة، وعدم الاتصال لا يضران الحديث، فلو سلموا له ذلك لكان الحديث ثابتا عندهم محتجا به، فكيف يقول الشافعي: ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك.
فإن قلت: قال الخطابي: فقد ضعف أحمد بن حنبل هذا الحديث، وقال: إن رواية عبد العزيز ليس من الحفظ والإتقان، وقال ابن المنذر: لم يروه غير عبد العزيز ابن عمر، وهو شيخ ليس من الحفظ، وقد اضطربت روايته فيه.
قلت: عبد العزيز هذا من رجال الصحيحين. وقال ابن معين: ثقة روى كثيرا، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال نعيم: ثقة، وقال ابن عمار: ثقة لا خلاف فيه، وبما ذكرنا سقط اعتراض المعترضين كالبيهقي، والخطابي، وابن القطان أيضا، حيث قال في كتابه: وعلة هذا الحديث الجهل بحال عبد الله بن موهب، فإنه لا يعرف حاله، وقد بينا لك حاله فظهر لك سقوط اعتراضه.
ألا ترى أن البخاري ذكر هذا الحديث في الصحيح تعليقا حيث قال في كتاب الفرائض: باب إذا أسلم على يديه ويذكر عن تميم الداري، قال: هو أولى الناس به محياه ومماته.
وقد اختلفوا في صحة هذا الخبر حيث لم يجزم بضعفه، فعبارته تدل على أصل الحديث، وأما صحته فقد بيناها الآن. قوله: محياه ومماته مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت، والمعنى هو أحق به في حالة الحياة عقلا، وفي حالة الممات إرثا.
م: (وهذا) ش: أي هذا الحديث م: (يشير إلى العقل والإرث في الحالتين هاتين) ش: أي إلى العقل عنه حالة الحياة والإرث بعد الممات م: (ولأن ماله حقه فيصرفه إلى حيث يشاء) ش: أي ولأن مال الموالي حقه يصرفه إلى أي جهة شاء ولا حجر عليه.
م: (والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق) ش: هذا جواب عن قول الشافعي أن فيه إبطال حق بيت المال، يعني الصرف إلى بيت المال لضرورة عدم المستحق م: (لا أنه) ش: أي بيت المال م: (مستحق) ش: لمال الناس لا يقال إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لمن أعتق» فيفهم من ذلك أن ولاء الموالاة باطل؛ لأنه لا معتق له؛ لأنا نقول: لا نسلم ذلك لأن تخصيص الشيء بذكر لا يدل على نفي ما عداه.(11/34)
قال: وإن كان له وراث فهو أولى منه، وإن كانت عمة أو خالة أو غيرهما من ذوي الأرحام؛ لأن المولاة عقدهما فلا يلزم غيرهما وذو الرحم وارث، ولا بد من شرط الإرث والعقل كما ذكر في الكتاب لأنه بالالتزام وهو بالشرط، ومن شرطه أن لا يكون المولى من العرب؛ لأن تناصرهم بالقبائل فأغنى عن الموالاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن كان له) ش: أي الذي والى غيره م: (وارث فهو أولى منه) ش: أي من الذي والاه م: (وإن كانت عمة، أو خالة، أو غيرهما من ذوي الأرحام؛ لأن الموالاة عقدهما) ش: أي عقد الموالين م: (فلا يلزم غيرهما وذو الرحم وارث) ش: فيقدم عليه.
فإن قيل: ينبغي أن يصح في الثلث لأنه خالص حقه فيصرفه إلى من يشاء، وصار في معنى الوصية.
أجيب: بأنه لو كان بطريق الوصية لقدم على الأب، والابن، ولا كذلك بالإجماع.
م: (ولا بد من شرط الإرث والعقل) ش: وذلك بأن يقول: واليتك على أني إن حييت عقلت عني، وإن حييت عقلت عنك، وإن مت ورثتني، وإن مت ورثتك م: (كما ذكر في الكتاب) ش: أي القدوري م: (لأنه) ش: أي لأن محل واحد من الإرث والعقل م: (بالالتزام) ش: أي يكون بالإلزام، فلا يصح دونه م: (وهو) ش: أي الالتزام م: (بالشرط) ش: أي يكون بالشرط م: (ومن شرطه) ش: أي ومن شرط عقد الموالاة، أي ومن شرط صحته م: (أن لا يكون المولى من العرب) ش: أراد به المولى الأسفل م: (لأن تناصرهم) ش: أي تناصر العرب م: (بالقبائل) ش: أي بالأقارب والعشائر؛ لأنهم يتناصرون بنسبتهم إلى القبائل م: (فأغنى عن الموالاة) ش: لكون التناصر بالقبائل آكد من نصرة الموالاة؛ لأنه لا يلحقه الفسخ.
فإن قلت: التناصر حكمه، وهو لا يراعى في كل فرد، وإنما يراعى في الجنس كما في الاستبراء، فإن الحكمة فيه فراغ الرحم، وإنما تعتبر في الجملة لا في كل فرد، حتى وجب الاستبراء فيمن اشترى من امرأة، أو المشتري أمة صغيرة.
قلت: التناصر علة لا حكمة.
فإن قلت: إن العلة شيء موجود، والتناصر قد يوجد، وقد لا يوجد.
قلت: إنه علة. قلت: أقمنا السبب الظاهر مقام ذلك، ومن جملة الشروط العقل، حتى لو أسلم على يد صبي والاه لا يصح؛ لأن الصبي ليس من أهل النصرة، وليس من أهل الالتزام أيضا. وكذا لو والى رجل عبدا لم يجز إلا أن يكون بإذن المولى؛ لأنه عقد التزام بالنصرة، والعبد لا يملكه بنفسه إلا بإذن سيده. ولو والى صبيا بإذن أبيه أو وصيه يصح؛ لأن(11/35)
قال: وللمولى أن ينتقل عنه بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه لأنه عقد غير لازم بمنزلة الوصية، وكذا للأعلى أن يتبرأ عن ولائه لعدم اللزوم، إلا أنه يشترط في هذا أن يكون بمحضر من الآخر كما في عزل الوكيل قصدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبارته إذا كان يعقل معتبرة في العقود بإذن وليه يصح عقد ولائه كالبيع، كذا في " المبسوط ". وفي المكاتب روايتان في رواية يصح، ويكون ولاؤه، وفي رواية: لا يصح لأنه عبد، كذا في " المحيط ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وللمولى أن ينتقل عنه بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه) ش: أي وللمولى الأسفل الانتقال من الذي والاه إلى غيره ما لم يعقل الذي والاه عنه، أي عن المولى الأسفل م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الموالاة م: (عقد غير لازم بمنزلة الوصية) ش: فحينئذ له الرجوع كما في الوصية م: (وكذا الأعلى) ش: أي وكذا للمولى الأعلى م: (أن يتبرأ عن ولائه لعدم اللزوم) ش: لما ذكرنا أنه عقد لازم. وقال الحاكم في "كافيه ": رجل والى رجلا فله أن يتحول عنه ما لم يعقل عنه، وله أن ينقضه بحضرته، وكذلك للرجل أن يتبرأ من ولائه ما لم يعقل عنه، فإذا نقض أحدهما الولاء بغير محضر من صاحبه لم ينتقض إلا أن يوالي الأسفل آخر، فيكون ذلك نقضا وإن لم يحضر صاحبه. وفي " التحفة ": فإذا عقل عنه لا يقدر أن يتحول إلى غيره، وصار العقد لازما إلا إذا اتفقا على النقض.
م: (إلا أنه يشترط في هذا) ش: أي في فسخ عقد الموالاة. وقال تاج الشريعة أي في انتقال الولاء إلى غيره، وتبرؤ الأعلى عن الولاء الأسفل م: (أن يكون بمحضر من الآخر) ش: المراد بالمحضر العلم حتى إذا وجد العلم بلا حضور كان كافيا م: (كما في عزل الوكيل قصدا) ش: حيث لم يصح إلا بالعلم لأنه يؤدي إلى الغرور، فإنه ينصرف على حساب أنه وكيل فيصير ضامنا، كذا هاهنا متى فسخ الأسفل عقد الموالاة بغير محضر من الأعلى ليصير الأعلى مغرورا؛ لأنه ربما يموت الأسفل فيظن أنه وارثه فيصرف فيضمن، وكذلك الأعلى إذا فسخ بغير حضرة الأسفل؛ لأن الأسفل إذا لم يعلم به يعتق عبيده على حساب أن عقل عبيده على مولاه لم يجب عليه فيشترط علمهما.
فإن قلت: لم قيد بقوله قصدا.
قلت: لأن عزل الوكيل بدون عمله يجوز ضمنا، فكذا عقد الولاء ينفسخ بدون العلم ضمنا لا قصدا، لا يقال في عزل الوكيل قصدا يتضرر الوكيل بسبب الضمان عند رجوع الحقوق عليه إذا كان نقد من مال الموكل، وهاهنا لم يتضرر أحد؛ لأنا نقول سبب الاشتراط هاهنا هو السبب هناك، وهو دفع الضرر، فإن العقد بينهما وفي تفرد أحدهما إلزام الفسخ على الآخر(11/36)
بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول؛ لأنه فسخ حكمي بمنزلة العزل الحكمي في الوكالة. قال: وإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول بولائه إلى غيره لأنه تعلق به حق الغير ولأنه قضى به القاضي، ولأنه بمنزلة عوض ناله كالعوض في الهبة، وكذا لا يتحول ولده وكذا إذا عقل عن ولده لم يكن لكل واحد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدون علمه، وإلزام شيء على الآخر من غير علم به ضرر لا محالة؛ لأن فيه جعل عقد الرجل البالغ كلا عقد، وفيه إبطال فعله بدون علمه.
م: (بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول) ش: أي من المولى الأعلى حيث يجوز هذا م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الأسفل مع غيره م: (فسخ حكمي) ش: لأن انتقاض العقد في حق الأول ضرورة صحة العقد مع الثاني، فصار م: (بمنزلة العزل الحكمي في الوكالة) ش: حيث يجوز كما ذكرنا.
فإن قيل: لماذا يجعل صحة العقد مع الثاني موجبة فسخ العقد الأول؟
أجيب: بأن الولاء كالنسب، والنسب ما دام ثابتا من إنسان لا يتصور ثبوته من غيره، فكذلك الولاء، فعرفنا أن من ضرورة صحة العقد مع الثاني بطلان العقد الأول.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا عقل عنه) ش: أي المولى الأعلى إذا عقل عن المولى الأسفل م: (لم يكن له أن يتحول بولائه إلى غيره؛ لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (تعلق به حق الغير) ش: أي تعلق بولاية حق الغير وهو المولى الذي والاه أولا.
م: (ولأنه قضى به القاضي) ش: أي ولأن الشأن قضى بموجب الجناية على القاضي الولي الذي عقل عنه، فتأكد به الولاء؛ ولأن القضاء بموجب الشيء قضاء بتقريره ذلك الشيء، وإن كان كذلك صار بمنزلة المجمع عليه بعد أن كان مجتهدا فيه، فنفد عند الكل فلا ينفسخ.
م: (ولأنه بمنزلة عوض ناله) ش: أي، ولأن عقل المولى عنه صار بمنزلة عوض مال المولى الأسفل م: (كالعوض في الهبة) ش: فإن الموهوب له إذا عوض للواهب عن هبة لم يبق له الرجوع فكذلك هذا م: (وكذا لا يتحول ولده) ش: أي إذا كان للمولى الأسفل ولد لم يكن لولده أن يتحول إلى غير المولى الأعلى لتعلق حق ثبت له في ولاء ابنه وهو يحمل العقد عن أبيه.
وفي " المبسوط ": لا يتحول الولد بعد الكبر إلى غيره؛ لأن ولاء الأب تأكد بعقل الجناية فأكد التبع بتأكد الأصل، فكما ليس للأب أن يتحول بعدما عقل، فكذا ليس لولده ذلك إذا كبر. م: (وكذا إذا عقل عن ولده) ش: أي كما لا يجوز أن يتحول إذا عقل عن المولى الأعلى عنه، فكذا لا يجوز له التحول إذا عقل ولده م: (لم يكن لكل واحد منهما) ش: أي من الوالد والولد م:(11/37)
أن يتحول لأنهم في حق الولاء كشخص واحد. قال: وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحدا لأنه لازم ومع بقائه لا يظهر الأدنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(أن يتحول) ش: أي التحول إلى غيره م: (لأنهما في حق الولاء) ش: أي لأن المولى الأعلى، والمولى الأسفل وولده م: (كشخص واحد) ش: حكما، فكما لا يجوز للوالد التحول فكذا لولده.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحدا؛ لأنه لازم) ش: أي لأن ولاء العتاقة لازم لا يحتمل النقض؛ لأن سببه العتق وهو لا يحتمل النقض بعد ثبوته كالنسب، وإذا لم يبطل فلا يفيد عقد الموالاة؛ لأن الموالاة أدنى م: (ومع بقائه) ش: أي مع بقاء ولاء العتاقة م: (لا يظهر الأدنى) ش: أي: عقد الموالاة، ألا ترى أن ولاء العتاقة والموالاة إذا كانا شخصين تقدم ولاء العتاقة في الإرث، فدل على أنه لا حكم له مع وجود ولاء العتاقة.
فوائد: ولو والت امرأة رجلا فولدت ولدا لا يعرف أبوه يدخل الولد في ولائها تبعا، وكذا إن أقرت أنها مولاة فلان وفي يدها طفل لا يعرف أبوه يدخل الولد في ولائها تبعا عند أبي حنيفة في الصورتين خلافا لهما فيهما. وفي " المحيط ": والى ذمي مسلما أو ذميا جاز وهو موالاة ولو أسلم على يد مولى ووالاه هل يصح لم يذكره في الكتاب. واختلفوا، قيل يصح وقيل لا يصح. والى رجلا ثم ولد له من امرأة والت آخر فولاء الولد لمولى الأب وكذا إن والت وهي حبلى، بخلاف ما إذا أعتقت وهي حبلى فولاء الولد لقوم أمه، والله أعلم بالصواب.(11/38)
كتاب الإكراه الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا؛ لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الإكراه]
[تعريف الإكراه وما يثبت به حكمه]
م: (كتاب الإكراه) ش: إنما ذكره عقيب كتاب الولاء لاشتمال كل منهما على التغيير، فإن الموالاة تغيير حال المولى الأعلى عن حرمة أكل مال المولى الأسفل بعد موته إلى حله، والإكراه يغير حال المكره من الحرمة إلى الحل وهو مصدر أكرهه إذا حمله على أمر يكرهه ولا يريد. والكره بالفتح والضم اسم، وفي الشرع ما ذكره المصنف بقوله لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغير فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وفي " الإيضاح ": هو فعل يوجد من المكره فيحدث في المحل معنى يصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه. وفي " الوافي " هو عبارة عن تهديد القادر غيره على ما هدده ويكره على أمر بحيث ينتفي به الرضاء.
م: (الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به) ش: أي خوفه م: (سلطانا كان أو لصا) ش: لأن تحققه يتوقف على خوف المكره تحقيق ما توعد به لا يخاف إلا إذا كان المكره قادرا على ذلك، ولا فرق بين السلطان وغيره عند تحقيق القدرة م: (لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه) ش: أي فيما يصير آلة كالبيع م: (أو يفسد به اختياره) ش: أي فيما لا يصير آلة له كالإتلاف، وذلك بأن يكون الإكراه كاملا بأن يكون بالقتل أو القطع، أو في الرضاء.
ويفسد الاختيار لتحقق الإيحاء إذ الإنسان يحتوي على حب الحياة فيفسد به الاختيار ويظهر المفاوتة في الأحكام، فإن الإكراه بالحبس والقيد على إجراء كلمة الكفر لا يثبت الرخصة والإكراه بالقتل أو القطع يثبتها م: (مع بقاء أهليته) ش: هذه إشارة إلى أن الإكراه لا يسقط عن المكره الخطاب بالأهلية وهي باقية.
وإذا كانت الأهلية هنا تثبت كان المكره مخاطبا. قال تاج الشريعة: مع بقاء أهليته، أي للثواب والعقاب؛ لأن فساد الاختيار لا يمنع الأهلية.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى ما ذكره من قوله لأن الإكراه إلى آخره م: (إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به) ش: بضم الياء على صيغة المجهول.(11/39)
وذلك إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة، والذي قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان، لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق بدون المنعة، فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله، ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره وقوع ما يهدد به، وذلك بأن يغلب على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي إليه من الفعل.
قال: وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة أو على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي بعض النسخ ما توعد به م: (وذلك) ش: على ما ذكرنا من الشرائط م: (إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة) ش: سيان بكسر السين أي مثلان وهو تثنية سي والجمع سواء: م: (والذي قاله أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان، لما أن المنعة له) ش: بتحريك النون، يقال فلان في عز ومنعة، يعني يمنع أهله وعشيرته، يعني يحوطهم وينصرهم.
وعن ابن السكيت: وقد تسكن النون، وكذا قيل الملك لا يكون ملكا إلا بالمنعة، وهي شرط للملك كالوضوء للصلاة. ويجوز أن تكون المنعة جمع مانع، يعني له منعة يمنعون من يخالفه أو من يريده بالسوء.
م: (والقدرة لا تتحقق بدون المنعة) ش: لما أن المنعة شرط للقدرة والمشروط لا يتحقق بدون الشرط، وهذا كما رأيت حقق الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وكذا حققه خواهر زاده في "مبسوطه " وذكر الطحاوي في "مختصره " قول أبي يوسف مع أبي حنيفة.
وقال الأسبيجابي "في شرحه ": وقول أبي يوسف مع محمد في ظاهر الرواية م: (فقد قالوا) ش: أي المشايخ م: (هذا) ش: أي الذي ذهب إليه أبو حنيفة. وفي بعض النسخ هو م: (اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان) ش: لأن مناط الحكم القدرة م: (ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله) ش: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» ، فإذا كان الزمان شرا يكون أهله أشرارا. م: (ثم كما يشترط قدرة المكره) ش: بكسر الراء م: (لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره) ش: بفتح الراء م: (وقوع ما يهدد به) ش: أي بالذي يهدد م: (وذلك) ش: إشارة إلى قوله خوف المكره وقوع ما يهدد به م: (بأن يغلب على ظنه أنه) ش: أي المكره بكسر الراء م: (يفعله) ش: أي يفعل ما يهدد به م: (ليصير به) ش: أي ليصير المكره بالفتح بما يغلب على ظنه م: (محمولا) ش: أي مضطرا م: (على ما دعي إليه من الفعل) ش: الذي هدده به.
[أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أكره الرجل على بيع ماله أو على شراء سلعة أو على(11/40)
أن يقر لرجل بألف أو يؤجر داره فأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس فباع أو اشترى فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع؛ لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (النساء: 29) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يقر لرجل بألف أو يؤجر داره فأكره على ذلك) ش: أي على ما ذكر من البيع والشراء والإقرار والإجارة م: (بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس) ش: أراد به الحبس المديد، فإن حكم الحبس بيوم سيجيء م: (فباع أو اشترى) ش: أو أقر أو أجر ثم زال الإكراه م: (فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع؛ لأن من شرط صحة هذه العقود) ش: أي البيع والشراء والإقرار والإجارة م: (التراضي، قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (سورة النساء: 29) .
ش: فإن قلت: الآية وإن أثبت الحرمة بدون الرضاء ولكن مطلق قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يوجب الجواز بدون التراضي.
قلت: البيع لغة مبادلة المال بالتراضي، والأصل ورد الشرع على وفاق الحقيقة، ولأنه مخصوص محض بدون الرضا.
فإن قلت: هذا بمنزلة الشرط وأنه يقتضي الوجود عند الوجود أما لا يقتضي العدم عند العدم، كما في قَوْله تَعَالَى {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] (سورة النساء: الآية 25) .
قلت: أول الآية {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] واستثنى منه التجارة بالتراضي، فيبقى غيره في صدر الكلام يوضحه أن المستثنى لما كان بصفة التراضي يكون المستثنى منه بخلاف التراضي وهو المكره، وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء» أي كيلا بكيل، فلما استثنى البيع الجائز مع الكيل علم أن المستثنى منه بيع المكيل أيضا، فصار، كأنه قال لا تأكلوا أموالكم بينكم بالتجارة الباطلة كرها، حتى تكون عن تراض فيكون الرضاء شرطا ولكن لا ينعدم به أصل البيع.
فإن قلت: ينبغي أن يكون البيع باطلا بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] (سورة النساء: الآية 25) .
قلت: المراد من قوله بالباطل أي بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا.
وقوله: عن تراض صفة التجارة، أي تجارة صادرة عن تراض، وخص التجارة بالذكر(11/41)
والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضاء فيفسد، بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم؛ لأنه لا يبالى به بالنظر إلى العادة، فلا يتحقق به الإكراه، إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن أسباب الرزق أكثرها يتعلق بها، والتراضي رضى المتبايعين بما تعاقدوا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند الشافعي تفرقهما عن مجلس العقد متراضيين.
م: (والإكراه بهذه الأشياء) ش: يعني بالبيع وأخواته م: (يعدم الرضاء فتفسد) ش: أي هذه العقول المذكورة. لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، م: (بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط) ش: هذا يتصل بقوله والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضاء بخلاف ما إذا أكره على البيع أو الشراء أو الإقرار أو الإجارة بضرب سوط م: (أو حبس يوم أو قيد يوم) ش: حيث لا يكون إكراها م: (لأنه لا يبالي به) ش: بفتح اللام، أي لا يلتفت إلى مثل هذه الأشياء، م: (بالنظر إلى العادة) ش: فإن الرجل قد يقيم في المنزل يوما أو يومين بالاختيار من غير أن يثقل عليه، وكذا ضرب سوط؛ لأن هذا القدر يعيب به ويؤدب به الصغير.
والإنسان يجعل القيد في رجله ثم يمشي مشبها بالمقيد، والحبس الذي هو إكراه ما يجيء منه الاغتمام البين والضرب الذي هو الإكراه ما يوجد منه الألم الشديد، وذلك على قدر ما يرى الحاكم إذا رفع إليه ذلك؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.
م: (فلا يتحقق به الإكراه) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فلا يتحقق به الإكراه.
م: (إلا إذا كان الرجل) ش: الذي أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم م: (صاحب منصب) ش: بفتح الميم وبكسر الصاد، وهو في اللغة الأصل.
وأراد به هاهنا أن يكون ذا جاه م: (يعلم أنه يستضر به) ش: أي بضرب سوط واحد ونحوه كما يتضرر واحد من أوساط الناس بالضرب الشديد، فحينئذ يكون ذلك إكراها وذلك كالقاضي وعظيم البلد، فإن مطلق القيد والحبس إكراه في حقه، حتى لو توعد به وهو رجل وجيه كان ذلك إكراها.
وبه قال بعض الشافعيين ومالك وأحمد رحمهما الله في رواية.
وقال في رواية: الوعيد ليس بإكراه، وعن شريح: القيد والوعيد إكراه والضرب والشتم باختلاف أحوال الناس، حتى قال بعض المشايخ: لو شدت أذن واحد من أشراف الناس في مجلس السلطان يكون مكرها م: (لفوات الرضاء) ش: فإذا فات الرضاء ثبت الإكراه لوجود(11/42)
وكذا الإقرار حجة لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة، ثم إذا باع مكرها وسلم مكرها يثبت به الملك عندنا، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يثبت لأنه بيع موقوف على الإجازة. ألا ترى أنه لو أجاز، جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله والفساد لفقد شرطه وهو التراضي، فصار كسائر الشروط المفسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلة.
م: (وكذا الإقرار حجة) ش: هذا عطف على قوله والإكراه بهذه الأشياء بعدم الرضاء فيفسد، أي والإقرار أيضا يفسد بالإكراه بهذه الأشياء، وذلك لأن الإقرار إنما صار حجة في غير الإكراه م: (لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب) ش: أراد أن الإقرار في نفسه دائر بين الصدق والكذب لأنه اختيار، ولكن يترجح الصدق حال الطواعية بدلالة الحال، إذ الظاهر أن الإنسان لا يكذب على نفسه.
م: (وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة) ش: والشراء لإظهار ما كان عليه فلا يكون حجة، بخلاف ما إذا أكره على الإقرار بأن يضرب سوطا ويحبس يوما فأقر فهو إقرار كما في البيع إذا كان المكره صاحب منصب كما ذكرنا.
م: (ثم إذا باع مكرها وسلم) ش: أي المبيع حال كونه م: (مكرها يثبت به الملك عندنا) ش: أي يثبت بالإكراه الملك الفاسد عند أصحابنا الثلاثة م: (وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يثبت) ش: أي الملك م: (لأنه بيع موقوف على الإجازة، ألا ترى أنه) ش: أي المكره بفتح الراء م: (لو أجاز) ش: أي البيع م: (جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك) ش: عند الثلاثة لا يجوز. ولو أجاز كالبيع بشرط الخيار، وكذا عند الثلاثة إلا أن عندهم لا يكون موقوفا بل باطلا.
م: (ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله) ش: لأن الإيجاب والقبول صدر من المالك البالغ العاقل وصادف محله وهو المال م: (والفساد) ش: أي فساد البيع م: (لفقد شرطه وهو التراضي) ش: قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وتأثير انتفاء الشرط في فساد العقد لا غير كانتفاء المساواة في باب الربا.
م: (فصار) ش: أي الإكراه م: (كسائر الشروط المفسدة) ش: إنما ألحقه بالشروط المفسدة لأن خلو البيع عنها شرط صحة البيع فكذا خلو البيع عن الإكراه.
فاعلم أن بيع المكره يشبه البيع الموقوف من حيث إنه يتوقف على إجازة المالك فلشبهه به يعود جائزا إذا أجاز في أي وقت شاء ويشبه البيع الفاسد من حيث صدوره من المالك وانعدم شرط الجواز وهو الرضاء، فيفيد الملك بعد القبض، وإنما عملنا هكذا إذ لو أظهرنا شبه الوقوف(11/43)
فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه وأعتقه أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن نقضه، جاز ويلزمه القيمة كما في سائر البياعات الفاسدة، وبإجازة المالك يرتفع المفسد، وهو الإكراه وعدم الرضا، فيجوز إلا أنه لا ينقطع به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في عدم الملك لا يبقى لشبهة الآخر عمل فيعمل العمل بالشبهين، لا يقال لو كان بمنزلة البيع الفاسد لما عاد إلى الجواز بالإجازة كما في البيوع الفاسدة؛ لأن النفاذ لسقوط الفساد وأنه لم يستحكم.
فإن قلت: ينبغي أن لا يثبت الملك بعد القبض كما في البيع بشرط الخيار مع وجود الرضاء بالعقد.
قلت: إنما لا يثبت الملك ثمة لاختلاف الشرط عن الفائدة، وهنا ما وجد الشرط فيثبت الملك.
فإن قلت: بيع الهازل لا يفيد الملك وأنه كالبيع الذي نحن فيه من حيث صدورها من المالك مع عدم الرضاء، فينبغي أن لا يثبت الملك.
قلت: الهازل لا يكون مختارا لثبوت الملك للمشتري، أما هنا المكره قد أكره على بيع يثبت الملك، فإقدامه على ذلك يدل على اختيار ثبوت الملك للمشتري إذ لو لم يكن مختارا لذلك لما أتى بما أكره هو عليه.
م: (فيثبت الملك عند القبض حتى لو قبضه) ش: أي المشتري من المكره بالفتح م: (وأعتقه أو تصرف فيه) ش: أي في المبيع م: (تصرفا لا يمكن نقضه) ش: كالتدبير والاستيلاد م: (جاز ويلزمه القيمة) ش: أي جاز تصرف المشتري وتلزمه قيمة المبيع.
وكذا الحكم في الهبة تلزمه القيمة. وفي " الذخيرة ": المالك بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته يوم سلمه إلى المشتري أو الموهوب له، وإن شاء ضمن المشتري والموهوب له.
م: (كما في سائر البياعات الفاسدة) ش: حيث يلزم فيها القيمة بعد القبض والتصرف اللازم م: (وبإجازة المالك يرتفع المفسد) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان كسائر البياعات الفاسدة لما عاد جائزا بالإجازة لهن.
وتقرير الجواب: أن بإجازة المالك يرتفع المفسد م: (وهو الإكراه وعدم الرضاء فيجوز) ش: بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن المفسد فيها باق م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله كما في سائر البياعات الفاسدة، ذكره للفرق بين الإكراه والبيع الفاسد. الضمير في أنه للشأن م: (لا ينقطع به) ش: أي بسبب الإكراه.(11/44)
حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن الفساد فيها لحق الشرع، وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد، وحقه مقدم لحاجته. أما هاهنا الرد لحق العبد وهما سواء فلا يبطل حق الأول لحق الثاني. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضاء ومنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي) ش: ما لم يتصرف المشتري فيه تصرفا لازما يمكن نقضه م: (ولم يرض البائع بذلك) ش: أي والحال أن البائع لم يرض بذلك.
م: (بخلاف سائر البياعات الفاسدة) ش: حيث ينقطع فيها حق الاسترداد إذا تداولته الأيدي م: (لأن الفساد فيها لحق الشرع) ش: لأنه أقدم على ما نهاه عنه م: (وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد، وحقه مقدم لحاجته) ش: وعني صاحب الشرع م: (أما هاهنا) ش: أي في مسألة الإكراه م: (الرد لحق العبد) ش: وهو المكره، وأنه باق بعد البيع الثاني والثالث.
م: (وهما سواء) ش: أي البائع المكره والمشتري منه الذي باعه لآخر سيان في الحق م: (فلا يبطل حق الأول) ش: وهو البائع المكره م: (لحق الثاني) ش: أي لأجل حق الثاني وهو المشتري منه الذي باعه لآخر، وكذا الحكم في الثالث والرابع وهلم جرا.
وفي " الذخيرة ": البيع حصل بتسليط البائع الأول. وفي البياعات الفاسدة، وهاهنا ما حصل بتسليط المكره وهذا فرق جيد.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي صاحب الهداية: م: (ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره) ش: وأراد به بيع الوفاء، وصورته أن يقول البائع للمشتري: بعت هذا منك بمالك علي من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي. وقال تاج الشريعة: صورته أن يقول البائع للمشتري: بعت منك هذا العين بكذا على أني لو دفعت إليك الثمن تدفع العين إلي.
أو تقول: بعت منك هذا بمالك من الدين على أني متى قضيت الدين فهو لي، فقوله "ومن" موصولة تتضمن معنى الشرط، وقوله: جعل البيع.. إلى آخره صلتها. وقوله: بيعا فاسدا مفعول ثان القول جعل البيع. وقوله: يجعله في محل الرفع على أنه خبر لقوله من وهم مشايخ بخارى فإنهم جعلوا هذا البيع كبيع المكره م: (حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضاء) ش: كما في بيع المكره عليه.
م: (ومنهم) ش: أي ومن المشايخ كالقاضي الإمام السند أبو شجاع السمرقندي والقاضي(11/45)
من جعله رهنا لقصد المتعاقدين، ومنهم من جعله باطلا اعتبارا بالهازل. ومشايخ سمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جعلوه بيعا جائزا مفيدا لبعض الأحكام على ما هو المعتاد للحاجة إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على السعدي، والقاضي الإمام الحسن الماتريدي، وشيخ الإسلام عطاء وحمزة وغيرهم م: (من جعله) ش: أي البيع المذكور.
م: (رهنا لقصد المتعاقدين) ش: لأنهما قصدا أن يكون البيع محبوسا بالثمن المؤدى إلى حين رد الثمن إلى المشتري، فكان رهنا معنى، لأنهما وإن سميا بيعا لكن غرضهما الرهن والعبرة للمقاصد والمعاني فلا يملكه المرتهن ولا يطلق له الانتفاع إلا بإذن مالكه وهو ضامن كما أكل من ثمرة واستهلك من عينه والدين ساقط بهلاك في يده إذا كان وفاء بالدين، ولاضمان عليه في الزيادة إذا هلك بغير صنعه وللبائع استرداده إذا قضى دينه لا فرق عندنا بينه وبين الرهن.
م: (ومنهم) ش: أي ومن المشايخ م: (من جعله باطلا اعتبارا بالهازل) ش: لأنهما تكلما بلفظ البيع وليس قصدهما فكان لكل منهما أن يفسخ بغير رضا صاحبه. ولو أجاز أحدهما لم يجز على صاحبه والهازل أيضا راض بمباشرة السبب لكنه غير راض ولا مختار لحكمه فكان كخيار الشرط مؤبدا فالعقد فاسد غير موجب للملك.
م: (ومشايخ سمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جعلوه بيعا جائزا) ش: قال الإمام نجم الدين النسفي: اتفق مشايخنا في هذا الزمان على صحته بيعا وكان عليه بعض السلف لأنهما تلفظا بلفظ البيع، والعبرة للملفوظ دون المقصود كمن تزوج امرأة بقصد أن يطلقها بعدما جامعها صح العقد، يعني لم يكن متعة، كذا في الفصول للأستروشني.
وذكر في " فتاوى قاضي خان " والإمام ظهير الدين: والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنا، ثم ينظر إن كانا ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع، وإن لم يذكرا وتلفظا بالبيع جاز. وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم، فكذلك أي فاسد.
وإن ذكر البيع من غير شرط ثم ذكر الشرط على وجه الميعاد جاز البيع ويلزم الوفاء بالميعاد، لأن المواعيد قد تكون لازمة فيجل هذا الميعاد لازما
لحاجة
الناس م: (مفيدا لبعض الأحكام) ش: هو الانتفاع به دون البعض، وهو المبيع والهبة من آخره. واختار المصنف هذا القول، وأشار إليه بقوله البيع الجائز المعتاد م: (على ما هو المعتاد للحاجة إليه) ش: أي
لحاجة
الناس إليهم، لأنهم في عرفهم لا يفهمون لزوم البيع بهذا الوجه، فلا يجيزونه إلى أن يرد البائع الثمن إلى المشتري وبقي المشتري يرد البيع إلى البائع أيضا ولا يمنع عن الرد، فلهذا سموه بيع الوفاء لأنه وفى بما عاهد من رد المبيع.(11/46)
قال: فإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف، وكذا إذا سلم طائعا بأن كان الإكراه على البيع لا على الدفع، لأنه دليل الإجازة، بخلاف ما إذا أكره على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع حيث يكون باطلا لأن مقصود المكره الاستحقاق لا مجرد اللفظ، وذلك في الهبة بالدفع، وفي البيع بالعقد على ما هو الأصل فدخل الدفع في الإكراه على الهبة دون البيع. قال: وإن قبضه مكرها فليس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أثر الإكراه في الضمان]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن كان قبض) ش: أي البائع المكره م: (الثمن طوعا) ش: أي حال كونه طائعا م: (فقد أجاز البيع، لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف) ش: إذا قبض المالك الثمن كان إجازة ودلالة تقوم مقام الإجازة.
م: (وكذا إذا سلم طائعا) ش: أي وكذا تكون إجازة إذا سلم المشتري المكره المبيع حال كونه طائعا م: (بأن كان الإكراه على البيع) ش: أي على نفس العقد م: (لا على الدفع) ش: أي دفع المبيع إلى البائع يعني إذا أكره على البيع دون دفع المبيع فدفع طائعا جاز البيع م: (لأنه دليل الإجازة بخلاف ما إذا أكره على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع) ش: أي العين الموهوبة إلى الموهوب له م: (حيث يكون باطلا) ش: أي حيث يكون العقد فاسدا يوجب الملك بعد القبض كالهبة الصحيحة بناء على أن أصلنا أن إفساد السبب لا يمنع وقوع الملك بالقبض، فإن تصرف فيه بعد تصرفه عليه ضمان قيمتها.
م: (لأن مقصود المكره) ش: بكسر الراء، وفي بعض النسخ مقصود الإكراه، والأول أصح، وهذا إشارة إلى الفرق بين مسألتي الإكراه على البيوع والإكراه على الهبة تقريره أن مقصود المكره م: (الاستحقاق) ش: أي ما يتعلق به الاستحقاق ليتضرر به المكره م: (لا مجرد اللفظ) ش: يعني لا صورة العقد م: (وذلك) ش: إشارة إلى الاستحقاق م: (في الهبة بالدفع وفي البيع بالعقد) ش: تقريره أن ما يتعلق به الاستحقاق إنما يكون في الهبة بالدفع إلى الموهوب له معنى لا يكون من غير قبض م: (على ما هو الأصل) ش: يعني الأصل في البيع أن يثبت الاستحقاق من غير قبض م: (فدخل الدفع) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فوقع الدفع.
م: (في الإكراه على الهبة) ش: يعني كان الإكراه على الهبة إكراها على الدفع نظرا إلى مقصود المكره وهو حمله على شيء يتعلق به الاستحقاق وإزالة الملك ليتضرر به م: (دون البيع) ش: حيث لا يكون الإكراه على المبيع إكراها على الدفع أي الإقباض، فيكون الدفع على اختيار منه فيدل على الإجازة.
م: (قال: وإن قبضه مكرها) ش: أي بأن قبض المشتري الثمن حال كونه مكرها م: (فليس(11/47)
ذلك بإجازة وعليه رده إن كان قائما في يده لفساد العقد. قال: وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع، معناه والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد، وللمكره أن يضمن المكره إن شاء لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف، فكأنه دفع مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة لقيامه مقام البائع، وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك بإجازة عليه) ش: أي على المكره م: (رده) ش: أي رد الثمن م: (إن كان قائما في يده لفساد العقد) ش: فيكون الثمن أمانة عند المكره لأنه كذلك، لأنه كان مكرها على قبضه. وإن كان هالكا فلاشيء عليه لأنه هلك أمانة.
م: (قال: وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع) ش: لأنه قبضه للتملك م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غيره مكره، أي والحال أنه غير مكره، (والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد) ش: لعدم الرضا، وما كذلك فهو مضمون بالقيمة.
م: (وللمكره) ش: بفتح الراء م: (أن يضمن المكره) ش: بكسر الراء م: (إن شاء لأنه) ش: أي المكره م: (آلة له) ش: أي للمكره م: (فيما يرجع إلى الإتلاف) ش: وإن لم يصلح آلة له من حيث إنه كلام، لأن التكلم بلسان الغير لا يصح م (فكأنه) ش: أي فكأن المكره م: (فع مال البائع إلى المشتري) ش: أي أراد به البائع المكره بفتح الراء م: (فيضمن) ش: أي المكره بالفتح م: (أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب) ش: حيث يتخير المال في تضمين أيها شاء.
م: (فلو ضمن المكره) ش: أي فلو ضمن المكره بالفتح المكره بالكسر م: (رجع على المشتري بالقيمة) ش: أي رجع المكره بالكسر على المشتري بقيمة المقبوض م: (لقيامه مقام البائع) ش: أي لقيام المكره مقام البائع بأداء الضمان لأن المضمون يصير ملكا للضامن من وقت سبب الضمان.
م: (وإن ضمن المشتري) ش: يعني وإن ضمن المكره بالفتح، أي مشتركان بعد الأول م: (نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود) ش: أي تناولته، وقال الأترازي: يعني في صورة الغصب إذا تداولت الأيدي وتناسخت العقود بأن باع هذا من ذلك وذلك من آخر ثم ضمن المالك المشتري الثاني مثلا نفذ كل شراء بعد شراء الثاني لأنه ملك بالزمان فتعين أنه باع ملك نفسه ولا ينفذ ما كان بالشراء قبل الشراء الثاني، لأن إسناد الملك إلى وقت الضمان لا غير، بخلاف البائع المكره إذا جاز بعض العقود ينفذ الكل، لأن العقود موقوفة على الإجازة، فلما وجدت جاز الكل.
قال تاج الشريعة: إذا تداولته الأيدي وضمن البائع المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه،(11/48)
لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه ولا ينفذ ما كان قبله، لأن الاستناد إلى وقت قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده، لأنه أسقط حقه وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن المشتري حينئذ باع ملك نفسه وكذلك لو ضمنه مشتريا آخر من هؤلاء المشترين ينفذ كل شراء كان بعد شرائه دون ما كان قبل شرائه. وفي " الكافي ": فإن ضمن أحد المشترين وقد تناسخته العقود، أي تداولته نفذ كل شراء بعد شرائه ولا ينفذ ما كان قبله، أي قبل شراء المشتري أو قبل الضمان.
م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه) ش: أي ملك نفسه م: (ولا ينفذ ما كان قبله) ش: أي قبل شراء المشتري أو قبل الضمان م: (لأن الاستناد إلى وقت قبضه) ش: أي استناد ثبوت الملك إلى وقت قبضه فقط.
م: (بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها) ش: أي من العقود التي تناسختها الأيدي م: (حيث يجوز ما قبله وما بعده) ش: لأنه م: (أسقط حقه) ش: جواب عما يقال ما الفرق بين تضمينه مشتريا وإجازة عقدا منها حيث اقتصر النفاذ هاهنا على ما كان بعده وعم الجمع هنالك، وتقديره أن المالك أسقط حقه. يعني في صورة الإجازة م: (وهو) ش: أي حقه هو م: (المانع، فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم) ش: نظيره اشترى دارا ولها شفيع فباع المشتري حتى تناسخته العقود وأجاز الشفيع واحدا منها فإنه يجوز الكل، وكذا الراهن باع حتى تناسخت العقود ثم أجاز المرتهن واحدا من العقود فإنه يجوز الكل، بخلاف الفضولي إذا باع وتناسخت البيوع وأجاز المالك، ولهذا يجوز ما أجازه بعينه، لأنه باع كل واحد منهم ملك غيره، وهنا باع كل واحد ملكه.
فإن قيل: ما الفرق بين إجازة المكره وإجازة المغصوب منه، فإنه إذا أجاز بيعا من البيوع نفذ ما أجازه خاصة. أجيب: بأن الغصب لا يزيل ملكه بكل بيع من هذه البيوع توقع على إجابته لمصادفته ملكه فيكون إجازته أحد البيوع تمليكا للعين من المشتري بحكم ذلك البيع فلا ينفذ ما سواه، وأما المشتري من المكره نفذ ملكه بالبيع من كل شراء صادف ملكه، وإنما توقف نفوذه على سقوط حكم المكره في الاسترداد وفي هذا لا يفترق الحال بين إجازته البيع الأول والآخر، فلهذا أنفذ البيوع كلها بإجازته عقدا منها.(11/49)
فصل وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر فأكره على ذلك بحبس أو بضرب أو قيد لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه، وكذا على هذا الدم ولحم الخنزير؛ لأن تناول هذه المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في حالة المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[حكم الإكراه الواقع في حقوق الله]
م: (فصل) ش: لما ذكر حكم الإكراه الواقع في حقوق العباد شرع في بيان حكم الإكراه الواقع في حقوق الله، وقد الأول لأن حق العبد مقدم لحاجته.
م: (وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر فأكره على ذلك بحبس أو بضرب أو قيد) ش: أراد بالضرب الضرب الخفيف الذي لا يخاف منه تلف نفس أو تلف عضو م: (لم يحل له) ش: أي الإقدام على ذلك. وفي " المبسوط ": كل ضرب لا يخاف منه تلف نفس أو عضو في أكبر الرأي لا يحل لأن غالب الرأي يقام مقام الحقيقة.
وقد قال بعض العلماء في ذكر أدنى الحد أربعين، حتى لو تهدد بأقل من أربعين منها لم يحل الإقدام على ذلك، لأن ما دون ذلك مشروع بطريق التعزير، والتعزير يقام على وجه يكون زاجرا لا متلفا.
ولكنا نقول نص المقدار بالرأي لا يكون ولا نص في التقدير هنا، وأحوال الناس مختلفة في أحوال بدنهم، فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه. فإن وقع غالب رأيه أنه متلف نفسا له أو عضوا يحل له الإقدام، والأول في " الذخيرة ". ولو هدد بضرب سوط أو سوطين فهو لا يعتبر إلا أن يقول لأضربنك على عينك أو على مذاكيرك.
م: (إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه، وكذا على هذا) ش: أي وكذا الحكم على ما ذكر م: (الدم ولحم الخنزير) ش: يعني إذا أكره على شرب الدم وأكل لحم الخنزير لا يحل الإقدام إلا إذا خاف على نفسه أو عضو من أعضائه م: (لأن تناول هذا المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في حالة المخمصة) ش: فإنه تعالى استثنى حالة الضرورة من التحريم بقوله {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: 199) ، وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] (سورة المائدة: الآية:3) ، يتحقق بالإكراه م: (لقيام المحرم فيما ورائها) ش: أي فيما وراء الضرورة.(11/50)
ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب الشديد وغلب على ظنه ذلك يباح له ذلك ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم؛ لأنه لما أبيح كان بالامتناع معاونا لغيره على إهلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يأثم لأنه رخصة، إذ الحرمة قائمة فكان آخذا بالعزيمة. قلنا: حالة الاضطرار مستثنى بالنص وهو تكلم بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم، فكان إباحة لا رخصة، إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب الشديد) ش: أي التلف م: (وغلب على ظنه يباح له ذلك ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به) ش: أي قتلوه أو أتلفوا عضوه م: (ولم يأكل فهو آثم) ش: أي في ظاهر الرواية، وكذا هذا فيمن أصابته مخمصة.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول صحيح وأحمد في رواية ومالك م: (لأنه لما أبيح) ش: من حيث إن حرمة هذه الأشياء كانت باعتبار خلل يعود إلى البدن أو العقل أو العرض وحفظ ذلك مع فوات النفس غير ممكن م: (كان بالامتناع) ش: عن الإقدام م: (معاونا لغيره على إهلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يأثم) ش: وبه قال الشافعي في قول وأحمد في رواية م: (لأنه رخصة) ش: أي لأن الإقدام على ذلك رخصة م: (إذ الحرمة قائمة) ش: أي إذ الحرمة بصفة أنها ميتة أو خمر قائمة، فإذا امتنع عن ذلك م: (فيكون آخذا بالعزيمة) ش: فلا يأثم.
م: (قلنا: حالة الاضطرار مستثنى بالنص) ش: هذا منع لما قاله أبو يوسف، تقريره لا نسلم أن الحرمة قائمة، لأن الله تعالى استثنى حالة الاضطرار وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: 119) .
م: (وهو) ش: أي الاستثناء دل عليه قوله مستثنى م: (تكلم بالحاصل بعد الثنيا) ش: يعني الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، فكان لبيان أن المستثنى لم يدخل في صدر الكلام م: (فلا محرم) ش: أي إذا كان كذلك فلا يحرم حينئذ م: (فكان إباحة لا رخصة) ش: أي كان إباحة ابتداء، لأنه داخل في الحرمة ثم خرج فامتناعه من تناول الطعام الحلال حتى تلفت نفسه أو عضوه فكان آثما.
م: (إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة) ش: هذا جواب إشكال كأنه يقول: إذا ثبت إباحته ينبغي أن لا يأثم، إذ الإنسان لا يأثم بترك المباح، فأجاب: بأنه يأثم إذا علم بالإباحة ولم يأكل حتى تلف، لأنه يصير ساعيا في إتلاف نفسه، أما إذا لم يعلم ذلك فلا يأثم(11/51)
لأن انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو في دار الحرب
قال: وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ بالله أو سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه؛ لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر، ففي الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى. قال: وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه لحديث «عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن في انكشاف الحرمة خفاء) ش: لأنه أمر يستأثر بمعرفته الفقهاء، فيكون أوساط الناس مغرورين فيه م: (فيعذر بالجهل فيه) ش: لخفائه عليه م: (كالجهل بالخطاب في أول الإسلام) ش: حيث كان عذرا م: (أو في دار الحرب) ش: بأن أسلم في دار الحرب لا يجب عليه شيء ما لم يعلم بأوامر الشرع.
فإن قيل: إضافة الإثم إلى ترك المباح من باب فساد الوضع وهو فاسد. فالجواب: أن المباح إنما يجوز تركه والإتيان به إذا لم يترتب عليه محرم، وهاهنا قد ترتب عليه قتل النفس المحرم فصار الترك حراما، لأن ما أفضى إلى الحرامِ حرام.
[الإكراه على الكفر أو سب الرسول]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن أكره على الكفر بالله، والعياذ بالله أو سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر) ش: في أول الفصل م: (ففي الكفر وحرمته) ش: أي والحال أن حرمة الكفر م: (أشد أولى وأحرى) ش: بأن لا يكون إكراها.
وقوله: أشد خبر لقوله وحرمته، وقوله أولى خبر لقوله ففي الكفر تقديره عدم كون الإكراه في الكفر أولى.
م: (قال: فإذا خاف على ذلك) ش: يعني على نفسه أو على عضو من أعضائه م: (وسعه أن يظهر ما أمروه به) ش: الضمير في أمروه يرجع إلى المكره بالفتح وفي يد إلى ما في قوله ما أمروه م: (ويوري) ش: بنصب الياء، أي وأن يوري عطفا على قوله أن يظهر وهو من التورية وهو أن يظهر خلاف ما يضمره وهو الإتيان بلفظ يحتمل معنيين بأن يظهر الكفر باللسان مع إضمار الإيمان في قلبه.
م: (فإن أظهر ذلك) ش: أي التلفظ بالكفر م: (وقلبه مطمئن بالإيمان) ش: أي والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان م: (فلا إثم عليه) ش: أي فلا إثم عليه حينئذ م: (لحديث «عمار بن ياسر(11/52)
حين ابتلي به وقد قال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "كيف وجدت قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "فإن عادوا فعد»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حين ابتلي به، وقد قال له النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "كيف وجدت قلبك؟ "، قال: مطمئنا بالإيمان، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "إن عادوا فعد» .
ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك في تفسير سورة النحل من حديث عبيد الله بن عمر الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: «أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوني حتى سببت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر آلهتهم بخير، فلما أتاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] ما وراءك؟ قال: سر يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك"، قال: مطمئنا بالإيمان، قال: "فإن عادوا فعد» وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه البيهقي في "المعرفة " وأبو نعيم في " الحلية " في ترجمة عمار، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري به، وعن عبد الرزاق رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده " في مسند عمار بن ياسر.
قوله: فإن عادوا قال بعض الشراح: أي إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب لا إلى إجراء كلمة الكفر، إذ لا يجوز منه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الأمر بإجراء كلمة الكفر.
وقال صاحب " العناية ": معناه عد إلى طمأنينة القلب لا إلى الإجراء والطمأنينة جميعا، لأن أدنى درجات الأمر الإباحة فيكون إجراء كلمة الكفر مباحا وليس كذلك، لأن الكفر مما لا تنكشف حرمته.
وقال تاج الشريعة: وبعض العلماء يحملون قوله فإن عادوا فعد على ظاهره، يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير وهو غلط، فإنه لا يظن برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك، ولكن مراده إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان، وهذا لأن التكلم إن كان مرخصا به فالامتناع منه أفضل.
وقال الأترازي: يعني إن عاد الكفار إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان.
يعني فاثبت على الطمأنينة وهو أمر بالثبات على ما كان لا أمر بما ليس بكائن من(11/53)
وفيه نزل قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (النحل: الآية 106) ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه. قال: فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا، لأن خبيبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سيد الشهداء، وقال في مثله: «هو رفيقي في الجنة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الطمأنينة كما في قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] معناه إن عادوا إلى الإكراه ثانيا فعد أنت إلى مثل ما أتيت به أولا من إجراء كلمة الكفر على اللسان وطمأنينة القلب بالإيمان، انتهى.
قلت: هذا صواب من الكل لأن مقتضى التركيب هذا على ما لا يخفى ولا نسلم أنه أمر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالتكلم بكلمة الشرك، بل هذا التشريع للمبتلى بالإكراه فكيف يفعل، لأن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبين مشرع فافهم.
م: (وفيه) ش: أي وفي عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (نزل قول تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (سورة النحل: الآية 106) ش: ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقصته أنه خرج مهاجرا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع جماعة، فأخذهم كفار مكة، وقالوا إنكم تريدون محمدا، وعذبوهم وأكرهوهم على الكفر فصبر بعضهم حتى قتل وتكلم عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما أكرهوه وقلبه مطمئن بالإيمان فخلوا عنه، فلما قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك فنزلت الآية.
م: (ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق) ش: هذا دليل معقول وتقريره أن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والتصديق هو الركن الأصلي، وهو قائم حقيقة والإقرار ركن زائد وهو قائم تقديرا، لأن التكرار ليس بشرط فلا يفوت الإيمان بذلك حقيقة م: (وفي الامتناع) ش: عن إتيان ما تهدد به م: (فوت النفس حقيقة) ش: فكان مما اجتمع فيه فوت حق العبد يقينا وفوت حق الله توهما م: (فيسعه الميل إليه قال: فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا، لأن خبيبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سيد الشهداء وقال في مثله: «هو رفيق في الجنة» .
ش: هذا الحديث بهذا الوجه لم يثبت وقتل خبيب في " صحيح البخاري " في مواضع وليس فيه أنه صلب ولا أنه أكره، ولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه سيد الشهداء ولا قال فيه: وهو رفيقي في الجنة فأخرج البخاري في الجهاد عن عمر بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رجل رام فاقتصوا آثارهم(11/54)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر ترددوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا لكم العهد والميثاق إن أنزلتم إلينا عاصما في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق فنزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.
فقال الرجل الثالث الذي معهم: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا على قتله استعار موسي من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته.
قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذك مني وفي يده الموسي فقال أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يوما يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال دعوني أصلي ركعتين، فصلى ثم رجع إليهم فقال لهم: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأطلت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله وبعثت قريش إلى عاصم بن ثابت ليأتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء» انتهى.
قال عبد الحق: وقصة خبيب كانت في غزوة الرجيع، والرجيع على ثمانية أميال من عسفان، وعسفان على مرحلة من خليص في الجنوب ومن عسفان إلى بطن مر ثلاثة وثلاثون ميلا ومن بطن مر إلى مكة مسيرة يوم، وخليص بضم الخاء المعجمة. وعسفان بضم العين المهملة. وبطن مر بفتح الميم وتشديد الراء.
وغزوة أحد كانت في النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة.(11/55)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله: إلى فدفد بفائين مفتوحتين ودالين مهملتين، وهي الأرض المستوية، وقيل الأرض المرتفعة. وقال ابن دريد: الفدفد هي الأرض الغليظة المرتفعة ذات الحصى، فلا تزال الشمس تبرق فيها.
قوله: " من قطف عنب " أي عنقود عنب وهو بكسر القاف وسكون الطاء وفي آخره فاء.
وقال الليث: القطف اسم للثمار المقطوفة، يقال قطفت العنب أقطفه قطفا جنيته. قوله: شلو بكسر الشين المعجمة وسكون اللام وهو العضو من أعضاء اللحم وأشلاء الإنسان أعضاؤه. قوله: ممزع من التمزيع وهو التفريق، ومادته ميم وزاي معجمة وعين مهملة. قوله: لأن خبيبا صبر على ذلك حتى صلب، وهو بضم الخاء المعجمة وفتح الباء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة أخرى.
وقد ذكرنا أن صلبه لم يثبت في الصحيح ولكن محمد بن إسحاق ذكره في كتاب السيرة وقال: ابتاع خبيبا حجير بن أبان التيمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليقتله بأبيه ثم أخرجوه إلى التنعيم وصلبوه على خشبة وقتلوه.
قوله: وسماه، أي خبيبا، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سيد الشهداء، هذا لم يثبت والمعروف من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سيد الشهداء» أنه في حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. رواه الحاكم في الفضائل من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال سمعت جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد الشهداء عند الله يوم القيام حمزة " - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» .
وأخرجه الطبراني عن أبي إسحاق الشيباني عن علي بن حذور عن الأصبغ بن نباتة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «إن أفضل الخلق يوم يجمعهم الله الرسل، وأفضل الناس بعد الرسل الشهداء، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد تكلم به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . حديث آخر نحو ذلك ورد في بلال: رواه البزار في مسنده من حديث زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نعم المرء بلال وهو سيد الشهداء» .. الحديث.
قوله: وقال في مثله، أي فيه أي في خبيب، وكلمة مثل زائدة، هو رفيقي في الجنة. وقيل: لفظ مثل عبارة عن الذات، أي قال في ذاته أي ذات خبيب.
وقال تاج الشريعة: أي في مثل خبيب في الصبر على أذى المشركين وصلبهم وعدم إجراء كلمة الكفر فمن كان كذلك يكون باذلا نفسه لإعزاز الدين فيكون مثل خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(11/56)
ولأن الحرمة باقية والامتناع لإعزاز الدين عزيمة بخلاف ما تقدم للاستثناء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المفهوم من كلامه أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو رفيقي في الجنة» في حق غير خبيب ولكن يدخل فيه خبيب بمشاركته غيره في الصبر على الأذى وغيره، والمفهوم مما ذكرنا أولا، أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا في حق خبيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والأحرى ما قاله تاج الشريعة، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا لم يثبت في حق خبيب، وإن كان هو من رفقاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنة.
م: (ولأن الحرمة باقية) ش: لتناهي قبيح الكفر، فكان بالصبر على الإكراه مجتنبا محرم الشرع ممتثلا نهيه م: (والامتناع لإعزاز الدين عزيمة) ش: أي الامتناع عن إظهار ما توعد به لأجل إعزاز الدين عزيمة، أي أخذ بالعزيمة، ولا شك أن الأخذ بالعزيمة أفضل من الأخذ بالرخصة ولا سيما في مثل هذا الموضع م: (بخلاف ما تقدم) ش: من أكل الميتة وشرب الخمر، فإن الحرمة هناك لم تكن باقية م: (للاستثناء) ش: أراد به قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام الآية: 199) ، والاستثناء من التحريم إباحة.
فإن قلت: الله تعالى كما استثنى في إجراء كلمة الكفر أيضا في قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] (سورة الأنعام: الآية 106) . قلت: من كفر بالله شرط مبتدأ وحذف جوابه لأن جواب {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106] دال عليه، كأنه قيل من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} [النحل: 106] ولا يلزم من انتفاء الغصب الإباحة. وتقريره أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره من كفر بالله من بعد إيمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فالله تعالى ما أباح إجراء كلمة الكفر على لسانهم حالة الإكراه، وإنما وضع عنه العذاب والغضب وليس من ضرورة نفي الغضب وهو حكم الحرمة، لأنه ليس من ضرورة عدم الحكم عدم العلة كما في شهود الشهر في حق المسافر والمريض، فإن السبب موجود والحكم متأخر فجاز أن يكون النصب منفيا مع قيام العلة الموجبة للغضب وهو الحرمة، فلم يثبت إباحة إجراء كلمة الكفر.
هذا ما قالوه وفيه نظر، لأن المراد بالعلة إن كان هو المصطلح فذاك ممتنع التخلف عن الحكم الذي هو معلوله، وإن كان المراد بها السبب الشرعي كما مثل به فإنما يتخلف الحكم عنه بدليل آخر شرعي يوجب تأخيره كما في المثال المذكور من قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] (سورة البقرة: الآية 185) ، ولا دليل فيما نحن فيه على ذلك.
وعن هذا ذهب أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن الأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن عادوا فعد» للإباحة، وقولهم لأن الكفر فيما لا تنكشف حرمته صحيح، ولكن الكلام في إجراء كلمة(11/57)
قال: وإن كان أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك؛ لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة وقد تحققت، ولصاحب المال أن يضمن المكره؛ لأن المكره آلة للمكره فيما يصلح آلة له والإتلاف من هذا القبيل.
وإن أكره بقتله على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما، فكذا بهذه الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفر مكرها لا في المكره.
[الإكراه على إتلاف مال]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك) ش: أي إتلاف مال مسلم م: (لأن مال الغير يستباح للضرورة، كما في حالة المخمصة) ش: أي يعامل به معاملة المباح، لا أنه يجعل مباحا في تلك الحالة، ولهذا لو لم يتناول، حتى قتل، يثاب على ذلك.
وفي الخمر لو لم يشرب حتى قتل يأثم، قالوا هذه المسألة تدل على أن تناول مال الغير أشد حرمة من شرب الخمر م: (وقد تحققت) ش: أي الضرورة م: (ولصاحب المال أن يضمن المكره) ش: بكسر الراء م: (لأن المكره) ش: بفتح الراء م: (آلة للمكره) ش: (بكسر الراء) م: (فيما يصلح آلة له) ش: قد مر أن في كل موضع يصلح كون المكره آلة للمكره يكون الضمان على المكره، واحترز بقوله فيما يصلح عن الأكل والتكلم والوطء، فإنه فيها لا يصلح آلة له إذ الأكل.
بفم الغير والتكلم بلسان الغير لا يتصور م: (والإتلاف من هذا القبيل) ش: أي من قبيل أن يصلح آلة بأن يأخذه ويلقيه على مال فيتلفه.
[الإكراه على القتل]
م: (وإن أكره بقتل على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل) ش: بأن قال له غيره إن لم تقتل فلانا لأقتلنك لا يسعه الإقدام على قتله. قوله ويصبر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو يصبر على ذلك ولا يجوز نصبه عطفا على أن يقدم عليه لفساد المعنى فافهم.
م: (فإن قتله كان آثما، لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما) ش: إذ دليل الرخصة خوف التلف والمكره عليه في ذلك سواء فسقط حق المكره في حق تناول دم المكره عليه للتعارض، بخلاف ما إذا صبر على إتلاف مال الغير، فإن دليل الرخصة قائمة وحرمة النفس فوق حرمة المال.
م: (فكذا بهذه الضرورة) ش: أي فكذا لا يباح بهذه الضرورة وهي الإكراه على قتل النفس فيقول الإكراه يبيح ما تبيحه الضرورة وما تبيحه الضرورة لا يبيحه الإكراه ثم قتل المسلم لا يباح لضرورة ما، فكذا لا يباح بالإكراه.(11/58)
قال: والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والقصاص على المكره) ش: بكسر الراء م: (إن كان القتل عمدا) ش: أي إن كان القتل قتل عمد، وإن كان القاتل عامدا م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا عند أبي حنيفة ومحمدا رحمهما الله) ش: أي قال المصنف: المذكور وهو وجوب القصاص على المكره بكسر الراء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سواء كان الآمر عاقلا بالغا أو معتوها أو غلاما غير بالغ، فالقود على الآمر وعزاه إلى المبسوط.
ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل لو كان المكره الآمر بمنزلة الآلة للمباشرة في القتل والمكره المأمور آله لوجب أن لا يجب القصاص على الآمر فيما إذا كان صبيا أو معتوها؛ لأن انتقال فعل المكره إليه لا يكون أقوى من مبشرته بنفسه، وفيما باشر الصبي القتل العمد لا يجب القصاص عليه.
وقد ذكر في المبسوط أن القصاص يجب على الصبي إذا أمر غيره بالقتل العمد بالإكراه كما ذكرت، فما وجهه؟
قلنا لما انتقل فعل المأمور إلى الآمر انتقال مع وصفه من العقل والبلوغ، فصار ذلك بمنزلة جناية الآمر بيد المأمور في أحكام القتل، فلهذا لم يعتبر عقد الآمر وبلوغه بخلاف ما لو باشر بنفسه لأنه لا واسطة هناك أحد يوصف بالعقل والبلوغ لينتقل قوله إليه بذلك الوصف، فكان ذلك قتلا خاصا من الصبي لا غير، ولا اعتبار لعمد الصبي من القتل في إيجاب القصاص.
وقال الشيخ علاء الدين بن عبد العزيز رحمهما الله: ما نقله السغناقي عن " المبسوط " سهو فإنه ذكر في هذا الباب، إذا عرفنا هذا فنقول سواء كان المكره عاقلا بالغا أو معتوها أو غلاما غير بالغ فالقود على المكره، لأن المكره صار كالآلة له والعقل والبلوغ غير معتبر في حق الآلة، وإنما المعتبر تحقق الإلجاء فعلم أن قوله سواء كان المكره بالغا أو معتوها بفتح الراء وبكسرها والدليل الذي ذكره ينادي عليه فتوهمه بكسر الراء، وذلك غير سديد يؤيده ما قال أبو اليسر في " المبسوط "، ولو كان المكره الآمر صبيا أو مجنونا لا يجب القصاص على أحد، لأن القاتل في الحقيقة هذا الصبي والمجنون وهو ليس بأهل لوجوب العقوبة به عليه.
وذكر الحلواني في "مبسوطه " ولو كان المأمور مختلط العقل، أو صبيا يجب القصاص على المكره الآمر؛ لأن فعل القاتل ينقل، إليه فيكون الصبي، والبالغ في حقه سواء، فعلم بهذا، أن إيجاب القصاص على الصبي الآمر سهو، وما ذكره من الفرق بين المباشر والآمر غير(11/59)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب على المكره. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليهما. لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفعل عن المكره حقيقة وحسا وقرر الشرع حكمه عليه وهو الإثم، بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير؛ لأنه سقط حكمه وهو الإثم فأضيف إلى غيره، وبهذا يتمسك الشافعي في جانب المكره ويوجبه على المكره أيضا لوجود التسبيب إلى القتل منه، وللتسبيب في هذا حكم المباشرة عنده كما في شهود القصاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم؛ لأن المنتقل الفعل ووصفه من العمد والخطأ لا وصف القاتل من العقل والبلوغ، ألا ترى أن المأمور لو كان صبيا أو معتوها لا ينتقل وصف الصبا والقسر إليه، حتى لا يجب القصاص على المكره احتيالا للدرء في القصاص.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب على المكره) ش: بفتح الراء، أراد به يجب القصاص على المكره المأمور وهو وراية عنه وفي رواية أخرى عنه كقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجب عليهما) ش: أي لا يجب القصاص على المكره والمكره جميعا، م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليهما) ش: أي على المكره والمكره جميعا، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله.
م: (لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفعل من المكره) ش: أي أن الفعل وهو القتل حاصل من المكره بفتح الراء م: (حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة لصدوره منه بغير واسطة م: (وحسا) ش: أي ومن حيث الحس، فإنه معاين مشاهد م: (وقرر الشرع حكمه) ش: أي حكم القتل م: (عليه) ش: أي على القاتل.
م: (وهو) ش: أي حكم القتل م: (الإثم) ش: بالإجماع، فإيجاب القصاص على غيره غير معقول وغير مشروع م: (بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير؛ لأنه سقط حكمه وهو الإثم) ش: فلم يكن مقدرا عليه شرعا م: (فأضيف إلى غيره) ش: أي إلى غير المكره.
م: (وبهذا) ش: أي بما ذكره زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الدليل م: (يتمسك الشافعي في جانب المكره) ش: بفتح الراء، يعني في وجوب القصاص م: (ويوجبه) ش: أي ويوجب الشافعي القصاص م: (على المكره أيضا) ش: بكسر الراء م: (لوجود التسبيب في القتل منه) ش: أي من المكره الآمر حيث أحدث فيه معنى كان حاملا له على القتل.
م: (وللتسبيب في هذا) ش: أي في القتل م: (حكم المباشرة عنده) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (كما في شهود القصاص) ش: يعني إذا شهد على رجل بالقتل العمد فاقتص المشهود عليه فجاء المشهود بقتله حيا، فإنه يقتل الشاهدان عنده للتسبب لأنهما قتلاه حكما،(11/60)
ولأبي يوسف: أن القتل بقي مقصورا على المكره من وجه نظرا إلى التأثيم، وأضيف إلى المكره من وجه نظرا إلى الحمل فدخلت الشبهة في كل جانب، ولهما: أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا لحياته فيصير آلة للمكره فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه، ولا يصلح آلة في الجناية على دينه فبقي الفعل مقصورا عليه في حق الإثم كما تقول في الإكراه على العتاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قيل في عبارة المصنف تسامح، لأن دليل زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على عدم جواز إضافة القتل إلى غير المكره، فكيف يجعل ذلك دليلا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو يضيفه إلى غيره أيضا.
أجيب بأن دليله يدل على عدم جواز إضافته إلى غير المكره مباشرة، والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يضيفه إلى الغير تسبيبا فلا تنافي.
م: (ولأبي يوسف: أن القتل مقصورا على المكره) ش: بفتح الراء م: (من وجه نظرا إلى التأثيم) ش: للتسارع إياه، فإنه يدل على تقرر الحكم وقصره عليه م: (وأضيف إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (من وجه نظرا إلى الحمل) ش: بفتح الحاء، أي حمل المكره عليه، تقديره أن كونه محمولا على الفعل يدل على أنه كالآلة والفعل ينتقل عنه، وكل ما كان كذلك كان شبهة م: (فدخلت الشبهة في كل جانب) ش: والقصاص يندفع بها.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله م: (أنه) ش: أي أن المكره بالفتح م: (محمول على القتل) ش: أي ملجأ إليه بواسطة التهديد بالقتل م: (بطبعه) ش: يعني يصير المكره القاتل في ذلك قاتلا بطبعه، أي باقتضاء طبعه، ذلك كالسيف يقطع بطبعه فإن طبعه يقتضي القطع.
وذلك م: (إيثارا لحياته) ش: أي لأجل إيثاره حياته على حياة غيره لأن الإنسان جبل على حب حياة نفسه، فحينئذ نفذ اختياره م: (فيصير آلة للمكره) ش: بكسر الراء م: (فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه) ش: فلا يكون على المكره قصاص ولا دية ولا كفارة لأن الفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى الآلة.
م: (ولا يصلح آلة له في الجناية على دينه) ش: هذا جواب عما يقال لو كان آلة لأضيف الإثم إلى المكره كالقتل، فأجاب بقوله ولا يصلح أي المكره آلة له، أي للمكره بكسر الراء في الجناية على دينه؛ لأن القتل من حيث إنه يوجب المأثم جناية على دين القاتل، لأنه إنما أكرهه ليجني عليه دينه، فلو أضيف إليه لصار جناية على دين المكره، وفي بطلان الإكراه.
م: (فبقي الفعل) ش: من حيث كونه جناية على دينه م: (مقصورا عليه) ش: أي على المكره بالفتح م: (في حق الإثم كما تقول في الإكراه على الإعتاق) ش: ومن حيث الإتلاف منقولا إلى(11/61)
وفي إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير ينتقل الفعل إلى المكره في الإتلاف دون الذكاة حتى يحرم كذا هذا. - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: وإن أكره على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكره من حيث الإتلاف حتى يجب الضمان على المكره ومن الإعتاق بقي مقصورا على المكره حتى يكون الولاء له.
[إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير]
م: (وفي إكراه المجوسي) ش: أي وكما تقول في إكراه المجوسي أي إكراه المسلم المجوسي فالمصدر مضاف إلى مفعوله وطوى ذكر الفاعل، لأن المجوسي مكره وقد صرح به في الإيضاح وهو كما لو أكره مجوسيا م: (على ذبح شاة الغير يتنقل الفعل إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (في الإتلاف) ش: يضمن قيمة الشاة م: (دون الذكاة حتى يحرم) ش: فلا يحل تناوله لأن حل الذبح يتعلق بأمور الدين م: (كذا هذا) ش: كذا حكم القتل.
فإن قلت: لو كان المأمور محمولا على القتل بطبعه لإيثار حياته ينبغي أن يسقط القصاص عن إصابة مخمصة فقتل إنسانا وأكل من لحمه حتى بقي حيا فما الفرق.
قلت: وملجأ هناك من جهة الغير فصار آلة، وأما المضطر فقيم ملجأ إلى القتل من جهة غيره حتى يصير آلة، ولهذا يجب عليه الضمان في المال فعلم أن الحكم مقصورا عليه.
فإن قلت: ينبغي أن لا يصلح المكره آلة له في الإعتاق من حيث الإتلاف، لأن الإتلاف يثبت في ضمن التلفظ بهذا اللفظ وهو لا يصلح آلة له في حق التلفظ، فكذا في حق ما يثبت في ضمنه.
قلت: نفس الإعتاق إتلاف إذ هو إزالة الملك وليس في قدرة العبد إلا ذلك وهو يصلح في إزالة الملك، أما إثبات القوة فخالص حق الله تعالى لا يقال يشكل بما إذا أكره محرم على صيد حتى قتله وأدى الضمان لا يرجع على المكره وإن صلح آلة له في الإتلاف، لأنا نقول الضمان في قتل الصيد إنما تجب بالجناية على إحرامه وهو لا يصلح آلة له في ذلك.
[الإكراه على التوكيل بالطلاق]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن أكره على طلاق امرأته) ش: أي إن أكره الرجل على أن يطلق امرأته، وفي بعض النسخ وإن أكرهه الرجل على طلاق امرأته م: (أو عتق عبده ففعل) ش: أي طلق امرأته أو أعتق عبده م: (وقع ما أكره عليه عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
ش: وبقول الشافعي قال مالك وأحمد رحمهما الله ثم الإكراه لا يعمل في أشياء: منها الطلاق والعتاق والنكاح والرجعة والتدبير والعفو عن القصاص واليمين والنذر والظهار(11/62)
وقد مر في الطلاق. قال: ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف، فانضاف إليه فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا ولا سعاية على العبد؛ لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والإيلاء والفيء في الإيلاء والإسلام، لأنه إنشاء تصرف م: (وقد مر في الطلاق) ش: أي في فصل طلاق المكره والسكران.
وفي فتاوى قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - إكراه بوعيد القتل على الطلاق والعتاق فلم يفعل حتى قتل لم يأثم كما لو أكره بالقتل على إتلاف مال نفسه فلم يتلف كان شهيدا، فكذا في الامتناع عن إبطال ملك النكاح.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرجع) ش: أي المكره بفتح الراء م: (على الذكر أكرهه بقيمة العبد، لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف، فانضاف إليه فله) ش: أي فللمكره المأمور م: (أن يضمنه) ش: أي المكره الآمر م: (موسرا كان أو معسرا) ش: لأن وجوب الضمان باعتبار مباشرة الإتلاف فيكون ضمان جيران، فلا يختلف باليسار والإعسار، ألا ترى أن شهود الإعتاق يضمنون إذا رجعوا موسرين كانوا أو معسرين.
فإن قلت: ينبغي أن لا يجب الضمان على المكره؛ لأنه أتلفه بعوض وهو الولاء والإتلاف بعوض كالإتلاف.
قلت: هذا يكون أن لو كان العوض مالا أو في حكم المال، والولاء ليس بمال ولا أشبه بالمال؛ لأنه بمنزلة النسب وهو ليس بمال.
م: (ولا سعاية على العبد؛ لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية) ش: وقد خرج فلا يمكن تخريجه ثانيا كما هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المستسعى كالمكاتب والذي يحتاج إلى التخريج إلى الحرية كالعبد المشترك إذا أعتقه أحد الشريكين يحتاج إلى تخريجه إلى الحرية إما بالاستسعاء أو بالتضمين، أو يعتق الشريك الآخر كما عرف م: (أو لتعلق حق الغير) ش: أي أو السعاية إنما تجب لتعلق حق الغير بالعبد كما هو مذهبهما كعتق المريض عبده وعتق الراهن عبد المرهون، فإنه يجب السعاية على العبد فيما إن كان معسرا لتعلق حق الغير به.
وفي " الذخيرة " مسألة الإعتاق والطلاق على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يقول المكره خطر ببالي الإخبار بالحرية فيما مضى كاذبا وقد أردت ذلك لا الإنشاء بعتق العبد قضاء لا ديانة، ولا يضمن المكره شيئا لأنه عدل عما أكرهه وعتق العبد بإقراره طائعا.(11/63)
ولم يوجد واحد منهما ولا يرجع المكره على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه قال ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول، وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما لزمه من المتعة؛ لأن ما عليه كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه، فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: أن يقول خطر ببالي الإخبار كاذبا وتركت ذلك وأردت عتقا مستقبلا كما طلب مني، ففي هذا عتق العبد قضاء وديانة ويضمن المكره قيمة العبد.
والثالث: أن يقول لم يخطر ببالي شيء وقد أتيت بما طلب مني، فالجواب فيه كالجواب في الوجه الثاني، والجواب في الإكراه على الطلاق وقد سمى لها مهرا قبل الدخول كالجواب في الإكراه على عتق العبد في الوقوع ورجوع الزوج على المكره، إلا أن في الطلاق الرجوع بنصف المهر، وفي الإعتاق بقيمة العبد.
م: (ولم يوجد واحد منهما) ش: أي من التخريج إلى الحرية وتعلق حق الغير م: (ولا يرجع المكره) ش: بكسر الراء م: (على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه) ش: أي لأن المكره نفسه إنما يضمن من حيث إنه جعل متلفا للعبد حكما كأنه قتله والمقتول لا يسعى لأحد حكما.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان) ش: أي الإكراه م: (قبل الدخول) ش: بها. فإن قلت: المماثلة شرط في ضمان العدوان والمكره لم يضع غير تأكيد نصف المهر والإيجاب أعلى من التأكيد.
قلت: المماثلة في المضمون لا في الفعل، والمضمن نصف المهر بالاتفاق فتتحقق المماثلة م: (وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره) ش: بكسر الراء م: (بما لزمه من المتعة، لأن ما عليه) ش: أي على الزوج م: (كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها) ش: بتمكين أي الزوج منها بغير إكراه أو بالارتداد والعياذ بالله تعالى.
م: (وإنما يتأكد) ش: أي ما كان عليه إنما يتأكد م: (بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه فيضاف إلى المكره) ش: بكسر الراء م: (من حيث إنه إتلاف) ش: فإذا أضيف إليه يرجع المكره عليه لأن للتأكيد شبها فكان المكره بمنزلة الآلة فيرجع عليه.
م: (بخلاف ما إذا دخل بها) ش: حيث لا يضمن المكره الآمر شيئا وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن مهر المثل م: (لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق) ش: فبقي مجرد إتلاف ملك النكاح وهو ليس بمال عند الخروج وما ليس بمال لا يضمن(11/64)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمال، ألا ترى أن الشاهدين إذا رجعا بعد الشهادة بالطلاق لا يضمنان. ثم إن المصنف لم يضمن الإكراه على النكاح.
قال محمد: في " الأصل " ولو أن رجلا أكره بوجه قتل أو بحبس أو بقيد أو بضرب حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف ومهر مثلها ألف درهم كان النكاح جائزا، ويكون من العشرة آلاف درهم مهر مثلها ألف درهم ويبطل الفضل.
وذكر الطحاوي في "مختصره " أن الزوج يلزمه جميع ذلك فيرجع بالفضل على من أكرهه وهو ليس بظاهر الرواية، ولو أن المرأة هي التي أكرهت حتى تزوجها الزوج على ألف درهم ومهر مثلها عشرة آلاف أو زوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره.
ثم هل للمرأة والأولياء الاعتراض على هذا النكاح. فالمسألة على وجهين إما أن يكون الزوج دخل بها أو لم يدخل بها وكل وجه على وجهين: إما أن تكون المرأة رضيت بما سمى لها من الصداق أو لم ترض، وكل وجه على وجهين: إما أن يكون الزوج كفؤا لها أو غير كفؤ، فإن كان كفؤا لها وقد رضيت بالمسمى كان للأولياء حق الاعتراض عند أبي حنيفة، وعندهما لا أصل.
ولو زوجت نفسها في الابتداء من كفؤ بأقل من مهر المثل كانت المسألة على الاختلاف، وإن كان الزوج غير كفؤ لها، فللأولياء الاعتراض على هذا النكاح، عندهم جميعا، هذا إذا رضيت بالمسمى، ولم يدخل بها الزوج، فإن لم ترض بالمسمى ينظر.
فإن كان الزوج كفؤا لها، فلها حق الاعتراض على هذا النكاح بسبب نقصان المهر عندهم جميعا، فإذا رفعت الأمر إلى القاضي بخير زوجها، فيقول: له أتم لها مهرها وإلا فرقت بينكما، فإذا أتم نفذ النكاح، وإن أبى يفرق بينهما ولا يكون لها مهر.
لأن الفرقة جاءت من قبلها لما لم ترض بالزيادة، والفرقة الواقعة من قبلها تسقط الصداق كله قبل الدخول كما في ارتدادها، وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها، وللأولياء حق الاعتراض، على هذا النكاح، عند أبي حنيفة، لعدم الكفارة، ونقصان المهر. وعندهما ليس لها حق الاعتراض كذلك للأولياء لعدم الكفاءة لا غير.
هذا كله فيما إذا لم يدخل بها. فإن دخل بها وهي مكرهة فإن كان الزوج كفؤا لها فللأولياء والمرأة حق الاعتراض بسبب عدم الكفاءة، وأما إذا دخل بها وهي طائعة فقد رضيت بالمهر المسمى دلالة، فكان كما لو رضيت بالمسمى نصا، فعلى قول أبي حنيفة للأولياء حق(11/65)
ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل جاز استحسانا لأن الإكراه مؤثر في فساد العقد والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، ويرجع على المكره استحسانا لأن مقصود المكره زوال ملكه إذا باشر الوكيل، والنذر لا يعمل فيه الإكراه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاعتراض.
وإن كان الزوج غير كفؤ فللأولياء حق الاعتراض عند أبي حنيفة لعدم الكفاءة ونقصان المهر، وعندهما لعدم الكفاءة لا غير، هذا خلاصة ما ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل) ش: أي طلق أو أعتق م: (جاز استحسانا) ش: أي يقع الطلاق والعتاق بفعل الوكيل. وفي القياس لا يقع، وبه قالت الثلاثة لأن القياس أن لا تصح الوكالة بالإكراه لأن الأصل أن كل عقد يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه الإكراه وما لا فلا، لأنهما ينفيان الرضى، والوكالة تبطل بالهزل، فكذا مع الإكراه.
م: (لأن الإكراه) ش: إشارة إلى بيان وجه الاستحسان، تقريره أن الإكراه م: (مؤثر في فساد العقد) ش: فكان كالشرط الفاسد م: (والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة) ش: فالإكراه لا يؤثر في فساد الوكالة أما أنه كالشرط الفاسد فلما تقدم أنه بعدم الرضى فيفسد به الاختيار فصار كأنه شرط شرطا فاسدا فإنه يفسد العقد ولا يمنع عن الانعقاد، وأما أن الوكالة لا تفسد بالشروط فلأنهما من الإسقاطات إذ الموكل يسقط حقه بالتعويض إليه، فإذا لم تبطل الوكالة ينفذ تصرف الوكيل.
م: (ويرجع على المكره) ش: بكسر الراء بما عزم من نصف الصداق وقيمة العبد م: (استحسانا) ش: والقياس أن لا يرجع عليه، لأن الإكراه وقع على الوكالة وزوال الملك لم يقع بها، فإن الوكيل قد يفعل وقد لا يفعل، فلا يضاف التلف إليه كما في الشاهدين شهدا أن فلانا وكل فلانا يعتق عبده فأعتق الوكيل ثم رجعا.
وجه الاستحسان هو وقوله م: (لأن مقصود المكره) ش: بالكسر م: (زوال ملكه إذا باشر الوكيل) ش: فكان الزوال مقصودا فيضمن ولا ضمان على الوكيل لأنه لم يوجد منه إكراه م: (والنذر لا يعمل فيه الإكراه) ش: يشير بهذا إلى بيان ما يعمل فيه الإكراه، وإما لا يعمل وضابط ذلك أن كل ما يؤثر فيه الفسخ بعد وقوعه لا يعمل فيه الإكراه، فإذا كان كذلك يصح النذر مع الإكراه بأن أكرهه بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو مثل ذلك لزمه كله خلافا للثلاثة.(11/66)
لأنه لا يحتمل الفسخ ولا رجوع على المكره بما لزمه لأنه مطالب له في الدنيا فلا يطالب به فيها، وكذا اليمين والظهار لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة والإيلاء والفيء فيه باللسان لأنها تصح مع الهزل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأنه) ش: أي لأن النذر م: (لا يحتمل الفسخ) ش: لأنه يمين لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النذر يمين» واليمين لا يحتمل الفسخ فلا يؤثر فيه الإكراه. وروى محمد في أوائل الإكراه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال أربع مقفلات مبهمات ليس فيهن رد بذي الإعتاق ولا الطلاق والنكاح والنذر، أراد بقوله مبهمات وقوعها وصحتها مطلقة بلا قيد الرضى والطواعية، والحل إذا صدرت عن المكلف.
م: (ولا رجوع على المكره) ش: بالكسر م: (بما لزمه لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطالب) ش: أي المكره بالكسر م: (به) ش: أي لما أكرهوه م: (فيها) ش: أي في الدنيا م: (وكذا اليمين) ش: أي وكذا إذا أكره على يمين فحلف انعقدت.
م: (والظهار) ش: بأن أكره على أن يظاهر امرأته فظاهر صح م: (لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة) ش: أي لعدم احتمالهما الفسخ والظهار من أسباب التحريم كالطلاق فيستوي فيه الجد والهزل والإكراه والطوع، خلافا للثلاثة لا يعمل فيها الإكراه لأنه استدامة للنكاح.
فكانت ملحقة به م: (والإيلاء) ش: أي وكذا الإيلاء لأنه يمين في المال والإكراه لا يمنع كل واحد منهما م: (والفيء فيه باللسان) ش: أي في الإيلاء بأن أكرهه على فيء إليها باللسان ففعل صح، لأنه كالهبة في استدامته أي الرجعة في الاستدامة م: (لأنها) ش: أي الرجعة والإيلاء والفيء في بعض النسخ لأنه، أي لأن كل واحد من المذكورات.
م: (تصح مع الهزل) ش: وما صح مع الهزل لا يحتمل الفسخ، فإن أكره على إعتاق عبد عن كفارة اليمين أو الظهار ففعل أجزأه عنها ولم يرجع على المكره بقيمته لأنه أمره بالخروج عما لزمه وذلك منه حسبة لا إتلافا بغير حق وإن عين عبدا لذلك ففعل عتق ولم يجز عن الكفارة رجع على المكره بقيمته، لأنه أتلف عليه مالية العبد حيث لم يكن مستحقا عليه.
وإذا ثبت له الرجوع لم يكن كفارة لأنها ليست بمضمونة على أحد، وإن ترك التي آلى منها أربعة أشهر حتى بانت ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولا يرجع به على المكره،(11/67)
والخلع من جانبه طلاق أو يمين لا يعمل فيه الإكراه، فلو كان هو مكرها على الخلع دونها لزمها البدل لرضاها بالالتزام.
قال: وإن أكره على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن يكرهه السلطان. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يلزمه الحد، وقد ذكرناه في الحدود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه كان متمكنا من القرآن على المكره بشيء لأنه أتى بضد ما أكرهه عليه.
م: (والخلع من جانبه يمين) ش: أي من جانب الزوج يمين لوجود الشرط والجزاء، واليمين لا يعمل فيه الإكراه م: (أو طلاق) ش: هذا ظاهر، والإكراه لا يمنع وقوع الطلاق بغير جعل، فكذا بالجعل م: (لا يعمل فيه) ش: أي في الخلع م: (الإكراه) ش: لما ذكرنا م: (فلو كان هو) ش: أي الزوج م: (مكرها على الخلع دونها) ش: أي دون المرأة م: (لزمها البدل لرضاها بالالتزام) ش: البدل طائعة بإزاء ما سلم جاء من البينونة ولا شيء على المكره للزوج، لأنه أتلف عليه ما ليس بمال وهو النكاح فلا يضمن به.
فإن قيل: إن خالعها وهي غير ملموسة فاستحقت نصف الصداق هل يرجع به الزوج على المكره لتأكيده ما كان على شرف السقوط أولا.
قلنا: لا يخلو إما أن يكون ساق الزوج إليها المهر كله أو لا، فإن ساق رجع على المكره بنصفه بالاتفاق، أما عندهما فظاهر، لأن الخلع على مال مسمى لا يوجب البراءة عما يستحق كل منهما قبل صاحبه بحكم النكاح، وأما عند أبي حنيفة رحمه فلأنه وإن أوجب البراءة لكنها براءة مكرها، والبراءة مع الإكراه لا تصح. وإن لم يسمه رجع عندهما خلافا له، لأنه غير مكره في هذه الصورة على البراءة.
[الإكراه على الزنا]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن كان أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بانتشار آلته، وذلك لا يكون إلا بلذة، وذلك دليل على الطواعية، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أن يكرهه السلطان) ش: يعني لا يجب الحد حينئذ، لأن الحد للزجر ولا حاجة إليه مع الإكراه، فكان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة، فيصير ذلك شبهة في الإسقاط وانتشار الآلة قد يكون طبعا بالفحولة التي ركبها الله عز وجل في الرجال، ألا ترى أن النائم تنتشر آلته بلا اختيار له في ذلك ولا قصدا.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا يلزمه الحد وقد ذكرناه في الحدود) ش: في الصورتين جميعا، ودليلهما ما ذكره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إكراه السلطان على الزنا قبل تقييد الإكراه بالسلطان من قبيل اختلاف العصر كما تقدم.(11/68)
قال: وإذا أكره على الردة لم تبن امرأته منه لأن الردة تتعلق بالاعتقاد. ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة: قد بنت منك وقال هو قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان فالقول قوله استحسانا؛ لأن اللفظ غير موضوع للفرقة وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: من قبيل اختلاف الحكم، ثم في كل موضع يجب الحد على المكره لا يجب لها المهر، لأن الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بفعل واحد، وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر، لأن الوطء في غير الملك لا ينتقل عن أحدهما، فإذا سقط الحد وجب المهر إظهارا لخطر المحل، سواء كانت مستكرهة على الفعل أو أذنت له بذلك، أما الأول فظاهر لأنها لم ترض بسقوط حقها. وأما الثاني فلأن الإذن له ليس يحل الوطء، فكان إذنها كفؤا لكونها محجورة عن ذلك شرعا.
[من أكره على الردة هل تبين منه امرأته]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أكره على الردة لم تبن امرأته منه، لأن الردة تتعلق بالاعتقاد) ش: يعني الردة تكون بتبدل الاعتقاد م: (ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر، وفي اعتقاده الكفر شك) ش: لأن الإيمان ثابت باليقين والردة تعتمد محض الاعتقاد وقد وقع الشك في اعتقاده الكفر بالارتداد كرها م: (فلا تثبت البينونة بالشك) ش: لأنها تترتب على وجود الردة من غير شك، والمترتب على ما شك فيه لا يثبت، ويجوز أن يكون قوله لأن الردة تتعلق بالاعتقاد دليلا مستقلا. وقوله: وفي اعتقاد الكفر شك دليلا آخر.
وجه الأول تبدل الاعتقاد ليس بثابت لقيام الدليل، وهو الإكراه.
ووجه الثاني: أن الرد باعتقاد الكفر وفي اعتقاد الكفر شك لأنه أمر معين لا يطلع عليه إلا بترجمة اللسان، وقيام الإكراه يصرف من صحة الترجمة فلا تثبت البينونة المترتبة على الكفر بالشك.
م: (فإن قالت المرأة: قد بنت منك) ش: أي فإن اختلف الزوجان فقالت المرأة اعتقدت بقلبك الكفر حيث أجريت على لسانك كلمة الكفر بالإكراه وبنت منك م: (وقال هو) ش: أي الزوج م: (قد أظهرت ذلك) ش: أي الكفر بلساني خوفا من القتل م: (وقلبي مطمئن بالإيمان) ش: ولم يتبدل اعتقادي م: (فالقول قوله استحسانا) ش: فيبن به، لأن في القياس القول قولهما حتى يفرق بينهما، لأن كلمة الكفر سبب لحصول البينونة كلفظ الطلاق، فيستوي فيه الطائع والمكره، وأشار إلى وجه الاستحسان بقوله.
م: (لأن اللفظ) ش: يعني كلمة الكفر م: (غير موضوع للفرقة) ش: يعني لم يظهر فيها ظهورا بينا من حيث الحقيقة يكون صريحا يقوم اللفظ فيه مقام معناه كما في الطلاق م: (وهي)(11/69)
بتبدل الاعتقاد، ومع الإكراه لا يدل على التبدل فكان القول قوله. بخلاف الإكراه على الإسلام حيث يصير به مسلما لأنه لما احتمل واحتمل رجحنا الإسلام في الحالين؛ لأنه يعلو ولا يعلى. وهذا بيان الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقده فليس بمسلم. ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة وهي دارئة للقتل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الفرقة م: (بتبدل الاعتقاد ومع الإكراه لا يدل على التبدل) ش: فلا تقع الفرقة م: (فكان القول قوله) ش: يعني فإذا كان كذلك يكون القول قول الزوج.
م: (بخلاف الإكراه على الإسلام) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال كيف قلتم إن الاعتقاد مع الإكراه لا يدل على التبدل وقد حصل تبدل الاعتقاد مع الإكراه في صورة الإكراه على الإسلام، لأنه لم يعتبر كافرا كما كان بل اعتبر مسلما لتبدل اعتقاده من الكفر إلى الإسلام.
وتقرير الجواب أن حكم الارتداد بالإكراه م: (حيث يصير به) ش: أي بالإكراه م: (مسلما لأنه) ش: أي لأن الإنسان م: (لما احتمل) ش: أن يكون لفظه يوافق اعتقاده م: (واحتمل) ش: أن لا يكون م: (رجحنا الإسلام في الحالين) ش: أي في حالة إجراء كلمة الكفر بالإكراه بالإسلام وتحقيقه إن وجدت حقيقة الإسلام مع الإكراه فيكون مسلما، لأن الإسلام إنما يتحقق بالتصديق بالقلب والإقرار باللسان وقد سمعنا إقراره بلسانه، واللسان يعبر عما في القلب فيحكم بإسلامه، يؤيده قوله عز وجل {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] (سورة آل عمران: الآية 83) ، بخلف الردة فإنها تحصل بتبدل الاعتقاد، والإكراه دليل ظاهر على عدمه.
م: (لأنه) ش: أي الإسلام م: (يعلو) ش: على غيره م: (ولا يعلى) ش: أي ولا يعلو غيره عليه م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من الحكم بإسلامه مع الإكراه م: (بيان الحكم) ش: في الدنيا م: (أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقد الإسلام فليس بمسلم) ش: هذا كأنه إشارة إلى ما قاله الإمام أبو منصور الماتريدي وهذا المنقول عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان شرط إجراء الأحكام ليس ذلك مذهب أهل أصول الفقه، فإنهم يجعلون الإقرار ركنا.
م: (ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة) ش: أي شبهة عدم الارتداد، ولجواز أن يكون التصديق غير قائم بقلبه عند الشهادتين م: (وهي) ش: أي الشبهة م: (دارئة للقتل) ش: وهذا استحسان.
وفي القياس يقتل لأنه بدل دينه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وهذا نظير القياس.(11/70)
ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر: أخبرت عن أمر ماض، ولم أكن فعلت بانت منه حكما لا ديانة لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه وحكم هذا الطائع ما ذكرناه. ولو قال: أردت ما طلب مني وقد خطر ببالي الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء، لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره، وعلى هذا إذا أكره على الصلاة للصليب وسب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ففعل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والاستحسان في المولود بين المسلمين إذا بلغ مرتدا يجبر على الإسلام ولا يقتل استحسانا للشبهة المتمكنة فيه بسبب اختلاف العلماء.
م: (ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر أخبرت عن أمر ماض) ش: هذا معطوف على قوله وقال هو قد أظهرت ذلك، يعني لو قال في جواب قولها قد ثبت منك أخبرت عن أمر ماض، يعني خطر ببالي كفرت بالله أن أخبر عن أمر ماض كذابا م: (ولم أكن فعلت) ش: ذلك فيما مضى.
م: (بانت منه حكما لا ديانة) ش: يعني تقع البينونة بينهما قضاء لا ديانة، يعني لا تبين منه فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه ادعى ما يحتمله لفظه م: (لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه، وحكم هذا الطائع ما ذكرناه) ش: هذا دليل وقوع البينونة حكما لا ديانة لأن من أقر بالكفر طائعا ثم قال عنيت به الكذب لا يصدقه القاضي، لأنه خلاف الظاهر، إذ الظاهر هو الصدق حالة الطواعية.
م: (ولو قال أردت ما طلب مني) ش: يعني قال خطر ببالي الإخبار عن الكفر بالماضي والكذب، ولكن لم أرد ذلك، بل أردت ما طلب مني، يعني من الكفر يعني أردت كفرا مستقبلا جوابا لكلامهم م: (وقد خطر ببالي) ش: أي والحال أنه قد خطر ببالي م: (الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء) ش: يعني فيما بينه وبين الله وفي قضاء القاضي، لأن إنشاء الكفر بمنزلة إجراء كلمة الكفر طائعا فيحكم بكفره قضاء وديانة فبانت امرأته قضاء وديانة م: (لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر) ش: يعني منشئا إياه.
م: (هازل به حيث علم لنفسه مخلصا) ش: وهو أن ينوي الخبر عن الكفر في الزمان الماضي كاذبا من غير إظهار ذلك م: (غيره) ش: أي غير ابتداء الكفر وإنشائه. وهاهنا وجه ثالث، وهو أن يقول لم يخطر ببالي شيء ولكن كفرت بالله كفرا مستقبلا وقلبي مطمئن لم تبن منه امرأته استحسانا ذكره في " المبسوط " و" الذخيرة ".
م: (وعلى هذا) ش: أي على التفصيل المذكور م: (إذا أكره على الصلاة للصليب) ش: أي يسجد له م: (وسب محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي إذا أكره على سب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (ففعل)(11/71)
وقال: نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه قضاء، لا ديانة، ولو صلى للصليب وسب محمدا النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقد خطر بباله الصلاة لله وسب غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه ديانة وقضاء لما مر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي سجد للصليب أو سب محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (وقال نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر) ش: أي ونويت به محمدا آخر م: (غير - النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بانت منه قضاء) ش: أي بانت امرأته منه حيث الحكم لأنه لما قال نويت به الصلاة لله فقد أقر أن ما وجد منه لم يكن مكرها فيه، والإكراه واقع عليه فصار بمنزلة ما إذا صلى بين يدي الصليب بدون الإكراه من أحد، وقال عنيت به الصلاة لله يصدق ديانة لا قضاء، كذا هاهنا م: (لا ديانة) ش: أي لا يقع فيما بينه وبين الله.
م: (ولو صلى للصليب وسب محمدا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وقد خطر) ش: أي والحال أنه قد خطر م: (بباله الصلاة لله وسب غير النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بانت منه ديانة وقضاء لما مر) ش: أشار به إلى قوله لأنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره، وتحقيق الكلام أنه لما قال خطر ببالي أن أصلي لله وتركته ذلك وصليت للصليب فإنه يكفر قضاء وديانة، لأنه صلى للصليب طائعا.
لأنه لما خطر بباله أن يصلي لله تعالى فقد أمكنه دفع الإكراه بذلك، لأن المكره لا يعرف أنه يصلي لله دون الصليب، لأن الآمر لا اطلاع له على ما في ضميره، فإذا أمكنه دفع الإكراه بهذا القدر كان طائعا في الصلاة للصليب، ومن صلى للصليب طائعا فقد كفر قضاء وديانة، وكذلك الكلام في قوله خطر ببالي أن أسب فلانا اسمه محمد غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتركت ذلك فإنه يكفر أيضا قضاء وديانة، لأنه شتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في غير موضع الضرورة كفر.
واعلم أن كل واحد من هذين الحكمين يتصور على ثلاثة أوجه كما في مسألة الإكراه على إجراء كلمة الكفر: ففي وجه يكفر قضاء لا ديانة، وفي وجه: يكفر قضاء وديانة، وهما المذكوران في المتن، وفي وجه: لا يكفر لا قضاء ولا ديانة وهو أن يخطر بباله أن يصلي لله وقد صلى لله لا للصليب، وقد شرح ذلك في " الكافي " للحاكم، وشرحه فقال إن رجلا لو قال له أهل الحرب وقد أخذوه أسيرا لتكفرن بالله أو لتقتلن، فكفر بالله في وجه لا يصير كافرا لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، حتى وفي وجهه يكفر في القضاء حتى يفرق القاضي بينه وبين امرأته إن كانت له امرأة ولا يكفر فيما بينه وبين الله عز وجل حتى وسعه إمساك امرأته فيما بينه وبين الله تعالى، وفي وجه يكفر في القضاء وفيما بينه وبين ربه.
أما الوجه الأول: فهو ما أكره على الكفر بوعيد تلف فتكلم ولم يخطر بباله شيء على ما أكره عليه وقلبه مطمئن بالإيمان، ففيه لا يكفر أصلا لا قضاء ولا ديانة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(11/72)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] (سورة النحل: الآية 106) .
وأما الوجه الثاني: وهو أن يكفر قضاء لا ديانة فيما إذا خطر بباله الخبر بالكفر عما مضى بالكذب ولم أرد به كفرا مستقبلا، وإنما كفر قضاء لأنه عدل عما أكره عليه لأنه أكره على إنشاء الكفر لا على الإخبار عن الماضي والإخبار عن الإنشاء، فكان طائعا في الإخبار.
ومن أقر بالكفر فيما مضى طائعا ثم قال عنيت به الكذب لا يصدقه القاضي لأنه خلاف الظاهر، لأن الظاهر هو الصدق حالة الطواعية، ولكن يصدق ديانة لأنه ادعى ما يحتمله لفظه.
وأما الوجه الثالث: وهو أنه يكفر قضاء وديانة فيما إذا قال خطر على بالي الإخبار عن الكفر الماضي بالكذب ولم أرد ذلك بل أردت كفرا مستقبلا جوابا لكلامهم، وذلك لأنه أنشأ كفرا طائعا، ومن أنشأ كفرا طائعا يكفر قضاء وديانة، وإنما قلنا: إنه طائع لأنه لما خطر بباله الإخبار بالكفر الماضي كاذبا أمكنه التخلص عما أكره عليه بالأدنى، لأن الإخبار دون الإنشاء، ألا ترى أنه لو أكره على إقرار بالعتق فأقر لا يعتق العبد، ولو أكره على العتق فأعتق يعتق.
ولو قيل له: لنقتلنك أو لتصلين لهذا الصليب فالمسألة على ثلاثة أوجه: إما أن يقول خطر على بالي أن أصلي لله وقد صليت له ولم أصل للصليب، أو يقول خطر ببالي أن أصلي لله فلم أفعل ذلك وصليت للصليب، أو يقول لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها.
ففي الأول: لا يكفر، لأنه صلى لله لا للصليب. ولا فرق أن يكون مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وبه صرح الكرخي في مختصره. وأما إذا قال خطر على بالي أن أصلي لله تعالى وتركت ذلك وصليت للصليب فإنه يكفر قضاء وديانة لأنه صلى للصليب طائعا، لأنه لما خطر على باله أن يصلي لله تعالى فقد أمكنه دفع الإكراه، لأن المكره لا يعرف أنه يصلي لله دون الصليب لأنه لا اطّلاع له على ما في ضميره، فإذا أمكنه دفع الإكراه بهذا القدر كان طائعا في الصلاة للصليب، ومن صلى للصليب طائعا كفر قضاء وديانة. فأما إذا قال لم يخطر ببالي شيء وقد صليت للصليب مكرها لا يكفر أصلا قضاء ولا ديانة، لأنه فعل ذلك مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان.
ولو أكره على شتم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشتمه فالمسألة على ثلاثة أوجه أيضا: إما أن يقول خطر على بالي محمد آخر رجل من النصارى فأردت بالشتم ذلك الرجل النصراني أو يقول خطر على بالي رجل من النصارى اسمه محمد فلم أشتمه وإنما شتمت محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا غير راض بذلك. أو يقول لم يخطر على بالي شيء فشتمت محمدا كما طلب مني وأنا غير راض بذلك.(11/73)
وقد قررناه زيادة على هذا في " كفاية المنتهي "، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ففي الوجه الأول: لا يكفر لأنه لم يشتم محمدا. وفي الثاني: يكفر قضاء وديانة، لأنه لما خطر بباله محمد آخر أمكنه التخلص عن الإكراه بشتم ذلك الرجل، فلما شتم محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان طائعا في الشتم، ومن شتمه طائعا كفر قضاء وديانة. وفي الرجل الثالث لا يكفر لأنه مضطر فيما فعل، فصار كما لو تلكم بكلمة الكفر ولم يخطر على باله شيء وقلبه مطمئن بالإيمان.
م: (وقد قررناه) ش: أي حكم المسائل المذكورة م: (زيادة على هذا) ش: أي تقرير زيادة، أي زائدة على ما قررناه هاهنا م: (في " كفاية المنتهي "، والله أعلم) ش: يتعلق بقوله قررناه، وهو اسم الكتاب الذي ألفه المصنف ولم يقع في هذه الديار ويذكر عنه أنه كتاب عظيم مشتمل على مسائل كثيرة ودلائل غريبة.(11/74)
كتاب الحجر قال: الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر والرق والجنون، فلا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده، ولا يجوز تصرف المجنون المغلوب بحال؛ أما الصغير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الحجر]
[تعريف الحجر والأسباب الموجبة له]
م: (كتاب الحجر) ش: وجه المناسبة بين الكتاب المتقدم عليه وهذا أن في كل منهما سلب الاختيار، إلا أن في الإكراه أقوى لكونه بمنزلة اختيار صحيح، فلذلك قدم عليه. وهو المنع لغة من حجر عليه، ومنه سمي الحطيم حجرا لأنه منع من الكسبة، والعقل حجرا لمنعه صاحبه عن القبائح قال الله تعالى: {قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] (سورة الفجر: الآية 5) أي لذي عقل، والحرام حجر لأنه ممنوع، قال الله تعالى: {حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أي حرما محرما، وشرعا منع مخصوص وهو المنع من التصرف قولا لشخص مخصوص، وهو المستحق للحجر بأي سبب كان.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر والرق والجنون) ش: وهذا بالإجماع. عن أبي حنيفة أنه ألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى وهي المفتي الماجن. والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس م: (فلا يجوز تصرف الصغير) ش: أي لا ينفذ تصرف الصغير الذي يعقل م: (إلا بإذن وليه ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده) فإن أذن ولي الصبي وهو والده أو وصيه نفذ تصرفه، وكذلك إذا أذن المولى للعبد، لأن المنع لحقه، فإذا أذن فقد رضي بذلك.
م: (ولا يجوز تصرف المجنون المغلوب بحال) ش: أي في كل الأحول، أي لا ينعقد أصلا قبل الإذن وبعده، وأراد بالمجنون المغلوب الذي يجن ولا يفيق زمانا وهو المغلوب على عقله، واحترز به عن المجنون الذي يجن ويفيق، وهو المعتوه، فإن حكمه حكم الصبي.
قال الكاكي: ويحترز به عن المحنون الذي يعقل البيع ويقصده.
واعلم أن أصل العقل يعرف بدلالة العيان وذلك أن يختار المرء ما يصلح له، وكذلك القصور يمتحن بالامتحان، فأما الاعتدال فأمر يتفاوت فيه البشر فإذا توفي الإنسان عن رتبة القصور أقام الشرع السبب الظاهر الدال وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا على ما هو الأصل، لأنه متى تعذر الوقوف على المعاني باطنة تقام الأسباب الظاهرة مقامها كما أقيم السفر مقام المشقة في جواز الترخيص.
م: (أما الصغير) ش: أي الصغير العاقل، أما الصغير الذي لا عقل له فهو كالمجنون(11/75)
فلنقصان عقله، غير أن إذن الولي آية أهليته والرق لرعاية حق المولى كيلا يتعطل منافع عبده، ولا يملك رقبته بتعلق الدين به، غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه، والجنون لا يجامعه الأهلية فلا يجوز تصرفه بحال. أما العبد فأهل في نفسه، والصبي يرتقب أهليته فلهذا وقع الفرق قال: ومن باع من هؤلاء شيئا أو اشترى وهو يعقل البيع ويقصده، فالولي بالخيار إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المغلوب لا ينفذ تصرفه م: (فلنقصان عقله، غير أن إذن الولي آية أهليته) ش: أي علامة أهليته لأن أهليته مترقبة، فإذا أذن له الولي دل على أهليته.
م: (والرق لرعاية حق المولى) ش: يعني أن العبد له أهلية، لكنه حجر عليه لرعاية حق المولى م: (كيلا تتعطل منافع عبده) ش: فإنه لو لم يثبت الحجر لنفذ البيع الذي اشتراه، وشراؤه فيلحقه ديون فيأخذ أربابها أكسابه التي هي منفعة المولى وذلك تعطيل لها عنه م: (ولا يملك رقبته) ش: بالنصب عطفا على قوله كيلا يتعطل، أي وكيلا تملك رقبته م: (بتعلق الدين به) ش: إذا لم يكن له كسب.
م: (غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه) ش: فإذا رضي بفوات حقه بالإذن جاز تصرفه لأهليته وارتفاع المانع.
م: (والجنون) ش: الغالب م: (لا يجامعه الأهلية، فلا يجوز تصرفه بحال) ش: من الأحوال لما ذكرنا م: (أما العبد فأهل في نفسه) ش: لكونه عاقلا بالغا قادرا على التصرفات، ولكن المنع لحق مولاه كما ذكرنا م: (والصبي يرتقب أهليته) ش: بضم الياء على بناء المفعول، ورفع أهليته أي ينتظر أهليته، والشراء إذا كان له عوضية الثبوت يعطى له حكم الثبوت، فإذا انضم إذن المولى إليه تقرر ذلك الثبوت وهو عبارة عن النفاذ م: (فلهذا) ش: أي فلأجل أن العبد أهل في نفسه والصبي يرتقب أهليته م: (وقع الفرق) ش: أي بين المجنون والصبي والرقيق.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع من هؤلاء شيئا أو اشترى) ش: أي من الصبي والعبد والمجنون الذي يجن ويفيق، وفي بعض النسخ واشترى أيضا كما ذكر في القدوري، لكن أكثر نسخ الهداية بدون أو اشترى. وقال الأترازي: ولم يذكر في الهداية لفظها واشتراه وهو مثبت في المختصر والبداية أيضا، وكأن في الهداية وقع سهوا من الكاتب م: (وهو يعقل البيع) ش: أي والحال أنه يعقل، أي يعلم أن الشراء حالة للملك والبيع سالب له م: (ويقصده) ش: أي يقصد البيع، أي يقصد أحكامه، واحترز عن الهازل، فإنه وإن كان يعقل البيع ولكن لم يقصده وأراد به العبث أو السخرية م: (فالولي) ش: هو الأب أو الجد أو صبيهما أو غيرهما من العصبات أو القاضي م: (بالخيار إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه) ش: وعن(11/76)
لأن التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه، وفي الصبي والمجنون نظرا لهما، فيتحرى مصلحتهما فيه، ولا بد أن يعقلا البيع ليوجد ركن العقد فينعقد موقوفا على الإجازة، والمجنون قد يعقل البيع ويقصده، وإن كان لا يرجح المصلحة على المفسدة وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره كما بينا في الوكالة. فإن قيل: التوقف عندكم في البيع، أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على المباشر. قلنا: نعم إذا وجد نفاذا عليه كما في شراء الفضولي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلاثة لا ينعقد بيع هؤلاء ولا شراؤهم أصلا، وكذا الخلاف إذا توكل بالبيع والشراء غيرهم فباع واشترى يجوز عندنا خلافا لهم.
م: (لأن التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه، وفي الصبي والمجنون نظرا لهما) ش: أي ولأن التوقف في الصبي والمجنون لأجل النظر في حالهما م: (فيتحرى مصلحتهما فيه) ش: أي فيطلب الولي مصلحة الصبي والمجنون فيما عقداه م: (ولا بد أن يعقلا البيع) ش: أي الصبي والمجنون أراد أن يعلماه م: (ليوجد ركن العقد) ش: أي التمليك، لأن بهذا العقد يزول ملكهما عن المبيع ويدخل في ملكهما الثمن.
م: (فينعقد) ش: بنصب الدال عطف على قوله ليوجد م: (موقوفا على الإجازة) ش: أي ينعقد عقدا موقوفا أو حال كونه موقوفا على إجازة الولي م: (والمجنون قد يعقل البيع) ش: كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال لا بد في إجازة الولي لبيع الصغير والمجنون من أن يكونا يعقلان البيع، والمجنون لا يعقل شيئا، فأجاب والمجنون قد يعقل البيع.
م: (ويقصده) ش: أي يقصد حكمه، وذلك أن المراد من المجنون هذا المعتق، وهذا الذي يختلط في كلامه فتارة يتكلم بكلام العقلاء وتارة بكلام المجانين، وأشار إلى ذلك بقوله: م: (وإن كان لا يرجح المصلحة على المفسد، وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره كما بينا في الوكالة) ش: عند قوله: ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف إلى آخره.
م: (فإن قيل: التوقف عندكم في البيع، أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على المباشر) ش: تحرير السؤال أن الأصل في الشراء النفاذ على المباشر، يعني من غير توقف على ما مر في بيع الفضولي، فكيف ينعقد هاهنا موقوفا على الإجازة؟
وأجاب عنه بقوله: م: (قلنا: نعم) ش: يعني نعم أن الأصل في الشراء النفاذ على المباشر بلا توقف لكن م: (إذا وجد نفاذا عليه) ش: أي إذا وجد الشراء نفاذا على المباشر م: (كما في شراء الفضولي) ش: يعني إذا أطلق الشراء، أما إذا أضاف إلى غيره فيتوقف بالإجماع.(11/77)
وهاهنا لم يجد نفاذا لعدم الأهلية أو لضرر المولى فوقفناه. قال: وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال، لأنه لا مرد لها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واعلم أن شراء الفضولي على وجوه ذكرها في الفتاوى الصغرى وتتمته:
الأول: إن أضاف الشراء إليه نصا بأن قال البائع بعت هذا من فلان، وقال الفضولي: اشتريت لفلان أو قبلت لفلان، وإن لم يقل لفلان فإنه يتوقف.
والثاني: لو قال بعت منك، وقال الفضولي: قبلت أو قال اشتريت ونوى بقلبه لفلان ينفذ بالاتفاق على المشتري ولا يتوقف.
الثالث: إذا قال الفضولي: اشتريت هذا لفلان، وقال البائع بعت منك ذكر فيه شيخ الإسلام خواهر زاده روايتين: والصحيح أنه لا يتوقف بلا خلاف.
الرابع: إذا قال البائع: بعت منك هذا لأجل فلان، فقال المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو قال المشتري: اشتريت هذا لأجل فلان فقال البائع بعت فإنه لا يتوقف.
م: (وهاهنا) ش: أي فيما نحن فيه من حكم بيع الصبي والمجنون والعبد م: (لم يجد نفاذا) ش: أي لم يجد الشراء نفاذا على المباشر م: (لعدم الأهلية) ش: في الصبي والمجنون م: (أو لضرر المولى) ش: في العبد م: (فوقفناه) ش: أي العقد من هؤلاء.
قال السغناقي: هذا الذي ذكره إنما يرد على لفظ " مختصر القدوري " حيث قال: فيه ومن باع من هؤلاء أشياء أو اشترى، أما هاهنا يعني في الهداية فلم يذكر قوله أو اشترى فلا يرد الإشكال. ولكن جعل المذكور في القدوري مذكورا هاهنا، فأورد الإشكال ولكنه موجود في بعض النسخ كما ذكرنا.
م: (قال: وهذه المعاني الثلاثة) ش: يعني الصغر والجنون والرق م: (توجب الحجر في الأقوال) ش: يعني ما تردد منها بين النفع والضرر كالبيع والشراء، وأما الأقوال التي فيها نفع محض فالصبي فيها كالبائع، وهذا يصح منه قبول الهبة، والإسلام، ولا يتوقف على إذن الولي، وكذلك العبد والمعتوه.
وأما ما يتمحض منها ضررا كالطلاق والعتاق، فإنه يوجب الإعدام من الأصل في حق الصغير والمجنون دون العبد م: (دون الأفعال) ش: يعني أن المعاني الثلاثة لا توجب الحجر عن الأفعال.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا مرد لها) ش: أي للأفعال حتى إن ابن يوم لو انقلب على قارورة إنسان فكسرها وجب عليه الضمان في الحال، وكذا العبد والمجنون إذا أتلفا شيئا(11/78)
لوجودها حسا ومشاهدة بخلاف الأقوال؛ لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص، فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون.
قال: والصبي والمجنون لا يصح عقودهما ولا إقرارهما لما بينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لزمهما الضمان في الحال م: (لوجودها) ش: أي لوجود الأفعال م: (حسا ومشاهدة) ش: أي من حيث الحس والمشاهدة، فإذا حصل بها الإتلاف من قطع أو قتل أو إراقة شيء لا يمكن أن يجعل كالإتلاف.
م: (بخلاف الأقوال، لأن اعتبارها موجودة) ش: أي حال كونها موجودة م: (بالشرع) ش: أي حاصل بالشرع وهو خير، لأنه أراد أن اعتبار أقوال هؤلاء بالمشروع، والشرع لم يجعل الإقرار لهوا لهم فيما تردد من النفع والضرر، معتبرة في حق النفاذ م: (والقصد من شرطه) ش: أي القصد من شرط ذلك الاعتبار وليس للصبي والمجنون قصدا لقصور العقل، فينتفي المشروط به، وأما في العبد فالقصد وإن وجد منه لكنه غير معتبر للزوم الضرر على المولى بغير اختياره.
فإن قيل: الأقوال موجودة حسا ومشاهدة، وهما شرط اعتبارها موجودة شرعا بالقصد دون الأفعال، فالجواب من وجهين: أحدهما أن الأقوال الموجودة حسا ومشاهدة ليست عين مدلولاتها، بل هي دلالات عليها ويمكن تخلف المدلول عن دليله فيمكن أن يجعل الموجود بمنزلة المعدوم، بخلاف الأفعال، فإن الموجود منها عينها فبعدما وجدت لا يمكن أن تجعل غير موجودة.
والثاني: أن القول قد يقع صدقا وقد يقع كذبا وقد يقع هزلا، فلا بد من القصد، ألا ترى أن القول في الحر العاقل البالغ إذا وجد هازلا لم يعتبر شرعا، فكذا في هذه الثلاثة، بخلاف الأفعال، فإنها حيث وقعت حقيقة فلا يمكن تبديلها.
م: (إلا إذا كان فعلا) ش: استثناء من قوله دون الأفعال، أي هذه المعاني الثلاثة لا توجب الحجر في الأفعال إلا إذا كان ذلك الفعل فعلا م: (يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون) ش: حتى لا يجب عليهما الحد بالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطرق والقصاص بالقتل، أما في حق العبد فللزوم الضرر في حق المولى من غير اختياره، فلهذا يتوقف على إجازته.
[العقود التي يجريها الصبي والمجنون]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والصبي والمجنون لا يصح عقودهما) ش: أي لا ينفذ عندنا، ولكن ينعقد موقوفا على إجازة الولي خلافا للثلاثة م: (ولا إقرارهما لما بينا) ش: أشار(11/79)
ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به إلى قوله والقصد من شرطه.
فإن قلت: لم أعاد هذه المسألة؟
قلت: أعاد تفريعا على الأصل المذكور أن هذه المعاني الثلاثة فوجب الحجر عن الأقوال لتساق القوليات في موضوع واحد.
م: (ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما) ش: أي طلاق الصبي والمجنون وإعتاقهما م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يثبت، وإنما أخرج الترمذي في الطلاق عن عطاء بن عجلان، عن عكرمة بن خالد المخزومي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه المغلوب على عقله» .
وقال: حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وهو ضعيف، ذاهب الحديث والعجب العجب من صاحب الرعاية مع ادعائه التعمق في العلوم وكونه في ديار الحديث وكتبه الجمة يقول بعد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي، والمعتوه» ، رواه الترمذي، عن أبي هريرة وكيف يعزوه إلى الترمذي بهذا المتن، وقد بينت لك ما أخرجه الترمذي. فهل هذا إلا استهتار عظيم بالألفاظ النبوية، اللهم اجعلنا ممن ينتبه لهذا، وممن ينتقد الجيد والزيف.
والاستدلال في هذا الموضوع بحديث رفع القلم عن ثلاث أولى وأحسن على ما لا يخفى، لأنه روي من طرق صحاح وحسان، وقد رواه جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:
الأول: علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ولحديث طرق أمثلها ما رواه أبو داود من طريق ابن وهب عن جرير بن حازم عن سليمان بن مهران وهو الأعمش عن أبي ظبيان حصين بن جندب عن ابن عباس، قال: «مر علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمجنونة بني فلان وقد زنت فأمر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجمها فردها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا أمير المؤمنين أترجم هذه قال: نعم، أما تذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" قال صدقت فخلى(11/80)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنها» .
ورواه الحاكم في "المستدرك " وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الدارقطني في كتاب " العلل ": هذا الحديث يرويه أبو ظبيان واختلف عنه فرواه سليمان الأعمش عنه، واختلف عليه فرواه جرير بن حازم عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس فرفعه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، عن علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تفرد به ابن وهب عن جرين بن حازم وخالفه فضيل ووكيع فروياه عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، عن علي، وعمر موقوفا ورواه عمار بن زريق عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علي وعمر موقوفا، ولم يذكر ابن عباس، وكذلك رواه سعيد بن عبيدة، عن أبي ظبيان موقوفا، ولم يذكر ابن عباس.
ورواه أبو حصين، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، عن علي، وعمر موقوفا، واختلف عنه فقيل، عن أبي ظبيان عن علي موقوفا قاله أبو بكر بن عباس، وشريك، عن أبي حسين.
ورواه عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، عن علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مرفوعا من حديث حماد بن سلمة وأبي الأحوص وجرين بن عبد الحميد وعبد العزيز بن عبد الصمد وغيرهم. وقول وكيع وإن فضيل أشبه بالصواب. وروى أبو داود أيضا عن أبي الضحى وهو مسلم بن صبيح بضم الصاد وفتح الباء الموحدة عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يكلف وهو منقطع» ، قال الشيخ تقي الدين: وتابعه الشيخ زكي الدين المنذري أبو الضحى لم يدرك علي بن أبي طالب.
وروى أبو داود أيضا، عن أبي الأحوص جرير كلاهما، عن عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان، قال: «أتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة قد فجرت فأمر برجمها، فأتى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخذها فخلى سبيلها، فأخبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ادعوا إلي عليا، فجاء فقال: يا أمير المؤمنين، لقد علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ"، وأن هذه معتوهة بني فلان لعل(11/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي أتاها وهي في بلائها، قال: فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا أدري، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأنا لا أدري» .
وأخرجه النسائي في الرجم، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن عطاء بن السائب به، وأخرجه أحمد في مسنده، عن حماد بن سلمة، عن عطاء به، وقال في آخره: فلم يرجمها، قال الشيخ تقي الدين: وهذه الرواية يتوقف اتصالها على إدراك أبي ظبيان لعلي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؟ لأنه حكى الواقعة ولم يذكر أنه شاهدها فهي محتملة الانقطاع، ولكن الدارقطني أثبت لقاءه لهما فسئل في علله هل لقي أبو ظبيان عليا وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: نعم، قال وعلى تقدير الاتصال فعطاء بن السائب اختلط بآخره، قال الإمام أحمد وابن معين: من سمع منه حديثا فليس بشيء ومن سمع منه قديما قبل، وأيضا فهو معلول بالوقف. كما رواه النسائي من حديث أبي حصين بفتح الحاء وكسر الصاد، عن أبي ظبيان، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال النسائي وأبو حصين أثبت من عطاء بن السائب.
وأخرجه ابن ماجه عن القاسم بن زيد، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصغير والمجنون والنائم» ، قال الشيخ تقي الدين تابعا لشيخه المنذري: القاسم هذا لم يدرك عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذلك في أطراف ابن عساكر، وأخرجه الترمذي في الحدود والنسائي أيضا في الرجم، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» وقال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من غير وجه ولا نعرف للحسن سماعا من على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وأخرجه النسائي، عن يزيد بن زريع، عن يونس، عن الحسن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوله: ثم قال: وحديث يونس أشبه بالصواب من حديث همام. قال ابن عساكر في أطرافه:(11/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قد رواه سعيد، عن قتادة، عن الحسن «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد أن يرجم مجنونة فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل" فدرأ عنها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الحد» . وعن هشيم عن يونس، عن الحسن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المصاب حتى ينكشف عنه» .
والثاني: أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرج حديثه الحاكم في "المستدرك " في الحدود عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد الله بن أبي رباح عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المعتوه حتى يصح وعن الصبي حتى يحتلم» ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
والثالث: أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه حديثه البزار في مسنده حدثنا حمدان بن عمر، حدثنا سعيد بن عبد الحميد، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث عن الصغير حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» وسكت عنه.
والرابع: ثوبان.
والخامس: شداد، أخرج حديثهما الطبراني في مسند الشاميين، ثنا عبد الرحمن بن سكم الرازي، ثنا عبد المؤمن بن علي الزعفراني ثنا عبد السلام بن حرب عن برد بن سنان عن مكحول عن ابن إدريس الخولاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخبرني غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم ثوبان وشداد بن أوس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، والصبي حتى يكبر» .
والسادس: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرج حديثها أبو داود وابن ماجه والنسائي، عن حماد بن سلمة عن حماد وهو ابن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن(11/83)
والإعتاق يتمحض مضرة ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال لعدم الشهوة ولا وقوف للولي على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة، فلهذا لا يتوقفان على إجازته ولا ينفذان بمباشرته بخلاف سائر العقود.
قال: وإن أتلف شيئا لزمهما ضمانه إحياء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة.. إلى آخر» لفظ ثوبان وشداد وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
وقال في الإمام: وهو أقوى إسنادا من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال صاحب " التنقيح ": حماد بن أبي سليمان وثقه النسائي والعجلي وابن معين وغيرهم، وتكلم فيه ابن سعيد والأعمش وروى له مسلم مقرونا بغيره.
قلت: هو ثقة كبير جليل المقدار، وهو شيخ أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (والإعتاق يتمحض مضرة) ش: أراد أن الإعتاق ضرر محض، وهذا ظاهر م: (ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال) ش: من الأحوال، أما في الحال م: (لعدم الشهوة) ش: وأما في المآل فلأن علم المصلحة فيه تتوقف على العلم بتباين الاختلاف، وتنافر الطباع عند بلوغه حد الشهوة ولا علم له بذلك م: (ولا وقوف للولي على عدم التوافق) ش: يعني بين الصبي وامرأته م: (على اعتبار بلوغه حد الشهوة) ش: أراد بهذا الاعتبار لا وقوف له على ذلك، وأما في الحال فإنه يمكن أن يقف على مصلحته، ولكن الاعتبار وقت البلوغ.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (لا يتوقفان) ش: أي الطلاق والعتاق م: (على إجازته) ش: أي إجازة الولي م: (ولا ينفذان) ش: أي طلاق الصبي وعتاقه م: (بمباشرته) ش: أي بمباشرة الولي، وفي هذا التركيب تسامح، إذ حقه أن يقال لا ينفذان بإجازته، لأن الطلاق أو العتاق الذي باشره الصبي محال يباشره الولي ولكن يجوز أن يقال معناه لا ينفذ طلاق امرأة الصبي، وعتاقه عبد الصبي مباشرا الولي الطلاق والعتاق.
م: (بخلاف سائر العقود) ش: مثل البيع والشراء قبول الهبة والصدقة والهدية فإن للصبي وقوفا على ما فيه المصلحة وما فيه المضرة، وكذلك الولي.
[حكم ما يتلفه الصبي والمجنون]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن أتلف شيئا) ش: هذا بيان لتفريع، الأفعال على الأصل المذكور، أي إن أتلف الصبي والمجنون شيئا م: (لزمهما ضمانه إحياء) ش: أي لأجل(11/84)
لحق المتلف عليه، وهذا لأن كون الإتلاف موجبا لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم عليه والحائط المائل بعد الإشهاد، بخلاف القول على ما بيناه. قال: فأما العبد فإقراره نافذ في حق نفسه لقيام أهليته غير نافذ في حق مولاه رعاية لجانبه، لأن نفاذه لا يعرى عن تعلق الدين برقبته أو كسبه، وكل ذلك إتلاف ماله. قال فإن أقر بمال لزمه بعد الحرية لوجود الأهلية وزوال المانع ولم يلزمه في الحال لقيام المانع، وإن أقر بحد أو قصاص لزمه في الحال، لأنه مبقي على أصل الحرية في حق الدم، حتى لا يصح إقرار المولى عليه بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإحياء م: (لحق المتلف عليه) ش: بفتح اللام م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان م: (لأن كون الإتلاف موجبا لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم عليه، والحائط المائل بعد الإشهاد) ش: يعني: أنه لا قصد من صاحب الحائط في وقوع الحائط، ومع ذلك يجب الضمان م: (بخلاف القولي) ش: أي التصرف القولي، فإنه يتوقف على القصد م: (على ما بيناه) ش: أشار به إلى قوله بخلاف الأقوال، لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فأما العبد فإقراره نافذ في حق نفسه) ش: حتى يؤاخذ به بعد العتق.
فإن قلت: هذا معطوف على ماذا؟.
قلت: على قوله والصبي والمجنون، لا يصح عقودهما ولا إقرارهما م: (لقيام أهليته) ش: أي لوجود أهليته وهو أنه غير مكلف م: (غير نافذ في حق مولاه رعاية لجنايته، لأن نفاذه) ش: أي: لأن نفاذ إقراره في الحال م: (لا يعرى عن تعلق الدين برقبته) ش: أي إذا استقر الدين في رقبته، أو ساواها م: (أو كسبه) ش: أي إذا كان الدين أقل من رقبته م: (وكل ذلك) ش: أي تعلق الدين برقبته، أو كسبه م: (إتلاف ماله) ش: أي إتلاف مال المولى.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن أقر بمال لزمه بعد الحرية لوجود الأهلية وزوال المانع) ش: وهو رعاية حق المولى م: (ولم يلزمه في الحال لقيام المانع) ش: وهو حق المولى م: (وإن أقر بحد أو قصاص لزمه في الحال) ش: وقال في شرح الأقطع: وقال زفر: لا يصح إقراره إذا كان محجورا عليه، لأنه لو صح يلزمه منه إتلاف مال المولى، فلا يصح كما لو أقر بدين، وأشار إلى دليلنا بقوله.
م: (لأنه مبقي) ش: أي العبد يبقى بتشديد القاف م: (على أصل الحرية في حق الدم) ش: لأن الحدود والقصاص من خواص الآدمية، لأنها من التكاليف، والعبد في حق التكاليف مبقي على أصل الآدمية فينفذ إقراره بها م: (حتى لا يصح إقرار المولى عليه بذلك) ش: أي بالدم أو بالحد.(11/85)
وينفذ طلاقه لما روينا؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يملك العبد والمكاتب شيئا إلا الطلاق» ولأنه عارف بوجه المصلحة فيه فكان أهلا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: فيه أيضا بطلان حق الولي.
قلت: بطلان حقه ضمني، والضمني لا يعتبر.
فإن قلت: قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يملك العبد والمكاتب شيئا إلا الطلاق» يقتضي أن لا يملك الإقرار بالحدود والقصاص.
قلت: لما بقي على أصل الحرية فيهما يكون هذا إقرار الحر لا إقرار العبد، ولأن قَوْله تَعَالَى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] (سورة الواقعة: الآية 12) ، يقتضي أن يصح، ولا يقال إنه خص عنه الإقرار بالمال لأن النص لم يتناوله إذ إقراره ملاق حق الغير، والنص يتناول الإقرار على نفسه.
م: (وينفذ طلاقه) ش: أي طلاق العبد م: (لما روينا) ش: أشار به، إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "كل طلاق واقع، إلا طلاق الصبي، والمعتوه" م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يملك العبد، والمكاتب شيئا، إلا الطلاق» .
ش: هذا الحديث بهذه العبارة لم يثبت، ولكن أخرج ابن ماجه في "سننه " في الطلاق، عن ابن لهيعة، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن الرمة، عن ابن عباس، قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن سيدي زوجتي أمته، وهو يريد، أن يفرق بيني وبينها، فصعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المنبر، وقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق، لمن أخذ بالساق» .
فإن قلت: ابن لهيعة ضعيف.
قلت: وثقه أحمد والطحاوي وكفى بهما حجة، وأخرجه ابن عدي في " الكامل "، عن الفضل بن مختار، عن عبيد الله بن موهوب، عن عصبة بن مالك قال «جاء مملوك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن سيدي زوجني أمته..» الحديث.
م: (ولأنه) ش: أي العبد م: (عارف بوجه المصلحة فيه، فكان أهلا) ش: للطلاق م:(11/86)
وليس فيه إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه فينفذ، والله أعلم بالصواب.،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وليس فيه) ش: أي في طلاق العبد زوجته م: (إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه فينفذ) ش: أي طلاقه لأنه مختص بالإنسانية فكان كالحر م: (والله أعلم بالصواب) .(11/87)
باب الحجر للفساد قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحجر على الحر العاقل البالغ السفيه وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحجر للفساد]
[تعريف الحجر للفساد أو السفه]
م: (باب الحجر للفساد) ش: أي لأجل الفساد. ولما فرغ عن الحجر المتفق عليه شرع في بيان الحجر المختلف فيه، والمراد بالفساد السفه، وهو خفه تعتري الإنسان من غضب أو فرح فتحمله على العمل بخلاف موجب الشرع والعقل مع قيام العقل، وقد غلب في عرف الفقهاء على تبذير المال أو إتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع، يقال سفهت الريح الشجر إذا مالت به، ومسائل هذا الباب مبنية على قول الأصحاب، لا على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يرى حجر الفساد والسفه.
م: (قال أبو حنيفة لا يحجر على الحر العاقل البالغ السفيه) ش: أي خفيف العقل، وهو غير المعتوه، فإن المعتوه ناقص العقل. وفي " المبسوط ": من عادة السفيه التبذير والإسراف في النفقة وأن يتصرف تصرفا لا لغرض أو عوض لا يعده العقلاء من أهل الديانة عوضا مثل دفع المال إلى المغنين واللعابين وشراء الحمار الطيارة بثمن غال والغبن في التجارات عند غير محمد.
وقال صاحب " المحيط الكبير ": في طريقة المولى الحجر على الحر العاقل البالغ السفيه المبذر لماله في الخير والشر غير جائز عند أبي حنيفة. قال أبو يوسف ومحمد: يجوز، ثم إنهما اختلفا فيما بينهما في السفيه إذا بلغ محجور أو مطلق، قال محمد يبلغ محجورا ولا يحتاج إلى حجر القاضي. وقال أبو يوسف: يبلغ مطلقا ويحتاج إلى حجر القاضي، فأجمعوا على أنه يمنع عنه المال إلى أن يبلغ خمسا وعشرين سنة، ثم اختلفوا بعد ذلك، قال أبو حنيفة لا يمنع عنه ماله بعد خمس وعشرين سنة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يمنع عنه ما دام السفه قائما.
م: (وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا) ش: بتشديد الذال المعجمة، وقاله م: (مفسدا) ش: تفسير لقوله مبذرا م: (يتلف ماله في ما لا غرض له فيه ولا مصلحة) ش: كالإلقاء في البحر أو الإحراق بالنار ونحو ذلك.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك(11/88)
يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته، ولهذا منع عنه المال. ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه مخاطب عاقل، فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأحمد رحمهما الله م: (يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله) ش: كالبيع والشراء والإجازة ونحوهما مما يحتمل الفسخ، وأما التي لا يحتمله فلا يحجر فيه كالطلاق والعتاق والإقرار بالحدود والقصاص.
م: (لأنه مبذر) ش: أي لأن السفيه مبذر م: (ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل) ش: وكل من هو كذلك م: (فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي) ش: حيث يحجر عليه م: (بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه) ش: أي وفي حق السفيه م: (حقيقته) ش: أي حقيقة التبذير م: (ولهذا منع عنه المال) ش: أي ولأجل وجود حقيقة التبذير فيه منع عنه أي عن السفيه المال بالنص بقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] (سورة النساء: الآية 5) .
م: (ثم هو) ش: أي منع المال م: (لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده) ش: بأن يبيع ماله بالغبن الفاحش فيؤدي ذلك إلى إتلاف ماله، قيل: هذا الذي ذكره في الدليل إنما يصح على قولهما، وأما على قول الشافعي، فلا يصح، لأن حجر السفيه عنه بطريق الزجر والعقوبة عليه والفائدة تظهر فيما إذا كان السفيه مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق، فعنده يحجر عليه زجرا وعقوبة ولا يحجر عليه عندهما.
قلت: لا نسلم أن الشافعي يرى ذلك بطريق الزجر والعقوبة فقط، بل يراه بهذه الطريقة وبطريقة ما قالا أيضا، فإن عنده يجوز الحجر بما جاز أو به، وفي الفسخ أيضا وهما لا يريانه بالفسق، فحينئذ ما ذكره من الدليل يصح على قولهما، وعلى قوله أيضا فيما اتفق معهما فيه، فافهم.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن السفيه م: (مخاطب عاقل) ش: وفي هذا الوصف إشارة إلى أهلية التصرف، لأن التكليف يقتضي التمكن من الاستيفاء جريا على موجب التكليف، والاستيفاء إنما يكون بالوصول إلى الأموال وذلك بالتمليك والتملك وبالعقل يثبت أهلية التمييز والشرع جعل الرشيد بسبيل من التصرفات تمليكا وتملكا لهذا المعنى، وأنه موجود في حق السفيه لأنه مكلف عاقل كالرشيد م: (فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد) .(11/89)
وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير، فلا يحتمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل والمفتي الماجن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فإن قيل: ينتقض هذا بالعبد فإنه مخاطب عاقل ويحجر عليه.
قلت: إنما قال إنه مخاطب، وهو مطلق، والمطلق يتصرف إلى الكامل، والبعد ليس بكامل في كونه مخاطبا لسقوط الخطابات المالية كالزكاة، وصدقة الفطر، والأضحية والكفارات المالية، وبعض الخطابات الغير مالية كالحج، والجمعة، والعيدين، والشهادات وشطر الحدود وغيرها. ولو قال لأنه مخاطب عاقل حر سقط الاعتراض.
م: (وهذا) ش: أي عدم الحجر م: (لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم) ش: باعتبار قوله في التصرفات م: (وهو) ش: أي الحجر عليه م: (أشد ضررا من التبذير فلا يحتمل الأعلى) ش: الذي هو الحجر م: (لدفع الأدنى) ش: الذي هو التبذير م: (حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل) ش: وهو الذي يعالج الناس من الكتب من غير مراجعة على المشايخ ولا وقوف على غوامض الكليات، ولا معرفة بطباع الأدوية ولا تشخيص الأمراض العارضة كأبناء هذا الزمان الذين يتولون وظائف الحكمة ورياستها بواسطة المال وإعانة الظلمة.
م: (والمفتي الماجن) ش: وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: والمفتي الجاهل وهما متقاربان، لأن ضررهما عام، وهو من مجن الشيء مجن مجونا إذا صلب وغلظ، وقولهم رجل ماجن كأنه أخذ من غلظ الوجه وقلة الحياء، وليس بعربي محض، قاله ابن دريد.
والمفتي الماجن الذي يعلم الناس الحيل الباطلة، مثل أن يعلم المرأة حتى ترتد فتبين من زوجها، ويعلم الرجل أنه يرتد فتسقط عنه الزكاة ثم يسلم ولا يبالي أن يحرم حلالا أو يحلل حراما يفسد على الناس دينهم، ولقد شاهدت بالديار المصرية طائفة قد تحلوا بحلية الفقهاء واستولوا على مناصب الأجل من العلماء بمخالطتهم الظلمة وأرباب الدولة ومشاركتهم إياهم فيما هم فيه من الفساد، وأعطوا لهم بما يطابق أغراضهم الفاسدة وبما يوافق أهواءهم الكاسدة فضلوا وأضلوا، ولقد قرع سمعي من بعض الثقات أن واحدا منهم قد أفتى لملك لهم كبير بإباحة الإتيان في مماليكه مستدلا بقول الله عز وجل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، وآخر قد أباح شرب الخمر بمصر مستدلا بأنها لا تقذف بالزبد وهو شرط في الحرمة. وآخر أفتى بجواز السماع، والرقص، وسماع الملاهي مستدلا بلعب الحبشة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحراب، والدرق، وبالجاريتين المغنيتين، ونحو ذلك مما ذكر عنهم من الترهات،(11/90)
والمكاري المفلس جاز فيما يروى عنه، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى، ولا يصح القياس على منع المال؛ لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة ولا على الصبي؛ لأنه عاجز عن النظر لنفسه وهذا قادر عليه نظرا والشرع مرة بإعطاء آلة القدرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأباطيل أعاذنا الله من شر هؤلاء الذين {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 104] (سورة الكهف: الآية 104) ، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] (سورة البقرة: الآية 200) .
م: (والمكاري المفلس) ش: لأنه يتلف أموال الناس، فإنه إن مات حمولته في الطريق وليس له أخرى، والمستكري لا يجد شيئا إلا بالبيع ولا بالإجارة، فيؤدي ذلك إلى إتلاف أموال الناس ولا سيما مكارية الحج بفسادهم ظاهرة للناس فلا يحتاج إلى البيان م: (جاز فيما يروى عنه) ش: أي جاز الحجر فيما يروى عن أبي حنيفة م: (إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى) ش: أي لأن الحجر على هؤلاء دفع الأعلى، أي الضرر الأعلى وهو الضرر العام بالضرر الأدنى، وهو الضرر الذي يلحق المحجور.
م: (ولا يصح القياس على منع المال) ش: هذا جواب عن قولهما، ولهذا منع عنه المال، أي لا يصح قياس جواز الحجر عليه على جواز منع المال منه م: (لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة) ش: أي لأن الحجر على السفيه أبلغ من منع المال عنه في العقوبة، يعني منع المال إنما هو بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له على التبذير، والحجر أبلغ فيه في العقوبة فلا يقاس عليه.
قيل: هذا يلزم على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه يرى الحجر عليه عقوبة، أما عندهما الحجر عليه نظرا له.
وقيل: هذا على طريق بعض مشايخنا حيث قال إنه بطريق العقوبة، وقيل في وجه منع هذا القياس أن منع المال شرع غير معقول المعنى إذ منع الأدنى عن التصرف وهو مالك غير معقول فلا يقاس عليه.
وقيل: إن اليد للآدمي على المال نعمة زائدة وإطلاق اللسان في التصرفات أصل فلا يقاس إبطال أعلى النعمتين على أدناهما.
م: (ولا على الصبي) ش: جواب أيضا عن قولهما اعتبارا بالصبي أن لا يقاس السفيه بالصبي م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (عاجز عن النظر لنفسه) ش: فلذلك احتج ضرورة إلى صيرورة الغير وليا والمولى عليه لا يلي التصرف.
م: (وهذا) ش: أي السفيه م: (قادر عليه) ش: أي على النظر لنفسه لكمال عقله م: (نظرا والشرع مرة بإعطاء آلة القدرة) ش: من العقل، والحرية، والبلوغ، وإن كان يعدل عن السنن(11/91)
والجري على خلافه لسوء اختياره، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والتبرعات والصدقات وذلك يقف على اليد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالعقل بهواه م: (والجري على خلافه) ش: أي وجري السفيه على خلاف ذلك م: (لسوء اختياره) ش: لا يعجزه، فكان قياس قادر على عاجز فلا يصح.
م: (ومنع المال مفيد) ش: هذا جواب عن قوله، ثم هؤلاء يفيد الحجر، يعني أن منع المال بدون الحجر مفيد م: (لأن غالب السفه في الهبات والتبرعات والصدقات) ش: دون التجارات م: (وذلك يقف على اليد) ش: أي لا يملك إلا بالقبض، فإذا لم يكن في يده شيء يمتنع عن ذلك، وإن فعل لم يفد.
فإن قلت: قول تعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، يدل على الحجر، لأنه تعالى جعل السفيه وليا عليه، فإذا كان عليه ولي كان موليا عليه، وكونه موليا عليه دليل أنه محجور عليه.
وروي عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه اشترى دارا بأربعين ألف درهم، وطلب علي من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يحجر عليه، فشارك الزبير بن العوام، فلما بلغ ذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير بن العوام، وإنما علل بهذا؛ لأن الزبير كان مجتهدا في التجارة، فلو كان هذا عيبا لما شاركه الزبير، فطلب علي، وتعليل عثمان، واحتيال عبد الله بهذه الحيلة يدل ذلك على منعهم الحجر على الحر، ولم ينقل عن غيرهم خلافا فكان إجماعا.
وحدث أبو عبيد في غريب الحديث بإسناده إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خطب الناس فقال: ألا إن الأسينع أسينع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال سابق الحاج، أو قال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح قد دين به فمن له عليه دين فليغد بالغداة فلتقسم ماله بينهم بالحصص، فهذا دليل أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجر عليه بسبب الإفلاس وباع ماله من غير رضاه.
قلت: الجواب عن الآية أن الله تعالى جوز المداينة مع السفيه كما جوزه مع المصلح، هذا يدل على أن السفيه لا يوجب الحجر، ويقال إن السفيه هاهنا هو المجنون والصغير وعليه كثير من أهل التأويل وذلك بانعدام العقل أو نقصانه، وكذا يحمل السفيه في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فيسقط به الاحتجاج أيضا في الحجر، والمراد نهي الأزواج عن دفعه المال إلى النساء وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله، ألا ترى أنه قال أموالكم وذلك يتناول المخاطبين بهذا المعنى لا أموال السفهاء.(11/92)
قال: وإذا حجر القاضي عليه ثم رفع إلى قاض آخر فأبطل حجره وأطلق عنه جاز، لأن الحجر منه فتوى وليس بقضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] (سورة البقرة: الآية 282) لا يدل على أن السفيه مولى عليه لا محالة؛ لأن بعض المفسرين قال المراد من الولي صاحب الحق يملي بالعدل بين يدي من عليه الحق لئلا يزيد على ذلك شيئا ولا ينقص على صاحبه، كذا في " شرح التأويلات ".
وأما حديث عبد الله، فإن كان رأي علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو الحجر على المنذر فقد كان رأي الزبير، وعبد الله بن جعفر، على خلاف ذلك، حيث اشتغلا بإبطال الحجر فإن هذه مسألة وقع الخلاف فيها بين أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يجب النزول على قول واحد منهم، ويجب ترجيح قول البعض على البعض بالدليل.
وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فالغالب إن فعل ذلك برضاه فلا يكون ذلك دليل الحجر، فلا ينفي للخصم حجة. قوله فأدان معرضا، يعني استدان معرضا وهو الذي يعترض الناس ليستدين ممن أمكنه يقال دين به أي غلب، يقال دين بالرجل دينا إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه.
[حكم القاضي بالحجر فرفع الحجر قاض آخر]
م: (قال: وإذا حجر القاضي عليه) ش: تفريع على مسألة الحجر، أي على السفيه. وقال الأترازي: ذكر هذا جوابا لسؤال ذكره. وفي النسخ: طريقة الخلاف بأن يقال: سلمنا أن تصرف المحجور قبل حجر القاضي نافذ، ولا كلام لنا فيه، وكلامنا فيما إذا حجر القاضي فلم قلتم إن تصرفه ينفذ بعد الحجر، لأن قضاء القاضي إذا وقع في فصل مجتهد فيه نفذ قضاؤه بالاتفاق كما في بيع المدبر والقضاء على الغائب وقسمة الغنائم، فينبغي أن لا يسند تصرف السفيه بعد حجر القاضي، فأجابوا عنه بجوابين.
أحدهما: ما ذكروا في مسألة القضاء على الغائب أن نفس القضاء إذا كان مجتهدا فيه لا ينفذ، وهنا كذلك لأن نفس القضاء بالحجر على السفيه مجتهد فيه.
والثاني: أن هذا ليس بقضاء بل هو فتوى، فكان قضاء هذا القاضي وفتوى غيره سواء م: (ثم رفع إلى قاض آخر فأبطل حجره) ش: أي حجر القاضي الأول م: (وأطلق عنه جاز) ش: أي عن السفيه جاز تصرفه م: (لأن الحجر منه) ش: أي من القاضي م: (فتوى وليس بقضاء) ش: لأن القضاء لا بد له من خصومة، لأنه شرع لفصل الخصومات، ولا بد للخصومة من الدعوى والإنكار ولم يوجد ذلك فلا يكون قضاء بل هو فتوى لعدم المقضي له والمقضى عليه، وهو معنى قوله.(11/93)