وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» ، وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دلالة ظاهرة على أفضلية الستر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» ش: هذا أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا «ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» م: (وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دلالة ظاهرة على أفضلية الستر) .
ش: لم يتعرض أحد من الشراح على حل هذا التركيب، "قبوله دلالة" مبتدأ وخبره مقدما"، هو قوله: "وفيما نقل من التلقين" إلى آخر قوله: "للدرء" أي لدفع الحد.
أما الذي نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلقينه للدرء عن حد الزنا، فما رواه البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في حديث ماعز، قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟. قال: لا، قال: أفنكتها؟، قال نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه» .
والذي نقل عن الدرء عن حد السرقة ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى ذر عن أبي أمية المخزومي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أخالك سرقت؟. قال: بلى، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع» .
وأما الذي نقل عن أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التلقين للدرء، فما رواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه "، أخبرنا معمر عن طاوس عن عكرمة بن خالد قال: " أتى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رجل، فسأله أسرقت؟ فقال: لا، فتركه. وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناده إلى أبي مطر قال: رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل قيل له: إنه سرق جملا، فقال(9/103)
إلا أنه يجب له أن يشهد بالمال في السرقة، فيقول: أخذ إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع، والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه.
قال: والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء الآية: 15) ، ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور الآية: 4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
له: ما أراك سرقت؟، قال: بلى، قال: فلعله شبه عليك؟، قال: بلى سرقت، قال: يا قنبر اذهب به فأوقد النار وادع الجزار وشد يده حتى أجيء، فلما جاء إليه قال له: أسرقت، قال: لا، فتركه ". وروى ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه " عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بسارق، وهو يومئذ أمير، فقال: أسرقت؟ أسرقت؟ فقال: لا، مرتين أو ثلاثا.
وروى محمد في كتاب " الآثار ": أخبرنا الإمام الأعظم أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أتي أبو مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة سرقت جملا، فقال: أسرقت؟ قولي لا، فقالت: لا، فتركها".
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه " أخبرنا الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن علي بن الأقمر عن يزيد بن أبي كثير عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنه أتي بامرأة سرقت، يقال لها: سلامة، فقال لها: يا سلامة سرقة؟ قولي: لا، قالت: لا. فدرء عنها.
م: (إلا أنه) ش: استثنى من قوله: يخبر فيها الشاهد وهو منقطع أي إلا أن الشاهد م: (يجب له أن يشهد بالمال في السرقة، فيقول: أخذ إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق محافظة على الستر) ش: أي لحفظ الستر على السارق م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الشأن م: (لو ظهرت السرقة لوجب القطع، والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه) ش: لأنه إذا قال: سرق يسقط الضمان حينئذ، فيضيع حق صاحب المال، فلهذا كانت الشهادة بالأخذ أولى من الشهادة بالسرقة؛ لأنها شهادة على وجه يثبت المال، ولا يثبت الحد وفيها رعاية الجانبين.
[مراتب الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والشهادة على مراتب؛ منها الشهادة في الزنا، يعتبر فيها أربعة من الرجال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] (النساء: الآية 15)) . م:
ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] (النور الآية: 4) ش: لفظ "أربعة"، نص في المعدود، والذكورة لا يقبل فيه إلا أربعة رجال عدول مسلمين، وهم أحرار، وهم يشهدون أنهم رأوا كالميل في المكحلة، وقيل: لأن الزنا فعل اثنين، فيشترط على كل واحد منهما اثنان(9/104)
ولا تقبل فيها شهادة النساء لحديث الزهري: "مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص "، ولأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال، فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا تقبل فيها) ش: أي في شهادة الزنا م: (شهادة النساء؛ لحديث الزهري: "مضت السنة من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم والخليفتين من بعده: أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص) ش: هذا أخرجه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه ". حدثنا حفص عن حجاج عن الزهري.. إلى آخره، واسم الزهري محمد بن مسلم المدني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سكن الشام، ومات بأداما وهي أول عمل [ ... ] وعمره اثنان وسبعون سنة روى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن خلق كثير من الصاحبة والتابعين، وإنما خص الخليفتين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لأن تمهيد قواعد الشرع وإظهار طرق الأحكام كان أكثر في خلافتهما. وعن عطاء وحماد بن أبي سليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يقبل شهادة النساء فيها، حتى لو شهد ثلاثة رجال في الزنا وامرأتان يقبل.
قلنا: على قولهما لا يبقى فائدة في قوله: "أربعة منكم" م: (ولأن فيها) ش: أي في شهادة النساء م: (شبهة البدلية) ش: أي من حيث الصورة.
قال شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: شبهة البديلة أي صورة لا حقيقة، لأنه لو كانت البدلية حقيقية، لما اعتبر شهادة النساء، وعند إمكان العمل بشهادة الرجال كالتيمم مع الوضوء، وما اعتبر شهادتهن مع إمكان شهادتهم، على أنه ليست في شهادتهم حقيقة البدلية لكن فيها شبهة البدلية باعتبار الصورة، فإن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 89) ، خرج على ما يشابهه قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] (المائدة: الآية 89) ، فلهذا أورثت شبهة البدلية.
م: (لقيامها مقام شهادة الرجال) ش: أي لقيام شهادتين مع إمكان العمل بشهادة الرجلين إذا كان كذلك م: (فلا تقبل) ش: أي شهادتهن م: (فيما يندرئ بالشبهات) ش: لأنها حقيقة غير متحملة في الحدود حتى لا تقبل الشهادة على الشهادة فيها، ولا كتاب القاضي إلى القاضي، فكذلك شبهة البدلية اعتبار التشبهة بالحقيقة؛ لأن الشبهة فيما يسقط بالشبهات كالحقيقة. وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يقبل شهادة النساء مع الرجال إلا عند عدم الرجلين، نظرا إلى ظاهر الآية، فحينئذ في شهادتهن حقيقة البدلية م: (ومنها) ش: أي ومن مراتب الشهادة م: (الشهادة ببقية الحدود) ش: كحد الشرب والسرقة م: (والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين لِقَوْلِهِ تَعَالَى....
....:(9/105)
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] : (البقرة: الآية 282) . ولا يقبل فيها شهادة النساء لما ذكرنا. قال: وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء كان الحق مالا أو غير مال مثل النكاح، والطلاق، والوكالة والوصية ونحو ذلك،
وقال الشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها؛ لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط وقصور الولاية، فإنها لا تصلح للإمارة، ولهذا لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربعة منهن وحدهن، إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة والنكاح أعظم خطرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ش: وعن الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الله: لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنا، وعن عطاء: يقبل فيها شهادة النساء.
م: (ولا يقبل فيها) ش: أي في الحدود والقصاص م: (شهادة النساء لما ذكرنا) ش: إشارة إلى حديث الزهري، وما ذكره من شبهة البدلية، وفي بعض النسخ: "لما قلنا".
وقال في " الأجناس ": قال في " نوادر ابن رستم ": ويقبل فيه، أي في التقرير الشهادة على الشهادة، والشهادة من النساء مع الرجال، ويجوز فيه العفو، ويصح فيه الكفالة، وهو حق الآدمي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء كان الحق مالا أو غير مال مثل النكاح، والطلاق، والوكالة، والوصية) ش: أي الوصاية، لأنه في مقدار غير المال م: (ونحو ذلك) ش: كالعتاق والرجعة، والنسب وتوابعها، كالإعارة والكفالة لأجل، وشرط الخيار ذكره في " مبسوط شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[شهادة النساء مع الرجال]
م: (وقال الشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها) ش: وهي التي ذكرناها، كالإعارة.. إلى آخره.
وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية، وفي رواية أخرى كقولنا م: (لأن الأصل فيها) ش: أي في شهادتهن م: (عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط) ش: لغلبة النسيان فيهن م: (وقصور الولاية، فإنها لا تصلح للإمارة) ش: بكسر الهمزة إلى الخلافة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن الأصل عدم القبول م: (لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربعة منهن وحدهن) .
م: (إلا أنها) ش: استثنى من قوله: "لأن الأصل فيها" أي في شهادة النساء عدم القبول أي إلا أن شهادتهن م: (قبلت في الأموال ضرورة) ش: كثرة وقوع أسبابها؛ لأنه يلحقهم الحرج بإشهاد رجلين في كل حادثة، فإذا لم يسمع فيها تفوت حقوق الناس لكثرة وقوعها، ولو حظرها فلا يلحق بها ما هو أعظم خطرا أو أقل وجودا كالنكاح، وهو معنى قوله: م: (والنكاح أعظم خطرا(9/106)
وأقل وقوعا، فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا. ولنا أن الأصل فيها القبول؛ لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة، وهو المشاهدة والضبط والأداء، إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي، ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها، فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقل وقوعا، فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا) .
ش: وكذلك الطلاق والرجعة، والإسلام، والردة والبلوغ، والولاء، والعدة والجرح، والتعديل والعفو عن القصاص، حاصل مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو ما ذكره في "وجيزهم": لا تقبل شهادة النساء إلا في الأموال، وحقوقها كالأجل، والخيار، والشفعة، والإجارة، وقتل الخطأ، وكل جرح لا يوجب إلا الحال، فيثبت برجل وامرأتين.
وكذا نسخ العقود وقبض نجوم الكتابة، إلا النجم الأخير ففيه الوجهان لترتب العتق عليه وما ليس بمال، ولا يؤول إلى مال، كالنكاح والرجعة والطلاق والعتق، والإسلام والردة، والبلوغ والولاء والعدة والجرح، والتعديل، والعفو عن القصاص، عن الوصاية والوكالة، فيثبت برجلين ولا يثبت برجل وامرأتين.
وأما ما لا يظهر للرجال كالولادة وعيوب النساء، والرضاع، فإنه يثبت بأربعة نسوة، فلا تثبت الولادة بقول القابلة وحدها.
م: (ولنا أن الأصل فيها) ش: أي في شهادة النساء م: (القبول لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة، وهو) ش: أي ما يبتنى عليه م: (المشاهدة) ش:. وفي بعض النسخ: وهي المشاهرة، أي المعاينة، وبها يحصل العلم المشاهر م: (والضبط) ش: وهو حسن السماع والفهم والحفظ.
م: (والأداء) ش: الذي يحصل به للقاضي، م: (إذ بالأول يحصل العلم للشاهد) ش: أي المشاهرة م: (وبالثاني يبقى) ش: أي بالضبط يبقى العلم للشاهد م: (وبالثالث) ش: أي بالأداء م: (يحصل العلم للقاضي، ولهذا) ش: أي ولكون القبول أصلا فيها م: (يقبل إخبارها) ش: بكسر الهمزة م: (في الأخبار) ش: بفتح الهمزة وهي الأحاديث والآثار.
م: (ونقصان الضبط) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحلال الضبط تقريره أن يقال: إن ذلك بعد التسليم أن نقصان الضبط م: (بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى) ش: أي بالمرأة الأخرى م: (إليها) ش: أي إلى المرأة الواحدة م: (فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة) ش: أي شبهة البدلية، ولم يذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - "لنقصان العقل"، ولا عن قوله "لقصور الولاية".(9/107)
فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كيلا يكثر خروجهن، قال: وتقبل في الولادة، والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن الأول: أنه لا نقصان في عقلهن، فما هو مناط التكليف؟ وبيان ذلك، أن للنفس الإنسانية أربع مراتب: الأولى: استعداد الفعل ويسمى العقل الهيولاني وهو حاصل لجميع أفراد الإنسان في مبدأ فطرتهم، والثانية: أن تحصل البديهيات وهو مناط التكليف.
والثالثة: أن يحصل النظريات المفروغ منها متى شاء من غير افتقار إلى اكتساب، ويسمى العقل بالعقل.
والرابعة: هو أن يستحضرها ويتلفت إليها مشاهرة، ويسمى العقل المستفاد وليس فيما هو مناط التكليف منها، وهو العقل بالملكة فيهن نقصان بمشاهدة حالتهن في تحصيل البديهيات واستعمال الحواس في الجزئيات، فإنه لو كان في ذلك نقصان، لكان تكليفهن دون تكليف الرجال في الأركان، وليس كذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ناقصات عقل» ، المراد به العقل بالفعل، فلذلك لم يصلحن للولاية والخلافة والإمارة، وبهذا ظهر الجواب عن الثاني أيضا، فتأمل.
م: (فلهذا) ش: أي فلأجل شبهة البدلية م: (لا تقبل) ش: أي شهادتهن م: (فيما يندرئ بالشبهات) ش: وتقبل فيما يثبتها م: (وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات) ش: أراد به النكاح والطلاق، فظاهر ثبوتها مع الهزل، وأما الوكالة، والإيصاء، والأموال، فإنه يجزئ فيها كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة، وذلك أمارة ثبوتها مع الشبهة، فكذلك تثبت بشهادة النساء مع الرجال.
م: (وعدم قبول الأربع) ش: هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يقبل شهادة الأربع منهن وحدهن إلى عدم قبول شهادة الأربع م: (على خلاف القياس) ش: لأن القياس يقتضي قبول ذلك، ولكنه ترك ذلك م: (كيلا يكثر خروجهن) ش: لأن في كثرة خروجهن كشفهن وافتضاحهن، وهو ممنوع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتقبل في الولادة، والبكارة، والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة) ش: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحوز شهادة امرأتين منفردتين في الولادة والاستهلال وعيوب الآباء، ولا يجوز في ذلك شهادة امرأة واحدة، وبه قال ابن أبي ليلى، كذا في " المبسوط "، وهو قول الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع(9/108)
الرجال النظر إليه» . والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس، فيتناول الأقل، وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الأربع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرجال النظر إليه» ش: هذا غريب.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه ": أخبرنا ابن جريج عن ابن شهاب الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: مضت السنة في أن تجوز شهادة النساء ليس معهن رجل فيما يلين من ولادة المرأة واستهلال الجنين، وفي غير ذلك من أمر النساء الذي لا يطلع عليه ولا يليه إلا هن. وقال أيضا: أخبرنا أبو بكر عن أبي سبرة عن موسى بن عقبة عن القعقاع بن الحكيم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا يجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه إلا هن من عورات النساء، وما يشبه ذلك من حملهن وحيضهن. وقال أيضا: أخبرنا الثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن جابر الجعفي عن عبد الله بن يحيى: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة المرأة القابلة وحدها في الاستهلال، والجعفي ضعيف وكذلك ابن يحيى، وقال أيضا: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى السلمي، أخبرني إسحاق عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة امرأة في الاستهلال.
م: (والجمع المحلى بالألف واللام) ش: أراد بهذا وجه بيان الاستدلال بالحديث الذي ذكره وهو أن الألف واللام إذا دخلا على الجمع م: (يراد به الجنس) ش: لأنه ليس ثمة معهود م: (فيتناول الأقل) ش: وهو الواحد، لبطلان العدد بواسطة الجنسية.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يؤيده أن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى الحديث: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة القابلة في الولادة.» وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصحابنا رووا في " الأسرار " وغيره عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة القابلة في الولادة» انتهى.
قلت: رواه محمد بن عبد الملك الواسطي، عن أبي عبد الرحمن المدائني عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى آخره. وقال: هذا لا يصح، وقال الدارقطني: أبو عبد الرحمن المدائني: مجهول.
م: (وهو) ش: أي الحديث الذي ذكره م: (حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الأربع)(9/109)
ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف، فكذا يسقط اعتبار العدد، إلا أن المثنى والثلاث أحوط لما فيه من معنى الإلزام ثم حكمها في الولادة، شرحناه في الطلاق وأما حكم البكارة، فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة، ويفرق بعده؛ لأنها تأيدت بمؤيد، إذ البكارة أصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: من النساء، وهو قول عطاء أيضا.
وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقول: هذا الحديث غير صحيح فكيف يكون حجة له؟! وليس لنا إلا ما ذكرناه عن عبد الرزاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبقولنا قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ولأنه) ش: دليل معقول لنا، أي ولأن الشأن م: (إنما سقطت الذكورة) ش: يعني إنما سقطت صفة الذكورة والاتفاق م: (ليخف النظر) ش: أي النظر إلى العورة حرام، إلا أنا اعتبرنا نظر جنسها م: (لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف) ش: لأن نظر المرأة إلى عورة المرأة أخف؛ لأن شهوتهن إليهن أقل من نظر الرجل إلى عورتها. م: (فكذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (يسقط اعتبار العدد) ش: لأن نظر الواحدة أخف من نظر الجماعة.
م: (إلا أن المثنى والثلاث أحوط) ش: لزيادة طمأنينة القلب م: (لما فيه من معنى الإلزام) ش: لأن فيه شبها بالشهادة.
وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله: من معنى الإلزام النسبة، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - واعترض بأن في هذا التعليل نوع مناقضة؛ لأن لو كان جواز الاكتفاء بنظر الواحدة لحقة نظرها، لما كان نظر الاثنين والثلاث أحوط من نظر الواحدة، والجواب أن يقال: خفة النظر يوجب عدم وجود اعتبار العدد.
ومعنى الإلزام يقتضي وجوبه [ ... ] فقلنا بعدم الوجوب والجواز احتياطا م: (ثم حكمها) ش: أي حكم شهادة امرأة واحدة م: (في الولادة شرحناه في الطلاق) ش: يعني في باب ثبوت النسب عند قوله، فإن صحة الولادة تثبت بشهادة امرأة واحدة تشهد بالولادة، فينظر فيه هناك.
م: (وأما حكم البكارة) ش: فإنها سواء كانت المرأة مهنيرا ومبيعة، لا بد من نظر النساء إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما، فإذا نظرت إليها وشهدت، فإما أن يؤيد شهادتهن بمؤيد أو لا، فإن كان الأول، كانت شهادتهن حجة، وإن كان الثاني، فلا بد أن يضم إليها ما يؤيدها، فعلى هذا. م: (فإن شهدن أنها بكر) ش: فإن كانت معزة م: (يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها) ش: أي بعد سنة م: (لأنها) ش: أي لأن شهادتهن م: (تأيدت بمؤيد، إذ البكارة أصل) ش: بيانه أن امرأة العنين مع زوجها، إذا اختلفا بعد مضي المدة، فقال: هو وصلت إليها، فقالت هي: لم يصل إلي فإنها ترى النساء، فإن قلن: هي بكر، فإنها تخير، فلو اختارت الفرقة، فرق القاضي بينهما(9/110)
وكذا في رد المبيعة، إذا اشتراها بشرط البكارة، فإن قلن: إنها ثيب، يحلف البائع لينضم نكوله إلى قولهن، والعيب يثبت بقولهن، فيحلف البائع. وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الإرث؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال إلا في حق الصلاة؛ لأنها من أمور الدين. وعندهما تقبل في حق الإرث أيضا؛ لأنه صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأثبت الفرقة بقولهن لفائدة بشهادة الأصل وهي البكارة.
م: (وكذا في رد المبيعة) ش: إذا كان جارية م: (إذا اشتراها بشرط البكارة) ش: بيانه إذا اشترى رجل جارية على أنها بكر، ثم اختلفا قبل القبض أو بعده، فقال البائع: هي بكر في الحال، فإن القاضي يريها النساء م: (فإن قلن: إنها ثيب) ش: لم يثبت حق الفسخ بشهادتهن؛ لأن الفسخ حق قوي، وشهادتهن حجة ضعيفة، لم تتأيد بمؤيد، لكن ثبت حق الخصومة لتوجه اليمين على البائع م: (يحلف البائع) ش: لقد سلمتها بحكم البيع وهي بكر، فإن لم يكن قبضها بالله لقد بعتها وهي بكر، فإن نكل يرد عليه، وإن حلف لزم المشتري م: (لينضم نكوله) ش: أي نكول البائع م: (إلى قولهن) ش: فترد م: (والعيب يثبت بقولهن) ش: هذا جواب بما يقال: شهادة النساء حجة فيما لا يطلع عليه الرجال، فيجب الرد بقولهن، والتحليف ترك العمل بالحديث أجاب بقوله، والعيب يثبت بقولهن أي في حق سماع الدعوى وحق التحليف م: (فيحلف البائع) ش: فإن المشتري إذا ادعى عيبا في المبيع لا بد له من إثبات قيامه به في الحال ليثبت له ولاية التحليف، وإلا كان القول للبائع لتمسكه بالأصل، فإذا قلن: إنها ثيب، يثبت العيب في الحال، وعمل بالحديث ثم يحلف البائع على أنه لم يكن بها ذلك العيب في الوقت الذي كانت في يده.
م: (وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الإرث؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال) ش: أي لأن الاستهلال وهو صوت الصبي عند الولادة، وهذا مما يطلع الرجال، فلا يكون شهادته فيه حجة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وإن لم يحضر الرجال فشهادتهن كشهادتهن على جراحات الدنيا في الجماعات، وإن لم يحضر الرجال بخلاف الولادة، فإنها انفصال الولد من الأم، فلا يطلع عليه الرجال م: (إلا في حق الصلاة) ش: أي تقبل شهادة المرأة الواحدة الحرة على استهلال الصبي في حق الصلاة عليه فإنها تجوز بالاتفاق م: (لأنها) ش: أي لأن حق الصلاة م: (من أمور الدين) ش: فشهادة الواحدة حجة في ذلك، كشهادتها هلال رمضان.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (تقبل في حق الإرث أيضا لأنه) ش: أي لأن استهلال الصبي م: (صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار(9/111)
كشهادتهن على نفس الولادة. قال: ولا بد في ذلك كله من العدالة، ولفظه الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة شهادة، وقال: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته، أما العدالة فلقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] (البقرة الآية: 282) . والمرضي من الشاهد هو العدل، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق الآية: 2) . ولأن العدالة هي المعينة للصدق؛ لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه. وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة، تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لوجاهته، ويمنع عن الكذب لمروءته. والأول أصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كشهادتهن على نفس الولادة) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول.
[اشتراط العدالة في الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا بد في ذلك كله) ش: أي في جميع ما ذكر من أنواع الشهادة م: (من العدالة ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة شهادة، وقال: أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته. أما العدالة فلقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) والمرضي من الشاهد هو العدل، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2)) ش: والفاسق ليس بمرضي.
ولا خلاف فيه للفقهاء، ولو أن الشهادة حجة باعتبار الصدق، وهو معنى قوله م: (ولأن العدالة هي المعينة للصدق؛ لأن من يتعاطى) ش: من التعاطي، وهو التناول م: (غير الكذب قد يتعاطاه) ش: أي لأن من يتعاطى غير الكذب من محظورات دينه، فقد يتعاطاه أيضا ويقدم على شهادة الزور أيضا، فترد شهادته للتهمة.
م: (وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان وجيها) ش: أي ذا قدر وشرف م: (في الناس ذا مروءة) ش: أي إنسانية، وفي المروءة لغتان، الهمزة وتشديد الواو م: (تقبل شهادته لأنه لا يستأجر لوجاهته ويمنع عن الكذب لمروءته) ش: لأنه لا يرضى أن يعرف بين الناس بالكذب، فمروءته تمنعه عن ذلك، وكذلك لا يرى لنفسه أن يستأجر على شهادة الزور خوفا من أن يسلم في وجاهته م: (والأول) ش: وهو عدم قبول شهادة الفاسق مطلقا ذا وجاهة أو لا م: (أصح) ش: لإطلاق قوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ش: (الطلاق: الآية 2) وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] (الحجرات: الآية 6) .
ولأن قبول الشهادة والعمل بها إكرام الشهادة وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أكرموا الشهود» ... " الحديث، وفي حق الفاسق أمرنا بخلاف ذلك، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا لقيت الفاسق، فالقه بوجه مكفهر» أي شديد العبوسة، ولا مروءة لمن يكون معلنا بفسق شرعا، كذا في " المبسوط ".(9/112)
إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق، يصح عندنا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح، والمسألة معروفة. وأما لفظة الشهادة، فلأن النصوص نطقت باشتراطها، إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توكيد، فإن قوله: أشهد من ألفاظ اليمين، كقوله: أشهد بالله فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد، وقوله في ذلك كله إشارة إلى جميع ما تقدم حتى يشترط العدالة، ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا أن القاضي) ش: أي لكن القاضي م: (لو قضى بشهادة الفاسق يصح عندنا، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة الفاسق ولا يجوز قضاؤه.
م: (والمسألة معروفة) ش: وقد مر الكلام فيها في أوائل كتاب "أدب القاضي" م: (وأما لفظ الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها، إذ الأمر فيها) ش: أي في النصوص م: (بهذه اللفظة) ش: أي لفظة الشهادة. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2) {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» م: (ولأن فيها) ش: أي لفظ الشهادة م: (زيادة توكيد) ش: لدلالتها على الشهادة.
م: (فإن قوله: أشهد من ألفاظ اليمين، كقوله: أشهد بالله، فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة) ش: أي بلفظة الشهادة م: (أشد) ش: والنصوص وردت بقبولها بهذه اللفظة فيقتصر على مورد النص، ولا يقال: جاء الأمر بالتكبير بلفظ التكبير، قال الله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] (المدثر: الآية 3) ، ومع ذلك أجاز أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبديله بلفظ آخر، مثل الله أجل وأعظم؛ لأنا نقول: إن التكبير للتعظيم.
وفي قوله: "أعظم" صريح التعظيم، فكان مثله من كل وجه بل أزيد، فيلحق به دلالة أما الشهادة فتنبني عن المشاهدة والعيان، ولهذا يذكر للقسم فكانت له زيادة وكادة في الإخبار على قوله: أتيقن أو أعلم، فلا يمكن إلحاقها بلفظ الشهادة.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره " م: (في ذلك كله) ش: أي في جميع ما تقدم م: (إشارة إلى جميع ما تقدم) ش: من أنواع الشهادة م: (حتى يشترط العدالة. ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح) ش: احترز به عن قول العراقيين فإنهم لا يشترطون فيها لفظة الشهادة.
وفي " المنتقى " إن لفظة الشهادة والحرية غير معتبرة. وحكي عن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشهادة على الولادة ليست بشهادة، وإنما هي خبر وإليه ذهب صاحب " المختلف "، والذي قاله(9/113)
لأنها شهادة لما فيه من معنى الإلزام، حتى اختص بمجلس القضاء، ويشترط فيه الحرية والإسلام،
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الذي اختاره مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعليه مشايخنا.
وقال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال في " شرح بكر ": قال مشايخ بخارى وبلخ: يشترط لفظة الشهادة، وقال مشايخ العراق: لا يشترط كما في شهادة هلال رمضان م: (لأنها) ش: أي لفظ شهادة النساء بالولادة م: (شهادة) ش: وليست بمجرد إخبار م: (لما فيه من معنى الإلزام) ش: أي إلزام النسب م: (حتى اختص) ش: أي لفظ شهادة النساء م: (بمجلس القضاء) ش: فلا يعتبر في غير مجلس القضاء.
م: (ويشترط فيه) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي في الشاهد: م: (الحرية والإسلام) ش: في جميع ما ذكرنا من مراتب الشهادة، والظاهر أن الضمير في قوله فيه، أي في اشتراط لفظة الشهادة في شهادة النساء بالولادة يشترط الحرية والإسلام أيضا، ويؤيده نسخة شيخنا العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولهذا يشترط الحرية والإسلام أي ولأجل ما فيه من معنى الإلزام، واختصاصه بمجلس القضاء، يشترط في شهادة النساء بالولادة الحرية والإسلام حتى لو كانت أمة أو كافرة لا تقبل.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» ش: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه "، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... إلى آخره م: (ومثل ذلك مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي مثل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا رواه الدارقطني في "سننه " مطولا جدا عن عبد الله بن أبي المليح الهذلي، قال: كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة ... الحديث، وفيه: "المسلمون عدول(9/114)
ومثل ذلك مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الظاهر هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية، إذ لا وصول إلى القطع إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود لأنه يحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها، ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم يسأل عنهم في السر والعلانية، لأنه تقابل الظاهران فيسأل طلبا للترجيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم على بعض إلا محدودا في حد أو مخبر بما في شهادة زور، أو ظنينا في ولادة أو قرابة.
وقال الدارقطني: وعبد الله بن حميد ضعيف، وقال النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: متروك الحديث، وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: منكر الحديث، واسم أبي حميد عالية بن الخطاب الهذلي الكوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولأن الظاهر) ش: في حال المسلم م: (هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية) ش: فإن قيل: الظاهر يكفي للدفع لا يكفي للاستحقاق، وهاهنا يثبت المدعي استحقاق المدعى به بإقامة البينة.
قيل في جواب: ما أشار إليه المصنف بقوله: م: (إذ لا وصول إلى القطع) ش: أي لا إمكان للوصول إلى الدليل القطعي، إلا الظاهر لأنه لو لم يكتف بالظاهر، احتيج إلى التزكية، وقبول قول المزكي في التعديل أيضا عمل بالظاهر، إذ لو لم يعمل بقوله لاحتيج إلى مزك آخر، ويرد ذلك في الثالث والرابع، فيؤدي إلى الدور والتسلسل.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يقال: الظاهر هنا، اعتبر للدفع لا للاستحقاق؛ لأن دعوى المدعي وإنكاره الخصم تعارضا، وشهادة الشهود وبراءة الذمة كذلك، وبظاهر العدالة اندفع معارضة الذمة، فكان واقعا م: (إلا في الحدود والقصاص) ش: استثناء من قوله ولا يسأل حتى يطعن الخصم إلا في الحدود والقصاص م: (فإنه) ش: أي فإن الحاكم م: (يسأل عن الشهود لأنه يحتال لإسقاطها) ش: أي لإسقاط الحدود، لأن مبناها على الدرء م: (فيشترط الاستقصاء فيها) ش: إذ السؤال عن العدالة ربما يفضي إلى الدرء فيجب السؤال احتيالا له م: (ولأن الشبهة فيها) ش: أي في الحدود م: (دارئة) ش: أي العدالة وإن كانت ظاهرة، وكذا احتمال كونه غير عدل ثابت، فتعمل هذه الشبهة بالدرء.
م: (وإن طعن الخصم فيهم) ش: أي في الشهود م: (يسأل عنهم في السر والعلانية) ش: يعني في غير الحدود والقصاص، لأن في الحدود والقصاص يسأل قبل الطعن م: (لأنه تقابل الظاهران) ش: يعني كما أن الظاهر أن الشهود لا يكذبون، فكذا الظاهر أن الخصم لا يكذب في طعنه، فإذا كان كذلك م: (فيسأل) ش: الحاكم عنهم أي عن الشهود م: (طلبا للترجيح) ش: بين المتعارضين.(9/115)
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق، لأن القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول، فيتعرف عن العدالة وفيه صون قضائه عن البطلان وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان، قال: ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب والحلي والمصلى ويردها المعدل، وكل ذلك في السر كيلا يظهر فيخدع أو يقصد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف ومحمد: - رحمهما الله -: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق) ش: يعني سواء طعن الخصم أو لم يطعن في جميع الدعوى. وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من كان مشهودا [له] بالعدالة، لم تسأل عنه، ومن عرف جرحه رد شهادته وإنما يجب السؤال مهما شك. م: (لأن القضاء مبناه على الحجة، وهي شهادة العدول، فيتعرف عن العدالة) ش: يقال: تعرفت ما عنده أي تطلبته منه حتى عرفته م: (وفيه) ش: أي في تعرفه م: (صون قضائه) ش: أي حفظه م: (عن البطلان) ش: على تقدير ظهور الشهود عبيدا أو كفارا، فيبطل القضاء.
م: (وقيل: هذا) ش: أي هذا الخلاف م: (اختلاف عصر وزمان) ش: لا اختلاف حجة وبرهان، بيانه أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان في القرن الثالث الذي شهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخيرية لأهله حيث قال: «خير القرون رهطي الذي أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد» وهذا كان في القرن الرابع الذي شهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بفشو الكذب في أهله، فلهذا شرط الاستكشاف، ولو شاهد أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك لقال بقولهما، ولهذا المصنف: م: (والفتوى على قولهما في هذا الزمان) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.
م: (قال: ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة) ش: أي الرقعة يكتب فيها القاضي أمام الشهود وحلاهم م: (إلى المعدل) ش: بكسر الدال سميت بالمستورة؛ لأنها تستر عن نظر العوام م: (فيها) ش: أي المستورة بيان م: (النسب) ش: أي نسب الشهود م: (والحلي) ش: بكسر الحاء المهملة وتخفيف اللام مقصورا جمع حلية.
وفي " المغرب " حلية الإنسان صفته وجاء الضم في الحاء في الجمع والكسر أفصح م: (والمصلى) ش: أي قيل: أراد به الجلسة والظاهر أن المراد به مسجد المحلة م: (ويردها المعدل) ش: أي يرد المعدل المستورة م: (وكل ذلك في السر كيلا يظهر) ش: أي المعدل م: (فيخدع) على صيغة المجهول بالنصب لأنه جواب النفي، أي يخدع بالمال م: (أو يقصد) ش: مجهول أيضا منصوب، لأنه عطف على يخدع، أي يقصد بالإضرار إذا كان ظاهرا.(9/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " و" فتاوى قاضي خان ": وينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشهود من هو أوثق الناس وأورعهم وأكرمهم أمانة وخبرة، وأعلمهم بالتمييز فطنة قبولية المسألة، ثم يكتب في رقعة أسماء الشهود حماية بأنسابهم وحلاهم وقبائلهم ومحلاتهم ورخائهم، ويبعث ملك الرقعة على يد أمين مختومة ولا يطلع أحد على ما في يد أمين حتى لا يخدع بالرشوة.
ولو كان المزكي بعيدا ويجعل أجرة الأمين على المدعي، وثمن الصحيفة الذي يكتب فيها أساميهم عليه أيضا، ثم المزكي يسأل عنهم من أهل حرفتهم، ومن جيرانهم وأهل محلتهم، فإن لم يجد فمن أهل سوقهم، فإذا قال المسئول عنه: هو عدل، يكتب المزكي في آخر الرقعة أنه عدل مرضي عندي جائز الشهادة، ولا يكتب أنه غير عدل غير مرضي.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من عرف فسقه لا يكتب ذلك تحت اسمه، بل يكتب احترازا عن هتك الستر، ويقول: الله أعلم، إلا إذا خاف أن القاضي يقضي بشهادته بتعديل غيره، فحينئذ يصرح بذلك.
ومن لم يعرفه لا بالعدل ولا بالفسق يكتب تحت اسمه في كتاب القاضي مستور، ثم يبعثه بتلك الرقعة إلى القاضي سرا، ثم القاضي إن شاء جمع بين تزكية السر وبين تزكية العلانية.
وفي " الذخيرة ": ينبغي أن يكون المزكي صاحب خبرة، ولا يكون منزويا لا يخالط الناس، لأنه إذا لم يخالطهم لا يعرف العدل من غير عدل، وينبغي أن لا يكون طماعا ولا فقيرا، حتى لا ينخدع بالمال.
فإذا لم يجد المزكي أهل مسجده أو أهل محلته أو سوقه يسأل أهل مجلسه، فإن وجد كلهم غير ثقات يعتبر في ذلك تواتر الأخبار، ولو لم يعرف الشهود بالعدالة، فأخبره رجلان عدلان عين النسب.
وعن ابن سماعة عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز في تزكية السر المرأة والعبد والمحدود في القذف إذا كانوا عدولا، ولا يجوز في تزكية العلانية، إلا من يجوز شهادته لأن تزكية السر من الإخبار بأمر ديني، وقول هؤلاء في الأمور الدينية إذا كانوا عدولا مقبول في روايتهم الإخبار شهادتهم بهلال رمضان، أما العلانية نظير الشهادة من حيث أن القضاء لا يجب إلا بها كالشهادة، ويشترط فيها ما يشترط في الشهادة سوى لفظة الشهادة، حتى لا يجوز تزكية الوالد لولده، وعلى العكس في السر جائز.(9/117)
وفي العلانية لا بد أن يجمع بين المعدل والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره، وقد كانت العلانية، وحدها في الصدر الأول، ووقع الاكتفاء في السر في زماننا تحرزا عن الفتنة، ويروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تزكية العلانية بلاء وفتنة، ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل: هو، حر، عدل، جائز الشهادة، لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفى بقوله: هو عدل؛ لأن الحرية ثابتة بالدار، وهو أصح، قال: وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود لم يقبل قول الخصم أنه عدل معناه قول المدعى عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي العلانية) ش: أي وفي التزكية العلانية م: (لا بد أن يجمع) ش: الحاكم في مجلس القضاء م: (بين المعدل والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره) ش: لأن الشخصين قد يتفقان في الاسم والنسبة، فيقول المعدل: هذا الذي عدالته يشير إلى الشاهد م: (وقد كانت العلانية) ش: أي التزكية العلانية م: (وحدها) ش: يعني بدون تزكية السر م: (في الصدر الأول) ش: أي الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن القوم كانوا صلحاء، والمعدل كان لا يوفي عن الجرح؛ لأنهم كانوا لا يقابلونه بالأذى لو جرحهم، وفي زماننا ليس كذلك م: (ووقع الاكتفاء بالسر في زماننا تحرزا عن الفتنة، ويروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تزكية العلانية بلاء وفتنة) ش: لأن الشهود يقابلون المزكي إذا جرحهم بالأذى ويقع بينه وبينهم العداوة.
م: (ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل: هو) ش: أي الشاهد م: (حر، عدل، جائز الشهادة، لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفي بقوله) ش: أي بقول المعدل م: (هو عدل) ش: ولا يشترط أن يقول: هو عدل جائز الشهادة م: (لأن الحرية ثابتة بالدار) ش: لأن الدار دار الإسلام.
وقال المصنف: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهو أصح) ش: وبه قال أصحاب الشافعي، وأحمد - رحمهما الله -، وقال مالك: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من ذكر العدالة والرضاء، بأن يقول: هو عدل مرضي، ولا يقتصر على أحد الوصفين، ذكره في " الجواهر ".
م: (قال: وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود) ش: بيان هذا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: على طريقة قوله في المزارعة من التخريج على قول من يقول بالسؤال إذا سئل م: (لم يقبل قول الخصم) ش: وهو المدعى عليه م: (أنه عدل) . ش: وفسر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخصم بقوله: م: (معناه قول المدعى عليه) ش: وكذا فسرناه، ولفظ " الجامع الصغير ": محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال في قوله: من رأى أن يسأل عن الشهود بأنه لا يجوز إذا قال: "الخصم المشهود عليه" هو عدل حتى يسأل عنه، انتهى.
وذلك لأن من أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي لا يسأل عن الشهود في غير(9/118)
وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أنه يجوز تزكيته، لكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضم تزكية الآخر إلى تزكيته؛ لأن العدد عنده شرط. ووجه الظاهر أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره، مبطل في إصراره فلا يصلح معدلا، وموضوع المسألة إذا قال: هم عدول، إلا أنهم أخطؤوا أو نسوا، أما إذا قال: أو هم عدول صدق فقد اعترف بالحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحدود والقصاص إلا إذا طعن الخصم وهذا إذا سئل عنهم على قول من رأى ذلك، فقال المشهود عليه: هو عدل، لا يكفي ذلك، حتى يسأل غيره لأن تعديل المشهود عليه ليس بتعديل على الكمال، بل هو تعديل من وجه وجرح من وجه حيث لم يصدقه على شهادته.
م: (وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: أنه يجوز تزكيته) ش: أي تزكية الخصم، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وفي قول آخر: لا تجوز.
م: (لكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إنما يجوز م: (يضم تزكية الآخر إلى تزكيته؛ لأن العدد عنده شرط) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي بعض النسخ؛ لأن العدد عنده شرط.
وفي " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان المدعى عليه يصلح مزكيا، فإن كان فاسقا أو مستورا أو سكت عن جواب المدعي، ولم يجحد فلما شهدوا قال: هم عدول، لا يصح هذا التعديل، لأن العدالة في المزكي شرط عند الكل، ولم يوجد وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي يسأل عن المدعى عليه شهدوا عليك بحق أو بغير حق، فإن قال بحق فهو إقرار، وإن قال بغير حق، لا يقضى بشيء.
م: (ووجه الظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره، مبطل في إصراره) ش: بالصاد المهملة، والإصرار هو الثبات على الشيء أي الخصم مبطل في ثباته على الإنكار م: (فلا يصلح معدلا) ش: لاشتراط العدالة فيه بالاتفاق.
م: (وموضوع المسألة) ش: هذا جواب عما يقال تعديل الخصم إقرار منه بثبوت الحق عليه فكان مقبولا؛ لأن العدالة ليست بشرط فيه بالاتفاق.
فأجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: وموضوع المسألة، يعني الذي يثبت عليه هذه المسألة م: (إذا قال) ش: أي المدعي: م: (هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا) ش: ومثل هذا ليس بإقرار بالحق وفيه نظر؛ لأن هذا الكلام مشتمل على الإقرار وغيره، فيصدق في الإقرار على نفسه، ويرد الغير للتهمة.
وأجيب: بأن الإقرار فيه بالنسبة إلى ما عليه؛ لأنه نسبهم في ذلك إلى الخطأ والنسيان، فأنى يكون إقرارا. م: (أما إذا قال: صدقوا أو هم عدول صدقة) ش: جمع صادق م: (فقد اعترف بالحق)(9/119)
قال: وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود واحدا جاز، والاثنان أفضل، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا اثنان والمراد منه المزكي، وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد. له أن التزكية في معنى الشهادة؛ لأن ولاية القضاء تبتنى على ظهور العدالة وهو بالتزكية، فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي في الحدود والقصاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فيقضي القاضي عليه باعترافه لا بالشاهدة.
م: (قال) ش: أي محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل) ش: عن صيغة المجهول م: (عن الشهود واحدا جاز) ش: لأنه ليس بشهادة، فلا يشترط في الخبر العدد م: (والاثنان أفضل) ش: لأنه أحوط م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا اثنان) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في رواية م: (والمراد منه) ش: أي من رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود م: (المزكي) ش: وهو المرسل إليه فكان قوله الذي يسأل عن الشهود صفته الرسول، وتفسيره والذي يسأل عنه عن الشهود هو المزكي م: (وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد) ش: يعني يكفي الواحد للتزكية والرسالة والترجمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من اثنين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والترجمة جائزة إذا كان القاضي لا يعرف نساءهم. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في حق سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر.
وفي " الخلاصة " الترجمان: إذا كان أعمى، فعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجوز م: (له) ش: أي لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التزكية في معنى الشهادة، لأن ولاية القضاء تبتنى على ظهور العدالة وهو بالتزكية، فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي في الحدود والقصاص) ش: بإجماع الأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكذلك في القصاص.
وذكره في " المختلف والحصر " في كتاب الحدود من باب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشترط الذكورة في المزكي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، ويشترط أيضا عند الأئمة الثلاثة فيما لا يثبت بشهادة النساء، وعلى هذا الخلاف الجرح، فعندهما يثبت بواحد، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من اثنين. وبه قال الشافعي وأحمد(9/120)
ولهما أنه ليس في معنى الشهادة، ولهذا لا يشترط فيه لفظة الشهادة. ومجلس القضاء، واشتراط العدد أمر حكمي في الشهادة، فلا يتعداها، ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر حتى صلح العبد مزكيا، فأما في تزكية العلانية، فهو شرط، وكذا العدد بالإجماع على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختصاصها بمجلس القضاء، قالوا: يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه) ش: أي أن التزكية م: (ليس في معنى الشهادة، ولهذا) ش: أي لعدم كونه في معنى الشهادة، م: (لا يشترط فيه لفظة الشهادة ومجلس القضاء) ش: فلا يشترط فيها ما يشترط في الشهادة م: (واشتراط العدد أمر حكمي) ش: أي تعبدي ثبت بالنص على خلاف القياس م: (في الشهادة فلا يتعداها) ش: أي فلا يتعدى اشتراط العدد من الشهادة إلى التزكية م: (ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر حتى صلح العبد مزكيا) ش: لمولاه وغيره.
م: (فأما في تزكية العلانية، فهو شرط وكذا العدد بالإجماع) ش: شرط م: (على ما قاله الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختصاصها بمجلس القضاء) ش: وقال في " الخلاصة ": شرط الخصاف أن يكون المزكي في العلانية غير المزكي في السر. أما عندنا فالذي تزكيهم في العلانية ذكره في الفصل الثاني من كتاب القضاء.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الأربعة من الذكور في الزكيين، ذكره في " الذخيرة ".(9/121)
فصل وما يتحمله الشاهد على ضربين: أحدهما: يثبت حكمه بنفسه مثل الربيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع الشاهد أو رآه، وسعه أن يشهد به، وإن لم يشهد عليه؛ لأنه علم ما هو الموجب بنفسه، وهو الركن في إطلاق الأداء قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] (الزخرف الآية 86) ش: وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل ما يتحمله الشاهد]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام تتعلق بأداء الشهادة، بأن الشاهد كيف يشهد عند القاضي م: (وما يتحمله الشاهد على ضربين) ش: أي على نوعين م: (أحدهما يثبت حكمه بنفسه) ش: أي بلا احتياج إلى الإشهاد م: (مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه) ش: الذي سمعه مثل البيع والإقرار، وحكم الحاكم هذا من المسموعات، والذي رآه مثل الغصب والقتل، ونحو ذلك من المبصرات م: (وسعه) ش: ويسع الشاهد م: (أن يشهد وإن لم يشهد عليه؛ لأنه علم ما هو الموجب بنفسه، وهو الركن) ش: أي العلم بالموجب بنفسه هو الركن م: (في إطلاق الأداء) ش: أي في جواز أداء الشهادة.
م: (قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] (الزخرف: الآية 68) ش: بيانه أن الله تعالى جوز أداء الشهادة بعد العلم، وقد حصل العلم بالرؤية والسماع، فتصح الشهادة، يدل عليه الإجماع أيضا. ألا ترى أن رجلا لو طلق امرأته ثلاثا أو أعتق عبده أو أمته، وسمع الرجلان ذلك فجاءت المرأة أو العبد يطلب شهادتهما لم يسعهما، ترك الشهادة لئلا يقع الرجل في الوطء الحرام في المرأة والأمة، قالوا: إنما يجوز ذلك إذا رأوه أن يفعل ذلك وعرفوا صحته، فإن سمعا كلامه من وراء حجاب غليظ وحائط لا يرونه، لم يسمعهم الشهادة؛ لأن الصوت يشبه الصوت فلا يجوز الشهادة بالشك.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» ش: هذا الحديث رواه البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "سننه "، والحاكم في "المستدرك "، عن محمد بن سليمان بن مشمول، حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة، فقال: "هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع» قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وتعقبه(9/122)
قال: ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني؛ لأنه كذب، ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر للقاضي لا يقبله لأن النغمة تشبه النغمة، فلم يحصل العلم إلا إذا كان دخل البيت، وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره، فسمع إقرار الداخل ولا يراه، له أن يشهد؛ لأنه حصل العلم في هذه الصورة ومنه ما لا يثبت الحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذهبي في "مختصره "، فقال: بل هو حديث واه، فإن محمد بن سليمان بن مشمول ضعفه غير واحد، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه في إسناده، ولا في متنه.
فإن قيل: جعل العلم بالموجب ركنا في الأداء مخالف للنصين جميعا، فإنهما لا بد؛ لأنه على شرطيته وعلى ركنيته، إذ الأحوال شروط وهي موضوعة للشرط. أجيب: بأنه مجاز عن الشرط وإنما غير عنه بذلك إشارة إلى شدة احتياج الأداء إليه.
م: (قال: ويقول: أشهد أنه باع) ش: يعني إذا سمع المبايعة ولم يشهد عليها، واحتيج إلى الشهادة يقول الشاهد: إنه باع م: (ولا يقول: أشهدني لأنه كذب) ش: لأنه ما أشهده.
وفي " الذخيرة ": هذا في البيع الصريح، أما في البيع على سبيل التعاطي، يشهدون على الآخذ والإعطاء؛ لأن التعاطي بيع حكمي، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز.
م: (ولو سمع من وراء الحجاب) ش: أي قول واحد: بعت، وقول آخر: اشتريت, م: (لا يجوز له أن يشهد ولو فسر للقاضي) ش: بأن قال: أشهد بالسماع من رواء الحجاب م: (لا يقبله؛ لأن النغمة تشبه النغمة، فلم يحصل العلم) ش: وهي الكلام الخفي من حد ضرب، يقال: فلان حسن النغمة إذا كان حسن الصوت في القراءة م: (إلا إذا كان) ش: استثناء من قوله: لا يجوز له أن يشهد إلا إذا كان، أي الشاهد م: (دخل البيت وعلم أنه ليس فيه) ش: أي في البيت م: (أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره) ش: أي غير الباب م: (فسمع إقرار الداخل ولا يراه) ش: فحينئذ يجوز م: (له أن يشهد) ش: على إقراره م: (لأنه حصل العلم في هذه الصورة) ش: وكان ابن مقاتل لم يجوز الشهادة بالسماع من وراء الحجاب مطلقا.
وقال أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا رأى شخصها حال إقرارها يجوز، وإلا لا شرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها كما في " الذخيرة " م: (ومنه) ش: هذا بيان للضرب الثاني من الضربين الذين ذكرهما بقوله: ما يتحمله الشاهد على ضربين أي ما يتحمله الشاهد. م: (ما لا يثبت الحكم(9/123)
فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة، فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء، لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهده عليه؛ لأن الشهادة غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، فلا بد من الإنابة والتحميل ولم يوجد وكذا لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع للسامع أن يشهد، لأنه ما حمله وإنما حمل غيره. ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، فلم يحصل العلم، قيل هذا على قول لأبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما يحل له أن يشهد، وقيل هذا بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة) ش: فإنها لا يثبت بها الحكم ما لم يشهد.
م: (فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهده عليه) ش: بضم الباقي يشهد لأنه مجهول م: (لأن الشهادة) ش: أي شهادة الأصول م: (غير موجبة بنفسها) ش: وفي بعض النسخ: غير مثبتة بنفسها م: (وإنما تصير) ش: أي الشهادة م: (موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، فلا بد من الإنابة والتحميل) ش: أي لا بد من الإنابة بتحمل الشهادة في الفرع حتى ينقلها الفرع إلى مجلس القاضي.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والأول يعني قوله: "الإنابة" إشارة إلى مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول بطريق التوكيل، ولا توكيل إلا بأمر الموكل، والثاني يعني قوله، و"التحمل" إشارة إلى مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -؛ فإنهما لم يجعلاه بطريق التوكيل بل بطريق التحميل م: (ولم يوجد) ش: أي كل واحد من الإنابة والتحميل.
م: (وكذا لو سمعه) ش: أي إذا سمع الشاهد م: (يشهد الشاهد على شهادته، لم يسع للسامع أن يشهد؛ لأنه) ش: أي لأن ذلك الشاهد م: (ما حمله السامع) على شهادته م: (وإنما حمل غيره) ش: غير السامع، وهذا بخلاف القاضي إذا شهد على قضيته، وسمع بذلك آخرون، وسمعهم أن يشهدوا؛ لأن قضاءه حجة بمنزلة الإقرار والبيع وغير ذلك، فيصح التحميل من غير إشهاد. كذا ذكره فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، فلم يحصل العلم) ش: وهذا كما رأيت، لم يذكر القدوري فيه الخلاف، وكذا لم يذكر في " شرح الأقطع "، وكذلك الخصاف لم يذكر الخلاف في " أدب القاضي " فلأجل هذا قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (قيل: هذا على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يحل له أن يشهد) ش: وكذا ذكر الخلاف في " المختلف "، وذكر أي القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ورووا الخبر كذلك على الخلاف.
م: (وقيل: هذا) ش: أي عدم الحل بدون تذكر الحادثة م: (بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد(9/124)
القاضي شهادته في ديوانه أو قضيته؛ لأن ما يكون في قمطره فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له العلم بذلك، ولا كذلك الشهادة في الصك؛ لأنه في يد غيره، وعلى هذا إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة، أو أخبره قوم ممن يثق بهم أنا شهدنا نحن وأنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي شهادته) ش: أي شهادة شاهد م: (في ديوانه أو قضيته) ش: أو وجد حكمه مكتوبا في خريطته م: (لأن ما يكون في قمطره) ش: في خريطته، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القمطر بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء ما يضاف فيه الكتب.
قال: ليس العلم ما بقي القمطر وما العلم إلا ما وعا الصدر م: (فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له) ش: أي للقاضي م: (العلم بذلك، ولا كذلك الشهادة في الصك؛ لأنه في يد غيره) ش:.
وفي "أدب القاضي": من " المبسوط " هاهنا ثلاثة فصول أحدها: القاضي إذا وجد في ديوانه صحيفة شهادة، ولم يتذكر أنهم شهدوا بذلك ولا حكمه فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحكم بدون الذكر، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله -: إذا وجد ذلك في قطرة تحت خاتمه يجوز أن يقضي به وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
والثاني: الشاهد يجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف، ولم يتذكر الحادثة، والثالث: إذا سمع حديثا فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا بخط غيره، لا يحل له الرواية عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بدون التذكر، ولهذا قلت روايته لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أخذ في الفصول الثلاثة بالرخصة تيسيرا.
وقال: يعتمد خطه إذا كان معروفا. وأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسألة القضاء والرواية أخذا بالرخصة؛ لأن المكتوب كان في يده، وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة، ولو نسي القاضي قضاءه، ولم يكن مسجلا فشهد حكمه ولم يمضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد وأحمد وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يقضي به ويمضيه.
م: (وعلى هذا) ش: هذا عطف على قوله: ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أي على ما قيل: من الوجهين من وجه بالاتفاق والاختلاف. م: (إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة) ش: ولم يتذكر الحادثة. م: (أو أخبره قوم ممن يثق بهم أنا شهدنا نحن وأنت) ش: لا يحل له أن يشهد بالاتفاق، وقيل: لا يحل ذلك على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما.(9/125)
قال: ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا في النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القضاء، فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به، وهذا استحسان، والقياس أن لا تجوز؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك بالعلم ولم يحصل، فصار كالبيع. وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون، فلم لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شهادة الشاهد بشيء لم يعاينه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا في النسب) ش: طريق معرفة النسب أن يسمع من فلان بن فلان من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما إذا أخبره عدلان أنه ابن فلان تحل له الشهادة م: (والموت) ش: إذا سمع من الناس أن فلانا مات أو رآهم صنعوا ما يصنع بالموتى وسعه أن يشهد على موته وإن لم يعاين ذلك.
وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أخبرك واحد عدل بالموت وسعك أن تشهد م: (والنكاح) ش: إذا رأى رجلا يدخل على امرأة وسمع من الناس أن فلانا زوجه فلا وسعه أن يشهد أنها زوجته، وإن لم يعاين عقد النكاح.
م: (والدخول) ش: أن يسمع ناسا يقولون: إن فلانا تزوج بفلانة م: (وولاية القاضي) ش: إذا رأى رجلا قضى لرجل بحق من الحقوق وسمع من الناس أنه قاضي هذه البلدة وسعه أن يشهد أنه قاضي بلدة كذا، قضى لفلان بكذا، وإن لم يعاين تقليد الإمام إياه م: (فإنه) ش: أي فإن الشاهد م: (يسعه أن يشهد بهذه الأشياء) ش: الخمسة المذكورة، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: إن كان في غاية الشهرة.
وقال بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز في النكاح، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية م: (إذا أخبره بها) ش: أي إذا أخبر المشاهد بهذه الأشياء م: (من يثق به) .
م: (وهذا استحسان والقياس أن لا تجوز) ش: الشهادة بالتسامع م: (لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك) ش: يحصل م: (بالعلم ولم يحصل، فصار) ش: حكم هذا م: (كالبيع) ش: حيث لا يجوز الشهادة فيه بالتسامع لعدم المشاهدة م: (وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس) ش: لا يطلع عليها إلا هم م: (ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون) ش: كالإرث والنسب والموت والنكاح وثبوت الملك في قضاء القاضي، وكثبوت كمال المهر في الدخول ونحو ذلك مثل النسب والعدة والإحسان.
م: (فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الجرح وتعطيل الأحكام) ش: لأن العادة لم تجر(9/126)
بخلاف البيع؛ لأنه يسمعه كل أحد، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار، وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به، كما قال في الكتاب، ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم،
وقيل في الموت: يكتفي بإخباره واحد أو واحدة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بحضور الناس الولادة، وإنما يرون الصبي مع أمه، وينسبونه إلى الأب، ويقولون: هو ابن فلان، وكذلك عند الموت لا يحضره إلا الأقارب، فإذا رأوا الجنازة تحكموا بأن فلانا مات، وكذلك النكاح لا يحضره كل أحد، فإذا أخبر بعضهم بعضا أن فلانا نكح فلانة، يقتصرون على ذلك في التحقيق.
وكذلك لا يعلم إلا بأمارته، وكذلك ولاية القاضي، لا يحضر بها كل أحد، فإذا قرئ الحكم وحبس القاضي في مجلس الحكام، ونظر بين الخصوم وتحققوا أنه قاضي، ألا ترى أنا نشهد أن عليا بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن لم نعاين الولادة، ونشهد أن أبا بكر وسائر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ماتوا وإن لم نعاين الموت، ونشهد أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن لم نعاين النكاح، وكذا نشهد أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل بها وإن لم نعاين الدخول، وكذا نشهد أن شريح بن الحارث كان قاضيا وإن لم نعاين ذلك.
م: (بخلاف البيع؛ لأنه يسمعه كل أحد) ش: وسبب الملك وهو البدو هو مما يعاينه كل واحد م: (وإنما يجوز للشاهد) ش: هذا جواب عما يقال هذا الاستحسان مخالف للكتاب، فإن العلم مشروط في الكتاب، ولا علم فيما نحن فيه، وتقرير الجواب أن يقال لا نسلم أن لا علم فيما نحن فيه، فإنما يجوز للشاهد م: (أن يشهد بالاشتهار، وذلك) ش: أي الاشتهار م: (بالتواتر أو بإخبار من يثق به) ش: فالأول اشتهار حقيقة، والثاني اشتهار حكما م: (كما قال في الكتاب) ش: أي " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا إشارة إلى ما ذكره بقوله قبل هذا إذا أخبره بها من يثق به.
وبين المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العدد فيمن يثق به شرط بقوله م: (ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم) ش: وهذا على قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر، وإذا ثبتت الشهرة عندهم بخبر عدلين يشترط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة على ما قالوا؛ لأنها توجب زيادة علم شرعا لا يوجبها لفظ الخبر.
[الشهادة بالتسامع على الموت]
م: (وقيل في الموت: يكتفى بإخبار واحد أو واحدة) ش: إنما قال بلفظ قيل؛ لأن في الموت اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عامتهم على أنه يكتفى بإخبار واحد عدل، وهو المروي عن ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: إذا أخبرك عدل بالموت وسعك أن تشهد به، وبعضهم(9/127)
لأنه قلما يشاهد حالة غير الواحد، إذ الإنسان يهابه ويكرهه، فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج ولا كذلك النسب والنكاح،
وينبغي أن يطلق أداء الشهادة ولا يفسر، أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته، كما أن معاينة اليد في الأملاك مطلق للشهادة، ثم إذا فسر لا تقبل، كذا هذا، وكذا لو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم، حل له أن يشهد على كونه قاضيا، وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج، كما إذا رأى عينا في يد غيره.
ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته، فهو معاينة حتى لو فسر للقاضي قبله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا: لا يكتفى بخبر الواحد، كما في النكاح، وإليه ذهب ظهير الدين في "فتاواه "، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الإنسان م: (قلما يشاهد حاله) ش: أي حال الموت م: (غير الواحد، إذ الإنسان يهابه) ش: أي الموت م: (ويكرهه، فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج ولا كذلك النسب والنكاح) ش: فإن فيهما لا بد من عدلين.
وقال شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهاهنا مسألة عجيبة لا رواية بها، وهو أن الموت إذا لم يعاينه إلا واحد، فلو شهد عند القاضي، لا يقضي بشهادته وحده ماذا يصنع، قالوا: يخبر بذلك عدلا مثله، فإذا سمع منه حل له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشاهد حتى يقضي القاضي بشهادتهما.
ولو شهد واحد بالموت، وأخبر بالحياة، فامرأته تأخذ بقول من يخبر بالموت؛ لأنه يثبت العارض ذكره رشيد الدين في فتاواه، وذكر فيه إنما تجوز الشهادة بالتسامع على الموت إذا كان الرجل معروفا، بأن كان عالما أومن العمال، أما إذا كان تاجرا أو من هو مثله لا يجوز إلا بالمعاينة.
[أداء الشهادة بالتسامع]
م: (وينبغي أن يطلق أداء الشهادة) ش: هذا بيان لكيفية الأداء. قوله: "أن يطلق" أي يقول: أشهد أن فلان بن فلان كما نشهد أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ابن أبي قحافة والخطاب ولم نشاهد شيئا من ذلك م: (ولا يفسر، أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته، كما أن معاينة اليد في الأملاك مطلق الشهادة، ثم إذا فسر) ش: إنما يشهد لأنه رآه في يده م: (لا تقبل، كذا هذا، وكذا) ش: لأنه إذا أطلق يعلم أنه وقع في قلبه صدقه، فتكون الشهادة من علم ولا كذلك إذا فسر، ويقول: سمعت هذا م: (لو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم، حل له أن يشهد على كونه قاضيا، وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا، وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره) ش: جاز له أن يشهد أنه امرأته [كما إذا رأى عينا في يد غيره] جاز له أن يشهد له به.
[شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته]
م: (ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته، فهو معاينة حتى لو فسر للقاضي قبله)(9/128)
ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا أنه يجوز في الولاء؛ لأنه بمنزلة النسب؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز في الوقف؛ لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول: الولاء يبتنى على زوال الملك، ولا بد فيه من المعاينة، فكذا فيما يبتنى عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: لأنه لا يدفن إلا الميت ولا يصلى إلا عليه م: (ثم قصر الاستثناء في الكتاب) ش: يعني قصر اعتبار التسامع في " كتاب القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على هذه الأشياء) ش: أي على الأشياء م: (الخمسة) ش: في قوله إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي م: (ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف) ش: قوله ينفي خبر لقوله قصر الاستثناء، وهو مرفوع على الابتداء، مصدر مضاف إلى مفعوله، حاصل المعنى لا تجوز الشهادة بالتسامع في الولاء والوقف.
وفي " شرح الأقطع ": قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تجوز الشهادة بالولاء، أي يسمعا المعتق، هكذا ذكر في الأصل في رواية أبي حفص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، ثم رجع وقال: شهدوا علي ولا شهود جاز، وهو إحدى الروايتين عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو معنى قوله: م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخراً: أنه يجوز في الولاء؛ لأنه بمنزلة النسب) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وبعض أصحاب الشافعي م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» ش: والشهادة على النسب جائزة بالتسامع فكذا على الولاء، ألا ترى إنما نشهد أن قنبر مولى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن عكرمة مولى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإن لم ندرك.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي التسامع أي الشهادة به م: (يجوز في الوقف؛ لأنه يبقى على مر الأعصار) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أنا نقول:) ش: جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الولاء يبتنى على زوال الملك) ش: وهو إزالة ملك اليمين م: (ولا بد فيه من المعاينة) ش: لأنه يحصل بكلام يسمعه الناس م: (فكذا فيما يبتنى عليه) ش: أي فكذا لا بد من المعاينة فيما يبتنى على زوال الملك، وهو الولاء.(9/129)
وأما الوقف، فالصحيح أنه تقبل الشهادة في التسامع في أصله دون شرائطه؛ لأن أصله هو الذي يشتهر، قال: ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له؛ لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك، إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفى بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " أدب القاضي " للشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحلواني: أن الخلاف ثابت في العتق أيضاً؛ لأن الشهادة على الولاء شهادة على العتق أيضاً.
وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشهادة على العتق بالتسامع لا تقبل بالإجماع. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد ومالك - رحمهما الله -: يقبل في العتق أيضاً، ثم الخصاف شرط لسماع الشهادة بالتسامع الولاء عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " المبسوط " شرط لم يشترطه محمد، فقال: إنما يقبل إذا كان المعتق مشهوراً، وللعتق أبوان أو ثلاثة في الإسلام.
[الشهادة بالوقف بالاستفاضة]
م: (وأما الوقف، فالصحيح أنه يقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه؛ لأن أصله هو الذي يشتهر) ش: وشرائطه لا تشتهر، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الأصح.
وفي " شرح الأقطع ": ولا يجوز الشهادة بالوقف بالاستفاضة. وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز، وهو أحد قولي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من بيان الجهة بأن يشهد بأن هذا وقف على المسجد أو على المقبرة أو ما أشبهه، حتى لو لم يذكر ذلك لا تقبل شهادته، وفي " المجتبى ": والمختار أن يقبل على شرائط الوقف أيضاً.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له) ش: وفي " جامع قاضي خان " صورة المسألة رجل رأى عيناً في يد إنسان، ثم رآها في يد الآخر، والأول يدعي الملك، وسعه أن يشهد أنه للمدعي؛ لأن الملك في الأشياء لا يعرف بطريق التعيين، وإنما يعرف بطريق الظاهر، واليد بلا منازع دليل الملك ظاهراً، بل لا دليل لمعرفة الملك للشاهد سوى اليد بلا منازعة م: (لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي) ش: أي اليد م: (مرجع الدلالة في الأسباب كلها) ش: من الشراء والهبة ونحو ذلك م: (فيكتفى بها) ش: أي باليد، فجاز للشاهد أن يشهد بدلالة اليد على الملك، ولكن لا يقول عند الشهادة: أشهد بأنه ملكه؛ لأني رأيته في يده؛ لأن الظاهر هو يكفي لأداء الشهادة ما لا يكفي للقضاء، إلا في العبد والأمة إذا كانا كبيرين يعبران عن أنفسهما؛ لأنهما في يد أنفسهما، فلأن يكون مجرد استعمالهما دليل الملك؛ لأن الحر قد يخدم الحر إعارة أو إجارة، كأنه عبد، وهو إذا كان له يعرف أنهما رقيقان، أما إذا عرفا أنهما رقيقان، فتجوز الشهادة؛ لأن العبد والأمة لا بد لهما على(9/130)
وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له، قالوا: ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - دليل الملك اليد مع التصرف، وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن اليد متنوعة إلى أمانة وملك. قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أنفسهما، وكذا تجوز الشهادة إذا كانا صغيرين لا يعتبران عن أنفسهما، وإن لم يعرفا أنهما رقيقان ولهذا المعنى.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يشترط مع ذلك) ش: أي مع رؤية اليد والتصرف م: (أن يقع في قلبه أنه له) ش: أي أن هذا الشيء لمن في يده، وفي " الفوائد الظهيرية ": أسند هذا القول إلى أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: وعنهما، ووجهه أن الأصل في الشهادة الإحاطة واليقين، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» .
وعند [ ... ] أن ذلك يصار إلى ما يشهد به القلب، ولهذا قيل: إذا رأى إنسان درة ثمينة في يد كناس أو كتاباً في يد جاهل، ليس في أمانة من هو أهل لذلك، لا يسعه أن يشهد بالملك له.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (ويحتمل أن يكون هذا) ش: أي ما ذكر من شهادة القلب م: (تفسيراً لإطلاق محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الرواية فيكون شرطاً على الاتفاق) ش: وهو قوله: " وسعك أن تشهد أنه له "، وذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ويحتمل أن يكون قوله قول الكل، وبه نأخذ.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دليل الملك اليد مع التصرف) ش: أي التصرف مدة طويلة، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حامد الحنبلي م: (وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وهو الخصاف م: (لأن اليد متنوعة إلى أمانة وملك) ش: وكذا إلى ضمان الإنابة كالوكيل والمضارب م: (قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة) ش: بضم، يحتمل إلى محتمل يريد الاحتمال فبقي العلم.
وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز أن يشهد في الكل بالاستفاضة؛ لأنه موجب للعلم الظاهر، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح: لا يجوز؛ لاحتمال أنه أشهر من رجل، ويكون لغيره، وهو كثير فلا(9/131)
ثم المسألة على وجوه: إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا؛ لأن النسب يثبت بالتسامع، فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها، أو عاين المالك دون الملك لا يحل له، وأما العبد والأمة، فإن كان يعرف أنهما رقيقان، فكذلك؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان، إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفيد علماً.
م: (ثم المسألة على وجوه) ش: أي هذه المسألة على وجوه أربعة بالقسمة العقلية، الأول: هو قوله م: (إن عاين المالك الملك) ش: جميعاً فحينئذ م: (حل له أن يشهد) ش: لأن شهادته عن علم وبصيرة؛ لأنه عرف المالك بوجهه واسمه ونسبه، وعرف الملك بحدوده وحقوقه ورآه في يده، الثاني: هو قوله: م: (وكذا إذا عاين الملك بحدوده) ش: تنسب إلى فلان بن فلان الفلاني، ولم يعاينه بوجهه ولم يعرفه بنسبه، وهو معنى قوله م: (دون المالك) ش: يجوز أن يشهد م: (استحساناً) ش: والقياس أن لا يجوز؛ لأنها شهادة بالملك، ثم المالك مع جهالة المشهود له وجه الاستحسان هو قوله م: (لأن النسب) ش: أي نسب المالك م: (يثبت بالتسامع) ش: والشهرة م: (فيحصل معرفته) ش: أي معرفة المالك، فكانت شهادة بمعلوم.
ألا ترى أن صاحب الملك إذا كانت امرأة لا تبرز ولا تخرج، كان اعتبار مشاهدتها وتصرفها بنفسها لجواز الشهادة مبطلاً لحقها ولا يجوز ذلك. وعورض بأنه يستلزم الشهادة بالتسامع في الأموال، وهي باطلة.
وأجيب: بأن الشهادة بالنسبة إلى المال ليست بالتسامع بل بالعيان. والتسامع إنما هو بالنسبة إلى النسب قصداً، وهو مقبول فيه كما تقدم في خبر ذلك ببيت المال، والاعتبار للتضمن، والثالث: وهو قوله: م: (وإن لم يعاينها) ش: أي وإن لم يعاين الملك المالك جميعاً، بأن سمع من الناس أن لفلان بن فلان ضيعة في بلد كذا، حدودها كذا وكذا، ولا يشهد لأنه مجازف في الشهادة، والرابع: وهو قوله م: (أو عاين المالك دون الملك) ش: فكذلك لا يشهد بجهالة المشهود به، وقوله م: (لا يحل له) ش: جواب الوجهين الأخيرين.
م: (وأما العبد والأمة) ش: مردود إلى قوله سوى العبد والأمة، تقريره إذا رأى عبداً أو أمة في يد شخص م: (فإن كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك) ش: أي حل للرائي أن يشهد لذي اليد بالملك م: (لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه) ش: بل يكون في يد المستولي عليه م: (وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك) ش: يعني يحل له أن يشهد م: (لأنه(9/132)
لا بد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء لأن لهما يدا على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك وعن أبي حنيفة - رحمه الله- أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضاً اعتباراً بالثياب، والفرق ما بيناه، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا بد لهما) ش: أي الصغيرين م: (وإن كانا كبيرين) ش: أي العبد والأمة م: (فذلك مصرف الاستثناء) ش: بقوله سوى العبد والأمة م: (لأن لهما يداً على أنفسهما، فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك) ش: حتى إن الصبي الذي يعقل إن أقر بالرق على نفسه لغيره جاز، ويصنع به المقر به ما يصنع بمملوكه.
واعترض بأن الاعتبار في الحرية والرق لو كان لتعبيرهما عن أنفسهما لاعتبر دعوى الحرية منهما بعد الكبر في يد من ادعى رقيقاً، وأجيب: بأنه إنما لم يعتبر ذلك لثبوت الرق عليهما للولي في الصغر، وإنما المعتبر بذلك إذا لم يثبت لأحد عليهما رق وأجيب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضاً) ش: أي في الكبيرين م: (اعتباراً بالثياب) ش: والدواب لدلالة اليد على الملك م: (والفرق ما بيناه) ش: وهو قوله لأن لهما يداً على أنفسهما يدفعان بها يد الغير عنها، بخلاف الثياب والدواب؛ لأنه لا يد لهما على أنفسهما. م: (والله أعلم بالصواب) .(9/133)
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل قال: ولا تقبل شهادة الأعمى، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل فيما يجري فيه التسامع؛ لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله -: يجوز إذا كان بصيرا وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول، ولسانه غير موف، والتعريف يحصل بالنسبة كما في الشهادة على الميت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته]
[شهادة الأعمى]
م: (باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته) ش: أي هذا باب في بيان من تقبل شهادته ولا تقبل، ولما فرغ عن بيان ما يسمع من الشهادة وما لا يسمع شرع في بيان من تسمع منه الشهادة ومن لا تسمع، إلا أنه قدم الأول لأن المحال مشروط، والشرط مقدم كالطهارة، وأصل رد الشهادة ومبناه التهمة. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شهادة لمتهم» ، وهي قد تكون بمعنى في الشاهد كالفسق، وقد تكون لمعنى في المشهود له من قرابة متهم بإيثار المشهود له على المشهود عليه، كالولادة، وقد تكون لخلل في أداة التمييز كالعمى، وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعي، وهو المحدود في القذف بعد التوبة عندنا وقبل التوبة عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تقبل شهادة الأعمى، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل فيما يجري فيه التسامع) ش: كالنسب والموت م: (لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه) ش: أي في السماع.
وبه قال الشافعي ومالك - وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وهو قول النخعي والثوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - والحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تقبل فيما طريقه السماع أيضاً، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - واختاره المزني، وهو قول الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وربيعة والليث وشريح، وعطاء وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وكذا يقبل في الترجمة عند الكل؛ لأن العلم يحصل له فيها كالبصير، إذ حصول العلم بالسماع، وهو كالبصير في السماع، ويعرف القائل باسمه ونسبه.
م: (وقال أبو يوسف والشافعي - رحمهما الله -: يجوز إذا كان بصيراً وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول، ولسانه غير موف) ش: يعني لم تصبه آفة، فقال آيف فلان على ما لم يسم فاعله، أي أصابته آفة فهو مؤوف على مثال مصوف، والآفة العاهة م: (والتعريف) ش: أي تعريف الشهود له وعليه م: (يحصل بالنسبة) ش: بأن يقول أشهد على فلان بن فلان م: (كما في الشهادة على الميت) ش: إذا شهد عليه بأن لفلان عليه كذا من الدين فإنها تقبل بالاتفاق إذا ذكر(9/134)
ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، وفيه شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود، والنسبة لتعريف الغائب، دون الحاضر، فصار كالحدود والقصاص، ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -؛ لأن قيام الأهلية للشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده، وقد بطلت وصار كما إذا خرس، أو جن، أو فسق بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا؛ لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت.
قال: ولا المملوك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضه م: (ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة) ش: أي الصوت م: (وفيه) ش: أي وفي النغمة بتأويل الصوت م: (شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود) ش: فإن للشهود البصر أكثره فيهم غنية عن شهادة الأعمى.
م: (والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر) ش: هذا جواب عن قوله والتعريف يحصل بالنسبة، تقريره أن النسبة إنما تكون مقام الإشارة عند موت الشهود عليه أو غيبته، على أن هناك تقع الإشارة إلى وصي الميت، وهو في ذلك قائم مقامه م: (فصار كالحدود والقصاص) ش: يعني أن في الحدود والقصاص لا تقبل شهادة للشاهد، فكذا هذا.
م: (ولو عمي بعد الأداء) ش: أي ولو عمي الشاهد بعد أداء الشهادة قبل الحكم بها م: (يمتنع القضاء) ش: يعني لم يجز الحكم بها م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأن قيام الأهلية للشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها) ش: أي لصيرورة الشهادة م: (حجة عنده وقد بطلت) ش: أي عند القضاء، ولا قيام لها م: (وصار كما إذا خرس، أو جن، أو فسق) ش: بعد الأداء قبل العقد ألا يقضي القاضي بشهادته، والأمر الكلي في هذا إنما يمنع الأداء منع القضاء؛ لأن المقصود من أدائها القضاء، وهذه الأشياء تمنع الأداء بالإجماع، فمع القضاء والعمى بعد التحمل يمنع الأداء عندهما، فيمنع القضاء، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يمنع الأداء، فلا يمنع القضاء.
م: (بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا) ش: هذا جواب عما يقال: لا نسلم أن قيام الأهلية وقت القضاء شرط، فإن الشاهد إذا مات أو غاب قبل الأداء، لا يمنع القضاء، وتقرير الجواب أن الشهود إذا ماتوا أو غابوا لا يمنع القضاء م: (لأن الأهلية بالموت انتهت) ش: والشيء يتقرر بانتهائه م: (وبالغيبة ما بطلت) ش: أي الشهادة.
ألا ترى أن شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الأصل تقبل شهادته، القضاء يكون بشهادة الأصول، فكذلك اعتراض الموت لا يمنع القضاء بالشهادة.
[شهادة المملوك]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا المملوك) ش: وهذا عطف على قوله شهادة الأعمى، أي ولا تقبل شهادة المملوك، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(9/135)
لأن الشهادة من باب الولاية، وهو لا يلي نفسه فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره
ولا المحدود في القذف وإن تاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] م: (النور الآية: 4) ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا، فيبقى بعد التوبة كأصله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أقبل شهادة العبيد بعضهم على بعض، ولا أقبلها على حر.
وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يقبل على الأحرار والعبيد، وبه قال عثمان البتي - وإسحاق - وأحمد وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وعن الشعبي والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنهما قالا: تقبل في القليل دون الكثير.
ولا تقبل شهادة الصبيان عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وعامة العلماء، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل شهادة الصبيان في الجراح إذا كانوا قد اجتمعوا لأمر مباح قبل أن يتفرقوا.
وروي ذلك عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن أحمد رواية أيضاً، وعن مالك: أنه يقبل في كل شيء لإطلاق النصوص، والعبد أو الصبي عدل، قلنا: الشهادة من باب الولاية، ولا ولاية لهما على أنفسهما، ففي غيرهما أولى، إلا أن يؤديا في الحرية والبلوغ ما تحملا قبلهما؛ لأنهما من أهل الولاية عند الأداء، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.
م: (لأن الشهادة من باب الولاية) ش: لأنها تنفذ القول على الغير م: (وهو) ش: أي العبد م: (لا يلي على نفسه، فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره) ش: وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": حدثنا عبد الله بن محمد، قال حدثنا حفص بن غياث، عن الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا تجوز شهادة العبد
[شهادة المحدود في القذف]
م: (ولا المحدود في القذف وإن تاب) ش: أي ولا تقبل أيضاً شهادة المحدود في القذف.
وقوله: " وإن تاب " واصل بما قبله م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] (النور: الآية 4)) ش: وجه الاستدلال أن الله تعالى نص على الأبد وهو ما لا نهاية له، والتنصيص عليه ينافي القبول في وقت ما م: (ولأنه) ش: يعني ولأن رد الشهادة م: (من تمام الحد لكونه) ش: أي لكون تمام الحد م: (مانعاً) ش: أي عن القذف، لكونه زاجراً إلا أنه لم يؤلم عليه كالحد يؤلم بدونه.
ولأن المقصود من الحد دفع العار عن المقذوف، وذلك في إهدار قبول القاذف أظهر؛ لأنه القذف أذى قلبه، فجزاؤه أن لا تقبل شهادته؛ لأنه فعل لسانه وفاقاً لجريمته، فيكون من تمام الحد م: (فيبقى) ش: أي الرد م: (بعد التوبة كأصله) ش: أي كأصل الحد اعتباراً له بالأصل.(9/136)
بخلاف المحدود في غير القذف؛ لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل إذا تاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] : (النور الآية: 5) ، استثنى التائب. قلنا الاستثناء ينصرف إلى ما يليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، (النور الآية: 4)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف المحدود في غير القذف) ش: هذا جواب عما يقال المحدود في القذف فاسق بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) والفاسق إذا تاب تقبل شهادته كالمحدود في غير القذف، فأجاب بقوله بخلاف المحدود في غير القذف نحو السرقة والزنا وشرب الخمر، حيث تقبل شهادته بعد التوبة م: (لأن الرد) ش: أي رد الشهادة م: (للفسق وقد ارتفع بالتوبة) ش: وفي المحدود في القذف الرد من تمام التوبة فظهر الفرق بينهما.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل) ش: أي توبته م: (إذا تاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] (النور: الآية 5) استثنى التائب) ش: بيانه أن المانع من قبول شهادته الفسق، وبالتوبة ارتفع الفسق فتقبل شهادته قياساً على المحدود في الزنا، أو السرقة أو شرب الخمر إذا تاب فإن شهادته تقبل بالاتفاق إلا عند الحسن بن حي والأوزاعي - رحمهما الله - فإن عندهما لا تقبل شهادة من حد في الإسلام بعد التوبة في قذف أو غيره، كذا ذكر أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي " وبقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، واختلفوا في توبته، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: توبته إكذابه نفسه، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قال: توبة القاذف إكذابه نفسه بأن يقول: كان قذفي باطلاً، وبه قال ابن أبي هبيرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الإصطخري، من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: توبته أن يقول كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله وهل تعتبر مع التوبة إصلاح العمل؟ فيه قولان.
م: (قلنا: الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4)) ش: يعني الاستثناء ليس براجع إلى جميع ما تقدم لأن من جملته قَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، ولا يرتفع الجلد بالتوبة فعلم أن الاستثناء ليس براجع إلى جميع ما تقدم بل إلى ما يليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وليس من رفع الفسق قبول الشهادة كالعدل يوضحه قَوْله تَعَالَى في قصة لوط - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] (الحجر: الآيات 58، 59، 60) ، إن الاستثناء راجع إلى المنجين لا إلى المهلكين، ونقول أيضاً: إن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (النور: الآية 4) ، وليس بمعطوف على أن ما قبله طلبي وهو إخباري، فإن قلت: فاجعله بمعنى الطلب ليصح كما في قَوْله تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] (البقرة: الآية 83) ،(9/137)
أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن
ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته؛ لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق؛ لأنه لا شهادة للعبد أصلا فتمام حده شهادته بعد العتق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: يأباه ضمير الفصل، فإنه يفيد حصر أحد المسندين في الآخر، وهو مؤكد الإخبار به م: (أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن) ش: كما في قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] (مريم: الآية 62) معناه والله أعلم: ولكن سلاماً.
وهذا لأن من شرط الاستثناء كون المستثنى من جنس المستثنى منه وإن يكن له خبر على حدة، وها هنا المستثنى هو الاسم، والمستثنى منه الفعل فلا يكون من جنسه، وله خبر على حدة أيضاً، والاستثناء المنقطع يعمل بطريق المعارضة، ولا معارضة بين حكمه ورد الشهادة، وليس من ضرورة كونه تائباً كونه مقبول الشهادة كالعبد التائب التقي.
وقولنا في هذا هو قول سعيد بن المسيب والحسن وشريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهكذا روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
م: (ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم، تقبل شهادته) ش: ذكر هنا تفريعاً على ما تقدم صورته الذمي إذا حد في قذف لم تجز شهادته بعد ذلك على أهل ذمته، ثم إذا أسلم جازت شهادته على أهل الذمة، وعلى أهل الإسلام جميعاً م: (لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد) ش: أي رد شهادته لأجل قذفه كان من تتمة حده م: (وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى) ش: أي غير الأولى المردودة تتمة للحد.
م: (بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق) ش: حيث لا تقبل شهادته عندنا، وقالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تقبل كما في الكافر م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا شهادة للعبد أصلاً) ش: في حال رقه لا على المسلم ولا على الكافر م: (فتمام حده برد شهادته بعد العتق) ش: لأنه لا بد في حد القذف من رد الشهادة، وإنما حصلت له الشهادة بعد العتق، فترد شهادته الآن تتميماً للحد، وللكافر شهادة على جنسه، فيترتب عليه حكم المسلمين بإسلامه فتقبل شهادته. فإن قيل يشكل بمن زنا في دار الحرب وهو مسلم، ثم خرج إلى دار الإسلام حيث لا يقام عليه حد الزنا، فتوقف المؤثر في العبد ولم يتوقف في الزنا. الجواب أن الزنا في دار الحرب لم يقع موجباً أصلاً، لعدم ولاية الإمام، وإقامة الحد للإمام.
وأما قذف العبد موجب للحد، وتمامه برد شهادته، وقيل في قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بخلاف العبد إذا حد لم تقبل شهادته، لا فائدة في ذكر الحد إذ لو لم يحد ثم أعتق وحد لم تقبل شهادته أيضاً. وأجيب: إنما ذكره لبيان الفرق بينه وبين الكافر.(9/138)
قال: ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه ولأجداده، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره» ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة. ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الكافر لو قذف مسلماً، ثم أسلم ثم حد، لم تقبل شهادته، ولو حد بعض الحد في حال كفره، وبعضه في حال إسلامه ففيه اختلاف الروايتين، وفي الكافر عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في هذه المسألة ثلاث روايات: إحداها: أنه لا تسقط شهادته ما لم يضرب تمام الحد؛ لأن ما دون الحد تقرير، وهو لا يسقط الشهادة، والثانية: إذا أقيم عليه الأكثر تقوم مقام الكل، والثالثة: إذا ضرب سوط سقطت شهادته، والله أعلم.
[شهادة الوالد لولده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده ولا شهادة الولد) ش: أي ولا تقبل شهادة الولد م: (لأبويه ولأجداده) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الذي ذكره بالإجماع.
قلت: عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل شهادة الولد لوالده، وعنه: تقبل شهادة أحدهما للآخر، وهو قول أبي ثور والمزني وداود - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وحكي في القديم عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر صاحب " النهاية " ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخالفنا فيه، فيجوز شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده.
م: (والأصل فيه) ش: أي في رد شهادة هؤلاء بعضهم لبعض م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره» ش: قال مخرج الأحاديث: هذا غريب لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم قال: قال في " الخلاصة " رواية الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: قال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " أدب القاضي ": حدثنا صالح بن زريق، وكان ثقة، قال حدثنا مروان بن معاوية الثراري عن يزيد بن زياد الشامي عن الزهري عن عروة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يجوز شهادة الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشريك لشريكه ولا الأجير لأجيره» .
م: (ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة) ش: أي ولأن منافع الأملاك متصلة في قرابة الأولاد م: (ولهذا) ش: أي ولاتصال المنافع فيهم م: (لا يجوز أداء الزكاة إليهم) ش: فلو جاز شهادة الوالد لولده أو على العكس كان ذلك شهادة نفسه من وجه، فلم يجز وهو معنى قوله م:(9/139)
فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
قال: والمراد بالأجير على ما قالوا: التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه، وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شهادة للقانع بأهل البيت» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فتكون شهادة لنفسه من وجه، أو تتمكن فيه التهمة) ش: وهو ظاهر.
[شهادة الأجير لأستاذه]
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والمراد بالأجير) ش: أي المذكور في الحديث المذكور م: (على ما قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه) ش: أي يعد نفع أستاذه نفع نفسه، وفي " الخلاصة ": ولا يجوز شهادة الأجير لأستاذه، أراد به التلميذ الخاص، والتلميذ الخاص الذي أكل معه وفي عياله، وليس له أجرة المعلومة، وأما الأجير المشترك إذا شهد للمستأجر تقبل، وأما الأجير الواحد وهو الذي استأجره مياومة أو مشاهرة أو مسانهة بأجرة معلومة لا تقبل.
وقال أبو العباس الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس " يقبل شهادة الأجير، ثم قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا محمول على الأجير المشترك؛ لأنه قد ذكر في " نوادر ابن رستم " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أجيز شهادة الأجير مشاهرة، وإن كان أجير مشترك قبلت شهادته م: (وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا شهادة للقانع بأهل البيت» ش: أي التلميذ الخاص، وهو المراد من القانع المذكور في الحديث والحديث أخرجه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم» .
وقال أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والغمر الشحناء وأخرجه الترمذي من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقال حديث غريب والغمر العداوة، وقال أبو عبيد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " غريب الحديث ": الغمر العداوة، وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الغمر الحقد والغل، هو بكسر الغين المعجمة وسكون الميم وفي آخره راء مهملة، والقانع والتابع لأهل البيت كالخادم.
وفي " المغرب ": المتعلم الذي يأكل في بيت أستاذه يكون في معنى القانع المذكور في الحديث(9/140)
وقيل: المراد به الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها.
قال: ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل؛ لأن الأملاك بينهما متميزة، والأيدي متحيزة ولهذا يجري القصاص والحبس بالدين بينهما، ولا معتبر بما فيه من النفع لثبوته ضمنا كما في الغريم إذا شهد لمديونه المفلس. ولنا ما رويناه، ولأن الانتفاع متصل عادة وهو المقصود فيصير شاهدا لنفسه من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل: المراد به الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر) ش: أي يستحق الأجرة م: (بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها) ش: أي على الشهادة؛ لأن شهادته عمل من أعماله، وجميع أعماله للمستأجر في مدة الإجارة.
[شهادة أحد الزوجين للآخر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل) ش: وقال ابن أبي ليلى والثوري والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة الزوجة لزوجها لأن لها حقاً في ماله لو حدث بعشقها فيه، وتقبل شهادة الزوج لها لعدم التهمة م: (لأن الأملاك بينهما) ش: أي بين الزوجين م: (متميزة) ش: بحيث لا يتصرف أحدهما في مال الآخر م: (والأيدي متحيزة) ش: أي مجتمعة بنفسها غير متصرفة في ملك الغير غير متقدمة إليه، إذ الزوجية قد تكون سبباً للتأخر والعداوة. وقد تكون سبباً للميل والإيثار م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تميز الأملاك بينهما وتحيز الأيدي م: (يجري القصاص والحبس بالدين بينهما) ش: أي بين الزوجين يعني يقتص من أحدهما للآخر، ويحبس أحدهما بدين الآخر، وكل من كان كذلك تقبل شهادته في حق صاحبه كالأخوين وأولاد العم م: (ولا معتبر بما فيه من النفع) ش: أي لا معتبر بما في قبول شهادة أحدهما لصاحبه من النفع الحصال منه للشاهد؛ لأن كل واحد منهما بعد نفع صاحبه نفع نفسه معين لا يتهم الشاهد بهذا العذر من النفع م: (لثبوته ضمناً) ش: أي لثبوت هذا النفع من حيث الضمن في الشهادة وليس بقصدي فلا يعتبر.
م: (كما في الغريم) ش: وهو رب الدين م: إذا شهد لمديونه المفلس) ش: حيث تقبل شهادته، وإن كان له فيه نفع؛ لأن النفع حصل ضمناً لا قصداً، م: (ولنا ما رويناه) ش: أراد به الحديث الذي ذكره الآن؛ لأن فيه، ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته م: (ولأن الانتفاع متصل عادة) ش: بينهما عرفاً ولهذا لو وطئ جارية امرأته وقال: ظننت أنها تحل لي لا يحد م: (وهو) ش: أي الانتفاع هو م: (المقصود) ش: من الزوجية حتى بعد الزوج غنياً بما لها قبل في تأويله قَوْله تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] (الضحى الآية: 8) . فأغناك بمال خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهذا لأن الاتحاد بينهما أكثر ما يكون بين الوالد والولد في العادة والشريعة فإنهما بالزوجة يصيران كشخص واحد في إقامة الأسباب المعنية، فإن الإنسان قد يعادي والديه لرضى زوجته ولهذا يستحق أحدهما الميراث من الآخر بغير حجب وإذا كان كذلك م: (فيصير شاهداً لنفسه من(9/141)
وجه أو يصير متهما بخلاف شهادة الغريم لأنه لا ولاية له على المشهود به.
ولا شهادة المولى لعبده؛ لأنه شهادة لنفسه من كل وجه إذا لم يكن على العبد دين أو من وجه إن كان عليه دين؛ لأن الحال موقوف مراعى ولا لمكاتبه لما قلنا ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما لأنه شهادة لنفسه من وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه أو يصير متهماً) ش: في شهادته تجر النفع إلى نفسه وشهادة المتهم مردودة.
م: (بخلاف شهادة الغريم) ش: جواب عما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذلك م: (لأنه) ش: أي لأن الغريم م: (لا ولاية له على المشهود به) ش: إذ هو مال المديون ولا تعرف له عليه، فلم يكن متهماً فجازت شهادته لا يقال: الغريم إذا ظفر بجنس حقه يأخذوه؛ لأن الظفر أمر موهوم وحق الأخذ بناء عليه، ولا كذلك الزوجان.
فإن قلت: إن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ادعت فدك بين يدي أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجوز ذلك حيث شهد لها، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جوزت ذلك أيضاً، حيث استشهدت علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكان إجماعاً، والإجماع مقدم على القياس، وخبر الواحد.
قلت: الصحيح من الرواية: أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رد دعواها، فإنها ادعت فدك ميراثاً من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد دعواها وقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» .
[شهادة المولى لعبده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا شهادة المولى لعبده) ش: أي ولا تقبل شهادة المولى لعبده م: (لأنه شهادة لنفسه من كل وجه إذا لم يكن على العبد دين) ش: لأن العبد وما في يده لمولاه م: (أو من وجه) ش: أي أو شهادة لنفسه من وجه م: (إن كان عليه) ش: أي على العبد م: (دين لأن الحال) ش: أي حال العبد م: (موقوف مراعى) ش: بين أن يصير العبد مقوماً بسبب بيعهم في دينهم، وبين أن يبقى للمولى كما كان بسبب قضاء دينه م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا لمكاتبه) ش: أي ولا تقبل شهادة المولى لمكاتبه م: (لما قلنا) ش: من قوله شهادة لنفسه من وجه أو من كل وجه، وفي بعض النسخ لما قلنا.
وكذا لا يجوز شهادته لمدبره وأم ولده وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (ولا شهادة الشريك لشريكه) ش: أي ولا تقبل شهادة أحد الشريكين للآخر م: (فيما هو من شركتهما) ش: أي من الذي هو مشترك بينهما م: (لأنه شهادة لنفسه من وجه) ش: لأن كل ما يحصل للمشهود له(9/142)
لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة وتقبل شهادة الرجل لأخيه، وعمه لانعدام التهمة؛ لأن الأملاك ومنافعها متباينة، ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض.
قال: ولا تقبل شهادة مخنث، ومراده المخنث في الرديء من الأفعال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للشاهد فيه نصيب وهو معنى قوله م: (لاشتراكهما) ش: أي في الذي يحصل بسبب تلك الشهادة.
م: (ولو شهد) ش: أي الشريك م: (بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة) ش: لأنه شهادة عدل لغيره. وفي " الشامل " ولا تقبل شهادة الشريك المفاوض وإن كان عدلاً فيما خلا الحدود والقصاص، وغير المفاوض أيضاً في تجارته.
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتقبل شهادة الرجل لأخيه وعمه) ش: ولا خلاف فيه إلا أن مالكاً شرط أن لا يكون في عياله. قال بعض أصحابه: يجوز بشرط أن لا يكون مبرزاً له، وقيل: بشرط إن لم ينله صلته، وقال أشهب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في اليسير دون الكثير إلا أن يكون مبرزاً له فيجوز في الكثير.
وقيل: يقبل إلا فيما تتصفح فيه التهمة مثل أن يشهد له بما يكتسب به الشاهد شرفاً وجاهاً، أو يدفع به معرة أو يقضي الطباع والعصبية فيه العصب والحمية كشهادته بأن فلاناً قتله أو جرحه، كذا في " جواهرهم " م: (لانعدام التهمة) ش: يعني في الشهادة لأخيه وعمه م: (لأن الأملاك ومنافعها متباينة) ش: بينهم م: (ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض) ش: وهذا ظاهر، ولأن العداوة والتحاسد بين الإخوة ظاهرة فتنتفي التهمة المانعة في الشهادة.
ألا ترى أن العداوة بين الإخوة أول ما ظهرت في قصة قابيل وهابيل، وكذلك في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإخوته. وفي " الشامل ": قبل لولد الرضاع ولأم المرأة.
وفي " الخلاصة ": وتقبل لأم امرأته [ ... ] ، ولزوج ابنته، ولامرأة ابنه، ولامرأة أبيه، ولأخت امرأته، ومن السلف من قال: لا تقبل شهادة الأخ لأخيه، ذكره شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح أدب القاضي ".
[شهادة المخنث]
م: (قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة مخنث) ش: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (المخنث في الرديء من الأفعال) ش: أي أفعال النساء من التزين بزيهن والتشبه بهن في الفعل والقول، فالفعل مثل كونه محلاً للواطة، والقول مثل تليين كلامه باختياره تشبهاً بالنساء، وإليه أشار العلامة مولانا حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفي " الذخيرة ": التخنيث الفاسق في فعله، فلا تقبل لمعصيته، قال - عليه(9/143)
لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين، وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة، ولا نائحة ولا مغنية؛ لأنهما ترتكبان محرما «فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام -: «لعن الله المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء» وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لأنه) ش: أي لأن المخنث م: (فاسق) ش: في فعله فلا تقبل شهادة الفاسق.
م: (فأما الذي) ش: أي فأما المخنث الذي م: (في كلامه لين) ش: مثل كلام النساء م: (وفي أعضائه تكسر) ش: لخلقه م: (فهو مقبول الشهادة) ش: ألا ترى " أن هنا المخنث كان يدخل بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمع منه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " كلمة شنيعة فأمر بإخراجه ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا نائحة) ش: أي ولا تقبل شهادة نائحة، لأن النوح لما كان منهياً عنه وقد باشرته النائحة لم تؤمن من أن تباشر شهادة الزور أيضاً، فلا تقبل شهادتها. وفي " الذخيرة " لم يرد بالنائحة التي تنوح في مصيبتها، وإنما أراد به التي تنوح في مصيبة غيرها واتخذت ذلك مكسبة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا فيه نظر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النياحة مطلقاً من غير فصل. قلت: يؤيد كلامه أن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقيد بقوله " للناس " م: (ولا مغنية) ش: التغني للهو ولجمع المال حرام بلا خلاف، ولا سيما إذا كان من المرأة؛ لأن رفع الصوت منها حرام، وأما التغني لدفع ضرر نفسه مباح بلا خلاف، والنوح كذلك قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنهما) ش: أي لأن النائحة والمغنية م: (ترتكبان محرماً) .
م: (فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» ش: هذا الحديث أخرجه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مطولاً وفيه: «نهى عن صوتين أحمقين صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة بخمش وجوه، وشق جيوب ورنة شيطان» .(9/144)
قال: ولا مدمن الشرب على اللهو لأنه ارتكب محرم دينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حديث [حسن] ، وفي ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - النائحة والمغنية وصف بصفة صاحبه والتقدير صوت النائحة، وصوت المغنية، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد روى أصحابنا في كتبهم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية» .
قلت: ذهل عن إخراج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلذلك قال: وقد روى أصحابنا وذكر صاحب " الأجناس " عن " أدب القاضي " إملاء قال: لا تقبل شهادة أصحاب المعصية وقطاع الطريق، وأصحاب الفجور بالنساء، ومن يعمل عمل قوم لوط، ومن يقعد مع الغناء والنائحة والنائح، والمغني والمغنية لا تقبل شهادة واحد من هؤلاء إلى هنا لفظه.
[شهادة مدمن الشرب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا مدمن الشرب على اللهو لأنه ارتكب محرم دينه) ش: أي ولا تقبل شهادة مدمن الشرب على اللهو. قال في " الصحاح ": يقال رجل مدمن خمر أي مداوم شربها، وإنما أطلق إدمان الشرب على اللهو ليتناول جميع الأشربة المحرمة من الخمر والسكر، وليقع الزبيب والتمر من غير طبخ والفضيخ، والباذق والفضيخ البسر إذا خرج من الماء وغلي واشتد وقذف بالزبد، وذلك بأن كسر ويدق، والباذق، وهو المطبوخ أقل من الثلثين وكل ذلك محرم شرب قليلها وكثيرها.
إلا أن منكر حرمة الخمر يكفر، ومنكر حرمة هذه الأشربة لا يجب الحد إلا بالسكر، ويشترط الإدمان في الخمر وهذه الأشربة لسقوط العدالة ولهذا قال قاضي خان في " فتاواه "، إنما شرط الإدمان ليظهر ذلك عند الناس، فإن من اتهم في شرب الخمر في بيته، لا تبطل عدالته وإن كانت كبيرة، وإنما تبطل إذا ظهر ذلك أو خرج سكران ليعجز منه الصبيان؛ لأن مثله لا يحترز عن الكذب.
وفي " الفتاوى الصغرى " في مسائل الجرح والتعديل: شرب الخمر في السر لا تسقط العدالة؛ لأن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط الإدمان في كتاب الشهادات، وأما ما سوى هذه الأشربة ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والسكر والفانية والتين فهي مباحة، وإن سكر منها ولا حد على الصحيح من الرواية.
كذا قال " صاحب التحفة "، قال: لأن هذا من جملة الأطعمة، ولا عبرة بالسكر، فإن في بعض البلاد قد يسكر المؤمن الخبر ونحوه البنج يسكر ولبن الرمكة يسكر، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المسكر منه حرام كما في المثلث، ولكن إذا سكر منه لا حد عليه بخلاف المثلث. كذا في " التحفة ".
قلت: لا ينبغي أن يفتى في هذا الزمان إلا بحرمة في الكل، وبالتقرير البالغ غير الخمر(9/145)
قال: ولا من يلعب بالطيور؛ لأنه يورث غفلة، ولأنه قد يقف على عورات النساء، بصعوده على سطحه ليطير طيره، وفي بعض النسخ: ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني. قال: ولا من يغني للناس؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لفساد غالب أهل هذا الزمان، ورأيت بخط شيخي العلامة: المراد من قوله ولا مدمن الشرب على اللهو شرب غير الخمر؛ لأن في الخمر الإدمان، واللهو ليس بشرط، بل صار مردود الشهادة بمجرد شرب الخمر لفسقه.
[شهادة من يلعب بالطيور]
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يلعب بالطيور) ش: ولا خلاف فيه لأهل العلم. وفي قوله " يعلب " إشارة إلى أنه لو اتخذ الحمام في بيته ليستأنس بها، أو لحمل الكتب كما في ديار مصر والشام لا يكون حراماً ولا تسقط عدالته. وفي " المبسوط ": اتخاذ الحمام في البيوت للاستئناس مباح، وكذا اتخاذ برج الحمام.
وفي " الذخيرة " ناقلاً عن شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان لا يطيره، أما لو كان يأتي بيت حمامات غيره فيفرخ ثم هو يبيع ذلك ويأكل ولا يعرف حمامه من حمام غيره يصير مرتكباً محرماً وآكلاً حراماً، فعلى هذا التقدير لا تقبل شهادته وإن لم يقف على عورات النساء لصعوده سطحه م: (لأنه يورث غفلة) ش: ولا يأمن على العقل من الزيادة والنقصان، فلا تقبل شهادته م: (ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره) ش: والنظر على عورات الأجانب والمحرمات حرام، فلا يجوز شهادة مرتكب الحرام.
م: (وفي بعض النسخ) ش: أي وفي بعض نسخ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يلعب بالطنبور) ش: بضم الطاء كذا في " دستور اللغة ". وقال الجوهري: الطنبور فارسي معرب والطنبار لغة م: (وهو) ش: أي الذي يلعب بالطنبور هو م: (المغني) ش: قيل يستغني عن هذا بقوله من يغني للناس لأنه أعم من أن يكون مع آلة لهو أو لا؟، أجيب: بأن يقال لئن سلمنا هذا، ولكنه قصد تخصيص الطنبور بالذكر لكونه من أعظم آلات اللهو عند العجم من الترك وغيرهم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يغني للناس) ش: أي ولا تقبل شهادة من يغني للناس م: (لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة) ش: لا يقال: إن فيه تكراراً؛ لأن من يغني للناس يكون من الرجال والنساء، والمغنية في النساء خاصة.
وقيل: الأصح من الجواب أنه إنما ذكر النائحة والمغنية هناك، مع أن النوح والغناء مشترك بين الرجال والنساء لورود الحديث بذلك اللفظ، ويفهم منه حكم الرجال تبعاً فأعاد حكم الرجال جرياً على الأصل، إذ الأصل أن حكم النساء يستفاد من حكم الرجال، إذ لو اقتصر على الأول لتوهم أن ذلك حكم مخصوص بالنساء، وقيد بقوله " للناس "؛ لأن التغني للناس مكروه باتفاق(9/146)
قال: ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد للفسق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشايخ، والتغني لإسماع الغير مكروه عند عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ومن الناس من أباح ذلك في العرس والوليمة كما أبيح ضرب الدف فيهما، وإن كان فيه نوع لهو ومنهم من قال إذا تغنى ليستفيد منه نظم القوافي ويصير به فصيح اللسان لا بأس به.
وأما التغني لنفسه فقيل: لا يكره، وبه أخذ السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دخل على أبيه البراء بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو من زهاد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وكان يغني، وقيل جميع ذلك مكروه، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحمل حديث البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الوعظ والحكمة. وإنشاد الشعر لا بأس به وإن كان فيه صفة المرأة، فإن كانت حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره هذا في " الذخيرة "، وأما القراءة بالألحان أباحها قوم وحظرها قوم. والمختار إذا كانت الألحان لا يغير الحروف من نظمها مباح، وإلا غير مباح ذكره في " الحلية " بلا خلاف، وفي " التنبيه "، ولا تقبل شهادة القرار والرقاص، والمشعوذ، وقوله " على كبيرة " هو اللهو واللعب، ونص على نوع فسق، فلا يمنع عادة عن المحارم والكذب وسنذكر الخلاف في الكبيرة عن قريب.
[شهادة من يأتي بابا من الكبائر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يأتي باباً من الكبائر التي يتعلق بها الحد للفسق) ش: ولا خلاف فيه، واختلفوا في تفسير الكبيرة، قيل: هي السبع التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هي؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» .
وروى مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكبائر قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور» .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه» .
وروي من «حديث عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قال: قلت له: إن ذلك لعظيم قال: قلت له: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزني بحليلة جارك» .(9/147)
قال: ولا من يدخل الحمام من غير إزار لأن كشف العورة حرام أو يأكل الربا، أو يقامر بالنرد والشطرنج؛ لأن كل ذلك من الكبائر، وكذلك من تفوته الصلاة للاشتغال بهما، فأما مجرد اللعب بالشطرنج، فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الفتاوى الصغرى ": ذكر الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الشهادات " حد الكبيرة ما كان حراماً محصناً يسمى فاحشة في الشرع، كاللواطة أو لم يسم في الشرع فاحشة، لكن يشرع عليها عقوبة محضة بنفس قاطع، أما في الدنيا بالحد كالسرقة والزنا وقتل نفس بغير حق أو بالوعيد بالنار في الآخرة، كأكل مال اليتيم.
وقال بعضهم: ما فيه حد فهو كبيرة وقيل ما كان حراماً بالعينة، وقيل: وأصح ما نقل عن الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرم الله تعالى والدين فهو كبيرة، وكذا الإعانة على المعاصي والفجور والحث عليها من جملة الكبائر، كذا في " الذخيرة " و " المحيط "، وقيل: ما أصر عليه المرء فهو كبيرة، وما استغفر عنه فهو صغيرة والأوجه ما ذكره المتكلمون، أن كل ذنب فوقه ذنب وتحته ذنب، فهو بالنسبة على ما فوقه صغيرة، وإلى ما تحته كبيرة؛ لأن الأشياء الإضافية لا تقترن إلا بالإضافة.
[شهادة من يدخل الحمام بغير إزار]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا من يدخل الحمام من غير إزار) ش: أي ولا تقبل شهادة من يدخل الحمام بغير إزار يستر عورته م: (لأن كشف العورة حرام) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لعن الله الناظر والمنظور إليه» . والشهادة كرامة، فلا يستحقها من يستحق اللعن ولا خلاف فيه م: (أو يأكل الربا أو يقامر بالنرد والشطرنج) ش: هذا عطف على قوله من يدخل الحمام بغير إزار، وهكذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ قال: ولا من يأكل الربا والمقامر بالنرد والشطرنج م: (لأن كل ذلك من الكبائر) ش: وقد مر عن قريب في حديث البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أكل الربا من الكبائر.
وقال صاحب " الأجناس ": ناقلاً عن الأصل: ولا تقبل شهادة آكل الربا إذا كان مشهوراً؛ لأنه إذا لم يكن مشهوراً فطريقه التهمة وعدالته ظاهرة فلا تبطل بتهمة معصية لم يتحقق على ما يأتي الآن. وأما المقامر بالنرد والشطرنج ففيه تفصيل على ما يذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الآن م: (وكذلك) ش: أي لا تقبل شهادة م: من تفوته الصلاة للاشتغال بهما) ش: أي بالنرد والشطرنج.
م: (فأما مجرد اللعب بالشطرنج، فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغاً) ش: فإن الشافعي ومالكاً - رحمهما الله - أباحاه مع الكراهة، وعندنا وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حرام(9/148)
وشرط في الأصل أن يكون أكل الربا مشهورا به؛ لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة، وكل ذلك ربا،
قال: ومن لا يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق، والأكل على الطريق؛ لأنه تارك للمروءة، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب، فيتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله» رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - قيل: هو الشطرنج، أما النرد فحرام بالإجماع. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لعب بالنرد فهو ملعون» ذكره في " الذخيرة "، واللعب بالشطرنج يمنع قبول الشهادة بالإجماع، إذا كان مدمناً عليه أو مقامراً وتفوته الصلاة أو أكثر عليه الحلف الكذب والباطل، وفي " التنبيه ": ومن لعب بالشطرنج في الطريق لا تقبل شهادته.
م: (وشرط في الأصل) ش: أي شرط محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المبسوط " م: (أن يكون أكل الربا مشهوراً به) ش: أي بأكل الربا م: (لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة، وكل ذلك رباً) ش: أي في معنى الربا فعلم أن عدالته لا تسقط بمجرد أكل الربا إذا لم يكن مشهوراً به مصراً عليه. وعن هذا وقع الفرق بين الربا وأكل مال اليتيم، فإن الإدمان فيه غير شرط.
[شهادة من يفعل الأفعال المستحقرة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا من يفعل) ش: أي ولا تقبل شهادة من يفعل م: الأفعال المستحقرة) ش: هكذا وقع في بعض نسخ القدوري المستحقرة، وقال: الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: م: (ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق) ش: ثم قال: هذا لفظ القدوري، في " مختصره "، يعني لفظ المستحقرة، من الاستحقار، ثم قال: وهنا نسخ المستحقرة والمستخفة، والمستخبثة.
وكلها على صيغة اسم المفعول. روي المستخفة بالخاء المشددة المكسورة، وهي أصح النسخ من السخيف، وهو النسبة إلى السخف، وهو رقة العقل في قولهم ثوب سخيف، إذا كان قليل الغزل، وقيل المستخفة بكسر الخاء، أي الأفعال المستخفة بصاحبها م: (لأنه تارك للمروءة) ش: أي الإنسانية. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولك أن تشدد، وقال أبو يزيد: مر الرجل صار ذا مروءة فهو مريء على فعيل م: (وإذا كان) ش: أي الرجل م: (لا يستحي عن مثل ذلك) ش: أي البول على الطريق والأكل عليه م: (لا يمتنع عن الكذب فيتهم) ش: فلا تقبل شهادة(9/149)
ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتهم.
وكل فعل فيه ترك المروءة يوجب سقوط شهادته بلا خلاف بين الأئمة الأربعة، حتى لو مشى في السوق أو في مجامع الناس بسراويل واحد لا تقبل شهادته، وكذا من يمدر رجليه عند الناس ويكشف رأسه في موضع لا عادة فيه، وما أشبه ذلك مما تجتنبه أهل المروءات بلا خلاف، وفي أصحاب الصنائع الدنيئة كالكساح والزبال والكناس والحجام والحائل فيه وجهان.
قال بعض العلماء: لا تقبل شهادة أهل الصناعات، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - لكثرة خلفهم في الوعد، ودناة صنعتهم في المدينة، وقال عامة العلماء: يجوز إذا كانوا عدولاً، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد ومالك - رحمهما الله - وهو الأصح؛ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة.
وفي " المحيط " لا تقبل شهادة النخاسين والدلالين؛ لأنهم يكذبون كثيراً، فأما من عدل منهم تقبل شهادته، وبياع الأكفان لا تقبل شهادته، قال شمس الأئمة: هذا إذا ترصد لذلك العمل، فأما إذا كان يبيع ويشتري الثياب، ويشتري منه الأكفان ويقبل لعدم تمنيته الموت والطاعون.
وفي " الذخيرة ": لا تقبل شهادة الصكاكين؛ لأنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان، وقبض المبيع والبائع ابن فلان قبض الثمن وضمن الدرك، ولم يكن شيء من ذلك، فيكون كذباً محضاً، ولا فرق في الكذب بين القول والكتابة. والصحيح أنه يقبل إذا كان غالب أحوالهم الصلاح، ولا تقبل شهادة القروي والأعرابي البدوي عند بعض العلماء.
وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة القروي البدوي في غير الدماء، ذكره في " الجواهر "، وقال عامة العلماء: تقبل إذا كان عدلاً عالماً بكيفية الشهادة تحملاً وأداء. وفي " مناقب أبي حنيفة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل شهادة البخيل، وقال مالك: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أفرط في البخل لا تقبل ولا تقبل شهادة الطفيلي والمشعوذ والرقاص والمسخرة بلا خلاف.
وقال نصير بن يحيى: من شتم أهله ومماليكه كثيراً في كل ساعة لا تقبل شهادته، وإن كان أحياناً تقبل، وفي " المحيط ": لا تقبل شهادة القيام للناس والجباة، وفي " جامع شمس الأئمة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تقبل شهادة من يجازف في كلامه، ولا خلاف فيه.
[شهادة من يظهر سب السلف]
م: (ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف) ش: المراد من السلف الصحابة والتابعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والسلف جمع سالف، وهو الدهر الماضي، وفي الشرع: اسم لكل من تقلد مذهبه ويقتفى أثره في الدين كأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه، فإنهم(9/150)
لظهور فسقه بخلاف ما يكتمه
وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل؛ لأنه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سلف لأبي حنيفة وأصحابه والتابعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لظهور فسقه) ش: والفاسق لا تقبل شهادته.
م: (بخلاف من يكتمه) ش: أي من يكتم سب السلف؛ لأنه إذا اعتقد ذلك ولم يظهره، وهو عدل في أفعاله، فإن شهادته تقبل.
كذا في " شرح الأقطع "
[شهادة أهل الأهواء]
م: (وتقبل شهادة أهل الأهواء) ش: أي أصحاب البدع كالخارجي والرافضي، والجبري والقدري، والمشبه، والمعطل وسمي أهل البدع أهل الأهواء لميلانهم إلى محبوب نفوسهم بلا دليل شرعي، أو عقلي، والهوى محبوب النفس من هوى الشيء إذا أحبه، وفي " الذخيرة " تقبل شهادته إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون شاحنا، ويكون عدلا في تعاطيه، وهو الصحيح، وأصول أهل الأهواء ستة الجبر والقدر والرفض والخروج والشيعة، والتعطيل، وكل واحد يصير اثني عشر فرقة، فتبلغ إلى اثنين وسبعين فرقة م: (إلا الخطابية) ش: لا تقبل شهادتهم.
وفي " شرح الأقطع " اسم قوم ينسبون إلى ابن الخطاب رجل كان بالكوفة قتله عيسى بن موسى، وكان يزعم أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الإله الأكبر، وجعفر الصادق الإله الأصغر. وكانوا يعتقدون أن من ادعى منهم شيئا على غيره يجب أن يشهد له تقية شيعة، وقيل: الخطابية قوم من الروافض ينسبون إلى الخطاب المذكور، قتله عيسى بن موسى المذكور وصلبه بالكنائس، وفي " المغرب ": الخطابية من الروافض ينسبون إلى أبي الخطاب حمد بن أبي وهب الأجذع.
وقال أبو حاتم الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اسم أبي الخطاب محمد بن أبي ربيب الأسدي الأجذع، وكان يقول بإمامة إسماعيل بن جعفر، فلما مات إسماعيل، رجعوا إلى القول بإمامة جعفر وغلوا في القول غلوا كبيرا. وخرج أبو الخطاب في حياة جعفر بالكوفة فحارب عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأظهر الدعوة إلى جعفر، فتبرأ منه جعفر ولعنه، وادعى عليه، وقتل هو وأصحابه كلهم. وأما رواية الأخبار من أهل الأهواء، اختلف فيه مشايخنا، والأصح عندي لا تقبل، كذا في " المبسوط ".
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل) ش: أي شهادة أهل الأهواء، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أحمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل شهادة ثلاثة منهم العذرية والجهمية، والرافضية م: (لأنه أغلظ وجوه الفسق) ش: لأن الفسق من حيث الاعتقاد شر من الفسق من حيث التعاطي م: (ولنا أنه) ش: أي أن ما ذهبوا إليه م: (فسق من حيث الاعتقاد) ش: لا من حيث(9/151)
وما أوقعه فيه إلا تدينه، وصار كمن يشرب المثلث، أو يأكل متروك التسمية عامدا مستبيحا لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي، أما الخطابية فهم قوم من غلاة الروافض يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم. وقيل: يرون الشهادة لشيعتهم واجبة، فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم.
قال: وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم، وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا تقبل لأنه فاسق، قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره، ولهذا لا تقبل شهادته على المسلم، فصار كالمرتد. ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعاطي م: (وما أوقعه فيه) ش: أي في ذلك الهوى م: (إلا تدينه) ش: أي لعمقه في الدين بذلك الاعتقاد، ألا ترى أن منهم من يعظم الذنب حتى يجعله كفراً، فيكون ممتنعاً عن الكذب م: (وصار) ش: هذا م: (كمن يشرب المثلث) ش: من الحنفية م: (أو يأكل متروك التسمية عامداً) ش: من الشافعية حال كونه م: (مستبيحاً لذلك) ش: أي معتقداً إباحته، فإنه لا ترد شهادته كذا هذا، كذا في " المبسوط ".
م: (بخلاف الفسق من حيث التعاطي) ش: أي من حيث المباشرة حيث ترد شهادته م: (أما الخطابية فهم قوم من غلاة الروافض) ش: الغلاة بالضم جمع غالي من غلاني الأمر يغلو غلواً، أي جاوز فيه الحد م: (يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم) ش: أي يعتقدون جواز الشهادة، وإذا حلف المدعي بين يديهم أنه محق في دعواه، ويقولون: المسلم لا يحلف كاذباً م: (وقيل: يرون الشهادة لشيعتهم) ش: أي فكل من يذهب إلى مذهبهم ويعتقدون كاعتقادهم م: (واجبة) ش: عليهم م: (فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم) ش: فترد.
[شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض]
م: (قال) ش: أي القدوري: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم) ش: أي ملل بالكسر جمع ملة، وهي الدين والشريعة كاليهودي مع النصراني. وقال ابن أبي ليلى: إن اتفقت مللهم تقبل، وإن اختلف لا تقبل، كشهادة اليهودي على النصراني وبالعكس.
م: (وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: لا تقبل) ش: شهادة الكافر م: (لأنه فاسق. قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره) ش: بالنص م: (ولهذا) ش: أي ولكونه فاسقاً م: (لا تقبل شهادته) ش: أي شهادة الكفار م: (على المسلم فصار كالمرتد) ش: في عدم قبول شهادتهم؛ لأن الشهادة من باب الولاية والكرامة، والكافر من أهل الإهانة، فلا تقبل شهادته كالمرتد والحربي.
م: (ولنا ما روي أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض) ش: هذا(9/152)
ولأنه من أهل الولاية على نفسه وعلى أولاده الصغار، فيكون من أهل الشهادة على جنسه والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع؛ لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان كلها بخلاف المرتد؛ لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حديث غريب لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما روى ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننه عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» -، وفي مجالد مقال.
وقال مخرج الأحاديث: هذا - أي الحديث الذي ذكره المصنف - غير مطابق للحكمين، ولو قال " أهل الكتاب " عوض " النصارى "، لكان موافقاً للحكمين عن اتحاد الملة واختلافها كما أخرجه ابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثم حكي عن شيخه علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: ويوجد في بعض نسخ الهداية اليهود عوض النصارى، واحتج له مقلداً لغيره بحديث رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالإسناد المذكور عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فأنشدهما كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة منهم رأوا ذكره في فرجها، مثل الميل في المكحلة رجما فقال: ما يمنعكما أن ترجموهما؟ قال: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشهود فجاءوا أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمهما» . انتهى.
قال مخرج الأحاديث: وجدت في نسخة علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخط يده فدعا باليهود، وهذا تصحيف، وإنما هو " فدعا بالشهود " كشفته في نحو عشرين نسخة، ورواه كذلك إسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي والبزار في مسانيدهم، والدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " سننه " وكلهم قالوا: " فدعا بالشهود ".
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الذمي م: (من أهل الولاية على نفسه وعلى أولاده الصغار) ش: وكل من هو كذلك م: (فيكون من أهل الشهادة على جنسه) ش: فتقبل شهادته على جنسه كالمسلم م: (والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع) ش: هذا جواب عن قوله لأنه فسق. وتقريره أن الفسق مانع من حيث تعاطي محرم الدين أو من حيث الاعتقاد، والثاني ممنوع والأول مسلم إليه بقوله، م: (لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان كلها) ش: وفي بعض النسخ محظور الأديان كلها.
م: (بخلاف المرتد) ش: جواب عن قوله وصار كالمرتد م: (لأنه لا ولاية له) ش: على نفسه ولا على أولاده، وهي ركن الدليل م: (وبخلاف شهادة الذمي على المسلم) ش: جواب عن قوله: ولهذا(9/153)
لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه، ولأنه يتقول عليه لأنه يغيظه قهره إياه، وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر، فلا يحملهم الغيظ على التقول.
قال: ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي، أراد به والله أعلم المستأمن؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ لأن الذمي من أهل دارنا وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي، وتقبل شهادة المستأمنين، بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لا تقبل شهادته على المسلم م: (لأنه) ش: أي لأن الذمي وفي النهاية الضمير في لأنه للشأن أي لأن للشأن إذ لا ولاية للذمي على المسلم م: (لا ولاية له بالإضافة إليه) ش: أي إلى المسلم يعني ولايته بالنسبة إلى المسلم معدومة، وبه احترز عن الإضافة إلى الكافر، فإن له ولاية على ذمي آخر، أو حربي م: (ولأنه) ش: جواب آخر، أي ولان الذمي م: (يتقول عليه) ش: أي يفترض على المسلم م: (لأنه) ش: قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي لأن المسلم، وفي " النهاية " الضمير للشأن أي لأن الشأن هو م: (يغيظه) ش: أي يغيظ الذمي، أي يسخطه م: (قهر إياه) ش: أي قهر المسلم الذمي، فإن قهر المسلم إياه يحمل على التقول على المسلم.
م: (وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر) ش: هذا جواب عن سؤال يرد على أصل المسألة، وهو قوله " وتقبل شهادة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم "، بأن يقال: المعاداة ظاهرة بين اليهود والنصارى وهم غير مخفين في ذلك قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] (البقرة: الآية 113) ، فينبغي أن يقبل كما هو مذهب ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأجاب عنه بقوله: وملل الكفر وإن اختلفت، فلا قهر، يعني وإن اختلفت مللهم لم يغير بعضهم بعضاً لأنهم مقهورون تحت أيدي المسلمين ويعطون الجزية، فلا قهر م: (فلا يحملهم الغيظ على التقول) ش: أي فلا قهر لتحملهم ذلك على التقول على المسلمين.
[شهادة الحربي على الذمي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي، أراد به والله أعلم المستأمن) ش: إنما قيد به لأن الحربي لو دخل بغير استئمان يؤخذ قهراً ويسترق، ويصير عبداً، فلا تقبل شهادة العبد على أحد م: (لأنه) ش: أي لأن الحربي المستأمن م: (لا ولاية له عليه) ش: أي على الذمي م: (لأن الذمي من أهل دارنا) ش: والمستأمن من أهل دار الحرب، واختلاف الدارين حكماً يقطع الولاية م: (وهو) ش: أي الذمي م: (أعلى حالاً منه) ش: أي من المستأمن؛ لأن الذمي أقرب إلى الإسلام منه.
ولهذا يقتل المسلم بالذمي دون المستأمن م: (وتقبل شهادة الذمي عليه) ش: أي على المستأمن، وذلك معلوم بالنسبة إليه يجعله ولاية عليه م: (كشهادة المسلم عليه) ش: أي على المستأمن م: (وعلى الذمي) ش: أي وكشهادة المسلم على الذمي.
م: (وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة) ش: يعني تقبل(9/154)
فإن كانوا من دارين كالروم والترك، لا تقبل؛ لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية. ولهذا يمنع التوارث بخلاف الذمي؛ لأنه من أهل دارنا، ولا كذلك المستأمن، وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل يجتنب الكبائر قبلت شهادته، وإن ألم بمعصية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادة بعضهم على بعض، بشرط اتحاد دارهم؛ لأن للاتحاد تأثيراً في ذلك م: (فإن كانوا من دارين) ش: مختلفين م: (كالروم والترك، لا تقبل) ش: أي شهادة بعضهم على بعض م: (لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية) ش: والعصمة م: (ولهذا يمنع التوارث) ش: عند اختلاف الدارين.
م: (بخلاف الذمي) ش: هذا جواب عما يقال اختلاف الدارين لو قطع الولاية لما قبلت شهادة الذمي على المستأمن لوجوده لكنها قبلت. وتقرير الجواب أن يقال: إن الذمي يخالفه م: (لأنه من أهل دارنا) ش: ومن هو كذلك فله الولاية العامة لشرفها، فكان الواجب قبول شهادة الذمي على المسلم كعكسه، لكن تركناه بالنص كما مر، ولا نص في المستأمن فتقبل شهادة الذمي عليه م: (ولا كذلك المستأمن) ش: لأنه ليس من أهل دارنا، وفيه إشارة إلى أن أهل الذمة إذا كانوا من أهل دارين مختلفين، قبلت شهادة بعضهم على بعض؛ لأنهم من دارنا، فهي تجمعهم بخلاف المستأمن.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن كانت الحسنات) ش: في بعض النسخ وإن كانت الحسنات م: أغلب من السيئات) ش: يعني الصغائر م: (والرجل يجتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصية) ش: أي وإن أذنب بمعصية صغيرة، وألم مشتق من اللمم، وهو ما دون الفاحشة، من صغار الذنوب، وفي " تهذيب الديوان ": ألم أي من اللمم وهو دون الكبيرة من الذنوب.
وفي " الذخيرة ": الحاصل أن ارتكاب الكبيرة يوجب سقوط العدالة، وارتكاب الصغيرة لا توجب سقوطها، إلا أن يصير على الصغيرة كبيرة بالإصرار؛ لأن أحداً من الناس لا يخلو عن صغيرة، ولهذا روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن تغفر اللهم فاغفر جماً، وأي عبد لك ما ألما» ، انتهى.
قلت: كيف نسب هذا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ذكر ابن قتيبة في " غريب الحديث " من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حدثني عبد الرحمن عن عمه عن يعقوب بن مسلم عن أبيه أبي طرفة الهذلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: مر أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول:
لا حم هذا خامس إن تما ... أتمه الله وقد أتما
إن تغفر اللهم فاغفر جماً ... وأي عبد لك ما ألما(9/155)
هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة، إذ لا بد له من توقي الكبائر كلها، وبعد ذلك يعتبر الغالب كما ذكرنا، فأما الإلمام بمعصية لا ينقدح به العدالة المشروطة فلا ترد به الشهادة المشروعة؛ لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد بابه، وهو مفتوح إحياء للحقوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك نسب البيت في " تهذيب الديوان " إلى أبي خراش، ولكن قال أبو سليمان الخطابي في " شرح صحيح البخاري " في كتاب الصوم: إنه قول أبيه.
م: (هذا هو الصحيح) ش: أي المذكور من كون الحسنات، أكثر من السيئات، والرجل ممن يجتنب الكبائر هو الصحيح م: (في حد العدالة المعتبرة) ش: في الشرع م: (إذ لا بد له من توقي الكبائر كلها) ش: وقد مر بيان الكبيرة مع الاختلاف فيها م: (وبعد ذلك) ش: أي بعد التوقي عن الكبائر كلها م: (يعتبر الغالب) ش: يعني في حق الصغائر، فإن كان غالب أحواله الإتيان بما هو مأذون به شرعاً وإن لم يخلو عن الصغيرة كان جائز الشهادة م: (كما ذكرنا) ش: أراد به قوله، وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات ... إلى آخره.
م: (فأما الإلمام بمعصية) ش: من الصغائر م: (لا ينقدح به العدالة المشروطة) ش: في الشرع م: (فلا ترد به الشهادة المشروعة لأن في اعتبار اجتنابه الكل) ش: أي الصغائر كلها أو جميع الذنوب كلها م: (سد بابه) ش: أي باب الشهادة والتذكير باعتبار المذكور؛ لأن أحداً لا يمكنه الاجتناب عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فلو اشترط الاجتناب عن جميع ذلك في العدالة انسد باب الشهادة م: (وهو) ش: أي باب الشهادة م: (مفتوح إحياء) ش: أي لأجل الإحياء م: (للحقوق) ش: أي لحقوق الناس.
[شهادة من ترك الصلاة في الجماعة استخفافا ا] 1
فروع: وفي " أدب القاضي ": وإذا ترك الرجل الصلاة في الجماعة استخفافاً أو مخافة لم تقبل شهادته. قال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يرد بالاستخفاف الاستهزاء؛ لأن الاستهزاء لشيء من الشرائع كفر.
وفي " الفتاوى الصغرى ": تفويت الجماعة كما يفعله العوام، وكذا ترك الجمعة من غير عذر تسقط العدالة.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضعين، فذكر في أحدهما للترك، ثلاثاً وهو الذي اختاره شمس الأئمة السرخسي، ولم يذكر في الموضع الثاني تكرار الترك، قال: من ترك الجمعة رغبة عنها على غير تأويل، فشهادته غير جائزة، وهو الذي اختاره شمس الأئمة الحلواني، وأما إذا تركها لمرض، أو لبعد المصر أو يتأول بأن كان الإمام لفسق لا تسقط عدالته.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التأويل أن يكون الإمام ظالماً، أو يؤخر الأداء، وهو يعتقد في أول الوقت، قال الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من أكل فوق الشبع سقطت عدالته عند الأكثر(9/156)
قال: وتقبل شهادة الأقلف؛ لأنه لايخل بالعدالة، إلا إذا تركه استخفافا بالدين لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومن خرج للنظر عند قدوم الأمير، لا تقبل شهادته. وعن شداد أنه رد شهادته شيخ صالح لمحاسبة ابنه في النفقة في طريق مكة.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ركوب البحر للتجارة والتفرج مسقط للشهادة، وكذا التجارة إلى أرض الكفار وقرى فارس وأشباهه؛ لأنه خاطر بدينه ونفسه ليتناول مالاً فلا بد من أن يكذب ويأخذ المال، وقرى فارس يطعمونه الربا.
وقيل: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته، ومن أخذ سوق النخاسين مقاطعة وأشهد على وثيقها شهوداً فلو شهدوا حل لهم اللعن؛ لأنه شهادة على الباطل، وكذا لو شهد ما على إقراره، وهكذا لو شهدوا في كل إقرار بناء على باطل، والفاسق تقبل شهادته بعد ستة أشهر وقيل بعد سنة.
قال الفضلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال اتركيه بعد ستة أشهر ثم رجع، وقال: بعد سنة.
وقال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يسعه ما لم يمتحنه في المعقود، وترك الأمانة وقيل لا يكفيه ذلك ما لم يمتحنه في كل الأمانات مراراً، ولو عرف عدالته ثم انقطع عنه إن لم يتطاول الوقت وسعه أن يزكيه بتلك المعرفة، وإلا فلا، ومدة التطاول قبل ستة أشهر، وقيل سنة، وقيل من وقت التزكية فهو محظي، وهذا على ما يقع القلب، فربما يعرف أحد في شهر والآخر لا يعرفه سنة.
[شهادة الأقلف] 1
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتقبل شهادة الأقلف) ش: وهو الذي لم يختتن م: (لأنه) ش: أي لأن ترك الختان م: (لا يخل بالعدالة) ش: لأن الختان سنة عند علمائنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وترك السنة لا يخل بالعدالة.
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظاهر مذهبه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه واجب م: (إلا إذا تركه) ش: أي الختان م: (استخفافاً بالدين؛ لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلاً) .
ش: وأما إذا تركه بعذر لا تسقط عدالته، والعذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك، وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقدر للختان وقتاً معيناً، إذ المقادير بالشرع، ولم يرد في ذلك نص، والإجماع والمتأخرون بعضهم قدره من سبع سنين إلى عشر، وبعضهم اليوم السابع من ولادته، أو بعد السابع إن احتمل الصبي ذلك ولم يهلك، لما روي أن الحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ختنا ليوم(9/157)
قال: والخصي، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل شهادة علقمة الخصي؛ ولأنه قطع عضو منه ظلما، فصار كما إذا قطعت يده، قال وولد الزنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السابع، ولكنه شاذ، كذا ذكره في " الذخيرة "، وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا، حتى يصير ابن عشر سنين؛ لأنه حينئذ أمر بالضرب على ترك الصلاة.
وقال أصحابه: ختانه يجب عليه بعد بلوغه، ويستحب في اليوم السابع، وقال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان لا يخاف فتركه تهوناً بالسنة، فإنه يصير فاسقاً، ولا تقبل شهادته.
وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لا تقبل شهادة الأقلف، ولا تقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته وهو مذهبه، كذا في " فتاوى الولوالجي "، وقال الشيخ أبو نصر البغدادي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإنما أراد به المجوس.
[شهادة منزوع الخصيتين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الخصي) ش: على وزن فعيل، وهو منزوع الخصيتين، يقال: خصاه، أي نزع خصيتيه، والخصي الجمع على خصيان م: (لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل شهادة علقمة الخصي) ش: على قدامة بن مظعون، رواه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه ": حدثنا ابن علية عن ابن عون عن ابن سيرين أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجاز شهادة علقمة الخصي على ابن مظعون. انتهى.
وقدامة بن مظعون بن حبيب القرشي الجمحي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الصحابة، شهد بدراً وسائر المشاهد، استعمله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على البحرين ثم عزله، وهو خال عبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مات سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثمان وستين، وقصته طويلة، ملخصها: أن الجارود سيد عبد القيس من البحرين شهد على قدامة أنه يشرب الخمر.
قال عمر: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل معك شاهد آخر؟ قال علقمة الخصي إني أشهد أني قد رأيته يعبها، ثم إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد قدامة الحد.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الخصي م: (قطع عضو منه ظلما، فصار كما إذا قطعت يده) ش: فإن قطع سائر الأعضاء لا تسقط العدالة، فكذا هذا.
[شهادة ولد الزنا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وولد الزنا) ش: أي تقبل شهادة ولد الزنا(9/158)
لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما، وهو مسلم وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل في الزنا؛ لأنه يجب أن يكون غيره كمثله فيتهم. قلنا: العدل لا يختار ذلك ولا يستحبه، والكلام في العدل. قال: وشهادة الخنثى جائزة؛ لأنه رجل أو امرأة، وشهادة الجنسين مقبولة بالنص،
وشهادة العمال جائزة، والمراد عمال السلطان عند عامة المشايخ؛ لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعوانا على الظلم، وقيل: العامل إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما وهو مسلم) ش: أي ككفر أبويه، فلا يؤخذ بكفرهما، قال عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] (الأنعام: الآية 164) م: (وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل) ش: أي شهادة ولد الزنا م: (في الزنا) ش: أي في الشهادة على الزنا م: (لأنه يجب أن يكون غيره كمثله) ش: والكاف زائدة، كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ} [الشورى: 11] م: (فيتهم) ش: فلا تقبل م: (قلنا: العدل لا يختار ذلك) ش: أي لا يختار أن يكون غيره مثله م: (ولا يستحبه، والكلام في العدل) ش: يعني الكلام في قبول شهادة ولد الزنا إذا كان عدلاً؛ لأن فسق أبويه لا يضره كما ذكرناه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وشهادة الخنثى جائزة) ش: والخنثى هو الذي له آلة الرجل وآلة المرأة م: (لأنه) ش: أي لأن الخنثى م: (رجل أو امرأة وشهادة الجنسين مقبولة بالنص) ش: قال الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، ويشهد مع رجل وامرأة للاحتياط، وينبغي أن لا تقبل شهادته في الحدود والقصاص كالنساء، لاحتمال أن يكون امرأته.
[شهادة العمال]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وشهادة العمال) ش: بضم العين وتشديد الميم جمع عامل م: (جائزة) ش: هو من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يجيز شهادة العمال.
قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والمراد عمال السلطان) ش: يعني الذين كانوا أعوان السلطان في ذلك العصر؛ لأن الصلاح كان غالباً عليهم، وهذا م: (عند عامة المشايخ) ش: لأنهم كانوا يعينونه في أخذ الحقوق الواجبة كالخروج وزكاة السوائم م: (لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعواناً على الظلم) ش: كما في زماننا، فلا تقبل شهادتهم؛ لأن الظلم غالب فيهم، وانظر إلى عمال سلطان مصر هل ترى أظلم منهم، ومع ظلمهم أكثرهم فسقة.
م: (وقيل: العامل إذا كان وجيهاً) ش: أي ذا وجاهة وشرف م: (في الناس ذا مروءة) ش: أي إنسانية م: (لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في أوائل(9/159)
في الفاسق؛ لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظا للمروءة، ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة. قال: وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك فهو جائز استحسانا، وإن أنكر الوصي لم يجز، وفي القياس لا يجوز وإن ادعى، وعلى هذا إذا شهد الموصي لهما بذلك أو غريمان لهما على الميت دين أو للميت عليهما دين أو شهد الوصيان أنه أوصى إلى هذا الرجل معهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب الشهادات م: (في الفاسق؛ لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظاً للمروءة، ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة) ش: لأنه يأنف عن ذلك حافظاً على حرمته.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل: أراد العمال الذين يعملون بأيديهم ويؤاجروا أنفسهم؛ لأن من الناس من لا تقبل شهادة أهل الصناعات الخسيسة، وإنما أورد لهذا القول؛ لأن كسبهم أطيب الكسب على ما جاء في الحديث «أفضل الناس عند الله تعالى من يأكل من كسب يده» ، فلا يوجب ذلك جرحاً.
وذكر الصدر الشهيد: أن شهادة الريس والخاني في السكة الذي يأخذ الدراهم والضراب الذي يجمع عنده الدراهم يأخذها طوعاً لا تقبل. م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك) ش: أي الوصاية م: (فهو جائز استحساناً، وإن أنكر الوصي) ش: أي الوصاية م: (لم يجز) ش: أي شهادتهما م: (وفي القياس لا يجوز وإن ادعى) ش: أي الوصاية، وهنا خمس مسائل، أحدها ما ذكره بقوله وإذا شهد الرجلان إلى آخره.
وأشار إلى الأربعة الأخرى بقوله م: (وعلى هذا) ش: أي على ما ذكر من الجواز عند دعوى الوصي بذلك، وعدمه عند عدم دعواه بذلك.
الأولى من الأربعة: هو قوله: م: (إذا شهد الموصى لهما بذلك) ش: أي بأن أباهما أوصى إلى فلان، توضيحه أن الموصى لهما بشيء من المال شهد أن الميت أوصى إلى زيد مثلاً يكون وصياً على أولاده وأمواله.
الثانية: هو قوله: م: (أو غريمان لهما على الميت دين) ش: أي أو شهد الغريمان لهما على الميت دين، والضمير في لهما يرجع إلى الغريمين.
الثالثة: هو قوله: م: (أو للميت عليهما دين) ش: أي أو شهد الغريمان للميت عليهما، أي على الغريمين دين وقوله دين يشمل هذا والمسألة التي قبلها أيضاً.
الرابعة: هو قوله: م: (أو شهد الوصيان أنه) ش: أي أن الميت م: (أوصى إلى هذا الرجل معهما) ش: أي مع الوصيين، ويشهد كل فريق أن الميت أوصى إلى هذا وهو يدع ذلك جازت(9/160)
وجه القياس أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه، وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالبا والموت معروفا، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة،
والوصيان إذا أقرا أن معهما ثالثا يملك القاضي نصف ثالث معهما لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكر ولم يعرف الموت؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهادة، ولا يجوز قياساً، ولو أنكر الوصي ذلك لم يجز ذلك قياساً واستحساناً.
م: (وجه القياس: أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه) ش: وهذا لأن الوارثين قصدا بهذه الشهادة نصب من يتصرف لها، ويقوم بإحياء حقوقهما، والغريمين قصدا من يستوفيان منه حقهما، ويبرآن بالدفع إليه، والوصيين قصدا نصب من يعينهما على التصرف في مال الميت والوصي لهما قصدا نصيب من يدفع إليهما حقوقهما، فكان الكل يجران إلى أنفسهما نفعاً بشهادتهما فترد، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن شهادة الجار لنفسه نفعاً لا يقبل بالإجماع.
م: (ووجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان) ش: أي الوصي م: (طالباً والموت معروفاً) ش: يعني: ظاهر؛ لأن القاضي، لا يثبت له بهذه الشهادة، ولاية لم تكن.
م: (فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين) ش: لأن القاضي يلزمه أن يتأمل في هذا الوصي أنه هل يصلح للوصاية لأمانته وديانته وهدايته، وهما بهذه الشهادة زكياه. وأخبر القاضي أنه أهل لذلك، فكفيت عنه مؤنة التعيين، أي تعيين الوصي.
م: (لا أن يثبت بها شيء) ش: أي بهذه الشهادة شيء يعني من ولاية لم تكن م: (فصار) ش: هذا م: (كالقرعة) ش: في أنها ليست بحجة، هي دافعة مؤنة تعيين القاضي لدفع التهمة، وأراد به القرعة التي بعد القسمة لتعيين الأنصباء، وأنها ليست بحجة، ومع هذا يجوز استعمالها في تعيين الأنصباء لدفع التهمة عن القاضي، فصلحت دافعة لا موجبة، فكذا هذه الشهادة تدفع عن القاضي مؤنة التعيين إلا أن يثبت شيئاً لم يكن، فافهم.
[شهادة الوصيين إذا أقرا أن معهما ثالثا]
م: (والوصيان إذا أقرا) ش: هذا جواب عما يقال ليس للقاضي نصب وصي ثالث، فكانت الشهادة موجبة عليه ما لم يكن له، وتقرير الجواب أن الوصيين إذا أقرا، يعني إذا اعترفا م: أن معهما ثالثاً) ش: أي وصياً ثالثاً، واعترافهما بذلك لأجل عجزهما، فحينئذ م: (يملك القاضي نصف ثالث) ش: أي وصي الثالث.
م: (معهما) ش: أي مع الوصيين م: (لعجزهما عن التصرف باعترافهما) ش: أي عن التصرف بعدم استقلالهما به.
م: (بخلاف ما إذا أنكر) ش: أي الوصي م: (ولم يعرف الموت) ش: لا تقبل الشهادة م: (لأنه)(9/161)
ليس له ولاية نصب الوصي، فتكون الشهادة هي الموجبة، وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة وإن لم يكن الموت معروفا؛ لأنهما يقران على أنفسهما، فيثبت الموت باعترافهما في حقهما، وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة، فادعى الوكيل أو أنكره لا تقبل شهادتهما؛ لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب، فلو ثبت إنما يثبت بشهادتهما، وهي غير موجبة لمكان التهمة.
قال: ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح مجرد ولا يحكم بذلك؛ لأن الفسق بما لا يدخل تحت الحكم؛ لأن له الدفع بالتوبة، فلا يتحقق الإلزام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن القاضي م: (ليس له ولاية نصب الوصي) ش: بغير رضاه أو برضاه، والموت ليس بمعروف م: (فتكون الشهادة هي الموجبة) ش: أي كثبوت الوصاية، فلا تقبل بسبب التهمة م: (وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة، وإن لم يكن الموت معروفاً؛ لأنهما يقران على أنفسهما) ش: بحق قبض الدين، فانتفت التهمة؛ لأن ضررهما في ذلك أكثر من نفعهما فكانت الشهادة على أنفسهما، وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة، وهي الإقرار م: (فيثبت الموت باعترافهما في حقهما) ش: أي يثبت موت رب الدين بإقرارهما في حق الدين م: (وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة فادعى الوكيل) ش: أي الوكالة م: (أو أنكره) ش: أي الوكالة.
م: (لم تقبل شهادتهما؛ لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب فلو ثبت) ش: أي التوكيل م: (إنما يثبت بشهادتهما وهي) ش: أي هذه الشهادة م: (غير موجبة) ش: للثبوت م: (لمكان التهمة) ش: لأنهما يشهدان لأبيهما.
[الشهادة على جرح مجرد]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح مجرد) ش: أي جرح مجرد يتضمن لتعيق الشهود من غير أن يضمن إيجاب حق من حقوق الشرع أو من حقوق العباد، نحو أن يشهد أن الشهود فسقة أو زناة أو أكلة ربا، أو شربة خمر، أو على إقرارهم أنهم شهدوا بالزور، أو إقرارهم أنهم أجرتي إذا هذه الشهادة، أو على إقرارهم أن المدعي مبطل في هذه الدعوى، أو على إقرارهم أن لا شهادة لهم على المدعى عليه في هذه الحادثة ففي هذه الوجوه لا تقبل شهادتهم.
م: (ولا يحكم) ش: أي القاضي م: (بذلك) ش: أي بالجرح المجرد م: (لأن الفسق مما لا يدخل تحت الحكم؛ لأن له) ش: أي للمقضى عليه م: (الدفع بالتوبة) ش: أي دفع الحكم والإلزام بإظهار التوبة، وسماع الشهادة، إنما هو بالحكم والإلزام م: (فلا يتحقق الإلزام) ش: لذلك.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل قوله ولا يحكم بذلك تكراره؛ لأن بقوله: " لا تسمع الشهادة على جرح يفهم "، أجيب: بأنه ممكن أن لا يسمع ويحكم بعلمه في صورة، فجاز(9/162)
ولأنه هتك الستر والستر واجب، والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق، وذلك فيما يدخل تحت الحكم إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل؛ لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم.
قال: ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود، لم تقبل؛ لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار وإن كان أمرا زائدا عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الانفكاك بينهما في الجملة أورده لنفي الاحتمال في هذه الصورة.
م: (ولأنه) ش: أي في الجرح المجرد م: (هتك الستر والستر واجب) ش: وهو إظهار الفاحشة م: (والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق، وذلك فيما يدخل تحت الحكم) ش: بالنص هو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] الآية (النور: الآية 19) . وفي بعض النسخ: واجب دون الإشاعة وإنها حرام، فيكون المشاهد فاسقاً بهتك واجب الستر، وتعاطي إظهار الحرام، فلا يسمعها الحاكم م: (إلا إذا شهدوا) ش: استثناء من قوله؛ لأن الفسق، وهو منقطع لكن إلا إذا شهد شهود المدعى عليه.
م: (على إقرار المدعي بذلك تقبل) ش: أي بالجرح بأنه إقران شهودي فسقة فإنها تقبل م: (لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم) ش: أي ما لم تظهره الفاحشة، وإنما حكوها عن غيرهم، وهو المدعي والحاكي لإظهارها ليس كمظهرها - وفي بعض النسخ -: ولو شهدوا على إقرار المدعي بذلك وتقبل.
[أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود، لم تقبل؛ لأنه شهادة على جرح مجرد) ش: صورتها في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل أقام البينة أن هذا استأجر الشهود، قال: لا أقبل البينة على استئجار الشهود، انتهى.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وفي قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تقبل؛ لأنه أثبت أنهم فسقة وشهادة الفسقة لا تقبل. ثم قال الفقيه: وهذا القول أحسن، وذكر فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره في " شرح الجامع الصغير ": ذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجرح المجرد أنه مقبول، وقال الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تهذيب أدب القاضي ": وظاهر الرواية عن أصحابنا أنه لا تقبل الشهادة على الجرح المجرد.
م: (والاستئجار وإن كان أمراً زائداً عليه) ش: هذا جواب عما يقال: إن قول المدعي استأجرهم ليس بجرح مجرد، بل فيه إثبات أمر زائد وهو الاستئجار، وهو حق المدعي، فيثبت الجرح في ضمنه، وأجاب: بأن الاستئجار، وإن كان أمراً زائداً عليه، أي على الجرح المجرد م:(9/163)
فلا خصم في إثباته؛ لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه، حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل؛ لأنه خصم في ذلك، ثم يثبت الجرح بناء عليه. وكذا إذا أقامها على أني صالحت هؤلاء الشهود على كذا من المال، ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل، وقد شهدوا، وطالبهم برد ذلك المال، ولهذا قلنا: إنه لو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف، أو شارب خمر، أو قاذف أو شريك المدعي، تقبل.
قال: ومن شهد ولم يبرح حتى قال: أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلا، جازت شهادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فلا خصم في إثباته؛ لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه) ش: إذ لا تعلق بالأجرة، فبقي جرحاً مجدداً.
م: (حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل؛ لأنه خصم في ذلك) ش: أي لأن المدعي خصم للمدعى عليه فيما يدعيه م: (ثم يثبت الجرح بناء عليه) ش: لأن الجرح تحت الحكم، ويثبت بناء عليه؛ لأنه جرح مركب فافهم.
م: (وكذا) ش: وكذا يقبل م: (إذا أقامها) ش: أي لو أقام المدعى عليه البينة م: (على أني صالحت هؤلاء الشهود على كذا من المال، ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل وقد شهدوا وطالبهم برد ذلك المال) ش: لما ذكرنا أنه خصهم في ذلك فتقبل بينته.
م: (ولهذا قلنا) ش: ولما قلنا: إنه لو أقام البينة على جرح فيه حق من حقوق العباد، أو من حقوق الشرع.
كذا قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كذا قيل، وليس له ذكر المتن، وقيل " لما قلنا " من الدليلين في الجرح المجرد، قلنا كذا وهو بعيد، فكان المناسب أن يقول: ولذلك وهو أسهل. والمعنى إذا أقام المدعى عليه البينة وهو معنى قوله م: (إنه) ش: أي أن المدعى عليه م: (لو أقام البينة أن الشاهد عبد، أو محدود في قذف، أو شارب خمر أو قاذف، أو شريك المدعي تقبل) ش: أي البينة لما كان الحاجة إلى إحياء هذه الحقوق، وفيما قال: إنه محدود في قذف ليس إشاعة الفاحشة؛ لأن الإظهار حصل بقضاء القاضي، وإنما حكوا عن إظهار الفاحشة عن الغير.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن شهد ولم يبرح) ش: أي لم يزل في مكانه م: (حتى قال: أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلاً) ش: أي عدالته إن كانت ظاهرة عند القاضي م: (جازت شهادته) ش: وإن لم يكن يسأل عنه، فقيل: إنه عدل، جازت شهادته. كذا في " الجامع البرهاني ". وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ناقلاً عن(9/164)
ومعنى قوله: أوهمت، أي: أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة. ووجهه أن الشاهد قد يبتلى بمثله لمهابة مجلس القضاء، فكان العذر واضحا، فتقبل إذا تداركه في أوانه وهو عدل، بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال: أوهمت لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة فوجب الاحتياط، ولأن المجلس إذا اتحد لحق الملحق بأصل الشهادة، فصار ككلام واحد، ولا كذلك إذا اختلف،
وعلى هذا وقع الغلط في بعض الحدود أو في بعض النسب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعنى قوله أوهمت، أي أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة) ش: قوله كانت باطلة جملة فعلية وقعت صفة لقوله بزيادة م: (ووجهه) ش: أي وجه جواز شهادته م: (أن الشاهد قد يبتلى بمثله) ش: أي بمثل ما ذكر من قوله أوهمت م: (لمهابة مجلس القضاء) ش: لأن مهابة مجلس القضاء يوقع عليه الغلط بالزيادة أو النقصان م: (فكان العذر واضحاً) ش: فإن كان كذلك م: (فتقبل) ش: أي شهادته م: (إذا تداركه في أوانه)
ش: وأوانه قبل البراح من مكانه، فإذا تدارك الغلط قبل البراح م: (وهو عدل) ش: قبل ذلك منه فكان ذلك ملحقاً بأصل شهادته.
م: (بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال: أوهمت) ش: حيث لا تقبل شهادته م: (لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة) ش: وذلك بالجماعة الشاهد بحطام الدنيا، فإذا كان كذلك م: (فوجب الاحتياط) ش:.
قالوا: هذا إذا كان الموضع موضع الشبهة، يعني شبهة التلبيس. أما إذا لم يكن، فلا بأس بإعادة الكلام إذا كان عدلاً، سواء اتحد المجلس أو اختلف، كما إذا ترك لفظ الشهادة أو مثلها، يجوز أن يترك لفظ اسم المدعي أو المدعى عليه، أو يترك الإشارة إلى المدعي أو المدعى عليه.
م: (ولأن المجلس إذا اتحد) ش: هذا دليل آخر على المعنى، يعني إن اتحد المجلس م: (لحق الملحق) ش: بفتح الحاء أي الذي لحقه من الكلام بأول كلامه م: (بأصل الشهادة، فصار ككلام واحد) ش: لأن اتحاد المجلس بجمع المتفرقات، وهذا يوجب العمل بالشهادة الثانية في الزيادة والنقصان؛ لأن الحادثة بعد الشهادة من العدل في المجلس كالقرون بأصلها، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولا كذلك إذا اختلف) ش: أي لا يلحق الملحق بأصل الشهادة إذا اختلف المجلس للانقطاع بين الكلامين باختلاف المجلس.
[شهادة من ذكر الجانب الشرقي مكان الجانب الغربي أو على العكس]
م: (وعلى هذا) ش: أي على اعتبار المجلس في دعوى التوهم م: (إذا وقع الغلط في بعض الحدود) ش: بأن ذكر الجانب الشرقي مكان الجانب الغربي أو على العكس م: (أو في بعض النسب) ش: بأن ذكر محمد بن أحمد بن عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد بن علي بن عمر: مثلاً تقبل(9/165)
وهذا إذا كان موضع شبهة. فأما إذا لم يكن فلا بأس بإعادة الكلام، مثل أن يدع لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك، وإن قام عن المجلس بعد أن يكون عدلا. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: أنه يقبل قوله في غير المجلس إذا كان عدلا، والظاهر ما ذكرناه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادته إذا تداركه في المجلس ولا تقبل بعده.
م: (وهذا) ش: أي باعتبار اتحاد المجلس في عدم التلبيس، واعتبار اختلافه في وجود التلبيس م: (إذا كان موضع شبهة) ش: يعني إذا كان ذلك الموضع موضع شبهة التلبيس.
م: (فأما إذا لم يكن) ش: موضع شبهة التلبيس م: (فلا بأس بإعادة الكلام) ش: يعني باستئنافه م: (مثل أن يدع) ش: أي يترك م: (لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك) ش: بأن يترك اسم المدعي أو المدعى عليه أو يترك الإشارة إلى أحدهما.
م: (وإن قام عن المجلس) ش: واصل بما قبله م: (بعد أن يكون عدلاً) ش: وقد مر هذا عن قريب.
م: (وعن أبي حنيفة) ش: فيما روى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه م: (وأبي يوسف -رحمهما الله) ش: فيما روى بشر عنه م: (أنه يقبل قوله) ش: أي قول الشاهد م: (في غير المجلس) ش: أي في جميع المجالس م: (إذا كان عدلاً) ش: أي إذا كان الشاهد عدلاً.
م: (والظاهر ما ذكرناه) ش: يعني أن ظاهر الرواية ما ذكرناه، وهو أن شهادته تجوز إذا قال: أوهمت إذا لم يبرح مكانه، بعد أن كان عدلاً. فإن برح فلا هكذا فسر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: والظاهر ما ذكرناه، وهو أن يقبل في المجلس، أي في موضع شبهة التلبيس وبعده وفي غير موضع شبهة التلبيس يقبل في جميع الأوقات.
وفي " نوادر ابن سماعة " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا شهد بالدار للمدعي، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم قالا لا ندري لمن إلينا لا أضمنهما قيمة البناء، كأننا شككنا في شهادتنا.
وإن قالا: ليس البناء للمدعي ضمنا قيمة البناء للمشهود عليه، فعلم بقول الشهود شككنا، لا يختلف الحكم بعد القضاء وقبله في أنه يقبل هذا القول منهم إذا كانوا عدولاً.(9/166)
باب الاختلاف في الشهادة قال: الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل؛ لأن تقدم الدعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاختلاف في الشهادة]
[كيفية موافقة الشهادة للمدعي]
م: (باب الاختلاف في الشهادة) ش: أي هذا باب في بيان حكم الاختلاف في الشهادة، ولها فرع من مسائل الاتفاق في الشهادة شرع في بيان مسائل الاختلاف فيها، والمناسبة لقضية الطبع؛ لأن الاتفاق أصل، والاختلاف إنما هو يعارض الجهل والكذب فأضر لذلك.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل) ش: موافقة الشهادة للمدعي أن تتحد أنواعاً، وكماً، وكيفاً، وزماناً، ومكاناً وفعلاً وانفعالاً، ووضعاً، وملكاً، ونسبة. فإنه إذا ادعى على آخر عشرة دراهم، وشهد الشاهد بعشرة دراهم، أو ادعى عشرة دراهم، ويشهد بثلاثين، إذا ادعى سرقة ثوب أحمر وشهد بأبيض، أو ادعى أنه قتل ولده يوم النحر بالكوفة وشهد بذلك يوم الفطر بالبصرة، أو ادعى شق زقه وإتلاف ما فيه، شهد بانشقاقه عنده، أو ادعى عقاراً بالجانب الشرقي من ملك فلان، وشهد بالغربي منه، أو ادعى أنه ملكه وشهد أنه ملك ولده، أو ادعى أنه عبده ولدته الجارية الفلانية، وشهد بولادة غيرها، لم تكن الشهادة موافقة للدعوى.
وأما الموافقة بين لفظيهما فليست بشرط. ألا ترى أن المدعي يقول ادعى علي غريمي هذا والشاهد يقول: أشهد بذلك، واستدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك بقوله: م: (لأن تقدم الدعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها) .
ش: أما اشتراط تقدم الدعوى، فإن القاضي نصب لفصل الخصومات، فلا بد منها، ولا يغني بالخصومة إلا الدعوى، وأما وجودها عند الموافقة فلعدم ما يهدها من التكذيب، وأما عدمها عند المخالفة، فلوجود ذلك؛ لأن الشهادة لتصديق الدعوى، فإذا خالفتها وقد كذبتها، فصار وجودها وعدمها سواء، وإنما قيد بقوله في حقوق العباد احترازاً عن حقوق الله تعالى، فإن الشهادة فيها تقبل بدون الدعوى إذ حقوق الله تعالى واجبة على كل أحد، فكان كل واحد خصماً في إثباتها، قوله: " وانعدمت " أي الدعوى فيما يخالفها؛ لأن الشهادة لتصديق الدعوى، فإذا خالفها فقد كذبتها كما ذكرنا الآن، ويعتبر صدق الشاهد لا صدق المدعي في المخالفة. لأن الأصل في الشهود والعدول الصدق لا في المدعي لعدم شرطية العدالة فيه.
وفي " الذخيرة ": كما يشترط التوافق بين الدعوى والشهادة تشترط الموافقة بين الشاهدين(9/167)
قال: ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل الشهادة عنده، وعندهما تقبل على الألف إذا كان المدعي يدعي الألفين وعلى هذا المائة والمائتان، والطلقة والطلقتان، والطلقة والثلاث. لهما أنهما اتفقا على الألف أو الطلقة وتفرد أحدهما بالزيادة، فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أحدهما، فصار كالألف والألف والخمسمائة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيضا؛ لأن القضاء إنما يجوز بالحجة، والحجة شهادة المثنى، وبالمخالفة تنعدم الحجة.
[اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أداء الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والمراد باتفاقهما لفظاً تطابق لفظهما على عادة المعنى بطريق الوضع، كما قال أحدهما: الهبة.
وقال الآخر: المعطية لا بطريق التضمن، ثم مثل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لذلك بقوله م: (فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل الشهادة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله -: م: (تقبل على الألف إذا كان المدعي يدعي الألفين) ش: وبه قال الشافعي في وجه وأحمد - رحمهما الله - في رواية، وقالا: يحلف ويستحق الألف الأخرى م: (وعلى هذا المائة والمائتان) ش: أي وعلى هذا الخلاف إذا شهد أحدهما بالمائة والآخر بالمائتين.
وقال الشافعي وأحمد -رحمهما الله -: يستحق المائة الأخرى بالحلف م: (والطلقة والطلقتان، والطلقة والثلاث) ش: أي وكذا على الخلاف إذا شهد أحدهما بأنه طلق امرأته واحدة، والآخر شهد بأنه طلقها ثنتين أو ثلاث طلقات.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد: م: (أنهما) ش: أي أن الشاهدين م: (اتفقا على الألف) ش: في شهادة أحدهما بالألف والآخر بألفين م: (أو الطلقة) ش: أي أو أنهما اتفقا على المطلقة شهادة أحدهما بالطلقة، والآخر بطلقتين أو بالثلاث م: (وتفرد أحدهما) ش: أي أحد الشاهدين م: (بالزيادة) ش: وهي زيادة الألف من أحدهما في شهادتهما بالألف.
وزيادة المطلقة الثانية أو الثلاث م: (فيثبت ما اجتمعا عليه) ش: وهو الألف والطلقة الواحدة م: (دون ما تفرد به أحدهما) ش: وهو في زيادة الألف الآخر وزيادة الطلقة الثانية والثلاث يعني لا تقبل في تلك الزيادة م: (فصار) ش: أي حكم هذا م: (كالألف والألف والخمسمائة) ش: أي وكما إذا ادعى ألفاً وخمسمائة، وشهد أحدهما بالألف والآخر بالألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر قبلت الشهادة على الألف لاتفاق الشاهدين على الألف لفظاً ومعنى، وسيجيء الكلام فيه عن قريب(9/168)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهما اختلفا لفظا وذلك يدل على اختلاف المعنى؛ لأنه يستفاد باللفظ، وهذا لأن الألف لا يعبر به عن الألفين، بل هما جملتان متباينتان، فحصل على كل واحد منهما شاهد واحد، فصار كما إذا اختلف جنس المال.
قال: وإذا شهد أحدهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما) ش: أن الشاهدين م: (اختلفا لفظاً) ش: لأن أحدهما فرد والآخر مجتمع م: (وذلك) ش: أي الاختلاف من حيث اللفظ م: (يدل على اختلاف المعنى؛ لأنه) ش: أي لأن المعنى م: (يستفاد باللفظ وهذا) ش: أي دلالة اختلاف اللفظ على اختلاف المعنى الذي يستفاد من اللفظ م: (لأن الألف لا يعبر به عن الألفين، بل هما جملتان متباينتان) ش: أي كلمتان متباينتان كزيد وعمرو، ولم يرد به الجملة المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر كما في النحو م: (فحصل على كل واحد منهما شاهد واحد) ش: فلا تقبل م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كما إذا اختلف جنس المال) ش: كما إذا شهد أحدهما بألف درهم، والآخر بمائة دينار أو شهد أحدهما بكر حنطة، والآخر بكر شعير.
فإن قيل: الألف موجود في الألفين.
قلنا: نعم إذا ثبت الألفان يثبت في ضمنه الألف، وإذا لم يثبت التضمن كيف يثبت التضمن. ألا ترى أنه لو شهد أحدهما بأنه قال لامرأته: أنت خلية وشهد الآخر بأنه قال: أنت برية لا يثبت شيء، وإن اتفق المعنى.
فإن قيل: يشكل على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما لو ادعى ألفين وشهد بألف يقبل بالاتفاق، ذكره في " المبسوط "، مع أن شرط صحة القضاء الموافقة بين الدعوى والشهادة، ولم يوجد.
قلنا: الاتفاق في اللفظ بين الدعوى والشهادة ليس بشرط لصحة الدعوى حسب اتفاقه بين الشاهدين. ألا ترى أنه لو ادعى الغصب أو القتل وشهدا بإقراره به يقبل، ولو شهد أحدهما بالغصب والآخر بالإقرار بالغصب لا تقبل، وهذا لأن الشهادة التلفظ، ألا ترى أنها لا تقبل ما لم تقل أشهد بخلاف الدعوى، فإنه لو صحح دعواه في الكتابة تقبل دعواه، ولا يلزم أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
إذا قال زوجها: طلقي نفسك ثلاثاً. فطلقت واحدة كان ذلك منها جواباً فوقعت واحدة، ولا ما إذا قال لها: أنت طالق ألفا فإنه يقع ثلاثاً؛ لأن الأكثر في ذلك ثابت فيضمن الأقل، وليس فيما نحن فيه كذلك؛ لأن الأكثر شهد به واحد، فلا يثبت به شيء.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا شهد أحدهما) ش: أي أحد الشاهدين(9/169)
بألف والآخر بألف وخمسمائة، والمدعي يدعي ألفا وخمسمائة قبلت الشهادة على الألف لاتفاق الشاهدين عليهما لفظا ومعنى؛ لأن الألف والخمسمائة جملتان عطفت أحدهما على الأخرى، والعطف يقرر الأول، ونظيره الطلقة والطلقة والنصف والمائة والمائة والخمسون بخلاف العشرة والخمسة عشر؛ لأنه ليس بينهما حرف العطف، فهو نظير الألف والألفين.
، وإن قال المدعي: لم يكن لي عليه إلا الألف، فشهادة الذي شهد بالألف والخمسمائة باطلة؛ لأنه كذبه المدعي في المشهود به. وكذا إذا سكت إلا عن دعوى الألف لأن التكذيب ظاهر، فلا بد من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بألف والآخر بألف وخمسمائة، والمدعي يدعي ألفاً وخمسمائة قبلت الشهادة على الألف لاتفاق الشاهدين عليهما) ش: أي على الألف م: (لفظاً ومعنى؛ ولأن الألف والخمسمائة جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف يقرر الأول) ش: أي يقرر المعطوف عليه م: (ونظيره) ش: أي ونظير المذكور م: (الطلقة والطلقة والنصف) ش: بأن شهد أحدهما بطلقة، والآخر بطلقة ونصف م: (والمائة والمائة والخمسون) ش: بأن شهد أحدهما بمائة، والآخر بمائة وخمسين يقبل شهادته على الطلقة بالاتفاق وكذلك على المائة
م: (بخلاف العشرة والخمسة عشر) ش: يعني إذا شهد أحدهما بعشرة والآخر بخمسة عشر يعني إذا ادعى المدعي خمسة عشر حيث لا يثبت العشر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الموافقة بين اللفظين شرط ولم يوجد م: (لأنه ليس بينهما حرف العطف) .
ش: فصارا متباينين؛ لأن خمسة عشر تذكير بغير حرف العطف، فكانت كلمة واحدة غير العشرة، فلم يوجد الموافقة.
وفي " النهاية ": هذا كله فيما إذا لم يدع المدعي عقداً. أما إذا كان في دعوى العقد، فهي ثمان مسائل:
البيع، والإجارة، والكتابة، والرهن، والعتق على مال، والصلح عن دم العمد، والخلع، والنكاح ... وسيجيء كل هذا مشروحاً في هذا الباب إن شاء الله تعالى م: (فهو نظير الألف والألفين) ش: أي المذكور نظير ما إذا شهد أحدهما بألف والآخر شهد بألفين، لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مر عن قريب.
م: (وإن قال المدعي: لم يكن عليه إلا الألف فشهادة الذي شهد بالألف والخمسمائة باطلة؛ لأنه) ش: أي لأن الشاهد م: (كذبه المدعي في المشهود به) ش: وتكذيب الشاهد تفسيق له فكان مبطلاً شهادته، فبقي شاهد واحد.
م: (وكذا) ش: أي الحكم م: (إذا سكت) ش: أي المدعي م: (إلا عن دعوى الألف) ش: يعني ادعى الألف ولم يتعرض للخمس مائة لا بالنفي ولا بالإثبات م: (لأن التكذيب ظاهر فلا بد من(9/170)
التوفيق.
ولو قال: كان أصل حقي ألفا وخمسمائة، ولكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته عنها، قبلت لتوفيقه قال: وإذا شهد بألف، وقال أحدهما قضاه خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف لاتفاقهما عليه، ولم يسمع قوله أنه قضاه خمسمائة لأنه شهادة فرد إلا أن يشهد معه آخر. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقضي بخمسمائة؛ لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة، وجوابه ما قلنا. قال: وينبغي للشاهد إذا علم بذلك أن لا يشهد بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة كيلا يصير معينا على الظلم. وقال وفي " الجامع الصغير ": رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم، فشهد أحدهما أنه قد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التوفيق) ش: ولم يوجد حتى لو وقف قبلت الشهادة، وأشار إلى التوفيق بقوله:
م: ولو قال: كان أصل حقي ألفاً وخمسمائة) ش: كما شهد م: ولكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته عنها) ش: أي عن الخمس مائة م: (قبلت لتوفيقه) ش: أي لزوال التكذيب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا شهدا بألف، وقال أحدهما قضاه خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف) ش: وفي بعض النسخ بألف م: (لاتفاقهما عليه) ش: أي لاتفاق الشاهدين على الألف م: (ولم يسمع قوله) ش: أي قول الشاهد الذي قال:
م: (إنه قضاه) ش: يعني قضاه م: (خمسمائة لأنه شهادة فرد، إلا أن يشهد معه آخر) ش: هذا هو المشهور.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يقضي بخمسمائة؛ لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة) ش: فلا يجوز أن يثبت أكثر من ذلك م: (وجوابه) ش: أي جواب ما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما قلنا) ش:، أشار به إلى قوله لأنه شهادة فرد، كذا قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجوابه ما قلنا: إنهما اتفقا على وجوب الألف، وتفرد أحدهما بالقضاء، والقضاء يتلوا الوجوب لا محالة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينبغي للشاهد إذا علم بذلك) ش: يعني الشاهد بقضاء خمس مائة إذا علم بذلك م: (أن لا يشهد بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة كيلا يصير معيناً على الظلم) ش: لعلمه بدعواه بغير حق.
وفي " جامع أبي الليث ": لا يحل للشاهد الذي يعلم القضاء أن يشهد على أصل الدين لعلمه بأن المدعي يدعي بغير حق.
م: (قال وفي " الجامع الصغير ": رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم فشهد أحدهما أنه قد(9/171)
قضاها، فالشهادة جائزة على القرض لاتفاقهما عليه، وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا. وذكر الطحاوي عن أصحابنا: أنه لا تقبل وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المدعي أكذب شاهد القضاء. قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول وهو القرض، ومثله لا يمنع القبول.
قال: وإذا شهد شاهدان أنه قتل زيدا يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتله يوم النحر بالكوفة، واجتمعوا عند الحاكم، لم يقبل الشهادتين؛ لأن إحداهما كاذبة بيقين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قضاها، فالشهادة جائزة على القرض لاتفاقهما عليه، وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا) ش: من أن القضاء يثبته بتفرد أحد الشاهدين.
والفرق بين مسألة الجامع وبين المسألة التي ذكرها قبلها أن مسألة " الجامع " شهد أحدهما بقضاء كل الدين وفي التي قبلها، شهد بقضاء بعض الدين.
م: (وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أصحابنا: أنه لا تقبل) ش: يعني في القرض والدين جميعاً م: (وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المدعي أكذب شاهد القضاء) ش: وهو تفسيق له.
م: (قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول وهو القرض) ش: أي المشهود به الأول وهو القرض، لم يوجد في حقه التكذيب وهو له، وإنما وجد التكذيب لأنه أكذبه فيما عليه، وهو الشهادة بالقضاء، وهو غير المشهود به الأول م: (ومثله لا يمنع القبول) .
ش: ولهذا لو شهد بألف ومائة دينار، إذا ادعى المدعي ألف درهم تقبل شهادتهما، وإن كذبهما المدعي في المائة. إليه أشار في " الجامع ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا شهد شاهدان أنه) ش: أي أن عمراً مثلاً م: (قتل زيداً يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتله يوم النحر بالكوفة واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين لأن إحداهما) ش: أي لأن إحدى الشهادتين م: (كاذبة) ش: ظاهراً م: (بيقين) .
ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " الذخيرة ": ولو شهد أحدهما بالقتل والآخر بالإقرار بالقتل لا تقبل؛ لأن القتل فعل والإقرار قول، والقول غير الفعل، فاختلف المشهود به، وكذا لو شهدا بالقتل واختلفا في الزمان والمكان؛ لأن الفعل الثاني غير الفعل الأول.
وفي " المغني ": وكل شهادة على فعل اختلاف الزمان أو المكان يمنع القبول، إلا في مسألة واحدة ذكرها داود بن رستم - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد في نصراني شهدا عليه، فقال أحدهما: يصلي في مسجد بني زائدة شهراً، وآخر يصلي في مسجد بني عامر شهراً، أو قال أحدهما: يصلي بالكوفة شهراً، وقال أحدهما: رأيته يصلي بالشام. قال أجيز شهادتهما وأجبره على الإسلام.
وفي " الكافي ": اختلافهما في الزمان أو المكان في البيع والشراء والطلاق والعتاق والوكالة(9/172)
وليست إحداهما بأولى من الأخرى. فإن سبقت إحداهما وقضى بها، ثم حضرت الأخرى، لم تقبل؛ لأن الأولى قد ترجحت باتصال القضاء بها فلا تنتقض بالثانية.
قال: وإذا شهدا على رجل أنه سرق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والوصية والرهن والدين والقرض والبراءة والكفالة والحوالة، والقذف، لا يمنع القبول. وفي الجناية والغصب والقتل والنكاح يمنع، والأصل فيه أن المشهود به إن كان قولاً كالبيع ونحوه، فاختلافهما في الزمان، أو المكان لا يمنع.
ورواه أحمد في رواية؛ لأن القبول مما يعاد ويكرر، وإن كان المشهود به فعلاً كالغصب ونحوه، أو قولاً لكن الفعل شرط صحته كالنكاح، فإنه قول وحضور الشاهدين فعل، وهو شرط فاختلافهما في الزمان والمكان يمنع القول؛ لأن الفعل في زمان أو مكان غير الفعل في زمان أو مكان غيره، فاختلف المشهود به.
وقال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في ظاهر روايته: اختلافهما في الزمان أو المكان يمنع في الجميع إلا فيما شهد أحدهما أنه طلقها يوم الخميس، وقال الآخر: أقر بطلاقها يوم الجمعة، فإنه يقبل. وكذا في البيع والنكاح وغيرهما فلا ينقض بالثانية؛ لأن القضاء بالأول قضاء ببطلان الثاني ضمناً. إذ قتل شخص واحد لا يكون في موضعين.
وفي " الفتاوى الصغرى ": لو سكت شاهدا البيع عن بيان الوقت والمكان، فسألهما القاضي فقالا: لا نعلم ذلك يقبل شهادتهما؛ لأنهما لم يكلفا حفظ ذلك.
م: (وليست إحداهما بأولى من الأخرى) ش: يمكن أن هذا جواب عما يقال: فلم لا يسمع القاضي أحدهما.
فقال: وليست إحداهما إلى إحدى الشهادتين بأولى من الشهادة الأخرى لعدم المرجح، فإن كان كذلك م: (فإن سبقت إحداهما) ش: أي إحدى الشهادتين م: (وقضى بها) ش: أي وقضى القاضي بها م: (ثم حضرت الأخرى) .
ش: أي الشهادة الأخرى م: (لم تقبل؛ لأن الأولى قد ترجحت باتصال القضاء بها فلا تنتقض بالثانية) ش: لأن الحكم بالثانية ينافي الحكم بالأول، وقد صحت ظاهراً حيث اتصل الحكم بها ينتقض بالكذب، فبقيت كما كانت، ونظيره رجل معه ثوبان، أحدهما نجس فوقع تحريه على أحدهما وصلى فيه، ثم وقع تحريه على الآخر لا يجوز الصلاة فيه؛ لأن الأول اتصل به حكم فلا ينتقض بتحرٍ آخر.
[شهدا على رجل أنه سرق بقرة واختلفا في لونها]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا شهد على رجل أنه سرق(9/173)
بقرة، واختلفا في لونها قطع، وإن قال أحدهما: بقرة، والآخر ثوراً، لم يقطع. وهذا عند أبي حنيفة - رحمه الله -. وقالا: لا يقطع في الوجهين جميعاً. وقيل: الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة، لا في السواد والبياض وقيل: هو في جميع الألوان. لهما أن السرقة في السوداء غيرها في البيضاء، فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة، وصار كالغصب بل أولى؛ لأن أمر الحد أهم، فصار كالذكورة والأنوثة. وله أن التوفيق ممكن؛ لأن التحمل في الليالي من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقرة واختلفا في لونها) ش: بأن قال أحدهما: إنها سوداء، وقال الآخر: بأنها صفراء م: (قطع وإن قال أحدهما: بقرة) ش: أي بأنه سرق بقرة م: (والآخر ثوراً) ش: أي وقال الآخر: إنه سرق ثوراً م: (لم يقطع، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا: لا تقطع في الوجهين جميعاً) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه فيما إذا سرق بقرة فقط، أما إذا ادعى سرقة بقرة بيضاء أو سوداء، لا تقبل شهادتهما إجماعاً؛ لأن كذب أحد الشاهدين، وكذا الخلاف فيما إذا ادعى سرقة ثوب فقط، أحدهما هروي، وقال الآخر: مروزي: فإن اختلفا في الزمان والمكان يقبل بالإجماع.
م: (وقيل: الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة) ش: لأن الحمرة الشديدة تظهر م: (لا في السواد والبياض) ش: لأنهما لا يتشابهان أصلاً م: (وقيل: هو) ش: أي الاختلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه - رحمهما الله - م: (في جميع الألوان) ش: وذكر في " المبسوط " أن الكل على الخلاف في الأصح.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن السرقة في السوداء غيرها في البيضاء، فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة) ش: فلا اختلاف في المشهود به فلا يقبل م: (وصار كالغصب) ش: يعني شهد الغصب بقرة واختلفا في لونها.
م: (بل أولى؛ لأن أمر الحد أهم) ش: لأن الثابت بالغصب ضمان لا يسقط بالشبهات، والثابت هنا قد يسقط بالشبهات.
ولأن الاختلاف لما منع قبول الشهادة في المال، فلأن يمنع في الحر أولى، كما لو اختلفا في قدر القيمة م: (فصار كالذكورة والأنوثة) ش: في المغايرة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التوفيق ممكن؛ لأن التحمل في الليالي من(9/174)
بعيد، واللونان يتشابهان أو يجتمعان في واحد، فيكون السواد من جانب وهذا يبصره، والبياض من جانب آخر، وهذا الآخر يشاهده،
بخلاف الغصب؛ لأن التحمل فيه بالنهار على قرب منه، والذكورة والأنوثة لا يجتمعان في واحدة. وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه فلا يشتبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعيد) ش: إذ أكثر السرقات تكون في الليالي، وتحمل الشهادة من بعيد م: (واللونان يتشابهان) ش: كالحمرة والصفرة م: (أو يجتمعان) ش: أي اللونان بين ذلك بقوله:
م: (في واحد فيكون السواد من جانب وهذا يبصره، والبياض من جانب آخر، وهذا) ش: أي الآخر م: (يشاهده) ش: وكل واحد يشهد بما رآه.
فإن قيل: لو كانت البقرة على هذه الصفة، يقال لها: أبلقاً لا سوداء ولا بيضاء.
قلت: نعم، كذلك لمح، ولكن في حق من يعرف اللونين. أما في حق من لا يعرف إلا أحدهما يكون عنده ذلك اللون، كذا في " المبسوط ". وإذا كان التوافق ممكناً وجب القبول، كما إذا اختلف شهود الزنا في سبب واحد، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه بحث من وجهين: أحدهما: أن طلب التوفيق ها هنا لاحتيال أسباب الحد، وهو القطع، والحد يحتال لدونه لا لإثباته.
والثاني: أن التوفيق وإن كان ممكناً، ليس بمعتبر ما لم يصرح به فيما لم يثبت بالشبهات، فكيف يمكن اعتباره فيما يدربها.
والجواب عن الأول: أن ذلك إنما كان احتيالاً لإثباته، إذ لو كان في اختلاف ما كلفنا نقله، وهو من صلب الشهادة، كبيان قيمة المسروق ليعلم هل كان نصاباً تقطع به أو لا. وأما إذا كان في اختلاف ما لم يكلفنا نقله كلون ثياب السارق وأمثاله، فاعتبار التوفيق فيه ليس احتيالاً لإثبات الحد، لإمكان ثبوته به.
ألا ترى أنهما لو سكتا عن بيان لون البقرة ما كلفهما القاضي بذلك، فتبين أنه ليس من صلب الشهادة، ولم يكلفنا نقله إلى مجلس الحكم، بخلاف الذكورة والأنوثة، فإنهما يكلفان النقل بذلك؛ لأن القيمة تختلف باختلافهما، فكان اختلاف في صلب العقد. وعن الثاني بأنه جواب القياس؛ لأن القياس اعتبار مكان التوفيق، أو يقال التصريح بالتوفيق يعتبر فيما كان في صلب الشهادة وإمكانه فيما لم يكن فيه هذا.
[شهد لرجل أنه اشترى عبدا من فلان بألف وشهد آخر أنه اشترى بألف وخمسمائة]
م: (بخلاف الغصب) ش: هذا جواب عن مسألة الغصب وهو قوله م: (لأن التحمل فيه بالنهار على قرب منه) ش: أي لأن تحمل الشهادة في الغصب يكون بالنهار، إذ الغصب يكون فيه غالباً م: (والذكورة والأنوثة) ش: جواب عما استشهدا به من الاختلاف بهما فإنهما م: (لا يجتمعان في واحدة. وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه فلا يشتبه) ش: أي في حيوان عادة، ولأن الشاهدين(9/175)
قال: ومن شهد لرجل أنه اشترى عبدا من فلان بألف، وشهد آخر أنه اشترى بألف وخمسمائة، فالشهادة باطلة؛ لأن المقصود إثبات السبب وهو العقد، ويختلف باختلاف الثمن فاختلف المشهود به، ولم يتم العدد على كل واحد، ولأن المدعي يكذب أحد شاهديه. وكذلك إذا كان المدعي هو البائع، ولا فرق بين أن يدعي المدعي أقل المالين أو أكثرهما لما بينا. وكذلك الكتابة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكلفان بيان الذكورة والأنوثة؛ لأن القيمة تختلف باختلافهما، فكان اختلافهما فيهما في نفس الشهادة
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن شهد لرجل أنه اشترى عبداً من فلان بألف، وشهد آخر أنه اشترى بألف وخمسمائة، فالشهادة باطلة) .
ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان المناسب ذكر هذه المسألة بعد قوله: وإن شهد أحدهما بألف، والآخر بألف وخمسمائة.
قلت: تلك المسألة في دعوى المال، وهذه في دعوى العقد م: (لأن المقصود إثبات السبب، وهو العقد، ويختلف باختلاف الثمن، فاختلف المشهود به ولم يتم العدد على كل واحد) ش: لأن اختلاف المشهود به يمنع قبول الشهادة، وكذا نقصان العدد يمنع.
م: (ولأن المدعي) ش: دليل آخر على ذلك م: (بكذب أحد شاهديه) ش: صورة المسألة في " الجامع الصغير ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال في الرجل يدعي على رجل أنه باعه هذا العبد بألف وخمسمائة فينكر البائع البيع، فيقيم عليه شاهداً بألف وخمسمائة، وشاهداً بألف، قال: هذا باطل.
م: (وكذلك) ش: أي وكذا الشهادة باطلة م: (إذا كان المدعي هو البائع، ولا فرق بين أن يدعي المدعي أقل المالين أو أكثرهما) ش: يعني سواء ادعى أقل المالين أو أكثر، وفي " الفوائد الظهيرية " عن السيد الإمام الشهيد أبي القاسم السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبل؛ لأن الشراء لواحد قد يكون بألف، ثم يصير بألف وخمسمائة، بأن اشترى ثم زاد في الثمن، فقد انقضى على الشراء الواحد م: (لما بينا) ش: وهو أن المقصود إثبات السبب.
م: (وكذلك الكتابة) ش: أي كالبيع؛ لأن عقد الكتابة يختلف باختلاف البدل كالبيع، [و] هنا تسع مسائل: البيع، والكتابة، والخلع، والطلاق، والإعتاق على مال، والصلح على دم العمد، والرهن والنكاح، والإجارة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن نقل ما ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": وهذه ثمان مسائل؛ لأنه لم يذكر الطلاق. وأشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى الكتابة بقوله: وكذلك الكتابة بعد أن ذكر البيع، فالبيع هو المسألة الأولى والكتابة هي الثانية.(9/176)
لأن المقصود هو العقد إن كان المدعي هو العبد فظاهر. كذا إذا كان هو المولى؛ لأن العتق لا يثبت قبل الأداء، فكان المقصود إثبات السبب. وكذا الخلع والإعتاق على مال، والصلح عن دم العمد إذا كان المدعي هو المرأة أو العبد أو القاتل؛ لأن المقصود إثبات العقد والحاجة ماسة إليه.
وإن كانت الدعوى من جانب آخر، فهو بمنزلة دعوى الدين فيما ذكرنا من الوجوه؛ لأنه ثبت العفو والعتق والطلاق باعتراف صاحب الحق، فبقي الدعوى في الدين وفي الرهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بمنزلة البيع إذ كان الدعوى من العبد؛ لأنه يدعي العقد أشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (لأن المقصود هو العقد) ش: أي عقد الكتابة م: (إن كان المدعي هو العبد فظاهر) ش: فلا تقبل الشهادة إذا اختلف الشاهدان في بدل الكتابة كما في البيع والشراء.
م: (وكذا) ش: أي وكذا لا تقبل الشهادة م: (إذا كان) ش: أي المدعي م: (هو المولى؛ لأن العتق لا يثبت قبل الأداء) ش: أي قبل إذا بدل الكتابة، وبدل الكتابة لا يكون إلا بعقد الكتابة وهو معنى قوله: م: (فكان المقصود إثبات السبب) ش: أي العقد، والثالثة من المسائل الخلع أشار إليه بقوله م: (وكذا الخلع) ش: بأن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج، والرابعة منها هو قوله م: (والإعتاق على مال) ش: والخامسة هو قوله م: (والصلح عن دم العمد) ش: فالحكم في هذه المسائل الثلاث م: (إذا كان المدعي هو المرأة) ش: في مسألة الكتابة م: (أو العبد) ش: أي وإن كان المدعي هو المرأة في مسألة الخلع م: (أو القاتل) ش: أي وإن كان المدعي هو القاتل في مسألة الصلح عن دم العمد فلا خفاء في هذه الثلاثة م: (لأن المقصود إثبات العقد والحاجة ماسة إليه) ش: أي إلى إثبات العقد ليثبت الطلاق والعتاق والعفو بناء عليه.
م: (وإن كانت من جانب آخر) ش: وهو المولى وولي القصاص، بأن قال المولى: أعتقتك على ألف وخمس مائة، والعبد يدعي الألف وقال الزوج: خالعتك على ألف وخمسمائة، والمرأة تدعي الألف، وقال ولي القصاص: صالحتك على ألف وخمسمائة والقاتل يدعي الألف م: (فهو بمنزلة دعوى الدين) ش: أي كانت الدعوى مثل دعوى الدين وهو البدل وهو المبدل لوقوع العتق والطلاق والعفو بإقرار المولى والزوج وولي القصاص م: (فيما ذكرنا من الوجوه) ش: المذكورة من أنه يقبل على الألف إذا ادعى ألفا وخمسمائة بالاتفاق، وإذا ادعى ألفين لا تقبل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وإن ادعى أقل المالين يعتبر الوجوه الثلاثة من التوفيق والتكذيب والسكوت عنهما م: (لأنه ثبت العفو والعتق والطلاق باعتراف صاحب الحق) ش: وهو المعتق والزوج والولي م: (فبقي الدعوى في الدين) ش: وهو البدل، والمسألة السادسة هي قوله م: (وفي الرهن) ش: أي إذا شهد أحد الشاهدين بالألف والآمر بألف وخمسمائة.(9/177)
إن كان المدعي هو الراهن لا يقبل؛ لأنه لا حظ له في الرهن، فعريت الشهادة عن الدعوى، وإن كان هو المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين، وفي الإجارة إن كان ذلك في أول المدة فهو نظير البيع، وإن كان بعد مضي المدة والمدعي هو الآجر فهو دعوى الدين.
قال: فأما النكاح، فإنه يجوز بألف استحسانا. وقالا: هذا باطل في النكاح أيضا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إن كان المدعي هو الراهن لا يقبل) ش: الشهادة م: (لأنه) ش: أي لأن الراهن م: (لا حظ له في الرهن) ش: لأنه لما لم يكن له أن يسترد الرهن قبل قضاء الدين كانت دعواه غير مفيدة، فكانت كأن لم يكن وهو معنى قوله م: (فعريت الشهادة عن الدعوى) ش: فلا تقبل.
م: (وإن كان) ش: أي المدعي م: (هو المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين) ش: يقضى بأقل المالين إجماعا.
فإن قيل: الرهن لا يثبت إلا بالإيجاب والقبول فكان عقدا كسائر العقود فينبغي أن يكون اختلاف الشاهدين في قدر المال بمنزلة اختلافهما في البيع أو الشراء، وإن كانت الدعوى من المرتهن.
قلنا: لما كان عقد الرهن غير لازم في حق المرتهن كان له أن يرد الرهن متى شاء، بخلاف الراهن لأنه ليس له استرداد الرهن متى شاء، فكان الاعتبار دعوى الدين في جانب المرتهن؛ لأن الرهن لا يكون بالدين فتقبل البينة كما في سائر الديون، ويثبت الرهن بالألف ضمنا، وتبعا للدين، والمسألة السابعة هي قوله: م: (وفي الإجارة) ش: أي اختلاف الشهادة إذا كان في الإجارة م: (إن كان ذلك) ش: أي الدعوى على تأويل الادعاء م: (في أول المدة) ش: قبل استيفاء المنفعة م: (فهو نظير البيع) ش: يعني لا تقبل الشهادة كما في البيع؛ لأن المقصود إثبات العقد، وقد اختلف باختلاف البدل م: (وإن كان بعد مضي المدة) ش: واستيفاء المنفعة م: (والمدعي) ش: أي والحال أن المدعي.
م: (هو الآجر فهو دعوى الدين) ش: أي المال فيقضي بأقل المالين إذا ادعى الأكثر، إذ لا حاجة هنا إلى إثبات العقد، وإن كان المدعي هو المستأجر بعد مضي المدة كان ذلك منه اعترافا بمال الإجارة، فيجب عليه ما اعترف، فلا حاجة فيه حينئذ إلى اتفاق الشاهدين أو اختلافهما.
[اختلاف الشهود في النكاح]
والمسألة الثانية هي قوله:
م: (قال) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: فأما النكاح) ش: يعني إذا اختلف الشهود فيه، فقال أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة م: (فإنه) ش: أي فإن النكاح م: (يجوز بألف استحسانا) ش: كما في دعوى الدين.
م: (وقالا: هذا باطل في النكاح أيضا) ش: يعني كما هو باطل في البيع، يعني فلا تقبل الشهادة(9/178)
وذكر في الأمالي قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة - رحمهما الله - لهما أن هذا اختلاف في العقد؛ لأن المقصود من الجانبين السبب فأشبه البيع. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المال في النكاح تابع، والأصل فيه الحل والازدواج والملك، ولا اختلاف فيما هو الأصل فيثبت، ثم إذا وقع الاختلاف في التبع يقضى بالأقل لاتفاقهما عليه،
ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما في الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يقضي بالنكاح. م: (وذكر في " الأمالي " قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة - رحمهما الله -) ش: قال فخر الدين قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وذكر في الدعوى عن " الأمالي " قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لهما) ش: أي ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن هذا اختلاف في العقد) ش: لأن النكاح بألف غير النكاح بألف وخمسمائة.
م: (لأن المقصود من الجانبين السبب) ش: والاختلاف في السبب يمنع قبول الشهادة م: (فأشبه البيع) ش: كما إذا اختلف الشاهدان فيه بأن شهد أحدهما بألف، والآخر بألفين فلا تقبل، كذا هذا م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المال في النكاح تابع) ش: ولهذا يصح بلا تسمية مهر وملك التصرف في النكاح من لا يملك التصرف في المال، كالعم، والأخ، والاختلاف في البائع لا يوجب اختلافا في الأصل.
م: (والأصل فيه) ش: أي في النكاح هذا دليل أخذ تقريره أن الأصل في النكاح م: (الحل) ش: هو حل البضع م: (والازدواج والملك) ش: هو ملك البضع؛ لأن شرعيته كذلك ولزوم المهر لمصون الحل الخطر عن الاستبذال بالتسلط عليها مجانا م: (ولا اختلاف) ش: للشاهدين م: (فيما هو الأصل فيثبت) ش: أي الأصل.
م: (ثم إذا وقع الاختلاف في التبع يقضى بالأقل) ش: أي بأقل المالين م: (لاتفاقهما عليه) ش: أي لاتفاق الشاهدين على الأقل. واعترضوا عليه بأن هذا تكذيب لأحد الشاهدين، وأجيب بأن التكذيب فيما ليس بمقصود، وهو المال، والتكذيب فيه لا يوجب التكذيب في الأصل وهو العقد.
م: (ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما) ش: قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما بكلمة " أو "، والصواب كلمة الواو بلالة يستوي، انتهى.
قلت: كان في نسخه بكلمة " أو "، فكذلك اعترض، وليس كذلك، فإن النسخ كلها بالواو، حتى في نسخة شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - التي هي العمدة م: (في الصحيح) ش: احترازا عما قال(9/179)
ثم قيل: الاختلاف فيما إذا كانت المرأة هي المدعية وفيما إذا كان الزوج هو المدعي إجماع، على أنه لا تقبل؛ لأن مقصودها قد يكون المال، ومقصوده ليس إلا بالعقد. وقيل الاختلاف في الفصلين وهذا أصح، والوجه ما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعضهم، وأنه لما كان كالدين وجب أن يكون الدعوى بأكثر المالين كما في الدين، وإليه ذهب شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ثم قيل: الاختلاف) ش: أي بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (فيما إذا كانت المرأة هي المدعية وفيما إذا كان الزوج هو المدعي إجماع) .
م: (على أنه لا يقبل لأن مقصودها قد يكون المال ومقصوده ليس إلا العقد) ش: فيكون الاختلاف فيه يمنع القبول.
م: (وقيل: الاختلاف) ش: أي الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (في الفصلين) ش: جميعا، يعنى فيما إذا كان مدعي النكاح الرجل والمرأة م: (وهذا أصح) ش: أي الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه في الفصلين جميعا أصح.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا في قوله: وهذا أصح نظرا لما أنهم لم يذكروا الخلاف في " شرح الجامع الصغير " و " شرح الطحاوي " فيما إذا كان المدعي هو الزوج، بل قالوا: لا تقبل الشهادة لأن الاختلاف وقع في العقد، انتهى.
قلت: عدم ذكرهم في " شرح الجامع الصغير " [و] " شرح الطحاوي " لا يستلزم عدم ذكر غيرهم م: (والوجه ما ذكرناه) ش: أشار به إلى ما ذكر في دليل الطرفين عند قوله: لهما أن هذا اختلاف في العقد ... إلى آخر ما ذكره.(9/180)
فصل في الشهادة على الإرث قال: ومن أقام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها وأودعها الذي هي في يده، فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثا له. وأصله أنه متى ثبت الملك للمورث لا يقضى به للوارث حتى يشهد الشهود أنه مات وتركها ميراثا له عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هو يقول: إن ملك الوارث ملك المورث فصارت الشهادة بالملك للمورث شهادة به للوراث وهما يقولان: إن ملك الوارث متجدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الشهادة على الإرث]
م: (فصل في الشهادة على الإرث) ش: أي هذا فصل في بيان حكم الشهادة على الإرث، ولما ذكر أحكام الشهادة المتعلقة بالإحياء شرع يذكر أحكام الشهادة المتعلقة بالميت، بحسب مقتضى الوقائع.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن أقام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها وأودعها الذي هي في يده، فإنه يأخذها) ش: أي فإن المدعي الذي أقام البينة يأخذ الدار بهذه البينة م: (ولا يكلف البينة) ش: أي يشهدوا م: (أنه) ش: أي أن أباه م: (مات وتركها ميراثا له) ش: أي لابنه. وفي " الفوائد الظهيرية ": هذا بالإجماع، لكن على اختلاف التخريج.
فأبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقول في الميراث باشتراط الجر والانتقال من المورث إلى الوارث في قبول البينة، وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وإن كانا يشترطان ذكر الجر والانتقال، بأن يقول الشاهد عند الشهادة: هذا المدعي وارث الميت مات وتركها ميراثا له. أما ها هنا لم يشترطا؛ لأن المدعي أثبت لمورثه يدا إلى المدعي بما أقام من البينة؛ لأن يد المستودع والمستعير، يد المودع والمعير، فصار كأنه أقام البينة بأن أباه مات والدار في يده، ولو كان كذلك كانت البينة مقبولة فكذا هذا. م: (وأصله) ش: أي أصل حكم الشهادة على الإرث م: (أنه) ش: أي الشأن م: (متى ثبت الملك للمورث لا يقضى به للوارث) ش: أي لا يحكم له بذلك الملك م: (حتى يشهد الشهود أنه) ش: أي أن المورث م: (مات وتركها) ش: أي ترك تركة م: (ميراثا له) ش: أي لهذا الوارث م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا الخلاف مبني على الأصل المذكور، وهو أن الشهادة بالميراث يحتاج إلى الجر والانتقال عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ولا تحتاج إلى ذلك عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول أي أبو يوسف يقول:
م: (هو يقول: إن ملك الوارث ملك المورث) ش: لكون الوراثة خلافه، ولهذا يرد بالعيب ويرد عليه به، وإذا كان كذلك م: (فصارت الشهادة بالملك للمورث شهادة به) ش: أي بالملك م: (للوارث) .
م: (وهما) ش: أي أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (يقولان: إن ملك الوارث متجدد في(9/181)
في حق العين حتى يجب عليه الاستبراء في الجارية الموروثة، ويحل الوارث الغني ما كان صدقة على المورث الفقير، فلا بد من النقل، إلا أنه يكتفى بالشهادة على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة، وكذا على قيام يده على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقد وجدت الشهادة على اليد في مسألة الكتاب لأن يد المستعير والمودع والمستأجر قائمة مقام يده، فأغنى ذلك عن الجر والنقل. وإن شهدوا أنها كانت في يد فلان مات وهي في يديه جازت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق العين حتى يجب عليه) ش: أي على الوارث م: (الاستبراء في الجارية الموروثة، ويحل الوارث الغني ما كان صدقه على المورث الفقير) ش: وإن كان المورث غنيا، فلما كان ملكه متجددا، فلا بد من إثبات الملك له ابتداء وهو معنى قوله م: (فلا بد من النقل) ش: بأن يقول الشهود: إنه مات وترك هذا الشيء ميراثا لهذا لئلا يكون استصحاب الحال مثبتا.
م: (إلا أنه يكتفي بالشهادة) ش: هذا استثناء من قوله: لا بد من النقل، يعني عندهما لا بد من الجر والنقل إلا أن الشهادة يكتفى بها م: (على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة، وكذا على قيام يده) ش: أي يكتفى بالشهادة على قيام يده عند الموت؛ لأن اليد حينئذ تصير يد ملك بالضمان.
لأن الظاهر من حال من حضره الموت أن يسوي أسبابه ويعطي ما كان عنده من الودائع والغصوب، فإذا لم يبين فالظاهر أن ما في يده ملكه والأمانات تصير مضمونة بالتحصيل بأن مات ولم يبين أنها وديعة فلان؛ لأنه حينئذ ترك الحفظ وهو متعة يجب الضمان به. وإذا ثبت هذا لمن قام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها أو أودعها الذي في يده، فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثا له بالاتفاق.
أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فلأنه لا يوجب الجر في الشهادة. وأما عندهما فلأن قيام اليد عند الموت يغني عن الجر م: (على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: هذا إشارة إلى ما نذكره عن قريب بقوله: لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك.
م: (وقد وجد الشهادة على اليد في مسألة الكتاب) ش: أي هذا الكتاب وهي المسألة التي ذكرها عقيب الفصل بقوله: ومن أقام بينة على دار بها كانت لأبيه..... إلى آخرها، والحاصل: أنه أشار بهذا إلى أن هذه المسألة متفق عليها، وأشار إلى بيان وجهها بقوله م: (لأن يد المستعير والمودع) ش: بفتح الدال م: (والمستأجر) ش: بكسر الجيم ويد المستأجر م: (قائمة مقام يده) ش: أي يدأب المدعي الذي أقام بينة أنها كانت لأبيه م: (فأغنى ذلك) ش: إلى قيام يده عند الموت م: (عن الجر والنقل) .
م: (وإن شهدوا أنها) ش: أي أن هذه الدار م: (كانت في يد فلان مات وهي في يديه، جازت(9/182)
الشهادة؛ لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك بواسطة الضمان والأمانة تصير مضمونة بالتجهيل، فصار بمنزلة الشهادة على قيام ملكه وقت الموت. وإن قالوا لرجل حي نشهد أنها كانت في يد المدعي منذ أشهر لم تقبل. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها تقبل؛ لأن اليد مقصودة كالملك، ولو شهدوا أنها كانت ملكه تقبل، فكذا هذا، فصار كما إذا شهدوا بالأخذ من المدعي. وجه الظاهر وهو قولهما أن الشهادة قامت بمجهول؛ لأن اليد منقضية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهادة) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله " وإن شهدوا أنها كانت في يد فلان " أي يد أبيه، وصرح صدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " حيث قال: وإن شهدوا أنها كانت في يد أبيه مات وهي في يده جازت الشهادة؛ م: (لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك بواسطة الضمان) ش: لأنهم لما شهدوا له باليد وقت الموت فلا يخلو إما أن يكون يد ملك أو يد أمانة فإن كانت يد ملك فلا شك، وإن كانت يد غصب تصير يد ملك بالضمان، وإن كانت أمانة تصير يد غصب بالتجهيل وهو معنى قوله م: (والأمانة تصير مضمونة بالتجهيل) ش: فيصير يد ملك م: (فصار) ش: أي قول الشاهد بأنها كانت في يده وقت الموت م: (بمنزلة الشهادة على قيام ملكه وقت الموت) ش: فيثبت النقل إلى الورثة بالضرورة. وروي عن الحسن: أنها لا تقبل؛ لأنهم شهدوا بيد منقضية، والأصح أنها تقبل لما مر.
م: (وإن قالوا لرجل حي:) ش: ذكر هذه المسألة استطرادا، إذ هي ليست من باب الميراث، أي وإن قال الشهود لرجل حي، يعني إذا كانت الدار في يد رجل حي، فادعاها رجل آخر، وليست الدار في يده، فقالوا: إنها له فشهدوا أنها له وقيد بقوله " حي "؛ لأنهم لو شهدوا للميت بأنها كانت في يده وقت الموت تقبل بالإجماع، وقيد بقوله: م: (نشهد أنها كانت في يد المدعي) ش: لأنهم لو شهدوا أنها كانت له تقبل بالإجماع، كذا في " قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - "، وقوله م: (منذ أشهر) ش: وجوده كعدمه؛ لأن الخلاف ثابت فيما لم يذكره م: (لم تقبل) ش: أي هذه الشهادة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها تقبل؛ لأن اليد مقصودة كالملك) ش: إذا ثبت يبقى إلى أن يوجد المزيد فكذا في اليد م: (ولو شهدوا أنها كانت ملكه تقبل، فكذا هذا فصار) ش: هذا م: (كما إذا شهدوا بالأخذ من المدعي) ش: يعني لو شهدوا أنها كانت في المدعي، وأخذها المدعى عليه الذي هو صاحب اليد يقبل الشهادة وترد الدار إلى المدعي، وكذا إذا اقر المدعى عليه بأنها كانت في يد المدعي ترد على ما ذكر في الكتاب.
م: (وجه الظاهر وهو قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -: م: (أن الشهادة قامت بمجهول؛ لأن اليد منقضية) ش: أي زائلة، يعني يد المدعي زائلة في الحال، وليست بقائمة(9/183)
وهي متنوعة إلى ملك وأمانة وضمان، فتعذر القضاء بإعادة المجهول؛ بخلاف الملك لأنه معلوم غير مختلف، وبخلاف الأخذ؛ لأنه معلوم وحكمه معلوم وهو وجوب الرد ولأن يد ذي اليد معاين ويد المدعي مشهود به، وليس الخبر كالمعاينة وإن أقر بذلك المدعى عليه دفعت إلى المدعي؛ لأن الجهالة في المقربة لا تمنع صحة الإقرار. وإن شهد شاهدان أنه أقر أنها كانت في يد المدعي دفعت إليه؛ لأن المشهود به هاهنا الإقرار وهو معلوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى تحمل على الملك باعتبار الظاهر م: (وهي) ش: أي اليد م: (متنوعة إلى ملك وأمانة وضمان) ش: فإذا كان كذلك كانت مجهولة.
م: (فتعذر القضاء بإعادة المجهول) ش: تعذر الحكم بإعادتها مع قيام الجهالة م: (بخلاف الملك لأنه معلوم غير مختلف، وبخلاف الأخذ؛ لأنه معلوم وحكمه معلوم وهو وجوب الرد) ش: كيف ما كان.
قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» م: (ولأن يد ذي اليد معاين، ويد المدعي مشهود به) ش: والشهادة خبر.
م: (وليس الخبر كالمعاينة) ش: لاحتمال زوال اليد بعد ما كانت والمعاين راجح؛ لأن المعاينة توجب العلم والشهادة عليه الظن، فما كان موجبا للعلم أولى، قال: ليس في كثير من النسخ لفظ قال م: (وإن أقر بذلك المدعى عليه) ش: أي أقر بأن الدار في يد المدعي م: (دفعت إلى المدعي؛ لأن الجهالة في المقر به لا تمنع صحة الإقرار) ش: بل يجب عليه بيانه كما لو أقر لفلان بشيء يجب عليه بيانه.
م: (وإن شهد شاهدان أنه أقر) ش: أي المدعى عليه أقر م: (أنها كانت في يد المدعي دفعت إليه؛ لأن المشهود به ها هنا الإقرار وهو معلوم) ش: أي المشهود به وهو الإقرار معلوم، والمجهول هو المقر به والجهالة فيه ليست بمانعة لصحة الإقرار.(9/184)
باب الشهادة على الشهادة قال: الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة، وهذا استحسان لشدة الحاجة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق. ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية، أو من حيث أن فيها زيادة احتمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الشهادة على الشهادة]
[حكم الشهادة على الشهادة]
م: (باب الشهادة على الشهادة)
ش: أي هذا باب في بيان حكم الشهادة على الشهادة، ولما كانت الشهادة على الشهادة فرع شهادة الأصول استحقت التأخير؛ لأن الأصل مقدم على الفرع.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة) ش: أراد به غير الحدود والقصاص، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبل في كل الحقوق سواء كان حدا أو غيره، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح م: (وهذا) ش: أي جواز الشهادة على الشهادة م: (استحسان لشدة الحاجة إليها) ش: والقياس يأتي بجوازها لتمكن الشبهة فيها، إذ الأخبار إذا تداولتها الألسن يتمكن فيها زيادة ونقصان، ولأن أداء الشهادة عبادة، والعبادة لا تجري فيها النيابة؛ لأنها جوزت استحسانا م: (إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض) ش: كالموت والسفر والغيبة. م: (فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق) ش: أي ضياعها وهلاكها م: (ولهذا) ش: أي ولأجل إتواء الحقوق عند عدم جواز الشهادة على الشهادة م: (جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت) ش: أي الشهادة على الشهادة وإن بعدت.
م: (إلا أن فيها) ش: أي لكن في الشهادة م: (شبهة من حيث البدلية) ش: لأن البدل محالا لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأصل، وهذه كذلك، فإن قيل: لو كان فيها معنى البدلية ينبغي أن لا يجوز الجمع بين الأصل والفرع، فإن القاضي لو قضى بشاهد أصل وشاهدين فرعين يجوز، وتكميل الجمع بين الأصل بالخلف لا يجوز كما في الوضوء والتيمم، ذكره في " الكافي ".
أجيب: بأن البدلية إنما هي في المشهود به، فشهادة الفروع هي شهادة الأصول، والمشهود به بشهادة الأصول هو ما عاينوه مما يدعيه المدعي، وإذا كان كذلك لم يكن شهادة الفروع بدلا عن شهادة الأصول فلم يمنع إتمام الأصول بالفروع م: (أو من حيث أن فيها زيادة احتمال) ش: معطوف على قوله من حيث البدلية، يعني أن فيها شبهة من حيث إن فيها زيادة احتمال، فإن في شهادة(9/185)
وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص.
وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان؛ لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد، فصار كالمرأتين. ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصول تهمة الكذب لعدم العصمة، وفي شهادة الفروع تلك التهمة مع زيادة تهمة كذبهم. م: (وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود) ش: يعني بشهود الأصل م: (فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص) ش: فالشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول يوافقنا في الحدود لا في القصاص.
فإن قيل: ذكر في " المبسوط ": أن الشاهدين لو شهدا على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلانا حدا في قذف تقبل حتى يرد شهادة فلان.
قلنا: المشهود به فعل القاضي لا نفس الحد، وفعل القاضي مما يثبت بالشبهات، وإنما الذي لا يثبت مع الشبهات إلا يناب لموجب العقوبة وإقامة القاضي حد القذف ليس بسبب موجب للعقوبة.
فإن قيل: أليس أن إقامة الحد مسقط للشهادة بطريق العقوبة؟.
قلنا: لا، ولكن رد شهادة من تمام الحد، فيكون ما هو السبب الموجب للحد وهو القذف.
[شهادة شاهدين على شهادة شاهدين]
م: (وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان) ش: أي شاهدان من الأربع، وبه قال عبد الملك المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، واختاره المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد) ش: فلا تتم حجة القضاء بشهادتهما.
م: (ولنا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين) ش: هذا غريب، يعني لم يثبت، والذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما رواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " أخبرنا إبراهيم بن أي يحيى الأسلمي، عن حسين، عن أبيه، عن جده، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " لا يجوز على شهادة الميت إلا رجلين ".
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جوز شهادة رجلين على شهادة رجل إلا شهادة رجلين، وجه الاستدلال بذلك: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جوز شهادة رجلين على شهادة رجل، على شهادة رجل آخر، ولم يشترط أن(9/186)
ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر، فتقبل. ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد لما روينا، وهو حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولأنه حق من الحقوق، فلا بد من نصاب الشهادة،
وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا، وأشهدني على نفسه؛ لأن الفرع كالنائب عنه، فلا بد من التحميل والتوكيل على ما مر، ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يكون بإزاء كل أصل فرعان على حدة [......] إطلاقه على جواز شهادة الفرعين جميعا على شهادة الأصلين، ولم يرد عن غير علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافه، فحل محل الإجماع. قلت: فيه تأمل. م: (ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق) ش: يعني حق من الحقوق، إذ طريق جواز الشهادة على الشهادة نقل الشهادة م: (فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر) ش: فكمل نصاب الشهادة م: (فتقبل) ش: لكمال النصاب.
م: (ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد لما روينا) ش: أي من قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وهو) ش: أي قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه قال في كتبنا: وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد، ولكن ذكر في " جواهر المالكية ": لا يجوز، وكذا ذكر في " الحلية "، فإذا كان كذلك كيف يكون قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حجة على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الحلية ": أنه على قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلي وعبد الله بن شبرمة والحسن البصري وعبد الله بن الحسن العنبري وعثمان البتي وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. يثبت بشهادة واحد شهادة الأصل الواحد، لأن الفرع قائم مقام الأصل م: (ولأنه) ش: أي ولأن نقل الشهادة م: (حق من الحقوق، فلا بد من نصاب الشهادة) ش: إذ النصاب شرط فلا بد منه.
[صفة الإشهاد في الشهادة على الشهادة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه؛ لأن الفرع كالنائب عنه) ش: أي عن الأصل، وإنما قال كالنائب، ولم يقل نائب عنه؛ لأنه لو كان نائبا عنه حقيقة، لما جاز الجمع عند فرعين، وأصل بيانه أن للقاضي أن يقضي بشهادة أصل واحد وفرعين عن أصل آخر. ولو كان الفرع نائبا حقيقة لما جاز الجمع بين الأصل والخلف، كما لا يجوز الجمع بين الوضوء والتيمم م: (فلا بد من التحميل والتوكيل) ش: لأن الشهادة على الشهادة إنما تصير حجة بنقل شهادة الأصل م: (إلى مجلس القضاء) ش:، فلا بد من التحميل، والفرع وكيل عن الأصل فلا بد من التوكيل م: (على ما مر) ش: أي الذي مضى قبله في فصل ما يتحمله الشاهد.
م: (ولا بد أن يشهد) ش: أي الأصل م: (كما يشهد عند القاضي) ش: أي كما يشهد الأصل عند(9/187)
لينقله إلى مجلس القضاء، وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز؛ لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة، وإن لم يقل له أشهد، ويقول شاهد الفرع عند الأداء: أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا، وقال لي: أشهد على شهادتي بذلك، لأنه لا بد من شهادته. وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا، وأقصر منه وخير الأمور أوسطها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القاضي بلا تفاوت في القول، بأن يقول إني أشهد أن فلان ابن فلان أقر عندي بكذا فأشهد أنت على شهادتي م: (لينقله إلى مجلس القضاء) ش: أي لينقل الفرع إلى ما أشهده الأصل إلى مجلس القاضي م: (وإن لم يقل) ش: أي الأصل عند الفرع م: (أشهدني على نفسه) ش: أي المقر أو المدعى عليه م: (جاز لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له:) ش: أي وإن لم يقل الغير م: (أشهد) ش: علي.
م: (قال:) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويقول شاهد الفرع عند الأداء أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا، وقال لي أشهد على شهادتي بذلك لأنه لا بد من شهادته) ش: أي شهادة الفرع م: (وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل) ش: أما شهادة الأصل فلا بد له ثم يخبر بعد ذلك بصفة ما نفع عليه شهادته وهو التحميل.
م: (ولها) ش: أي لشهادة الفرع عند الأداء م: (لفظ أطول من هذا) ش: أي من الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو كما قال الخصاف وغيره: إن الفرع يقول عند القاضي أشهد أن فلانا شهد عندي أن لفلان على فلان كذا من المال وأشهدني على شهادته، وأمرني أن أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن، فيحتاج إلى ثمان شيئات، واختاره أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأستاذه أبو جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفيما ذكر في الكتاب خمس شيئات واختاره الحلواني م: (وأقصر منه وخير الأمور أوسطها) ش: وهذا أن يقول الفرع: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز فيه شيئان، واختاره أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأستاذه أبو جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا حكى فتوى السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير "، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وذكر الخصاف أنه يكفي ثلاث شيئات في الإشهاد، وست في الأداء، وهو أن يقول في الإشهاد: أشهد أن فلانا أقر عندي لفلان بكذا، فأشهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته إلا أن أنا أشهد على شهادة أن لفلان على فلان كذا، وهذا معنى ما قاله في " نظم الجامع "، ويؤتي بشيئات ثلاث لحملها، وبالست في حال الأداء مردود.
وفي " الفتاوى الصغرى ": شهود الفرع يجب أن يذكروا أسماء الأصول وأسماء آبائهم وأجدادهم حق لو قالا للقاضي: نشهد أن رجلين نعرفهما أشهدانا على شهادتهما، يشهدان(9/188)
ومن قال أشهدني فلان على نفسه، لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له: أشهد على شهادتي لأنه لا بد من التحميل. وهذا ظاهر عند محمد؛ لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع، وكذا عندهما؛ لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول لتصير حجة، فيظهر تحميل ما هو حجة. قال: ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بكذا، وقالا للقاضي: لا نسميها لك أو قالا: لا نعرف اسما لهما، لم تقبل حتى يسميا؛ لأنهما تحملا مجازفة لا عن معرفة.
[قال أشهدني فلان على نفسه في شهادة الأصول على الفروع]
م: (ومن قال: أشهدني فلان على نفسه، لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له: أشهد على شهادتي؛ لأنه لا بد من التحميل. وهذا هو ظاهر عند محمد لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع) ش: يعني اشتراكهم في الضمان أن المشهود عليه بالخيار بين تضمين الأصول وبين تضمين الفروع، فليس معناه أن يقضي بنصف الضمان على الأصول وبنصفه على الفروع، بل هذا كالغاصب مع غاصب الغاصب.
وفي " الذخيرة ": لو ضمن الفروع لا يرجعون على الأصول كما في الغصب، وإن ضمن الأصول لا يرجعون على الفروع بخلاف لو ضمن الغاصب حتى رجع على غاصب الغاصب.
م: (وكذا عندهما) ش: أي وكذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بد من التحميل. إن كان القضاء مضافا إلى الفروع حتى وجب الضمان على الفروع، خاصة عند رجوع الأصول والفروع جميعا فلا بد من التحميل.
وليس للفروع أن ينقلوا شهادتهم بدون تحميلهم م: (لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول لتصير حجة، فيظهر تحميل ما هو حجة) ش: أي يظهر بالنقل تحمل ما هو حجة، ولولا التحميل لم يوجد الفعل والنقل إلى مجلس القاضي حجة حتى يتبين أنهم تحملوا ما هو حجة، والنقل لا بد له من التحميل والتوكيل.
قوله: م: (فيظهر) ش: بالنصب لأنه جواب النفي، وهو قوله: لا بد. ويجوز أن يكون معطوفا على قوله: ليصير وهذا أظهر.
[شهادة شهود الفرع]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا) ش: قدر الغيبة بمدة السفر لتعلق الأحكام بمدة السفر كقصر الصلاة والإفطار في العموم وابتداء مسح الخف، وكتكبيرات التشريق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأضحية والجمعة، وخروج المرأة بلا محرم، به قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول(9/189)
أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحكم؛ لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل. وبهذه الأشياء يتحقق العجز، وإنما اعتبرنا السفر لأن المعجز بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما حتى أدير عليها عدة من الأحكام فكذا سبيل هذا الحكم، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إن كان في مكان لو غدا لأداة الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس. قالوا الأول أحسن، والثاني أرفق. وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحمد في رواية، م: (أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه) ش: أي مع المرض م: (حضور مجلس الحكم؛ لأن جوازها للحاجة) ش: أي لأن جواز الشهادة على الشهادة لأجل حاجة الناس مع أن القياس يأباها م: (وإنما تمس) ش: أي الحاجة م: (عند عجز الأصل) ش: أي شهود الأصل.
م: (وبهذه الأشياء) ش: وهي الموت والغيبة والمرض م: (يتحقق العجز، وإنما اعتبرنا السفر) ش: أي مدة السفر في الغيبة م: (لأن المعجز) ش: اسم فاعل من التعجيز م: (بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما) ش: أي من حيث الحكم م: (حتى أدير عليها) ش: أي على مدة السفر م: (عدة من الأحكام) ش: وهي التي ذكرناها الآن م: (فكذا سبيل هذا الحكم) ش: أي حكم غيبة شهود الأصل.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي الشاهد القرى م: (إن كان في مكان لو غدا) ش: أي أذهب بكرة النهار م: (لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله) ش: بعد الرواح من مجلس القاضي م: (صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس) ش:، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كان بمكان لا يلزمه الحضور، وقال بعض أصحاب مالك: لا ينقل في الحدود والأغيبة بعيدة، فأما اليومان والثلاثة فلا، إلا المرأة، فإنه ينقل عنهما مع حضورها في البلد.
وفي " الذخيرة ": روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز كيف ما كان، حتى إذا كان الأصل في رواية المسجد، والفرع في رواية أخرى من ذلك المسجد تقبل، وقال شمس الأئمة السرخسي والسعدي - رحمهما الله - في " شرح أدب القاضي " للخصاف: شهادة الفروع والأصول في المصر يجب أن يجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز في " الفتاوى الصغرى ". قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقبل الشهادة على الشهادة والشهود على شهادتهم في المصر من غير مرض ولا علة.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (الأول) ش: أي التقدير بثلاثة أيام م: (أحسن) ش: لأن العجز شرعا يتحقق فيه م: (والثاني) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أرفق) ش: لأن فيه رفقا بالناس م: (وبه) ش: أي وبالثاني م: (أخذ الفقيه أبو الليث) ش: وكثير من المشايخ(9/190)
قال: فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز؛ لأنهم من أهل التزكية،
وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح لما قلنا غاية الأمر أن فيه منفعة له من حيث القضاء بشهادته، لكن العدل لا يتهم بمثله، كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وإن قوله مقبول في حق نفسه، وإن ردت شهادة صاحبه فلا تهمة. قال: وإن سكتوا عن تعديلهم جاز. وينظر القاضي في حالهم، وهذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة. فإذا لم يعرفوها، لم ينقلوا الشهادة فلا تقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز) ش: بنصب شهود الأصل على المفعولية، وشهود الفرع بالرفع على الغائبة، أي عدل الفروع الأصول جاز بإجماع الأئمة الأربعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (لأنهم) ش: أي لأن شهود الأصل م: (من أهل التزكية) ش: فحينئذ لا فرق بين تزكيتهم وتزكية غيرهم.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسأل القاضي للفروع عن الأصول، ولا يقضي قبل السؤال، فإن عدلوهم ثبتت عدالتهم في ظاهر الرواية، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تثبت عدالتهم بتعديل الفروع؛ لأن فيه تقبل بشهادة أنفسهم، الصحيح ظاهر الرواية لأن العدل لا يتهم بمثله.
[شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر]
م: (وكذا) ش: أي كذا الحكم م: (إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح لما قلنا) ش: أراد به قوله أنه من أهل التزكية م: (غاية الأمر أن فيه) ش: أي غاية ما يرد فيه من أمر الشهادة أن يقال ينبغي أن لا يصح تعديله؛ لأنه متهم بسبب تعينه أي تعديله م: (منفعة له من حيث القضاء بشهادته، لكن العدل لا يتهم بمثله كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وإن قوله:) ش: أي لا يصح تعديل الفرع بالأصل والحال أن قوله م: (مقبول في حق نفسه وإن ردت شهادة صاحبه) ش: حتى إذا انضم إليه غيره من العدول، حكم القاضي بشهادتهما، وإذا كان الأمر كذلك م: (فلا تهمة) ش: حينئذ.
م: (قال: وإن سكتوا عن تعديلهم) ش: أي وإن سكت الفروع عن تعديل الأصول م: (جاز) ش: أي شهادة الفروع م: (وينظر القاضي في حالهم) ش: أي في حال شهود الأصل، يعني ينظر القاضي عن عدالة شهود الأصل عن شهود الفرع م: (وهذا) ش: أي وهذا المذكور م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة، فإذا لم يعرفوها) ش: أي إذا لم يعرف الفروع عدالة الأصول م: (لم ينقلوا الشهادة فلا تقبل) ش: كما لو شهدوا على من لا(9/191)
ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المأخوذ عليهم النقل دون التعديل؛ لأنه قد يخفى عليهم. وإذا نقلوا يتعرف القاضي العدالة كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا. قال: وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين، وهو شرط.
وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا: أخبرانا أنهما يعرفانها، فجاء بامرأة، وقالا: لا ندري أهي هذه أم لا، فإنه يقال للمدعي: هات شاهدين يشهدان أنها فلانة؛ لأن الشهادة على المعرفة بالنسبة قد تحققت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعرفون عقله م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المأخوذ عليهم) ش: أي أن الواجب عل شهود الفرع م: (النقل دون التعديل لأنه) ش: أي لأن التعديل م: (قد يخفى عليهم) ش: فيرجع الأمر إلى القاضي.
م: (وإذا نقلوا) ش: أي شهادتهم م: (يتعرف القاضي العدالة) ش: أي يتكلف في السؤال عن عدالتهم م: (كما إذا حضروا) ش: أي شهود الأصل م: (بأنفسهم وشهدوا) ش: قال القاضي: يتعرف عدالتهم فكذا هذا، وإذا قالوا: لا نعرف أن الأصول عدول أو لا؟ قال السعدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا وقولهم لأخبرك سواء فإذا قالوا لا نخبرك لا يقبل القاضي شهادتهم ويسأل من غيرهم عن حال الأصول، وهو الصحيح.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع) ش: وفي " الكافي " معنى المسألة أنهم قالوا: ما لنا شهادة على هذه الحادثة وماتوا أو غابوا ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم بهذه الحادثة أما مع حضورهم فلا يلتفت إلى شهادة الفروع وإن لم ينكروا م: (لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين) ش: أي بين خبر الفروع وخبر الأصول م: (وهو) ش: أي التحميل م: (شرط) ش: لصحة شهادة الفروع.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا) ش: أي قال الفرعان: م: (أخبرانا) ش: أي الأصلان م: (أنهما) ش: أي أن الأصلين م: (يعرفانها) ش: أي يعرفان فلانة م: (فجاء بامرأة) ش: أي فجاء الفرعان بامرأة، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فجاء بامرأة بتوحيد الفعل، أي فجاء المدعي بامرأة في بعض النسخ فجاء بلفظ التثنية م: (وقالا) ش: أي الفرعان م: (لا ندري أهي هذه) ش: أي فلانة هذه م: (أم لا فإنه) ش: أي فإن الشأن م: (يقال للمدعي هات شاهدين يشهدان) ش: بكسر التاء، يقال هات يا رجل أي أعطني، وللمرأة هاتي بالياء. وذكر الجوهري في الأجوف اليائي وبه قال الخليل م: (أنها فلانة؛ لأن الشهادة على المعرفة) ش: على وزن اسم المفعول من التعريف م: (بالنسبة قد تحققت) ش: كما تحملوها، فصح الفعل. ولكن قولهم: لا ندري هي هذه أم لا يوجب جرحا في شهادتهم.(9/192)
والمدعي يدعي الحق على الحاضرة، ولعلها غيرها، فلا بد من تعريفها بتلك النسبة، ونظير هذا إذا تحملوا الشهادة ببيع محدودة بذكر حدودها، وشهدوا على المشتري لا بد من آخرين يشهدان على أن المحدود بها في يد المدعى عليه. وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يديه. قال: وكذا كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنه في معنى الشهادة على الشهادة إلا أن القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمدعى يدعي الحق على الحاضرة، ولعلها غيرها) ش: أي ولعل للمرأة الحاضرة غير تلك المرأة فوجب التوقف م: (فلا بد من تعريفها) ش: أي من تعريف المرأة الحاضرة م: (بتلك النسبة) ش: المذكورة، وهي أن يأتي المدعي بشاهدين يشهدان أن الحاضرة فلانة بنت فلان الفلانية المعروفة بتلك النسبة.
م: (ونظير هذا) ش: نظير حكم المسألة المذكورة م: (إذا تحملوا الشهادة) ش: أي إذا تحملت جماعة الشهادة م: ببيع محدودة بذكر حدودها وشهدوا على المشتري) ش: بعدما أنكر أن يكون الحدود بها في يده م: (لا بد من آخرين يشهدان على أن الحدود بها في يد المدعى عليه) ش: توضيحه ما قال العتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره: نظيره إذا ادعى رجل على رجل محدوداً في يده، وشهد شهوداً أن هذه الحدود المذكورة بهذه الحدود.
ملك هذا المدعي في يد المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: الذي في يدي غير محدود بهذه الحدود التي ذكرها الشهود، فيقال للمدعي هات شاهدين أن الذي في يديه محدودة بهذه الحدود ليصح القضاء.
م: (وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يديه) ش: قال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني لو قال المدعي: إن المذكور بهذه الحدود ملكه في يد المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: الذي في يد غيره محدود بهذه الحدود، فلا بد من شاهدين آخرين يشهدان أن الحدود المذكورة حدود ما في يده ليصح القضاء م: (قال: وكذا كتاب القاضي إلى القاضي) ش: يعني كتب في كتابه شهد عدلان لأن، عندي أن لفلان ابن فلان الفلاني على فلانة بنت فلان الفلاني كذا، فاقض عليها أنت بذلك، فأحضر المدعي امرأة في مجلس المكتوب إليه، ودفع الكتاب إليه وأنكرته أنها فلانة يقول القاضي: هات شاهدين يشهدان أن هذه التي أحضرتها هي الفلانية المذكورة بهذا الكتاب تمكن الإشارة إليها في القضاء م: (لأنه) ش: أي لأن كتاب القاضي إلى القاضي م: (في معنى الشهادة على الشهادة) .
م: (إلا أن القاضي) ش: جواب إشكال مقدر هو أن يقال: إن القاضي الكاتب بمنزلة الشاهد الفرعي سمع الشهادة من الشاهدين، ونقل شهادتهما بالكتاب، فصار كأنه حضر مجلس(9/193)
لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل.
ولو قالوا في هذين البابين التميمية لم يجز حتى ينسبوها إلى فخذها وهي القبيلة الخاصة، هذا لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل بالنسبة إلى العامة، وهي عامة بالنسبة إلى بني تميم، لأنهم قوم لا يحصون ويحصل بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة. وقيل: الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة. وقيل: السمرقندية والبخارية عامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المكتوب إليه وشهد.
وهناك يشترط اثنان، فلذلك ينبغي أن يشترط في القاضي الكاتب أن يكون اثنين، فأجاب بقوله - إلا أن القاضي.... إلى آخره، تقديره أن القاضي م: (لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل) ش: فلا يشترط به قاض آخر.
م: (ولو قالوا:) ش: أي الشهود م: (في هذين البابين) ش: أي باب الشهادة على الشهود وباب كتابة القاضي فلانة بنت فلان م: التميمية) ش: أي المنسوبة إلى بني تميم م: (لم يجز) ش: أي الشهادة م: (حتى ينسبوا إلى فخذها وهي القبيلة الخاصة) ش: يعني التي لا خاصة دونها أي المنسوبة، أي الشهادة حتى إلى فخذ الخاصة، يعني التي لا خاصة فوقها.
وقال في " الصحاح ": الفخذ آخر القبائل الست، أولها الشعب، ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وقال في غيره. إن الفضيلة بعد الفخذ، فالشعب بكسر الشين تجمع القبائل، والقبائل تجمع العمائر، والعمارة بكسر العين تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ بسكون الخاء لجمع الفصائل، خذيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.
م: (وهذا) ش: أي عدم الجواز م: (لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل) ش: أي التعريف م: (بالنسبة العامة، وهي) ش: أي التميمية م: (عامة بالنسبة إلى بني تميم؛ لأنهم قوم لا يحصون ويحصل) ش: أي التعريف م: (بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة) ش: المصنف فسر الفخذ بالقبيلة الخاصة، وفسر العتابي بالأب الأعلى الذي ينسب أبوها إليه.
م: (وقيل: الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة) ش: أي الفرغانية نسبة إلى فرغانة بفتح الفاء وسكون الراء وبالغين المعجمة بعدها ألف ونون وهاء، اسم لإقليم فيما وراء النهر وفيها مدن كثيرة وفيها سكك منها أوزجند، وأشار بهذا إلى أن التعريف لا يحصل بالنسبة العامة؛ لأن الفرغانية عامة بالنسبة إلى الأوزجندية؛ لأن فرغانة فيها نساء كثير اتحدت أساميهن وأسامي آباءهن، بخلاف الأوزجندية فإنها خاصة؛ لأن أوزجند اسم حارة خاصة.
م: (وقيل: السمرقندية والبخارية عامة) ش: يعني النسبة إلى سمرقند أو إلى بخارى عامة،(9/194)
وقيل: إلى السكة الصغيرة خاصة وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة، ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه اسم الجد الأعلى، فنزل منزلة الجد الأدنى والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكل واحدة منهما فيما وراء النهر وهما مشهورتان، والنسبة إلى كل واحدة منهما عامة.
م: (وقيل: إلى السكة الصغيرة) ش: أي النسبة إلى السكة الصغيرة م: (خاصة وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة) ش: حاصل الكلام إلى النسبة إلى ما هي خاصة مبنيا يحصل التعريف بخلاف النسبة إلى ما هي عامة فيها، حيث لا يحصل التعريف بها؛ لأن المحلة الكبيرة ومصر يشتمل كل منهما على ناس كثير يتحد أساميهم وأسامي آبائهم، فلا يحصل التعريف بذلك.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو شهد على فلانة البلخية لا يقع بهذا التعريف ما لم ينسباها إلى محلها وسكنها، م: (ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه) ش: أي لأن الفخذ م: (اسم الجد الأعلى) ش: في القبيلة الخاصة م: (فنزل منزلة الجد الأدنى والله أعلم) ش: في النسبة وهو أب الأب.(9/195)
فصل قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعذره. وقالا: نوجعه ضربا ونحبسه، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. لهما ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شهادة الزور]
م: (فصل)
ش: أي هذا فصل في ذكر شهادة الزور، ذكره بفصل على حدة؛ لأن لها أحكاما مخصوصة وآخرها لأن الأصل هو الصدق.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعذره) ش: قوله: شاهد الزور كلام إضافي مبتدأ، وقوله: أشهره خبره والجملة مقول القول م: (قالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (نوجعه ضربا) ش: بنون الجماعة وضربا على التمييز م: (ونحبسه) ش: كذلك بنون الجماعة م: (وهو) ش: أي قولهم م: (قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وعامة العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه " في الحدود: حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن مكحول، عن الوليد بن مالك، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عماله بالشام في الشاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويحلق رأسه، ويطال الحبس.
وروى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مصنفه ": أخبرنا ابن جريج قال: حديث عن مكحول أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب شاهد الزور أربعين سوطا، قوله: سخم من التسخيم ومن السخام وهو سواد القدر.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من السخام بالخاء المعجمة أو بالحاء المهملة من سخم وهو(9/196)
ولأن هذه كبيرة يتعدى ضررها إلى العباد وليس فيها حد مقدر فيعزر، وله أن شريحا كان يشهره ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفى به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر، ولكنه يقع مانعا عن الرجوع، فوجب التحقيق نظرا إلى هذا الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأسود ثم قال: لا يقال الاستدلال به غير مستقيم على مذهبهما لأنهما لا يقولان بجواز التسخيم لأنه مثلة وهو غير مشروع، ولا تبليغ التعزير إلى أربعين لأن مقصودهما إثبات ما نفاه أبو حنيفة من التعزير بالضرب، فإنه يدل على أصل الضرب مشروع في التعزير، وما زاد على ذلك كان محمولا على السياسة.
م: (ولأن هذه) ش: أي شهادة الزور م: (كبيرة) ش: وعدت في الحديث الصحيح من الكبائر م: (يتعدى ضررها) ش: أي ضرر شهادة الزور م: (إلى العباد) ش: بإتلاف أموالهم م: (وليس فيها حد مقدر) ش: من حيث الشرع م: (فيعزر) ش: بالتعزير المذكور.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن شريحا) ش: وهو شريح بن الحارث الكندي القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كان يشهره) ش: شاهد الزور م: (ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفى به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر، ولكنه يقع مانعا عن الرجوع) ش: فإنه إذا تصور الضرب يخاف، فلا يرجع، وفيه تضييع للحقوق م: (فوجب التحقيق نظرا إلى هذا الوجه) ش: فإن قلت: قال في " المبسوط ": شاهد الزور عندنا هو المقر على نفسه بذلك؛ لأنه لا يتمكن تهمة الكذب إلا في إقراره على نفسه ولا طريق لإثبات ذلك بالبينة عليه؛ لأنه نفى الشهادة والبينة للإثبات دون النفي.
وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": شاهد الزور هو الذي يقر على نفسه بالكذب متعمدا، أو يشهد بقتل رجل ثم يجيء المشهود بقتله حيا حتى يثبت كذبه بيقين، فأما لو قال: غلطت أو أخطأت أو أردت شهادة بتهمة أو المخالفة بين الدعوى والشهادة لا يعزر أصلا.
وقال أبو محمد الكاتب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه المسألة على ثلاثة أوجه: إما أن يرجع على سبيل التوبة والندامة لا يعزر بلا خلاف، وإن رجع على سبيل الإقرار يعزر بالضرب بلا خلاف، وإن كان لا يعلم فعلى الاختلاف.
ثم قال: لو تاب شاهد الزور هل تقبل شهادته بعد ذلك. فعلى الوجهين: إن كان فاسقا تقبل توبته؛ لأن الذي حمله على شهادة الزور فسقه، فإذا تاب وظهرت توبته فقد زال فسقه فيقبل، ولم يعين في الكتاب مدة ظهور توبته، فقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: سنة، وقيل: ستة أشهر، والصحيح أنه مفوض إلى رأي القاضي.
أما لو كان مستورا لا تقبل شهادته أبدا، وكذا إذا كان عدلا فشهد بالزور ثم تاب لا تقبل(9/197)
وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محمول على السياسة بدلالة التبليغ إلى الأربعين والتسخيم، ثم تفسير التشهير منقول عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر، أجمع ما كانوا. ويقول إن شريحا يقرأ عليكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاحذروه وحذروا الناس منه. وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يشهر عندهما أيضا. والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهادته أبدا على رواية بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروى أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل، قالوا: والفتوى على هذا، كذا ذكره المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جامعه ".
م: (وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محمول على السياسة) ش: هذا جواب عما استجابه من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بيانه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك على طريق السياسة لا على طريق التعزير م: (بدلالة التبليغ إلى الأربعين) ش: لأنه لو كان على سبيل التعزير لم يبلغ الأربعين لبلوغه حدا في غير حد م: (والتسخيم) ش: بالجر عطفا على قوله: بدلالة التبليغ، وهو أيضا يدل على ما قلنا؛ ولأنه مثلة وهي منسوخة بالإجماع.
م: (ثم تفسير التشهير منقول عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه) ش: أي أو يبعثه إلى قومه م: (إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا) ش: مجتمعين أو إلى موضع يكون أكثر جمعا للقوم م: (ويقول) ش: أي الذي يبعثه م: (إن شريحا يقرأ عليكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروا الناس منه) ش: حتى لا يستشهدوا به.
فإن قيل: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرى تقليد التابعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى روي عنه أنه قال: هم رجال اجتهدوا ونحن رجال يجتهدون، وقلنا: ذكر في " النوادر " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقليد التابعي الذي زحم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الفتوى قال: أنا أقلده، فعلى هذه الرواية ظاهر.
وعلى ظاهر الرواية قالوا: لم يذكر قوله محتجا به، وإنما ذكره لبيان أن احتجاجه بتجويز الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فعله فإنه كان قاضيا في زمن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومثل هذا التشهير لا يخفى على الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكره أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحل محل الإجماع، وكان احتجاجا بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا تقليد لشريح.
م: (وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن شاهد الزور م: (يشهر عندهما أيضا، والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد(9/198)
وكيفية التعزير ما ذكرناه في الحدود. وفي " الجامع الصغير ": شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا، وقالا: يعزران وفائدته: أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك، فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة؛ لأنه نفي الشهادة، والبينات للإثبات والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رحمهما الله - م: (وكيفية التعزير ما ذكرناه في الحدود. وفي " الجامع الصغير ": شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا) ش: يعني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يعزران وفائدته) ش: أي وفائدة وضع " الجامع الصغير " بقوله: شاهدان أقرا إلى آخره م: (أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك) ش: أي بالزور، يعني أنه لا يثبت كذب الشاهد إلا بإقراره م: (فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة؛ لأنه نفي الشهادة) ش: فلا تسمع م: (والبينات للإثبات والله أعلم) ش: أي مشروعية البينات لإثبات الأحكام، وقد مر الكلام فيه قريب.(9/199)
كتاب الرجوع عن الشهادة قال: وإذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت؛ لأن الحق إنما يثبت بالقضاء. والقاضي لا يقضي بكلام متناقض، ولا ضمان عليهما؛ لأنهما ما أتلفا شيئا لا على المدعي ولا على المدعى عليه، فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ الحكم؛ لأن آخر كلامهم يناقض أوله فلا ينقض الحكم بالتناقض، ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به، وعليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان. والتناقض لا يمنع صحة الإقرار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الرجوع عن الشهادة]
[رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها]
م: (كتاب الرجوع عن الشهادة)
ش: أي: هذا كتاب في بيان أحكام الرجوع عن الشهادات. وجه المناسبة بين الكتابين من حيث إن الرجوع يقتضي سابقة الشهادة لا محالة. قيل ركنه قول الشاهد شهدت بزور شرطه أن يكون عند القاضي، وحكمه إيجاب التعزير على كل حال، سواء رجع قبل اتصال القضاء بالشهادة أو بعده، والضمان مع التعزير إن رجع بعد القضاء، أو كان المشهود به مالا وقد أزاله بغير عوض، والرجوع عن الشهادة مشروع بالإجماع، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت) ش: أي الشهادة ولا خلاف فيه م: (لأن الحق إنما يثبت بالقضاء) ش: أي بالحكم م: (والقاضي لا يقضي بكلام متناقض) ش: لأن الشاهد لما أكذب نفسه بالرجوع تناقض كلامه، والقضاء بالكلام المتناقض لا يجوز م: (ولا ضمان عليهما؛ لأنهما ما أتلفا شيئا لا على المدعي ولا على المدعى عليه، فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا) ش: يعني بعد الحكم م: (لم يفسخ الحكم؛ لأن آخر كلامهم يناقض أوله، فلا ينقض الحكم بالتناقض) ش: لأنه لو اعتبر رجوعه في إبطال القضاء أدى إبطاله إلى ما لا يتناهى؛ لأنه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع، فيجب إعادة الرضاء الأول، كذا في " المبسوط " م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكلام الآخر م: (في الدلالة على الصدق مثل الأول) ش: وكلما كان كذلك ساواه واحتيح إلى الترجيح م: (وقد ترجح الأول باتصال القضاء به) ش: فلا ينقضه به.
م: (وعليهم) ش: أي وعلى الشهود م: ضمان ما أتلفوه بشهادتهم لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان) ش: فقضاه القاضي، وإن كان علة للتلف لكنه كالملجأ من جهتهم فكان السبب منهم تعديا، فيضاف الحكم إليهم كما في حفر البئر على قارعة الطريق م: (والتناقض لا يمنع صحة الإقرار) ش: هذا جواب عما يقال كلامهم متناقض، وذلك ساقط العبرة، فعلى ما الضمان ووعد(9/200)
وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى.
ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم؛ لأنه فسخ للشهادة، فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس، وهو مجلس القاضي أي قاض كان، ولأن الرجوع توبة، والتوبة على حسب الجناية، فالسر بالسر، والإعلان بالإعلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقريره من بعد بقوله م: (وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى) ش: وفي " المغني " كان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا يقول فيما رجع بعد القضاء: ينظر إلى حال الراجع، إن كان حاله عند الرجوع أفضل من حاله وقت الشهادة في العدالة، صح رجوعه في حق نفسه وفي حق غيره، حتى وجب عليه التعزير، وينقض القضاء ويرد المال على المشهود عليه، وإن كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند الشهادة في العدالة ودونه يجب عليه التعزير.
ولا ينقض القضاء ولا يجب الضمان عليه، وهو قول أستاذه حماد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم رجع عن هذا وقال: لا يصح رجوعه في حق غيره، وعلى كل حال لا ينقض القضاء، ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - والأئمة الثلاثة، وذكر شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح " أدب القاضي " للخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي عن إبراهيم النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان حال المشهود، فذكر مثل ما ذكرناه الآن....
.. إلى آخره.
[كيفية الرجوع عن الشهادة]
م: قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم) ش: سواء كان هو الحاكم الأول أو غيره.
م: (لأنه) ش: أي لأن الرجوع عن الشهادة م: (فسخ للشهادة فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس، وهو مجلس القاضي أي قاض كان) ش: وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا الدليل لا يتم إلا إذا ثبت أن فسخ الشهادة يختص بما تختص به الشهادة وهو ممنوع، فإن الرجوع إقرار بضمان مال المشهود عليه على نفسه بسبب الإتلاف بالشهادة الكاذبة، والإقرار بذلك لا يختص بمجلس الحكم.
والجواب: أن الاستحقاق لا يرتفع ما دامت الحجة باقية، فلا بد من رفعها، والرجوع في غير مجلس الحكم ليس برفع للحجة؛ لأن الشهادة في غير مجلسه ليست بحجة، والإقرار بالضمان مرتب على ارتفاعها أو تثبت في ضمنه فكان من توابعه.
م: (ولأن الرجوع توبة) ش: أي لأن الرجوع عن الشهادة توبة عن جناية الكذب، م: (والتوبة على حسب الجناية، فالسر بالسر، والإعلان بالإعلان) ش: فالشهادة كانت بالإعلان، والرجوع أيضا كذلك، وهذا للفظ جاء في حديث معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه إلى اليمن فقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أوصني يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " عليك بتقوى الله تعالى ما استطعت،(9/201)
وإذا لم يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان. وكذا لا تقبل بينته عليها؛ لأنه ادعى رجوعا باطلا، حتى لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل؛ لأن السبب صحيح.
. قال: وإذا شهد شاهدان بمال، فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال للمشهود عليه؛ لأن التسبيب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر، وقد سببا للإتلاف تعديا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمنان؛ لأنه لا عبرة للتسبيب عند وجود المباشرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واذكر الله تعالى عند كل شجر وحجر، وإذا علمت شرا فأحدث توبة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية» .
م: (وإذا لم يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان) ش: لأنه البينة، واليمين يترتبان على دعوى صحيحة، ودعوى الرجوع في غير مجلس الحكم باطلة م: (وكذا لا تقبل بينته) ش: أي بينة المشهود عليه م: (عليها) ش: أي على الشاهدين م: (لأنه ادعى رجوعا باطلا) ش: إذ الرجوع في غير مجلس القاضي باطل م: (حتى لو أقام) ش: أي المشهود عليه م: (البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل) ش: أي بينته م: (لأن السبب صحيح) .
قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الضمير المستكن في ضمنه يجوز أن يكون للقاضي، ومعناه حكم عليه بالضمان، لكنه لم يعط شيئا إلى الآن، ويجوز أن يكون للمدعي، ومعناه طلب من القاضي تضمنه وإلا كف، واللام في قوله لأن السبب بدل من المضاف إليه وهو قبول البينة، أي لأن سبب قبول البينة صحيح، وهو دعوى الرجوع في مجلس حكم، وقيل هو الضمان، ومعناه: لأن سبب الضمان صحيح، وهو الرجوع عند الحاكم، وليس بصحيح؛ لأن الدعوى حينئذ ليست بمطابقة للدليل، فإنها قبول البينة لا وجوب الضمان.
[شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال للمشهود عليه) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في القول الأصح، وعنه في قول لا يضمنان م: (لأن التسبيب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر) ش: وواضع الحجر م: (وقد سببا) ش: أي الشاهدان م: (للإتلاف تعديا) ش: أي من حيث التعدي فوجب الضمان على الشهود.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يضمنان؛ لأنه لا عبرة للتسبيب عند وجود المباشرة) ش: هذا ينتقض بشهود القصاص إذا رجعوا على أصله، وبالمحرم إذا أمسك صيدا حتى قتله محرم(9/202)
قلنا تعذر إيجاب الضمان على المباشر وهو القاضي؛ لأنه كالملجأ إلى القضاء، وفي إيجابه صرف الناس عن تقلده وتعذر استيفاؤه من المدعي؛ لأن الحكم ماض، فاعتبر التسبيب، وإنما يضمنان إذا قبض المدعي المال دينا كان أو عينا؛ لأن الإتلاف به يتحقق. ولأنه لا مماثلة بين أخذ العين وإلزام الدين.
قال: فإن رجع أحدهما ضمن النصف، والأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
آخر لا يقال: إن الشهود لم يوجد منهم إلا مجرد القول، ومجرد القول لا يوجب الضمان، لأنا نقول: يبطل ذلك بشهود العتق والطلاق قبل الدخول إذا رجعوا.
م: (قلنا: تعذر إيجاب الضمان على المباشر وهو القاضي؛ لأنه كالملجأ إلى القضاء) ش: لأن القضاء فرض عليه بما يثبت عنده ظاهرا حتى لو لم يرد وجوب القضاء عليه يكفر، ولو رأى ذلك ومع هذا أخر القضاء يفسق، وإذا كان كالملجأ معذورا في قضائه، وإنما قال " كالملجأ " ولم يقل " أنه ملجأ حقيقة "، إذ لو كان ملجأ حقيقة على الحكم بعد الشهادة لوجب القصاص على الشاهدين في الشهادة بالقتل العمد، إذا ظهر كذبه كما في المكره، كما هو مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وليس كذلك، وهذا لأن الملجأ حقيقة من يخاف العقوبة الدنيوية، والقاضي إنما يخاف عقوبة الآخرة، ولا يصير به ملجأ؛ لأن كل واحد يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها في الآخرة ولا يصير به مكرها، ولكن لا يجب الضمان على القاضي لأنه غير متعمد.
م: (وفي إيجابه) ش: أي وفي إيجاب الضمان على القاضي م: (صرف الناس عن تقلده) ش: أي عن تقلد القضاء، وفي ذلك ضرر عام فيحتمل الضرر الخاص م: (وتعذر استيفاؤه من المدعي) ش: أيضا م: (لأن الحكم ماض فاعتبر التسبيب) ش: لأن الشهود صاروا لأجله سببا لإزالة مال متقوم للغير بغير حق، كما لو شهدوا بالعتق ثم رجعوا م: (وإنما يضمنان) ش: أي الشاهدان م: (إذا قبض المدعي المال) ش: سواء م: (دينا كان أو عينا؛ لأن الإتلاف به) ش: أي بالقبض م: (يتحقق) ش: وفي ذلك لا يتفاوت بين العين والدين، وهو اختيار شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفرق شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين العين والدين، فقال: إن كان المشهود به عينا يضمن للمشهود عليه قبض المدعي العين أولا، وإن كان المشهود به دينا يضمنه إذا استوفاه المدعى عليه.
م: (ولأنه لا مماثلة بين أخذ العين وإلزام الدين) ش: بيان ذلك أنهما إذا لزما دينا بشهادتهما فلو ضمنا قبل الأداء إلى المدعي كان قد استوفى منهما عينا بمقابلة دين، ولا مماثلة بينهما، وقال الأترازي: يعني أن المشهود به إذا كان دينا لم يستوفه المشهود له لا يجب الضمان على الشهود؛ لأن الضمان يعتمد على المماثلة، ولا مماثلة بين العين والدين.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: فإن رجع أحدهما) ش: أي أحد الشاهدين م:(9/203)
أن المعتبر في هذا إبقاء من بقي لا رجوع من رجع، وقد بقي من بقي بشهادته نصف الحق. وإن شهد بالمال ثلاثة، فرجع أحدهم فلا ضمان عليه؛ لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، وهذا لأن الاستحقاق باق بالحجة، والمتلف متى استحق سقط الضمان فأولى أن يمتنع. فإن رجع آخر ضمن الراجعان نصف الحق؛ لأن ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ضمن النصف) ش: أي النصف المشهود به م: (والأصل) ش: هنا ما ذكروا في " شرح الجامع الكبير " م: (أن المعتبر في هذا بقاء من بقي لا رجوع من رجع، وقد بقي من بقي بشهادته نصف الحق) ش: لأن وجوب الحق في الحقيقة بشهادة الشاهدين، وما زاد فهو فضل في حق القضاء، إلا أن الشهود إذا كانوا أكثر من الاثنين يضاف القضاء، ووجوب الحق إلى الكل لاستواء حالهم، وإذا رجع واحد زال الاستواء وجلت إضافة القضاء إلى الشيء.
وعلى هذا رجع أحد الاثنين ضمن النصف؛ لأنه بقي من شهادة من بقي نصف الحق، فإن قيل: لا نسلم ذلك وأن الباقي فرد لا يصح لإثبات شيء به ابتداء فكذا بقاء. أجيب بأن البقاء أسهل من الابتداء، فيجوز أن يصلح في البقاء للإثبات ما لا يصلح في الابتداء لذلك كما في النصاب، فإن بعضه لا يصلح في الابتداء لإثبات الوجوب، ويصلح في البقاء بقدره.
م: (وإن شهد بالمال ثلاثة، فرجع أحدهم فلا ضمان عليه) ش: أي على الراجع م: (لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وقال أحمد: يغرم ثلث الحق، وبه قال الشافعي في قول آخر، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (وهذا) ش: يعني عدم الضمان على الثالث الذي رجع، وقال الأترازي: وهذا، إشارة إلى قوله: لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق م: (لأن الاستحقاق) ش: أي المدعي للشهود به م: (باق بالحجة) ش: التامة.
م: (والمتلف متى استحق سقط الضمان) ش: أي عن المتلف بكسر اللام، صورته فيما إذا أتلف إنسان مال زيد فقضى القاضي له على المتلف بالضمان، ثم استحق المتلف عمرو، وأخذ الضمان من المتلف سقط الضمان الثابت لزيد بقضاء القاضي على المتلف م: (فأولى أن يمتنع) ش: أي الضمان من الراجع؛ لأن ابتداء استحقاق التلف يسقط الضمان، فبقاؤه أولى أن يمنع؛ لأن المنع أسهل من الدفع.
م: (فإن رجع آخر) ش: أي من الثلاثة م: (ضمن الراجعان نصف المال؛ لأن ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق) ش: هذا أيضا بناء على الأصل المتقدم؛ لأن العبرة لما كان لبقاء من بقي كان الباقي نصف الحق، فإذا بقي نصف الحق كان الثالث بالرجوع نصف الحق لا محالة فيضمنه الراجعان؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر، فكان ضمان النصف عليهما على السواء.(9/204)
وإن شهد رجل وامرأتان، فرجعت امرأة وضمنت ربع الحق لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي، وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق؛ لأن بشهادة الرجل بقي نصف الحق. وإن شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجع ثمان فقط فلا ضمان عليهن؛ لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق، فإن رجعت أخرى كان عليهن ربع الحق؛ لأنه بقي النصف بشهادة الرجل والربع بشهادة الباقية، فبقي ثلاثة الأرباع. وإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق، وعلى النسوة خمسة أسداسه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: على الرجل النصف، وعلى النسوة النصف؛ لأنهن وإن كثرن يقمن مقام رجل واحد، ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: ينبغي أن يضمن الراجع الثاني فقط؛ لأن التلف إنما أضيف إليه.
قلنا: التلف مضاف إلى المجموع، إلا أن برجوع الأول لم يظهر أثره لمانع وهو بقاء من بقي، فإذا رجع الباقي ظهر أن التلف بهما.
[شهد رجل وامرأتان فرجعت امرأة]
م: (وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت امرأة وضمنت ربع الحق لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي، وإن رجعتا) ش: أي المرأتان م: (ضمنتا نصف الحق؛ لأن بشهادة الرجل بقي نصف الحق) .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن شهد رجل وعشرة نسوة ثم رجع ثمان فقط) ش: من النساء م: (فلا ضمان عليهن؛ لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق) ش: وبه قال مالك والشافعي - رحمهما الله - في قول.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب عليهن أربعة أسدسة من الضمان، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح، م: (فإن رجعت أخرى كان عليهن) ش: أي على تسع نسوة م: (ربع الحق) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول.
م: (لأنه بقي النصف بشهادة الرجل والربع) ش: أي ربع الحق م: (بشهادة الباقية فبقي ثلاثة الأرباع، وإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق وعلى النسوة خمسة أسداسه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقالا:) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (على الرجل النصف وعلى النسوة النصف) ش: وبه قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنهن وإن كثرن يقمن مقام رجل واحد، ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل) ش: معهن، فلا تقبل شهادتهن وحدهن، فصارت شهادة عشر نسوة كشهادة امرأتين، فصار الضمان على الرجل والنسوة إنصافا.(9/205)
في نقصان عقلهن: " عدلت شهادة اثنتين منهن بشهادة رجل واحد " فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال، ثم رجعوا، وإن رجع النسوة العشرة دون الرجل كان عليهن نصف الحق على القولين لما قلنا.
" ولو شهد رجلان وامرأة بما ثم رجعوا، فالضمان عليهما دون المرأة؛ لأن الواحدة ليست بشهادة، بل هي بعض الشاهد فلا يضاف إليه الحكم. قال: وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا، فلا ضمان عليهما. وكذلك إذا شهدا بأقل من مهر مثلها؛ لأن منافع البعض غير متقومة عند الإتلاف؛ لأن التضمين يستدعي المماثلة على ما عرف، وإنما تضمن وتتقوم بالتملك؛ لأنها تصير متقومة ضرورة الملك إبانة لخطر المحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في نقصان عقلهن: «عدلت شهادة كل اثنتين منهن بشهادة رجل واحد» ش: أخرجه البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي سعيد الخدري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر النساء..... " الحديث، وفيه " أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل بشهادة رجل
.» الحديث " م: (فصار) ش: يعني إذا كانت امرأتان كرجل صار م: (كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا، وإن رجع النسوة العشرة دون الرجل كان عليهن نصف الحق على القولين) ش: أي على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول صاحبيه - رحمهما الله - م: (لما قلنا) ش: إن المعتبر هو بقاء من بقي، فالرجل يبقى ببقائه نصف الحق.
[شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا]
م: (ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا فالضمان عليهما) ش: أي على الرجلين م: (دون المرأة؛ لأن الواحدة ليست بشاهدة، بل هي بعض الشاهد فلا يضاف إليه) ش: أي إلى بعض الشاهد م: (الحكم) ش: لأن القضاء يضاف إلى شهادة رجلين دون المرأة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما) ش: أي على الشاهدين م: (وكذلك إذا شهدا بأقل من مهر مثلها؛ لأن منافع البضع غير متقومة) ش: فلا تكون مضمونة م: (عند الإتلاف؛ لأن التضمين يستدعي المماثلة) ش: أي لا ضمان عليهما، وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يضمنان لها ما زاد على ما شهدا إلى تمام مهر المثل م: (على ما عرف) ش: يعني بالنصف وهو قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: الآية 194) . ولا مماثلة بين العين والمنفعة التي هي العوض، أعني منفعة البضع، فلا يجب الضمان كما في إتلاف سائر منافع المغصوب، حيث لا يجب الضمان عندنا خلافا للشافعي.
م: (وإنما تضمن) ش: جواب عما يقال لو لم يكن المنافع متقومة لكانت بالتملك بذلك فأجاب بقوله: إنما تضمن أي المنافع م: (وتتقوم بالتملك لأنها) ش: أي لأن المنافع م: (تصير(9/206)
وكذلك إذا شهدا على رجل بتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها؛ لأنه إتلاف بعوض لما أن البضع متقوم حال الدخول في الملك والإتلاف بعوض كلا إتلاف، وهذا لأن مبنى الضمان على المماثلة، ولا مماثلة بين الإتلاف بعوض وبينه بغير عوض. وإن شهدا بأكثر من مهر المثل، ثم رجعا ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفاها من غير عوض. قال: وإن شهدا ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا؛ لأنه ليس بإتلاف معنى نظرا إلى العوض. وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان؛ لأنهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض، ولا فرق بين أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع. لأن السبب هو البيع السابق، فيضاف الحكم عند سقوط الخيار إليه، فيضاف التلف إليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متقومة ضرورة الملك إبانة) ش: أي إظهارا م: (لخطر المحل) ش: حتى يكون مصونا عن الابتذال م: (وكذلك) ش: أي لا ضمان م: (إذا شهدا على رجل بتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها؛ لأنه إتلاف بعوض لما أن البضع متقوم حال الدخول في الملك والإتلاف بعوض كلا إتلاف) ش: كما لو شهد بشراء شيء بمثل قيمته ثم رجعا لا يضمنان م: (وهذا لأن مبنى الضمان على المماثلة) ش: معناه لعدم المماثلة بينهما وهو معنى قوله: م: (ولا مماثلة بين الإتلاف بعوض وبينه بغير عوض، وإن شهدا بأكثر من مهر ثم رجعا ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفها) ش: أي الزيادة م: (من غير عوض) ش: وهو يوجب الضمان.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن شهدا ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان المدعي هو المشتري، ولو كان المدعي هو البائع بأن ادعى رجل أنه باع عبده منه بألف درهم والمشتري ينكر، وقيمة العبد خمسمائة وشهدا بذلك ثم رجعا يضمنان خمسمائة، ولو كان المشتري يدعي المبيع بخمسمائة والعبد يساوي ألف درهم فشهد المشتري ثم رجعا يضمنان للبائع خمسمائة ذكره في " شرح الطحاوي " م: (لأنه ليس بإتلاف معنى) ش: أي من حيث المعنى م: (نظرا إلى العوض) ش: لأنهما لما أخرجا البيع من ملكه فقد أدخلا في ملكه بإزائه مثله، م: (وإن كان أقل من القيمة ضمنا النقصان) ش: أي للبائع إن كان المدعي هو المشتري م: (لأنهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض) ش: أي الجزء الذي هو في مقابله الألف من قيمته بلا عوض.
م: (ولا فرق بين أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع؛ لأن السبب هو البيع السابق) ش: أي لأن السبب المزيل للملك هو العقد السابق على مضي المدة أو على سقوط بمضي المدة م: (فيضاف الحكم) ش: وهو زوال الملك م: (عند سقوط الخيار إليه) ش: أي إلى ذلك السبب، وقد حصل سبب الزوال بشهادة الشهود م: (فيضاف التلف إليهم) ش: يجب عليهم ضمان النقصان.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا الذي ذكره جواب سؤال بأن يقال: ينبغي أن لا يجب الضمان على الشاهدين إذا شهدا بالبيع بشرط الخيار؛ لأنهما لم تبلغا شيئا على البائع؛ لأنهما أثبتا(9/207)
وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول بها، ثم رجعا ضمنا نصف المهر؛ لأنهما أكدا ضمانا على شرف السقوط، ألا ترى أنها لو طاوعت ابن الزوج أو ارتدت سقط المهر أصلا، ولأن الفرقة قبل الدخول في معنى الفسخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البيع بشرط الخيار، والبائع لم يزل ملكه عن البيع بعد، وإنما يزول إذا مضت المدة وهو ساكت، فإذا سكت عن الرد كان راضيا بزوال ملكه، فكيف يجب الضمان على الشهود حينئذ؟، فقال: لأن السبب هو السابق...... إلى آخره.
[شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول بها ثم رجعا]
م: (وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول بها، ثم رجعا ضمنا نصف المهر) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الربيع عنه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية المزني عنه: يضمن مهر المثل؛ لأن البضع عنده متقوم دخولا وخروجا.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أشهب عنه: لا ضمان على الشهود م: (لأنهما) ش: أي لأن الشاهدين م: (أكدا ضمانا على شرف السقوط) ش: بارتدادها وتقبيلها ابن زوجها وهو معنى قوله م: (ألا ترى أنها) ش: أي أن المرأة م: (لو طاوعت ابن الزوج أو ارتدت سقط المهر أصلا) ش: أي لأنه حينئذ يسقط عنه جميع المهر، والتأكيد شبهة بالإيجاب، ولهذا إذا أكره الرجل على طلاق امرأته قبل الدخول بها، كان له أن يرجع بنصف المهر على الذي أكرهه.
م: (ولأن الفرقة قبل الدخول) ش: أي قبل دخول الزوج عليها م: (في معنى الفسخ) ش: يعود المبدل وهو البضع إليها كما كان، فصار بمنزلة الفسخ قبل قبض المبيع، وإنما قال في معنى الفسخ ولم يقل هو فسخ؛ لأن النكاح بعد اللزوم لا يقبل الفسخ، لكن لما عاد المبدل إليها قبل الدخول كما كان صار بمنزلة الفسخ، فيكون وجوب نصف المهر ابتداء بشهادتهما.
وإنما قال: النكاح بعد اللزوم لا تقبل الفسخ، فيكون وجوب نصف المهر بشهادتهما، وإنما قال النكاح بعد اللزوم لا تقبل الفسخ؛ لأنه قبل اللزوم يقبله، كما لو نكح الصغيرة أخره، فلها خيار الفسخ بعد البلوغ لما أن النكاح لم يقع لازما، وإنما قيد قبل الدخول؛ لأنه لو طلقها بعد الدخول لم يجب شيء عليهما بالرجوع عندنا ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجب مهر المثل عليهما والمسألة مشهورة، وفي " الكافي ": لو شهدا بالطلاق قبل الدخول ثم رجعا بعد موته عزما لورثته نصف المهر، ولم ترث لأنا حكمنا بالبينونة قبل الموت في حال الحياة، ولو شهدا بعد موت الزوج أنه طلقها قبل الدخول في حياته، ثم رجعا لم يضمنا للورثة؛ لأن الشهادة وقعت لهم وضمنا للمرأة نصف المهر والميراث، وبه قال(9/208)
فيوجب سقوط جميع المهر كما مر في النكاح، ثم يجب نصف المهر ابتداء بطريقة المتعة، فكان واجبا بشهادتهما.
قال: وإن شهدا على أنه أعتق عبده ثم رجعا، ضمنا قيمته لأنهما أتلفا مالية العبد عليه من غير عوض والولاء للمعتق؛ لأن العتق لا يتحول إليهما بهذا الضمان، فلا يتحول الولاء إليهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (فيوجب) ش: أي الفرقة م: (سقوط جميع المهر كما مر في النكاح) ش: أي في باب المهر عند قوله: وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا لمطلقة واحدة، وهي التي طلقها قبل الدخول بها وقد سمى لها مهرا.
وفي " التحفة ": ولو شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا، وقد دخل بها وقضى القاضي ثم رجعا يضمنان الأمان أو على مهر المثل؛ لأن بقدر المهر إتلاف بعوض وهو استيفاء منافع البضع؛ لأن قبل الدخول إن كان المهر مسمى ضمنا النصف وإن لم يكن مسمى يضمنان المتعة؛ لأن ذلك تلف بشهادتهما، ولم يحصل له بمقابلته عوض.
م: (ثم يجب نصف المهر ابتداء بطريقة المتعة) ش: ولهذا لا يجمع بينهما وبين مهر المثل. حاصل الكلام: أن نصف المهر إنما يجب في الطلاق قبل الدخول ابتداء على طريق المتعة، وقد ألزمه الشاهدان على الزوج ولم يكن واجب عليه م: (فكان واجبا بشهادتهما) ش: فوجب الضمان عليهما كما إذا شهدا بمال فقضى به ثم رجعا.
[شهدا على أنه أعتق عبده ثم رجعا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن شهدا على أنه أعتق عبده، ثم رجعا ضمنا قيمته) ش: أي قيمة العبد، ولا خلاف فيه موسرين كانا أو معسرين م: (لأنهما أتلفا مالية العبد عليه) ش: أي على مولى العبد م: (من غير عوض والولاء للمعتق؛ لأن العتق لا يتحول إليهما) ش: أي إلى الشاهدين م: (بهذا الضمان) ش: لأنه مما لا يحتمل الفسخ، فإذا كان كذلك م: (فلا يتحول الولاء إليهما) ش: لأن الولاء لمن أعتق، فإن قيل ينبغي أن لا يكون الولاء للمولى لأنه ينكر العتق، قلنا صار مكذبا شرعا بالقضاء؛ لأن القاضي لما قضى عليه بالعتق تبعه بالولاء.
وفي " المبسوط ": لو شهدا أنه دبره فقضى بذلك ثم رجعا ضمنا ما نقضه التدبير؛ لأن ملك المالية للموصي ينتقض بالتدبير فيضمنان النقصان؛ ولو شهدا بالكتابة فقضى بذلك، ثم رجعا ضمنا قيمة العبد، ويتبعان المكاتب ببدل الكتاب على نحوهما؛ لأنهما قاما مقام المولى في ذلك حتى ضمنا قيمته، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا قال في المدبر.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في المكاتب يرجع بالنقصان ولا يعتق المكاتب حتى يؤدي ما عليه إليهما، فإذا أداه إليهما، فالولاء للذي كاتبه، ولو عجز ورد إلى الرق كان لمولاه؛ لأن رقبته لم(9/209)
وإن شهدوا بقصاص، ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا الدية، ولا يقتص منهم. وقال الشافعي: يقتص منهم لوجود القتل منهم تسبيبا، فأشبه المكره بل أولى؛ لأن الولي يعان والمكره يمنع. ولنا: أن القتل مباشرة لم يوجد، وكذا تسبيبا؛ لأن التسبيب ما يفضي إليه غالبا. وهاهنا لا يفضي؛ لأن العفو مندوب بخلاف المكره؛ لأنه يؤثر حياته ظاهرا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعد مملوكة لهما، ولو شهدا بإقرار المولى أن أمته أم ولده والمولى ينكر فقضى بذلك ثم رجعا، فإن لم يكن معها ولد ضمنا نقصان قيمتها، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ضمنا قيمتها للمولى.
[شهدوا بقصاص ثم رجعوا بعد القتل]
م: (وإن شهدوا بقصاص ثم رجعوا بعد القتل ضمنا الدية) ش: وبه قال ابن القاسم المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يقتص منهم) ش: أي من الشاهدين م: (وقال الشافعي: يقتص منهم) ش: وبه قال أحمد وأشهب المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لوجود القتل منهم تسبيبا) ش: أي من حيث السببية م: (فأشبه المكره) ش: بكسر الراء، أي فأشبه المسبب ها هنا وهو الشاهد المكره.
قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الشاهد المكره إن كان اسم فاعل أو أشبه القاضي المكره؛ لأنه كالملجأ بشهادتهما حتى لو لم ير الوجوب كفر إن كان اسم مفعول، وقيل: أشبه الولي المكره وهو ليس بشيء؛ لأنه ليس بملجأ إلى القتل م: (بل أولى) ش: أي التشبيه ها هنا أولى من الإكراه؛ لأن التشبيه موجب من حيث الإفضاء، ولا إفضاء ها هنا أكثر م: (لأن الولي يعان) ش: على الاستيفاء م: (والمكره) ش: بفتح الراء م: (يمنع) ش: لأن الشاهد بمنزلة المكره بكسر الراء، والولي بمنزلة المكره بفتح الراء.
م: (ولنا أن القتل مباشرة) ش: أي من حيث المباشرة م: (لم يوجد، وكذا) ش: أي وكذا لم يوجد م: (تسبيبا) ش: أي من حيث السببية، وكل واحد من قوله مباشرة وتسبيبا نصب على التمييز لما قدرنا.
م: (لأن التسبيب ما يفضي إليه غالبا، وها هنا لا يفضي) ش: فيما نحن فيه م: (لأن العفو مندوب) ش: من الولي. قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] (البقرة الآية: 237) . م: (بخلاف المكره) ش: بفتح الراء م: (لأنه يؤثر حياته ظاهرا) ش: والإكراه يفضي إلى القتل غالبا.
وفي " الكافي ": وقوله في " الهداية " ولنا أن القتل مباشرة لم يوجد، إلى قوله: لأنه يؤثر حياته ظاهرا، مشكل لأن الأمر على القلب والظاهر، أن الولي يقدم على القتل لكونه مباحا، وبه يدرك تارة، والظاهر أن المكره لا يقتل لأنه لا يباح له قتله، ويحتمل أن يرتدع المكره عنه أو يلحقه الفوت، أجيب عنه بأنه إنما قال الشيخ ظاهرا بالنظر إلى حال المسلم المتدين؛ لأنه لا يلحقه بعفوه ضرر بنفسه وماله، ويحصل له للأجر الكثير، فأما المكره يختار حياته بأدنى رخصة في الشرع، وترجحه على حياة غيره، واحتمال الفوت نادر، وعلى تقدير لحوق الفوت لم يبق(9/210)
ولأن الفعل الاختياري مما يقطع النسبة، ثم لا أقل من الشبهة وهي دارئة للقصاص، بخلاف المال؛ لأنه يثبت مع الشبهات والباقي يعرف المختلف.
قال: وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإكراه وكلامنا في الإكراه.
م: (ولأن الفعل الاختياري) ش: هذا جواب عما يقال ظهور إيثار حياته، إما أن يكون شرعا أو طبعا، فالأول ممنوع لأن المسلم مندوب إلى الصبر على القتل، فصار كالعفو عن القصاص، والثاني مسلم ولكنه معارض بطبع ولي المقتول، فإنه يؤثر السعي في القصاص ظاهرا، فأجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بطريق التبدل فقال: ولأن الفعل الاختياري - يعني سلمنا أن ثمة سبب ولكن الفعل الاختياري م: (مما يقطع النسبة) ش: أي نسبة ذلك العقل إلى غيره، والفعل ها هنا وهو القتل وجد من المولى باختياره الصحيح، فيقطع نسبته إلى الشهود، سلمنا أنه لا يقطع نسبته إلى الشهود، ولكن من شبهة هو معنى قوله:
م: (ثم لا أقل من شبهة) ش: أي لا أقل أن يورث شبهته، أي شبهة قطع النسبة م: (وهي دارئة للقصاص) ش: أي مانعة من القصاص.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولأن الفعل الاختياري..... إلى آخره، وهو قتل الولي يعني بعد الشهادة وحكم القاضي، وجد فعل الولي وهو ذلك مختار، فيقطع النسبة عن الشهود، كما إذا اشتكى إنسان كلبا على آخر فخرق ثوب المشتكى عليه لا يضمن المشتكى شيئا؛ لأن الخوف فعل اختياري من الكلب فيقطع النسبة عن المشتكى، وكمن فتح باب القفص حتى طار الطير، بخلاف المكره، فإنه وإن كان مختارا لكنه فاسد الاختيار، فصار كالآلة، بخلاف شق الذق بعدم إمكان الإضافة إلى المائع لعدم الاختيار.
م: (بخلاف المال) ش: أي الدية م: (لأنه) ش: أي لأن المال م: (يثبت مع الشبهات) ش: فلا يلزم من سقوط ما يسقط بالشبهات سقوط ما يثبت بها. فإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية، فإن رجع الولي معهما، أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين تضمين الشاهدين، أو تضمين القاتل لأن القاتل متلف حقيقة، والشاهدين حكما، فإن ضمن الولي لم يرجع على الشاهدين بشيء.
وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما م: (والباقي يعرف في المختلف) ش: أي في مختلف الرواية تصنيف الفقيه أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا مصنف علاء الدين العالم.
[رجوع شهود الفرع عن شهادتهم في مجلس القاضي بعد القضاء بشهادتهم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا) ش: يعني إذا(9/211)
لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم، فكان التلف مضافا إليهم. ولو رجع شهود الأصل وقالوا: لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا، فلا ضمان عليهم؛ لأنهم أنكروا السبب وهو الإشهاد. فلا يبطل القضاء لأنه خبر محتمل، فصار كرجوع الشاهد بخلاف ما قبل القضاء. وإن قالوا: أشهدناهم وغلطنا ضمنوا، وهذا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: لا ضمان عليهم؛ لأن القضاء وقع بشهادة الفروع؛ لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة وهي شهادتهم، وله: أن الفروع نقلوا شهادة الأصول، فصار كأنهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجعوا عن شهادتهم في مجلس القاضي بعد القضاء بشهادتهم ضمنوا المشهود به م: (لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم، فكان التلف مضافا إليهم) ش: فوجب عليهم الضمان.
م: (ولو رجع شهود الأصل وقالوا لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا، فلا ضمان عليهم لأنهم أنكروا السبب وهو الإشهاد) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: يضمنون كالمرتهن، م: (فلا يبطل القضاء لأنه خبر محتمل) ش: للصدق والكذب، فلا يبطل القضاء بالاحتمال.
م: (فصار كرجوع الشاهد) ش: أي شاهد الأصل، كما لو شهد بنفسه وقضى القاضي بشهادته، ثم رجع لا يبطل القضاء بالرجوع، فكذا لا يبطل بإنكار الإشهاد م: (بخلاف ما قبل القضاء) ش: يعني إذا أنكر شهود الأصل الإشهاد قبل القضاء بشهادة الفروع لا يقضي القاضي بشهادة الفروع بعد ذلك، كما إذا رجع الشهود قبل القضاء حيث لا يحكم القاضي بذلك.
م: وإن قالوا:) ش: أي الأصول م: أشهدنا وغلطنا ضمنوا) ش: أي الأصول م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لا ضمان عليهم، لأن القضاء وقع بشهادة الفروع؛ لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة وهي) ش: أي الحجة م: (شهادتهم) ش: فالمسألة ذكرها القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يذكر الخلاف، وذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومثل ما ذكره ذكر " شرح الطحاوي " وعامة " شروح الجامع الكبير " و " الشامل ".
وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح أدب القاضي ": وروى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أصحابنا أنه لا شيء عليهم. وروى أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ": أن عليهم ضمان ذلك عاما في ظاهر الرواية، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - لا يضمنون، وعلى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمنون كما روى أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ".
م: (وله: أن) ش: أي ولمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الفروع نقلوا شهادة الأصول، فصار كأنهم(9/212)
حضروا، ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير؛ لأن القضاء وقع بشهادتهم. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - المشهود عليه بالخيار إن شاء ضمن الأصول، وإن شاء ضمن الفروع؛ لأن القضاء وقع بشهادة الفروع من الوجه الذي ذكرا، وبشهادة الأصول من الوجه الذي ذكر، فيتخير بينهما. والجهتان متغايرتان، فلا يجمع بينهما في التضمين.
وإن قال شهود الفرع: كذب شهود الأصل أو غلطوا في شهادتهم لم يلتفت إلى ذلك؛ لأن ما أمضى من القضاء لا ينتقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم؛ لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حضروا) ش: وشهدوا ثم حضروا ورجعوا م: (ولو رجع الأصول والفروع جميعا) ش: أي فعند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير؛ لأن القضاء وقع بشهادتهم) ش: وهذا لأن سبب الإتلاف الشهادة القائمة في مجلس القاضي، وإذا وجد من الفروع فيجب عليهم الضمان عند الرجوع.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المشهود عليه بالخيار إن شاء ضمن الأصول، وإن شاء ضمن الفروع؛ لأن القضاء وقع بشهادة الفروع من الوجه الذي ذكرا) ش: أي أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله -: وهو أن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة، وهي شهادتهم م: (وبشهادة الأصول) ش: أي القضاء وقع بشهادة الأصول م: (من الوجه الذي ذكر) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قوله - إن الفروع نقلوا شهادة الأصول - م: (فيتخير بينهما) ش: أي يتخير الشهود عليه في التضمين بينهما، أي بين الوجهين إن شاء ضمن الأصول، وإن شاء ضمن الفروع على مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (والجهتان متغايرتان) ش: هذا جواب عما يقال لم لا يجمع بين الجهتين حتى يضمن كل فريق نصف التلف، وتقريره أن الجهتين متغايرتان؛ لأن شهادة الأصول كانت على أصل الحق وشهادة الفروع على شهادة الأصول ولا مجانسة بينهما م: (فلا يجمع بينهما) ش: أي بين الأصول والفروع م: (في التضمين) ش: بأن يقال: يضمن الفريقان حق المدعي عليه أيضا قابل له الخيار وفي تضمين أي الفريقين شاء.
[قال شهود الفرع كذب شهود الأصل وغلطوا في شهادتهم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن قال شهود الفرع: كذب شهود الأصل وغلطوا في شهادتهم لم يلتفت إلى ذلك) ش: أي إلى قولهم، وهذا القول بعد القضاء بشهادتهما، ولم يكن مهما ضمان ذلك؛ لأنهما يقران على غيرهما بأنهما كذبا، فلا يقبل قولهما فيه م: (لأن ما أمضى من القضاء لا ينتقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم؛ لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم، إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع) ش: وذلك لا يفيد شيئا.(9/213)
قال: وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يضمنون لأنهم أثنوا على الشهود خيرا، فصاروا كشهود الإحصان. وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية، فصارت بمعنى علة العلة. بخلاف شهود الإحصان؛ لأنه شرط محض.
قال: وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا، فالضمان على شهود اليمين خاصة؛ لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا) ش: لم يذكر القدوري فيه الخلاف، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:، وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقالا: لا يضمنون؛ لأنهم أثنوا على الشهود خيرا) ش: ولم يشهدوا بحق م: (فصاروا كشهود الإحصان) ش: إذا شهدوا بإحصان المشهود عليه، فإذا رجعوا بعد ذلك لا يضمنون. م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التزكية إعمال للشهادة) ش: أي هي التي تميز الشهادة ويعمل بها م: (إذ القاضي لا يعمل بها) ش: أي بالشهادة م: (إلا بتزكية فصارت) ش: أي التزكية. م: (في معنى علة العلة) ش: والحكم يضاف إلى علة العلة كما يضاف إلى العلة، وإنما قال في معنى علة العلة؛ لأن الشهادة ليست بعلة، وإنما هي سبب أضيف الحكم إليه لتعذر الإضافة إلى العلة.
م: (بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض) ش: لأن الشهادة على الزنا بدون الإحصان موجبة للعقوبة، وشهود الإحصان ما جعلوا غير الموجب موجبا، والحاصل أن الإحصان ليس فيه معنى العلة؛ لأن الإحصان علامة معرفة لحكم الزنا الصادر بعد الإحصان، فلا يتوقف بثبوت الزنا على ثبوت الإحصان، ويتوقف الحكم بشهود الزنا على التزكية فظهر الفرق، ولو رجع شهود الإحصان لم يضمنوا عندنا، وعند الشافعي في قول، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: سواء رجعوا مع الشهود أو وحدهم، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي في قول، ومالك في رواية، وأحمد في رواية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمنون.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان) ش: أي وشهد شاهدان آخران م: (بوجود الشرط) ش: بيانه إذا شهد شاهدان على رجل أنه قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر وشهد آخران أنه دخل الدار، وقضى القاضي بعتقه.
م: (ثم رجعوا فالضمان) ش: أي ضمان قيمة العبد أو ضمان العبد م: (على شهود اليمين خاصة) ش: لفظ خاصة احتراز عن قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن الضمان عنده على الجميع م: (لأنه) ش: أي لأن اليمين م: (هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض) ش: لأن السبب إذا صلح لإضافة الحكم إليه لا يضاف إلى الشرط كحافر البئر مع الملقي، فإن الضمان(9/214)
ألا ترى أن القاضي يقضي بشهادة اليمين دون شهود الشرط، ولو رجع شهود الشرط وحدهم اختلف المشايخ فيه. ومعنى المسألة يمين العتاق والطلاق قبل الدخول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه دون الحافر، ثم أوضح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك بقوله.
م: (ألا ترى أن القاضي يقضي بشهادة شهود اليمين دون شهود الشرط) ش: يعني أن القاضي يسمع الشهادة باليمين ويحكم بها، وإن لم يشهد بالدخول، وإن لم يتعلق بشهادتهم حق صاروا كشهود الإحصان، فلا يلزمهم الضمان كذا في " شرح الأقطع ".
م: (ولو رجع شهود الشرط وحدهم اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيه) ش: وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إلى عدم وجوب الضمان على شهود الشرط. وفي " المبسوط ": ظن بعض مشايخنا أن شهود الشرط يضمنون بالرجوع فيما إذا كان اليمين ثابتا بإقرار الولي، وقالوا: لأن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها؛ لأنها ليست تنفذ، فيكون الحكم مضافا إلى الشرط، إذ الشرط يخلف العلة، وهو غلط، بل الصحيح من المذهب: أن شهود الشرط لا يضمنون، نص عليه في الزيادات؛ لأن قوله أنت حر مباشرة للإتلاف عند وجود المباشرة يضاف الحكم إليه لا إلى الشرط، سواء كان الشرط بطريق التعدي أو لا.
م: (ومعنى المسألة) ش: يريد به صورة المسألة م: (يمين العتق والطلاق قبل الدخول) ش: يعني شهد رجلان على أنه على عتق عبده أو طلاق امرأته بدخول الدار، وشهد آخران أنه وجد الشرط، فقضى القاضي بوقوع العتق والطلاق، ثم رجعوا جميعا، فالضمان على شهود اليمين دون الشرط لما قلنا، وإنما قيد بقوله قبل الدخول؛ لأن رجوع الشهود بالطلاق عن الشهادة إذا كان بعد دخول الزوج لا يضمنون شيئا، والله أعلم.(9/215)
كتاب الوكالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الوكالة]
[تعريف الوكالة وحكمها]
م: (كتاب الوكالة)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الوكالة، وجه المناسبة بينه وبين كتاب الشهادات من حيث أن كلا منهما إعانة الغير واجبا حقه. والوكالة بكسر الواو وفتحها، التفويض والتسليم من وكل إليه الأمر إذا فوضه إليه. ويقال: الوكالة لغة الحفظ، ومنه الوكيل في أسماء الله تعالى بمعنى الحافظ، وهو اسم للتوكيل من وكله، يوكله، توكيلا، والتوكيل إظهار العجز والاعتماد على الغير، والاسم التكلان، والوكيل القائم بما فوض إليه، والجمع الوكلاء فعيل بمعنى مفعول، ومعناه شرعا إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم وركنها لفظ وكلت وأشباهه.
وروى بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا قال الرجل لغيره أحببت أن تبيع عبدي هذا أو هويت أو رضيت، أو شئت، أو أردت، فذلك توكيل وأمر بالبيع، وشرطها أن يملك الموكل تصرفا ويلزم الأحكام، كما سيجيء إن شاء الله تعالى، وحكمها جواز مباشرة الوكيل، فوض إليه وصفتها أنه عقد جائز، يملك كل من الموكل والوكيل العزل بدون رضى صاحبه، وسببها ما هو السبب في سائر المعاملات، وهو تعلق بناء المقدور تعاطيها، ومشروعيتها بالكتاب هو قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] (الكهف: الآية 19) . ولم يلحقه النكير.
وبالسنة وهو ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل حكيم بن حزام بشراء الأضحية، وعروة البارقي به أيضا، وعمرو بن أمية بقبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأبا رافع بقبول نكاح ميمونة،» وبإجماع الأمة على جوازها من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا، وكذا المعقول يدل عليه، إذ الإنسان قد يعجز عن حفظ ماله عند خروجه للسفر، وقد يعجز عن التصرف في ماله، إما لقلة(9/216)
قال: كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره؛ لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هديته أو لكثرة أشغاله أو لكثرة ماله، أو لضعفه أو لوجاهته لا يتولى الأمور بنفسه فاقتضى هذا المعنى جوازها.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره) ش: هذه ضابطة يتبين بها ما يجوز للوكيل به وما لا يجوز، واعترض عليها بأنها غير متطردة منعكسة.
أما الأول: فلأن الإنسان جاز له أن يستقرض بنفسه، والتوكيل به باطل وتبع على المستقرض الذي هو التوكيل لا على الموكل، والوكيل يعقد بنفسه، وإذا وكل غيره ولم يؤذن له في ذلك لا يجوز له. والذي إذا وكل مسلما في الخمر لم يجز، وجاز أن يعقد الذي بنفسه فيها.
وأما الثاني: فإن المسلم لا يجوز له عقد بيع الخمر وشراءها بنفسه، ولو وكل ذميا بذلك جاز عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والجواب عن الأول: أن محل العقد من شروطه كون المحل ملكا مشروطا كما عرف وليس بموجود في التوكيل بالاستقراض؛ لأن الدراهم التي يستقرضها الوكيل ملك المقرض، والأمر بالتصرف في ملك الغير باطل.
وفي " الذخيرة ": لو أخرج الوكيل كلامه في الاستقراض مخرج الرسالة، بأن قال: فلان يستقرض منك كذا، ففعل المقرض تكون الدراهم للآمر حتى لا يكون للوكيل أن يمنع ذلك منه، ولو أخرج الكلام مخرج الوكالة بأن قال: أقرضني عشرة فالعشرة للوكيل، وله أن يمنعها من الآمر؛ لأن التوكيل بالاستقراض باطل، بخلاف الرسالة، والمراد من قوله " أن يعقده بنفسه " هو أن يكون مستبدا به، والوكيل ليس كذلك، والذي جاز له توكيل المسلم والممتنع توكيل المسلم عنه ليس كلامنا في ذلك لجواز أن يمنع مانع عن التوكيل، وإن صح التوكيل فقد وجد المانع وهو حرمة اقتراضه منها.
والجواب عن الثاني: بأن العكس غير لازم وليس بمقصود.
م: (لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال) ش: بأن يكون مريضا أو شيخا فانيا أو ذا وجاهة لا يتولى الأمور بنفسه، والتوكيل صحيح بدون هذه العوارض؛ لأن حكمة الحكم تراعى في الجنس لا في الإفراد كالسفر مع المسنة، وبهذا يجاب عما قيل بأن قوله " لأن الإنسان قد يعجز " دليل أخص من المدلول وهو جواز الوكالة فإنها جائزة. وإن لم يكن ثمة عجز(9/217)
فيحتاج إلى أن يوكل به غيره، فيكون بسبيل منه
دفعا للحاجة.
وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وكل بالشراء حكيم بن حزام وبالتزويج عمر بن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أصلا، وتقرير الجواب كان ذلك بيان حكمة الحكم، وهي تراعي في الجنس لا في الإفراد، ويجوز أن يقال: ذكر الخاص وأراد العام، وهو الحاجة لأن الحاجة للعجز حاجة خاصة، وهو مجاز شائع وحينئذ يكون المناط وهو الحاجة، وقد يوجد بلا عجز م: (فيحتاج إلى أن يوكل به غيره فيكون بسبيل منه) ش: أي من التوكيل م: (دفعا للحاجة) ش: أي لأجل دفع الحاجة.
م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل بالشراء حكيم بن حزام» ش: هذا رواه أبو داود في " سننه " حدثنا محمد بن كثير عن سفيان، حدثني أبو حصين عن شيخ من أهل المدينة «عن حكيم بن حزام أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار فباعها بدينارين، فرجع واشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتصدق به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا له أن يبارك له في تجارته» وفي إسناده مجهول ورواه الترمذي.
حدثنا أبو كريب عن أبي حفص عن حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام فذكره، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحبيب لم يسمع عندي عن حكيم، انتهى.
وهكذا كما رأيت رواية أبي داود فيه مجهول، ورواه الترمذي منقطعا، فكيف يكون صحيحا حتى يقول المصنف، وقد صح؟! ولكن يمكن أن أستدل هنا بحديث عروة البارقي، فإن البخاري أخرجه في " صحيحه " عن على بن عبد الله، عن سفيان «عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى له به شاتين. فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعى له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه» .
فإن قلت: قالوا البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما أخرجه بغير الاحتجاج به وذكروا فيه كلاما كثيرا.
قلت: قال ابن العربي: إنه حديث صحيح، وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا به، وهو قول أحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وكفى بهذين الإمامين حجة، وحكيم بن حزام بكسر الحاء المهملة وبالزاي ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ويكنى أبا خالد يوم الفتح، وشهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسلما، وكان من وجوه قريش وأشرافها، وعاش في الجاهلية ستين عاما، وفي الإسلام ستين عاما، ومات بالمدينة في خلافة معاوية - رَحِمَهُ اللَّهُ - سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وذهب بصره قبل أن يموت.
م: (وبالتزويج عمر بن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ش: أي وكل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتزويج عمر(9/218)
قال: وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهذا رواه النسائي في " سننه " في النكاح عن حماد بن سلمة، أنبأنا ثابت، حدثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إليها يخطبها..... الحديث، وفي آخره: فقالت أم سلمة: قم يا عمر فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فزوجه إياها ".»
وقال الأترازي: ولنا في توكيل عمر بن أبي سلمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة بعد واقعة بدر في سنة اثنين، كذا قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان عمر ابن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن تسع سنين، قاله الواقدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويكون على هذا الحساب سن عمر بن أبي سلمة سنة واحدة، فكيف يوكله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم تزوج أم سلمة وهو طفل لا يعقل؟! انتهى.
قلت: منه والذي قاله سبق به ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقال في " التحقيق " في هذا الحديث نظر؛ لأن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان له من العمر يوم تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث سنين، وكيف يقال لمثل هذا أن يزوج؟!، بيانه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها في سنة أربع، ومات - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولعمر تسع سنين، فعلى هذا يحمل قولها لعمر: قم فزوج، على الداعية للصغير، ولو صح أن الصغير زوجها فلأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لا يحتاج إلى ولي؛ لأنه مقطوع بكفاية.
وقال صاحب " التنقيح ": قوله: " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مات ولعمر تسع سنين " بعيد وإن كان قد قاله الكلاباذي وغيره.
قال ابن عبد البر: قال: إنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، ويقوي هذا ما أخرجه مسلم في " صحيحه " «عن عمر بن أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيقبل الصائم؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " سل هذه "، فأخبرته أم سلمة أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصنع ذلك، الحديث» . فظاهر هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان كبيرا، وعرفت هذا أن الأترازي تكلم في هذا من غير تحرير ولا مراجعة إلى كتب الحديث، والحديث أخرجه أيضا أحمد وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى في " مسانيدهم "، ورواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[الوكالة بالخصومة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سائر الحقوق أي جميعا، ثم قال: وفي الصحاح سائر الناس جميعهم.
قلت: ذكر الجوهري هذا في كتاب " الراء في فصل السين مع الياء "، سائر الناس جميعهم.(9/219)
لما قدمنا من الحاجة، إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل فيها عقيلا وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذا بإيفائها واستيفائها، إلا في الحدود والقصاص، فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالوا إنه وهم من وجهين، أحدهما في تفسيره؛ لأن السائر بمعنى الباقي لا بمعنى الجميع، والثاني أنه أورد في الأجوف وهو مهموز العين، وفي المثل السائر: اليوم وقد زال الظهر من سار، يعني نفي يضرب لطالب الشيء من بعد اليأس منه.
قلت: ذكر الجوهري أيضا أن كونه من مهموز العين لغة م: (لما قدمنا من الحاجة) ش: أشار به إلى قوله - " لأن الإنسان قد يعجز.... " إلى آخره م: (إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل فيها عقيلا وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: هذا أخرجه البيهقي عن عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يكره الخصومة، وكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما كبر عقيل وكلني. وأخرج أيضا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان وكل عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالخصومة.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": حدثنا معاذ بن أنس الخرساني، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي الجهم، أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يحضر الخصومة، وكان يقول: إن لها قحما ويحضرها الشيطان، فجعل علي الخصومة إلي، فلما كبر ورق حولها إلي، فكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: ما قضى لوكيل وما قضى على وكيلي فعلي.
وفي " الفائق ": لكن [.....] أنه وكل أخاه عقيلا بالخصومة، ثم وكل بعده عبد الله بن جعفر وقال: لا يحضر الخصومة ويقول: إن لها قحما وإن الشياطين تحضرها إلى مهالك وشدائد، وقحم الطريق ما صعب منه وشق على سالكه، وفي هذا الحديث دليل أيضا على أن لا يحضر مجلس الخصومة بنفسه، وهو مذهبنا ومذهب عامة العلماء لصنيع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال بعض العلماء: الأولى أن يحضر بنفسه؛ لأن الامتناع من الحضور إلى مجلس القاضي من علامات المنافقين، وقد ورد الذم على ذلك، قال الله تعالى {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] (النور: الآية 48) ، وفيه تأمل. م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز م: (بإيفائها) ش: أي بإيفاء الحقوق وهو أداؤها م: (واستيفائها) ش: أي وباستيفاء الحقوق وهو قبضها م: (إلا في الحدود والقصاص، فإن الوكالة لا تصح باستيفائهما مع غيبة الموكل عن المجلس) ش: قيد به لأنه يجوز استيفاء القصاص والقذف في حضوره بإجماع الأئمة الأربعة، وفي غيبته لا يجوز عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وهو نصه: ويقضي به القاضي الروياني من أصحابه(9/220)
لأنها تندرئ بالشبهات. وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر للندب الشرعي، بخلاف غيبة الشاهد؛ لأن الظاهر عدم الرجوع، وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة، وليس كل أحد يحسن الاستيفاء، فلو منع عنه ينسد باب الاستيفاء أصلا، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا، وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقيل: مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: هذا الاختلاف في غيبته دون حضرته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح، ومالك وأحمد: يجوز له استيفاء القصاص والقذف في غيبة الموكل، م: (لأنها تندرئ بالشبهات) .
م: (وشبهة العفو) ش: يعني في القصاص لأن الحدود لا يعفى عنها، وشبهة عفو ولي القصاص م: (ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر) ش: أي بل العفو هو الظاهر م: (للندب الشرعي) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] (البقرة الآية) م: (بخلاف غيبة الشاهد) ش: حيث يستوفى الحدود والقصاص مع غيبة الشهود وإن كان رجوعهم محتملاً م: (لأن الظاهر عدم الرجوع) ش: احترازاً عن الكذب والفسق. م: (وبخلاف حالة الحضرة) ش: أي حضرة الموكل في المجلس م: (لانتفاء هذه الشبهة) ش: أي شبهة العفو.
م: (وليس كل أحد يحسن الاستيفاء) ش: هذا جواب إشكال، وهو أن يقال: إذا كان الموكل حاضراً لم يحتج إلى التوكيل بالاستيفاء، إذ هو يستوفيه بنفسه، فأجاب بقوله " وليس كل أحد يحسن الاستيفاء "، يعني لقلة هدايته، أو لأن قلبه لا يحتمل ذلك، فيجوز التوكيل بالاستيفاء عند حضوره استحساناً م: (فلو منع عنه) ش: أي عن التوكيل م: (ينسد باب الاستيفاء أصلاً) ش: فلا يبقى.
م: (وهذا الذي ذكرناه) ش: يعني جواز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لا.
[الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود]
م: (لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضاً) ش: وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وفي " شرح الطحاوي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب، وفي بعض الروايات ذكر قوله مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعضها مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الطحاوي في " مختصره " قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقيل: هذا الاختلاف في غيبته) ش: أي في غيبة الموكل م: (دون حضرته) ش: فإن في حضرته يجوز التوكيل بلا خلاف م:(9/221)
لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره، فصار كأنه متكلم بنفسه. له أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب، كما في الشهادة على الشهادة، وكما في الاستيفاء. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الخصومة شرط محض؛ لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة، فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق. وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص، وكلام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أظهر؛ لأن الشبهة لا تمنع الدفع غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره فصار كأنه متكلم بنفسه له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن التوكيل إنابة) ش: أي بدل عن خصومة الموكل والإنابة فيها شبهة م: (وشبهة الإنابة يتحرز عنها في هذا الباب) ش: أي في باب الحدود والقصاص م: (كما في الشهادة على الشهادة) ش: أي كما يتحرز عن الإنابة في الشهادة، يعني لا تجوز م: (وكما في الاستيفاء) ش: أي وكما يتحرز عن الإنابة، أي عن التوكل باستيفاء الحدود والقصاص مع اتفاقاً بالجواب مع غيبة الموكل. م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الخصومة شرط محض) ش: يعني ليس لها حظ في الوجوب ولا في الظهور م: (لأن الوجوب مضاف إلى الجناية، والظهور إلى الشهادة، فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق) ش: لأن " التوكيل " بها إثبات حق لا تؤثر فيه الشبهة. م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص) ش: أي الحد، يعني إذا وكل مطلوب وهو من عليه الحد أو القصاص رجلاً بالجواب عنه في دفع ما يطالبه عليه، قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز. وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب، وقوله " التوكيل " مبتدأ وخبره مقدماً عليه هو قوله " وعلى هذا الخلاف بالجواب " أي بأن يجيب عنه.
م: (وكلام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه) ش: أي في - التوكيل من جانب من عليه الحد م: (أظهر؛ لأن الشبهة لا تمنع الدفع) ش: أي لأن الشبهة المذكورة وهي شبهة البدلية على تقدير كونها معتبرة لا تمنع الدفع إلى الدار، ألا ترى الشهادة على الشهادة النساء مع الرجال في العفو صحيحة.
م: (غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه) ش: يعني إذا أقر هذا الوكيل في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله لا يصح استحساناً م: (لما فيه من شبهة عدم الأمر به) ش: أي في باب الإقرار من شبهة عدم الأمر بالإقرار.
وفي " المبسوط ": لو أقر في مجلس القضاء بوجوب القصاص على موكله يصح قياساً؛ لأنه قام مقام الموكل كما في سائر الحقوق. وفي الاستحسان لا يجوز كما ذكره المصنف.(9/222)
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم، إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا، وقالا: يجوز التوكيل بغير رضا الخصم، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولا خلاف في الجواز، إنما الخلاف في اللزوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم) ش: سواء كان التوكيل من جانب المدعي أو من جانب المدعى عليه، ويستوي عنده الموكل إذا كان رجلاً أو امرأة، بكراً كانت أو ثيباً م: (إلا أن يكون الموكل مريضاً أو غائباً مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، وقالا يجوز التوكيل بغير رضا الخصم وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -.
وفي " فتاوى قاضي خان ": كان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاً يقول: لا تقبل الوكالة بغير رضى الخصم من الرجال وتقبل من النساء، ثم رجع وقال: تقبل من الرجال والنساء، ويستوي فيه الوضيع والشريف. وهو قول محمد والشافعي رحمهما الله، وبه أخذ الصفار.
وقال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا علم القاضي التعنت من المدعي في إباء التوكيل يقبل التوكيل بغير رضاه وهو الصحيح عندي. وإن علم المقصد أي الاضطرار من الموكل بالمدعي ليشغل الوكيل بالحيل والأباطيل والتلبيس لا يقبل.
م: (ولا خلاف في الجواز) ش: أي لا خلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين صاحبيه في جواز التوكيل بالخصومة، م: (إنما الخلاف في اللزوم) ش:، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يلزم، وعندهما يلزم معناه، وهل ترتد الوكالة برد الخصم أم لا عنده ترتد خلافاً لهما، فعلى هذا يكون معنى قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم، أي لا يلزم إطلاق الاسم اللازم على الملزوم؛ لأن الجواز من لوازم اللزوم، هكذا قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الجواز لازم للزوم عرف ذلك في أصول الفقه سلمنا لكن ذلك ليس مجازاً. والحق: أن قوله: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضى الخصم في قوة قولنا التوكيل بالخصومة غير لازم، بل إن رضي به الخصم صح، وإلا فلا حاجة إلى قوله، ولا خلاف في الجواز وإلى التوجيه يجعله مجازاً، وفي " فتاوى العتابي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التوكيل بغير رضى الخصم لا يجوز، معناه لا يجبر خصمه على قبول الوكالة، وهو المختار.
قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التوكيل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بغير رضى الخصم صحيح، ولكن للخصم أن يطالب الموكل بأن يحضر بنفسه.(9/223)
لهما: أن التوكيل تصرف في خالص حقه، فلا يتوقف على رضاء غيره، كالتوكيل بتقاضي الديون. وله: أن الجواب مستحق على الخصم، ولهذا يستحضره. والناس متفاوتون في الخصومة، فلو قلنا بلزومه، يتضرر به فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر بخلاف المريض والمسافر؛ لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك، ثم كما يلزم التوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر
لتحقق الضرورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله م: (أن التوكيل تصرف في خالص حقه) ش: أي في حق الموكل، وهذا لأنه وكله إما بالجواب أو بالخصومة، وكلاهما حق الموكل، فإذا كان كذلك م: (فلا يتوقف على رضاء غيره كالتوكيل بتقاضي الديون وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الجواب مستحق على الخصم) ش: أي على الخصم م: (ولهذا يستحضره) ش: في مجلس القاضي.
م: (والناس متفاوتون في الخصومة) ش: وفي جوابها، فرب إنسان يصور الباطل بصورة الحق، ورب إنسان لا يمكنه تمشية الحق على وجه، فيحمل أن الوكيل ممن له حذق في الخصومات فيتضرر بذلك الخصم فيتشرط رضاه م: (فلو قلنا بلزوم) ش: أي بلزوم التوكيل بالخصومة م: (يتضرر به) ش: أي الخصم. فإذا كان كذلك م: (فيتوقف على رضاه) ش: أي على رضى الخصم ثم نظر هذا بقوله: م: (كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما) ش: أي أحد الشريكين م: (يتخير الآخر) ش: أي الشريك الآخر بين أن يرضى به وبين أن يفسخه دفعاً للضرر عنه.
م: (بخلاف المريض والمسافر) ش: أما المريض فلعجزه بالمرض، وأما المسافر فلغيبته م: (لأن الجواب غير مستحق عليهما) ش: لو لم يسقط عنهما لزم الحرج. قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) . م: (هنالك) ش: أي في المكان الذي كان فيه.
وفي " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم المريض إذا كان لا يستطيع أن يمشي على قدميه، ولكن يمكنه بركوب الدابة أو أيدي الناس، فإن ازداد مرضه بالركوب صح توكيله بغير رضى الخصم، وإن كان لا يزداد اختلفوا فيه على الخلاف أيضاً، وقيل له أن يوكل بغير رضاء وهو الصحيح م: (ثم كما يلزم التوكيل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة) ش: إذ لو لم يجز يلحقه الحرج بالانقطاع عن مصالحه.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فتاواه ": لكن لا يصدق أنه يريد السفر، ولكن القاضي ينظر إلى زيد وعدة سفره، أو يسأل عمن يريد أن يخرج معه فيسأله عن رفقائه، كما في فسخ الإجازة إذا أراد المستأجر فسخها بعذر السفر، فبمجرد قوله أريد السفر لا يثبت العذر إذا لم يصدقه الآجر، لكن يسأله القاضي فيقول له مع من تريد الخروج؟ ثم يسأل رفقته فإن قالوا: نعم تحقق العذر، وهو السفر في فسخ الإجارة فكذا هنا.(9/224)
ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم التوكيل؛ لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا شيء استحسنه المتأخرون. قال: ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كانت المرأة مخدرة) ش: قال البزدوي: المخدرة هي التي لا يراها غير المحارم من الرجل، أما التي جلست على المنصة فرآها الأجانب لا تكون مخدرة، فلو وكلت بالخصومة، فوجب عليها اليمين وهي لا تعرف بالخروج ومخالطة الرجال في الحوائج يبعث القاضي إليها ثلاثة من العدول ويستحلفها أحدهم، ويشهد الآخران على حلفها. وكذا في المريضة إذا وجب عليها يمين؛ لأن النيابة لا تجري في الأيمان.
هكذا ذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي "، وذكر فيه: وإن كان يبعث إلى المخدرة والمريضة وإلى المريض خليفته فيفصل الخصومة هنالك يجوز؛ لأن مجلس الخليفة كمجلسه.
وفي " الذخيرة ": ومن الأعذار التي توجب لزوم التوكيل بغير رضى الخصم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحيض في المرأة، إذا كان القاضي يقضي في المسجد، وهذه المسألة على وجهين: إن كانت الحائض طالبة قبل منها التوكيل بغير رضى الخصم، وإن كانت مطلوبة أو أخرها الطالب حتى يخرج القاضي من المسجد لا يقبل توكيلها بغير رضى خصمه، وإلا يقبل ولو كان الموكل محبوساً فهو على وجهين، إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي لا يقبل التوكيل بغير رضى خصمه؛ لأن القاضي يخرجه حتى يخاصم ثم يعيده إلى السجن. وإن كان محبوساً في سجن الوالي ولا يمكنه الوالي من الخروج يلزم توكيله بغير رضى خصمه.
م: (لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم. قال الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم التوكيل؛ لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها) ش: والمراد بالرازي أبو بكر الخصاف أحمد بن علي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع وأحكام القرآن، وإليه انتهت رئاسة أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ببغداد بعد الشيخ أبي الحسن الكرخي، وكانت ولادته سنة خمس وثلاثمائة ومات سنة سبع وثلاثمائة م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا شيء استحسنه المتأخرون) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي قال أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الأكمل، أي قال المصنف وشيخي العلاء - رحمهما الله - قال مثل ما قال الأترازي، وهو الظاهر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف) ش: أي التصرف الذي وكل به. وفي " الذخيرة ": هذا القيد، وقع على قولهما لا على(9/225)
وتلزمه الأحكام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن عنده شرط الوكالة كون التوكيل حاصلاً بما يملكه، بيانه أن الشرط عنده أن يكون الوكيل مالكاً لذلك التصريف الذي وكل به، ولهذا قالا: كل عقد لا يجوز للموكل أن يباشره بنفسه لا يجوز للموكل أن يباشره له كما وكله ببيع الدم والميتة.
قلنا: ينتقض هذا الكلي بعقد الصرف، فإنه لا يجوز للموكل أن يباشره بنفسه إذا كان غائباً، ويجوز للوكيل أن يتولاه، وكذلك الحاكم لا يجوز أن يحكم لنفسه، ويجوز أن يحكم له غيره، والقياس على الدم والميتة ضعيف؛ لأن أهل الذمة لا يعتقدونه مالاً، فلا يملك الوكيل تصرفه.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الشرط الذي يشرطه القدوري يستقيم على مذهب الكل، وإنما خص هذا القائل للاستقامة على مذهبهما؛ لأنه لم يدرك كنه كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ مضمونه كلامه: أن الوكالة لها شرط في الموكل وشرط في الوكيل:
فالأول: أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ويلزمه الأحكام.
والثاني: أن يكون الوكيل ممن يعقل البيع ويقصده، ومعنى قوله: أن يكون ممن يملك التصرف، أن يكون له ولايته شرعاً في جنس التصرف بأهلية نفسه، بأن يكون عاقلاً بالغاً على وجه يلزمه حكم التصرف، وهذا المعنى حاصل في توكيل المسلم الذمي في الخمر والخنزير بيعاً وشراء؛ لأن المسلم الموكل عاقل بالغ له ولاية شرعاً في جنس التصرف، إلا في كل الأفراد على وجه يلزمه التصرف فيما يتصرف بولايته.
والشرط الآخر: وهو أن يعقل البيع ويقصده حاصل في الوكيل أيضاً وهو الذمي؛ لأنه يعقل معنى البيع والشراء، أو يقصده، فصح الشرط إذن على مذهب الكل.
وقال الأكمل: - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد قوله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ويلزمه الأحكام. قال صاحب " النهاية " إن هذا القصد وقع على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وأما على قول أبي حنيفة فمن شرطها أن يكون الوكيل ممن يملك التصرف؛ لأن المسلم لا يملك التصرف في الخمر، ولو وكل به جاز عنده، ومنشأ هذا التوهم أن جعل اللام في قوله يملك التصرف للعبد أي يملك التصرف الذي وكل به.
وأما إذا جعلت للجنس حتى يكون معناه يملك جنس التصرف احترازاً عن الصبي والمجنون فيكون على مذهب الكل.
م: (وتلزمه الأحكام) ش: قيل هذا احتراز عن الوكيل، فإن الوكيل لا يثبت له حكم تصرفه حتى لا يملك الوكيل بالشراء المبيع ولا الوكيل بالبيع الثمن، فلا يصح توكيل الوكيل غيره، وقيل:(9/226)
لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل، فلا بد من أن يكون الموكل مالكا ليملكه من غيره. ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده؛ لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة، فيشترط أن يكون من أهل العبارة حتى لو كان صبيا لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلا.
وإذا أوكل الحر العاقل البالغ، أو المأذون مثلهما جاز؛ لأن الموكل مالك للتصرف، والوكيل من أهل العبارة. وإن وكل صبيا محجورا يعقل البيع والشراء، أو عبدا محجورا جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق، وتتعلق بموكلهما؛ لأن الصبي من أهل العبارة. ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
احتراز عن الصبي المحجور، فإنهما لو اشتريا شيئاً لا يملكانه فلذلك لم يصح توكيلهما م: (لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل، فلا بد من أن يكون الموكل مالكاً ليملكه من غيره، ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد) ش: بأن يعرف أن البيع سالب للملك، والشراء جالب وعرف الغبن اليسير من الفاحش م: (ويقصده) ش: أي يقصد العقد بمباشرة السبب لثبوت الملك ولا يكون هازلاً فيه م: (لأنه) ش: أي لأن الوكيل م: (يقوم مقام الموكل في العبارة، فيشترط أن يكون من أهل العبارة) ش: في الكلام فلا بد أن يكون من العبارة ولا يكون هذا إلا بالعقل والتمييز؛ لأن كلام غير المميز كألحان الطيور ونتيجة هذا هو قوله م: (حتى لو كان) ش: أي الوكيل م: (صبياً لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلاً) ش: إذ لا يتعلق بقولهما حكم وليس لهما قول صحيح.
[أوكل الحرالعاقل البالغ أو المأذون مثلهما]
م: (وإذا أوكل الحر العاقل البالغ، أو المأذون مثلهما جاز) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا غير منحصر على المثلية في صفة الحرية والرقية، بل يجوز للموكل أن يوكل من فوقه كتوكيل العبد المأذون الحر، أو من دونه كتوكيل الحر العبد المأذون لأن التعليل بقوله م: (لأن الموكل مالك للتصرف، والوكيل من أهل العبارة) ش: يشمل الأوجه الثلاثة من المثلية والفوقية والدونية.
وقال الأترازي: كان ينبغي أن يقيد قوله " الحر البالغ " بالعاقل أيضاً؛ لأن المجنون إذا وكل غيره لا يصح، وكأنه إنما لم يقيد الحر بذلك بناء على الغالب، وإن الغالب أحوال الحر البالغ أن يكون عاقلاً، وكونه مجنوناً نادر، إنما أطلق المأذون حتى يشمل العبد والصبي الذي يعقل البيع والشراء، إذا كان مأذوناً له في التجارة؛ لأن توكيل الصبي المأذون غيره جائز كسائر تصرفاته، بخلاف ما إذا كان الصبي محجوراً حيث لا يجوز له أن يوكل غيره.
م: (وإن وكل) ش: يعني أحد م: (صبياً محجوراً يعقل البيع والشراء، أو عبداً محجوراً جاز) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز م: (ولا يتعلق بهما الحقوق) ش: كالقاضي وأمينه، حيث لا عهدة عليهما فيما فعلا، وفيه إشارة إلى أنهما لو كانا مأذونين تتعلق الحقوق بهما لا بموكلهما م: (وتتعلق بموكلهما) ش: أي وتتعلق الحقوق لموكل الصبي المحجور والعبد المحجور م: (لأن الصبي من أهل العبارة، ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه) .(9/227)
والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له، إنما لا يملكه في حق المولى. والتوكيل ليس تصرفا في حقه، إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة. أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده، فتلزم الموكل. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون أو محجور له خيار الفسخ؛ لأنه دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير. كما إذا عثر على عيب
قال: والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة، فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتعلق بالموكل؛ لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم هو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه وصار كالرسول والوكيل في النكاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له، وإنما لا يملكه) ش: أي التصرف م: (في حق المولى) ش: دفعاً للضرر م: (والتوكيل ليس تصرفاً في حقه) ش: أي في حق المولى، إذ صحة التوكيل تتعلق بعبارته وأهليته والعبد يبقى على أصل الحرية في ذلك؛ لأن صحة العبارة بكونه آدمياً.
م: (إلا أنه) ش: جواب إشكال وهو أن يقال إنهما لو كانا من أهل التصرف، ينبغي أن يصح منهما التزام العهدة، فأجاب بقوله " إلا أنه " أي ضمير أن الشأن م: (لا يصح منهما) ش: أي من الصبي والعبد م: (التزام العهد. أما الصبي لقصور أهليته) ش: بعدم البلوغ م: (والعبد لحق سيده) ش: لئلا يلزم الضرر به، وإذا كان كذلك م: (فتلزم) ش: أي الحقوق م: (الموكل) ش: لأنه لما تعذر التزام العهدة بهما تعلق بأقرب الناس إليهما، وهو من انتفع بهذا التصرف وهو الموكل.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون) ش: قيل في " حاشية نسخة المصنف " - أو محجور - ومتنها " مجنون "، في بعض النسخ " أو عبد محجور " ولهذا قال في الكافي " -: ثم علم أنه صبي محجور أو عبد محجور م: (له خيار الفسخ) ش: وذلك م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير، كما إذا عثر) ش: أي اطلع م: (على عيب) ش: الجامع بينهما عدم الرضى.
[أضرب العقد الذي يعقده الوكلاء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة، فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تتعلق بالموكل) ش: قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم هو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه) ش: أي توابع الملك م: (وصار) ش: أي الوكيل م: (كالرسول) ش: بأن قال لآخر: كن رسولي في بيع عبدي م: (والوكيل في النكاح) ش: فإن حقوق عقد النكاح تتعلق بالموكل اتفاقاً.(9/228)
ولنا: أن الوكيل هو العاقد حقيقة؛ لأن العقد يقوم بالكلام وصحة عبارته لكونه آدميا. وكذا حكما؛ لأنه يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيرا عنه لما استغنى عن ذلك كالرسول، وإذا كان كذلك كان أصيلا في الحقوق فتتعلق به. ولهذا قال في الكتاب: يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم فيه؛ لأن كل ذلك من الحقوق والملك يثبت للموكل له خلافة عنه اعتبارا للتوكيل السابق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أن الوكيل هو العاقد حقيقة) ش: أي من حيث الحقيقة م: (لأن العقد يقوم بالكلام وصحة عبارته) ش: أي عبارة العاقد م: (لكونه آدمياً) ش: عاقلاً أهلاً للتصرف، فقضيته تستدعي أن يكون الحاصل بالتصرف واقعاً له، غير أن الموكل استنابه في تحصيل الحكم وجعلناه نائباً في حق الحكم وراعينا الأصل في حق الحقوق.
م: (وكذا حكماً) ش: أي وكذا العاقد هو العاقد من حيث الحكم، واستدل المصنف على ذلك بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن الوكيل م: (يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيراً عنه لما استغنى عن ذلك) ش: أي من إضافة العقد إليه م: (كالرسول) ش: فإنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الرسول م: (وإذا كان كذلك كان) ش: أي الوكيل م: (أصيلاً في الحقوق فتتعلق به) ش: أي بالوكيل.
م: (ولهذا) ش: أي فلأجل كون الوكيل أصيلاً في الحقوق م: (قال في الكتاب) ش: أي: قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " و " المبسوط ".
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " وهذا هو الظاهر فإنه قال في " مختصره ": م: (يسلم المبيع ويقبض الثمن) ش: إذا كان وكيلاً بالبيع م: (ويطالب) ش: على صيغة المجهول أي الوكيل يطالب م: (بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم) ش: بفتح الصاد على بناء المجهول أي يخاصم الوكيل م: (في العيب ويخاصم فيه) ش: إذا اشترى م: (لأن كل ذلك من الحقوق) ش: أي من حقوق العقد.
م: (والملك يثبت) ش: جواب سؤال مقدر وهو أن يقال كما ثبت الملك م: (للموكل) ش: ينبغي أن تثبت الحقوق له كما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأجاب عنه بقوله: والملك يثبت م: (له) ش: أي للموكل م: (خلافه عنه) ش: أي بطريق الخلافة عن الوكيل لا أصالة م: (اعتباراً للتوكيل السابق) ش: يعني يقوم الموكل مقامه في ثبوت الملك له للاعتبار للتوكيل الذي سبق.
واعلم أن المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اختلفوا في أن الملك يثبت للوكيل بالشراء ثم ينتقل إلى الموكل منه أو يثبت للموكل ابتداء.
قال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومن تابعه بالأول وإليه ذهب بعض أصحابنا وهو اختيار(9/229)
كالعبد يتهب ويصطاد ويحتطب هو الصحيح.
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وكل عقد يضيفه إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل، فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها؛ لأن الوكيل فيها سفير محض. ألا ترى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو أضافه إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقاله أبو طاهر الدباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالثاني، وهو مذهب الجماعة من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (كالعبد يتهب ويصطاد) ش: أي كالعبد يقبل الهبة ويصطاد الصيد فإنه يثبت الملك للمولى م: (ويحتطب) ش: ابتداء م: (هو الصحيح) ش: احترز به عن قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الفتاوى الصغرى " قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول أبو طاهر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصح، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كقول أبي طاهر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وذكر الصدر الشهيد: أن القاضي أبا زيد خالفهما، فقال الوكيل نائب في حق الحكم أصيل في حق الحقوق يثبت له ثم ينتقل إلى الموكل من قبله، فوافق الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق الحقوق، ووافق أبا طاهر في حق الحكم وهذا أحسن.
وقال في الفتاوى الصغرى: الوكيل ما دام حياً وإن كان غائباً لا تنتقل الحقوق إلى الموكل، وقال أيضاً: ذكر الفضيل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوكيل بالبيع إذا مات عن وصي فالحقوق تنتقل إلى وصيه دون الموكل، ولو مات ولم يوص يرفع الأمر إلى القاضي لينصب وصياً وهو قول بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال بعضهم ينتقل إلى موكله ولأنه قبض الثمن.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى) ش: نذكره بعد هذا عند قوله: وإن اشترى الوكيل ثم اطلع على عيب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكل عقد) ش: هذه ضابطة الضرب الثاني م: (يضيفه) ش: أي الوكيل م: (إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل) ش: فإذا كان كذلك م: (فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها) ش: أي تسليم المرأة إلى موكله م: (لأن الوكيل فيها) ش: أي في هذه الأشياء المذكورة م: (سفير محض) ش: كالرسول.
م: (ألا ترى أنه) ش: أي أن الوكيل م: (لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل ولو أضافه إلى(9/230)
نفسه كان النكاح له، فصار كالرسول وهذا لأن الحكم فيها لا يقبل الفصل عن السبب؛ لأنه إسقاط فيتلاشى فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيرا.
والضرب الثاني من أخواته العتق على مال، والكتابة والصلح عن الإنكار. فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضا؛ لأن الحكم فيها يثبت بالقبض، وأنه يلاقي محلا مملوكا للغير فلا يجعل أصيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نفسه كان النكاح له فصار كالرسول) ش: في باب البيع م: (وهذا) ش: أي كونه كالرسول فيها م: (لأن الحكم فيها) ش: أي في هذه العقود وهي النكاح وأمثاله م: (لا يقبل الفصل عن السبب) ش: وهو العقد، ولهذا لا يدخل فيها خيار الشرط؛ لأنه من قبيل الإسقاطات، فلا يقبل تراخي الحكم بالخيار وغيره، وأشار إلى هذا بقوله: م: (لأنه إسقاط فيتلاشى) ش: أي فيضمحل.
م: (فلا يتصور صدوره) ش: أي صدور السبب بطريق الأصالة م: (من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيراً) ش: بخلاف البيع، فإن حكمه ينفصل عن السبب كما في البيع بشرط الخيار، فجاز أن يصدر السبب من شخص أصالة ويقع الحكم لغيره خلافة، وقيدنا بقوله " أصالة " إذ السبب يصدر من الوكيل نيابة في النكاح.
م: (والضرب الثاني من أخواته) ش: أي ومن أخوات الضرب الثاني، م: (العتق على مال) ش: قوله " الضرب الثاني " مبتدأ وقوله " من أخواته " جملة وقعت خبراً له، وأراد بالضرب الثاني كل عقد يضيفه الوكيل إلى موكله، قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصواب: أن يكون الضرب الثاني مبتدأ وقوله " من أخواته " خبراً لقوله " العتق على مال " مقدماً على المبتدأ، والجملة خبر المبتدأ الأول، وصورة العتق على مال أن يوكل أحداً على أن يعتق عبده على مال م: (والكتابة والصلح عن الإنكار) ش: جعل من هذا القبيل؛ لأن بدل الصلح بمقابلة دفع الخصومة في حق المدعى عليه.
م: (فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع) ش: أراد به الصلح عن إقرار وجعله جار مجرى البيع؛ لأنه مبادلة مال بمال، فكان حكمه حكم البيع م: (فهو من الضرب الأول) ش: متعلق الحقوق بالوكيل دون الموكل. م: (والوكيل بالهبة) ش: يعني إذا وكل رجلاً بأن يهب عبده لفلان م: (وبالتصدق) ش: بأن وكله أن يتصدق على فلان م: (والإعارة) ش: بأن وكله أن يؤجر فلاناً داره م: (والإيداع) ش: بأن وكله أن يودع متاعه.
م: (والرهن) ش: بأن وكله بأن يرهن متاعه م: (والإقراض) ش: بأن وكله بأن يقرض فلاناً م: (سفير أيضاً) ش: هذا خبر لقوله " والوكيل بالهبة " فإذا كان الوكيل في هذه الأشياء سفيراً تعلقت حقوق العقد بموكله م: (لأن الحكم فيها) ش: أي في العقود المذكورة م: (تثبت بالقبض وأنه) ش: أي وأن القبض م: (يلاقي محلاً مملوكاً للغير فلا يجعل أصيلاً) ش: أي فلا يجعل الوكيل في هذه(9/231)
وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة والمضاربة، إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه.
قال: وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن، فله أن يمنعه إياه؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه، لما أن الحقوق إلى العاقد، فإن دفعه إليه جاز ولم يكن للوكيل أن يطالبه به ثانيا؛ لأن نفس الثمن المقبوض حقه، وقد وصل إليه ولا فائدة في الأخذ منه ثم الدفع إليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأشياء أصيلاً؛ لأنه أجنبي عن المحل الذي يلاقي القبض، فكان سفيراً ومعبراً عن المالك.
م: (وكذا) ش: يعني يكون سفيراً م: (إذا كان الوكيل من جانب الملتمس) ش: لذلك، نحو أن وكله بالاستعارة أو الارتهان أو الاستيهاب، فالحكم والحقوق كلها تتعلق بالموكل م: (وكذا الشركة والمضاربة) ش: يعني إذا وكل بالشركة أو بالمضاربة، فالوكيل فيهما سفير أيضاً، لا تتعلق حقوق العقد به بل تتعلق بالموكل؛ لأن الوكيل لا بد له من إضافة العقد إلى موكله، فكان سفيراً حتى لو أضاف العقد إلى نفسه لا يقع عن موكله.
م: (إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل) ش: هذا استثناء من قوله: وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس بيان بطلان استقراض الوكيل بأن العبارة للوكيل والمحل الذي أمره بالتصرف ملك الغير، فإن الدراهم التي يستقرضها الوكيل ملك المقرض، والأمر بالتصرف في ملك [الغير] باطل م: (حتى لا يثبت الملك للموكل) ش: حتى لو هلك الذي استقرضه هلك على الوكيل، م: (بخلاف الرسالة فيه) ش: أي في الاستقراض، فإن الرسالة فيه تصح بأن يقول: أرسلني فلان إليك يستقرض منك، ويثبت الملك للمستقرض.
[طالب الموكل المشتري بالثمن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن فله أن يمنعه إياه) ش: أي فللمشتري منعه إياه خلافاً للأئمة الثلاثة؛ لأن الحقوق ترجع إلى الموكل عندهم م: (لأنه) ش: أي لأن الموكل م: (أجنبي عن العقد وحقوقه، لما أن الحقوق إلى العاقد فإن دفعه إليه) ش: أي ولو دفع المشتري الثمن إلى الموكل م: (جاز) ش: دفعه م: (ولم يكن للوكيل أن يطالبه به) ش: أي أن يطالب المشتري بالثمن م: (ثانياً) ش: أي ثاني مرة م: (لأن نفس الثمن المقبوض حقه) ش: أي حق الموكل م: (وقد وصل إليه) ش: أي وقد وصل حقه إليه، وإذا كان كذلك م: (ولا فائدة في الأخذ منه) ش: أي من الموكل م: (ثم الدفع إليه) ش: وهذا بخلاف الوكيل في بيع الصرف، فإن هناك لو قبض الموكل بدل الصرف لا يجوز لأن بيع الصرف يتعلق بالقبض، فكان القبض فيه بمنزلة الإيجاب والقبول. ولو ثبت للوكيل حق القبول، وقبل الموكل لم يجز، فكذا إذا ثبت له حق القبض.
وفي " الذخيرة ": ونقل من " مختلف الرواية " أن المشتري من الوصي لو دفع الثمن إلى الصبي، فللوصي أن يرجع إلى المشتري.(9/232)
ولهذا لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضا دون دين الوكيل، وبدين الوكيل إذا كان وحده يقع المقاصة عند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله - لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما، ولكنه يضمنه للموكل في الفصلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولهذا) ش: توضيح لقوله: أن نفس الثمن المقبوض حقه فإنه م: (لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضاً دون دين الوكيل) ش: لأن دين المقاصة إبراء بعوض، فيعتبر بالإبراء بغير عوض، وله إبراء المشتري من الثمن وخرج الكلامان معاً، فالمشتري يرى ببراءة الآمر لا ببراءة المأمور حتى لا يرجع الأمر على المأمور بشيء، فكذا هنا م: (وبدين الوكيل) ش: أي تقع المقاصة بدين الوكيل م: (إذا كان وحده يقع المقاصة عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لما أنه) ش: أي أن الوكيل م: (يملك الإبراء عنه) ش: أي إبراء المشتري عن الثمن م: (عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وهو إبراء بعوض؛ لأن القبض حقه، فيملك المقاصة أيضاً؛ لأنه إبراء أيضاً ولكنه بعوض، فكان بالطريق الأولى أن يملكه م: (ولكنه يضمنه) ش: أي ولكن الوكيل يضمن الثمن م: (للموكل في الفصلين) ش: أي في فصل: الإبراء وفصل المقاصة بدين الوكيل.
ولا يقال: ينبغي أن لا يجوز من الوكيل بالبيع مثل هذا البيع الذي يوجب المقاصة بدين الموكل؛ لأنه خالف الموكل؛ لأنه وكله ببيع يصل الثمن إليه، وها هنا لا يصل، فإذا خالف ينبغي أن لا يجوز هذا البيع لأنا نقول وصل إليه الثمن قبل البيع؛ لأنه بالبيع صار دينه قصاصاً بدين الآمر بالإجماع، كذا في " الذخيرة ".
وفي " المبسوط ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إبراء الوكيل للمشتري عن الثمن؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذ الثمن ملك الموكل، ولهما أن الإبراء إسقاط لحق القبض، والقبض خالص حق الوكيل حتى لا يمنع الموكل عن ذلك وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الوكيل بالبيع يملك إسقاط الثمن عن المشتري بالإقالة والإبراء والمقاصة بما على الوكيل عندهما. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يملك ذلك، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ": ولو كان البائع أبرأ المشتري، يعني أن الوكيل أبرأه من الثمن فهو جائز، وهو له ضامن وكذلك لو وهبه له، وكذلك لو اشترى متاعاً أو كانت دنانير فأخذ بها منه أو كانت دراهم فأخذ بها منه [كان] ضامناً للثمن.
والذي اشترى هو له، وكذلك لو صالحه عليه صلحاً ولم يشتر، وكذلك لو أخر عن الثمن(9/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إلى أجل، كان ضامناً للثمن وجاز التأخير، ولو حط عنه كان ضامناً لما حط عنه، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز شيء مما صنع من هذا من هبة وغيرها، والمال على حالته على المشتري. وفي " الفتاوى الصغرى ": ثم في وقوع المقاصة إن كان دين المشتري على الموكل وهو مثل الثمن صار قصاصاً إجماعاً وإن كان دينه على الوكيل فعلى الاختلاف، وإن كان عليهما يصير قصاصاً بدين الموكل.
أما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فظاهر، وأما عندهما: فلأن الثمن لو صار بدين الوكيل لاحتجنا إلى قضاء الوكيل للموكل، وصار قصاصاً بدين الموكل لا يحتاج قضاء آخر فقصرنا المسافة، ولأن الموكل يملك إسقاط الثمن عن المشتري بالإجماع فعلى هذا الحيلة في موضعين:
أحدهما: إذا كان لرجل على زيد دين لا يؤديه، فيتوكل الدائن عن الغير في شرحين من زيد فإذا اشترى تقع المقصاة بين دين الوكيل على البائع وبين دين وجب للبائع على الوكيل ثم الوكيل يأخذ الثمن من موكله، والثاني: أن يوكل رب الدين غيره بالشراء من المديون، فتقع المقاصة بين دين الموكل وبين ما وجب على البائع على الوكيل، والله أعلم.(9/234)
باب الوكالة بالبيع والشراء فصل في الشراء
قال ومن وكل رجلا بشراء شيء، فلا بد من تسمية جنسه وصفته أو جنسه ومبلغ ثمنه ليصير الفعل الموكل به معلوما، فيمكنها الائتمار، إلا أن يوكله وكالة عامة، فيقول ابتع لي ما رأيت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الوكالة بالبيع والشراء]
[فصل في الشراء]
[وكل رجلاً بشراء شيء هل يلزم تسمية الجنس والصفة]
م: (باب الوكالة بالبيع والشراء) ش: أي هذا باب في بيان حكم الوكالة بالبيع والشراء. قدم هذا الباب على سائر الأبواب لكثرة وقوع البيع والشراء ومساس الحاجة إليه في ذلك.
م: (فصل في الشراء)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الشراء، وقدم هذا الفصل على الفصول التي تأتي بعده لأن الشراء مثبت لما هو الأصل في فقد البيع وهو البيع، والبيع مزيل له والثبوت قبل الزوال فكان الشراء أولى بالتقدم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن وكل رجلاً بشراء شيء) ش: أي غير معين لأن في المعين لا يحتاج إلى تسمية الجنس والصفة، م: (فلا بد من تسمية جنسه) ش: كالعبد والجارية، إذ العبد جنس بلسان الشرع، وكذا الجارية باعتبار اختلاف الأحكام وأراد بالجنس النوع لا مصطلح أهل النطق، فإن الجنس عندهم هو المقبول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو كالحيوان، والنوع هو المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب ما هو، كالإنسان مثلاً.
والصنف هو النوع المقيد بقيد عرض كالتركي والهندي، والمراد هنا بالجنس: ما يشمل أصنافاً على اصطلاح أولئك وبالنوع الصنف م: (وصفته) ش: أي نوعه كالتركي والهندي ولا خلاف فيه للفقهاء م: (أو جنسه ومبلغ ثمنه) ش: أي أو تسمية جنسه مقدار ثمنه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال في وجه: لا يصح حتى يذكر نوعه، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشرط أن يكون معلوماً في الجملة، قيل: هو الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: استحساناً، والقياس عدم الجواز، وجه الاستحسان: حديث عروة البارقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقد مر لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الجنس وقدر الثمن وسكت عن الصفة. م: (ليصير الفعل الموكل به معلوماً فيمكنها الائتمار) ش: أي فيمكن الوكيل الامتثال لأمر الموكل م: (إلا أن يوكله) ش: هذا استثناء من قوله " فلا بد من تسمية جنسه " يعني إذا وكله م: (وكالة عامة فيقول ابتع لي ما رأيت) ش:(9/235)
لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلا.
والأصل فيه أن الجهالة اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف استحسانا؛ لأن مبنى التوكيل على التوسعة؛ لأنه استعانة وفي اعتبار هذا الشرط بعض الحرج وهو مدفوع. ثم إن كان اللفظ يجمع أجناسا أو ما هو في معنى الأجناس لا يصح التوكيل وإن بين الثمن؛ لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس، فلا يدري مراد الأمر لتفاحش الجهالة، وإن كان جنسا يجمع أنواعا لا يصح إلا ببيان الثمن أو النوع؛ لأنه بتقدير الثمن يصير النوع معلوما، وبذكر النوع تقل الجهالة، فلا يمنع الامتثال. مثاله: إذا وكله بشراء عبد أو جارية لا يصح؛ لأنه يشمل أنواعا، فإن بين النوع التركي والحبشي أو الهندي أو السندي أو المولد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا يحتاج إلى ذكر الجنس وغيره م: (لأنه) ش: أي لأن الموكل م: (فوض الأمر إلى رأيه) ش: أي إلى رأي الوكيل م: (فأي شيء يشتريه يكون متمثلاً) ش: لأمر الموكل، وفيه خلاف لأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يقول: لا تصح هذه الوكالة العامة.
[الجهالة اليسيرة في الوكالة بالبيع والشراء]
م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الباب: م: (أن الجهالة اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف استحسانا) ش: الجهالة اليسيرة جهالة النوع كالتوكيل بشراء الحمار والفرس والبغل والثوب الهروي والمروي، فإنها لا تمنع صحة الوكالة وإن لم يبين بالثمن.
وقال بشر المريسي: لا تصح الوكالة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد في رواية؛ لأن التوكيل بالبيع والشراء يعتبر بنفس البيع والشراء، فلا تصح إلا ببيان وصف المعقود عليه، قلنا: تصح هذه الوكالة م: (لأن مبنى التوكيل على التوسعة لأنه استعانة وفي اعتبار هذا الشرط) ش: يعني اشتراط بيان الوصف م: (بعض الحرج وهو مدفوع) ش: شرعاً.
م: (ثم إن كان اللفظ) ش: أي اللفظ الذي يذكره الموكل م: (يجمع أجناساً) ش: كالدابة والثوب م: (أو ما هو في معنى الأجناس) ش: كالدار والرقيق م: (لا يصح التوكيل وإن بين الثمن؛ لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس، فلا يدري مراد الأمر لتفاحش الجهالة) ش: والوكيل لا يقدر على الامتثال. وفي " الكافي ": الجهالة ثلاثة أنواع، فاحشة ويسيرة ومتوسطة. وقد ذكر المصنف اليسيرة والفاحشة، ويذكر عن قريب المتوسطة.
م: (وإن كان) ش: أي اللفظ م: (جنساً يجمع أنواعاً) ش: كالعبد والأمة والدار م: (لا يصح إلا ببيان الثمن أو النوع لأنه بتقدير الثمن يصير النوع معلوماً، وبذكر النوع تقل الجهالة فلا يمنع الامتثال) ش: أي امتثال أمر الآمر م: (مثاله إذا وكله) ش: أي مثال هذا النوع: إذا وكل رجل رجلاً م: (بشراء عبد أو جارية لا يصح؛ لأنه) ش: أي لأن لفظ عبد أو لفظ جارية م: (يشمل أنواعاً فإذا بين النوع كالتركي أو الحبشي أو الهندي أو السندي أو المولد) ش: في المغرب المولد الذي ولد في دار السلام،(9/236)
جاز، وكذا إذا بين الثمن لما ذكرناه. ولو بين النوع أو الثمن ولم يبين الصفة الجودة والرداءة والسطة جاز؛ لأنه جهالة مستدركة. ومراده من الصفة المذكورة في الكتاب النوع.
وفي " الجامع الصغير " ومن قال لآخر اشتر لي ثوبا أو دابة أو دارا، فالوكالة باطلة للجهالة الفاحشة، فإن الدابة في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض. وفي العرف يطلق على الخيل والحمار والبغل فقد جمع أجناسا، وكذا الثوب لأنه يتناول الملبوس من الأطلس إلى الكساء، ولهذا لا يصح تسميته مهرا، وكذا الدار تشمل ما هو في معنى الأجناس؛ لأنها تختلف اختلافا فاحشا باختلاف الأغراض والجيران والمرافق والمحال والبلدان، فيتعذر الامتثال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: العبد الذي تولد بين العرب ونشأ بين أولادهم، م: (جاز) ش: أي التوكيل م: (وكذا) ش: أي وكذا جاز م: (إذا بين الثمن لما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله: لأن تقدير الثمن يصير النوع معلوماً.
م: (ولو بين النوع أو الثمن ولم يبين الصفة الجودة والرداءة والسطة) ش: أي الوسط وأصله وسط حذفت الواو منه كما في عدة وغطة، وعوضت التاء في آخرها عن الواو، م: (جاز) ش: أي التوكيل م: (لأنه جهالة مستدركة) ش: أي يسيرة م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (من الصفة المذكورة) ش: وهي قوله: وصفته م: (في الكتاب النوع) ش: أي في " مختصر القدوري " ومن الكلام فيه أول الفصل.
[قال لآخر اشتر لي دابة أو ثوبا أو دارا]
م: (وفي " الجامع الصغير ") ش: وفائدة ذكر وضع " الجامع الصغير " بيان اشتمال لفظه على أجناس مختلفة، م: (ومن قال لآخر اشتر لي دابة أو ثوباً أو داراً، فالوكالة باطلة) ش: وإن عين الثمن حتى لو اشترى كان الشراء واقعاً على الوكيل، وبه صرح في " نسخ الجوامع " م: (للجهالة الفاحشة فإن الدابة في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض، وفي العرف يطلق على الخيل والحمار والبغل، فقد جمع أجناساً وكذا الثوب لأنه يتناول الملبوس من الأطلس إلى الكساء) ش: كأنه أراد به الأرفع من الثياب ومن الكساء دونها، ولكن لم يرد في اللغة ما أراده من هذا.
قال صاحب " الجمهرة ": أطلسته كدره في غيره والذئب أطلس وكذلك كل شيء يشبه وقال في " تهذيب ديوان الأدب ": الأطلس على لون الذئب، يقال ذئب أطلس، والأطلس الخلق من الثياب، ولبعض الفضلاء: أنس مشتق من الإنس، والأنس إن ثناه عن الإنس ثيابهم ملبس، ولكنها على ذباب منهم طلس.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الثوب الملبوس من الأطلس إلى الكساء م: (لا يصح تسميته مهراً) ش: للجهالة الفاحشة، م: (وكذا الدار) ش: أي لا يصح توكيله بشراء الدار مطلقاً لأنها م: (تشمل ما هو في معنى الأجناس؛ لأنها تختلف اختلافاً فاحشاً باختلاف الأغراض والجيران والمرافق والمحال) ش: جمع محلة م: (والبلدان) ش: جمع بلد وإذا كان الاختلاف فيها فاحشاً م: (فيتعذر الامتثال) ش: أي امتثال أمر الآمر بشراء الدار مطلقاً.(9/237)
قال، وإن سمى ثمن الدار ووصف جنس الدار والثوب جاز معناه نوعه. وكذا إذا سمى نوع الدابة بأن قال حمارا أو نحوه.
قال: ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها استحسانا. والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتبارا للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ الطعام اسم لما يطعم، وجه الاستحسان: أن العرف أملك وهو على ما ذكرنا إذا ذكر مقرونا بالبيع والشراء، ولا عرف في الأكل، فبقي على الوضع. وقيل إن كثرت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال وإن سمى ثمن الدار ووصف جنس الدار) ش: بأن قال: في محلة كذا م: (والثوب) ش: أي وسمى عين الثوب م: (جاز) ش: أي التوكيل م: (معناه) ش: أي معنى قوله في " الجامع الصغير " ووصف جنس الدار. م: (نوعه) ش: لأن تفاحشهم يرتفع بذكر الوصف والثمن، م: (وكذا إذا سمى نوع الدابة، بأن قال: حمار أو نحوه) ش: مثل بغل جاز، وإن لم يبين الثمن.
كذا في " المبسوط "؛ لأن الجنس صار معلوماً بالتسمية وإنما بقيت الجهالة بالوصف فتصح الوكالة بدون تسمية الثمن.
فإن قيل: الحمير أنواع، منها ما يركبه العظماء، ومنها ما لا يصلح إلا للحمل.
قلت: هذا اختلاف للوصف مع أن ذلك يصير معلوماً بمعرفة حال الموكل، حتى قالوا: إن القاضي أو الوالي لو أمر بشراء حمار يصرف إلى ما يركب مثله حتى لو اشتراه مقطوع الذنب أو الأذنين لا يجوز، بخلاف ما لو أمر القاضي ليرى بذلك، كذا في المبسوط.
[دفع إلى آخر دراهم وقال اشتري لي حنطة]
م: (قال) ش: أي في " الجامع الصغير ": م: (ومن دفع إلى آخر دراهم) ش: قيد بالدفع لأنه إذا لم تدفع الدراهم، وقال: اشتري لي حنطة أو شعيراً لم يجز؛ لأنه لم يبين المقدار، وجهالة المقدار في المكيلات كجهالة الجنس م: (وقال اشتر لي بها طعاماً فهو على الحنطة ودقيقها استحساناً، والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتباراً للحقيقة) ش: لأن الطعام اسم للمطعوم م: (كما في اليمين على الأكل) ش: إذا حلف لا يأكل طعاماً، فأكل فاكهة يحنث م: (إذ الطعام اسم لما يطعم) ش: بحسب العرف على ما يجيء بيانه مشروحاً إن شاء الله تعالى.
م: (وجه الاستحسان: أن العرف أملك) ش: أي أقوى وأرجح بالاعتبار من القياس م: (وهو على ما ذكرنا) ش: أي العرف على ما ذكرناه من أنه واقع على الحنطة ودقيقها م: (إذا ذكر مقروناً بالبيع والشراء) ش: ولهذا يسمى عندهم السوق الذي يباع فيه الحنطة ودقيقها سوق الطعام، وإذا كان السوق هكذا ترك القياس به؛ لأن العرف أقوى من القياس؛ لأن الثابت بالعرف كالثابت بالنص م: (ولا عرف في الأكل) ش: أي في اليمين بالأكل م: (فبقي على الوضع) ش: وهو أن الطعام اسم لما يطعم.
م: (وقيل) ش: هو قول الفقيه أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإنه قال: م: (إن كثرت(9/238)
الدراهم فعلى الحنطة، وإن قلت فعلى الخبز، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق.
قال: وإذا اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب، فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده؛ لأنه من حقوق العقد وهي كلها إليه. فإن سلمه إلى الموكل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدراهم فعلى الحنطة) ش: أي الوكالة تقع على الحنطة. وقال تاج الشريعة: قوله هو على ما ذكرناه.
قالوا: هذا عرف أهل الكوفة، فإن سوق الحنطة ودقيقها عندهم يسمى سوق الطعام له هو في عرف غير أهل الكوفة ينصرف التوكيل إلى شراء كل مطعوم م: (وإن قلت: فعلى الخبز) ش: أي فتقع الوكالة على الخبز م: (وإن كان فيما بين ذلك) ش: أي بين القليل والكثير م: (فعلى الدقيق) ش: وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت الدراهم كثيرة بحيث يشتري الحنطة والدقيق والخبز، فاشترى بها الوكيل الخبز أو الدقيق لا يجوز على الموكل، وإن كانت وسطاً اشترى بها الحنطة أو الدقيق فاشترى بها الوكيل الحنطة أو الدقيق جاز، ولو اشترى بها الخبز لا يجوز، وإن كانت قليلة بحيث لا يشتري بمثلها في العرف إلا الخبز، فإنه يحوز إذا اشترى الخبز.
وفي " الفتاوى الصغرى ": ما ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عرفهم.
أما في عرفنا: فالطعام ما يمكن أكله من غير دم كاللحم المطبوخ والمشوي ونحوه، فتصرف الوكالة إلى ذلك دون الحنطة والدقيق والخبز والفتوى على هذا.
وفي " القدوري " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان شهد وليمة فدفع إليه دراهم كثيرة، فهو على الخبز، وإذا وكله بشراء لحم بدرهم فاشترى المطبوخ أو المشوي منه لا يجوز على الأمر إلا إذا كان مسافراً نزل خاناً، ولحم الطير الوحشي يجوز عليه إن كان في بلد يباع في أسواقه منه فيشتري الناس. وشراء الشاة الحية أو المذبوحة لا يجوز عليه، وإن سمى فهي للآمر بعشرة دراهم إلا أن تكون مسلوخة، ولو أمره بشراء البيض فهو على بيض الدجاجة، بخلاف اليمين على أكل البيض حيث يقع على بيض الطير.
هذا كله من " الفتاوى الصغرى ".
[اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب، فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده لأنه) ش: أي فللوكيل أن يرده بالعيب م: (من حقوق العقد وهي كلها إليه) ش:، أي الحقوق كلها إلى الوكيل م: (فإن سلمه إلى الموكل) ش: أي وإن أسلم الوكيل(9/239)
لم يرده إلا بإذنه؛ لأنه انتهى حكم الوكالة، ولأن فيه إبطال يده الحقيقية، فلا يتمكن منه إلا بإذنه، ولهذا كان خصما لمن يدعي في المشتري دعوى كالشفيع وغيره قبل التسليم إلى الموكل لا بعده.
قال: ويجوز التوكيل بعقد الصرف والسلم؛ لأنه عقد يملكه بنفسه، فيملك التوكيل به دفعا للحاجة على ما مر، ومراده التوكيل بالإسلام دون قبول السلم؛ لأن ذلك لا يجوز، فإن الوكيل يبيع طعاما في ذمته على أن يكون الثمن لغيره، وهذا لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المبيع إلى الموكل م: (لم يرده إلا بإذنه) ش: أي بإذن الموكل، م: (لأنه انتهى حكم الوكالة) ش: لأنه خرج من الوكالة وانقطع حقه م: (ولأن فيه) ش: أي في الرداء م: (إبطال يده الحقيقية) ش: أي يد الموكل.
م: (فلا يتمكن منه) ش: أي من الرد م: (إلا بإذن الموكل ولهذا) ش: أي ولأجل أن حقوق العقد كلها إلى الوكيل م: (كان) ش: أي الوكيل م: (خصماً لمن يدعي في المشتري دعوى كالشفيع وغيره قبل التسليم إلى الموكل لا بعده) ش: يعني كون الوكيل خصماً لمن يدعي إنما يكون قبل تسليم الوكيل المبيع إلى الموكل لا بعد التسليم؛ لأن الحقوق ترجع اليد قبل التسليم إلى الموكل.
[التوكيل بعقد الصرف والسلم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز التوكيل بعقد الصرف والسلم لأنه) ش: أي لأن عقد الصرف والسلم م: (عقد يملكه بنفسه، فيملك التوكيل به دفعاً للحاجة على ما مر) ش: في أول كتاب الوكالة ويرد عليه الاستقراض فإنه ملك الموكل ولا يملك التوكيل، وكذا يرد عليه مسألة الوكالة من جانب المسلم إليه، فإن المسلم إليه باشره بنفسه لقبول السلم يجوز. ولو وكل غيره لا يجوز.
وأجاب الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الثاني بقوله فجوابه: أن القياس أن لا يملكه المسلم لكونه بيع للمعدوم، إلا أنه جوز ذلك من المسلم إليه رخصة له دفعاً لحاجة المفاليس، وما ثبت بخلاف القياس يقتصر على مورد النص فلم يجز توكيله غيره أو نقول جاز بيع المعدوم ضرورة دفع حاجة المفاليس؛ والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة فلم يظهر أثره في التوكيل، ولم يرد نقصاً على الكلي الذي قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، انتهى.
قلت: هذا ذكره غيره أيضاً.
م: (ومراده التوكيل بالإسلام) ش: يعني أن المراد منه: التوكيل بعقد السلم من جهة رب السلم م: (دون قبول السلم لأن ذلك لا يجوز) ش: وهذا لا يجوز وهو معنى قوله: فإن ذلك لا يجوز، م: (فإن الوكيل يبيع طعاماً في ذمته على أن يكون الثمن لغيره) ش: وهو الموكل م: (وهذا لا يجوز) ش: لأن من باع ملك نفسه من الأعيان على أن يكون الثمن لغيره لم يجز، فكذلك في الديون لا يجوز، نص على ذلك محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب: الوكالة في السلم، فإن بطل التوكيل بقي(9/240)
فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض بطل العقد لوجود الافتراق من غير قبض. ولا يعتبر مفارقة الموكل لأنه ليس بعاقد، والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل، فيصح قبضه. وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه، بخلاف الرسول؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوكيل عاقداً لنفسه فملك رأس المال، فلما أسلمه إلى الموكل على وجه التمليك كان قرضاً عليه
فإن قيل: قد يجوز التوكيل بشيء يجب في ذمة الغير كما في الوكيل بالشراء فإن الوكيل هو المطالب بالثمن، والثمن يجب في ذمة الموكل، فينبغي أن يجوز فيما نحن فيه لجامع معنى الرسم، فإن السلم فيه دين في ذمة المسلم إليه، كالثمن؟ .
قلنا: المسلم فيه دين له حكم المبيع حتى لا يجوز الاستبدال به قبل القبض، وليس للثمن حكم المبيع فلا يلزم من الجواز هناك.
م: (فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض بطل العقد) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره " أي فارق الوكيل بعقد الصرف والسلم صاحبه الذي عقد معه قبل القبض بطل العقد م: (لوجود الافتراق من غير قبض) ش: لأن القبض في المجلس شرط ولم يوجد م: (ولا يعتبر مفارقة الموكل) ش: قبل القبض م: (لأنه ليس بعاقد، والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل، فيصح قبضه) ش: أي قبض الوكيل بدل الصرف.
م: (وإن كان لا يتعلق به الحقوق) ش: كلمة " إن " للوصل، والضمير في كان يرجع إلى الوكيل والمعنى يصح قبض الوكيل، وإن كان مما لا يلزم العهدة م: (كالصبي والعبد المحجور عليه) ش: يعني كما إذا كان الوكيل صبياً أو عبداً محجوراً لأنه العاقد.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا جواب سؤال يرد على أصل الوكالة، فإن الصبي والعبد المحجورين إذا توكلا يصح، ولا يرجع عليهما حقوق العقد من التسليم والتسلم، فكيف يتعلق ها هنا بهما التسليم؟ والتسليم في بدل الصرف وهما وكيلان فيه حتى بطل الصرف بمفارقتها قبل القبض، فأجاب عنه: أن قبضهما صحيح وإن كان لا يلزمهما الحقوق؛ لأن القبض في الصرف من تتمة صحة العقد فيصح ممن يوجد عند العقد. م: (بخلاف الرسول) ش: أن في باب الصرف وفي باب السلم.
وفي بعض النسخ: الرسولين أي الرسول في الصرف والرسول في السلم، وليس معناه الرسول من الجانبين في الصرف، والرسول من الجانبين في السلم، أي من جانب رب السلم ومن جانب المسلم إليه؛ لأنه كما لا تجوز الوكالة من جانب المسلم إليه فكذلك الرسول، ومعناه: أن الرسول إذا قبض لا يصح العقد بقبضه على ما يجيء، وقوله: " بخلاف الرسول " مرتبط بقوله: " فيصح قبضه "، أي يصح قبض الوكيل بخلاف قبض الرسول فإنه لا يصح، والمعتبر قبض(9/241)
لأن الرسالة في العقد لا في القبض، وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض غير العاقد فلم يصح.
قال: وإذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله، وقبض المبيع فله أن يرجع به على الموكل؛ لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية، ولهذا إذا اختلفا في الثمن يتحالفان، ويرد الموكل بالعيب على الوكيل، وقد سلم المشتري للموكل من جهة الوكيل، فيرجع عليه، ولأن الحقوق لما كانت راجعة إليه وقد علمه الموكل، فيكون راضيا بدفعه من ماله، فإن هلك المبيع في يده قبل حبسه هلك من مال الموكل ولم يسقط الثمن؛ لأن يده كيد الموكل، فإذا لم يحبس يصير الموكل قابضا بيده. وله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المرسل م: (لأن الرسالة في العقد) ش: أي حصل فيه م: (لا في القبض. وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض غير العاقد فلم يصح) ش: أي قبض الرسول.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله وقبض المبيع فله أن يرجع به) ش: أي بالثمن م: (على الموكل) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (انعقدت بينهما) ش: أي بين الوكيل والموكل م: (مبادلة حكمية) ش: أي صار الوكيل كالبائع من المشتري، والدليل على المبادلة ما أشار إليه بقوله: م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون معنى المبادلة فيه م: (إذا اختلفا) ش: أي الوكيل والموكل م: (في الثمن يتحالفان) ش: والتحالف من خواص المبادلة، م: (ويرد الموكل بالعيب على الوكيل) ش: هذا أيضاً من كون معنى المبادلة فيه، حيث يكون للموكل أن يرد المبيع على الوكيل بالشراء بالعيب م: (وقد سلم المشتري للموكل من جهة الوكيل فيرجع عليه) ش: أي يرجع الوكيل على الموكل، يعني لما كان الموكل كالمشتري من الوكيل وقد سلم له المشتري، أي: الذي اشترى له من جهة يرجع عليه، (ولأن الحقوق) دليل آخر (لما كانت إليه) أي إلى الوكيل م: (وقد علمه الموكل) ش:، أي والحال أن الموكل قد علم كون الحقوق راجعاً إليه، م: (فيكون) ش: أي الموكل م: (راضياً بدفعه) ش: أي بدفع الثمن م: (من ماله) ش: أي مال الوكيل. فإذا دفع الوكيل بسبب أمر الموكل زيادة بالشراء، كان الموكل راضياً أيضاً برجوع الوكيل بما أدى، ولم يسقط الثمن ولا خلاف فيه للأئمة الثلاثة.
م: فإن هلك المبيع في يده) ش: أي في يد الوكيل م: (قبل حبسه هلك من مال الموكل ولم يسقط الثمن؛ لأن يده كيد الموكل، فإذا لم يحبس يصير الموكل قابضاً بيده) ش: أي حكماً والهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل، فلا يبطل الرجوع، ويقال: لأن المبيع أمانة في يد الوكيل لأنه قبضه للموكل، فليس على الأمين شيء ما لم يحدث مساً، فلا يضمنه، كما إذا هلكت الوديعة في يد المودع، م: (وله) ش: أي للوكيل م: (أن يحبسه) ش: أي المبيع م: (حتى يستوفي الثمن) ش: سواء دفع الوكيل الثمن إلى البائع أو لم يدفع كذا في " المبسوط "، وقالت الأئمة الثلاثة ليس له حبسه.(9/242)
لما بينا أنه بمنزلة البائع من الموكل. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك؛ لأن الموكل صار قابضا بيده فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس. قلنا: هذا مما لا يمكن التحرز عنه، فلا يكون راضيا بسقوط حقه في الحبس، على أن قبضه موقوف فيقع للموكل إن لم يحبسه ولنفسه عند حبسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له حق الحبس، فإذا حبسه صار غاصباً على ما يجيء الآن.
وعن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: إذا نقد الثمن له حبسه. وفي " الذخيرة ": لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من الكتب: أن للوكيل حبس المبيع قبل نقد الثمن، وحكى عن الإمام الحلواني: أن له ذلك، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا كلام عجيب من صاحب " الذخيرة "، وكيف خفي عليه.
وقد صرح محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل " في باب الوكالة في الشراء، فقال: وإذا وكل الرجل رجلاً أن يشتري له عبداً بألف درهم بعينه فاشتراه الوكيل وقبضه، فطلب الآمر أخذ العبد من الوكيل وأبى الموكل أن يدفعه، فللوكيل أن يمنعه ذلك حتى يستوفي الثمن، في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان الوكيل نقد الثمن أو لم ينقد فهو سواء إلى هنا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل، وفي " الفتاوى الصغرى " الوكيل بالشراء إذا اشترى بالنسبة فحل عليه الثمن بموته لا يحل على الآمر.
م: (لما بينا أنه بمنزلة البائع من الموكل) ش: كأنه أشار بهذا إلى قوله لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية، والمبادلة هو البيع.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك) ش: أي حق الحبس، م: (لأن الموكل صار قابضاً بيده) ش: أي بيد الوكيل بدليل أن هلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد الموكل، فكأنه قبضه حقيقة، م: (فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس) ش: ولو وقع في يد الموكل حقيقة لا يكون للوكيل حق الحبس، فكذا إذا وقع في يده حكماً.
م: (قلنا: هذا مما لا يمكن التحرز عنه) ش: يعني دخول البيع في يد الوكيل على وجه لا يكون ولاية الحبس، لا يمكن التحرز عنه، وما لا يمكن التحرز عنه فهو عفو، فلا يسقط حقه في الحبس لأن سقوط حقه باعتبار رضاه بتسليمه، فلا يتحقق منه الرضا فيما لا طريق له إلى التحرز عنه؛ فإذا كان كذلك م: (فلا يكون راضياً بسقوط حقه في الحبس على أن قبضه موقوف) ش: يعني لا نسلم أنه صار قابضاً بيده بل قبضه موقوف.
فإذا كان موقوفاً: م: (فيقع للموكل إن لم يحبسه ولنفسه) ش: أي ويقع لنفسه أي لنفس الوكيل م: (عند حبسه) ش: حاصل الكلام: أن قبضه موقوف للتردد بين أن يكون تتميم مقصود الموكل وبين أن يكون لإحياء حق نفسه، فإذا حبسه تبين أنه قبضه لإحياء حق نفسه، فلم يكن الموكل(9/243)
فإن حبسه فهلك كان مضمونا ضمان الرهن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وضمان البيع عند محمد وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وضمان الغصب عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه منع بغير حق. لهما أنه بمنزلة البائع منه، فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط بهلاكه. ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن وهو الرهن بعينه، بخلاف المبيع؛ لأن البيع ينفسخ بهلاكه، وهاهنا لا ينفسخ أصل العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قابضاً حكماً فلا يسقط حقه للضرورة.
[حبس الوكيل المبيع فهلك عنده]
م: (فإن حبسه) ش: أي فإن حبس الوكيل المبيع م: (فهلك كان مضموناً ضمان الرهن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حتى لو كان فيه وفاء بالثمن يسقط وإلا رجع بالفضل على الموكل م: (وضمان البيع عند محمد) ش: قلت قيمته أو كثرت، م: (وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:، أي قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وضمان الغصب عند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه منع بغير حق) ش:، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا كان الثمن خمسة عشر مثلاً وقيمة المبيع عشرة، فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرجع الوكيل على الموكل بالفضل وهو الخمسة فتظهر فائدة ضمان الغصب، في عكس هذا وهو أن يكون قيمة المبيع خمسة عشر والثمن عشرة، يرجع الموكل على الوكيل بخمسة، فعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرجع الموكل على الوكيل بمثله إن كان مثلياً، وبقيمته بالغة ما بلغت.
وعلى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتفاوت الحال بين أن يكون الثمن كثيراً أو قليلاً؛ لأنه يسقط بهلاك المبيع، فلا يجب شيء أصلاً.
م: (لهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -: م: (أنه) ش: أي أن الوكيل م: (بمنزلة البائع منه) ش: أي من الوكيل، م: (فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط) ش: أي الثمن م: (بهلاكه) ش: أي بهلاك المبيع.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن) ش: لأنه لم يكن مضموناً قبل الحبس وصار مضموناً بعد الحبس، م: (وهو الرهن بعينه) ش: يعني بمعنى الرهن لا بمعنى المبيع، فإن المبيع مضمون قبل الحبس بنفس العقد، م: (بخلاف المبيع) ش: فإنه ليس كذلك م: (لأن البيع ينفسخ بهلاكه) ش: أي بهلاك المبيع م: (وها هنا لا ينفسخ أصل العقد) ش: بل يبقى بين الوكيل وبائعه، فلا يكون نظير المبيع، فأجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه بقوله:(9/244)
قلنا: ينفسخ في حق الموكل والوكيل، كما إذا رده الموكل بعيب ورضي الوكيل به.
وقال: وإذا وكله شراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين رطلا بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم، لزم الموكل منه عشرة أرطال بنصف درهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يلزمه العشرون بدرهم وذكر في بعض النسخ قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع قول أبي حنيفة، ومحمد لم يذكر الخلاف في الأصل. لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أمر بصرف الدرهم في اللحم وظن أن سعره عشرة أرطال، فإذا اشترى به عشرين فقد زاده خيرا وصار كما إذا وكله ببيع عبده بألف، فباعه بألفين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قلنا ينفسخ في حق الموكل والوكيل، كما إذا رده الموكل بعيب ورضي الوكيل به) ش: فإنه يلزم الوكيل وينفسخ العقد فيما بين الموكل والوكيل؛ وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه مغالطة على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه يفرق بين هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وبين هلاكه في يد الوكيل بالشراء بعد حبسه عن الموكل لاستيفاء الثمن، ففي الأول: ينفسخ البيع وفي الثاني: لا؛ وانفساخ البيع بين الوكيل والموكل بالرد بالعيب لا يدل على انفساخه إذا هلك في يد الوكيل فخرج الجواب عن موضع النزاع انتهى.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل وهذه مغالطة على أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ... إلى آخر ما ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قال وإنه كما ترى فاسد؛ لأنه إذا فرض أن الوكيل بائع كان الهلاك في يده كالهلاك في يد بائع ليس بوكيل، فاستويا في وجود الفسخ وبطل الفرق، بل إذا تأملت وجدت ما ذكر عن جانب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غلطاً أو مغالطة، وذلك لأن البائع من الوكيل بمنزلة بائع البائع، وإذا انفسخ العقد بين المشتري وبائعه لا يلزم منه الفسخ بين البائع وبائعه، فكان ذكره أحدهما يعني غلطاً أو مغالطة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا وكله شراء عشرة أرطال لحم بدرهم، فاشترى عشرين رطلاً بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم) ش: أي إذا كانت عشرة أرطال من ذلك اللحم يساوي قيمته درهماً قيد به؛ لأنه إذا كانت عشرة أرطال منهما تساوي درهماً نفذ الكل على الوكيل بالإجماع، ذكره في " الذخيرة "، م: (لزم الموكل منه عشرة أرطال بنصف درهم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يلزمه العشرون بدرهم) ش: إلى هنا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وذكر في بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ " مختصر القدوري " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع قول أبي حنيفة ومحمد لم يذكر الخلاف في " الأصل ") ش: أي في " المبسوط " م: (لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أمره) ش: أي أن الموكل أمر الوكيل م: (بصرف الدراهم في اللحم، وظن أن سعره عشرة أرطال، فإذا اشترى به عشرين فقد زاده خيراً، وصار كما إذا وكله ببيع عبده بألف، فباعه بألفين) ش: جاز هذا فكذا ذاك.(9/245)
ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أمره بشراء عشرة ولم يأمره بشراء الزيادة فينفذ شراؤها عليه، وشراء العشرة على الموكل. بخلاف ما استشهد به؛ لأن الزيادة هناك بدل ملك الموكل فتكون له بخلاف ما إذا اشترى ما يساوي عشرين رطلا بدرهم حيث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أمره) ش: أي أن الموكل أمر الوكيل م: (بشراء عشرة ولم يأمره بشراء الزيادة فينفذ شراؤها عليه) ش: أي شراء الزيادة على الوكيل م: (وشراء العشرة على الموكل) ش: أي وينفذ شراء العشرة التي أمر الوكيل بها على الموكل؛ لأنه خالفه فيما أمره به.
فإن قيل: يجب أن لا يلزم الآمر شيء من ذلك؛ لأن العشرة تثبت ضمناً للعشرين لا قصداً وقد وكله بشراء عشرة قصداً، ومثل هذا لا يجوز على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما إذا قال الرجل: طلق امرأتي واحدة فطلقها ثلاثاً: لا يقع واحدة لثبوتها في ضمن الثلاث، والمتضمن لم يثبت لعدم التوكيل، فلا يثبت ما في ضمنه أيضاً تبعاً له.
فأجاب عنه حميد الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأن في مسألة الطلاق وقوع الواحدة ضمني، وها هو كذلك لا يقع إلا في ضمن ما تضمنه، وما تضمنه لم يصح لعدم الأمر به. فكذا ما في ضمنه.
وأما فيما نحن فيه، فكل قصدي لأن أجزاء الثمن تتوزع على أجزاء المبيع، فلا يتحقق التضمن في الشراء، فإن قيل يشكل بأن إذا أمره أن يشتري له ثوباً هروياً فاشترى له هرويين بعشرة، كل واحد يساوي عشرة لا ينفذ بيع واحد منهما على الموكل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " الذخيرة " ناقلاً عن " المنتقى ".
وأجاب صاحب " النهاية " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من هذا يجعل اللحم من ذوات الأمثال ولا تفاوت في قيمتها إذا كانت من جنس واحد وصفة واحدة وكلامنا فيه، وحينئذ كان للوكيل أن يجعل للموكل أي عشرة شاء بخلاف الثوب، فإنه من ذوات القيم والثوبان وإن تساويا في القيمة لكن يعرف ذلك بالحزر والظن وذلك لا يعين حق الموكل، فثبت مجهولاً، فلا ينفذ عليه، انتهى.
قلت: هذا لا شيء إلا على قول من جعل اللحم من ذوات الأمثال وهو مختار صاحب " المحيط " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (بخلاف ما استشهد به) ش: جاوب عن تمثيل أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المتنازع فيه بتوكيل بيع العبد بألف وبيعه بألفين، م: (لأن الزيادة هناك بدل ملك الموكل فتكون له) ش: أي لأن الزيادة عوض ملك الأمر فلا يجوز أن يستحقه الوكيل إلا بإذن الموكل ولا بغير إذنه. ولهذا لو قال: بع ثوبي هذا على أن ثمنه لك لا يجوز؛ م: (بخلاف ما إذا اشترى ما يساوي عشرين رطلاً بدرهم حيث(9/246)
يصير مشترياً لنفسه بالإجماع؛ لأن الأمر يتناول السمين وهذا مهزول فلم يحصل مقصود الأمر.
قال: ولو وكله بشراء شيء بعينه، فليس له أن يشتريه لنفسه؛ لأنه يؤدي إلى تغرير الأمر حيث اعتمد عليه، ولأن فيه عزل نفسه فلا يملكه على ما قيل إلا بمحضر من الموكل. فلو كان الثمن مسمى فاشترى بخلاف جنسه، أو لم يكن مسمى فاشترى بغير النقود، أو وكل وكيلا بشرائه فاشترى الثاني وهو غائب يثبت الملك للوكيل الأول في هذه الوجوه لأنه خالف أمر الآمر فينفذ عليه. ولو اشترى الثاني بحضرة الوكيل الأول نفذ على الموكل الأول؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير مشترياً لنفسه بالإجماع) ش: لوجود المخالفة م: (لأن الأمر يتناول السمين) ش: أي اللحم السمين م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي اشتراه م: (مهزول فلم يحصل مقصود الأمر) ش: فلا يكون له
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولو وكله بشراء شيء بعينه، فليس له أن يشتريه لنفسه؛ لأنه يؤدي إلى تغرير الأمر حيث اعتمد عليه) ش: وذلك لا يجوز م: (ولأن فيه) ش: أي في شرائه لنفسه م: (عزل نفسه) ش: عن الوكالة م: (فلا يملكه) ش: لأن عزله يكون بالخلاف لا بالوفاق م: (إلا بمحضر من الموكل) ش: أي إلا بحضور من وكله فلا يغيبه.
قال في " التتمة ": هذا إذا كان الموكل غائباً، فإن كان حاضراً وصرح الوكيل بالشراء لنفسه يصير مشترياً لنفسه؛ لأنه خالف أمر الآمر، فنفذ الشراء على نفسه بخلاف الوكيل بنكاح امرأة بعينها تزوجها لنفسه بنفسه يصح، والفرق بينهما أن النكاح الذي أتي به الوكيل غير داخل تحت الأمر، إذ الآمر أمره بنكاح مضاف إليه، وقد أتى بنكاح مضاف إلى نفسه، فإن الوكيل بالنكاح يضيفه إلى الموكل، وفي الشراء مأمور بالشراء مطلقاً لا مضافاً إلى الأمر، فقد أتى بما دخل تحت الوكالة فيقع لموكله.
م: (فلو كان الثمن مسمى) ش: إلى الآخر ثلاثة أوجه، ذكر المصنف تفريعاً على مسألة القدوري، الأولى هو قوله فلو كان الثمن مسمى يعني وكله بالشراء بثمن مسمى م: (فاشترى بخلاف جنسه) ش: أي بخلاف جنس المسمى، بأن سمى دراهم فاشترى بخلاف جنسه بدنانير، الوجه الثاني: هو قوله م: (أو لم يكن مسمى فاشترى بغير النقود) ش: وهو المكيلات والموزونات، الوجه الثالث: هو قوله م: (أو وكل) ش: أي الوكيل وكل م: (وكيلاً بشرائه فاشترى الثاني) ش: أي فاشترى الوكيل الثاني م: (وهو) ش: وكيل الوكيل م: (غائب) ش: أي والحال أن الوكيل الأول غائب م: (يثبت الملك للوكيل الأول) ش: أي لموكل الوكيل الثاني م: (في هذه الوجوه) ش: الثلاثة المذكورة م: (لأنه خالف أمر الآمر فينفذ عليه) ش: أي لأن الوكيل الذي وكل خالف أمر الوكيل الذي وكله بشراء شيء بثمن مسمى.. إلى آخره م: (ولو اشترى الثاني) ش: أي الوكيل الثاني.
م: (بحضرة الوكيل الأول) ش: يثبت الملك للوكيل الأول، وفي بعض النسخ: ولو اشترى(9/247)
لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفا.
قال: وإن وكله بشراء عبد بغير عينه، فاشترى عبدا فهو للوكيل، إلا أن يقول: نويت الشراء للموكل أو يشتريه بمال الموكل. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذه المسألة على وجوه، إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر وهو المراد عندي بقوله أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من ماله؛ لأن فيه تفصيلا وخلافا، وهذا بالإجماع وهو مطلق. وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه حملا لحاله على ما يحل له شرعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني بحضرة الوكيل الأول م: (نفذ على الموكل الأول؛ لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفاً) ش:. فإن قيل: يشكل هذا بما لو أوكل الوكيل بطلاق أو عتاق لآخر، فطلق الوكيل الثاني وأعتق بحضرة الوكيل الأول، لا يقع. ذكره في " الذخيرة " و " التتمة ". قلنا: إن الوكيل بالطلاق والعتاق رسول لأن العمل بحقيقة الوكالة متعذر؛ لأن التوكيل تفويض الرأي إلى الوكيل، وجعله بمنزلة المالك، وتفويض الرأي إلى الوكيل، إنما يتحقق فيما يحتاج فيه إلى الرأي، والطلاق المفرد والعتاق المفرد لا يحتاج إلى الرأي، فلما تعذر العمل بحقيقة الوكالة جعلناها مجازاً عن الرسالة؛ لأن الوكالة تتضمن معنى الرسالة، والرسول ينقل عبارة المرسل فصار المأمور مأموراً ينقل العبارة من الآمر، أما البيع وغيره فيما يحتاج فيه إلى الرأي فيعمل بحقيقة الوكالة، كذا في " الذخيرة ".
[وكله بشراء عبد بغير عينه فاشترى عبدا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن وكله بشراء عبد بغير عينه فاشترى عبداً فهو للوكيل، إلا أن يقول: نويت الشراء للموكل أو يشتريه بمال الموكل) ش: هذا كله لفظ القدوري والمصنف - رحمهما الله -.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذه المسألة على وجوه) ش: أشار إلى الوجه الأول بقوله: م: (إن أضاف) ش: أي الوكيل م: (العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو المراد عندي) ش: بمعنى أن المراد من قول القدوري عندي وهو قوله: " أو يشتريه بمال الموكل " أشار إليه بقوله م: (أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من ماله؛ لأن فيه) ش: أي في النقد بعد الشراء مطلقاً م: (تفصلاً) ش: أراد به صورة التكاذب والتوافق، ففي التكاذب بحكم النقد اتفاقاً م: (وخلافاً) ش: أي في التوافق على عدم النية بحكم النقد عند أبي يوسف وعند محمد - رحمهما الله - هو للوكيل على ما يأتي بيانه مشروحاً م: (وهذا بالإجماع) ش: أي الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالاتفاق إذا اشترى بمال الموكل م: (وهو مطلق) ش: أي الذي ذكره القدوري مطلق لا تفصيل فيه.
والوجه الثاني: هو قوله: م: (وإن أضافه إلى دراهم نفسه) ش: أي نصف الوكيل العقد إلى دراهم لنفسه م: (كان لنفسه) ش: يعني يقع العقد له م: (حملاً لحاله) ش: أي لحال الوكيل م: (على ما يحل له شرعاً) ش: لأنه لما أضاف العقد إلى دراهم الآمر يقع له؛ لأنه لو لم يقع له كان واقعاً للوكيل.(9/248)
أو يفعله عادة، إذ الشراء لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غير مستنكر شرعا وعرفا، وإن أضافه إلى دراهم مطلقة، فإن نواها للآمر فهو للآمر، وإن نواها لنفسه فلنفسه؛ لأن له أن يعمل لنفسه ويعمل للآمر في هذا التوكيل. وإن تكاذبا في النية يحكم النقد بالإجماع؛ لأنه دلالة ظاهرة على ما ذكرنا، وإن توافقا على أنه لم تحضره النية. قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للعاقد؛ لأن الأصل أن كل واحد يعمل لنفسه، إلا إذا ثبت جعله لغيره ولم يثبت. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحكم النقد فيه؛ لأن ما أوقعه مطلقا يحتمل الوجهين، فيبقى موقوفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا كان وقع العقد للوكيل كان غاصباً لدراهم الآمر، وهو لا يحل شرعاً م: (أو يفعله عادة) ش: عطف على قوله " يحل له "، يعني أن العادة جرت بأن الشراء إذا كان مضافاً إلى دراهم فإنه يقع الشراء لصاحب الدراهم، م: (إذ الشراء) ش: أي لأن الشراء م: (لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غير مستنكر شرعاً) ش: لأن الأصل هو الوفاء عند العهد بالنص م: (وعرفاً) ش: لأن الأصل هو الوفاء بالعادة.
والوجه الثالث: هو قوله: م: (وإن أضافه) ش: أي العقد م: (إلى دراهم مطلقة) ش: يعني من غير إضافة إلى دراهم أحد ففيه تفصيل أشار إليه بقوله م: (فإن نواها) ش: أي فإن نوى نية الشراء م: (للآمر فهو للآمر، وإن نواها لنفسه فلنفسه) ش: أي فكان لنفسه م: (لأن له) ش: أي للوكيل م: (أن يعمل لنفسه ويعمل للآمر في هذا التوكيل) ش: أي في التوكيل بشراء عبد بغير عينه فيعمل فيه لنفسه أصالة، ويعمل بغيره وكالة؛ لأن المأمور به غير معين، فكانت نيته معتبرة.
والوجه الرابع: هو قوله: م: (وإن تكاذبا) ش: أي الموكل والوكيل م: (في النية) ش: بأن قال الموكل: اشتريته لي وقال الوكيل: اشتريته لنفسي م: (يحكم النقد) ش: على صيغة المجهول من التحكيم، فأي من نقد الثمن من ماله فهو له م: (بالإجماع لأنه) ش:، أي لأن تحكيم النقد م: (دلالة ظاهرة على ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: حملاً لحلاله على ما يحل له شرعاً.
والوجه الخامس: هو قوله: م: وإن توافقا) ش: أي الموكل والوكيل م: على أنه) ش: أي على أن الوكيل م: لم تحضره النية) ش: ففيه اختلاف بين أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
م: (قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو للعاقد؛ لأن الأصل أن كل واحد يعمل لنفسه إلا إذا ثبت جعله) ش: أي جعل العمل م: (لغيره ولم يثبت) ش: م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحكم النقد فيه؛ لأن ما أوقعه مطلقاً) ش: يعني من غير تعيين نية.
م: (يحتمل الوجهين) ش: أراد بهما وقوع الشراء للموكل ووقوعه للوكيل م: (فيبقى موقوفاً(9/249)
فمن أي المالين نقد فقد فعل ذلك المحتمل لصاحبه، ولأن مع تصادقهما يحتمل النية للآمر. وفيما قلناه حمل حاله على الصلاح كما في حالة التكاذب والتوكيل بالإسلام في الطعام على هذه الوجوه. قال: ومن أمر رجلا بشراء عبد بألف، فقال: قد فعلت ومات عندي، وقال الآمر: اشتريته لنفسك، فالقول قول الآمر. فإن كان دفع إليه الألف، فالقول قول المأمور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فمن أي المالين نقد فقد فعل ذلك المحتمل لصاحبه، ولأن مع تصادقهما) ش: يعني على أنه لم يحضره النية م: (يحتمل النية للآمر) ش: لاحتمال أن يكون نوى الآمر ثم نسبه.
م: (وفيما قلناه) ش: أي في تحكيم النقد م: (حمل حاله) ش: أي حمل حال الوكيل م: (على الصلاح) ش: وهو أن لا يكون الوكيل غاصباً على تقدير النقد من مال الآمر م: (كما في حالة التكاذب) ش: بحمله النقد لأجل حال الوكيل على الوكيل على الصلاح.
فإن قلت: كيف قلتم إذا أضاف العقد إلى دراهم الآمر يقع الشراء له وإن أضافه الوكيل إلى دراهم نفسه يقع الشراء له. والدنانير لا يتعينان في العقود والفسوخ عندنا، فكانت الإضافة وعدم الإضافة سواء؟
قلت: لا نسلم إنها لا تتعين مطلقاً، بل تتعين في الوكالات، وبه صرح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أواخر هذا الفصل في تعليل قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وسيجيء بيان تمامه إن شاء الله تعالى، أو نقول، لا يريد بتعيينها تعلق الشراء بعينها على وجه يكون هي مستحقة لا محالة، بل يريد تقييد الوكالة به، فإذا تعددت الوكالة بها، حتى إذا هلكت قبل الشراء بطلت الوكالة وصلحت الإضافة إلى أحدهما معينة لوقوع العقد منه. م: (والتوكيل بالإسلام في الطعام على هذه الوجوه) ش: أي على الوجوه المذكورة في الوكيل بالشراء، فإن أضاف الوكيل بالسلم العقد إلى دراهم الآمر، كان السلم له، وإن أضافه إلى دراهم لنفسه كان له، وإن عقده مطلقاً من غير إضافة إلى دراهم أحد، فإن نوى السلم للموكل كان له، وإن نوى لنفسه، وإن تكاذبا بحكم النقد، وإن توافقا على أنه لم يحضره النية كان السلم للوكيل عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحكم النقد فعن دراهم أيهما نقد فالعقد له.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن أمر رجلاً بشراء عبد بألف، فقال: قد فعلت ومات عندي، وقال الآمر: اشتريته لنفسك فالقول قول الآمر) ش: هذا إذا لم يدفع الثمن فالقول له، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وقالا في وجه آخر: القول للمأمور.
م: (فإن كان دفع إليه) ش: أي إلى الوكيل م: (الألف فالقول قول المأمور) ش: بلا خلاف(9/250)
لأن في الوجه الأول أخبر عما لا يملك استئنافه، وهو الرجوع بالثمن على الآمر وهو ينكر، والقول للمنكر. وفي الوجه الثاني هو أمين يريد الخروج عن عهدة الأمانة فيقبل قوله، ولو كان العبد حيا حين اختلفا إن كان الثمن منقودا، فالقول للمأمور لأنه أمين، وإن لم يكن منقودا. فكذلك عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -؛ لأنه يملك استئناف الشراء فلا يتهم في الإخبار عنه، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القول للآمر لأنه موضع تهمة بأن اشتراه لنفسه. فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر، بخلاف ما إذا كان الثمن منقودا لأنه أمين فيه، فيقبل قوله تبعا لذلك، ولا ثمن في يده هاهنا. وإن كان أمره بشراء عبد بعينه ثم اختلفا والعبد حي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن في الوجه الأول) ش: وهو الوجه الذي لم يدفع الثمن فيه م: (أخبر عما لا يملك استئنافه) ش: أي يقدر على إنشائه، أي إنشاء العقد، إذ العبد ميت، ومن أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال لا يكون القول له، كما لو قال راجعت إن كانت العدة باقية فإنه يصدق؛ لأنه يملك إنشاءه وإلا فلا. كذا ها هنا م: (وهو الرجوع على الآمر بالثمن) ش: وإنما لم يقل: وهو العقد؛ لأن مقصود الوكيل من ذكر العقد الرجوع بالثمن على الآمر، فكأنه ذكر السبب وأراد المسبب، وهو جائز؛ لأن الرجوع بالثمن مختص بالشراء لأجل الآمر م: (وهو) ش: أي الآمر م: (ينكر والقول للمنكر) .
م: (وفي الوجه الثاني) ش: وهو الذي دفع الثمن فيه م: (هو) ش: أي للوكيل م: (أمين يريد الخروج عن عهدة الأمانة فيقبل قوله) ش: لأنه أمين م: (ولو كان العبد حياً حين اختلفا) ش: فقال للمأمور اشتريته لك، وقال الآمر اشتريته لنفسك م: (إن كان الثمن منقوداً فالقول للمأمور لأنه أمين) ش: وأخبر عما يملك إنشاؤه للحال م: (وإن لم يكن) ش: أي الثمن م: (منقوداً فكذلك) ش: القول لمأمور م: (عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لأنه يملك استئناف الشراء فلا يتهم في الإخبار عنه) .
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القول للآمر لأنه موضع تهمة) ش: لأنه ربما اشتراه لنفسه ووجد به عيباً أو لم يعبه، فلما لم يوافقه أراد أن يلزمه الآمر لخسارة الصفقة ومثله متعارف بين الوكلاء، فلا يقبل قوله لهذه التهمة، وهذا حاصل معنى قوله م: (بأن اشتراه لنفسه فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر) ش: أي ألزم الصفقة الآمر.
م: (بخلاف ما إذا كان الثمن منقوداً لأنه أمين، فيقبل قوله تبعاً لذلك) ش: أي يقبل قول الوكيل: اشتريت لك عبداً ومات عندي تبعاً لخروج الوكيل عن عهدة الأمانة التي هي الألف المنقودة م: (ولا ثمن في يده ها هنا) ش: أي إذا كان العبد حياً والثمن غير منقود فلم يوجد المتبوع وهو كون الوكيل أميناً، فلا يوجد البيع وهو قبول قوله بطريق التبعية لخروج الوكيل عن عهدة الأمانة، فكذلك لا يقبل قوله ها هنا. م: (وإن كان أمره بشراء عبد بعينه ثم اختلفا) ش: بأن قال الآمر: اشتريته لنفسك، وقال المأمور: بل اشتريته لك م: (والعبد حي) ش: أي والحال أن العبد(9/251)
فالقول للمأمور سواء كان الثمن منقودا أو غير منقود، وهذا بالإجماع؛ لأنه أخبر عما يملك استئنافه ولا تهمة فيه؛ لأن الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك شراءه لنفسه بمثل ذلك الثمن في حال غيبته على ما مر. بخلاف غير المعين على ما ذكرناه لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ومن قال لآخر: بعني هذا العبد لفلان، فباعه ثم أنكر أن يكون فلان أمره، ثم جاء فلان وقال: أنا أمرته بذلك، فإن فلانا يأخذه؛ لأن قوله السابق إقرار منه بالوكالة عنه، فلا ينفعه الإنكار اللاحق، فإن قال فلان: لم آمره لم يكن ذلك له؛ لأن الإقرار يرتد برده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حي م: (فالقول للمأمور سواء كان الثمن منقوداً أو غير منقود، وهذا بالإجماع؛ لأنه أخبر عما يملك استئنافه) ش: على قولهما م: (ولا تهمة فيه) ش: على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا قاله بعض الشارحين.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا بعيد عن التحقيق؛ لأن المجموع دليل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا قوله ولا تهمة فيه بعد، انتهى.
قلت: لا بعد فيه؛ لأن المسألة متفقة مع اختلاف التخريج.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويمكن أن يقع قوله لا يملك استئنافه قول الكل م: (لأن الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك شراءه لنفسه بمثل ذلك الثمن في حال غيبته) ش: أي في حال غيبة الموكل قيد به إذ في حال حضرة الموكل يملك م: (على ما مر) ش: أشار به إلى ما ذكر قبل صفحة بقوله ولو وكله بشراء شيء بعينه، فليس له أن يشتريه لنفسه.
م: (بخلاف غير المعين) ش: أي بخلاف ما إذا كان العبد غير معين م: (على ما ذكرناه لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أشار به إلى دليل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبل خطوط وهو قوله لأنه موضع التهمة.
م: (ومن قال لآخر: بعني هذا العبد لفلان، فباعه ثم أنكر أن يكون فلان أمره، ثم جاء فلان وقال: أنا أمرته بذلك، فإن فلاناً يأخذه) ش: هذا من مسائل " الجامع الصغير " قوله: لفلان، أي لأجل فلان، يعني أن فلاناً أمرني أن أشتري هذا العبد لأجله، فباعه صاحب العبد ثم أنكر المقر أمر فلان بعد الشراء وقال لم يكن فلاناً أمرني بل اشتريته لنفسي، ينعقد البيع للحال قوله، فإن فلاناً يأخذه يعني له ولاية أخذه م: (لأن قوله السابق) ش: أي قول المشتري السابق وهو معنى قوله: هذا العبد م: (إقرار منه بالوكالة عنه فلا ينفعه الإنكار اللاحق) ش: بعد ذلك لأنه مناقض، ولا قول للمناقض.
م: (فإن قال فلان: لم آمره لم يكن ذلك له) ش: أي لفلان على العبد سبيل م: (لأن الإقرار) ش: أي لأن إقرار المقر م: (يرتد برده) ش: أي برد المقر له، فإذا عاد إلى تصديقه بعد ذلك لم ينفعه(9/252)
قال: إلا أن يسلمه المشتري له فيكون بيعا عنه، وعليه العهدة لأنه صار مشتريا بالتعاطي، كمن اشترى لغيره بغير أمره حتى لزمه ثم سلمه المشترى له ودلت المسألة على أن التسليم على وجه البيع يكفي للتعاطي، وإن لم يوجد نقد الثمن وهو يتحقق في النفيس والخسيس لاستتمام التراضي وهو المعتبر في الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه عاد حين انتفى الإقرار، فلم يصح له تصديقه ولزم الشراء للمشتري.
م: (قال) ش: فالظاهر أن قائله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المسألة من مسائل " الجامع الصغير " م: (إلا أن يسلمه المشتري له) ش: استثناء من قوله: لم يكن له، أي لم يكن له إلا في صورة التسليم إليه، وإنما ذكر صورة التسليم إليه؛ لأن فلاناً لو قال أمرت بعد قوله لم آمره، لم يعتبر ذلك، بل يكون العبد للمشتري وقوله إلا أن يسلمه المشتري، روى المشتري بكسر الراء وفتحها، فعلى الكسر يكون المشتري فاعلاً، وقوله له أي لأجله، ويكون المفعول الثاني محذوفاً وهو إليه، أي إلا أن يسلمه الفضولي العبد الذي اشتراه لأجل فلان إليه، وعلى الفتح يكون المشتري له مفعولا ثانيا بدون حرف الجر وهو فلان، والفاعل مضمر، أي ألا يسلم الفضولي العبد إلى المشتري له وهو فلان م: (فيكون بيعاً عنه) ش: مبتدأ م: (وعليه العهدة) ش: أي على فلان الآمر العهدة، أي عهدة الأخذ بتسليم الثمن.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعني لما انعقد بينهما بيع بالتعاطي، كانت العهدة للأخذ على المشتري، كذا فسره فخر الدين قاضي خان، وفخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو المفهوم من كلام محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأنه) ش: أي لأن الآخذ م: (صار مشترياً بالتعاطي، كمن اشترى لغيره بغير أمره حتى لزمه) ش: أي لزم المشتري م: (ثم سلمه المشتري له) ش: بفتح الراء.
قال تاج الشريعة: يكون المشتري له عبارة له بحق الموكل، يعني يسلم المشتري العبد إلى الموكل م: (ودلت المسألة) ش:، أي المسألة المذكورة م: (على أن التسليم على وجه البيع يكفي للتعاطي وإن لم يوجد نقد الثمن) . ش: قال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وغيره في شروح " الجامع الصغير ": ثبت بهذا أن بيع التعاطي كما يكون بأخذ وإعطاء، فقد ينعقد بالتسليم على جهة البيع والتمليك، وإن كان أخذاً بلا إعطاء كعادة الناس.
م: (وهو يتحقق) ش: أي البيع بالتعاطي م: (في النفيس والخسيس) ش: يعني من خسيس الأشياء ونفيسها م: (لاستتمام التراضي وهو المعتبر) ش: أي التراضي هو المعتبر م: (في الباب) ش: أي في باب البيع، ولما وجد التراضي انعقد البيع في النفيس والخسيس خلافاً لما يقوله الكرخي(9/253)
قال: ومن أمر رجلا أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم لهما ثمنا، فاشترى له أحدهما جاز؛ لأن التوكيل مطلق فيجري على إطلاقه، وقد لا يتفق الجمع بينهما في البيع إلا فيما لا يتغابن الناس فيه؛ لأنه توكيل بالشراء وهذا كله بالإجماع. ولو أمره بأن يشتريهما بالألف وقيمتهما سواء. فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن اشترى أحدهما بخمسمائة أو أقل جاز، فإن اشترى بأكثر يلزم الآمر؛ لأنه قابل الألف بهما وقيمتهما سواء، فيقسم بينهما نصفين دلالة، فكان أمرا بشراء كل واحد منهما بخمسمائة، ثم الشراء بها موافقة وبأقل منها مخالفة إلى خير وبالزيادة إلى شر، قلت الزيادة أو كثرت فلا يجوز إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن يختصما استحسانا؛ لأن شراء الأول قائم وقد حصل غرضه المصرح به وهو تحصيل العبدين بالألف، وما ثبت الانقسام إلا دلالة، والصريح يفوقها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أن بيع التعاطي لا ينعقد إلا في الأشياء الخسيسة.
[أمر رجلان أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم لهما ثمنا فاشترى أحدهما]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - له في " الجامع الصغير " م: (ومن أمر رجلان أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم لهما ثمنا فاشترى أحدهما جاز؛ لأن التوكيل مطلق فيجري على إطلاقه) ش: يعني عن قيد شرائهما متفرقين أو مجتمعين م: (وقد لا يتفق الجمع بينهما) ش: أي بين العبدين م: (في البيع إلا فيما لا يتغابن الناس فيه) ش: فإنه لا يجوز م: (لأنه توكيل بالشراء) ش: وهو لا يحتمل الغبن الفاحش م: (وهذا كله بالإجماع) ش: بين الأصحاب، وهو احتراز عما إذا وكل بالبيع.
م: (ولو أمره بأن يشتريهما بألف وقيمتهما سواء، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن اشترى أحدهما بخمسمائة أو أقل جاز، فإن اشترى بأكثر لم يلزم الآمر؛ لأنه) ش: أي لأن الآمر. م: (قابل الألف بهما وقيمتهما سواء) ش: أي والحال أن قيمة العبدين سواء، م: (فيقسم بينهما نصفين دلالة) ش: أي من حيث الدلالة فيعمل بها عند عدم الصريح، وعند وجوده يعمل به لقوته م: (فكان أمراً بشراء كل واحد منهما بخمسمائة، ثم الشراء بها) ش: أي بخمسمائة م: (موافقة وبأقل منها مخالفة إلى خير وبالزيادة إلى شر) ش: أي مخالفة إلى شر سواء.
م: (قلت الزيادة أو كثرت فلا يجوز إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن يختصما) ش: أي قبل الاختصام لثبوت المخالفة م: (استحساناً) ش: قيد به إذ في القياس لا ينفذ على الآمر؛ لأنه صار مخالفاً، والشراء فيما لا يتوقف فينفذ عليه، وهو قياس الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وجه الاستحسان هو قوله، م: (لأن شراء الأول قائم وقد حصل غرضه المصرح به) ش: أي غرض الآمر الذي صرح به م: (وهو تحصيل العبدين بالألف، وما ثبت الانقسام إلا دلالة، والصريح يفوقها) ش: أي يفوق الدلالة، حاصل المعنى الانقسام بالسوية كان ثابتا بطريق الدلالة، وإذا جاء الصريح وأمكن العمل به بطل الدلالة.(9/254)
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إن اشترى أحدهما بأكثر من نصف الألف بما يتغابن الناس فيه وقد بقي من الألف ما يشتري بمثله الباقي جاز؛ لأن التوكيل مطلق، لكنه يتقيد بالمتعارف وهو فيما قلنا، ولكن لا بد أن يبقى من الألف باقية يشتري بمثلها الباقي ليمكنه تحصيل غرض الآمر.
قال: ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه جاز؛ لأن في تعيين المبيع تعيين البائع، ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى. قال: وإن أمره أن يشتري بها عبدا بغير عينه، فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري، وإن قبضه الآمر فهو له. وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: وهو لازم للآمر إذا قبضه المأمور، وعلى هذا إذا أمره أن يسلم ما عليه أو يصرف ما عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إن اشترى أحدهما بأكثر من نصف الألف بما يتغابن الناس فيه، وقد بقي من الألف ما يشتري بمثله الباقي جاز؛ لأن التوكيل مطلق) ش: يعني غير مقيد بخمسمائة م: (لكنه يتقيد بالمتعارف) ش: وهو فيما يتغابن الناس فيه م: (وهو فيما قلنا) ش: أي المتعارف فيما يتغابن الناس فيه م: (ولكن لا بد أن يبقى من الألف باقية يشتري بمثلها الباقي ليمكنه تحصيل غرض الآمر) ش: وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": احتمل أن المسألة لا اختلاف فيها؛ لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما قال: لم يجز شراؤه على الآمر إذا أراد زيادة لا يتغابن الناس في مثلها، وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - قالا في الذي يتغابن الناس في مثله: إنه لا يلزم الآمر، فإذا حملت على هذا الوجه لا يكون في المسألة اختلاف، واحتمل أن في المسألة اختلاف في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زاد على خمسمائة قليلاً أو كثيراً لا يجوز على الآمر، وفي قولهما: يجوز إذا كانت الزيادة قليلة.
[له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه جاز؛ لأن في تعيين المبيع تعيين البائع ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى) ش: إشارة إلى ما ذكره لقوله بعد عشرة خطوطاً. وبخلاف ما إذا عين البائع لأنه يصير وكيلاً عنه بالقبض، م: (قال: وإن أمره أن يشتري بها) ش: أي بالألف التي على الآخر م: (عبداً بغير عينه فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري وإن قبضه الآمر فهو له وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (هو) ش: أي العبد م: (لازم للآمر) ش: في الوجهين وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: م: (إذا قبضه المأمور) ش: أي الوكيل م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف م: (إذا أمره) ش: أي إذا أمر من عليه الدين م: (أن يسلم ما عليه) ش: أي يعقد عقد السلم م: (أو يصرف ما عليه) ش: أي أو يعقد عقد العرف من غير تعيين من يسلم إليه أو يعقد عقد الصرف بأن قال: أسلم أو أصرف مالي عليك في كذا(9/255)
لهما: أن الدراهم والدنانير لا تتعينان في المعاوضات دينا كانت أو عينا، ألا ترى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد، فصار الإطلاق والتقييد فيه سواء، فيصح التوكيل ويلزم الآمر؛ لأن يد الوكيل كيده. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها تتعين في الوكالات. ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين منها أو بالدين منها ثم استهلك العين أو أسقط الدين بطلت الوكالة، فإذا تعينت كان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين من غير أن يوكله بقبضه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان على الاختلاف وإن عين المسلم إليه ومن يعقد به عقد الصرف صح بالاتفاق، وإنما خصهما بالذكر لدفع ما عسى يتوهم أن التوكيل فيهما لا يجوز لاشتراط القبض في المجلس.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الدراهم والدنانير لا تتعينان في المعاوضات ديناً كانت أو عيناً) ش: يعني لا يكون في الذمة، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد) ش: ووجب مثل ذلك الدين فإذا لم يتعين دراهم الدين صار التقييد والإطلاق سواء، وهو معنى قوله: م: (فصار الإطلاق) ش: بأن قال: بألف ولم يضفه إلى ما عليه م: (والتقييد) ش: بأن أضافه إلى ما عليه م: (فيه) ش: أي في عقد تبائع العين بالدين م: (سواء) ش: فإذا كان كذلك م: (فيصح التوكيل ويلزم الآمر لأن يد الوكيل كيده) ش: فصار كما لو قال: تصدق بمالي عليك على المساكين، فإنه يجوز وكذا لو آجر حماراً أو دابة أو أمر المستأجر بالمرمة من الأجرة، أو يشتري بالأجرة عبداً يسوق الدابة وينفق عليهما فصار هذا كما لو كان البائع أو المبيع متعيناً.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها) ش: أي أن الدراهم والدنانير م: (تتعين في الوكالة) ش: قال شيخ الإسلام: تتعين بعد القبض أما قبل القبض لا تتعين بلا خلاف، ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الزيادات " ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين منها) ش: أي بالدراهم والدنانير م: (أو بالدين منها ثم استهلك) ش: أي الآمر أو الوكيل م: (العين أو أسقط الدين) ش: أي الموكل أسقط الدين بأن أبرأه عن الدين بعد التوكيل بشراء العبد به م: (بطلت الوكالة) ش: ألا ترى أن الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل في " الأجناس " عن " الأصل ": الوكيل بالشراء إذا قبض الدنانير من الموكل وقد أمره أن يشتري بها طعاما فاشترى بدنانير غيرها ثم نقد دنانير الموكل فالطعام للوكيل وهو ضامن لدنانير الموكل، ثم قال الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه المسألة تدل على أن الدراهم والدنانير يتعينان في الوكالة.
[تمليك الدين من غير من عليه الدين]
م: (فإذا تعينت) ش: أي الدراهم والدنانير في الوكالات هو من تتمة الدليل أنها تتعين في الوكالات، وإذا تعينت م: (كان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين من غير أن يوكله بقبضه)(9/256)
وذلك لا يجوز، كما إذا اشترى بدين على غير المشتري، أو يكون أمرا بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله، وذلك باطل كما إذا قال: أعط مالي عليك من شئت بخلاف ما إذا عين البائع لأنه يصير وكيلا عنه في القبض ثم يتملكه. وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق لأنه جعل المال لله تعالى وهو معلوم. وإذا لم يصح التوكيل نفذ الشراء على المأمور فيهلك من ماله إلا إذا قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وذلك لا يجوز لعدم القدرة على التسليم، م: (وذلك لا يجوز) ش: أي تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز م: (كما إذا اشترى بدين على غير المشتري) ش: بأن كان لزيد على عمرو مثلًا دين فاشترى زيد من آخر شيئًا بذلك الدين الذي له على عمرو، فإنه لا يجوز م: (أو يكون أمرًا) ش: عطف على قوله: لأن هذا تمليك الدين من عليه الدين، أي أو أن يكون آمرًا م: (بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله) ش: أي أو يكون أمرًا يصرف أي يدفع مالا يملكه إلا بالقبض قبل القبض، وذلك لأن الديون تقضى بأمثالها، فكان ما أدى الديون إلى البائع أو إلى رب الدين ملك المديون ولا يملك الدائن قبل القبض م: (وذلك باطل) ش: أي الأمر بدفع ما ليس يملكه باطل، وصار هذا م: (كما إذا قال: أعط مالي عليك من شئت) ش: فإنه باطل لأنه أمر بصرف مالا يملكه الآمر إلا بالقبض إلى من يختاره المديون بنفسه.
م: (بخلاف ما إذا عين البائع) ش: أي بخلاف ما إذا عين الموكل عين البائع م: (لأنه يصير وكيلًا عنه بالقبض) ش: تصحيحًا لتصرفه بقدر الإمكان، م: (ثم يتملكه) ش: أي ثم يتملكه البائع واعترض بأنه لو اشترى شيئا بدين على آخر ينبغي أنه يجوز بجعله وكيلًا بالقبض أولًا لكونه معينًا، وأجيب: بأن عدم الجواز هاهنا لكونه بيعًا بشرط وهو أداء الثمن على الغير.
م: (وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق) ش: هذا جواب عن قياسهما على الأمر بالتصدق م: (لأنه جعل المال لله تعالى وهو معلوم) ش: لأنه إخراج المال إلى الله تعالى وهو معلوم، م: (وإذا لم يصح التوكيل) ش: وهذا رجوع إلى أول البحث يعني لما ثبت بالدليل أن التوكيل بشراء عبد غير معين لم يعلم بائعه غير صحيح م: (نفذ الشراء على المأمور) ش: فإذا هلك عنده م: (فيهلك من ماله إلا إذا قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيًا) ش: أي من حيث التعاطي يعني إذا قبضه الآمر عنه انعقد بينهما بيع بالتعاطي، فإن هلك عنده كان من ماله فائدة الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات. وفسوخها عندنا خلافا لزفر والشافعي - رحمهما الله - كما لا يتعينان إذا كانتا عينًا لا يتعينان إذا كانتا دينًا، ولهذا إذا اشترى شيئًا بدين له على البائع ثم تصادقا على أنه لا دين له لا يبطل الشراء ووجب مثل ذلك الدين، وذكر في " الزيادات ": أن الدراهم والدنانير يتعينان في الهبة والوصية والمضاربة والشركة قبل القبض والتسليم.(9/257)
قال: ومن دفع إلى آخر ألفا وأمره أن يشتري بها جارية فاشتراها، فقال الآمر: اشتريتها بخمسمائة، وقال المأمور: اشتريتها بألف فالقول قول المأمور ومراده إذا كانت تساوي ألفا لأنه أمين فيه وقد ادعى الخروج عن عهدة الأمانة والآمر يدعي عليه ضمان خمسمائة وهو ينكر، فإن كانت تساوي خمسمائة فالقول قول الآمر لأنه خالف حيث اشترى جارية تساوي خمسمائة والآمر تناول ما يساوي ألفا فيضمن. قال: وإن لم يكن دفع إليه الألف فالقول قول الآمر. أما إذا كانت قيمتها خمسمائة فللمخالفة. وإن كانت قيمتها ألفا فمعناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشيخ أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الكبير ": اختلف مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الدراهم والدنانير أنهما عند الإشارة إليهما هل يتعينان في العقود أم لا؟ قاله أبو طاهر الدياس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنهما لا يتعينان، وحكاه عن القاضي أبو حازم - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول أكثر مشايخ بلخ، ونسبه الشيخ أبو سهل الشرعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا أشار إليه لتعينت، ولكن مع هذا للمشتري أن يمنعها ويدفع غيرها لعدم التفاوت بينهما وبين غيرها، وفسر الشيخ أبو المعين - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنهما يتعينان في العقود، جوازًا لا وجوبًا، ثم قال: وعن أصحابنا روايتان في الدراهم والدنانير هل يتعينان في العقود الفاسدة والمختار: عدم التعيين.
ثم اعلم أن عدم تعين الدراهم والدنانير في حق الاستحقاق لا غير، فإنهما يتعينان جنسًا وقدرًا ووصفا، بالاتفاق، وبه صرح الإمام العتابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرح الجامع الصغير ".
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن دفع إلى آخر ألفًا وأمره أن يشتري بها جارية فاشتراها، فقال الآمر: اشتريتها بخمسمائة، وقال المأمور اشتريتها بألف، فالقول قول المأمور) ش: إلى هاهنا لفظ " الجامع الصغير " وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومراده) ش: أي مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا كانت) ش: أي الجارية م: (تساوي ألفًا لأنه أمين فيه وقد ادعى الخروج عن عهدة الأمانة والآمر يدعي عليه ضمان خمسمائة وهو ينكر) ش: فالقول قوله أي قول المنكر مع يمينه م: (فإن كانت تساوي خمسمائة فالقول قول الآمر لأنه خالف حيث اشترى جارية تساوي خمسمائة والآمر تناول ما يساوي ألفًا فيضمن) .
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن لم يكن دفع إليه الألف فالقول قول الآمر؛ أما إذا كانت قيمتها خمسمائة فللمخالفة) ش: لأنه أمره أن يشتري جارية تساوي ألفًا وقد خالف الشراء فيلزم المأمور م: (وإن كانت قيمتها ألفًا فمعناه) ش: أي فمعنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن(9/258)
أنهما يتحالفان لأن الموكل والوكيل في هذا ينزلان منزلة البائع والمشتري وقد وقع الاختلاف في الثمن وموجبه التحالف ثم يفسخ العقد والذي جرى بينهما فيلزم الجارية المأمور. قال: ولو أمره أن يشتري له هذا العبد ولم يسم له ثمنا، فاشتراه فقال الآمر: اشتريته بخمسمائة، وقال المأمور: بألف وصدق البائع المأمور، فالقول قول المأمور مع يمينه قيل: لا تحالف هاهنا لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع إذ هو حاضر وفي المسألة الأولى وهو غائب، فاعتبر الاختلاف. وقيل يتحالفان لما ذكرنا، وقد ذكر معظم يمين التحالف وهو يمين البائع، والبائع بعد استيفاء الثمن أجنبي عنهما وقبله أجنبي عن الموكل، إذ لم يجر بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجارية للمأمور م: (أنهما يتحالفان لأن الموكل والوكيل في هذا) ش: أي في هذا الفصل م: (ينزلان منزلة البائع والمشتري، وقد وقع الاختلاف في الثمن وموجبه التحالف ثم يفسخ العقد الذي جرى بينهما فيلزم الجارية المأمور) ش: لأن بعد التحالف ينفسخ العقد التقديري الذي جرى بين الآمر والمأمور.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو أمره أن يشتري له هذا العبد ولم يسم له ثمنًا فاشتراه فقال الآمر: اشتريته بخمسمائة وقال المأمور بألف وصدق البائع المأمور) ش: أي صدق بائع العبد الوكيل فيما قاله، م: (فالقول قول المأمور مع يمينه) ش:، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -:
م: (قيل: لا تحالف هاهنا) ش: وهو قول أبي جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع إذ هو حاضر) ش: يعني يجعل تصادقهما بمنزلة إنشاء عقد، ولو أنشأ العقد يلزم الجارية للآمر فكذا هنا م: (وفي المسألة الأولى) ش: وهي التي سبقت الآن م: (وهو) ش: أي البائع م: (غائب، فاعتبر الاختلاف) ش: الذي كان بين الآمر والمأمور ووجب التحالف، وهاهنا البائع الحاضر.
م: (وقيل: يتحالفان) ش: وهو قول أبي منصور الماتريدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: لأنهما نزلا منزلة البائع والمشتري، م: (وقد ذكر) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا جواب عمال يقال المذكور فيه، فالقول قول المأمور مع يمينه، فالتحالف يخالفه.
أجاب بقوله: وقد ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأصل": م: (معظم يمين التحالف وهو يمين البائع) ش: لأن البائع هو الوكيل جعله معظم يمين التحالف لأن يمين البائع مخصوص بصورة التحالف وليس المشتري كذلك لأنه يجب عليه اليمين بكل حال لكونه منكرًا.
م: (والبائع بعد استيفاء الثمن أجنبي) ش: هذا جواب عن قول أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ارتفع الخلاف بتصادقهما، وتقرير الجواب: أن البائع بعد استيفاء الثمن أجنبي م: (عنهما) ش: أي عن الوكيل والموكل م: (وقبله) ش: أي وقبل استيفاء الثمن م: (أجنبي عن الموكل، إذ لم يجر بينهما(9/259)
بيع فلا يصدق عليه فبقي الخلاف، وهذا قول الإمام أبي منصور وهو أظهر والله أعلم بالصواب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بيع فلا يصدق عليه) ش: أي الوكيل م: (فبقي الخلاف) ش: أي بين الآمر والمأمور والتخالف، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا قول الإمام أبي منصور وهو) ش: أي قول الإمام أبي منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أظهر) ش: أي أصح، وفي "جامع قاضي خان" - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي جعفر أصح.
وفي " الكافي ": هو الصحيح؛ وقال الإمام المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في "جامعه" بعد هذا: إذا تصادقا على الثمن عند التوكيل وإن اختلفا فقال الوكيل: أمرتني بالشراء بالألف، وقال الآمر: بخمسمائة، فالقول للآمر، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيلزم العبد الوكيل دون الآمر لأن يستفاد من جهته، فكان القول له، ولو أقام البينة فبينة الوكيل أولى لما فيها من زيادة الإثبات، م: (والله أعلم بالصواب) .(9/260)
فصل في التوكيل بشراء نفس العبد قال: وإذا قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من مولاي بألف ودفعها إليه، فإن قال الرجل للمولى: اشتريته لنفسه فباعه على هذا فهو حر والولاء للمولى لأن بيع نفس العبد منه إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل والمأمور سفير عنه، إذ لا يرجع عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التوكيل بشراء نفس العبد]
م: (فصل في التوكيل بشراء نفس العبد) ش: أي هذا فصل في بيان حكم التوكيل بشراء نفس العبد، والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر في هذا الفصل مسألتين:
أولهما: توكيل العبد رجلًا ليشتريه من مولاه، والثانية: أن يوكل الرجل العبد ليشتريه له من مولاه. فالعبد في الأولى موكل، والثانية وكيل.
وتحل الترجمة على طبق الوجهين، لمقتضى أن الألف واللام في التوكيل بدلًا من المضاف إليه، فالتقدير في الوجه الأول: فصل في توكيل العبد رجلًا ليشتريه لنفسه من مولاه، وفي الوجه الثاني: فصل في توكيل الرجل العبد ليشتريه له من مولاه، وعلى التقديرين المصدر مضاف إلى فاعله في الوجهين، ولكنه يختلف أيضًا، ففي الأول المفعول هو الرجل، وفي الثاني هو العبد، والأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - سعى هنا حيث جعل المصدر مضافًا إلى الفاعل والمفعول وليس كذلك والوجه ما قلناه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا قال العبد لرجل اشتر لي نفسي من مولاي بألف درهم ودفعها إليه) ش:، أي دفع العبد الألف إلى الرجل الذي وكله م: (فإن قال الرجل) ش: أي الوكيل م: (للمولى: اشتريته) ش: أي العبد م: (لنفسه) ش: أي لنفس العبد م: (فباعه على هذا) ش: أي على هذا الوجه م: (فهو حر) ش: أي العبد يصير حرًا م: (والولاء للمولى لأن بيع نفس العبد منه) ش: أي من العبد م: (إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل) ش: لأن العبد لا يملك، وإن ملك لأنه ليس بأهل أن يملك مالًا فصار مجازًا عن الإعتاق إذ البيع إزالة ملك بعوض، والإعتاق إزالة لا إلى أحد، فجاز أن يستعار منه؛ كذا قاله تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
حاصل الكلام: ما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن بيع العبد من نفسه إعتاق على مال، والإعتاق على مال يتوقف على وجود القبول من المعتق وقد وجد ذلك بأن شراء العبد لنفسه قبول منه للمعتق ببدل.
م: (والمأمور سفير عنه) ش: أي عن العبد حيث أضاف العقد إلى موكله م: (إذ لا يرجع عليه(9/261)
الحقوق، فصار كأنه اشترى بنفسه. وإذا كان إعتاقا أعقب الولاء وإن لم يعين للمولى فهو عبد للمشتري لأن اللفظ حقيقة للمعاوضة وأمكن العمل بها إذا لم يعين فيحافظ عليها. بخلاف شراء العبد نفسه لأن المجاز فيه متعين، وإذا كان معاوضة يثبت الملك له والألف للمولى لأنه كسب عبده وعلى المشتري ألف مثله ثمنا للعبد. فإنه في ذمته حيث لم يصح الأداء بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره حيث لا يشترط بيانه لأن العقدين هنالك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحقوق) ش: هذا تعليل لقوله: سفير عنه، أي لأن حقوق العبد لا ترجع إليه كما إذا كان كذلك م: (فصار كأنه) ش: أي كأن العبد م: (اشترى بنفسه) ش: من نفسه.
م: (وإذا كان إعتاقًا أعقب الولاء) ش: لأن الولاء للمعتق م: (وإن لم يعين للمولى) ش: أي وإن لم يقل الوكيل اشتريت العبد لنفس العبد م: (فهو عبد للمشتري) ش: أي يكون العبد للمشتري م: (لأن اللفظ) ش: أي قوله اشتريت عبدك بكذا موضوع م: (حقيقة للمعاوضة) ش: لأن المولى قال بعت هذا العبد بألف، وقال الوكيل اشتريت وليس بحقيقة للإعتاق م: (وأمكن العمل بها) ش: أي بحقيقة اللفظ م: (إذا لم يعين) ش: أي إذا لم يقل: اشتريت عبدك لأجل عبدك، م: (فيحافظ عليها) ش: أي على المعاوضة.
م: (بخلاف شراء العبد نفسه) ش: حيث يجعل الإعتاق لتعذر العمل بالمعاوضة فإنه ليس بأهل أن يملك مالًا فصار مجازًا عن الإعتاق. وهو معنى قوله: م: (لأن المجاز فيه متعين) ش: والمجاز معنى إزالة الملك فإن البيع يزيل الملك بعوض على آخر، والإعتاق يزيل لا إلى آخر، وقد مر الكلام فيه.
م: (وإذا كان معاوضة يثبت المالك له) ش: أي المشتري م: (والألف للمولى لأنه كسب عبده وعلى المشتري ألف مثله) ش: أي مثل ذلك الألف حال كونه م: (ثمنًا للعبد) ش: وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثمنًا نص على التمييز، قلت: الأوجه أنه يكون حالًا بتأول تثمينًا م: (فإنه) ش: أي فإن الثمن م: (في ذمته) ش: أي في ذمة المشتري م: (حيث لم يصح الأداء) ش: المشتري هو المأمور.
قال في "النهاية": وهذا ظاهر فيما إذا وقع الشراء للمشتري، وأما إذا وقع الشراء للعبد حتى يعتق هل يجب على العبد ألف أخرى. قال الإمام قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يذكره في الكتاب ولكن يجب عليه ألف أخرى. لأن الأول مال المولى فلا يصلح بدلًا عن ملكه.
م: (بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره) ش: أي من غير العبد بأن وكل أجنبي أجنبيًا آخر بشراء العبد من مولاه م: (حيث لا يشترط بيانه) ش: بأن يقول وقت الشراء: اشتريته لموكل لوقوع الشراء للموكل م: (لأن العقدين) ش: يعني الذي يقع له والذي للموكل م: (هنالك) ش: أي في(9/262)
على نمط واحد، وفي الحالين المطالبة تتوجه نحو العاقد. أما هاهنا فأحدهما إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة على الوكيل والمولى عساه لا يرضاه ويرغب في المعاوضة المحضة فلا بد من البيان. ومن قال لعبد: اشتر لي نفسك من مولاك، فقال لمولاه: بعني نفسي لفلان بكذا ففعل فهو للآمر، لأن العبد يصلح وكيلا عن غيره في شراء نفسه؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق البائع م: (على نمط واحد) ش: أي على نوع واحد وهو المبايعة والنمط والنوع والطريقة أيضًا م: (وفي الحالين) ش: أي في حال الإضافة إلى نفسه والإضافة إلى موكله م: (المطالبة تتوجه نحو العاقد) ش: فلا يحتاج إلى البيان م: (أما هاهنا) ش: أي في صورة توكيل العبد بشراء نفسه م: (فأحدهما) ش: وفي بعض النسخ: أما هاهنا فأحدهما بدون لفظة فإن أي أحد الحالين م: (إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة فيه على الوكيل) ش: لأنه سفير.
هذه رواية كتاب الوكالة في باب الوكالة بالعتق: أن العبد يعتق والمال على العبد دون الوكيل، وذكر في باب الوكالة المأذون والمكاتب من كتاب "الوكالة": أن العبد يعتق والمال على الوكيل، وهكذا ذكر في وكالة الجامع: ولو بين للمولى أنه يشتريه لنفسه لكن أضاف الشراء لنفسه، ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الوكالة: أن العبد يعتق والثمن على العبد لا الوكيل، وذكر في " الجامع الكبير ": وجب الثمن على الوكيل ويرجع به على العبد. وعن عيسى ابن أبان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصحيح أن الثمن على العبد.
م: (والمولى عساه لا يرضاه) ش: أي الإعتاق لأنه لو أعتق والمولى لا يعلم به يلزمه الضرر ولا يرضى به، لأن ولاءه يكون له، فهو موجب جنايته يكون أيضًا عليه بحكم الولاء، فتعذر تنفيذه على المولى وأمكن تنفيذه على الوكيل والآخر معاوضة محضة، والمطالبة على الموكل م: (ويرغب) ش: أي المولى عساه يرغب م: (في المعاوضة المحضة فلا بد من البيان) ش: قوله عساه لا يرضاه، حق الكلام أن يقال: عساه وأن لا يرضاه، لأن قوله: لا يرضاه في محل النصب، يعني ولكنه شبه عسى بكاد، فاستعمل استعماله وذكر ضمير الغائب مقام الظاهر أحد المذاهب الثلاثة كما عرف في موضعه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن قال لعبد: اشتر لي نفسك من مولاك) ش: هذه هي المسألة الثانية من المسألتين اللتين شملتا هذا الفصل م: (فقال) ش: أي العبد م: (لمولاه: بعني نفسي لفلان بكذا ففعل) ش: أي المولى م: (فهو) ش: أي العقد والعبد م: (للآمر لأن العبد يصلح أن يكون وكيلًا عن غيره في شراء نفسه) ش:، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول: لا يصلح فلا يجوز هذا التوكيل م: (لأنه) ش: أي(9/263)
أجنبي عن ماليته، والبيع يرد عليه من حيث إنه مال إلا أن ماليته في يده، حتى لا يملك البائع الحبس بعد البيع لاستيفاء الثمن، فإذا أضافه إلى الآمر صلح فعله امتثالا، فيقع العقد للآمر. وإن عقد لنفسه فهو حر، لأنه إعتاق، وقد رضي به المولى دون المعاوضة، والعبد وإن كان وكيلا بشراء شيء معين ولكنه أتى بجنس تصرف آخر وفي مثله ينفذ على الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن العبد م: (أجنبي عن ماليته) ش: لأنها لمولاه، ولهذا لو أقر بماليته لغيره لا يصلح م: (والبيع يرد عليه) ش: أي على العبد م: (من حيث إنه مال) ش: فكان توكيله بشرائها كتوكيله بغيره من أموال المولى وكتوكيل أجنبي بشراء نفسه م: (إلا أن ماليته في يده) ش: استثناء عن قوله لأنه أجنبي عن ماليته لأنها لمولاه إلا أنها بيده م: (حتى لا يملك البائع) ش: وهو المولى م: (الحبس بعد البيع) ش: لاستيفاء الثمن لأن ماليته في يده لكونه مأذونًا له كالمودع إذا اشترى الوديعة وهي في يده لم يكن للبائع حبسه م: (لاستيفاء الثمن فإذا أضافه إلى الآمر صلح فعله) ش: أي فعل العبد نتيجة الدليل.
وتقريره العبد يصلح وكيلًا عن غيره في شراء نفسه لأنه مال وكل من يصلح وكيلًا عن غيره في شراء مال إذا أضاف العقد إلى الآمر صح فعله م: (امتثالًا) ش: فالعبد إذا أضافه إلى الآمر صلح فعله امتثالًا م: (فيقع العقد للآمر) ش: قياسًا على حر توكل بشيء وفعله، وقوله ففعل فهو للآمر يشير إلى أن العقد يتم بقول المولى بعت.
وهو يخالف ما ذكر في " الجامع " فإن إضافة العقد إلى الموكل إنما تفيد الملك إذ وجد الإيجاب من المولى والقبول من العبد حتى لو قال العبد: بعني نفسي من فلان فقال: بعت لا يتم العقد حتى يقول العبد قبلت بناء على أن الواحد لا يتولى طرفي البيع، بخلاف ما إذا اشترى لنفسه كما يأتي، فإنه إعتاق على مال مقدر والواحد يتولى طرفيه، فيتم بقول المولى بعت مسبوقًا بقول العبد بعني نفسي.
فإن قلت: إذا أضاف إلى الموكل فمن الطالب بالثمن؟. أجيب: بأنه في ذمة العبد لكونه العاقد، فإن قلت قد يكون محجورًا عليه ومثله لا يرجع إليه الحقوق؟، وأجيب: بأن الحجر زال بالعقد الذي باشره مع مولاه، فإن المباشرة تستدعي به تصور صحة المباشرة، وهو إذن.
م: (وإن عقد لنفسه فهو حر) ش: يعني إذا قال: بعني نفسي مني فقال: المولى بعت، فهو حر م: (لأنه إعتاق وقد رضي به المولى دون المعاوضة) ش: لأنه علم أن البيع منه إعتاق م: (والعبد وإن كان وكيلًا) ش: هذا جواب إشكال وهو أن يقال: ينبغي أن لا يجوز بيعه لنفسه لأنه وكيل بشراء معين لا يتمكن من أن يشتريه لنفسه، فينبغي أن لا يتمكن العبد من ذلك فأجاب بقوله: والعبد وإن كان وكيلًا م: (بشراء شيء معين ولكنه أتى بجنس تصرف آخر) ش: وهو الإعتاق على مال فكان مخالفًا، م: (وفي مثله ينفذ الشراء على الوكيل) ش: والوكيل إذا خالف نفذ الشراء على(9/264)
وكذا لو قال: بعني نفسي، ولم يقل لفلان فهو حر لأن المطلق يحتمل الوجهين، فلا يقع امتثالا بالشك، فيبقى التصرف واقعا لنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوكيل.
م: (وكذا لو قال: بعني نفسي ولم يقل لفلان فهو حر لأن المطلق) ش: وهو قوله "بعني نفسي" م: (يحتمل الوجهين) ش: أي يحتمل أن يكون مشتريًا بنفسه لنفسه ويحتمل أن يكون مشتريًا لغيره م: (فلا يقع امتثالًا بالشك فيبقى التصرف واقعًا لنفسه) ش: لأن الظاهر أن الإنسان يتصرف لأجل نفسه لا سيما تصرفًا يحص منه الإعتاق.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعورض بأن اللفظ حقيقة للمعاوضة كما تقدم، وإذا تردد اللفظ بين أن يحمل على حقيقته وعلى مجازه حمل على الحقيقة بالنية.
وأجيب: بأن اللفظ للحقيقة إذا لم يكن ثمة قرينة للمجاز، وقد وجدت فيما نحن فيه وهي إضافة العبد العقد إلى نفسه، فإن الحقيقة بالنسبة إليه غير مقصودة ورضي المولى بذلك، وإليه أشار بقوله: وقد رضي المولى به دون المعاوضة لا يقال فعلى هذا لا يكون قوله: لأن المطلق يحتمل الوجهين صحيحًا، لأنا نقول: الاحتمال إنما هو من حيث إطلاق اللفظ، وذلك لا يحتمل الإنكار والترجيح من حيث الإضافة إلى نفسه، وهي خارجة عن مفهوم اللفظ.(9/265)
فصل في البيع قال: والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز له أن يعقد مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يجوز بيعه منهم بمثل القيمة إلا من عبده أو مكاتبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في البيع]
م: (فصل في البيع) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام التوكيل بالبيع ولما فرغ عن بيان أحكام التوكيل بالشراء شرع في بيان التوكيل بالبيع، وأخر هذا الفصل عن بيان الفصل المتقدم لأنه يتضمن الإزالة وذلك يتضمن الإثبات وهو مقدم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز له أن يعقد مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له) ش: مثل ابنه وأخيه م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول ومالك وأحمد - رحمهما الله - في وجه.
م: (وقالا: يجوز بيعه منهم بمثل القيمة) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - يجوز بيعه من الأقارب الذين لا تقبل شهادته لهم بمثل القيمة، إشارة إلى أنه لا يجوز بغبن يسير وإلا لم يكن للتخصيص بمثل القيمة فائدة، ولكن ذكر في "الذخيرة" أنه يجوز بيعه من هؤلاء بالغبن اليسير لأن اليسير ملحق بمثل القيمة.
وقال فيها: لو باع ممن لا تقبل شهادته له بأكثر من القيمة يجوز بيعه بلا خلاف وبالغبن الفاحش لا يجوز بلا خلاف، وفي الغبن اليسير يجوز عندهما ولا يجوز عنده. وبمثل القيمة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان في رواية الوكالة والبيوع لا يجوز، وفي رواية المضاربة يجوز وبيع المضارب وشراؤه ممن لا تقبل شهادته له بغبن يسير لا يجوز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبيعه منهم بأكثر من القيمة وشراؤه منهم بأقل من القيمة يجوز بلا خلاف، وبمثل القيمة يجوز عندهما، وكذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - باتفاق الروايات.
م: (إلا من عبده أو مكاتبه) ش: فإنه لا يجوز عندهما أيضًا لأن البيع من هؤلاء كالبيع من نفسه فلا يجوز وقيد في " المبسوط" بقوله: إلا من عبده الذي لا دين عليه لأن كسبه لمولاه فيبيعه منه كبيعه من نفسه، فكان فيه إشارة إلى أنه إذا كان عليه دين يجوز في تعميم المشيئة ثم الوكيل بالبيع لا يجوز أن يبيعه من نفسه عندنا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظاهر مذهبه. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: يجوز، وبه قال مالك والأوزاعي -رحمهما الله -: إذا لم يخاف لعدم التهمة، قلنا: لو جاز يؤدي إلى التضاد في الأحكام فإنه يكون مستزيدًا ومستنقصًا أيضًا ومخاصمًا في العيب وفيه من التضاد ما لا يخفى.(9/266)
لأن التوكيل مطلق ولا تهمة إذ الأملاك متباينة. والمنافع منقطعة بخلاف العبد؛ لأنه بيع من نفسه لأن ما في يد العبد للمولى وكذا للمولى حق في كسب المكاتب وينقلب حقيقة بالعجز. وله: أن مواضع التهمة مستثناة عن الوكالات، وهذا موضع التهمة بدليل عدم قبول الشهادة، ولأن المنافع بينهم متصلة، فصار بيعا من نفسه من وجه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي "المبسوط ": المراد من عدم الجواز في البيع من هؤلاء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مطلق، الوكالة؛ أما لو قيد الوكالة بتعميم المشيئة بأن قال: بع لمن شئت يجوز البيع من هؤلاء بلا خلاف، بخلاف البيع من نفسه أو من ابن صغير له حيث لا يجوز فإن قيل يشكل على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيع المضارب من هؤلاء بمثل القيمة حيث يجوز سهوا ظهور الربح أم لا، والمضارب قبل ظهور الربح وكيل. قلنا: قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عدم الجواز عنده مطلقًا على ما إذا باعه بالغبن، أما البيع بمثل القيمة فجائز في المضاربة من هؤلاء.
م: (لأن التوكيل مطلق) ش: أي عن التقييد بشخص دون آخر، والمطلق يعمل بإطلاقه م: (ولا تهمة) ش: أي في البيع بمثل القيمة هذا نفي التهمة من حيث المالية وقوله م: (إذ الأملاك متباينة والمنافع منقطعة) ش: ففي التهمة إيثار الغبن. فكان هذا جواب عن قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن في البيع بمثل القيمة تهمة إيثار الغبن. فلما كانت المنافع منقطعة لم يكن الوكيل مبيعًا بذلك الغبن فلا يورث التهمة، والدليل على تباين الأملاك حل وطء الابن جاريته، ولا يحل وطء جارية أبيه لتباين ملك أبيه عن ملكه وتباين الأملاك يوجب انقطاع المنافع.
م: (بخلاف العبد) ش: فإنه لا يجوز بيع الوكيل من عبده الذي لا دين عليه م: (لأنه بيع من نفسه) ش: أي لأن بيع الوكيل من عبده بيع من نفسه م: (لأن ما في يد العبد حق المولى وكذا للمولى حق في كسب المكاتب) ش: حتى لا تصلح تبرعاته ولا تزويج عبده م: (فينقلب) ش: أي حق المولى م: (حقيقة) ش: أي ينقلب حق المولى في كسب المكاتب إلى حقيقة الملك م: (بالعجز) ش: أي بعجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة لأن المولى يملك حينئذ جميع المال في يده.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن مواضع التهمة مستثناة عن الوكالات) ش: لأن الوكالة شرعت للأمانة، فيكون الوضع موضع الأمانة فلو كانت التهمة داخلة فيها لعاد على موضوعه بالنقض م: (وهذا موضع التهمة) ش: التهمة مأخوذة من وهم بالفتح، أي ذهب يعني يذهب الوهم أنه إنما يختار هذا النفع لنفسه فيكون عاملًا لنفسه والوكيل يعمل بغيره م: (بدليل عدم قبول الشهادة) ش: فيما بينهم لتهمة الانتفاع بمال آخر م: (ولأن المنافع بينهم متصلة فصار) ش: أي بيع الوكيل من هؤلاء م: (بيعًا من نفسه من وجه) ش: وصار مال كل واحد منهم كمال صاحبه من وجه، وفي البيع إخراج وإدخال من الجانبين، وفي البيع من هؤلاء إخراج إلى نفسه من وجه فلا يجوز.(9/267)
والإجارة والصرف على هذا الخلاف.
قال: والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن الناس فيه، ولا يجوز إلا بالدراهم والدنانير، لأن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف؛ لأن التصرفات لدفع الحاجات فتتقيد بمواقعها، والمتعارف البيع بثمن المثل وبالنقود، ولهذا يتقيد التوكيل بشراء الفحم والجمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والإجارة والصرف على هذا الخلاف) ش: أي الوكالة بالإجارة والصرف على الخلاف المذكور، وإنما خصها بالذكر لأن الإجارة شرعت على خلاف القياس والصرف مشروط بشروط عرى عنها البيع، وكان يجب أن لا يجوز مع هؤلاء، فبين أنهما على الاختلاف أيضًا، وفي " الكافي ": ولو اشترى من هؤلاء عينًا بثمن معلوم وأراد بيعه مرابحة لم يجز بلا بيان عنده، خلافًا لهما بناء على هذا الأصل.
[الوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ليست هذه المسألة الوكيل بالبيع مطلقًا يملك البيع بما عز وهان وبأي من كان وإلى أجل كان متعارفًا وغير متعارف.
م: (وقالا: لا يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن الناس فيه) ش: أي قاله أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله -، لا يجوز الغبن الفاحش ويجوز الغبن اليسير م: (ولا يجوز إلا بالدراهم والدنانير) ش: أي لا يجوز بغير النقود.
وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يجوز بثمن المثل وبنقد البلد، فإن كانت النقود مختلفة بعقير الأغلب ولا يبيع إلا حالًا، وإن استويا باع بما هو أنفع للموكل، وفي "الذخيرة": إذا باع بأجل متعارف فيما بين الناس في تلك الساعة، بأن باع مثلًا إلى خمسين سنة وما أشبه ذلك.
فعند أبي حنيفة - رحمة الله تعالى عليه -: يجوز، وعندهما: لا يجوز، ثم قال: إنما يجوز البيع بالنسبة إذا لم يكن في اللفظ ما يدل على البيع بالنقد، أما إذا كان لا يجوز وذلك نحو أن يقول: بعه واقض ديني.
أو قال: بعه فإن الغرماء يلازمونني، أو قال: بعه فإني أحتاج إلى نفقة عيالي، ففي هذه الصور لا يجوز بيعه نسيئة بالاتفاق.
م: (لأن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف) ش: أي لأن المطلق بالأمر يتقيد بما هو متعارف بين الناس م: (لأن التصرفات لدفع الحاجات فتتقيد بمواقعها، والمتعارف البيع بثمن المثل وبالنقود ولهذا) ش: أي ولأجل تقيد التصرفات بمواقعها م: (يتقيد التوكيل بشراء الفحم) ش: وفي بعض النسخ بشراء الفحم وهو أليق بقران قوله. بزمان الحاجة، إذ كل الأزمان زمان الحاجة إلى اللحم م: (والجمد)(9/268)
والأضحية بزمان الحاجة. ولأن البيع بغبن فاحش بيع من وجه وهبة من وجه، وكذا المقايضة، بيع من وجه وشراء من وجه، فلا يتناوله مطلق اسم البيع. ولهذا لا يملكه الأب والوصي، وله: أن التوكيل بالبيع مطلق، فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة والبيع بالغبن أو بالعين متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من العين، والمسائل ممنوعة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما هو المروي عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بسكون الميم لا غير ما جمد من الماء م: (والأضحية بزمان الحاجة) ش: في تلك السنة لا السنة الآتية.
الحاصل: أن التوكيل بشراء الفحم يتقيد بأيام البرد والجمد بأيام الصيف والأضحية بأيام النحر أو قبلها كل ذلك من تلك السنة، حتى لو اشترى ذلك في السنة الثانية لم يلزم الآمر، وقيل هذا قولهما، أما على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتقيد ولو وكله بشراء اللحم يدخل فيه لحم البقر والإبل والضأن وقيل: إن كان الأمر غريبا يتصرف إلى المطبوخ ولا يدخل الكرش والبطون والأكباد والرؤوس والأكارع واللحم القديد ولحم الطيور والوحوش، وكذا لا تدخل الشاة حية أو مذبوحة غير مسلوخة، وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يقع على ما يباع في العادة في الكل.
م: (ولأن البيع بغبن فاحش بيع من وجه) ش: وهو ظاهر م: (وهبة من وجه) ش: ألا ترى أنه لو باع مريض بالغبن الفاحش يعتبر من الثلث، والأب والوصي لا يملكان البيع بالغبن الفاحش م: (وكذا المقايضة) ش: أي البيع بالعرض م: (بيع من وجه وشراء من وجه) ش: وهو وكيل بالبيع لا بالشراء م: (فلا يتناوله) ش: أي فلا يتناول التوكيل بالبيع في البيع بغبن فاحش وفي بيع المقايضة م: (مطلق اسم البيع ولهذا لا يملكه الأب والوصي) ش: لأن المطلق ينصرف إلى الكامل.
م: (وله: أن التوكيل بالبيع مطلق) ش: يعني غير مقيد بشيء م: (فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة) ش: فيتناول كل ما يطلق عليه البيع م: (والبيع بالغبن) ش: وبالغين المعجمة والباء الموحدة م: (أو بالعين) ش: بالعين المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وهو العرض، وهذا جواب عن قولهما: يعني سلمنا أن المطلق يتقيد بالمتعارف، لكن البيع بالغبن والعين م: (متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم) ش: بالعين، من تبرم به إذا شبه وكذا برم به بالكسر، وعند العامة م: (من العين) ش: لا يبالي بقلة الثمن وكثرته م: (والمسائل) ش: أي مسائل شراء الفحم والجمد م: (ممنوعة على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما هو المروي عنه) .
ويقال من جهة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولئن سلمنا أن التوكيل يتقيد فنقول إنما يتقيد بدلالة العرض لا بدلالة العادة، لأن الغرض من شراء الفحم دفع ضرر البرد وذلك يختص بالشتاء،(9/269)
وأنه بيع من كل وجه حتى إن من حلف لا يبيع يحنث به، غير أن الأب والوصي لا يملكانه مع أنه بيع؛ لأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه. والمقايضة شراء من كل وجه وبيع من كل وجه لوجود حد كل واحد منهما. قال والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والغرض من شراء الجمد دفع ضرر الحر، وذلك يختص بالصيف حتى لو انعدمت هذه الدلالة بأن وجد التوكيل ممن يعتاد تربص العين كالحدادين وغيرهم أو تربص الجمد، كالفقاعيين وغيرهم لا يتقيد، كذا قال الإمام علاء الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طريقة الخلاف، وكذلك التوكيل بالأضحية، يتقيد بأيام النحر بالغرض لا بالعادة، لأن غرض الموكل خروجه عن عهدة الوجوب الذي يلحقه في أيام تلك السنة.
م: (وأنه) ش: أي وأن البيع بالغبن أو العين م: (بيع من كل وجه حتى إن من حلف أن لا يبيع يحنث به) ش: أي بالبيع بالغبن أو العين، فلما جعل هذا بيعا مطلقا في اليمين جعل في الوكالة كذلك م: (غير أن الأب الوصي) ش: جواب عما يقال لو كان ذلك بيعا من كل وجه لملكه الأب والوصي، وتقرير الجواب: أن الأب والوصي م: (لا يملكانه) ش: أي البيع بالعين م: (مع أنه بيع) ش: يعني يطلق عليه أنه بيع، م: (لأن ولايتهما نظرية) ش: أي لأن ولاية الأب والوصي على الصغير من حيث النظر في أمرهما بالشفقة وأيضا النفع إليه م: (ولا نظر فيه) ش: أي في بيع الغبن.
م: (والمقايضة) ش: جواب عن قولهما، وكذا المقايضة، وتقرير الجواب أن المقايضة م: (شراء من كل وجه وبيع من كل وجه لوجود حد كل واحد منهما) ش: وهو مبادلة المال بالمال على وجه التراضي، وكل ما صدق عليه هذا الحد فهو بيع من كل وجه وشراء من كل وجه، فإن قيل: فمن المحال أن يوصف الشيء الواحد بصفة وبضدها في حالة واحدة. قلنا: إنما كان محالا إذا كان ذلك من وجهة واحدة، وليس كذلك، فإنه بيع من كل وجه بالنسبة إلى غرض نفسه، وشراء بالنسبة إلى غرض صاحبه.
فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، فمن أي وجه رجح أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - جانب البيع.
قلنا: ذكر في " المبسوط ": جانب البيع يرجح على جانب الشراء في البيع بالغرض. ألا ترى أن أحد المضاربين إذا اشترى بغير إذن صاحبه، كان مشتريا لنفسه، ولو باع بغير إذن صاحبه شيئا من مال المضاربة يوقف على إجازة صاحبه، فإنه باعه بغرض.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله) ش: وهو الغبن الفاحش ولا خلاف فيه(9/270)
لأن التهمة فيه متحققة فلعله اشتراه لنفسه، فإذ الم يوافقه ألحقه بغيره على ما مر حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه، قالوا: ينفذ على الآمر؛ لأنه لا يملك شراءه لنفسه وكذا الوكيل بالنكاح، إذا زوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده؛ لأنه لا بد من الإضافة إلى الموكل في العقد، فلا تتمكن هذه التهمة ولا كذلك الوكيل بالشراء لأنه يطلق العقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بين الأئمة الأربعة م: (لأن التهمة فيه متحققة) ش: أي في هذا الشراء لتحقق التهمة فيه، والتهمة معتبرة في باب الوكالة، ألا ترى أن الوكيل بالبيع لا يبيع من أبيه وابنه للتهمة م: (فلعله) ش: أي ولعل الوكيل م: (اشتراه) ش: أي اشترى الشيء الذي وكل به م: (لنفسه) ش: أي لأجل نفسه م: (فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره) ش: أي لغير نفسه لأنه لما رأى الخسران في الشراء ألحقه بالموكل م: (على ما مر) ش: إشارة إلى ما ذكر في المتن قبل ورقة بقوله: "لأنه موضع تهمة" بأن اشتراه لنفسه فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر م: (حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه) .
م: (قالوا:) ش: أي قال المشايخ وأراد به عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فإن بعضهم قال يتحمل فيه الغبن اليسير لا الفاحش، وقال: لا يتحمل فيه اليسير أيضا م: (ينفذ على الآمر) ش: لانتفاء التهمة م: (لأنه لا يملك شراءه لنفسه) ش: أي لأن الوكيل لا يملك أن يشتريه لنفسه، وإن نوى الشراء لنفسه وصرح بذلك، بأن قال: اشهدوا أني قد اشتريتها لنفسي إلا إذا خالف في الثمن لا إلى خبر. أو خالف إلى جنس آخر على ما مر مرة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جواز عقد الوكيل بالشراء بزيادة يتغابن الناس في مثلها فيما ليس له قيمة معلومة عند أهل البلد، فأما ما له قيمة معلومة عندهم كالخبز واللحم إذا زاد الوكيل بالشراء على ذلك لا يلزم الآمر قلت الزيادة أو كثرت قال في "بيوع التتمة " وبه يفتى.
م: (وكذا الوكيل بالنكاح) ش: على الخلاف المذكور م: (إذا زوجه) ش: أي موكله م: (امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ووقع في بعض النسخ جاز عقده بالقاف. والظاهر أنه تصحيف وإن كان له وجه م: (لأنه لا بد من الإضافة) ش: أي من إضافة العقد م: (إلى الموكل في العقد فلا تتمكن هذه التهمة) ش: وأشار به إلى قوله لأن التهمة فيه متحققة، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل " وإذا وكل رجل رجلا أن يزوجه امرأة بعينها، فزوجها إياه فهو جائز، فإن زادها على مهر مثلها فهو جائز في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - إذا زوجها بما يتغابن الناس في مثله، فهو جائز، وإذا أكثر في ذلك لم يلزم الزوج النكاح إلا أن ترضاه م: (ولا كذلك الوكيل بالشراء لأنه يطلق العقد) ش: أي لأنه لا يضيف العقد إلى الموكل حيث يقول اشتريت، ولا يقول فلان.(9/271)
قال: والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت تقويم المقومين، وقيل في العروض دهنيم، وفي الحيوانات ده يازده، وفي العقارات ده دوازده لأن التصرف يكثر وجوده في الأول ويقل في الأخير ويتوسط في الأوسط وكثرة الغبن لقلة التصرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الذي لا يتغابن الناس فيه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت تقويم المقومين) ش: لما ذكر الغبن اليسير والفاحش شرع أن يبين كيفيتهما فقال والذي ... إلى آخره، وقوله والذي مبتدأ وخبره هو قوله ما لا يدخل، ومقابل هذا مما يتغابن فيه، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره "، والمقدار الذي يتغابن الناس نصف العشرة وأقل منه، وهذا غير منصوص عنهم، ولكن مذاهبهم تدل عليه.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الكبير ": اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القليل والكثير، منهم من قال ما يتغابن الناس فيه قليل وما لا يتغابن الناس فيه كثير، ومنهم من قال ما يدخل تحت تقويم المقومين فهو قليل، وما لا يدخل فهو كثير، ومنهم من قال: ذلك مفوض إلى رأي القاضي.
م: (وقيل) ش: هذا معطوف على ما تضمن قوله ما يدخل تحت تقويم المقومين وهو بيان للغبن اليسير، وقال نصير بن يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه قال قدر ما يتغابن الناس فيه م: (في العروض دهنيم) ش: بفتح الدال المهملة وسكون الهاء اسم عشرة بالفارسي ونيم بكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ميم وهو اسم النصف والمراد هنا نصف درهم م: (وفي الحيوانات: ده يازده) ش: وهذا اسم لأحد عشر وزيادة بالياء آخر الحروف بعدها ألف ثم زاي ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة م: (وفي العقارات ده دو أزده) ش: وهذا اسم لاثني عشر ودو نزده بضم الدال المهملة وبالواو وسكون النون بعد الألف وسكون الزاي والتقاء الساكنين عندهم مفتقر كثير وبعد الزاي دال مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ناقلا عن لفظ الشيخ أبي المعين النسفي ومحمد - رحمهما الله -: قدر في هذا الكتاب بده نيم يعني في " الجامع الكبير " ومشايخ بلخ أدخلوا ذلك على ما قال الفقيه أبو القاسم بن شعيب بن إدريس - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكى عنهم أنهم قدروا اليسير في العقار بده دوا زاد، وفي الحيوان بده يازده وفي العروض: بده نيم.
م: (لأن التصرف يكثر وجوده في الأول) ش: وهو قوله في العروض ده نيم م: (ويقل في الأخير) ش: وهو قوله في العقارات: ده دو أزده م: (ويتوسط في الأوسط) ش: وهو قوله في الحيوانات: ده يازده م: (وكثرة الغبن لقلة التصرف) .
ش: وأوضح ذلك الشيخ الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: بلا، فإذا كان الغبن إلى هذا المبلغ كان(9/272)
قال: وإذا وكله ببيع عبد له فباع نصفه، جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن اللفظ مطلق عن قيد الافتراق والاجتماع، ألا ترى أنه لو باع الكل بثمن النصف يجوز عنده، فإذا باع النصف به أولى. وقالا: لا يجوز لأنه غير متعارف؛ ولما فيه من ضرر الشركة، إلا أن يبيع النصف الآخر قبل أن يختصما لأن بيع النصف قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن لا يجد من يشتريه جملة، فيحتاج إلى أن يفرق فإذا باع الباقي قبل نقض البيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يسيرا لزم الآمر، وإن زاد على ذلك لزم الموكل، والتقدير على هذا الوجه لأن الغبن يزيد بقلة التجربة وينقص من كثرتها وقلتها، وكثرتها بقلة وقوع التجارات وكثرته.
وفي القسم الأول كثير، وفي الأخير قليل، وفي الأوسط متوسط، وعشرة دراهم نصاب يقطع به يد محترمة فجعل أصلا والدرهم مال يحبس لأجله، فقد لا يتسامح به وفي المماكسة، فلم يعتبر فيما كثر وقوعه يسيرا والنصف من النصفة فكان يسيرا وضوعف بعد ذلك بحسب المواقع، فما كان أقل وقوعا منه اعتبر ضعفه وما كان أقل من الأقل اعتبر ضعف ضعفه.
[وكله ببيع عبد له فباع نصفه]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير م: (وإذا وكله ببيع عبد له فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني إذا وكل رجل رجلا ببيع عبده أي مطلقا، وإنما وضع المسألة في العبد ليترتب عليه هذا الاختلاف المذكور لأنه إذا باع نصف ما وكل ببيعه وليس في تفريعه ضرر، كالحنطة والشعير يجوز بالاتفاق، ذكره في " الإيضاح " م: (لأن اللفظ مطلق عن قيد الافتراق والاجتماع) ش: فيجري على إطلاقه، واستوضح بقوله:
م: (ألا ترى أنه لو باع الكل بثمن النصف يجوز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: م: (فإذا باع النصف به) ش: أي بذلك الثمن م: (أولى) ش: لأن إمساك البعض مع بيع البعض بهذا الثمن أنفع له من بيع الكل بذلك الثمن، وإنما قيد بقوله " عنده " لأنه لا يجوز عندهما لأنه غبن فاحش، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -، فإن قيل: إنما يجوز بيع الكل بثمن النصف لعدم الشركة، أما في بيع النصف بنصف الثمن يلزم الشركة وهي عيب في الأعيان، فكان يحالفه إلى الشراء. قلنا: ضرر الشركة أهون من ضرر بيع الكل بثمن النصف، فلما جاز ذلك على قوله فلان يجوز هذا وهو أهون أولى.
م: (وقال: لا يجوز لأنه غير متعارف) ش: لأن التوكيل به ينصرف إلى التعارف وبيع النصف غير متعارف م: (ولما فيه من ضرر الشركة) ش: أي لما في بيع النصف من ضرر الشركة لأنها عيب م: (إلا أن يبيع النصف الآخر قبل أن يختصما) ش: أي الوكيل والموكل م: (لأن بيع النصف قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن لا يجد من يشتريه جملة، فيحتاج إلى أن يفرق فإذا باع الباقي قبل نقض البيع(9/273)
الأول تبين أنه وقع وسيلة. وإذ لم يبع ظهر أنه لم يقع وسيلة فلا يجوز، وهذا استحسان عندهما، وإن وكله بشراء عبد فاشترى نصفه فالشراء موقوف، فإن اشترى باقيه لزم الموكل لأن شراء البعض قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن كان موروثا بين جماعة، فيحتاج إلى شرائه شقصا شقصا، فإذا اشترى الباقي قبل رد الآمر البيع تبين أنه وقع وسيلة، فينفذ على الآمر وهذا بالاتفاق. والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في الشراء تتحقق التهمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول تبين أنه وقع وسيلة) ش: إلى الامتثال م: (وإذا لم يبع ظهر أنه لم يقع وسيلة فلا يجوز وهذا) ش: أي كون البيع موقوفا إلى أن يبيع النصف الآخر قبل الخصومة م: (استحسان عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، لأن القياس أن لا يتوقف لثبوت المخالفة ببيع النصف.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وفي قوله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون الشراء لنفسه في الأحوال كلها، وفي شرح الطحاوي "، ولو اختصم الوكيل مع الموكل إلى القاضي قبل أن يشتري الوكيل الباقي وألزم القاضي الوكيل، ثم إن الوكيل اشترى الباقي بعد ذلك يلزم الوكيل بالإجماع، وكذلك هذا الحكم في جميع الأشياء التي في تنقيصها مضرة، ويكون التنقيص فيه عيبا كالعبد والأمة والدابة والثوب وما أشبه ذلك، والذي ليس فيه التنقيص عيبا، فاشترى بعضه لزم الآمر، وقد مر هذا عن قريب، ولو وكله بشراء عبدين فاشترى له أحدهما لزم الآمر بالإجماع، وكذا لو وكله بشراء جماعة من العبيد فاشترى واحدا منها لزم الآمر.
م: (وإن وكله) ش: وفي بعض النسخ وإن وكله أي وإن وكل رجل رجلا م: (بشراء عبد فاشترى نصفه فالشراء موقوف) ش: بالاتفاق وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وقالا في قول ورواية: لا ينفذ على الآمر م: (فإن اشترى باقيه لزم الموكل لأن شراء البعض قد يقع وسيلة إلى الامتثال، بأن كان موروثا من جماعة فيحتاج إلى شرائه شقصا شقصا) ش: الشقص القطعة من الأرض، والطائفة من الشيء، فإذا اشترى شقصا شقصا حتى اشترى الباقي كان وسيلة إلى تحصيل مقصود الآمر فجاز، وإليه أشار بقوله: م: (فإذا اشترى الباقي قبل رد الآمر البيع تبين أنه وقع وسيلة، فينفذ على الآمر) ش: لأنه يصير كأن اشترى جملة، وزالت التهمة م: (وهذا بالاتفاق) ش: لأنه لما اشترى باقيه ارتفع الخلاف.
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتابه المسمى " بالتقريب ": قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وكل رجل رجلا أن يشتري له عبدا فاشترى نصفه جاز عتق الآمر فيه، ولم يجز عتق الوكيل، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز عتق الوكيل فيه دون الموكل م: (والفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بين البيع والشراء م: (أن في الشراء تتحقق التهمة) ش: لأن صحة الأمر بتسمية العبد(9/274)
على ما مر، وآخر أن الآمر بالبيع يصادف ملكه فيصح فيعتبر فيه إطلاقه، والآمر بالشراء صادف ملك الغير فلم يصح فلا يعتبر فيه التقييد والإطلاق.
قال: ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده المشتري عليه بعيب لا يحدث مثله لقضاء القاضي ببينة أو بإباء يمين أو بإقراره، فإنه يرده على الآمر لأن القاضي تيقن بحدوث العيب في يد البائع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ونصف العبد ليس بعبد، فلا يصير به ممثلا أمر الآمر، وأما في جانب البيع فصحة التوكيل باعتبار ملك العين وذلك موجود في البعض فيعتبر فيه إطلاقه.
وتحقيق الكلام فيه: أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يعتبر العموم والإطلاق في التوكيل بالبيع. وأما في التوكيل بالشراء فيعتبر المتعارف الذي لا ضرر فيه ولا تهمة وعندهما كلاهما سواء م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله الذي تقدم لأن التهمة فيه متحققة، م: (وآخر) ش: أي فرق آخر بين البيع والشراء م: (أن الآمر في البيع) ش: أي في صورة التوكيل بالبيع م: (يصادف ملكه) ش: أي ملك الآمر م: (فيصح) ش: أي أمره لولايته على ملكه م: (فيعتبر فيه إطلاقه) ش: أي إطلاق الأمر، فجاز بيع النصف لأن الأمر وقع مطلقا عن الجمع والتفريق.
م: (والأمر بالشراء) ش: أي الأمر بالتوكيل في الشراء م: (صادف ملك الغير) ش: وهو مال البائع م: (فلم يصح) ش: أي الأمر مقصودا لأنه لا ملك للآمر في مال الغير، وإنما صح ضرورة لحاجته إليه ولا عموم لما ثبت ضرورته م: (فلا يعتبر فيه التقييد والإطلاق) ش: فلم يجز شراء البعض لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة وذلك يتأدى بالتعارف وهو شراء الكل لا البعض، لأن الغرض المطلوب من الكل لا يحصل بشراء البعض، إلا إذا اشترى البعض قبل أن يختصما على ما مر.
[أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده المشتري عليه]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير م: (ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده المشتري عليه) ش: أي على البائع م: (بعيب لا يحدث مثله) ش: كالإصبع الزائدة، والسن الشاغية م: (لقضاء القاضي) ش: إما م: (بينة) ش: قامت على المأمور م: (أو بإباء يمين) ش: أي القضاء بنكول المأمور عن اليمين عند توجهها إليه م: (أو بإقراره) ش: أي القضاء بإقرار المأمور بالعيب م: (فإنه) ش: أي فإن المأمور م: (يرده) ش: أي يرد العبد م: (على الآمر) ش: من غير خصومة، إذ الرد على الوكيل رد على الموكل م: (لأن القاضي تيقن بحدوث العيب في يد البائع) ش: فإن قيل إذا كان الوكيل مقرا بالعيب يرد عليه فلا حاجة إلى قضاء القاضي فما فائدة من ذكره.
أجيب: بأنه يحتاج في صورة الإقرار إلى القضاء، لأنه يمكن أن يقر بالعيب ويمتنع عن(9/275)
فلم يكن قضاؤه مستندا إلى هذه الحجج، وتأويل اشتراطها في الكتاب: أن القاضي يعلم أنه لا يحدث مثله في مدة شهر مثلا، لكنه اشتبه عليه تاريخ البيع، فيحتاج إلى هذه الحجج لظهور التاريخ، أو كان عيبا لا يعرفه إلا النساء والأطباء، وقولهن وقول الطبيب حجة في توجه الخصومة لا في الرد، فيفتقر إليها في الرد، حتى لو كان القاضي عاين البيع والعيب ظاهر لا يحتاج إلى شيء منها، وهو رد على الموكل فلا يحتاج الوكيل إلى رد وخصومة. قال وكذلك إن رد عليه بعيب يحدث مثله ببينة أو بإباء يمين، لأن البينة حجة مطلقة، والوكيل مضطر في النكول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القبول فالقاضي يجبره على القبول م: (فلم يكن قضاؤه مستندا) ش: هذا جواب عما يقال: لما كان العيب لا يحدث مثله لم يتوقف القضاء إلى هذه الحجج، بل تقضى بدونها لعلة قطعها بوجود العيب عند البائع، وتقرير الجواب بأن يقال لم يكن قضاؤه مستندا م: (إلى هذه الحجج) ش: وهي البينة، والإقرار، والإباء عن اليمين م: (وتأويل اشتراطها في الكتاب) ش: أي اشتراط الحجج المذكورة في " الجامع الصغير ".
م: (أن القاضي يعلم أنه) ش: أي أن العيب المذكور م: (لا يحدث مثله في مدة شهر مثلا، لكنه اشتبه عليه تاريخ البيع، فيحتاج إلى هذه الحجج لظهور التاريخ) ش: يوضح هذا أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط في " الجامع الصغير " البينة أو الإباء أو الإقرار لاشتباه الأمر على القاضي بأن العيب قديم أو لا إذ يعلم القاضي منها أن مثل هذا العيب لا يحدث مدة شهر مثلا.
ولكنه لا يعلم تاريخ البيع متى كان، فيحتاج المشتري إلى واحدة من هذه الحجج على أن تاريخ البيع منذ شهر حتى يظهر عند القاضي أن هذا العيب كان في يد البائع فيرد المبيع عليه وهذا بيان ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو كان عيبا) ش: أي أو كان العيب الذي يريد المشتري الرد به عيبا م: (لا يعرفه النساء) ش: كالقرن في الفرج، والمرض الدق م: (والأطباء) ش: أي أو عيبا لا يعرفه إلا الأطباء. كالسعال القديم م: (وقولهن وقول الطبيب حجة في توجه الخصومة) ش: للمشتري م: (لا في الرد) ش: أي ليس بحجة في رد المبيع على البائع، فإذا كان كذلك م: (فيفتقر) ش: أي القاضي م: (إليها في الرد) ش: أي إلى الحجج المذكورة وهي البينة والإقرار والإباء م: (حتى لو كان القاضي عاين البيع، والعيب ظاهر لا يحتاج إلى شيء منها) ش: أي من الحجج المذكورة م: (وهو) ش: أي الرد على الوكيل م: (رد على الموكل فلا يحتاج الوكيل إلى رد وخصومة قال: وكذلك إن رده عليه) ش: أي إن رد المشتري المبيع على البائع م: (بعيب) ش: أي بسبب عيب م: (يحدث مثله) ش: أي مثل هذا العيب م: (ببينة) ش: يتعلق بقوله إن رده م: (أو بإباء يمين) ش: أي أو بالنكول عن اليمين م: (لأن البينة حجة مطلقة) ش: أي مثبته عند الناس كافة، فيثبت بها قيام العيب عند الموكل فنفذ الرد على الموكل م: (والوكيل مضطر في النكول) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا جواب عن قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " المبسوط ". فعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو رده(9/276)
لبعد العيب عن علمه باعتبار عدم ممارسة المبيع فلزم الأمر، قال: فإن كان ذلك بإقراره لزم المأمور لأن الإقرار حجة قاصرة، وهو غير مضطر إليه لإمكانه السكوت والنكول، إلا أن له أن يخاصم الموكل فيلزمه ببينة أو بنكوله. بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء. والعيب يحدث مثله حيث لا يكون له أن يخاصم بائعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنكوله لم يكن له أن يرده على الموكل ولو اشترى شيئا وباعه من غيره ثم المشتري الثاني رده على المشتري الأول بنكوله لم يكن له أن يرده على بائعه.
وتقرير الجواب: أن الوكيل مضطر في هذا النكول م: (لبعد العيب عن علمه باعتبار عدم ممارسة المبيع فلزم الأمر) ش: تقريره إنما اضطر إلى ذلك بعمل باشره الآمر، يعني أنه لم يباشر أحوال العبد فلا يعرف بعيب ملك الغير، والآمر هو الذي أوقعه فيه فكان الرد عليه ردا على الموكل عبدا، فأما إذا أقر فإنه مختار فيه لا مضطرا وبخلاف المشتري فإنه مضطر في النكول ولكنه بعمل باشره بنفسه فلا يرجع على غيره، كذا في " المبسوط ".
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان الرد بالبينة ظاهر، وإذا كان بالنكول ففيه نوع إشكال لأنه جعل النكول هنا بمنزلة البينة، وفي فصل الاستحقاق بمنزلة الإقرار ألا ترى أن من اشترى عبدا فادعى رجل أنه عبده واستحلف المشتري فنكل، فقضى القاضي بنكوله فالمشترى لا يرجع بالثمن كما أقر به المشتري.
والجواب هو الفرق بين المسألتين، أن في مسألة الشراء سبق من المشتري ما يطلق له اليمين لكون المبيع ملكه لما أن الشراء من أسباب الملك فلم يكن مضطرا في النكول فاعتبر نكوله بإقراره، وأما في حق الوكيل فلم يسبق منه ما يطلق له اليمين، فكان مضطرا في النكول كما هو مضطر عند إقامة البينة، فيعتبر نكوله بالبينة في هذا الوجه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان ذلك) ش: أي العيب م: (بإقراره لزم المأمور) وهو الوكيل م: (لأن الإقرار حجة قاصرة) ش: لا يظهر إلا في حق المقر دون غيره م: (وهو غير مضطر إليه) ش: أي إلى الإقرار م: (لإمكانه السكوت والنكول) ش: حتى يقضي عليه اليمين، ويقضي بالنكول والسكوت، والنكول مرفوعان، أي لأنه يمكنه السكوت والنكول م: (إلا أن له) ش: أي غير أن له م: (أن يخاصم الموكل فيلزمه ببينة أو بنكوله) ش: أي نكول الموكل؛ لأن الرد بالقضاء فسخ لعموم ولاية القاضي غير أن الحجة قاصرة، وهي الإقرار فمن حيث الفسخ كان له أن يخاصمه، ومن حيث القصور لا يلزمه وهذه فائدة الحاجة إلى القضاء مع الإقرار، فيسقط ما قال في النهاية " إذا أقر الوكيل بالعيب لا حاجة حينئذ إلى قضاء القاضي، لأنه يقبله لا محالة.
م: (بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء والعيب يحدث مثله حيث لا يكون له أن يخاصم بائعه)(9/277)
لأنه بيع جديد في حق ثالث، والبائع ثالثهما، والرد بالقضاء فسخ لعموم ولاية القاضي غير أن الحجة قاصرة وهي الإقرار، فمن حيث الفسخ كان له أن يخاصمه، ومن حيث القصور في الحجة لا يلزم الموكل إلا بحجة، ولو كان العيب لا يحدث مثله، والرد بغير قضاء بإقراره يلزم الموكل من غير خصومة في رواية، لأن الرد متعين، وفي عامة الروايات ليس له أن يخاصمه لما ذكرنا، والحق في وصف السلامة، ثم ينتقل إلى الرد، ثم إلى الرجوع بالنقصان، فلم يتعين الرد، وقد بيناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان ينبغي أن يقول يخاصم موكله، أو يقول أمره وكان ينبغي أيضا أن يقول مكان قوله والبائع ثالثهما والموكل ثالثهما، لأن الكلام في مخاصمة الوكيل مع الموكل وهو ليس ببائع انتهى قبل غير بالبائع عن قوله يخاصم أمره لأن البيع لما انتقل إلى الموكل وتقرر عليه بأمر قد حصل من جهته فكأنه باعه إياه م: (لأنه بيع جديد في حق ثالث والبائع ثالثهما) ش: وهو الموكل والآمر.
م: (والرد بالقضاء فسخ) ش: هذا جواب سؤال، وهو أن يقال: ينبغي أن لا يكون له حق الخصومة مع الموكل، إذ قد حصل الرد بإقرار الوكيل فكان بيعا جديدا في حق الكل، وتقرير الجواب: أن الرد بقضاء القاضي فسخ م: (لعموم ولاية القاضي) ش: على الوكيل والموكل فلا يحتمل أن يكون عقدا مبتدأ لفقد التراضي لأن القاضي يرده على كره منه فيجعل فسخا م: (غير أن الحجة) ش: وهي الإقرار م: (قاصرة وهي الإقرار) يعني دليل قاصر فعملنا بهما م: (فمن حيث الفسخ) ش: أي فمن حيث إن الرد بالقضاء م: (كان له) ش: أي الوكيل م: (أن يخاصمه) ش: الموكل م: (ومن حيث القصور في الحجة) ش: أي ومن حيث إن الإقرار حجة قاصرة م: (لا يلزم الموكل إلا بحجة) ش: وهي إقامة البينة على الموكل م: (ولو كان العيب لا يحدث مثله والرد بغير قضاء بإقراره يلزم الموكل من غير خصومة في رواية) ش: وهي رواية كتاب البيوع من الأصل م: (لأن الرد متعين) ش: في هذا لأن الخصمين فعلا عين ما يفعله القاضي، فإذا كان الرد متعينا صار تسليم الخصم، وتسلم القاضي سواء كتسليم الشفعة، وقضاء الدين، والرجوع في الهبة م: (وفي عامة الروايات) ش: أي من " المبسوط " م: (ليس له أن يخاصمه لما ذكرنا) ش: إشارة إلى قوله لأنه بيع جديد في حق ثالث.
م: (والحق في وصف السلامة) ش: جواب من قال: إن الرد متعين يعني حكم الأصل المطالبة بوصف السلامة م: (ثم ينتقل إلى الرد) ش: بضرورة العجز م: (ثم إلى الرجوع) ش: أي ثم ينتقل إلى الرجوع م: (بالنقصان) ش: وهي حصة العيب م: (فلم يتعين الرد) ش: وفيما ذكر من المسائل متعين لا يحتمل التحول إلى غيره، تفسير القياس لعدم الجامع م: (وقد بيناه) ش: أي حكم(9/278)
في الكفالة بأطول من هذا.
قال: ومن قال لآخر: أمرتك ببيع عبد بنقد فبعته بنسيئة، وقال المأمور. أمرتني ببيعه ولم تقل شيئا، فالقول قول الآمر، لأن الأمر يستفاد من جهته ولا دلالة على الإطلاق، قال: وإن اختلف في ذلك المضارب ورب المال فالقول قول المضارب، لأن الأصل في المضاربة العموم، ألا ترى أنه يملك التصرف بذكر لفظة المضاربة، فقامت دلالة الإطلاق بخلاف ما إذا ادعى رب المال المضاربة في نوع والمضارب في نوع آخر، حيث يكون القول لرب المال لأنه سقط الإطلاق فيه بتصادقهما فنزل إلى الوكالة المحضة، ثم مطلق الأمر بالبيع ينتظمه نقدا أو نسيئة إلى أي أجل كان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: يتقيد بأجل متعارف والوجه قد تقدم،
قال: ومن أمر رجلا ببيع عبده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسائل المذكورة م: (في الكفالة) ش: اسم الكتاب ألفه المصنف م: (بأطول من هذا) ش: أي من الذي بيناه هنا.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن قال لآخر أمرتك ببيع عبد بنقد فبعته بنسيئة وقال المأمور أمرتني ببيعه ولم تقل شيئا، فالقول قول الآمر) ش: وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كانت السعلة قائمة فالقول للموكل وإن كانت هالكة فالقول للوكيل، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: القول للوكيل م: (لأن الأمر يستفاد من جهته) ش: أي من جهة الآمر م: (ولا دلالة على الإطلاق) ش: إذ الأمر بالبيع قد يكون مقيدا وقد يكون مطلقا، ولا دليل على أحد الوجهين، والأمر يستفاد من جهته فكان القول قوله كما لو أنكر أصل الوكالة.
م: (قال: وإن اختلف في ذلك) ش: أي في النقد وعدمه م: (المضارب ورب المال) ش: بأن قال رب المال: أمرتك بالنقد وقال المضارب: بل دفعت مضاربة ولم يعين شيئا م: (فالقول قول المضارب لأن الأصل في المضاربة العموم) ش: والإطلاق م: (ألا ترى أنه يملك التصرف بذكر لفظة المضاربة) ش: ويثبت الإذن عاما م: (فقامت دلالة الإطلاق) ش: وليس كالوكيل لأن الوكالة عقد خاص م: (بخلاف ما إذا ادعى رب المال المضاربة في نوع والمضارب في نوع آخر) ش: أي وادعى المضارب المضاربة في نوع آخر من البز م: (حيث يكون القول لرب المال لأنه سقط الإطلاق بتصادقهما فنزل إلى الوكالة المحضة) ش: وفي الوكالة المحضة القول للآمر كما مر.
م: (ثم مطلق الأمر بالبيع ينتظمه نقدا أو نسيئة إلى أي أجل كان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما: يتقيد بأجل متعارف والوجه قد تقدم) ش: أي الوجه من الجانبين تقدم في مسألة الموكل بالبيع، والوجه هو: أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعمل بالإطلاق، وهما بالمتعارف.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن أمر رجلا ببيع عبده(9/279)
فباعه وأخذ بالثمن رهنا فضاع في يده أو أخذ به كفيلا فتوى المال عليه فلا ضمان عليه لآن الوكيل أصيل في الحقوق وقبض الثمن منها، والكفالة توثق به والارتهان وثيقة لجانب الاستيفاء فيملكهما بخلاف الوكيل بقبض الدين لأنه يفعل نيابة وقد انابه في قبض الدين دون الكفالة وأخذ الرهن، والوكيل بالبيع يقبض أصالة ولهذا لا يملك الموكل حجره عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فباعه وأخذ بالثمن رهنا فضاع في يده، أو أخذ به كفيلا فتوى المال عليه) ش: أي على الكفيل م: (فلا ضمان عليه) ش: أي على الكفيل؛ قيل: المراد من الكفالة هنا الحوالة لأن التوى لا يتحقق في الكفالة.
وقال التمرتاشي: الوكيل بالبيع لما احتال بالثمن لم يجز عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الحوالة تتضمن إبراء الأصيل، والوكيل لا يملك ذلك عنده، قيل: بل على حقيقتها، والتوى يتحقق في الكفالة بأن مات الكفيل، والمكفول عنه مفلسا، وفي " جامع" النهاجي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التوى على الكفيل بأن يموت مفلسا، وفي الكفالة التوى على الكفيل؛ بأن رفع الأمر إلى القاضي يرى براءة الأصيل بنفس الكفالة، كما هو مذهب الإمام مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن الوكيل أصيل في الحقوق وقبض الثمن منها) ش: أي من الحقوق م: (والكفالة توثق به) ش: أي بالثمن م: (والارتهان وثيقة الجانب الاستيفاء) ش: ولو استوفى الثمن وهلك عنده لم يضمن م: (فيملكهما) ش: أي فيملك الوكيل الكفالة والرهن م: (بخلاف الوكيل بقبض الدين) ش: أي أخذ رهنا، أو كفيلا فإنه لا يجوز م: (لأنه يفعل نيابة) ش: حتى إذا نهاه عن القبض يصح نهيه م: (وقد أنابه في قبض الدين دون الكفالة وأخذ الرهن، والوكيل بالبيع يقبض أصالة) ش: لا نيابة م: (ولهذا) ش: أي فلأجل كون الوكيل بالبيع يقبض أصالة م: (لا يملك الموكل حجره) ش: أي عجز الوكيل م: (عنه) ش: أي عن قبض الثمن عندنا، وقالت الأئمة الثلاثة: يملك؛ والله أعلم.(9/280)
فصل وإذا وكل وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به دون الآخر وهذا في تصرف يحتاج فيه إلى الرأي كالبيع والخلع وغير ذلك؛ لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما، والبدل وإن كان مقدرا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان وكالة الاثنين]
م: (فصل) ش: أي: هذا فصل في بيان وكالة الاثنين، ووجه تأخيره عن وكالة الواحد ظاهر طبعا ووضعا قيل لم يكن لذكر الفصل كثير حاجة، وقيل: بأنه ذكر هنا أشياء أخر غير الوكالة بالبيع وهو الوكالة بالخلع والطلاق، والتزويج والكتابة والإعتاق، والإجارة م: (وإذا وكل وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به دون الآخر وهذا في تصرف يحتاج فيه إلى الرأي كالبيع والخلع وغير ذلك) ش: قال الطحاوي في " مختصره "، وإذا وكل الرجل رجلين ببيع عبد أو بابتياعه أو بتزويج امرأة أو بخلع امرأته منه على مال، أو بعتق عبده على مال، أو بمكاتبة ففعل ذلك أحدهما دون الآخر لم يجز إلا أن يجيزه الآخر فيجوز، وإن وكلهما بعتق عبده بغير مال أو بطلاق امرأته بغير ماله فعل ذلك أحدهما دون الآخر جاز.
وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": الوكيلان بالتزويج والخلع والكتابة على مال إذا فعله أحدهما لا يجوز حتى يجيز الموكل أو الوكيل الآخر. وفي " المبسوط ": هذا الذي ذكره فيما إذا وكلهما بكلام واحد، فأما إذا وكلهما بكلامين فيجوز لكل منهما أن يتصرف بدون الآخر، لأنه إذا وكلهما بكلامين فقد رضي برأي أحدهما، بخلاف الوصيين إذا أوصى كل واحد منهما بكلام واحد حيث لم ينفرد أحدهما بالتصرف في أصح القولين.
في " شرح الطحاوي ": أما الوصيان فليس لأحدهما التصرف إلا بإذن صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إلا في أشياء معروفة، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لكل واحد منهما ولاية التصرف على حدة.
قلت: الأشياء المعروفة سبعة، شراء الكفن، وقضاء الدين من المعين، وتنفيذ الوصية في عين، ورد الوديعة، وشراء الطعام، والكسوة للصغير، والخصومة، وقبول الهدية. م: (لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما) ش: حتى لو باع أحدهما والآخر حاضر لا يجوز إلا أن يجيز الآخر جاز، ولو كان الآخر غائبا عنه فأجاز لم يجز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " الذخيرة " وفي " المبسوط "، ولو كان أحدهما صبيا أو عبدا محجورا لم يجز للآخر أن ينفرد بالتصرف، ولو مات أحدهما أو ذهب عقله لم يجز للآخر أن يتصرف لأنه ما رضي برأي أحدهما م: (والبدل وإن كان مقدرا) ش: هذا جواب عما يقال إذا قدر الموكل البدل فلا يحتاج إلى(9/281)
ولكن التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة واختيار المشتري، قال إلا أن يوكلهما بالخصومة لأن الاجتماع فيها متعذر للإفضاء إلى الشعب في مجلس القضاء والرأي يحتاج إليه سابقا لتقويم الخصومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رأيهما، فيجوز أن يتصرف أحدهما؛ وتقرير الجواب أن البدل وهو الثمن وإن كان قدره الموكل، م: (ولكن التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة) ش: بأن يزداد الثمن عند اجتماع الرأي لذكاء أحدهما ومعرفته التامة م: (واختيار المشتري) ش: أي وفي اختيار المشتري يشتري ما وكلا به لأن من المشتريين من يماطل في أداء الثمن فيختار الآخر من لا يماطل.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " الأصل " ولو كان الموكل يسمي لها ثمنا فباع أحدهما به لم يجز وإن باعا جميعا بذلك الثمن فهو جائز وأن يسمي لهما ثمنا فباعا جميعا بثمن نسيئة، فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يقول: هو جائز، وإن باعا بدرهم ثمنا يساوي ألفا، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إذا أخطأ من الثمن ما لا يتغابن الناس في مثله لم يجز.
قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكلهما أن يشتريا له شيئا فزاد على ثمنه مال يتغابن الناس في مثله فإنه لا يلزمه، وقال: البيع والشراء في ذلك مختلف في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: هما سواء، لا يجوز على الآمر إلا ما يتغابن الناس في مثله م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إلا أن يوكلهما بالخصومة) ش: هذا استثناء من قوله " ليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به دون الآخر "، يعني لو وكلهما بالخصومة جاز انفراد أحدهما بالتصرف.
وقال زفر: لا يصح الانفراد فيها أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -، لأنه يحتاج فيهما إلى الرأي، ورأي الاثنين لا يكون كرأي واحد.
وقال المصنف: - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الاجتماع فيها) ش: أي في الخصومة م: (متعذر للإفضاء إلى الشغب) ش: بفتح الشين المعجمة وسكون الغين المعجمة تهييج الشر م: (في مجلس القضاء) ش: لأن فيه مهابة مجلس القضاء م: (والرأي يحتاج إليه سابقا لتقويم الخصومة) ش: هذا إشارة إلى دفع قول من قال، ليس لأحدهما أن يخاصم دون صاحبه، لأن الخصومة تحتاج فيها إلى الرأي والموكل رضي برأيهما، ووجه ذلك أن المقصود وهو اجتماع الرأيين يحصل في تقويم الخصومة سابقا عليها فيكتفى بذلك ولا يشترط حضرة صاحبه في خصومته عند الجمهور وإطلاق محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على هذا، وقيل: يشترط.
وقال الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي ": الوكيلان بالخصومة(9/282)
قال أو بطلاق زوجته بغير عوض، أو بعتق عبده بغير عوض، أو برد وديعة عنده، أو قضاء دين عليه، لأن هذه الأشياء لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو تعبير محض، وعبارة المثنى والواحد سواء، وهذا بخلاف ما إذا قال لهما: طلقاها إن شئتما، أو قال: أمرها بأيديكما؛ لأنه تفويض إلى رأيهما، ألا ترى أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأحدهما أن يخاصم إلا أنه إذا انتهى إلى قبض المال لا يجوز قبض أحدهما حتى يجتمعا، لأن الخصومة مما لا يتأتى فيها اثنان، والقبض مما يتأتى فيه الاجتماع.
[يوكلهما بطلاق زوجته بغير مال]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو بطلاق زوجته بغير عوض) ش: هذا عطف على المستثنى وهو قوله بالخصومة، أي ويوكلهما بطلاق زوجته بغير مال، فلأحدهما أن يطلق خلافا للشافعي وأحمد - رحمهما الله.
وقد ذكرنا عن الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه وكلهما بطلاق امرأته على مال ففعل ذلك أحدهما لا يجوز م: (أو بعتق عبده بغير عوض) ش: أي أو يوكلهما بأن يعتقا عبده بغير مال فلأحدهما أن يعتقه م: (أو برد وديعة عنده) ش: أي يوكلهما برد وديعة إلى صاحبهما فلأحدهما أن يردها، قيد بردها لأنهما إذا كانا قد قبضاها لا ينفرد أحدهما، وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - الرد كالقبض.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لما في " الأصل ": لو وكلهما بقبض وديعة وقبضها أحدهما بغير إذن صاحبه يضمن، لأنه شرط اجتماعهما على القبض ولم يوجد، فإن قيل: ينبغي أن يضمن النصف، قلنا: مأمور بقبض النصف إذا قبض مع صاحبه وبدونه لا م: (أو قضاء دين عليه) ش: أي وكلهما بقضاء دين عليه فلأحدهما أن يقضيه.
وقال فخر الدين قاضي خان في " شرح الجامع الصغير ": لا ينفرد أحد الوكيلين إلا في أربعة، إذا وكلهما بالطلاق، والثاني إذا وكلهما بالعتاق، والثالث: إذا وكلهما برد وديعة أو عارية، أو غصب، أو دين عليه لرجل، والرابع: إذا وكلهما بالخصومة م: (لأن هذه الأشياء) ش: وهي الطلاق بلا عوض، والعتاق بلا عوض، ورد الوديعة، وقضاء الدين م: (لا يحتاج فيها) ش: أي في هذه الأشياء م: (إلى الرأي بل هو) ش: أي بل الوكالة في هذه الأشياء، وفي بعض النسخ: بل هو، أي التوكيل م: (تعبير محض) ش: يعني تعبير كلام الموكل م: (وعبارة المثنى) ش: أي الاثنان م: (والواحد) ش: أي وعبارة الواحد م: (سواء) ش: لا اختلاف فيه.
م: (وهذا) ش: أي جواز انفراد أحدهما م: (بخلاف ما إذا قال لهما) ش: أي للوكيلين م: (طلقاها إن شئتما، أو قال أمرها) ش: أي أو امرأته م: (بأيديكما) ش: فلا يجوز انفراد أحدهما في هذا م: (لأنه تفويض إلى رأيهما) ش: وأوضح ذلك بقولهما م: (ألا ترى أنه) ش: أي قوله طلقاها(9/283)
تمليك مقتصر على المجلس، ولأنه علق الطلاق بفعلهما فاعتبره بدخولهما.
قال: وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به، وهذا لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء. قال إلا أن يأذن له الموكل لوجود الرضا أو يقول له: اعمل برأيك لإطلاق التفويض إلى رأيه، وإذا جاز في هذا الوجه يكون الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أو أمرها بأيديكما م: (تمليك مقتصر على المجلس) ش: وإذا كان تمليكا لا يجوز لأحدهما التصرف بغير إذن صاحبه، قيل: ينبغي أن يقدر أحدهما على إيقاع نصف تطليقة، وأجيب بأن فيه إبطال حق الآخر لأن بإيقاع النصف يقع تطليقة واحدة.
فإن قيل: الإبطال ضمني فلا يعتبر، أجيب بأنه لا حاجة إلى ذلك الإبطال مع قدرتهما على الاجتماع، م: (ولأنه) ش: أي ولأن الآمر بقوله: طلقاها إن شئتما م: (علق الطلاق بفعلهما) ش: أي بفعل المأمورين وهو التطليق م: (فاعتبره بدخولهما) ش: أي بالطلاق المعلق بدخولهما الدار، فإن بدخول أحدهما لا يقع الطلاق فكذا هاهنا بيانه، لو قال: إن دخلتما الدار فهي طالق لا تطلق ما لم يوجد الدخول منهما جميعا.
وكذا في قوله طلقاها إن شئتما، لا يقع الطلاق ما لم يوجد فعل التطليق منهما جميعا، وقد ضبط الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله، فاعتبره على صورة الأمر من الاعتبار، وكذا ضبط شيخنا العلاء، ثم كتب بيده على الحاشية، أي اعتبر التطليق بتطليقهما بالتعليق بدخولهما.
[يوكل فيما وكل به]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به، وهذا) ش: أي عدم جواز توكيل الوكيل م: (لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء) ش: فلا يكون راضيا بغيره م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إلا أن يأذن له الموكل لوجود الرضا) ش: المسألة على ثلاثة أوجه.
أحدهما: أن يوكله ولم يأذن له، ولم ينهه عن التوكل، فليس له أن يوكل غيره عندنا وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك والشافعي - رحمهما الله -: إن كان الوكيل ممن يلي ذلك بنفسه عادة فليس له أن يوكل غيره، وإن كان يعجز عنه، أو ممن لم يباشر ذلك الفعل بنفسه لوجاهته له أن يوكل، وبه قال أحمد في رواية.
الوجه الثاني: أن يأذن له في التوكيل يوكل غيره بلا خلاف، الوجه الثالث: أن ينهاه عن توكيل غيره لا يوكل بلا خلاف م: (أو يقول له) ش: أي للوكيل م: (اعمل برأيك) ش: فله التوكيل عندنا وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أصحاب الشافعي: ليس له التوكيل في أحد الوجهين م: (لإطلاق التفويض إلى رأيه) ش: وذلك يدل على تساويه مع غيره.
م: (وإذا جاز في هذا الوجه) ش: يعني في قوله " اعمل برأيك " م: (يكون الثاني) ش: يعين(9/284)
وكيلا عن الموكل حتى لا يملك الأول عزله، ولا ينعزل بموته، وينعزلان بموت الأول، وقد مر نظيره في أدب القاضي.
قال: فإن وكل بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته جاز، لأن المقصود حضور رأي الأول وقد حضر وتكلموا في حقوقه؛ وإن عقد في حال غيبته لم يجز، لأنه فات رأيه، إلا أن يبلغه فيجيزه، وكذا لو باع غير الوكيل فبلغه فأجازه، لأنه حضر رأيه، ولو قدر الأول الثمن الثاني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكيل الوكيل م: (وكيلا عن الموكل حتى لا يملك الأول) ش: أي الوكيل الأول م: (عزله) ش: أي عزل الوكيل الذي وكله م: (ولا ينعزل بموته) ش: أي ولا ينعزل الوكيل الثاني بموت الوكيل الأول وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال في الأصح: ينعزل بعزله وبموته وله بموت الأول قولان.
م: (وينعزلان) ش: أي الوكيل الأول والوكيل الثاني م: (بموت الأول) ش: أي الموكل الأول م: (وقد مر نظيره في " أدب القاضي ") ش: وهو ما ذكره في أول فصل قبل باب التحكم بقوله " وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء، إلا أن يفوض إليه ذلك " إلى أن قال: - جاز كما في " الوكالة ".
[عقد الوكيل الثاني بحضرة الوكيل الأول]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن وكل) ش: أي الوكيل م: (بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته جاز) ش: أي بحضرة الوكيل الأول جاز التوكل م: (لأن المقصود حضور رأي الأول وقد حضر) ش: فيجوز استحسانا، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - كما في غيبته.
وقال ابن أبي ليلى: يجوز مع الوكيل الثاني بحضور الأول بغير حضرته.
م: (وتكلموا) ش: أي تكلم المشايخ م: (في حقوقه) ش: أي في حقوق عقد الثاني بحضرة الأول يعني إذا عقد الوكيل الثاني بحضرة الوكيل الأول جاز، لكن في حقوق العقد كلام، قال بعضهم يرجع إلى الأول، لأن الموكل رضي بلزوم العهدة على الأول دون الثاني، كذا في " الفتاوى الصغرى "، عن " فتاوى البقالي "، وقال بعضهم: يرجع إلى الثاني لأن العقد وهو السبب وجد من الثاني، وإليه ذهب أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " جبل العيون ".
م: (وإن عقد في حال غيبته) ش: أي في حال غيبة الوكيل الأول م: (لم يجز لأنه فات رأيه إلا أن يبلغه فيجيزه) ش: جاز م: (وكذا لو باع غير الوكيل) يعني إذا باع الأجنبي م: (فبلغه) ش: أي فبلغ الوكيل م: (فأجازه) ش: بعد بلوغ الخبر جاز؛ م: (لأنه حضر رأيه) ش: بإجازته.
م: (ولو قدر الأول) ش: أي الوكيل الأول م: (الثمن الثاني) ش: أي للوكيل الثاني الذي وكله بغير موكله بأن قال له: بعه بكذا، فباعه الثاني بالثمن الأول الذي قدره الوكيل الأول، وهو(9/285)
فعقد بغيبته يجوز، لأن الرأي فيه يحتاج إليه لتقدير الثمن ظاهرا، وقد حصل. وهذا بخلاف ما إذا وكل وكيلين وقدر الثمن لأنه لما فوض إليهما مع تقدير الثمن ظهر أنه غرضه اجتماع رأيهما في الزيادة واختيار المشتري على ما بيناه أما إذا لم يقدر الثمن وفوض إلى الأول كان غرضه رأيه في معظم الأمر، وهو التقدير في الثمن
قال: وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع أو اشترى لها لم يجز، معناه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معنى قوله: م: (فعقد بغيبته) ش: أي بغيبة الأول م: (يجوز) ش: في رواية كتاب الرهن، اختارها المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي رواية كتاب الوكالة: لا يجوز لأن تقدير الثمن يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة، فربما يزيد الأول على هذا الثمن لو كان هو المباشر للبيع لذكائه وهدايته، وجه رواية كتاب الرهن: أن المقصود حصل بحضور رأيه م: (لأن الرأي فيه يحتاج إليه) ش: أي في العقد م: (لتقدير الثمن ظاهرا وقد حصل) ش: أي تقدير الثمن، وإنما قال: ظاهرا احترازا عن المسألة التي يذكرها الآن عقيب المسألة التي ذكرها وهو قوله: م: (وهذا بخلاف ما إذا وكل وكيلين وقدر الثمن) ش: فإنه لا يجوز بيع أحدهما بذلك المقدار.
م: (لأنه لما فوض إليهما مع تقدير الثمن ظهر أنه غرضه اجتماع رأيهما في الزيادة واختيار المشتري) ش: أي الذي لا يماطل في تسليم الثمن م: (على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله في المسألة المتقدمة والبدل، وإن كان مقدرا، ولكن التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة، م: (أما إذا لم يقدر الثمن وفوض إلى الأول) ش: أي فوض الموكل الأول إلى الوكيل الأول م: (كان غرضه) ش: أي غرض الموكل الأول م: (رأيه) ش: أي رأي الوكيل الأول م: (في معظم الأمر، وهو التقدير في الثمن) ش: وهذا لأن المقصود من البياعات الاسترباح، وذلك إنما يكون بالبيع بتقدير ثمن كان يحصله في تحصيل زيادة الربح وقد حصل ذلك بتقدير الوكيل الأول ثمن المبيع ورأيه إنما يطلب لهذا.
[زوج العبد أو المكاتب أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا زوج العبد أو المكاتب أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة) ش: فإن قلت: كيف تكون المسلمة تحت الذمي؟.
قلت: يجوز أن يكون طلقها ثم أسلمت، وماتت وبقيت البنت م: (أو باع) ش: أي واحد منهم م: (أو اشترى لها) ش: أي الصغيرة المذكورة م: (لم يجز) يعني تصرفهم في مالها بالبيع والشراء لا يجوز، ولكن قوله أو باع أو اشترى لها لما كان يحتمل وجهين.
أحدهما: أن يشتري لها شيئا بمال نفسه، والآخر: أن يشتري لها بمالها، قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يجز في " الجامع الصغير "(9/286)
التصرف في مالها؛ لأن الرق والكفر يقطعان الولاية، ألا ترى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى لا تقبل شهادته عليه، ولأن هذه ولاية نظرية فلا بد من التفويض إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر، والرق يزيل القدرة، والكفر يقطع الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما. وقالا المرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك لأن الحربي أبعد من الذمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (التصرف في مالها) ش: وهو معظم شراؤه لها بمالها وهو المراد هنا من الوجه الثاني، يعني لأن كل واحد منهم إذا اشترى لها من مال نفسه يجوز لا محالة.
واعلم أن في تركيب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - نوع مناقشة، لأن قوله " أولا " لم يجز يشمل التزويج والبيع والشراء، ثم قوله، معناه التصرف في مالها، توهم أن عدم الجواز في التصرف في مالها فقط، وعدم الجواز في الفصلين جميعا، ولهذا قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الذمي أو المكاتب، أو العبد يزوج واحد منهم ابنته، وهي صغيرة حرة مسلمة، قال يجوز، وكذلك إذا باع لها أو اشترى لم يجز، هكذا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه.
م: (لأن الرق) ش: في العبد والمكاتب م: (والكفر) ش: في الذمي م: (يقطعان الولاية) ش: أما العبد فلأنه لا ولاية له على نفسه فعلى غيره بالطريق الأولى، وأما المكاتب فإنه عبد ما بقي عليه درهم، وأما الذمي فلقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] (النساء: الآية 141) ، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى لا تقبل شهادته عليه، ولأن هذه الولاية ولاية نظرية) ش: نظرا للصغار والصغار لعجزهم، م: (فلا بد من التفويض) ش: أي تفويض أمرهم م: (إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر) ش: بالقدرة والشفقة، وفي بعض النسخ إلى العاقد المشفق مكان القادر.
م: (والرق يزيل القدرة) ش: قال الله تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] (النحل: الآية 75) م: (والكفر يقطع الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما) ش: أي إلى العبد والكافر م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وفي بعض النسخ صرح قال: وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (المرتد إذا قتل على ردته، والحربي كذلك) ش: أي تصرفهما على المسلم لا يجوز، وإنما خص قولهما مع أن هذا حكم مجمع عليه لأن الشبهة إنما ترد على قولهما، لأن تصرفات المرتد بالبيع والشراء نافذة وإن قتل ردته عندهما بناء على الملك، ولكن تصرفاته على ولده موقوفة بالإجماع م: (لأن الحربي أبعد من الذمي) ش: لأن الذمي من أهل دارنا(9/287)
فأولى بسلب الولاية، وأما المرتد فتصرفه في ماله إن كان نافذا عندهما لكنه موقوف على ولده ومال ولده بالإجماع؛ لأنها ولاية نظرية وذلك باتفاق الملة وهي مترددة ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل على الردة فيبطل وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل كان مسلما فيصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأولى) ش: أي الحربي أولى م: (بسبب الولاية) ش: لأنها إذا لم تثبت للذمي فأولى أن لا تثبت للحربي، ولهذا لا تجوز شهادة الحربي على الذمي.
م: (وأما المرتد فتصرفه في ماله إن كان نافدا عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (لكنه موقوف على ولده ومال ولده بالإجماع لأنها ولاية نظرية وذلك) ش: أي الولاية النظرية بتأويل المذكور، أو بأن استعمال مشترك م: (باتفاق الملة وهي) ش: أي الملة م: (مترددة) ش: لكونها معلومة معدومة في الحال لكنها مرجوة الوجود لأنه محمول عليه فيجب التوقف م: (ثم تستقر جهة الانقطاع) ش: أي انقطاع الولاية م: (إذا قتل على الردة فيبطل) ش: أي تصرف المرتد م: (وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل مسلما فيصح) ش: أي تصرفه، والله أعلم.(9/288)
باب الوكالة بالخصومة والقبض قال: الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو يقول: إنه رضي بخصومته والقبض غير الخصومة ولم يرض به. ولنا: أن من ملك شيئا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض، والفتوى اليوم على قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظهور الخيانة في الوكلاء وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال، ونظيره الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه وضعا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الوكالة بالخصومة والقبض]
[الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض]
م: (باب الوكالة بالخصومة والقبض) ش: أي هذا باب في بيان الوكالة بالخصومة والقبض ولما كانت
الخصومة مهجورة شرعا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46] (الأنفال: الآية 46) استحق بابها التأخير بما ليس بمهجور م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض عندنا) ش: أطلق القدوري كلامه ليتناول الوكيل بالخصومة في العين والدين، وهو وكيل بالقبض فيهما عند علماؤنا الثلاثة.
وقال في " إشارات الأسرار ": الوكيل بالخصومة بملك قبض الدين عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في " الواقعات ": الوكيل بالتقاضي أو بالخصومة ليس له أن يقبض الدين في زماننا، لأن الخيانة ظهرت فيما بين الناس، وهو اختيار مشايخ بلخ خصوصا في الوكلاء على باب القاضي، به أخذ الفقيه أبو الليث م: (خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول - لا يكون وكيلا بالقبض، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الأظهر، ومالك وأحمد - رحمهما الله -، وفي وجه عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يملك كقولنا م: (هو) ش: أي زفر م: (يقول: إنه) ش: أي لأن الموكل م: (رضي بخصومته والقبض غير الخصومة) ش: لأن الخصومة لإظهار الحق، ويختار فيها ألج الناس للقبض أمن الناس ممن يصلح للخصومة لا يرضى بأمانته عادة، وهو معنى قوله: م: (ولم يرض به) ش: أي القبض.
م: (ولنا: أن من ملك شيئا ملك إتمامه وتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض) ش: لأن الخصومة قائمة ما لم يقبض م: (والفتوى اليوم على قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال) ش: وبه أفتى الصدر الشهيد، م: (ونظيره) ش: أي نظير هذا التوكيل: م: (الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه) ش: أي لأن القاضي في معنى القبض م: (وضعا) ش: أي من حيث الوضع في اللغة يقال تقاضيته ديني وبديني، واقتضيته واستقضيته طلبت قضاءه واقتضيت منه حقي أي أخذته، ذكره في " الأساس ".(9/289)
إلا أن العرف بخلافه وهو قاض على الوضع فالفتوى على أن لا يملك. قال: فإن كانا وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا لأنه رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما واجتماعهما ممكن بخلاف الخصومة على ما مر.
قال والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في معناه وضعا أي لأن التقاضي في معنى القبض فيه نظر، لأنه قال في المغرب تقاضيته ديني إلى آخر ما ذكرناه.
قلت: لم أدر وجه النظر فيه لأنه لم يقل " التقاضي هو القبض " بل قال في معنى القبض، م: (إلا أن العرف بخلافه) ش: أي بخلاف الوضع فإن الناس لا يفهمون المعنى الموضوع من التقاضي بل يفهمون منه المطالبة م: (وهو قاض) ش: أي العرف حاكم وراجح م: (على الوضع) ش: لأن وضع الألفاظ لحاجة الناس وهم لا يفهمون المعنى الموضوع بل يفهمون المجاز فصار المجاز بمنزلة الحقيقة العرفية، فإن قلت: الحقيقة مستعملة والمجاز متعارف وهي أولى منه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: إن ذلك وجه لأصل الرواية، والكلام فيه وإنما الكلام في أن الفتوى على أصل الرواية، أو على العرف لظهور الخيانة في الوكلاء.
قالوا: على العرف فلا يملك القبض، وإليه أشار بقوله: م: (فالفتوى على أن لا يملك) ش: يعني أن الوكيل يتقاضى الدين بملك القبض بالاتفاق، ولكن فتوى المشايخ على أن لا يملك لفساد الزمان. م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (فإن كانا) ش: أي الرجلان م: (وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا) ش: أي لا يقبضان الدين إلا مجتمعين.
م: (لأنه) ش: أي لأن الموكل م: (رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما واجتماعهما ممكن) ش: أي اجتماع الوكيلين على القبض ممكن فإنهما يصيران قابضين بالتخلية م: (بخلاف الخصومة) ش: فإن اجتماعهما عليها غير ممكن م: (على ما مر) ش: في أول الفصل المتقدم عند قوله -: وإذا وكل وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكل به دون الآخر إلا أن يوكلهما بالخصومة، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما مر أنه يقضي إلى الشغب في مجلس القضاء وهو مذهب الهامية، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس للوكيل بالخصومة أن يقبض الدين وقد مر.
م: (قال: والوكيل يقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: م: (حتى لو أقيمت عليه) ش: أي على الوكيل م: (البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(9/290)
وقالا لا يكون خصما، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن القبض غير الخصومة وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات، فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه وكله بالتملك؛ لأن الديون تقضى بأمثالها إذ قبض الدين نفسه لا يتصور، إلا أنه جعل استيفاء لعين حقه من وجه، فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة والرجوع في الهبة والوكيل بالشراء والقسمة والرد بالعيب، وهذه أشبه بأخذ الشفعة حتى يكون خصما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (لا يكون خصما) ش: أي الوكيل يقبض الدين م: (وهو) ش: أي قولهما م: (رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ظاهر الرواية، م: (لأن القبض غير الخصومة) ش: فلا يكون وكيلا بهما م: (وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات، فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها) ش: أي بالخصومة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه وكله بالتملك) ش: أي أن الوكيل يقبض دين وكيله بالتمليك والتملك لأنه توكيل تملك، والمقبوض يقابله في الذمة قصاصا م: (لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها إذ قبض الدين نفسه) ش: بالجر، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بدل من الدين قلت: هو تأكيد.
م: (لا يتصور) ش: لأنه وصف ثابت في الذمة م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله " لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها "، أي غير أنه م: (جعل استيفاء لعين حقه من وجه) ش: بدليل أن رب الدين يجبر على القبض، فلو كان تمليكا محضا معنى استيفاء عين الحق لم يجبر على القبض، وكذا إذا ظفر بجنس حقه حل له التناول م: (فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة) ش: أي فأشبه الوكيل يقبض الدين الوكيل بأخذ الشفعة، يعني أنه خصم فكذا هذا.
م: (والرجوع في الهبة) ش: بالجر عطفا على قوله: " بأخذ الشفعة "، يعني: إذا وكل وكيلا بالرجوع في الهبة كان خصما حتى إذا أراد الرجوع فأقام الموهوب له البينة أن الواهب أخذ المعوض تقبل بينته، م: (والوكيل بالشراء) ش: بالجر أيضا، يعني: لو أقام أحد الشريكين بينة على الوكيل أن الموكل أخذ نصيبه تقبل بينته لأنه خصم، م: (والقسمة) ش: بالجر أيضا، يعني أحد الشريكين، إذا وكل رجلا بأنه يقاسمه شريكه فأراد الموكل المقاسمة وأقام الشريك الآخر البينة أن الموكل أخذ نصيبه تقبل بينته، لأن الوكيل خصم، لأن القسمة معنى التمليك.
م: (والرد بالعيب) ش: بالجر أيضا، يعني أن المشتري رضي بذلك قبلت بينته م: (وهذه) ش: أي مسألة التوكيل م: (أشبه بأخذ الشفعة) ش: وفي بعض النسخ: وهذا، أي التوكيل بقبض الدين، أشبه بأخذ الشفعة من المسائل الثلاث الأخر م: (حتى يكون) ش: أي الوكيل م: (خصمًا(9/291)
قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك، والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء، وهذا لأن المبادلة تقتضي حقوقا وهو أصيل فيها فيكون خصما فيها. قال: والوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة بالاتفاق لأنه أمين محض والقبض ليس بمبادلة فأشبه الرسول، حتى إن من وكل وكيلا بقبض عين له فأقام الذي هو في يديه البينة على أن الموكل باعه إياه وقف الأمر حتى يحضر الغائب، وهذا استحسان، والقياس أن يدفع الوكيل لأن البينة قامت لا على خصم فلم تعتبر. وجه الاستحسان أنه خصم في قصر يده لقيامه مقام الموكل في القبض فتقصر يده وإن لم يثبت البيع حتى لو حضر الغائب تعاد البينة على البيع، فصار كما إذا أقام البينة على أن الموكل عزله عن ذلك فإنها تقبل في يده كذا هذا قال وكذلك العتاق والطلاق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك) ش: أي في أخذ الشفعة م: (والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء، وهذا) ش: إشارة إلى مطلع نكتة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله " أنه وكله بالتملك " يعني أنه لما وكل الوكيل بالقبض بالتملك كان فيه معنى المبادلة وهذا م: (لأن المبادلة تقتضي حقوقا) ش: من التسليم والتسلم والرد بالعيب م: (وهو) ش: أي الوكيل م: (أصيل فيها) ش: أي في الحقوق م: (فيكون خصما فيها) ش: أي في الحقوق، م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة بالاتفاق) ش: بالإجماع م: (لأنه أمين محض والقبض ليس بمبادلة) ش: لكونه يقبض عين الموكل من كل وجه م: (فأشبه الرسول، حتى إن من وكل وكيلا بقبض عبد له فأقام الذي هو في يديه البينة أن الموكل باعه إياه) ش: أي العبد م: (وقف الأمر حتى يحضر الغائب) ش: أي الأمر.
م: (وهذا استحسان، والقياس أن يدفع) ش: أي العبد م: (إلى الوكيل لأن البينة قامت لا على خصم) ش: لأن الوكيل يقبض الوديعة ليس بخصم م: (فلم تعتبر) ش: أي بينة ذي اليد في قطع يد الوكيل بالقبض م: (وجه الاستحسان أنه) ش: أي أن الوكيل يقبض الوديعة م: (خصم في قصر يده) ش: أي يد نفسه، أي قصر يد الوكيل م: (لقيامه مقام الموكل في القبض فتقصر يده وإن لم يثبت البيع) ش: أي بالوكيل.
م: (حتى لو حضر الغائب تعاد البينة على البيع فصار) ش: هذا م: (كما إذا أقام) ش: أي ذو اليد م: (البينة على أن الموكل عزله عن ذلك) ش: أي عن القبض م: (فإنها) ش: أي فإن البينة م: (تقبل في قصر يده) ش: أي في يد الوكيل م: (كذا هذا) ش: أي فكذا حكم المسألة المذكورة، م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكذلك العتاق والطلاق) ش: أي وكالمذكور حكم العتاق والطلاق، والمصنف يذكر الآن صورتهما.(9/292)
وغير ذلك ومعناه إذا أقامت المرأة البينة على الطلاق والعبد والأمة على العتاق على الوكيل بنقلهم تقبل في قصر يده حتى يحضر الغائب استحسانا دون العتق والطلاق.
قال: إذا أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند القاضي جاز إقراره عليه، ولا يجوز عند غير القاضي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - استحسانا إلا أنه يخرج عن الوكالة. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إقراره عليه وإن أقر في غير مجلس القضاء. وقال زفر والشافعي - رحمهما الله -: لا يجوز في الوجهين، وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا وهو القياس لأنه مأمور بالخصومة وهي منازعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وغير ذلك) ش: كما إذا ادعى صاحب اليد الارتهان من الموكل وأقام بينة على ذلك يقبل في حق قصر يده لا في ثبوت الارتهان في حق الموكل، م: (ومعناه) ش: أي معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العتاق والطلاق م: (إذا أقامت المرأة البينة على الطلاق) ش: على أن زوجها طلقها م: (والعبد) ش: أي إذا أقام العبد م: (والأمة) ش: أي إذا أقامت البينة م: (على العتاق على الوكيل بنقلهم) ش: أي بنقل المرأة والعبد والأمة م: (تقبل) ش: أي البينة م: (في قصر يده حتى يحضر الغائب استحسانا) ش: فإذا حضر الغائب تعاد عليه البينة العتاق والطلاق، لأن هذه البينة اشتملت على معنيين إثبات العتق وإبطال حق الوكيل، فتقبل بينته على الحاضر دون الغائب، ويؤخذ من العبد كفيل نظرا للغائب م: (دون العتق والطلاق) ش: أي لا يقبل في حق العتق والطلاق، لأن الوكيل ليس بخصم فيها، ولكنه خصم في قصر يده، وليس من ضرورة قصر يده القضاء والطلاق على الغائب فيقبل في قصد دون غيره.
[أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند القاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند القاضي جاز إقراره عليه) ش: أطلق الإقرار والموكل ليتناول اسم الموكل للمدعي والمدعى عليه؛ لأن جواز الإقرار على الموكل لا يتفاوت بين أن يكون موكله مدعيا أو مدعى عليه، سوى أن معنى الإقرار يختلف بحسب اختلاف الموكل فبإقرار وكيل المدعي هو أن يقر بقبض الموكل المال وإقرار وكيل المدعى عليه هو أن يقر بوجوب المال على موكله م: (ولا يجوز عند غير القاضي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - استحسانا إلا أنه يخرج عن الوكالة) ش: فلا يدفع إليه المال لزعمه بانتفاء حقه في الأخذ.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز إقراره عليه وإن أقر في غير مجلس القاضي، وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - لا يجوز في الوجهين) ش: أي في مجلس القاضي وغيره، وبه قال مالك وأحمد وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وهو) ش: أي قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا وهو) ش: أي قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو م: (القياس لأنه) ش: أي لأن الوكيل م: (مأمور بالخصومة وهي) ش: أي الخصومة م: (منازعة) ش: لأنها اسم لكلام(9/293)
والإقرار يضاده لأنه مسالمة والأمر بالشيء لا يتناول ضده، ولهذا لا يملك الصلح والإبراء ويصح إذا استثنى الإقرار، وكذا لو وكله بالجواب مطلقا يتقيد الجواب هو خصومة لجريان العادة بذلك، ولهذا يختار فيه الأهدى فالأهدى. وجه الاستحسان أن التوكيل صحيح قطعا وصحته بتناوله ما يملكه قطعا وذلك مطلق الجواب دون أحدهما عينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجري بين اثنين على سبيل المنازعة والمشاجرة.
م: (والإقرار يضاده) ش: أي يضاد ما أمر به من الخصومة، م: (لأنه) ش: أي لأن الإقرار م: (مسالمة) ش: لأنه يجري على سبيل المسالمة والموافقة فكان ضد ما أمر به، م: (والأمر بالشيء لا يتناول ضده ولهذا) ش: أي ولأجل عدم تناول الأمر بالشيء ضده م: (لا يملك) ش: أي الوكيل بالخصومة م: (الصلح والإبراء) ش: بوجود المضادة، لأن الصلح حط البعض والوكيل مأمور باستيفاء الكل، والإبراء إسقاط وهو مأمور بالاستيفاء.
م: (ويصح) ش: هذا جواب سؤال يرد على قولهم، لأن الوكيل بالخصومة إذا لم يتناول الإقرار كيف يصح استثناؤه - فقال ويصح أي التوكيل م: (إذا استثنى الإقرار) ش: بأن قال: وكلتك بالخصومة بشرط أن لا تقر عليه فأقر الوكيل لم يصح إقراره لأن لفظ التوكيل بالخصومة لم يتناول الإقرار، فلو تناوله بطل الاستثناء وصح الإقرار، لأن الخصومة شيء واحد والاستثناء من شق واحد لا يجوز؛ لأنه يلزم استثناء الكل من الكل.
م: (وكذا لو وكله بالجواب مطلقا يتقيد الجواب هو خصومة لجريان العادة بذلك) ش: قال في " النهاية ": هي مسألة مبتدأة خلافية لم يردها على وجه الاستشهاد، يعني لو وكله بالجواب مطلقا أيضا فهو أيضا على هذا الخلاف وكذا في " المختلفات البرهانية "، فعندهم يتقيد بجواب هو خصومة، إذ العادة جرت في التوكيل بذلك.
م: (ولهذا) ش: أي والأصل هذا م: (يختار فيه) ش: أي في الخصومة، أي في التوكيل بها م: (الأهدى فالأهدى) ش: أي من كان أكثر هداية في طرق الخصومة، وفي الإقرار لا يحتاج إلى زيادة الهداية.
م: (وجه الاستحسان أن التوكيل) ش: المذكور م: (صحيح قطعا) ش: أي ثابت من كل وجه بلا شبهة بالإجماع م: (وصحته يتناوله ما يملكه قطعا) ش: أي ما يملك التوكيل من مطلق الجواب من حيث القطع؛ لأن التوكيل في غير المملوك تصرف في غير ملكه وهو غير صحيح، م: (وذلك مطلق الجواب) ش: أي الذي يملك مطلق الجواب، ومطلق الجواب يتناول الإنكار والإقرار جميعا فكما أن إنكار الوكيل يصح من حيث إنه جواب فكذا يصح الإقرار من حيث إنه جواب م: (دون أحدهما عينا) ش: يعني لا يملك أحدهما وهو الإقرار والإنكار معينا، لأنه ربما يكون(9/294)
وطريق المجاز موجود على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فيصرف إليه تحريا للصحة قطعا، ولو استثنى الإقرار فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصح لأنه لا يملكه. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يصح لأن للتنصيص زيادة دلالة على ملكه إياه وعند الإطلاق يحمل على الأول، وعنه أنه فصل بين الطالب والمطلوب ولم يصححه في الثاني لكونه مجبورا عليه ويخير الطالب فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب بأحدهما معينًا حرامًا لأنه لو كان خصمه محقا لا يملك الإنكار شرعًا، ولو كان مبطلا يكون حقه في الإنكار لا غير، فلا يملك المعين منهما قطعا، فلا يجوز التوكيل به قطعا فيصح من وجه دون وجه فحملنا على المجاز وهو الجواب مطلقا تحريا لصحته قطعا.
م: (وطريق المجاز موجود) ش: أي بين الخصومة ومطلق الجواب لأن الخصومة سبب الجواب، وإطلاق السبب وإرادة المسبب طريق من طرق المجاز م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: إشارة إلى ذكره عند قوله " هما يقولان إن التوكيل يتناول جوابا يسمى رخصة " م: (فيصرف إليه) ش: أي إلى مطلق الجواب م: (تحريا للصحة قطعا) ش: أي للتحري لصحة كلامه من حيث القطع لأن كلام العاقل يصان عن الإلغاء.
م: (ولو استثنى الإقرار فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يصح) ش: هذا جواب عن مستند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ووجه لا نسلم صحة الاستثناء، بل لا يصح على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأنه لا يملكه) ش: أي لأن الوكيل لا يملك الاستثناء؛ لأن ملكه مستلزم بقاء الإنكار عينا، وقد لا يحل له ذلك كما مر.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يصح) أي أن استثناء الإقرار يصح م: (لأن للتنصيص) ش: أي لأنه لما نص على الإنكار باستثناء الإقرار بضمير م: (زيادة دلالة على ملكه إياه) ش: أي على ملك الموكل إياه فيملك الوكيل به، م: (وعند الإطلاق) ش: أي عند إطلاق التوكيل بالخصومة في غير استثناء الإقرار م: (يحمل على الأول) ش: أي على ما هو الأولى وهو مطلق الجواب.
م: (وعنه) ش: أي وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه فصل بين الطالب والمطلوب) ش: بأن قال بصحة من حمل وكيل المدعي وعدمها من وكيل المدعى عليه، م: (ولم يصححه في الثاني) ش: أي لم يصحح محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - استثناء الإقرار في المطلوب م: (لكونه مجبورا عليه) ش:، أي لكون المطلوب مجبورا على ترك الإنكار م: (ويخير الطالب فيه) ش: أي يخير بين الإقرار والإنكار، فيكون الاستثناء مقيدا.
وفي " التتمة " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يصح الاستثناء من الطالب؛ لأنه مجبور ولا يصح من المطلوب لأنه مجبور عليه، يعني المدعي لما كان مخيرا بين الإقرار والإنكار أفاد الاستثناء(9/295)
فبعد ذلك يقول أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن الوكيل قائم مقام الموكل وإقراره لا يختص بمجلس القضاء فكذا إقرار نائبه، وهما يقولان: إن التوكيل يتناول جوابا يسمى خصومة حقيقة أو مجازا، والإقرار في مجلس القضاء خصومة مجازا إما لأنه خرج في مقابلة الخصومة أو لأنه سبب له لأن الظاهر إتيانه بالمستحق عند طلب المستحق، وهو الجواب في مجلس القضاء فيختص به، لكن إذا أقيمت البينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فائدته في حقه، أما من المطلوب لا يصح استثناء الإقرار لأنه لا يفيد ذلك، لأن المدعي لما صحح دعواه، والمطلوب مضطر ومجبور على الإقرار لعرض اليمين عليه فيكون مجبورا عليه.
م: (فبعد ذلك يقول أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هذا مشروع في بيان المحاجة مع أبي يوسف بعد فراغ المحاجة مع زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إن الوكيل قائم مقام الموكل وإقراره لا يختص بمجلس القضاء فكذا إقرار نائبه) ش: لا يختص بمجلس القاضي؛ لأنه موجب بنفسه، وإنما يختص بمجلس القضاء ما لا يكون موجبا إلا بانضمام القضاء.
م: (وهما) ش: أي أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (يقولان: إن التوكيل يتناول جوابا يسمى خصومة حقيقة) ش: كالإنكار م: (أو مجازا) ش: كالإقرار بمجلس القضاء، تقريره أن توكيله يصرف إلى مطلق الجواب ومطلق الجواب مجازا عام يتناول بعمومه الحقيقة وهي الخصومة والمجاز وهو مطلق الإقرار، والإقرار لا يكون خصومة مجازا إلا في مجلس القضاء فما كان منه في غيره فليس بخصومة لا حقيقة وهو ظاهر ولا مجاز، إذ الإقرار خصومة مجازا من حيث إنه جواب ولا جواب في غير مجلس القضاء، فالإقرار خصومة مجازا في غيره.
م: (والإقرار في مجلس القضاء خصومة مجازا إما لأنه خرج في مقابلة الخصومة) ش: فكان مجازه التضاد وهو مجاز لغوي؛ لأنه لا يصح أن يكون مجازا شرعيا م: (أو لأنه) ش: أي أو لأن الخصومة على تأويل التخاصم، وفي بعض النسخ أو لأنها م: (سبب له) ش: أي الإقرار والمجوز السببية، وهو مجوز شرعي لأن الجواب تارة يكون بلا وتارة يكون بنعم، فكانت الخصومة سببا للإقرار بالواسطة وإطلاق اسم السبب على المسبب مجازا.
م: (لأن الظاهر إتيانه بالمستحق عند طلب المستحق) ش: فتكون الخصومة سببا له حيث أفضى إليه ظاهرا م: (وهو) ش: أي المستحق م: (الجواب في مجلس القضاء فيختص به) ش: أي يختص جواب الخصومة بمجلس القضاء، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو قال: لأن الواجب عليه إتيانه بالمستحق بدل لأن الظاهر كان أوفى تأدية للمقصود م: (لكن إذا أقيمت البينة) ش: هذا استدراك من قوله " فيختص به ": وفيه إشارة إلى دفع ما يقال إذا كان الإقرار في غير مجلس القاضي ليس بجواب، كان الجواب: أن لا يكون معتبرا ولا يخرج به عن الوكالة، ولكن إذا(9/296)
على إقراره في غير مجلس القضاء يخرج من الوكالة حتى لا يؤمر بدفع المال إليه لأنه صار مناقضا، وصار كالأب أو الوصي إذا أقر في مجلس القضاء لا يصح ولا يدفع المال إليهما،
قال: ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا، لأن الوكيل من يعمل لغيره، ولو صححناها صار عاملا لنفسه في إبراء ذمته فانعدم الركن، ولأن قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينا ولو صححناها لا يقبل لكونه مبرئا لنفسه فينعدم بانعدام لازمه وهو نظير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أقيمت عليه البينة م: (على إقراره في غير مجلس القضاء يخرج من الوكالة حتى لا يؤمر بدفع المال إليه لأنه صار مناقضا) ش: في كلامه، فلو بقي وكيلا لبقي وكيلا بجواب مقيد وهو الإقرار وما وكله بجواب مقيد وإنما وكله بالجواب مطلقا، قاله في " الكافي ".
م: (وصار) ش: أي الوكيل المقر في غير مجلس القضاء م: (كالأب والوصي إذا أقر في مجلس القضاء لا يصح ولا يدفع المال إليهما) ش: أي إلى الأب الوصي، بيانه الأب والوصي إذا ادعى شيئا للصغير فأنكر المدعى عليه، فصدقه الأب، والوصي ثم جاء يدعي ذلك المال لا يدفع المال إليهما، لأنهما خرجا عن الولاية والوصاية في حق هذا المال بإقرارهما على الصبي فكذلك هنا لما خرج الوكيل من الوكالة بالإقرار في غير مجلس القضاء لا يدفع المال إليه.
[كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم]
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا) ش: أي قبل براءة الكفيل وبعدها، م: (لأن الوكيل من يعمل لغيره، ولو صححناها) ش: أي الوكالة م: (صار عاملا لنفسه في إبراء ذمته) ش: لأن قبضه يقوم مقام قبض الموكل، وبقبضه تبرأ ذمة الكفيل فكذا بقبض وكيله م: (فانعدم الركن) ش: أي ركن الوكالة وهو العمل للغير.
قالوا في " شروح الجامع الصغير ": نظير هذا ما ذكر في المأذون: أن المولى إذا أعتق عبده المأذون المديون ضمن قيمته، والعبد يطالب بجميع الدين كان المولى كفيلا عنه، فإن وكل الطالب المولى بقبض الدين من العبد كان باطلا، لأن المولى بقبض الدين من العبد كان عاملا لنفسه فلا يصح وكيلا عن غيره م: (ولأن قبول قوله) ش: دليل آخر، أي قبول قول الوكيل م: (ملازم للوكالة) ش: يعني الوكالة تستلزم قبول قوله: م: (لكونه أمينا ولو صححناها) ش: أي الوكالة م: (لا يقبل) ش: لما يلزم من انتقاء اللازم وهو قبول قوله م: (لكونه مبرئا لنفسه فينعدم) ش: أي التوكيل م: (بانعدام لازمه) ش: أي لازمه التوكيل، وهو قبول قول الوكيل لأن اللزوم ينتفي بانتفاء اللازم.
م: (وهو نظير) ش: أي نظير بطلان الوكالة فيما نحن فيه بطلانها في عبد مديون، وفي(9/297)
عبد مأذون مديون أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين، فلو وكله الطالب بقبض المال عن العبد كان باطلا لما بيناه.
قال: ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم أمر بتسليم الدين إليه لأنه إقرار على نفسه؛ لأن ما يقبضه خالص ماله فإن حضر الغائب فصدقه وإلا دفع إليه الغريم الدين ثانيا لأنه لم يثبت الاستيفاء حيث أنكر الوكالة والقول في ذلك قوله مع يمينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ: وهو نظير م: (عبد مأذون مديون أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته) ش: أي قيمة العبد سواء كان موسرا أو معسرا م: (للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين، فلو وكله الطالب) ش: أي طلب مال المولى الطالب م: (بقبض المال عن العبد كان باطلا) ش: أي كان التوكيل باطلا م: (لما بيناه) ش: وهو أنه يصير عاملا لنفسه لأنه مبرئ نفسه.
وفي " شرح الطحاوي ": المولى إذا أعتق عبده المديون جاز عتقه، لأن ملكه باق فيه والغرماء بالخيار إن شاءوا اتبعوا العبد بالدين وإن شاءوا اتبعوا المولى بالأقل من قيمته، ومن الدين سواء كان عالما بالدين أو لم يكن، بخلاف الجناية فإن العبد إذا جنى فأعتقه المولى إن كان عالما بالجناية صار مختارا للعذر، وإن كان غير عالم لم يلزمه شيء إلا قدر القيمة لا غير، وفي باب الدين: يلزمه القيمة وإن كان عالما، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما انقطع حقه عن الآخر.
[ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم أمر بتسليم الدين إليه) ش: وفي بعض النسخ سلم المال إليه، أي الدين، وبه قال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: لم يؤمر بالتسليم بالتصديق لا في الدين ولا في الوديعة، إلا أن يقيم الوكيل ببينته على وكالته فحينئذ يؤمر بالتسليم في الدين والوديعة وعندنا في الوديعة لم يؤمر بالتسليم بالتصديق.
م: (لأنه إقرار على نفسه) ش: بحق وهو استحقاق القبض، وليس فيه إبطال حق للغائب بل هو إقرار حق على نفسه، م: (لأن ما يقبضه خالص ماله) ش: أي خالص مال المديون، فيجوز إقراره عليه لأن الديون تقضى بأمثالها، فما أداه المديون مثل مال رب المال لا عينه، فكان تصديقه إقرارا على نفسه، ومن أقر على نفسه بشيء أمر بتسليمه إلى المقر له م: (فإن حضر الغائب فصدقه) ش: فيها م: (وإلا دفع إليه) ش: أي وإن لم يصدقه م: (الغريم الدين ثانيا، لأنه لم يثبت الاستيفاء حيث أنكر الوكالة فالقول في ذلك قوله) ش: أي القول في إنكار الوكالة قول رب الدين م: (مع يمينه) ش: وبه قال الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: له الرجوع على القابض، وبقولنا قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الأصح.(9/298)
فيفسد الأداء ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده لأن غرضه من الدفع براءة ذمته ولم تحصل فله أن ينقص قبضه، وإن كان ضاع في يده لم يرجع عليه لأنه بتصديقه اعترف أنه محق في القبض وهو مظلوم في هذا الأخذ والمظلوم لا يظلم غيره. قال: إلا أن يكون ضمنه عند الدفع لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه في زعمهما، وهذه كفالة أضيفت إلى حالة القبض فتصح بمنزلة الكفالة بما ذاب له على فلان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيفسد الأداء ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده لأن غرضه) ش: أي غرض المديون م: (من الدفع براءة ذمته ولم تحصل) ش: أي براءة الذمة م: (فله أن ينقض قبضه) ش: أي فللمديون أن ينقض قبض الوكيل م: (وإن كان ضاع في يده) ش: أي وإن كان ضاع المال في يد الوكيل م: (لم يرجع عليه) ش: أي لم يرجع المديون على الوكيل، م: (لأنه) ش: أي لأن المديون م: (بتصديقه) ش: أي بتصديق الوكيل م: (اعترف أنه) ش: أي الوكيل م: (محق في القبض وهو) ش: أي المديون م: (مظلوم في هذا الأخذ) ش: أي أخذ رب الدين ثانيا.
م: (والمظلوم) ش: أي المديون م: (لا يظلم غيره) ش: فلا يأخذ من الوكيل بعد الهلاك لأن الوكيل في زعمه محق في قبض الدين عنه وبعدها هلك المدفوع الأخذ منه ظلم، وفي " الذخيرة " و " المبسوط " المسألة على أوجه: إما أن يصدق الغريم القديم وكالة أولا فإن صدقه ولم يدفع المال أجبر على الأداء خلافا لابن أبي ليلى والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأنكر وكالته وأراد الوكيل استحلافه بعد وكالة استحلف، فإن حلف برأ، وإن نكل قضي عليه بالمال للوكيل.
وذكر الخصاف: لا يحلف المطلوب على الوكالة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما: يحلف على العلم، ولو أقر الغريم بالوكالة وأنكر الدين فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستحلف المطلوب، وعندهما: لا يستحلف.
م: (قال) ش: أي محمد والمصنف - رحمهما الله -: م: (إلا أن يكون ضمنه) ش: يجوز فيه التخفيف والتشديد م: (عند الدفع) ش: هذا استثناء من قوله -: وإن كان ضاع من يده لم يرجع عليه إلا أن يضمن المطلوب الوكيل عند دفع المال إليه بأن يقول أصدقك في الوكالة ولكن لا آمن أن يجحد الطالب إذا حضر فاضمن لي ما يقبضه الطالب مني ثانيا وهذا ضمان صحيح م: (لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه) ش: أي على رب الدين م: (في زعمهما) ش: أي في زعم الوكيل والغريم م: (وهذه كفالة أضيفت إلى حالة القبض) ش: أي قبض رب الدين ثانيا، فإذا كان الوكيل م: (فتصح) ش: أي الكفالة م: (بمنزلة الكفالة بما ذاب) ش: أي بما ثبت ووجب م: (له على فلان) ش: معناه بما يذوب لفلان على فلان، وهذا ماض أريد به المستقبل وقد مر في الكفالة.(9/299)
ولو كان الغريم لم يصدقه على الوكالة ودفعه إليه على ادعائه فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل؛ لأنه لم يصدقه بالوكالة وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه وكذا إذا دفعه إليه على تكذيبه إياه في الوكالة. وهذا أظهر لما قلنا وفي الوجوه كلها ليس له أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب؛ لأن المؤدى صار حقا للغائب إما ظاهرا أو محتملا، فصار كما إذا دفعه إلى فضولي على رجاء الإجازة لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة ولأن من باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه ومن قال: إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع لم يؤمر بالتسليم إليه لأنه أقر له بمال الغير بخلاف الدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كان الغريم لم يصدقه على الوكالة) ش: ولم يكذبه أيضا بل سكت م: (ودفعه إليه على ادعائه) ش: أي على دعوى التوكيل م: (فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل لأنه لم يصدقه على الوكالة، وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة، فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه، وكذا إذا دفعه إليه على تكذيبه إياه في الوكالة، وهذا أظهر) ش: أي جواز الرجوع في صورة التكذيب أظهر منه في الصورتين الأوليين، وهو التصديق مع التضمين والسكوت؛ لأنه إذا كذبه صار الوكيل في حقه بمنزلة الغاصب، وللمغصوب منه حق الرجوع على الغاصب م: (لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: دفع إليه على رجاء الإجازة، فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه.
م: (وفي الوجوه كلها) ش: وهي الأربعة المذكورة، وهي الدفع مع التصديق، والتضمين، والدفع بلا تصديق ولا تكذيب، والدفع مع التكذيب، م: (ليس له) ش: أي للغريم م: (أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب؛ لأن المؤدى صار حقا للغائب؛ إما ظاهرا) ش: أي في حالة التصادق، أو حالة ظهور العدالة في الوكيل لأن الوكيل إذا كان عدلا كان صادقا ظاهرا م: (أو محتملا) ش: أي في حالة كون الوكيل فاسقا أو مستورا لاحتمال الصدق.
م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كما إذا دفعه) ش: أي الدين الذي عليه م: (إلى فضولي) ش: أي لأنه تعلق في الوسط م: (رجاء الإجازة) ش: من المالك م: (لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة ولأن من باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه) ش: لأن سعي الإنسان في نقض ما تم من جهته مردود.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن قال: إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع لم يؤمر بالتسليم إليه لأنه أقر له بمال الغير) ش: وهو لا يملك ذلك م: (بخلاف الدين) ش: أي بخلاف ما إذا صدق الوكيل بقبض الدين، حيث يؤمر بالتسليم إليه لأنه إقرار في خالص ماله على ما مر أن الديون تقضى بأمثالها، فكان إقراره إقرارا على نفسه بحق المطالبة والقبض.
ثم إذا أخذ الوكيل الوديعة في الغائب فصدقه في الوكالة برئا جميعا، وإن أنكر الوكالة(9/300)
ومن ادعى أنه مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له ولا وارث له غيره وصدقه المودع أمر بالدفع إليه لأنه لا يبقى ماله بعد موته فقد اتفقا على أنه مال الوارث، ولو ادعى أنه اشترى الوديعة من صاحبها فصدقه المودع لم يؤمر بالدفع إليه؛ لأنه ما دام حيا كان إقراره بملك الغير لأنه من أهله فلا يصدقان في دعوى البيع عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحلف على ذلك فله أن يضمن المودع، فإذا ضمنه فإن كانت العين قائمة في يد الوكيل رجع بها المودع على الوكيل فإن ضاعت في يده فهل للمودع أن يرجع عليه؟ فهو على وجوه: أحدها أن يدفعها إليه المودع مع التصديق بلا تضمين فلا رجوع فيه.
والثاني: أن يدفع بالتصديق، وشرط الضمان فله الرجوع، والثالث: أن يدفع مع التكذيب، فإذا ضمنه الغائب فله الرجوع على الوكيل، والرابع: أن يدفع بلا تصديق ولا تكذيب، فإذا ضمنه الغائب فله الرجوع أيضا.
م: (ومن ادعى) ش: ذكر هذا تعريضا على مسألة القدوري، أي فلو ادعى من قال: إني وكيل م: (أنه) ش: أي أن فلانا م: (مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له) ش: أي لابن الميت م: (ولا وارث له غيره وصدقه المودع أمر بالدفع إليه) ش: أي إلى الذي قال: إنه مات أبوه م: (لأنه لا يبقى ماله بعد موته) ش: ماله بالنصب، وفي " النهاية ": هكذا معربا بإعراب شيخي على تأويل الحال، كما في كلمة فاه إلى في، أي مشافهة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يبقى ماله بالنصب، ثم قال مثل ما قال صاحب " النهاية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أرى أنه ضعيف، لأن المال مقيد للعامل، فكلمته يجوز أن يكون مقيدا بالمشافهة، أي كلمته في حالة المشافهة، والظاهر في إعرابه الرفع على أنه فاعل لا يبقى، أي لأن المودع لا يبقى ماله بعد موته لانتقاله إلى الوارث.
والصواب الرفع على ما قاله الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد فاته شيء آخر، وهو أن من شرط الحال أن يكون من المشتقات، والمال ليس منها إلا أنه يجوز بالتأويل. ولو قال صاحب " النهاية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن تبعه في أنه نصب على الحال أنه حال على تأويل متمولا أي لا يبقى الميت بعد موته متمولا لكان أوجه، م: (فقد اتفقا) ش: أي الذي ادعى الوكالة والمودع م: (على أنه) ش: أي أن الذي قال إنه وديعة م: (مال الوارث) ش: فلا بد من الدفع إليه م: (ولو ادعى أنه اشترى الوديعة من صاحبها وصدقه المودع) ش: فيما قاله م: (لم يؤمر بالدفع إليه لأنه) ش: أي لأن المودع بكسر الدال م: (ما دام حيا كان إقراره بملك الغير لأنه من أهله) ش: أي من أهل الملك م: (فلا يصدقان في دعوى البيع عليه) ش: أي على رب المال.(9/301)
قال فإن وكل وكيلا بقبض ماله فادعى الغريم أن صاحب المال قد استوفاه فإنه يدفع المال إليه؛ لأن الوكالة قد ثبتت بالتصادق والاستيفاء لم يثبت بمجرد دعواه فلا يؤخر الحق. قال: ويتبع رب المال فيستحلفه رعاية لجانبه، ولا يستحلف الوكيل لأنه نائب،
قال: وإن وكله بعيب في جارية فادعى البائع رضا المشتري لم يرد عليه حتى يحلف المشتري بخلاف مسألة الدين، لأن التدارك ممكن هنالك باسترداد ما قبضه الوكيل إذا ظهر الخطأ عند نكوله، وهاهنا غير ممكن لأن القضاء بالفسخ ماض على الصحة، وإن ظهر الخطأ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما هو مذهبه، ولا يستحلف المشتري عنده بعد ذلك لأنه لا يفيد، وأما عندهما قالوا: يجب أن يتحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (فإن وكل وكيلا بقبض ماله فادعى الغريم أن صاحب المال قد استوفاه فإنه يدفع إليه المال، لأن الوكالة قد ثبتت بالتصادق والاستيفاء لم يثبت بمجرد دعواه) ش: أي دعوى الغريم م: (فلا يؤخر الحق) ش: إلى تحليف رب الدين م: (قال: ويتبع) ش: أي الغريم م: (رب المال فيستحلفه رعاية لجانبه) ش: أي لجانب الغريم، وهو المديون م: (ولا يستحلف الوكيل لأنه نائب) ش: لأن النيابة لا تجري فيها الأيمان.
[وكله بعيب في جارية فادعى البائع رضا المشتري]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في الجامع الصغير " م: وإن وكله بعيب) ش: أي بسبب عيب م: (في جارية فادعى البائع رضا المشتري لم يرد عليه حتى يحلف المشتري بخلاف مسألة الدين) ش: التي مضت حيث يؤمر بدفع الدين بدون تحليف الوكيل م: (لأن التدارك ممكن هنالك) ش: أي في مسألة الدين م: (باسترداد ما قبضه الوكيل إذا ظهر الخطأ عند نكوله) ش: أي عند نكول رب الدين عن اليمين على أنه لم يستوف الدين.
م: (وهاهنا) ش: أي وفي المسألة الثانية م: (التدارك غير ممكن لأن القضاء بالفسخ ماض على الصحة وإن ظهر الخطأ) ش: لأن قضاء القاضي بالفسخ والعقد بل بالشاهد الباطل ينفذ ظاهرا وباطنا م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما هو مذهبه) ش: والمراد بالنفاذ ظاهرا: أن يثبت فيما بيننا، ومن نفاذه باطنا أن يثبت فيما بينه وبين الله تعالى.
م: (ولا يستحلف المشتري بعد ذلك) ش: أي بعد نكول الموكل م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأنه) ش: أي لأن الاستحلاف م: (لا يفيد) ش: يعني متى نفذ قضاء القاضي ظاهرا وباطنا لا يكون للبائع أن يستحلف المشتري إذا حضر على الرضا؛ لأنه لا فائدة في استحلافه؛ لأن فائدته أن ينكل فيظهر أنه كان راضيا بالعيب وأن الحق الفسخ لم يكن ثابتا للمشتري وأن القاضي أخطأ في قضائه بعد الفسخ، ولكن عند ظهور الخطأ في القضاء وبالفسخ لا يبطل قضاؤه بالفسخ عنده.
م: (وأما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (قالوا يجب أن يتحد(9/302)
الجواب على هذا في الفصلين، ولا يؤخر لأن التدارك ممكن عندهما لبطلان القضاء، وقيل: الأصح عند أبي يوسف -رحمه الله -أن لا يؤخر في الفصلين لأنه يعتبر النظر حتى يستحلف المشتري لو كان حاضرا من غير دعوى البائع فينتظر للنظر، قال ومن دفع إلى رجل عشرة دراهم لينفقها على أهله فأنفق عليهم عشرة من عنده فالعشرة بالعشرة لأن الوكيل بالإنفاق وكيل بالشراء والحكم فيه ما ذكرناه وقد قررناه فهذا كذلك، وقيل: هذا استحسان، وفي القياس ليس له ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجواب على هذا في الفصلين) ش: يعني في فصل الدين وفصل الرد بالعيب م: (ولا يؤخره) ش: أي ولا يؤخر القضاء بالرد م: (لأن التدارك ممكن عندهما لبطلان القضاء) ش: لأن قضاء القاضي في مثل ذلك نافذ ظاهرا لا باطنا، فإذا ظهر خطأ القاضي عند نكول المشتري ردت الجارية على المشتري فلا يؤخر إلى التحليف.
م: (وقيل: الأصح عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يؤخر) ش: أي الرد م: (في الفصلين) ش: أي فصل الدين وفصل العيب، م: (لأنه) ش: أي لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبر النظر) ش: للبائع م: (حتى يستحلف المشتري لو كان حاضرا من غير دعوى البائع) ش: قوله " يستحلف بالرفع " لأن حتى ابتدائية يعني يستحلف المشتري نظرا للبائع، لأن من مذهب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي لا يرد المبيع على البائع إذا كان المشتري حاضرا أو أراد الرد ما لم يستحلفه القاضي بالله ما رضيت بهذا البائع وإن لم يدع العيب، فإذا كان المشتري لا يرد عليه ما لم يستحلف صيانة لقضائه عن البطلان، ونظرا للبائع والمديون فصار عنه روايتان: في رواية مثل قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي رواية: يؤخر فيهما اعتبارا للنظر م: (فينتظر للنظر) ش: إذا كان المشتري غائبا.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن دفع إلى رجل عشرة دراهم لينفقها على أهله فأنفق عليهم عشرة من عنده فالعشرة بالعشرة) ش: أي العشرة التي أنفقها من ماله بمقابلة العشرة التي أخذها من الوكيل م: (لأن الوكيل بالإنفاق وكيل بالشراء والحكم فيه ما ذكرناه) ش: أي الحكم في الوكيل بالشراء أن يرجع على الموكل بما أداه، م: (وقد قررناه) ش: أي في باب الحوالة بالبيع والشراء عند قوله: " وإذا دفع الوكيل بالشراء من ماله وقبض المبيع فله أن يرجع به على الموكل ".
م: (فهذا كذلك) ش: أي ما نحن فيه من التوكيل بالإنفاق كذلك، لأن الوكيل بالشراء ربما يحتاج إليه الأهل قد يضطره إلى شراء شيء يصلح لنفقتهم، ولم يكن مال الوكالة معه في تلك الحالة، لأن لا يمكن أن يستصحب دراهم الموكل في الأحوال كلها فيحتاج أن يؤدي ثمنه من مال نفسه، فكان في التوكيل بذلك يجوز الاستبدال م: (وقيل هذا استحسان وفي القياس ليس له ذلك(9/303)
ويصير متبرعاً، وقيل: القياس والاستحسان في قضاء الدين لأنه ليس بشراء، فأما الإنفاق فيتضمن الشراء فلا يدخلانه والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويصير متبرعا) ش: فيما أنفق من ماله ويرد الدراهم المأخوذة من الموكل عليه، وإن استهلكها ضمن، لأن الدراهم تتعين في الوكالات حتى لو هلك قبل الإنفاق بطلت الوكالة، فإذا أنفق من مال نفسه فقد أنفق بغير أمره فيكون متبرعا.
م: (وقيل القياس والاستحسان في قضاء الدين) ش: هو أن يدفع المديون إلى رجل ألفا ويوكله بقضاء دينه بها فيدفع الوكيل غير ذلك من مال نفسه قضاء عنه، فإنه في القياس متبرع حتى إذا أراد المأمور أن يحبس الألف دفعت إليه لا يكون له ذلك، وفي الاستحسان ذلك وليس بمتبرع على ما نذكره الآن، قوله م: (لأنه ليس بشراء) ش: هو دليل القياس لأنه لما لم يكن قضاء الدين شراء لم يكن الأمر راضيا بثبوت الدين في ذمته للوكيل، فلو لم تجعله متبرعا لألزمناه دينا لم يرض به فجعلناه متبرعا قياسا، م: (وأما الإنفاق فيتضمن الشراء فلا يدخلانه والله أعلم بالصواب) ش: إلى القياس والاستحسان لا يدخلان فيما ذكرنا في باب الشراء، فلا يكون متبرعا قياسا واستحسانا.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما مسألة الإنفاق رضا الآمر بثبوت الدين في ذمة الوكيل لأنه أمره بالإنفاق، والأمر بالإنفاق أمر بشراء الطعام، والشراء لا يتعلق بعين تلك الدراهم، بل يتعلق بمثلها في الذمة، ثم يثبت به حق الرجوع على الأمر فكان راضيا بثبوت الدين فلم يجعل متبرعا قياسا أيضا.(9/304)
باب عزل الوكيل قال: وللموكل أن يعزل الوكيل عن الوكالة؛ لأن الوكالة حقه، فله أن يبطله إلا إذا تعلق به حق الغير بأن كان وكيلا بالخصومة بطلب من جهة الطالب لما فيه من إبطال حق الغير وصار كالوكالة التي تضمنها عقد الرهن. قال: فإن لم يبلغه العزل فهو على وكالته وتصرفه جائز حتى يعلم؛ لأن في العزل إضرارا به من حيث إبطال ولايته أو من حيث رجوع الحقوق إليه فينقد من مال الموكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب عزل الوكيل]
[حكم عزل الوكيل]
م: (باب عزل الوكيل)
ش: أي هذا باب في بيان حكم عزل الوكيل وأخر باب العزل لأنه بعد الإثبات، م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وللموكل أن يعزل الوكيل عن الوكالة لأن الوكالة حقه، فله أن يبطله إلا إذا تعلق به حق الغير بأن كان وكيلا بالخصومة بطلب من جهة الطالب) ش: أي بالقياس من جهة المدعي م: (لما فيه من إبطال حق الغير) ش:، وقبل بهذين القيدين لأنه لو وكل المدعى عليه لا يطلب المدعي لملك المدعى عليه عزله، وكذا إذا كان الوكيل من جانب الطالب بملك الطالب عزله سواء كان ذلك بطلب المدعى عليه أو لا.
وعدم صحة العزل إذا كان يطلب من جهة الطالب فيما إذا كان العزل عند غيبة الطالب وبحضوره يصح عزله، سواء رضي به الطالب أو لا، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ثبت بالخصومة ما تعلق به حق الغير لا يجوز عزله في الغيبة والحضور.
وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يجوز عزل الوكيل بالخصومة تعلق به حق الغير أم لا، لأن الوكالة عقد جائز غير لازم، م: (وصار) ش: أي الوكيل من جهة الطالب إذا كان يطلب من جهة الطالب م: (كالوكالة التي تضمنها عقد الرهن) ش: بأن وضع الرهن على يدي عدل وشرط في الرهن أن يكون العدل مسلطا على البيع، ثم أراد الراهن أن يعزل العدل عن البيع لا يصح وإن كان بحضرة المرتهن ما لم يرض به، بخلاف عزل الموكل وكيله بالخصومة فإنه يصح إذا كان لم يحضره الطالب، رضي به أو لا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن لم يبلغه العزل) ش: أي فإن لم يبلغ الوكيل عزل الموكل إياه م: (فهو على وكالته وتصرفه جائز حتى يعلم) ش: أي الوكيل عزله، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال الشافعي في الأصح: ينعزل، وبه قال مالك في رواية، وأحمد في رواية - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (لأن في العزل إضرار به) ش: أي بالوكيل م: (من حيث إبطال ولايته) ش: من غير علمه م: (أو من حيث) ش: أي أو يكون الإضرار به من حيث م: (رجوع الحقوق إليه) ش: أي إلى الوكيل وبين ذلك بقوله م: (فينقد من مال الموكل) ش: إذا كان وكيلا بالشراء.(9/305)
ويسلم المبيع فيضمنه فيتضرر به ويستوي الوكيل بالنكاح وغيره للوجه الأول، وقد ذكرنا اشتراط العدد أو العدالة في المخبر فلا نعيده
قال: وتبطل الوكالة بموت الموكل وجنونه جنونا مطبقا، ولحاقه بدار الحرب مرتدا لأن التوكيل تصرف غير لازم، فيكون لدوامه حكم ابتدائه، فلا بد من قيام الآمر وقد بطل بهذه العوارض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويسلم المبيع) ش: إلى المشتري إذا كان وكيلا بالبيع، ثم إذا نفذ أو سلم م: (فيضمنه) ش: لأن فعله بعد العزل م: (فيتضرر به) ش:، فلا يجوز لأن الضرر مدفوع شرعا، م: (ويستوي الوكيل بالنكاح وغيره) ش: أي وغير النكاح مثل البيع والشراء ونحو ذلك م: (للوجه الأول) ش: وهو إبطال الولاية يعني أن العزل لا يصح قبل علم الوكيل أصلا، والوكيل بالنكاح وغيره سواء نظرا إلى الوجه الذي في الإضرار بالوكيل من حيث إبطال ولايته.
وكذا عزل الوكيل بالطلاق لا يصح من غير علمه، ذكره في " مختصر الكافي " م: (وقد ذكرنا اشتراط العدد أو العدالة في المخبر فلا نعيده) ش: ذكره في فصل القضاء بالموارث من " أدب القاضي " بقوله: ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والوكالة تثبت بخبر الواحد حرا كان أو عبدا، عادلا كان أو فاسقا، رجلا كان أو امرأة، صبيا كان أو بالغا، وكذلك العدل عندهما.
وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يثبت العزل إلا بخبر الواحد العدل، أو بخبر الاثنين إذا لم يكونا عدلين والوكيل، لو عزل نفسه بغير علم الموكل لا ينعزل ولا يخرج عن الوكالة، وعند الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: ينعزل، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان في عزله ضرر على الموكل لم ينعزل بدون علمه، وفي " الذخيرة ": بإنكار الموكل الوكالة لا ينعزل.
[مبطلات الوكالة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وتبطل الوكالة بموت الموكل وجنونه جنونا مطبقا ولحاقه بدار الحرب) ش: حال كونه م: (مرتدا) ش:، ولا خلاف في هذه الأشياء م: (لأن التوكيل تصرف غير لازم) ش: لأنه يمكنه أن يعزله م: (فيكون لدوام حكم ابتدائه) ش: لأن كل تصرف غير لازم لدوامه حكم ابتدائه، لأن المتصرف بسبيل من نقضه في كل لحظة فصار كأنه يتجدد عقد الوكالة في كل ساعة، وكان على جزء منه بمنزلة ابتداء العقد م: (فلا بد من قيام الآمر) ش: أي أمر الموكل بالتوكيل في كل ساعة.
م: (وقد بطل) ش: أي أمر التوكيل م: (بهذه العوارض) ش: وهي الموت والجنون، والارتداد لا يشكل بالبيع الخيار، فإنه غير لازم، ومع ذلك لا يبطل بالموت بل يتقرر لأن الأصل في البيع اللزوم وعدم اللزوم بسبب العوارض، وهو الخيار، فإذا مات تقرر الأصل وبطل العارض لعدم(9/306)
وشرط أن يكون الجنون مطبقا لأن قليله بمنزلة الإغماء وحد المطبق شهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بما يسقط به الصوم، وعنه: أكثر من يوم وليلة، لأنه تسقط به الصلوات الخمس، فصار كالميت، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حول كامل لأنه يسقط جميع العبادات فقدر به احتياطا. قالوا: الحكم المذكور في اللحاق قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده فكذا وكالته فإن أسلم نفذت، وإن قتل أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة، فأما عندهما تصرفاته نافذة فلا تبطل وكالته إلا أن يموت أو يقتل على ردته أو يحكم بلحاقه وقد مر في السير، وإن كان الموكل امرأة فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب لأن ردتها لا تؤثر في عقودها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بقاء الخيار بموته، م: (وشرط) ش: أي القدوري: م: (أن يكون الجنون مطبقا) ش: بكسر الباء أي دائما، ويليه الحمى المطبقة، أي الدائمة، وقيل: مطبقا أي مستوعبا، من طبق الغيم السماء إذا استوعبها.
م: (لأن قليله بمنزلة الإغماء وحد المطبق شهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بما يسقط به الصوم) ش: أي صوم شهر رمضان، روى هذه الرواية أبو بكر الرازي عن أبي حنيفة - رحمهما الله - م: (وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أكثر من يوم وليلة؛ لأنه تسقط به الصلوات الخمس فصار كالميت، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حول كامل) ش: أي الجنون المطبق يقدر بحول كامل، م: (لأنه يسقط به جميع العبادات فقدر به احتياطا) .
ش: وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " التقريب ": قال في " الأصل ": إذا ذهب عقل الموكل زمانا خرج الوكيل من الوكالة، ولو ذهب عقله ساعة والوكيل على وكالته، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا ينعزل حتى يجن أكثر السنة، وروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يوم وليلة، ثم رجع فقال: شهر، ثم رجع فقال: سنة، وذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الجنون المطبق عند أبي يوسف شهر م: (قالوا) ش: أي قال المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (الحكم المذكور في اللحاق) ش: في " مختصر القدوري " م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فكذا وكالته) ش: موقوفة م: (فإن أسلم نفذت، وإن قتل أو ألحق بدار الحرب بطلت الوكالة، فأما عندهما تصرفاته نافذة فلا تبطل وكالته إلا أن يموت أو يقتل على ردته أو يحكم بلحاقه، وقد مر في السير) ش: أي يصرف المرتد موقوفا أو نافذا في " السير " في باب أحكام المرتدين، عند قوله -: " وما باعه أو اشتراه أو وهبه أو تصرف فيه، من أمواله في حال ردته فهو موقوف".
م: (وإن كان الموكل امرأة فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب لأن ردتها لا تؤثر في عقودها) ش: لأن المرتدة لا تقتل بالحرب ولم يوجد؛ لأنه ليس لها بينة صالحة للحراب(9/307)
على ما عرف. قال: وإذا وكل المكاتب ثم عجز أو المأذون له ثم حجر عليه، أو الشريكان فافترقا فهذه الوجوه تبطل الوكالة على الوكيل، علم أو لم يعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (على ما عرف) ش: في موضعه في كتب السير.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا وكل المكاتب ثم عجز أو المأذون له) ش: أي ووكل العبد المأذون له م: (ثم حجر عليه) ش: أي على العبد المأذون له م: (أو الشريكان فافترقا) ش: يعني أحد شريكي العنان، أو المفاوضة إذا وكلا وكيلا ثم افترقا م: (فهذه الوجوه) ش: أي عجز المكاتب أو الحجر على المأذون له وافتراق الشريكين م: (تبطل الوكالة على التوكيل علم أو لم يعلم) ش: أي علم الوكيل بذلك أو لم يعلم.
وقال أبو النصر - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في شرحه ": هذا الذي ذكره القدوري جميعه جائز على الأصل إلا في الشريكين، لأن ذلك خلاف الرواية، لأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأصل ": وإذا وكل أحد المتفاوضين وكلا بشيء ثم افترقا واقتسما أو شهدا أنه لا شركة بينهما، ثم إن الوكيل أمضى الذي كان وكل به وهو يعلم أو لا يعلم فإنه يجوز ذلك كله عليهما جميعا، وكذلك لو كانا وكلاه جميعا؛ لأن وكالة أحدهما جائزة على الآخر وليس تفرقهما ينقض الوكالة.
وكذلك قال الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الكافي " للحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليس تفرقهما نقضا للوكالة لأن أثر النقض لا يظهر في توابع عقود بأثرها أحدهما قبل ذلك.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والعجب من صاحب " الهداية " أنه أبهم الأمر ولم يتعرض لكلام القدوري، والغالب على ظني أن القدوري أراد بذلك الوكالة الثابتة في ضمن عقد الشركة لا الوكالة الابتدائية القصدية، لأن المتضمن وهو عقد الشركة إذا بطل بطل ما في ضمنه لا محالة ولا يلزم أن يكون قوله مخالفا للرواية لا محالة.. انتهى.
ورد عليه الأكمل: بأن هذا على تقدير صحته يختص بمال الشركة لا غير، على أنه مخالف لعبارة الكاتب، انتهى.
وفي " المبسوط ": هذا يعني قوله: فهذه الوجوه تبطل الوكالة إذا كانت الوكالة بالبيع والشراء، أما لو كان التوكيل بقضاء الدين والتقاضي لا يبطل لعجز المكاتب وحجر المأذون، لأن في كل عمل وليه العبد لا تسقط المطالبة عنه بالحجر بل يبقى مطالبا بإيفائه، وبهذا ليس لولي العبد أن يتقاضى دينه إن كان عليه دين أو لا، لأنه إن كان عليه دين فكسبه حق عن مائة والمولى فيه كالأجانب، وإن لم يكن عليه دين فوجب المال بعقد العبد، ولا يكون هو في هذا دون الوكيل، وما وجد من الثمن بعقد الوكيل لا بملك الوكيل المطالبة به فهاهنا أولى.(9/308)
لما ذكرنا أن بقاء الوكالة يعتمد قيام الآمر وقد بطل بالحجر والعجز والافتراق، ولا فرق بين العلم وعدمه لأن هذا عزل حكمي فلا يتوقف على العلم كالوكيل بالبيع إذا باعه الموكل. قال: وإذ مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا بطلت الوكالة لأنه لا يصح أمره بعد جنونه وموته وإن لحق بدار الحرب مرتدا لم يجز له التصرف إلا أن يعود مسلما، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فأما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تعود الوكالة، لمحمد: أن الوكالة إطلاق؛ لأنه رفع المانع أما الوكيل يتصرف بمعان قائمة به، وإنما عجز بعارض اللحاق لتباين الدارين، فإذا زال العجز والإطلاق باق عاد وكيلا، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه إثبات ولاية التنفيذ، لأن ولاية أصل التصرف بأهليته وولاية التنفيذ بالملك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لما ذكرنا أن بقاء الوكالة يعتمد قيام الآمر وقد بطل) ش: أي قيام الأمر م: (بالحجر) ش: في المأذون له م: (والعجز) ش: في المكاتب م: (والافتراق) ش: في الشريكين، م: (ولا فرق بين العلم) ش: أي علم الوكيل م: (وعدمه لأن هذا عزل حكمي) ش: أي عزل من طريق الحكم، م: (فلا يتوقف على العلم) ش: كالموت م: (كالوكيل بالبيع إذا باعه) ش: أي إذا باع المبيع الموكل حيث يصير الوكيل معزولا حكما لفوات محل تصرف الوكيل.
م: (قال: وإذا مات الوكيل أو جن) ش: أي الوكيل م: (جنونا مطبقا بطلت الوكالة لأنه لا يصح أمره بعد جنونه وموته) ش: ولو جن ساعة ثم أفاق فهو على وكالته وجعل هذا كالنوم، كذا في " التتمة "، م: (وإن لحق) ش: أي الوكيل م: (بدار الحرب) ش: حال كونه م: (مرتدا لم يجز له التصرف إلا أن يعود) ش: من دار الحرب إلى دار الإسلام حال كونه م: (مسلما) ش:، وقال شيخ الإسلام في " مبسوطه " هذا إذا حكم القاضي بلحاقه، وإليه أشار في " مبسوط شمس الأئمة " لأنه لما قضى بلحاقه بعد موته. أو جعله من أهل دار الحرب فتبطل الوكالة، أما قبل القضاء باللحاق لا يخرج عن الوكالة باتفاقهم.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا) ش: أي جواز تصرف الوكيل عند عوده مسلما م: (عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فأما عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تعود الوكالة؛ ولمحمد: أن الوكالة إطلاق لأنه رفع المانع) ش: ومعناه أن الوكيل كان ممنوعا شرعا أن يتصرف في كل شيء لموكله فإذا وكله رفع المانع م: (أما الوكيل يتصرف بمعان قائمة به) ش: أي بالوكيل من الحرية والعقل والبلوغ.
والقصد في ذلك التصرف، والكل قائم، وصحة التوكيل لحق الموكل وحقه قائم أيضا بعد لحاقه، م: (وإنما عجز بعارض اللحاق لتباين الدارين، فإذا زال العجز والإطلاق باق عاد وكيلا، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي التوكيل م: (إثبات ولاية التنفيذ؛ لأن ولاية أصل التصرف بأهليته وولاية التنفيذ بالملك) ش: أي ولاية التنفيذ ملصق بالملك؛ لأن التمليك بلا ملك غير متحقق،(9/309)
وباللحاق لحق بالأموات، وبطلت الولاية، فلا تعود كملكه في أم الولد والمدبر، ولو عاد الموكل مسلما وقد لحق بدار الحرب مرتدا لا تعود الوكالة في الظاهر، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها تعود كما قال في الوكيل، والفرق له على الظاهر أن مبنى الوكالة في حق الموكل على الملك وقد زال، وفي حق الوكيل على معنى قائم به ولم يزل باللحاق.
قال: ومن وكل آخر بشيء ثم تصرف بنفسه فيما وكل به بطلت الوكالة وهذا اللفظ ينتظم وجوها مثل أن يوكله بإعتاق عبده أو بكتابته، فأعتقه أو كاتبه الموكل بنفسه، أو يوكله بتزويج امرأة أو بشراء شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فكان الوكيل مالكا للتنفيذ بالوكالة.
م: (وباللحاق) ش: أي بدار الحرب م: (لحق بالأموات وبطلت الولاية، فلا تعود كملكه في أم الولد والمدبر) ش: يعني يعتق أم ولده ومدبره بالقضاء بلحاقه، وبعوده مسلما لا يعود ملكه، فيهما، ولا يرتفع العقد فكذا الوكالة التي بطلت لا تعود، م: (ولو عاد الموكل مسلما) ش: أي عاد بعد القضاء بلحاقه وبه صرح في " المبسوط " م: (وقد لحق) ش: أي والحال أنه قد لحق م: (بدار الحرب مرتدا لا تعود الوكالة في الظاهر) ش: أي في ظاهر الرواية.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها) ش: أي أن الوكالة م: (تعود كما قال في الوكيل) ش: أي كما قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الوكيل إذا عاد مسلما: تعود وكالته لأن الموكل إذا عاد مسلما عاد على ماله على قديم ملكه، وقد تعلقت الوكالة بقديم ملكه، فيعود الوكيل على وكالته كما لو وكل ببيع عبده ثم باعه الموكل بنفسه ورد عليه بعيب بقضاء القاضي عاد الوكيل على وكالته، م: (والفرق له على الظاهر) ش: أي الفرق لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ظاهر الرواية م: (أن مبنى الوكالة في حق الموكل على الملك وقد زال) ش: فبطلت الوكالة على البيان م: (وفي حق الوكيل على معنى قائم به) ش: أي بالوكيل م: (ولم يزل) ش: بضم الزاي، أي المعنى القائم به لم يزل م: (باللحاق) ش: بدار الحرب، ولكنه عجز عن التصرف بعارض على شرف الزوال، فإذا زال العارض صار كأن لم يكن.
[تصرف بنفسه فيما وكل به الوكيل]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن وكل رجلا بشيء) ش: وفي بعض النسخ: ومن وكل آخر بشيء م: (ثم تصرف بنفسه فيما وكل به) ش: أي الذي وكل به، بأن باعه أو وهبه لأحد أو تصدق به م: (بطلت الوكالة) ش: انتهى كلام القدوري، وقال المصنف: م: (وهذا اللفظ) ش: من كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي هذا اللفظ الذي قاله القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ينتظم وجوها) ش: أي يشمل وجوها كثيرة من المسائل، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (مثل أن يوكله) ش: أي أو يوكل أحدا م: (بإعتاق عبده أو بكتابته) ش: أي: أو أن يكاتب عبده م: (فأعتقه) ش: أي الموكل أعتق عبده بنفسه م: (أو كاتبه الموكل بنفسه) ش: بطلت الوكالة م: (أو يوكله) ش: أي أو يوكل أحدا م: (بتزويج امرأة) ش: أي بأن يزوجه امرأة م: (أو بشراء شيء) ش: أي أو(9/310)
ففعله بنفسه، أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا أو واحدة، وانقضت عدتها، أو بالخلع فخالعها بنفسه لأنه لما تصرف بنفسه تعذر على الوكيل التصرف فبطلت الوكالة، حتى لو تزوجها بنفسه وأبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها منه؛ لأن الحاجة قد انقضت، بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل وأبانها له أن يزوج الموكل لبقاء الحاجة، وكذا لو وكله ببيع عبده فباعه بنفسه، فلو رد عليه بعيب بقضاء قاض، فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى لأن بيعه بنفسه منع له من التصرف فصار كالعزل، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوكله بشراء شيء م: (ففعله بنفسه) ش: أي فعله الموكل بنفسه بأن يزوجها بنفسه أو اشتراه بنفسه كان ذلك عزلا، حتى لو أباناها بعد الزواج لم يجز للوكيل أن يزوجها إياه، م: (أو يوكله) ش: أي يوكل أحدا م: (بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا) ش: أي ثلاث طلقات م: (أو واحدة) ش: أي أو طلقها واحدة م: (وانقضت عدتها) ش: فليس للوكيل أن يطلقها بعد ذلك، لا في العدة ولا بعدها وإنما قيد بقوله " وانقضت عدتها " لأنه إذا طلقها بنفسه واحدة ولم تنقض عدتها، كان للوكيل أن يطلقها ما دامت في العدة.
م: (أو بالخلع) ش: أي أو يوكله بأن يخالع امرأته م: (فخالعها) ش: أي الزوج م: (بنفسه لأنه) ش: أي لأن الموكل م: (لما تصرف بنفسه) ش: أي لما فعل الذي وكله فيه بنفسه م: (تعذر على الوكيل التصرف فبطلت الوكالة) ش: ثم بين نتيجة ذلك بقوله م: (حتى لو تزوجها بنفسه) ش: أي لو تزوج المرأة التي وكل الرجل بأن يزوجها إياه م: (وأبانها) ش: أي بعد التزوج بنفسه بالطلاق م: (لم يكن للوكيل أن يزوجها منه) ش: أي أن يزوج المرأة البائنة من الوكيل م: (لأن الحاجة قد انقضت) ش: أي لأن حاجته كانت في تزوجها وقد حصلت م: (بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل) ش: أي المرأة التي وكل بتزويجها إياه وبعد أن تزوجها م: (وأبانها له) ش: أي للوكيل م: (أن يزوج الموكل) ش: الذي كان وكل لرجل بتزويجها إياه، حيث يجوز تزويجه إياها منه م: (لبقاء الحاجة) ش: أي حاجة الموكل فيها.
م: (وكذا لو وكله ببيع عبده فباع بنفسه) ش: أي فباعه الموكل بطلت الوكالة، م: (فلو رد عليه) ش: أي فلو رده العبد م: (بعيب) ش: ظهر فيه على الموكل م: (بقضاء قاض) ش: قيد به لأنه لو رده بالتراضي بغير قضاء فليس للوكيل أن يبيعه من أخذه بالإجماع، م: (فعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه ليس للوكيل أن يبيعه) ش: أي هذا العبد م: (مرة أخرى لأن بيعه بنفسه) ش:، أي لأن بيع الموكل بنفسه العبد م: (منع له) ش: أي الوكيل م: (من التصرف فصار كالعزل) ش: صريحا.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية لأنه) ش: أي لأن عقد(9/311)
إطلاق والعجز قد زال، بخلاف ما إذا وكله بالهبة فوهب بنفسه ثم رجع لم يكن للوكيل أن يهب ثانيا لأنه مختار في الرجوع فكان دليل عدم الحاجة، أما الرد بقضاء بغير اختياره فلم يكن دليل زوال الحاجة فإذا عاد إليه قديم ملكه كان له أن يبيعه والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوكالة أو لأن التوكل م: (إطلاق) ش: أي إطلاق للتصرف، ولم يوجد العزل صريحا وكان ممنوعا لعارض لعجزه عن ذلك م: (والعجز قد زال) ش: فلا يمنع الوكيل عن بيعه مرة أخرى م: (بخلاف ما إذا وكله) ش: وكل واحدا م: (بالهبة) ش: بأن يهب عبدا من فلان أو غيره من نحو ذلك م: (فوهب بنفسه) ش:، أي فوهب الموكل بنفسه م: (ثم رجع) ش: عن هبته م: (لم يكن للوكيل أن يهب ثانيا) ش: بعد ذلك م: (لأنه) ش: أي لأن الواهب م: (مختار في الرجوع فكان ذلك) ش: أي الرجوع من الواهب مختارا.
م: (دليل عدم الحاجة) ش: أي إلى الهبة إذا لو كان محتاجا لما رجع، فكان دليلا على نقض الوكالة، م: (أما الرد بقضاء) ش: أي أما رد الهبة بقضاء القاضي م: (بغير اختياره) ش: أي اختيار الواهب م: (فلم يكن دليل زوال الحاجة، فإذا أعاد إليه قديم ملكه كان له) ش: أي للوكيل م: (أن يبيعه والله أعلم) ش: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ": وإذا وكل الرجل رجلا ببيع عبد له، ثم إن الموكل باع العبد، أو دبره، أو كاتبه، أو وهبه، أو تصدق به، أو رهنه، وقبض منه أو أجره، أو كاتب أمته فوطئها فولدت أو لم تلد، فإن ذلك كله نقض للوكالة، ما خلا الوطئ إذا لم تلد، وما خلا الإجارة والرهن، وكذلك الخدمة ليس تنقض الوكالة.
وقال الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو وكله أن يزوجه امرأة بينهما فأذن لها الزوج فمات عنها أو طلقها وانقضت العدة، ثم زوجها إياه الوكيل جاز لأنه أمره بإنكاحها إياه، وهو متصور بواسطة الموت وانقضاء العدة، فانصرف التوكيل إليه، وصار كأنه نص على إضافة التوكيل إلى تلك الحالة والوكالات مما لا يقبل التعليق والإضافة إلى زمان في المستقبل، والله أعلم.(9/312)
كتاب الدعوى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الدعوى]
[تعريف الدعوى وأركانها]
م: (كتاب الدعوى) ش: أي هذا كتاب في بيان الأحكام المتعلقة بالدعوى، وهي في اللغة: اسم لادعاء الذي هو مصدر ادعى زيد على عمرو مالا، وبفتح الواو لا غير، كفتوى وفتاوى، وقيل: الدعوى لغة قول يقصد به إيجاب حق على الغير.
وذكر شيخ الإسلام المحبوبي -: الدعوى لغة: إضافة الشيء إلى نفسه بأن قال: لي ذمته دعوة الولد.
وذكرت في " شرحي الكنز " أن الدعوى فعلى من الدعاء وهو الطلب، والفعل منه ادعى يدعي وادعاء فهو مدع، والعين الذي يدعي مدع، ولا يقال مدعى فيه ولا به، وأصل دعا ادتعى، وأصل مدع مدتعي، قلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال، والدعوة بفتح الدال الدعاء إلى الطعام وبكسرها في النسب، وبضمها في دار الحرب فافهم.
وفي الشرع: الدعوى: إضافة الشيء إلى نفسه في حالة المنازعة، وقيل: هي مطالبة حق في مجلس من له الخلاص عند ثبوته، ولها ركن وشرط وحكم وسبب، أما ركنها هو معناها لغة، وهي إضافة الشيء إلى نفسه، لأن ركن الشيء ما يقوم به الشيء، والدعوى إنما تقوم بإضافة المدعي إلى نفسه فكان ركنا، وأما شرطها مجلس القضاء لأن الدعوى لا تصح في غير مجلس القاضي حتى لا يجب على المدعى عليه جواب المدعي، وأما حكمها: فوجوب الجواب على الخصم إما بنعم أو بلا، وأما سببها: فما هو السبب الذي ذكرناه في النكاح والبيوع!.
وفي " المبسوط " وغيره: سبب فسادها شيئان، جهالة المدعي، وكونها لا تكون ملزما على الخصم وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكتاب: قَوْله تَعَالَى في قصة داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] (سورة ص: الآية 20) وفسر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
وأما السنة: فما رواه عمرو بن شعيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن أبيه عن جده عن رسوله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، وأما الإجماع: فقيل: انعقد إجماع الأمة عليها من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا.
ووجه المناسبة بين هذا الكتاب وبين كتاب الوكالة هو أن الوكالة كانت بالخصومة لأجل الدعوى.(9/313)
قال: المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة، ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى. وقد اختلفت عبارات المشايخ فيها، فمنها ما قال في الكتاب، وهو حد عام صحيح، وقيل: المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد، وقيل: المدعي من يتمسك بغير الظاهر، والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: المدعى عليه هو المنكر وهذا صحيح، لكن الشأن في معرفته والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها، والمدعى عليه من يجبر على الخصومة) ش: هذا الحد هو الذي اختاره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعرفة الفرق بينهما) ش: أي بين المدعي والمدعى عليه م: (من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى) ش:، وذلك لأن الإنسان قد يكون مدعيا صورة، ومع ذلك القول قوله "مع يمينه "، كالمودع إذا ادعى رد الوديعة على ما ذكرنا في الكتاب.
م: (وقد اختلفت عبارات المشايخ فيها،) ش: أي في الفرق بين المدعي والمدعى عليه م: (فمنها) ش: أي فمن جملة عبارات المشايخ م: (ما قال في الكتاب) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهو حد عام صحيح) ش: أما عمومه فلأنه يتناول كل حد من الحدود التي ذكرت في المدعي والمدعى عليه، وأما صحته فلأنه جامع مانع على ما لا يخفى، فلذلك اختاره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
م: (وقيل: المدعي من لا يستحق إلا بحجة) ش: يعني البينة والإقرار م: (كالخارج) ش: الذي يدعي عينا في يد رجل فإنه لا يستحق إلا بحجة، يعني البينة أو الإقرار م: (والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد) ش: أي كصاحب اليد فإنه لا يحتاج إلى بينته واستحقاقه بقوله هذا ملكي وأنا واضع اليد. وقال الأكمل: هو ليس بعام لعدم تناوله لصورة المودع إذا ادعى رد الوديعة، ولعله غير صحيح.
م: (وقيل: المدعي من يتمسك بغير الظاهر) ش: إذ الظاهر أن الأملاك في يد المالك وبراءة الذمة م: (والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر) ش: لأنه يدعي قرار يده وملكه على ظاهره، وهذا منقوض بالمودع فإنه مدعى عليه، وليس بتمسك بالظاهر، لأن رد الوديعة ليس بظاهر، لأن الفراغ ليس بأصل بعد الاشتغال؛ م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأصل ": المدعى عليه هو المنكر وهذا صحيح، لكن الشأن في معرفته) ش: أي في معرفة المنكر م: (والترجيح بالفقه) ش: يعني باعتبار المعنى دون الصورة م: (عند الحذاق من أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور) ش: بيانه إذا تعارضت الجهتان في صورة فالترجيح لأحدهما على الآخر يكون بالفقه كما ذكرنا،(9/314)
فإن المودع إذا قال: رددت الوديعة فالقول قوله مع اليمين ينكر، وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى. قال: ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره لأن فائدة الدعوى الإلزام بواسطة إقامة الحجة والإلزام في المجهول لا يتحقق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم أوضح ذلك بقوله:
م: (فإن المودع إذا قال: رددت الوديعة فالقول قوله مع اليمين ينكر، وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى) ش: فلو أقام على ذلك بينة قبلت، لأنه متمسك بالأصل إذ الأصل في الذمم البراءة، ويحلف القاضي أنه لا يلزمه رد ولا ضمان، ولا يحلفه على أنه رده لأن اليمين أبدا يكون على النفي، فلو أقام على بينة قبلت والقول قوله مع يمينه أيضا فكان مدعى عليه، فإذا أقام البينة اعتبر الصورة، وإذا عجز عنها اعتبر معناها فإنه ينكر الضمان والقول قول المنكر مع يمينه، فإن قيل: المودع بدعوى الرد يتمسك بما ليس بثابت وهو الرد، إذ الرد لم يكن ثابتا، والمودع متمسك بما هو ثابت، وهو عدم الرد، فإن كان ثابتا فينبغي أن يكون الأمر على العكس.
قلت: المودع يدعي براءة ذمته عن الضمان معنى، وهو أصل المودع يدعي الشغل، ولم يكن ثابتا، ولهذا تقبل بينته اعتبارا للصورة، ويجبر على الخصومة، ويحلف اعتبارا للمعنى، فإن قيل: يشكل هذا بما إذا ادعى المديون رفع الدين إلى وكيل رب الدين، ثم حضر رب الدين وأنكر الوكالة فالقول له على ما مر في باب الوكالة، مع أن المديون يدعي البراءة؟.
قلنا: المديون يدعي البراءة هنا بعد الشغل، فكان الشغل أصلا والبراءة عارضا، أما في رد الوديعة فالبراءة أصل والشغل عارض ما ذكرنا فالقول له.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره) ش: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: (لأن فائدة الدعوى الإلزام) ش: أي إلزام الخصم م: (بواسطة إقامة الحجة) ش: أي بواسطة الحجة وهي البينة والإقرار م: (والإلزام في المجهول لا يتحقق) ش: لأن يلتفت القاضي إذا ادعى شيئا مجهولا، ولا يكلف المدعى عليه الجواب، لأنه إن أنكر لا يصح إقامة البينة عليها مع الجهالة، وإن نكل عن اليمين لا يمكن القضاء بالمجهول فسقطت الدعوى، فإذا كان كذلك اعتبرت الدعوى الصحيحة، وهي بأن يكون المدعي معلوما في جنسه كالدراهم والدنانير والحنطة وغير ذلك وقدره مثل كذا وكذا درهما أو دينارا، أو كرا ويذكر مع ذلك صفتها، كالحنطة البيضاء أو الحمراء، ويذكر أنها جيدة أو رديئة كذا في " الذخيرة ".
وإذا كان المدعي مجهولا في نفسه لا تسمع ولا تعلم فيه خلافا إلا في الوصية؛ فإن الأئمة الثلاث يجوزون دعوى المجهول في الوصية بأن ادعى حقا من وصية أو إقرارا فإنهما يصحان(9/315)
فإن كان عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليها بالدعوى، وكذا في الشهادة والاستحلاف؛ لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط، وذلك بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن، والإشارة أبلغ في التعريف، ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور، وعلى هذا القضاة من آخرهم في كل عصر، ووجوب الجواب إذا حضر ليفيد حضوره ولزوم إحضار العين المدعاة لما قلنا، واليمين إذا أنكره وسنذكره إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالمجهول، وتصح دعوى الإبراء بالمجهول بلا خلاف، ولا يشترط لسماع الدعوى المخالطة والمعاملة، ولا فرق فيه بين طبقات الناس، وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يسمع دعوى الذمي الزاني على الشريف إذا لم يعرف بينهما نسب.
م: (فإن كان) ش: أي المدعي م: (عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليه) ش: المدعي م: (بالدعوى) ش: فيقول: هذا الذي أدعيه، لأن المنقول لا يحيط بالوصف فيجب إحضاره، فيجب العلم بأقصى ما يمكن، ويرتفع الاشتباه، لأن الإشارة أبلغ في التعريف، م: (وكذا في الشهادة) ش: أي المدعى عليه بإحضار المدعي ليشير إليه عند أداء الشهادة، وقالوا في المنقولات التي يتعذر نقلها كالرحى ونحوه: يحضر الحاكم عندها أو يبعث أمينا، وفي " المجتبى ": قال الأسبيجابي في مسألة سرقة البقرة: " لو اختلفا في ألوانها تقبل الشهادة عنده خلافا لهما".
وهذه المسألة تدل على أن إحضار المنقول ليس بشرط لصحة الدعوى، إذ لو شرط ألوانها لأحضرت، ولما وقع الاختلاف عند المشاهدة، ثم قال: والناس عنها غافلون، م: (والاستحلاف) ش: يعني إذا استحلف المدعى عليه على العين المدعاة كلف إحضارها، م: (لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط وذلك) ش: أي الإعلام م: (بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن والإشارة أبلغ في التعريف ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور) ش: يعني يتعلق بالدعوى الصحيحة الحضور م: (وعلى هذا القضاة من آخرهم) ش: أي بأجمعهم، كذا قاله [في] " الكافي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: من أولهم إلى آخرهم م: (في كل عصر) ش: أي من كل زمان من أزمنة الفقهاء والمجتهدين م: (ووجوب الجواب إذا حضر) ش: أو يتعلق بالدعوى أيضا وجوب الجواب على المدعى عليه بنعم أو بلا إذا حضر م: (ليفيد حضوره) ش: لأن المقصود من حضوره الجواب م: (ولزوم إحضار العين المدعاة) ش: أي ويتعلق بالدعوى أيضا وجوب إحضار العين المدعاة مجلس القاضي على المدعى عليه إذا كانت منقولة قائمة في يده م: (لما قلنا:) ش: أشار به إلى قوله: ليشير إليها بالدعوى م: (واليمين) ش: بالجر عطفا على إحضار العين أي يتعلق بالدعوى أيضا لزم اليمين على المدعى عليه م: (إذا أنكره) ش: الحق إذا لم يقدر المدعي على إقامة البينة، م: (وسنذكره إن شاء الله تعالى) ش: أي سنذكر وجوب اليمين على المدعى عليه في آخر هذا الباب،(9/316)
قال: وإن لم تكن حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعي معلوما لأن العين لا تعرف بالوصف والقيمة تعرف به وقد تعذر مشاهدة العين، وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: وإن لم تكن) ش: أي العين المدعاة م: (حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعى معلوما) ش: وعدم حضور العين أعم من أن يكون لهلاكها أو للتعذر.
وقال شمس الأئمة الحلواني -رحمه لله-: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام، والقطيع من الغنم، فالقاضي بالخيار إن شاء حضر ذا الموضع إن تيسر له، وإلا بعث خليفته إن كان مأذونا بالاستخلاف، وإذا رفعت الدعوى في جملة ولا يسع باب داره فإنه يخرج إلى باب داره أو يأمر نائبه حتى يخرج ليشير إليه الشهود لحضرته.
وذكر الإمام القاضي ظهير الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا إنما يستقيم إذا كانت العين المدعاة في المصر، أما إذا كانت خارج المصر كيف يقضي القاضي به والمصر شرط جواز القضاء في ظاهر الرواية، لكن الطريق فيه أن يبعث واحدا من أعوانه حتى يسمع الدعوى والبينة ويقضي، ثم بعد ذلك يمضي قضاؤه.
م: (لأن العين لا تعرف بالوصف) ش: لأنه ربما توجد أعيان كثيرة بهذا الوصف فلا يصير المدعى معلوما مع وجود المزاحم م: (والقيمة تعرف به) ش: أي بالوصف لأنه إذا قيل: عشرة دراهم من الفضة وكذا دينارا من الذهب، الركن يصير قيمته معلومة بهذا الوصف.
قال تاج الشريعة: وقال الأكمل - رحمهما الله-: وإذا لم تكن حاضرة لزمه ذكر قيمتها يعني إذا وقع الدعوى في عين غائبة لا يدري مكانها لزم المدعي ذكر قيمتها، فيصير المدعى معلوما، وذكر الوصف بكاف لأن العين لا تعرف الوصف وإن بويع فيه لإمكان المشاركة فيه فذكره في تعريفه غير مفيد، والقيمة شيء يعرف به المعين فبذكرها يكون مفيدا، وقوله: م: (وقد تعذرت مشاهدة العين) ش: جملة حالية بمن قوله لأن العين لا تعرف بالوصف، يعني والحال أن المشاهدة تعذرت، وأغلاق تركيبه لا يخفى انتهى.
قلت: لا إغلاق في تركيبه على ما لا يخفى، بل التحقيق على ما ذكره تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومثله قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله -: وقد تعذرت مشاهدة العين الوصف والقيمة في الغائب مقام المشاهدة، م: (وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة) ش:، وقال محمد بن محمود الأستروشني في " فصوله ": وإذا ادعى قيمة دابة مستهلكة هل يحتاج إلى ذكر الأنوثة والذكورة؟، اختلف المشايخ فيه، وذكر الصدر الشهيد: لا بد من ذكر الأنوثة والذكورة، ولا بد من بيان السن، ومن المشايخ من أبى ذكر الذكورة والأنوثة، لأن المقصود في(9/317)
قال: وإن ادعى عقارا وحدده وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التحديد، فإن العقار يعرف به ويذكر الحدود الأربعة، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم ولا بد من ذكر الحد؛ لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما عرف هو الصحيح ولو كان الرجل مشهورا يكتفى بذكره، فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجود الأكثر، بخلاف ما إذا غلط في الرابعة؛ لأنه يختلف به المدعي ولا كذلك بتركها، وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة وقوله في الكتاب، وذكر أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دعوى الدابة المستهلكة القيمة فلا حاجة إلى ذكرهما.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (وإن ادعى عقارا وحدده) ش: أي ذكر حدوده م: (وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به) ش: أي وأن المدعي يطالب المدعى عليه بالمدعى م: (لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التحديد، فإن العقار يعرف به) ش: أي بالتحديد م: (ويذكر الحدود الأربعة ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم) ش: ويذكر أصحاب حدود العقار، ويذكر أنساب أصحاب الحدود بأن يقال: فلان بن فلان بن فلان م: (ولا بد من ذكر الجد لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يذكر الجد م: (على ما عرف هو الصحيح) ش: احترز به عما روي عنهما أن ذكر الأب يكفي م: (ولو كان الرجل مشهورا) ش: كأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد بن الحسن، وابن أبي ليلى، وأبي جعفر الكبير البخاري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جميعا - م: (يكتفي بذكره) ش: أي بذكر الرجل بدون نسبته.
م: (فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو يقول: التعريف لم يتم بدون ذكره وقوله م: (لوجود الأكثر) ش:، دليلنا أن إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع، ثم مقدار الطول يعرف بالحدين، ومقدار العرض بذكر أحد الحدين، وقد يكون الأصل مثليه م: (بخلاف ما إذا غلط في الرابعة) ش: يعني إذا ذكر الحدود الثلاثة وسكت عن الرابعة جاز، أي عن الحد الرابع وإنما أنثه باعتبار الجهة وإنما قلنا: " وسكت عن الرابعة " لأنه إذا ذكر الرابع وغلط فيه لا يجوز باتفاق بيننا وبين زفر.
م: (لأنه يختلف به) ش: أي بالغلط م: (المدعي ولا كذلك بتركها) ش: أي بترك الرابعة، كما لو شهد شاهدان بالبيع وقبض الثمن، وتركا ذكر الثمن جاز، ولو غلطا في الثمن لا تجوز شهادتهم، لأنه صار عقد آخر بالغلط م: (وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة) ش: حتى لو ذكروا ثلاثة في الحدود في الشهادة قبلت شهادتهم خلافا لزفر كما مر.
م: (وقوله في الكتاب) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره ": م: (وذكر أنه(9/318)
في يد المدعى عليه لا بد منه؛ لأنه إنما ينتصب خصما إذا كان في يده وفي العقار لا يكتفى بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده بل لا تثبت اليد فيه إلا بالبينة أو علم القاضي هو الصحيح نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه في يد غيرهما، بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة، وقوله أنه يطالبه به؛ لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في يد المدعى عليه لا بد منه لأنه) ش: أي لأن المدعى عليه م: (إنما ينتصب خصما) ش: دعواه، في " الخلاصة " ادعى على آخر دارا في يده، وقال: في ملكي وفي يدي، وأنكر المدعى عليه أنها ملك المدعي، فإن القاضي لا يقضي بهذه البينة ما لم يشهدوا أنها في يد المدعى عليه، وفي " أدب القاضي " للخصاف: لو أقام أحدهما البينة أنها في يديه وقام الآخر البينة على أنها له فهو لصاحب الملك دون صاحب اليد.
قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: نصفه على وجه القضاء، ونصفه على وجه الترك، كان الكلام فيما م: (إذا كان في يده) ش: والظاهر أن كله وجه القضاء، وقال الأسبيجابي في " شرح الكافي " للحاكم الشهيد: وإذا كانت الدار في يدي رجلين، كل واحد منهما يدعي أنها له، فكل واحد منهما مدعى لما في يد صاحبه وعليه البينة.
ولكل واحد منهما على صاحبه اليمين فأيهما حلف على دعوى صاحبه برئ عنها، وأيهما نكل عن اليمين ألزمته ثمنه صاحبه، لأن يد كل واحد منهما ثابتة على النصف، فكان خارجا فيما في يد صاحبه، فتكون البينة بينة على ما في يد الآخر، واليمين يمين على صاحبه، وكذلك الحيوان والعروض، م: (وفي العقار لا يكتفي بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده، بل لا تثبت اليد فيه) ش: أي في العقار م: (إلا بالبينة) ش: بأن يشهدوا أنهم عاينوا أنه في يده، حتى لو قالوا: سمعنا ذلك لم يقبل وكذا في غير هذه الصورة لا بد في الشهادة على اليد من ذلك، م: (أو علم القاضي) ش: بأنه في يده م: (وهو الصحيح) ش: احترز به عن قول من يقول: يكتفي بتصديق المدعى عليه أنه في يده.
م: (نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه) ش: أي لعله م: (في يد غيرهما) ش: الحاصل: أنه يحتمل أنهما تواصفا على أن يصدق المدعى عليه المدعي بأن العقار في يد المدعى عليه ليحكم القاضي باليد للمدعى عليه، حتى يتصرف فيه المدعي، فكان القضاء فيه قضاء بالتصرف في مال الغير، وذلك يقضي إلى نقض القضاء عند ظهوره في يد ثالث، م: (بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة) ش: فلا حاجة إلى اشتراط الزيادة.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إنه يطالبه به لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه) ش: أي لأن المطالبة حق المدعي فلا بد من طلبه حتى تجب على القاضي إعانته، وقال(9/319)
ولأنه يحتمل أن يكون مرهونا في يده أو محبوسا بالثمن في يده وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال، وعن هذا قالوا في المنقول: يجب أن يقول في يده بغير حق. قال: وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به لما قلنا، وهذا لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة، لكن لا بد من تعريفه بالوصف لأنه يعرف به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: في عبارته تسامح، لأنه إلى تقدير فلا بد من طلب المطالبة فتأمل، ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن المطالبة مصدر بمعنى المفعول فكان معناه المطالب حقه فلا بد من طلبه، انتهى.
قلت: إنما قال " فيه تسامح " لأنه توهم من ذلك أن الضمير في طلبه يرجع إلى حقه كما يدل عليه تقديره، ولأن المطالبة حقه فلا بد من طلب حقه فوقع فيما وقع فيه، وإنما الضمير في" طلبه " يرجع إلى المدعي.
والمعنى أصح، على أن في قوله " ولأن المطالبة " مصدر بمعنى المفعول في كلام يتأمل فيه، م: (ولأنه) ش: أي ولأن المدعي م: (يحتمل أن يكون مرهونا في يده) ش: أي ولأن المدعي يحتمل أن يكون مرهونا في يده أي في يد المدعى عليه م: (ومحبوسا بالثمن في يده) ش: فلا تصح الدعوى قبل أداء الدين أو أداء الثمن، م: (وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال) ش: لأنه لو كان مرهونا أو محبوسا بالثمن، لا يطالب بالانقطاع من ذي اليد بخلاف مجرد الدعوى أنه ملكه، إذ مجرد الملك لا يدل على أن اليد له م: (وعن هذا قالوا في المنقول) ش: إشارة إلى قوله: يحتمل أن يكون مرهونا أو محبوسا بالثمن لم يطالب م: (يجب أن يقول: في يده بغير حق) ش: لهذا المعنى الذي ذكر وهو احتمال كونه مرهونا أو محبوسا بالثمن، وفي " الفتاوى الصغرى " و" التتمة ": أنه إذا ملك المدعي ولم يشهد أنه في هذا بغير حق، يعني أنه يقبل؛ وسمعت أنه ذكر شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ": أنه اختلف المشايخ فيه، قال: والأوضح أنه لا يقبل؛ وذكر نجم الدين النسفي عن أبي الحسن السعدي والبزدوي: أنه شرط ما لم يثبت أنه في يده بغير حق لا يمكنه المطالبة بالتسليم، وبه كان يفتي أكثر مشايخنا، وقال صاحب " التتمة ": وهو الصحيح وعليه الفتوى.
م: (قال) ش: القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " م: (وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله: إن المطالبة حقه فلا بد من طلبه م: (وهذا) ش: يعني قوله: أن يطالبه م: (لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة ولكن لا بد من تعريفه) ش: أي تعريف ما في الذمة م: (بالوصف) ش: مثل أن يقول: - كذا درهما أو دينارا - فبعد ذلك إن كان مضروبا بذكر نوعه كبخاري الضرب أو نيسابوري الضرب، م: (لأنه يعرف به) ش: أي لأن ما في الذمة يعرف بالوصف بأنه جيد أو وسط أو رديء، وإنما يحتاج إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقود مختلفة،(9/320)
قال: وإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عنها لينكشف له وجه الحكم فإن اعترف قضى عليه بها لإن الإقرار موجب بنفسه فيأمره بالخروج عنه، وإن أنكر سئل المدعي البينة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ألك بينة "؟ فقال: لا، فقال: " لك يمينه» سأل ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال ليمكنه الاستحلاف. قال: فإن أحضرها قضى بها لانتفاء التهمة عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما إذا كان نقدا واحدا فلا يحتاج.
ولو كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج سواء، والأفضل للمبعض على البعض المبيع ويعطي المشتري البائع أي نقد شاء، إلا أن في الدعوى لا بد من تعيين أحدهما، وإن كان أحدهما أروج يصير ذلك [ ... ] في البيع والدعوى، فلا حاجة إلى البيان، وإن كانت الدعوى لسبب القرض أو استهلاكه فلا بد من بيان صفته على كل حال.
[إقرار المدعى عليه بصحة الدعوى وما يترتب عليه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عنها) ش: أي عن الدعوى م: (لينكشف له وجه الحكم) ش: لأن الأشياء التي تنقطع بها المنازعة الإقرار والبينة واليمين، م: (فإن اعترف قضى عليه بها) ش: أي يقضي القاضي على المدعى عليه بالدعوى ولفظ القضاء هنا مجاز للزومه، فإقراره فلا حاجة إلى القضاء، م: (لأن الإقرار موجب بنفسه) ش: فلا يتوقف على القضاء، وإذا كان كذلك م: (فيأمره بالخروج عنه) ش: موجب إقراره.
م: (وإن أنكر) ش: أي المدعى عليه م: (سئل المدعي البينة لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألك بينة؟ فقال: لا، فقال: لك يمينه» ش: هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، وقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للحضرمي: " ألك بينة "؟ قال: لا، قال: " فلك يمينه "، قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع عن شيء، فقال: " ليس لك منه إلا ذلك "، فانطلق ليحلف فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما الذي حلف على مال يأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه غير راض ".»
م: (سأل) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المدعي والمدعى عليه م: (ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال) ش: عن البينة أولا م: (ليمكنه الاستحلاف) ش: أي فيمكن القاضي طلب اليمين من المدعى عليه، م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن أحضرها) ش: أي فإن أحضر المدعي البينة على وفق دعواه م: (قضى بها) ش: أي قضى القاضي بالبينة م: (لانتفاء التهمة عنها)(9/321)
وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلفه عليها لما روينا، ولا بد من طلبه لأن اليمين حقه، ألا ترى أنه كيف أضيف إليه بحرف اللام فلا بد من طلبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي عن الدعوى لرجحان جانب المصدق في خبر المدعي بالبينة، م: (وإن عجز عن ذلك) ش: أي وإن عجز المدعي عن الإثبات بالبينة، م: (وطلب يمين خصمه) ش: وهو المدعى عليه م: (استحلفه عليها) ش: أي على دعواه م: (لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لك يمينه " م: (ولا بد من طلبه) ش: أي من طلب المدعي استحلاف خصمه، م: (لأن اليمين حقه) ش: ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أنه كيف أضيف إليه؟) ش: أي كيف أضيف اليمين إلى المدعي؟، إنما ذكر أضيف وإن كان مسندا إلى ضمير اليمين التي هي مؤنثة على تأويل القسم أو الحلف م: (بحرف اللام فلا بد من طلبه) ش: أي لام الاختصاص، ففي قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " فلك يمينه "، نعلم أن اليمين حقه.(9/322)
باب اليمين وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه حاضرة في المصر، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستحلف، لأن اليمين حقه بالحديث المعروف فإذا طالبه به يجيبه ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ثبوت الحق في اليمين مرتب على العجز عن إقامة البينة لما روينا، فلا يكون حقه دونه كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس ومحمد مع أبي يوسف - رحمهما الله - فيما ذكره الخصاف، ومع أبي حنيفة فيما ذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب اليمين]
[قال المدعي لي بينة حاضرة وطلب اليمين]
م: (باب اليمين) ش: أي هذا باب في بيان أحكام اليمين، قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما كان يحتاج هنا إلى الفصل بالباب، بل كان ينبغي أن يسوق الكلام متواليا، لأنه لما ذكر صحة الدعوى ترتب عليها الحكم بالإقرار والبينة واليمين، قلت: الذي رتبه المصنف هو الأصل لأنه لما كانت اليمين مشروعة بعد فقد البينة تعين ذكرها بعدها بأحكامها وشرائطها.
قال: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري: م: (حاضرة في المصر) ش: واحترز به عن البينة الحاضرة في مجلس الحكم فحينئذ لا يجوز الحكم باليمين بالإجماع، وإن طلب الخصم واحترز به أيضا عما إذا كانت البينة غائبة عن المصر، فحينئذ يستحلف بالاتفاق.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يستحلف؛ لأن اليمين حقه بالحديث المعروف) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لك يمينه "، وقد مر عن قريب، م: (فإذا طالبه) ش: أي فإذا طالب المدعي المدعى عليه باليمين م: (يجيبه) ش: أي يجيب القاضي المدعي ويستحلف المدعى عليه م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ثبوت الحق في اليمين مرتب على العجز عن إقامة البينة لما روينا) ش: إشارة إلى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ألك بينة؟ " فقال: لا، قال: "لك يمينه» .
فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رتب اليمين على فقد البينة، م: (فلا يكون حقه دونه) ش: أي لا تكون اليمين حق المدعي دون العجز عن البينة، يعني لا تكون ولاية الاستحلال دون العجز عن إقامة البينة، م: (كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس) ش: أي في مجلس القاضي حيث لا يجوز الاستحلاف، م: (ومحمد مع أبي يوسف - رحمهما الله - فيما ذكر الخصاف، ومع أبي حنيفة فيما ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وأنكر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على المصنف في جعل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذكره الخصاف، فقال: لأن الخصاف لم يذكر(9/323)
قال: ولا ترد اليمين على المدعي لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» قسم، والقسمة تنافي الشركة وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخلاف في "أدب القاضي" إلا بين أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-، ولم يذكر لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولًا.
وكذلك فعل أبو بكر الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرح أدب القاضي" للخصاف، ولم يذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصلًا، وكذا قال الإمام أبو محمد الناصحي النيسابوري في "تهذيب أدب القاضي" للخصاف، فقال: ولم يذكر الخصاف قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم قال: وذكر أبو علي بن موسى: إن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روى عبد الرحمن البزدي وغيره من أصحاب محمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وأنكر الأترازي أيضًا عليه في جعل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما ذكره الطحاوي، ثم قال: لأن الطحاوي ذكر هذه المسألة في "مختصره" وذكر الخلاف بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم قال: ولم نجد هذه الرواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأنكر الرواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصلًا ومع هذا كيف يدعي صاحب " الهداية " أن محمدا مع أبي حنيفة - رحمهما الله- فيما ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؟، قلت: لا وجه لهذا الإنكار، لأن عدم وقوف الطحاوي على أن محمدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة لا يستلزم عدم وقوف غيره من المصنف وغيره.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا ترد اليمين على المدعي) ش:، وقال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: ترد، وقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الظاهر كقولنا، م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ش: الحديث أخرجه البيهقي في "سننه" عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
وروى محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وجه الاستدلال به هو: ما قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (قسم) ش: أي قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الخصمين، فجعل البينة على المدعي واليمين على من أنكر، م: (والقسمة تنافي الشركة وجعل) ش: أي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء) ش: بيانه: أنه ذكر اليمين محلى بالألف واللام وأنه للجنس إذا لم يكن ثمة معهود.(9/324)
وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال: ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويقال: جعل البينة حجة جنس المدعين، واليمين حجة جنس المنكرين، فتكون جميع الأيمان على المنكرين فمن رد اليمين على المدعي لم يجعل جميعها على المنكرين، فيكون ذلك نسخًا للحديث المشهور، ولأنه عمل به الأئمة، وأنه لا يجوز بخبر الواحد ولا بالقياس، م: (وفيه خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: قد ذكرنا رد حجته ومن معه في مسألة القضاء بشاهد ويمين.
روي عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بيمين وشاهد» والجواب عنه من وجهين، أحدهما: أنه معلول بالانقطاع لأن فيه عمرو بن دينار عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال الترمذي في "علله الكبير": إن هذا الحديث قاله عمرو بن دينار ولم يسمعه من ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال ابن القطان في كتابه: والحديث وإن كان مسلمًا أخرجه عن قيس بن سعد وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، ولكنه يروى بالانقطاع، وقال الطحاوي: وقيس بن سعد لا نعلمه إلا بحديث عمرو بن دينار.
الوجه الثاني: أن هذا على صحته لا يفيد العموم. قال الإمام فخر الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قول الصحابي: نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كذا، وقضى بكذا لا يفيد العموم، لأن الحجة في المحكي عنه لا في الحكاية، والمحكي قد يكون خاصًا وأيضًا فالقضاء له.. قد وجد البياض في السختين....، أقر بها إلا في هذا الموضع فعل الخصومات، وهذا مما يتعين به الخصومات، إذ لا يأتى فيه الحكم يعمل من شاهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيام الساعة، بل إنما يقتضي شاهد خاص.
فإن قلت: روى سهل بن أبي حثمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القسامة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: "تبرئكم يهود بخمسين يمينًا" فقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أتحلفون وتستحقون» .
فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأيمان على المدعين بعد أن جعلها على المدعى عليهم فعلم أن رد اليمين جائز، والجواب: أنه لا دليل فيه لخصم، لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال ذلك على سبيل الإنكار عليهم، بدليل أن اليمين عند المخالف لا ترد على المدعي إلا بعد أن يمتنع المدعى عليه، واليهود لم يمتنعوا من اليمين، وإنما قالت الأنصار: لا نرضى بأيمانهم، فدل على أن الكلام خرج على وجه الإنكار.
[بينة صاحب اليد في الملك المطلق]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق)(9/325)
وبينة الخارج أولى، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقضي ببينة ذي اليد لاعتضادها باليد، فيتقوى الظهور وصار كالنتاج والنكاح ودعوى الملك مع الإعتاق والاستيلاء والتدبير. ولنا: أن بينة الخارج أكثر إثباتا أو إظهارا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وأراد بالمطلق أن يدعي الملك من غير أن يتعرض للسبب، بأن يقول "هذا ملكي" ولم يقل ملكه بسبب الشراء والإرث ونحو ذلك، لأن المطلق ما يتعرض الذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، فلذلك قيد به احترازًا عن الملك المقيد بدعوى النتاج، وبسبب لا يتكرر، وعن ماذا ادعيا الملك من واحد وأحدهما قابض؟، وعن ماذا ادعيا الشراء من اثنين وتارخ أحدهما أسبق؟، فإن هذه الصورة تقبل بينة ذي اليد بالإجماع.
فإن قلت: أما انتقض مقتضى القسمة حيث قبلت بينة ذي اليد وهو مدعى عليه؟ قلت: نعم، لأن قبولها من حيث ما ادعى من زيادة النتاج، والقبض، وسبق التاريخ، فهو من تلك الجهة مدعى عليه، والبينة للمدعي.
فإن قلت: فهل تجب على الخارج اليمين لكونه إذ ذاك مدعى عليه، قلت: لا، لأن اليمين إنما تجب عند عجز المدعي عن البينة، وهاهنا لم يعجز، وإذا تعارضت بينة الخارج وذي اليد في ملك المطلق فبينة الخارج أولى لعدم زيادة يصير بهما ذو اليد مدعيًا.
م: (وبينة الخارج أولى) ش: إن أقاما بينة م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقضي ببينة ذي اليد) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والقاضي منه من أصحاب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كقولنا
م: (لاعتضادها باليد) ش: أي لتقوية البينة باليد، إذ اليد دليل الملك م: (فيتقوى الظهور) ش: لأن بينة الخارج أكثر إثباتًا م: (وصار) ش: أي وصار حكم ذي اليد بالقضاء بينة م: (كالنكاح) ش: بأن ادعى نكاح امرأة وهي في يد أحدهما يقضي لصاحب اليد بالإجماع م: (والنتاج) ش: بأن أقاما بينة على نتاج دابة وهي في يد أحدهما يقضي لصاحب اليد.
م: (ودعوى الملك مع الإعتاق) ش: بأن ادعى عبدًا في يد رجل وأقام بينة أنه عبده وأعتقه وأقام ذو اليد بينة أنه أعتقه وهو يملكه فبينة ذي اليد أولى، م: (والاستيلاء) ش: بأن أدعى أنها أمته استولدها وهي في يد أحدهما فبينة ذي اليد أولى، م: (والتدبير ولنا: أن بينة الخارج أكثر إثباتًا) ش: بأن ادعيا أنه عبده ومدبره فبينة ذي اليد أولى في كل وجه، وبينة ذي اليد لا تثبت الملك من كل وجه، بل من وجه، لأن اليد دليل الملك، ولهذا لو رأى عينًا في يد إنسان يتصرف فيها تصرف الملاك جاز لمن رأى أن يشهد بالملك له م: (أو إظهارًا) ش: يعني في الواقع، فإن بينته تظهر ما كان ثابتًا في الواقع.(9/326)
؛ لأن قدر ما أثبتته اليد لا يثبته ببينة ذي اليد إذ اليد دليل مطلق الملك بخلاف النتاج لأن اليد لا تدل عليه، وكذا على الإعتاق وأختيه، وعلى الولاء الثابت بها.
قال وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضى عليه بالنكول وألزمه ما ادعى عليه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقضي به بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف يقضي به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن قدر ما أثبتته اليد لا يثبته ببينة ذي اليد، إذ اليد دليل مطلق الملك) ش: فبينته لا تثبت لئلا يلزم تحصيل الحاصل بخلاف بينة الخارج فإنها تثبت الملك وتظهره، وما هو أكثر إثباتًا، من البينات فهو أولى لتوفر ما شرعت البينات لأجله فيه، فإن قيل: بينة الخارج تزيل ما أثبته ذو اليد من الملك فبينة ذي اليد تفيد الملك، ولا يلزم تحصيل الحاصل، أجيب بأنها ليست موجبة بنفسها حتى يزيل ما ثبت باليد، وإنما تصير موجبة عند اتصال القضاء بها، فقبله يكون الملك ثابتا للمدعى عليه، وإثبات الثابت لا يتصور، فلا يكون بينة مثبتة بل مؤكدة لملك ثابت والتأسيس أولى من التأكيد.
م: (بخلاف النتاج، لأن اليد لا تدل عليه) ش: فكانت البينة مثبتة لا مؤكدة، فكان كل واحد من البينتين للإثبات فترجح إحداهما باليد، م: (وكذا على الإعتاق وأختيه) ش: أي وكذا اليد لا تدل على أختي الإعتاق، وهما التدبير والاستيلاد فتعارضه بينة الخارج، وذي اليد ثم ترجحت بينة ذي اليد م: (وعلى الولاء الثابت بها) ش: أي بالإعتاق والاستيلاد والتدبير ومعناه: أن البينتين في الإعتاق وأختيه يدلان على الولاء، إذ العتق حاصل للعبد بتصادقهما، وهما استويا في ذلك، وترجح صاحب اليد بحكم يده، ثم يستوي الجواب بين أن يكون الخارج مسلما أو ذميا، أو عبدًا أو حرا أو امرأة أو رجلا، والمدعى عليه كذلك والمدعي به كذلك أي مال كان.
[نكل المدعى عليه عن اليمين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضي عليه بالنكول) ش: أي قضي القاضي على المدعى عليه بالنكول م: (وألزمه ما ادعى عليه) ش: أي ألزم القاضي المدعى عليه بما ادعى عليه المدعي، وفي بعض النسخ: ولزمه، م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقضي به) ش: أي بالنكول م: (بل ترد اليمين على المدعي، فإذا حلف يقضي به) ش: أي إذا حلف المدعي يقضي له بما يدعيه.
وفي " التفريع " للمالكية: وإذا ادعى على رجل دعواه لم يحلف له بمجرد دعواه حتى يثبت أن بينهما خلطة، فإذا ثبت ذلك حلف المدعى عليه وبرئ، فإن نكل عن اليمين لم يحكم عليه بمجرد النكول، وحلف المدعي على ما ادعاه واستحق ما ادعاه بيمينه ونكول خصمه، فإن لم يحلف لم يحكم له بشيء، انتهى.
وروي عن أحمد أنه قال: إذا نكل المدعى عليه حبسته أبدا حتى يحلف فيبرأ، أو يقر(9/327)
لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة والترفع عن الصادقة واشتباه الحال فلا ينتصب حجة مع الاحتمال ويمين المدعي دليل الظهور فيصار إليه. ولنا: أن النكول دل على كونه باذلا أو مقرا، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعا للضرر عن نفسه فترجح هذا الجانب، ولا وجه لرد اليمين على المدعي لما قدمناه. قال: وينبغي للقاضي أن يقول له إني أعرض عليك اليمين ثلاثا، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه، وهذا الإنذار لإعلامه بالحكم، إذ هو موضع الخفاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيحكم عليه، وبقولنا قال سفيان بن سعيد الثوري، م: (لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة والترفع عن الصادقة) ش: أي عن اليمين الصادقة م: (واشتباه الحال) ش: يعني ويحتمل أن يكون الحال مشتبهة عليه، لا يدري أصادق في الإنكار فيحلف، أو كاذب فيمتنع، م: (فلا ينتصب) ش: أي يمين المدعي عليه م: (حجة مع الاحتمال، ويمين المدعي دليل الظهور) ش: لما كانت يمين المدعي عليه، وينكر له، وبنكوله صار الظاهر شاهدا للمدعي، فإذا كان كذلك م: (فيصار إليه) ش: أي إلى المدعي.
م: (ولنا أن النكول) ش: أي نكول المدعى عليه م: (دل على كونه باذلا) ش: أي كان النكول بذلا كما هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (أو مقرا) ش: أي كان إقرار كما هو مذهبهما م: (إذ لولا ذلك) ش: أي لولا أن اليمين بذل أو إقرار م: (لأقدم على اليمين الصادقة إقامة للواجب) ش: لأن اليمين واجبة عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «واليمين على من أنكر» وكلمة " على " للوجوب م: (ودفعا للضرر عن نفسه) ش: وهو بذل المال م: (فترجح هذا الجانب) ش: أي جانب كون الناكل باذلا ومقرا على الوجه المحتمل، وهو كونه متورعا، أو نحو ذلك.
م: (ولا وجه لرد اليمين على المدعي لما قدمناه) ش: إشارة إلى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وفي " المبسوط " و " الأسرار ": مذهبنا مؤيد بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على ذلك، فإن قيل: كيف يكون إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حلف المدعي بعد نكول المنكر؟ .
قلت: وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المنكر طلب منه رد اليمين إلى المدعي فقال: ليس لك عليه سبيل، وقضى بالنكول بين يدي علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له علي: قالون، بلغة الروم، أي: أصبت.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينبغي للقاضي أن يقول له) ش: أي للمدعى عليه م: (إني أعرض عليك اليمين ثلاثا، فإن حلفت وإلا فقضيت عليك بما ادعاه) ش: أي المدعي م: (وهذا الإنذار لإعلامه بالحكم، إذ هو موضع الخفاء) ش: أي الحكم بالنكول موضع الخفاء لأنه(9/328)
قال: فإذا كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بالنكول وهذا التكرار ذكره الخصاف لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبلاء العذر، وأما المذهب إنه لو قضى بالنكول بعد العرض مرة جاز لما قدمناه هو الصحيح، والأول أولى، ثم النكول قد يكون حقيقيا كقوله - لا أحلف - وقد يكون حكميا بأن يسكت، وحكمه حكم الأول إذا علم أنه لا آفة به من طرش أو خرس هو الصحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مجتهد فيه، ولعدم دلالة النص على ذلك فيجوز أن يلتبس عليه ما يلزمه النكول.
م: (قال: فإذا كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بالنكول، وهذا التكرار ذكره الخصاف) ش: لأن التكرار ليس بشرط على ما ذكره في الأصل، بل إذا قضى بالنكول مرة جاز، وإنما ذكره الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبلاء العذر) ش: فصار كإمهال المرتد ثلاثة أيام م: (وأما المذهب فإنه لو قضى بالنكول بعد العرض مرة جاز لما قدمناه) ش: إشارة إلى ما ذكر إذ النكول دل على كونه باذلا أو مقرا، كذا قاله الأترازي، والكاكي، والأكمل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال تاج الشريعة: قوله: م: (لما قدمنا) ش: يعني أنه لولا كونه كاذبا لأقدم على اليمين إقامته للجواب م: (هو الصحيح) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: احتراز عن قول الخصاف فإنه يشترط التكرار، وقال الأكمل: احتراز عما قيل - لو قضى بالنكول مرة واحدة لا ينفذ وهذا هو الأوجه، م: (والأول أولى) ش: أي ما ذكره الخصاف أولى، كما في الإمهال للمرتد، فإن قتل بلا إمهال جاز.
وفي " الكافي ": والتقدير بالثلاث في العرض لازم في المروي عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -، وبه قال أحمد والجمهور- رحم الله الجميع - على أنه للاحتياط، وبه قال مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (ثم النكول قد يكون حقيقيا كقوله: لا أحلف، وقد يكون حكميا بأن يسكت وحكمه) ش: أي حكم السكوت م: (حكم الأول) ش: وبه قال الثلاثة م: (إذا علم أنه لا آفة به من طرش) ش: بفتح الراء من يطرش طرشا، من باب علم، أي صار أطروشا، وهو الأصم، والطرش أهون من الصمم م: (أو خرس) ش: بفتح الراء، وهو آفة باللسان تمنع الكلام أصلا م: (هو الصحيح) ش: أشار به إلى اختلاف الروايات فيما إذا سكت المدعى عليه بعد عرض اليمين عليه ولم يقل - لا أحلف.
فقال بعض أصحابنا: إذا سكت المدعى عليه سأل القاضي: هل به خرس أو طرش؟ فإذا قالوا: لا، جعله ناكلا، وقضى عليه، ومنهم من قال: يحبس حتى يجيب، والأول هو الصحيح، كذا في " شرح الأقطع "، وفي " الفصول ": لو كان استحلاف عند غير القاضي كان المدعي على دعواه، لأن المعتبر يمين قاطعة للخصومة، واليمين عند القاضي قاطعة لها.
ولو قال المدعي: إن حلف المدعى عليه فأنا بريء، أو قال: فدعواه باطلة لا تبطل دعواه،(9/329)
قال: وإذا كانت الدعوى نكاحا لم يستحلف المنكر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يستحلف عنده في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود واللعان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حتى لو أقام بينة بعد يمين الخصم تقبل بينته، وفي " المبسوط ": بعض القضاء من السلف لا يسمع البينة بعد يمين الخصم، ولسنا نأخذ بذلك، وإنما نأخذ فيه بقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه جوز قبول بينة المدعي بعد حلف المدعى عليه، وبه قالت الثلاثة.
وفي " النوازل ": لو ادعى دواعي متفرقة لا يحلفه القاضي على كل شيء لملكه جمعها في يمين واحدة، وفي " التتمة ": لو ادعى دينًا في التركة وصلت في يد هذا يحلف بالله وحده، بالله ما وصل إليه شيء من التركة ولا يعلم أن له دينًا على أبيه، وقيل: يحلف يمينين على الوصول على البتات، وعلى الدين على العلم، وبه قال عامة المشايخ، وأجمعوا: أن المدعي بعد إقامة البينة يحلف أنه ما استوفاه ولا أبرأه، وإن لم يدع الخصم ولا يعلم فيه خلاف.
[ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها وأنكرت المرأة وبالعكس]
م: (وقال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن كانت الدعوى نكاحًا لم يستحلف المنكر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها وأنكرت المرأة وبالعكس، فلا استحلاف فيه عنده.
م: (ولا يستحلف عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في النكاح) ش: سواء كان الرجل مدعيًا أو المرأة , م: (والرجعة) ش: أي ولا يستحلف أيضًا في الرجعة، بأن ادعى الزوج بعد انقضاء العدة أنه كان راجعًا في العدة، وهي تجحد أو ادعت هي كذلك وهو يجحد، م: (والفيء في الإيلاء) ش: أي ولا يستحلف في الفيء في الإيلاء أيضًا، بأن ادعى بعد مضي هذه الإيلاء أنه فاء إليها في المدة وهي تجحد، أو ادعت المرأة كذلك وهو يجحد م: (والرق) ش: أي ولا يستحلف أيضًا في الرق بأن ادعى على مجهول النسب أنه عبده أو ادعى مجهول النسب، م: (والاستيلاد) ش: بأن ادعت الأمة على مولاها أنها ولدت منه وأنكر المولى، ولا يتصور العكس من قبله عليها، لأن الاستيلاد يثبت بإقراره.
م: (والنسب) ش: أي ولا يستحلف في الولاء أيضًا بأن ادعى على معروف النسب أنه معتقه أو بالعكس م: (والولاء) ش: أي ولا يستحلف أيضًا في النسب، بأن ادعى الوالد على الولد وأنكر الآخر م: (والحدود واللعان) ش: أي ولا يستحلف أيضًا فيهما.
أما الدعوى في الحد بأن قال رجل لآخر: لي عليك حد قذف وهو ينكر لا يستحلف بالإجماع، لأنه يندرأ بالشبهات، إلا إذا تضمن حقًا بأن علق عتق عبد بالزنا، وقال: إن زنيت فأنت حر، وادعى العبد: أني زنيت، ولا بينة له عليه يستخلف المولى حتى إذا نكل ثبت العتق(9/330)
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله- يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان.
وصورة الاستيلاد: أن تقول الجارية: أنا أم ولد لمولاي وهذا ابني منه وأنكر المولى؛ لأنه لو ادعى المولى ثبت الاستيلاد بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكارها، لهما أن النكول إقرار، لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار على ما قدمناه، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة إقامة للواجب، فكان إقرارا أو بدلا عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون الزنا، كذا ذكره الصدر الشهيد في " أدب القاضي ".
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح كتاب الاستحلاف " وقد قالوا إنه يستحلف في التعزير لأنه في حكم الأموال، وهذا يصح فيه العفو والإبراء، وقال القدوري فيه أيضًا: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا تعلق بهذه الأشياء استحقاق مال استحلف القاضي في المال وإن كان لا يستحلف في سببه كالمرأة إذا ادعت النكاح والمهر، والرجل إذا ادعى النسب والنفقة.
أما الدعوى في اللعن بأن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها قذفًا يوجب اللعان وأنكر الزوج لا يستحلف بالإجماع، فإنه في معنى الحد.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله-: يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان) ش: فلا يستحلف فيهما بالإجماع كما ذكرنا، وبقولهما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لكن عنده: يجري في حد القذف والقصاص، ولا يجري في الحدود الخالصة.
وقال مالك وأحمد - رحمهما الله-: لا يجري التحالف إلا فيما لا يثبت إلا بشاهدين، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: يجري في القصاص وحد القذف والطلاق، والعتاق م: (وصورة الاستيلاد: أن تقول الجارية: أنا أم ولد مولاي وهذا ابني منه، وأنكر المولى؛ لأنه لو ادعى المولى ثبت الاستيلاد بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكارها) ش:، وإنما ذكر صورة الاستيلاد فقط لأن في الباقي من صور التنازع فيه الدعوى في الجانبين سوى هذه الصورة، وقد مر الكلام فيه م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله- م: (أن النكول إقرار لأنه يدل على كونه كاذبًا في الإنكار) ش: السابق م: (على ما قدمناه) ش: يعني قوله: م: (إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب) ش: ودفعًا للضرر عن نفسه.
م: (فكان) ش: أي النكول م: (إقرارًا أو بدلًا) ش: بفتح الدال المهملة، أي خلفًا م: (عنه) ش: أي عن الإقرار، هذا في الحقيقة جواب عن شبه، ترد على كون النكول إقرار عندهما. أحدها: ما لو اشترى نصف عبد ثم اشترى النصف الثاني، ثم وجد به عيبًا فخاصمه في النصف الأول فنكل، ولو كان النكول إقرارًا لزمه النصف بنكوله في المرة الأولى، كما لو أقر في تلك المرة، وأجيب: بأن النكول ليس بإقرار في نفسه، ولكن يجعل مقام الإقرار خلفًا عنه لقطع(9/331)
والإقرار يجري في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات، واللعان في معنى الحد، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه بذل لأن معه لا يبقى اليمين واجبة لحصول المقصود وإنزاله باذلا أولى كي لا يصير كاذبا في الإنكار، والبذل لا يجري في هذه الأشياء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصومة، فيقوم النكول مقام الإقرار بقدر الحاجة إلى دفع الخصومة، فكان كالإقرار في المرة الأولى لا في الثانية.
الشبهة الثانية: الوكيل بالبيع إذا ادعى عليه عيب في المبيع فنكل فإنه يلزم الموكل، ولو جعل إقرارًا للزم الوكيل كما في الإقرار به، وأجيب: بأنه وإن كان الإقرار فهو أمر لزمه بسبب البيع، بحيث لا اختيار أمر الموكل أدخله فعليه خلاصه، أما إذا أقر فهو شيء لزمه باختيار الإقرار، فإنه كان ينقضي في عهدة الدعوى بالسكوت أو النكول فيلزمه الضمان، ولا يرجع به على الموكل.
الشبهة الثالثة: هي ما إذا كفل بما وجب على فلان، فادعى المكفول له مالًا على فلان فنكل فلان لا تقضى بالمال على الكفيل، ولو كان المنكول إقرارًا لقضي به على الكفيل كما لو أقر، وأجيب: أن أبا يوسف ومحمدًا - رحمهما الله- يقولان: إن النكول يدل على الإقرار في قطع الخصومة، لأنه يكون إقرار حقيقة، ولهذا لا يثبت المدعي بنفس النكول بخلاف الإقرار، كذا في " المبسوط " وغيره.
وذكر الأكمل هذه الشبهة بقوله "وعليه تفرض إجمالية" م: (والإقرار يجري في هذه الأشياء) ش: المذكورة م: (لكنه إقرار فيه شبهة) ش: هذا جواب من يقول "لو كان النكول إقرارًا ينبغي أن يجب الحد "، فأجاب بقوله: فإنه إقرار فيه شبهة، م: (والحدود تندرئ بالشبهات، واللعان في معنى الحد) ش: لأنه قائم مقام القذف في حق الزوج، وقائم مقام حد الزنا في حق المرأة، وقد مر ذلك في اللعان.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه) ش: أي أن النكول م: (بذل) ش: وإباحة وهذه الحقوق لا يجري فيها البذل والإباحة، فلا يقضى فيها بالنكول، كالقصاص في النفس وعليها الأموال م: (لأن معه) ش: أي مع البذل م: (لا يبقى اليمين واجبة لحصول المقصود) ش: ولا تبقى لليمين فائدة، وتحقيق الكلام هاهنا: أن النكول وإن كان بدلًا لكنه يحتمل أن يكون كذبًا م: (وإنزاله باذلا أولى) ش: حملًا لحاله على الصلاح م: (كي لا يصير كاذبا في الإنكار) ش: السابق لأنه كان أنكر أولًا فلا يظن بينكم الكذب فجعل بذلًا.
م: (والبذل لا يجري في هذه الأشياء) ش: أي الأشياء المذكورة التي لا يستحلف فيها، فإذا كان كذلك لا يقضي فيها بالنكول، فإنه إذا قال مثلًا: أنا حر وهذا الرجل يؤويني فدفعت إليه نفسي أن يسترقني، أو قال: أنا ابن فلان، ولكن أحب أن يدعي نسبي، أو قالت: أنا لست(9/332)
وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول فلا يستحلف، إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب، والعبد المأذون بمنزلة الضيافة اليسيرة، وصحته في الدين بناء على زعم المدعي وهو ما يقبضه حقا لنفسه، والبذل معناه هاهنا ترك المنع، وأمر المال هين. قال: ويستحلف السارق، فإن نكل ضمن ولم يقطع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بامرأته، لكن دفعت إليه نفسي وأبحت له الإمساك لا يصح، م: (وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول) ش: يعني أن البذل فيها لا يجري وفات فائدة الاستحلاف، لأن فائدة القضاء بالنكول، والنكول بذل والبذل فيها لا يجري.
م: (فلا يستحلف) ش: فيها لعدم الفائدة م: (إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: إن النكول لو كان بدلًا ينبغي أن لا يملكه المكاتب والمأذون لأنهما لا يملكون البذل، فأجاب بقوله: م: (فيملكه المكاتب والعبد المأذون) ش: له يحتمل م: (بمنزلة الضيافة اليسيرة) ش: وتقدير الجواب: أنهما ملكاه باعتبار ما فيه من دفع الخصومة في حق المدعي، وإن كان لا يملك أنه بانفراده كالضيافة منهما لأنها من توابع التجارة، م: (وصحته في الدين) ش: أي صحة القضاء بالنكول م: (بناء على زعم المدعي) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقريره بأن يقال: لو كان النكول بدلًا لم يصح القضاء بالنكول في الدين، لأن البذل لا يتحقق فيه، لأن الدين وصف ثابت في الذمة، والبذل لا يجري فيه.
وتقرير الجواب: أن صحة البذل في الدين بناء على زعم المدعي م: (وهو ما يقبضه حقًا لنفسه) ش: تقرير هذا: أن البذل لم يصح في الدين فيما يكون من جهة القابض، ومن جهة الدافع، فإن كان الأول فلا مانع لأنه يقبضه حقًا لنفسه بناءًا على زعمه وإن كان الثاني وهو قوله: م: (والبذل معناه هاهنا) ش: أي في الدين م: (ترك المنع) ش: وجاز له أن يترك المنع م: (وأمر المال هين) ش: جواب عما يقال: فهلا جعل أيضًا في الأشياء، والسبعة المذكورة تركًا للمنع، فأجاب: بأن أمر المال هين أي سهل، لأنه خلق في الأصل مباحًا مبذولًا لمصالح الناس، ولم يصح في الأشياء السبعة، لأن أمرها ليس بهين.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ويستحلف السارق) ش: يعني إذا كان مراد المسروق منه المال يستحلف بالله ما له عليك هذا المال، لأنه يثبت بالشبهات، فجاز أن يثبت بالنكول.
م: (فإن نكل ضمن ولم يقطع) ش: ولا خلاف فيه، وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "شرح كتاب الاستحلاف": قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يستحلف شيء من الحدود، لا في الزنا، ولا في السرقة، ولا في القذف، ولا شرب الخمر، ولا السكر، إلا أنه طالب المسروق منه(9/333)
لأن المنوط بفعله شيئان الضمان ويعمل فيه المنكول، والقطع ولا يثبت به فصار كما إذا شهد عليه رجل وامرأتان.
قال: وإذا ادعت المرأة طلاقا قبل الدخول، استحلف الزوج فإن نكل ضمن نصف المهر في قولهم جميعا، لأن الاستحلاف يجري في الطلاق عندهم، لا سيما إذا كان المقصود هو المال، وكذا في النكاح إذا ادعت هي الصداق لأن ذلك دعوى المال، ثم يثبت المال بنكوله ولا يثبت النكاح، وكذا في النسب، إذا ادعى حقا كالإرث، والحجر في اللقيط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضمان المال، استحلف، فإن نكل عن اليمين ضمنه المال ولم يقطع، هـ م: (لأن المنوط بفعله) ش: أي لأن المتعلق بفعل السارق م: (شيئان) ش: أحدهما: م: (الضمان) ش: أي ضمان المال م: (ويعمل فيه المنكول) ش: يعني يثبت بالنكول لأنه يجري فيه البذل، ويثبت بها فيه شبهة، م: (والقطع) ش: والثاني: القطع.
م: (ولا يثبت به) ش: أي ولا يثبت القطع بالنكول لأنه لا يجري البذل بالنكول، لأنه لا يجري البذل في الحدود، ولا يثبت بما فيه شبهة الإقرار م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كما إذا شهد عليه) ش: أي على السرقة م: (رجل وامرأتان) ش: حيث يثبت المال فلا يثبت القطع.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا ادعت امرأة طلاقًا قبل الدخول) ش: وفائدة تعيين صورة المسألة في الطلاق قبل طلاق الدخول حتى يعلمهم أن الدعوى في كل المهر أو نصفه سواء كان دعوى المهر في ضمن أو بدونه هذا، قاله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: فيه نظر، لأن الطلاق يغني عن ذلك، وليس فيه توهم التقيد بذلك م: (استحلف الزوج، فإن نكل ضمن نصف المهر في قولهم جميعًا؛ لأن الاستحلاف يجري في الطلاق عندهم، لا سيما إذا كان المقصود هو المال، وكذا في النكاح) ش: أي وكذا يجري الاستحلاف إذا كان دعوى المال في النكاح، وهو معنى قوله م: (إذا ادعت هي الصداق، لأن ذلك دعوى المال، ثم يثبت المال بنكوله ولا يثبت النكاح) ش: في النكاح.
فإن قلت: وجب أن يثبت النكاح أيضًا لأنه يثبت بالشبهات؟.
قلت: البذل لا يجري فيه كما ذكرنا.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يستحلف م: (في النسب إذا ادعى حقًا كالإرث) ش: بأن ادعى رجل على رجل آخر أنه أخ المدعى عليه، مات أبوهما وترك مالا في يد المدعى عليه، أو طلب من القاضي فرض النفقة على المدعى عليه بسبب الأخوة فإنه يستحلف على النسب، فإن حلف برئ، وإن نكل يقضى بالمال والنفقة دون النسب م: (والحجر في اللقيط) ش: أي وكذا إذا ادعى الحجر في اللقيط إن كان صبيا لا يعبر عن نفسه في يده ملتقط، فادعت إخوته امرأة تريد قصر يد(9/334)
والنفقة، وامتناع الرجوع في الهبة لأن المقصود هذه الحقوق، وإنما يستحلف في النسب المجرد عندهما، إذا كان يثبت بإقراره، كالأب والابن في حق الرجل، والأب في حق المرأة؛ لأن في دعواها الابن تحميل النسب على الغير والمولى والزوج في حقهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الملتقط لحق حضانتها، وأرادت استحلافه فنكل، ثبت لها الحجر دون النسب.
م: (والنفقة) ش: بأن ادعى النفقة بسبب الإخوة وهو زمن، فأنكر المدعى عليه الأخوة يستحلف بالإجماع، فإن حلف برئ وإن نكل يقضى بالبينة بالنفقة، ولا يقضى بالنسب م: (وامتناع الرجوع في الهبة) ش: أي وكذا يستحلف في امتناع الرجوع في الهبة، صورته أن الواهب أراد الرجوع فقال الموهوب له: أنا أخوك فلا رجوع لك، فالواهب يستحلف، فإن نكل ثبت الامتناع من الرجوع ولا يثبت النسب.
م: (لأن المقصود هذه الحقوق) ش: هذا دليل " المجموع "، أي لأن المقصود في الصور المذكورة إثبات المال، فعند النكول يثبت المال ولا يثبت النسب، لأن فيه تحميل له على الغير، وهو لا يجوز، م: (وإنما يستحلف في النسب المجرد) ش: قيد به احترازًا عما هو مقرون بدعوى المال، فإنه يثبت المال ولا يثبت النسب م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله-، م: (إذا كان يثبت بإقراره) ش: المدعى عليه، فإن النكول عندهما إقرار.
بيان ذلك في قوله: م: (كالأب والابن في حق الرجل) ش: فإن إقراره يصح بالأب والابن م: (والأب في حق المرأة) ش: كما إذا ادعت أنه أبوها م: (لأن في دعواها الابن) ش: أي في إقرارها به م: (تحميل النسب على الغير) ش: فلا يجوز، حاصله: أنه يصح إقرار المرأة بأربعة بالوالدين، والزوج والمولى، ولا يصح بالولد لما قلنا.
وإقرار الرجل يصح بخمسة: بالوالدين، والولد، والزوجة والمولى، لأنه أقر بما يلزمه، وليس فيه تحميل النسب على الغير، ولا يصح إقراره بما سواهم م: (والمولى والزوج في حقهما) ش: أي في حق الرجل والمرأة، وهو متعلق بقوله: والمولى والزوج جميعًا، لأن إقرار الرجل والمرأة جميعًا بالمولى والزوج يصح.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مبسوطه": الأصل في هذا الباب أن المدعى عليه النسب إذا أنكر هل يستحلف، إن كان بحيث لو أقر به لا يصح إقراره عليه فاستحلف عندهم جميعًا، لأن اليمين لا تفيد، فإن فائدة اليمين النكول، حتى يجعل النكول بدلًا وإقرارًا فيقضى عليه لو أقر فإنه لا يستحلف عندهم جميعًا إن كان المدعى عليه حيث لو أقر به لزمه ما أقر به، وإذا أنكر هل يستحلف على ذلك؟، فالمسألة على الاختلاف، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يستحلف، وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله-: يستحلف، فإن حلف(9/335)
قال: ومن ادعى قصاصا على غيره فجحده استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لزمه الأرش فيهما، لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما، فلا يثبت به القصاص ويجب به المال خصوصا إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه، كما إذا أقر بالخطأ والولي يدعي العمد، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل بخلاف الأنفس، فإنه لو قال: أقطع يدي، فقطعها لا يجب الضمان، وهذا إعمال للبذل، إلا أنه لا يباح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
برئ عن الدعوى وإن نكل عن اليمين لزمته الدعوى، فعلى هذا الأصل يخرج مسائل الباب.
[ادعى قصاصا على غيره فجحده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": م: (ومن ادعى قصاصًا على غيره فجحده استحلف بالإجماع) ش: ولا خلاف فيه م: (ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس لزمه القصاص) ش: عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال القاضي ومالك - رحمهما الله- بعد حلف المدعي، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، م: (وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الذي ذكر من النكول فيما دون النفس، والنكول في النفس.
م: (وقالا:) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: م: (لزمه الأرش فيهما) ش: أي يلزمه المال في النفس والطرف جميعًا، وهذا الاختلاف فرع اختلافهم في معنى النكول، فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو في معنى البذل، وعندهما في مضي إقرار فيه شبهة، لأنه لم يصرح بالإقرار، وهو معنى قوله: م: (لأن النكول إقرار فيه شبهة) ش: أي شبهة البدلية، أو شبهة الإقرار، لأن النكول إقرار فيه شبهة الإنكار م: (عندهما فلا يثبت به القصاص ويجب به المال خصوصًا إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه) ش: قيد به لأنه لو كان امتناعه من جهة من له القصاص لا يجب القصاص، ولا المال أيضًا، كما إذا أقام مدعي القصاص رجلا أو امرأتين أو الشهادة على الشهادة، حيث لا يقضى بشيء، فامتنع القصاص، قوله فلا يجب المال ونظائره بقوله: م: (كما إذا أقر بالخطأ والولي يدعي العمد) ش: يجب المال وبعكسه لا يجب.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال) ش: لأنها خلقت وقاية النفس، كالأموال فإذا كانت كذلك فيجب، أي فيه البذل، كما في الأموال م: (بخلاف الأنفس) ش: حيث لا يجري البذل فيها، وأوضح ذلك بقوله م: (فإنه لو قال) ش: أي فإن أحدًا لو قال لآخر: م: (اقطع يدي فقطعها لا يجب عليه الضمان، وهذا) ش: أي عدم الضمان م: (إعمال للبذل) ش: وهو بذل مقيد لكونه دافعًا للخصومة م: (إلا أنه لا يباح) ش: جواب إشكال، وهو أن يقال لو كانت الأطراف الأموال، ينبغي أن يباح القطع بالبذل، كما يباح المال بالبذل،(9/336)
لعدم الفائدة، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة، فصار كقطع اليد للآكلة وقلع السن للوجع وإذا امتنع القصاص في النفس، واليمين حق مستحق عليه يحبس به كما في القسامة. قال: وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة قيل لخصمه: أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام، كي لا يغيب نفسه فيضيع حقه والكفالة بالنفس جائزة عندنا، وقد مر من قبل، وأخذ الكفيل بمجرد الدعوى استحسان عندنا؛ لأن فيه نظرا للمدعي وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه، وهذا لأن الحضور مستحق عليه بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأجاب: بأنه لا يباع القطع م: (لعدم الفائدة) ش: أي كما إذا قال له الغير، احرق ثوبي، أو أتلف مالي لا يباح لعدم الفائدة.
م: (وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة) ش: أي بهذا البذل م: (فصار مقطع اليد للآكلة) ش: على وزن الفاعلة، وهي قرحة غائرة في البدن ينحر العفن، وسببها دم فاسد عفن يستحيل إلى السواد، وأول علاجها استنزاع الخط السوداوي، م: (وقلع السن للوجع) ش: عطف على قوله: "تقطع اليد للآكلة" فإن القطع هاهنا مفيد، فلو قطعه لا يجب عليه شيء بخلاف القطع السرقة، فإن القطع فيها خالص حق الله تعالى، فلا يثبت حق الشبهة.
م: (وإذا امتنع القصاص في النفس) ش: لكونه حق الله تعالى خالصًا، ولا يجري البذل في حقوقه م: (واليمين حق مستحق عليه يحبس به) ش: أي بحق اليمين، قاله الكاكي، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بالحق المستحق م: (كما في القسامة) ش: فإنهم إذا نكلوا عن اليمين يحسبون حتى يقروا أو يحلفوا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة، قيل لخصمه: أعطه كفيلًا بنفسك ثلاثة أيام كي لا يغيب نفسه فيضيع حقه) ش: أي حق المدعي، وقد اختلف السلف في أخذ الكفيل.
وروى قتادة والشعبي: أنه لا يجوز، وروي عن إبراهيم النخعي: أنه يجوز م: (والكفالة بالنفس جائزة عندنا) ش: وهذا استحسان كما يجيء وبه أخذ علماؤنا، والقياس: أنه لا يجوز كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه مجرد الدعوى ليس سبب الاستحقاق م: (وقد مر من قبل) ش: أي في أول كتاب الكفالة، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز الكفالة بالنفس م: (وأخذ الكفيل بمجرد الدعوى استحسان عندنا) ش: قيد به، لأن في القياس أن لا يؤخذ كفيل قبل إقامة البينة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن فيه) ش: أي في أخذ الكفيل م: (نظرًا للمدعي وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه لأن الحضور مستحق) ش: أي على المدعي م: (عليه بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه) ش: بلفظ المجهول(9/337)
ويحال بينه وبين أشغاله، فصح التكفيل بإحضاره، والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح، ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه، والحقير من المال والخطير، ثم لا بد من قوله لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر، حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الإعداد، يقال: استعدي فلان الأمير علي في ظلمه، أن استعان به، فأعداه الأمير أن أعانه عليه ونصره.
وفي " المبسوط ": الأشخاص إلى بابه يثبت بمجرد الدعوى لما فيه من النظر له، وليس في التكفيل كثير ضرر بالمدعى عليه، لأنه إن لم يكن من فعل الاختفاء لا يتضرر به، وإن كان من قصد الاختفاء يكون ظالمًا فلا ينظر له.
م: (ويحال) ش: على صيغة المجهول بالنصب، عطفًا على قوله: حتى يعدى عليه، وهي من الحيلولة م: (بينه) ش: أي بين المدعى عليه م: (وبين أشغاله، فصح التكفيل بإحضاره) ش: وفي بعض النسخ: فتصح التكفيل م: (والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح) ش: واحترز به عما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخذ الكفيل إلى المجلس م: (ولا فرق في الظاهر) ش: أي في ظاهر الرواية م: (بين الخامل) ش: بالخاء المعجمة. من خمل الرجل خمولًا إذا كان ساقط القدر م: (والوجيه) ش: وهو الذي له وجاهته وقدره بين الناس.
وروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان الرجل معروفًا، الظاهر من حاله أنه لا يخفى شخصه بذلك القدر من المال فإنه لا يجبر على إعطاء الكفيل، ولكنه أعطى بنفسه كفيلًا مختارًا يؤخذ منه، وإن لم يعطه لا يجبره القاضي على ذلك، م: (والخطير من المال) ش: أي ولا فرق أيضًا بين الخطير وهو الذي له كثرة، م: (والحقير) ش: أي بين الحقير الذي ليس له قدر في الاتصاف بالمالية.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان المال حقيرًا لا يخفي المرء نفسه بذلك القدر من المال لا يجبر ولكنه إن أعطى من غير جبر يقبل وإلا فلا، ولو ادعى أنه معسر فإن القاضي يحكم فيه الزي إلا إذا كان المرء من العلماء أو من المعادية لأنهم يتكلفون في لبساهم مع فقرهم، فأما في حق الغير بحكم الزي، وإن كان زي الفقر كان القول قوله: وإن كان عليه زي الأغنياء لا يكون القول قوله، وتحكيم الثياب والزي جائز، قال الله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] الآيتين (يوسف: الآيتين 26، 27) ، فعلم أن تحكيم العلامة جائز.
م: (ثم لا بد من قوله: لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر، حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب) ش: أي لو قال: شهودي غيب، بفتحتين على التخفيف، وهو جمع غائبة، مثل(9/338)
لا يكفل لعدم الفائدة. قال: فإن فعل وإلا أمر بملازمته كيلا يذهب حقه، إلا أن يكون غريبا فيلازم مقدار مجلس القاضي، وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس، فالاستثناء منصرف إليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خدم وخادم، ويجوز غيب بضم الغين وتشديد الياء، وهو أيضًا جمع غائب على القياس م: (لا يكفل لعدم الفائدة) ش: لأن الفائدة هي الخصومة عند حضور الشهود وذلك في الهالك محال، كالغائب والهالك من وجه، إذا ليس كل غائب يؤوب.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن فعل) ش: أي فإن أعطى الكفيل م: (وإلا أمر) ش: أي وإن لم يعط م: (بملازمته) ش: أي سار معه حيث سار م: (كيلا يذهب حقه) ش: أي حق المدعي.
م: (إلا أن يكون غريبًا) ش: إلا أن يكون المدعى عليه غريبًا حال كونه على الطريق، أي مسافرًا فإذا كان كذلك م: (فيلازم مقدار مجلس القاضي) ش: لأن هذا القدر لا يقطعه عن المرفقة ويحصل النظر للمدعي.
فأما في إمساكه على باب القاضي يومًا أو أكثر ليحضر المدعي بينة ضرر على المطلوب، فإذا جاء أو أن قيام القاضي عن مجلسه ولم يحضر المدعي بينته فإن القاضي يحلفه ويخلي سبيل المطلوب ليذهب حيث شاء.
فإن اختلف المطالب والمطلوب وقال المطلوب: أنا مسافر وقال المطالب: إنه لا يريد السفر ففيه أقوال.
قال بعضهم: القول قوله المدعي لأنه يتمسك بالأصل، وهو الإقامة والسفر عارض، وقال بعضهم: فالقاضي يسأله مع من يريد السفر، فإن أخبره مع فلان فالقاضي يبعث إليه من يسأله، هل أستعد للخروج معكم، فإن قالوا: نعم، يقبل ذلك منه فيمهله إلى آخر المجلس، فإن أحضر المدعي بينة في هذه المدة وإلا خلي سبيل المطلوب، وإن لم يعلم من حاله فنحن نعلم أنه يبقى ثلاثة أيام لأجل الاستعداد، فقلنا بأنه يجبره على إعطاء الكفيل ثلاثة أيام.
م: (وكذا لا يكفل إلى آخر المجلس) ش: أي إلى آخر مجلس القاضي م: (فالاستثناء) ش: أي الاستثناء المذكور بقوله- إلا أن يكون غريبًا- م: (منصرف إليهما) ش: أي إلى الملازمة والتكفيل، وهذا التقدير إنما يحتاج إليه على رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم يذكر هناك مقدار مجلس القاضي في تقدير الملازمة ومدتها، ولا الكفيل ومدته.
فإن فعل والأمر بملازمته إلا أن يكون غريبًا على الطريق، وأما هاهنا قد ذكر الملازمة مدتها ومدة التكفيل، فلا يحتاج إلى قوله "والاستثناء منصرف" لأنه ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مدة كل(9/339)
لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك إضرارا به بمنعه عن السفر، ولا ضرر في هذا المقدار ظاهرا، وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحد باستثناء واحد.
م: (لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك) ش: أي على مقدار مجلس القاضي م: (إضرارًا به) ش: أي بالغريب الذي على الطريق م: (بمنعه عن السفر) ش: أي لمنع الكفيل إياه عن السفر والذهاب إلى منزله، فيؤدي إلى إلحاق الضرر به. وإن كان المدعي يتضرر بذلك لأن ضرر المسافر حقيقة وضرر المدعي موهوم، وربما يكون صادقًا في الدعوى أو كاذبًا والموهوم لا يعارض المحقق، م: (ولا ضرر في هذا المقدار) ش: أي في مقدار مجلس القاضي م: (ظاهرًا) ش: أي حيث الظاهر، لأنه بهذا القدر لا ينقطع عن الرفقة.
م: (وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى) ش: وتفسير الملازمة أن يدور معه حيث دار، ويبعث أمينًا حتى يدور معه أينما دار، لكن لا يحبسه في موضع لأن ذلك حبس، وهو غير مستحق عليه بنفس الدعوى، ولا يشغله عن التصرف بل يتصرف والمدعي يدور معه ولا يمنعه من الدخول إلى أهله.
لكن المطلوب يجلس على باب داره، وفي " الفتاوى الصغرى ": المطلوب إذا أراد أن يدخل داره، فإما أن يأذن للمدعي بالدخول معه أو يحبس معه على باب الدار، لأنه لو تركه حتى يدخل الدار وحده ربما يهرب من جانب آخر فيفوت المقصود من الملازمة.(9/340)
فصل في كيفية اليمين والاستحلاف قال: واليمين بالله عز وجل دون غيره لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر» ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من حلف بغير الله فقد أشرك» ، وقد يؤكد بذكر أوصافه وهو التغليظ، وذلك مثل قوله: قل: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر والخفاء ما يعلم من العلانية ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا ولا شيء منه وله أن يزيد في التغليظ على هذا وله أن ينقص إلا أنه يحتاط كيلا يتكرر عليه اليمين لأن المستحق عليه يمين واحدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في كيفية اليمين والاستحلاف]
م: (فصل في كيفية اليمين والاستحلاف)
ش: أي هذا فصل في بيان كيفية اليمين، وكيفية الشيء صفته ولا ذكر نفس اليمين في أي موضع يكون وفي أي موضع لا يكون.
شرع في بيان كيفيتها لأن الصفة تتبع الموصوف م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (واليمين بالله عز وجل دون غيره) ش: أي غير الله تعالى م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من كان منكم حالفًا فيحلف بالله أو ليذر» ش: تقدم هذا الحديث في الأيمان
م: (وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من حلف بغير الله فقد أشرك» ، وقد يؤكد) ش: أي اليمين م: (بذكر أوصافه) ش: أي أوصاف الله تعالى، هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهو التغليظ، وذلك مثل قوله: قل: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر والخفاء ما يعلم من العلانية ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا ولا شيء منه) ش:
وإنما ذكر: ولا شيء منه، لجواز أنه قد أدى البعض، ويذكر صفاته بدون حرف العطف، حتى لو قال: "والله" "والرحمن الرحيم"، ويكون أيمانًا.
م: (وله أن يزيد في التغليظ على هذا) ش: أي وللقاضي أو المحلف من جهد الزيادة في تغليظ الزيادة على هذا المذكور م: (وله أن ينقص منه) ش: أي عن المذكور، وذلك لأن أحوال الناس فيه مختلفة فمنهم من يمتنع عن التغليظ، ومنهم من يتجاسر ولا يبالي م: (إلا أنه يحتاط) ش:، والمراد من الاحتياط ما ذكرنا من أنه بذكر الأسماء والصفات بدون حرف العطف.
م: (كيلا يتكرر عليه اليمين) ش: لأنه ذكر الواو صارت أيمانًا كما ذكرنا، م: (لأن المستحق عليه يمين واحدة) ش: فلا يزاد عليها.(9/341)
والقاضي بالخيار إن شاء غلظ، وإن شاء لم يغلظ فيقول: قل بالله أو والله، وقيل لا يغلظ على المعروف بالصلاح ويغلظ على غيره، وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير قال: ولا يستحلف بالطلاق ولا بالعتاق لما روينا، وقيل: في زماننا إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك لقلة المبالاة باليمين بالله وكثرة الامتناع بسب الحلف بالطلاق
قال: ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن صوريا الأعور: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى إن حكم الزنا في كتابكم هذا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقاضي بالخيار إن شاء غلظ، وإن شاء لم يغلظ فيقول: قل بالله، أو: والله، وقيل: لا يغلظ على المعروف) ش: أي الرجل المعروف م: (بالصلاح ويغلظ على غيره) ش: أي غير المعروف بالصلاح م: (وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير) ش: والمال الخطير هو المال العظيم، وفي الإقرار إذا قال لفلان علي مال عظيم يلزمه النصاب الشرعي.
م: (وقال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يستحلف بالطلاق ولا بالعتاق) ش: وفي " الفتاوى الصغرى ": التحليف بالطلاق والعتاق لم يجوزه أكثر أصحابنا، وأجازه البعض، وبه أفتى الإمام أبو علي بن الفضل بسمرقند.
ويفتي: أنه لا يجوز وإن مست الضرورة يجوز، فإذا بلغ المستفتي في الفتوى يفتي: أن الرأي إلى القاضي اتباعًا لهؤلاء السلف، وفي " خلاصة الفتاوى ": فلو حلفه القاضي بالطلاق فنكل وقضى بالمال لا ينفذ قضاؤه، وفي "الأصل": لا يحلف بالطلاق ولا بالعتاق ولا بالحج م: (لما روينا) ش:، أراد به الحديث المذكور.
م: (وقيل: في زماننا إذا ألح الخصم) ش: بأن كان لحوحًا متفتًا لا يبالي باليمين بالله فحينئذ م: (ساغ للقاضي أن يحلف) ش: من التحليف م: (بذلك) ش: أي بالطلاق وبالعتاق.
م: (لقلة المبالاة باليمين بالله تعالى، وكثرة الامتناع بسبب الحلف بالطلاق) ش: وفي "الفصول" للأستروشني: لو أنكر الشاهد الشهادة لا يحلفه القاضي، وفي " المبسوط ": لأن الاستحلاف يغني عن الخصومة، ولا خصم ولا شاهد، وفي " الفصول ": ولو قال المنكر الشاهد كاذب وأراد تحليف المدعي ما يعلم أنه كاذب لا يحلفه.
[استحلاف اليهودي والنصراني]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والنصراني) ش: أي يحلف النصراني م: (بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (لابن صوريا الأعور: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حكم الزنا في كتابكم هذا") » ش: هذا الحديث أخرجه مسلم في الحدود عن عبد(9/342)
ولأن اليهودي يعتقد نبوة موسى، والنصراني بنبوة عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فيغلظ على كل واحد منهما بذكر المنزل على نبيه ويستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار وهكذا ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله بن مرة، عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهودي محمم، فدعاهم، فقال: "هكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ " فقالوا: نعم، فدعا رجلًا فقال له: " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: هكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ " فقال: اللهم لا، فلولا أنك نشدتني بهذا لم أحدثك بحد الزنا في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإن أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا، فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والضعيف فاجتمعنا على التحميم والجلد، وتركنا الرجم فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم".» قاله الشارح، وهذا الرجل هو عبد الله بن صوريا، وكان أعلم من بقي منهم بالتوراة، قد صرح باسمه في " سنن أبي داود ".
وعن سعد عن قتادة، عن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: يعني لابن صوريا ... الحديث، وهذا مرسل.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي في " السنن " مسندًا إلى البراء بن عازب، ثم ذكر الحديث، وليس كذلك، بل الحديث في " صحيح مسلم " كما ذكرناه، وإذا أراد "بالسنن" سنن أبي داود فليس بصحيح، لأنه في " سنن أبي داود " معلقًا، إن أراد غيره فما روي إلا عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وصوريا بضم الصاد المهملة، وكسر الراء بالقصر، وهو اسم أعجمي، وهو ولد عبد الله كما ذكرنا، قوله أنشدك من نشد ينشد، من باب نصر، وفي " المغرب ": نشد الضالة طلبها، ومنه قولهم في الاستعطاف: نشدك وناشدتك الله وبالله، أي سألتك بالله وطلبت إليك بحقه.
م: (ولأن اليهودي يعتقد بنبوة موسى، والنصراني نبوة عيسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) ش: أي يعتقد نبوة عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (فيغلظ على كل واحد منهما) ش: أي من اليهود والنصارى م: (بذكر المنزل) ش: بفتح الزاء م: (على نبيه، ويستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار) ش: لأنه يعتقد الحرمة في النار فيمتنع من اليمين الكاذبة، فيحصل المقصود.
م: (وهكذا ذكر محمد في الأصل) ش: أي في " المبسوط "، وكأنه وقع عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن المجوس من يعظمون النار تعظيم العباد، فالمقصود من اليمين، وهي المنكول، قال: يذكر في اليمين، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وهو اختيار بعض مشايخنا - رحمهم(9/343)
ويروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في النوادر لأنه لا يستحلف أحدا إلا بالله خالصا، وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يستحلف غير اليهودي والنصراني إلا بالله، تعالى وهو إخبار بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيمها وما ينبغي أن تعظم بخلاف الكتابين، لأن كتب الله معظمة والوثني لا يحلف إلا بالله لأن الكفرة بأسرهم يعتقدون الله تعالى، قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] (لقمان: الآية 25) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله-
م: (ويروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " النوادر ": لأنه) ش: أي أن القاضي م: (لا يستحلف أحدا إلا بالله خالصًا) ش: يعني لما يذكر غير اسم الله تعالى وصفاته، لا في حق المسلمين ولا في حق الكفار.
م: (وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يستحلف غير اليهودي والنصراني إلا بالله تعالى، وهو إخبار بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيمها) ش: أي تعظيم النار، م: (وما ينبغي أن تعظم) ش: أي النار م: (بخلاف الكتابين) ش: يعني التوراة والإنجيل.
م: (لأنم كتب الله تعالى معظمة) ش: لأن الكتب الأربعة كلام الله عز وجل، وتعظيمها واجب
م: (والوثني لا يحلف إلا بالله لأن الكفرة بأسرهم يعتقدون بالله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] (لقمان: 25)
فإن قلت: لو كانوا يعتقدون بالله تعالى لم يعبدوا الأوثان والأصنام؟، قلت: إنما يعبدونها تقربًا إلى الله تعالى على زعمهم، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] (الزمر: 3) .
فإذا ثبت أنهم يعتقدون بالله تعالى يمتنعون عن الإقدام على اليمين الكاذبة بالله عز وجل، فتحصل الفائدة المطلوبة من اليمين وهي النكول.
وفي " شرح الأقطع ": وأما الصابئة فإن كانوا يؤمنون بإدريس - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، استحلفوا بالله الذي أنزل الصحف على إدريس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كانوا يعبدون الكواكب استحلفوا بالله الذي خلق الكواكب.
م: (والوثني) ش: نسبته إلى عبادة الوثن وهو ماله خبة من خشب أو حجر، أو فضة، أو جوهر ينحت، والجمع أوثان، وكانت العرب تنصبها وتعبدها، والصبئة جنس من الكفار،(9/344)
قال: ولا يحلفون في بيوت عبادتهم لأن القاضي لا يحضرها، بل هو ممنوع عن ذلك. قال: ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا مكان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قاله الجوهري، من صبا إذا خرج من دين إلى دين آخر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يحلفون في بيوت عبادتهم؛ لأن القاضي لا يحضرها بل هو ممنوع عن ذلك) ش: أي عند الحضور في بيوت عبادتهم، لأن في تعظيم ذلك المكان، ففي أي مكان حلفهم جاز، وفي " الأجناس " قال في المأخوذ للحسن:
وإن سئل المدعي القاضي أن يبعث به إلى بيته، أو كنيته فيحلف هناك فلا بأس أن يحلفه إذا اتهمه، وعند أبي خطاب الحنبلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتوقون أن يحلفوا كذبًا حلفوا فيها، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا مكان) ش: أما التغليظ بالزمان ففي يوم الجمعة بعد العصر، أما التغليظ بالمكان فبين الركن والمقام إن كان بمكة وعند قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان بالمدينة، وعند الصخرة إن كان في بيت المقدس، وفي سائر الجوامع في سائر البلاد.
وبقولنا قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيما يستحب التغليظ بمكان وزمان، وفي قول: يجب التغليظ بهما.
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دعوى دم، ونكاح، وطلاق ورجعه وإيلاء، ولعان وعتق، وحد ووكالة، وولاء، وجناية، وكل ما ليس بمال والمقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع، وعيوب النساء، ومال كثير، وهو النصاب من الذهب عشرون مثقالًا، ومن الفضة مائتا درهم، وفيما دون ذلك لا يغلظ في كل قليل وكثير، ومن به مرض أو زمانة لا يغلظ عليه بالمكان، وكذا الحائض، والمخدرة على وجه لا يجب عليهما حضور مجلس القاضي.
ويحلف الحائض والمخدرة على باب الجامع، وفي كتاب " التفريع " للمالكية: ويحلف الناس في المساجد، ولا يحلف عند منبر من المنابر، إلا عند منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يحلف عنده إلا على ربع دينار فصاعدًا.
ويحلف على أقل من ذلك في سائر المساجد، وإذا وجبت يمين على امرأة حلفت في المسجد ليلًا إن كانت ممن لا تخرج نهارًا.
وفي " المستوعب " للحنابلة: والتغليظ بالزمان بعد صلاة العصر، أو بين الأذان والإقامة، ولا تغليظ اليمين إلا فيما له حطم، مثل الجنايات والحدود والعتاق والطلاق ونحو ذلك وفي المال(9/345)
لأن المقصود تعظيم المقسم به وهو حاصل بدون ذلك وفي إيجاب ذلك خرج على القاضي حيث يكلف حضورها وهو مدفوع،
قال: ومن ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألف فجحده استحلف بالله ما بينكما بيع قائم فيه ولا يستحلف بالله ما بعت لأنه قد يباع العين ثم يقال فيه ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليك رده، ولا يحلف بالله ما غصبت، لأنه قد يغصب ثم يفسخ بالهبة والبيع وفي النكاح بالله ما بينكما قائم في الحال، لأنه قد يطرأ عليه الخلع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الذي تجب فيه الزكاة وقيل فيما تقطع فيه يد السارق، م: (لأن المقصود) ش: يعني من اليمين م: (تعظيم المقسم به) ش: أي تعظيم المقسم به.
م: (وهو حاصل بدون ذلك وفي إيجاب ذلك) ش: أي بدون تعيين الزمان والمكان م: (حرج على القاضي حيث يكلف حضورها) ش: أي حضور بقعة معينة من المكان، أو ساعة معينة من الزمان م: (وهو) ش: أي الخروج م: (مدفوع) ش: شرعًا.
فإن قلت: استدل الخصم بما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف عند منبري هذا بيمين هذا بيمين كاذبة تبوأ مقعدًا من النار» وربما روي أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى قومًا يحلفون بين المقام والبيت، فقال: علي دم؟، فقالوا: لا، قال: أفعظيم من المال؟، قالوا: لا، قال: خشية أن يتهاون الناس بهذا البيت.
الجواب: أن هذا الحديث ليس حديثًا صحيحًا، وهذا ينافي إطلاق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، والتخصيص بالزمان والمكان زيادة عليه بأخبار غريبة لا يعلم صحتها فلا يجوز.
[كيفية تحليف من ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألف فجحده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألف فجحده) ش: أي أنكره م: (استحلف بالله ما بينكما بيع قائم فيه لا يستحلف بالله ما بعت لأنه قد يباع العين ثم يقال فيه) ش:
لأنه إذا حلف على البيع يضطر إلى اليمين الكاذبة، أو إلى تسليم العبد إلى مالكه بالإقالة وكل ذلك ضرر، هذا هو اليمين على الحاصل على ما يأتي - إن شاء الله تعالى - أي وفي دعوى الغصب إذا أنكر.
م: (ويستحلف وفي الغصب بالله ما يستحق عليك رده ولا يحلف بالله ما غصبت لأنه قد يغصب ثم يفسخ بالهبة والبيع وفي النكاح) ش: على امرأته أنه تزوجها فأنكرت هي أو بالعكس م: (بالله) ش: أي يحلف بالله م: (ما بينكما نكاح قائم في الحال لأنه قد يطرأ عليه) ش: أي على النكاح م: (الخلع) ش: بأن خلعها بعد النكاح.(9/346)
وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت، ولا يستحلف بالله ما طلقها، لأن النكاح قد يجدد بعد الإبانة فيحلف على الحاصل في هذه الوجوه؛ لأنه لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحلف في جميع ذلك على السبب إلا إذا عرض للمدعى عليه بما ذكرنا فحينئذ يحلف على الحاصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي دعوى الطلاق) ش: أي يحلفه في دعوى الطلاق بأن ادعت على رجل أنه طلقها ثلاثًا وهو ينكر م: (بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت)
ش: وفي بعض النسخ كما ذكرت: م: (ولا يستحلف بالله ما طلقها لأن النكاح قد يحدد بعد الإبانة فيحلف على الحاصل) ش:، أي على ثبوت الحكم في الحال م: (في هذه الوجوه) ش: أي الوجوه المذكورة، وهي دعوى ابتياع العبد والغصب والنكاح والطلاق م: (لأنه) ش: أي لأن المدعي يتوجه اليمين في هذه الصور م: (لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، وهذا) ش:
أي الحلف على الحاصل في الوجوه المذكورة م: (قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-: أما على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحلف في جميع ذلك على السبب) ش:، لأن اليمين يستوفي حق المدعي فوجب أن تكون مطابقة لدعواه والمدعي يدعي السبب، والضابط في الحلف على الحاصل وعلى السبب أن السبب إما هو كان ما يرتفع برافع أولًا، فإن كان الثاني والمتحلف على السبب بالإجماع، وإن كان الأول بأن تضرر المدعي بالتحليف على الحاصل فكذلك وإن لم يتضرر ويحلف على الحاصل عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- على السبب عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (إلا إذا عرض للمدعى عليه) ش: أي المدعى عليه م: (بما ذكرنا) ش: يعني من قوله "بل يبتاع العين"، ثم يقال فيه وفي الغصب: قد يصح بالهبة وفي النكاح، وقد يطوى عليه الخلع، وفي الطلاق قد يتجددا بعد الإبانة.
ومراده من التعريض هذه الأشياء بأن يقول المدعى عليه: أيها القاضي الإنسان قد يبيع شيئًا ثم يقال فيه: وكذلك بقية الصور، م: (فحينئذ يحلف) ش: أي يحلف القاضي م: (على الحاصل) ش: وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خلاف التصريح، والفرق بينه وبين الكناية أن التعريض تضمين الكلام دلالة ليس فيه ذكر كقولك، ما أقبح البخل، تعريض بأنه بخيل، والكناية ذكر الرديف وإرادة المردوف كقولك فلان طويل النجاد، كثير رماد القدر، يعني طويل القامة ومضياف.
ثم قال: ويريد به هاهنا المدعى عليه عند عرض اليمين عليه على السبب يعرض بشيء يعرفه القاضي، فيحلفه على الحاصل كما إذا ادعى رجل أنه اشترى من هذا هذه الصيغة التي(9/347)
وقيل: ينظر إلى إنكار المدعى عليه إن أنكر السبب يحلف عليه، وإن أنكر الحكم يحلف على الحاصل، فالحاصل هو الأصل عندهما إذا كان سببا يرتفع برافع إلا إذا كان فيه ترك النظر في جانب المدعي، فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع، وذلك مثل أن تدعي مبتوتة نفقة العدة والزوج ممن لا يراها، أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها؛ لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده، فيفوت النظر في حق المدعي، وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدها كذا وأنكر المدعى عليه وأراد استحلافه يحلف على الحاصل بالله ما بينكما بيع قائم الساعة.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحلف على السبب بالله ما بعت هذه الصيغة بهذا الثمن الذي يدعى، إلا أن يعرض المدعى عليه للقاضي فيقول: بيع الرجل بالشيء، ثم يرجع إليه بإقالة أو بوجه من الوجوه، ولا يمكنني أن أقر بالبيع ثم ادعى الفتح فحينئذ يحلف على الحاصل.
م: (وقيل:) ش: قائله شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ينظر إلى إنكار المدعى عليه إن أنكر السبب يحلف عليه) ش: أي على السبب م: (وإن أنكر الحكم) ش:، بأن قال: ليس له علي هذا المال، فإن قال: ما غصبت ولا استقرضت الذي يدعى ولا شيئًا فيه م: (يحلف على الحاصل) ش: وقال في "الذخيرة": هو الأحسن، وعليه عمل أكثر القضاة.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفوض إلى رأي القاضي، ويقول الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه: وفي وجه كقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (فالحاصل) ش: أي التحليف على الحاصل
م: (هو الأصل عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله-، وهو أن يقول بالله ما له حق الرد بهذا العيب الذي يدعيه م: (إذا كان سببًا يرتفع برافع) ش: كالبيع، يقال فيه: والغصب يفسخ بالهبة والنكاح يفسخ بالخلع والطلاق يتجدد فيه بعد الإبانة.
م: (إلا إذا كان فيه) ش: أي في التحليف على الحاصل م: (ترك النظر في جانب المدعي، فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع) ش:، وأوضح ذلك بقوله: م: (وذلك) ش: أي ترك النظر م: (مثل أن تدعي مبتوتة) ش: أي امرأة مبانة تدعي على زوجها م: (نفقة) ش: أي نفقة العدة م: (والزوج ممن لا يراها) ش: أي من لا يرى نفقة المثبوتة بأن كان شافعي المذهب فإنه لا يحلف على الحاصل لأن الزوج يكون صادقًا في اعتقاده، لأنه لا نفقة لها، فلا يمنع عن اليمين، ويكون فيه ترك النظر بل يحلف على السبب لئلا يكون ترك النظر، م: (أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها) ش: إن كان شافعيًا م: (لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده، فيفوت النظر في حق المدعي وإن كان(9/348)
سببا لا يرتفع برافع، فالتحليف على السبب بالإجماع كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه، بخلاف الأمة والعبد الكافر، لأنه يكرر الرق عليها بالردة واللحاق وعليه نقض العهد واللحاق، ولا يكرر على العبد المسلم.
قال: ومن ورث عبدا وادعاه آخر يستحلف على علمه. لأنه لا علم له بما صنع المورث، فلا يحلف على البتات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سببًا لا يرتفع برافع، فالتحليف على السبب بالإجماع) ش: كذلك يحلف على السبب بأن قيل في التحليف على السبب: ضرر بالمنكر أيضًا بجواز أنه اشترى ولا شفعة بأن سلم أو سكت عن المطلب؟، قلنا: القاضي لا يجد بدًا من إلحاق الضرر بأحدهما، فكان مراعاة جانب المدعي أولى لأن السبب الموجب للحق هو الشراء وإذا ثبت له الحق، وسقوطه إنما يكون بأسباب عارضة.
وإن كان ثم أوضح ذلك بقوله: م: (كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه) ش:، فإنه يحلف بقوله: والله ما أعتقت، لأن السبب لا ينكر هنا.
م: (بخلاف الأمة) ش: إذا ادعت على مولاها أنه أعتقها فإنه لا يحلف بالله ما أعتقها، لأنه لا يجوز أن يعتقها ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب، ثم سبيت ولكن يحلف بالله ما أعتقها في الرق القائم في الحال في ملكه هذا م: (والعبد الكافر) ش: أي وبخلاف العبد الكافر فإنه لا يحلف بالله ما أعتقه، لأنه تكرر العتق يحلف فيه بأن نقض العهد ولحق بدار الحرب ثم سبي، ويحلف بالله ما أعتقه في الرق القائم في الحال في ملكه.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن أنه م: (يكرر الرق عليها) ش: أي على الأمة م: (بالردة واللحاق) ش: بدار الحرب كما قلنا م: (وعليه ينقض العهد واللحاق) ش: أي يتكرر الرق على العبد ينقص عن كونه ذهب ولحق بدار الحرب، م: (ولا يكرر) ش: أي الرق م: (على العبد المسلم) ش: لأنه بعد الحرية لا يستحق رقبة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ورث عبدًا وادعاه آخر يستحلف على علمه) ش: هذا نوع آخر من كيفية اليمين على العلم أو الثبات، وصورة المسألة في الجامع لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الرجل يرث العبد، فيجيء رجل فيزعم أنه له، ولا بينة له على أي شيء يستحلف، قال: على علمه م: (لأنه لا علم له بما صنع المورث فلا يحلف على البتات)
ش: وقال شريح وابن أبي ليلى: يحلف على الثبات، وبقولنا قال إبراهيم النخعي والحسن والشعبي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، والحلف بالعلم أن يحلف بالله ما يعلم أن هذا الشيء الذي في يدك لهذا المدعي، والحلف بالثبات أي بالقطع على عدم الاستحقاق.(9/349)
وإن وهب له أو اشتراه يحلف على البتات لوجود المطلق لليمين، إذ الشراء سبب لثبوت الملك وضعا وكذا الهبة. قال: ومن ادعى على الآخر مالا فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة دراهم فهو جائز وهو مأثور عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأصل في ذلك أن من ادعى عليه فعل من جهة أو ادعى عليه حتى في شيء استفاده بفعله فإن اليمين إذا وجهت في ذلك كانت على البتات، وكل من ادعى عليه فعل غيره أو حق في شيء ملكه بغير فعله فاليمين في ذلك على العلم، وكلاهما مشروع.
وقال الحلواني: هذا أصل مستقيم أي التحليف على فعل الغير في المسائل؛ إلا في الرديء بالعيب، فإن المشتري ادعى أن العبد سارق أو آبق، وأثبت إباقته وسرقته في يد نفسه، أو ادعى أنه سرق أو أبق في يد البائع وأراد تحليف البائع يحلف على البتات مع أنهما فعل الغير، لما أن البائع ضمن بتسليم المبيع تسليمًا عن العيب، فالتحليف يرجع إلى ما ضمن بنفسه فيكون على البتات.
وقيل: التحليف على فعل الغير، إنما يكون على العلم إذا قال الحالف: لا علم لي بذلك، أما لو قال: لي علم بذلك يحلف على البتات، ألا ترى أن المودع إذا قال قبض صاحب الوديعة مني فإنه يحلف المودع على البتات، وكذلك الوكيل بالبيع إذا باع وسلم إلى المشتري ثم أقر البائع أن الموكل قبض الثمن، وجحد الموكل فالقول قول الوكيل مع يمينه، ويحلف على البتات وهذا تحليف على فعل الغير.
ولكن الوكيل يدعي أن له علمًا بذلك بأن قال: قبض الوكيل الثمن، فكان علم بذلك فيحلف على البتات، كذا في " الفصول ".
وأجيب عليه: بأن هذا تحليف على فعل نفسه، وهو التسليم والرد من حيث المعنى.
م: (وإن وهب له أو اشتراه يحلف على البتات) ش: وهذا من قيمة مسألة " الجامع " أي وإن وهب لرجل عبدًا وقبضه أو اشترى به وجاء يزعم أنه له فإنه يستحلف البينة م: (لوجود المطلق لليمين إذ الشراء سببا لثبوت الملك وضعًا وكذلك الهبة) .
ش: فإن قيل: الإرث كذلك؟، أجيب بأن معنى قوله: "سبب لثبوت الملك" سبب اختياري فباشره بنفسه فيعلم ما صنع.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى على الآخر مالًا فافتدى يمينه أو صالحه منه) ش: أي من يمينه م: (على عشرة دراهم فهو جائز وهو) ش: أي افتدى اليمين م: (مأثور عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روى أصحابنا في " شرح الجامع الصغير " عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دفع المال ولم يحلف.(9/350)
وليس له أن يستحلفه على تلك اليمين أبدا، لأنه أسقط حقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال البيهقي في كتاب" المعرفة" في كتاب"أدب القاضي": قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بلغني أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ردت عليه اليمين فافتداها بمال ثم قال: أخاف أن يوافق قدري فيقال: هذا يمينه.
وفي كتاب "المخرج" لأبي الوليد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناد صحيح عن الشعبي وفيه إرسال: أن رجلًا استقرض من عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعة آلاف درهم، فلما تقاضاه قال له: إنما هي أربعة آلاف فخاصمه إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: تحلف أنها سبعة آلاف، عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: [ ... ] فأبى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يحلف، فقال له عمر: خذ ما أعطاك.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اختلفت روايات الكتب أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان مدعى عليه من ذلك المال، ادعيا في " الفوائد الظهيري " كان مدعى عليه فافتدى يمينه فقال، أخاف أن يوافق قدر يميني فيقال: هذا بسبب يمينه.
وفي " المبسوط ": ذكر أنه كان مدعيًا، فادعى مالًا للمقداد، قلت: الأول هو الصحيح م: (وليس له) ش: أي للمدعي م: (أن يستحلفه) ش: أي المدعى عليه م: (على تلك اليمين أبدًا لأنه أسقط حقه) ش: أي بالصلح والافتداء.(9/351)
باب التحالف قال: وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنًا وادعى البائع أكثر منه، أو اعترف البائع بقدر من المبيع وادعى المشتري أكثر منه وأقام أحدهما البينة قضى له بها، لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى، والبينة أقوى منها، وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى، لأن البينات للإثبات ولا تعارض في الزيادة ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعًا فبينة البائع أولى في الثمن، وبينة المشتري أولى في المبيع نظرًا إلى زيادة الإثبات، وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة، قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع: إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من البيع وإلا فسخنا البيع؛ لأن المقصود قطع المنازعة وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ، فإذا علما به يتراضيان به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب التحالف]
م: (باب التحالف) ش: أي هذا باب في بيان التحالف بين الاثنين، ولما ذكر حكم يمين الواحد شرع في بيان اليمين بين الاثنين، والاثنان بعد الواحد في الوجود.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنًا وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع) ش: بأن قال: كر من الحنطة.
م: (وادعى المشتري أكثر منه) ش: بأن قال: كران م: (وأقام أحدهما البينة قضى له بها) ش: أي بالبينة، م: (لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى، والبينة أقوى منها) ش: لأنها توجب الحكم على القاضي والدعوى لا توجبه م: (وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى لأن البينات للإثبات ولا تعارض في الزيادة) ش: لأن البينة المثبتة للأول للأقل لا تتعرض للزيادة، فكانت بالبينة المثبتة للزيادة سألت عن المعارض.
م: (ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعًا فبينة البائع أولى في الثمن، وبينة المشتري أولى في المبيع نظرًا إلى زيادة الإثبات) ش: بأن قال البائع: بعتك هذه الجارية واحدها بمائة دينار، وقال المشتري: بعني مع هذا الوصف بخمسين دينارًا وأقام البينة.
وقيل: هذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرًا، وكان يقول أولًا وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقضي بهما للمشتري بمائة وخمسة وعشرين م: (وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع: إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من البيع وإلا فسخنا البيع لأن المقصود قطع المازعة، وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ فإذا علما به يتراضيان به) ش: من المشتري وإلا فسخنا المبيع جميعًا للمشتري بمائة دينار، فإذا علم(9/352)
فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر، وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس؛ لأن البائع يدعي زيادة الثمن، والمشتري ينكره، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره، فكل واحد منهما منكر فيحلف، فأما بعد القبض فمخالف للقياس لأن المشتري لا يدعي شيئًا؛ لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفي بحلفه لكنا عرفناه بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» ، قال: ويبتدئ بيمين المشتري وهذا قول محمد وأبي يوسف -رحمهما الله- آخرا وهو رواية عن أبي حنيفة -رحمه الله- وهو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به، أي بالفسخ يتراضيان، أي ما ادعى كل واحد منهما.
م: (فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر، وهذا التحالف قبل القبض) ش: أي قبل قبض المشتري السلعة م: (على وفاق القياس؛ لأن البائع يدعي زيادة الثمن المشتري ينكره، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره، فكل واحد منهما منكر) ش: لأن المقصود قطع المنازعة، وهذا جهة فيه، أي قطع المنازعة لأنهما ربما تراضيا فانفسخ، واليمين على من أنكر بالحديث المشهور م: (فيحلف) ش: أي فأما تحالف البائع المشتري م: (فأما بعد القبض فمخالف للقياس، لأن المشتري لا يدعي شيئا؛ لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها، فيكتفي بحلفه، لكنا عرفناه بالنص وهو) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» ش: بهذا الحديث روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طرق، وقال المنذري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روى هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكلها لا تثبت وقد وقع في بعضها: «إذا اختلف البيعان والمبيع قائم بعينه» .
وفي لفظ: "والسلعة قائمة" وهو لا يصح، فإنه من رواية ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي بعض طرقه انقطاع، وفيه عبد الرحمن بن قيس - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو مجهول الحال، وفي بعض الطرق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو لم يسمع من أبيه، وقيل: إنه من قول بعض الرواة، والعجب من بعض "شراح الهداية " أنه يقول: هذا الحديث صحيح مشهور.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويبتدئ) ش: أي القاضي م: (بيمين المشتري وهذا قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله آخرًا وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح)(9/353)
؛ لأن المشتري أشدهما إنكارًا لأنه يطالب أولًا بالثمن، ولأنه يتعجل فائدة النكول. وهو إلزام الثمن، ولو بدأ بيمين البائع تتأخر المطالبة بتسليم المبيع إلى زمان استيفاء الثمن. وكان أبو يوسف -رحمه الله- يقول أولًا يبدأ بيمين البائع لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: احترز به عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأول، رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبتدأ بيمين البائع.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وصححه، قال زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأترازي: عن زفر يبدأ بيمين البائع، كذا في " التقريب "، وقال أصحاب الشافعي في المسألة ثلاثة أقوال، إحداها: يبدأ بيمين البائع، والثاني: يبدأ بيمين المشتري، والثالث: الحكم بالخيار، ومنهم من قال: يبدأ بيمين البائع بكل حال، كذا في " شرح الأقطع ".
وقال القدوري في " شرح كتاب الاستحلاف ": وهو أن المشتري إن كان ابتدأ بالخصومة وادعى على البائع ابتداء الخصومة وادعى على المشتري ابتدأ بيمين المشتري، م: (لأن المشتري أشدهما إنكارًا لأنه يطالب أولًا بالثمن) ش: فيكون بادئًا بالإنكار، والبادئ أظلم، م: (أو لأنه يتعجل فائدة النكول) ش:، واليمين شرعت لفائدة النكول حتى لا يستحلف فيما لا يستوفي في النكول.
م: (وهو) ش: أي التعجيل بفائدة النكول م: (إلزام الثمن) ش: والبائع يتأخر فائدة، لأن تسليم المبيع يؤخر إلى زمان استيفاء الثمن، وهو معنى قوله: م: (ولو بدأ) ش: أي القاضي.
م: (بيمين البائع تتأخر المطالبة بتسليم المبيع إلى زمان استيفاء الثمن) ش: لأنه يقال: أمسك المبيع حتى يستوفي الثمن، فكل تقديم ما تعجل فائدته بالنكول أولًا م: (وكان أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول أولًا: يبدأ بيمين البائع لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع» ش: هذا الحديث رواه أبو داود عن الأعمش عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد عن أبيه عن جده أن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - باع إلى أشعب بن قيس رقيقًا من رقيق الخمس بعشرين ألف درهم، فأرسل عبد الله إليه ثمنهم، فقال: إنما أخذتم بعشرة آلاف؛ فقال عبد الله: إن شئت حدثتك بحديث سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركا".»
ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن القطان: وفيه انقطاع بين محمد بن الأشعث وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومع الانقطاع فإن عبد الرحمن بن الأشعث مجهول.(9/354)
خصه بالذكر وأقل فائدة التقديم وإن كان بيع عين بعين أو ثمن بثمن، بدأ القاضي بيمين أيهما شاء لاستوائهما.
وصفة اليمين أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين وقال في " الزيادات ": يحلف بالله ما باعه بألف، ولقد باعه بألفين، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين، ولقد اشتراه بألف، يضم الإثبات إلى النفي تأكيدا، والأصح الاقتصار على النفي؛ لأن الأيمان على ذلك وضعت، دل عليه حديث القسامة «بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلا» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأخرجه الترمذي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع، والمبتاع يختار» وقال: حديث مرسل، فإن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود وجه الاستدلال: أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - م: (خصه بالذكر) ش: أي خص البائع بالمذكور حيث جعل القول قول البائع م: (وأقل فائدته التقديم) ش: أي أقل أقوال هذا التخصيص أن يقيد التقديم.
وأجاب الأقطع بأنه إنما خص البائع بالذكر لأن بينة المشتري معلومة لا يشكل، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «واليمين على من أنكر» ، وقد مضى فسكت - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عما تقدم بيانه، وبين ما يشكل ولم يتقدم بيانه.
م: (وإن كان بيع عين بعين) ش: وهو المقايضة م: (أو ثمنًا بثمن) ش: وهو الصرف م: (بدأ القاضي بيمين أيهما شاء لاستوائهما) ش: أي في فائدة النكول، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كل البيوع فوجهه، وإنما ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا تفريعًا على مسألة القدوري.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ".
[صفة اليمين في التحالف]
م: (وصفة اليمين: أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين، قال في " الزيادات ": يحلف بالله ما باعه بألف، ولقد باعه بألفين، ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين ولقد اشتراه بألف، يضم الإثبات إلى النفي تأكيدًا) ش: بيانه: أنه لو حلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين ربما يحلف ويكون بارًا في يمينه، فلقد اشتراه بألف وتسعمائة فيبطل حق البائع في الزيادة، وكذا البائع، لو حلف بالله ما باعه بألف ربما يحلف ويكون صادقًا لجواز أنه باعه بألف درهم فيبطل حق المشتري، م: (والأصح الاقتصار على النفي؛ لأن الأيمان على ذلك وضعت) ش: أي على النفي، والبينات وضعت على الإثبات.
م: (دل عليه) ش: أي أنه وضعت على النفي م: «حديث القسامة: "بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلًا» ش: وسيأتي حديث القسامة في بابه إن شاء الله تعالى.(9/355)
قال: فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما وهذا يدل على أنه لا ينفسخ بنفس التحالف. لأنه لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيبقى بيع مجهول فيفسخه القاضي قطعا للمنازعة، أو يقال: إذا لم يثبت البدل يبقى بيعا بلا بدل وهو فاسد ولا بد من الفسخ في البيع الفاسد. قال وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر لأنه جعل بازلا فلم يبق دعواه معارضا لدعوى الآخر فلزم القول بثبوته، قال: وإن اختلفا في الأجل أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن فلا تحالف بينهما، لأن هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما) ش: هذا كلام القدوري وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا يدل على أنه) ش: أي أن المبيع م: (لا ينفسخ بنفس التحالف) ش: ما لم يفسخ القاضي، وبه صرح في كتاب "الاستحلاف" لأبي حازم القاضي حيث قال إذا تحالفا فسخ الحاكم البيع، ولم ينفسخ بالتحالف.
وقال الإمام الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": فإن حلف، القياس أن يلتزم البائع للمشتري بما قال، وفي الاستحسان يترادان ولا ينفسخ البيع بينهما بنفس التحالف ما لم يفسخ الحاكم بينهما، حتى إن أحدهما لو أراد أن يلتزم البيع بما قال صاحبه قبل فسخ الحاكم كان له ذلك، وقال بعضهم: بنفس التحالف ينفسخ، والأول أصح انتهى.
وقال الإمام الناصحي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تهذيب أدب القاضي ": وإن حلفا لا ينقض القاضي المبيع بينهما حتى يطلبا ذلك أو يطلب أحدهما، لأن الفسخ حق لهما؛ بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: "تحالفا وترادا".
م: (لأنه لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيبقى بيع مجهول فيفسخه القاضي قطعًا للمنازعة) ش: بينهما، م: (أو يقال: إذا لم يثبت البدل) ش: للتعارض م: (يبقى بيعًا بلا بدل وهو فاسد ولا بد من الفسخ في البيع الفاسد) ش: والاختلاف في البدل يوجب الاختلاف في العقد لأن كل واحد منهما ادعى عقدًا غير الذي ادعاه الآخر فكان البيع مجهولًا لجهالة البدل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لأنه جعل بازلًا) ش: فيصح البدل في الأعراض م: (فلم يبق دعواه معارضًا لدعوى الآخر فلزم القول بثبوته) ش: لعدم المعارض.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن اختلفا في الأجل) ش: أي في أصله أو قدره م: (أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن) ش:، وكذا لو اختلفا كل الثمن م: (فلا تحالف بينهما) ش: عندنا، وبه قال أحمد، وقال زفر والشافعي ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: تحالفا، ولو اختلفا في أصل البيع لم يتحالفا بالإجماع، م: (لأن هذا) ش: أي الاختلاف في الأصل أو(9/356)
اختلافا في غير المعقود عليه والمعقود به فأشبه الاختلاف في الحط والإبراء، وهذا لأن بانعدامه لا يختل ما به قوام العقد بخلاف الاختلاف في وصف الثمن أو جنسه حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر في جريان التحالف لأن ذلك يرجع إلى نفس الثمن فإن الثمن دين وهو يعرف بالوصف ولا كذلك الأجل لأنه ليس بوصف، ألا ترى أن الثمن موجود بعد مضيه قال والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه لأنهما يثبتان بعارض الشرط والقول لمنكر العوارض قال: فإن هلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرط الخيار استيفاء بعض الثمن م: (اختلافًا في غير المعقود عليه) ش: وهو البيع م: (والمعقود به) ش: وهو الثمن م: (فأشبه الاختلاف في الحط) ش: أي في الحط من الثمن م: (الإبراء) ش: أي من الثمن وفيها لا يجب التحالف فكذا.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: واختلاف في غير المعقود عليه والمعقود به، م: (لأن بانعدامه) ش: أي بانعدام الأجل م: (لا يختل ما به قوام العقد) ش:، لأن الأجل وشرط الخيار أمر زائد في العقد، لأن العقد يصح بدونهما، ولهذا لو اختلفا في الثمن فشهد أحد الشاهدين بالبيع بألف درهم والآخر بالدنانير لا يقبل.
ولو اختلفا في الأجل فشهد أحد الشاهدين بالبيع بألف إلى شهر والآخر بالبيع بألف يقبل ويقضى بالبيع بألف حالة، وكذلك لو شهد أحدهما أنه باعه بشرط الخيار ثلاثة أيام والآخر شهد أنه باعه ولم يذكر الخيار جازت الشهادة، م: (بخلاف الاختلاف في وصف الثمن) ش: أي في جودته ورداءته م: (أو جنسه) ش: وهو كون الثمن دراهم أو دنانير، م: (حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر) ش: أي في قدر الثمن م: (في جريان التحالف) ش: أي في وجوبه، م: (لأن ذلك) ش: أي الاختلاف في الوصف والجنس م: (يرجع إلى نفس الثمن فإن الثمن دين وهو يعرف بالوصف) ش: بأنه جيد أو رديء أو وسط.
م: (ولا كذلك الأجل لأنه ليس بوصف) ش: بل هو أصل بنفسه لكنه يثبت بواسطة الشرط، وأوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أن الثمن موجود بعد مضيه) ش: أي بعد مضي الأجل فلا يسقط بسقوط الأجل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه) ش: لأنهما إذا لم يتحالفا يكون القول قول المنكر، لأن ذلك أمر عارض والقول قول المنكر في العوارض، وهو معنى قوله: م: (لأنهما) ش: أي لأن الأجل والخيار م: (يثبتان بعارض الشرط) ش: يعني بشرط عارض على أصل العقد، م: (والقول لمنكر العوارض) ش: وهذا ظاهر الرواية.
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول من يدعي الخيار، كذا في التحليف لأنه ينكر له عن ملكه أو وجوب الثمن عليه، م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن هلك(9/357)
المبيع ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله- والقول قول المشتري وقال محمد - رحمه الله-: يتحالفان وينفسخ البيع على قيمة الهالك وهو قول الشافعي -رحمه الله- وعلى هذا إذا خرج المبيع عن ملكه أو صار بحال لا يقدر على رده بالعيب لهما: أن كل واحد منهما يدعي غير العقد الذي يدعيه صاحبه والآخر ينكره وأنه يفيد دفع زيادة الثمن فيتحالفان كما إذا اختلفا في جنس الثمن بعد هلاك السلعة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المبيع) ش: بعد قبض المشتري م: (ثم اختلفا) ش: يعني في مقدار الثمن م: (لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله- والقول قول المشتري) ش: مع يمينه، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتحالفان وينفسخ البيع على قيمة الهالك) ش: يعني بعد التحالف يترادان العقد بالقيمة، م: (وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في رواية، وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
ولمالك أربع روايات: إذا اختلفا في مقدار الثمن اثنان ما ذكرنا، والثالثة: يتحالفان قبل قبض المشتري السلعة، والرابعة: يتحالفان بعد القبض ما لم يبرهنا.
م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف م: (إذا خرج المبيع عن ملكه) ش: أي عن ملك المشتري بالمبيع أو بالهبة م: (أو صار) ش: أي المبيع م: (بحال لا يقدر) ش: أي المشتري م: (على رده بالعيب) ش: أي بحدوث المعيب فيه في يده م: (لهما) ش: أي لمحمد والشافعي - رحمهما الله- م: (أن كل واحد منهما) ش: أي من المتعاقدين م: (يدعي غير العقد الذي يدعيه صاحبه والآخر ينكره) ش: لأن كل واحد منهما مدعي ومدعى عليه، فإن البائع يدعي عقدًا ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدًا ينكره البائع.
م: (وأنه) ش: أي وأن التحالف م: (يفيد دفع زيادة الثمن) ش: عن المشتري لو نكل البائع فلا يدفع المشتري زيادة على ما اعترف به المشتراة حينئذ، فما فائدة تحليف البائع؟ قلنا: لم يحصل فيكون مفيدًا، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا جواب سؤال مقدار وهو أن يقال: ما فائدة التحليف عندك؟، فإن فائدته التراد وامتنع التراد بالهلاك.
فقال: بل فيه فائدة، وقع الزيادة التي يدعيها البائع على تقدير نكول المشتري، فإن قيل: هذا يحصل بتحليف المشتراة حينئذ، فما فائدة تحليف البائع؟ قلنا: لم يحصل المشتري، فإن المشتري إذا نكل يلزمه ما ادعاه البائع، والبائع إذا نكل يندفع عن المشتري ما ادعاه البائع، فإذا كان كذلك م: (فيتحالفان كما إذا اختلفا في جنس الثمن بعد هلاك السلعة) ش:، بأن ادعى أحدهما الدنانير والآخر الدراهم بعد هلاك المبيع يتحالفان ويلزم المشتري رد القيمة.(9/358)
ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-: أن التحالف بعد القبض على خلاف القياس لما أنه سلم للمشتري ما يدعيه، وقد ورد الشرع به في حال قيام السلعة والتحالف فيه يفضي إلى الفسخ، ولا كذلك بعد هلاكها لارتفاع العقد فلم يكن في معناه، ولأنه لا يبالي بالاختلاف في السبب بعد حصول المقصود، وإنما يراعى من الفائدة ما يوجبه العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي يوسف وأبي حنيفة - رحمهما الله-: أن التحالف بعد القبض) ش: أي بعد قبض السلعة م: (على خلاف القياس لما أنه سلم للمشتري ما يدعيه) ش:، ولا يدعي على البائع شيئًا ينكره، لأن المبيع مملوك له سلم إليه باتفاقهما، م: (وقد ورد الشرع به) ش: أي بالتحالف م: (في حال قيام السلعة) ش: فلا يتعدى إلى حال هلاك السلعة، لأن حال هلاكها ليس كحال قيامها، لأن عند قيامها يندفع الضرر عن كل واحد منهما، فإنه يفسخ العقد فيعود كل واحد منهما إلى رأس ماله بعينه، وبعد الهلاك لم يحصل ذلك إذ العقد لا يحتمل الفسخ بالإقالة وبالرد بالعيب بعد الهلاك فكذا بالتحالف.
م: (والتحالف فيه) ش: أي في حال قيام السلعة م: (يفضي إلى الفسخ) ش:، وهذا جواب عما يقال: إن لم يتعد إلى غيره يلحق به بالدلالة، فأجاب بقوله والتحالف فيه يفضي إلى الفسخ فيندفع به الضرر عن كل واحد منهما؟ كما ذكرنا الآن م: (ولا كذلك بعد هلاكها) ش: أي بعد هلاك السلعة م: (لارتفاع العقد) ش: بالهلاك م: (فلم يكن في معناه) ش: فبطل الإلحاق بالدلالة، م: (ولأنه لا يبالي) ش:، هذا جواب عن قولهما: إن كل واحد منهما يدعي غير العقد الذي يدعيه صاحبه وهو قول بموجب العلة، أي سلمنا ذلك لكن لا يضرنا فيما نحن فيه لأنه لا يبالي م: (بالاختلاف في السبب بعد حصول المقصود) ش: وهو سلامة المبيع للمشتري حيث سلم له وهلك على ملكه، وليس يدعي على البائع شيئًا ينكره ليجب عليه اليمين.
قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونوقض بحال قيام السلعة وبما إذا اختلفا بيعًا وهبة فإن في كل منهما المقصود، وحاصل التحالف موجود لاختلاف السبب.
وأجيب عن الأول ثبوته بالنص على خلاف القياس وعلى الثاني بأنه على الاختلاف، والمذكور في بعض الكتب: قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإنما يراعى) ش: جوابًا عن قولهما وأنه يفيد دفع زيادة الثمن تقديره المراعاة م: (من الفائدة) ش: التي تثبت م: (ما يوجبه العقد) .
ش: والفائدة التي قال أليست من موجبات العقد؟، والمراد من موجبات العقد: ما لا يكون للعقد وجود بدونه، والذي ذكراه من موجبات النكول والنكول من موجبات التحالف والتحالف ليس من موجبات العقد، فلا يترك ما هو من موجباته وهو ملك المبيع وقبضه وفيه نظر؛ لأنا قد اعتبرنا حال قيام السلعة فائدة للتحالف وليس من موجباته، وهو ملك المبيع وقبضه، وفيه نظر؛(9/359)
وفائدة دفع زيادة الثمن ليست من موجباته وهذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عينا يتحالفان لأن المبيع في أحد الجانبين قائم فتوفر فائدة الفسخ ثم يرد مثل الهالك إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل قال وإن هلك أحد العبدين ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك وفي " الجامع الصغير ": القول قول المشتري مع يمينه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد الحي ولا شيء له من قيمة الهالك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنا قد اعتبرنا حال قيام السلعة فائدة للتحالف وليس من موجبات العقد، والجواب: أنه يثبت بالنص على خلاف القياس.
م: (وفائدة دفع زيادة الثمن ليست من موجباته) ش: من تتمة الجواب العقد لأن العقد لا يحتاج لأن فائدة دفع زيادة الثمن من موجبات نكول البائع، م: (وهذا) ش: أي الاختلاف م: (إذا كان الثمن دينًا) ش: ثابتًا في الذمة كالدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات والموصوفة الثابتة في الذمة، م: (فإن كان عينًا) ش: فإن كان العقد مقايضة وهلك أحد المعوضين م: (يتحالفان لأن المبيع في أحد الجانبين قائم فتوفر فائدة الفسخ) ش: أي الرد م: (ثم يرد مثل الهالك إن كان له مثل أو قيمته) ش: أي أو يرد قيمته م: (إن لم يكن له مثل) ش: كالحيوان فيما إذا تبايعا حيوانًا بحيوان.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن هلك أحد العبدين) ش: يعني باع الرجل عبدين صفقة واحدة وقبضهما المشتري فهلك أحدهما م: (ثم اختلفا في الثمن) ش: فقال البائع بعتهما منك بألفي درهم وقال المشتري: اشتريتهما منك بألف درهم م: (لم يتحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك) ش: والهلاك على نوعين: هلاك العبد والطعام إذا أكله والثوب إذا احترق وذلك مما يوجب الفوات، وهلاك حكمي وهو أن يخرج من ملكه كله أو بعضه، وخروج البعض من ملكه كخروج الكل عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خروج الكل من ملكه لا يسقط التحالف كذلك خروج البعض، فإذا تحالفا أن خروج الكل من ملكه فعلى المشتري رد القيمة، ومثله إن كان مثلنا وإن خرج البعض فإن كان المبيع مما في تبعيضه ضرر، ويكون التبعيض عيبًا فالبيع بالخيار بعد التحالف إن شاء أخذ الباقي وقيمة الهلاك، وإن شاء رد الثاني وأخذ قيمته، وإن لم يكن في تبعيضه ضرر، وليس التبعيض بعيب فللبائع أن يأخذ الباقي وقيل الغائب، وإن عاد إلى ملكه ثم اختلفا ينظر إن كان العود فيتخالفان ويستردان العين، وإن عاد بحكم ملك جديد لا يتحالفان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله-، وقال: يتحالفان ويترادان القيمة دون العين.
م: (وفي " الجامع الصغير ": القول قول المشتري مع يمينه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يشاء البائع) ش: إلا أن يرضى البائع م: (أن يأخذ العبد الحي، ولا شيء له من قيمة الهالك) ش: أي من(9/360)
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتحالفان في الحي ويفسخ العقد في الحي، والقول قول المشتري في قيمة الهالك، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتحالفان عليهما ويرد الحي وقيمة الهالك لأن هلاك كل السلعة لا يمنع التحالف عنده فهلاك البعض أولى، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن امتناع التحالف للهلاك فيتقدر بقدره. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التحالف على خلاف القياس في حال قيام السلعة، وهي اسم لجميع أجزائها فلا تبقى السلعة بفوات بعضها ولأنه لا يمكن التحالف في القائم إلا على اعتبار حصته من الثمن فلا بد من القسمة على القيمة وهي تعرف بالحزر والظن فيؤدي إلى التحالف مع الجهل وذلك لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثمن الميت.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتحالفان في الحي، ويفسح العقد في الحي والقول قول المشتري في قيمة الهالك، وقال - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتحالفان عليهما ويرد الحي وقيمة الهالك لأن هلاك كل السلعة لا يمنع التحالف عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (فهلاك البعض أولى) ش: والجواب أن هلاك البعض محمول إلى معرفة القيمة بالحرز وذلك يحل في القسمة عليه فلا يجوز.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن امتناع التحالف للهلاك) ش: أي لأجل هلاك أحد العبدين م: (فيتقدر بقدره) ش: أي فيقدر الامتناع بقدر الهلاك، لأن الحكم لا يزيد على العلة، والجواب عنه هو الجواب المذكور.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التحالف) ش: بعد القبض يثبت م: (على خلاف القياس في حال قيام السلعة) ش:، لما عرف أن البائع غير منكر وإنما يثبت بالسنة وورد عند قيام السلعة م: (وهي اسم لجميع أجزائها) ش: يعني اسم لجميع أجزاء المبيع، م: (فلا تبقى السلعة بفوات بعضها) ش: لأن بفوات بعضها يفوت الشرط فذلك الحكم الذي تعلق به غير معقول م: (ولأنه) .
ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا جواب عن قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي ولأن الشأن م: (لا يمكن التحالف في القائم إلا على اعتبار حصته من الثمن، فلا بد من القسمة على القيمة) ش: باعتبار القيمة م: (وهي) ش: أي القيمة م: (تعرف بالحزر والظن، فيؤدي إلى التحالف مع الجهل وذلك لا يجوز) ش: فإن قيل يشكل على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما لو أقام القصار بعض العمل ثم اختلفا في الأجرة ففي حصة ما أقام العمل القول لرب الثوب مع يمينه، وفي حصة ما بقي يتحالفان بالإجماع اعتبارًا للبعض بالكل، واستيفاء بعض المنفعة بمنزلة هلاك بعض، فينبغي أن يبقى التحالف عنده.
قلنا: عقد الإجارة في حكم عقود مختلفة يتحد العقد بحسب ما يتم من العمل فإن تعذر(9/361)
إلا أن يرضى أن يترك حصة الهالك أصلا لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابلة القائم، ويخرج الهالك عن العقد فيتحالفان. وهذا تخريج بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ويصرف الاستثناء عندهم إلى التحالف كما ذكرنا. وقالوا: إن المراد من قوله في " الجامع الصغير ": يأخذ الحي ولا شيء له معناه: لا يأخذ من ثمن الهالك شيئا أصلا، وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يأخذ من ثمن الهالك بقدر ما أقر به المشتري وإنما لا يأخذ الزيادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فسخه في البعض لا يتعذر الفسخ في الباقي، وأما عقد البيع في العبدين عقد واحد، فإذا تعذر فسخه في البعض تعذر في الباقي.
م: (إلا أن يرضى) ش: أي البائع م: (أن يترك حصة الهالك أصلًا) ش: لأن الهالك كأن لم يكن وكأن العقد يصير لم يكن إلا على القائم، م: (لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابلة القائم ويخرج الهالك عن العقد) ش: فإذا كان كذلك الأمر م: (فيتحالفان) ش: كما هو الحكم في الاختلاف عند قيام السلعة، وهذا إشارة إلى قوله لأنه حينئذ.. إلخ، وفي إشارة أيضا إلى اختلاف المشايخ في الاستثناء المذكور في " الجامع الصغير " في قوله إلا أن يشاء البائع أن يأخذ الحي ولا شيء له، فالذي ذكره قول عامة المشايخ أشار إليه بقوله: م: (وهذا تخريج بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ويصرف الاستثناء) ش: المذكور في " الجامع الصغير " م: (عندهم إلى التحالف) ش: بيانه أنهم قالوا: الاستثناء عندهم إلى التحالف: أي لا يتحالفان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أن يشاء البائع أن يأخذ الحي، ولا يأخذ شيئًا من ثمن الهالك أصلًا فيتحالفان، لأنه حينئذ صار المبيع كل الحي م: (كما ذكرنا) ش:، أشار به إلى قوله: لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابلة القائم ويحتاج الهلاك عن العقد ويتحالفان.
م: (وقالوا) ش: أي بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (إن المراد من قوله) ش: أي من قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الجامع الصغير) ش: في رواية عن يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن يشاء البائع م: (يأخذ الحي ولا شيء له معناه: لا يأخذ من ثمن الهالك شيئًا أصلًا) ش:. كما ذكرنا أنه حينئذ جاز المبيع كل الحي م: (وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وهم مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (يأخذ من ثمن الهالك بقدر ما أقر به المشتري وإنما لا يأخذ الزيادة) ش: مع اليمين إلا أن يشاء البائع أن يأخذ الحي، فلا يضمنه شيئًا مما يدعي من الزيادة من الثمن في حق الميت بل يأخذ ما يقر به المشتري، وحينئذ لا يحلف المشتري لأن الاستحلاف إنما شرع في حق المشتري إذا كان ينكر ما يدعيه البائع في الزيادة، فإذا ترك البائع دعوى الزيادة فلا حاجة إلى استحلاف المشتري.(9/362)
وعلى قول هؤلاء لا ينصرف الاستثناء إلى يمين المشتري لا إلى التحالف لأنه لما أخذ البائع بقول المشتري فقد صدقه فلا يحلف المشتري، ثم تفسير التحالف على قول محمد ما بيناه في القائم، وإذا حلفا ولم يتفقا على شيء فادعى أحدهما الفسخ أو كلاهما يفسخ العقد بينهما ويأمر القاضي المشتري برد الباقي وقيمة الهالك. واختلفوا في تفسيره على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والصحيح أنه يحلف المشتري بالله ما اشتريتهما بما يدعيه البائع فإن نكل لزمه دعوى البائع وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن نكل لزمه دعوى المشتري، وإن حلف يفسخان العقد في القائم ويسقط حصته ويلزم المشتري حصة الهالك ويعتبر قيمتها في الانقسام يوم القبض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعلى قول هؤلاء) ش: أي قول بعض المشايخ الذين ذكرهم م: (لا ينصرف الاستثناء) ش: وهو قوله: إلا أن يشاء البائع أن يأخذ الحي ولا شيء له م: (إلى يمين المشتري) ش: معناه أن البائع يأخذ الحي صلحًا على ما يدعيه من الزيادة قبل المشتري، فيجعل صلحهما على هذا العبد كصلحهما على عبد آخر، وصار تقديره على قولهم إلا أن يأخذ البائع الحي ولا يأخذ شيئًا آخر فحينئذ لا يحلف المشتري م: (لا إلى التحالف لأنه لما أخذ البائع بقول المشتري فقد صدقه فلا يحلف المشتري) .
ش: وقال شيخ الإسلام: هذا لا يقوى لأن الأخذ معلق بمشيئة البائع ولو كان كذلك لكان معلقًا بمشيئتهما، م: (ثم تفسير التحالف على قول محمد) ش: لما كان قول أبي حنيفة عدم وجوب التحالف استغنى عن التفسير ففسره على قولهما م: (ما بيناه في القائم) ش: أي في المبيع الباقي أراد به ما ذكره بقوله وصفة اليمين أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف إلخ.
م: (وإذا حلفا ولم يتفقا على شيء) ش: يعني من الثمن م: (فادعى أحدهما الفسخ أو كلاهما يفسخ العقد بينهما ويأمر القاضي المشتري برد الباقي وقيمة الهالك) ش: أي ويرد قيمة الهالك والقول في قيمة المشتري، لأن البائع يدعي زيادة قيمته وهو ينكر فيكون القول له كما في قيمة المغصوب أو المقبوض بعقد فاسد، م: (واختلفوا في تفسيره) ش: أي اختلف المشايخ في تفسير التحالف، م: (على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فيتحالفان في القائم دون الهالك.
قال بعضهم: يتحالفان على القائم، لأن العقد ينفسخ في حقه لا غير، م: (والصحيح أنه يحلف المشتري بالله ما اشتريتهما بما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه دعوى البائع وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بالثمن الذي يدعيه المشتري فإن نكل لزمه) ش: أي البائع م: (دعوى المشتري وإن حلف يفسخان العقد في القائم ويسقط حصته) ش: القائم م: (من الثمن ويلزم المشتري حصة الهالك) ش: من الثمن الذي أقر به المشتري، ولا يلزمه قيمة الهالك، م: (ويعتبر قيمتها) ش: أي قيمة الهالك وقيمة الباقي م: (في الانقسام يوم القبض) ش:، فإن اتفقا أن قيمتها يوم القبض كانت على السواء لزم(9/363)
وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض فالقول قول البائع، وأيهما أقام البينة تقبل بينته، وإن أقاماها فبينة البائع أولى وهو قياس ما ذكر في بيوع الأصل اشترى عبدين وقبضهما ثم رد أحدهما بالعيب وهلك الآخر عنده يجب عليه ثمن ما هلك عنده ويسقط عنه ثمن ما رده، وينقسم الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري نصف الثمن الذي أقر به وسقط نصفه، وإن تصادقا أن قيمتها كانت على التفاوت يسقط في الثمن بقدر قيمة الهالك.
م: (وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض) ش: فقال المشتري: كانت قيمته يوم القبض خمسمائة، وقيمة القائم يوم القبض كانت ألفًا، وقال البائع على عكس هذا م: (فالقول قول البائع) ش: لأن البائع ينكر سقوط زيادة الثمن، والمشتري يدعي السقوط بعد اتفاقهما على وجوب الثمن، فكان البائع متمسكًا بالأصل، كذا في " جامع قاضي خان "، فإن قيل مسائل الزيادات تدل على اعتبار قيمتهما يوم العقد حتى قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيمة الأم تعتبر يوم القيمة، وقيمة الزيادة يوم الزيادة، وقيمة الولد يوم القبض، لأن الأم صارت مقصودة بالعقد والزيادة بالزيادة والولد بالقبض، وكل واحد من بينهما صار مقصودًا بالعقد، فوجب اعتبار قيمتهما يوم العقد لا يوم القبض.
وفي " الفوائد الظهيرية " فهذا إشكال هائل أوردته على قوم تحرير فلم يهتد أحد إلى جوابه، ثم قال: والذي يخايل لي بعد طول الجسم فما ذكر من المسائل لم يتحقق ما يوجب الفسخ، فما صار مقصودًا بالعقد، وفيما نحن فيه تحقيق ما يوجب الفسخ فيما صار مقصودًا لعقد وهو التحالف.
أما في الحي فظاهر، وكذا في الميت، لأنه إن تقذر الفسخ في الهالك لم يتعذر اعتبار ما هو من لوازم الفسخ في الهالك وهو اعتبار قيمته يوم القبض، لأن الهالك مضمون بالقيمة يوم القبض على تقدير الفسخ كما هو مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى قال: يضمن المشتري قيمة الهالك على تقدير التحالف، ويجب إعمال التحالف في اعتبار قيمة الهالك يوم القبض، فلهذا يعتبر قيمتها يوم القبض، م: (وأيهما أقام البينة تقبل بينته) ش: لأنه نور دعواه بالحجة.
م: (وإن أقاماها فبينة البائع أولى) ش: لأنه أكثر إثباتًا بالزيادة في قيمة الهالك ولا معتبر لدعوى المشتري زيادة في قيمة القائم لأنها ضمينته، والاختلاف المقصود وهو ما كان في قيمة الهالك.
ثم ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما هو على قياس القول: م: (وهو قياس ما ذكر في بيوع الأصل) ش: أي " المبسوط " وهو قوله: م: (اشترى عبدين وقبضهما) ش: ولم يرد الثمن م: (ثم رد أحدهما بالعيب وهلك الآخر، عنده يجب عليه ثمن ما هلك عنده ويسقط عنه ثمن ما رده وينقسم الثمن(9/364)
على قيمتهما، فإن اختلفا في قيمة الهالك فالقول قول البائع لأن الثمن قد وجب باتفاقهما، ثم المشتري يدعي زيادة السقوط بنقصان قيمة الهالك، والبائع ينكره والقول للمنكر وإن أقاما البينة، فبينة البائع أولى لأنها أكثر إثباتا ظاهرا لإثباتها الزيادة في قيمة الهالك وهذا الفقه، وهو أن في الأيمان تعتبر الحقيقة لأنها تتوجه على أحد العاقدين وهما يعرفان حقيقة الحال فبني الأمر عليها والبائع منكر حقيقة، فلذا كان القول قوله، وفي البينات يعتبر الظاهر لأن الشاهدين لا يعلمان حقيقة الحال فاعتبر الظاهر في حقهما، والبائع مدع ظاهرا فلهذا تقبل بينته أيضا وتترجح بالزيادة الظاهرة على ما مر، وهذا يبين لك معنى ما ذكرنا من قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
قال: ومن اشترى جارية وقبضها ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على قيمتهما) ش: أي قيمة العبدين م: (فإن اختلفا في قيمة الهالك فالقول قول البائع لأن الثمن قد وجب باتفاقهما، ثم المشتري يدعي زيادة السقوط بنقصان قيمة الهالك والبائع ينكره، والقول للمنكر وإن أقام البينة، فبينة البائع أولى لأنها أكثر إثباتًا ظاهرًا لإثباتها الزيادة في قيمة الهالك) ش: والبينات شرعته للإثبات، فما كان أكثره إثباتًا كان أولى م: (وهذا) ش: أي اعتبار يمين البائع وبينته م: (لفقه) ش: أي المعنى، وبين الفقه بقوله: وهو أن في الأيمان يعتبر الحقيقة إلخ.
كذا أقره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: "وهذا الفقه" أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أن القول قول البائع والبينة بينته، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "قوله وهذا الفقه" إلخ، يعني أن في البينات تعتبر الدعوى من حيث الظاهر، فإنه يدعي زيادة القيمة للهالك فتكون البينة بينته.
قلت: هذا هو المناسب لما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (وهو) ش: أي الفقه م: (أن في الأيمان تعتبر الحقيقة) ش: أي حقيقة الحال م: (لأنها) ش: أي لأن البينة م: (تتوجه على أحد العاقدين وهما يعرفان حقيقة الحال فبني الأمر عليها) ش: أي على حقيقة الحال م: (والبائع منكر حقيقة) ش: لأنه ينكر سقوط الزيادة م: (فلهذا كان القول قوله، وفي البينات يعتبر الظاهر لأن الشاهدين لا يعلمان حقيقة الحال فاعتبر الظاهر في حقهما) ش: أي في حق الشاهدين م: (والبائع مدع ظاهرًا فلهذا تقبل بينته أيضًا وتترجح بالزيادة الظاهرة على ما مر) ش: وهو قوله: لأنه أكثر ثباتًا ظاهرًا، م: (وهذا) ش: أي الذي ذكره بيوع الأصل بيعه م: (يبين لك معنى ما ذكرنا من قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: من تفسيره في التحالف وتفريعاته التي ذكرت في مسألة " الجامع الصغير ".
[اختلفا البائع والمشتري في الثمن]
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن اشترى جارية) ش: بألف درهم م: (وقبضها) ش: أي قبض الجارية م: (ثم تقايلا) ش: أي المبيع حال قيام الجارية م: (ثم اختلفا في الثمن) ش: بأن قال المشتري: كان الثمن ألفًا فعليك أن ترد الألف، وقال البائع: كان خمسمائة(9/365)
فإنهما يتحالفان ويعود البيع الأول ونحن ما أثبتنا التحالف فيه بالنص؛ لأنه ورد في البيع المطلق والإقالة فسخ في حق المتعاقدين، وإنما أثبتناه بالقياس لأن المسألة مفروضة قبل القبض والقياس يوافقه على ما مر، ولهذا نقيس الإجارة على البيع قبل القبض والوارث على العاقد والقيمة على العين فيما إذا استهلكه في يد البائع غير المشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعلي رد الخمسمائة م: (فإنهما يتحالفان) ش:، لأن الإقالة بمنزلة بيع جديد في حق الشرع وقطع المنازعة حق الشرع م: (ويعود البيع الأول) ش: حتى يكون حق البائع في الثمن وحق المشتري في المبيع كما كان قبل الإقالة، ولا بد من الفسخ سواء فسخاها بأنفسهما أو فسخا لأنها كالبيع لا ينفسخ إلا بالفسخ ونحن ما أثبتنا.
هذا جواب عما يقال: النص لم يتناول الإقامة فما وجه جريان التحالف فيها؟ فأجاب بقوله م: (ونحن ما أثبتنا) ش: أي في التقايل م: (التحالف فيه بالنص لأنه) ش: أي لأن النص هو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا اختلف البيعان تحالفا وترادا» م: (ورد في البيع المطلق والإقالة فسخ في حق المتعاقدين) ش: بيع في حق غيرهما، فإذا كان كذلك ما أثبتناه بالنص، م: (وإنما أثبتناه) ش: أي التحالف م: (بالقياس لأن المسألة مفروضة قبل القبض) ش: أي قبل قبض البائع المبيع بعد الإقالة، وصار التحالف معقولًا وهو معنى قوله: م: (والقياس يوافقه على ما مر) ش: أي في أول الباب م: (ولهذا) .
ش: توضيح لقوله: وإنما أثبتناه بالقياس م: (نقيس الإجارة على البيع قبل القبض) ش: يعني إذا اختلف المؤجر والمستأجر قبل استيفاء المعقود عليه في الأجرة، م: (والوارث على العاقد) ش: يعني وارث البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن يجري التحالف بينهما، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (والقيمة على العين فيما إذا استهلكه في يد البائع غير المشتري) ش: يعني إذا استهلك غير المشتري العين المبيعة في يد البائع وضمن القيمة قامت القيمة مقام العين المستهلكة، فإن اختلف العاقدان في الثمن قبل القبض يجري التحالف بينهما بالقياس على جريان التحالف عندنا تبعًا لعين المشتري، لكون النص إذ ذاك معقول المعنى.
وقال الأترازي: قوله والقيمة على العين فيهما إذا استهلكه في يد البائع غير المشتري، وهذا في النسخة المقابلة بنسخة المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ فيما إذا استهلك المشتري، يعني بفتح الراء وفي بعضها فيما إذا استهلك المبيع.
وقال الإمام حافظ الدين الكبير البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - على "حاشية كتابه الصحيح ": استهلك المشترى بضم التاء على بناء المفعول والمشترى على صيغة المفعول أي نقيس قيمة المشترى المستهلك الذي استهلك في يد البائع.(9/366)
قال: ولو قبض البائع المبيع بعد الإقالة فلا تحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله- خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه يرى النص معلولا بعد القبض أيضا. قال: ومن أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن، فالقول قول المسلم إليه ولا يعود السلم، لأن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض؛ لأنه إسقاط فلا يعود السلم بخلاف الإقالة في البيع، ألا ترى أن رأس مال السلم لو كان عرضا فرده بالعيب وهلك قبل التسليم إلى رب السلم لا يعود السلم، ولو كان ذلك في بيع العين بعود البيع دل على الفرق بينهما.
قال: وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت: تزوجتني بألفين، فأيهما أقام البينة تقبل بينته لأنه نور دعواه بالحجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": إذا قتل المبيع قبل البعض في يد البائع فالقيمة هناك واجبة على القاتل وهي قائمة مقام العين في إمكان فسخ العقد عليها م: (قال: ولو قبض البائع المبيع بعد الإقالة فلا تحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله- خلافًا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه) ش: أي لأن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يرى النص معلولًا بعد القبض أيضًا) ش: لأنه معلول بوجود الإنكار من كل واحد من المتبايعين لما يدعيه الآخر، وهذا المعين لا يتفاوت بين كون المبيع مقبوضًا أو غير مقبوض.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن أسلم عشرة دراهم في كر حنطة) ش: بضم الكاف وتشديد الراء، وهو مكيال لأهل العراق معروف، وقال الأزهري: الكر ستون قفيزًا والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف صاع وهو ثلاث كيلجات، قال: وهو من الحساب اثنا عشر وسقًا، والوسق ستون صاعًا، م: (ثم تقايلا) ش: أي السلم م: (ثم اختلفا في الثمن) ش: يعني رأس المال م: (فالقول قول المسلم إليه ولا يعود السلم) ش: مع يمينه، لأن رب السلم يدعي زيادة وهو ينكر وإلا يتحالفان، م: (لأن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض) ش: أي الفسخ م: (لأنه) ش: أي الإقالة على تأويل النقائل م: (إسقاط) ش: للمسلم فيه وهو دين، والدين الساقط لا يعود م: (فلا يعود السلم) .
م: (بخلاف الإقالة في البيع) ش: فإنها تحتمل الفسخ فيعود المبيع لكونه عينًا إلى المشتري بعد عوده إلى البائع، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أن رأس مال السلم لو كان عرضًا فرده بالعيب) ش: يعني بحكم القاضي بذلك م: (وهلك قبل التسليم إلى رب السلم، لا يعود السلم، ولو كان ذلك في بيع العين بعود البيع دل) ش: أي ما ذكرنا م: (على الفرق بينهما) ش: أي بين السلم وبين العين.
[اختلف الزوجان في المهر]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف، وقالت تزوجني بألفين فأيهما أقام البينة تقبل بينته لأنه نور دعواه بالحجة) ش: أما قبول(9/367)
وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة لأنها تثبت الزيادة، معناه: إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته وإن لم تكن لهما بينة تحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يفسخ النكاح، لأن أثر التحالف في انعدام التسمية وأنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه بخلاف البيع، لأن عدم التسمية يفسده على ما مر فيفسخ ولكن يحكم مهر المثل فإن كان مثل ما اعترف به الزوج أو أقل قضى بما قال الزوج لأن الظاهر شاهد له، وإن كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر، قضي بما ادعته المرأة وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضي لهما بمهر المثل لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ولا انحط عنه قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكر التحالف أولا ثم التحكيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بينة المرأة فظاهر لأنها تدعي الزيادة وإنما الإشكال في قبول بينة الزوج لأنه ينكر الزوج مادة فكان عليه اليمين لا البينة، وإنما قبلت لأنه يدعي في الصورة وهي كافية لقبولها م: (وإن أقاما) ش: أي الزوجان م: (البينة فالبينة بينة المرأة لأنها تثبت الزيادة معناه) ش: أي معنى قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره " فالبينة بينة المرأة م: (إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته) ش: قيد به، لأنه إذا كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر فبينة الزوج أولى لأنها تثبت الحط وبينتها لا تثبت شيئًا، لأن ما ادعته ثابت بشهادة مهر المثل.
إليه أشار الإمام قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (وإن لم تكن لهما) ش: أي للزوجين م: (بينة) ش: بعد الاختلاف في المهر عجزا عن إقامة البينة م: (تحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يفسخ النكاح لأن أثر التحالف في انعدام التسمية وأنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه بخلاف البيع، لأن عدم التسمية يفسده) ش: أي لأن عدم تسمية الثمن في البيع تفسد البيع لأنه ركن فيه م: (على ما مر) ش: في "كتاب البيوع" وفي "كتاب النكاح" أيضًا م: (فيفسخ) ش: أي البيع بخلاف النكاح فإنه لا ينفسخ م: (ولكن يحكم) ش: بتشديد الكاف من التحكيم على صيغة المجهول مسندًا إلى قوله م: (مهر المثل) ش: أي يجعل من المثل حكمًا.
وبين تفصيل ذلك بقوله م: (فإن كان) ش: أي مهر مثلها م: (مثل ما اعترف به الزوج أو أقل) ش: مما اعترف به الزوج م: (قضى بما قال الزوج لأن الظاهر شاهد له) ش: أي ظاهر الحال يشهد للزوج لموافقة قوله من المثل م: (وإن كان) ش: أي مهر مثلها م: (مثل ما ادعته المرأة أو أكثر) ش: مما ادعته م: (قضى بما ادعته المرأة) ش: لأن الظاهر يشهد لها م: (وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لهما بمهر المثل، لأنهما لما تحالفا) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لم تثبت الزيادة على مهر المثل، ولا انحط عنه) ش: أي عن مهر المثل.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ذكر) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (التحالف أولًا ثم التحكيم،) ش: أي ثم ذكر التحكيم بعده، حاصله أنه ذكر(9/368)
وهذا قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية وسقوط اعتبارها بالتحالف فلهذا يقدم في الوجوه كلها، ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله- تعجيلا لفائدة النكول كما في المشتري، وتخريج الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخلافه، وقد استقصيناه في النكاح وذكرنا خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا نعيده ولو ادعى الزوج النكاح على هذا العبد والمرأة تدعيه على هذه الجارية فهو كالمسألة المتقدمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التحالف أولًا إذا اختلفا في المهر إذا لم يكن لها، ثم ذكر بعد ذلك تحكيم مهر المثل، م: (وهذا) ش: أي الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، هكذا م: (قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية وسقوط اعتبارها) ش: أي اعتبار القسمة م: (بالتحالف فلهذا يقدم) ش: أي التحالف م: (في الوجوه كلها) ش: يعني إذا كان مهر المثل مثل ما اعترف به الزوج أو أقل منه أو مثل ما ادعته المرأة أو أكثر منه أو كان بينهما فهذه خمسة أوجه.
م: (ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (تعجيلًا لفائدة النكول) ش:، لأن أول التسليمتين عليه فأول اليمينين عليه، لأن الزوج بمنزلة المشتري والمهر كالثمن والبضع كالمبيع، وإليه ذهب الإمام الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الطحاوي "، وإليه ذهب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضًا في هذا المقام، ولكن لم يعرض له في باب المهر م: (كما في المشتري) ش: فإنه يبدأ بيمينه أولًا. وقالوا في " شرح الجامع الصغير ": يبدأ التحالف بالقرعة لأنه لا رجحان لأحدهما عن الآخر م: (وتخريج الرازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بخلافه، وقد استقصيناه في النكاح) ش: أي وقد استقصينا الكلام فيه في كتاب النكاح م: (وذكرنا خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: حيث قال: إن القول قول الزوج عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جميع ذلك، إلا أن يأتي بشيء مستنكر.
م: (فلا نعيده) ش: أي فلا نعيد بيان قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هناك للاكتفاء بما ذكره هناك م: (ولو ادعى الزوج النكاح على هذا العبد والمرأة تدعيه) ش: أي تدعي النكاح م: (على هذه الجارية فهو كالمسألة المتقدمة) ش: يعني أنه بحكم مهر المثل أولًا، فمن شهد له فالقول له، وإن كان بينهما فيتحالفان؛ وقد أوضح ذلك صاحب " الإيضاح " حيث قال: وإن ادعى الزوج أن المهر هو هذا العبد، وقالت المرأة: هذه الجارية فالكلام فيه كالألف والألفين إلا فصل واحد، وهو أن مهر مثلها إذا كان مثل قيمة الجارية، أو أكثر فلها قيمة الجارية، لأن تملك الجارية لا يكون إلا بالتراضي، فإذا لم يتفقا على ذلك فقد تعذر التسليم فوجبت القيمة.
وقال شمس الأئمة البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الكفاية ": إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر لها مهر مثلها لا يتجاوز قيمة الجارية، وإن كان أقل من قيمة العبد لها مهر مثلها، إلا أن(9/369)
إلا أن قيمة الجارية إذا كانت مثل مهر المثل يكون لها قيمتها دون عينها لأن تملكها لا يكون إلا بالتراضي ولم يوجد فوجبت القيمة
وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا، معناه: اختلفا في البدل أو في المبدل لأن التحالف في البيع قبل القبض على وفاق القياس على ما مر، والإجارة قبل قبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع، وكلامنا قبل استيفاء المنفعة فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر لأنه منكر لوجوب الأجرة، وإن وقع في المنفعة يبدأ بيمين المؤجر وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ترضى بأخذ العبد، لأن تمليك عين الحيوان لا يمكن إلا إذا اتفقا عليه، ولم يتفقا على ملك الجارية فيرجع إلى قيمتها، وهذا الذي ذكره هو الذي ذكره المصنف بقوله: م: (إلا أن قيمة الجارية إذا كانت مثل مهر المثل يكون لها قيمتها دون عينها؛ لأن تملكها لا يكون إلا بالتراضي ولم يوجد فوجبت القيمة) ش: أي قيمة الجارية.
[اختلف المتآجران في الإجارة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن اختلفا في الإجارة) ش: أي وإن اختلف المتآجران في الإجارة م: (قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه اختلفا في البدل أو في المبدل) ش: أراد بالبدل الأجرة، والمبدل المنافع التي وقع عند الإجارة عليها م: (لأن التحالف في البيع قبل القبض) ش: أي قبل قبض المبيع م: (على وفاق القياس على ما مر) ش: أشار إلى قوله في أول الباب لأن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكر.. إلخ.
م: (والإجارة قبل قبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع) ش: في كونهما عقد معاوضة يقبل الفسخ فألحقت الإجارة به، فإن قيل قيام المعقود عليه شرط والمنفعة معدومة قلنا الدار أقيمت مقام المنفعة في حق إيراد العقد عليها، فكأنها قائمة تقديرًا.
م: (وكلامنا قبل استيفاء المنفعة) ش: أي كلامنا الذي ذكرناه إنما هو عند الاختلاف في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه، وأما إذا اختلفا في استيفاء المعقود عليه فسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، م: (فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر لأنه منكر لوجوب الأجرة) ش: فإن قيل: كان الواجب أن يبدأ بيمين المؤجر لتعجيل فائدة النكول فإن تسليم المعقود عليه واجب أولًا على الأجر ثم تجب الأجرة على المستأجر بعده؟ أجيب: بأن الأجرة إن كانت مشروطة التعجيل فهو السبق إنكارًا فيبدأ به، وإن لم يشترط لا يمتنع الأجر من تسليم العين المستأجرة، لأن تسليمه لا يتوقف على تسليم الأجرة فيبقى إنكار المستأجر لزيادة الأجرة فيحلف، م: (وإن وقع) ش: أي الاختلاف م: (في المنفعة يبدأ بيمين المؤجر) ش: هذا على غير القاعدة، والأصل أن يقال: المؤجر أو الأجير م: (وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه) ش: قال شمس الأئمة البيهقي في كتاب(9/370)
وأيهما أقام البينة قبلت، ولو أقاماها فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة. وإن كان في المنافع فبينة المستأجر أولى وإن كان فيهما قبلت بينة كل واحد منهما فيما يدعيه من الفضل نحو أن يدعي هذا شهرا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي شهرين بعشرة. قال: وإن اختلفا بعد الاستيفاء لم يتحالفا وكان القول قول المستأجر، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- ظاهر لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما، وكذا على أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الهلاك إنما يمنع عنده في المبيع لما أن له قيمة تقوم مقامه فيتحالفان عليها، ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد، فلا قيمة لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد وتبين أنه لا عقد، وإذا امتنع فالقول للمستأجر مع يمينه لأنه هو المستحق عليه وإن اختلفا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"الإجارات": اختلفا في الأجرة قبل القبض فقال المستأجر: بخمسة وقال المؤجر: بعشرة، أو في المدة، فقال المؤجر: شهرًا، وقال المستأجر: شهرين أو المسافة، قال: هذا إلى البصرة، وذلك إلى الكوفة، يتحالفان وتفسخ الإجارة وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه، ومن أقام بينة تقبل، فإن أقاما فالبينة للمؤجر إن كان الخلاف في قدر الأجر ونوعها أو جنسها، وهذا كالشرح لقول المصنف: م: (أيهما أقام البينة قبلت، ولو أقاماها) ش: أي كل واحد أقام بينة م: (فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة) ش: لأنه أكثر ثباتًا.
م: (وإن كان في المنافع فبينة المستأجر أولى وإن كان فيهما) ش: أي وإن كان الاختلاف في الأجرة والمنافع م: (قبلت بينة كل واحد منهما فيما يدعيه من الفضل، نحو أن يدعي هذا شهرًا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي شهرين بعشرة) ش: نظرًا إلى كثرة الإثبات م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن اختلفا بعد الاستيفاء) ش: أي بعد استيفاء المعقود عليه م: (لم يتحالفا وكان القول قول المستأجر، وهذا) ش: أي عدم التحالف م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- ظاهر، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما) ش: أي عند أبي يوسف وأبي حنيفة، م: (وكذا على أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني هاهنا م: (لأن الهلاك إنما يمنع) ش: أي التحالف م: (عنده في المبيع لما أن له قيمة تقوم مقامه) ش: لأن العين متقومة بنفسها فكانت القيمة قائمة مقام العين م: (فيتحالفان عليها) ش: أي على القيمة م: (ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد، فلا قيمة) ش: حتى يكون التحالف عليها م: (لأن المنافع لا تتقوم بنفسها) ش: لأنها عوض لا يبقى زمانين م: (بل بالعقد) ش: أي بل يتقوم بواسطة العقد م: (وتبين أنه لا عقد) ش: يعني ظهر يخلصهما أن لا عقد بينهما لانفساخه في الأصل، فلا يكون لها قيمة يرد عليها الفسخ.
م: (وإذا امتنع) ش: أي التحالف به بالإجماع م: (فالقول للمستأجر مع يمينه، لأنه هو المستحق عليه) ش: ومتى وقع الخلاف في الاستحقاق كان القول قول المستحق عليه مع يمينه م: (وإن اختلفا(9/371)
بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في كل جزء من المنفعة كان ابتداء العقد عليها بخلاف البيع؛ لأن العقد فيه دفعة واحدة فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل. قال: وإذا اختلف المولى والمكاتب في مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يتحالفان وتفسخ الكتابة وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه عقد معاوضة يقبل الفسخ فأشبه البيع، والجامع أن المولى يدعي بدلا زائدا ينكره العبد، والعبد يدعي استحقاق المعتق عليه عند أداء القدر الذي يدعيه، والمولى ينكره فيتحالفان كما إذا اختلفا في الثمن. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن البدل مقابل بفك الحجر في حق اليد والتصرف للحال وهو سالم للعبد، وإنما ينقلب مقابلا للعتق عند الأداء فقبله لا مقابلة، فبقي اختلافا في قدر البدل لا غير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي، وكان القول في الماضي قول المستأجر) ش: لأنه هو المتفق عليه فيما مضى.
وهو المدعى عليه م: (لأن العقد) ش: يعني في الإجارة م: (ينعقد ساعة فساعة فيصير في كل جزء من المنفعة كان ابتداء العقد عليها بخلاف البيع لأن العقد فيه دفعة واحدة، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل) ش: فإذا تعذر الفسخ في بعضه بالهلاك تعذر في الكل ضرورة فظهر الفرق.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا اختلف المولى والمكاتب في مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فالقول للعبد مع يمينه م: (وقالا: يتحالفان وتفسخ الكتابة وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه عقد معاوضة يقبل الفسخ فأشبه البيع،) ش: عند الاختلاف في الثمن م: (والجامع) ش: بينهما: م: (أن المولى يدعي بدلًا زائدًا ينكره العبد والعبد المدعي استحقاق المعتق عليه عند أداء القدر الذي يدعيه والمولى ينكر فيتحالفان كما إذا اختلفا) ش: أي المتبايعان م: (في الثمن) ش: أي في ثمن البيع، م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن البدل) ش: أي بدل الكتاب م: (مقابل بفك الحجر في حق اليد والتصرف للحال وهو) ش: أي التصرف م: (سالم للعبد) ش: لاتفاقهما على ثبوت الكتابة.
م: (وإنما ينقلب) ش: أي البدل م: (مقابلًا للعتق عند الأداء) ش: يعني إذا أدى بدل الكتابة ينقلب من كونه مقابلًا في الحجر إلى كونه مقابلًا بالحجرية فهاهنا هي المقصود، كما جعل وجوب الأجرة في ابتداء عقد الإجارة مقابلًا برقبة الدار ثم يصير مقابلًا بالمنافع المطلوبة عند حدوثها فكذا هنا م: (فقبله) ش: أي قبل الأداء م: (لا مقابلة، فبقي اختلاف في قدر البدل لا غير) ش: يعني لا في المبدل.
والعبد لا يدعي شيئًا بل هو منكر لما يدعيه المولى من الزيادة والقول قول المنكر، فإذا كان(9/372)
فلا يتحالفان.
قال وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال فهو للرجال كالعمامة. لأن الظاهر شاهد له، وما يصلح للنساء فهو للمرأة كالوقاية لشهادة الظاهر لها، وما يصلح لهما كالآنية فهو للرجل، لأن المرأة وما في يدها في يد الزوج، والقول في الدعاوى لصاحب اليد بخلاف ما يختص بها لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك م: (فلا يتحالفان) ش: لان التحالف في المبيع يثبت نصًا بخلاف القياس فلا يلحق به ما ليس في معناه، والكتابة ليست في معنى البيع؛ لأن التحالف في المفاوضات عندنا يتحد بالحقوق اللازمة من الجانبين، وبدل الكتابة ليس بلازم على العبد لقدرته على تعجيز نفسه فيدافع عن نفسه، ولهذا لا تصح الكفالة به ولا يصح إلحاقه بالبيع، فيكون القول للعبد مع يمينه.
[اختلف الزوجان في متاع البيت والنكاح بينهما قائم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال فهو للرجال كالعمامة) ش: وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت والنكاح بينهما قائم أو طلقها وادعى كل واحد منهما أنه له، قال أصحابنا ما يصلح للرجال مثل العمامة والقلنسوة والخفين والأسلحة والكتب ونحو ذلك، فالقول فيها قول الرجل.
م: (لأن الظاهر شاهد له) ش: وفي الدعاوى: القول قول من يشهد له الظاهر، وقال الشافعي وزفر وعثمان الليثي وأصحاب الظاهر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: ما يصلح له أو لها والمشكل فهو بينهما بعد التحالف، وكذا في يد ورقهما. وقال أحمد وابن أبي ليلى والثوري: ما يصلح له فهو له مع يمينه، وما يصلح لها فهو لها مع يمينها والمشكل بينهما نصفان بعد التحالف، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - نحوه، إلا أنه قال: المشكل للرجل، وقال ابن شبرمة: الكل للرجل إلا ما على المرأة من ثياب بدنها: وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان البيت لها فالكل لها مع يمينها، إلا ما على الرجل من ثياب بدنه وإن كان البيت له فالكل له لأن البيت وما فيه في يده م: (وما يصلح للنساء فهو للمرأة كالوقاية) ش: والملاءة، والوقاية ما تشده المرأة على [ ... ] رأسها كالعصابة سميت بذلك لأنها مع الخمار كالملحفة م: (لشهادة الظاهر لها) ش: أي للمرأة م: (وما يصلح لهما) ش: أي للزوجين م: (كالآنية فهو للرجل) ش: وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المشكل ما يصلح لها كالفرن والشاة والعبد والخادم والأواني والأمتعة والذهب والفضة والعقار، وقال التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يصلح للنساء فهو لها مع اليمين، إلا أن يكون الرجل صائغًا وله أساوير وخواتيم النساء وحلي وخلخال وأمثال ذلك، فحينئذ لا تكون هذه الأشياء لها.
وكذلك إذا كانت المرأة تبيع ثياب الرجال كالعمامة [ ... ] والمنطقة م: (لأن المرأة وما في يدها في يد الزوج، والقول في الدعاوى لصاحب اليد بخلاف ما يختص بها، لأنه) ش: أي لأن ظاهر اليد(9/373)
يعارضه ظاهرا أقوى منه، ولا فرق بين ما إذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أو بعدما وقعت الفرقة فإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر فما يصلح للرجال والنساء فهو للباقي منهما لأن اليد للحي دون الميت، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها والباقي للزوج مع يمينه لأن الظاهر أن المرأة تأتي بالجهاز وهذا أقوى فيبطل به ظاهر يد الزوج، ثم في الباقي لا معارض لظاهره فيعتبر، والطلاق والموت سواء لقيام الورثة مقام موروثهم، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما كان للرجال فهو للرجل وما كان للنساء فهو للمرأة، وما يكون لهما فهو للرجل أو لورثته لما قلنا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (يعارضه ظاهرًا أقوى منه،) ش: وهو بدل الاستعمال فكان القول لها، كرجلين اختلفا في ثوب أحدهما لابسه والآخر متعلق بكمه، فإن اللابس أولى، بخلاف الإسكاف والعطار إذا اختلفا فيه، لأن الأساكفة والعطارين وهي في أيديهما فيكون بينهما نصفين عند علمائنا، ولم يترجح بالاختصاص، لأن المراد به ما هو بالاستعمال لا بالشبهة، ولم يشاهد استعمال الأساكفة والعطارين، وشاهدنا: كون هذه الآن في أيديهما على السواء فجعلناها بينهما نصفين.
م: (ولا فرق بين ما إذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أو بعد ما وقعت الفرقة فإن مات أحدهما) ش: أي أحد الزوجين م: (واختلفت ورثته) ش: أي ورثة الميت م: (مع الآخر) ش: وهو الحي منهما م: (فما يصلح للرجال والنساء) ش: كالأواني والبسط ونحوها م: (فهو للباقي منهما) ش: أي من الزوجين م: (لأن اليد للحي دون الميت) ش: لأنه لا يد له.
م: (وهذا الذي) ش: وهذا المجموع الذي م: (ذكرناه) ش: من حيث الجملة لا من حيث التفصيل من أول المسألة إلى آخرها م: (قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن المذكور من حيث التفصيل ليس قوله خاصة، فإن كون ما يصلح للرجال فهو للرجل وما يصلح للنساء فهو للمرأة بالإجماع فلا اختصاص له بذلك، وعلى هذا قوله: م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها) ش: معناه مما يصلح لها م: (والباقي للزوج مع يمينه لأن الظاهر أن المرأة تأتي بالجهاز، وهذا) ش: أي ظاهر المرأة م: (أقوى) ش: لجريان العادة بذلك م: (فيبطل به ظاهر يد الزوج، ثم في الباقي لا معارض لظاهره فيعتبر) ش: فكان معتبرًا.
م: (والطلاق والموت سواء لقيام الورثة مقام موروثهم، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما كان للرجال فهو للرجل وما كان للنساء فهو للمرأة وما يكون لهما) ش: أي وما كان يصلح للزجين م: (فهو للرجل أو لورثته لما قلنا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في "الدليل"، وهو أن المرأة وما في يدها للزوج والقول لصاحب اليد وهذا بالنسبة إلى الحياة، وأما بالنسبة إلى الممات(9/374)
والطلاق والموت سواء لقيام الوارث مقام المورث وإن كان أحدهما مملوكا فالمتاع للحر في حالة الحياة لأن يد الحر أقوى، وللحي بعد الممات لأنه لا يد للميت فخلت يد الحي عن المعارض، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: العبد المأذون له في التجارة والمكاتب بمنزلة الحر لأن لهما يدا معتبرة في الخصومات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقوله: م: (والطلاق والموت سواء لقيام الوارث مقام المورث) ش: وفي الفوائد، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورثة الزوج يقومون مقام الزوج لأنهم خلفاؤه فيما له فكما أن المشكل له في حياته مع يمينه، فكذا كان القول لورثته م: (وإن كان أحدهما) ش: أي أحد الزوجين.
م: (مملوكًا فالمتاع للحر في حالة الحياة؛ لأن يد الحر أقوى وللحي بعد الممات لأنه لا يد للميت فخلت يد الحي عن المعارض، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: العبد المأذون له في التجارة والمكاتب بمنزلة الحر لأن لهما يدًا معتبرة في الخصومات) ش: حتى لو اختصم الحر والمكاتب في شيء في يديهما قضى به بينهما لاستوائهما في اليد، ولو كان في يد ثالث وأقام البينة استويا فيه.
فكما لا يترجح الحر بالحرية في سائر الخصومات فكذلك في متاع البينة، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: "وللحي بعد الممات" سواء كان الحي حرًا أو مملوكًا، هكذا ذكره في نسخ " شرح الجامع الصغير ".
ولكن ذكر فخر الإسلام شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شروح الجامع الصغير ": لو كان أحدهما حرًا والآخر مملوكًا فالمتاع للحر منهما، وكذا إن مات أحدهما كان المتاع للحر منهما، ثم قال: وما وقع في بعض النسخ "للحي منهما" سهو.
وفي رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والزعفراني للحر بالراء، وذكر في " المختصر السراجي السعيد ": ولو كان أحدهما مملوكًا فاختلفا بعد الفرقة في الأمتعة المشكلة فالقول قول الحر لقوة يده عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما: سواء.
وذكر في " جامع البزدوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمتاع للحر منهما غير مقيدة بالمشكل وجرح به في مختلف العقبة، والأقضية أن المتاع كله للحر عنده، وعندهما على التفاصيل التي عرفت فيما إذا كانا حرين.(9/375)
فصل فيمن لا يكون خصما وإن قال المدعى عليه: هذا الشيء أودعنيه فلان الغائب، أو رهنه عندي، أو غصبته منه وأقام بينة على ذلك فلا خصومة بينه وبين المدعي وكذا إذا قال أجرنيه وأقام البينة لأنه أثبت ببينته أن يده ليست بيد خصومة. وقال ابن شبرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تندفع الخصومة لأنه تعذر إثبات الملك للغائب لعدم الخصم عنه ودفع الخصومة بناء عليه قلنا: مقتضى البينة شيئان: ثبوت الملك للغائب ولا خصومة فيه فلم يثبت، ودفع خصومة المدعي، وهو خصم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل فيمن لا يكون خصما]
م: (فصل فيمن لا يكون خصمًا) ش: أي هذا فصل في بيان من لا يكون خصمًا عند الدعوى، ولما ذكر فيما مضى من يكون خصمًا ذكر هنا من لا يكون خصمًا، وبضدها تتبين الأشياء قيل: الفصل مشتملًا أيضًا على ذكر من يكون خصمًا، وأجيب: نعم من حيث الفرق لا من حيث القيد الأصلي م: (وإن قال) ش: و"في بعض النسخ" فإن قال م: (المدعى عليه: هذا الشيء أودعنيه فلان الغائب أو رهنه عندي أو غصبته منه وأقام بينة على ذلك فلا خصومة بينه وبين المدعي) ش: صورته دار أو ثوب في يد إنسان ادعى رجل عليه أنها له، فقال ذو اليد: هو لفلان الغائب أودعنيه.. إلخ.
وأقام ذو اليد بينة على ما قاله فلا خصومة بين ذي اليد الذي هو المدعى عليه وبين المدعي. وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله- والشافعي في الأظهر، وقال ابن شبرمة له يندفع به، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المنصوص عليه، م: (وكذا) ش: أي لا خصومة م: (إذا قال) ش: ذو اليد م: (أجرنيه) ش: فلان م: (وأقام البينة لأنه) ش: أي وكذا لأن ذا اليد م: (ثبت ببينته أن يده ليست بيد خصومة. وقال ابن شبرمة:) ش: هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الطبي أبو شبرمة الكوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القاضي فقيه أهل الكوفة، عدداه في التابعين، روى عن أنس بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال العجلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان قاضيًا لأبي جعفر على سواد الكوفة وضياعها، وكان فاضلًا ناسكًا ثقة في الحديث، مات سنة أربع وأربعين ومائة.
م: (لا تندفع) ش: أي الخصومة م: (لأنه تعذر إثبات الملك للغائب لعدم الخصم عنه) ش: أي عن الغائب، وإثبات الملك للغائب بدون الخصومة متعذر، إذ ليس لأحد ولاية إدخال شيء في ملك غيره بغير رضاه، م: (ودفع الخصومة بناء عليه) ش: أي على إثبات الملك والبناء على المتعذر متعذر م: (قلنا مقتضى البينة شيئان: ثبوت الملك للغائب) ش: أي أحدهما ثبوت الملك للغائب.
م: (ولا خصومة فيه فلم يثبت، ودفع خصومة المدعي) ش: أي والثاني: دفع الخصومة عن نفسه م: (وهو خصم فيه) ش: لأن مقصود ذي اليد إثبات أن يده يد حفظ لا يد خصومة، ولا إثبات الملك للغائب أو فيما هو المقصود، والمدعي خصم له فيه فتقبل بينته.(9/376)
فيه فيثبت وهو كالوكيل بنقل المرأة كإقامتها البينة على الطلاق كما بيناه من قبل، ولا تندفع بدون إقامة البينة كما قاله ابن أبي ليلى؛ لأنه صار خصما بظاهر يده فهو بإقراره يريد أن يحول حقا مستحقا على نفسه فلا يصدق إلا بحجة، كما إذا ادعى تحويل الدين عن ذمته إلى ذمة غيره. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا إن كان الرجل صالحا فالجواب كما قلناه، وإن كان معروفا بالحيل لا تندفع عنه الخصومة؛ لأن المحتال من الناس قد يدفع ماله إلى مسافر يودعه إياه. ويشهد عليه الشهود فيحتال لإبطال حق غيره، فإذا اتهمه القاضي به لا يقبله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فيثبت) ش: يد الحفظ م: (وهو كالوكيل بنقل المرأة) ش: إلى زوجها م: (كإقامتها البينة على الطلاق) ش: فإنها تقبل بقصر يد الوكيل عنها، ولم يحكم بوقوع الطلاق ما لم يحضر الغائب م: (كما بيناه من قبل) ش: أي في باب الوكالة بالخصومة.
والقبض يعني أن بينة المرأة على الطلقات الثلاث تقبل في حق قصر يد الوكيل عن نقلها لا في حق الطلاق، م: (ولا تندفع) ش: أي الخصومة م: (بدون إقامة البينة كما قاله ابن أبي ليلى) ش: هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، أبو عبد الرحمن الكوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفقيه قاضي الكوفة، فيه مقال، مات سنة ثمان وأربعين ومائة. ومذهبه أنه يخرج من الخصومة بمجرد الدعوى بغير بينة لأنه لا تهمة فيما يقر به على نفسه فيثبت ما أقر به بمجرد إقراره أن يده يد حفظ لا يد خصومة.
م: (لأنه صار خصمًا) ش: دليلها يعني توجهت الخصومة إليه م: (بظاهر يده) ش:، وهذا يبين ما كان للقاضي إحضاره ويكتب إليه بالجواب م: (فهو بإقراره يريد أن يحول حقًا مستحقًا على نفسه) ش: فهو متهم في إقراره م: (فلا يصدق إلا بحجة) ش: كما لا يصدق المدعي دعوى الملك إلا بحجة.
وكذا م: (كما إذا ادعى تحويل الدين عن ذمته إلى ذمة غيره) ش: بالحوالة، فإنه لا يصدق إلا بحجة.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا:) ش: تندفع الخصومة كما كانت البينة م: (إن كان الرجل) ش: أي ذو اليد م: (صالحًا) ش: أي غير معروف إلا بالخير والصدق، م: (فالجواب كما قلناه) ش: أي تندفع الخصومة كما قامت البينة، م: (وإن كان معروفًا بالحيل لا تندفع عنه الخصومة لأن المحتال من الناس قد يدفع ماله) ش: أي المال الذي غصبه من إنسان م: (إلى مسافر يودعه إياه ويشهد عليه الشهود) ش: حتى جاء المالك وأراد أن يثبت ملكه م: (فيحتال لإبطال حق غيره) ش: بأن يقيم بينة على أن فلانا أودعه فيبطل حقه وتندفع الخصومة عنه.
م: (فإذا اتهمه القاضي به لا يقبله) ش: وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " المبسوط " ما ذهب(9/377)
ولو قال الشهود: أودعه رجل لا نعرفه لا تندفع عنه الخصومة لاحتمال أن يكون المودع هو هذا المدعي، ولأنه ما أحاله إلى معين ليمكن المدعي من اتباعه، فلو اندفعت لتضرر به المدعي، ولو قالوا: نعرفه بوجهه ولا نعرفه باسمه ونسبه، فكذلك الجواب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوجه الثاني، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - تندفع لأنه أثبت بينته أن العين وصل إليه من جهة غيره، حيث عرفه الشهود بوجهه، بخلاف الفصل الأول فلم تكن يده يد خصومة، وهو المقصود، والمدعي هو الذي أضر بنفسه حيث نسي خصمه أو أضره شهوده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إليه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صح استحسان ذهب إليه بعدما ابتلي بالقضاء، لأنه لما رضي بالقضاء فوقف على أحوال الناس ما لا يعرفه غيره، وما قالا قياس، لأن البينات حجج متى قامت يجب العمل بها، ولا يجوز تعطيلها بمجرد الوهم.
قلت: زماننا هذا أكثر فسادًا لغلبة التزوير وكثرة الحيل بالاحتياط فيه واجب، م: (ولو قال الشهود: أودعه رجل لا نعرفه لا تندفع عنه الخصومة لاحتمال أن يكون المودع هو هذا المدعي ولأنه) ش: أي ولأن ذي اليد م: (ما أحاله إلى معين ليمكن المدعي من اتباعه، فلو اندفعت الخصومة لتضرر به المدعي، ولو قالوا: نعرفه بوجهه ولا نعرفه باسمه ونسبه فكذلك الجواب عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوجه الثاني) ش: أي الشهود ما أحاله إلى معين يمكن للمدعي اتباعه.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تندفع) ش: الخصومة، م: (لأنه أثبت بينته أن العين وصل إليه من جهة غيره، حيث عرفه الشهود بوجهه، بخلاف الفصل الأول) ش: وهو ما إذا قال الشهود أودعه رجل لا نعرفه للعلم بيقين، حينئذ أن المودع غير المدعي، فإذا الشهادة تفيد أن يده ليست بيد خصومة وهو المقصود، م: (فلم تكن يده يد خصومة وهو المقصود، والمدعي هو الذي أضر بنفسه) ش: هذا جواب عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو اندفعت الخصومة لتضرر المدعي.
ووجهه أن المدعي أضر نفسه بالضرر اللاحق م: (حيث نسي خصمه أو أضره شهوده) ش: أي شهود المدعى عليه، وهذا الاختلاف إنما يكون إذا كانت العين قائمة في يد المدعى عليه، وإليه أشار بقوله: "هذا الشيء أو دعته فلان" فإن الإشارة الحسية لا تكون إلا إلى موجود في الخارج؛ وأما إذا هلكت فلا تندفع الخصومة، وإن أقام البينة لأنها إذا كانت قائمة فذو اليد ينتصب خصما للمدعي في العين بظاهر يده فإن ظاهر اليد يدل على الملك إلا أنه يحتمل أنه ليس يد ملك، وبإقامة البينة أن العين وديعة عنده يظهر أن يده ليست يد ملك فتندفع عنه الخصومة، أما إذا كانت العين هالكة فالدعوى تقع في الدين، ومحل الدين الذمة، فالمدعى عليه يثبت خصمًا للمدعي بذمته وبما أقام المدعي من البينة، على أن العين كانت في يده وديعة لا تبين أن ذمته كانت لغيره، فلا تتحول عنه الخصومة.(9/378)
دون المدعى عليه، وهذه المسألة مخمسة كتاب الدعوى وذكرنا الأقوال الخمسة وإن قال ابتعته من الغائب فهو خصم لأنه لما زعم أن يده يد ملك اعترف بكونه خصما، وإن قال المدعي: غصبته مني أو سرقته مني لا تندفع الخصومة وإن أقام ذو اليد البينة على الوديعة، لأنه إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه لا بيده، بخلاف دعوى الملك المطلق لأنه خصم فيه باعتبار يده حتى لا يصح دعواه على غير ذي اليد، ويصح دعوى الفعل وإن قال المدعي سرق مني وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان، وأقام البينة لم تندفع الخصومة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان، وقال محمد: تندفع لأنه لم يدع الفعل عليه فصار كما إذا قال غصب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (دون المدعى عليه وهذه المسألة مخمسة كتاب الدعوى) ش: أي هذه المسألة من مسائل كتاب الدعوى من "الأصل" تسمى المخمسة لما فيها من خمسة أوجه، لأن ذا اليد قال: هذه وديعة أو عارية أو إجارة أو رهن، أو غصب أو تسمى بخمسة لأن فيها خمسة أقاويل، أشار إليه بقوله: م: (وذكرنا الأقوال الخمسة) ش: لعلمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ولابن أبي ليلى ولابن شبرمة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن قال: ابتعته من الغائب فهو خصم) ش: يعني إذا ادعى على ذا اليد عينًا، فقال ذو اليد "اشتريتها من الغائب" لا تندفع الخصومة م: (لأنه لما زعم أن يده يد الملك اعترف بكونه خصمًا) ش: كما لو ادعى ذو اليد ملكًا مطلقًا م: (وإن قال المدعي: "غصبته مني" أو "سرقته مني" لا تندفع الخصومة، وإن أقام ذو اليد البينة على الوديعة) ش: بيانه: أن المدعي إذا ادعى فعلًا على ذي اليد، وقال: الدار داري أودعتها عندك أو استأجرتها مني أو غصبتها مني أو ارتهنتها مني، وقال المدعى عليه الذي في يده الدار: إنها لفلان الغائب أودعها أو غصبتها منه وغير ذلك، وأقام على ذلك البينة؛ فإن الخصومة لا تندفع عنه، م: (لأنه) ش: أي لأن ذا اليد م: (إنما صار خصمًا بدعوى الفعل عليه لا بيده) ش: وصيرورته خصمًا في دعوى الفعل لا يفتقر إلى اليد أصلًا فضلًا عن أن يفتقر إلى ملك ويد خصومة، ولهذا اتضح دعوى الملك المطلق باعتبار يده، حتى لا تصبح دعواه أي دعوى المدعي على غير ذي اليد.
ويصح دعوى الفعل على غير ذي اليد م: (بخلاف دعوى الملك) ش: أي دعوى المدعي لما ملك م: (المطلق، لأنه خصم فيه) ش:، أي لأن ذا اليد خصم في دعوى الملك المطلق م: (باعتبار يده حتى لا تصح دعواه) ش: أي دعوى المدعي م: (على غير ذي اليد ويصح دعوى الفعل) ش: أي غير ذي اليد م: (وإن قال المدعي سرق مني وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان وأقام البينة لم تندفع الخصومة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان، وقال محمد: تندفع) ش: أي الخصومة م: (لأنه لم يدع الفعل عليه) ش: أي على ذي اليد.
بل هذا دعوى الفعل على مجهول وهي باطلة فألحقت بالعدم م: (فصار كما إذا قال: غصب(9/379)
مني على ما لم يسم فاعله. ولهما: أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل لا محالة، والظاهر أنه هو الذي في يده إلا أنه لم يعينه درءًا للحد شفقة عليه، وإقامة لحسبة الستر فصار كما إذا قال سرقت، بخلاف الغصب لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه، وإن قال المدعي: ابتعته من فلان وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان ذلك أسقطت الخصومة بغير بينة، لأنهما لما توافقا على أن أصل الملك فيه لغيره فيكون وصولها إلى ذي اليد من جهته، فلم تكن يده يد خصومة إلا أن يقيم البينة أن فلانًا وكله بقبضه؛ لأنه أثبت بينته كونه أحق بإمساكها والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مني على ما لم يسم فاعله) ش: لأن فيه تجهيل الغاصب م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ولأبي يوسف - رحمهما الله-: م: (أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل لا محالة) ش: لأن الفعل بدون الفاعل لا يتصور.
م: (والظاهر: أنه هو الذي في يده إلا أنه لم يعينه) ش: أي لم يعين السارق م: (درءًا) ش: أي دفعًا م: (للحد شفقة عليه وإقامة لحسبة الستر فصار كما إذا قال: سرقت) ش: بالخطاب المذكر م: (بخلاف الغصب، لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه) ش: فإنه غير معذور في التجهيل م: (وإن قال المدعي ابتعته من فلان وقال صاحب اليد أودعنيه فلان ذلك أسقطت) ش: أي أشد إسقاطًا م: (الخصومة بغير بينة، لأنهما لما توافقا على أن أصل الملك فيه لغيره فيكون وصولها إلى ذي اليد من جهته فلم تكن يده يد خصومة، إلا أن يقيم البينة أن فلانا وكله بقبضه، لأنه أثبت بينته كونه أحق بإمساكها) ش: ولو طلب المدعي بينة على ما ادعى من الإيداع يحلف على الثبات.
ولو قال ذو اليد: أودعني وكيله لا يصدق إلا ببينة، لأن الوكالة لا تثبت إلا بقوله، م: (والله أعلم) .(9/380)
باب ما يدعيه الرجلان قال: وإذا ادعى اثنان عينا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها له وأقاما البينة قضى بها بينهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: تهاترتا، وفي قول: يقرع بينهما، لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين الاستحالة اجتماع الملكين في الكل في حالة واحدة، وقد تعذر التمييز فيتهاتران أو يصار إلى القرعة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أقرع فيه، وقال: " اللهم أنت الحكم بينهما ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب ما يدعيه الرجلان]
م: (باب ما يدعيه الرجلان) ش: أي هذا باب في بيان ما يدعيه الرجلان، ولما فرغ من بيان حكم الواحد شرع في بيان حكم الاثنين؛ لأنه بعد الواحد.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا ادعى اثنان عينًا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها له وأقاما البينة قضى بها بينهما. وقال الشافعي، في قول: تهاترتا) ش: أي البينتان تساقطتا من التهر بكسر الهاء، وهو السقط من الكلام والخطأ، وهذا قوله القديم، وبه قال مالك في رواية وأحمد في رواية، م: (وفي قول يقرع بينهما) ش: ويقضي لمن خرجت قرعته، وبه قال أحمد في رواية.
وفي قول للشافعي وأحمد في رواية: يقضي لمن خرجت قرعته بيمين، وعن مالك: يقضي بأعدل البينتين، فإذا تساويا في العدالة يقسم بينهما نصفين. وقال الأوزاعي وابن الماجشون المالكي: يقضي بأكثرهم عددًا لزيادة طمأنينة القلب إلى قول الأكثر.
م: (لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين لاستحالة اجتماع المالكين في الكل) ش: يعني في كل العين م: (في حالة واحدة، وقد تعذر التمييز) ش: أي تمييز العادلة من الكاذبة، فإذا كان كذلك م: (فيتهاتران) ش: أي فيتساقطان م: (أو يصار إلى القرعة، لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أقرع فيه وقال: " اللهم أنت الحكم بينهما ") » ش: هذا رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " بإسناده إلى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء فأقام كل واحد منهما البينة، فأقرع بينهما» هكذا ذكر الأترازي لفظه، ولفظ الطبراني: «فأقام كل واحد منهما بشهود عدول في عدة واحدة، فساهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقال: " اللهم(9/381)
ولنا حديث تميم بن طرفة «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ناقة وأقام كل واحد منهما البينة فقضى بها بينهما نصفين» وحديث القرعة كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ، ولأن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بأن يعتمد أحدهما سبب الملك، والآخر اليد، فصحت الشهادتان فيجب العمل بهما ما أمكن، وقد أمكن بالتنصيف، إذ المحل يقبله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اقض بينهما» ، ورواه أبو داود عن ابن المسيب مرسلًا، وكذا رواه عبد الرزاق مرسلًا، ورواه عبد الحق في أحكامه. وقال: وهذا مرسل ضعيف؛ لأن عبد الرزاق رواه عن نعيم بن يحيى الأسلمي، قال: هو متروك.
م: (ولنا «حديث تميم بن طرفة أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ناقة وأقام كل واحد منهما البينة، فقضى بها بينهما نصفين) » ش: هذا الحديث رواه ابن أبي شيبة: حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين...... إلخ، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " عن سماك بن حرب، ورواه البيهقي في كتاب " المعرفة " عن الحاكم بسنده عن أبي عوانة أخبرنا سماك بن حرب به، وقال هذا [
] .
قلت: تميم بن طرفة الطائي المسلمي الكوفي من التابعين الثقات مات سنة خمس وتسعين، وروى عنه مسلم بن طرفة، ولا يحتج بهذا لانقطاعه، ويحتج بحديث أبي هريرة، رواه إسحاق بن راهويه وابن حبان في " صحيحه ": «أن رجلين ادعيا دابة فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . وروى الطبراني في " معجمه " بإسناده عن جابر بن سمرة: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين أنه له، فجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما.»
م: (وحديث القرعة كان في الابتداء) ش: أي في ابتداء الإسلام م: (ثم نسخ) ش: بما حرم القمار وكان مباحًا، م: (ولأن المطلق) ش: بكسر اللام، أي المجوز م: (للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بأن يعتمد أحدهما سبب الملك والآخر اليد) ش: أي اعتمد اليد، لأن الشهادة لا تعتمد وجود الملك حقيقة، لأن ذلك يثبت لا يطلع عليه العباد، فجاز أن يكون أحدهما اعتمد شبهة الملك بأن رآه يشتري فشهد على ذلك، والآخر اعتمد اليد فشهد على ذلك م: (فصحت الشهادتان، فيجب العمل بهما ما أمكن، وقد أمكن بالتنصيف، إذ المحل يقبله) ش: أي يقبل التنصيف(9/382)
وإنما ينصف لاستوائهما في سبب الاستحقاق.
قال: فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة، وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين لتعذر العمل بهما؛ لأن المحل لا يقبل الاشتراك. قال: ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما؛ لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين، وهذا إذا لم تؤقت البينتان، فأما إذا وقتا فصاحب الوقت الأول أولى، وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته لتصادقهما. وإن أقام الآخر البينة قضي بها، لأن البينة أقوى من الإقرار، ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها، لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه، إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا، لأنه أظهر الخطأ في الأول بيقين، وكذا إذا كانت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصار هذا كالمعلل سرجه، نحو إن باع فضولي مال آخر، وباع فضولي من آخر ذلك المال وأجاز مالك البيعين ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف، فكذا هذا.
م: (وإنما ينصف لاستوائهما في سبب الاستحقاق) ش: إن المدعي قابل للاشتراك، فيستويان في الاستحقاق كالغريمين في الشركة.
[ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين لتعذر العمل بهما؛ لأن المحل لا يقبل الاشتراك. قال:) ش: أي القدوري (ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما، لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين) ش: قال السعدي: لا يترجح أحدهما إلا بإحدى معان ثلاث: أحدهما: إقرار المرأة، والثاني: كونها في يد أحدهما، والثالث: دخول أحدهما بها إلا أن يقيم الآخر أن نكاحه أسبق، كذا في " الخلاصة ".
م: (وهذا) ش: أي الحكم المذكور م: (إذا لم تؤقت البينتان) ش: أي إذا لم يذكر تاريخا، م: (فأما: إذا وقتا) ش: أي ذكر كل واحد منهما تاريخا م: (فصاحب الوقت الأول) ش: أي التاريخ السابق م: (أولى) ش: لما فيه من زيادة الإثبات، ولأنه لا معارض له في ذلك الزمان فقضى به في ذلك الزمان م: (وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته لتصادقهما) ش: على الزوجية؛ لأنها ليست في يد أحد وهي في يد نفسها، فيعتبر إقرارها بالزوجية م: (وإن أقام الآخر البينة قضى بها؛ لأن البينة أقوى من الإقرار) ش: لأن البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة.
م: (ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها؛ لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه) ش: أي دعوى المدعي الآخر مع شهادته دون الأول لاتصال القضاء بالأول م: (إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا) ش: على شهود، فحينئذ ينتقض الأول م: (لأنه أظهر الخطأ في الأول بيقين، وكذا إذا كانت(9/383)
المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق. قال: ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد معناه من صاحب اليد وأقاما بينة فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن، وإن شاء ترك، لأن القاضي يقضي بينهما نصفين لاستوائهما في السبب فصارا كالفضوليين إذا باع كل واحد منهما من رجل وأجاز المالك البيعين يخير كل واحد منهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق) ش: أي إلا على وجه: أن بينته تشهد أن نكاحه قبل نكاح الأول، فحينئذ ينتقض نكاح الأول لظهور الخطأ فيه بيقين، وهذا كله إذا كان التنازع حال قيام المرأة، أما إذا كان بعد وفاة المرأة فهذا على وجوه، ولا يعتبر فيه الإقرار واليد، فإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى بالنكاح له والميراث له ويجب عليه تمام المهر؛ وإن لم يؤرخا أو أرخا على السواء فإنه يقضي بالنكاح بينهما، ويجب على كل واحد من الزوجين نصف المهر ويرثان منهما ميراث زوج واحد.
فرق بين الدعوى في حالة الحياة وبين الدعوى بعد الوفاة، والفرق أن المقصود في حالة الحياة هي المرأة وهي لا تصلح مشتركة بينهما، والمقصود بعد الوفاة ميراث ابن كامل لأن البنوة لا تتجزأ. هكذا ذكر في " الفضول ".
[ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد) ش: قال المصنف: م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري م: (من صاحب اليد) ش: إنما قال هذا احترازًا عما سيأتي بعد هذه المسألة وهي أنه لو ادعى كل واحد الشراء من غير ذي اليد فهو لا يخلو إما أن يدعي الشراء من واحد أو اثنين فالحكم على التفصيل يجيء في الكتاب م: (وأقاما بينة) ش: بينة من غير توقيت م: (كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن وإن شاء ترك؛ لأن القاضي يقضي بينهما نصفين لاستوائهما في السبب) ش: وبه قال مالك في رواية، وأحمد في رواية، والشافعي في رواية - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول آخر: يقرع؛ وبه قال أحمد في رواية.
وعن الشافعي قول: " تسقط البينتان " ويرجع إلى البائع فإن صدق أحدهما سلم إليه، وهل يحلف الآخر على القولين؟ والأصح لا يرجح بإقرار البائع.
وبه قال أكثر أصحابه بل يقسم نصفين أو يقرع، م: (فصار كالفضوليين إذا باع كل واحد منهما من رجل، وأجاز المالك البيعين) ش: قضى بينهما نصفين م: (يخير كل واحد منهما) ش: أي من الاثنين الذي ادعى كل واحد أنه اشترى هذا العبد.(9/384)
لأنه تغير عليه شرط عقده، فلعل رغبته في تملك الكل فيرده ويأخذ كل الثمن لو أراد.
وإن قضى القاضي به بينهما فقال أحدهما: لا أختار النصف لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه، لأنه صار مقضيا عليه في النصف فانفسخ البيع فيه، وهذا لأنه خصم فيه لظهور استحقاقه بالبينة لولا بينة صاحبه، بخلاف ما لو قال ذلك قبل تخيير القاضي حيث يكون له أن يأخذ الجميع؛ لأنه يدعي الكل ولم يفسخ سببه والعود إلى النصف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه تغير عليه شرط عقده، فلعل رغبته في تملك الكل فيرده ويأخذ كل الثمن لو أراد. وإن قضى القاضي به بينهما فقال أحدهما: لا أختار النصف لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه، لأنه صار مقضيا عليه في النصف فانفسخ البيع فيه، وهذا لأنه خصم فيه لظهور استحقاقه بالبينة لولا بينة صاحبه، بخلاف ما لو قال ذلك قبل تخيير القاضي حيث يكون له أن يأخذ الجميع؛ لأنه يدعي الكل ولم يفسخ سببه والعود إلى النصف
م: (لأنه تغير عليه شرط عقده) ش: وهو رضاه، لأنه ما رضي بالعقد إلا ليسلم له كل المبيع، فإذا لم يسلم اختل رضاه بتفريق المصنفة عليه م: (فلعل رغبته في تملك الكل) ش: أي كل العبد م: (فيرده ويأخذ كل الثمن) .
ش: فإن قيل: كذب أحد البينتين متيقن لاستحالة توارد العقدين على عين واحدة كاملا في وقت واحد، فينبغي أن تبطل البينات؟. أجيب: بأنهم لم يشهدوا بكونهما في وقت واحد، بل شهدوا بنفس العقد، فجاز أن يكون كل منهم اعتمد سببا في وقت أطلق له الشهادة به م: (لو أراد) .
م: (وإن قضى القاضي به بينهما فقال أحدهما: لا أختار النصف لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه لأنه صار مقضيا عليه في النصف، فانفسخ البيع فيه) ش: أي في النصف، لأنه صار مقضيا عليه بالنصف لما قضى القاضي بينهما بالبيع تضمن قضاؤه فسخ العقد في حق كل واحد منهما في النصف، فلا يعود إلا بتجديد العقد، م: (وهذا لأنه خصم فيه لظهور استحقاقه) ش: أي لثبوت استحقاقه م: (بالبينة)
ش: وهذا جواب عما يقال: وهو يدع، فكيف يكون مقضيا عليه؟، فأجاب: بقوله " لظهور استحقاقه "، أي لثبوت استحقاقه بالبينة، وهذا لأن استحقاق كل واحد للكل ثابت نظرا إلى بينته، وإذا لم يظهر في النصف لوجود بينة صاحبه " وهو معنى قوله: م: (لولا بينة صاحبه) ش: يعني لولا بينة صاحبه أظهر استحقاقه في الكل وقد انفسخ بقضاء القاضي لا يعود إلا بإسناد جديد.
م: (بخلاف ما لو قال ذلك) ش: أي قوله " لا أختار " م: (قبل تخيير القاضي) ش: وهو القضاء عليه م: (حيث يكون له أن يأخذ الجميع لأنه يدعي الكل ولم يفسخ سببه) ش: أي أثبت شراءه في الكل بالبينة ولم يفسخ القاضي بيعه في شيء، وإنما كان القضاء له بالنصف لمزاحمة صاحبه له، فإذا زالت المزاحمة قضى له بالكل.
وفي نسخة شيخي العلامة العلاء بعد قوله " ولم يفسخ سببه " م: (والعود إلى النصف(9/385)
للمزاحمة ولم توجد، ونظيره تسليم أحد الشفيعين قبل القضاء، ونظير الأول تسليمه بعد القضاء. ولو ذكر كل واحد منهما تاريخا فهو للأول منهما، لأنه أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد، فاندفع الآخر به. ولو وقتت إحداهما ولم تؤقت الأخرى فهو لصاحب الوقت لثبوت الملك في ذلك الوقت، واحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده فلا يقضى له بالشك، وإن لم يذكرا تاريخا ومع أحدهما قبض فهو أولى، ومعناه أنه في يده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للمزاحمة ولم توجد، ونظيره تسليم أحد الشفيعين قبل القضاء، ونظير الأول تسليمه بعد القضاء) ش: انتهى بيانه فيما ذكرنا الآن بقولنا: لأن القضاء له بالنصف إلى آخر قوله: ونظيره إلى نظير ما إذا قال أحد المدعيين: لا أختار الأخذ قبل تخيير القاضي، حيث يكون للآخر أخذ الجميع تسليم أحد الشفيعين، يعني إذا سلم أحدهما قبل القضاء يقضي للآخر بجيمع الدار إن سلم بعد القضاء لا يكون للآخر إلا نصف الدار وهو معنى قوله: نظائر الأول تسليمه بعد القضاء.
م: (ولو ذكرنا كل واحد منهما تاريخا) ش: أي من الاثنين اللذين ادعى كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد وأقام كل منهما بينة بالتاريخ م: (فهو للأول منهما) ش: أي للأسبق منهما بالتاريخ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، واختاره المزني ويحكم من نص الشافعي في قول البويطي: أنه لا ترجيح فيه بالسبق م: (لأنه) ش: أي لأن الذي قامت بينته بالسبق م: (أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد فاندفع الآخر به) ش: أي اندفع الآخر من الاثنين المذكورين به، أي بإثبات الشراء في زمن لا تعارضه البينة الأخرى، وهو استحقها في ذلك الوقت، فتبين أن الآخر اشتراه من غير المالك، فكان باطلا بخلاف ما إذا كانت البينتان مطلقتين ومؤرختين بتاريخ واحد، فإنه لا يعلم شراء أحدهما من غير المالك، فتعارضتا.
م: (ولو وقتت إحداهما) ش: أي ولو ذكر أحد البينتين التاريخ م: ولم تؤقت الأخرى) ش: أي البينة الأخرى م: (فهو لصاحب الوقت) ش: وبه قال مالك والشافعي في قول، وفي قول أحدهما سواء، وبه قال أحمد م: (لثبوت الملك) ش: أي ملك صاحب الوقت م: (في ذلك الوقت، واحتمل الآخر) ش: أي الوقت الآخر م: (أن يكون قبله) ش: أي قبل الوقت الأول م: (أو بعده) ش: أو يكون بعد الوقت الأول، فإذا كان كذلك م: (فلا يقضى له بالشك) ش: لأن الحكم لا يثبت بالشك.
م: (وإن لم يذكرا تاريخا ومع أحدهما قبض فهو أولى) ش: هذا كلام القدوري، وقال المصنف: م: (ومعناه) ش: أي معنى كلام القدوري ومع أحدهما قبض م: (أنه في يده) ش: أي القبض ثابت في يد معاينة، وإنما احتاج إلى التفسير بهذا لأن قوله " ومع أحدهما قبض " يجوز أن يحمل على أن يكون معناه أثبت قبضه بالبينة فيما مضى من الزمان، وهو في الحال في يد البائع.(9/386)
لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأنهما استويا في الإثبات فلا تنقض اليد الثابتة بالشك، وكذا لو ذكر الآخر وقتا لما بيناه إلا أن يشهدوا أن شراءه كان قبل شراء صاحب اليد؛ لأن الصريح يفوق الدلالة.
قال: وإن ادعى أحدهما شراء الآخر هبة وقبضا معناه من واحد وأقاما بينة ولا تاريخ معهما فالشراء أولى، لأن الشراء أقوى لكونه معاوضة من الجانبين، ولأنه يثبت الملك بنفسه، والملك في الهبة يتوقف على القبض وكذا الشراء والصدقة مع القبض لما بينا، والهبة والقبض والصدقة مع القبض سواء حتى يقضى بينهما لاستوائهما في وجه التبرع ولا ترجيح باللزوم؛ لأنه يرجع إلى المال؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويجوز أن يكون الحكم هناك على خلاف هذا، حيث ذكر في " الذخيرة " ثبوت يد أحدهما بالمعاينة، م: (لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأنهما) ش: أي ولأن الاثنين م: (استويا في الإثبات فلا تنقض اليد الثابتة بالشك، وكذا إذا ذكر الآخر وقتا) ش: أي إذا ذكر بينة الآخر وقتا لم ينتفع به ولا يعلم فيه خلاف، لأن القبض إذا وجد ولم ينتقض بالشك ووقت الآخر يحتمل، فلا ينتقض اليد الثابتة بيقين م: (لما بيناه) ش: أشار به إلى قوله لأن تمكنه من قبضة...... إلخ.
م: (إلا أن يشهدوا) ش: أي الشهود الخارج م: (أن شراءه كان قبل شراء صاحب اليد لأن الصريح يفوق الدلالة) ش: فإذا كان كذلك فينتقض به إليه.
[ادعى أحدهما شراء والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة ولا تاريخ معهما]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن ادعى أحدهما شراء والآخر هبة وقبضا) ش: أي ادعى هبة وقبضا، وهذا كلام القدوري. وقال المصنف: م: (معناه من واحد) ش: أي كلام القدوري من رجل واحد، لأنه إذا ادعى كل واحد منهما تلقى الملك من رجل آخر يكون بينهما نصفين، فلا يكون الشراء أولى وسيجيء ذلك، م: (وأقاما بينة) ش: إن أقام كل واحد بينة بما ادعاه م: (ولا تاريخ معهما) ش:، أو والحال أن واحدا منهما ليس معه تاريخ م: (فالشراء أولى، لأن الشراء أقوى لكونه معاوضة من الجانبين) ش: أي من جانب البائع وجانب المشتري بخلاف الهبة فإنها ليست بمعاوضة.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الشراء م: (يثبت الملك بنفسه، والملك في الهبة يتوقف على القبض) ش: لأنها لا تتم إلا بالقبض، م: (وكذا الشراء والصدقة مع القبض) ش: يعني إذا ادعى أحدهما الشراء والآخر ادعى الصدقة مع القبض م: (لما بينا) ش: أشار بها إلى قوله: " لأن الشراء أقوى من الهبة " م: (والهبة والقبض والصدقة مع القبض سواء حتى يقضى بينهما لاستوائهما في وجه التبرع) ش: والافتقار إلى القبض، م: (ولا ترجيح باللزوم) ش: هذا جواب عما يقال: لا نسلم التساوي، فإن الصدقة لازمة لا تقبل الرجوع دون الهبة.
وتقرير الجواب: أنه لا ترجيح باللزوم؛ م: (لأنه يرجع إلى المال) ش: أي مما يظهر أثره في(9/387)
والترجيح بمعنى قائم في الحال. وهذا فيما لا يحتمل القسمة صحيح، وكذا فيما يحتملها عند البعض؛ لأن الشيوع طارئ. وعند البعض: لا يصح لأنه تنفيذ الهبة في الشائع.
قال: وإذا ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها عليه فهما سواء لاستوائهما في القوة، فإن كل واحد منهما معاوضة يثبت الملك بنفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثاني الحال، إذ اللزوم عبارة عن عدم صحة الرجوع في المستقبل م: (والترجيح بمعنى قائم في الحال) ش: يعني الأصل أن الترجيح إنما يكون بمعنى قائم في الحال لا في المال.
وقال شيخ الإسلام علاء الدين الإسبيجاني: إن الشراء أقوى من الهبة، لأنه يقبل الملك بنفسه والهبة لا تقبل الملك بدون القبض، وكذا الشراء أولى من الصدقة والرهن والنكاح عليها في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذلك قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا في الشراء والنكاح فإنها تكون بينهما نصفين، والرهن أولى من الهبة، والصدقة والنكاح أولى من الهبة، والصدقة والهبة سواء.
م: (وهذا) ش: أي الحكم بالتنصيف بينهما م: (فيما لا يحتمل القسمة صحيح) ش: كالحمام والرحى، م: (وكذا فيما يحتملها) ش: أي فيما يحتمل القسمة كالدار والبستان صحيح م: (عند البعض) ش: لأن كل واحد يثبت استحقاقه في الكل، إلا أنه لأجل المزاحمة سلم له البعض م: (لأن الشيوع طارئ) ش: فلا تبطل الهبة م: (وعند البعض: لايصح، لأنه تنفيذ الهبة في الشائع) ش: وصار كإقامة البينتين على الارتهان.
قيل: هذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أما عند أبي يوسف ومحمد: فينبغي أن يقضى لكل واحد منهما بالنصف على قياس هبة الدار لرجلين، م: (وهذا أصح) ش: أي قول البعض أصح، يعنى لا يصح في قولهم جميعا، لأنا لو قضينا لكل واحد منهما بالنصف على قياس هبة الدار، فإنما يقضى بالعقد الذي شهد به شهوده، وعند اختلاف العقد لا تجوز الهبة لرجلين عندهم جميعا، وإنما يثبت الملك بقضاء القاضي وتمكن الشيوع في الملك المستفاد بالهبة مانع صحتها.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها عليه) ش: صورته: ادعى أحد الاثنين أنه اشترى هذا العبد من فلان ذي اليد، وادعت امرأة أنه، أي هذا المدعى عليه، تزوجها عليه أي على العبد، وأقام كل منهما البينة م: (فهما سواء) ش: يعني المدعي والمرأة سواء، يعني يقضى بالعبد بينهما نصفين م: (لاستوائهما في القوة) ش: أي في قوة الدعوة بالبينة، ثم أوضح ذلك بقوله: م: (فإن كل واحد منهما) ش: أي من الشراء والتزوج م: (معاوضة يثبت الملك بنفسه) ش: فتحقق المساواة بينهما في الاستحقاق، هذا إذا لم(9/388)
وهذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشراء أولى، ولهما على الزوج القيمة لأنه أمكن العمل بالبينتين بتقديم الشراء إذ التزوج على عين مملوك للغير صحيح وتجب قيمته عند تعذر تسليمه.
وإن ادعى أحدهما رهنا وقبضا والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة فالرهن أولى، وهذا استحسان. وفي القياس الهبة أولى؛ لأنها تثبت الملك، والرهن لا يثبته. وجه الاستحسان أن المقبوض بحكم الرهن مضمون، وبحكم الهبة غير مضمون، وعقد الضمان أقوى، بخلاف الهبة بشرط العوض لأنه بيع انتهاء والبيع أولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما سواء، وإذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فالسابق أولى. فإن قيل: الشراء مبادلة مال بمال موجب للضمان في الموضعين، والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال غير موجب الضمان في المنكوحة، فكان الشراء أقوى؟.
قلنا: بل النكاح أقوى من الشراء من وجه، لأن الملك في الصداق يثبت بنفس العقد متأكدا حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم، بخلاف الملك في المشتري ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض، بخلاف المشتري فإن لم يرجح جانب النكاح بهذا فلا أقل من المساواة.
ثم للمرأة نصف القيمة على الزوج، ويرجع المشتري عليه بنصف الثمن إن كان نقد إياه.
م: (وهذا) ش: أي قوله: " فهما سواء، أو يقضى بينهما " م: (عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشراء أولى، ولهما) ش: أي للمرأة م: (على الزوج القيمة) ش: أي قيمة العبد م: (لأنه أمكن العمل بالبينتين) ش: لأن تصحيح البينات واجب ما أمكن حسنا للظن بالشهود، وذلك م: (بتقديم الشراء) ش: فتحا بسبق الشراء صح، وصحة التسمية في النكاح، لأن التزوج على عبد الغير صحيح، وهو معنى قوله: م: (إذ التزوج على عين مملوك للغير صحيح وتجب قيمته عند تعذر تسليمه) ش: ومتى قلنا بسبق النكاح بطل البيع، فإذا كان كذلك قلنا بسبق الشراء، لأنه يقضي إلى تصحيح البينتين جميعا، فكان الشراء أولى، ووجب للمرأة على الزوج قيمة ذلك، لأن من تزوج امرأة على عبد الغير صح، ووجبت القيمة فكذلك هذا.
[ادعى أحدهما رهنا وقبضا والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة]
م: (وإذا ادعى أحدهما رهنا وقبضا والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة فالرهن أولى، وهذا استحسان. وفي القياس الهبة أولى؛ لأنها تثبت الملك والرهن لا يثبته) ش: لأن الرهن يثبت اليد، والملك أقوى من اليد، فكانت الهبة أولى.
م: (وجه الاستحسان: أن المقبوض بحكم الرهن مضمون) ش: ولهذا قلنا: إن الرهن مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، م: (وبحكم الهبة) ش: أي المقبوض بحكم الهبة م: (غير مضمون، وعقد الضمان أقوى) ش: لأنه أكثر إثباتا م: (بخلاف الهبة بشرط العوض لأنه بيع انتهاء، والبيع أولى(9/389)
من الرهن؛ لأنه عقد ضمان يثبت الملك صورة ومعنى، والرهن لا يثبت إلا عند الهلاك معنى لا صورة، فكذا الهبة بشرط العوض، وإن أقام الخارجان البينة على الملك والتاريخ فصاحب التاريخ والأقدم أولى لأنه أثبت أنه أولى المالكين فلا يتلقى الملك إلا من جهته، ولم يتلق الآخر منه
قال: ولو ادعيا الشراء من واحد معناه من غير صاحب اليد وأقاما البينة على تاريخين فالأول أولى لما بينا أنه أثبته في وقت لا منازع له فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الرهن لأنه) ش: أي لأن البيع م: (عقد ضمان يثبت الملك صورة) ش: أي من حيث الصورة في الحال م: (ومعنى) ش: أي من حيث المعنى في المال م: (والرهن لا يثبته) ش: أي الملك م: (إلا عند الهلاك معنى) ش: أي من حيث المعنى، يعني إذا هلك حتى لو مات العبد المرهون يجب الكفن على الراهن دون المرتهن، لأنه لم يثبت ملكه، وقوله: م: (لا صورة) ش: أي لا من حيث الصورة في الحال م: (فكذا الهبة بشرط العوض) ش: أي وكذا أقوى من الرهن لما ذكرنا الآن.
م: (وإن أقام الخارجان البينة على الملك) ش: صورته إذا ادعى اثنان على آخر في عين وأقام كل منهما بينة على الملك يعني بأنه ملكه مطلقاً م: والتاريخ) ش: بأن شهد بينة كل منهما بالتاريخ م: (فصاحب التاريخ الأقدم أولى) ش: فإن كان تاريخ أحدهما شهر مثلا، وتاريخ الآخر بأكثر منه فيهما كان السابق في التاريخ أولى م: (لأنه أثبت أنه أولى المالكين، فلا يتلقى الملك إلا من جهته) ش: أي إلا من جهة أنه أول المالكين، م: (ولم يتلق الآخر منه) ش: فلا شيء له.
[ادعى كل منهما أنه اشترى هذه العين من واحد]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو ادعيا الشراء من واحد) ش: أي ادعى كل منهما أنه اشترى هذه العين من واحد، كذا قال القدوري. وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (معناه) ش: أي معنى قول القدوري من واحد م: (من غير صاحب اليد) .
ش قال الأترازي: فيه نظر، لأن معنى دعوى الشراء من واحد معنى تلقي الشراء من واحد لا من اثنين، وذلك الواحد هو الثالث ثم بعد ذلك لا يخلو إما أن تكون العين التي وقع فيها الدعوى في يد ذلك الثالث، أو في يد أحدهما، أو في أيديهما، ولا معنى لقوله: " معناه من غير صاحب اليد "، انتهى.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: في تقييده بهذا القيد، معناه من غير صاحب اليد ليست زيادة فائدة، فإن في الحكم المرتب عليه وفي سائر الأحكام لا يتفاوت أن يكون دعواها الشراء من صاحب اليد أو غيره بعد أن يكون البائع وجد أو لا يعلم فيه خلافا، ذكره في " الذخيرة " م: (وأقاما البينة على تاريخين) ش: أي أو أقام المدعيان المذكوران بينة على تاريخين مختلفين، م: (فالأول) ش: أي صاحب التاريخ الأول م: (أولى لما بينا أنه أثبته في وقت لا منازع له فيه) ش: أي في ذلك الوقت.(9/390)
وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من آخر، وذكرا تاريخا فهما سواء، لأنهما يثبتان الملك لبائعيهما، فيصير كأنهما حضرا ثم يخير كل منهما كما ذكرنا من قبل.
ولو وقتت إحدى البينتين وقتا ولم توقت الأخرى قضى بينهما نصفين، لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك لجواز أن يكون الآخر أقدم، بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته، فإذا أثبت أحدهما بالبينة تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدمه شراء غيره. ولو ادعى أحدهما الشراء من رجل والآخر الهبة والقبض من غيره، والثالث الميراث من أبيه، والرابع الصدقة والقبض من آخر فقضى بينهم أرباعا، لأنهم يتلقون الملك من باعتهم فيجعل كأنهم حضروا وأقاموا البينة على الملك المطلق.
قال: فإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ ولصاحب اليد بينة على ملك أقدم تاريخا كان أولى، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وهو رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء) ش: أي على كل واحد اشترى م: (من آخر) ش: أي أقام أحدهما على الشراء من زيد مثلا، وآخر على الشراء من عمرو م: (وذكرا تاريخا) ش: واحدا م: (فهما سواء، لأنهما يثبتان الملك لبائعيهما فيصير كأنهما حضرا) ش: وادعيا وتاريخا واحدا م: (ثم يخير كل واحد منهما كما ذكرنا من قبل) ش: أن كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن، وإن شاء ترك.
م: (ولو وقتت إحدى البينتين وقتا ولم توقت الأخرى قضى بينهما نصفين؛ لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك لجواز أن يكون الآخر أقدم، بخلاف ما إذا كان البائع واحدا، لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته، فإذا أثبت أحدهما بالبينة تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدمه شراء غيره، ولو ادعى أحدهما الشراء من رجل والآخر) ش: أي وادعى الآخر م: (الهبة والقبض من غيره، والثالث) ش: وادعى الثالث م: (الميراث من أبية، والرابع) ش: أي وادعى الرابع م: (الصدقة والقبض من آخر) ش: وأقاموا البينة م: (فقضى بينهم أرباعا؛ لأنهم يتلقون الملك من باعتهم) .
ش: وفي بعض النسخ: م: (من باعتهم) ش: كلاهما بطريق التغليب، لأن البائع واحد من المالكين الأربع، فكان المراد من مملكتهم. وفي بعض النسخ: من متلقيهم استدلالا بلفظ يتلقون، وكذا في نسخة شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (فيجعل كأنهم حضروا وأقاموا البينة على الملك المطلق) ش: لأنهم استووا في دعوى الملك، وقد اثبتوه بالحجة، فيوزع بينهم.
[أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ وصاحب اليد بينة على ملك أقدم تاريخا]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ وصاحب اليد بينة) ش: أي أقام البينة م: (على ملك أقدم تاريخا كان أولى) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وهو رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(9/391)
وعنه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه، لأن البينتين قامتا على مطلق الملك، ولم يتعرضا لجهة الملك، فكان التقدم والتأخر سواء. ولهما: أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع، فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته، وبينة ذي اليد على الدفع مقبولة. وعلى هذا الاختلاف لو كانت الدار في أيديهما والمعنى ما بيناه.
ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق، ووقتت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعنه - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه) ش: أي رجع محمد إلى القول بأن بينة ذي اليد في الصور كلها لا تقبل إلا في النتاج، وعند الأئمة الثلاثة: بينة ذي اليد أولى في كل الوجوه لترجحها باليد، وفي " المبسوط "، ذكر ابن سماعة في " نوادره ": أن محمداً رجع عن هذا القول بعد انصرافه من الرقة.
وقال: لا أقبل من ذي اليد بينة على تاريخ، ولا عبرة للتاريخ إلا في النتاج وما في معناه، لأن التاريخ ليس بسبب الأولية الملك، بخلاف النتاج م: (لأن البينتين قامتا على مطلق الملك، ولم يتعرضا لجهة الملك) ش: يعني بالشراء ونحوه، وهو معنى قوله: م: (فكان التقدم والتأخر سواء) ش: يعني في التاريخ، لأن التاريخ لا يدل على صفة الملك أولا وآخراً أو صار وجوده وعدمه سواء لا يملك على صفة الملك أولا وأخيراً، فصار وجوده وعدمه سواء.
وقال الكاكي: قوله " لم يتعرضا لجهة الملك " احترازا عما لو قامتا على تاريخ في الشراء أو أحدهما أسبق فالأسبق أولى، سواء كان البائع واحدا أو اثنين عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - م: (أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع) ش: أي دفع بينة الخارج على معنى أنها لا تصح إلا بعد إثبات تلقي الملك من قبله.
م: (فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته) ش: أي من جهة ذلك الشخص م: (وبينة ذي اليد على الدفع) ش: أي دفع الخصومة م: (مقبولة) ش: فإن من ادعى على ذي اليد عينا وأنكر ذو اليد ذلك وأقام البينة أنه اشتراه منه تندفع الخصومة.
م: (وعلى هذا الاختلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وأبي يوسف وبين محمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لو كانت الدار في أيديهما) ش: فتوقتا، فصاحب الوقت الأقدم أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا عبرة بالوقت م: (والمعنى ما بيناه) ش: أراد به ما ذكره من الدليل في الطرفين.
م: (ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق) ش: يعنى من غير ذكر سبب م: (ووقتت(9/392)
أحدهما دون الأخرى، فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رحمهما الله - الخارج أولى. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو رواية عن أبي حنيفة صاحب الوقت أول؛ لأنه أقدم فصار كما في دعوى الشراء إذا أرخت: إحداهما كان صاحب التاريخ أولى. ولهما: أن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنها معنى الدفع، ولا دفع ههنا حيث وقع الشك في التلقي من جهته، وعلى هذا إذا كانت الدار في أيديهما. ولو كانت في يد ثالث والمسألة بحالها فهما سواء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف: الذي وقت أولى. وقال محمد: الذي أطلق أولى؛ لأنه ادعى أولية الملك بدليل استحقاق الزوائد ورجوع الباعة بعضهم على البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما) ش: أي أحد البينتين م: (دون الأخرى، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - الخارج أولى. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو رواية عن أبي حنيفة صاحب الوقت أول؛ لأنه أقدم) ش: لأن بينته قد دلت على تقدم الملك، فكانت أولى م: (فصار كما في دعوى الشراء إذا أرخت إحداهما) ش: يعني إذا ادعيا من واحد وأرخ أحدهما يقضي للمؤرخ، وهو معنى قوله: م: (كان صاحب التاريخ أولى) .
ش: م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -: م: (أن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنها معنى الدفع، ولا دفع ههنا) ش: لأنه إنما يكون إذا تعين التلقي من جهة، وها هنا لم يتعين م: (حيث وقع الشك في التلقي من جهته) ش: أي من جهة ذي اليد، لأن بذكر تاريخ أحدهما لم يحصل اليقين بأن الآخر تلقاه من جهة الإمكان أن الأخرى إذا وقتت كانت أقدم تاريخاً، م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الخلاف م: (إذا كانت الدار في أيديهما) ش: وأرخت إحداهما على ملك مؤرخ، والأخرى على مطلق الملك فقط سقط التاريخ عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله - خلافاً لأبي يوسف فإنه يقول الذي وقت أولى.
م: (ولو كانت) ش: أي الدار م: (في يد ثالث، والمسألة بحالها) ش: أي أرخت إحداهما فقط م: (فهما سواء عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي الخارجان سواء عنده، وبه قال الشافعي في الأصح، ومالك وأحمد.
م: (وقال أبي يوسف: الذي وقت أولى. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الذي أطلق أولى لأنه) ش: أي لأن الإطلاق م: (ادعى أولية الملك) ش: فيدل على ملك الأصل، م: (بدليل استحقاق الزوائد) ش: المتصلة كالسمن، والمنفصلة كالأكساب والأولاد، يعني إذا ادعى رجل ملكاً مطلقاً كانت الزوائد كلها له، م: (ورجوع الباعة بعضهم على بعض) ش: أي وبدليل رجوع البائعين بعضهم على بعض عند استحقاق الملك.(9/393)
ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين، والإطلاق يحتمل غير الأولية، والترجيح بالتيقن كما لو ادعيا الشراء. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التاريخ يضامه احتمال عدم التقدم، فسقط اعتباره، فصار كما إذا أقاما البينة على ملك مطلق، بخلاف الشراء لأنه أمر حادث، فيضاف إلى أقرب الأوقات، فيترجح جانب صاحب التاريخ.
قال: وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى، لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه اليد، فاستويا وترجحت بينة ذي اليد باليد، فيقضى له وهذا هو الصحيح، خلافا لما يقوله عيسى بن أبان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه تتهاتر البينتان ويترك في يده لا على طريق القضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين، والإطلاق) ش: يعني من غير التاريخ م: (يحتمل غير الأولية، والترجيح بالتيقن) ش: يعني العمل باليقين راجح على المحتمل م: (كما لو ادعيا الشراء) ش: أولاً أحدهما دون الآخر، كان صاحب التاريخ أولى.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التاريخ يضامه) ش: يعني يزاحمه م: (احتمال عدم التقدم فسقط اعتباره) ش: أي اعتبار التاريخ م: (فصار كما إذا أقاما البينة على ملك مطلق) ش: ولم يؤرخا كان بينهما م: (بخلاف الشراء) ش: جواب عن قول أبي يوسف م: (لأنه أمر حادث) ش: أي لأن الشراء أمر حادث باتفاقهما عليه. وإذا كان كذلك م: (فيضاف إلى أقرب الأوقات) ش: لأنه لا بد للحدوث من التاريخ م: (فيترجح جانب صاحب التاريخ) ش: فيرجح المؤرخ.
[أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج]
م: (قال) ش: القدوري م: (وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى) ش: سواء أقامها قبل القضاء للخارج أو بعد القضاء له وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وقال الشافعي في وجه: بين الخارج أولى بعد القضاء له، لأن ملك اليد يقضي بزوالها، فلا ينقضي القضاء. وقال في الأصح: بينة ذي اليد أولى بعد القضاء للخارج وقبله.
وقال ابن أبي ليلى: بينة الخارج أولى، م: (لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه اليد) ش: أي النتاج م: (فاستويا، وترجحت بينة ذي اليد باليد، فيقضى له، وهذا) ش: أي ما ذكر من القضاء لذي اليد م: (هو الصحيح، خلافا لما يقوله عيسى بن أبان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه تتهاتر البينتان ويترك في يده) ش: أي في يد ذي اليد م: (لا على طريق القضاء) ش: بل لعدم القضاء بالخاص.
حاصل الكلام: أن عيسى بن أبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول عندي في النتاج تتهاتر البينتان لتيقن القاضي بكذب إحداهما، إذ لا يتصور نتاج دابة من دابتين، فصار كأنهما لم يقيما بينة ولو لم يقيما بينة يقضى لصاحب اليد قضاء ترك، حتى يحلف ذو اليد له للخارج، كذا ها هنا، وهذا(9/394)
ولو تلقى كل واحد منهما الملك من رجل وأقام البينة على النتاج عنده فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه. ولو أقام أحدهما البينة على الملك والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان، لأن بينته قامت على أولية الملك، فلا يثبت الملك للآخر إلا بالتلقي من جهته، وكذلك إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج أولى لما ذكرنا.
ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضى له إلا أن يعيدها ذو اليد، لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية، وكذا المقضي عليه بالملك المطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بصحيح، فإن محمداً ذكر في خارجين أقاما بينة على النتاج أنه يقضى بينهما نصفين، ولو كان الطريق ما قاله لكان يترك في يد ذي اليد، فعلم أن القضاء لذي اليد قضاء استحقاق، حتى لا يحلف ذي اليد، كذا في " الذخيرة " و " المبسوط ".
م: (ولو تلقى كل واحد منهما) ش: أي من صاحب اليد والخارج م: (الملك من رجل وأقام البينة على النتاج عنده) ش: أي عند الرجل، كذا قاله الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: - رَحِمَهُ اللَّهُ - عند من تلقى منه. وفي " الذخيرة " صورة المسألة عبد في يد رجل ادعاه آخر أنه عبده اشتراه من فلان وأنه ولد له في ملك فلان الذي باعه وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبده واشتراه من فلان يريد رجل آخر، وأنه قد ولد في ملك فلان الذي باعه قضى لذي اليد، لأن كل واحد خصم في إثبات نتاج بائعه كما هو خصم في إثبات ملك بائعه.
ولو حضر البائعان وأقام البينة، على النتاج كان ذو اليد أولى، فهذا مثله. وهذا معنى قوله م: (فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه) ش: فيقضى به لذي اليد.
م: (ولو أقام أحدهما البينة على الملك) ش: المطلق م: (والآخر) ش: وأقام آخر البينة م: (على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان) ش: يعني سواء كان صاحب اليد أو الخارج م: (لأن بينته) ش: أي بينة صاحب النتاج م: (قامت على أولية الملك، فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته) ش: أي من جهة صاحب النتاج، م: (وكذا إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج أولى لما ذكرنا) ش: أي يد على أولية الملك.
م: (ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضى له إلا أن يعيدها ذو اليد) ش: على النتاج م: (لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية) ش: لأن المقضى به الملك بالبينة في حق شخص لا يقضى ثبوته في حق آخر، م: (وكذا المقضي عليه بالملك المطلق) ش: يعني ادعى الخارج وذو اليد الملك المطلق وبرهنا، فقضى على ذي اليد بالملك عندنا خلافا للشافعي ومالك.(9/395)
إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء به؛ لأن بمنزلة النص، والأول بمنزلة الاجتهاد.
قال: وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة كغزل القطن وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر لأنه في معنى النتاج كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد والمعزى وجز الصوف. وإن كان يتكرر قضى به للخارج بمنزلة الملك المطلق وهو مثل الخز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم إن ذا اليد المقضى عليه بالملك المطلق م: (إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء به) ش: الأول، م: (لأنه بمنزلة النص والأول بمنزلة الاجتهاد) ش: أي نص يدل بخلاف الاجتهاد، فينتقض الاجتهاد به، فكذا هنا فسره الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأكمل: لأنه بمنزلة النص لدلالته على الأولية قطعاً، فكان القضاء واقعاً على خلافه كالقضاء الواقع على خلاف النص.
[أقاما الخارج وصاحب اليد البينة على نسج ثوب فيما لا يتكرر نسجه كغزل القطن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة كغزل القطن) ش: هذا عطف على قوله: وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة بالنتاج، فصاحب النتاج أولى، يعني كذا الحكم إذا أقاما البينة على نسج ثوب فيما لا يتكرر نسجه كغزل القطن كان ذو اليد أولاً، لأنه ما لا يتكرر في معنى النتاج وهو لا تكرر.
وفي " المحيط ": النتاج عبارة عن أولية الملك، وكل سبب يشعر بأولية الملك فهو كالنتاج، وكل ما يتكرر وفيه سبب الملك، ويضع مرتين لم يكن في معنى النتاج وإن كان مشكلاً، بل يتكرر أم لا، في رواية أبي حفص: يلتحق بما يتكرر. وفي رواية أبي سليمان: لا يلحق بما يتكرر، فالبناء وغرس الشجر والقطن النائب وزرع الحنطة، والجواب: يتكرر، تشوية اللحم وكتابة المصحف واحتياط الدار وضرب اللبن والخياطة والقطع والحشو والصباغة يتكرر أيضاً، لأن هذه الأشياء تفعل مرتين، واتخاذ الجبن والطحن وجز الصوف وغزل القطن لا يتكرر، والثج في الثوب المتخذ من غزل القطن والإبريسم لا يتكرر، وفي الثوب المنسوج من الصوف والشعر يتكرر.
م: (وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر) ش: يعني يقضى به لذي اليد م: (لأنه في معنى النتاج كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد والمعزى) ش: بكسر الميم والعين، فإذا شدت الزاي قصرت، وإذا خففت مدت، وقد يقال: معزا بفتح الميم مخففا ممدودا، وهي كالصوف تحت شعر الغنم، والميم فيه زائدة م: (وجز الصوف) ش: بأن أقام رجل البينة أن صوفه جزه من غنمه وأقام ذو اليد البينة على مثل ذلك كان ذو اليد أولى.
م: (وإن كان يتكرر قضى به للخارج بمنزلة الملك المطلق، وهو مثل الخز) ش: وهو بفتح الخاء المعجمة وتشديد الزاي وهو اسم دابة، ثم سمي الثوب المتخذ من وبره خزاً، قيل: وهو نسيج،(9/396)
والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب، فإن أشكل يرجع إلى أهل الخبرة لأنهم أعرف به، فإن أشكل عليهم قضى به للخارج؛ لأن القضاء ببينته هو الأصل، والعدول عنه بخبر النتاج، فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل،
قال: وإن أقام الخارج البينة على الملك المطلق وصاحب اليد البينة على الشراء منه كان صاحب اليد أولى، لأن الأول إن كان يدعي أولية الملك فهذا تلقى منه وفي هذا لا تنافي، فصار كما إذا أقر بالملك له ثم ادعى الشراء منه.
قال: وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت البينتان وتترك الدار في يد ذي اليد، قال: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله -، وعلى قول محمد يقضى بالبينتين ويكون للخارج؛ لأن العمل بهما ممكن، فيجعل كأنه اشترى ذو اليد من الآخر وقبض ثم باع الدار، لأن القبض دلالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا بلي يغزل أخرى ثم ينسج م: (والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب، فإن أشكل) ش: بأن لم يدر هل يكرر أم لا م: (يرجع إلى أهل الخبرة لأنهم أعرف به) ش: والواحد منهم يكفي، والاثنان أحوط؛ قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) ، م: (فإن أشكل عليهم) ش: أي على أهل الخبرة م: (قضى به للخارج، لأن القضاء ببينته) ش: أي بينة الخارج م: (هو الأصل) ش: عندنا م: (والعدول عنه) ش: أي عن الأصل م: (بخبر النتاج) ش: وهو ما روي: " أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قضى في تعارض بينتي الخارج لذي اليد "، وهذا رواه محمد عن أبي حنيفة عن الهيثم عن رجل عن جابر: «أن رجلاً ادعى ناقة في يد رجل وأقام البينة أنها ناقته ينحرها عنه، وأقام الذي هي في يده البينة أنها ناقته فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» م: (فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل) ش: وهو بينة الخارج.
[أقام الخارج البينة على الملك المطلق وصاحب اليد البينة على الشراء منه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أقام الخارج البينة على الملك المطلق وصاحب اليد البينة على الشراء منه) ش: أي من الخارج م: (كان صاحب اليد أولى؛ لأن الأول) ش: أي الخارج م: (وإن كان يدعي أولية الملك فهذا) ش: أي ذو اليد م: (تلقى منه وفي هذا لا تنافي) ش: بين الأمرين، فيقضى ببينة ذي اليد م: (فصار كما إذا أقر بالملك له ثم ادعى الشراء منه) ش: فيقضى ببينته.
[أقام الخارج وصاحب اليد البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت) ش: أي تساقطت م: (البينتان وتترك الدار في يد ذي اليد، قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وهذا عند أبي حنيفة - رحمهما الله - وأبي يوسف وعلى قول محمد يقضى بالبينتين، ويكون للخارج؛ لأن العمل بهما) ش: أي بالبينتين، م: (ممكن) ش: وذلك بأن يجعل كأن ذا اليد قد اشتراها من الآخر وقبض ثم باع ولم يقبض، وهو معنى قوله م: (فيجعل كأنه اشترى ذو اليد من الآخر وقبض ثم باع) ش: أي من الخارج م: (الدار) ش: إليه م: (لأن القبض دلالة(9/397)
السبق على ما مر، ولا يعكس الأمر؛ لأن البيع قبل القبض لا يجوز وإن كان في العقار عنده ولهما: أن الإقدام على الشراء إقرار منه بالملك للبائع، فصار كأنهما قامتا على الإقرارين وفيه التهاتر بالإجماع، كذا هاهنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السبق على ما مر) ش: من قوله، لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، م: (ولا يعكس الأمر) ش: أي لا يجعل كأن الخارج اشتراه من ذي اليد أولا ثم باعه من ذي اليد، لأن في ذلك يلزم بيع المبيع قبل القبض، فلا يجعل كذلك.
م: (لأن البيع قبل القبض لا يجوز وإن كان في العقار عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإيضاح هذه المسألة فيما قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": إذا ادعى كل واحد منهما تلقي الملك من جهة صاحبه كدار في يد رجل جاء رجل وادعى أنه اشتراها من الخارج اليد بألف درهم ونقده الثمن، وادعى ذو اليد أنه اشتراها من الخارج بخمسمائة درهم ونقده الثمن، وأقاما جميعاً البينة على ما ادعيا، فهذا لا يخلو من أربعة أوجه إن لم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء، أو أرخ أحدهما أسبق دون الآخر. فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تهاترت البينتان وتترك الدار في يد ذي اليد قضاء ترك لا قضاء استحقاق، سواء شهد الشهود بالشراء والقبض جميعا أو شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تقبل البينتان جميعا ويقضى بعقدين إلا إنهم إن شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، فإن شراء ذي اليد يقدم على شراء الخارج، فيجعل كأن ذا اليد اشترى أولا من الخارج قبض ثم باع من الخارج ولم يسلم إليه، فيؤمر بالتسليم إلى الخارج وإن شهدوا بالقبض والشراء جميعا فإنه يقدم شراء الخارج على شراء ذي اليد كأن الخارج اشترى أولا من ذى اليد وقبض ثم باع من ذي اليد بعد ذلك وسلم إليه فيقضى لذي اليد شراء من الخارج.
م: (ولهما) ش: لأبي حنيفة وأبي يوسف: م: (أن الإقدام على الشراء إقرار منه) ش: أي من المشتري م: (بالملك للبائع، فصار كأنهما) ش: أي كأن الشهادتين م: (قامتا على الإقرارين) ش: يعني صار هذا بمنزلة ما لو قام كل واحد منهما البينة على إقرار صاحبه بالملك؛ فلو كان كذلك تهاتر الإقراران جميعا، لأن الثابت من الإقرارين بالبينة كالثابت بالمعاينة. ولو عاينا إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه فأبطلنا الإقرارين جميعا، وهذا مثله، يعني أن شهود كل واحد منهما لم يشهد بالتاريخ، وكل واحد منهما لم يشهد بالتاريخ، وكل إقرارين ظهرا ولا يعرف سبق أحدهما جعلاً لأنهما وقعا معاً، فبطلا للمنافاة بينهما م: (وفيه التهاتر بالإجماع) .
ش: قال تاج الشريعة: قبل ذكر الإجماع وقع سهو، لأن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بينة ذي اليد أولى، وكذا في " الجامع "، وفي " المنظومة " حيث قال: وذو اليد المالك منهما أثبتا قبضين، والخارج منهما سكتا م: (كذا ههنا) ش: أي فكذا ما نحن فيه من تهاتر البينتين.(9/398)
ولأن السبب يراد لحكمة وهو الملك، وهاهنا لا يمكن القضاء لذي اليد إلا بملك مستحق، فبقي القضاء له بمجرد السبب وأنه لا يفيده، ثم لو شهدت البينتان على نقد الثمن فالألف بالألف قصاص عندهما إذا استويا الوجود قبض مضمون من كل جانب وإن لم يشهدوا على نقد الثمن فالقصاص مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوجوب عنده. ولو شهد الفريقان بالبيع والقبض تهاترا بالإجماع؛ لأن الجمع غير ممكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجواز كل واحد من البيعين بخلاف الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن السبب يراد لحكمة وهو الملك) ش: هذا جواب عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني أن السبب إذا كان مقيدا للحكم يعتبر، وإلا فلا، وهاهنا السبب وهو شراء كل منهما من صاحبه لا يفيد الحكم وهو الملك، لأن القضاء بالملك لأحدهما لا يمكن إلا على وجه يستحق عليه صاحبه م: (وههنا لا يمكن القضاء لذي اليد إلا بملك مستحق) ش: أي بملك استحقه الخارج عليه، فإذا كان كذلك م: (فبقي القضاء له) ش: أي لذي اليد م: (بمجرد السبب) ش: دون الحكم م: (وإنه) ش: أي وإن القضاء بمجرد السبب دون الحكم م: (لا يفيده) ش: فلا يجوز.
م: (ثم لو شهدت البينتان) ش: المذكورتان م: (على نقد الثمن) ش: في شراء كل منهما الآخر بألف مثلا م: (فالألف قصاص عندهما) ش:، أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف م: (إذا استويا) ش: أي الثمنان في الجنس والصفة م: (بالوجود قبض مضمون من كل جانب، وإن لم يشهدوا على نقد الثمن فالقصاص) ش: أي المقاصة م: (مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوجوب عنده) ش:، أي لوجوب الثمن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن البينتين لما ثبتا عنده كان كل واحد منهما موجبا للثمن عند مشتريه فيتقاص الوجوب بالوجوب.
م: (ولو شهد الفريقان) ش: أي فريقا شهود الخارج وذي اليد م: (بالبيع والقبض تهاترتا) ش: أي تساقطتا م: (بالإجماع) ش: لكن على اختلاف التخريج، فعندهما باعتبار أن دعواهما هذا البيع إقرار من كل منهما بالملك لصاحبه؛ وفي مثل هذا يتهاتر الشهود، فكذلك هاهنا.
أما عند محمد: هو قوله: م: (لأن الجمع) ش: أي إمكان العمل بهما م: (غير ممكن عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجواز كل واحد من البيعين) ش: باعتبار أنهم لما أثبتوا البيع والقبض لكل واحد منهما كان بيعهما جائزاً، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فتساقطتا للتعارض فتبقى العين على يد صاحب اليد كما كانت، فصار كأنهم لم يشهدوا م: (بخلاف الأول) ش: وهو ما إذا لم يشهدوا بالقبض حتى يقضى بالبينتان، وتكون للخارج عنده، لأن الجمع بين البينتين ممكن، لأنا لو جعلنا بيع الخارج لاحقا يلزم البيع قبل القبض، وهو لا يجوز فيجعل بيعه سابقاً. وفي " الكافي ": وهذا يخالف ما ذكر في " المبسوط " و " الجامع الكبير " وغيرهما، فإنه ذكر فيهما: لو(9/399)
وإن وقتت البينتان في العقار ولم تثبتا قبضا ووقت الخارج أسبق يقضى لصاحب اليد عندهما، فيجعل كأن الخارج اشترى أولا ثم باع قبل القبض من صاحب اليد وهو جائز في العقار عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقضى للخارج لأنه لا يصح بيعه قبل القبض، فبقي على ملكه، وإن أثبتا قبضا يقضى لصاحب اليد؛ لأن البيعين جائزان على القولين، وإن كان وقت صاحب اليد أسبق يقضى للخارج في الوجهين، فيجعل كأنه اشتراها ذو اليد وقبض ثم باع ولم يسلم أو سلم ثم وصل إليه بسبب آخر.
قال: وإن أقام أحد المدعيين شاهدين، والآخر أربعة فهما سواء، لأن شهادة كل شاهدين علة تامة، كما في حالة الانفراد والترجيح لا يقع بكثرة العلل بل بقوة فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شهدوا بالعقد القبض يقضى بالبينتين عنده لذي اليد، إذ العمل بالبينتين ممكن بأن يجعل كأن ذا اليد باعها وسلمها، ثم الخارج باعها وسلمها، بخلاف ما إذا لم يذكروا القبض حيث يقضى بها للخارج، لأنهما ما أثبتا القبض بالشهادة، وقد ثبت القبض عياناً وهي دلالة السبق، فجعلنا ذا اليد مشترياً من الخارج أولا، وقد قبضها ثم باعها من الخارج، فيؤمر بتسليمها إليه.
م: (وإن وقتت البينتان في العقار) ش: فيه العقار لتظهر ثمرة الخلاف كما ذكر م: (ولم تثبتا قبضاً، ووقت الخارج أسبق يقضى لصاحب اليد عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (فيجعل كأن الخارج اشترى أولا ثم باع قبل القبض من صاحب اليد، وهو) ش: أي البيع قبل القبض م: (جائز في العقار عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقضى للخارج لأنه لا يصح بيعه) ش: أي بيع العقار م: (قبل القبض، فبقي على ملكه، وإن أثبتا قبضا يقضى لصاحب اليد، لأن البيعين جائزان على القولين) ش: أي قولهما وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن كان وقت صاحب اليد أسبق يقضى للخارج في الوجهين) ش: أي في الوجه الذي شهدوا بالقبض في الوجه الذي لم يشهدوا به م: (فيجعل كأنه اشتراها ذو اليد وقبض) ش: كأنه اشتراه م: (ثم باع ولم يسلم) ش: أي المشتري م: (أو سلم ثم وصل إليه) ش: أي إلى ذي اليد م: (بسبب آخر) ش: من عارية أو إجارة.
[أقام أحد المدعين شاهدين والآخر أربعة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن أقام أحد المدعين شاهدين والآخر أربعة) ش: أي وأقام المدعي للآخر أربعة من الشهود م: (فهما سواء) ش: يعني لا يترجح أحد المدعيين على الآخرين بزيادة العدد في بينته وبه قال الشافعي في الجديد ومالك في المشهور عنه وأحمد، وقال الشافعي، في القديم ومالك في رواية: ترجح بزيادة العدد، لأن القلب إلى قولهم أميل وعند مالك: يرجح زيادة العدالة، فيقضى بأعدل البينتين م: (لأن شهادة كل شاهدين علة تامة كما في حالة الانفراد والترجيح لا يقع بكثرة العلل، بل بقوة فيها) ش: أي بل الترجيح بقوة فيها أي في الشهادة والترجيح عبارة عن تقوية أحد الطرفين على الطرف الآخر ليعمل به، والتقوية(9/400)
على ما عرف.
قال: وإذا كانت دار في يد رجل ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة فلصاحب الجميع ثلاثة أرباعها، ولصاحب النصف ربعها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بطريق المنازعة، فإن صاحب النصف لا ينازع الآخر في النصف، فسلم له بلا منازع واستوت منازعتهما في النصف الآخر فينصف بينهما. وقالا: هي بينهما أثلاثا، فاعتبرا طريق العول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالوصف يكون، وهو معنى الصدق في الشهادة. وذلك في أن يتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والآخر عدلين فإنه يترجح الذي شهد له العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده، وكذلك في النسب والنكاح لو ترجح حجة الخصمين باتصال القضاء، لأن ذلك مما يؤكد ركن الحجة، فإن لقضاء القاضي يتم معنى الحجة في الشهادة، ويتبين جانب الصدق.
وعلى هذا قلنا في العلتين: إذا تعارضتا لا يترجح أحدهما بانضمام علة أخرى إليها وإنما يترجح بقوة الآخر فيها إذ به يتأكد ما هو الركن في صحة العلة، وكذلك الخبران إذا تعارضا لا يترجح أحدهما على الآخر بخبر آخر، بل بما فيه يتأكد معنى الحجة، وهو الاتصال برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويترجح بعفة الراوي وحسن ضبطه وإتقانه، لأنه يتقوى به، يعني الاتصال برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الوجه الذي وصل إلينا بالنقل م: (على ما عرف) ش: أي في أصول الفقه.
[دارا في يد رجل ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا كانت دارا في يد رجل ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة فلصاحب الجميع ثلاثة أرباعها، ولصاحب النصف ربعها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بطريق المنازعة، فإن صاحب النصف لا ينازع الآخر في النصف فسلم له) ش: أي النصف م: (بلا منازع واستوت منازعتهما في النصف الآخر فينصف بينهما) ش: توضيح ذلك: أنا نحتاج إلى حساب له نصف، ولنصف نصف صحيح، وأقل ذلك أربعة أسهم، فأصل الدار على أربعة أسهم يقول لا منازعة لمدعي النصف فيما زاد على النصف وهو سهمان، ويدعيه صاحب الجيمع فيكون له نصف الدار، فيبقى النصف وذلك سهمان استوت منازعتهما فيه، فيصير بينهما نصفان لكل واحد منهما سهم، فقد جعل المدعي الجميع مرة سهمان بلا منازعة، وسهم مع المنازعة، وذلك ثلاثة أرباع الدار، فكان له ثلاثة أسهم، ولمدعي النصف سهم.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله: - م: (هي) ش: أي الدار م: (بينهما) ش: أي بين المدعيين م: (أثلاثا، فاعتبرا طريق العول) ش: والعول في اللغة: الارتفاع، ومنه عال الميراث؛ وذلك إذا اجتمع في مخرج فروض كثيرة بحيث لا يكفي آخره المجموع لذلك(9/401)
والمضاربة، فصاحب الجميع يضرب كل حقه سهمين، وصاحب النصف يضرب بسهم فتقسم أثلاثا، ولهذه المسألة نظائر وأضداد لا يحتملها هذا المختصر، وقد ذكرناها في الزيادات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيحتاج إلى العول. م: (والمضاربة فصاحب الجميع يضرب بكل حقه سهمين وصاحب النصف يضرب بسهم واحد، فتقسم أثلاثا) ش: إيضاح ذلك: أن يدعي الجميع يضرب بالكل والآخر بالنصف، فاجعل الدار على سهمين لحاجتك إلى النصف يضرب مدعي الجميع بالكل، وذلك سهمان، ومدعي النصف بالنصف وذلك سهم، فتصير الدار بينهما على ثلاثة أسهم ثلثا الدار لمدعي الجميع والثلث لمدعي النصف.
وفي الميراث: يقسم على طريق العول بالإجماع كما في امرأة ماتت وتركت زوجا وأخت لأب، وأماً وأختاً الأن للزوج النصف والأخت لأب وأم النصف وللأخت من الأب السدس تكملة للثلثين، فتعول الفرضية إلى سبعة، وكانت في الأصل من ستة، وكذلك هنا على قولهما.
م: (ولهذه المسألة نظائر) ش: أي أشباه م: (وأضداد) ش: يعني الخلاف فيه على عكس هذا عندهما يقسم على طريق المنازعة، وعنده على طريق العول م: (لا يحتملها) ش: أي النظائر الأضداد م: (هذا " المختصر ") ش: أراد به " الهداية " م: (وقد ذكرناها) ش: أي الأشباه والأضداد م: (في الزيادات) ش: أي في الكتاب الذي جمعه وسماه " الزيادات ".
اعلم: أن جنس القسمة على أربعة أنواع:
أحدها: ما يقسم على طريق العول إجماعا، وهي ثمان مسائل:
الأولى: التركة إذا لم تعرف بالديون، فإن أصحابها يقسمونها فيما بينهم بطريق العول.
[.....]
الثالثة: إذا أوصى بثلث ماله لرجل وبربعه لرجل وبسدسه لرجل ولم تجز الورثة على حالة الوصايا إلى الثلث يقسم الثلث بينهم على العول.
الرابعة: الوصية بالمحاباة لهما بثلاثة آلاف درهم، فإنه يقسم المحاباة بين الموصى لهما أثلاثاً بطريق العول.
الخامسة: الوصية بالعتق، وصورتها: أوصى أن يعتق من هذا العبد نصفه، وأوصى بأن يعتق من عبد آخر ثلثه وذلك لا يخرج من ثلث المال، فيقسم الثلث بينهما بطريق العول فيسقط من كل واحد حصته من السعاية.
السادسة: الوصية بالألف مرسلة، أي مطلقة، والآخر بالغبن، كذلك يكون الثلث بينهما(9/402)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بطريق العول.
السابعة: عبد فقأ عين رجل حر وقتل آخر خطأ، يقسم الجاني بينهما على سبيل العول ثلثاه لولي القتيل، وثلثه للآخر.
الثامنة: مدبر جنى على هذا الوجه ودفعت قيمته إلى ولي الجنايتين تكون القسمة بينهما بطريق العول.
النوع الثاني: ما يقسم بطريق المنازعة إجماعا، وهي مسألة واحدة: فضولي باع عبد الغير من رجل، وفضولي آخر باع نصفه من آخر فأجاز المولى البيعين، فاختار المشتريان الأخذ يكون لمشتري الكل ثلاثة أرباعه، ولمشتري النصف الربع بطريق المنازعة.
النوع الثالث: ما يقسم بطريق المنازعة عند أبي حنيفة، وعندهما بطريق العول وهي ثلاثة: مسألة الكتاب.
والثانية: إذا أوصى لرجل بجميع ماله وأجازه الورثة.
والثالثة: إذا أوصى لرجل بعبد بعينه ولآخر بنصف ذلك العبد وليس له مال غيره.
النوع الرابع: بطريق العول عند أبي حنيفة، وعندهما بطريق المنازعة وهي خمس مسائل:
أحدها: عبد مأذون له في التجارة بين رجلين أدانه أحدهما مائة وأدانه أجنبي مائة، فدين المولى يسقط نصفه لاستحالة وجوب الدين على عبده، ويثبت نصفه الذي في نصيب شريكه، فإذا بيع بالدين يقسمان الثمن على الخلاف الذي ذكرناه.
والثانية: إذا أدانه أجنبيان، أحدهما: مائة والآخر: مائتان يقسمان عنه على هذا.
والثالثة: عبد قتل رجلاً خطأ، وآخر عمداً، وللمقتول عمداً وليان فعفى أحدهما فدفع بها كان على الخلاف المذكور.
والرابعة: لو كان الجاني مدبرا على هذا الوجه فدفعت قيمته، كانت بينهما كذلك.
والخامسة: أم ولد قتلت مولاها وأجنبياً عمداً ولكل واحد منهما وليان، فعفى ولي كل واحد منهما على التعاقب فإنه يسعى في ثلاثة أرباع قيمتها، فتقسم بين الساكنين فيعطوا الرابع لشريك العافي، فآجرا والنصف الآخر بينه وبين شريك العافي أولا أثلاثاً، ثلثاه لشريك العافي أولا، والثلث لشريك العافي آخرا عنده، وعندهما أربعا.
أما الأضداد فهي ثلاث مسائل:(9/403)
قال: ولو كانت في أيديهما سلم لصاحب الجميع نصفها على وجه القضاء، ونصفها لا على وجه القضاء، لأنه خارج في النصف، فيقضى ببينته والنصف الذي في يديه صاحبه لا يدعيه؛ لأن مدعاه النصف وهو في يده سالم له، ولو لم ينصرف إليه دعواه كان ظالما بإمساكه ولا قضاء بدون الدعوى، فيترك في يده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدها: مدبر قتل رجلاً خطأ وآخر عمداً وله وليان، فعفى أحدهما فدفع المولى قيمته، كانت القيمة عنده بين ولي الخطأ، والذي لم يعف أثلاثا على طريق العول، وعندهما أرباعا على طريق المنازعة.
والثانية: ما إذا كان القاتل عبداً ووقع المولى بالجنايتين.
والثالثة: عبد بين رجلين أذنا له في التجارة، وقد مرت هذه الثلاث مسائل في النوع الرابع بطريق العول.
[ادعى أحدهما نصفها والآخر كلها]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولو كانت في أيديهما) ش: ادعى أحدهما نصفها، والآخر كلها م: (سلم لصاحب الجميع نصفها على وجه القضاء، ونصفها لا على وجه القضاء) ش: وبه قال أحمد؛ وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية مالك: تبقى الدار في أيديهما كما كانت، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، م: (لأنه) ش: أي لأن صاحب الجميع وهو مدعي الجميع م: (خارج في النصف) ش: الذي في يد صاحبه وبرهنا م: (فيقضى ببينته) ش: أي ببينة صاحب الجميع، م: (والنصف الذي بين يديه) ش: أي في يدي صاحب الجميع م: (صاحب لا يدعيه؛ لأن مدعاه النصف) ش: فإذا كان كذلك سلم النصف الذي في يد صاحب الجميع، فسلم ذلك النصف له بلا قضاء وهو معنى قوله م: (وهو في يده سالم له) ش: أي والنصف الذي في يد صاحب الجميع.
م: (ولو لم ينصرف إليه) ش: أي إلى النصف، قال تاج الشريعة: هذا جواب إشكال، وهو أن يقال لا نسلم أن دعواه في النصف الذي في يده حتى يسلم له، بل حقه ثابت في الكل. فأجاب عنه: بأنه لو لم ينصرف إليه م: (دعواه) ش: أي إلى النصف الذي في يده م: (كان ظالماً بإمساكه) ش: والأصل: أن لا يحمل فعل المسلم على الظلم والفساد إذا أمكن حمله على الصحة والسداد.
م: (ولا قضاء بدون الدعوى) ش: لأن دعوى صاحب النصف ينصرف إلى النصف الذي في يده ولم توجد الدعوى من صاحب النصف في النصف الذي في يد صاحب الجميع، وإذا كان كذلك لا قضاء بدون الدعوى، م: (فيترك في يده) ش: أي يترك النصف الذي في يد صاحب الجميع لا على وجه القضاء.(9/404)
قال: وإذا تنازعا في دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت عنده وذكرا تاريخا وسن الدابة يوافق أحد التاريخين فهو أولى، لأن الحال تشهد له فيترجح. وإن أشكل ذلك كانت بينهما، لأنه سقط التوقيت، فصار كأنهما لم يذكرا تاريخا. وإن خالف سن الدابة الوقتين بطلت البينتان، كذا ذكره الحاكم الشهيد، لأنه ظهر كذب الفريقين، فتترك في يد من كانت في يده.
قال: وإذا كان العبد في يد رجل أقام رجلان عليه البينة أحدهما بغصب والآخر بوديعة فهو بينهما لاستوائهما في الاستحقاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[تنازعا في دابة والدابة في يد ثالث وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت عنده]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: م: وإذا تنازعا في دابة) ش: والدابة في يد ثالث م: وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت عنده) ش: قال الجوهري: نتجت الناقة على ما لم يسم فاعله نتج نتاجا وقد نتجها أهلها نتجا م: (وذكرا تاريخا وسن الدابة يوافق أحد التاريخين فهو أولى) ش: أي لأن علامة صدق شهوده قد ظهرت بشهادة الحال، وهو معنى قوله: م: (لأن الحال يشهد له) ش: فإذا كان كذلك م: (فيترجح) ش: أي صاحب اليد.
م: (وإن أشكل ذلك كانت بينهما) ش: أي وإن أشكل سن الدابة بينهما م: (لأنه سقط التوقيت) ش: لأنه لا دلالة فيه فكأنهما أقاما البينة على النتاج م: (فصار كأنهما لم يذكرا تاريخا. وإن خالف سن الدابة الوقتين) ش: أي في دعوى الخارجين م: (بطلت البينتان، كذا ذكره الحاكم الشهيد لأنه ظهر كذب الفريقين، فتترك في يد من كانت في يده) ش: وقال في " شرح الأقطع ": فإن خالف سن الدابة الوقتين قضى لصاحب اليد، ثم قال: قال الحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الصحيح أن تبطل البينتان.
وقال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في شرح الكافي " للحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإن كانت على غير الوقتين أو كانت مشكلة قضيت بينهما نصفين، لأنه لم يثبت الوقت فصار كأنهما لم يوقتا.
وفي رواية أبي الليث الخوارزمي: إذا كانت الدابة على غير الوقتين فالبينتين باطلة لأنه ظهر كذبهما. في " المبسوط " من مشايخنا من قال: تبطل البينتان، والأصح ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن الدابة بينهما في الفصلين، يعني إذا كان سن الدابة مشكلة، وفيما إذا كان غير الوقتين في دعوى الخارجين، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان عبد في يد رجل فأقام رجلان عليه البينة أحدهما بغصب والآخر بوديعة فهو بينهما لاستوائهما في الاستحقاق) ش: في سبب الاستحقاق، وذلك لأن المودع لما جحد الوديعة صار كالغاصب، فصار دعوى الوديعة والغصب سواء، والتهاوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق.(9/405)
(فصل في التنازع بالأيدي) قال: وإذا تنازعا في دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى، لأن تصرفه أظهر، فإنه يختص بالملك، وكذا إذا كان أحدهما راكبا في السرج، والآخر رديفه فالراكب أولى، بخلاف ما إذا كانا راكبين حيث تكون بينهما لاستوائهما في التصرف، وكذا إذا تنازعا في بعير وعليه حمل لأحدهما وللآخر كوز معلق فصاحب الحمل أولى، لأنه هو المتصرف، قال: وكذا إذا تنازعا في قميص، أحدهما لابسه، والآخر متعلق بكمه فاللابس أولى، لأنه أظهرهما تصرفا. ولو تنازعا في بساط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التنازع بالأيدي]
م: (فصل في التنازع بالأيدي) ش: أي هذا الفصل في بيان حكم التنازع بالأيدي. ولما فرغ من بيان وقوع الملك بالبينة شرع في بيان وقوعه بظاهر اليد.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا تنازعا في دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى) ش: ولا خلاف فيه بين الأئمة الأربعة، وفي " الذخيرة " لو تعلق أحدهما بلجامها والآخر بذنبها فالمتعلق باللجام أولى، لأنه لا يتعلق باللجام غالبا إلا المالك، أما الذنب فقد يتعلق به غيره م: (لأن تصرفه) ش: أي تصرف الراكب م: (أظهر فإنه يختص بالملك وكذا إذا كان أحدهما راكبا في السرج والآخر رديفه فالراكب أولى) ش: من الرديف، وكذا إذا تنازعا في الدار وأحدهما ساكنها والآخر آخذ بحلقة الباب أن الساكن أولى.
وقال الأسبيجابي في " شرح الطحاوي ": ولو كانا جميعا راكبين أحدهما في السرج والآخر خارج السرج قضي بالدابة بينهما بالإجماع؛ وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: يقضى بالدابة للراكب في السرج.
ونقل الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأجناس " عن " نوادر العلي ": رجلان على دابة أحدهما راكب في السرج والآخر رديف فادعى الدابة، ففي الراكب السرج، فإن كان في السرج فهي بينهما نصفان، فعلم بما ذكر في " شرح الطحاوي " و " الأجناس ": أن الدابة في ظاهر الرواية بينهما نصفان، وما ذكره المصنف بقوله: وكذا إذا كان أحدهما راكبا في السرج والآخر رديفه، فالراكب أولى من الرديف، فذلك على رواية " النوادر ".
م: (بخلاف ما إذا كانا راكبين) ش: أي في السرج، م: (حيث تكون) ش: أي الدابة م: (بينهما لاستوائهما في التصرف، وكذا إذا تنازعا في بعير وعليه حمل لأحدهما وللآخر كوز معلق، فصاحب الحمل أولى؛ لأنه هو المتصرف. قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكذا إذا تنازعا في قميص أحدهما لابسه والآخر متعلق بكمه فاللابس أولى؛ لأنه أظهرهما تصرفاً. ولو تنازعا في بساط(9/406)
أحدهما جالس عليه، والآخر متعلق به فهو بينهما، معناه لا على طريق القضاء؛ لأن القعود ليس بيد عليه فاستويا.
قال: وإذا كان ثوب في يد رجل وطرف منه في يد آخر، فهو بينهما نصفان، لأن الزيادة من جنس الحجة، فلا يوجب زيادة في الاستحقاق. قال: وإذا كان الصبي في يد رجل وهو يعبر عن نفسه فقال: أنا حر فالقول قوله، لأنه في يد نفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما جالس عليه، والآخر متعلق به فهو بينهما) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (معناه) ش: أي ما قاله القدوري: م: (على طريق القضاء) ش: يترك في يدهما م: (لأن القعود ليس بيد عليه فاستويا) ش: أي لأن اليد على البساط لا تثبت إلا بالنقل والتحويل أو يكون في يده حكما بأن كان في بيته ولم يوجد شيء من ذلك، ولهذا لا يصير غاصباً بمجرد القعود عليه، بخلاف الراكب على الدابة، فإنه يصير غاصباً بمجرد الركوب عليه بغير الإذن.
[كان ثوب في يد رجل وطرف منه في يد آخر]
م: (قال) ش: أي محمد: م: (وإذا كان ثوب في يد رجل وطرف منه في يد آخر، فهو بينهما نصفان؛ لأن الزيادة من جنس الحجة) ش: لأن كل واحد يمسك باليد، إلا أن أحدهما أكثر استمساكا م: (فلا يوجب زيادة في الاستحقاق) ش:، كما لو تنازعا في دابة ولواحد عليها مائة من والآخر خمسون منا كانت بينهما نصفين، وكما لو أقام أحدهما اثنين من الشهود والآخر أربعة.
فإن قيل: يشكل على هذا الذي ذكره بعده وإن كان جذوع أحدهما أقل من ثلاثة والآخر ثلاثة فهو لصاحب الثلاثة، حيث جعل الزيادة من جنس الحجة موجبة للترجيح، إذ الشاهد من الطرفين وضع الجذع.
وأجيب: بأن وضع الخشبة حجة لثبوت الاستعمال فلا يترجح بزيادة الخشبات، لأن الحجة لا تترجح بزيادة من جنسها وفيه تأمل.
[ادعيا عبدا وهو في أيديهما] 1
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان الصبي في يد رجل وهو يعبر عن نفسه) ش: والحال أنه يعبر عن نفسه، أي يتكلم ويعقل ما يقوله م: (فقال: أنا حر فالقول قوله لأنه في يد نفسه) ش: وفي " الذخيرة ": [إذا] ادعيا عبداً وهو في أيديهما، فإن كان العبد لا يعبر عن نفسه، فالقاضي لا يقضي لأحدهما بالملك ما لم يقم البينة، ولكن يجعله في يديهما لأنه إذا لم يعبر عن نفسه فهو والبهيمة سواء.
وعرف القاضي يدهما ولا يعرف الملك لهما فيحكم باليد دون الملك، وعند الثلاثة: يحكم بالملك أيضاً، لأن اليد عليه دليل الملك، وإن كان العبد يعبر عن نفسه وقال " أنا حر " فالقول له، ولا يقضى لهما بشيء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية؛ وفي وجه قال: هذا كالذي لا يعبر عن نفسه، وبه قال أحمد في رواية، ولو قال: أنا عبد أحدهما لم يصدق، وهو عبدهما.(9/407)
ولو قال: أنا عبد فلان فهو عبد للذي في يده لأنه أقر بأنه لا يد له حيث أقر بالرق، وإن كان لا يعبر عن نفسه فهو عبد للذي هو في يده، لأنه لا يد له على نفسه لما كان لا يعبر عنها، وهو بمنزلة متاع، بخلاف ما إذا كان يعبر، فلو كبر وادعى الحرية لا يكون القول قوله؛ لأنه ظهر الرق عليه في حال صغره.
قال: وإذا كان الحائط لرجل عليه جذوع أو متصل ببنائه وللآخر عليه هرادي فهو لصاحب الجذوع والاتصال، والهرادي ليست بشيء، لأن صاحب الجذوع صاحب استعمال، والآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال أنا عبد لفلان]
م: (ولو قال أنا عبد لفلان فهو عبد للذي في يده، لأنه أقر بأنه لا يد له حيث أقر بالرق وإن كان لا يعبر عن نفسه فهو عبد للذي هو في يده؛ لأنه لا يد له على نفسه لما كان لا يعبر عنها، وهو بمنزلة المتاع) ش: لا يدل له على نفسه، واعترض باللقيط إذا ادعى في لقيط لا يعبر عن نفسه، فإنه لا يكون عبدا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد، أجيب بأن يد الملتقط ثابت من وجه دون وجه، فلم تصح الدعوى منه بالشك، بخلاف غيره لأن يده عليه ثابتة، فتصح الدعوى منه.
فإن قيل: وجب أن لا يصدق في دعوى الرق، لأن الحرية هي الأصل، والرق عارض فلا تقبل إلا بالحجة، أجيب بأنه اعترض على الأصل ما يدل على خلافه، فيبطل الأصل وفيه نوع تأمل؛ م: (بخلاف ما إذا كان يعبر) ش: أي عن نفسه، فإنه إذا قال: " أنا حر " فالقول قوله كما مر، م: (فلو كبر وادعى الحرية لا يكون القول قوله، لأنه ظهر الرق عليه في حال صغره) ش: فلا تزول يد من هو يده إلا بدليل.
[كان الحائط لرجل عليه جذوع أو متصل ببنائه وللآخر عليه هرادي وتنازعا فيه]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع الصغير م: (وإذا كان الحائط لرجل عليه جذوع أو متصل ببنائه) ش: أو الحائط متصل ببنائه م: (وللآخر عليه) ش: أي على الحائط م: (هرادي) ش: وهو جمع هردية، قصبات تضم ملتوية بطاقات من الكرم فترسل عليها قضبان الكرم كذا في " ديوان الأدب "، ولكن صحح فيه الهاء والحاء جميعاً. وفي " الصحاح ": الحردي من القصب فهو نبطي معرب، ولا يقال: الهردي. وفي " مختصر الكرخي ": الحردي بالحاء، وفي " الجمهرة ": لأن الحردي مد في باب الحاء والدال والراء، أما الذي تسميه البصريون الحردي من القصب فهو ينظر معرب، وقال " صاحب الديوان " أيضاً: الحردي واحد حرادي القصبة، فعلى هذا يجوز أن يقال بالهاء والحاء جميعاً.
وقال الأترازي: والرواية في الأصل و " الكافي " للحاكم الشهيد. وفي " الجامع الصغير " و " شرح الكافي " وقعت بالهاء لا غير. وفي " دستور اللغة ": هرادي السقف خشب بابه بالفارسية وفي المغرب يقال له بالفارسي: وردوك م: (فهو) ش: أي الحائط م: (لصاحب الجذوع والاتصال، والهرادي ليست بشيء؛ لأن صاحب الجذوع صاحب استعمال، والآخر) ش: أي صاحب الهرادي(9/408)
صاحب تعلق فصار كدابة تنازعا فيها، ولأحدهما عليها حمل، وللآخر كوز معلق بها. والمراد بالاتصال مداخلة لبن جداره فيه ولبن هذا في جداره، وقد يسمى اتصال تربيع. وهذا شاهد ظاهر لصاحبه لأن بعض بنائه على بعض بناء هذا الحائط، وقوله الهرادي ليست بشيء يدل على أنه لا اعتبار للهرادي أصلا. وكذا البواري؛ لأن الحائط لا يبنى لهما أصلا، حتى لو تنازعا في حائط ولأحدهما عليه هرادي وليس للآخر عليه شيء فهو بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (صاحب تعلق) ش: أي بالحائط، لأن الحائط يبنى لوضع الجذوع عليه دون وضع الهرادي ويظن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا بقوله: م: (فصار كدابة تنازعا فيها ولأحدهما عليها حمل، وللآخر كوز معلق بها) ش: حيث تكون الدابة لصاحب الحمل، وللآخر نوع تعلق بها، ولكن لا يؤمر برفع الهرادي والبواري؛ لأن القضاء وقع له بالحائط بناء على الظاهر، والظاهر يصلح حجة للدفع دون إبطال الاتصال الثابت للغير ظاهراً.
م: (والمراد بالاتصال) ش: أي المراد بالاتصال المذكور في قوله " أو متصل ببنائه " م: (مداخلة لبن جداره فيه) ش: أي في المتنازع فيه، م: (ولبن هذا في جداره، وقد يسمى اتصال تربيع) ش: وتفسير التربيع إذا كان الحائط من مدر أو آجر أن يكون اتصاف لبن الحائط المتنازع فيه داخلة في تصاف لبن غير المتنازع فيه، وبالعكس؛ وإن كانت من خشب فالتربيع أن يكون بناحية أحدهما مركبة في الأخرى، وأما إذا نقل ما دخل لا يكون تربيعاً. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان الكرخي يقول: صفة هذا الاتصال أن يكون الحائط المتنازع فيه من الجانبين متصلا بحائطين لأحدهما، والحائطان متصلان بحائط له مقابلة بالاتصال بحائط المتنازع وهذا ظاهر. قال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويروي هذا ظاهر الرواية.
م: (وهذا شاهد ظاهر لصاحبه لأن بعض بنائه على بعض بناء هذا الحائط) ش: فهو أولى، به قال الشافعي وأحمد في رواية م: (وقوله) ش: أي وقول محمد في الجامع: م: (الهرادي ليست بشيء يدل على أنه لا اعتبار للهرادي أصلاً، وكذا البواري) ش: جمع بارية، وهي التي تعمل من القصب، وهي الحصرة، وقال الأصمعي: البور بالفارسية وبالعربية باري وبوري وبارية م: (لأن الحائط لا يبنى لهما أصلاً، حتى لو تنازعا في حائط ولأحدهما هرادي، وليس للآخر عليه شيء فهو) ش: أي الحائط م: (بينهما) ش: لاستوائهما، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة؛ لأن وضع الهرادي والبواري لا يثبت لصاحبها على الحائط يد لأن الحائط للتسقيف، وذلك بوضع الجذوع عليه، لا بوضع الهرادي والبواري، وإنما توضع الهرادي والبواري للاستظلال، والحائط لا يبنى للاستظلال، فيصار كما لو كان لأحدهما على ثوب مبسوط ولا شيء للآخر. وهناك يقضى بينهما، فكذا هذا.(9/409)
ولو كان لكل واحد منهما عليه جذوع ثلاثة، فهو بينهما لاستوائهما، ولا معتبر بالأكثر منها بعد الثلاثة، وإن كان جذوع أحدهما أقل من ثلاثة فهو لصاحب الثلاثة، وللآخر موضع جذعه في رواية. وفي رواية لكل واحد منهما ما تحت خشبه، ثم قيل: ما بين الخشب إلى الخشب بينهما. وقيل: على قدر خشبهما. والقياس أن يكون بينهما نصفين؛ لأن لا معتبر بالكثرة في نفس الحجة. ووجه الثاني: أن الاستعمال من كل واحد بقدر خشبته. ووجه الأول: أن الحائط يبنى لوضع كثير الجذوع دون الواحد والمثنى، فكان الظاهر شاهدا لصاحب الكثير إلا أنه يبقى له حق الوضع، لأن الظاهر ليس بحجة في استحقاق يده. ولو كان لأحدهما جذوع وللآخر اتصال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو كان لكل واحد منهما عليه جذوع ثلاثة فهو بينهما لاستوائهما، ولا معتبر بالأكثر منها) ش: أي من الجذوع م: (بعد الثلاثة) ش: يعني لو كان لكل منهما جذوع ثلاثة فهو بينهما لاستوائهما، ولا اعتبار للجذوع الأكثر من الثلاثة.
م: (وإن كان جذوع أحدهما أقل من ثلاثة فهو) ش: أي الحائط م: (لصاحب الثلاثة، وللآخر موضع جذعه في رواية) ش: صاحب " الإملاء " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي رواية) ش: كتاب الدعوى م: (لكل واحد منهما ما تحت خشبه) ش: وذكر محمد في كتاب الإقرار أن الحائط لصاحب الخشب الكثير، ولصاحب الخشبة الواحدة ما تحت خشبه يعني حق الوضع م: (ثم قيل: ما بين الخشب إلى الخشب بينهما) ش: يعني بينهما نصفان، لأن لا يد لأحدهما فيه فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر كرجلين تنازعا في دار وفي يد أحدهما بيت منهما، وفي يد الآخر بيتان أن الباقي بينهما نصفان، كذلك ما بين الخشب، م: (وقيل: على قدر خشبهما) ش: أي على قدر الخشب كل منهما حتى يكون لصاحب الجذعين خمسان، ولصاحب الجذوع الثلاثة أخماس.
م: (والقياس: أن يكون بينهما نصفين، لأنه لا معتبر بالكثرة في نفس الحجة) ش: وهو رواية عن أبي حنيفة وقياس قول الشافعي وأحمد، م: (ووجه الثاني) ش: وهو رواية كتاب الدعوى م: (أن الاستعمال من كل واحد بقدر خشبته) ش: لأن ذلك الموضع به مشغول بجذعه م: (ووجه الأول) ش: هو رواية كتاب الإقرار وهو الاستحسان: م: (أن الحائط يبنى لوضع كثير الجذوع دون الواحد والمثنى، فكان الظاهر شاهداً لصاحب الكثير، إلا أنه يبقى له) ش: أي لصاحب الجذع الواحد م: (حق الوضع) ش: أي حق وضع خشبه، م: (لأن الظاهر ليس حجة في استحقاق يده) ش: فلا يستحق دفع الخشبة الموضوعة، إذ من الجائز أن يكون أصل الحائط لرجل ويثبت للآخر حق الوضع عليه، فإن القسمة لو وقعت على هذا الوجه كان جائزاً.
م: (ولو كان لأحدهما جذوع وللآخر اتصال) ش: وفي نسخة: لو كان لأحدهما اتصال(9/410)
فالأول أولى، ويروى أن الثاني أولى. وجه الأول: أن لصاحب الجذوع التصرف ولصاحب الاتصال اليد والتصرف أقوى. ووجه الثاني: أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد. ومن ضرورة القضاء له ببعضه القضاء بكله، ثم يبقى للآخر حق وضع جذوعه لما قلنا. وهذه رواية الطحاوي وصححها الجرجاني.
قال: وإذا كانت دار منها في يد رجل عشرة أبيات، وفي يد آخر بيت فالساحة بينهما نصفان لاستوائهما في استعمالها وهو المرور فيها.
قال: وإذا ادعى رجلان أرضا يعني يدعي كل واحد منهما أنها في يده لم يقض أنها في يد واحد منهما حتى يقيما البينة أنها في أيديهما، لأن اليد فيها غير مشاهدة لتعذر إحضارها وما غاب عن علم القاضي فالبينة تثبته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وللآخر جذوع وهو الصحيح من النسخ ليوافق الدليل المدعى. وفي " شرح الأقطع ": إذا اختلفا في الحائط ولأحدهما اتصال به من أحد الجوانب ولآخر عليه جذوع، والاتصال هو مداخلة اللبن بعضه في بعض، م: (فالأول أولى) ش: أي صاحب الاتصال، وبه قال شيخ الإسلام الطحاوي؛ م: (ويروى أن الثاني أولى) ش: وهو صاحب الجذوع، وبه قال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وجه الأول: أن لصاحب الجذوع التصرف ولصاحب الاتصال اليد والتصرف أقوى ووجه الثاني) ش: وهو القول بأولوية الاتصال: م: (أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد ومن ضرورة القضاء له ببعضة القضاء بكله، ثم يبقى للآخر حق وضع جذوعه لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله لأن الظاهر ليس بحجة في الاستحقاق، حتى لو ثبت ذلك بالبينة أمر برفعها لكونها حجة مطلقة م: (وهذه رواية الطحاوي) ش: أي كون صاحب الاتصال أولى من صاحب الجذوع م: (وصححها الجرجاني) ش: أي صحح رواية الطحاوي أبو عبد الله الجرجاني.
[دار منها في يد رجل عشرة أبيات وفي يد آخر بيت وتنازعا]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا كانت دار منها في يد رجل عشرة أبيات، وفي يد آخر بيت فالساحة) ش: بالمهملتين العرصة في الدار وبين يديها م: (بينهما نصفان، لاستوائهما في استعمالها) ش: أي في استعمال الساحة، م: (وهو) ش: أي الاستعمال م: (المرور فيها) ش: ووضع الأمتعة فيها وصب الوضوء وكسر الحطب.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا ادعى رجلان أرضاً يعني يدعي كل واحد منهما في يده لم يقض أنها في يد واحد منهما حتى يقيما البينة أنها في أيديهما لأن اليد فيها غير مشاهدة لتعذر إحضارها) ش: أي لأن اليد حق مقصود، فلا يجوز للقاضي أن يحكم به ما لم يعلم، لأن الأرض غير مشاهدة لتعذر إحضارها، فإذا كان كذلك فلا بد من البينة، م: (وما غاب) ش: أي والذي غاب م: (عن علم القاضي فالبينة تثبته) ش: لتعذر المشاهدة. وقوله: وما مبتدأ وغاب صلته. وقوله: فالبينة تثبت خبره، وهي جملة اسمية وقعت خبراً(9/411)
وإن أقام أحدهما البينة جعلت في يده لقيام الحجة؛ لأن اليد حق مقصود. وإن أقاما البينة جعلت في أيديهما لما بينا، فلا تستحق لأحدهما من غير حجة. وإن كان أحدهما قد لبن في الأرض أو بنى أو حفر فهي يده لوجود التصرف والاستعمال فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ودخلت الفاء عليها لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
م: (وإن أقام أحدهما البينة جعلت في يده لقيام الحجة؛ لأن اليد حق مقصود) ش: فلا يستحق أحدهما بغير حجة م: (وإن أقاما البينة جعلت في أيديهما لما بينا) ش: أشار إلى قوله لقيام الحجة، فإن طلبا القسمة بعد ذلك لم تقسم بينهما ما لم يقيما البينة على الملك. قال بعض مشايخنا: هذا قول أبي حنيفة، وقالا: يقسم بينهما م: (فلا تستحق لأحدهما من غير حجة، وإن كان أحدهما قد لبن في الأرض أو بنى أو حفر في يده لوجود التصرف والاستعمال فيها) ش: لأن من ضرورة الاستعمال إثبات اليد كالركوب على الدابة واللبس في الثياب، ذكره البزدوي، والله أعلم.(9/412)
(باب دعوى النسب) قال: وإذا باع جارية فجاءت بولد فادعاه البائع، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم باع فهو ابن للبائع وأمه أم ولد له، وفي القياس وهو قول زفر والشافعي - رحمهما الله - دعوته باطلة؛ لأن البيع اعتراف منه بأنه عبد فكان في دعواه متناقضا ولا نسب بدون الدعوى. وجه الاستحسان أن اتصال العلوق بملكه شهادة ظاهرة على كونه منه؛ لأن الظاهر عدم الزنا، ومبنى النسب على الخفاء، فيعفى فيه التناقض، وإذا صحت الدعوى استندت إلى وقت العلوق فتبين أنه باع أم ولده فيفسخ البيع، لأن بيع أم الولد لا يجوز ويرد الثمن، لأنه قبضه بغير حق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب دعوى النسب]
[باع جارية فجاءت بولد فادعاه البائع]
م: (باب دعوى النسب)
ش: أي هذا الباب في بيان حكم دعوى النسب، ولما ذكر دعوى المال شرع في دعوى النسب وقدم دعوى المال لكثرة وقوعها، فكان أهم. وفي " الصحاح ": الدعوة بالكسر في النسب، وبالفتح في الطعام، وقيل على العكس.
قلت: وبالضم في الجهاد.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا باع جارية فجاءت بولد فادعاه البائع فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم باع فهو ابن البائع وأمه أم ولد له) ش: وتفسخ البيع ويرد الثمن.
م: (وفي القياس وهو قول وزفر والشافعي - رحمهما الله تعالى - لأن دعوته باطلة؛ لأن البيع اعتراف منه) ش: أي من البائع م: (بأنه عبد) ش: أي بأن الولد عبد، لأن إقدامه على البيع يدل على ذلك م: (فكان في دعواه مناقضاًَ) ش: ودعوى التناقض مردود م: (ولا نسب بدون الدعوى) ش: أي ولا يثبت النسب بدون الدعوى.
م: (وجه الاستحسان: أن اتصال العلوق بملكه) ش: أي بملك المدعي وهو البائع م: (شهادة ظاهرة على كونه منه) ش: وذلك بمنزلة البينة العادلة حكماً في حق ثبوت النسب وحرية الولد في الأصل وصيرورة الجارية أم ولد له م: (لأن الظاهر عدم الزنا، ومبنى النسب على الخفاء) ش: جواب عن المناقض، لأن الإنسان قد لا يعلم ابتداء بكون العلوق منه ولم يتبين له أنه منه م: (فيعفى فيه التناقض) ش: لأجل الخفاء.
م: (وإذا صحت الدعوى) ش: أي دعوى البائع م: (استندت إلى وقت العلوق) ش: منه م: (فتبين أنه باع أم ولده، فيفسخ البيع، لأن بيع أم الولد لا يجوز ويرد الثمن لأنه) ش: أي لأن البائع م: (قبضه بغير حق) ش: فيجب عليه رده.(9/413)
وإن ادعاه المشتري مع دعوى البائع أو بعده فدعوة البائع أولى، لأنها أسبق لاستنادها إلى وقت العلوق، وهذه دعوى استيلاد. وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوى البائع، لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه تيقنا وهو الشاهد والحجة، إلا إذا صدقه المشتري فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح ولا يبطل البيع، لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق ولا حقه، وهذه دعوى تحرير وغير المالك ليس من أهله. وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوى البائع فيه، وإلا أن يصدقه المشتري، لأنه احتمل أن لا يكون العلوق في ملكه فلم توجد الحجة، فلا بد من تصديقه. وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر والأم أم ولد له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن ادعاه المشتري مع دعوى البائع أو بعده) ش: دعوى البائع م: (فدعوى البائع أولى، لأنها أسبق لاستنادها إلى وقت العلوق) ش: إنما عينه بقوله " مع دعوى " لأنه لو ادعاه المشتري أولا يثبت النسب منه ولا يثبت نسب البائع بعد ذلك لاستغناء الولد عن النسب م: (وهذه دعوى استيلاد) ش: هذا جواب دخل تقديره كيف تصح الدعوى والملك معدوم، فأجاب بقوله " وهذه " أي دعوى البائع استيلاد ودعوى المشتري دعوى تحرير، إذ الأصل العلوق لم يكن في ملكه، ودعوى الاستيلاد أولى لاستنادها إلى وقت العلوق. ودعوى الاستيلاد لا تفتقر إلى حقيقة الملك، ودعوى التحرير تفتقر إليها.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله " دعوى استيلاد " في الحقيقة، هذا جواب عن قول إبراهيم النخعي حيث قال فيها: يثبت النسب من المشتري، لأن حقيقة الملك فيها وفي ولدها، وللبائع حق، والحق لا يعارض الحقيقة، قلنا: هذه دعوى استيلاد.... إلخ.
م: (وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوة البائع، لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه يقيناً وهو) ش: أي اتصال العلوق بملكه م: (الشاهد والحجة) ش: في ثبوت النسب م: (إلا إذا صدقه المشتري، فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح) ش: حملاً لأمره على الصلاح م: (ولا يبطل البيع، لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق) ش: في حق الولد م: (ولا حقه) ش: ولا حق المعتق في الجارية م: (وهذه دعوى تحرير) ش: يعني إذا لم تصر الجارية أم ولد تبقى الدعوى في الولد دعوى تحرير م: (وغير المالك ليس من أهله) ش: والبائع ليس بمالك فلا بد من تصديق المشتري.
م: (وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوى البائع فيه، إلا أن يصدقه المشتري، لأنه احتمل) ش: أي لأن الشأن أنه احتمل م: (أن لا يكون العلوق في ملكه فلم توجد الحجة فلا بد من تصديقه، وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر والأم أم ولد له(9/414)
كما في المسألة الأولى لتصادقهما واحتمال العلوق في الملك. قال: فإن مات الولد فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت الاستيلاد في الأم لأنها تابعة للولد، ولم يثبت نسبة بعد الموت لعدم حاجته إلى ذلك، فلا يتبعه استيلاد الأم. وإن ماتت الأم فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر يثبت النسب في الولد وأخذه البائع، لأن الولد هو الأصل في النسب فلا يضره فوات التبع وإنما كان الولد أصلا لأنها تضاف إليه، يقال أم الولد وتستفيد الحرية من جهته لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أعتقها ولدها» والثابت لها حق الحرية وله حقيقتها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كما في المسألة الأولى لتصادقهما واحتمال العلوق في الملك) ش: وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، لأن دعوته دعوى استيلاد، حتى يكون الولد حر الأصل، ولا يكون له ولاء على الولد، لأن العلوق في ملكه يمكن، وإن ادعياه معاً أو متعاقباً فالمشتري أولى، لأن البائع في هذه الحالة كالأجنبي، هذا الذي ذكرناه كله إذا علم مدة الولادة بعد البيع، فإذا لم يعلم أنها جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر فصاعداً ما بينهما وبين سنتين أو لأكثر من سنتين، فالمسألة على أربعة أوجه أيضاً.
فإن ادعاه البائع فإنها لا تصح دعوته، إلا أن يصدقه المشتري لعدم تيقن العلوق في ملكه؛ وإن ادعاه المشتري صح؛ لأن أكثر ما في الباب أن علوق الولد في ملك البائع بأن جاءت به لأقل من ستة أشهر، ولكن هذا لا يمنع دعوى المشتري، ولو سبق أحدهما صاحبه في الدعوى إن سبق المشتري صحت دعوته، وإن سبق البائع ثم ادعى المشتري لا تصح دعوى واحدة منهما لوقوع الشك في إثبات النسب من كل واحد منهما. وإن ادعيا معاً فإنه لا تصح دعوى واحد منهما، وإن ادعيا معا فإنه لا تصح دعوى واحد منهما، ويكون الولد عبد المشتري.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن مات الولد فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت الاستيلاد في الأم؛ لأنها تابعة للولد ولم يثبت نسبه بعد الموت لعدم حاجته إلى ذلك فلا يتبعه استيلاد الأم) ش: لأنه فرع النسب.
م: (وإن ماتت الأم فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر يثبت النسب في الولد وأخذه البائع؛ لأن الولد هو الأصل في النسب) ش: والاستيلاد فرع النسب كما ذكرنا.
م: (فلا يضره) ش: أي فلا يضر نسب الولد م: (فوات التبع) ش: وهو الأم أو أمومية الولد م: (وإنما كان الولد أصلاً لأنها) ش: أي لأن الأم م: (تضاف إليه، يقال " أم الولد " وتستفيد) ش: أي الأم م: (الحرية من جهته) ش: أي من جهة الولد م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أعتقها ولدها» ش: هذا تقدم في باب الاستيلاد، رواه ابن ماجه.
م: (والثابت لها) ش: أي للأم م: (حق الحرية، وله) ش: أي وللولد م: (حقيقتها) ش: أي(9/415)
والأدنى يتبع الأعلى ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: يرد حصة الولد ولا يرد حصة الأم، لأنه تبين أنه باع أم ولده وماليتها غير متقومة عنده في العقد والغصب فلا يضمنها المشتري، وعندهما متقومة فيضمنها. وفي " الجامع الصغير ":
وإذا حبلت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري فادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه يرد عليه بحصته من الثمن. ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعواه باطلة.. ووجه الفرق أن الأصل في هذا الباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حقيقة الحرية، وهو ظاهر
م: (والأدنى يتبع الأعلى ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا يرد حصة الولد ولا يرد حصة الأم؛ لأنه تبين انه باع أم ولده وماليتها) ش: أي ومالية أم الولد م: (غير متقومة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في العقد والغصب) ش:، حتى إذا اشترى أم الغير وماتت في يده لا يضمن المشتري قيمتها، وكذلك لو غصبها فماتت عنده م: (فلا يضمنها المشتري) ش: أي عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (وعندهما متقومة فيضمنها) ش: أي المشتري في العقد، والغاصب في الغصب.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وفي " الجامع الصغير ") ش: إنما ذكر المصنف رواية " الجامع الصغير " إعلاماً بأن حكم الإعتاق فيما نحن فيه حكم الموت،.
م: (وإذا حبلت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري) ش: لأقل من ستة أشهر من بيعها م: (فادعى البائع الولد، وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه) ش: أي ابن البائع م: (ويرد عليه بحصته من الثمن) ش: يعني يقيم الثمن على قيمة الولد وقيمة أمه، فما أصاب الأم يلزم المشتري، وما أصاب الولد سقط عنه، ولا تصير الجارية أم ولد للبائع، لأنه يثبت فيها للمشتري ما لا يحتمل الإبطال وهو الولد وكذا الحكم فيها إذا دبرها أو استولدها، ذكره التمرتاشي. وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": ذكره شمس الأئمة السرخسي أن هذا قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أما على قول أبي حنيفة: يرد الولد بجميع الثمن، لأنه لا مالية لأم الولد.
قال الأترازي: فيه نظر، لأن محمداً - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نقل في " الجامع الصغير " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - صريحاً: أنه يرد الولد بحصته من الثمن، وكذا ذكر في " الأصل " يرد إليه بحصته من الثمن. م: (ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعواه باطلة) ش: يعني إذا كان المشتري أعتق الولد فدعوته باطلة إذا لم يصدقه المشتري م: (ووجه الفرق) ش: أي بينهما: إذا أعتق المشتري الأم ولم يعتق الولد حيث تكون دعوى البائع صحيحة في حق الولد خاصة وبينهما إذا أعتق المشتري الولد دون الأم حيث تبطل دعوى البائع أصلاً م: (أن الأصل في هذا الباب) ش: أي في(9/416)
الولد، والأم تابعة له على ما مر. وفي الفصل الأول قام المانع من الدعوى والاستيلاد وهو العتق في التبع وهو الأم، فلا يمتنع ثبوته في الأصل وهو الولد وليس من ضروراته كما في ولد المحرور، فإنه حر وأمه أمة لمولاها، وكما في المستولدة بالنكاح. وفي الفصل الثاني قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته فيه وفي التبع وإنما كان الإعتاق مانعا، لأنه لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب، وحق الاستيلاد فاستويا من هذا الوجه، ثم الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق، والثابت في الأم حق الحرية وفي الولد للبائع حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باب ثبوت النسب م: (الولد، والأم تابعة له على ما مر) ش: من قوله " لأن الولد هو الأصل " في النسب.
م: (وفي الفصل الأول) ش: أي فيما إذا أعتق المشتري أم الولد: م: (قام المانع من الدعوى والاستيلاد وهو العتق في التبع وهو الأم، فلا يمتنع ثبوته في الأصل وهو الولد) ش:.
فإن قيل: إذا لم تمتنع الدعوى في الولد يثبت العتق فيه والنسب لكون العلوق في ملكه يتيقن، لأن الكلام فيما إذا حبلت الجارية في ملك البائع، ومن حكم ثبوت النسب للولد صيرورة أمه أم ولد للبائع، فكان ينبغي أن يبطل البيع، وإلحاق المشتري.
أجاب المصنف بقوله: م: (وليس من ضروراته) ش: حرية الأم، أي ثبوت الاستيلاد في حق الأم من ضرورات ثبوت المعتق والنسب للولد لانفكاكه عنه م: (كما في ولد المحرور) ش: وهو ما إذا اشترى الرجل أمة من رجل يزعم أنها ملكه فاستولدها فاستحقت م: (فإنه) ش: أي فإن الولد م: (حر) ش: عتيق بالقيمة، وهو ثابت النسب من أبيه، م: (وأمه أمة لمولاها) ش: وليست أم ولد لأبيه، م: (وكما في المستولدة بالنكاح) ش: بأن تزوج امرأة على أنها حرة فولدت فإذا هي أمة فإنه يثبت نسب ولدها، ولا تثبت أمومية أم الولد منها.
م: (وفي الفصل الثاني) ش: وهو ما إذا أعتق المشتري الولد ثم ادعاه البائع أنه ولد م: (قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته) ش: أي ثبوت ما ذكرنا من الاستيلاد والدعوى م: (فيه) ش: أي في الأصل م: (وفي التبع) ش: وهو الأم م: (وإنما كان الإعتاق مانعاً) ش: أي إنما كان إعتاق المشتري الولد مانعاً لدعوى البائع م: (لأنه) ش: أي لأن الإعتاق م: (لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب) أي من البائع في حق الولد م: (وحق الاستيلاد) ش: أي وكحق استيلاد البائع في حق الأم م: (فاستويا) ش: أي استوى إعتاق المشتري وحق استحقاق البائع م: (من هذا الوجه) ش: أي من حيث أنهما لا يحتملان النقض.
م: (ثم الثابت من المشتري) ش: هذا بيان ترجيح الإعتاق على الاستحقاق يعني الثابت من المشتري م: (حقيقة الإعتاق) ش: أي في الولد م: (والثابت في الأم حق الحرية، وفي الولد للبائع حق(9/417)
الدعوة، والحق لا يعارض الحقيقة والتدبير بمنزلة الإعتاق، لأنه لا يحتمل النقض، وقد ثبت به بعض آثار الحرية. وقوله في الفصل الأول يرد عليه بحصته من الثمن قولهما وعنده يرد بكل الثمن وهو الصحيح كما ذكرنا في فصل الموت.
قال: ومن باع عبدا ولد عنده وباعه المشتري من آخر ثم ادعاه البائع الأول فهو ابنه ويبطل البيع، لأن البيع يحتمل النقض وماله من حق الدعوى لا يحتمله فينقض البيع لأجله، وكذا إذا كاتب الولد أو رهنه أو أجره أو كاتب الأم أو رهنها أو زوجها، ثم كاتب الدعوى، لأن هذه العوارض تحتمل النقض فينقض ذلك كله وتصح الدعوى، بخلاف الإعتاق والتدبير على ما مر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدعوى، والحق لا يعارض الحقيقة) ش: لأن الحقيقة أقوى من الحق، فكذلك لم يقل بصحة دعوى البائع فيما إذا أعتق المشتري الولد م: (والتدبير بمنزلة كالإعتاق) ش: أي في الحكم م: (لأنه لا يحتمل النقض وقد ثبت به) ش: أي بالتدبير م: (بعض آثار الحرية) ش: وهو عدم جواز النقل من ملك إلى ملك.
م: (وقوله:) ش: أي قوله من نقل في " الجامع الصغير ": م: (في الفصل الأول) ش: وهو ما إذا أعتق المشتري الأم م: (يرد عليه بحصته من الثمن قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة وأبي يوسف م: (وعنده) ش: أي وعند محمد م: (يرد بكل من الثمن هو الصحيح) ش: احترز به كما ذكره شمس الأئمة وقاضي خان والمحبوبي بأن البائع يرد ما يخص الولد من الثمن لا كل الثمن، وقد ذهب المصنف إلى صحة هذا ولكن هذا خلاف ما نص عليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة في " الجامع الصغير " وغيره صريحاً أنه يرد الولد بحصته من الثمن، وقد ذكرنا.
وفي " المبسوط ": يرد في الموت كل الثمن عند أبي حنيفة. وفي الإعتاق حصة الولد وفرق بين الموت والعتق م: (كما ذكرنا في فصل الموت) ش: أي موت الأم في المشتري ودعوى البائع.
[باع عبدا ولد عنده وباعه المشتري من آخر ثم ادعاه البائع الأول]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن باع عبداً ولد عنده وباعه المشتري من آخر ثم ادعاه البائع الأول فهو ابنه، ويبطل البيع لأن البيع يحتمل النقض) ش: إنما خص البيع للاحتراز عن الإعتاق والتدبير، فإنهما لا يحتملان النقض م: (وما له من حق الدعوى لا يحتمله) ش: أي النقض م: (فينقض البيع لأجله) ش: أي لأجل ماله في حق الدعوة م: (وكذا) ش: أي الحكم م: (إذا كاتب الولد أو رهنه أو أجره أو كاتب الأم أو رهنها أو زوجها ثم كاتب الدعوة) ش: أي وجدت الدعوى للبائع بعد وجود كتابة المشتري أو رهنه أو كتابته أو كتابة الأم أو رهنها أو تزويجها تصح هذه الدعوى، وتنقض هذه الأشياء م: (لأن هذه العوارض) ش: وهي الأشياء المذكورة م: (تحتمل النقض فينتقض ذلك كله، وتصح الدعوى) ش: أي من البائع.
م: (بخلاف الإعتاق والتدبير على ما مر) ش: أشار به إلى قوله " لأنه لا يحتمل النقض "(9/418)
وبخلاف ما إذا ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع حيث لا يثبت النسب من البائع لأن النسب الثابت من المشتري لا يحتمل النقض، فصار كإعتاقه.
قال: ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه لأنهما من ماء واحد، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر، وهذا لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر، فلا يتصور علوق الثاني حادثا، لأنه لا حبل لأقل من ستة أشهر. وفي " الجامع الصغير ": إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري، ثم ادعى البائع الذي في يده فهما ابناه، وبطل عتق المشتري لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق والدعوى ملكه، إذ المسألة مفروضة فيه ثبت به حرية الأصل، فيثبت نسب الآخر وحرية الأصل فيه ضرورة لأنهما توأمان، فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حرية الأصل، فبطل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبخلاف ما إذا ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع حيث لا يثبت النسب من البائع، لأن النسب الثابت من المشتري لا يحتمل النقض، فصار كإعتاقه) ش: أي إعتاق المشتري، وذكر هذه المسائل من " المبسوط " تفريعاً على مسألة " الجامع الصغير ".
[ادعى نسب أحد التوأمين]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن ادعى نسب أحد التوأمين) ش: التوأم اسم للولد إذا كان معه آخر في بطن واحد، ويقال هما توأمان كما يقال: هما زوجان قولهما هما توأم زوج خطأ؛ كذا في " المغرب ". وقال شمس الأئمة: يجوز أن يقال: غلامان توأم وتوأمان، قال: ذكر التوأم مكان التوأمين صحيح في اللغة م: (ثبت نسبهما منه) ش: أي نسب التوأمين من المدعي م: (لأنهما) ش: خلقاً م: (من ماء واحد، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر، وهذا) ش: أشار به إلى قوله فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت الآخر "، م: (لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر) ش: إنما قيد بذلك لأنه إذا كان بينهما ستة أشهر فصاعداً بتوأمين، لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر م: (فلا يتصور علوق الثاني حادثاً، لأنه لا حبل في أقل من ستة أشهر) .
م: (وفي " الجامع الصغير ") ش: إنما أعاد لفظ " الجامع " لما فيه من زيادة وهي قوله " ولداً عنده " م: (إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الذي في يده) ش: أنه ابنه م: (فهما ابناه وبطل عتق المشتري لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق ولدعوى ملكه، إذا المسألة مفروضة فيه) ش: أي لأن المسألة مقدرة فيما إذا كان أصل العلوق في ملكه، وذلك فيما إذا جاء بهما لأقل من ستة أشهر من يوم باع، وقوله م: (ثبت به حرية الأصل) .
ش: جواب: لما إذا كان كذلك، م: (فيثبت نسب الآخر وحرية الأصل) ش: أي وتثبت حرية الأصل م: (فيه) ش: أي في الآخر م: (ضرورة) ش: بالنصب، أي من حيث الضرورة، وعلله بقوله: م: (لأنهما توأمان فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حرية الأصل فبطل) ش: أي عتق(9/419)
بخلاف ما إذا كان الولد واحدا؛ لأن هناك يبطل العتق فيه مقصودا لحق دعوى البائع، وهنا ثبت تبعا لحريته في حرية الأصل فافترقا. وإن لم يكن أصل العلوق في ملكه ثبت نسب الولد الذي عنده، ولا ينقض البيع فيما باع، لأن هذه دعوى تحرير لانعدام شاهد الاتصال، فيقتصر على محل ولايته.
قال: وإن كان الصبي في يد رجل فقال هو ابن عبدي فلان الغائب، ثم قال: هو ابني لم يكن ابنه أبدا، وإن جحد العبد أن يكون ابنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشتري؛ وقال الكاكي: والضمير المستكن في " بطل " راجع إلى كل واحد من العتق والشراء.
م: (بخلاف ما إذا كان الولد واحدا، لأن هناك يبطل العتق فيه مقصوداً) ش: أي بالقصد م: (لحق دعوى البائع) ش: أي لأجل حق دعوى البائع م: (وهنا) ش: أي في مسألة التوأمين م: (ثبت تبعاً) ش: أي يثبت بطلان عتق المشتري بطريق التبعية م: (لحريته فيه حرية الأصل) ش: أي لحرية المشتري بفتح الراء الذي كانت الحرية في حرة الأصل، ومن ضرورته ثبوت حرية الأصل فيه ثبوت حرية الأصل الآخر ضمناً وتبعاً، لأنهما توأمان، وعلى هذا قوله " حرية الأصل " مجرور بدل من قوله " لحريته ".
وقال الأترازي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص بسبيل المدح بتأويل أعنى؛ وقال الأكمل: ولحريته حرية الأصل بدل من قوله " لحريته " م: (فافترقا) ش: أي حكم ما إذا كان الولد واحداً وحكم التوأمين.
م: (وإن لم يكن) ش: وفي بعض النسخ: فإن لم يكن م: (أصل العلوق في ملكه) ش: أي في ملك المدعي م: (ثبت نسب الولد الذي عنده) .
ش: وقال شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في " شرح الكافي "، للحاكم الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا ولدت أمة الرجل ولدين في بطن واحد ولم يكن أصل الحبل عنده، فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعاهما البائع فهما ابناه م: (ولا ينقض البيع فيما باع، لأن هذه دعوى تحرير) ش: لأنه لم يكن أصل علوقها في ملك البائع. وقال المصنف: م: (لانعدام شاهد الاتصال) ش: أي اتصال العلوق بملكه يقيناً م: (فيقتصر) ش: هذا العتق م: (على محل ولايته) ش: وصار كالبائع أعتقها فتعتق على من في ملكه فحسب.
[الصبي في يد رجل فقال هو ابن عبدي فلان الغائب ثم قال هو ابني]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإن كان الصبي في يد رجل فقال هو ابن عبدي فلان الغائب، ثم قال: هو ابني لم يكن ابنه أبداً، وإن جحد العبد أن يكون ابنه) ش: كلمة " إن " واصلة بما قبلها.
قال الكاكي: قوله " عبداً " يعني سواء صدقه العبد الغائب أو كذبه أو لم يعرف منه تكذيب ولا تصديق، لأن إقراره بثبوت نسبه من الغير ينفي ثبوت النسب منه، إذا إقراره حجة في حقه(9/420)
وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إذا جحد العبد فهو ابن المولى. وعلى هذا الخلاف إذا قال: هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه. لهما: أن الإقرار يرتد برد العبد، فصار كأن لم يكن الإقرار والإقرار بالنسب يرتد بالرد. وإن كان لا يحتمل النقض، ألا ترى أنه يعمل فيه الإكراه والهزل، فصار كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشتري فكذبه البائع ثم قال: أنا أعتقته يتحول الولاء إليه. بخلاف ما إذا صدقه لأنه يدعي بعد ذلك نسبا ثابتا من الغير، وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه، فيصير كولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن؛ لأن له أن يكذب نفسه ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته والإقرار بمثله لا يرتد بالرد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكر م: (عند أبي حنيفة) .
م: (وقالا: إذا جحد العبد فهو ابن المولى) ش: يعني إذا ادعى لنفسه بعد جحود العقد. وفي " جامع المحبوبي " فلو حضر العبدان صدق المولى أو كذبه أو لم يكذبه، ففي الوجه الأول والثالث: تصح دعوى المولى بعد ذلك إجماعاً. وفي الوجه الثاني لم تصح دعوته خلافاً لهما، لكن يعتق عليه وإن لم يثبت نسبه من المولى، م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (وإذا قال: هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه) ش: حيث لا يكون ابنه عنده، خلافا لهم.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (أن الإقرار يرتد برد العبد، فصار كأن لم يكن الإقرار، والإقرار بالنسب يرتد بالرد، وإن كان لا يحتمل النقض) ش: أي وإن كان النسب لا يحتمل أن ينقض، ثم أوضح ذلك بقوله م: (ألا ترى أنه) ش: أي أن الإقرار بالنسب م: (يعمل فيه الإكراه) ش: حتى لو أكره بالإقرار بنبوة عبد فأقر لا يجوز م: (والهزل) ش: أي ويعمل فيه الهزل بأن أقر به هازلاً فإنه لا يثبت م: (فصار) ش: هذا نظير م: (كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشتري فكذبه البائع، ثم قال) ش: أي المشتري: م: (أنا أعتقته يتحول الولاء إليه) ش: أي إلى المشتري.
م: (بخلاف ما إذا صدقه) ش: مولى، أي البائع م: (لأنه يدعي بعد ذلك نسباً ثابتا من الغير) ش: وهو لا يصح م: (وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه، لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه) ش: فلا تصح دعوى المولى بعد ذلك، م: (فيصير كولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن، لأن له) ش: أي للملاعن م: (أن يكذب نفسه) ش: فتصح دعوته.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته) ش: وهذا بالاتفاق، وما كان كذلك لا يرتد، م: (والإقرار بمثله) ش: أي بمثل ما لا يحتمل النقض م: (لا يرتد بالرد) ش:(9/421)
فبقي فتمتنع دعوته كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة ثم ادعاه لنفسه، وهذا لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقها، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه، وكذا تعلق به حق الولد فلا يرتد برد المقر له. ومسألة الولاء على هذا الخلاف، ولو سلم فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب، وقد اعترض على الولاء الموقوف ما هو أقوى، وهو دعوى المشتري فيبطل به، بخلاف النسب على ما مر، وهذا يصلح مخرجا على أصله فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوة بعد ذلك فيقطع دعواه بإقراره بالنسب لغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعد ثبوته بالتكذيب م: (فبقي) ش: أي فبقي الإقرار في حق المقر وإن لم يثبت في حق المقر له، كما إذا أقر بعتق عبد الغير وكذبه الملك، ثم اشتراه يعتق عليه م: (فتمتنع دعوته) ش: أي دعوة المقر م: (كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة) ش: من قرابة أو فسق م: (ثم ادعاه لنفسه) ش: أي ثم ادعاه الشاهد لنفسه لم تصح دعوته، م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله " لا يحتمل النقض " م: (لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقها، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه) ش: فصار كالذي لم يصدقه ولم يكذبه، ولا يلزم على هذا إذا أقر بمال فرد المقر له ثم ادعاه، لأن الأملاك تنفسخ بالرد فيبطل الإقرار ولم يبق إلا حق المقر، فجاز أن يدعي.
م: (وكذا تعلق به حق الولد يرتد برد المقر له) ش: لأن المقر لا يقدر على إبطاله، لأن ليس حقه على الخلوص م: (ومسألة الولاء) ش: هذا جواب عن استشهادهما بها، تقريره: أن مسألة الولاء ليس بحجة على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنها م: (على هذا الخلاف) ش: فلا ينتهض شاهد، م: (ولو سلم) ش: يعني ولئن سلمنا أنها على الاتفاق فنقول بين الولاء وبين النسب فرق، أشار إليه بقوله م: (فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى) ش: أي باعتراض ما هو الأقوى م: (كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب) ش: صورته معتقة تزوجت بعبد وولدت منه أولاداً، فإذا أعتق العبد جر الولاء إلا الأولاد إلى نفسه، هكذا روي عن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وقد اعترض) ش: هنا م: (على الولاء الموقوف) ش: هو الولاء من جانب البائع وسماه موقوفاً لأنه على فرضية التصديق بعد التكذيب م: (ما هو أقوى، وهو دعوى المشتري) ش: ودعواه أقوى لقيام ملكه في الحال، فكان دعوى الولاء إلى نفسه بسبب الاعتقاد مصادفا محله لوجود شرطه، وهو قيام الملك م: (فيبطل) ش: أي الولاء م: (بخلاف النسب) ش: حيث لا يجوز نقضه بعد ثبوته فلم يبطل، فلم تصح دعوى المولى بعد إقراره أنه ابن عبدي م: (على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: " إن النسب مما لا يحتمل النقض " م: (وهذا) ش: أي قوله " هذا ابن عبدي فلان الغائب " م: (يصلح مخرجاً) ش: أي حيلة م: (على أصله) ش: أي على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوة بعد ذلك، فيقطع دعواه بإقراره النسب لغيره) ش: توضيحه(9/422)
قال: وإذا كان الصبي في يد مسلم ونصراني فقال النصراني: هو ابني، وقال المسلم: هو عبدي فهو ابن النصراني وهو حر، لأن الإسلام مرجح فيستدعي تعارضا، ولا تعارض لأن نظر الصبي في هذا أوفر، لأنه ينال شرف الحرية حالا وشرف الإسلام مآلا إذ دلائل الوحدانية ظاهرة، وفي عكسه الحكم بالإسلام تبعا، وحرمانه عن الحرية لأنه ليس في وسعه اكتسابها. ولو كانت دعوتهما دعوة البنوة فالمسلم أولى ترجيحا للإسلام وهو أوفر النظرين.
قال: وإذا ادعت امرأة صبيا أنه ابنها لم يجز دعواها حتى تشهد امرأة على الولادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رجل في يد وصي ولد على ملكه ويبيعه ولا ما من المشتري أن يدعيه فينقض البيع مخيلة إلا من انتقاض البيع أن يقر البائع أنه ابن عبدي الغائب، فإن بعد هذا الإقرار لا تصح دعوته عبداً فيأمن المشتري من انتقاض البيع. وفي " الفوائد الظهيرية ": الحيلة في هذه المسألة على قول الكل أن يقر البائع أن هذا ابن عبدي الميت حتى لا يأتي فيه تكذيب، فيكون مخرجا على قول الكل.
[الصبي في يد مسلم ونصراني فقال النصراني هو ابني وقال المسلم هو عبدي]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان الصبي في يد مسلم ونصراني فقال النصراني: هو ابني، وقال المسلم: هو عبدي فهو ابن النصراني وهو حر، لأن الإسلام مرجح) ش: بكسر الجيم م: (فيستدعي تعارضاً) ش: لأن الترجيح يستدعي التعارض م: (ولا تعارض) ش: ها هنا م: (لأن نظر الصبي في هذا) ش: أي في كونه ابن النصراني، وكونه حراً م: (أوفر) ش: أي أكثر منفعة م: (لأنه ينال شرف الحرية حالاً وشرف الإسلام مآلا إذ دلائل الوحدانية ظاهرة) ش: فيمكنه اكتساب الإسلام بنفسه م: (وفي عكسه الحكم بالإسلام تبعاً) ش: إما لأبيه أو لمولاه م: (وحرمانه عن الحرية؛ لأنه ليس في وسعه اكتسابها) ش: أي اكتساب الحرية. ولقائل أن يقول: هذا مخالف الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] (البقرة: الآية 221) ، ودلائل التوحيد، وإن كانت ظاهرة، لكن الإلف بالدين مانع قوي ألا ترى إلى كفر آبائه مع ظهور دلائل التوحيد.
وأجيب: بأن قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] (الأحزاب: الآية 5) ، يوجب دعوة الأولاد لآبائهم بدعوى النسب، لأن دعوته لا تحتمل النقض فتعارضت الآيتان. وفي الأحاديث الدلالة على الرحمة بالصبيان [.....] ، وكانت أقوى من التابع، وكفور الآباء جحود، والأصل عدمه م: (ولو كانت دعوتهما) ش: أي دعوة المسلم والنصراني م: (دعوة البنوة فالمسلم أولى ترجيحاً للإسلام وهو أوفر النظرين:) ش: نظر الإسلام ونظر البنوة؛ وقال زفر: يستويان؛ وقال الشافعي: بحكم العائف.
[ادعت امرأة صبيا أنه ابنها]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي " الجامع الصغير ": م: (وإذا ادعت امرأة صبياً أنه ابنها لم تجز دعواها، حتى تشهد امرأة على الولادة) ش: هذا لفظ " الجامع ".(9/423)
ومعنى المسألة: أن تكون المرأة ذات زوج لأنها تدعي تحميل النسب على الغير فلا تصدق إلا بحجة، بخلاف الرجل لأنه يحمل نفسه النسب ثم شهادة القابلة كافية فيها لأن الحاجة إلى تعيين الولد. أما النسب يثبت بالفراش القائم، وقد صح أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل شهادة القابلة على الولادة. ولو كانت معتدة فلا بد من حجة تامة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد مر في الطلاق. وإن لم تكن منكوحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومعنى المسألة: أن تكون المرأة ذات زوج لأنها تدعي تحميل النسب على الغير، فلا تصدق إلا بحجة) ش: وهي شهادة القابلة، لأن الولادة مما لا يحضرها الرجال، فإذا شهدت قابلة يثبت النسب، وإذا لم يكن لها زوج فالقول لها من غير بينة كما في الرجل.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: لم يكن ثمة منازع، وأما إذا كان المنازع ينكر بأن ادعت النسب من رجل والرجل حاضر ينكر ذلك، فإنه لا يثبت ذلك بشهادة القابلة عندهم جميعاً، وإنما يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين عندهم جميعاً.
وإذا كانت المنازعة لها بامرأة أخرى ففي رواية أبي سليمان يقضى بالنسب بينهما إذا أقامت كل واحدة منهما امرأة واحدة، وفي رواية أبي حفص لا يقضى بالنسب من واحدة منهما ما لم تقم كل واحدة منهما رجلين أو رجل وامرأتين.
م: (بخلاف الرجل لأنه يحمل نفسه النسب) ش: فلا يحتاج فيه إلى حجة م: (ثم شهادة القابلة كافية فيها لأن الحاجة إلى تعيين الولد. أما النسب يثبت بالفراش القائم، وقد صح: «أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قبل شهادة القابلة على الولادة» .
ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " عن محمد بن عبد الملك الواسطي عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أجاز شهادة القابلة» . ثم قال الدارقطني: محمد بن عبد الملك لم يسمع من الأعمش، بينهما رجل مجهول، وهو أبو عبد الرحمن المدايني.
وقال في " التنقيح ": هذا حديث لا أصل له، وتقدم الكلام فيه في كتاب الشهادات. م: (ولو كانت معتدة) ش: أي ولو كانت المرأة التي تدعي نسب ابن على زوجها معتدة من طلاق أو وفاة م: (فلا بد من حجة تامة) ش: هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إلا أن يكون هناك حبل ظاهر أو اعتراف من قبل الزوج، فيثبت النسب من غير شهادة.
وقال أبو يوسف ومحمد في الجميع بشهادة امرأة واحدة، م: (وقد مر في الطلاق) ش: أي في كتاب الطلاق في باب ثبوت النسب، م: (وإن لم تكن) ش: أي المرأة م: (منكوحة) ش: أي غير(9/424)
ولا معتدة. قالوا: يثبت النسب منها بقولها، لأن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها. وإن كان لها زوج وزعمت أنه ابنها منه وصدقها الزوج فهو ابنهما. وإن لم تشهد امرأة لأنه التزم نسبته فأغنى ذلك عن الحجة.
وإن كان الصبي في أيديهما وزعم الزوج أنه ابنه من غيرها، وزعمت أنه ابنها من غيره فهو ابنهما، لأن الظاهر أن الولد منهما لقيام أيديهما أو لقيام الفراش بينهما، ثم كل واحد منهما يريد إبطال حق صاحبه، فلا يصدق عليه، وهو نظير ثوب في يد رجلين يقول كل واحد منهما هو بيني وبين رجل آخر غير صاحبه يكون الثوب بينهما، إلا أن هناك يدخل المقر له في نصيب المقر؛ لأن المحل يحتمل الشركة، وهاهنا لا يدخل لأن النسب لا يحتملها.
قال: ومن اشترى جارية فولدت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذات زوج م: (ولا معتدة) ش: أي وإن لم تكن معتدة أيضاًَ؛ م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى - م: (يثبت النسب منها بقولها، لأن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها) ش: دون نفس غيرها.
م: (وإن كان لها زوج وزعمت أنه ابنها منه) ش: أي أن الولد من زوجها م: (وصدقها الزوج) ش: أي صدقها في دعواها م: (فهو ابنهما، وإن لم تشهد امرأة لأنه) ش: أي لأن الزوج م: (التزم نسبته فأغنى ذلك عن الحجة) ش: إذ ليس فيه تجهيل النسب على الغير.
[الصبي في أيديهما وزعم الزوج أنه ابنه من غيرها وزعمت أنه ابنها من غيره]
م: (وإن كان الصبي في أيديهما وزعم الزوج أنه ابنه من غيرها، وزعمت أنه ابنها من غيره فهو ابنهما) ش: هذا إذا كان الصبي لا يعبر عن نفسه، فإن كان يعبر عن نفسه فالقول له أيهما صدق ثبت نسبته منه بتصديقه؛ وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يعتبر تصديقه.
وقال التمرتاشي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - التناقض لا يمنع صحة دعوى النسب، حتى لو قال رجل هو ابني منك في نكاح، وقالت ابنك مني من زنا لم يثبت النسب بينهما لعدم اتفاقهما في النكاح. فلو قالت بعد ذلك: ابنك مني في نكاح يثبت لما قلنا.
وفي " الإيضاح ": دعوى النسب لا تبطل بالتناقض، لأن التناقض يكون بين المتساويين، ولا مساواة بينهما، فإن دعوى النسب أقوى من النفي، م: (لأن الظاهر أن الولد منهما لقيام أيديهما أو لقيام الفراش بينهما، ثم كل واحد منهما يريد إبطال حق صاحبه فلا يصدق عليه، وهو نظير ثوب في يد رجلين يقول كل واحد منهما هو بيني وبين رجل آخر غير صاحبه يكون الثوب بينهما) ش: فكذا هذا، م: (إلا أن هناك) ش: أي في مسألة الثوب الذي في يد رجلين، م: (يدخل المقر له في نصيب المقر، لأن المحل يحتمل الشركة، وههنا) ش: أي في مسألة دعوى النسب م: (لا يدخل لأن النسب لا يحتملها) ش: أي الشركة.
[اشترى جارية فولدت ولدا عنده فاستحقها رجل]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية فولدت(9/425)
ولدا عنده فاستحقها رجل غرم الأب قيمة الولد يوم يخاصم، لأنه ولد المغرور، فإن المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح، فتلد منه ثم تستحق، وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن النظر من الجانبين واجب، فيجعل الولد حر الأصل في حق أبيه رقيقا في حق مدعيه نظرا لهما، ثم الولد حاصل في يده من غير صنعه، فلا يضمنه إلا بالمنع كما في ولد المغصوبة، فلهذا تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة، لأنه يوم المنع.
ولو مات الولد لا شيء على الأب لانعدام المنع، وكذا لو ترك مالا، لأن الإرث ليس ببدل عنه والمال لأبيه لأنه حر الأصل في حقه فيرثه. ولو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولداً عنده فاستحقها رجل غرم الأب قيمة الولد يوم يخاصم، لأنه ولد المغرور) ش: وفسر المغرور بقوله: م: (فإن المغرور من يطأ امرأة معتمداً على ملك يمين أو نكاح فتلد منه ثم تستحق، وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: كذا قال أبو بكر الرازي في " شرحه لمختصر الطحاوي " في كتاب النكاح. قال: لا خلاف بين الصدر الأول وفقهاء الأمصار: أن ولد المغرور حر الأصل، ولا خلاف أيضاً بين السلف: أنه مضمون على الأب، إلا أن السلف اختلفوا في كيفية ضمانه.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تبدلا الغلام بالغلام والجارية بالجارية، يعني إن كان الولد غلاماً فعلى الأب غلام مثله، وإن كان جارية فعليه جارية. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قيمتها، وإليه ذهب أصحابنا.
م: (ولأن النظر من الجانبين) ش: جانب المغرور وجانب المستحق م: (واجب فيجعل الولد حر الأصل في حق أبيه رقيقاً في حق مدعيه نظراً لهما) ش: أي للمغرور والمستحق م: (ثم الولد حاصل في يده) ش: هذا بيان لسبب الضمان وهو المنع، أي الولد في يده م: (من غير صنعه) ش: يعني من غير تعد منه م: (فلا يضمنه إلا بالمنع كما في ولد المغصوبة) ش: أي الجارية المغصوبة فإن ولدها أمانة لا يضمن إلا بالمنع م: (فلهذا) ش: أي فلأجل كون الضمان بالمنع م: (تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة؛ لأنه يوم المنع) ش: في " شرح الطحاوي ": تعتبر قيمته يوم القضاء بالقيمة.
م: (ولو مات الولد) ش: أي قبل الخصومة م: (لا شيء على الأب لانعدام المنع، وكذا) ش: لا شيء عليه م: (لو ترك مالاً) ش: أي لو مات ولد المغرور وترك مالاً ميراثاً لأبيه م: (لأن الإرث ليس ببدل عنه) ش: أي عن الولد حتى يكون منعه كمنع الولد، إنما قال ذلك مع احتراز عن الدية فإنها بدله عنه وكان هذا الدفع شبهة وهي أن يقال: لما توجد دية تقوم الدية مقام الولد في المنع فينبغي أن يجعل منع تركته كمنع ديته.
فقال في جوابه: الإرث ليس ببدل عنه م: (والمال لأبيه، لأنه حر الأصل في حقه فيرثه. ولو(9/426)
قتله الأب يغرم قيمته لوجود المنع، وكذا لو قتله غيره فأخذ ديته لأن سلامة بدله له كسلامته ومنع بدله كمنعه فيغرم قيمته. كما إذا كان حياً ويرجع بقيمة الولد على بائعه لأنه ضمن له سلامته كما يرجع بثمنها، بخلاف العقد لأنه لزمه لاستيفاء منافعها، فلا يرجع به على البائع والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قتله الأب يغرم قيمته لوجود المنع) .
م: (وكذا لو قتله غيره) ش: أي غير الأب م: (فأخذ) ش: أي الأب م: (ديته، لأن سلامة بدله له كسلامته) ش: أي كسلامة نفسه م: (ومنع بدله كمنعه فيغرم قيمته، كما إذا كان حياً ويرجع) ش: أي المشتري المغرور بما ضمن م: (بقيمة الولد على بائعه؛ لأنه) ش: أي لأن البائع م: (ضمن له) ش: أي للمشتري م: (سلامته) ش: أي سلامة العبد بجميع أجزائه م: (كما يرجع بثمنها) ش: أي بثمن الأم، لأن المغرور بثمنهما م: (بخلاف العقر) ش: يعني أن المغرور لا يرجع على بائعه بعقد وجب عليه، لأن ضمان المنفعة وهي ليست من أجزاء المبيع حقيقة.
وعند الشافعي: يرجع بالعقد عليه، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (لأنه لزمه) ش: لأن العقد لزم المغرور م: (لاستيفاء منافعها، فلا يرجع به على البائع والله أعلم بالصواب) ش: أي لأنه عوض عما استوفاه من منافع البضع فلا يستوجب الرجوع على غيره، لأنه لو رجع به سلم المستوفى له مجاناً، والوطء في ملك الغير لا يجوز أن يسلم مجاناً.
وفي " المبسوط " ولا يرجع على الواهب والمتصدق والموصي بشيء من قيمة الولد عندنا، وعند الشافعي: يرجع به. ولو باعها المشتري من آخر واستولدها المشتري الثاني يرجع على البائع الثاني بالثمن وبقيمة الولد، ويرجع المشتري الأول على البائع الأول بالثمن، ولا يرجع بقيمة الولد التي رجع عليه المشتري بها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما: يرجع عليه بقيمة الولد أيضاً، والله أعلم بالصواب.(9/427)
(كتاب الإقرار) قال: وإذا أقر الحر البالغ العاقل بحق لزمه إقراره مجهولا كان ما أقر به أو معلوما. اعلم أن الإقرار إخبار عن ثبوت الحق، وأنه ملزم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الإقرار]
[أقر الحر البالغ العاقل بحق]
م: (كتاب الإقرار)
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإقرار. ولما فرغ عن الدعوى شرع في بيان الإقرار لأن جواب الدعوى إما بالإقرار أو بالإنكار، فمن هذه الحيثية نظر المناسبة بين الكتابين.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا أقر الحر البالغ العاقل بحق لزمه إقراره مجهولاً كان ما أقر به أو معلوماً) ش: لما ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرع في شرحه بقوله: م: (اعلم أن الإقرار إخبار عن ثبوت الحق) .
ش: هذا الذي ذكره تفسير الإقرار شرعاً، ولكنه لو قيده بقوله على نفسه، وكان الحد أتم مثل ما قال حافظ الدين النسفي والإقرار إخبار عن ثبوت الحق للغير على نفسه. فقوله عن ثبوت الحق للغير كالجنس لأنه يتناول الشهادة فإنها أيضاً إخبار عن ثبوت الحق للغير، وقوله: على نفسه كالفصل يخرج ذلك، وهذا شأن الحد أن يكون مشتملاً على الجنس والفصل.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الإقرار خلاف الجحود، وأصله من القرار وهو السكون والثبات، وفي عرف أهل الشرع: عبارة عن خبر يوجب شيئاً على المخبر م: (وأنه ملزم) ش: وإن الإقرار ملزم على المقر ما أقر به، وهذا حكم الإقرار وليس هذا من حده وحد ما ذكرنا.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وحكمة ظهور ما أقر به ولزومه لا إثباته ابتداء، ألا ترى أنه لا يصح الإقرار بالطلاق والعتاق مع الإكراه، والإنشاء يصح مع الإكراه عندنا ولهذا قالوا لو أقر بمال لغيره كاذباً والمقول له يعلم أنه كاذب لا يحل له أخذه عن كره منه ديانة إلا أن يسلمه بطيب نفس، فيكون كالتمليك المبتدأ.
وقيل حكمة لزوم ما أقر به على المقر، وعمله إظهار ما أقر به لا التمليك به ابتداء، ويدل عليه مسائل منها لو أقر بصير لا يملكها صح إقراره به، وإن لم يملك تمليكه حتى لو تملكه المقر يوماً من الدهر يؤمر بتسليمه إلى المقر.
ومنها: أن إقرار المسلم بالخمر يصح وإن لم يملك تمليكاً مبتدأ. ومنها أن المريض(9/428)
لوقوعه دلالة، ألا ترى كيف ألزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرجم بإقراره، وتلك المرأة باعترافها، وهو حجة قاصرة لقصور ولاية المقر عن غيره، فيقتصر عليه وشرط الحرية ليصح إقراره مطلقا، فإن العبد المأذون له، وإن كان ملحقا بالحر في حق الإقرار، لكن المحجور عليه لا يصح إقراره بالمال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدهر يؤمر بتسليمه إلى المقر.
ومنها: أن إقرار المسلم بالخمر يصح وإن لم يملك تمليكاً مبتدأ. منها أن المريض الذي لا دين عليه إذا أقر بجميع ماله لأجنبي صح إقراره ولا يتوقف على إجازة الورثة ولو كان تمليك لا ينفذ إلا بقدر الثلث عند عدم الإجازة. ومنها أن العبد المأذون له لو أقر بما في يده صح، ولو تبرع به ابتداء لا يجوز.
وسبب الإقرار إرادة سقوط الواجب عن ذمته. وركنه: ألفاظ فيما يجب به موجب الإقرار وشرطه: العقل والبلوغ بلا خلاف، وفي كون المقر غير سفيه ولا سكون اختلاف. ومحاسنه كثيرة، منها إسقاط الواجب عن ذمته، ومنها إيصال الحق لصاحبه وإرضاء الخالق، ومنها حمد الناس المقر بصدق القول ووفاء العهد. وهو مشروع بالكتاب قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] (النساء: الآية 135) ، قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقرار. وقال تعالى {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، والإملاء إقرار. وبالسنة لما روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً بإقراره» . وبالدليل العقلي وهو أن الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، فرجح جانب الصدق لأنه غير متهم فيه، فإن المال محبوب المرء طبعاً، ولا يقر لغيره كاذباً مع كمال عقله ودينه، فالزواجر شرعاً عن الكذب.
م: (لوقوعه دلالة) ش: أي لوقوع الإقرار دلالة على وجود المخبر به، لأن الإقرار دائر بين الصدق والكذب ويترجح جانب الصدق لما ذكرنا الإقرار، هذا إيضاح لقوله وأنه ملزم م: (ألا ترى كيف ألزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزاً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الرجم بإقراره) ش: أي بسبب إقراره م: (وتلك المرأة باعترافها،) ش: أي كيف ألزم المرأة، يعني الغامدية امرأة من غامد الأزد بالرجم بسبب اعترافها بالزنا، وقد مر قصتها في الحدود م: (وهو) ش: أي الإقرار م: حجة قاصرة) ش: على نفسه م: (لقصور ولاية المقر عن غيره، فيقتصر عليه) ش: بخلاف البينة فإنها حجة متعدية.
م: (وشرط الحرية) ش: يعني في صحة الإقرار م: (ليصح إقراره مطلقاً) ش: أي في المال وغيره م: (فإن العبد المأذون له، وإن كان ملحقاً بالحر في حق الإقرار، لكن المحجور عليه لا يصح إقراره بالمال) ش: أما المأذون له: فلأنه مسلط على الإقرار من جهة المولى، وأما المحجور: عليه لا(9/429)
ويصح بالحدود والقصاص؛ لأن إقراره عهد موجبا لتعلق الدين برقبته وهي مال المولى فلا يصدق عليه، بخلاف المأذون له، لأنه مسلط عليه من جهته، وبخلاف الحد والدم لأنه يبقى على أصل الحرية في ذلك، حتى لا يصح إقرار المولى عليه فيه،
ولا بد من البلوغ والعقل لأن إقرار الصبي والمجنون غير لازم لانعدام أهلية الالتزام، إلا إذا كان الصبي مأذونا له لأنه ملحق بالبالغ بحكم الإذن وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصح إقراره بالمال فلعدم أهليته لذلك م: (ويصح بالحدود والقصاص) ش: أي ويصح إقرار العبد المحجور عليه بالحدود والقصاص لأنه مبقي على الحرية فيها على ما بينه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مفصلاً، م: (لأن إقراره) ش: دليل ذلك المجموع، أي لأن إقرار العبد المحجور م: (عهد) ش: أي عرف م: (موجباً لتعلق الدين برقبته وهي) ش: أي رقبته م: (مال المولى، فلا يصدق عليه) ش: لقصور الحجة.
م: (بخلاف المأذون له، لأنه مسلط عليه) ش: أي على الإقرار م: (من جهته) ش: أي من جهة المولى، لأن الإذن بالتجارة إذن بما يلائمها، وهو دين التجارة، لأن الناس لا يتابعونه إذا علموا أن إقراره لا يصح، هذا قد لا يتهيأ لهم الإشهاد في كل تجارة يعملونها معه. م: (وبخلاف الحد والدم) ش: وهو القصاص م: (لأنه) ش: أي لأن العبد م: (يبقى على أصل الحرية في ذلك، حتى لا يصح إقرار المولى عليه) ش: أي على العبد م: (فيه) ش: أي في ذلك، وبه قال الشافعي: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومالك وأبو الخطاب الحنبلي. وعن أحمد أن إقرار العبد بالحد والقصاص فيما دون النفس يصح، وإقراره إنما يوجب القصاص في النفس لا يقبل ويتبع بعد العتق، وبه قال: زفر والمزني وداود ومحمد بن جرير الطبري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
[إقرار الصبي والمجنون]
م: (ولا بد من البلوغ والعقل؛ لأن إقرار الصبي والمجنون غير لازم لانعدم أهلية الالتزام) ش: فلا يلزم بإقراره شيء، م: (إلا إذا كان الصبي مأذوناً له) ش: في التجارة م: (لأنه ملحق بالبالغ بحكم الإذن) ش: فيصح إقراره لاعتبار زائد برأي المولى، فيعتبر كالبالغ، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصح إقراره مطلقاً، ثم لو ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت إمكانه صدق فيه، وبالسن لا يصدق إلا ببينته، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -: في رواية، والنائم والمغمى عليه كالمجنون لعدم معرفتهما، ولا نعلم فيه خلافاً.
وإقرار السكران يصح بالحقوق كلها إلا بالحدود الخالصة والردة وينفذ سائر التصرفات من السكران كما تنفذ في الصاحي، وقد مر في الطلاق م: (وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن(9/430)
الحق قد يلزمه مجهولا بأن أتلف مالا لا يدري قيمته أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها أو تبقى عليه باقية حساب لا يحيط به علمه، والإقرار إخبار عن ثبوت الحق فيصح به بخلاف الجهالة في المقر له؛ لأن المجهول لا يصح مستحقا ويقال له بين المجهول لأن التجهيل من جهته، فصار كما إذا أعتق أحد عبديه، فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان، لأنه لزم الخروج عما لزمه بصحيح إقراره، وذلك بالبيان.
قال: فإن قال: لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة، لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته، وما لا قيمة له لا يجب فيها، فإذا بين غير ذلك يكون رجوعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحق قد يلزمه مجهولاً بأن أتلف مالاً لا يدري قيمته أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها أو تبقى عليه باقية حساب لا يحيط به علمك، والإقرار إخبار عن ثبوت الحق، فيصح به) ش: أي يكون المقر به مجهولاً.
م: (بخلاف الجهالة في المقر له؛ لأن المجهول لا يصح مستحقاً) ش:، وفي " الذخيرة ": جهالة المقر له إنما يمنع صحة الإقرار إذا كانت متفاحشة، بأن قال هذا العبد لواحد من الناس، أما إذا لم تكن متفاحشة لا يمنع بأن قال: هذا العبد لأحد هذين الرجلين.
وقال شمس الأئمة السرخسي: لا يصح في هذه الصورة أيضاً، لأنه إقرار للمجهول م: (ويقال له) ش: أي للمقر م: (بين المجهول لأن التجهيل من جهته فصار كما إذا أعتق أحد عبديه) ش: فإنه يبين أي العبدين أراد م: (فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان، لأنه لزم الخروج عما لزمه بصحيح إقراره، وذلك بالبيان) ش: لأن الإجمال وقع من جهته فعليه البيان، ولكن يبين شيئاً يثبت ديناً في الذمة قل أو كثر، نحو أن يبين له حبة أو فلساً أو جزرة أو ما أشبه ذلك، أما إذا بين شيئاً لا يثبت في الذمة لا يقبل منه، نحو أن يقول: عنيت حق الإسلام، أو كفاً من تراب ونحوه.
كذا في " شرح الطحاوي ". وبقولنا قالت الأئمة الثلاثة. وعن الشافعي في قول: إن وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع عن التفسير يجعل ذلك إنكاراً ويعرض عليه اليمين، فإن أقر جعل ناكلاً عن اليمين، ويحلف المدعي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن قال لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة) ش: قل أو أكثر نحو حبة وفلسى كما ذكرنا، لأن ما ليس له قيمة لا يثبت في الذمة، فإذا فسر ما أقر له بذلك صار كالرجوع عما أقر به فلا يقبل منه م: (لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته وما لا قيمة له لا يجب فيها) ش: أي في الذمة م: (فإذا بين غير ذلك) ش: أي غير ما لا قيمة له م: (يكون رجوعاً) ش: عن إقراره فلا يسمع ويقبل تفسيره بالكل.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يقبل. ولو فسر ميتة أو خنزير أو خمر قبل قوله في قول مشايخ العراق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد في رواية. وعند مشايخ ما(9/431)
قال: والقول قوله مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك لأنه هو المنكر فيه. وكذا إذا قال: لفلان علي حق لما بينا. وكذا لو قال: غصبت منه شيئا ويجب عليه أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة.
ولو قال: لفلان علي مال فالمرجع إليه في بيانه لأنه هو المجمل ويقبل قوله في القليل والكثير، لأن كل ذلك مال فإنه اسم لما يتمول به، إلا أنه لا يصدق في أقل من درهم لأنه لا يعد مالا عرفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وراء النهر لا يقبل، لأنه لا قيمة لهذه الأشياء، وبه قال مالك والشافعي في وجه م: (قال: والقول قوله مع يمينه، إن ادعى المقر له أكثر من ذلك، لأنه هو المنكر فيه) ش: والقول قول المنكر بالحديث.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يلزمه أن يبين بما له قيمة م: (إذا قال: لفلان علي حق لما بينا) ش: أشار به إلى قوله " أخبر عن الوجوب في ذمته ". وفي " المحيط ": لو قال لفلان " علي حق "، ثم قال: عنيت به حق الإسلام لا يصدق. وإن قال: موصولاً يصدق لأنه بيان تغيير باعتبار العرف.
وقالت الأئمة الثلاثة: لا يصدق في الوجهين م: (وكذا لو قال: غصبت منه شيئاً ويجب عليه أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع) ش: أي الشيخ [ ... ] م: (تعويلاً على العادة) ش: لأن مطلق اسم العصب يدل في العرف على مال مقوم.
[قال لفلان علي مال]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو قال: لفلان علي مال فالمرجع إليه في بيانه لأنه هو المجمل، ويقبل قوله في القليل والكثير) ش: وبه قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه.
وحكي عن مالك ثلاثة أوجه: أحدها: كقولنا. وثانيها: لا يقبل إلا أول نصب عن نصب الزكاة من نوع من أنواعها. وثالثها: لا يقبل، إلا فيما يستباح به العضو، والقطع في السرقة، إلا أنه لا يقبل عندنا في أقل من عشرة دراهم، لأن الكسور لا تعد مالاً، كذا في " المبسوط " م: (لأن كل ذلك مال) ش: أي القليل والكثير مال م: (فإنه) ش: أي فإن المال م: (اسم لما يتمول به، إلا أنه لا يصدق في أقل من درهم؛ لأنه لا يعد مالاً عرفاً) ش: أي الأقل من درهم لا يعد مالاً في عرف الناس.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه " في باب الإقرار: بدراهم غيره مسماة في هذه المسألة إذا بين ما دون الدرهم نصف أو دانق قالوا: القياس أن يصدق. وفي الاستحسان لا يصدق فيما دون الدراهم.
وقال الناطفي في " أجناسه ": وفي " نوادر هشام " قال محمد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولو قال لفلان علي مال له أن يقر بدرهم ثم قال: وقال في " النهار ": ولو قال: لفلان علي مال، قال: هو عشرة دراهم جياد ولا يصدق في أقل منه في قول أبي حنيفة وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو(9/432)
ولو قال: مال عظيم لم يصدق في أقل من مائتي درهم، لأنه أقر بمال موصوف فلا يجوز إلغاء الوصف والنصاب مال عظيم حتى اعتبر صاحبه غنيا به والغني عظيم عند الناس. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصدق في أقل من عشرة دراهم وهي نصاب السرقة؛ لأنه عظيم حيث يقطع به اليد المحترمة، وعنه مثل جواب الكتاب، وهذا إذا قال من الدراهم. أما إذا قال من الدنانير فالتقدير فيها بالعشرين، وفي الإبل بخمس وعشرين لأنه أدنى نصاب يجب فيه من جنسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوسف: يصدق في ثلاثة دراهم ولا يصدق في أقل منه.
م: (ولو قال: مال عظيم لم يصدق في أقل من مائتي درهم) ش: وفي بعض النسخ لا يجوز تصديقه في أقل من مائتي درهم م: (لأنه أقر بمال موصوف، فلا يجوز إلغاء الوصف والنصاب مال عظيم حتى اعتبر صاحبه غنياً به) ش: أي بالنصاب م: (والغني عظيم عند الناس وعن أبي حنيفة أنه لا يصدق في أقل من عشرة دراهم، وهي نصاب السرقة؛ لأنه عظيم حيث تقطع به اليد المحترمة، وعنه) ش: أي وعن أبي حنيفة م: (مثل جواب الكتاب) ش: أي مثل جواب القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في: أنه لا يصدق في أقل من مائتي درهم.
وقال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يقبل تفسيره في قوله مال عظيم أو كثير أو جليل أو خطير بالقليل والكثير. وقال بعض أصحاب مالك: قدر الدية. وقال الليث: الكثير اثنان وسبعون لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] (التوبة: الآية 25) ، وغزواته اثنان وسبعون وفيه بعد. وفي " الفتاوى الصغرى ": لو قال: مالي نفيس أو كثير أو خطير أو جليل.
قال الناطفي: لم أجده منصوصاً. كان الجرجاني يقول: مائتان. ونقل في " الأجناس " عن " نوادر هشام " عن محمد لو قال: علي مال لا قليل ولا كثير يلزمه مائتي درهم.
وقال شمس الأئمة البيهقي في " كفايته " عن أبي يوسف: قال لفلان علي دراهم مضاعفة يلزمه ستة، لأن أقل الدراهم ثلاثة والتضعيف أقله مرة فيضعف مرة. ولو قال له: علي دراهم أضعافاً مضاعفة. وقال: مضاعفة أضعافاً عليه ثمانية عشرة. ولو قال: علي عشرة وأضعافها مضاعفة عليه ثمانون درهماً.
م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا أنه لا يصدق في أقل من مائتي درهم م: (إذا قال) ش: مال عظيم م: (من الدراهم، أما إذا قال: من الدنانير فالتقدير فيها بالعشرين) ش: لأنه النصاب من الدنانير م: (وفي الإبل بخمس وعشرين، لأنه أدنى نصاب يجب فيه من جنسه) ش: كالعشرين من الدنانير والمائتين في الدراهم.(9/433)
وفي غير مال الزكاة بقيمة النصاب. ولو قال: أموال عظام فالتقدير بثلاثة نصب من فن ما سماه اعتبارا لأدنى الجمع. ولو قال دراهم كثيرة لم يصدق أقل من عشرة، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما لم يصدق في أقل من مائتي، لأن صاحب النصاب مكثر حتى وجب عليه مواساة غيره. بخلاف ما دونه. وله أن العشرة أقصى ما ينتهى إليه اسم الجمع، يقال: عشرة دراهم. ثم يقال: أحد عشر درهما، فيكون هو الأكثر من حيث اللفظ وينصرف إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: ينبغي أن يقدر في الإبل بخمسة، لأن صاحبها غني بها وجبت عليه شياه والغني العظيم عند الناس؟
قلت: الخمسة من الإبل عظيم لوجوب الشاة، حقير لعدم الوجوب من جنسه، فيشترط الخمسة والعشرون ليكون عظيماً مطلقاً لإطلاقه، فانصرف المطلق إلى الكامل. وقال الكاكي: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما اشتراط ما يجب فيه من جنسه حتى يكون عظيماً، لأن إيجاب خلاف جنسه إيجاب شاة في خمس من الإبل دليل حقارته وقصوره وقلته.
م: (وفي غير مال الزكاة بقيمة النصاب) ش: أي التقدير في غير مال الزكاة، فلا بد من بيان قيمة النصاب. م: (ولو قال: أموال عظام) ش: يعني لو قال لثلاث: علي أموال عظام م: (فالتقدير بثلاثة نصب من فن ما سماه) ش: يعني من الدراهم ستمائة ومن الدنانير، وعلى هذا قياس الإبل والغنم ولو أقر بهما م: (اعتباراً لأدنى الجمع) ش: وهو ثلاثة م: (ولو قال: دراهم كثيرة) ش: أي ولو قال لفلان علي دراهم كثيرة م: (لم يصدق في أقل من عشرة) ش: دراهم م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وعندهما لم يصدق في أقل من مائتي درهم) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصدق في ثلاثة دراهم ولا يصدق في أقل من ذلك. وكذا لو قال: علي دنانير كثيرة، ذكر الخلاف شيخ الإسلام خواهر زاده في " مبسوطه ".
وقال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كتاب التقريب ": روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قولهما، م: (لأن صاحب النصاب مكثر حتى وجب عليه مواساة غيره) ش: بدفع زكاته وتصدق على الفقير م: (بخلاف ما دونه) ش: لأن من ملك ما دون النصاب لا يسمى تكثراً، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وعند الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه مائتين.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن العشرة أقصى ما ينتهي إليه اسم الجمع) ش: يعني من حيث التمييز، لأن ما بعد العشرة التمييز بالمقرر فيقال أحد عشر درهما، لأنه م: (يقال: عشرة دراهم ثم يقال أحد عشر درهماً، فيكون) ش: أي العشرة م: (هو الأكثر من حيث اللفظ) ش: أي من حيث دلالة اللفظ عليه م: (وينصرف إليه) ش: لأن العمل بما دل عليه اللفظ، ولا مانع من(9/434)
ولو قال: دراهم فهي ثلاثة، لأنها أقل الجمع الصحيح إلا أن يبين أكثر منها لأن اللفظ يحتمله، وينصرف إلى الوزن المعتاد. ولو قال: كذا كذا درهما لم يصدق في أقل من أحد عشر درهما، لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف، وأقل ذلك من المفسر أحد عشر. ولو قال: كذا وكذا لم يصدق في أقل من أحد وعشرين، لأنه ذكر عددين مبهمين بينهما حرف العطف وأقل ذلك من المفسر أحد وعشرون فيحمل كل وجه على نظيره. ولو قال: كذا درهما فهو درهم، لأنه تفسير للمبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصرف إليه فلا يعدل إلى غيره.
م: (ولو قال دراهم فهي ثلاثة، لأنها أقل الجمع الصحيح) ش: الذي لا خلاف فيه، م: (إلا أن يبين أكثر منها) ش: أي من الثلاثة، م: (لأن اللفظ يحتمله) ش: وكونه والأعلية فلا تهمة، م: (وينصرف إلى الوزن المعتاد) ش: بين الناس، لأن المطلق من الألفاظ ينصرف إلى المتعارف وهو غالب نقد البلد.
وفي " تحفة الفقهاء ": لو قال علي بألف درهم فهو على ما يتعارفه أهل البلد من الأوزان أو العدد، وإن لم يكن شيئاً متعارفاً فيحمل على وزن سبعة، فإنه الوزن المعتبر في الشرع، وكذلك في الدينار يعتبرون المثاقيل إلا في موضع يتعارف فيه بخلافه.
م: (ولو قال: كذا كذا درهماً لم يصدق في أقل من أحد عشر درهماً) ش: هذا لفظ القدوري في " مختصره "، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف وأقل ذلك من المفسر أحد عشر) ش: وأكثره تسعة عشر، لأنه يقال: أحد عشر درهما إلى تسعة عشر، إلا أن الأقل يلزمه من غير بيان، والزيادة تعفف على بيانه.
م: (ولو قال: كذا وكذا) ش: درهماً م: (لم يصدق في أقل من أحد وعشرين) ش: درهماً م: (لأنه ذكر عددين مبهمين بينهما حرف العطف، وأقل ذلك من المفسر أحد وعشرون) ش: درهما م: (فيحمل كل وجه على نظيره) ش: تقدير هذا الكلام أن " كذا " كناية عن العدد، والأصل في استعمال اعتباره بالمفسر فما له نظير في الأعداد المفسرة حمل على أقل ما يكون من ذلك النوع وما ليس له ذلك بطل، فإذا قال: كذا درهماً كان كما إذا قال له علي درهم، وإذا قال: كذا كذا كان أحد عشر، وإن ثلث بغير واو لم يزد على ذلك لعدم النظير.
وإذا قال: كذا وكذا كان أحد وعشرين، وإن ثلث بالواو كان مائة وأحد وعشرين، وإن ربع يزاد ألف على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى الآن.
م: (ولو قال: كذا درهماً فهو درهم) ش: أي الذي يلزمه درهم م: (لأنه) ش: أي لأن قوله " درهماً " م: (تفسير للمبهم) ش: وهو قوله " كذا " لأنه كناية عن العدد على سبيل الإبهام، هكذا(9/435)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أورده المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تفريعاً على مسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولم يذكره في الأصل. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله لأنه تفسير للمبهم، يعني أن درهماً منصوب على التمييز، فلزم أن يكون هو المجمل والمبهم.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الإمام شرف الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عمر الأنصاري العقيلي في " كتاب المنهاج ": وإن قال: له علي كذا درهماً لزمه ما بينه، ثم قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان ينبغي أن يلزمه في هذا أحد عشر، لأنه أول العدد الذي يقع تمييزها منصوباً، هكذا نقل عن أهل اللغة. وإذا كان كذلك ينبغي أن لا يصدق في بيانه بدرهم، والقياس فيه ما قاله في " مختصر الأسرار " إذا قال علي كذا درهما لزمه عشرون، لأنه ذكر جملة وفسرها بدرهم منصوب، وذلك يكون من عشرين إلى تسعين فيجب الأقل، وهو عشرون، لأنه بدرهم منصوب متيقن.
وقال تاج الشريعة: فإن قلت: ينبغي أن يجب أحد عشر درهماً، لأنه أقل عدد يجيء تمييزاً منصوباً.
قلت: الأصل براءة الذمة فيثبت الأدنى للتيقن. وفي " الذخيرة " و " التتمة " محال إلى " الجامع الصغير ": يلزمه درهمان، لأن كذا كناية عن العدد وأقل العدد درهمان، والواحد لا يكون عدداً، وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -:
في قوله كذا درهماً وكذا وكذا، ففيه أربعة أوجه: أحدهما: أن يقول: درهماً بالرفع يلزمه درهم، وتقديره شيء هو درهم فيجعل الدرهم بدلاً من كذا.
وثانيها: أن يقول درهم بالجر يلزمه خبر درهم، وكذا يكون كفاية عن خبر درهم.
وثالثها: أن يقول درهماً بالنصب ونصب على التفسير وهو التمييز، فيلزمه درهم.
ورابعها: أن يذكره بالوقف فيقبل تفسيره بجزء درهم أيضاً، لأنه يجوز أن يكون أسقط حركة الجر للوقف.
وقال القاضي الحنبلي وبعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يلزمه درهم في الحالات.
وقال خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كذا درهم بالجر يلزمه مائة درهم، كذا روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه ذكر عدداً مبهماً مرة واحدة، وذكر الدرهم عقيبه بالخفض فيعتد بعدد واحد فصرح ليستقيم ذكر الدرهم عقيبه بالخفض.(9/436)
ولو ثلث كذا بغير واو فأحد عشر، لأنه لا نظير له سواه. وإن ثلث بالواو فمائة وأحد وعشرون، وإن ربع يزاد عليها ألف، لأن ذلك نظيره.
قال: وإن قال: له علي أو قبلي فقد أقر بالدين، لأن علي صيغة إيجاب وقبلي ينبئ عن الضمان على ما مر في الكفالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأقل ذلك مائة درهم، وإن قال: كذا كذا درهم يعني بالجر يلزمه ثلاثمائة، لأنه ذكر عددين مبهمين بلا واو العطف وذكر الدرهم عقيبهما بالخفض، وأقل ذلك من العدد المصرح ثلاثمائة، لأن ثلاث عدد ومائة عدد وليس بينهما عاطف، ويستقيم ذكر الدرهم عقيبها بالخفض.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وما نقله ابن قدامة في " المغني " وصاحب الحنبلي عن محمد أنه ذكر إذا قال كذا درهم لزمه عشرون خلاف ما ذكره في " الهداية " و " التتمة " وفتاوى قاضي خان، ولم أجد في الكتب المشهورة لأصحابنا، وعند ابن الحكم المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه عشرون.
م: (ولو ثلث كذا بغير واو) ش: أي بغير واو العطف م: (فأحد عشر) ش: أي فيلزمه أحد عشر درهماً م: (لأنه لا نظير له سواه) ش: أي لا نظير للتثليث بلا واو، وتقديره: أنه يحمل الواحد منها على التكرار ضرورة عدم ثلاثة أعداد، ويجمع بينهما ذكراً بلا ذكر عاطف، ويحمل الاثنان على أقل ما يعتاد التعبير عنه بذكر عددين بلا عاطف، وهو أحد عشر.
م: (وإن ثلث بالواو) ش: بأن قال: كذا وكذا وكذا م: (فمائة وأحد وعشرون) ش: أي يلزمه مائة وأحد وعشرون درهماً، لأنه عدد يعتاد التعبير عنه بثلاثة أعداد مع العاطف.
م: (وإن ربع) ش: بأن قال: كذا وكذا وكذا وكذا م: (يزاد عليها الألف) ش: فتكون ألف ومائة وأحد وعشرين م: (لأن ذلك نظيره) ش: أي لأن الذي ربعه بواو العطف نظيره في العدد والمفسر، يعني لو قال. علي لفلان ألف ومائة وأحد وعشرون يلزمه ذلك لصراحته، فكذا يلزمه إذا ذكره بلفظ الكناية على العدد.
[قال له علي أو قبلي]
م: (قال وإن قال له: علي أو قبلي فقد أقر بالدين، لأن علي صيغة إيجاب) ش: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] (آل عمران: الآية 97) ، ومحل الإيجاب الذمة م: (وقبلي) ش: أي لفظ قبلي م: (ينبئ عن الضمان) ش: يقال فلان قبل عن فلان أي ضمن، وسمي الكفيل قبيلاً لأنه ضامن للمال، وسمي الصك والذي هو حجة الدين قبالة، وهو ظاهر قول الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (على ما مر في الكفالة) ش: ومر هذا في أوائل كتاب الكفالة، وهو قوله: وكذا إذا قال: أنا به زعيم وقبيل، لأن الزعمة هي الكفالة، وقد مر بنا فيه، والقبيل هو الكفيل ولهذا سمي الصك قبالة.(9/437)
ولو قال المقر: هو وديعة ووصل صدق، لأن اللفظ يحتمل مجازا حيث يكون المضمون عليه حفظه والمال محله، فيصدق موصولا لا مفصولا، قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي بعض نسخ " المختصر " في قوله قبلي أنه إقرار بالأمانة لأن اللفظ ينتظمها، حتى صار قوله: لا حق لي قبل فلان إبراء عن الدين والأمانة جميعا، والأمانة أقلهما، والأول أصح.
ولو قال: عندي أو معي أو في بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهو إقرار بأمانة في يده، لأن كل ذلك إقرار بكون الشيء في يده، وذلك يتنوع إلى مضمون وأمانة، فيثبت أقلهما وهو الأمانة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال المقر: هو وديعة) ش: أي في قوله: " علي " أو " قبلي " م: (ووصل) ش: أي بقوله وديعة م: (صدق، لأن اللفظ يحتمل مجازاً) ش: أي من حيث المجاز، وبينه بقوله م: (حيث يكون المضمون عليه حفظه والمال محله) ش: فكان إطلاق وصف الضمان على الوديعة تسمية للمحل باسم الحال، كما يقال فهو جار لكنه مجاز مخالف للحقيقة فيصدق فيه إذا وصل كالاستثناء، وهو معنى قوله: م: (فيصدق موصولاً لا مفصولا) ش: كما في الاستثناء.
م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي بعض نسخ " المختصر ") ش: يعني مختصر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في قوله: قبلي أنه إقرار بالأمانة، لأن اللفظ ينتظمهما) ش: أي الدين والأمانة م: (حتى صار قوله: لا حق لي قبل فلان إبراء عن الدين والأمانة جميعاً، والأمانة أقلهما) ش: فيحمل عليها م: (والأول أصح) .
ش: وهو أنه إقرار بالدين أصح، ذكره في " المبسوط "، وعلل بأن استعماله في الدين أغلب، فكان الحمل عليه أولى. وقال بعض الشراح: وكان قياس ترتيب وضع المسألة أن يذكر ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثم يذكر ما ذكره في الأصل لأن البداية شرح " مسائل الجامع الصغير " و " القدوري "، إلا أن المذكور في " الأصل " هو التصحيح فقدمه في الذكر.
[الإقرار بكون الشيء في يده]
م: (ولو قال: عندي أو معي أو في بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهو إقرار بأمانة في يده؛ لأن كل ذلك إقرار بكون الشيء في يده) ش: لا في ذمته م: (وذلك) ش: أي الإقرار بكون الشيء في يده م: (يتنوع إلى مضمون وأمانة فيثبت أقلهما وهو الأمانة) ش: وهو ظاهر من مذهب الأئمة الثلاثة.
وقال الأكمل: ونوقض بما إذا قال: له قبلي مائة درهم دين ووديعة ودين. فإنه دين ولم يثبت أقلهما، وهو الأمانة.
وأجيب بأنه ذكر لفظين أحدهما: يوجب الدين، والآخر: يوجب الوديعة والجمع بينهما غير ممكن، وإهمالهما لا يجوز، وحمل الدين على الوديعة حمل الأعلى على الأدنى وهو لا يجوز، لأن الشيء لا يكون تابعاً لما دونه، فتعين العكس.(9/438)
ولو قال له رجل: لي عليك ألف فقال: اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قد قضيتكها فهو إقرار، لأن الهاء في الأول والثاني كناية عن المذكور في الدعوى، فكأنه قال: اتزن الألف التي لك علي حتى لو لم يذكر حرف الكناية لا يكون إقرارا لعدم انصرافه إلى المذكور، والتأجيل إنما يكون في حق واجب والقضاء يتلو الوجوب، ودعوى الإبراء كالقضاء لما بينا. وكذا دعوى الصدقة والهبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال له رجل: لي عليك ألف درهم، فقال: اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قد قضيتكها فهو إقرار) ش: هذا كله لفظ القدوري، وقال المصنف: م: (لأن الهاء في الأول) ش: وهو قوله: اتزنها م: (والثاني كناية عن المذكور في الدعوى، فكأنه قال: اتزن الألف التي لك علي حتى لو لم يذكر حرف الكناية) ش: وهو قوله وهو الهاء م: (لا يكون إقراراً لعدم انصرافه إلى المذكور) ش: أي لعدم انصراف حرف الكناية إلى قوله " انتقد " أو " اتزن ". وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في قوله " اتزن " و " انتقد " لا يكون إقرارا بالهاء وغيره، وبه قال بعض أصحاب مالك، لأنه لم يوجد مثل ذلك فيمن يستهزئ ويبالغ في الجحود فلا يكون إقرارا بالشك.
وعن بعض أصحاب الشافعي: إذا كان بحرف الكناية يكون إقرارا كقولنا. وقال ابن سحنون المالكي: يكون إقراراً في الوجهين، إلا إذا اتزن أو اتزنها ما أبعدك من ذلك، أو قال: من أي ضرب تأخذها ما أبعدك من ذلك، فليس بإقرار.
م: (والتأجيل إنما يكون في حق واجب) ش: لأنه لا يطلب التأجيل في غير دين لازم م: (والقضاء يتلو الوجوب) ش: يعني في قوله " قضيتك " فيلزمه. وبه قالت الأئمة الثلاثة، م: (ودعوى الإبراء كالقضاء) ش: يعني قوله: " أبرني " كالقضاء فيلزمه.
وعن بعض أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قوله: أبرأتني عنه ليس بإقرار م: (لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: " إن القضاء يتلو الوجوب ".
وفي " المحيط " لو قال لي عليك ألف فقال اتزنها أو انتقدها أو اقعد فاقبضها أو خذها أو لم تحل بعد هذا، أو قال غداً أو أرسل من يتزنها أو يقضيها أو قال ليست مهيأة أو ميسرة اليوم. أو قال ما أكثر ما تتقاضى أو عممتني أو حتى يدخل على مالي، أو حتى يجيء غلامي أو يقدم، فهذه كلها تدل على الوجوب.
ولو قال: اتزن أو انتقد أو أخر أو سوف أعطيك، ولم يذكر مع حرف الكناية لا يكون إقراراً. ولو قال: لي عليك ألف فقال: نعم، إقراراً، لأن نعم لا تستقل بنفسه، أما لو قال: لي عليك ألف فأومأ برأسه بنعم لا يكون إقراراً، لأن الإشارة لا تقوم مقام الكلام من غير الأخرس.
م: (وكذا دعوى الصدقة والهبة) ش: بأن قال: تصدقت به علي أو وهبت لي.(9/439)
لأن التمليك يقتضي سابقة الوجوب، وكذا لو قال: أحلتك بها على فلان؛ لأنه تحويل الدين.
قال ومن أقر بدين مؤجل فصدقه المقر له في الدين وكذبه في التأجيل لزمه الدين حالا، لأنه أقر على نفسه بمال وادعى حقا لنفسه فيه، فصار كما إذا أقر بعبد في يده وادعى الإجارة، بخلاف الإقرار بالدراهم السود؛ لأنه صفة فيه وقد مرت المسألة في الكفالة. قال: ويستحلف المقر له على الأجل لأنه منكر حقا عليه، واليمين على المنكر.
وإن قال: له علي مائة درهم لزمه كلها دراهم. ولو قال: مائة وثوب لزمه ثوب واحد، والمرجع في تفسير المائة إليه وهو القياس في الأول، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو والعاطفة لا تفسير لها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن التمليك يقتضي سابقة الوجوب) ش: يعني هذا معنى التمليك منه وهذا لا يكون إلا بعد وجوب المال عليه في ذمته م: (وكذا) ش: أي وكذا يدل على الوجوب.
م: (لو قال: أحلتك بها على فلان؛ لأنه تحويل الدين) ش: من ذمة إلى ذمة.
[أقر بدين مؤجل فصدقه المقرله في الدين وكذبه في الأجل]
م: (قال) ش: أي قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن أقر بدين مؤجل فصدقه المقر له في الدين وكذبه في الأجل لزمه الدين حالاً) ش: وبه قال أبو الخطاب الحنبلي.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: لزمه الدين حالاً، م: (لأنه أقر على نفسه بمال) ش: أي بمال المقر له م: (وادعى حقاً لنفسه فيه) ش: أي في المال فلا يصدق م: (فصار) ش: هذا م: (كما إذا أقر بعبد في يده وادعى الإجارة) ش: لا يصدق في دعوى الإجارة.
م: (بخلاف الإقرار بالدراهم السود) ش: يعني إذا أقر أن لفلان علي دراهم، ولكنها تصدق م: (لأنه) ش: أي لأن للسواد م: (صفة فيه) ش: أي صفة أصلية في الدراهم، لأن الدراهم لا تنطبع إلا بنش، والأجل في الدين عارض لا يثبت بلا شرط.
والقول لمنكر العارض، م: (وقد مرت المسألة في الكفالة) ش: أي في باب الضمان ببيان الفرق، م: (قال ويستحلف المقر له على الأجل؛ لأنه منكر حقاً عليه واليمين على المنكر) ش: بالحديث.
[قال له علي مائة ودرهم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن قال له علي مائة ودرهم) ش: بالرفع م: (لزمه كلها دراهم، ولو قال مائة وثوب، لزمه ثوب واحد، والمرجع في تفسير المائة إليه) .
ش: أي إلى المقر، م: (وهو القياس في الأول) ش: أي لزوم درهم وتفسير المائة في قوله علي مائة ودرهم م: (وبه) ش: أي وبالقياس م: (قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال أحمد في رواية م: (لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو العاطفة لا تفسير لها) ش: للتغاير بين المعطوف عليه(9/440)
فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني. وجه الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا تكرار الدراهم في كل عدد واكتفوا بذكره عقيب العددين، وهذا فيما يكثر استعماله، وذلك عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون. أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها، فبقي على الحقيقة وكذا إذا قال: مائة وثوبان لما بينا، بخلاف ما إذا قال مائة وثلاثة أثواب لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبهما تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف، فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثيابا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني) ش: وهو قوله: علي مائة وثوب.
م: (وجه الاستحسان وهو الفرق) ش: بين الفصلين م: (أنهم) ش: أي العلماء م: (استثقلوا تكرار الدراهم في كل عدد واكتفوا بذكره) ش: أي بذكر الدرهم م: (عقيب العددين) ش: ألا ترى أنهم يقولون أحد وعشرون درهماً يكتفون بذكر الدرهم مرة ويجعلون ذلك تفسيراً للكل م: (وهذا) ش: أي الاستثقال قاله شيخي العلاء.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي كون العطف للبيان م: (فيما يكثر استعماله وذلك) ش: أي كثرة الاستعمال.
م: (عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك) ش: فيما يثبت في الذمة، وهو معنى قوله: م: (في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون) ش: لثبوتها في الذمة في جميع المعاملات حالة ومؤجلة، ويجوز الاستقراض بها، فإذا كثر وجوبها كثر الذكر.
فيعتبر ذلك الجنس في كل عدد، فاكتفى ذكر الجنس في العدد الأخير عن ذكره فيما سبق.
م: (وأما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها) ش: وهذا لا يثبت الثياب في الذمة ديناً إلا سلماً، والشاة لا تثبت ديناً في الذمة أصلاً، م: (فبقي على الحقيقة) ش: أي على الأصل، وهو أن يكون بيان المجمل موقوفا على المجمل لعدم صلاحية العطف للتفسير إلا عند الضرورة، وقد انعدمت.
م: (وكذا) ش: أي يرجع إلى المجمل في البيان م: (إذا قال: مائة وثوبان) ش: فيرجع في بيان المائة إلى المقر م: (لما بينا) ش: أي الثياب وما لا يكال ولا يوزن لا يكثر وجوبها.
م: (بخلاف ما إذا قال: مائة وثلاثة أثواب؛ لأنه ذكر عددين مبهمين) ش: وما مائة وثلاثة وإنما كانا مبهمين، لأنه لا دلالة لهما على جنس من الأجناس م: (وأعقبهما تفسيراً، إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف) ش: حتى تدل على المغايرة م: (فانصرف إليهما) ش: أي إلى العددين م: (لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثياباً) ش: لا يقال الأثواب جمع لا يصلح تمييزاً للمائة لأنها لما اقترنت بالثلاثة صار العدد واحداً.(9/441)
قال: ومن أقر بتمر في قوصرة لزمه التمر والقوصرة وفسره في الأصل بقوله غصبت تمرا في قوصرة، ووجهه أن القوصرة وعاء وظرف له وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف فيلزمانه، وكذا الطعام في السفينة والحنطة في الجوالق، بخلاف ما إذا قال: غصبت تمرا من قوصرة؛ لأن كلمة من للانتزاع فيكون إقرارا بغصب المنزوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أقر بتمر في قوصرة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر بتمر في قوصرة) ش: بالتشديد والتخفيف وهي وعاء للتمر منسوج من قصب، وقيل: إنما يسمى بذلك ما دام فيها التمر، وإلا فهي زنبيل، وهذا عرفهم.
وقال صاحب " الجمهرة ": أما القوصرة فأحسبها دخيلاً، وقد روي:
أفلح من كانت له قوصرة ... يأكل منها كل يوم مرة
جميعاً
ثم قال: ولا أدري صحة هذا البيت، م: (لزمه التمر والقوصرة) ش: هذا كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفسره في " الأصل ") ش: أي " المبسوط " م: (بقوله: غصبت تمراً في قوصرة، ووجهه) ش: أي وجه لزوم التمر والقوصرة جميعاً م: (أن القوصرة وعاء) ش: أي للتمر م: (وظرف له) ش: أي للتمر م: (وغصب الشيء وهو مظروف) ش: أي والحال أنه في الظرف م: (لا يتحقق بدون الظرف فيلزمانه) ش: أي فيلزم التمر والقوصرة للمقر.
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم فيما إذا قال: غصبت م: (الطعام في السفينة) ش: لأن السفينة ظرف له فلا يتحقق بدون المظروف م: (والحنطة في الجوالق) ش: فيما إذا قال: غصبت الحنطة في الجوالق بفتح الجيم جمع جولق بالضم، والجواليق بالياء تسامح م: (بخلاف ما إذا قال: غصبت تمراً من قوصرة، لأن كلمة من للانتزاع) ش: أي لنزع الشيء من الشيء م: (فيكون إقراراً بغصب المنزوع) ش: وبقولنا قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: يكون الإقرار بالمظروف لا بالظرف، والأصل في جنس هذه المسائل أن من أقر بشيئين أحدهما ظرف للآخر، فإن كان ذكرهما بكلمة " في " فيلزم الظرف والمظروف، وإن كان بكلمة من يلزم المظروف دون الظرف.
ولو أقر بشيئين لم يكن كذلك كقوله: غصبت درهماً في درهم، لم يلزمه الثاني، لأنه لا يصلح ظرفاً للأول.
ولو قال: غصبت إكافاً على حمار، أو سرجاً على فرس، كان إقراراً بغصب الإكاف خاصة وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وقال شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مبسوطه ": لو أقر أنه غصب ثوباً في(9/442)
قال: ومن أقر بدابة في إصطبل لزمه الدابة خاصة، لأن الإصطبل غير مضمون بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وعلى قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمنهما ومثله الطعام في البيت.
قال: ومن أقر لغيره بخاتم لزمه الحلقة والفص، لأن اسم الخاتم يشمل الكل ومن أقر له بسيف فله النصل والجفن والحمائل، لأن الاسم ينطوي على الكل ومن أقر بحجلة فله العيدان والكسوة لإطلاق الاسم على الكل عرفا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منديل كان مقرا بالثوب والمنديل، وكذلك لو قال: غصبتك عشرة أثواب في عشرة كان مقراً بهما.
وقال شيخ الإسلام الأسبيجابي في " شرح الكافي ": ولو قال: غصبتك كذا وكذا وكذا مع كذا وقال كذا بكذا وقال عليه كذا لزماه جميعاً.
ولو قال: كذا من كذا وكذا على كذا لزمه الأول فقط يعلم وجهها ما ذكرناه.
[أقر بدابة في إصطبل]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر بدابة في إصطبل لزمه الدابة خاصة) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وإنما قال لزمه ولم يقر إقراراً بالدابة إما هذا الكلام إقرار بهما جميعاً، إلا أن اللزوم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف في الرواية خاصة.
وإليه أشار بقوله: م: (لأن الإصطبل غير مضمون بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وعلى قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمنهما) ش: أي الدابة والإصطبل، وقد علم أن غصب العقار لا يتحقق عندهما خلافاً لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومثله الطعام في البيت) ش: أي ومثل إقرار بالدابة في الإصطبل قوله: غصبت الطعام في البيت فلا يلزم إلا الطعام عندهما، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمانه.
قال الأسبيجابي في " شرح الكافي ": ولو قال غصبتك مائة كر حنطة من بيت ضمن الطعام والبيت عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه بريء الغصب في البيت، وهما لا يريانه فيضمن الطعام لا غير.
[أقر لغيره بخاتم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر لغيره بخاتم لزمه الحلقة والفص؛ لأن اسم الخاتم يشمل الكل) ش: وهذا يدخل الفص في بيع الخاتم من غير تسمية، م: (ومن أقر له بسيف فله النصل) ش: وهو حديدة السيف م: (والجفن) ش: هو غمده، أي بخلافه م: (والحمائل) ش: جمع حِمالة بكسر الحاء وهي علاقة السيف م: (لأن الاسم) ش: أي اسم السيف م: (ينطوي على الكل) ش: أي ينطلق على كل السيف.
م: (ومن أقر بحجلة) ش: وهو بيت يزين بالثياب م: (فله العيدان) ش: برفع النون جمع عود وهو الخشب كالديدان جمع دود م: (والكسوة لإطلاق الاسم على الكل عرفاً) ش: ولا نعلم(9/443)
وإن قال غصبت ثوبا لزماه جميعا، لأنه ظرف، لأن الثوب يلف فيه، وكذا لو قال علي ثوب في ثوب لأنه ظرف، بخلاف قوله: درهم في درهم حيث يلزمه واحد، لأنه ظرف لا ظرف. وإن قال: ثوب في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد: لزمه أحد عشر ثوبا، لأن النفيس من الثياب قد يلف في عشرة أثواب فأمكن حمله على الظرف، ولأبي يوسف أن حرف " في " يستعمل في البين والوسط أيضا، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] (الفجر الآية 29) أي بين عبادي فوقع الشك، والأصل براءة الذمم على أن كل ثوب موعى وليس بوعاء، فتعذر حمله على الظرف فتعين الأول محملا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خلافاً في هذه المسائل م: (وإن قال: غصبت ثوباً في منديل لزماه جميعاً لأنه) ش: أي لأن المنديل م: (ظرف؛ لأن الثوب يلف فيه) ش: والخلاف فيه كالخلاف في الإقرار بالتمر في القوصرة.
م: (وكذا لو قال: علي ثوب في ثوب) ش: أي يلزمه الثوبين جميعاً م: (لأنه ظرف) ش: ولا يتحقق ذلك الإبهام م: (بخلاف قوله: درهم في درهم) ش: يعني لو قال: علي لفلان درهم في درهم م: (حيث يلزمه واحد) ش: أي درهم واحد م: (لأنه ضرب) ش: أي ضرب حساب م: (لا ظرف) ش:، وقد مر.
م: (وإن قال: ثوب في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد: لزمه عشر ثوباً، لأن النفيس من الثياب قد يلف في عشرة أثواب فأمكن حمله على الظرف) ش: قيل: إنه منقوض على أصله بأن قال غصبته كرباساً في عشرة أثواب حرير لزمه الكل عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أن عشرة أثواب حرير لا تجعل وعاء للكرباس عادة.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حرف في يستعمل في البين والوسط أيضاً، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] (الفجر: الآية 29) أي بين عبادي فوقع الشك) ش: لأن كلمة في لما استعملت في معنى " بين " كما استعملت للظرف، لم يلزمه إلا ثوب واحد لوقوع الشك فيما زاد عليه، فلا يجوز والمال لا يجب بالشك والاحتمال.
م: (والأصل براءة الذمم) ش: لأنها خلقت برية عرية عن الحقوق، فلا يجوز شغلها إلا بحجة قوية، فلما لم يصلح العشرة للظرف صار كقوله غصبتك درهماً في درهم.
م: (على أن كل ثوب) ش: أي مع أن كل ثوب م: (موعى) ش: أي مظروف في حق ما وراءه م: (وليس بوعاء، فتعذر حمله على الظرف) ش: كذلك م: (فتعين الأول) ش: هو كونه بمعنى البين م: (محملاً) ش: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة، أي من حيث الحمل على معنى البين.(9/444)
ولو قال: لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لزمه خمسة لأن الضرب لا يكثر المال. وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه خمسة وعشرون، وقد ذكرناه في الطلاق
ولو قال: أردت خمسة مع خمسة لزمه عشرة، لأن اللفظ يحتمله. ولو قال: له علي من درهم إلى عشرة، أو قال: ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب]
م: (ولو قال: لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لزمه خمسة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لأن الضرب لا يكثر المال) ش: يعني أثر الضرب في تكثير الأجزاء لإزالة الكسر لا في زيادة المال.
م: (وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه خمسة وعشرون) ش: أي قال الحسن بن زياد يلزمه خمسة وعشرون إن أراد الضرب، وبه قال أحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وقال زفر يلزمه العشر إذا أطلق م: (وقد ذكرناه في الطلاق) ش: أي في باب إيقاع الطلاق.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم يذكر صاحب " الهداية " ثمة صريحاً بل فهم ذلك بالإشارة من الخلاف الواقع بيننا وبين زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: أنت طالق ثنتين في ثنتين، وقد أراد الضرب والحساب فعندنا: يقع ثنتان.
وعنده: يقع الثلاث، وإنما ذكر مسألة الإقرار صريحاً في كتاب الطلاق في " الجامع الصغير ".
قال في " شرح الكافي ": لو قال: له علي درهم مع درهم، أو معه درهم لزمه درهمان، وكذلك لو قال: قبله درهم أو بعده درهم، ولو قال: درهم فدرهم أو درهم ودرهم، لزماه جميعاً.
ولو قال: درهم درهم لزمه درهم واحد، فرق بين هذا وبين قوله لامرأته: أنت طالق طالق، حيث يقع ثنتان، لأن الإقرار إخبار فيجعل الثاني مؤكداً للأول والطلاق إنشاء والتأكيد لا يدخل في الإنشاء، فكان الثاني غير الأول فاقتضى وقوع طلاق آخر. ولو قال: له علي درهم بدرهم لزمه درهم، لأن الباء البدلية يعني عوضه درهم، وكذا إذا قال: له علي درهم، لأنه وصف الأول بالوجوب والثاني يكون موضوعاً له فلا ينتصف الثاني بالوجوب فيلزمه درهم واحد، ولو قال: له علي درهم ثم درهمان لزمه ثلاثة دراهم.
[قال له علي من درهم إلى عشرة]
م: (لو قال: أردت خمسة مع خمسة لزمه عشرة؛ لأن اللفظ يحتمله) ش: لأن مع للمصاحبة م: (ولو قال: له علي من درهم إلى عشرة، أو قال: ما بين) ش: أي أو قال له علي ما بين م: (درهم إلى عشرة لزمه تسعة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله مالك(9/445)
فيلزمه الابتداء وما بعده، وتسقط الغاية، وقالا: يلزمه العشرة كلها فتدخل الغايتان. وقال زفر: يلزمه ثمانية ولا تدخل الغايتان، ولو قال له: من داري ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط فله ما بينهما وليس له من الحائطين شيء وقد مرت الدلائل في الطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية وأحمد في وجه م: (فيلزمه الابتداء وما بعده وتسقط الغاية) ش: وهي العاشرة من العشرة.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (يلزمه العشرة كلها فتدخل الغايتان) ش: أي الابتداء والانتهاء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول ومالك في رواية وأحمد في وجه ومالك في رواية في قوله ما بين درهم إلى عشرة.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه ثمانية ولا تدخل الغايتان) ش: أي الابتداء أو الانتهاء كما ذكرنا م: (ولو قال له من داري ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط فله ما بينهما وليس له من الحائطين شيء) ش: أي له أي للمقولة ما بين الحائطين شيء م: (وقد مرت المسائل مع الدلائل في الطلاق) ش: الشراح كلهم ما تكلموا هنا شيء اكتفاء بما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الطلاق، وبالله التوفيق.(9/446)
(فصل) قال: ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم فإن قال أوصى له فلان، أو مات أبوه فورثه فالإقرار صحيح، لأنه أقر بسبب صالح لثبوت الملك له ثم إذا جاءت به حيا في مدة يعلم أنه كان قائما وقت الإقرار لزمه، وإن جاءت به ميتا فالمال للموصي والمورث حتى يقسم بين ورثته، لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينقل إلى الجنين بعد الولادة ولم ينتقل.
ولو جاءت بولدين حيين فالمال بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان مسائل الحمل]
[قال لحمل فلانة علي ألف درهم]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان مسائل الحمل ذكرها بفصل على حدة إلا أنه ألحق مسائل الخيار بها اتباعاً " للمبسوط ".
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم، فإن قال أوصى له فلان أو مات أبوه فورثه فالإقرار صحيح؛ لأنه أقر بسبب صالح لثبوت الملك له) ش: أي للحمل، وذلك لأن هذا الإقرار صدر من أهله مضافاً إلى محله ولم يتيقن بكذب ما أقر به، فكان صحيحاً كما لو أقر به بعد الانفصال، لأن الجنين أهل أن يستحق شيئاً بالميراث أو الوصية وإن كان بين وجهاً لا يستقيم وجوب المال به للجنين فإنه لا يصح إقراره ولا يلزمه شيء.
كما إذا قال لما في بطن فلانة علي ألف درهم بالبيع أو الإجارة أو الإقراض، فإن الإقرار لم يضف على محله وهو ظاهر، كما لو أقر أنه قطع يد فلان عمداً أو خطأ ويد فلان صحيحة لا يلزمه بهذا الإقرار شيء، لأنه كذب بيقين.
م: (ثم إذا جاءت حياً) ش: أي ثم إذا جاءت فلانة بالولد م: (في مدة يعلم أنه كان قائماً وقت الإقرار) ش: أي كان موجوداً وقت الإقرار بأن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار م: (لزمه) ش: أي لزم الرجل ما أقر به، وإن جاءت به لأكثر من سنتين وهي معتدة فكذلك، وأما إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر وهي غير معتدة لم يلزمه م: (وإن جاءت به ميتاً فالمال للموصي والمورث حتى يقسم بين ورثته) ش: أي بين ورثة كل واحد من الموصي والمورث م: (لأنه إقرار في الحقيقة لهما) ش: أي للموصي والمورث م: (وإنما ينقل إلى الجنين بعد الولادة ولم ينتقل) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل إقراره لعدم مستحقه.
[قال لحمل فلانة علي ألف من ثمن شيء باعني]
م: (ولو جاءت بولدين حيين فالمال بينهما) ش: أي إن كانا ذكرين أو أنثيين، وإن كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى ففي الوصية بينهما نصفين، وفي الميراث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] .(9/447)
ولو قال المقر: باعني أو أقرضني لم يلزمه شيء، لأنه بين سببا مستحيلا. قال فإن أبهم الإقرار لم يصح عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح لأن الإقرار من الحجج فيجب إعماله وقد أمكن بالحمل على السبب الصالح، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإقرار مطلق ينصرف إلى الإقرار بسبب التجارة، ولهذا حمل إقرار العبد المأذون له وأحد المتفاوضين عليه يصير كما إذا صرح به،
قال: ومن أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل صح إقراره ولزمه، لأن له وجها صحيحا، وهو الوصية به من جهة غيره فحمل عليه.
قال: ومن أقر بشرط الخيار بطل الشرط، لأن الخيار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو قال المقر: باعني) ش: يعني لو قال: لحمل فلانة علي ألف من ثمن شيء باعني م: (أو أقرضني) ش: أي أو قال حمل فلانة أقرضني ألف درهم م: (لم يلزمه شيء لأنه بين سبباً مستحيلاً) ش: إذ البيع أو الإقراض من الجنين حقيقة وهو ظاهر، وكذا حكماً لأنه لا ولاية لأحد على الجنين حتى يصير تصرفه كتصرفه، فصار كلامه لغواً فلا يلزمه شيء.
م: (قال فإن أبهم الإقرار) ش: إن لم يعين سببه م: (لم يصح عند أبي يوسف) ش: وقيل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح) ش: وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في الأصح وهو قول مالك م: (لأن الإقرار من الحجج، فيجب إعماله وقد أمكن بالحمل على السبب الصالح) ش: بأن يقول: أوصى له فلان، أو مات أبوه فورثه تصحيحاً لكلام المعاقل.
م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإقرار مطلق ينصرف إلى الإقرار بسبب التجارة، ولهذا حمل إقرار العبد المأذون له وأحد المتفاوضين عليه) ش: أي على الإقرار بسبب التجارة، ولا يحمل إقرارهما على دين المهر وأرش الجناية حتى لا يؤاخذ العبد في حال رقه ولا يؤاخذ الشريك الآخر م: (يصير كما إذا صرح به) ش: أي يصير المقر به كما إذا صرح بدين التجارة بدلالة العرف.
[أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل]
م: (قال) ش: أي القدروي: م: (ومن أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل صح إقراره ولزمه لأن له) ش: أي بهذا الإقرار م: (وجهاً صحيحاً وهو الوصية به من جهة غيره) ش: بأن أوصى به له مالك الجارية ومالك الشاة، فإذا كان كذلك م: (فحمل عليه) ش: بالوجه المذكور. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أطلق لا يصح في قول نقله المزني عنه، وفي قول: يصح وهو الأصح وبه قال أحمد ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن تيقن بوجوده عند الإقرار.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر بشرط الخيار بطل الشرط) ش: صورته: إن أقر لرجل بدين من قرض أو غصب أو وديعة قائمة أو مستهلكة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فالإقرار جائز ويبطل الشرط م: (لأن الخيار) ش: لا يليق بالإخبار لأنه لا يتغير به الإخبار،(9/448)
للفسخ والإخبار لا يحتمله ولزمه المال لوجود الصيغة الملزمة ولم ينعدم بهذا الشرط الباطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولأنه أي لأن الخيار في الحقيقة م: (للفسخ والإخبار لا يحتمله) ش: لأن الخبر إن كان صادقاً بمطابقته للواقع فلا يتغير باختياره وعدم اختياره، وإن كان كاذباً لم يتغير باختياره م: (ولزمه المال لوجود الصيغة الملزمة) ش: وهي قوله: علي ونحوه، م: (ولم ينعدم بهذا الشرط الباطل) ش: لأن الباطل لا تأثير له.
أما لو أقر بدين من ثمن مبيع على أنه فيه بالخيار فإن هناك يثبت الخيار إذا صدقه صاحبه، لأن سببه يقبل الخيار، وإن كذبه صاحبه لم يثبت الخيار، لأن مطلق البيع اللزوم، والخيار أمر عارض فلا يثبت إلا بحجة.
ولو أقر بدين من كفالة على شرط الخيار مدة معلومة طويلة أو قصيرة فإن صدقه المقر له فهو كما قال، والخيار ثابت له إلى آخر المدة، لأن الكفالة عقد يصح اشتراط الخيار فيه، فيجعل ما تصادقاً كالمعاين في جهتهما، كذا في " المبسوط ".(9/449)
باب الاستثناء وما في معناه قال: ومن استثنى متصلا بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي؛ لأن الاستثناء مع الجملة عبارة عن الباقي، ولكن لا بد من الاتصال وسواء استثنى الأقل أو الأكثر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاستثناء وما في معناه]
[معنى الاستثناء]
م: (باب الاستثناء وما في معناه)
ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستثناء وما في معناه، والاستثناء: استفعال من الثني وهو الصرف، وهو متصل، وهو الإخراج والتكلم بالباقي ومنفصل، وهو ما لا يصح إخراجه، قوله: " وما في معناه "، أي وما في معنى الاستثناء في كونه مغيراً وهو الشرط.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن استثنى متصلاً بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي) ش: لا بد من الاتصال، وهو مذهب الأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وفيه خلاف بعض العلماء.
ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جواز التأخير، واستدل بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشاً، ثم قال: بعد سنة إن شاء الله» . وأجيب: بأن هذا لم يكن على وجه الاستثناء، بل هو امتثال لما أمر به في قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] . وعن عبد الملك المالكي: لا يصح الاستثناء، وعنه أنه لا يصح استثناء الآحاد من العشرات ولا المئين من الألوف، بل يصح استثناء الآحاد والعشرات من المئين والألوف، واستثناء الأقل والأكثر يجوز.
وقال الفراء: لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثله.
وفي " الكافي ": وعن أبي يوسف ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مثله وفي " الحلية ": وبه قال ابن درستويه النحوي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن ما ذكره من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يكن مشهوراً عند أصحابه، واستثناء الكل من الكل لا يجوز بلا خلاف.
وذكر المصنف في زياداته هذا إذا استثنى معين بذلك اللفظ بأن قال: نسائي طوالق إلا نسائي، أما لو قال: نسائي طوالق إلا عمرة وزينب وفاطمة، حتى أتى على الكل صح، وكذا لو قال: نسائي طوالق إلا هؤلاء، صح الاستثناء ولم تطلق واحدة منهن.
م: (لأن الاستثناء مع الجملة) ش: أي الصدر م: (عبارة عن الباقي) ش: لأن معنى قوله: " علي عشرة إلا درهماً " معنى قوله: " علي تسعة " م: (ولكن لا بد من الاتصال) ش: أي اتصال الاستثناء بقوله وإلا لا يصح وقد مر بيانه الآن م: (وسواء استثنى الأقل أو الأكثر) ش: أي أقل من الباقي وأكثر منه كما في قوله: لفلان علي ألف درهم إلا أربعمائة، ولفلان علي ألف إلا ستمائة والدليل على ذلك قوله عز وجل {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] (المزمل: الآية 2 - 4) ، لأن طريق صحة الاستثناء أن يجعل عبارة إلا وراء المستثنى، ولا فرق(9/450)
فإن استثنى الجميع لزمه الإقرار وبطل الاستثناء؛ لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا، ولا حاصل بعده فيكون رجوعا وقد مر الوجه في الطلاق.
ولو قال: له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - ولو قال له: علي مائة درهم إلا ثوبا لم يصح الاستثناء. وقال محمد -رحمه الله -: لا يصح فيهما. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح فيهما. لمحمد: أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ، وهذا لا يتصور في خلاف الجنس، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما اتحدا جنسا من حيث المالية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك بين الاستثناء في الأقل أو الأكثر.
م: (فإن استثنى الجميع لزمه) ش: أي لزم المقر م: (الإقرار) ش: أي كل ما أقر به م: (وبطل الاستثناء، لأنه) ش: أي الاستثناء م: (تكلم بالحاصل بعد الثنيا) ش: أي المستثنى م: (ولا حاصل بعده) ش: أي بعد استثناء الكل عن المقدر م: (فيكون رجوعاً) ش: والرجوع عن الإقرار لا يصح م: (وقد مر الوجه في الطلاق) ش: أي قد مر وجه ذلك في كتاب الطلاق في فصل الاستثناء.
[قال له علي مائة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة]
م: (ولو قال: له علي مائة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز، وهذا) ش: أي هذا الحكم م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -. ولو قال: له علي مائة درهم إلا ثوباً لم يصح الاستثناء) ش: أما صحة الوجه الأول فلأنه استثناء القدر من المقدر، وهو صحيح استحساناً، ويطرح قدر قيمة المستثنى بما أقر به، وأما عدم جواز الوجه الثاني فلا بد من استثناء غير المقدر فلا يصح الاستثناء.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح فيهما) ش: وهو القياس، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح فيهما) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لمحمد: أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ) ش: يعني إن الاستثناء تصرف في اللفظ وهو إخراج بعض ما تناوله صدر الكلام على معنى أنه لولا الاستثناء لكان داخلاً تحت الصدر م: (وهذا لا يتصور في خلاف الجنس) ش: وفي بعض النسخ: وهذا لا يتحقق في خلاف الجنس.
م: (وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما) ش: أي أن المستثنى والمستثنى منه م: (اتحدا جنساً) ش: أي من حيث الجنس م: (من حيث المالية) ش: حاصله أن اشتراط اتحاد الجنس وهو موجود من حيث المالية فانتفى المانع بعد تحقيق المقتضى وهو التصرف اللفظي. وقال الأكمل وكلام المصنف كما ترى يشير إلى أن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه شرط عند الشافعي أيضاً، وهو الحق. وقرر الشارحون كلامه على أنها ليست بشرط، بناه على أن الاستثناء يعارض الصور وليس من شرطه المجانسة وليس بصحيح، لأنه يقول بالإخراج بعد الدخول بطريق المعارضة، ونحن نقول(9/451)
ولهما أن المجانسة في الأول ثابتة من حيث الثمنية، وهذا في الدينار ظاهر، والمكيل والموزون أوصافها أثمان، أما الثوب فليس بثمن أصلا، ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة وما يكون ثمنا صلح مقدرا للدراهم، فصار بقدره مستثنى من الدراهم، وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا، فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا فلا يصح.
، قال: ومن أقر بحق، وقال: إن شاء الله متصلا بإقراره لا يلزمه الإقرار لأن الاستثناء بمشيئة الله، إما إبطال أو تعليق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بأن الاستثناء لبيان أن الصدر لم يتناول المستثنى، فهو إخراج إلى إثبات المجانسة لأجل الدخول هنا.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن المجانسة في الأول) ش: أي في الوجه الأول وهو قوله " علي مائة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة " م: (ثابتة من حيث الثمنية) ش: لأنها تثبت في الذمة ثمناً م: (وهذا في الدينار ظاهر، والمكيل والموزون أوصافهما أثمان) ش: فإنهما إذا وصفت تثبت في الذمة حالاً ومؤجلاً، وجاز الاستقراض بها. ولو عين يتعلق بأعيانهما، ولو وصف ولم يعينا صار حكمهما حكم الدينار، وهذا يستوي الجيد والرديء فيهما، فكان في حكم الثبوت في الذمة كجنس واحد معنى.
م: (أما الثوب فليس بثمن أصلاً، ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة) ش: احترز به عن السلم فإنه يجب في السلم م: (وما يكون ثمناً صلح مقدراً) ش: بكسر الدال على صيغة الفاعل م: (للدراهم فصار بقدره مستثنى من الدراهم) ش: فيكون تقديره: له علي ألف إلا قدر قيمة المستثنى م: (وما لا يكون ثمناً لا يصلح مقدراً) ش: لعدم المجانسة م: (فبقي المستثنى من الدراهم مجهولاً) ش: فجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى منه م: (فلا يصح) ش: أي الاستثناء فتعتبر على البيان.
وفي " الذخيرة ": وإذا صح الاستثناء يطرح قدر قيمة المستثنى على المقر، وإن كانت قيمة المستثنى تفترض ما أقر به لا يلزمه شيء، ثم ما ذكر أن جهالة المستثنى تلزم جهالة المقر به مخالفاً لما ذكر في " الذخيرة " محالاً إلى " المنتقى ".
قال أبو حنيفة: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قال: لفلان علي مائة درهم إلا قليلاً فعليه أحد وخمسون درهماً، وكذا في نظائرها نحو قوله " الأشياء "، لأن الشيء استثناء الأقل. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قال: علي عشرة إلا بعضاً؛ فعليه أكثر من النصف.
[أقر بحق وقال إن شاء الله متصلاً بإقراره]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن أقر بحق وقال: إن شاء الله متصلاً بإقراره لا يلزمه الإقرار لأن الاستثناء بمشيئة الله تعالى، أما إبطال) ش: عند محمد م: (أو تعليق) ش: عند أبي يوسف، قاله الأترازي، ثم قال: بيانه فيما قال في كتاب الطلاق عن " الفتاوى الصغرى " والقسمة إذا قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى فهو يمين عند أبي يوسف حتى لو قال لامرأته: إن(9/452)
فإن كان الأول فقد أبطل، وإن كان الثاني فكذلك، إما لأن الإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط، أو لأنه شرط لا يوقف عليه كما ذكرنا في الطلاق، بخلاف ما إذا قال: لفلان علي مائة درهم إذا مت أو إذا جاء رأس أو إذا أفطر الناس؛ لأنه في معنى بيان المدة فيكون تأجيلا لا تعليقا حتى لو كذبه المقر له في الأجل يكون المال حالا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق إن شاء الله تعالى يحنث، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكون يميناً حتى لا يحنث به عنده.
فإن قلت: قال الأكمل: وغيره الاستثناء بمشيئة الله تعالى إبطال، كما هو مذهب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو تعليق كما هو مذهب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهذا مخالف لما قاله الأترازي.
قلت: لا مخالفة، لأن الكاكي لما قال: قال محمد: إبطال، وقال أبو يوسف: تعليق، قال: وقيل: الاختلاف على العكس ثم قال الأكمل: وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا قدم المشيئة فقال: إن شاء الله تعالى أنت طالق عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقع الطلاق لأنه إبطال. وعند محمد لا يقع لأنه تعليق، فإذا قدم الشرط ولم يذكر حرف الجزاء لم يتعلق وبقي الطلاق من غير شرط فيقع، وكيفما كان لم يلزمه الإقرار.
م: (فإن كان الأول) ش: وهو الإبطال م: (فقد أبطل، وإن كان الثاني) ش: وهو التعليق م: (فكذلك) ش: أي بطل م: (إما لأن الإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط) ش: لأن الإقرار إخبار بما سبق والتعليق إنما يكون بالنسبة إلى المستقبل وبينهما منافاة م: (أو لأنه) ش: أو لأن التعليق م: (شرط لا يوقف عليه) ش: والتعليق بمثله يكون إعداماً من الأصل، فيصير بمنزلة الإبطال م: (كما ذكرنا في الطلاق) ش: أي فصل الاستثناء م: (بخلاف ما إذا قال: لفلان علي مائة درهم إذا مت أو إذا جاء رأس الشهر أو إذا أفطر الناس؛ لأنه في معنى بيان المدة) ش: وذلك من حيث العرف، لأن الناس يعتبرون بذكر هذه الأشياء محل الأجل فحسب، لأن الدين المؤجل يصير حالاً بالموت ومجيء رأس الشهر، ومع هذا من آجال الناس فتركت الحقيقة للعرف م: (فيكون تأجيلا لا تعليقاً) ش: فيلزمه الإقرار م: (حتى لو كذبه المقر له في الأجل يكون المال حالاً) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب المال مؤجلاً.
وفي " شرح الكافي ": لو قال: لفلان علي ألف درهم إن شاء فلان فقال فلان شئت فهذا الإقرار باطل، لأنه علق واللزوم حكم الشرط لا حكم التعليق، وكذلك لكل إقرار علق بمطر أو شرط نحو قوله " إن دخلت الدار " و " إن مطرت السماء " أو " إن هبت الريح "، أو " إن قضى الله "، أو " إن أراده "، أو " إن رضيه "، أو " إن أحب "، أو " إن أصبت مالاً "، أو إن كان(9/453)
قال: ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء، لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا، والاستثناء تصرف في المفلوظ والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار، لأنه يدخل فيه تبعا لا لفظا، بخلاف ما إذا قال: إلا ثلثها أو إلا بيتا منها لأنه داخل فيه لفظا.
ولو قال: بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال، لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء، فكأنه قال: بياض هذه الأرض دون البناء لفلان، بخلاف ما إذا قال: مكان العرصة أرضا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كذلك " أو " إن كان ذلك حقاً "، لأنه تعليق الإقرار بالشرط؛ فلا يكون إقراراً للحال، ولا يمكن جعله إقراراً للحال، ولا يمكن جعله إقراراً عند وجود الشرط لأنه ليس بموجود في تلك الحالة، بخلاف تعليق الطلاق والعتاق.
[قال هذه الدار لفلان واستثنى بناءها لنفسه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر بدار) ش: بأن قال: هذه الدار لفلان م: (واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء، لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا) ش: يعني اسم الدار لا يتناول البناء مقصوداً، لأن البناء، وصف فيه، والوصف يدخل تبعاً لا قصداً م: (والاستثناء تصرف في الملفوظ) ش: يجعل الملفوظ عبارة عما وراء المستثنى فيما لا يتناوله اسم الدار ولا يتحقق فيه عمل الاستثناء.
فإن قلت: يشكل بما إذا قال: لفلان علي ألف درهم إلا قفيز حنطة، فإن الحنطة دخلت في الدار معنى لا لفظاً حتى صح استثناؤه.
قلت: الدراهم تتناول الحنطة من حيث المعنى، فتناولها من حيث اللفظ من جهة المعنى فيصح الاستثناء، ولا كذلك الدار فإنها ليست باسم العرصة والبناء حتى يكون ذكر الدار ذكراً للبناء بطريق التناول، بل الدار اسم العرصة، والبناء صفة والوصف يدخل تبعاً لا قصداً فلا يصح استثناء الوصف فافترقا.
م: (والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار) ش: يعني كما لا يصح استثناء البناء، لا يصح استثناء الفص والحلقة م: (لأنه يدخل فيه) ش: أي يدخل تحت الصدر م: (تبعاً لا لفظاً، بخلاف ما إذا قال: إلا ثلثها) ش: بأن قال: هذه الدار لفلان إلا ثلثها م: (أو إلا بيتاً منها) ش: أي أو قال: هذه الدار لفلان إلا بيتاً منها م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الثلث والبيت م: (داخل فيه لفظاً) ش: ومقصوداً، حتى لو استحق البيت في بيع الدار سقط حصته من الثمن.
[قال بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان]
م: (ولو قال: بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال) ش: يعني يكون البناء للمقر والعرصة لفلان، م: (لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء، فكأنه قال: بياض هذه الأرض لفلان دون البناء) ش: والبناء لا يتبعها م: (بخلاف ما إذا قال: مكان العرصة أرضاً) ش: يعني قال: بناء(9/454)
حيث يكون البناء للمقر له لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار بالدار.
ولو قال: له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه قيل للمقر له: إن شئت فسلم العبد وخذ الألف وإلا فلا شيء لك، قال: هذا على وجوه: أحدها: هذا، وهو أن يصدقه ويسلم العبد، وجوابه ما ذكرنا، لأن الثابت بتصادقهما كالثابت معاينة. والثاني: أن يقول المقر له: العبد عبدك ما بعتكه، وإنما بعتك عبدا غير هذا، وفيه المال اللازم على المقر لإقراره به عند سلامة العبد له، وقد سلم فلا يبالي باختلاف السبب بعد حصول المقصود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذه الدار لي والأرض لفلان م: (حيث يكون البناء للمقر له) ش: مع الأرض خلافاً للأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، م: (لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار بالدار) ش: حيث تكون الأرض والبناء للمقر وإن استثنى البناء، لأن البناء داخل في الإقرار، كما أن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء، لأن الإقرار بالأصل إقرار بالتبع.
[قال له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه]
م: (ولو قال: له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبداً بعينه قيل للمقر له: إن شئت فسلم العبد وخذ الألف، وإلا فلا شيء لك) ش: إلى هنا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (هذا) ش: أي المذكور م: (على وجوه: أحدها: هذا) ش: أي الذي ذكره القدوري.
م: (وهو أن يصدقه) ش: أي يصدق المقر له المقر.
م: (ويسلم العبد، وجوابه) ش: أي جواب هذا الوجه م: (ما ذكرنا) ش: وهو أن يقال للمقر له: إن شئت فسلم العبد وخذ الألف وإلا فلا شيء لك، م: (لأن الثابت بتصادقهما كالثابت معاينة) ش: فلو علمنا أنه اشترى منه هذا العبد في يده كان عليه ألف درهم، كذا ها هنا.
م: (والثاني) ش: أي الوجه الثاني.
م: (أن يقول المقر له: العبد عبدك ما بعتكه وإنما بعتك عبداً غير هذا وفيه المال اللازم على المقر لإقراره به عند سلامة العبد له وقد سلم فلا يبالي باختلاف السبب بعد حصول المقصود) ش: كما لو قال: لك علي ألف عصبة صك.
وقال: لا بل استقرضت مني، ولا تفاوت في هذا بين أن يكون العبد في يد المقر أو المقر له. وقال الكاكي: لأن الأسباب مطلوبة بأحكامها لا بأعيانها، ولا يعتبر التكاذب(9/455)
والثالث: أن يقول العبد عبدي ما بعتك، وحكمه أن لا يلزم المقر شيء؛ لأنه ما أقر بالمال إلا عوضا عن العبد، فلا يلزمه دونه.
ولو قال مع ذلك: إنما بعتك غيره يتحالفان؛ لأن المقر يدعي تسليم من عينه، والآخر ينكر، والمقر له يدعي عليه الألف ببيع غيره، والآخر ينكر، فإذا تحالفا بطل المال. وهذا إذا ذكر عبدا بعينه. وإن قال: من ثمن عبد ولم يعينه لزمه الألف ولا يصدق في قوله: ما قبضت عند أبي حنيفة وصل أم فصل، لأنه رجوع، فإنه أقر بوجوب المال رجوعا إلى كلمة " علي " وإنكاره القبض في غير المعين ينافي الوجوب أصلا؛ لأن الجهالة مقارنة كانت أو طارئة بأن اشترى عبدا ثم نسياه عند الاختلاط بأمثاله توجب هلاك المبيع، فيمتنع بوجوب نقد الثمن، وإذا كان كذلك كان رجوعا فلا يصح وإن كان موصولا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في السبب بعد اتفاقها على وجوب أصل المال.
م: (والثالث) ش: أي الوجه الثالث: م: (أن يقول: العبد عبد ما بعتك، وحكمه: أن لا يلزم المقر شيء، لأنه ما أقر بالمال إلا عوضاً عن العبد فلا يلزمه دونه) ش: فإذا لم يسلم له العبد لا يسلم للمقر له بدله، وفي هذا أيضاً لا تفاوت بين كون العبد في يد المقر له، لأنه إذا كان في يد المقر يأخذ العبد.
[قال المقر له مع إنكار العبد المقر به ما بعتكه إنما بعتك غيره]
م: (ولو قال مع ذلك) ش: أي ولو قال المقر له مع إنكار العبد المقر به: ما بعتكه م: (إنما بعتك غيره يتحالفان) ش: لأن كل واحد مدع ومنكر، أشار إليه بقوله: م: (لأن المقر يدعي تسليم من عينه، والآخر ينكر، والمقر له يدعي عليه الألف ببيع غيره، والآخر ينكر فإذا تحالفا بطل المال) ش: يعني بطل المال من المقر والعبد سالم لمن هو في يده، م: (وهذا) ش: أي هذا المذكور م: (إذا ذكر عبداً بعينه وإن قال من ثمن عبد ولم يعينه لزمه الألف ولا يصدق في قوله: ما قبضت، عند أبي حنيفة وصل أم فصل، لأنه رجوع، فإنه أقر بوجوب المال رجوعاً إلى كلمة علي وإنكاره القبض في غير المعين ينافي الوجوب أصلاً) ش: لأن ما لا يكون بعينه فهو في حكم المستهلك إذ لا طريق للتوصل إليه، لأن ما من عبد يحضره إلا والمشتري يقول المبيع غير هذا، وتسليم الثمن لا يجب إلا بعد إحضار المعقود عليه، فعرفنا إنه في حكم المستهلك وثمن المستهلك غير واجب، إلا أن يكون مقبوضاً فيكون الإقرار بوجوب ثمنه إقراراً بقبضه. وإذا أقر بالقبض يكون قوله لم أقبضه رجوعاً بعد الإقرار.
م: (لأن الجهالة مقارنة كانت أو طارئة، بأن اشترى عبداً ثم نسياه عند الاختلاط بأمثاله توجب هلاك المبيع، فيمتنع وجوب نقد الثمن، وإذا كان كذلك كان رجوعاً فلا يصح وإن كان موصولاً) ش: بيانه: أن أول كلامه إقراراً يوجب الثمن، وآخر يوجب سقوطه وذلك رجوعاً فلا يصح وإن كان موصولاً.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: إن وصل صدق ولم يلزمه شيء) ش: كما في(9/456)
وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله -: إن وصل صدق ولم يلزمه شيء، وإن فصل لم يصدقه إذا أنكر المقر له أن يكون ذلك من ثمن عبد، وإن أقر أنه باعه متاعا فالقول قول المقر. ووجه ذلك أنه أقر بوجوب المال عليه وبين سببا وهو البيع، فإن وافقه الطالب في السبب وبه لا يتأكد الوجوب إلا بالقبض والمقر ينكره فيكون القول قوله وإن كذبه في السبب كان هذا من المقر بيانا مغيرا؛ لأن صدر كلامه للوجوب مطلقا وآخره يحتمل انتفاءه على اعتبار عدم القبض والمغير يصح موصولا لا مفصولا. ولو قال: ابتعت منه عينا إلا أني لم أقبضه فالقول قوله بالإجماع؛ لأنه ليس من ضرورة البيع القبض، بخلاف الإقرار بوجوب الثمن.
قال: وكذا لو قال: من ثمن خمر أو خنزير، ومعنى المسألة إذا قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصل أم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتن وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (وإن فصل لم يصدقه إذا أنكر المقر، له أن يكون ذلك من ثمن عبد. وإن أقر أنه) ش: أي أن المقر له م: (باعه متاعاً فالقول قول المقر. ووجه ذلك) ش: أي وجه كون القول للمقر م: (أنه أقر بوجوب المال عليه وبين سبباً) ش: يعني أن قوله: لفلان علي ألف درهم إقرار بوجوب المال عليه، وقوله من ثمن متاع اشتريته بيان لسبب الوجوب م: (وهو البيع، فإن وافقه الطالب) ش: وهو المقر له م: (في السبب) ش: قال الأكمل: [وفيه]- رَحِمَهُ اللَّهُ - ونظر، لأن قوله: " فإن وافقه الطالب في السبب " شرط، فلا بد من جوابه، وقوله م: (وبه لا يتأكد الوجوب إلا بالقبض) ش: لا يصلح لذلك، أي كالبيع لا يتأكد وجوب الثمن على المشتري، أي وجوب الثمن عليه قبل قبض المبيع متزلزل لأنه عسى يهلك المبيع فيسقط الثمن، والمدعي الذي هو المقر له يدعي قبض الثمن، م: (والمقر ينكره، فيكون القول قوله) ش: أي للمنكر.
م: (وإن كذبه في السبب كان هذا من المقر بياناً مغيراً؛ لأن صدر كلامه للوجوب مطلقاً) ش: لأن مقتضى أول الكلام أن يكون مطالباً بالمال في الحال رجوعاً على كلمة " علي " م: (وآخره) ش: أي وآخر الكلام م: (يحتمل انتفاءه) ش: أي انتفاء الوجوب، م: (على اعتبار عدم القبض والمغير يصح موصولاً لا مفصولاً) ش: كالاستثناء.
م: (ولو قال: ابتعت منه عيناً) ش: أي مبيعاً م: (إلا أني لم أقبضه فالقول قوله بالإجماع) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (لأنه ليس من ضرورة البيع القبض) ش: فإن الشراء بشرط الخيار لا يوجب الثمن عليه في الحال م: (بخلاف الإقرار بوجوب الثمن) ش: فإن من ضرورته القبض.
[قال لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكذا لو قال: من ثمن خمر أو خنزير) ش: وقال المصنف: م: (ومعنى المسألة) ش: أي المسألة التي ذكرها القدوري م: (إذا قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصل أم(9/457)
فصل، لأنه رجوع، لأن ثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا، وأول كلامه للوجوب. وقالا: إذا وصل لا يلزمه شيء، لأنه بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب وصار كما إذا قال في آخره: إن شاء الله. قلنا ذاك تعليق، وهذا إبطال.
ولو قال: له علي ألف درهم من ثمن متاع، أو قال: أقرضني ألف درهم ثم قال: هي زيوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فصل، لأنه رجوع، لأن ثمن الخمر والخنزير لا يكون واجباً، وأول كلامه للوجوب) ش: وهو قوله: " علي " فيكون رجوعاً عن الإقرار فلا يصدق، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يذكر القدوري في " مختصره " الخلاف، وإنما ذكره الأسبيجابي.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (إذا وصل لا يلزمه شيء) ش: وبه قال مالك والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وإسحاق، واختاره المزني م: (لأنه) ش: أي لأن المقر م: (بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب) ش: وقال الأسبيجابي: مما مرا على أصلهما، لأن هذا بيان مغير، ولكن هذا فيما إذا كذبه الطالب، أما إذا صدق في ذلك لا يلزمه شيء في قولهم جميعاً، لأن الثابت يتصادقهما كالثابت معاينة، وكذا الحكم فيها إذا قال: من ثمن خمر أو ميتة أو دم.
وفي " الأجناس ": رواية هشام لو قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير وهما مسلمان. وقال الطالب: بل هو من ثمن المال لازم للمطوب في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع يمين الطالب، وقال: القول قول المطلوب مع يمينه ولا شيء عليه، ألا ترى أنه لو قال علي درهم ثمن ميتة أو رطل خمر كان باطلاً، ثم قال في " الأجناس ": من ذكر " في نوادر أبي يوسف " - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ابن سماع: لو قال: لفلان علي ألف درهم حرام أو باطل لزمه في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي " الذخيرة ": لو قال: له علي ألف درهم حرام أو ربا لزمه الألف، لأن الحرام عنده لعله يكون حلالاً عند غيره، ولعل الربا عنده ليس بربا عند غيره. ولو قال: له علي ألف زوراً وباطل إن صدقه فلان فلا شيء عليه، وإن كذبه فعليه الألف.
م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قال في آخره: إن شاء الله تعالى) ش: يعني إن وصل يصدق، وإن فصل لا يصدق فلذا م: (قلنا) ش: هذا جواب عن قياسها على مسألة الاستثناء بالمشيئة، تقريره أن يقال: م: (ذاك تعليق) ش: بالشرط، والتعليق بالشرط من باب التغيير، فيصح موصولاً م: (وهذا) ش: أي الذي نحن فيه م: (إبطال) ش: والإبطال رجوع فلا يصح.
[قال أقرضني ألف درهم ثم قال هي زيوف]
م: (ولو قال: له علي ألف درهم من ثمن متاع، أو قال: أقرضني ألف درهم ثم قال: هي زيوف)(9/458)
أو نبهرجة، وقال المقر: له جياد لزمه الجياد في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إن قال: موصولا يصدق، وإن قال: مفصولا لا يصدق، وعلى هذا الخلاف إذا قال: هي ستوقة أو رصاص وعلى هذا إذا قال: إلا أنها زيوف، وعلى هذا إذا قال: لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع. لهما: أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط والاستثناء، وهذا لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته والستوقة بمجازه، إلا أن مطلقه ينصرف إلى الجياد فكان بيانا مغيرا من هذا الوجه، وصار كما إذا قال: إلا أنها وزن خمسة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن هذا رجوع؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة عن العيب والزيافة عيب، ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: جمع زيف، وهو الذي يقبله التجار ويرده بيت المال م: (أو بنهرجة) ش: هو دون الزيوف، لأن التجارة ترده، م: (وقال المقر له: جياد لزمه الجياد في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وصل أم فصل م: (وقالا) ش: أي قال: أبو يوسف ومحمد م: (إن قال: موصولاً يصدق وإن قال: مفصولاً لم يصدق) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى هذا الخلاف إذا قال: هي ستوقة) ش: وهي أردأ من النبهرجة م: (أو رصاص) ش: أي أو قال: هي رصاص؛ فلا يصدق عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصل أم فصل، وعندهما: يصدق إن وصل.
وفي " جامع قاضي خان ": عن أبي يوسف فيه روايتان في رواية مع أبي حنيفة، وفي رواية مع محمد م: (وعلى هذا) ش: الخلاف م: (إذا قال: إلا أنها زيوف، وعلى هذا إذا قال: لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع) ش: تجري الزيوف وتجري الصفة على المعدود دون العدد، كقوله تعالى: {سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 46] (يوسف: الآية 46) .
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط) ش: والتعليق م: (والاستثناء، وهذا) ش: توضيح لما قبله، م: (لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته) ش: لأنها من جنس الدراهم حتى يحصل بها الاستيفاء في الصرف والسلم، ولا يصير استبدالاً م: (والستوقة بمجازه) ش: لأن الستوقة تسمى دراهم مجازاً والنقل من الحقيقة إلى المجاز بيان تغير، فيصح موصولاً ومفصولاً م: (إلا أن مطلقه) ش: أي مطلق اسم الدراهم م: (ينصرف إلى الجياد) ش: لأن أكثر النقود تكون جياداً، إلا أن بياعات الناس تكون بالجياد عادة م: (فكان بياناً مغيراً من هذا الوجه) ش: أي من الوجه المذكور، فلذلك شرط له الوصل م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قال: إلا أنها وزن خمسة) ش: أو ستة، ونقد بلدهم وزن سبعة صدق إن كان موصولاً ولم يصدق إن كان مفصولاً.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن هذا رجوع؛ لأن مطلق العقد يقتضي وصف السلامة عن العيب، والزيافة عيب، ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه) ش: أي موجب العقد؛ لأن إبطال(9/459)
وصار كما إذا قال: بعتكه معيبا. وقال المشتري: بعتنيه سليما، فالقول للمشتري لما بينا، والستوقة ليست من الأثمان، والبيع يرد على الثمن، فكان رجوعا. وقوله: إلا أنها وزن خمسة يصح الاستثناء؛ لأنه مقدار بخلاف الجودة، لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار، بخلاف ما إذا قال: علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة، لأن الرداءة نوع لا عيب، فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها. وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض: أنه يصدق في الزيوف إذا وصل؛ لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض، وقد يكون زيفا كما في الغصب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض ما هو مستحق بالعقد فلا يصدق، وإن وصل م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قال: بعتكه معيباً، وقال المشتري: بعتنيه سليماً، فالقول للمشتري لما بينا) ش: أشار به إلى قوله " مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب ".
م: (والستوقة ليست من الثمان) ش: أي ليست من جنس الأثمان، م: (والبيع يرد على الثمن فكان) ش: أي فكان دعواه على تأويل الادعاء، يعني دعواه الستوقة م: (رجوعا) ش: عن الإقرار فلا يصح، م: (وقوله إلا أنها وزن خمسة) ش: هذا جواب عما استشهد به، تقريره: أنه ليس مما نحن فيه، لأن قوله هذا م: (يصح الاستثناء، لأنه مقدار بخلاف الجودة، لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار) ش: لأنه لا يجوز.
توضيحه: أن الجودة صفة فلا يصح استثناء الوصف، لأن الصفة مما لم يتناوله وله اسم الدراهم حتى يستثنى، وإنما يثبت صفة الجودة في مطلق العقد بالعرف والعادة.
م: (بخلاف ما إذا قال: علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة لأن الرداءة نوع لا عيب) ش: لأن العيب ما يخلو عند الفطرة السليمة والحنطة قد تكون رديئة م: (فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها) ش: أي عن الرداءة، ولهذا لا يصح شراء الحنطة ما لم يبين أنها جيدة أو وسط أو رديئة فليس في بيانه تغيير موجب أو لكلامه، فيصح وصل أم فصل، إذ مقتضى العقد لا يقتضي نوعاً دون نوع، فلا يستحق نوع بمطلق العقد، بخلاف الزيادة فإنها عيب، ومطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها.
م: (وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض) ش: المراد بالأصول الجامعان و " الزيادات " و " المبسوط " وغيرها ظاهر الرواية. وعن الأمالي والنوادر والورقيات فإنها روايات، والكيسانيات بغير ظاهر الرواية م: (أنه يصدق في الزيوف إذا وصل) ش: إذا قال لفلان علي ألف درهم قرض، أما إذا قطع كلامه ثم قال: بعد زمان هي زيوف، لا يصدقه باتفاق الروايات، م: (لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض وقد يكون) ش: المقبوض م: (زيفاً) ش: والقرض يقضي بالمثل، م: (كما في الغصب) ش: يكون المغصوب زيفاً، لأن الواجب فيه مثل المقبوض، والجامع(9/460)
ووجه الظاهر أن التعامل بالجياد فانصرف مطلقه إليها.
ولو قال: لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض، قيل: يصدق بالإجماع؛ لأن اسم الدراهم يتناولها، وقيل: لا يصدق لأن مطلق الإقرار ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة لا إلى الاستهلاك المحرم. ولو قال: اغتصبت منه ألفا أو قال: أودعني ثم قال: هي زيوف أو نبهرجة صدق، وصل أم فصل؛ لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد ولا تعامل، فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل، ولهذا لو جاء زاد المغصوب والوديعة بالمعيب كان القول قوله. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصدق فيه مفصولا اعتبارا بالقرض، إذ القبض فيهما هو الموجب للضمان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بينهما أن كلا منهما يوجب الضمان بالقبض، م: (ووجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية: م: (أن التعامل) ش: يكون بين الناس م: (بالجياد فانصرف مطلقه) ش: أي مطلق القرض م: (إليها) ش: أي إلى الجياد، فيجب عليه ذلك ثم دعواه الزيافة لا تقبل، لأنه رجوع عما أقر به.
[قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض]
م: (ولو قال: لفلان علي ألف درهم زيوف، ولم يذكر البيع والقرض، قيل: يصدق بالإجماع لأن اسم الدراهم يتناولها) ش: أي الزيوف م: (وقيل: لا يصدق) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصل أم فصل م: (لأن مطلق الإقرار بالدين ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة لا إلى الاستهلاك المحرم) ش: وهو الغصب المحرم فصار كما لو بين سبب التجارة، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل إقراره إذا قال المقر: له جياد. م: (ولو قال اغتصبت منه ألفاً أو قال: أودعني ثم قال: هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل، لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد) ش: لأن المقتضى في عقود المعاوضة م: (ولا تعامل) ش: أي في غصب الجياد ولا في إيداع الجياد بخلاف الاستقراض، فإن المتعامل فيه بالجياد، كذا قاله تاج الشريعة.
وقال شيخ العلاء: وهذا إشارة إلى الجواب عن فصل القرض، فإن في القرض إن لم يوجد المقتضى، فقد وجد التعامل والناس يتعاملون بالجياد فينصرف إلى الجياد ولم يوجد التعامل هنا فلا ينصرف إلى الجياد، م: (فيكون) ش: أي قول المقر م: (بيان النوع فيصح وإن فصل) ش: وقال الشافعي وأحمد: إذا فصل لم يصدق، وهو رواية عن أبي يوسف في الغصب م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن لا مقتضى له في الجياد م: (لو جاء زاد المغصوب والوديعة بالمعيب كان القول قوله) ش: فإن الاختلاف متى وقع وصفه المقبوض فالقول للقابض ضميناً أو أميناً.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يصدق فيه) ش: أي في الغصب م: (مفصولاً اعتباراً بالقرض إذ القبض فيهما) ش: أي في الغصب والقرض م: (هو الموجب للضمان) ش: وجوابه يعلم مما تقدم.(9/461)
ولو قال: هي ستوقة أو رصاص بعدما أقر بالغصب والوديعة ووصل صدق، وإن فصل لم يصدق؛ لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم، لكن الاسم يتناولها مجازا، فكان بيانا مغيرا فلا بد من الوصل وإن قال: في هذا كله ألفا ثم قال: إلا أنه ينقص كذا لم يصدق، وإن وصل صدق، لأن هذا استثناء المقدار والاستثناء يصح موصولا، بخلاف الزيافة؛ لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح، واللفظ يتناول المقدار دون الوصف وهو تصرف لفظي كما بينا. ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام بانقطاع نفسه فهو واصل لعدم إمكان الاحتراز عنه.
ومن أقر بغصب ثوب ثم جاء بثوب معيب فالقول قوله، لأن الغصب لا يختص بالسليم. ومن قال لآخر: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت فقال: لا بل أخذتها غصبا فهو ضامن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قال هي ستوقة أو رصاص بعدما أقر بالغصب والوديعة ووصل]
م: (ولو قال: هي ستوقة أو رصاص بعدما أقر بالغصب والوديعة ووصل صدق، وإن فصل لم يصدق؛ لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم، لكن الاسم) ش: أي اسم الدراهم م: (يتناولها) ش: أي الستوقة م: (مجازاً) ش: لمشابهة الستوقة والدراهم من حيث الصورة م: (فكان بياناً مغيراً فلا بد من الوصل) ش: أي فكان مغيراً لما اقتضاه أول كلامه، لأن أول كلامه يتناول الدراهم صورة وحقيقة وآخر كلامه يبين أن مراده الدراهم صورة لا حقيقة، وبين التفسير يصح موصولاً لا مفصولاً.
م: (وإن قال: في هذا كله ألفاً) ش: يعني المذكور من البيع والقرض والغصب، صورته إذا أقر وقال: لفلان علي ألف درهم، أو قال: أودعني ألف درهم، أو قال: غصبت ألف درهم أو أقرضني ألف درهم، أو قاضى ألف درهم، م: (ثم قال: إلا أنه ينقص كذا لم يصدق؛ وإن وصل صدق لأن استثناء المقدار) ش: أي استثناء لبعض ما أقر به من المقدار م: (والاستثناء يصح موصولاً، بخلاف الزيافة، لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح، واللفظ يتناول المقدار دون الوصف وهو) ش: فيصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى م: (تصرف لفظي) ش: يعني تصرف في الملفوظ لا فيما في غيره، م: (كما بينا) ش: أنه لا يصح إلا موصولاً.
م: (ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام، بانقطاع نفسه فهو واصل) ش: يعني يصح الاستثناء إذا كان الفصل للضرورة المذكورة م: (لعدم إمكان الاحتراز عنه) ش: لأن الإنسان يحتاج أن يتكلم بكلام كثير مع الاستثناء، ولا يقدر أن يتكلم بكلام كثير بنفس واحد، فجعل ذلك عفواً وعليه الفتوى، وبه قالت الأئمة الثلاثة.
[أقر بغصب ثوب ثم جاء بثوب معيب]
م: (قال) ش: أي القدروي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن أقر بغصب ثوب ثم جاء بثوب معيب فالقول قوله؛ لأن الغصب لا يختص بالسليم) ش: وسواء وصل أم فصل م: (ومن قال لآخر: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت فقال) ش: أي لقوله: م: (لا بل أخذتها غصباً فهو ضامن) ش: أي المقر ضامن، والقول قوله مع يمينه.(9/462)
فإن قال: أعطيتنيها وديعة فقال: لا بل غصبتنيها لم يضمن. والفرق أن في الفصل الأول أقر بسبب الضمان، وهو الأخذ ثم ادعى ما يبرئه وهو الإذن والآخر ينكره، فيكون القول له مع اليمين. وفي الثاني أضاف الفعل إلى غيره وذاك يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب، فكان القول لمنكره مع اليمين، والقبض في هذا كالأخذ، والدفع كالإعطاء.
فإن قال قائل: الإعطاء والدفع إليه لا يكون إلا بقبضه. فنقول: قد يكون بالتخلية والوضع بين يديه. ولو اقتضى ذلك، فالمقتضى ثابت ضرورة، فلا يظهر في انعقاده سبب الضمان، وهذا بخلاف ما إذا قال: أخذتها منك وديعة، وقال الآخر: بل قرضا حيث يكون القول للمقر، وإن أقر بالأخذ؛ لأنهما توافقا هناك على أن الأخذ كان بالإذن، إلا أن المقر له يدعي سبب الضمان وهو القرض والآخر ينكره فافترقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن قال: أعطيتنيها وديعة فقال) ش: أي المقر له م: (لا بل غصبتنيها لم يضمن، والفرق) ش: بين المسألتين م: (أن في الفصل الأول) ش: هو قوله: أخذت منك ألف درهم وديعة م: (أقر بسبب الضمان وهو الأخذ) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» .
وهذا يتناول رد العين حال بقائها ورد المثل حال زوالها لكون المثل قائماً مقام الأصل، م: (ثم ادعى ما يبرئه وهو الإذن) ش: من الإبراء وهو الإذن بالأخذ م: (والآخر ينكره، فيكون القول له مع اليمين) ش: إلا أن ينكل المقر له عن اليمين م: (وفي الثاني) ش: وفي نظر الثاني م: (أضاف الفعل إلى غيره) ش: وهو المقر له م: (وذاك) ش: أي ذلك الغير وهو المقر له م: (يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب، فكان القول لمنكره مع اليمين، والقبض في هذا كالأخذ) ش: يعني لو قال المقر: قبضت منك ألف درهم وديعة، فقال المقر له: غصبتها كان ضامناً، كان إذا قال: أخذتها وديعة م: (والدفع كالإعطاء) ش: يعني لا يضمن المقر إذا قال: دفعت إلي ألف درهم وديعة فقال المقر له: غصبتها، كما لو قال: أعطيتني.
[قال أخذتها منك وديعة وقال الآخر بل قرضا]
م: (فإن قال قائل: الإعطاء والدفع إليه لا يكون إلا بقبضه فنقول: قد يكون) ش: أي القبض م: (بالتخلية والوضع بين يديه) ش: وهو الجواب بطريق المنع، ثم قال بطريق التسليم: م: (ولو اقتضى ذلك) ش: أي وإن سلمنا أنه اقتضى ذلك كل واحد من التخلية، والموضع بين يديه قبض ثابت ضرورة، يعني بطريق الضرورة، فلا يشهر في انعقاد سبب الضمان، م: (فالمقتضى ثابت ضرورة فلا يظهر في انعقاده) ش: فلا يقتضي ثبوته بالضرورة يكون م: (سبب الضمان، وهذا) ش: أي وهذا الذي قلنا من ضمان المقر بالأخذ وديعة إذا قال المقر له: أخذتها غصباً.
م: (بخلاف ما إذا قال: أخذتها منك وديعة؛ وقال الآخر: بل قرضاً حيث يكون القول للمقر، وإن أقر بالأخذ؛ لأنهما توافقا هناك) ش: أي في القرض م: (على أن الأخذ كان بالإذن) ش: وهو السبب مسقط للضمان م: (إلا أن المقر له يدعي سبب الضمان وهو القرض والآخر ينكره فافترقا) ش: أي(9/463)
فإن قال: هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها منه، فقال فلان: هي لي فإنه يأخذها؛ لأنه أقر باليد له وادعى استحقاقها عليه وهو ينكر والقول للمنكر. ولو قال: أجرت دابتي هذه فلانا فركبها وردها، أو قال آجرت ثوبي هذا فلانا فلبسه ورده، وقال فلان: كذبت وهما لي فالقول قوله، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: القول قول الذي أخذ منه الدابة والثوب وهو القياس، وعلى هذا الخلاف الإعارة والإسكان،
ولو قال خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته وقال فلان: الثوب ثوبي فهو على هذا الخلاف في الصحيح. وجه القياس ما بيناه في الوديعة. وجه الاستحسان وهو الفرق: أن اليد في الإجارة والإعارة ضرورية تثبت ضرورة استيفاء المعقود عليه، وهو المنافع فيكون عدما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حكم الوديعة والقرض.
[قال هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها منه فقال فلان هي لي]
م: (فإن قال: هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها منه، فقال فلان: هي لي، فإنه) ش: أي فإن فلانا م: (يأخذها، لأنه) ش: أي لفلان وادعى استحقاقها عليه، أي لأن المقر م: (أقر باليد له) ش: أي لفلان م: (وادعى استحقاقها عليه وهو ينكر والقول للمنكر. ولو قال: أجرت دابتي هذه فلاناً فركبها وردها، أو قال: أجرت ثوبي هذا فلاناً فلبسه ورده، وقال فلان: كذبت وهما لي فالقول قوله؛ وهذا) ش: أي كون القول قوله م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: القول قول الذي أخذ منه الدابة أو الثوب وهو القياس) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة.
وفي " المبسوط " و " الإيضاح ": وهذا كله إذا لم تكن الدابة والثوب للمقر، أما إذا كان معروفاً فإن الدابة والثوب والدار للمقر، فقال: أعرته لفلان وقبضه فالقول قوله بالإجماع م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور م: (الإعارة والإسكان) ش: بأن قال: أعرتك داري هذه ثم رددتها علي، وأسكنتك داري ثم رددت، وقال الآخر: داري.
[قال خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته وقال فلان الثوب ثوبي]
م: (ولو قال: خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته، وقال: فلان الثوب ثوبي فهو على هذا الخلاف في الصحيح) ش: احترز به عن قول بعضهم فإنهم قالوا: القول قول المقر بالإجماع، ويكون ذلك دليلا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا: على الاختلاف أيضاً.
م: (وجه القياس: ما بيناه في الوديعة) ش: وهو قوله: " إن المقر أقر باليد لفلان ثم ادعى الاستحقاق عليه " فوجب عليه الرد كما في الوديعة.
م: (وجه الاستحسان وهو الفرق: أن اليد في الإجارة والإعارة) ش: بين الإجارة والوديعة: أن اليد في الإجارة والإعارة م: (ضرورة تثبت ضرورة استيفاء المعقود عليه وهو المنافع، فيكون عدماً)(9/464)
فيما وراء الضرورة، فلا يكون إقرارا له باليد مطلقا بخلاف الوديعة؛ لأن اليد فيها مقصودة، والإيداع إثبات اليد قصدا فيكون الإقرار به اعترافا باليد للمودع. ووجه آخر أن في الإجارة والإعارة والإسكان أقر بيد ثابتة من جهته فيكون القول قوله في كيفيته، ولا كذلك في مسألة الوديعة؛ لأنه قال فيها: كانت وديعة وقد تكون من غير صنعه، حتى لو قال: أودعتها كان على هذا الخلاف، وليس مدار الفرق على ذكر الأخذ في طرف الوديعة وعدمه في الطرف الآخر وهو الإجارة وأختاها؛ لأنه ذكر الأخذ في وضع الطرف الآخر وهو الإجارة في كتاب الإقرار أيضا، وهذا بخلاف ما إذا قال: اقتضيت من فلان ألف درهم كانت لي عليه، أو أقرضته ألفا ثم أخذتها منه وأنكر المقر له حيث يكون القول قوله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي اليد م: (فيما وراء الضرورة، فلا يكون إقرارا له مطلقاً) ش: أي قصداً من كل وجه م: (بخلاف الوديعة؛ لأن اليد فيها مقصودة، والإيداع إثبات اليد قصداً فيكون الإقرار به اعترافاً باليد للمودع) .
م: (ووجه آخر) ش: أي في الفرق م: (أن في الإجارة والإعارة والإسكان أقر بيد ثابتة من جهته فيكون القول قوله في كيفيته) ش: أي في كيفية ثبوت اليد بالطريق، كان كما لو قال: هذا عبدي بعته من فلان ولم يقم العبد إليه بعد، فقال المقر: لم اشتره كان القول قول المقر. وإن زعم الآخر خلاف، م: (ولا كذلك في مسألة الوديعة؛ لأنه قال فيها كانت وديعة، وقد تكون من غير صنعه) ش: بأن هبت الريح وألقته في داره، وكاللقطة فإنها وديعة في يد الملتقط وإن لم يدفع إليه صاحبها م: (حتى لو قال: أودعتها كان على هذا الخلاف) ش: المذكور، م: (وليس مدار الفرق على ذكر الأخذ في طرف الوديعة وعدمه في الطرف الآخر وهو الإجارة وأختاها) ش: أي الإعارة والإسكان، وإنما ذكر ضمير الراجع على الإجارة على تأويل العقد احترز بهذا عن قول الإمام علي القمي فإنه ذكر في الفرق أنه في مسألة الوديعة أخذتها منه يلزم جزاء الأخذ الرد، وهنا قال فردها علي فافترقا لافتراقهما في الوضع.
وقالوا في شروح " الجامع الصغير ": هذا الفرق ليس بشيء م: (لأنه) ش: أي لأن محمداً م: (ذكر الأخذ في وضع الطرف الآخر وهو الإجارة في كتاب الإقرار أيضاً) ش: فعلم أنه ليس يدري الفرق عليه؛ وأما علي القمي فهو علي بن موسى تلميذ محمد بن شجاع البلخي، وهو تلميذ الحسن بن زياد، وهو تلميذ أبي حنيفة، ونسبه إلى قم القاف وتشديد الميم وهي بلدة معروفة بالعراق.
م: (وهذا) ش: أي الذي ذكر في الإجارة وأختيها م: (بخلاف ما إذا قال: اقتضيت من فلان ألف درهم كانت لي عليه، أو أقرضته ألفاً ثم أخذتها منها وأنكر المقر له، حيث يكون القول قوله) ش:(9/465)
لأن الديون تقضى بأمثالها، وذلك إنما يكون بقبض مضمون، فإذا أقر بالاقتضاء فقد أقر بسبب الضمان، ثم ادعى تملكه عليه بما يدعيه عليه من الدين مقاصة والآخر ينكره. أما ههنا المقبوض عين ما ادعى فيه الإجارة وما أشبهها فافترقا.
ولو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذه الكرم وذلك كله في يد المقر فادعاها فلان وقال المقر: لا، بل ذلك كله لي استعنت بك ففعلت أو فعلته بأجر، فالقول للمقر لأنه ما أقر له باليد، وإنما أقر بمجرد فعل منه، وقد يكون ذلك في ملك يد المقر، وصار كما إذا قال خاط
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي كون المقر مع يمينه، م: (لأن الديون تقضي بأمثالها، وذلك) ش: أي قضاء الديون بأمثالها م: (إنما يكون بقبض المضمون) ش: ليصير ديناً على الدائن ثم يتقاصان، م: (فإذا أقر بالاقتضاء فقد أقر بسبب الضمان ثم ادعى تملكه عليه بما يدعيه عليه من الدين مقاصة) ش: أي ثم ادعى عليه ما يبرئه وهو المقاصة م: (والآخر ينكره) ش: فكان القول للمنكر.
م: (أما ههنا) ش: يعني في صورة الإجارة وأختيها م: (المقبوض عين ما ادعى فيه الإجارة وما أشبهها فافترقا) ش: أي الحكمان حكم الإقرار باقتضاء الدين، وحكم الإجارة يوضحه أن الدين يقضي بالمثل، فإذا أقر باقتضاء الدين كان مقدراً بأصل مثل حقه والمثل ملك المقر في الأصل، فيكون مقراً به فيرد على المقر له.
وأما في صورة الإجارة فالمقبوض غير ما ادعى فيه هذه الأشياء، فلا يكون مقراً بالملك للمقر له.
[أقر أن فلانا زرع هذه الأرض]
م: (ولو أقر أن فلاناً زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذه الكرم) ش: هذه مسائل " المبسوط " ذكرها تقريباً م: (وذلك كله) ش: أي والحال أن ذلك كله م: (في يد المقر فادعاها فلان) ش: أنها له م: (وقال المقر: لا بل ذلك كله لي استعنت بك) ش: أي على الزراعة وعلى البناء وعلى الغرس م: (ففعلت) ش: أي هذه الأشياء م: (أو فعلته بأجر فالقول للمقر) ش: أي المقر يده في الحال، م: (لأنه ما أقر له) ش: أي لفلان م: (باليد، وإنما أقر بمجرد فعل منه) ش: أي من فلان، وذا لا يدل على اليد، لأن العمل قد يكون من العين والأجير، واحترز بقوله بمجرد الفعل ما لو أقر أن فلاناً ساكن في هذا البيت، وادعى فلان البيت، فإنه يقضى به للساكن على المقر؛ لأن السكنى تثبت اليد على المسكن، فقال: إقرار باليد للغير مع الفعل وإقراره حجة عليه، وما يثبت بإقراره كالعائن في حقه، كذا في " المبسوط ".
م: (وقد يكون ذلك) ش: أي الفعل في الغير م: (في ملك يد المقر) ش: فإنه لا يؤمر بالرد عليه لأنه لم يقر بالقبض معه بعدما أقر بهذه الأشياء م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما إذا قال: خاط(9/466)
لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم، ولم يقل قبضته منه لم يكن إقراراً باليد، ويكون القول للمقر؛ لأنه أقر بفعل منه وقد يخيط ثوباً في يد المقر كذا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لي الخياط قميصي هذا بنصف، درهم ولم يقل: قبضته منه لم يكن إقراراً باليد، ويكون القول للمقر؛ لأنه بفعل منه) ش: وذا لا يدل على اليد م: (وقد يخيط) ش: الخياط م: (ثوباً في يد المقر) ش: بأن خاطه في بيت المقر فلا يثبت يد الخياط عليه م: (كذا هذا) ش: أي وكذا حكم المسألة المذكورة في عدم لزوم الرد على المقر، والله أعلم.(9/467)
باب إقرار المريض قال: وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والديون المعروفة الأسباب مقدم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دين المرض ودين الصحة يستويان لاستواء سببهما، وهو الإقرار الصادر عن عقل ودين، ومحل الوجوب الذمة القابلة للحقوق فصار كإنشاء التصرف مبايعة ومناكحة. ولنا: أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب إقرار المريض]
[حكم إقرار المريض]
م: (باب إقرار المريض)
ش: أي هذا باب في بيان حكم إقرار المريض، وإنما أفرده بباب على حدة لاختصاصه بأحكام ليست للصحيح، وأخره لأن المرض بعد الصحة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة) ش: مثل بدل مال ملكه أو استهلكه أو مهر مثل امرأة تزوجها وعلم معاينة، وأقر أيضاً بديون غيره معلومة الأسباب م: (فدين الصحة والديون المعروفة الأسباب مقدم) ش: على ما أقر به في مرضه.
وقال القاضي الحنبلي: قياس من مذهب أحمد أن دين الصحة أولى إذا ضاق مال عنها وهو قولنا، وبه قال النخعي والثوري.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - دين المرض ودين الصحة يستويان لاستواء سببهما، وهو الإقرار الصادر عن عقل ودين ومحل الوجوب الذمة القابلة للحقوق) ش: وهي في الحالين م: (فصار كإنشاء التصرف مبايعة ومناكحة) أي صار إقراره في المرض كتصرفه بالبيع والنكاح فيستوي الحالان، وبه قال مالك: - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمزني والتهمي -من أصحاب أحمد - وأبو ثور وأبو عبيدة.
وذكر أبو عبيدة أنه مذهب أهل المدينة.
م: (ولنا: أن الإقرار لا يعتبر دليلاً إذا كان فيه) ش: أي في الإقرار م: (إبطال حق الغير) ش: كما رهن أو أجر ثم أقر أنه بغيره لا ينفذ إقراره في حق المرتهن والمستأجر لتعلق حقهما به م: (وفي إقرار المريض ذلك) ش: أي إبطال حق الغير م: (لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء) ش: أي من حيث الاستيفاء م: (ولهذا منع) ش: أي المريض م: (من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث) ش: إذا أحاطت الديون بماله، وبالزيادة على الثلث إذا لم يكن عليه دين.
وفي هذا التوضيح جواب عما ادعى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الاستواء بين حالة الصحة(9/468)
بخلاف النكاح لأنه من الحوائج الأصلية وهو بمهر المثل. وبخلاف المبايعة بمثل القيمة لأن حق الغرماء تعلق بالمالية لا بالصورة. وفي حال الصحة لم يتعلق حقهم بالمال لقدرته على الاكتساب فيتحقق التثمير، وهذه حالة العجز، وحالتا المرض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحالة المرض، فإنه لو كانتا متساويتين لما منع من التبرع والمحاباة في حالة المرض كما في حالة الصحة.
فإن قيل: الإقرار بالوارث في المرض صحيح وقد يضمن إبطال حق بقية الورثة؟.
أجيب: بأن استحقاق الوارث المال والمورث جميعاً، فالاستحقاق يضاف إلى أحدهما وجوباً وهو الموت، بخلاف الدين فإنه يجب بالإقرار لا بالموت.
م: (بخلاف النكاح) ش: جواب عما استشهد به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من إنشاء النكاح؛ وتقريره: أن يقال: لا يلزمنا إنشاء النكاح، م: (لأنه من الحوائج الأصلية) ش: والمرء غير ممنوع منها، لأن بقاء النفس بالتناسل ولا طريق إليه إلا بالنكاح م: (وهو) ش: أي النكاح م: (بمهر المثل) ش: هو من الحوائج الأصلية، وهذه جملة حالية، تقريره: أن النكاح من الحوائج الأصلية حال كونه بمهر المثل والزيادة عليه باطلة، والنكاح جائز.
فإن قيل: لو تزوج شيخ فان رأسه جاز، وليس بمحتاج إليها فلم يكن من الحوائج الأصلية؟.
أجيب: بأن النكاح في أصل الوضع من مصالح الميت، والعبرة لأصل الوضع لا للحال، فإن الحال مما لا يوقف عليها.
م: (وبخلاف المبايعة بمثل القيمة) ش: يعني المبايعة بمثل القيمة لا تبطل حق الغرماء، م: (لأن حق الغرماء تعلق بالمالية لا بالصورة) .
ش: والمالية باقية م: (وفي حال الصحة لم يتعلق حقهم بالمال) ش: هذا جواب عما يقال: لو تعلق حق الغرماء بمال المديون بطل إقراره بالدين بالصحة، لأن الإقرار المتضمن لإبطال حق الغير غير معتبر؛ أجاب بقوله: وفي حال الصحة لم يتعلق الدين بالمال م: (لقدرته على الاكتساب فيتحقق التثمير) ش: أي تثمير المال وهو تثمير، ومنه قولهم ثمرة ماله، أي كثرة فإذا تحقق التثمير لم يحتج إلى تعليق حق الغرماء بماله، م: (وهذه) ش: أي حالة المرض م: (حالة العجز) ش: أي على الاكتساب فتعلق حقهم به حذراً عن الهوى، وكذا في المرض جواب عما يقال: سعى إذا أقر في حالة المرض سائبا لا يصح لتعلق حق المقر الأول بماله، كما لا يصح إقراره في المرض في حق غرماء الصحة لتعلق حقهم بماله.
فأجاب عنه بقوله: م: (وحالتا المرض) ش: أي حالة أول المرض وحالة آخر المرض بعد أن(9/469)
حالة واحدة لأنه حالة الحجر بخلاف حالتي الصحة والمرض، لأن المولى حالة إطلاق وهذه حالة عجز فافترقا، وإنما تقدم الديون المعروفة الأسباب لأنه لا تهمة في ثبوتها إذ المعاين لا مرد له، وذلك مثل بدل مال ملكه لو استهلكه وعلم وجوبه بغير إقراره أو تزوج امرأة بمهر مثلها، وهذا الدين مثل دين الصحة لا يقدم أحدهما على الآخر لما بينا
ولو أقر بعين في يده لآخر لم يصح في حق غرماء الصحة لتعلق حقهم به،
ولا يجوز للمريض أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض؛ لأن في إيثار بعض إبطال حق الباقين، وغرماء الصحة والمرض في ذلك سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتصل بهما الموت م: (حالة واحدة) ش: في حق الحجر، فكانا بمنزلة إقرار واحد لما أن حالة الصحة حالة واحدة فيعتبر الإقراران جميعاً، م: (لأنه) ش: أي لأن المرض م: (حالة الحجر) ش: عن التصرف فيما لا يجوز.
م: (بخلاف حالتي الصحة والمرض؛ لأن الأولى) ش: أي حالة الصحة م: (حالة إطلاق) ش: للتصرف م: (وهذه) ش: أي حالة المرض م: (حالة عجز فافترقا) ش:، ولو قال: حالة العجز لكان أولى لكونه أشد مناسبة بالإطلاق، أي المذكورين من الحكمين دين الصحة ودين المرض، وبقي الكلام في تقديم الديون المعروفة الأسباب فقال: م: (وإنما تقدم الديون المعروفة الأسباب لأنه لا تهمة في ثبوتها إذ المعاين لا مرد له) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المعاين لا يرد» م: (وذلك) ش: إشارة إلى مثال الديون المعروفة الأسباب.
فقال: م: (مثل بدل مال ملكه) ش: كالثمن في البيع والقرض م: (لو استهلكه) ش: أي مثل بدل مال استهلكه م: (علم وجوبه) ش: أي وجوب بدل المال المذكور م: (بغير إقراره) ش: إما بالبينة أو بعلم القاضي، م: (أو تزوج امرأة بمهر مثلها) ش: فإنه أيضاً من المعروفة الأسباب، م: (وهذا الدين) ش: يعني الدين وقع في مرضه على الوجه المذكور م: (مثل دين الصحة لا يقدم أحدهما على الآخر لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: إذ المعائن لا مرد له كذا قاله الأترازي، وقال: لما بينا إشارة إلى قوله: إنه من الحوائج الأصلية.
[أقر المريض بعين في يده لآخر]
م: (ولو أقر بعين في يده لآخر) ش: يعني إذا أقر بعين سواء كانت أمانة أو مضمونة م: (لم يصح) ش: أي إقراره م: (في حق غرماء الصحة، لتعلق حقهم به) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رحمهما الله - في رواية يصح لما في الدين، وكذا يجوز عندهم أن تقضي دين بعض الغرماء به ما دون البعض بناء على أصلهم أن بسبب المرض لا يلحقه الحجر، فكان في رقبته من الدين، وقضاءه بالمرض والصحة سواء.
م: (ولا يجوز للمريض أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض، لأن في إيثار البعض إبطال حق الباقين، وغرماء الصحة والمرض في ذلك سواء) ش: إذا كانت معروفة الأسباب سواء لأن حق الكل(9/470)
إلا إذا قضى ما استقرض في مرضه أو نقد ثمن ما اشترى في مرضه وقد علم بالبينة.
وقال وإذا قضيت يعني الديون المقدمة وفضل شيء يصرف إلى ما أقر به في حالة المرض، لأن الإقرار في ذاته صحيح، وإنما رد في حق غرماء الصحة، فإذا لم يبق حقهم ظهرت صحته.
قال: فإذا لم يكن عليه ديون في صحته جاز إقراره، لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير وكان المقر له أولى من الورثة لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أقر المريض بدين جاز ذلك عليه في جميع تركته ولأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية وحق الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفراغ، ولهذا تقدم حاجته في التكفين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتعلق بالمال م: (إلا إذا قضى ما استقرض) ش: استثناء من قوله ولا يجوز للمريض، ومعناه: إذا قضى ما استقرض م: (في مرضه) ش: أي حال كونه في مرضه م: (أو نقد ثمن ما اشترى في مرضه وقد علم) ش: أي والحال أنه قد علم وجوبه م: (بالبينة) ش: أو بالمعاينة جاز ذلك وسلم المقبوض للقابض لا يشاركه غيره، لأنه لو لم يبطل حق الغرماء وإنما حوله من محل إلى محل يعد له.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا قضيت) ش: على صيغة المجهول م: (يعني الديون المقدمة) ش: وهي ديون الصحة والديون اللازمة بأسباب معلومة م: (وفضل شيء يصرف إلى ما أقر به في حالة المرض؛ لأن الإقرار في ذاته صحيح، وإنما رد في حق غرماء الصحة) ش: لئلا تضيع حقوقهم م: (فإذا لم يبق حقهم) ش: أي حق غرماء الصحة م: (ظهرت صحته) ش: أي صحة إقراره في مرضه، لأنه حينئذ كأنه لم يبق دين الصحة.
[أقر الرجل في مرضه بدين]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإذا لم يكن عليه ديون في صحته جاز إقراره) ش: لعدم المانع م: (لأنه لم يتضمن) ش: أي لأن إقراره هذا لم يتضمن م: (إبطال حق الغير، وكان المقر له أولى من الورثة لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أقر المريض بدين جاز ذلك عليه في جميع تركته) ش: هذا غريب لم يتصل ثبوته، وأيضاً نسبته إلى عمر غير صحيح، وإنما هو عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه روى في " مبسوط خواهر زاده " وغيره عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وكذلك روى في " الأصل " جده محمد بن الحسن فيه عن يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد بن عبيد الله العرزمي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا أقر الرجل في مرضه بدين لرجل غير وارث فإنه جائز، وإن أحاط ذلك بماله وزاد على ذلك الأترازي: وأما الكمال وشيخه الكاكي فقد مشيا على ما هو المذكور في " الهداية " ولم ينبه أحد منهما على ما قلنا، م: (ولأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية وحق الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفراغ) ش: الحاجة م: (ولهذا تقدم حاجته في التكفين) ش: والتجهيز على الإرث.(9/471)
قال: ولو أقر المريض لوارثه لا يصح إلا أن يصدق فيه بقية الورثة. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد قوليه يصح؛ لأنه إظهار حق ثابت لترجح جانب الصدق فيه، وصار كالإقرار لأجنبي وبوارث آخر وبوديعة مستهلكة للوارث. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أقرالمريض لوارثه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولو أقر المريض لوارثه) ش: بدين أو غيره م: (لا يصح، إلا أن يصدق فيه) ش: أي في إقراره ببينة الورثة م: (بقية الورثة) ش: وبه قال أحمد، وهو قول شريح وإبراهيم النخعي ويحيى الأنصاري والقاسم بن سالم وأبو هاشم والشافعي في قول.
م: (وقال الشافعي في أحد قوليه يصح) ش: وهو الأصح، وبه قال أبو ثور - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول عطاء والحسن البصري - رحمهما الله -.
وقال مالك: يصح إذا لم يتهم، ويبطل إزاءهم كمن لم يثبت وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن عمر فأقر لا بينة لم يقبل؛ ولو أقر لابن عمه قبل، واختاره الروياني من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفساد الزمان.
وقال مالك: لو أقر لأجنبي لا يصح في رواية إذا كان متهماً بأن الأجنبي صديقاً له ملاطفاً، والمقر يورث كلالة، م: (لأنه) ش: أي لأن الإقرار م: (إظهار حق ثابت) ش: يعني إخبار عن حق لازم عليه م: (لترجح جانب الصدق فيه) ش: أي في هذا الإقرار، لأن حال المريض أدل على الصدق لأنه حال تدارك الحقوق، فكان كحال الصحة، بل أدل فلا أثبت الحجر عن الإقرار به م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كالإقرار لأجنبي وبوارث آخر) ش: نحو أن يقر المجهول النسب أنه يصح وأن يضمن وصول شيء من التركة إليه م: (وبوديعة مستهلكة للوارث) ش: أي وكالإقرار باستهلاك وديعة معروفة للوارث فإنه صحيح.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين» ش: هذا الحديث رواه الدارقطني في " سننه " عن نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا وصية ... إلى آخره. وهو مرسل. ونوح بن دراج ضعيف، نقل عن أبي داود أنه قال: أبان يضع الحديث.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولنا حديث الدارقطني وساقه إلى آخره ولم يقف على حاله(9/472)
ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه، ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا، ففي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين، ولأن حالة المرض حالة الاستغناء، والقرابة سبب التعلق إلا أن هذا التعلق لم يظهر في حق الأجنبي لحاجته إلى المعاملة في الصحة؛ لأنه لو انحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه، وقلما تقع المعاملة مع الوارث ولم يظهر في حق الإقرار بوارث آخر لحاجته أيضا، ثم هذا التعليق حق بقية الورثة، فإذا صدقوه فقد أبطلوه فيصح إقراره. قال: فإن أقر لأجنبي جاز وإن أحاط بماله لما بينا. والقياس: أن لا يجوز إلا في الثلث، لأن الشرع قصر تصرفه عليه إلا أنا نقول لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ... الحديث، ثم قال: وهو نص في الباب، لكن شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هذه الزيادة غير مشهورة، يعني قوله: والإقرار له بدين، والمشهور قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقد مر عن قريب، م: (ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه، ولهذا) ش: أي ولأجل تعلق حق الورثة بماله في مرضه م: (يمنع من التبرع على الوارث أصلا) ش: مثل الوصية والهبة م: (ففي تخصيص البعض به) ش: أي التبرع م: (إبطال حق الباقين، ولأن حالة المرض حالة الاستغناء) ش: أي عن المال لظهور آثار الموت فيه، م: (والقرابة سبب التعلق) ش: أي سبب تعلق حقهم بماله.
م: (إلا أن هذا التعلق لم يظهر في حق الأجنبي لحاجته إلى المعاملة في الصحة) ش: أي في حالة الصحة م: (لأنه لو انحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه) ش: أي مع المريض، م: (وقلما تقع المعاملة مع الوارث) ش: هذا جواب عما يقال: الحاجة موجودة في حق الوارث أيضاً لأن الناس كما يعاملون مع الأجنبي يعاملون مع الوارث، فأجاب عنه بقوله وقل ما يقع المعاملة مع الوارث.
اعلم أن قل فعل دخلت عليه كلمة ما ومعناه إخبار عن وقوع هذا الفعل بقلة، ووجه ذلك كان البيع للاسترباح، والاسترباح مع الوارث لأنه يستحي من المماكسة معه فلا يحصل الربح م: (ولم يظهر) ش: أي هذا التعليق.
م: (في حق الإقرار بوارث آخر لحاجته أيضاً) ش: أي بقاء نسله والإقرار بالنسب بفعل، لأنه من الحوائج الأصلية، ولأن فيه حمل النسب على نفسه وصح، وإذ ثبت النسب ثبت الميراث ضرورة. م: (ثم هذا التعليق حق بقية الورثة، فإذا صدقوه فقد أبطلوه فيصح إقراره) ش: وهذا ظاهر م: (فإن أقر الأجنبي جاز وإن أحاط) ش: أي إقراره م: (بماله لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأنه لو أنحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه م: (والقياس: أن لا يجوز إلا في الثل؛ لأن الشرع قصر تصرفه عليه إلا أنا نقول: لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي(9/473)
لأنه الثلث بعد الدين ثم، وثم حتى يأتي على الكل.
قال: ومن أقر لأجنبي ثم قال: هو ابني ثبت نسبه منه وبطل إقراره له، فإن أقر لأجنبية ثم تزوجها لم يبطل إقراره لها. وجه الفرق أن دعوى النسب تسند إلى وقت العلوق، فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح، ولا كذلك الزوجية، لأنها تقتصر على زمان التزوج فبقي إقراره لأجنبية. قال ومن طلق زوجته في مرضه ثلاثا ثم أقر لها بدين ومات فلها الأقل من الدين ومن ميراثها منه لأنهما متهمان فيه لقيام العدة، وباب الإقرار مسدود للورثة، فلعله أقدم على هذا الطلاق ليصح إقراره لها زيادة على ميراثها ولا تهمة في أقل الأمرين فيثبت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه الثلث بعد الدين) ش: محل التصرف فينفذ الإقرار في الثلث الثاني م: (ثم وثم حتى يأتي على الكل) ش: هكذا ذكر في " الإيضاح " أيضاً.
[أقر لأجنبي ثم قال هو ابني]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن أقر لأجنبي ثم قال: هو ابني ثبت نسبه منه وبطل إقراره له، فإن أقر لأجنبية ثم تزوجها) ش: وبه قال أحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول لا يصح إقراره للوارث، وبه قال أحمد في الأصح والشافعي في القديم ومالك، واختاره الروياني وأبو إسحاق من أصحابه.
وقال في الجديد وهو الأظهر في مذهبه وأحمد في رواية، م: (لم يبطل إقراره لها وجه الفرق) ش: أي بين المسألتين م: (أن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق، فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح) ش: معناه أن النسب إذا ثبت يثبت مستنداً إلى وقت العلوق، فيتبين بثبوت النسب أن إقرار المريض وقع لوارثه وذلك باطل م: (ولا كذلك الزوجية، لأنها) ش: أي لأن الزوجية م: (تقتصر على زمان التزوج) ش: قضاه إذا ثبتت الزوجية تثبت مقتصرة على زمان العقد، م: (فبقي إقراره لأجنبية) ش: فلا يبطل وفي قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يبطل الإقرار لها بالدين، بخلاف الزوجية م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن طلق امرأته) ش: وفي نسخة: زوجته م: (في مرضه ثلاثاً ثم أقر لها بدين ومات فلها الأقل من الدين ومن ميراثها) ش: أي من الزوج م: (منه لأنهما متهمان فيه لقيام العدة وباب الإقرار مسدود للوارث، فلعله أقدم على هذا الطلاق ليصح) ش: لأن هذا إذا كانت مؤقتة قبل انقضاء العدة، فإن مات مثلاً جاز م: (إقراره لها زيادة على ميراثها ولا تهمة في أقل الأمرين فيثبت) ش: أي أقل الأمرين. وقال الأسبيجابي في " شرح الكافي ": ولو أقر لامرأته بدين من مهرها صدق فيما بينه وبين مهر مثلها ويحاص غرماء الصحة. ولو أقرت في مرضها بقبض المهر من زوجها لم تصدق. وفي " الفتاوى الصغرى ": المريضة إذا أقرت باستيفاء مهر فإن ماتت وهي منكوحة أو معتدة لا يصح إقرارها وإن ماتت غير منكوحة ولا معتدة بأن طلقها قبل الدخول يصح، والله أعلم.(9/474)
فصل قال: ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا، لأن النسب مما يلزمه خاصة فيصح إقراره به، وشرط أن يولد مثله لمثله كيلا يكون مكذبا في الظاهر، وشرط أن لا يكون له نسب معروف؛ لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه لأنه في يد نفسه، إذ المسألة ووضعها في غلام يعبر عن نفسه، بخلاف الصغير على ما مر من قبل ولا يمتنع بالمرض لأن النسب من الحوائج الأصلية ويشارك الورثة في الميراث لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه]
فصل أي هذا فصل في بيان الإقرار بالنسب ولعلته بالنسبة إلى الإقرار بالمال أخر ذكره.
م: (قال: ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه) ش: أي مثل هذا الغلام فولد لمثل هذا الرجل لئلا يكون مكذباً في الظاهر، م: (وصدقه الغلام ثبت نسبه منه) ش: أي فيما إذا كان الغلام يعبر عن نفسه، أما إذا كان لا يعبر عن نفسه يثبت نسبه منه بدون تصديقه. وهذان شرطان شرطهما القدوري لأن المسألة من مسائله في " مختصره "، وسيذكره المصنف، م: (وإن كان مريضاً) ش: واصل بما قبله أي وإن كان المقر مريضاً م: (لأن النسب مما يلزمه خاصة) ش: لأنه حمل النسب على نفسه لا على غيره م: (فيصح إقراره به) ش: لأن النسب عما يحتاط فيه، م: (وشرط) ش: أي القدوري: م: (أن يولد مثله لمثله كيلا يكون مكذباً في الظاهر) ش: وعند الشافعي وأحمد: لا يشترط تصديقه وتكذيبه إذا لم يكن مكلفاً كالصغير والمجنون عبر عن نفسه أولاً.
وفي " الكبير ": يشترط تصديقه. وقال مالك: لا يشترط تصديقه إذا لم يكذبه الحس أو الشرع سواء كان كبيراً أو صغيراً، وإن كذبه الحس بأن يكون لا يولد مثله لئلا يثبت نسبه بلا خلاف.
وقال مالك أيضاً: لو كذبه العرف بأن يتيقن الناس بأنه ليس بولده كما إذا كان الغلام سندياً والرجل فارسياً لا يثبت نسبه، ولا يكون الغلام حراً ذكره في " الجواهر ". م: (وشرط) ش: أي القدوري أيضاً: م: (أن لا يكون نسب معروف لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط) ش: أي القدوري م: (تصديقه) ش: أي تصديق الغلام م: (لأنه في يد نفسه إذ المسألة ووضعها في غلام يعبر عن نفسه، بخلاف الصغير على ما مر من قبل) ش: أي في باب دعوى النسب من كتاب الدعوى في قوله: وإن كان الدعوى الصبي في يديهما م: (ولا يمتنع بالمرض) ش: أي لا يمتنع الإقرار بالنسب بسبب المرض م: (لأن النسب من الحوائج الأصلية ويشارك الورثة في الميراث، لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته) .(9/475)
قال: ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى، لأنه أقر بما يلزمه وليس فيه تحميل النسب على الغير ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج والمولى لما بينا ولا يقبل بالولد لأن فيه تحميل النسب على الغير، وهو الزوج لأن النسب منه إلا أن يصدقها الزوج لأن الحق له أو تشهد بولادته قابلة، لأن قول القابلة في هذا مقبول وقد مر في الطلاق. وقد ذكرنا في إقرار المرأة تفصيلا في كتاب الدعوى ولا بد من تصديق هؤلاء، ويصح التصديق في النسب بعد موت المقر لأن النسب يبقى بعد الموت، وكذا يصح تصديق الزوجة لأن حكم النكاح باق، وكذا يصح تصديق الزوج بعد موتها؛ لأن الإرث من أحكامه وهذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى، لأنه أقر بما يلزمه وليس فيه تحميل النسب على الغير) ش: كل ذلك يجوز بالشرائط المذكورة، ويشترط أن يصدقه الأب والأم إذا كانا عاقلين، وفي هذا إجماع لا خلاف فيه، وإنما أطلق المولى ليشتمل الأعلى والأسفل جميعا م: (ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج والمولى لما بينا) ش: وهو: أن موجب الإقرار يثبت لهما بينهما بتصادقهما، وليس فيه حمل الغيب على الغير، ويشترط أن تكون المرأة خالية عن الزوج وعدته، ولا يكون تحت المقر له بالزوجية أختاً وأربع سواها، م: (ولا يقبل بالولد) ش: أي ولا يقبل إقرار المرأة بالولد م: (لأن فيه تحميل النسب على الغير، وهو الزوج؛ لأن النسب منه) ش: أي من الزوج م: (إلا أن يصدقها الزوج، لأن الحق له أو تشهد بولادته قابلة، لأن قول القابلة في هذا مقبول، وقد مر في الطلاق) ش: أي في باب ثبوت النسب عند قوله فإن حجة الولادة بشهادة امرأة واحدة تشهد بولادة حتى لو نفاه الزوج الملاعن م: (وقد ذكرنا في إقرار المرأة تفصيلا في كتاب الدعوى) ش: فهو عند قوله: وإذا ادعت امرأة صبياً أنه ابنها، لم تجز دعواها حتى تشهد امرأة على الولادة.
م: (ولا بد من تصديق هؤلاء) ش: بلا خلاف لأنه في أيدي أنفسهم، فيتوقف نفاذ الإقرار على تصديقهم، م: (ويصح التصديق في النسب بعد موت المقر، لأن النسب يبقى بعد الموت) ش: ذكر هذا تفريعاً على مسألة القدوري، معناه: أن المقر بالنسب إذا كان يعبر عن نفسه فلا بد من تصديقه لأنه في يد نفسه، فإذا صدق في حال حياة المقر صح، فكذا إذا صدق بعد موته لبقاء النسب بعد الممات.
م: (وكذا يصح تصديق الزوجة) ش: أي زوجها في إقراره بالنكاح بعد موته م: (لأن حكم النكاح باق) ش: أي بعد الموت وهو العدة، وهذا بالاتفاق م: (وكذا يصح تصديق الزوج بعد موتها) ش: أي وكذا يصح تصديق زوج المرأة بعد موتها إذا أقرت بالنكاح، وهذا عند أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى يجب عليه مهرها وله الميراث منها م: (لأن الإرث من أحكامه) ش: أي من أحكام النكاح وهو مما يبقى بعد النكاح كالعدة م: (وهذا) ش: أي تصديق الزوج بعد(9/476)
وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح لأن النكاح انقطع بالموت، ولهذا لا يحل له غسلها عندنا، ولا يصح التصديق على اعتبار الإرث لأنه معدوم حالة الإقرار، وإنما يثبت بعد الموت والتصديق يستند إلى أول الإقرار.
قال: ومن أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم لا يقبل إقراره في النسب، لأن فيه حمل النسب على الغير، فإن كان له وارث معروف قريب أو بعيد فهو أولى بالميراث من المقر له، لأنه لما لم يثبت نسبه منه لا يزاحم الوارث المعروف، وإن لم يكن له وارث استحق المقر له ميراثه، لأن له ولاية التصرف في مال نفسه عند عدم الوارث ألا ترى أن له أن يوصي بجميعه عند عدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موتها م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح؛ لأن النكاح انقطع بالموت، ولهذا لا يحل له غسلها عندنا) ش: حتى لا يجوز له أن يتزوج أختها وأربعاً سواها م: (ولا يصح التصديق على اعتبار الإرث) ش: هذا جواب عما يقال على وجه الإيراد على قول أبي حنيفة وهو أن يقال: سلمنا أن تصديق الزوج في إقرار الزوجة بعد موتها لا يصح نظراً إلى انقطاع حكم التزوج بدليل أن الزوج لا يحل له أن يغسل زوجته بعد موتها باتفاق أصحابنا خلافاً للشافعي، ولكن لا يجوز تصديق الزوج إياها بعد موتها على اعتبار الإرث، لأن التصديق إذا ثبت يستند إلى أول الإقرار، وفي تلك الحالة لا يوجد الإرث لأنه لا يتحقق إلا بعد الموت، وهو معنى قوله: م: (لأنه) ش: أي لأن الإرث م: (معدوم حالة الإقرار، وإنما يثبت) ش: أي الإرث م: (بعد الموت والتصديق يستند إلى أول الإقرار) ش: وفي هذه الحالة لم يوجد الإرث كما ذكرنا.
[أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم لا يقبل إقراره في النسب) ش: وإن صدق المقر له بالنسب لا بد له من البينة، كذا في " التحفة " م: (لأن فيه) ش: أي لأن في هذا الإقرار م: (حمل النسب على الغير) ش: لأن في إقراره بالأخ يكون حمل النسب على الأب، وفي إقراره بالعم يكون حمل النسب على الجد م: (فإن كان له) ش: أي لهذا المقر بالأخ أو بالعم م: (وارث معروف قريب) ش: كصاحب الفرض أو العصبة م: (أو بعيد) ش: كذي رحم م: (فهو بالميراث) ش: أي بميراث هذا المقر إذا مات كان أولى م: (من المقر له) ش: بالأخ أو بالعم.
م: (لأنه لما لم يثبت نسبه) ش: أي نسب المقر له م: (منه لا يزاحم الوارث المعروف، وإن لم يكن له وارث استحق المقر له) ش: وهو الأخ أو العم م: (ميراثه؛ لأن له ولاية التصرف في مال نفسه عند عدم الوارث) ش: فيتصرف بما شاء ثم أوضح ذلك بقوله: م: (ألا ترى أن له أن يوصي بجميعه) ش: أي بجميع ماله، فإذا كان كذلك عند عدم الوارث فيستحق المقر له المذكور م: (عند عدم(9/477)
الوارث فيستحق جميع المال وإن لم يثبت نسبه منه لما فيه من حمل النسب على الغير، وليست هذه وصية حقيقية حتى إن من أقر بأخ ثم أوصى لآخر بجميع ماله كان للموصى له ثلث جميع المال خاصة ولو كان الأول وصية لاشتركا نصفين لكنه بمنزلته حتى لو أقر في مرضه بأخ وصدقه المقر له ثم أنكر المقر وراثته ثم أوصى بماله كله لإنسان كان المال للموصى له، ولو لم يوص لأحد كان لبيت المال؛ لأن رجوعه صحيح، لأن النسب لم يثبت فبطل الإقرار.
قال: ومن مات أبوه فأقر بأخ لم يثبت نسب أخيه لما بينا ويشاركه في الميراث، لأن إقراره تضمن شيئين حمل النسب على الغير، ولا ولاية له عليه والاشتراك في المال وله فيه ولاية فيثبت كالمشتري إذا أقر على البائع بالعتق لم يقبل إقراره عليه حتى لا يرجع عليه بالثمن ولكنه يقبل في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوارث فيستحق جميع المال وإن لم يثبت نسبه منه لما فيه من حمل النسب على الغير، وليست هذه وصية حقيقية) ش: بيان هذا أن المقر له المذكور إذا لم يكن وارثاً كان له أن يتصرف في ماله بما شاء حتى يجوز له أن يوصي بجميع ماله، فإذا أقر بما لا يثبت نسبه صار كأنه أقر من حبه تصرف ماله فكأنه أوصى له به، وليس هذا بوصية في الحقيقة أوضح ذلك بقوله: م: (حتى إن من أقر بأخ ثم أوصى لآخر بجميع ماله كان للموصى له ثلث جميع المال خاصة. ولو كان الأول) ش: أي الإقرار بالأخ م: (وصية لاشتركا) ش: أي الأخ والموصى له بجميع ماله م: (نصفين لكنه) ش: استدراك من قوله: وليست هذه وصية حقيقة، أي لكن الإقرار بنسب الأخ أو العم م: (بمنزلته) ش: أي بمنزلة الوصية بدليل صحة الرجوع، ولو لم يكن بمنزلة الوصية لما صح الرجوع ثم أوضح ذلك أيضاً بقوله:
م: (حتى لو أقر في مرضه بأخ وصدقه المقر له ثم أنكر المقر وراثته، ثم أوصى بماله كله لإنسان كان المال للموصى له) ش: بالجميع م: (ولو لم يوص لأحد كان لبيت المال؛ لأن رجوعه صحيح لأن النسب لم يثبت فبطل الإقرار) ش: وينبغي أن يعرف أن الرجوع عن الإقرار بالنسب إنما يصح إذا كان الرجوع قبل ثبوت كما نحن فيه، فإذا ثبت النسب لا يصح الرجوع بعد ذلك لأن النسب لا يحتمل النقض بعد ثبوته.
[مات أبوه فأقر بأخ]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (من مات أبوه فأقر بأخ لم يثبت أخيه لما بينا) ش: وهو أن فيه حمل النسب على الغير م: (ويشاركه في الميراث) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وأكثر أهل العلم، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يشارك في الإرث لعدم ثبوت النسب، وحكي ذلك عن ابن سيرين، م: (لأن إقراره تضمن شيئين حمل النسب على الغير ولا ولاية له عليه، والاشتراك في المال وله فيه ولاية فيثبت كالمشتري إذا أقر على البائع بالعتق) ش: يقبل إقراره بالعتق ولا يقبل إقراره، أي في عدم الرجوع بالثمن، لكن لا يعتبر في حق الرجوع بالثمن على البائع وهو معنى قول: م: (لم يقبل إقراره عليه، حتى لا يرجع عليه بالثمن، ولكنه يقبل في(9/478)
حق العتق
قال من مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أباه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون، لأن هذا إقرار بالدين على الميت؛ لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون، فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا. غاية الأمر أنهما تصادقا على كون المقبوض مشتركا بينهما، لكن المقر لو رجع على القابض بشيء لرجع القابض على الغريم ورجع الغريم على المقر فيؤدي إلى الدور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق العتق) ش: حتى يعتق عليه.
[مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أباه قبض منها خمسين]
م: (وقال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أباه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون؛ لأن هذا إقرار بالدين على الميت؛ لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون) ش: لأن الديون تقضى بأمثالها م: (فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا) .
ش: قال الأترازي: احترز عن قول ابن أبي ليلى، فإن عند هلاك الدين تسبب الإقرار ليستتبع في النصين.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله كما هو المذهب عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزمه نصف الدين، وهو قياس مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال النخعي والحسن والحكم وإسحاق وأبو عبيدة وأبو ثور.
م: (غاية الأمر) ش: هذا جواب عما يقال: إن زعم المقر يعارضه زعم المنكر، فإن في زعمه أن المقبوض عن التركة كما في زعم المقر والمنكر يدعي زيادة على المقبوض فتصادقا على كون المقبوض مشتركاً بينهما، فما المرجع لزعم المقر على زعم المنكر حتى انصرف المقر له، أي نصيب المقر خاصة ولم يكن المقبوض مشتركاً بينهما؟
فأجاب بقوله: غاية الأمر: م: (أنهما) ش: أي المقر والمكذب م: (تصادقا على كون المقبوض مشتركاً بينهما، لكن المقر لو رجع على القابض بشيء لرجع القابض على الغريم) ش: لزعمه أن أباه لم يقبض شيئاً، وله تمام الخمسين بسبب سابق قبل القرض، وقد انتقض في هذا المقدار، م: (ورجع الغريم على المقر) ش: لإقراره بدين على الميت مقدم على الميراث م: (فيؤدي إلى الدور) .
انتهى الجزء التاسع يليه الجزء العاشر:
أوله كتاب " الصلح "(9/479)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب الصلح
قال: الصلح على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار، وصلح مع سكوت، وهو: أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكر، وصلح مع إنكار، وكل ذلك جائز؛ لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (النساء: الآية 128) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصلح]
[تعريف الصلح]
م: (كتاب الصلح) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الصلح بأنواعه، وجه المناسبة بين الكتابين من حيث إن في الإقرار ترك المخاصمة وهو صلح بعينه. قال الجوهري: الصلاح ضد الفساد، يقول صلح الشيء يصلح صلوحا مثل دخل يدخل دخولا.
قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وحكى أصحابنا صلح أيضا بالضم، والصلاح بكسر الصاد مصدر المصالحة، واسم الصلح يذكر ويؤنث وقد اصطلحا وتصالحا وهما اصلحا أيضا مشددة الصاد، ويقال الصلح اسم للمصالحة، بخلاف المخاصمة.
وفي " اصطلاح الفقهاء ": عقد وضع لرفع المنازعة، وسببه تعلق البقاء المقدر بتعاطيه، وشرطه كون المصالح عنه يجوز الاعتياض عنه، وله تفصيل سيأتي إن شاء الله عز وجل، وركنه الإيجاب مطلقا والقبول فيما يتعين بالتعيين، وأما إذا وقع الدعوى في الدراهم والدنانير وطلب الصلح على ذلك الجنس فقد تم الصلح بقول المدعي قد فعلت ولا يحتاج فيه إلى قبول المدعى عليه، لأنه إسقاط لبعض الحق وهو يتم بالمسقط، وحكمه تملك المدعي المصالح عليه منكرا كان الخصم أو مقرا، وأنواعه مذكورة في الكتاب وجوازه بقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (النساء: الآية 128) والحديث المذكور في الكتاب.
[أقسام الصلح]
[الصلح مع الإقرار]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الصلح على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار، وصلح مع سكوت، وهو أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكر، وصلح مع إنكار، وكل ذلك جائز) ش: وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله -، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحوز إلا مع الإقرار.
وفي " التحفة ": الصلح مع إنكار لا يجوز عند ابن أبي ليلى، وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجوز الصلح أيضا عند سكوت المدعى عليه عند ابن أبي ليلى كمذهبنا، وقال الشافعي: لا يجوز م: (لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] (النساء: الآية 128)) .
فإن قيل: النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني غير الأول، فإن الآية سيقت في الصلح بين الزوجين بدليل سياق الآية {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] ... الآية(10/3)
ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " كل صلح جائز فيما بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ". وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز مع إنكار أو سكوت لما روينا، وهذا بهذه الصفة؛ لأن البدل كان حلالا على الدافع حراما على الآخذ فينقلب الأمر. ولأن المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة عن نفسه، وهذا رشوة. ولنا ما تلونا من الآية وأول ما روينا وتأويل آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال في " الأسرار ": في قوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] كلام مستقل بذاته، فلا يربط بسببه.
م: (ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، م: «كل صلح جائز فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» ش: الحديث رواه الترمذي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «الصلح جائز إلى آخره» وزاد الترمذي: «والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا» ، وقال: حديث حسن صحيح.
م: وقال الشافعي: (لا يجوز مع إنكار أو سكوت لما روينا) ش: وهو الحديث المذكور، وهو يستدل بآخر الحديث م: (وهذا) ش: أي الصلح على الإنكار م: (بهذه الصفة، لأن البدل كان حلالا على الدافع حراما على الآخذ فينقلب الأمر) ش: أي يصير حراما على الدافع حلالا على الآخذ.
م: (ولأن المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة عن نفسه، وهذا رشوة) ش: وقد لعن الشارع الراشي والمرتشي.
م: (ولنا ما تلونا من الآية) ش: من غير فصل م: (وأول ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل صلح جائز بين المسلمين» فإنه بإطلاقه يتناول الصلح مع الإنكار والسكوت م: (وتأويل آخره) ش: أي آخر الحديث، وهو قوله: «إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» م: (أحل حراما بعينه(10/4)
أحل حراما بعينه كالخمر أو حرم حلالا بعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة ولأن هذا صلح بعد دعوى صحيحة فيقضي بجوازه؛ لأن المدعي يأخذه عوضا عن حقه في زعمه، وهذا مشروع، والمدعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه، وهذا مشروع أيضا؛ إذ المال وقاية الأنفس، ودفع الرشوة لدفع الظلم أمر جائز. قال: فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع عن مال بمال لوجود معنى البيع، وهو مبادلة المال بالمال، في حق المتعاقدين بتراضيهما، فتجري فيه الشفعة إذا كان عقارا ويرد بالعيب ويثبت فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كالخمر، أو حرم حلالا بعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة) ش: أي كالصلح مع امرأته أن لا يطأ ضرتها أو أمته. وهذا النوع من الصلح باطل عندنا.
م: (ولأن هذا) ش: دليل آخر، أي ولأن هذا الصلح مع الإنكار م: (صلح بعد دعوى صحيحة) ش: ولهذا يستحلف المدعى عليه م: (فيقضي بجوازه، لأن المدعي يأخذه عوضا عن حقه في زعمه، وهذا مشروع) ش: لا حرج عينا.
م: (والمدعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه، وهذا مشروع أيضا؛ إذ المال وقاية الأنفس) ش: والناس يحتاجون إلى هذا الصلح لقطع المنازعات ودفع الخصومة.
ولهذا قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: لم يعمل الشيطان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس مثل من عمل في إبطال الصلح على الإنكار لما فيه من امتداد المنازعات بين الناس، كذا في " المحيط ".
م: (ودفع الرشوة) ش: هذا جواب عن قوله وهذا رشوة، تقريره أن دفع الرشوة إلى ظالم م: (لدفع الظلم أمر جائز) ش: لأن المال خلق لصيانة الأنفس.
وقال محمد: فهذا لا بأس به، وليس هذا سحت إلا على من أكله، فأما من أعطاه لمنفعة في دار الإسلام أيضا، أي رشا إنسانا يخاف ظلمه وحبسه فلا بأس بذلك، ويكره للمرتشي.
ونقل أبو الليث عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز المصالحة للأوصياء في أموال اليتامى مخافة أخذ المتغلب، وبه يفتى.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع) ش: أي الصلح م: (عن مال) ش: أي عن دعوى مال م: (بمال لوجود معنى البيع، وهو مبادلة المال بالمال في حق المتعاقدين بتراضيهما) ش: فإذا تحقق فيه معنى المبيع م: (فتجري فيه الشفعة إذا كان عقارا ويرد بالعيب ويثبت فيه) ش: إذا كان الصلح خيار الرؤية ويشترط، أي ويثبت فيه أيضا م: (خيار الشرط والرؤية ويفسده) ش: أي ويفسد الصلح م: (جهالة البدل، لأنها هي المفضية إلى المنازعة(10/5)
خيار الشرط والرؤية ويفسده جهالة البدل لأنها هي المفضية إلى المنازعة دون جهالة المصالح عنه لأنه يسقط ويشترط القدرة على تسليم البدل. وإن وقع عن مال بمنافع يعتبر بالإجارات لوجود معنى الإجارة وهو تمليك المنافع بمال والاعتبار في العقود لمعانيها فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما في المدة لأنه إجارة. قال:
والصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة وفي حق المدعي لمعنى المعاوضة لما بينا. ويجوز أن يختلف حكم العقد في حقهما كما يختلف حكم الإقالة في حق المتعاقدين وغيرهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
دون جهالة المصالح عنه لأنه يسقط) ش: أي لأن المصالح عنه يسقط كما يقول السفراء بين المتخاصمين كل دعوى لك على فلان صالحته على هذا المقدار، وبه قال مالك وأحمد، وقال الشافعي: يفسد جهالة المصالح عنه أيضا كما في البيع.
م: (ويشترط القدرة على تسليم البدل) ش: حتى لو صالح على عبد آبق لم يصح م: (وإن وقع) ش: أي الصلح م: عن مال بمنافع يعتبر بالإجارات لوجود معنى الإجارة وهو تمليك المنافع بمال والاعتبار في العقود لمعانيها) ش: ولهذا كان البيع بالتعاطي صحيحا، وكانت الهبة بشرط العوض بيعا، وكانت الحوالة بشرط مطالبة الأصيل كفالة، والكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، فإذا اعتبر بالإجازة م: (فيشترط التوقيت فيها) ش: حتى لو وقع الصلح على سكنى بيت بعينه، إلى مدة معلومة جاز، وإذا لم تكن المدة معلومة فلا يجوز.
م: (ويبطل الصلح بموت أحدهما) ش: أي أحد المتعاقدين في الصلح م: (في المدة) ش: كالإجارة م: (لأنه) ش: أي لأن الصلح عن مال بمنافع م: (إجارة) ش: لصدق معناه عليه فيرجح المدعي في دعواه بقدر ما لم يستوف من المنفعة.
[الصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه والمدعي وسببه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة، وفي حق المدعي لمعنى المعاوضة لما بينا) ش: أشار به إلى ما ذكر قريبا بقوله لأن المدعي يأخذه عوضا عن حقه في زعمه..... إلى آخره.
وذلك لأن المدعي يزعم أنه محق في دعواه، والذي أخذه عوض حقه، والمدعى عليه يزعم أن المدعي يبطل في دعواه، والذي يعطيه لدفع الخصومة والشغب والذب عن نفسه، وليس بممتنع اختلاف الحكم في حق المتعاقدين.
أشار إليه بقوله م: (ويجوز أن يختلف حكم العقد في حقهما) ش: أي حكم عقد الصلح في حق المدعي والمدعى عليه م: (كما يختلف حكم الإقالة في حق المتعاقدين) ش: فإنها فسخ في حقهما بيع جديد ثالث م: (وغيرهما) ش: أي وغير المتعاقدين فإنها بيع في حق غيرهما.
م: (وهذا) ش: أي كونه الافتداء باليمين وقطع الخصومة م: (في الإنكار ظاهر، وكذا في(10/6)
وهذا في الإنكار ظاهر وكذا في السكوت لأنه يحتمل الإقرار والجحود، فلا يثبت كونه عوضا في حقه بالشك. قال: وإذا صالح عن دار لم يجب فيها الشفعة، قال: معناه إذا كان عن إنكار أو سكوت لأنه يأخذها على أصل حقه ويدفع المال دفعا لخصومة المدعي، وزعم المدعي لا يلزمه بخلاف ما إذا صالح على دار حيث يجب فيها الشفعة لأن المدعي يأخذها عوضا عن المال، فكان معاوضة في حقه فتلزمه الشفعة بإقراره وإن كان المدعى عليه يكذبه
قال: وإذا كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح عنه رجع المدعى عليه بحصة ذلك من العوض لأنه معاوضة مطلقة كالبيع وحكم الاستحقاق في البيع هذا وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار فاستحق المتنازع فيه رجع المدعي بالخصومة ورد العوض؛ لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا ليدفع الخصومة عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أن لا خصومة له فيبقى العوض في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السكوت، لأنه يحتمل الإقرار والجحود، فلا يثبت كونه عوضا في حقه) ش: أي في حق المدعى عليه م: (بالشك) ش: لأنه على تقدير الإقرار يكون عوضا مع أن حمل السكوت على الإنكار أولى، لأن فيه تفريغ الذمة وهو الأصل.
[الحكم لو صالح عن دار هل يجب فيها الشفعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا صالح عن دار لم يجب فيها الشفعة، قال) ش: المصنف م: (معناه) ش: أي معنى كلام القدوري م: (إذا كان عن إنكار أو سكوت لأنه) ش: ألمدعى عليه م: (يأخذها) ش: أي الدار م: (على أصل حقه) ش: يستبقي الدار على ملكه لا أنه يشتريها م: (ويدفع المال دفعا لخصومة المدعي) ش: على زعمه.
والمدعي يؤاخذه بما في زعمه م: (وزعم المدعي لا يلزمه، بخلاف ما إذا صالح على دار حيث يجب فيها الشفعة، لأن المدعي يأخذها عوضا عن المال فكان معاوضة في حقه فتلزمه الشفعة بإقراره وإن كان المدعى عليه يكذبه) ش: فصار كأنه قال: اشتريتها من المدعى عليه وهو ينكر فتجب فيها الشفعة.
[كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح عنه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح عنه رجع المدعى عليه بحصة ذلك من العوض) ش: أي بدل الصلح م: (لأنه معاوضة مطلقة كالبيع وحكم الاستحقاق في البيع هذا) ش: أي الرجوع بالحصة من العوض م: (وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار فاستحق المتنازع فيه رجع المدعي بالخصومة) ش: أي إلى المستحق، لأنه قام مقام المدعى عليه.
م: (ورد العوض) ش: أي بدل الصلح م: (لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا ليدفع الخصومة) ش: أي خصومة المدعي م: (عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أن لا خصومة له فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه فيسترده) ش: كالمكفول عنه إذا دفع المال إلى الكفيل تعرض دفعه إلى(10/7)
يده غير مشتمل على غرضه، فيسترده وإن استحق بعض ذلك رد حصته ورجع بالخصومة فيه؛ لأنه خلا العوض في هذا القدر عن الغرض. ولو استحق المصالح عليه من إقرار رجع بكل المصالح عنه لأنه مبادلة وإن استحق بعضه رجع بحصته، وإن كان الصلح عن إنكار أو سكوت رجع إلى الدعوى في كله أو بقدر المستحق إذا استحق بعضه؛ لأن المبدل فيه هو الدعوى، وهذا بخلاف ما إذا باع منه على الإنكار شيئا حيث يرجع بالمدعي؛ لأن الإقدام على البيع إقرار منه بالحق له، ولا كذلك الصلح؛ لأنه قد يقع لدفع الخصومة، ولو هلك بدل الصلح قبل التسليم فالجواب فيه كالجواب في الاستحقاق في الفصلين.
قال: وإن ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك ثم استحق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رب الدين ثم أرمى بنفسه قيل إذا الكفيل، فإنه يسترده لعدم اشتماله إلى عوضه.
م: (وإن استحق بعض ذلك) ش: أي المصالح عند م: (رد حصته) ش: أي من بدل الصلح م: (ورجع بالخصومة فيه) ش: أي في بعض المستحق على المستحق لقيامه مقام المدعى عليه اعتبارا للبعض بالكل م: (لأنه خلا العوض في هذا القدر عن الغرض) ش: أي عن غرض المدعى عليه م: (ولو استحق المصالح عليه) ش: وكان الصلح م: (من إقرار) ش: الواو فيه للحال م: (رجع بكل المصالح عنه لأنه مبادلة) ش: لأنه إنما ترك الدعوى ليسلم له بدل الصلح ولم يسلم فيرجع بمبدله كما في البيع م: (وإن استحق بعضه رجع بحصته) ش: أي بحصة الاستحقاق، لأن المبدل هو الدعوى، أي لأن المبدل فيه هو الدعوى، وقد فاتت الدعوى فيعود إلى البدل.
م: (وإن كان الصلح عن إنكار أو سكوت رجع إلى الدعوى في كله أو بقدر المستحق إذا استحق بعضه؛ لأن المبدل فيه هو الدعوى، وهذا) ش: أي المذكور من الحكم إذا لم يجر لفظ البيع في الصلح. أما إذا أجرى يكون الحكم فيه ما أشار إليه بقوله: م: (بخلاف ما إذا باع منه على الإنكار شيئا حيث يرجع بالمدعي) ش: صالح ذو اليد المنكر مع المدعى عليه عبد فقال بعت منك هذا العبد بهذا الدار ثم استحق العبد حيث يرجع المدعي على المدعى عليه بالدار لا بالدعوى م: (لأن الإقدام) ش: أي إقدام المدعى عليه م: (على البيع إقرار منه بالحق له) ش: أي للمدعي إذ الإنسان لا يشتري ملك نفسه، فكان حكمه حكم المبيع م: (ولا كذلك الصلح، لأنه قد يقع لدفع الخصومة ولو هلك بدل الصلح قبل التسليم) ش: إلى المدعي م: (فالجواب فيه) ش: أي في الهلاك م: (كالجواب في الاستحقاق في الفصلين) ش: أي في فصل الإقرار والإنكار، فإن كان عن إقرار رجع بعد الهلاك إلى المدعي، وإن كان عن إنكار رجع بالدعوى.
[ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك ثم استحق بعض الدار]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك ثم استحق بعض الدار لم يرد شيئا من العوض، لأن دعواه يجوز أن تكون فيما بقي) ش: أي في الذي بقي بعد(10/8)
بعض الدار لم يرد شيئا من العوض؛ لأن دعواه يجوز أن تكون فيما بقي، بخلاف ما إذا استحق كله لأنه يعرى العوض عند ذلك عن شيء يقابله فرجع بكله على ما قدمناه في البيوع، ولو ادعى دارا وصالح على قطعة منها لم يصح الصلح؛ لأن ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه في الباقي، والوجه فيه أحد أمرين: إما أن يزيد درهما في بدل الصلح فيصير ذلك عوضا عن حقه فيما بقي أو يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاستحقاق.
م: (بخلاف ما إذا استحق كله) ش: يعني جميع الدار م: (لأنه يعرى العوض عند ذلك عن شيء يقابله فرجع بكله على ما قدمناه في البيوع) ش: أي في آخر باب الاستحقاق م: (ولو ادعى دارا وصالح على قطعة منها) ش: أي من الدار م: (لم يصلح الصلح) ش: وبه قال: مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه م: (لأن ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه في الباقي) ش: أي في باقي الدار.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والوجه فيه) ش: أي في وجه الصحة، أي الحلية في صحة الصلح م: (أحد أمرين إما أن يزيد درهما في بدل الصلح فيصير ذلك عوضا عن حقه فيما بقي، أو يلحق به) ش: هو الوجه الثاني، أي وأن يلحق به أي بهذا الصلح م: (ذكر البراءة عن دعوى الباقي) ش: بأن يقول المدعي أبرأتك، أو برئت من دعوى هذا الدار فيصح الإبراء لأن الإبراء عن دعوى العين جائز، فلو قال: أبرأتك من هذه الدار ومن خصومته في هذا الدار فهذا الإبراء لا يصح وله أن يخاصم بعد ذلك، لأن هذا إبراء عن ضمانها لا عن دعواها.
وعن هذا قالوا: لو أن عبدا في يد رجل لو قال: قاله آخر برئت منه كان مبرأ منه ولو قال: أبرأتك منه وإن له أن يدعيه، وإنما أبرأه من ضمانه كذا في " الذخيرة ".(10/9)
فصل والصلح جائز عن دعوى الأموال لأنه في معنى البيع على ما مر والمنافع لأنها تملك بعقد الإجارة، فكذا بالصلح والأصل فيه أن الصلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به احتيالا لتصحيح تصرف العاقد ما أمكن قال: ويصح عن جناية العمد والخطأ، أما الأول فلقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} [البقرة: 178] ...... (البقرة الآية 178) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي هذا فصل في بيان ما يجوز وما لا يجوز.
[فصل في الصلح عن دعوى الأموال]
م: (والصلح جائز عن دعوى الأموال) ش: هذا لفظ القدوري م: (لأنه في معنى البيع) ش: فما جاز بيعه جاز الصلح عنه م: (على ما مر) ش: في البيع م: (والمنافع) ش: بالجر أي والصلح أيضا يجوز عن دعوى المنافع بأن ادعى في دار سكنى سنة وصية من رب الدار فجحده الوارث أو أقر به وصالحه على شيء جاز، لأن أخذ العوض عن المنافع جائز بالإجارة، فكذا بالصلح م: (لأنها) ش: أي لأن المنافع م: (تملك بعقد الإجارة، فكذا بالصلح) ش: أي فكذا تملك بالصلح م: (والأصل فيه) ش: أي في هذا الفصل م: (أن الصلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به) ش: أي وأشبه العقود بالصلح م: (احتيالا لتصحيح تصرف العاقد ما أمكن) ش: أي بقدر الإمكان، فإن كان عن مال بمال اعتبر بالشبهات، وإن كان على منافع اعتبر بالإجارات.
[الصلح عن جناية العمد والخطأ وحق الشفعة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويصح عن جناية العمد والخطأ) ش: وكذا عن كل حق بجواز أخذ العوض عنه بلا خلاف م: (أما الأول) ش: أي الصلح عن جناية العمد م: (فلقوله تعالى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} [البقرة: 178] ...... (البقرة: الآية 178) ش: عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هذه الآية نزلت في الصلح عن دم العمد.
وفي التفسير للآية معنيان: أحدهما: ما قاله ابن عباس والحسن والضحاك {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] أي أعطي له من دم أخيه بسهولة بطريق الصلح فاتباع، أي فلولي القتيل اتباع المصالح بعد الصلح بالمعروف، أي على محاقا وحسن معاملة، وإذا أرى على المصالح إذ ذاك إلى ولي القتيل بإحسان في الأداء، فهذا ظاهر الدلالة على جواز الصلح عن جناية القتل العمد.
المعنى الثاني: وهو يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن الآية في عفو بعض الأولياء ويدل عليه قوله: شيء فإنه يراد به البعض، وتقديره {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] وهو القتل من أخيه في الدين وهو المقتول شيء من القصاص ما كان للقتيل أولياء يعفى بعضهم.
فقد صار نصيب الباقين مالا وهو الآية على حصصهم من الميراث {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فيتبع الذين لم يعفو القاتل بطلب حصصهم بالمعروف أي بقدر حقوقهم من غير زيادة وأداء إليه(10/10)
قال: ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنها نزلت في الصلح، وهو بمنزلة النكاح حتى إن ما صالح مسمى فيه صلح بدلا هاهنا؛ إذ كل واحد منهما مبادلة المال بغير المال إلا أن عند فساد التسمية هاهنا يصار إلى الدية؛ لأنها موجب الدم. ولو صالح على خمر لا يجب شيء؛ لأنه لا يجب بمطلق العفو. وفي النكاح يجب مهر المثل في الفصلين لأنه الموجب الأصلي، ويجب مع السكوت عنه حكما، ويدخل في إطلاق جواب الكتاب الجناية في النفس وما دونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بإحسان وليؤد القاتل إلى غير العافي حقه وافيا غير ناقص فليس فيه دليل على المطلوب ظاهرا.
فلهذا قال: المصنف: م: (قال: ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنها نزلت في الصلح) ش: أي أن هذه الآية نزلت في الصلح أي عن دم العمد م: (وهو بمنزلة النكاح) ش: أي الصلح عن جناية العمد بمنزلة النكاح.
وفي " المبسوط ": ما يصلح مهرا يصلح بدلا في الصلح لأنه مال يستحق عوضا عما ليس بمال في العقد، وهو معنى قوله م: (حتى إن ما صالح مسمى فيه) ش: أي في النكاح.
م: (صلح بدلا هاهنا) ش: أي في الجناية عن العمد م: (إذ كل واحد منهما) ش: أي من النكاح والصلح عن دم العمد م: (مبادلة المال بغير المال) ش: وهو ظاهر.
م: (إلا أن عند فساد التسمية هاهنا) ش: هذا استثناء عن قوله إلا ما صالح مسمى فيه صلح هاهنا، أي لكن عند فساد التسمية في الصلح عن الجناية عن العمد على ثواب أدائه غير معينين م: (يصار إلى الدية) ش: أي في مال القاتل، لأنه وجب بعقده، فكان عليه خاصة م: (لأنها) ش: أي لأن المصير إلى الدية م: (موجب الدم ولو صالح على خمر لا يجب شيء) ش: لأنه لما لم يسم مالا متقوما صار ذكره والسكوت عنه شيئان، ولو سكت بعد العفو مطلقا وفيه لا يجب شيء فكذا في ذكر الخمر م: (لأنه) ش: أي لأن المال م: (لا يجب بمطلق العفو) ش: فلا يكون من ضرورة الصلح عن العود وجوب المال، فإنه لو عفا ولم يسم مالا صح، فصار ذكر الخمر وعدمه سواء، فيبقى مطلق العفو، وفي مطلق العفو لا يجب شيء فكذا في ذكر الخمر م: (وفي النكاح يجب مهر المثل في الفصلين) ش: أي في فصل فساد التسمية للجهالة، وفي فصل ذكر ما لا يصلح مهرا كالخمر، لأن النكاح لم يشرع بلا مال م: (لأنه) ش: أي لأن مهر المثل م: (الموجب الأصلي) ش: في النكاح.
م: (ويجب) ش: أي مهر المثل م: (مع السكوت عنه) ش: أي عن ذكر المهر م: (حكما) ش: أي شرعا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] م: (ويدخل في إطلاق جواب الكتاب) ش: أي القدوري، وهو قوله ويصح عن جناية العمد والخطأ م: (الجناية في النفس وما دونها) ش: لأن الجناية أعم من أن تكون واقعة على النفس أو ما دونها.(10/11)
وهذا بخلاف الصلح عن حق الشفعة على مال حيث لا يصح؛ لأنه حق التملك ولا حق في المحل قبل التملك، أما القصاص فملك المحل في حق الفعل فيصح الاعتياض عنه، وإذا لم يصح الصلح تبطل الشفعة؛ لأنه تبطل بالإعراض والسكوت والكفالة بالنفس بمنزلة حق الشفعة، حتى لا يجب المال بالصلح عنه غير أن في بطلان الكفالة روايتين على ما عرف في موضعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال شمس الأئمة البيهقي في " الكفاية ": يجوز الصلح من القصاص في نفسه وما دونه على أكثر من دية، وفي الخطأ لا يجوز على الزيادة، لأن الواجب في الصورة الأولى ليس بمال، فجاز كيفما كان، وفي الثانية الواجب مال مقدر شرعا، بخلاف القياس فلا يتجاوز عنه.
م: (وهذا) ش: أي الصلح عن جناية العمد م: (بخلاف الصلح عن حق الشفعة على مال) ش: وهو أن يصالح على أن يترك الشفعة بمال يأخذه من المشتري م: (حيث لا يصح) ش: هذا الصلح فتبطل الشفعة ولا يجب المال، وبه قالت الثلاثة م: (لأنه) ش: أي لأن حق الشفعة م: (حق التملك ولا حق في المحل قبل التملك) ش: وأخذ البدل أخذ مال في مقابلة ما ليس بشيء ثابت في المحل وذلك رشوة حرام.
م: (أما القصاص فملك المحل في حق الفعل) ش: أي في حق فعل القصاص م: (فيصح الاعتياض عنه) ش: لأنه اعتياض عما هو ثابت له في المحل فكان صحيحا م: (وإذا لم يصح الصلح) ش: أي عن حق الشفعة م: (تبطل الشفعة، لأنه تبطل بالإعراض والسكوت) ش: وبقوله حق الشفعة على مال احترازا عن الصلح على أخذ يعطيه بعينه من الدار بثمن معلوم، فإن الصلح مع الشفيع فيه جائز، وعن الصلح على بيت بعينه من الدار بحصته من الثمن فإنه لا يصلح فإن حصته مجهولة، لكن لا تبطل شفعته، لأنه لم يجد منه الإعراض عن الأخذ بالشفعة.
وفي " المبسوط ": صلح الشفيع على ثلاثة أوجه، في وجه يصح، وهو أن يصالح على أخذ نصف الدار بنصف الثمن، وفي وجه لا يصح ولا تبطل شفعته، وأن يصالح على أخذ بيت معين منها بحصته من الثمن لا يصح، لأن حصته مجهولة ولا تبطل شفعته، لأنه لم يوجد منه الإعراض عن الشفعة، وفي وجه لا يصح وتبطل شفعته وهو أن يصالح على مال، وهاهنا تبطل شفعته لوجود الإعراض منه عن الأخذ بالشفعة، ولا يجب المال، وقد ذكرناه.
م: (والكفالة بالنفس بمنزلة حق الشفعة، حتى لا يجب المال بالصلح عنه) ش: أي في عدم جواز الكفالة، صورته صالح المكفول والكفيل على شيء من المال على أن يخرجه عن الكفالة لا يصلح الصلح ولا نعلم فيه خلافا م: (غير أن في بطلان الكفالة روايتين) ش: ففي رواية أبي حفص: تبطل الكفالة، وبه يفتى، وفي رواية أبي سليمان: لا تبطل م: (على ما عرف في موضعه) .(10/12)
وأما الثاني وهو جناية الخطأ فلأن موجبها المال، فيصير بمنزلة البيع إلا أنه لا تصح الزيادة على قدر الدية؛ لأنه مقدر شرعا فلا يجوز إبطاله فترد الزيادة، بخلاف الصلح عن القصاص، حيث تجوز الزيادة على قدر الدية؛ لأن القصاص ليس بمال، وإنما يتقوم بالعقد، وهذا إذا صالح على أحد مقادير الدية، أما إذا صالح على غير ذلك جاز؛ لأنه مبادلة بها، إلا أنه يشترط القبض في المجلس كي لا يكون افتراقا عن دين بدين. ولو قضى القاضي بأحد مقاديرها فصالح على جنس آخر منها بالزيادة جاز؛ لأنه تعين الحق بالقضاء، فكان مبادلة بها بخلاف الصلح ابتداء؛ لأن تراضيهما على بعض المقادير بمنزلة القضاء في حق التعيين فلا يجوز الزيادة على ما تعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: قال: الأترازي أي في " المبسوط ": وقال الكاكي في كتاب الشفعة والحوالة والكفالة.
م: (وأما الثاني وهو جناية الخطأ) ش: وهذا عطف على قوله أما الأول، وأراد بالثاني في الصلح عن جناية الخطأ فإنه يجوز م: (فلأن موجبها المال فيصير بمنزلة البيع) ش: فجاز أن في مقابلتها عوض عن المال م: (إلا أنه) ش: أي أن الصلح م: (لا تصح الزيادة على قدر الدية لأنه) ش: أي لأن قدر الدية م: (مقدر شرعا، فلا يجوز إبطاله فترد الزيادة) ش: على قدر الدية لئلا يلزم المجاوزة عن التقدير الشرعي م: (بخلاف الصلح عن القصاص، حيث تجوز الزيادة على قدر الدية، لأن القصاص ليس بمال، وإنما يتقوم بالعقد) ش: لأن المال لم يجب بالعمد وإنما وجب بالعقد كالنكاح فيقوم بقدر ما وقع عليه العقد قل أو كثر م: (وهذا) ش: أي عدم صحة الزيادة على قدر الدية م: (إذا صالح على أحد مقادير الدية) ش: كالإبل والذهب والفضة، وهي أنواع الدية.
م: (وأما إذا صالح على غير ذلك) ش: أي على غير مقادير الدية بأن صالح على مكيل أو موزون م: (جاز) ش: الصلح على الزيادة م: (لأنه مبادلة بها) ش: أي بالدية، فيجوز لأن اختلاف الجنس لا يظهر الزيادة م: (إلا أنه يشترط القبض في المجلس كي لا يكون افتراقا عن دين بدين) ش: وهو دين الدين بدين بدل الصلح.
وهذا الذي قلنا من عدم جواز الزيادة على قدر الدين فيما إذا لم يقض القاضي بذلك م: (ولو قضى القاضي بأحد مقاديرها) ش: مثل أن يقضي القاضي بألف دينار م: (فصالح على جنس آخر منها بالزيادة) ش: بأن صالح على خمسة عشر ألف درهم م: (جاز) ش: أي الصلح م: (لأنه تعين الحق بالقضاء فكان مبادلة بها) ش: أي مبادلة الخمسة عشر ألفا بألف دينار، وعند الشافعي وأحمد لا يجوز. م: (بخلاف الصلح ابتداء) ش: أي لا يجوز الصلح بالزيادة على نوع من مقادير الدية قبل قضاء القاضي على نوع آخر منها م: (لأن تراضيهما على بعض المقادير بمنزلة القضاء في حق التعيين، فلا يجوز الزيادة على ما تعين) ش: بالشرع.(10/13)
قال: ولا يجوز من دعوى حد؛ لأنه حق الله تعالى لا حقه، ولا يجوز الاعتياض عن حق غيره، ولهذا لا يجوز الاعتياض إذا ادعت المرأة نسب ولدها؛ لأنه حق الولد لا حقها وكذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة، فلا يجوز أن يصالح واحدا على الانفراد عنه؛ لأنه حق العامة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الصلح في حقوق الله كالحدود]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يجوز) ش: أي الصلح م: (من دعوى حد؛ لأنه حق الله تعالى لا حقه) ش: صورته أخذ زانيا أو سارقا أو شارب الخمر فصالح على مال أن لا يرفعه إلى الحاكم فهو باطل، ولا نعلم فيه خلافا م: (ولا يجوز الاعتياض عن حق غيره) ش: لأن هذا حق الله تعالى لا حق العبد. والاعتياض عن حق الغير لا يجوز فيرد ما أخذه. م: (ولهذا) ش: أي ولعدم جواز الاعتياض عن حق الغير م: (لا يجوز الاعتياض إذا ادعت المرأة نسب ولدها لأنه) ش: أي النسب م: (حق النسب لا حقها) ش: أي لا حق الزوجين، صورته: ادعت المرأة على رجل أن هذا الصبي الذي في يدها ابنه وجحد الرجل، ولم تدع المرأة النكاح وقالت قد طلقني وأقر الزوج أنه قد طلقها وبانت وصالح من النسب على مائة فالصلح باطل، لأن النسب حق الصبي فلا يجوز للأم إسقاطه. كذا في شرح القدوري، ونسب هذه الرواية إلى أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإيضاح "، وقال: النسب حق الصبي فلا تملك الأم إسقاطه بعوض وغير عوض.
[الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة]
م: (وكذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة) ش: هذا أيضا إيضاح لقوله فلا يجوز الاعتياض عن حق الغير. وتمام البيان فيه ما ذكره شيخ الإسلام علاء الدين الأسبيجابي في شرح " الكافي " في باب " الصلح في العقار ". قال: ولو كان لرجل ظله أو كنيف شارع على طريق نافذ فخاصمه رجل فيه وأراد طرحه فصالحه من ذلك على دراهم مسماة ليتركه كان باطلا وهذا على وجهين: أما إن كان هذا على طريق نافذ أو غير نافذ والصلح على الترك أو على الطرح. ونعني النافذ ما لا يكون لقوم خاص، وقد يكون النافذ خاصا ولكن الظاهر أنه متى كان المشروع للعامة كان حق العامة لا يخلو إما أن يكون ذلك بحق أو بغير حق والصلح على الطرح أو الترك.
أما إذا كان الطريق مملوكا للعامة، وعليها ظله أو كنيف لرجل فصالحه رجل على الطرح فيعطي له شيئا أو على الترك فيأخذ منه شيئا، أي كان بغير حق كان باطلا، لأن طرحه واجب عليه لكونه شاغلا طريق المسلمين بغير حق فواجب على واحد من آحاد الناس أن يأمره بالطرح على سبيل الأمر بالمعروف وإن كانت الظلة أو الكنيف بحق ويتصور ذلك بأن اختط الإمام موضعا لإنسان عين فتح البلد وسواه لآخر فالصلح فيها على الطرح جائز لأنه يسقط حقه وهو للتعالي بمال وفيه نفع هذه المصالح وللناس كافة فيصح، وإن صالح على الترك لا يجوز لأنه لا(10/14)
ويدخل في إطلاق الجواب حد القذف؛ لأن المغلب فيه حق الشرع
قال: وإذا ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز، وكان في معنى الخلع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يستفيد بهذا الصلح شيئا، وإن كان على طريق مملوك إن كان بحق فصالح على الطرح جاز وعلى الترك لا يجوز لما قلنا، وإن كان بغير حق إن صالح على الترك جاز لأنه ليس فيه نزع حق، فهذا يسقط حقه بأداء ما أخذ وفيه نوع نفع للمصالح وأهل السكة فيجوز وإن صالح على الترك جاز.
م: (فلا يجوز أن يصالح واحدا على الانفراد عنه، لأنه حق العامة) ش: وقيل بقوله إلى طريق العامة، لأن الظلة إذا كانت على طريق غير نافذ وصالح رجل من أهل الطريق جاز الصلح وقيد بقوله واحدا على الانفراد لأن صاحب الظلة لو صالح الإمام على دراهم ليترك الظلة جاز إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين ويضعها في بيت المال لأن الاعتياض لإمام عن الشركة التامة جائز ولهذا لو باع شيئا من بيت المال صح.
م: (ويدخل في إطلاق الجواب حد القذف) ش: أي يدخل حد القذف في إطلاق جواب القدوري، وهو قوله: ولا يجوز من دعوى حد، لأن الحد بإطلاقه يشمل كل حد م: (لأن المغلب فيه حق الشرع) ش: أي في حد القذف الغالب حق الشرع، وهذا لا يورث ولا يسقط بالعفو عندنا وأخذ العوض على حق الغير لا يجوز.
وعند الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان المغلب في حق العبد ولكن حق غير مالي فلا يجوز أخذ المعوض عنه، وعند مالك هو مشترك فلا يجوز أخذ العوض عنه.
وقال شمس الأئمة البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في " الكفاية ": صالح من حد القذف على مال لا يصح ويسترد المال، وهو على حجته، لأن المغلب حق الله تعالى كما لو أخذ مرتكب كبيرة على أن لا يرفعه إلى السلطان.
وقال أيضا: دفع مالا إلى شاهد لئلا يشهد فهو باطل ويسترد المال، أو يصير الشاهد فاسقا لا تقبل شهادته، إلا إذا تاب كسائر الفسقة.
[ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد فصالحته على مال]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد) ش: أي المرأة تنكر م: (فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز) ش: أي هذا الصلح، يعني نفاذه في الظاهر، فأما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان على خلاف ما قال: لا يحل له أخذه، كذا في شرح الأقطع.
ويجيء الآن أيضا م: (وكان في معنى الخلع) ش: أي في زعم الزوج إذ أن الخلع بلفظ المرأة صحيح.(10/15)
لأنه أمكن تصحيحه خلعا في جانبه بناء على زعمه وفي جانبها بذلا للمال لدفع الخصومة قالوا: ولا يحل له أن يأخذ فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان مبطلا في دعواه.
قال: وإن ادعت امرأة نكاحا على رجل فصالحها على مال بذله لها جاز قال: هكذا ذكره في بعض نسخ " المختصر "، وفي بعضها قال: لم يجز، وجه الأول: أن يجعل زيادة في مهرها. ووجه الثاني أنه بذل لها المال لتترك الدعوى، فإن جعل ترك الدعوى منها فرقة فالزوج لا يعطي العوض في الفرقة وإن لم يجعل فالحال على ما كان عليه قبل الدعوى فلا شيء يقابله العوض فلم يصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبه قال بعض أصحاب أحمد، وقال بعض أصحابه: لا يجوز م: (لأنه أمكن تصحيحه خلعا في جانبه بناء على زعمه، وفي جانبها بذلا للمال لدفع الخصومة، قالوا) ش: أي المشايخ المتأخرون م: (ولا يحل له أن يأخذ فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان) ش: أي الرجل م: (مبطلا في دعواه) .
ش: وفي " النهاية ": هذا عام في جميع أنواع الصلح، بدليل ما ذكر في كتاب الإقرار، ولو أقر لغيره لمال والمقر له يعلم أنه كاذب لا يحل له أخذ ذلك المال ديانة، إلا أن يسلمه بطيب نفس فيكون تمليكا بطريق الهبة ابتداء، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
[ادعت امرأة نكاحا على رجل فصالحها على مال بذله لها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن ادعت امرأة نكاحا على رجل فصالحها على مال بذله لها جاز) ش: هذا لفظ القدوري م: (قال) ش: أي المصنف م: (هكذا ذكره في بعض نسخ المختصر) ش: أي هكذا ذكر القدوري في بعض نسخ المختصر، يعني قال: جاز هذا الصلح م: (وفي بعضها) ش: أي وفي بعض نسخ " مختصر القدوري ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (لم يجز) ش: أي لم يجز هذا الصلح وقال الأترازي: ورأيت في نسخة ثقة من نسخ القدوري مكتوبة في تاريخ سنة خمس وعشرين وخمسمائة: عدم الجواز.
م: (وجه الأول) ش: أي وجه جواز الصلح الذي ذكره م: (أن يجعل زيادة في مهرها) ش: يعني يجعل كأنه زاد في مهرها ثم خلعها على أصل المهر دون الزيادة.
م: (ووجه الثاني) ش: أي وجه عدم الجواز م: (أنه بذل لها المال) ش: أي أن الرجل أعطى للمرأة المال م: (لتترك الدعوى فإن جعل ترك الدعوى منها فرقة فالزوج لا يعطي العوض في الفرقة) ش: إذ العوض في الفرقة من جانب الزوج إذ لا نسلم بشيء من هذه الفرقة، وأما المرأة هي التي نسلم لها نفسها وتخلص عن الزوج.
م: (وإن لم يجعل) ش: أي فرقة م: (فالحال على ما كان عليه قبل الدعوى) ش: يعني تكون هي على دعواها م: (فلا شيء يقابله العوض) ش: يعني فلا يكون ما أحدثه عوضا عن شيء م: (فلم يصح) ش: لأنه رشوة محضر من غير دفع خصومة، ويلزمها رده.(10/16)
قال: وإن ادعى على رجل أنه عبده فصالحه على مال أعطاه جاز، وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق على مال لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه في حقه لزعمه، ولهذا يصح على حيوان في الذمة إلى أجل وفي حق المدعى عليه يكون لدفع الخصومة لأنه يزعم أنه حر الأصل فجاز إلا أنه لا ولاء له لإنكار العبد إلا أن يقيم البينة فتقبل ويثبت الولاء
قال: وإذا قتل العبد المأذون له رجلا عمدا لم يجز له أن يصالح عن نفسه وإن قتل عبد له رجلا عمدا فصالح عنه جاز ووجه الفرق أن رقبته ليست من تجارته، ولهذا لا يملك التصرف فيه بيعا فكذا استخلاصا بمال المولى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإنما قلنا لم يقابله شيء، لأن النكاح ما ثبت ضمنا وهي لم تترك الدعوى، لأن الفرقة لم توجد فكان دعواها في زعمها على حالها لبقاء النكاح فلم يفد دفع المال فائدته فلا يجوز.
[ادعى على مجهول الحال فأنكر الرجل أنه عبده فصالحه على مال]
م: (قال) ش: القدوري: م: (وإن ادعى على رجل) ش: مجهول الحال فأنكر الرجل م: (أنه عبده فصالحه على مال أعطاه جاز، وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق على مال) ش: لأنه أقرب العقود إليه شبها بالعتق على مال فيجعل في متوليه م: (لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه في حقه لزعمه، ولهذا) ش: إيضاح لقوله: وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق على مال م: (يصح على حيوان في الذمة إلى أجل) ش: أي: ولكون هذا لا يصح إعتاقا، على مال يصح الصلح على حيوان في الذمة، إذا لو كان مبادلة لما صح، ألا ترى أنه لا يصح السلم في الحيوان، أما الإعتاق على حيوان فصحيح، فعلم أنه طريقة الإعتاق على مال.
م: (وفي حق المدعى عليه يكون لدفع الخصومة لأنه يزعم أنه حر الأصل فجاز إلا أنه لا ولاء له) ش: أي المدعي م: (لإنكار العبد إلا أن يقيم البينة) ش: بعد ذلك على أنه عبد م: (فتقبل ويثبت الولاء) ش: لأنه صالحه على مال فيكون صلحه بمنزلة الإعتاق على مال فيثبت الولاء.
[قتل العبد المأذون له رجلا عمدا فصالحه على مال]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا قتل العبد المأذون له رجلا عمدا لم يجز له أن يصالح عن نفسه) ش: أي لم يجز للعبد المأذون له أن يصالح عن نفسه على مال سواء كان عليه دين أو رجع فساد الصلح لا يجوز لولي القتيل أن يقتله بعد الصلح لأنه لما صالحه فقد عفي عنه ببدل فصح العفو ولم يجب البدل في حق المولى فتأخر البدل إلى ما بعد العتق م: (وإن قتل عبد له) ش: أي للعبد المأذون له م: (رجلا عمدا فصالح عنه جاز) ش: سواء كان عليه دين أو لا م: (ووجه الفرق) ش: أي بين المسألتين م: (أن رقبته ليست من تجارته، ولهذا لا يملك التصرف فيه) ش: أي في رقبته على تأويل العضو أو الجزء م: (بيعا) ش: أي من حيث البيع، قيد بالبيع لأنه يملك التصرف فيه إجارة، كذا ذكره التمرتاشي.
م: (فكذا) ش: أي فكذا لا يملك م: (استخلاصا) ش: أي استخلاص رقبته م: (بمال المولى،(10/17)
وصار كالأجنبي أما عبده من تجارته وتصرفه نافذ فيه بيعا، فكذا استخلاصا، وهذا لأن المستحق كالزائل عن ملكه، وهذا شراؤه فيملكه، قال: ومن غصب ثوبا يهوديا قيمته دون المائة فاستهلكه فصالحه منها على مائة درهم جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يبطل الفضل على قيمته بما لا يتغابن الناس فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصار كالأجنبي) ش: أي وصار العبد المأذون له كالأجنبي في حق نفسه، لأن نفسه مال المولى والأجنبي إذا صالح عن مال مولاه بغير إذن لا يجوز، فكذا هذا.
م: (أما عبده) ش: المأذون له فهو م: (من تجارته) ش: وكسبه م: (وتصرفه نافذ فيه بيعا) ش: أي من حيث البيع م: (فكذا) ش: أي فكذا تصرفه نافذ م: (استخلاصا) ش: أي من حيث استخلاص رقبته. م: (وهذا) ش: يريد به أن تحقيق هذا م: (لأن المستحق كالزائل عن ملكه) ش: لأن الأجنبي يصير مستحقا بالجناية، فكأنه زال عن ملكه فصار كأنه مملوك للمولى، وهذا كان له أن [....
..] م: (وهذا شراؤه) ش: أي وهذا الصلح كان شراؤه م: (فيملكه) ش: أي فيملك ذلك، بخلاف نفسه فإنه إذا زال عن ملك المولى لا يملك شراؤه.
فكذا لا يملك الصلح وطولب بالتفريق بينه وبين المكاتب، فإنه لو قتل عمدا وصالح عن نفسه جاز، وأجيب بأن المكاتب حرير فإكسابه له، بخلاف المأذون له فإنه عبد من كل وجه وكسبه لمولاه.
[غصب ثوبا يهوديا وصالح عنه بأكثر من قيمته]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن غصب ثوبا يهوديا) ش: قال الأكمل: يهود قوم من أهل الكتاب ينسب إليهم الثوب، يقال ثوب يهودي، وقال الكاكي والأترازي: والذي يظهر لي أن لفظ يهود هنا اسم موضع ينسب إليه الثوب المعلوم القيمة م: (قيمته دون المائة فاستهلكه فصالحه منها على مائة درهم جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وضع المسألة في الأصل في العبد، وكذا الخلاف في كل ما لا مثل له.
م: (وقالا) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (يبطل الفضل على قيمته بما لا يتغابن الناس فيه) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - ثم قرر بالغصب لاستدعاء الصلح ذلك فإن الحكم في المستهلك، وكذلك وقيد بالثوب احترازا عن غصب المثلي، فإن الصلح فيه بالدراهم والدنانير بالزيادة يجوز بالإجماع، وقد يكون يهوديا ليعرف قيمته إذ لا بد أن يكون الثوب المدعى به موصوفا، يعني يعرف قيمته.
وقيد بالاستهلاك لأن الثوب إذا كان قائما يجوز الصلح على أكثر من قيمته بالإجماع،(10/18)
لأن الواجب هي القيمة وهي مقدرة فالزيادة عليها تكون ربا، بخلاف ما إذا صالح على عرض؛ لأن الزيادة لا تظهر عند اختلاف الجنس، وبخلاف ما يتغابن الناس فيه لأنه يدخل تحت تقويم المقومين فلا تظهر الزيادة. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حقه في الهالك باق، حتى لو كان عبدا وترك المولى أخذ القيمة يكون الكفن عليه أو حقه في مثله صورة ومعنى؛ لأن ضمان العدوان بالمثل وإنما ينتقل إلى القيمة بالقضاء فقبله إذا تراضيا على الأكثر كان اعتياضا فلا يكون ربا، بخلاف الصلح بعد القضاء؛ لأن الحق قد انتقل إلى القيمة.
قال: وإذا كان العبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته فالفضل باطل، وهذا بالاتفاق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيد بقوله على مائة درهم لأنه لو صالحه على طعام موصوف في الذمة حاله وقبضه قبل الافتراق عن المجلس جاز بالإجماع.
ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يقض القاضي بالقيمة على الغاصب، أما بعد القضاء لو صالح على أكثر منها لا يجوز بالإجماع م: (لأن الواجب هي القيمة وهي مقدرة) ش: أي القيمة مقدرة بالنقود شرعا م: (فالزيادة عليها) ش: أي على القيمة م: (تكون ربا) ش: كالصلح في الدية بأكثر من ألف دينار أو بأكثر من عشرة آلاف درهم.
م: (بخلاف ما إذا صالح على عرض) ش: قيمة زائدة على قيمة المغصوب المستهلك م: (لأن الزيادة لا تظهر عند اختلاف الجنس) ش: فلا يكون ربا م: (وبخلاف ما يتغابن الناس فيه، لأنه يدخل تحت تقويم المقومين، فلا تظهر الزيادة) ش: لأنه لما دخل تحت تقويم المقومين لم يعد ذلك فضلا فلم يكن ربا. م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حقه) ش: أي حق المالك م: (في الهالك باق) ش: ولم يزل ملكه عنه م: (حتى لو كان) ش: أي الهالك م: (عبدا وترك المولى أخذ القيمة يكون الكفن عليه) ش: أي على المغصوب منه، ولو كان آبقا فعاد من إباقه كان مملوكا له. م: (أو حقه في مثله) ش: أي: في مثل الهالك م: (صورة ومعنى) ش: أي من حيث الصورة ومن حيث المعنى، تقرير هذا أن الحق على الرضا بالمثل هو الأصل م: (لأن ضمان العدوان بالمثل، وإنما ينتقل إلى القيمة بالقضاء فقبله) ش: أي فقبل القضاء م: (إذا تراضيا على الأكثر كان اعتياضا) ش: عن حقه في العين والاستيفاء لعين حقه بأكثر منه م: (فلا يكون ربا، بخلاف الصلح بعد القضاء) ش: يعني بخلاف الصلح على الأكثر بعد قضاء القاضي بالقيمة م: (لأن الحق قد انتقل إلى القيمة) ش: فتكون الزيادة ربا لا محالة.
[عبد بين رجلين أعتقه أحدهما فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته]
م: (قال) ش: أي محمد في الجامع الصغير م: (وإذا كان العبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته فالفضل باطل وهذا بالاتفاق) ش: بين أصحابنا(10/19)
أما عندهما فلما بينا، وللفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن القيمة في العتق منصوص عليها، وتقدير الشرع لا يكون دون تقدير القاضي فلا تجوز الزيادة عليه، بخلاف ما تقدم؛ لأنها غير منصوص عليها. وإن صالحه على عروض جاز لما بينا، أنه لا يظهر الفضل والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلاثة.
م: (أما عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (فلما بينا) ش: أي في المسألة المتقدمة أيهما لما بطلا الفضل بالغبن الفاحش لكونه ربا وهنا كذلك.
م: (وللفرق لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: بين المسألتين م: (أن القيمة في العتق منصوص عليها) ش: بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «من أعتق شقصا من عبد مشترك بينه وبين شريكه قوم عليه نصيب شريكه» م: (وتقدير الشرع لا يكون دون تقدير القاضي فلا تجوز الزيادة عليه بخلاف ما تقدم) ش: وهو العبد المستهلك أو الثوب.
م: (لأنها) ش: أي لأن القيمة م: (غير منصوص عليها) ش: فلم تقم فيه دلالة التقدير بها، ولهذا يكون مخيرا بين تضمين الغاصب وإبرائه، والشريك الساكت مخير على إزالة ملك نصيبه بالإعتاق أو بالضمان أو بالسعاية، إليه أشار في " المبسوط ".
م: (وإن صالحه على عروض جاز) ش: أي الصلح على الفضل م: (لما بينا) ش: عن قريب م: (أنه لا يظهر الفضل) ش: أي عند اختلاف الجنس، فلا يتحقق الربا، م: (والله أعلم بالصواب) .(10/20)
باب التبرع بالصلح والتوكيل به قال: ومن وكل رجلا بالصلح عنه فصالح لم يلزم الوكيل ما صالح عنه إلا أن يضمنه والمال لازم للموكل، وتأويل هذه المسألة إذا كان الصلح عن دم العمد أو كان الصلح على بعض ما يدعيه من الدين لأنه إسقاط محض، فكان الوكيل فيه سفيرا ومعبرا فلا ضمان عليه كالوكيل بالنكاح، إلا أن يضمنه لأنه حينئذ مؤاخذ بعقد الضمان لا بعقد الصلح. أما إذا كان الصلح عن مال بمال فهو بمنزلة البيع فترجع الحقوق إلى الوكيل، فيكون المطالب بالمال هو الوكيل دون الموكل.
قال: وإن صالح عنه رجل بغير أمره فهو على أربعة أوجه، إن صالح بمال وضمنه تم الصلح؛ لأن الحاصل للمدعى عليه ليس إلا البراءة وفي حقها لأجنبي والمدعى عليه سواء وصلح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب التبرع بالصلح والتوكيل به]
م: (باب التبرع بالصلح والتوكيل به) ش: أي هذا باب في بيان حكم التبرع بالصلح وحكم التوكيل به، ولما بين صلح المرء بنفسه شرع في بيان صلح الغير عنه إذ الأول هو الأصل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن وكل رجلا بالصلح عنه فصالح لم يلزم الوكيل ما صالح عنه) ش: هكذا في رواية الشيخ أبي نصير: ما صالح عليه. والضمير صالح راجع إلى ما، والمراد منه بدل الصلح، وعلى رواية صاحب " الهداية " ما صالح عنه، والضمير راجع إلى " من ". م: (إلا أن يضمنه) ش: أي إلا أن يضمن الوكيل المال م: (والمال لازم للموكل) ش: أي على الموكل كما في قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها.
م: (وتأويل هذه المسألة) ش: هذا قول المصنف يقول تأويل المسألة التي ذكرها القدوري م: (إذا كان الصلح عن دم العمد أو كان الصلح عن بعض ما يدعيه من الدين، لأنه إسقاط محض، فكان الوكيل فيه سفيرا ومعبرا فلا ضمان عليه، كالوكيل بالنكاح) ش: فإنه معبر وسفير فيه فلا يلزمه شيء م: (إلا أن يضمنه) ش: أي إلا أن يضمن الوكيل المصالح به فيلزمه. م: (لأنه حينئذ مؤاخذ بعقد الضمان لا بعقد الصلح، أما إذا كان الصلح عن مال بمال فهو بمنزلة البيع فترجع الحقوق. إلى الوكيل، فيكون المطالب بالمال هو الوكيل دون الموكل.) .
[صلح الفضولي]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن صالح عنه رجل بغير أمره فهو على أربعة أوجه، إن صالح بمال وضمنه تم الصلح) ش: هذا الذي ذكره القدوري أحد الوجوه الأربعة.
وذكر المصنف وجها بقوله م: (لأن الحاصل للمدعى عليه ليس إلا البراءة) ش: لأنه صح تعليق الإسقاط م: (وفي حقها) ش: أي وفي حق البراءة م: (لأجنبي والمدعى عليه سواء) ش: لأن الساقط يتلاشى، ومثله لا يختص بأحد، فإذا كان كذلك م: (وصلح) ش: أي الأجنبي أن يكون(10/21)
أصيلا فيه إذا ضمنه كالفضولي بالخلع إذا ضمن البدل ويكون متبرعا على المدعى عليه كما لو تبرع بقضاء الدين. بخلاف ما إذا كان بأمره ولا يكون لهذا المصالح شيء من المدعي. وإنما ذلك للذي في يده لأن تصحيحه بطريق الإسقاط ولا فرق في هذا بين ما إذا كان مقرا أو منكرا،
وكذلك إذا قال: صالحتك على ألفي هذه أو على عبدي هذا، صح الصلح لزمه تسليمه؛ لأنه لما أضافه إلى مال نفسه فقد التزم تسليمه فصح الصلح، وكذلك لو قال: علي ألف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أصيلا فيه) ش: أي في هذا الضمان م: (إذا ضمنه) ش: إضافة إلى نفسه م: (كالفضولي بالخلع) ش: من جانب المرأة م: (إذا ضمن البدل) ش: أي المال م: (ويكون متبرعا على المدعى عليه) ش: لا يرجع عليه بشيء م: (كما لو تبرع بقضاء الدين بخلاف ما إذا كان بأمره) ش: أي لا يكون متبرعا ويرجع عليه بما ضمن، وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يرجع إن أدى بأمره م: (ولا يكون لهذا المصالح شيء من المدعي) ش: أي لا يصير الدين المدعى به ملكا للمصالح، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - وإن كان المدعى عليه مقرا.
م: (وإنما ذلك) ش: أي الدين م: (للذي في يده) ش: وفي بعض النسخ للذي في ذمته أي في يده م: (لأن تصحيحه) ش: أي تصحيح الصلح م: (بطرق الإسقاط) ش: لا بطريق المبادلة، والساقط يتلاشى ويضمحل.
م: (ولا فرق في هذا) ش: أي في أن المصالح لا يملك الدين المدعى به م: (بين ما إذا كان) ش: أي الخصم م: (مقرا أو منكرا) ش: أما إذا كان منكرا فظاهر، لأنه في زعم المدعى عليه أنه لا شيء عليه فيكون متبرعا في إسقاط الخصومة منه وزعم المدعي لم ينفذ إليه.
وأما إذا كان مقرا بالدين وبالصلح ينبغي أن يصير مشتريا ما في ذمته بما أدى، إلا أن شراء الدين من غير المذكور لا يصح لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه الدين، وذا لا يجوز وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في الأصح.
بخلاف ما لو كان المدعى به عينا والمدعى عليه مقرا، فإنه يصير مشتريا لنفسه إذا كان بغير أمره، لأن شراء الشيء من مالكه صحيح وإن كان في يد غيره.
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك يصلح الصلح، وهذا هو الوجه الثاني من الوجوه الأربعة م: (إذا قال صالحتك على ألفي هذه أو على عبدي، هذا صح الصلح، ولزمه تسليمه) ش: أي لزم الفضولي تسليم الألف م: (لأنه لما أضافه) ش: أي لما أضاف المال المعقود عليه م: (إلى مال نفسه فقد التزم تسليمه) ش: ولما لزمه التسليم بالإضافة م: (فصح الصلح) ش: لأنه تم عقده.
م: (وكذلك لو قال: علي ألف) ش: هذا هو الوجه الثالث، أي وكذا يصح الصلح لو قال:(10/22)
وسلمها؛ لأن التسليم إليه يوجب سلامة العوض له فيتم العقد لحصول مقصوده.
ولو قال: صالحتك على ألف فالعقد موقوف، فإن أجازه المدعى عليه جاز ولزمه الألف، وإن لم يجزه بطل؛ لأن الأصل في العقد إنما هو المدعى عليه لأن دفع الخصومة حاصل له، إلا أن الفضولي يصير أصيلا بواسطة إضافة الضمان إلى نفسه فإذا لم يضفه بقي عاقدا من جهة المطلوب فيتوقف على إجازته،
قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ووجه آخر وهو أن يقول: صالحتك على هذه الألف أو على هذا العبد ولم ينسبه إلى نفسه؛ لأنه لما عينه للتسليم صار شارطا سلامته له فيتم بقوله. ولو استحق العبد ووجد به عيبا فرده فلا سبيل له على المصالح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
علي ألف مطلقة م: (وسلمها) ش: أي الألف م: (لأن التسليم إليه) ش: أي إلى المدعي م: (يوجب سلامة العوض له) ش: أي للمدعي، فإذا كان كذلك م: (فيتم العقد) ش: أي عقد الصلح م: (لحصول مقصوده) ش: وهو سلامة البدل وللمدعي، فإذا حصل المقصود تم العقد لا محالة.
م: (ولو قال: صالحتك على ألف فالعقد موقوف، فإن أجازه المدعى عليه جاز ولزمه الألف، وإن لم يجزه بطل) ش: هذا لفظ القدوري وهو الوجه الرابع من الوجوه الأربعة وقال المصنف: م: (لأن الأصل في العقد إنما هو المدعى عليه لأن دفع الخصومة حاصل له) ش: لأن المدعى عليه هو المحتاج إلى إسقاط الخصومة عن نفسه.
م: (إلا أن الفضولي يصير أصيلا بواسطة إضافة الضمان إلى نفسه) ش: بدليل أنه يجبر على الأداء كما يجبر الأصيل.
لأن الزعيم غارم والوفاء بالشرط لازم خصوصا إذا كان الشرط في عقد لازم م: (فإذا لم يضفه) ش: لم يكن عليه شيء.
ولكنه م: (بقي عاقدا من جهة المطلوب، فيتوقف على إجازته) ش: أي على إجازة المدعى عليه. فإن قبل لزمه المال، وإن رده بطل الصلح.
م: (قال) ش: أي المصنف: وفي نسخة الأترازي قال العبد الضعيف: وفي نسخة شيخنا العلاء. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: م: (ووجه آخر) ش: أي غير الوجوه الأربعة التي ذكرها م: (وهو أن يقول: صالحتك على هذه الألف أو على هذا العبد ولم ينسبه إلى نفسه، لأنه لما عينه للتسليم صار شارطا سلامته له فيتم بقوله) ش: أي سلامة المصالح عليه للمدعي فيتم، أي الصلح بقول المصالح، ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري.
م: (ولو استحق العبد) ش: أي العبد الذي صالحه عليه م: (ووجد به عيبا فرده فلا سبيل له على المصالح)(10/23)
لأنه التزم الإيفاء من محل بعينه ولم يلتزم شيئا سواه، فإن سلم المحل له تم الصلح، وإن لم يسلم له لم يرجع عليه بشيء. بخلاف ما إذا صالح على دراهم مسماة وضمنها ودفعها ثم استحقت ووجدها زيوفا حيث يرجع عليه؛ لأنه جعل نفسه أصيلا في حق الضمان، ولهذا يجبر على التسليم، فإذا لم يسلم له ما سلمه يرجع عليه ببدله، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وكذا لو وجد حرا أو مكاتبا أو مدبرا م: (لأنه) ش: أي لأن المصالح م: (التزام الإيفاء من محل بعينه ولم يلتزم شيئا سواه) ش: أي سوى ما عين م: (فإن سلم المحل له تم الصلح وإن لم يسلم له لم يرجع عليه بشيء) ش: أي على المصالح، ولكن يرجع إلى دعواه.
م: (بخلاف ما إذا صالح على دراهم مسماة وضمنها ودفعها ثم استحقت) ش: أي الدراهم م: (ووجدها زيوفا حيث يرجع عليه) ش: أي على الذي صالحه م: (لأنه) ش: أي لأن المصالح م: (جعل نفسه أصيلا في حق الضمان) ش: فصار دينا في ذمته حيث ضمنه م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (يجبر) ش: أي المصالح م: (على التسليم) ش: أي تسليم الدراهم إذا ضمنه، بخلاف ما إذا لم يضمن حيث لا يجبر م: (فإذا لم يسلم له ما سلمه يرجع عليه يبدله) ش: أي ببدل ما لم يسلم إليه، م: (والله أعلم بالصواب) .(10/24)
باب الصلح في الدين
قال: وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد المداينة لم يحمل على المعاوضة، وإنما يحمل على أنه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه، كمن له على آخر ألف درهم فصالحه على خمسمائة، وكمن له على آخر ألف جياد فصالحه على خمسمائة زيوف جاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الصلح في الدين]
[له على آخر ألف درهم فصالحه على خمسمائة]
م: (باب الصلح في الدين) ش: أي هذا باب في بيان حكم الصلح عن عموم الدعاوي، شرع في هذا الباب حكم الخاص وهو دعوى الدين لأن الخصوص أبدا يكون بعد العموم.
م: (قال: وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد المداينة) ش: أي من جنس ما يستحقه المدعي على المدعى عليه بعقد المداينة البيع بالدين. وإنما وضع المسألة في الدين وإن كان الحكم في الغصب كذلك حملا لأمر المسلم على الصلاح، لأنه هو المشروع إلى الغصب.
وهو نظير قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من نام عن صلاة أو نسيها..» الحديث " مع أن الحكم في العمد كذلك، قال الكاكي: وهاهنا ينبغي أن يزاد قيد آخر، وهو أن يقال: وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد المداينة، ولا يمكن حمله على بيع الصرف لم يحمل على المعاوضة.
لأنه لو أمكن حمله على بيع الصرف مع أنه مستحق بعقد المداينة يحمل على المعاوضة لا على إسقاط البعض م: (لم يحمل على المعاوضة) ش: لما فيه من الربا.
م: (وإنما يحمل على أنه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه، كمن له على آخر ألف درهم فصالحه على خمسمائة، وكمن له على آخر ألف جياد فصالحه على خمسمائة زيوف جاز) ش: أي الصلح م:(10/25)
وكأنه أبرأه عن بعض حقه، وهذا لأن تصرف العاقل يتحرى تصحيحه ما أمكن، ولا وجه لتصحيحه معاوضة لإفضائه إلى الربا، فجعل إسقاطا للبعض في المسألة الأولى، وللبعض والصفة في الثانية،
ولو صالح على ألف مؤجلة وكأنه أجل نفس الحق؛ لأنه لا يمكن جعله معاوضة؛ لأن بيع الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز، فحملناه على التأخير. ولو صالحه على دنانير إلى شهر لم يجز؛ لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة، فلا يمكن حمله على التأخير، ولا وجه له سوى المعاوضة وبيع الدراهم بالدنانير نسيئا لا يجوز فلم يصح الصلح. . قال: ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم يجز؛ لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وكأنه أبرأه عن بعض حقه وهذا) ش: أي عكس عدم الحمل على المعاوضة م: (لأن تصرف العاقل يتحرى تصحيحه ما أمكن، ولا وجه لتصحيحه معاوضة لإفضائه إلى الربا، فجعل إسقاطا للبعض) ش: أي لبعض الدين م: (في المسألة الأولى) ش: وهي مسألة مسامحة الألف بخمسمائة م: (وللبعض) ش: أي وجعل إسقاطا لبعض الدين م: (والصفة) ش: أي وإسقاطا للصفة م: (في الثانية) ش: أي في المسألة الثانية وهي مصالحة الجياد بالزيوف.
م: (ولو صالح على ألف مؤجلة جاز) ش: أي الصلح، يعني إذا صالح الطالب على ألف درهم مؤجلة جاز لما قلنا أن أمور المسلمين محمولة على الصلاح ما أمكن م: (كأنه أجل نفس الحق؛ لأنه لا يمكن جعله معاوضة؛ لأن بيع الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز) ش: شرعا؛ لأن ذلك بيع الدين بالدين م: (فحملناه على التأخير) ش: أي تأخير الدين؛ لأن التأخير تصرف في حقه لا في حق غيره.
م: (ولو صالحه على دنانير إلى شهر لم يجز) ش: هذا لفظ القدوري، أي لو صالح الطالب المطلوب عن الدراهم الحالة على دنانير مؤجلة م: (لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة فلا يمكن حمله على التأخير) ش: أي تأخير الحق، لأن حق الطالب كان في الدراهم لا في الدنانير ولما لم يكن ذلك ولا غيره م: (ولا وجه له سوى المعاوضة وبيع الدراهم بالدنانير نسيئا لا يجوز، فلم يصح الصلح) ش: لأنه يؤدي إلى الربا.
[كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم يجز، لأن المعجل خير من المؤجل وهو) ش: أي المعجل م: (غير مستحق بالعقد فيكون) ش: أي تعجيل الخمسمائة التي كانت عوض عن الأجل م: (بإزاء ما حطه عنه) ش: فيكون بمقابلة الخمسمائة المحطوطة المؤجلة. م: (وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام) ش: ألا ترى أن ربا النساء حرام لشبهة مبادلة المال بالأجل، فلأن تحرم حقيقة أولى، وبه قالت الأئمة الثلاثة وأكثر العلماء. م:(10/26)
وإن كان له ألف سود فصالحه على خمسمائة بيض لم يجز؛ لأن البيض غير مستحقة بعقد المداينة وهي زيادة وصفا فيكون معاوضة الألف بخمسمائة وزيادة وصف فيكون ربا، بخلاف ما إذا صالح عن الألف البيض على خمسمائة سود؛ لأنه إسقاط بعض حقه قدرا ووصفا. وبخلاف ما إذا صالح على قدر الدين وهو أجود؛ لأنه معاوضة المثل بالمثل ولا معتبر بالصفة، إلا أنه يشترط القبض في المجلس.
ولو كان عليه ألف درهم ومائة دينار فصالحه على مائة درهم حالة أو إلى شهر صح الصلح؛ لأنه أمكن أن يجعل إسقاطا للدنانير كلها والدراهم إلا مائة وتأجيلا للباقي، فلا يجعل معاوضة تصحيحا للعقد، أو لأن معنى الإسقاط فيه ألزم.
قال: ومن له على آخر ألف درهم فقال: أد إلي غدا منها خمسمائة على أنك بريء من الفضل ففعل فهو بريء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وإن كان له ألف سود وصالحه على خمسمائة بيض لم يجز) ش: المراد من السود الدراهم المضروبة من النقرة السود م: (لأن البيض غير مستحقة بعقد المداينة وهي زيادة وصفا) ش: أي البيض زائدة من حيث الوصف م: (فيكون معاوضة الألف بخمسمائة وزيادة وصف، فيكون ربا) ش: وفي بعض النسخ: فهو ربا.
م: (بخلاف ما إذا صالح عن الألف البيض على خمسمائة سود، لأنه إسقاط بعض حقه قدرا ووصفا) ش: أي: من حيث القدر والوصف، حيث يجوز م: (وبخلاف ما إذا صالح على قدر الدين وهو أجود) ش: أي قدر الدين أجود من الدين، حيث يحوز، ومعناه ما قاله في شرح " الكافي "، ولو كان له عليه ألف درهم غلة فصالحه منها على ألف درهم حالة فإن قبض قبل أن يعتبر، فأجاز وإن تفرقا قبل أن يقبض بطل م: (لأنه معاوضة المثل بالمثل، ولا معتبر بالصفة، إلا أنه يشترط القبض في المجلس) ش: لأنه صرف، والنخبة اسم لما هو الموجود من الدراهم السود.
[كان عليه ألف درهم ومائة دينار فصالحه على مائة درهم حالة]
م: (ولو كان عليه ألف درهم ومائة دينار فصالحه على مائة درهم حالة أو إلى شهر صح الصلح، لأنه أمكن أن يجعل إسقاطا للدنانير كلها والدراهم إلا مائة وتأجيلا للباقي) ش: يعني يحمل على أنه إسقاط حقه في الدنانير أصلا، وأسقط حقه في الدراهم إلا مائة، وإذا كان كذلك جاز التأجيل في المائة.
م: (فلا يجعل معاوضة تصحيحا للعقد) ش: وتحرزا عن الربا م: (أو لأن معنى الإسقاط فيه) ش: أي في الصلح م: (ألزم) ش: لأنه مبني على الحطيطة والحط هاهنا أكثر، فيكون الإسقاط ألزم.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن له على آخر ألف درهم) ش: أي حالة م: (فقال: أد إلي غدا منها خمسمائة على أنك بريء من الفضل ففعل فهو بريء) ش: أي من الفضل(10/27)
فإن لم يدفع إليه الخمسمائة غدا عاد عليه الألف وهو قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعود عليه؛ لأنه إبراء مطلق، ألا ترى أنه جعل أداء الخمسمائة عوضا حيث ذكره بكلمة " على " وهي للمعاوضة، والأداء لا يصلح عوضا لكونه مستحقا عليه فجرى وجوده مجرى عدمه، فبقي الإبراء مطلقا فلا يعود كما إذا بدأ بالإبراء ولهما أن هذا إبراء مقيد بالشرط فيفوت بفواته؛ لأنه بدأ بأداء الخمسمائة في الغد، وأنه يصلح غرضا حذار إفلاسه وتوسلا إلى تجارة أربح منه، وكلمة " على " وإن كانت للمعاوضة، فهي محتملة للشرط لوجود معنى المقابلة فيه فيحمل عليه عند تعذر الحمل على المعاوضة تصحيحا لتصرفه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإن لم يدفع إليه الخمسمائة غدا عاد عليه الألف وهو قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله) .
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يعود عليه لأنه إبراء مطلق) ش: فثبت البراءة مطلق سواء أعطى أو لم يعط م: (ألا ترى أنه جعل أداء الخمسمائة عوضا) ش: أي عن الإبراء م: (حيث ذكره بكلمة على وهي للمعاوضة) ش: أي كلمة على للمعاوضة.
م: (والأداء لا يصلح عوضا) ش: لأن حد المعاوضة أن يستفيد كل واحد ما لم يكن مخالفا م: (لكونه مستحقا عليه) ش: لم يستفد منه شيء لم يكن وإذا كان كذلك م: (فجرى وجوده مجرى عدمه) ش: أي جرى وجود الأداء عوضا مجرى عدمه م: (فبقي الإبراء مطلقا ولا يعود كما إذا بدأ بالإبراء) ش: بأن قال: أبرأتك على خمسمائة من ألف على أن تؤدي غدا خمسمائة من الألف.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن هذا إبراء مقيد بالشرط) ش: أي بشرط مرغوب فيه، فيكون إبراء مقيدا م: (فيفوت بفواته) ش: أي عند فواته، فإن انتفاء الشرط ليس علة لانتفاء المشروط عندنا، لكنه عند انتفائه فات لبقائه على العدم الأصلي، وإنما قلنا إنه مقيد بالشرط.
م: (لأنه بدأ بأداء الخمسمائة في الغد، وأنه يصلح غرضا حذار إفلاسه وتوسلا إلى تجارة أربح منه) ش: وصلح أن يكون شرطا من حيث المعنى م: (وكلمة على وإن كانت للمعاوضة فهي محتملة للشرط لوجود معنى المقابلة فيه) ش: أي في الشرط، فإنه فيه مقابلة الشرط بالخبر لما كان بين العوضين وقد تعذر والعمل معنى المعاوضة.
فإذا كان كذلك م: (فيحمل عليه) ش: أي على الشرط م: (عند تعذر الحمل على المعاوضة تصحيحا لتصرفه) ش: وقال الأكمل، وكان منهما قول بموجب العلة، أي سلمنا أنه لا يصح أن يكون مقيدا بالعوض لكن لا ينافي أن يكون مقيدا بوجه آخر وهو الشرط.(10/28)
أو لأنه متعارف، والإبراء مما يتقيد بالشرط، وإن كان لا يتعلق به كالحوالة وسنخرج البداءة بالإبراء إن شاء الله تعالى.
قال: وهذه المسألة على وجوه، أحدها: ما ذكرناه، والثاني: إذا قال: صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إلي غدا وأنت بريء من الفضل على أنك إن لم تدفعها إلي غدا فالألف عليك على حاله. وجوابه أن الأمر على ما قال؛ لأنه أتى بصريح التقييد فيعمل به. والثالث: إذا قال: أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا فالإبراء فيه واقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو لأنه متعارف) ش: معطوف على قوله لوجود المقابلة، يعني أن حمل كله على الشرط لأحد معنيين: إما لوجود المقابلة، وإما لأن مثل هذا الشرط في الصلح متعارف بأن يكون تعجيل البعض مقيدا الإبراء الباقي، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا، وصار كما لو قال إن لم تنفذ غدا فلا صلح بيننا.
م: (والإبراء مما يتقيد بالشرط) ش: هذا جواب عما يقال تعليق الإبراء بالشرط مثل أن يقول لغريم أو كفيل: إذا أديت أو متى أديت إلي خمسمائة فأنت بريء من الباقي: باطل بالاتفاق، والتقييد بالشرط وهو التعلق به، فكيف كان جائزا أو تقديرا. الجواب أن الإبراء مما يتقيد بالشرط.
م: (وإن كان لا يتعلق به) ش: يعني يجوز أن يكون الإبراء مقيدا بشروط، مرغوب فيه وإن كان لا يتعلق به، أي بالشرط حتى إذا قال الشرط انتقض الإبراء م: (كالحوالة) ش: فإنه مقيده بشرط سلامة الدين من ذمته، حتى إذا مات المحتال عليه مفلسا انتقضت الحوالة وعاد الدين إلى ذمة المحيل ولكن يجوز تعليق الإبراء بالشرط أصلا لما فيه من معنى التمليك م: (وسنخرج البداءة بالإبراء إن شاء الله تعالى) ش: هذا عذر من تأخير جواب ما قاس عليه أبو يوسف بقوله: كما إذا بدأ بالإبراء، يعني: بذكر الفرق بين المقيس عليه عند قوله: والثالث إذا قال أبرأتك إلى آخره.
م: (قال) ش: أي المصنف م: (وهذه المسألة) ش: أشار به إلى قوله ومن له على آخر ألف درهم.. إلى آخره م: (على وجوه: أحدها: ما ذكرناه) ش: وهو قوله ومن له على آخر.. إلى آخره.
م: (والثاني) ش: أي الوجه الثاني م: (إذا قال صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إلي غدا وأنت بريء من الفضل على أنك إن لم تدفعها إلي غدا فالألف عليك على حاله، وجوابه أن الأمر على ما قال) ش: أي بالإجماع م: (لأنه أتى بصريح التقييد فيعمل به والثالث) ش: أي الوجه الثالث م: (إذا قال أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا فالإبراء فيه واقع(10/29)
أعطى الخمسمائة أو لم يعط؛ لأنه أطلق الإبراء أولا، وأداء الخمسمائة لا يصلح عوضا مطلقا، ولكنه يصلح شرطا فوقع الشك في تقييده بالشرط فلا يتقيد به. بخلاف ما إذا بدأ بأداء خمسمائة لأن الإبراء حصل مقرونا به، فمن حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا يقع مطلقا، فلا يثبت الإطلاق بالشك فافترقا. والرابع: إذا قال: أد إلي خمسمائة على أنك بريء من الفضل ولم يوقت للأداء وقتا. وجوابه أنه يصح الإبراء ولا يعود الدين لأن هذا إبراء مطلق؛ لأنه لما لم يوقت للأداء وقتا لا يكون الأداء غرضا صحيحا لأنه واجب عليه في مطلق الأزمان فلم يتقيد، بل يحمل على المعاوضة ولا يصلح عوضا، بخلاف ما تقدم؛ لأن الأداء في الغد غرض صحيح. والخامس: إذا قال: إن أديت إلي خمسمائة أو قال: إذا أديت أو متى أديت فالجواب فيه أنه لا يصح الإبراء؛ لأنه علقه بالشرط صريحا وتعليق البراءة بالشروط باطل لما فيها من معنى التمليك، حتى يرتد بالرد، بخلاف ما تقدم؛ لأنه ما أتى بصريح الشرط فحمل على التقييد به.
قال: ومن قال لآخر: لا أقر لك بمالك حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أعطى) ش: أي على م: (الخمسمائة أو لم يعط؛ لأنه أطلق الإبراء أولا وأداء الخمسمائة لا يصلح عوضا مطلقا، ولكنه يصلح شرطا فوقع الشك في تقييده) ش: أي يعتبر الإبراء م: (بالشرط فلا يتقيد به، بخلاف ما إذا بدأ بأداء خمسمائة؛ لأن الإبراء حصل مقرونا به) ش: أي بالأداء.
م: (فمن حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك فافترقا) ش: أي الوجهان، وهو ما إذا بدأ بالإبراء، أو إذا بدأ بأداء الخمسمائة.
م: (والرابع:) ش: أي الوجه الرابع م: (إذا قال: أد إلي خمسمائة على أنك بريء من الفضل ولم يوقت للأداء وقتا، وجوابه أنه يصح الإبراء ولا يعود الدين، لأن هذا إبراء مطلق لأنه لما لم يوقت للأداء وقتا لا يكون الأداء غرضا صحيحا؛ لأنه واجب عليه في مطلق الأزمان فلم يتقيد، بل يحمل على المعاوضة ولا يصلح عوضا بخلاف ما تقدم) ش: أي بخلاف ما إذا وقت للأداء وقتا كما في قوله أد إلي غدا منها خمسمائة على أنك بريء منها من الفضل م: (لأن الأداء في الغد غرض صحيح) .
م: (والخامس:) ش: أي الوجه الخامس م: (إذا قال: إن أديت إلي خمسمائة أو قال: إذا أديت أو متى أديت فالجواب فيه أنه لا يصح الإبراء؛ لأنه علقه بالشرط صريحا، وتعليق البراءة بالشروط باطل لما فيها) ش: أي في البراءة م: (من معنى التمليك حتى يرتد بالرد " بخلاف ما تقدم لأنه ما أتى بصريح الشرط) ش: يعني أن الإبراء فيه معنى الإسقاط ومعنى التمليك، فإذا صرح بالتعليق لم يصح اعتبارا بسبب التمليك، وإذا لم يصرح به صح اعتبار الشبه والإسقاط، فإذا كان كذلك م: (فحمل على التقييد به) ش: أي بالشرط.
[قال له لا أقر لك بمالك حتى تؤخره عني أو تحط عني ففعل]
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن قال لآخر لا أقر لك بمالك حتى(10/30)
تؤخره عني أو تحط عني ففعل جاز عليه؛ لأنه ليس بمكره، ومعنى المسألة إذا قال ذلك سرا، أما إذا قال علانية يؤخذ به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تؤخره عني أو تحط عني ففعل) ش: أخر دينه أو حط شيئا من دينه م: (جاز عليه) ش: أي هذا التصرف وهو التأخير أو الحط جاز على رب الدين حتى لا يتمكن من مطالبته في الحال ولا مطالبة ما حط عنه، وعند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - يتمكن م: (لأنه) ش: أي لأن رب الدين م: (ليس بمكره) ش: لأنه يمكن دفع هذا بإقامة البينة أو بالتحليف م: (ومعنى المسألة إذا قال ذلك سرا، أما إذا قال علانية يؤخذ به) ش: أي يؤخذ المقر بجميع المال في الحال بلا خلاف، لأنه إقرار منه بالحق.(10/31)
فصل في الدين المشترك وإذا كان الدين بين شريكين، فصالح أحدهما من نصيبه على ثوب، فشريكه بالخيار: إن شاء اتبع الذي عليه الدين بنصفه، وإن شاء أخذ نصف الثوب، إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين، والأصل في هذا أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض لأنه ازداد بالقبض، إذ مالية الدين باعتبار عاقبة القبض، وهذه الزيادة راجعة إلى أصل الحق، فتصير كزيادة الولد والثمرة فله حق المشاركة، ولكنه قبل المشاركة باق على ملك القابض؛ لأن العين غير الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الدين المشترك]
[كان الدين بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على ثوب]
م: (فصل في الدين المشترك)
ش: أي هذا فصل في بيان حكم الدين المشترك، أخر هذا عن المفرد لأن المركب يتلو المفرد.
م: (وإذا كان الدين بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على ثوب فشريكه بالخيار إن شاء اتبع الذي عليه الدين بنصفه، وإن شاء أخذ نصف الثوب إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين) ش: هذا لفظ القدوري، والاستثناء من قوله فشريكه بالخيار، يعني إذا ضمن الشريك المصالح ربع الدين ليس للشريك غير المصالح الخيار، لأن حقه في الدين ولا يكون له سبيل في الثوب.
وإنما وضع المسألة في الدين بين شريكين، لأنه إذا ادعى اثنان في دار فصالح أحدهما من نصيبه من الدار على مال لم يشركه الآخر بلا خلاف بين العلماء سواء كان المدعى عليه منكرا أو مقرا، لأن الصلح بإقرار معاوضة فيجوز، وبإثبات معاوضة في زعم المدعى عليه فلا يثبت للشريك حق الشركة.
م: (والأصل في هذا) ش: الفصل م: (أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض؛ لأنه ازداد بالقبض) ش: أي لأن الدين ازداد خيرا بسبب كونه مقبوضا أو منقودا م: (إذ مالية الدين باعتبار عاقبة القبض) ش: لأن الدين قبل القبض وصف شرعي، وبعد القبض صار عينا منتفعا قابلا للتصرفات، ولأن الدين ليس بمال، ولهذا لو حلف على أن لا مال له وله ديون على الناس لا يحنث وبعدما قبض صار مالا. م: (وهذه الزيادة راجعة إلى أصل الحق، فتصير كزيادة الولد والثمرة فله حق المشاركة) ش: في أصل الحق م: (ولكنه قبل المشاركة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال لو كانت زيادة الدين بالقبض كالثمر والولد ينبغي أن لا يجوز تصرف القابض قبل أن يختار الشريك مشاركته كما في الثمر والولد لا يجوز التصرف بغير إذن الآخر. وتقدير الجواب ما قاله، ولكنه أي ولكن المقبوض قبل المشاركة، أي أن يختار الشريك مشاركة القبض م: (باق على ملك القابض، لأن العين غير الدين(10/32)
حقيقة وقد قبضه بدلا عن حقه فيملكه حتى ينفذ تصرفه فيه ويضمن لشريكه حصته، والدين المشترك أن يكون واجبا بسبب متحد كثمن المبيع إذا كان صفقة واحدة وثمن المال المشترك والمورث بينهما وقيمة المستهلك المشترك، إذا عرفنا هذا فنقول في مسألة الكتاب له أن يتبع الذي عليه الأصل لأن نصيبه باق في ذمته؛ لأن القابض قبض نصيبه لكن له حق المشاركة وإن شاء أخذ نصف الثوب؛ لأن له حق المشاركة إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين؛ لأن حقه في ذلك. قال: ولو استوفى أحدهما نصف نصيبه من الدين كان لشريكه أن يشاركه فيما قبض لما قلنا ثم يرجعان على الغريم بالباقي؛ لأنهما لما اشتركا في المقبوض لا بد أن يبقى الباقي على الشركة. قال: ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدين سلعة كان لشريكه أن يضمنه ربع الدين؛ لأنه صار قابضا حقه بالمقاصة كملا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حقيقة وقد قبضه بدلا عن حقه فيملكه حتى ينفذ تصرفه فيه ويضمن لشريكه حصته) .
ش: ثم عرف المصنف الدين المشترك بقوله م: (والدين المشترك أن يكون واجبا بسبب متحد كثمن المبيع إذا كان صفقة واحدة) ش: قيد به، لأنه لو باع أحدهما نصيبه بخمسمائة والآخر نصيبه بخمسمائة وكتبا عليه صلحا واحدا بألف ثم قبض أحدهما شيئا لم يكن للآخر أن يشاركه فيه لأن تفرق التسمية في حق القابض كتفرق الصفقة م: (وثمن المال المشترك) ش: أي والدين المشترك أيضا ثمن المال المشترك بين الاثنين م: (والمورث بينهما) ش: أي بين الاثنين أي والثمن المورث بينهما بأن باع رجل عينا ومات قبل قبض الثمن وله وارث م: (وقيمة المستهلك المشترك) ش: بين الاثنين.
م: (إذا عرفنا هذا) ش: لما فرغ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان الأصل قال: إذا عرفنا م: (هذا) ش: وترك عليه م: (فنقول في مسألة الكتاب) ش: أي القدوري م: (له أن يتبع الذي عليه الأصل) ش: أي للساكت أن يتبع المديون م: (لأن نصيبه باق في ذمته) ش: ولم يستوفه م: (لأن القابض قبض نصيبه لكن له حق المشاركة وإن شاء أخذ نصف الثوب) ش: ونصف الثوب قدر ربع الدين، لأن الثوب صولح عليه بنصف الدين فيكون الثوب قدر نصف الدين ونصف النصف ربع لا محالة م: (لأن له حق المشاركة إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين، لأن حقه في ذلك) ش: أي لأن حقه في الأصل كان في الدين.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولو استوفى أحدهما نصف نصيبه من الدين كان لشريكه أن يشاركه فيما قبض لما قلنا) ش: أي قبض هذا أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض م: (ثم يرجعان على الغريم بالباقي، لأنهما لما اشتركا في المقبوض لا بد أن يبقى الباقي على الشركة قال) ش: أي القدوري م: (ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدين سلعة كان لشريكه أن يضمنه ربع الدين، لأنه صار قابضا حقه بالمقاصة كملا) ش: أي من(10/33)
لأن مبنى البيع على المماكسة، بخلاف الصلح لأن مبناه على الإغماض والحطيطة فلو ألزمناه دفع ربع الدين يتضرر به فيتخير القابض كما ذكرناه، ولا سبيل للشريك على الثوب في البيع لأنه ملكه بعقده، والاستيفاء بالمقاصة بين ثمنه وبين الدين
وللشريك أن يتبع الغريم في جميع ما ذكرنا؛ لأن حقه باق في ذمته؛ لأن القابض استوفى نصيبه حقيقة لكن له حق المشاركة في المقبوض فله أن لا يشاركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير حطيطة. بيان هذا أن رب الدين لما اشترى بنصيبه من الدين من المديون سلعة وجب على سلعة ذمة مثل ما وجب في ذمة المديون فالتقيا قصاصا فصار كأنه قبض نصف الدين كان لشريكه أن يرجع عليه بحصته من ذلك فكذا هذا. م: (لأن مبنى البيع على المماكسة) ش: دليل قوله صار قابضا حقه بالمقاصة كملا م: (بخلاف الصلح) ش: يعني ما إذا صالح من نصيبه على سلعة كالثوب مثلا حيث يكون المصالح بالخيار إن شاء دفع إليه نصف الثوب، وإن شاء دفع إليه ربع الدين. وعند زفر: يلزمه أن يؤدي إليه ربع الدين بلا خيار م: (لأن مبناه) ش: أي مبنى الصلح م: (على الإغماض والحطيطة) ش: وهذا لا يملك بيعه مرابحة، فكان المصالح بالصلح أبرأه عن بعض حقه وقبض البعض م: (فلو ألزمناه دفع ربع الدين يتضرر) ش: أي المصالح م: (به) ش: لأنه لم يستوف نصف الدين كملا، فإذا كان كذلك م: (فيتخير القابض كما ذكرناه) ش: أشار به إلى قوله إلا أن يضمن له شريكه " أي إلا أن يضمن القابض للساكت ربع الدين م: (ولا سبيل للشريك على الثوب في البيع، لأنه ملكه بعقده) ش: أي لأن الذي اشترى نصيبه من الدين ثوبا ملكه بعقد البيع لا بسبب الدين.
وقال الأترازي: لا يكون للشريك الساكت سبيل على الثوب في البيع يبقى في صورة الشراء، ولكن مع هذا لو اتفقا على الشركة في الثوب جاز؛ لأن الثوب على ملك القابض، فإذا سلم إلى الشريك الساكت نصفه ورضي هو بذلك صار كأنه باع منه نصف الثوب.
م: (والاستيفاء بالمقاصة) ش: بالرفع، جواب عما يقال هب أن ملكه بعقده إنما كان ببعض دين مشترك، وذلك يقتضي الاشتراك في المقبوض. وتقدير الجواب أن يقال الاستيفاء بالمقاصة أي استيفاء الشريك بالتقاصص م: (بين ثمنه وبين الدين) ش: أي وبين دينه الخاص لا بدين مشترك، فلا يكون للشريك الساكت سبيل على الثوب.
م: (وللشريك أن يتبع الغريم في جميع ما ذكرنا) ش: أي وللشريك الساكت اتباع المديون حصة في صورة الصلح على الثوب وصورة أخذ الدين من الدراهم أو الدنانير، وصورة شراء السلعة م: (لأن حقه) ش: أي لأن حق الساكت م: (باق في ذمته) ش: أي في ذمة المديون م: (لأن القابض استوفى نصيبه حقيقة، لكن له حق المشاركة في المقبوض فله أن لا يشاركه) ش: يعني لا يلزمه المشاركة.(10/34)
فلو سلم ما قبض ثم توى ما على الغريم له أن يشارك القابض؛ لأنه إنما رضي بالتسليم ليسلم له ما في ذمة الغريم ولم يسلم. ولو وقعت المقاصة بدين كان عليه من قبل لم يرجع عليه الشريك لأنه قاض بنصيبه لا مقتض. ولو أبرأه عن نصيبه فكذلك؛ لأنه إتلاف وليس بقبض. ولو أبرأه عن البعض كانت قسمة الباقي على ما يبقى من السهام. ولو أخر أحدهما عن نصيبه صح عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بالإبراء المطلق ولا يصح عندهما؛ لأنه يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فلو سلم له ما قبض) ش: أي فلو سلم الشريك الساكت له أي للقابض ما قبضه وهو الثوب الذي بدل الصلح أو ثوب المشتري أو الدراهم أو الدنانير م: (ثم توى ما على الغريم) ش: بأن مات مفلسا م: (له أن يشارك القابض لأنه إنما رضي بالتسليم ليسلم له ما في ذمة الغريم ولم يسلم) ش: يعني إنما رضي بالتسليم على رجاء سلامة ما في ذمة الغريم، فإذا توى لم يسلم فيرجع كما في الحوالة إذا مات ليحتال عليه مفلسا فيرجع المحتال له على المحيل.
م: (فلو وقعت المقاصة بدين كان عليه) ش: أي على أحد الشريكين م: (من قبل) ش: أي من قبل الدين المشترك بأن أقر أحد الشريكين أن للمديون عليه حقا قبل ثبوت الدين المشترك م: (لم يرجع عليه الشريك لأنه) ش: أي لأن القابض م: (قاض بنصيبه) ش: أي مؤديه نصيبه م: (لا مقتض) ش: أي لا مستوف دينه لما أخر الدينين يصير قضاء على أوليائه.
م: (ولو أبرأه عن نصيبه) ش: أي لو أبرأ أحد الشريكين المديون عن نصيبه من الدين م: (فكذلك) ش: أي لم يرجع على شريكه م: (لأنه إتلاف وليس بقبض) ش: أي لأن الإبراء إتلاف نصيبه فلم يزد له شيء بالبراءة فلا يرجع عليه م: (ولو أبرأه عن البعض) ش: أي لو أبرأه أحد الشريكين المديون عن بعض نصيبه م: (كانت قسمة الباقي) ش: أي باقي الدين م: (على ما يبقى من السهام) ش: أي من سهامها من الدين كما إذا أبرأ أحدهما عن نصف دينه والدين عشرون درهما يكون للمشتري المطالبة بخمس دراهم. م: (ولو أخر أحدهما عن نصيبه) ش: أي لو أخر أحد الشريكين المطالبة عن الديون عن نصيبه م: (صح عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بالإبراء المطلق ولا يصح عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا مخالف لعامة روايات الكتب في " المبسوط " و" الأسرار " و" الإيضاح " وغيرها، فإن المذكور فيها قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والخلاف هكذا مشهور في المنظومة في باب أبي حنيفة خلافا لصاحبيه حيث قال فيها والدين بين اثنين، هذا قد جعل نصيبه مؤجلا شهرا بطل.
وكذا ذكر الخلاف في " المختلف " والحصر م: (لأنه) ش: أي لأن تأخير أحد الشريكين عن نصيبه م: (يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض) ش: لأن في القسمة معنى التمليك فيكون فيه تمليك(10/35)
ولو غصب أحدهما عينا منه أو اشتراه شراء فاسدا وهلك في يده فهو قبض، والاستئجار بنصيبه قبض. وكذا الإحراق عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والتزوج به إتلاف في ظاهر الرواية
وكذا الصلح عليه عن جناية العمد، قال: وإذا كان السلم بين الشريكين فصالح أحدهما عن نصيبه على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين من غير على من يحصل عليه الدين.
م: (ولو غصب أحدهما عينا منه) ش: أي ولو غصب أحد الشريكين عينا من المديون م: (أو اشتراه شراء فاسدا وملك في يده فهو قبض) ش: أي قبض نصيبه من الدين المشترك م: (والاستئجار بنصيبه قبض) ش: بأن استأجر أحدهما من المديون دارا بنصيبه من الدين وقبض كان للساكت أن يأخذ منه ربع الدين. وفي" المبسوط ": استأجر نصيبه دارا من الغريم وسكنها يرجع الشريك عليه بنصف نصيبه، وروى ابن سماعة عن محمد هذا إذا استأجر بخمسمائة مطلقا، أما لو استأجر بحصته من الدين لا يرجع الآخر عليه بشيء.
م: (وكذا الإحراق عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي لو أحرق أحدهما ثوب المديون وهو يساوي نصيب المحرق وهو نصف الدين فعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا قبض حتى يثبت للساكت أن يطالبه بربع الدين؛ لأن الإحراق إتلاف لمال مضمون فيكون كالغصب " والمديون صادقا راضيا بنصيبه بطريق المقاصة، فيجعل المحرق مقتضيا وهذا إذا ألقى النار على الثوب، أما إذا أخذ الثوب ثم أحرقه فإن الساكت يضمنه بربع الدين.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرجع عليه بشيء لأنه متلف نصيبه بما صنع م: (والتزوج به) ش: أي بنصيبه، يعني إذا تزوج أحد ربي الدين امرأة بنصيبه من دين لهما عليها لا يكون ذلك قبضا للدين، بل هو م: (إتلاف في ظاهر الرواية) ش: احترز به عن رواية بشر عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يرجع بنصف حقه لو وقع القبض بطريق المقاصة. وجه الظاهر أنه لم يسلم له شيء يمكنه المشاركة فيه إذ البضع لا يحتمل الشركة فلم يظهر معنى الزيادة، فصار كما لو أبرأ.
[كان السلم بين شريكين فصالح أحدهما عن نصيبه على رأس المال]
م: (وكذا الصلح عليه عن جناية العمد) ش: أي وكذا هو إتلاف لا قبض بأن جنى أحد الشريكين على المديون عمدا فيما دون النفس. وقيل بجناية العمد، لأن في جناية الخطأ يرجع، ولكن ذكر في " الإيضاح " مطلقا فقال: ولو شج المطلوب موضحة فصالحه على حصته لم يرجع شريكه بشيء؛ لأن الصلح عن الموضحة بمنزلة النكاح.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا كان السلم بين شريكين فصالح أحدهما عن نصيبه على(10/36)
رأس المال لم يجز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف يجوز الصلح اعتبارا بسائر الديون، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه. ولهما أنه لو جاز في نصيبه خاصة يكون قسمة الدين في الذمة، ولو جاز في نصيبهما لا بد من إجازة الآخر، بخلافه شراء العين، وهذا لأن المسلم فيه صار واجبا بالعقد والعقد قام بهما فلا يتفرد أحدهما برفعه، ولأنه لو جاز لشاركه في المقبوض، فإذا شاركه فيه رجع المصالح على من عليه بذلك فيؤدي إلى عود السلم بعد سقوطه، قالوا: هذا إذا خلطا رأس المال، فإن لم يكونا قد خلطاه فعلى الوجه الأول هو على الخلاف، وعلى الوجه الثاني هو على الاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رأس المال لم يجز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف: يجوز الصلح اعتبارا بسائر الديون وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه) ش: فإنه يجوز بدون رضا الآخر ولأن ملك كل واحد منهما ممتازا عن الآخر، فجاز تفرده بالفسخ.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الصلح أحدهما م: (لو جاز في نصيبه خاصة يكون قسمة الدين في الذمة) ش: قبل القبض، لأن خصومة نصيبه لا تظهر إلا بالتمييز ولا تمييز إلا بالقسمة وقد تقدم بطلانها م: (ولو جاز) ش: أي الصلح م: (في نصيبهما لا بد من إجازة الآخر) ش: ولم يوجد م: (بخلاف شراء العين) ش: هذا جواب عن قياس أبي يوسف المتنازع على شراء العبد، وبينه بقوله: م: (وهذا لأن المسلم فيه صار واجبا بالعقد) ش: أي ثابتا به م: (والعقد قام بهما فلا يتفرد أحدهما برفعه) ش: أي برفع العقد القائم بهما م: (ولأنه) ش: دليل آخر له أي ولأن الصلح المذكور م: (لو جاز لشاركه) ش: الشريك الآخر م: (في المقبوض) ش: عن رأس المال م: (فإذا شاركه فيه رجع المصالح على من عليه بذلك) ش: أي من عليه بالقدر من المسلم فيه الذي قبضه الشريك حيث لم يسلم له ذلك القدر وقد كان ساقطا بالصلح م: (فيؤدي إلى عود السلم بعد سقوطه) ش: وذلك باطل لأنه يلزم من نفيه ثبوته.
م: (قالوا) ش: أي قال المتأخرون من مشايخنا م: (هذا) ش: أي هذا الخلاف م: (إذا خلطا رأس المال) ش: وكان رأس المال مشتركا بينهما م: (فإن لم يكونا قد خلطاه فعلى الوجه الأول) ش: أراد به النكتة الأولى، وهي لزوم قسمة الدين في الذمة م: (هو على الخلاف) ش: المذكور م: (وعلى الوجه الثاني) ش: أراد به النكتة الثانية م: (هو) ش: قوله ولأنه لو جاز لشاركه ... إلى آخره م: (على الاتفاق) ش: أي صح صلح أحدهما على الاتفاق على رأس ماله لأن رأس المال إذا لم يكن مخلوطا وقبضه صاحبه لم يكن لشريكه أن يشاركه فيه، لأنه لا حق له فيه لأنه مال الغير.(10/37)
فصل في التخارج قال: وإذا كانت التركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض جاز قليلا كان ما أعطوه إياه أو كثيرا؛ لأنه أمكن تصحيحه بيعا وفيه أثر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار قال: وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهبا، أو كان ذهبا فأعطوه فضة فهو كذلك؛ لأنه بيع الجنس بخلاف الجنس فلا يعتبر التساوي ويعتبر التقابض في المجلس؛ لأنه صرف غير أن الذي في يده بقية التركة إن كان جاحدا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في التخارج]
[تعريف التخارج]
م: (فصل في التخارج)
ش: أي هذا فصل في بيان حكم التخارج. والتخارج لغة: إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه، كذا في " الصحاح "، وشرعا: إخراج بعض الورثة عما يستحقه في التركة بمال يدفع إليه وسببه طلب الخارج من الورثة عند رضى غيره، وشرطه أن لا تكون التركة مشغولة بالدين كلها أو بعضها، وأن يكون ما أعطاه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس، وشرطه عند البعض أيضا أن تكون أعيان التركة معلومة بأنها من أي جنس عند الصلح.
[كانت التركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه] 1
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا كانت التركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض جاز قليلا كان ما أعطوه إياه أو كثيرا) ش: قيد بقوله: والتركة عقار أو عروض؛ لأنها إذا كانت ذهبا أو فضة يجيء حكمها بعد هذا م: (لأنه أمكن تصحيحه بيعا) ش: إنما تعين البيع فيه لجواز دون الإبراء عما زاد من نصيبه، لأن الإبراء عن الأعيان غير المضمونة لا يصح فتعين البيع م: (وفيه) ش: أي وفي جواز التخارج م: (أثر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار) ش: هذا غريب بهذا اللفظ. وروى عبد الرزاق في مصنفه في البيوع أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن امرأة عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أخرجها أهله من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألف درهم.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهبا أو كان ذهبا) ش: أي أو كانت التركة ذهبا م: (فأعطوه فضة فهو كذلك) ش: يعني جاز قليلا كان ما أعطوه أو كثيرا م: (لأنه بيع الجنس، بخلاف الجنس فلا يعتبر التساوي ويعتبر التقابض في المجلس؛ لأنه صرف غير أن الذي في يده) ش: أي غير أن الوارث الذي في يده م: (بقية التركة إن كان جاحدا) ش: أي(10/38)
يكتفى بذلك القبض لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح، وإن كان مقرا لا بد من تجديد القبض؛ لأنه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الصلح.
وإن كانت التركة ذهبا وفضة وغير ذلك، فصالحوه على فضة أو ذهب، فلا بد أن يكون ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس، حتى يكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة احترازا عن الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب والفضة لأنه صرف في هذا القدر. ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا لعدم الربا. ولو كان في التركة دراهم ودنانير وبدل الصلح دراهم ودنانير أيضا جاز الصلح كيفما كان صرفا للجنس إلى خلاف الجنس كما في البيع لكن يشترط التقابض للصرف.
قال: وإن كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح على أن يخرجوا المصالح عنه ويكون الدين لهم فالصلح باطل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التركة م: (يكتفى بذلك القبض) ش: أي القبض السابق يعني لا يحتاج إلى تجديد القبض م: (لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح) ش: وهو قبض ضمان لأنه مثله.
م: (وإن كان) ش: أي الذي في يده بقية التركة م: (مقرا) ش: أي بالتركة م: (لا بد من تجديد القبض، لأنه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الصلح) ش: لأنه إن كان مقرا فلا بد من تجديد القبض بالتخلية بالانتهاء إلى أن يتمكن فيه من قبضه، لأن قبضه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الضمان والأصل أن القبض إذا تجانسا أمانة أو ضمانا ناب أحدهما مناب الآخر، وإن اختلفا بأن قبض الضمان عن قبض الأمانة ولا ينعكس.
م: (وإن كانت التركة ذهبا وفضة وغير ذلك فصالحوه على فضة أو ذهب فلا بد أن يكون ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس حتى يكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة احترازا عن الربا ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب والفضة؛ لأنه صرف في هذا القدر. ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا لعدم الربا) ش: يعني جاز هو قل بدل الصلح أو كثر لأنه لا يلزم الربا ولا يشترط فيه التقابض أيضا، لأنه ليس بصرف.
م: (ولو كان في التركة دراهم ودنانير وبدل الصلح دراهم ودنانير أيضا جاز الصلح كيفما كان) ش: يعني بلا اشتراط التساوي في الجنس والزيادة على ذلك قل بدل الصلح أو كثر م: (صرفا للجنس إلى خلاف الجنس) ش: تصحيحا للعقد م: (كما في البيع) ش: حيث يصرف الجنس إلى خلاف الجنس تحرزا عن الربا م: (لكن يشترط التقابض للصرف) ش: أي لأجل كونه صرفا.
[كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح) ش: أي أدخلوا الدين في الصلح م: (على أن يخرجوا المصالح) ش: بكسر اللام على صيغة اسم الفاعل م: (عنه) ش: أي عن الدين م: (ويكون الدين لهم فالصلح باطل) ش: أي في الكل(10/39)
لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه وهو حصة المصالح. وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه ولا يرجع عليهم بنصيب المصالح فالصلح جائز؛ لأنه إسقاط أو هو تمليك الدين ممن عليه الدين وهو جائز، وهذه حيلة الجواز. وأخرى أن يعجلوا قضاء نصيبه متبرعين. وفي الوجهين ضرر لبقية الورثة، والأوجه أن يقرضوا المصالح مقدار نصيبه ويصالحوا عما وراء الدين ويحيلهم على استيفاء نصيبه من الغرماء، ولو لم يكن في التركة دين وأعيانها غير معلومة والصلح على المكيل والموزون قيل: لا يجوز لاحتمال الربا، وقيل يجوز لأنه شبهة الشبهة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في العين والدين م: (لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه) ش: أي الدين م: (وهو حصة المصالح) ش: أي تمليك الدين من غير من عليه حصة المصالح بكسر اللام.
م: (وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه) ش: يعني إذا شرط الورثة أن يبرأ المصالح من نصيبه من دين الغرماء وهم المديون م: (ولا يرجع) ش: أي الورثة م: (عليهم) ش: أي على الغرماء م: (بنصيب المصالح فالصلح جائز لأنه إسقاط) ش: أي إسقاط من ذمة المديون م: (أو هو تمليك الدين ممن عليه الدين وهو جائز، وهذه حيلة الجواز وأخرى) ش: أي وحيلة أخرى م: (أن يعجلوا) ش: الورثة م: (قضاء نصيبه) ش: أي نصيب المصالح من الدين حال كونهم م: (متبرعين، وفي الوجهين ضرر لبقية الورثة) ش: أما في الوجه الأول فلعدم تمكنهم من الرجوع على الغرماء. وفي الوجه الثاني لزوم النقد عليهم بمقابلة الدين الذي هو نسيئة، والنقد خير من الدين.
م: (والأوجه) ش: أي في جواز م: (أن يقرضوا المصالح مقدار نصيبه) ش: من الدين م: (ويصالحوا عما وراء الدين ويحيلهم) ش: أي ويحيل المصالح الورثة م: (على استيفاء نصيبه من الغرماء) ش: وذكر الخصاف هذا الوجه في كتابه " الحيل " م: (ولو لم يكن في التركة دين وأعيانها غير معلومة والصلح على المكيل والموزون) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، يعني إذا لم يكن في التركة دين على الناس ولكن أعيان التركة ليست معلومة فصالح بعض الورثة من نصيبه على كيلي كالحنطة والشعير ووزني كالحديد والصفر، فهل يجوز هذا الصلح أم لا؟ اختلف المشايخ فيه. م: (قيل: لا يجوز لاحتمال الربا) ش: لأنه يجوز أن يكون في التركة كيلي ووزني وبدل الصلح مثل نصيب المصالح من مثالي ذلك أو أقل، لأن ما زاد على بدل الصلح من نصيب المصالح يكون ربا.
م: (وقيل يجوز لأنه شبهة الشبهة) ش: وإنما المعتبر الشبهة لا شبهة الشبهة وذلك لأنه لو علم أعيان التركة ولكن جهل قدر بدل الصلح من نصيب المصالح يكون شبهة، فإذا لم يعلم أعيان التركة يكون شبهة الشبهة لأنه يحتمل أن يكون في التركة كيلي ووزني، ويحتمل أن لا يكون، والقائل بعدم الجواز المرغيناني، والقائل بالجواز هو أبو جعفر الهندواني. وفي " فتاوى(10/40)
ولو كانت التركة غير المكيل والموزون لكنها أعيان غير معلومة، قيل لا يجوز لكونه بيعا، إذ المصالح عنه عين والأصح أنه يجوز لأنها لا تفضي إلى المنازعة لقيام المصالح عنه في يد البقية من الورثة، وإن كان على الميت دين مستغرق لا يجوز الصلح ولا القسمة؛ لأن التركة لم يتملكها الوارث، وإن لم يكن مستغرقا لا ينبغي أن يصالحوا ما لم يقضوا دينه فتقدم حاجة الميت، ولو فعلوا قالوا يجوز.
وذكر الكرخي في القسمة أنها لا تجوز استحسانا وتجوز قياسا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قاضي خان ": والصحيح ما قاله أبو جعفر. م: (ولو كانت التركة غير المكيل والموزون لكنها أعيان غير معلومة قيل لا يجوز لكونه بيعا) ش: أي لكون الصلح بيعا م: (إذ المصالح عنه عين) ش: وبيع المجهول لا يصلح وهو قياس مذهب الشافعي م: (والأصح أنه يجوز) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنها) ش: أي أن الجهالة م: (لا تفضي إلى المنازعة لقيام المصالح عنه في يد البقية عن الورثة) ش: ولا يطلبوا شيئا آخر من المصالح مقابل بدل الصلح. م: (وإن كان على الميت دين مستغرق لا يجوز الصلح ولا القسمة، لأن التركة لم يتملكها الوارث) ش: وبه قال الشافعي في وجه م: (وإن لم يكن مستغرقا) ش: أي وإن لم يكن الدين مستغرقا للتركة م: (لا ينبغي أن يصالحوا ما لم يقضوا دينه) ش: أي دين الميت م: (فتقدم حاجة الميت، ولو فعلوا قالوا يجوز) ش: جاز لأن القليل لا يمنع الإرث وبه قال الشافعي في وجه. م: (وذكر الكرخي في القسمة أنها لا تجوز استحسانا وتجوز قياسا) ش: وذكر في " الذخيرة ": القياس والاستحسان من غير نسبته إلى الكرخي، وهكذا في " مبسوط شيخ الإسلام "، وفيه: إذا كان الدين غير مستغرق فالقياس أن لا يقسم ولكن يوقف الكل، وفي " الاستحسان ": يحبس قدر الدين للغرماء ويقسم الباقي بينهم بناء على أن الدين إذا لم يكن مستغرقا هل يمنع ملك الوارث في التركة أم لا، فالقياس أن يمنع؛ لأن ما من جزء إلا وهو مشغول بالدين وفي " الاستحسان ": لا يمنع حتى لو كان المورث جارية حل وطؤها نفيا للضرورة عن الوارث، إذ لا تخلو التركة عن قليل الدين والله أعلم بالصواب.(10/41)
كتاب المضاربة المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض، سمي به؛ لأن المضارب يستحق الربح بسعيه وعمله، وهي مشروعة للحاجة إليها فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب المضاربة]
[تعريف المضاربة ومشروعيتها]
م: (كتاب المضاربة)
ش: وجه المناسبة بين الكتابين من حيث إن كلا منهما مشتمل على الاسترباح. أما المضاربة فإن مبناها على هذا، وأما الصلح فإن المصالح سعي المدعى عليه مستربح، سواء كان الصلح عن إقرار أو عن إنكار أو عن سكوت.
م: (المضاربة) ش: على وزن مفاعلة م: (مشتقة من الضرب في الأرض) ش: وهو السير فيها، قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) .
أعني بالضرب السفر للتجارة سمي هذا العقد لأن المضارب يسير في الأرض غالبًا طلبا للربح.
وتسمية أهل المدينة هذا العقد معاوضة وقراضا مشتقا من القرض وهو القطع، وصاحب المال يقطع قدرًا من المال عن تصرفه ويجعل التصرف فيه للعامل بهذا العقد، واختار هذا أصحاب الأئمة الثلاثة، وقالوا: كتاب القراض واختار أصحابنا لفظ المضاربة لموافقة الكتاب.
وفي الاصطلاح: هي إعارة المال إلى من يتصرف فيه ليكون الربح بينهما على ما شرطا م: (سمي به) ش: ذكر الضمير في الموضعين باعتبار العقد أي سمي عند المضاربة بهذا اللفظ م: (لأن المضارب يستحق الربح بسعيه وعمله) ش: وفيه مناقشة، لأن المضارب لا يستحق الربح بسعيه وعمله حتى لو سعى وعمل ولم يظهر ربح لا يستحق شيئًا، والكلام الموجه أن يقال لأن المضارب يسير في الأرض طلبًا للربح كما ذكرنا.
م: (وهي مشروعة للحاجة إليها) ش: أشار بهذا إلى مشروعية بيان هذا النوع من التصرف وذلك بالكتاب: وهو قَوْله تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] (المزمل: الآية 20) ، أعني بالضرب السفر للتجارة، وبالسنة على ما يأتي.
ولأجل احتياج الناس إلى هذا التصرف وبين هذا بالفاء التفسيرية لقوله م: (فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه) ش: أي في المال و " الغبي " بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة على وزن فعيل من الغباوة وهي: قلة الفطنة.(10/42)
وبين مهتد في التصرف صفر اليد عنه فمست الحاجة إلى شرح هذا النوع من التصرف لينتظم مصلحة الغبي والذكي والفقير والغني، وبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يباشرونه فقررهم عليه وتعاملت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبين مهتد في التصرف صفر اليد عنه) ش: أي عن المال والصفر بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء الخالي، يقال بيت صفر من المتاع، ورجل صفر اليدين م: (فمست الحاجة) ش: أي إذا كان الأمر كذلك مست الحاجة م: (إلى شرح هذا النوع من التصرف لينتظم مصلحة الغبي والذكي والفقير والغني) ش: لأن الله تعالى خلق الخلق أطواراً مختلفة الطبائع مباين التصرفات والحرف، مشتملين على الفقير والغني، محتاجين إلى إعانة بعضهم بعضاً، فلا جرم شرع هذا التصرف ونحوه ليقوم بها معاشهم وتحصل بها أغراضهم.
م: «وبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يباشرونه فقررهم عليه» ش: الواو في والناس للحال والضمير المنصوب في يباشرونه والمجرور عليه يرجعون إلى عقد المضاربة لا إلى المضاربة لفظها.
وقد ذكر السغناقي ناقلاً عن " المبسوط ": ثم جواز هذا العقد عرف بالسنة والإجماع:
فالسنة ما «روي أن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا دفع مالاً مضاربة شرط على المضارب أن لا يسلك به بحراً وأن لا ينزل وادياً ولا يشتري ذات كبد رطب فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستحسنه» .
وتبعه على ذلك الكاكي وصاحب " العناية " وغيرهما، ولم أر واحداً منهم بين أصل الحديث، وحاله ومن خرجه. فأقول: هذا الحديث أخرجه البيهقي عن يونس بن أرقم حدثنا أبو الجارود وعن حبيب بن يسار عن ابن عباس، قال: «كان العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن فوقع شرطه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجازه» وأبو الجارود: زياد بن المنذر كذبه ابن معين.
م: (وتعاملت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) ش: أي بعقد المضاربة كما ذكرنا، روى مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أنه عمل في مال لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن الربح بينهما، وروى البيهقي من حديث ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سأله عن الرجل يعطي المال رجلا قراضاً فيشترط له كما(10/43)
ثم المدفوع إلى المضارب أمانة في يده لأنه قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل والوثيقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أعطى نحو يوم أخذ، قال: لا بأس بذلك.
وأخرج الدارقطني عن ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير وغيره أن حكيم بن حزام صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة فضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي.
وأخرج البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه بلغه عن حميد بن عبد الله بن عبيد الأنصاري عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى مال يتيم مضاربة وكان يعمل به بالعراق ولا يدري كيف قاطعه على الربح، وأخرج أيضاً عن حماد عن إبراهيم أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى زيد بن خليدة مالاً مقارضة.
وأخرج هذا أيضاً الحسن بن زياد في كتاب " المجرد " وقال: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه أعطى زيد بن خليدة البكري مالا مضاربة فأسلم زيد بن خليدة المضاربة إلى رجل من بني شيبان يقال له عتريس بن عرقوب في قلائص إبل فحلت فأدى بعضها فذكر ذلك لعبد الله فقال: خذ منه رأس مالك فلا تسلم في شيء من الحيوان م: (ثم المدفوع إلى المضارب أمانة في يده) ش: وليس فيه خلاف.
وفي " شرح الطحاوي ": أن يصير المال مضموناً عند المضارب أن يقرض من المضارب ويشهد عليه ويسلمه إليه، ثم يأخذه منه مضاربة بالنصف أو بالثلث ثم يدفع إليه يستعين به في العمل حتى لو هلك به هلك كالقرض وإذا ربح ولم يهلك يكون الربح بينهما على الشركة.
وحيلة أخرى أن يقرض جميع المال من المضارب إلا درهما واحدا ويسلمه إليه ثم إنهما يشتركان في ذلك شركة عنان، على أن يكون رأس مال المقرض درهماً، ورأس مال المستقرض جميع ما استقرض، على أن يعملا جميعا وشرطا على أن الربح بينهما، ثم بعد ذلك يعمل المستقرض خاصة في المال فإن هلك المال في يده فالقرض عليه، ولو ربح فالربح بينهما على الشرط.
م: (لأنه) ش: أي لأن المضارب م: (قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل) ش: احترز عن المقبوض على سوم الشراء والقرض، فإنه مضمون م: (والوثيقة) ش: أي ولا على وجه الوثيقة(10/44)
وهو وكيل فيه لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه. وإذا ربح فهو شريك فيه لتملكه جزءا من المال بعمله، فإذا فسدت ظهرت الإجارة حتى استوجب العامل أجر مثله، وإذا خالف كان غاصبا لوجود التعدي منه على مال غيره،
قال: المضاربة عقد يقع على الشركة بمال من أحد الجانبين ومراده الشركة في الربح وهو يستحق بالمال من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر ولا مضاربة بدونها، ألا ترى أن الربح لو شرط كله لرب المال كان بضاعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واحترز به عن الرهن فإنه مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين م: (وهو وكيل فيه) ش: أي المضارب وكيل في المدفوع إليه، وقال الأترازي: وكيل في العمل والأول أقرب وأصوب. م: (لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه) ش: ولهذا يرجع عليه بما لحقه من العهدة على رب المال كالوكيل.
م: (وإذا ربح فهو شريك فيه) ش: أي في الربح وليس المراد أنه شريك في رأس المال مع الربح، لأنه لم يشركه في رأس المال وإنما شركه في الربح م: (لتملكه جزءا من المال بعمله) ش: أي لتملك المضارب جزءا من المال وهو الربح الشائع فيه وذلك بسبب عمله وسعيه.
م: (فإذا فسدت) ش: المضاربة م: (ظهرت الإجارة) ش: لأنه يعمل لرب المال في ماله فيصير ما شرط من الأجر كالأجرة على عمله م: (حتى استوجب العامل أجر مثله) ش: لأنه يكون في الإجارات م: (وإذا خالف كان غاصبا لوجود التعدي منه على مال غيره) ش: فيصير المال مضمونًا عليه وبه قالت الثلاثة وأكثر أهل العلم.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا ضمان على من شركه في الربح، وبه قال الحسن والزهري - رحمهما الله -.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (المضاربة، عقد يقع على الشركة بمال من أحد الجانبين) ش: هذا تفسير للمضاربة على الاصطلاح، ولكن لما كان فيه نوع حقار لأنه قال عقد على الشركة ولم يبين أن الشركة فيما إذا فسر المصنف بقوله م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله عقد على م: (الشركة في الربح) ش: لا في رأس مال مع الربح، لأن رأس المال لرب المال.
م: (وهو) ش: أي الربح م: (يستحق بالمال من أحد الجانبين، والعمل من الجانب الآخر) ش: وهو المضارب وقوله: يستحق على صيغة المجهول م: (ولا مضاربة بدونها) ش: أي بدون الشركة وأشار به إلى أن العقد ينتفي بانتفائها.
م: (ألا ترى) ش: إيضاح لقوله: عقد على الشركة وقوله: لا مضاربة بدونها م: (أن الربح لو شرط كله لرب المال كان بضاعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضًا) ش: وقال مالك: يكون مضاربة صحيحة في الوجهين. وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: إذا قال: خذه(10/45)
قال: ولا تصح إلا بالمال الذي تصح به الشركة وقد تقدم بيانه من قبل. ولو دفع إليه عرضا وقال: بعه واعمل مضاربة في ثمنه جاز؛ لأنه يقبل الإضافة من حيث إنه توكيل وإجارة فلا مانع من الصحة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مضاربة والربح لي أو لك يفسد عقد المضاربة ولا ينصرف إلى شيء.
[شروط رأس مال المضاربة]
[أن يكون رأس مال المضاربة دراهم أو دنانير أو فلوس]
م: (قال: ولا تصح إلا بالمال الذي تصح به الشركة) ش: أي قال القدوري: وهو أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير عندهما أو فلوسًا رائجة عند محمد وبما سواها لا يجوز، وبه قالت الأئمة الثلاثة، ونص في " الذخيرة " أنه إجماع. وقال السغناقي: العروض لا تصلح لرأس المال عندنا خلافًا للإمام مالك.
وكذا الكيلي والوزني خلافا لابن أبي ليلى، وقد نظر فيه الكاكي بقوله: وما كتب في بعض كتب أصحابنا أن عند الإمام مالك تصح المضاربة بالعروض لم نجده في كتبهم، بل ذكر فيها لا يصح بالعروض.
قلت: قد ذكر في " جواهر المالكية " ما هو أبلغ منها وهو أنه لا يجوز بالنقرة التي ليست مضروبة إذا كان التعامل بالمسكوك ولا يجوز بالفلوس عند ابن القاسم، وأجازه أشهب، ولا بالدراهم المغشوشة م: (وقد تقدم بيانه من قبل) ش: أراد به باب الشركة.
م: (ولو دفع إليه عرضا وقال بعه واعمل مضاربة في ثمنه جاز) ش: وجه ذكره تفريعا على مسألة القدوري ويعني بهذا، وجه الحيلة في جواز المضاربة بالعرض وأخرى ذكرها الخصاف في الحيل، وقال:
قلت: أرأيت رجلاً أراد أن يدفع إلى رجل مضاربة وليس عنده إلا متاع كيف يصنع، قال: يبيع المتاع من رجل يثق به ويقبض المال فيه ويدفعه إلى المضارب مضاربة ثم يشتري المضارب هذا المتاع من الرجل الذي ابتاعه من صاحبه، وفي مسألة الكتاب خلافا للثلاثة فعندهم لا يجوز لجهالته.
م: (لأنه) ش: عند المضاربة م: (يقبل الإضافة من حيث إنه توكيل وإجارة فلا مانع من الصحة) ش: يعني أنه مشتمل على التوكيل، والإجارة بالراء المهملة أو بالزاي، وكل منهما يقبل الإضافة إلى زمان المستقبل فيجب أن يكون عقد المضاربة كذلك لئلا يخالف الكل الجزء، وصورة إضافة التوكيل إلى المستعمل بأن يقول وكلتك بأن تبيع عبدي هذا غدًا فإنه يصير وكيلا غدًا وبعده، ولا يصير وكيلا قبل الغد، وصورة إضافة الإجارة أن يقول آجرتك داري غدًا فإن الإجارة تنعقد عند مجيء الغد لا قبله.(10/46)
وكذا إذا قال له اقبض مالي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا يصح المضاربة لأن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح هذا التوكيل على ما مر في البيوع وعندهما يصح لكن يقع الملك في المشترى للآمر فتصير مضاربة بالعرض.
قال: ومن شرطها أن يكون الربح بينهما مشاعا لا يستحق أحدهما دراهم مسماة من الربح؛ لأن شرط ذلك يقطع الشركة بينهما، ولا بد منها كما في عقد الشركة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الحكم لو قال له اقبض مالي على فلان واعمل به مضاربة]
م: (وكذا إذا قال له اقبض مالي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله لأنه يقبل الإضافة م: (بخلاف ما إذا قال له اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا يصح المضاربة) ش: بالاتفاق بين أصحابنا مع اختلاف التخريج، أشار إليه بقوله م: (لأن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح هذا التوكيل) ش: وهو أنه لو وكله بشراء بما في ذمته لا يصح عنده م: (على ما مر في البيوع) ش: أراد به بيوع الوكالة لا كتاب البيوع.
وفي بعض النسخ وقد مر في البيوع وذلك لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن وهو حرام، والذي ذكره في كتاب الوكالة في البيع والشراء من كتاب الوكالة هو قوله ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بهذا العبد.... إلى آخره.
م: (وعندهما يصح) ش: أي هذا التوكيل ومع هذا لا تصح المضاربة، أشار إليه بقوله م: (لكن يقع الملك في المشتري) ش: بفتح الراء يقع م: (للآمر فتصير مضاربة بالعرض) ش: فتصير فاسدة، واستشكل على المسألة الأولى بما إذا قال اقبض جميع الألف التي لي على فلان ثم اعمل بها مضاربة فقبض المأمور نصف ما على المديون وعمل به مضاربة فإنه لا يجوز.
وأجيب: بأنه ثم للتعقيب مع التراخي وقد أخر الأمر بالعمل مضاربة عن قبض جميع المال، فما لم يقبض جميع الألف لا يصح، وأيضًا يكون مخالفا بالعمل بالبعض قبل قبض الكل فلا يصح، كما إذا قال لزوجته اقبضي جميع المال الذي على فلان وأنت طالق، فقبضت البعض لم تطلق ولو قال اقبضي جميع المال الذي على فلان أنت طالق طلقت للحال للقبض إذا لم يرو الزوج واو الحال.
[أن يكون الربح مشاعا في المضاربة]
م: (قال: ومن شرطها) ش: أي قال القدوري: ومن شرط المضاربة م: (أن يكون الربح بينهما مشاعا لا يستحق أحدهما دراهم مسماة من الربح) ش: وفي بعض النسخ لا يشترط لأحدهما دراهم مسماة م: (لأن شرط ذلك يقطع الشركة بينهما) ش: أي بين رب المال والمضارب، لأنه ربما لا يكون الربح إلا ذلك القدر م: (ولا بد منها) ش: أي من الشركة، فإذا انتفت الشركة المشروطة لجوازها انتفت المضاربة، لأن المنافي لشرط جواز الشيء مناف له وإذا ثبت أحد المنافيين انتفى الآخر م: (كما في عقد الشركة) ش: حيث لا يكون عقد من عقود الشركة إلا(10/47)
قال: فإن شرط زيادة عشرة فله أجر مثله؛ لفساده فلعله لا يربح إلا هذا القدر فتنقطع الشركة في الربح، وهذا لأنه ابتغى عن منافعه عوضا ولم ينل لفساده والربح لرب المال لأنه نماء ملكه، وهذا هو الحكم في كل موضع لم تصح المضاربة، ولا تجاوز بالأجر القدر المشروط عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما بينا في الشركة. ويجب الأجر وإن لم يربح في رواية الأصل؛ لأن أجر الأجير يجب بتسليم المنافع أو العمل وقد وجد، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب اعتبارا بالمضاربة الصحيحة مع أنها فوقها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالاشتراك.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير: م: (فإن شرط زيادة عشرة) ش: هذا تفسير لما قبله، أي إن شرط في العقد زيادة عشرة دراهم مثلا على ما شرطا م: (فله أجر مثله) ش: أي فللعامل أجر مثله م: (لفساده) ش: أي لفساد عقد المضاربة، وهذا لا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على فساد المضاربة إذا شرط لأحدهما دراهم مسماة م: (فلعله لا يربح إلا هذا القدر فتنقطع الشركة في الربح) ش: الضمير في لعله يجوز أن يعود إلى المضاربة ويجوز أن يعود إلى المال والأول أقرب.
م: (وهذا) ش: أي وجوب أجر المثل م: (لأنه ابتغى) ش: أي لأن المضارب طلب يعني لرب المال بالعقد وابتغى به م: (عن منافعه عوضًا ولم ينل) ش: أي العوض م: (لفساده) ش: أي لفساد العقد ولا بد من عوض منافع تلفت بالعقد وليس ذلك في الربح لأنه لرب المال، أشار إليه بقوله م: (والربح لرب المال، لأنه نماء ملكه) ش: وإذا كان كذلك فله أجر المثل.
م: (وهذا هو الحكم في كل موضع لم تصح المضاربة ولا تجاوز بالأجر القدر المشروط عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فكان وجوده كعدمه. وقيل: الثلث أو الربع المشروط في العقد م: (خلافًا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإن عنده يجب بالغًا ما بلغ وبه قالت الثلاثة م: (كما بينا في الشركة) ش: أي كما بينا هذا الحكم مع الخلاف في كتاب الشركة ولم يبين في الشركة شيئًا إنما قال في الشركة الفاسدة فللمعين يعني في الاحتطاب ونحوه أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد.
وعند أبي يوسف لا تجاوز به نصفا عن ذلك أي بيان في هذا م: (ويجب الأجر وإن لم يربح) ش: أي المضارب م: (في رواية الأصل) ش: أي " المبسوط "، وبه قال الشافعي وأحمد في رواية م: (لأن أجر الأجير يجب بتسليم المنافع) ش: كما في الأجير الخاص، فإن في تسليم نفسه تسليم منافعه م: (أو العمل) ش: كما في الأجير المشترك م: (وقد وجد) ش: أي المذكور من تسليم المنافع والعمل.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجب اعتبارًا بالمضاربة الصحيحة مع أنها فوقها) ش:(10/48)
والمال في المضاربة الفاسدة غير مضمون بالهلاك اعتبارا بالصحيحة، ولأنه عين مستأجرة في يده
وكل شرط يوجب جهالة في الربح يفسده لاختلال مقصوده وغير ذلك من الشروط الفاسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قول المضاربة الفاسدة في إمضاء حكمها وفي استحقاق الربح، فإذا لم يجب في الصحيحة إذا لم يربح ففي الفاسدة أولى أن لا يجب.
قال السغناقي: فإن قلت: ما جواب وجه ظاهر الرواية عن هذا التعليل، فإنه قول بأن العقد الفاسد يؤخذ حكمه من الصحيح من جنسه كما في البيع الفاسد. قلت: الفاسد إنما يعتبر بالجائز إذا كان انعقاد الفاسد مثل انعقاد الجائز كالبيع، وهاهنا المضاربة الصحيحة تنعقد شركة الإجارة والفاسد تنعقد إجارة فتعتبر بالإجارة في استحقاق الأجر عند إيفاء العمل، انتهى.
قلت: بل اعتبار فاسد المضاربة بصحيحها أولى من جعلها إجارة لأنهما قد تراضيا أن يكون العامل جزء من الربح إن حصل ربح، وبالحرمان إن لم يحصل ولم يرض رب المال يكون في ذمته شيء في مقابلة عمل العامل، فإذا أوجبتم في ذمته شيئًا كان إيجابًا بغير دليل وهدم الأصل الضعيف أولى من إلغاء التعليل الصحيح.
[المال في المضاربة الفاسدة]
م: (والمال في المضاربة الفاسدة غير مضمون بالهلاك اعتبارًا بالصحيحة) ش: وبه قالت الثلاثة، وفي " المبسوط ": عن ابن سماعة عن محمد: أنه يضمن المال م: (ولأنه عين مستأجرة في يده) ش: أو لأن المال عين مستأجرة في يد المضارب، وفي بعض النسخ عين مستأجر أي عين استوجد المضارب ليعمل به هو لا غيره فلا يضمن كالأجير الواحد، وهذا التعليل يشير إلى المضارب بمنزلة أجير الواحد من حيث إنه لا يمكنه أن يؤاجر نفسه في ذلك الوقت لآخر، وهذا قول أبي جعفر الهندواني.
وقيل: المذكور هنا قول أبي حنيفة، وعندهما ضامن إذا هلك في يده بما يمكن التحرز عنه، وهذا قول الطحاوي، وهذا بناء على أن المضارب بمنزلة الأجير المشترك وهو لا يضمن إذا تلف المال في يده من غير صفة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً لهما، قال الإمام الأسبيجابي في شرح " الكافي ": ولا يصح أنه لا ضمان على قول الكل.
[حكم جهالة الربح في المضاربة]
م: (وكل شرط يوجب جهالة في الربح يفسده) ش: أي يفسد عقد المضاربة كما إذا قال لك نصف الربح أو ثلثه وشرط أن يدفع المضارب داره إلى رب المال ليسكنها أو أرضه سنة ليزرعها لأنه جعل نصف الربح عوضًا عن عمله وأجرة الدار فصارت حصة العمل مجهولة فلم يصح م: (لاختلال مقصوده) ش: وهو الربح.
م: (وغير ذلك من الشروط الفاسدة) ش: أي الشروط التي لا توجب الجهالة في الربح م:(10/49)
لا يفسدها ويبطل الشرط كاشتراط الوضيعة على المضارب.
قال: ولا بد أن يكون المال مسلما إلى المضارب، ولا يد لرب المال فيه؛ لأن المال أمانة في يده، فلا بد من التسليم إليه، وهذا بخلاف الشركة؛ لأن المال في المضاربة من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر فلا بد من أن يخلص المال للعامل ليتمكن من التصرف فيه، أما العمل في الشركة من الجانبين فلو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة،
وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد؛ لأنه يمنع خلوص يد المضارب، فلا يتمكن من التصرف فلا يتحقق المقصود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(لا يفسدها) ش: أي المضاربة م: (ويبطل الشرط) ش: أي بل يبطل نفس ذلك الشرط، وبه قالت الثلاثة، وعن الشافعي وأحمد يفسد العقد م: (كاشتراط الوضيعة) ش: أي الجنسين.
وقيل: الوضيعة اسم لجزء هالك من المال م: (على المضارب) ش: وفي الإيضاح والذخيرة عليهما، وفي " التحفة ": عليه أو عليهما، قيل: شرط العمل على رب المال لا يوجب جهالة في الربح ولا يبطل في نفسه، بل يبطل المضاربة كما سيجيء فلم تكن القاعدة مطردة.
أجيب: بأنه قال وغير ذلك من الشروط الفاسدة لا يفسدها، وإذا شرط العمل على رب المال فليس ذلك بمضاربة، وسلب الشيء عن المعدوم صحيح يجوز أن يقال: زيد المعدوم ليس ببصير، وقوله بعد هذا مخطوط وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد، معناه عن تحققه فافهم.
[اشتراط تسليم المال للمضارب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا بد أن يكون المال مسلمًا إلى المضارب ولا يد لرب المال فيه) ش: أي بتصرف أو عمل م: (لأن المال أمانة في يده فلا بد من التسليم إليه) ش: كالوديعة م: (وهذا بخلاف الشركة؛ لأن المال في المضاربة من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر فلا بد من أن يخلص المال للعامل ليتمكن من التصرف فيه) ش: وبقاؤه لا يمنع الخلوص. م: (أما العمل في الشركة من الجانبين، فلو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة) ش: لأنها انعقدت على العمل بينهما فمتى شرط انتفاء يد رب المال لم ينعقد أصلاً كذا في " الإيضاح ".
م: (وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد، لأنه يمنع خلوص يد المضارب فلا يتمكن من التصرف، فلا يتحقق المقصود) ش: ولا يعلم فيه خلاف.
ولكن ذكر في " الذخيرة ": حكي عن الفقيه محمد بن إبراهيم الضرير أنه لو شرط رب المال لنفسه أن يتصرف في المال بانفراده متى بدا له وأن يتصرف المضارب في جميع المال متى بدا له جازت المضاربة.
وإنما لا يجوز شرط عمله رب المال مع المضارب إذا شرط العمل جملة، لأنه حينئذ لا(10/50)
سواء كان المالك عاقدا أو غير عاقد كالصغير؛ لأن يد المالك ثابتة له وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب.
وكذا أحد المتفاوضين وأحد شريكي العنان إذا دفع المال مضاربة وشرط عمل صاحبه لقيام الملك له وإن لم يكن عاقدا، واشتراط العمل على العاقد مع المضارب وهو غير مالك يفسده إن لم يكن من أهل المضاربة فيه كالمأذون،
بخلاف الأب والوصي لأنهما من أهل أن يأخذا مال الصغير مضاربة بأنفسهما، فكذا اشتراطه عليهما بجزء من المال.
قال: وإذا صحت المضاربة مطلقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصير المال مسلمًا إلى المضارب م: (سواء كان المالك عاقدًا أو غير عاقد كالصغير) ش: إذا دفع أبوه أو وليه أو وصيه ماله مضاربة وشرط عمل الصغير فإنه لا يجوز م: (لأن يد المالك ثابتة له) ش: أي للصغير م: (وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب) ش: كما في " الكبير ".
[أحد الشريكين إذا دفع المال مضاربة وشرط عمل صاحبه]
م: (وكذا أحد المتفاوضين وأحد شريكي العنان إذا دفع المال مضاربة وشرط عمل صاحبه) ش: فسدت المضاربة م: (لقيام الملك له) ش: تعليل لقوله وكذا أحد المتفاوضين يعني يفسد العقد إذا عقد أحد الشريكين وشرط عمل صاحبه لقيام الملك لصاحبه م: (وإن لم يكن عاقدًا) ش: فيمنع وإن لم يكن صاحبه عاقدًا.
فإذا كان كذلك فيمنع صحة الدفع مع قيام يد المالك م: (واشتراط العمل على العاقد، مع المضارب وهو غير مالك يفسده) ش: عقد المضاربة م: (إن لم يكن من أهل المضاربة فيه) ش: أي في المال م: (كالمأذون) ش: يدفع ماله مضاربة ويشترط عمله على المضاربة يفسد العقد، لأن يد التصرف ثابتة له في هذا المال ويده يد نفسه ينزل منزلة المالك فيما يرجع إلى التصرف فكان قيام يده مانعًا لصحة المضاربة، هذا وليس بقياس، بل هو تنظير لما إذا كان العاقد غير مالك.
[الأب والوصي إذا دفعا مال الصغير مضاربة وشرطا العمل بجزء مع الربح]
م: (بخلاف الأب والوصي) ش: إذا دفعا مال الصغير مضاربة وشرطا العمل بأنفسهما مع المضارب بجزء مع الربح فهو جائز م: (لأنهما من أهل أن يأخذا مال الصغير مضاربة بأنفسهما، فكذا اشتراطه) ش: أي اشتراط العمل م: (عليهما بجزء من المال) ش: لأن كل مال يجوز أن يكون الوصي مضاربًا وحده جاز أن يكون مضاربًا فيه مع غيره.
وهذا لأن تصرف الأب أو الوصي واقع للصغير حكمًا بطريق النيابة فسار دفعه كدفع الصغير وكشرطه فتشترط التخلية من قبل الصغير؛ لأنه رب المال وقد تحققت.
[المضاربة المطلقة]
[المسافرة بمال المضاربة]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا صحت المضاربة مطلقة) ش: بأن لم تكن مقيدة بزمان ومكان، فإذا قال: دفعت إليك هذا المال مضاربة ولم يزد على ذلك فهذه مضاربة مطلقة، كذا في " الذخيرة ".(10/51)
جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع لإطلاق العقد، والمقصود منه الاسترباح ولا يتحصل إلا بالتجارة فينتظم العقد صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار والتوكيل من صنيعهم، وكذا الإيداع والإبضاع والمسافرة، ألا ترى أن المودع له أن يسافر فالمضارب أولى كيف وأن اللفظ دليل عليه؛ لأنها مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ليس له أن يسافر. وعنه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إن دفع في بلده ليس له أن يسافر به لأنه تعريض على الهلاك من غير ضرورة وإن دفع في غير بلده له أن يسافر إلى بلده؛ لأنه هو المراد في الغالب. والظاهر ما ذكر في الكتاب. . قال: ولا يضارب إلا أن يأذن له رب المال أو يقول له: اعمل برأيك لأن الشيء لا يتضمن مثله لتساويهما في القوة فلا بد من التنصيص عليه، أو التفويض المطلق إليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع لإطلاق العقد والمقصود منه) ش: أي من عقد المضاربة م: (الاسترباح ولا يتحصل) ش: أي الاسترباح م: (إلا بالتجارة فينتظم العقد) ش: أي العقد المطلق م: (صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار والتوكيل من صنيعهم، وكذا الإيداع والإبضاع والمسافرة) ش: أي السفر والمفاعلة هذه ليست على بابها كما في المسارعة إلى الخير.
م: (ألا ترى أن المودع له أن يسافر، فالمضارب أولى) ش: بأن يسافر م: (كيف وأن اللفظ دليل عليه) ش: أي كيف لا يسافر والحال أن لفظ المضاربة دليل على السفر، أي على جوازه.
م: (لأنها) ش: أي لأن المضاربة م: (مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ليس له أن يسافر) ش: قيل هذا إذا لم يقل له اعمل برأيك.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف م: (عن أبي حنيفة أنه - رحمه لله - إن دفع في بلده) ش: أي في بلد المضارب م: (ليس له أن يسافر به لأنه تعريض على الهلاك من غير ضرورة، وإن دفع في غير بلده له أن يسافر إلى بلده؛ لأنه هو المراد في الغالب) ش: إذ الإنسان لا يستديم الغربة مع إمكان الرجوع، فلما أعطاه عالمًا بغربته كان دليل الرضى بالمسافرة عند رجوعه إلى وطنه م: (والظاهر) ش: أي ظاهر الرواية عن أصحابنا جميعاً م: (ما ذكر في الكتاب) ش: أي القدوري في مختصره وهو جواز المسافرة بمال المضاربة وإن لم يقل له اعمل برأيك وبه قال مالك.
[قول رب المال للمضارب اعمل برأيك]
م: (قال) ش: أي القدوري في مختصره: م: (ولا يضارب) ش: أي المضارب م: (إلا أن يأذن له رب المال أو يقول له اعمل برأيك، لأن الشيء لا يتضمن مثله لتساويهما) ش: أي لتساوي الشيئين المتماثلين م: (في القوة فلا بد من التنصيص عليه أو التفويض المطلق إليه) ش: التنصيص بالإذن وليس يعلم فيه خلاف، والتفويض المطلق بقوله اعمل برأيك.
وعند الشافعي وأحمد: لا يجوز فيه أيضًا إلا بإذن، وأورد على هذا المستعير والمكاتب(10/52)
وكان كالتوكيل، فإن الوكيل لا يملك أن يوكل غيره فيما وكله به إلا إذا قيل له اعمل برأيك، بخلاف الإيداع والإبضاع؛ لأنه دونه فيتضمنه. وبخلاف الإقراض حيث لا يملكه وإن قيل له: اعمل برأيك لأن المراد منه التعميم فيما هو من صنيع التجار وليس الإقراض منه وهو تبرع كالهبة والصدقة فلا يحصل له به الغرض وهو الربح؛ لأنه لا تجوز الزيادة عليه. أما الدفع مضاربة فمن صنيعهم، وكذا الشركة والخلط بمال نفسه فيدخل تحت هذا القول.
قال: وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمستأجر فإنه يجوز للمستعير أن يعير، وللمستأجر أن يؤجر، وللمكاتب أن يكاتب، وكذا العبد المأذون له أن يؤذن عبده.
وأجيب: بأن الكلام في التصرف نيابة وهم لا يتصرفون بحكم المالية، لأن المستعير والمستأجر ملكا المنفعة، والمكاتب صار حرًا يدًا، والعبد المأذون يتصرف بحكم المالكية الأصلية، إذ الإذن بالتجارة فك الحجر، وأما المضارب فإنه يعمل بطريق النيابة؛ لأن فيها معنى الوكالة والوكيل لا يوكل غيره فكذا هذا م: (وكان كالتوكيل) ش: أي وكان أمر المضاربة كأمر التوكيل م: (فإن الوكيل لا يملك أن يوكل غيره فيما وكله به، إلا إذا قيل له اعمل برأيك) ش: فكذا المضارب لا يملك أن يضارب إلا إذا قيل له اعمل برأيك.
م: (بخلاف الإيداع والإبضاع، لأنه دونه) ش: أي لأن حكمهما دون حكم المضاربة م: (فيتضمنه) ش: أي إذا كان كذلك فيتضمن حكم المضاربة حكم الإيداع والإبضاع م: (وبخلاف الإقراض حيث لا يملكه) ش: أي المضارب لا يملك الإقراض.
م: (وإن قيل له اعمل برأيك لأن المراد منه التعميم فيما هو من صنيع التجار وليس الإقراض منه) ش: أي من صنيع التجار م: (وهو) ش: أي الإقراض م: (تبرع كالهبة والصدقة، فلا يحصل له به الغرض وهو الربح؛ لأنه لا تجوز الزيادة عليه) ش: أي على الإقراض عشرة، فإنه لو أقرض عشرة ليستوفي أحد عشر لا يجوز، فلما لم يحصل للربح به لا يكون من صنيع التجار فلا يتناوله التعميم.
م: (أما الدفع مضاربة فمن صنيعهم، وكذا الشركة والخلط بمال نفسه) ش: يعني من صنيعهم وبه قال الثوري ومالك وأحمد والشافعي: ليس له الشركة والخلط، ولو فعل يضمن م: (فيدخل تحت هذا القول) ش: وهو قوله: اعمل برأيك والضمير في يدخل يرجع إلى الشركة والخلط على تأويل كل واحد منهما.
[المضاربة المقيدة]
[خص رب المال للمضارب التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها) ش: كل واحد من البلد والسلعة بعينها وبه قال أحمد - رحمه(10/53)
لأنه توكيل، وفي التخصيص فائدة فيتخصص. وكذا ليس له أن يدفعه بضاعة إلى من يخرجها من تلك البلدة لأنه لا يملك الإخراج بنفسه فلا يملك تفويضه إلى غيره.
قال: فإن خرج إلى غير تلك البلدة فاشترى ضمن، وكان ذلك له وله ربحه؛ لأنه تصرف بغير أمره، وإن لم يشتر حتى رده إلى الكوفة، وهي التي عينها برئ من الضمان كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم ترك ورجع المال مضاربة على حاله لبقائه في يده بالعقد السابق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الله - قال الشافعي ومالك - رحمهما الله - إذا شرط أن لا يشتري إلا من رجل بعينه أو سلعة بعينها أو ما معهم وجوده لا تصح المضاربة. ويحترز بقوله في بلد بعينه عن السوق بعينه، فإنه لا يتقيد بذلك بالإجماع، إلا إذا صرح التخصيص بالمنهي بأن قال: لا يعمل في غير هذا السوق، فحينئذ يتقيد م: (لأنه توكيل) ش: أي لأن المضاربة توكيل، والتذكير باعتبار عقد المضاربة أو حكمها م: (وفي التخصيص فائدة فيتخصص) ش: والفائدة من وجوه:
أحدها: صيانة ماله من خطر الطريق، والثاني: صيانة ماله عن خيانة المضارب فإنه لو عين عليه بلدًا لو قصد الخيانة لمنعه عنها. والثالث: أن الأسعار بحسب الغلاء والرخص تختلف باختلاف البلدان وكذا النقود فكان الشرط مقيدًا. والرابع: أن المضارب ما دام في المصر لا يستحق المنفعة في مال المضارب وفي السفر يستحقها فيه.
م: (وكذا ليس له أن يدفعه بضاعة) ش: أي وكذا ليس للمضارب أن يدفع المال بضاعة، أراد ليس له الإبضاع م: (إلى من يخرجها) ش: أي البضاعة م: (من تلك البلدة) ش: أي البلدة التي عينها رب المال م: (لأنه لا يملك الإخراج بنفسه فلا يملك تفويضه إلى غيره) ش: أي تفويض الإخراج إلى غيره.
م: (قال) ش: أي في الجامع الصغير م: (فإن خرج إلى غير تلك البلدة فاشترى ضمن) ش: لأنه تصرف فيه بخلاف أمره، فكان غاصبًا، ولم يرد من قوله فاشترى ضمن أن الضمان يترتب على الشراء، لأن الضمان يجب عليه بمجرد الإخراج، وإنما مراده استقرار الضمان على ما يجيء في الكتاب م: (وكان ذلك له) ش: أي الذي اشتراه كان له م: (وله ربحه) ش: أي كان له ربحه الذي حصل منه ولكن يتصدق به على قولهما.
وعلى قول أبي يوسف يطيب له الربح فلا يلزمه التصدق م: (لأنه تصرف بغير أمره) ش: أي لأن الإخراج بتصرف في ملك غيره بغير أمره فيصير غاصبًا فلم يبق مضاربًا. م: (وإن لم يشتر حتى رده على الكوفة وهي) ش: أي والحال أن الكوفة هي م: (التي عينها) ش: أي رب المال م: (برئ) ش: أي المضارب م: (من الضمان كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم ترك) ش: أي المخالفة م: (ورجع المال مضاربة على حاله لبقائه في يده بالعقد السابق) ش: الضمير في الموضعين(10/54)
وكذا إذا رد بعضه واشترى ببعضه في المصر كان المردود والمشتري في المصر على المضاربة لما قلنا، ثم شرط الشراء بها هنا وهو رواية " الجامع الصغير ". وفي كتاب المضاربة ضمنه بنفس الإخراج، والصحيح أن بالشراء يتقرر الضمان لزوال احتمال الرد إلى المصر الذي عينه. أما الضمان فوجوبه بنفس الإخراج وإنما شرط الشراء للتقرر لا لأصل الوجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يرجع إلى المضاربة، والتذكير في الأول باعتبار العقد، وفي الثاني باعتبار المال.
فإن قيل: قوله ورجع المال صح مضاربة يدل على أنها زائلة، وإذا قال العقد لا يرجع إلا بالتجديد، أجيب: بأنه على رواية الجامع الصغير لم يزل، لأن الخلاف إنما يتحقق بالشراء والفرض خلافه وإنما قال: رجع بناء على أنه صار على شرف الزوال، وأما على رواية " المبسوط " فإنها زالت زوالاً موقوفًا حيث ضمنه بنفس الإخراج.
م: (وكذا إذا رد بعضه) ش: أي وكذا تكون المضاربة على حالها إذا رد المضارب بعض المال إلى الموضع الذي عينه م: (واشترى ببعضه في المصر) ش: أي والحال أنه قد اشترى ببعض المال في المصر الذي عينه م: (كان المردود والمشتري في المصر على المضاربة لما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: لبقائه في يده بالعقد السابق في الإيضاح ما اشترى ببعضه فهو له، وما رد على المضاربة.
م: (ثم شرط الشراء بها هنا) ش: أي شرط في " الجامع الصغير " في الضمان الشراء، حيث قال فإن خرج إلى غير ذلك البلد فاشترى ضمن، والضمير في بها يرجع إلى المضاربة يعني المراد منه مال المضاربة. ثم فسر قوله ثم شرط الشراء بها هنا بقوله: م: (وهو رواية الجامع الصغير) ش: أي المذكور في شرط الشراء هو رواية " الجامع الصغير ".
م: (وفي كتاب المضاربة) ش: يعني في " المبسوط " م: (ضمنه بنفس الإخراج) ش: أي ضمن المضارب بنفس الإخراج مال المضاربة سواء اشترى بها أو لا م: (والصحيح أن بالشراء يتقرر الضمان لزوال احتمال الرد إلى المصر الذي عينه، أما الضمان فوجوبه بنفس الإخراج، وإنما شرط الشراء للتقرر لا لأصل الوجوب) ش: يعني لتقرر الوجوب لا لأصل وجوب الضمان.
حاصله أن الضمان يجب بنفس الإخراج ولكنه على شرف الزوال، فإذا اشترى به تقرر وتأكد، أشار له بقوله لزوال احتمال الرد. وأما إذا اشترى ببعضه فيه وببعض آخر في غيره فهو ضامن لما اشتراه في غيره وله ربحه وعليه وضيعته لتحقق الخلاف منه في ذلك القدر والباقي على المضاربة، إذ ليس من ضرورة صيرورته ضامنًا لبعض المال انتفاء حكم المضاربة فيما بقي، قيل: فيه نظر لأن الصفقة متحدة وفي ذلك تفريقها. قلنا: الجزء معتبر بالكل وتفريق الصفقة موضوع إذا استلزم ضررًا ولا ضرر عند الضمان.(10/55)
وهذا بخلاف ما إذا قال على أن يشتري في سوق الكوفة حيث لا يصح التقييد؛ لأن المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فلا يفيد التقييد إلا إذا صرح بالنهي بأن قال اعمل في السوق ولا تعمل في غير السوق؛ لأنه صرح بالحجر والولاية إليه. ومعنى التخصيص أن يقول له على أن تعمل كذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا بخلاف ما إذا قال على أن يشتري في سوق الكوفة حيث لا يصح التقييد) ش: أشار بهذا إلى قوله وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه م: (لأن المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فلا يفيد التقييد إلا إذا صرح بالنهي بأن قال اعمل في السوق ولا تعمل في غير السوق، لأنه صرح بالحجر، والولاية إليه) ش: أي ولاية الحجر إليه، أي إلى رب المال.
فإن قيل: ينتقض هذا بما لو قال بع بالنسيئة ولا تبع بالنقد أو على العكس، حيث لو باعها بالنقد أو بالنسيئة لا يكون مخالفًا مع صريح النهي إذا كان السعر بالنقد والنسيئة لا يتفاوت.
الجواب عن هذا: مبني على أصل وهو أن القيد المقيد من كل وجه متبع وغير المقيد من كل وجه لغو، والمقيد من وجه دون وجه متبع عند النهي الصريح ولغو عند السكوت عنه.
فالأول: كالتخصيص ببلد وسلعة وقد تقدم، والثاني: كصورة النقض، فإن البيع نقدًا بثمن كان خيرًا، فكان التقييد مضرًا. والثالث كالنهي عن السوق فإنه مقيد من وجه من حيث إن البلدة ذات أماكن مختلفة حقيقة وهو ظاهر، وحكمًا فإنه إذا شرط الحفظ على المودع في محلة ليس له أن يحفظها في غيرها، وقد تختلف الأسعار أيضًا باختلاف أماكنه.
وغير مقيد من وجه وهو أن المصر مع تباين أطرافه جعل كمكان واحد كما إذا اشتراط الاثنان السلم بأن يكون في المصر ولم يبين المحلة، فاعتبرناه حالة التصريح بالنهي لولاية الحجر، ولم يعتبر عند السكوت.
م: (ومعنى التخصيص أن يقول له على أن تعمل كذا) ش: لما قال فيما مضى وإن خص له رب المال.... إلى آخره، شرع هنا يبين معنى التخصيص ما هو وذكر ألفاظًا تدل على التخصيص، والتقدير: ومعنى التخصيص يحصل بأن يقول كذا وكذا أي بهذه الألفاظ والغرض من ذكره التمييز بين ما يدل منها على التخصيص وما لا يدل، ومجموع ذلك ثمانية، ستة منها تقييد التخصيص، واثنان منها تعتبر مشورة.
والضابط لتمييز ما يفيد التخصيص عما لا يفيده، هو أن رب المال إذا أعقب لفظ المضاربة كلامًا لا يصح الابتداء به ويصح متعلق بما تقدم، جعل متعلقًا به لئلا يلغو، وإذا أعقب ما يصلح الابتداء لم يجعل متعلقًا بما تقدم لانتفاء الضرورة، وعلى هذا إذا قال خذ هذا المال على أن تعمل كذا، يكون تخصيصًا، لأنه أعقب لفظ المضاربة ما لا يصح الابتداء، حيث لا يصح أن(10/56)
أو في مكان كذا وكذا إذا قال خذ هذا المال تعمل به في الكوفة لأنه تفسير له، أو قال فاعمل به في الكوفة لأن الفاء للوصل. أو قال خذه بالنصف بالكوفة لأن الباء للإلصاق. أما إذا قال: خذ هذا المال واعمل به بالكوفة فله أن يعمل فيها وفي غيرها؛ لأن الواو للعطف. فيصير بمنزلة المشورة.
ولو قال: على أن تشتري من فلان وتبيع منه صح التقييد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يبتدئ بقوله على أن تعمل م: (أو في مكان كذا) ش: لكونه مثلاً.
والثالث: هو قوله م: (وكذا إذا قال خذ هذا المال تعمل به في الكوفة) ش: يجوز في اللام الجزم على أنه جواب الأمر، يجوز الرفع على تفسير أنت تعمل به، وكلام المصنف يحتمل الوجهين م: (لأنه تفسير له) ش: أي لأن قوله تعمل به في الكوفة بأن قال خذ هذا المال م: (أو قال فاعمل به في الكوفة، لأن الفاء للوصل) ش: والتعقيب والمتصل المتعقب إليهم تفسير له، والخامس هو قوله م: (أو قال خذه بالنصف بالكوفة) ش: بأن قال خذ هذا المال بالنصف بالكوفة م: (لأن الباء للإلصاق) ش: فتقتضي الإلصاق بموجب الكلام وهو العمل بالمال ملصقًا بالكوفة، وهو أن يكون العمل فيها.
السادس: لم يذكره المصنف، وهو أن يقول خذه بالنصف لتعمل به في الكوفة، وجعل الكاكي النوع الثالث على قسمين باعتبار الجزم والرفع، ولم يذكر قوله على أن تعمل كذا وجعل صاحب العناية هذا قسمًا واحدًا، وجعل السادس ما ذكرناه.
والصواب: أن الذي ذكره المصنف ستة وهي أن تعمل كذا وفي مكان كذا، أو خذ هذا المال تعمل به في الكوفة بالرفع وتعمل به بالجزم أو فاعمل في الكوفة، وبقي لفظًا بعد مشورة، ولا بعد شرط أحدهما أن يقول دفعت إليك هذا الألف مضاربة بالنصف اعمل بها في الكوفة.
والثاني: أن يقول واعمل بها بالكوفة بالواو، أشار إليه بقوله م: (أما إذا قال: خذ هذا المال واعمل به بالكوفة فله أن يعمل فيها وفي غيرها؛ لأن الواو للعطف) ش: والشيء لا يعطف على نفسه بل على غيره فاعتبر كلامًا مبتدأ م: (فيصير بمنزلة المشورة) ش: كأنه قال إن فعلت كذا كان أنفع. والمشورة بفتح الميم وضم الشين وهو استخراج رأي على غالب الظن.
فإن قيل: فلم تجعل واو الحال كما في قوله أد إلى ألفًا وأنت حر.
أجيب: بعد صلاحية ذلك هاهنا، لأن العمل أن يكون بعد الأخذ لا حال الأخذ.
قلت: لم لا يجوز أن يكون حالاً منتظرة كما في قَوْله تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] ذكر تفريعًا على ما تقدم.
[قال رب المال خذه مضاربة على أن تشتري من فلان وتبيع منه]
م: (ولو قال: على أن تشتري من فلان وتبيع منه صح التقييد) ش: ذكر هذا تفريعًا على ما تقدم(10/57)
لأنه مفيد لزيادة الثقة به في المعاملة، بخلاف ما إذا قال على أن تشتري بها من أهل الكوفة أو دفع مالا في الصرف على أن تشتري به من الصيارفة وتبيع منهم فباع بالكوفة من غير أهلها أو من غير الصيارفة جاز؛ لأن فائدة الأول التقييد بالمكان، وفائدة الثاني التقييد بالنوع وهذا هو المراد عرفا لا فيما وراء ذلك.
قال: وكذلك إن وقت للمضاربة وقتا بعينه، يبطل العقد بمضيه؛ لأنه توكيل فيتوقت بما وقته، والتوقيت مفيد، فإنه تقييد بالزمان فصار كالتقييد بالنوع والمكان.
قال: وليس للمضارب أن يشتري من يعتق على رب المال لقرابة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني لو قال رب المال خذه مضاربة على أن تشتري إلى آخره م: (لأنه) ش: أي لأن تقييده م: (مفيد لزيادة الثقة به) ش: أي بفلان م: (في المعاملة) ش: لتفاوت الناس في المعاملات قضاء واقتضاء ومسافة في الحساب، وفي التنزه عن الشبهات، وبقولنا قال أحمد. وقال الشافعي ومالك - رحمهما الله -: لا يصح هذا التقييد فلا تصح المضاربة ولنا ما ذكرنا. م: (بخلاف ما إذا قال على أن تشتري بها) ش: أي المضاربة. وأراد بها مال المضاربة م: (من أهل الكوفة أو دفع مالا في الصرف على أن تشتري به من الصيارفة وتبيع منهم فباع بالكوفة من غير أهلها) ش: أي من غير أهل الكوفة م: (التقييد بالمكان) ش: وهو الكوفة م: (وفائدة الثاني) ش: وهو قوله: على أن تشتري من الصيارفة م: (التقييد بالنوع) ش: وهو بيع الصرف م: (وهذا هو المراد عرفًا) ش: جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال في هذا عدول عن ظاهر اللفظ، فإن ظاهره يقتضي شراءه من كوفي لا من غيره، سواء كان في الكوفة أو في غيرها. وتقدير الجواب: أن مقتضى اللفظ قد يترك به بدلالة العرف، والعرف في ذلك والمنع عن الخروج من الكوفة صيانة لماله، وقد حصل. ولما لم يخص المعاملة في الصرف بشخص بعينه مع تفاوت الأشخاص دل على أن المراد به فرع الصرف وقد حصل م: (لا فيما وراء ذلك) ش: يعني غير المكان في الأول والنوع في الثاني.
[الحكم لو وقت رب المال للمضاربة وقتًا بعينه]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكذلك إن وقت للمضاربة وقتًا بعينه يبطل العقد بمضيه) ش: يعني أن التوقيت بالزمان مفيد، فكان كالتقييد بالنوع والمكان م: (لأنه) ش: أي لأن عقد المضاربة م: (توكيل فيتوقف بما وقته) ش: كالوكالة الموقتة، وبه قال أحمد في ظاهر روايته وقال الشافعي ومالك وأحمد في رواية: لا يصح توقيته، لأنه يؤدي إلى ضرر بالعامل. وقال بعض أصحاب الشافعي: إن شرط المدة على أن يبيع بعدها لم يصح وإن شرط على أن لا يشتري بعدها صح. ولنا ما ذكره من قوله م: (والتوقيت مفيد، فإنه تقييد بالزمان، فصار كالتقييد بالنوع) ش: نحو الطعام م: (والمكان) ش: نحو الكوفة.
[حكم شراء المضارب من يعتق على رب المال]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للمضارب أن يشتري من يعتق على رب المال لقرابة)(10/58)
أو غيرها؛ لأن العقد وضع لتحصيل الربح، وذلك بالتصرف مرة بعد أخرى ولا يتحقق فيه لعتقه، ولهذا لا يدخل في المضاربة شراء ما لا يملك بالقبض كشراء الخمر والشراء بالميتة، بخلاف البيع الفاسد لأنه يمكنه بيعه بعد قبضه فيتحقق المقصود.
قال: ولو فعل صار مشتريا لنفسه دون المضاربة؛ لأن الشراء متى وجد نفاذا على المشتري نفذ عليه كالوكيل بالشراء إذا خالف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: مثل أبيه وابنه م: (أو غيرها) ش: أي أو غير قرابة، يعني يعتق عليه، ولكن قرابة بل لوجه آخر، نحو المحلوف بعتقه، وبه قال أكثر الفقهاء إذا كان بغير إذن رب المال وإذا كان بإذنه يصح وتنفع المضاربة م: (لأن العقد وضع لتحصيل الربح، وذلك) ش: أي تحصيل الربح م: (بالتصرف مرة بعد أخرى ولا يتحقق) ش: أي التصرف مرة بعد أخرى، م: (فيه) ش: أي في شراء من يعتق عليه.
م: (لعتقه) ش: أي لعتق من يعتق عليه بالشراء فلا يبقى التصرف بعد ذلك، وفي هذا إشارة على الفرق بين المضاربة والوكالة، فإن الوكيل بشراء عبد مطلقًا إن اشترى من يعتق على موكله لم يكن مخالفًا، وذلك لأن الربح المحتاج إلى تكرر التصرف ليس بمقصود في الوكالة، حتى لو كان مقصود الموكل وقيد بقوله اشتر لي عبدًا أبيعه فاشترى من يعتق عليه كان مخالفًا.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون هذا العقد وضع لتحصيل الربح م: (لا يدخل في المضاربة شراء ما لا يملك بالقبض كشراء الخمر والشراء بالميتة) ش: لانتفاء التصرف فيه لتحصيل الربح.
م: (بخلاف البيع الفاسد) ش: يعني يدخل في المضاربة البيع الفاسد، لأن المبيع يملك بالقبض فيدخل م: (لأنه يمكنه بيعه بعد قبضه) ش: أي لأن المضارب يمكنه بيع المبيع في البيع الفاسد بعد قبضه إياه، فلا يكون مخالفًا بالبيع الفاسد م: (فيتحقق المقصود) ش: وهو تحصيل الربح، وعند الثلاثة يصير مخالفًا بالبيع الفاسد كما في البيع الباطل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولو فعل) ش: أي ولو اشترى المضارب من يعتق على رب المال م: (صار مشترياً لنفسه دون المضاربة، لأن الشراء متى وجد نفاذا على المشتري نفذ عليه كالوكيل بالشراء إذا خالف) ش: قيد بقوله متى وجد نفاذا احترازًا عن الصبي والعبد المحجورين فإن شراءهما يتوقف على إجارة الولي والمولى وإن كان نقد الثمن من مال المضاربة بتخيير رب المال بين أن يسترد المقبوض من البائع، ويرجع البائع على المضارب وبين أن يضمن المضارب مثل ذلك لأنه قضى بمال المضاربة دينًا عليه.
وقال مالك: إن كان العامل عالمًا موسرًا بيع منه بقدر رأس المال، وإن كان غير عالم عتق على رب المال ولا غرم على العامل، وعلى هذا لو ظهر ربح يرجع العامل على رب المال بحصته(10/59)
قال: فإن كان في المال ربح لم يجز له أن يشتري من يعتق عليه؛ لأنه يعتق عليه نصيبه ويفسد نصيب رب المال أو يعتق على الاختلاف المعروف، فيمتنع التصرف، فلا يحصل المقصود. وإن اشتراهم ضمن مال المضاربة؛ لأنه يصير مشتريا العبد لنفسه فيضمن بالنقد من مال المضاربة. وإن لم يكن في المال ربح جاز أن يشتريهم؛ لأنه لا مانع من التصرف إذ لا شركة له فيه ليعتق عليه، فإن زادت قيمتهم بعد الشراء عتق نصيبه منهم لملكه بعض قريبه. ولم يضمن لرب المال شيئا؛ لأنه لا صنع من جهته في زيادة القيمة ولا في ملكه الزيادة؛ لأن هذا شيء يثبت من طريق الحكم، فصار كما إذا ورثه مع غيره ويسعى العبد في قيمة نصيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن كان في المال ربح لم يجز له) ش: أي المضارب م: (أن يشتري من يعتق عليه) ش: أي على المضارب م: (لأنه يعتق عليه نصيبه ويفسد نصيب رب المال) ش: لانتفاء جواز بيعه لكونه مستسعى لا يجوز بيعه م: (أو يعتق) ش: أي العبد كله عندهما أشار إلى هذا بقوله: م: (على الاختلاف المعروف) ش: وهو أن الإعتاق يتجزأ عندنا خلافًا لهما م: (فيمتنع التصرف، فلا يحصل المقصود) ش: وهو الاسترباح.
وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وفي قول: يصح ولا يعتق؛ لأنه لا يملك الربح بمجرد الظهور على تمليكه بالقسمة، وبه قال أحمد في رواية وفي وجه: وإن لم يكن في المال ربح يصح بمثل وبالإجماع.
م: (وإن اشتراهم) ش: أي وإن اشترى المضارب من يعتق عليه م: (ضمن مال المضاربة، لأنه يصير مشترياً العبد لنفسه فيضمن بالنقد من مال المضاربة وإن لم يكن في المال ربح جاز أن يشتريهم لأنه لا مانع من التصرف إذ لا شركة له فيه ليعتق عليه) ش: يعني لا شركة للمضارب في المال حتى يعتق عليه من يشتريه، أي على المضارب.
م: (فإن زادت قيمتهم بعد الشراء عتق نصيبه منهم) ش: أي نصيب المضارب من الذي اشتراهم ممن يعتق عليه، وبه قال الشافعي في وجه ومالك في رواية وأحمد في رواية م: (لملكه) ش: أي لملك المضارب م: (بعض قريبه ولم يضمن لرب المال شيئًا، لأنه لا صنع من جهته في زيادة القيمة ولا في ملكه الزيادة) ش: وهو نصيبه من الربح.
م: (لأن هذا) ش: أشار ما ذكر من زيادة القيمة ومن ملك الزيادة م: (شيء يثبت من طريق الحكم) ش: يعني لا اختيار له فيه. وعند الشافعي وأحمد في وجه ومالك في رواية يضمن إن كان موسرًا م: (فصار كما إذا ورثه مع غيره) ش: كامرأة اشترت ابن زوجها فماتت وتركته زوجًا وأخًا أعتق نصيب الزوج ولا يضمن شيئًا لأخيها م: (ويسعى العبد في قيمة نصيبه) ش: أي(10/60)
منه؛ لأنه احتسبت ماليته عنده فيسعى فيه، كما في الوراثة.
قال: فإن كان مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها جارية قيمتها ألف فوطئها فجاءت بولد يساوي ألفا فادعاه ثم بلغت قيمة الغلام ألفا وخمسمائة والمدعي موسر فإن شاء رب المال استسعى الغلام في ألف ومائتين وخمسين، وإن شاء أعتق. ووجه ذلك أن الدعوة صحيحة في الظاهر حملا على فراش النكاح لكنه لم ينفذ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نصيب رب المال. وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله وأحمد ومالك - رحمهما الله - إن كان المضارب معسرا م: (منه) ش: أي من العبد م: (لأنه احتسبت ماليته) ش: أي مالية العبد م: (عنده) ش: أي عند العبد م: (فيسعى فيه) ش: أي فيسعى العبد في نصيب رب المال م: (كما في الوراثة) ش: كأن ورث جماعة عبدا يعتق أحدهم نصيبه فإنه يسعى في نصيب الباقين لاحتباس المالية عنده.
[كان مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها جارية فوطئها]
م: (قال: فإن كان مع المضارب ألف بالنصف) ش: ذكره تفريعا، وهو من مسائل الجامع الصغير، فلذلك ذكره بالفاء، أي إن كان مع المضارب ألف درهم مناصفة م: فاشترى بها جارية قيمتها ألف فوطئها فجاءت بولد يساوي ألفا فادعاه ثم بلغت قيمة الغلام ألفا وخمسمائة والمدعي موسر) ش: أي والحال أن المدعي للولد وهو المضارب موسر.
قيد بقوله لنفي الشبهة وهو أن الضمان بسبب دعوة المضارب ضمان إعتاق في حق المولى وضمان الإعتاق يختلف باليسار والإعسار، فينبغي أن يضمن المضارب لرب المال إذا كان موسرا مع ذلك لا يضمن.
وفي " مغني " الحنابلة: إن ظهر ربح في المال يصح دعوة وتصير الجارية أم ولد له ويعتق الولد بالقيمة وإن لم يظهر ربح قبل العلوق فالولد رقيق لأنه علقت منه في غير ملك ولا شبهة ملك، وقال مالك يضمن قيمته يوم الوطء في رواية إن ظهر ربح قبل العلوق.
وقيد بقوله ثم بلغت قيمة الغلام ألفا وخمسمائة لأنه إذا لم تزد قيمته على ألف فدعوة المضارب باطلة لأنه لا يملك واحدا من الولد والأم لأن كلا منهما مشغول برأس المال وانتفى الحد لاحتمال تعلق حقه به على تقدير ظهور الربح ولا يثبت النسب لعدم الملك أصلا، ويضمن العقد وله أن يبيع الأم والولد لأنهما مال المضاربة.
م: (فإن شاء رب المال استسعى الغلام في ألف ومائتين وخمسين، وإن شاء أعتق، ووجه ذلك) ش: أي الحكم المذكور م: (أن الدعوة صحيحة في الظاهر) ش: بصدورها من أهلها في محلها م: (حملا على فراش النكاح) ش: بأن زوجها منه البائع ثم باعها منه فوطئها فعلقت منه م: (لكنه) ش: أي لكن الادعاء بالولد م: (لم ينفذ) ش: أي في حق المعتق.(10/61)
لفقد شرطه وهو الملك لعدم ظهور الربح لأن كل واحد منهما أعني الأم والولد مستحق برأس المال كمال المضاربة إذا صار أعيانا كل عين منها يساوي رأس المال لا يظهر الربح، كذا هذا. فإذا زادت قيمة الغلام الآن ظهر الربح ونفذت الدعوة السابقة، بخلاف ما إذا أعتق الولد، ثم إذا زادت القيمة لأن ذلك إنشاء العتق، فإذا بطل لعدم الملك لا ينفذ بعد ذلك بحدوث الملك، أما هذا فإخبار فجاز أن ينفذ عند حدوث الملك، كما إذا أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لفقد شرطه وهو الملك) ش: أو شبهة في الولد م: (لعدم ظهور الربح، لأن كل واحد منهما أعني الأم والولد مستحق برأس المال) ش: لأنه يحتمل لأن يهلك أحدهما فيتعين الآخر لرأس المال فلا يظهر الربح م: (كمال المضاربة إذا صار كل عين منها يساوي رأس المال) ش: كما لو اشترى برأس المال عبدين كل واحد منهما يساوي ألفا فإنه م: (لا يظهر الربح) ش: عندنا خلافا لزفر م: (كذا هذا) ش: أي ما نحن فيه فإذا لم يظهر الربح لم يكن للمضارب في الجارية ملك، وبدون الملك لا يثبت الاستيلاد.
واعترض بوجهين: أحدهما، أن الجارية كانت متعينة لرأس المال قبل الولد فتبقى كذلك وتعين أن يكون الولد كله ربحا. والثاني: أن المضارب إذا اشترى بألف لمضاربة فرسين كل واحد منهما يساوي ألفا كان له ربعهما، حتى لو وهب ذلك لرجل وسلمه صح.
أجيب: عن الأول بأن تعينها كان لعدم المزاعم لا لأنها رأس المال، فإن رأس المال هو الدراهم وبعد الولد تحققت المزاحمة فذهب تعينها ولم يكن أحدهما أولى لذلك من الآخر فاستقلا برأس المال.
وعن الثاني: بأن المراد بقوله أعيانا أجناس مختلفة والفرسان جنس واحد فيقسمان جملة واحدة، وإذا اعتبرا جملة حصل البعض ربحا، بخلاف العبدين، فإنهما يقسمان جملة واحدة، بل كل واحد يكون بيعها على حيالة لكون الرقيق أجناسا مختلفة عند أبي حنيفة قولا واحدا، وعنده أيضا في رواية كتاب المضارب.
م: (فإذا زادت قيمة الغلام الآن) ش: أي على مقدار رأس المال م: (ظهر الربح ونفذت الدعوة السابقة) ش: لأن سببها كان موجودا وهو فراش النكاح، فيثبت النسب منه، ولكن لم ينفذ الوجود المانع وهو عدم الملك، فإذا زال المانع صار نافذا.
م: (بخلاف ما إذا أعتق) ش: أي المضارب م: (الولد ثم زادت القيمة) ش: أي قيمة الولد فلا يعتق م: (لأن ذلك إنشاء العتق) ش: فلم يصادف محله لعدم الملك فكان باطلا م: (فإذا بطل لعدم الملك لا ينفذ بعد ذلك بحدوث الملك، أما هذا) ش: أي ادعاء النسب م: (فإخبار فجاز أن ينفذ عند حدوث الملك كما إذا أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه) ش: فإنه يعتق عليه.(10/62)
فإذا صحت الدعوة وثبت النسب عتق الولد لقيام ملكه في بعضه ولا يضمن لرب المال شيئا من قيمة الولد؛ لأن عتقه ثبت بالنسب والملك، والملك آخرهما فيضاف إليه ولا صنع له فيه، وهذا ضمان إعتاق فلا بد من التعدي ولم يوجد. وله أن يستسعي الغلام؛ لأنه احتبست ماليته عنده وله أن يعتق؛ لأن المستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويستسعيه في ألف ومائتين وخمسين لأن الألف مستحق برأس المال، والخمسمائة ربح، والربح بينهما، فلهذا يسعى له في هذا المقدار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فإذا صحت الدعوة وثبت النسب عتق الولد) ش: أي عندهما م: (لقيام ملكه في بعضه، ولا يضمن لرب المال شيئا من قيمة الولد) ش: موسرا كان أو معسرا.
وقال الشافعي في وجه وأحمد في رواية ومالك: يضمن له حصته، إن كان موسرا لوجود الصنع منه دعوة النسب فيضمن إذا ملكه.
ولنا ما ذكره من قوله م: (لأن عتقه ثبت بالنسب والملك، والملك آخرهما) ش: يعني وجودا م: (فيضاف) ش: أي الحكم م: (إليه) ش: أي إلى الملك، لأن الحكم إذا ثبت بعلة ذات وصفين يضاف آخرهما وجودا.
أصله مسألة السفينة والقدح المسكر، ودليله ما روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا أقر بين يديه بالزنا ثلاثا، فقال: إياك والرابعة فإنها الموجبة.
م: (ولا صنع له) ش: أي المضارب م: (فيه) ش: أي في ثبوت الملك، لأنه شاركه بازدياد القيمة، ولا صنع له فيه، فلا يكون متعديا م: (وهذا ضمان إعتاق، فلا بد من التعدي ولم يوجد) ش: وإذا انتفى الضمان يبقى أحد الأمرين الآخرين من الاستسعاء والإعتاق، أشار إليه بقوله م: (وله) ش: أي لرب المال.
م: (أن يستسعي الغلام، لأنه احتبست ماليته عنده وله أن يعتق؛ لأن المستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويستسعيه في ألف ومائتين وخمسين، لأن الألف مستحق برأس المال، والخمسمائة ربح، والربح بينهما، فلهذا يسعى له) ش: أي لرب المال م: (في هذا المقدار) ش: يعني في ألف ومائتين وخمسين.
فإن قيل: لم لا يجعل الجارية رأس المال والولد كله ربحا.
قيل: لأن ما يجب على الولد بالسعاية من جنس رأس المال والجارية ليست من ذلك، فكان تعيين الألف من السعاية لرأس المال أنست للتجانس، وهذا السؤال والجواب ذكرهما في " الكافي ".(10/63)
ثم إذا قبض رب المال الألف له أن يضمن المدعي نصف قيمة الأم؛ لأن الألف المأخوذ لما استحق برأس المال لكونه مقدما في الاستيفاء ظهر أن الجارية كلها ربح فتكون بينهما وقد تقدمت دعوة صحيحة لاحتمال الفراش الثابت بالنكاح وتوقف نفاذها لفقد الملك، فإذا ظهر الملك نفذت تلك الدعوة وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصيب رب المال؛ لأن هذا ضمان تملك وضمان التملك لا يستدعي صنعا كما إذا استولد جارية بالنكاح ثم ملكها هو وغيره وراثة يضمن نصيب شريكه، كذا هذا، بخلاف ضمان الولد على ما مر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال صاحب " العناية ": وفيه نظر لأنا جعلنا الجارية رأس المائة وقد عتقت بالاستيلاد وجبت قيمتها على المضارب وهي من جنس رأس المال.
قلت: الولد زاحمها فتربح بسبب ظهور المربح من جهته.
م: (ثم إذا قبض رب المال الألف له أن يضمن المدعي) ش: وهو المضارب م: (نصف قيمة الأم، لأن الألف المأخوذ) ش: أي من الولد م: (لما استحق برأس المال لكونه مقدما في الاستيفاء) ش: على الربح م: (ظهر أن الجارية كلها ربح، فتكون بينهما وقد تقدمت دعوة صحيحة) ش: من المضارب. م: (لاحتمال الفراش الثابت بالنكاح وتوقف نفاذها لفقد الملك، فإذا ظهر الملك نفذت تلك الدعوة) ش: السابقة.
م: (وصارت الجارية أم ولد له، ويضمن نصيب رب المال، لأن هذا ضمان تملك وضمان التملك لا يستدعي صنعا) ش: بل يعتمد الملك وقد حصل م: (كما إذا استولد جارية بالنكاح ثم ملكها هو وغيره وراثة) ش: أي من جهة الوراثة فإنه م: (يضمن نصيب شريكه) ش: كالأخ تزوج جارية أخيه فمات الزوج وترك الجارية ميراثا بين الزوج وأخ آخر فإن الزوج ملكها بغير صنعه، فيضمن نصيب شريكه م: (كذا هذا) ش: أي ما نحن فيه.
م: (بخلاف ضمان الولد) ش: فإنه ضمان إعتاق، وهو إتلاف فلا بد من التعدي وهو لا يتحقق بدون صنعه م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله لأن عتقه بالنسب والملك، والملك آخرهما ولا صنع له فيه، والله أعلم.(10/64)
باب المضارب يضارب قال: وإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال لم يضمن بالدفع ولا بتصرف المضارب الثاني حتى يربح، فإذا ربح ضمن الأول لرب المال، وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: إذا عمل به ضمن ربح أو لم يربح، وهذا ظاهر الرواية، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن بالدفع عمل أو لم يعمل، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المملوك له الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة. ولهما أن الدفع إيداع حقيقة، وإنما يتقرر كونه للمضاربة بالعمل، فكان الحال مراعى قبله، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدفع قبل العمل إيداع وبعده إبضاع، والفعلان يملكهما المضارب فلا يضمن بهما، إلا أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أحكام المضارب حال كونه يضارب]
[دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن]
م: (باب المضارب يضارب) ش: أي: هذا باب في بيان أحكام المضارب حال كونه يضارب. وقد علم أن المضارع المثبت إذا وقع حالا يكتفى فيه بالضمير.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن) ش: والحال أنه لم يأذن م: (له رب المال لم يضمن بالدفع) ش: أي بمجرد الدفع. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والثلاثة يضمن بمجرد الدفع وهو رواية عن أبي يوسف، لأنه يصير مخالفا على ما يجيء الآن.
م: (ولا بتصرف المضارب الثاني) ش: أي ولا يضمن أيضا بتصرف المضارب الثاني م: (حتى يربح، فإذا ربح ضمن الأول) ش: أي فإذا ربح المضارب الثاني ضمن المضارب الأول م: (لرب المال، وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إذا عمل به ضمن ربح أو لم يربح، وهذا ظاهر الرواية وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يضمن بالدفع) ش: أي بمجرد الدفع.
م: (عمل) ش: أي الثاني م: (أو لم يعمل، وهو رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المملوك له) ش: أي للمضارب، أراد أن الذي يملكه المضارب هو م: (الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة) ش: فصار مخالفا فيضمن.
م: (ولهما أن الدفع إيداع حقيقة) ش: لأنه أمانة فلا تمليك وله ولاية الإيداع م: (وإنما يتقرر كونه للمضاربة العمل، فكان الحال مراعى) ش: أي موقوفا م: (قبله) ش: أي قبل العمل إن عمل ضمن وإلا فلا.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدفع قبل العمل إيداع وبعده إبضاع والفعلان يملكهما المضارب فلا يضمن بهما) ش: أي بالإيداع والإبضاع م: (إلا أنه) ش: أي أن المضارب الثاني.(10/65)
إذا ربح فقد ثبت له شركة في المال فيضمن كما لو خلطه بغيره، وهذا إذا كانت المضاربة صحيحة، فإن كانت فاسدة لا يضمنه الأول وإن عمل الثاني لأنه أجير فيه، وله أجر مثله فلا تثبت الشركة به، ثم ذكر في الكتاب يضمن الأول ولم يذكر الثاني. وقيل: ينبغي أن لا يضمن الثاني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما: يضمن بناء على اختلافهم في مودع المودع. وقيل: رب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع وهو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(إذا ربح فقد ثبت له) ش: أي فقد أثبت المضارب الأول لرب المال م: (شركة في المال فيضمن) ش: لاشتراك الغير في ربح مال رب المال وفي ذلك إتلاف فيوجب الضمان م: (كما لو خلطه بغيره) ش: مال المضاربة بغير مالها.
م: (وهذا) ش: أي وجوب الضمان على الأول أو عليهما بالربح والعمل على ما ذكرنا م: (إذا كانت المضاربة صحيحة) ش: أطلق المضاربة ولم يبين أن المراد بها المضاربة الأولى والثانية أو كلتيهما ليتناول كلا منهما، فإن الأولى إذا كانت فاسدة أو الثانية أو كلتيهما جميعا لم يضمن الأول، لأن الثاني أجير فيه وله أجر مثله فلم يثبت الشركة الموجبة للضمان، وكذا لو كانت الأولى جائزة والثانية فاسدة فلا ضمان لما ذكرنا، وكذا إذا كانت الأولى فاسدة والثانية جائزة، وإنما يجب الضمان عليهما إذا كانت المضاربتان جائزتين.
فإن قيل: إذا كانت الأولى فاسدة لم يتصور جواز الثانية، لأن مبناها على الأولى فلا يستقيم التقسيم.
أجيب: بأن المراد جواز الثانية حينئذ ما يكون جائزا بحسب الصورة بأن يكون المشروط الثاني من الربح مقدار ما يجوز به المضاربة في الجملة بأن كان المشروط للأول نصف الربح ومائة مثلا وللثاني نصفه.
م: (فإن كانت) ش: أي المضاربة م: (فاسدة لا يضمنه الأول) ش: أي المضارب الأول م: (وإن عمل الثاني) ش: أي المضارب الثاني م: (لأنه أجير فيه وله أجر مثله فلا تثبت الشركة به) ش: أي الشركة الموجبة للضمان للعمل.
م: (ثم ذكر في الكتاب) ش: أي مختصر القدوري م: (يضمن الأول ولم يذكر الثاني. وقيل ينبغي أن لا يضمن الثاني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يضمن بناء على اختلافهم في مودع المودع) ش: فإن مودع المودع لا يضمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما.
م: (وقيل رب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع) ش: أي بإجماع أصحابنا لحصول التعدي منهما من الأول دفع مال الغير، ومن الثاني الأخذ، م: (وهو(10/66)
المشهور، وهذا عندهما ظاهر، وكذا عنده. ووجه الفرق له بين هذه وبين مودع المودع: أن المودع الثاني يقبضه لمنفعة الأول، فلا يكون ضامنا، أما المضارب الثاني يعمل فيه لنفع نفسه فجاز أن يكون ضامنا، ثم إن ضمن الأول صحت المضاربة بين الأول وبين الثاني، وكان الربح بينهما على ما شرطا؛ لأنه ظهر أنه ملكه بالضمان من حين خالف بالدفع إلى غيره لا على وجه الذي رضي به، فصار كما إذا دفع مال نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول بالعقد؛ لأنه عامل له فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المشهور) ش: يعني هذا القول هو المشهور من المذهب م: (وهذا عندهما ظاهر) ش: لأنهما يضمنان مودع المودع م: (وكذا عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على قول من يقول أنه يضمن عنده أيضا.
ولكن يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة ومسألة مودع المودع، أشار إليه بقوله م: (ووجه الفرق له) ش: أي لأبي حنيفة م: (بين هذه) ش: أي المسألة التي نحن فيها م: (وبين مودع المودع أن المودع الثاني يقبضه لمنفعة الأول) ش: لا لنفسه م: (فلا يكون ضامنا، أما المضارب الثاني يعمل فيه لنفع نفسه) ش: يعني لمنفعة نفسه من حيث شركته في الربح م: (فجاز أن يكون ضامنا ثم إن ضمن) ش: أي رب المال. م: (الأول) ش: أي المضارب الأول م: (صحت المضاربة بين الأول وبين الثاني، وكان الربح بينهما على ما شرطا، لأنه ظهر أنه ملكه) ش: أي لأن المضارب الأول ملك مال المضاربة م: (بالضمان من حين خالف بالدفع إلى غيره لا على الوجه الذي رضي به) ش: أي رب المال، فإنه لم يرض بدفع المال إلى غيره م: (فصار كما إذا دفع مال نفسه) ش: فصحت المضاربة.
م: (وإن ضمن الثاني) ش: أي وإن ضمن رب المال المضارب الثاني م: (رجع على الأول بالعقد) ش: أي بسببه، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية إن لم يعلم بحال المضارب الأول، وإن علم لم يرجع عليه بشيء رواية واحدة. وفي بعض النسخ موضع بالعقد بالعهدة، أي بالضمان، لأنه التزم له سلامة المقبوض.
فإن قيل، ينبغي أن يفسد الدفع إلى الثاني لأنه في ضمن المضاربة الأولى فيفسد بفساده.
قلت: الدفع أمر حسي والاقتضاء لا يثبت في الحسي، وإنما هذا في أمر شرعي. م: (لأنه) ش: أي المضارب الثاني م: (عامل له) ش: أي للأول م: (فيه) ش: أي في ذلك العمل.
قيل: في كلامه تناقض، لأنه قال قبل هذا يعمل فيه لمنفعة نفسه، وهاهنا قال: لأنه عامل للمضارب الأول.
والجواب أن الجهة مختلفة، لأن الثاني عامل لنفسه بسبب شركته في الربح، وعامل لغيره بسبب أنه في الابتداء مودع وعمل المودع وهو الحفظ للمودع فاندفع التناقض لعدم اتحاد(10/67)
كما في المودع، ولأنه مغرور من جهته في ضمن العقد. وتصح المضاربة والربح بينهما على ما شرطا؛ لأن إقرار الضمان على الأول فكأنه ضمنه ابتداء يطيب الربح للثاني، ولا يطيب للأعلى؛ لأن الأسفل يستحقه بعمله ولا خبث في العمل والأعلى يستحقه بملكه المستند بأداء الضمان فلا يعرى عن نوع خبث.
قال: وإذا دفع إليه رب المال مضاربة بالنصف وأذن له أن يدفعه إلى غيره فدفعه بالثلث وقد تصرف الثاني وربح، فإن كان رب المال قال له: على أن ما رزق الله تعالى فهو بيننا نصفان، فلرب المال النصف وللمضارب الثاني الثلث، وللمضارب الأول السدس؛ لأن الدفع إلى الثاني مضاربة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجهة م: (كما في المودع) ش: يعني كما في المودع الغاصب إذا ضمن يرجع على الغاصب بما ضمن م: (ولأنه) ش: أي الثاني م: (مغرور من جهته) ش: أي من جهة الأول فإنه قد غره. وفي بعض النسخ معذور بالذال من العذر م: (في ضمن العقد) ش: أي العقد الذي بين الأول والثاني، لأنه اعتمد والأول غر.
م: (وتصح المضاربة والربح بينهما على ما شرطا) ش: أي بين المضاربين، وقال الشافعي وأحمد: الربح لمالكه لا شيء للمضارب الأول للثاني أجر مثله على الروايتين. وقال مالك: إن اتفق الخسران فالربح بين المال والعامل الثاني ولا شيء للأول، وإن اختلفا وكان الأول أكثر فالزائد للمالك، وإن كان العقد أقل فلرب المال شرطه ويرجع الثاني على العامل الأول.
وقيل: للعامل حصة كاملة ويرجع المالك على الأول بباقي حصته م: (لأن إقرار الضمان على الأول) ش: يثبت الملك له. وقوله على الأول خبر أن م: (فكأنه) ش: أي فكأن رب المال م: (ضمنه ابتداء) ش: أي في ابتداء الأمر م: (ويطيب الربح للثاني) ش: أي للمضارب الثاني.
م: (ولا يطيب) ش: أي الربح م: (للأعلى) ش: وهو المضارب الأول م: (لأن الأسفل) ش: وهو المضارب الثاني م: (يستحقه بعمله ولا خبث في العمل والأعلى يستحقه بملكه المستند بأداء الضمان) ش: لأنه يستحقه برأس المال والملك في رأس المال حصل بأداء الضمان مستندا م: (فلا يعرى عن نوع خبث) ش: لأن الملك الحاصل بأداء الضمان مستند ثابت من وجه دون وجه فإذا كان كذلك فسبيله التصدق.
[دفع إليه المال مضاربة بالنصف وأذن له أن يدفعه إلى غيره فدفعه بالثلث]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا دفع إليه) ش: أي إلى المضارب م: (رب المال مضاربة بالنصف وأذن له أن يدفعه إلى غيره فدفعه بالثلث وقد تصرف الثاني) ش: أي المضارب الثاني. م: (وربح فإن كان رب المال قال له) ش: أي للمضارب الأول م: (على أن ما رزق الله تعالى فهو بيننا نصفان فلرب المال النصف وللمضارب الثاني الثلث وللمضارب الأول السدس، لأن الدفع إلى الثاني مضاربة) ش: أي لأن دفع الأول إلى الثاني حال كون الدفع مضاربة.(10/68)
قد صح لوجود الأمر به من جهة المالك ورب المال شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى فلم يبق للأول إلا النصف فينصرف تصرفه إلى نصيبه وقد جعل من ذلك بقدر ثلث الجميع للثاني، فيكون له، فلم يبق إلا السدس ويطيب لهما ذلك؛ لأن فعل الثاني واقع للأول، كمن استؤجر على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر غيره عليه بنصف درهم، وإن كان قال له: على أن ما رزقك الله فهو بيننا نصفان فللمضارب الثاني الثلث والباقي بين المضارب الأول ورب المال نصفان؛ لأنه فوض إليه التصرف وجعل لنفسه نصف ما رزق الأول، وقد رزق الثلثين فيكون بينهما بخلاف الأول؛ لأنه جعل لنفسه نصف جميع الربح فافترقا. ولو كان قال له: فما ربحت من شيء فبيني وبينك نصفين، وقد دفع إلى غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قد صح لوجود الأمر به) ش: أي بالدفع م: (من جهة المالك ورب المال شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى، فلم يبق للأول) ش: أي للمضارب المال م: (إلا النصف) ش: بمقتضى الشرط م: (فينصرف تصرفه إلى نصيبه وقد جعل من ذلك) ش: أي نصيبه م: (بقدر ثلث الجميع للثاني فيكون له، فلم يبق إلا السدس ويطيب لهما ذلك) ش: أي يطيب للمضارب الأول السدس والثاني الثلث والأول وإن لم يعمل بنفسه فقد باشر العقدين. ألا ترى أنه لو يضع المال مع غيره أو أبضعه رب المال حتى ربح كان نصيب المضارب من الربح طيبا وإن لم يعمل بنفسه.
وعلل المصنف بقوله: م: (لأن فعل الثاني واقع للأول كمن استؤجر على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر غيره عليه) ش: أي استأجر المستأجر غيره على عمل الخياطة م: (بنصف درهم) فإن النصف الآخر يطيب للمستأجر الذي استأجر، لأن العمل وقع له، فكذا م: (وإن كان قال له) ش: ش: أي وإن كان رب المال قال للمضارب م: (على أن ما رزقك الله فهو بيننا نصفان) ش: يعني قال ذلك بكاف الخطاب، وكذا الحكم لو قال ما ربحت في هذا من شيء، أو قال على أن ما كسبت فيه من كسب أو قال على أن ما رزقت من شيء وقال على أن ما صار لك فيه من ربح فهو بيننا نصفان.
أو قال اعمل فيه برأيك م: (فللمضارب الثاني الثلث والباقي بين المضارب الأول ورب المال نصفان، لأنه فوض إليه التصرف وجعل لنفسه نصف ما رزق الأول، وقد رزق الثلثين فيكون بينهما) ش: أي الثلثان بين رب المال والمضارب الأول، لأنه شرط نصف ما يحصل وما شرط نصف الجميع م: (بخلاف الأول) ش: أي الوجه الأول م: (لأنه) ش: أي لأن رب المال م: (جعل لنفسه نصف جميع الربح فافترقا) ش: أي الحكمان.
م: (ولو كان قال له: فما ربحت من شيء فبيني وبينك نصفين) ش: هذا من مسائل الجامع الصغير، وقوله: نصفين نصب على الحال، وكذا الواو للحال في قوله: م: (وقد دفع إلى غيره(10/69)
بالنصف، فللثاني النصف، والباقي بين الأول ورب المال؛ لأن الأول شرط للثاني نصف الربح، وذلك مفوض إليه من جهة رب المال فيستحقه، وقد جعل رب المال لنفسه نصف ما ربح الأول، ولم يربح إلا النصف فيكون بينهما. ولو كان قال له: على أن ما رزق الله تعالى فلي نصفه، أو قال له: فما كان من فضل فبيني وبينك نصفان وقد دفع إلى الآخر مضاربة بالنصف فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ولا شيء للمضارب الأول؛ لأنه جعل لنفسه نصف مطلق الفضل فينصرف شرط الأول النصف للثاني إلى جميع نصيبه، فيكون للثاني بالشرط، ويخرج الأول بغير شيء. كمن استأجر ليخيط ثوبا بدرهم فاستأجر غيره ليخيطه بمثله. وإن شرط للمضارب الثاني ثلثي الربح، فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ويضمن المضارب الأول للثاني سدس الربح في ماله؛ لأنه شرط للثاني شيئا هو مستحق لرب المال فلم ينفذ في حقه لما فيه من الإبطال لكن التسمية في نفسها صحيحة لكون المسمى معلوما في عقد يملكه وقد ضمن له السلامة فيلزمه الوفاء به، ولأنه غره في ضمن العقد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالنصف فللثاني النصف والباقي بين الأول ورب المال، لأن الأول شرط للثاني نصف الربح وذلك مفوض إليه من جهة رب المال فيستحقه، وقد جعل رب المال لنفسه نصف ما ربح الأول ولم يربح إلا النصف فيكون بينهما) ش: أي بين الأول ورب المال.
م: (ولو كان قال له على أن ما رزق الله تعالى فلي نصفه، أو قال له فما كان من فضل فبيني وبينك نصفان وقد دفع) ش: أي والحال أن الأول قد دفع المال م: (إلى آخر مضاربة بالنصف فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ولا شيء للمضارب الأول، لأنه جعل لنفسه نصف مطلق الفضل فينصرف شرط الأول النصف للثاني إلى جميع نصيبه فيكون للثاني بالشرط ويخرج الأول بغير شيء) ش: لأنه جعل ما كان للثاني م: (كمن استأجر) ش: أي: رجلا م: (ليخيط ثوبا بدرهم فاستأجر) ش: أي المستأجر بفتح الجيم م: (غيره ليخيطه بمثله) أي بدرهم، فإنه لا يبقى له شيء.
م: (وإن شرط للمضارب الثاني ثلثي الربح فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ويضمن المضارب الأول للثاني سدس الربح في ماله) ش: هذا لفظ القدوري في مختصره م: (لأنه) ش: أي لأن المضارب الأول م: (شرط للثاني شيئا هو مستحق لرب المال فلم ينفذ في حقه لما فيه من الإبطال) ش: أي إبطال حق رب المال.
م: (لكن التسمية في نفسها صحيحة لكون المسمى معلوما في عقد يملكه وقد ضمن له) ش: أي وقد ضمن المضارب الأول للثاني م: (السلامة فيلزمه الوفاء به) ش: أي بما ضمنه.
م: (ولأنه غره) ش: أي ولأن المضارب الأول غر الثاني م: (في ضمن العقد) ش: حيث(10/70)
وهو سبب الرجوع، فلهذا يرجع عليه، وهو نظير من استؤجر لخياطة ثوب بدرهم فدفعه إلى من يخيطه بدرهم ونصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شرط له النصف م: (وهو) ش: أي الغرور في ضمن العقد.
م: (سبب الرجوع، فلهذا يرجع عليه) ش: أي فلأجل ذلك يرجع عليه قيد الغرور في ضمن العقد؛ لأن الغرور إذا لم يكن في ضمن العقد لا يكون موجبا للضمان، كما لو قال لآخر: هذا الطريق آمن فاسلكها وهو ليس بآمن فسلكها فقطع عليه الطريق وأخذ ماله فلا ضمان عليه.
م: (وهو) ش: أي الحكم المذكور في الضمان م: (نظير من استؤجر لخياطة ثوب بدرهم فدفعه) ش: أي المستأجر بفتح الجيم م: (إلى من يخيطه بدرهم ونصف) ش: فإنه يقوم النصف من عنده، لأنه غره بالتسمية، فكذا هذا.(10/71)
فصل قال: وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على أن يعمل معه ولنفسه ثلث الربح فهو جائز؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح]
م: (فصل)
ش: الفصل مهما فصل لا ينون ومهما وصل ينون لأن الإعراب يكون بعد التركيب والتقدير هذا فصل في حكم كذا وكذا، ولما كان فيه حكم يغاير ما سبق فصله لذلك.
م: (قال: وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح) ش: هذا من مسائل الجامع الصغير، أي وشرط أيضا لعبد رب المال ثلث الربح م: (على أن يعمل معه) ش: أي مع المضارب وكلمة على تجيء للشرط كما في قَوْله تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} [الممتحنة: 12] (الممتحنة: الآية 12) م: (ولنفسه ثلث الربح) ش: أي وشرط لنفس المضارب ثلث الربح م: (فهو جائز) ش: أي هذا الحكم وهذا العقد جائز، وذلك لأن اشتراط العمل عليه لا يمنع التخلية التي هي شرط صحة المضاربة، لأن للعبد يدا معتبرة، ولهذا لم يكن للمولى استرداد وديعة العبد من يد المودع، وإذا جازت المضاربة، كان نصيب العبد من الربح للمولى إن لم يكن عليه دين.
وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق بذلك كسائر أكسابه، بخلاف شرط العمل على رب المال، فإنه يمنع التخلية فلا تصح المضاربة، وقوله: لعبد رب المال ليس بقيد، لأن حكم عبد المضارب كذلك، وكذا لو شرط لأجنبي وكذا كل من لا يقبل شهادة المضارب أو شهادة رب المال له. وفي " الذخيرة ": إذا شرط في المضاربة بعض الربح لغير المضارب ورب المال فهو على وجوه:
الأول: إذا شرط ذلك لأجنبي، وفي هذا الوجه إن شرط عمل الأجنبي فالمضاربة جائزة والشرط باطل ويجعل المشروط للأجنبي كالمسكوت عنه، فيكون لرب المال.
الثاني: إذا شرط بعض الربح لعبد المضارب أو لعبد رب المال، قال شرط على العبد مع ذلك فالشرط جائز والمضاربة جائزة، وإن لم يشترط عمل العبد مع ذلك إن لم يكن على العبد دين صح الشرط سواء كان عبد المضارب أو عبد رب المال، وإن كان على العبد دين فإن كان عبد المضارب فعلى قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يصح الشرط، ويكون المشروط كالمسكوت عليه، فيكون لرب المال، وعندهما يصح ويجب الوفاء به، وإن كان عبد رب المال فالمشروط يكون لرب المال بلا خلاف.(10/72)
لأن للعبد يدا معتبرة خصوصا إذا كان مأذونا له، واشتراط العمل إذن له، ولهذا لا يكون للمولى ولاية أخذ ما أودعه العبد وإن كان محجورا عليه، ولهذا يجوز بيع المولى عبده المأذون، وإذا كان كذلك لم يكن مانعا من التسليم والتخلية بين المال والمضارب، بخلاف اشتراط العمل على رب المال لأنه مانع من التسليم على ما مر. وإذا صحت المضاربة يكون الثلث للمضارب بالشرط والثلثان للمولى؛ لأن كسب العبد للمولى إذا لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين فهو للغرماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والوجه الثالث: إذا شرط بعض الربح لمن لا يقبل شهادة المضارب أو شهادة رب المال له نحو الابن والمرأة والمكاتب ومن أشبههم فالجواب فيه كالجواب فيما إذا شرط بعض الربح لأجنبي.
والوجه الرابع: إذا شرط بعض الربح لقضاء دين المضارب أو لقضاء دين رب المال فهو جائز، ويكون المشروط للمشروط له فقضى دينه به، وقيل قيد بعبد رب المال لأن فيه خلافا لبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، وفي غيره لا خلاف. وعند أكثر أصحاب الشافعي يصح اشتراط العمل على غلام رب المال كقولنا، وهو قول مالك وظاهر قول أحمد. م: (لأن للعبد يدا معتبرة خصوصا إذا كان مأذونا له واشتراط العمل إذن له) ش: فيتحقق خروج المال من يد رب المال مع اشتراط عمله فصح، سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه في حق المضاربة كعبد أجنبي آخر م: (ولهذا) ش: أي: ولكون يد العبد يدا معتبرة خصوصا إذا كان مأذونا له م: (لا يكون للمولى ولاية أخذ ما أودعه العبد وإن كان محجورا عليه) ش: أراد لا يجوز له استرداد ما أودعه العبد من يد المودع م: (ولهذا) ش: أي ولعدم ولاية الأخذ للمولى من مودعه م: (يجوز بيع المولى عبده المأذون) ش: يعني إذا كان مديونا وهذا بالإجماع، أما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلأن المولى من عبده المأذون أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين، وأما عندهما فلأن جواز البيع يعتمد الفائدة وقد وجدت على ما يجيء في المأذون إن شاء الله تعالى. م: (وإذا كان كذلك) ش: يعني إذا كان الحكم ما ذكرنا من كون يد العبد معتبرة وجواز بيع المولى منه إذا كان مأذونا له مديونا م: (لم يكن) ش: أي اشتراط ثلث الربح لعبد رب المال مع اشتراط العمل عليه م: (مانعا من التسليم والتخلية بين المال والمضارب، بخلاف اشتراط العمل على رب المال لأنه) ش: أي لأن اشتراطه على رب المال م: (مانع من التسليم) ش: والتخلية إذا كان إلغاء فقد بطل م: (على ما مر) ش: أي عند قوله وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد، لأنه يمنع خلوص يد المضارب م: (وإذا صحت المضاربة) ش: المذكورة م: (يكون الثلث) ش: أي ثلث الربح م: (للمضارب بالشرط والثلثان للمولى، لأن كسب العبد للمولى إذا لم يكن عليه دين) ش: لأن العبد وما في يده لمولاه.
م: (وإن كان عليه دين) ش: أي على العبد م: (فهو للغرماء) ش: لأن المولى لا يملك إكساب(10/73)
هذا إذا كان العاقد هو المولى، ولو عقد العبد المأذون عقد المضاربة مع أجنبي وشرط العمل على المولى لا يصح إن لم يكن عليه دين؛ لأن هذا اشتراط العمل على المالك وإن كان على العبد دين صح عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المولى بمنزلة الأجنبي عنده على ما عرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عبد المديون.
م: (هذا) ش: أي الذي ذكرناه من الحكم م: (إذا كان العاقد هو المولى. ولو عقد العبد المأذون عقد المضاربة مع أجنبي وشرط العمل على المولى لا يصح إن لم يكن عليه دين، لأن هذا) ش: الشرط م: (اشتراط العمل على المالك) ش: واشتراط العمل على المالك يفسد المضاربة على ما مر.
م: (وإن كان على العبد) ش: أي العبد المأذون له المذكور م: (دين صح) ش: أي اشتراط العمل على المولى م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المولى بمنزلة الأجنبي عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (على ما عرف) ش: أي في كتاب المأذون.
وعندهما: لا يصح هذا، فحينئذ الاشتراط على المولى يفسد، وبه قالت الأئمة الثلاثة.(10/74)
فصل في العزل والقسمة قال: وإذا مات رب المال والمضارب بطلت المضاربة؛ لأنه توكيل على ما تقدم، وموت الموكل يبطل الوكالة، وكذا موت الوكيل ولا تورث الوكالة وقد مر من قبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في العزل والقسمة]
[موت رب المال والمضارب]
م: (فصل في العزل والقسمة)
ش: أي عزل المضارب وفي بيان أحكام القسمة، أي قسمة المضارب قاله السغناقي، والأولى أن يقال قسمة الربح على ما لا يخفى.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا مات رب المال والمضارب) ش: أي أو مات المضارب م: (بطلت المضاربة لأنه) ش: أي لأن المضاربة، وتذكير الضمير إما باعتبار العقد وإما باعتبار المذكور.
ولو قال لأنها كان أولى م: (توكيل) ش: أراد أن مبناها على الوكالة، لأن المضاربة عقد على الشركة بمال أحد الجانبين والعمل من الآخر، فإذا كان مبناها على الوكالة تبطل بموتهما أو موت أحدهما كما في الوكالة م: (على ما تقدم) ش: في قوله في أول الباب وهو وكيل فيه، لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه.
م: (وموت الموكل يبطل الوكالة) ش: لأن الوكالة عقد جائز غير لازم فكان لبقائه حكم الابتداء فيشترط قيام الأمر في كل ساعة م: (وكذا) ش: أي تبطل الوكالة عند م: (موت الوكيل) ش: لقيامها به ولا نعلم فيه خلافا م: (ولا تورث الوكالة) ش: لأنها غير لازمة كما ذكرنا فلا ينتقل إلى ورثته م: (وقد مر) ش: أي حكم بطلان الوكالة بموتهما أو موت أحدهما م: (من قبل) ش: أي من قبل هذا الباب، وأراد به باب عزل الوكيل في كتاب الوكالة.
ثم اعلم أن كون المضارب كالوكيل ليس بكلي بل يفترقان في مسائل: منها: أن الوكيل إذا دفع إليه الثمن قبل الشراء فإنه يرجع به على الموكل، ثم لو هلك ما أخذه ثانيا لا يرجع به مرة بعد أخرى. وأما المضارب فيرجع به على رب المال مرة بعد أخرى إلى أن يصل الثمن إلى البائع.
وجه الافتراق أن شراء الوكيل يوجب الثمن عليه على البائع، وله على الموكل بعد الشراء صار مقضيا ما استوجبه دينا عليه وصار مضمونا عليه بالقبض، فإذا هلك في ضمانه فلا يرجع ثانيا، وأما المضارب إذا رجع على المال فما يقبضه يكون أمانة في يده، فإذا هلك كان هلاكه على رب المال فيرجع عليه مرة بعد أخرى، ولكن لو نظرنا إلى كون المال أمانة في أيديهما كان حكمهما واحدا من هذا الوجه.(10/75)