والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع، وهو مبادلة المال بالمال فإنه مال عند البعض، والباطل لا يفيد ملك التصرف، ولو هلك المبيع في يد المشتري فيه يكون أمانة، عند بعض المشايخ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك، وعند البعض يكون مضمونا لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[البيع بالخمر والخنزير]
م: (والبيع بالخمر والخنزير فاسد لوجود حقيقة البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فإنه مال عند البعض) ش: وهما من أعز الأموال عند أهل الذمة، وفي " المبسوط ": البيع بالخمر عندنا يوجب الملك بالقبض، فإن محل العقد المالية في البدلين وبتخمير العصير لا تنعدم المالية وإنما ينعدم التقوم شرعا. فإن المالية تكون منتفعا بها وقد أثبت الله تعالى ذلك في الخمر بقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] (البقرة: الآية 219) ، ويفيد الملك البيع بها إذا اتصل القبض بإذن البائع صريحا أو دلالة بأن يقبضه المشتري عقيب البيع، ولأنها البائع والفرق بين الفصلين، أعني كون البيع بالدم والميتة باطلا وبالخمر والخنزير فاسدا إن الباطل لا يفيد الملك وإن اتصل به القبض والفاسد يفيد كما ذكرنا الآن.
وفائدة هذا أنه لو كان المشتري عبدا فأعتقه المشتري بعد القبض لا ينفذ في الأول وينفذ في الثاني، ولو جاء مستحق فاستحق على المشتري لا خصومة بين المستحق وبين المشتري في الأول، وفي الثاني يكون المشتري خصما حتى يستمع البينة عليه، لأنه ملكه. ثم إذا لم يعد الملك في الوجه الأول هل يصير المقبوض مضمونا عليه بالقبض أم لا؟ اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيه، أشار إلى بيانه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (والباطل لا يفيد ملك التصرف، ولو هلك المبيع في يد المشتري فيه) ش: أي في البيع الباطل م: (يكون أمانة عند بعض المشايخ) ش: أراد به الشيخ أبا نصر أحمد بن علي الطواديسي وهو أستاذ شيخ الإسلام أبي بكر المعروف بخواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: هو أمانة وليس بمضمون وهو رواية الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإليه ذهب الشيخ أبو الحسن الشرعي م: (لأن العقد غير معتبر) ش: لكونه باطلا م: (فبقي القبض بإذن المالك) ش: فتكون أمانة، وكذا البيع بالبول باطل وكذا بيع المحرم للصيد، لأن صيد البر حرام على المحرم كالميتة، فيكون بيعه باطلا.
م: (وعند البعض) ش: أراد به شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروى ابن سماعة عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكون مضمونا كما قال به البعض: م: (يكون مضمونا لأنه لا يكون أدنى حالا من المقبوض على سوم الشراء) ش: فذاك مضمون فكذا هذا والمضمون بالقيمة أو بالمثل وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وصورة المقبوض على سوم الشراء هو أن يسمي الثمن فيقول: اذهب بهذا فإن رضيت اشتريته بعشرة. أما إذا لم يسم الثمن فذهب به فهلك عنده لا يضمن نص عليه الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - "في العيون ".(8/140)
وقيل الأول قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والثاني قولهما، كما في بيع أم الولد والمدبر، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
والفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به، ويكون المبيع مضمونا في يد المشتري فيه، وفيه خلاف الشافعي وسنبينه إن شاء الله تعالى بعد هذا،
وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل؛ لأنها ليست أموالا فلا تكون محلا للبيع. وأما بيع الخمر والخنزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله، وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل) ش: قائله محمد بن سلمة البلخي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (الأول قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والثاني قولهما) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كما في بيع أم الولد والمدبر) ش: يعني إذا هلك عند المشتري فهو على هذا الخلاف م: (على ما نبينه إن شاء الله تعالى) ش: يعني في بابه.
م: (والفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض به) ش: أي بالبيع الفاسد يعني إذا كان القبض بإذن المالك باتفاق الروايات بملكه م: (ويكون المبيع مضمونا في يد المشتري فيه) ش: أي في البيع الفاسد والضمان بالقيمة أو بالمثل.
قال مشايخ العراق: إن المشتري شراء فاسدا يملك التصرف فيه باعتبار تسليط البائع على ذلك لا باعتبار تملك العين، بدليل عدم جواز وطء الجارية مشتراة شراء فاسدا، وكذا لا يحل أكل طعام اشتراه شراء فاسدا. وذهب مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلى أن جواز التصرف بناء على ملك العين، واستدلوا بما إذا اشترى دارا بشراء فاسد وقبضها فبيع بجنبها دار للمشتري له أن يأخذها بالشفعة لنفسه. وكذا لو رد المشتري الجارية المشتراة شراء فاسدا يجب على البائع استبراؤها ولو أعتق المشتري العبد المشترى شراء فاسدا من الأب أو الوصي جاز عتقه ولو كان عتقه على وجه التسليط لما جاز، لأن عتقهما أو تسليطهما على العتق لا يجوز، فعلم بهذه الأحكام أنه يملك العين.
م: (وفيه) ش: أي وفي كون البيع مضمونا في يد المشتري في البيع الفاسد م: (خلاف الشافعي) ش: فعنده ليس بمضمون، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وسنبينه إن شاء الله تعالى بعد هذا) ش: أي في أول الفصل الذي يلي هذا الباب، وفي بعض النسخ وسنبينه بعد إن شاء الله تعالى.
[بيع الميتة والدم والحر]
م: (وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل؛ لأنها ليست أموالا فلا تكون محلا للبيع، وأما بيع الخمر والخنزير إن كان قوبل بالدين) ش: أي بما يجب في الذمة م: (كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين) ش: مثل ثوب مثلا م: (فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله) ش: وهو الثوب م: (وإن كان لا يملك عين الخمر والخنزير) ش: كلمة "إن" واصلة بما قبلها.(8/141)
ووجه الفرق أن الخمر مال وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة، إلا أنه غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه، وفي تملكه بالعقد مقصود إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم فالدراهم غير مقصودة لكونها وسيلة، لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود الخمر، فسقط التقوم أصلا، بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر؛ لأن مشتري الثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر، وفيه إعزاز الثوب دون الخمر، فبقي ذكر الخمر معتبرا في تملك الثوب لا في حق نفس الخمر حتى فسدت التسمية، ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه مقايضة.
قال: وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد ومعناه باطل، لأن استحقاق العتق قد ثبت لأم الولد لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها ولدها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ووجه الفرق) ش: بين الصورتين م: (أن الخمر مال وكذا الخنزير مال عند أهل الذمة إلا أنه) ش: أي أن كل واحد منهما م: (غير متقوم لما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه، وفي تملكه بالعقد مقصود إعزاز له) ش: أي في جعله مبيعا إعزاز له وهو خلاف المأمور به، وأوضح ذلك بقوله م: (وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم فالدراهم غير مقصودة لكونها وسيلة) ش: إلى تحصيل الخمر أو الخنزير م: (لما أنها) ش: أي أن الدراهم م: (تجب في الذمة، وإنما المقصود الخمر فسقط التقوم أصلا) ش: لئلا يفضي إلى خلاف المأمور به. م: (بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر؛ لأن مشتري الثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر، وفيه إعزاز الثوب دون الخمر، فبقي ذكر الخمر معتبرا في تملك الثوب لا في حق نفس الخمر حتى فسدت التسمية، ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر لكونه مقايضة) ش: أي لكون البيع مقايضة وهو بيع العرض بالعرض، والعرض هو المتاع القيمي كائنا ما كان، وفي المجمل بقيض المثل. ويجوز أن يقال على هذا إنما سمي هذا النوع من البيع مقايضة لأن العرض بمثل العرض في العينة، ويقال هما قيضان أي متساويان. فإن قلت: في هذا تعبير للعقد لأن العاقد قد جعل الخمر مبيعا بدلالة الباقي الثوب، وفي هذا يصير ثمنا فيكون تعبيرا.
قلت: التعبير أهون من البطلان فلو لم يجعل كذلك يبطل مع أن المقايضة يصلح أن يكون كل واحد ثمنا ومثمنا فلا يلزم التعبير.
[بيع أم الولد والمدبر والمكاتب]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب فاسد ومعناه باطل؛ لأن استحقاق العتق قد ثبت لأم الولد لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «أعتقها ولدها» ش: هذا رواه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «أعتقها ولدها» رواه ابن ماجه والدارقطني، وإبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مارية(8/142)
ولسبب الحرية قد انعقد في حق المدبر في الحال لبطلان الأهلية بعد الموت، والمكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى. ولو ثبت الملك بالبيع، لبطل ذلك كله، فلا يجوز، ولو رضي المكاتب بالبيع ففيه روايتان، والأظهر الجواز، والمراد المدبر المطلق دون المقيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القبطية، وهذا حجة على بشر وداود - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تجويزهما بيعهما ولفظ الحديث يوجب الإعتاق الحقيقي، لكن حمل على حق العتق.
وفي شرح " المجمع والمجاز ": مراد في هذا اللفظ بالإجماع م: (ولسبب الحرية قد انعقد في حق المدبر في الحال لبطلان الأهلية بعد الموت) ش: اعتبر التدبير سببا في الحال على خلاف سائر التعليقات، فإن فيها الشرط مانعا لانعقاده سببا في الحال، لأن بعد الموت حال لبطلان الأهلية.
فمتى قلنا إنه ينعقد سببا بعد الموت، احتجنا إلى بقاء الأهلية والموت ينافي الأهلية، فدعت الضرورة إلى القول بانعقاده سببا في الحال، فتأخر الحكم إلى ما بعد الموت، فصار طريقه طريق الوصية، فإن الوصية تنعقد سببا في الحال للخلافة بعد الموت، وإذا ثبت القول بانعقاده سببا في البيع، امتنع البيع كذا في " الإيضاح " م: (والمكاتب استحق يدا على نفسه لازمة في حق المولى) ش: بدليل أن المولى لا يملك فسخ الكتابة بدون رضا المكاتب، إنما قال: لازمة في حق المولى لأنها غير لازمة في حق المكاتب بقدرته على فسخ الكتابة.
م: (ولو ثبت الملك بالبيع) ش: أي بيع المكاتب م: (لبطل ذلك كله) ش: أي لبطل استحقاق اليد اللازمة م: (فلا يجوز) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله لبطل ذلك كله، أي لو صح بيع هؤلاء لبطل ما قلنا من المعاني وهي استحقاق أم الولد العتق، وانعقاد سبب الحرية للمدبر في الحال واستحقاق المكاتب يدا على نفسه لازمة في حق المولى فلم يجز بيعهم، لئلا تبطل هذه المعاني. انتهى كلامه، ولهذا لو حلف لا ببيع فباع هؤلاء لا يحنث ذكره في " جامع المحبوبي ".
م: (ولو رضي المكاتب بالبيع) ش: أي بيع نفسه م: (ففيه) ش: أي في جوازه م: (روايتان والأظهر الجواز) ش: لأن عدمه كان لحقه، فلما أسقط حقه برضاه، انفسخت الكتابة وجاز البيع.
وروي في " النوادر " أنه لا يجوز، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بيع المكاتب قولان أصحهما أنه لا يجوز، وبه قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال في القديم: يجوز م: (والمراد المدبر) ش: أي المدبر الذي لا يجوز بيعه هو م: (المطلق) ش: وهو الذي علق عتقه بالموت من غير تعرض نصفة، كقوله أنت حر بعد موتي أو إن مت فأنت حر م: (دون المقيد) ش: أي دون المدبر المقيد، مثل قوله إذا قدمت من سفري هذا فأنت حر وإن مت من مرضي هذا فأنت حر ويباع المدبر المقيد بالإجماع.
وروى الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر وشريح(8/143)
وفي المطلق خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد ذكرناه في العتاق.
قال: وإن ماتت أم الولد أو المدبر في يد المشتري، فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: عليه قيمتهما، وهو رواية عنه لهما أنه مقبوض بجهة البيع فيكون مضمونا عليه كسائر الأموال، وهذا لأن المدبر وأم الولد يدخلان تحت البيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وسعيد بن المسيب والشعبي وإبراهيم وعطاء وابن سيرين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنهم قالوا: لا يباع المدبر إلا من نفسه، وهو قول أصحابنا وسفيان الثوري ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وفي المطلق) ش: أي في المدبر المطلق م: (خلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد ذكرناه في العتاق) ش: وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاق - رحمهما الله - يجوز بيع المدبر، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع المدبر» . وجوابه ما رواه محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل عن أبي جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما باع خدمة المدبر ولم يبع رقبته أو بقوله المراد منه المدبر المقيد.
م: (قال: وإن ماتت أم الولد أو المدبر في يد المشتري فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: صورة المسالة في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن باع أم ولده أو مدبره له فماتت في يد المشتري قال: لا ضمان عليه.
م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (عليه) ش: أي على المشتري م: (قيمتهما، وهو رواية عنه) ش: أي قولهما رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا هو المعلوم من ظاهر كلام المصنف، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا ليس على ظاهره، بل الروايتان عنه في حق المدبر، روى المعلى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يتضمن قيمة المدبر بالبيع كما يضمن بالغصب، وأما في حق أم الولد فانتفت الروايات عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يضمن بالبيع والغصب لأنه لا يقوم لماليتها. قلت: هذا من كلام السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقله الأكمل، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال بعضهم في شرحه: فالروايتان عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حق المدبر إلى آخر ما ذكره الأكمل وأراد الأترازي بقوله قال بعضهم السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي أن كل واحد من المدبر وأم الولد م: (مقبوض بجهة البيع) ش: لأنهما يدخلان تحت العقد وما هو كذلك م: (فيكون مضمونا عليه) ش: بالقيمة م: (كسائر الأموال) ش: المقبوضة على سوم الشراء م: (وهذا) ش: إشارة إلى كونهما مقبوضين بجهة البيع م: (لأن المدبر وأم الولد يدخلان تحت البيع) .(8/144)
حتى يملك ما يضم إليهما في البيع، بخلاف المكاتب لأنه في يد نفسه فلا يتحقق في حقه القبض، وهذا الضمان به وله أن جهة البيع إنما تلحق بحقيقته في محل يقبل الحقيقة وهما لا يقبلان حقيقة البيع، فصارا كالمكاتب، وليس دخولهما في البيع في حق أنفسهما. وإنما ذلك ليثبت حكم البيع فيما ضم إليهما، فصار كمال المشتري لا يدخل في حكم عقده بانفراده، وإنما يثبت حكم الدخول فيما ضمه إليه، كذا هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وأوضح ذلك بقوله م: (حتى يملك ما يضم إليهما في البيع) ش: بأن جمع بين قن وبين أحدهما وسمى الثمن صح البيع في القن بحصته من الثمن م: (بخلاف المكاتب) ش: جواب عما يقال: لو كان الدخول تحت البيع وتملك ما يضم إليه موجبان للضمان لكان في المكاتب كذلك وتقرير الجواب أن المكاتب يخالفه م: (لأنه في يد نفسه فلا يتحقق في حقه القبض وهذا الضمان به) ش: أي بالقبض وبحقيقته أن المدار هو القبض لا الدخول في العقد وتملك المضموم.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن جهة البيع إنما تلحق بحقيقته) ش: أي بحقيقة البيع م: (في محل يقبل الحقيقة) ش: أي حقيقة حكم البيع وهو الملك م: (وهما) ش: أي أم الولد والمدبر م: (لا يقبلان حقيقة البيع فصار كالمكاتب) ش: في كونه غير قابل للحقيقة أي حقيقة البيع وهو الملك م: (وليس دخولهما في البيع) ش: هذا جواب عن قولهما يدخلان تحت البيع، وتقريره أنه ليس دخول أم الولد والمدبر في البيع م: (في حق أنفسهما) ش: لذاتهما بل ليفيد حكم البيع في المضموم إليهما وهو معنى قوله.
م: (وإنما ذلك) ش: أي دخولهما في البيع م: (ليثبت حكم البيع فيما ضم إليهما، فصار كمال المشتري لا يدخل في حكم عقده بانفراده) ش: يعني لو اشترى مال نفسه لا يجوز م: (وإنما يثبت حكم الدخول فيما ضمه إليه) ش: أي فيما ضمه المشتري إلى عقده بأن باع عبده مع عبد البائع فاشتراهما المشتري دخل في البيع ليفيد الحكم في مال البائع حتى انقسم الثمن عليهما فصح البيع في مال البائع بحصته من الثمن.
م: (كذا هذا) ش: أي كذلك الحكم فيما نحن فيه يعني يثبت حكم الدخول في البيع في حق المضمون إليه وهو القن لا في حكم أم الولد والمدبر، ثم اعلم أن قيمة المدبر ماذا؟ فيه اختلاف المشايخ. قال في " الفتاوى الصغرى ": قال بعضهم: تمام قيمة القن وهذا غير سديد فإنه ذكر في المسألة يضمن ما نقصه التدبير، وذكر الإمام علي السعدي في "فوائده" قيمته ثلثا قيمة القن وذكره خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال بعضهم: نصف قيمة القن وهكذا في فتاوى أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه يفتى، وبعضهم قالوا: قيمته قيمة الخدمة ينظر بكم يستخدم هو مدة عمره من حيث الحرز والقن، وما(8/145)
قال: ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصطاد؛ لأنه باع ما لا يملكه، ولا في حظيرة إذا كان لا يؤخذ إلا بصيد؛ لأنه غير مقدور التسليم، ومعناه إذا أخذه ثم ألقاه فيها ولو كان يؤخذ من غير حيلة جاز إلا إذا اجتمعت فيها بأنفسها ولم يسد عليها المدخل لعدم الملك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال خواهر زاده: هو الأصح، وعليه الفتوى إلى هاهنا كلام " الفتاوى الصغري ".
[بيع السمك قبل أن يصطاد]
م: (قال) ش: أي القدوري، - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصطاد؛ لأنه باع ما لا يملكه) ش: ولا خلاف فيه بين الأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (ولا في حظيرة) ش: أي ولا يجوز بيعه أيضا في حظيرة كالحوض والبركة م: (إذا كان لا يؤخذ إلا بصيد؛ لأنه غير مقدور التسليم) ش: وفي " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن باع سمكة في حظيرة ولا يستطيع أن يخرجهن منها، غير أنهن لا يؤخذون بغير صيد فالبيع فاسد، وإن كن يؤخذن بغير صيد فالبيع جائز، والمشتري بالخيار إذا رآهن.
قال فخر الإسلام: معنى المسألة إذا كان البائع أخذها ثم ألقاها في حظيرة ماء فكانت ملكا له، يعني معنى قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز بيع السمك إذا كان يؤخذ من غير صيد صح البيع لأنه باع ما يملكه وإليه أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (ومعناه إذا أخذه) ش: أي السمك م: (ثم ألقاه فيها) ش: أي في الحظيرة.
م: (ولو كان يؤخذ من غير حيلة جاز) ش: وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير " ذكر محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "المسائل الرقبانيات": لو أن رجلا اتخذ حظيرة في أرضه فدخل أينما اجتمع فيه السمك فقد ملك السمك وليس لأحد أن يأخذه، ولو اتخذ لحاجة أخرى، فمن اتخذ السمك فهو له.
قال: وكذلك الرجل حفر في أرضه حفيرة فوقع صيد فتكسر فإن اتخذ ذلك الموضع للصيد فهو له، وقد ملكه ذلك للصيد إلا فهو لمن أخذه م: (إلا إذا اجتمعت) ش: استثناء من قوله جاز يعني لا يجوز بيع السمك إذا اجتمعت م: (فيها) ش: أي في الحظيرة م: (بأنفسها) ش: من غير اصطياد لها، فإذا اجتمعت فيها باحتيال يجوز بيعها إذا كانت تؤخذ بغير صيد م: (ولم يسد عليها المدخل) ش: أي موضع دخول الماء، وقيد به لأنه لو سد موضع الدخول حتى صار بحيث لا يقدر على الخروج فقد صار أخذا له بمنزلة ما لو وقع في شبكة فيجوز بيعه، وإن لم يفعل ذلك لم يجز بيعه م: (لعدم الملك) ش: وصحة البيع بناء على صحة الملك.
وقال الأكمل: هذا الاستثناء منقطع لكونه مستثنى من المأخوذ الملقى في الحظيرة، والمجتمع فيه بنفسه ليس بداخل فيه، وفيه إشارة إلى أنه لو سد صاحب الحظيرة عليها ملكها أما بمجرد الاجتماع في ملكه فلا، كما لو باض الطير في أرض إنسان أو خرجت فإنه لا يملك لعدم(8/146)
قال: ولا بيع الطير في الهواء لأنه غير مملوك قبل الأخذ، وكذا لو أرسله من يده لأنه غير مقدور التسليم. ولا بيع الحمل ولا النتاج لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحبل وحبل الحبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإحراز، ولا يشكل بما إذا عسل النحل في أرضه فإنه يملك بمجرد اتصاله بملكه من غير أن يحترزه أو يهيئ له موضعا، لأن العسل إذ ذاك قائم بأرضه على وجه القرار فصار كالشجر الثابت فيها بخلاف بيض الطير وفرخها، والسمك المجتمع بنفسه فإنها ليست على وجه القرار.
وفي " الحلية " وحكي عن عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز بيع السمك في بركة عظيمة وإن احتيج إلى مؤنة كثيرة، وحكى أبو العباس هذا قولا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا بيع الطير في الهواء) ش: وفي بعض النسخ ولا يجوز بيع الطير في الهواء م: (لأنه غير مملوك قبل الأخذ، وكذا لو أرسله من يده) ش: أي ولو كان الطير لأحد وأرسله من يده أو انتقلت منه فلا يجوز أيضا وعلل الصورة بقوله: م: (لأنه غير مقدور التسليم) ش: والحاصل أن بيع الطير على ثلاثة أوجه: الأول بيعه في الهواء قبل أن يصطاده، والثاني: بيعه بعد أخذه وأرسله من يده، والثالث: بيع طير يذهب ويجيء كالحمام فالكل لا يجوز.
وذكر في " فتاوى قاضي خان ": وإن باع طيرا لدى الهواء إن كان ذا جناح يعود إلى بيته ويقدر على أخذه من غير تكلف جاز بيعه وإلا فلا، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان صاحب الهداية اختار هذا حيث قال قريبا من ورقة، والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمه جاز بيعها لأنه مقدور التسليم.
م: (ولا بيع الحمل) ش: أي الجنين م: (ولا النتاج) ش: أي ولا بيع النتاج وهو حبل الحبل م: «لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحبل وحبل الحبلة» ش: هذا غريب بهذه اللفظة وفيه أحاديث:
روى عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه": أخبرنا محمود بن عيينة عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه نهى عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة» قال: والمضامين ما في أصلاب الإبل، والملاقيح ما في بطونها وحبل الحبلة ولد ولد هذه الناقة.
وروى الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة،» ورواه البزار - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرفوعا نحوه عن أبي هريرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأخرجت الستة من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن(8/147)
لأن فيه غررا. قال: ولا اللبن في الضرع للغرر فعساه انتفاخ، ولأنه ينازع في كيفية الحلب وربما يزداد، فيختلط المبيع بغيره. قال: ولا الصوف على ظهر الغنم لأنه من أوصاف الحيوان، ولأنه ينبت من أسفل فيختلط المبيع بغيره، بخلاف القوائم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» والحبل بفتح الباء الموحدة يطلق ويراد به المصدر ويراد به الاسم، كما يقال له الحمل أيضا، وأما دخول تاء التأنيث في الحبلة فقال أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - "في غريب الحديث " إنما دخلت عليه للإشعار بالأنوثة فيه، وقيل: إن الهاء فيه للمبالغة كما في صخرة.
وقال شيخنا في شرح الترمذي: ويحتمل أن يكون جمع حابلة، فقد حكى صاحب المحكم امرأة حابلة من نسوة حبلة، وروى بعض الفقهاء حبلة بكسر الباء ولم يثبت، م: (ولأن فيه غررا) ش: أي ولأن في بيع الحمل والنتاج غررا أي خطرا الذي لا يدري ليكون أم لا م: (قال: ولا اللبن) ش: يجوز بالرفع والجر على حذف المضاف وإثباته تقديرا، أي لا يجوز بيع اللبن م: في الضرع) ش: وبه قال: الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك: يجوز أياما معلومة إذا عرف قدر حلابها، ويكون التسليم بالتخلية كالثمار على رؤوس الشجر.
وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز في الزمان المعروف لإمكان تسليمه، وعلل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدم جوازه بوجوه ثلاثة:
الأول: قوله: م: (للغرر) ش: وقد نهي عن الغرر م: (فعساه انتفاخ) ش: أي فعل الضرع منتفخ فيظن لبنا وهو الغرور.
والثاني: وهو قوله: م: (لأنه) ش: أي ولأن المشتري م: (ينازع) ش: على صيغة المجهول م: (في كيفية الحلب) ش: فإن المشتري يستقضي في الحلب والبائع ينازعه ويطالبه بأن يترك أوعية اللبن.
والثالث: وهو قوله: م: (وربما يزداد) ش: اللبن ساعة فساعة م: (فيختلط المبيع بغيره) ش: على وجه يتعذر تميزه ويبطل البيع، م: (قال: ولا الصوف) ش: أي ولا يجوز بيع الصوف حال كونه م: (على ظهر الغنم) ش: وبه قال الشافعي وأحمد وقال مالك والليث بن سعد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجوز بشرط الجر لإمكان تسليمه م: (لأنه من أوصاف الحيوان) ش: جعل الصوف وصفا لأنه تبع للحيوان، فلما كان تبعا لم يجز جعله مقصودا بإيراد العقد عليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الصوف م: (ينبت من أسفل) ش: بالضم على البناء لأنه أحد الجهات الست م: (فيختلط المبيع بغيره) ش: لأنه يزداد ساعة فساعة م: (بخلاف القوائم) ش: هذا جواب عما يقال القوائم متصلة بالشجر وجاز بيعها، فأجاب بقوله: بخلاف القوائم أي القوائم(8/148)
لأنها تزيد من أعلى، وبخلاف القصيل لأنه يمكن قلعه، والقطع في الصوف متعين فيقع التنازع في موضع القطع، وقد صح أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم، وعن لبن في ضرع، وسمن في لبن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخلاف، م: (لأنها تزيد من أعلى) ش: فلا يلزم الاختلاط حتى لو ربطت خيطا في أعلاها وتركت أياما يبقى الخيط أسفل مما في رأسها الآن، وإلا على ملك المشتري.
وما وقع من الزيادة وقع على ملكه، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول: الصحيح عندي أن بيع قوائم الخلاف لا يجوز، وإن كان ينمو من أعلاه لموضع القطع مجهول.
م: (وبخلاف القصيل) ش: هذا أيضا جواب عما يقال القصيل، كالصوف وجاز بيعه، فأجاب بخلاف القصيل فإن بيعه يجوز، م: (لأنه يمكن قلعه) ش: يعني إن أمكن وقوع التنازع فيه من حيث القطع لا يمكن وقوعه من حيث القلع فيقلع، وفي " الفتاوى الصغرى " وبيع الكراث يجوز وإن كان ينمو من أسفله للتعامل م: (والقطع في الصوف متعين) ش: يريد بهذا بيان الفرق بين بيع الصوف على ظهر الشاة وبين بيع القصيل، يعني أن بيع القصيل يجوز لأن القلع فيه معتاد كالقطع فلا يقع التنازع في موضع القطع لا محالة، والقطع من الصوف متعين معتاد بين الناس والقلع فيه وهو نتفه ليس بمعهود بين الناس م: (فيقع التنازع في موضع القطع) ش:.
فلا يجوز بجهالة موضع القطع م: (وقد صح أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم وعن لبن في ضرع وسمن في لبن» ش: روي هذا الحديث موقوفا ومرفوعا ومسندا ومرسلا فالمرفوع المسند رواه الطبراني في معجمه حدثنا عثمان بن عمر الضبي حدثنا حفص بن عمر الحوضي حدثنا عمر بن فروخ حدثنا حبيب بن الزبير عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يباع ثمرة حتى تطعم ولا يباع صوف على(8/149)
وهو حجة على أبي يوسف في هذا الصوف، حيث جوز بيعه، فيما يروى عنه.
قال: وجذع في السقف، وذراع من ثوب، ذكر القطع أو لم يذكره؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر، بخلاف ما إذا باع عشرة دراهم من نقرة فضة؛ لأنه لا ضرر في تبعيضه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظهر ولا لبن في ضرع» .
وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما عن عمر بن فروخ وقال الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأرسله وكيع عن عمر بن فروخ ثم أخرجه عن وكيع عن عمر بن فروخ مرسلا لم يذكر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال البيهقي: تفرد به معه عمر بن فروخ وليس بالقوي.
فقلت: نقل الذهبي توهين عمر بن فروخ عن أبي داود وابن معين وأبي حاتم، وأما المرسل فرواه أبو داود في مراسيله عن محمد بن العلاء عن ابن المبارك عن عمر بن فروخ عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر ابن عباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا حبيب بن الزبير.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن عكرمة عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن يباع لبن في ضرع أو سمن في لبن» م: (وهو حجة) ش: أي الحديث المذكور حجة م: (على أبي يوسف في هذا الصوف) ش: أي في الصوف على ظهر الغنم، وإنما قيد بقوله في هذا الصوف احترازا عن الصوف المجذوذ فإنه يجوز بيعه على جميع الروايات م: (حيث جوز بيعه فيما يروى عنه) ش: أي حيث جوز أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيع الصوف على ظهر الغنم فيما يروى عنه من ذلك، ووجهه أنه باع مالا منتفعا به مقدور التسليم في الحال، وذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الصلح لو صالح على صوف على ظهر الغنم جاز لأنه مستباح الأخذ منه قبل الذبح فجاز بيعه والصلح فيه كالقصل في الأرض.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وجذع في السقف، وذراع من ثوب) ش: يجوز الرفع والجر في إعراب الجذع والذراع على ما تقدم أي لا يجوز بيع جذع حال كونه في سقف ولا بيع ذراع من ثوب والمراد به ثوب يضره القطع كالعمامة والقميص والسراويل أما في الثوب الذي لا يضره القطع يجوز بيع ذراع منه كالكرباس، ويجوز بيع قفيز من صبرة كذا ذكره الإمام المحبوبي، وفي " الإيضاح " وكذا لو باع حلية من سيف لأنه لا يتخلص إلا بضرر أو نصف ذراع لم يدرك لأنه لا يمكن تسليمه إلا بقطع جميعه.
وكذا لو باع نصيبه من ثوب مشترك من غير شريكه وكذا لو باع ذراعا من خشبة م: (ذكر القطع أو لم يذكره) ش: يعني سواء ذكر موضع القطع من الثوب أو لم يذكره م: (لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر) ش: لا يقال إنه رضي بهذا الضرر حيث التزم ذلك لأن التزامه بدون العقد غير معتبر والعقد لم يوجه عليه م: (بخلاف ما إذا باع عشرة دراهم من نقرة فضة لأنه لا ضرر في تبعيضه)(8/150)
ولو لم يكن معينا لا يحوز لما ذكرنا، وللجهالة، أيضا ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري، يعود صحيحا؛ لزوال المفسد، بخلاف ما إذا باع النوى في التمر أو البذر في البطيخ حيث لا يكون صحيحا، وإن شقهما وأخرج المبيع؛ لأن في وجودهما احتمالا، أما الجذع فعين موجود.
قال: وضربة القانص، وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة مرة لأنه مجهول ولأن فيه غررا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي الجذع أو الذراع م: (ولو لم يكن معينا لا يجوز لما ذكرنا) ش: وهو أنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر.
م: (وللجهالة أيضا) ش: أي ولجهالة المبيع أيضا، ولا خلاف لأحد أن جهالة المبيع يمنع الجواز م: (ولو قطع البائع الذراع أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري) ش: البيع م: (يعود) ش: البيع م: (صحيحا لزوال المفسد) ش: فزال المانع م: (بخلاف ما إذا باع النوى في التمر أو البذر) ش: أي أو باع البذر لأن في وجودهما احتمالا، أي في وجوده م: (في البطيخ حيث لا يكون صحيحا، وإن شقهما) ش: أي التمر والبطيخ م: (وأخرج المبيع) ش: وهو النوى أو البذر م: (لأن في وجودهما احتمالا) ش: أي في وجود النوى في التمر والبذر في البطيخ، احتمالا يعني يجوز أن يكون في زمان البيع.
م: (أما الجذع فعين موجود) ش: ومحسوس ولا احتمال فيه، وفيه إشارة إلى تمام الفرق بين البذر والنوى والجذع المعين في السقف، فإن الجذع معين موجود، والبذر والنوى ليس كذلك والبذر بكسر الباء وفتحها بذر البقل وغيره.
فإن قيل: إذا باع جلد الشاة المعينة قبل الذبح لا يجوز، ولو ذبح الشاة وسلخ جلدها وسلمه لا ينقلب المبيع جائزا، وإن كان الجلد عينا موجودة كالجذع في السقف، وكذا بيع كرشها وأكارعها.
أجيب: بأن البيع وإن كان موجودا فيه لكنه متصل بغير انفصال خلقة فكان متابعا فكان العجز عن التسليم هناك معنى أصليا لأنه اعتبر عاجزا حكما لما فيه من إفساد شيء غير مستحق بالعقد، وأما العجز فإنه عين مال نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره بعارض فعل العباد والعجز عن التسليم حكمي لما فيه من إفساد لما هو غير مستحق بالعقد، فإذا أقلع والتزم الضرر زال المانع فيجوز.
[بيع ما يخرج من ضربة القانص]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وضربة القانص) ش: أي لا يجوز بيع ما يخرج من ضربة القانص أي الصياد بالشبكة، ولا خلاف فيه لأحد، وفسر المصنف ضربة القانص بقوله: م: (وهو ما يخرج من الصيد بضرب الشبكة مرة لأنه مجهول ولأن فيه غررا) ش:(8/151)
قال: وبيع المزابنة وهو بيع التمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصا؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن المزابنة والمحاقلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه يحتمل أن يحصل بشيء من الضربة ويحتمل أن لا يحصل، والقانص اسم فاعل من قنص يقنص قنصا إذا صاد من ضرب يضرب، وروي في " تهذيب الأزهري " أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ضربة الغاصي» بالغين المعجمة، والياء آخر الحروف وهو الغواص على اللآلي، وكذلك ذكر الزمخشري في الفائق، وفسر بقوله هي أن يقول للتاجر أغوص غوصة فما أخرجته فهو لك بكذا، وهذا هو الصحيح والمعنى فهما والحد وهو أنه بيع المجهول ولأنه معدوم في الحال.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وبيع المزابنة) ش: وهو عطف على ما ذكر قبل هذا بقوله ولا يجوز بيع السمك قبل أن يصاد، وكذا قاله الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه تعسف تقدير ولا يجوز بيع المزابنة عطفا على ما قبله ويجوز فيه الرفع والجر أيضا كما تقدم.
قال الأترازي: بيع الثمر بالثاء المثلثة بثمر مجذوذ بالثاء المثلثة من فوق، كذا وقع سماعنا مرارا بفرغانة وبخارى، وذلك لأن ما على النخل قد يكون رطبا وقد يكون تمرا إذا جف، فقلنا بالمثلثة حتى يعينها جميعا، والثالث من حال المجذوذ أن يكون تمرا فقلنا بالمثناة من فوق ولو رويا بالمثلثة فيهما حتى يعينها جميعا أو بالمثناة فيها جميعا، فالحكم كذلك لأن بيع المزابنة لا يجوز كيف ما كان لشبهة الربا سواء كان الرطب بالرطب أو التمر بالتمر أو أحدهما بالآخر.
وفسر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المزابنة بقوله: م: (وهو بيع التمر على النخيل بتمر مجذوذ) ش: أي مقطوع م: (مثل كيله خرصا) ش: أي من حيث الخرص وهو نصب على التمييز من مثل كيله، يقال: خرص النخل خروصا فيها من باب نصر ينصر كذا في " المغرب "، وفسر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - المزابنة بقوله وهو بيع التمر على النخل بخرصه تمرا، والمزابنة لغة المدافعة من الزبن وهو الدفع، وسمي هذا النوع من البيع بها لأنها تؤدي إلى النزاع والتدافع لأنها مبنية على التخمين والغبن فيها مما يكثر، فيريد المغبون دفعه والغابن إمضاءه فيتدافعان م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن المزابنة والمحاقلة» ش:، روي هذا عن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وروى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزابنة والمحاقلة، زاد في مسلم في لفظ: وعن التثنية إلا أن يعلم» وأخرجا أيضا من حديث أبي سعيد الخدري - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزابنة والمحاقلة» والمزابنة شراء التمر في رؤوس النخل والمحاقلة اكتراء الأرض.
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن(8/152)
فالمزابنة ما ذكرنا، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا، ولأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه، فلا يجوز بطريق الخرص، كما إذا كانا موضوعين على الأرض، وكذا العنب بالزبيب على هذا. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجوز فيما دون خمسة أوسق لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وهو أن يباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المحاقلة والمزابنة» وأخرج أيضا من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمخابرة والملامسة والمنابذة والمزابنة» .
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن المزابنة والمحاقلة» وأخرجه الترمذي أيضا عن أبي هريرة نحوه. ثم قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وسعد وجابر ورافع بن خديج وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قلت: حديث ابن عمر عند الشيخين، والثاني وحديث زيد عند الترمذي، وحديث أبي سعيد عند الدارمي والنسائي، وحديث رافع بن خديج عند الستة م: (فالمزابنة ما ذكرنا، والمحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصا) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال مالك: المحاقلة هي اكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها من الثلث أو الربع أو غيرهما.
وفي " الفائق ": الجعل القراح من الأرض وهي الطيبة التربة الخالصة من شائب النسج الصالحة للزرع ومنه حقل بحقل إذا زرع، والمحاقلة مفاعلة من ذلك وهي المزارعة بالثلث والربع وغيرهما، وقيل: هي اكتراء الأرض بالبر، وقيل: بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه إلى هاهنا لفظ " الفائق "، وجاء في أمثالهم ينبت البقلة إلا الحقلة. م: (ولأنه باع مكيلا بمكيل من جنسه فلا يجوز بطريق الخرص) ش: لاحتمال الربا م: (كما إذا كانا موضوعين على الأرض) ش: وباع أحدهما بالآخر خرصا م: (وكذا العنب بالزبيب) ش: أي وكذا لا يجوز بيع العنب بالزبيب م: (على هذا) ش: أي على الحكم المذكور وهو ما إذا كانا موضوعين على الأرض فبيع أحدهما بالآخر خرصا لاحتمال الربا م: (وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجوز) ش: أي شراء التمر بتمر مجذوذ على الأرض خرصا م: (فيما دون خمسة أوسق) ش: ولا يجوز فيما زاد عليها قولا واحدا، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قدر خمسة أوسق، له قولان في قول يجوز وهو منقول المزني عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفي قول: لا يجوز وهو مختار المزني وهو مذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأول هو الأظهر عند صاحب " الوجيز ".
م: (لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (نهى عن المزابنة ورخص في العرايا وهو أن يباع بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق) ش: حديث المزابنة قد تقدم وحديث العرايا أخرجه البخاري ومسلم عن داود بن الحصين عن أبي سفيان عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،(8/153)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق، شك داود فقال: دون خمسة أوسق» والعرايا جمع عرية وهي النخلة التي عريها الرجل محتاجا أي أن يجعل له ثمرتها فرخص للمعري أن يبتاع ثمرتها من العري بتمر لموضع حاجته بسبب عرية؛ لأنه إذا وهب ثمرتها فكأنه جردها من الثمرة وعراها منه، ثم اشتق منه الإعراء كذا قاله في " الفائق "، والكلام في العرايا كثير، وقد وضع الطحاوي لها بابا، فقال: باب العرايا، وقد بسطت الكلام فيه في شرحنا له.
فأول ما قلت: العرية فعلية، بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا قصده ويحتمل أن يكون فعلية، بمعنى فاعلة من عري يعري إذا خلع ثوبه كأنها عريت من جملة التحريم، فعريت أي خرجت، وذكر الطحاوي بطرق مختلفة كلها تدل على صحة العرايا، حتى قال الطحاوي: قد جاءت هذه الآثار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتواترت في الرخصة في بيع العرايا، فقبلها أهل العلم جميعا ولم يختلفوا في صحة مجيئها ولكن تنازعوا في تأويلها، فقال قوم: العرايا أن يكون الرجل له نخلة أو نخلتان في وسط النخيل الكثير لرجل آخر وقد كان أهل المدينة إذا كان وقت الثمار خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم فيجيء صاحب النخلة أو النخلتين بأهله فيضر ذلك بصاحب النخيل الكثير، فرخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصاحب النخل الكثير أن يعطي لصاحب النخلة أو النخلتين بخرص ماله من ذلك تمر لينصرف هو وأهله عنه ويخلص تمر الحائط كله لصاحب النخل الكثير، فيكون هو وأهله فيه.
وقد روي هذا القول عن مالك بن أنس.
قلت: وروي أيضا عن الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وسعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال قوم مثل هذا، إلا أنهم خصوا بذلك المساكين يجعل لهم تمر النخل فيصعب عليهم القيام عليها، فأبيح لهم أن يبيعوه بما شاءوا من التمر، وهذا قول سفيان بن حسين وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال قوم: العرية الرجل يعري النخلة أو يستثني من ماله النخلة أو النخلتين بأكلها، فيبيعها بمثل خرصها، وهو قول عبد العزيز بن سعيد الأنصاري - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال قوم: العرية أن يأتي أوان الرطب، وهنالك قوم فقراء لا مال لهم، ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ولهم فضول تمر من أموالهم، فإنه لهم أن يشتروا الرطب بخرصها فيما دون خمسة أوسق، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي ثور، ولا عرية عندهما في غير النخلة والعنب، وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكان أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول فيما سمعت أحمد بن عمران يذكر أنه سمع ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -(8/154)
قلنا: العرية: العطية لغة، وتأويله أن يبيع المعرى له ما على النخيل من المعري بتمر مجذوذ، وهو بيع مجازا لأنه لم يملكه فيكون برءا مبتدأ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: يعني ذلك عندنا أن يعري الرجل الرجل تمر نخلة من نخله فلم يسلم ذلك إليه حتى يبدو له، فرخص له أن يحبس ذلك. ويعطيه مكانه بخرصه تمرا وكان هذا التأويل أشبه وأولى مما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن العرية إنما هي العطية، ألا ترى إلى الذي مدح الأنصار كيف مدحهم، إذ يقول:
ليست بسنها ولا رجبية ... لكن عرايا في السنين الجوائح
أي: إنهم كانوا يعرونها في السنين الجوائح، فلو كانت العرية كما ذهب إليه مالك إذا لما كانوا ممدوحين بها إذا كانوا يصلحون كما يعطون، ولكن العرية بخلاف ذلك.
قلت: هذا الشعر لسويد بن الصامت من شعر الأنصار.
يقال: نخلة سنها، وهي التي تحمل سنة وتحول سنة فلا تحمل وذلك عيب في النخل، والرجبية بضم الراء وفتح الجيم وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف، وهي النخلة التي ترجب أي يبنى حولها جدار لتعتمد عليه، والجوائح جمع جائحة وهي الشدة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة، وجاح الله ماله وأجاحه ماله واجتاحه على واحد، أي أملكه بالجائحة.
قوله: أن تباع بخرصها تمرا منصوب على التمييز من بخرصها فإن قوله: أن تباع مسندا إلى ضمير يرجع إلى التمر الذي على رأس النخل، لأن الكلام فيه وأنت ضميره البارز في تخرصها على أنه جمع الثمرة، وفي مثله يجوز التذكير والتأنيث فكان تقديره، وهو أن يبيع العرايا، أن يباع التمر الذي على رأس النخل لخرصها تمرا مجذوذا بمثله خرصا، قوله: أوسق جمع وسق بفتح الواو وهو ستون صاعا وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز وأربعمائة وثمانون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد م: (قلنا: العرية: العطية لغة) ش: يعني العرية التي فيها الرخصة معناها في اللغة العطية دون البيع.
م: (وتأويله) ش: أي تأويل قوله: ورخص في العرايا م: (أن يبيع المعرى له) ش: أي الغرض م: (ما على النخيل من المعري) ش: بكسر الراء م: (بتمر مجذوذ) ش: أي مقطوع م: (وهو بيع مجازا) ش: نظرا إلى الصورة، حيث أعطي في مقابله شيء تحرزا عن الخلف فألقت أن ذلك كان على خمسة أوسق، فظن الراوي أن اختصار الرخصة على ذلك المقدار م: (لأنه لم يملكه) ش: أي لأن المعري لم يملك التمر الذي على رؤوس النخل لأنه لم يقبضه فكيف يكون بيعا م: (فيكون برءا مبتدأ) ش: أي يكون أعطى العري بكسر الراء التمر المجذوذ برا ابتداء لا بيعا له، قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأنه أعطى شجرة، وقال: كل من ثمارها ثم أعط مثل ما كان على(8/155)
قال: ولا يجوز البيع بإلقاء الحجر والمنابذة والملامسة، وهذه بيوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النخل يستقطع دخوله في البستان، وصار كما إذا اشترى المولى من عبده شيئا فأعطاه الثمن فيكون برا ابتداء بالإشراء.
فإن قلت: صرح.
قلت: في حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه الترمذي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا» فدل سياق الحديث أن المراد من العرايا بيع تمر بتمر أجيب: بأن القران في النظم لا يدل على القران في الحكم، وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف.
فإن قلت: جاء في حديث جابر أخرجه الطحاوي عن المزني عن الشافعي عن سفيان عن ابن جريج عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزابنة، إلا أنه رخص في العرايا» وأخرجه مسلم بأكثر منه، والاستثناء من البيع يدل على أن العرية هي البيع حملا للاستثناء على الحقيقة لأنه الأصل فيه.
أجيب: بأنه على ذلك التقدير ينافي قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التمر بالتمر مثلا بمثل» والمشهور قاض عليه.
فإن قلت: في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق» وهذا دليل على أنه بيع لأنه ينفي حكم ما فوق الخمسة، ولو لم يكن المراد البيع لم ينتف حكم الرخصة فيما فوقها.
أجيب: بأنه لا نسلم أنه ينفي ذلك لأن تخصيص الشيء بالشيء، لا يدل على نفي ما عداه، وفائدة التخصيص في الخمسة لما أنهم كانوا يعرون في هذا القدر، ولم يدل على نفي ما وراء ذلك، وقد ذكرنا عن قريب أن الراوي ظن اختصار الرخصة على ذلك.
وقال الأترازي: فإن قلت: إن كان الأمر على ما ذهب إليه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - من تفسير العرايا فما فائدة الرخصة فيها حينئذ.
قلت: فائدته ما روينا من " مختصر الطحاوي " وهو حصول الطيب للمعري، والمعرى وخروج المعرى من حكم الخلاف في الوعد، وخروج العري من حكم من أخذ عوضا من شيء لم يملكه.
[البيع بإلقاء الحجر والمنابذة والملامسة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز البيع بإلقاء الحجر والمنابذة والملامسة) ش: وفي بعض النسخ، ذكر قوله: والمنابذة بعد قوله والملامسة.
قلت: هذا هو الأصح، لأنه قال بعد ذلك م: (وهذه بيوع) ش: أشار بها إلى البيع بإلقاء(8/156)
كانت في الجاهلية وهو أن يتراوض الرجلان على سلعة -أي يتساومان - فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع، أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحجر والملامسة والمنابذة، وكذا في نسخة شيخنا العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كانت في الجاهلية، وهو أن يتراوض الرجلان) ش: وفي " المغرب " المراوضة المداراة والمخاتلة كفعل الرائض مع الريض، ومنها بيع المراوضة بيع المعاوضة عن الأزهري لأنه لا يخلق عن مداراة ومخاتلة وفي الإجارات، البائع والمشتري إذا تراوضا السلعة، أي تدار ما فيها وترك حرف الجر فيه نظر م: (على سلعة) ش: متعلق بقوله: يتراوض.
وفسر قوله: يتراوض الرجلان بقوله م: (أي يتساومان) ش: من التساوم ومن السوم، يقال: سام البائع السلعة، أي عرضها وذكر ثمنها وسامها المشتري، بمعنى استامها، ومنه: لا يسوم الرجل على سوم أخيه، أي لا يشتري، كذا في المغرب م: (فإذا لمسها) ش: أي السلعة م: (المشتري أو نبذها) ش: أي ألقاها م: (إليه) ش: أي إلى المشتري م: (البائع، أو وضع المشتري عليها) ش: أي على السلعة م: (حصاة لزم البيع) ش: وفي " شرح الوجيز ": للملامسة ثلاث تأويلات:
أحدها: أنه يأتي بثوب مطوي، أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول صاحبه بعتك هذا بكذا بشرط أن يقوم المسك هذا مقام نظرت، ولا خيار لك إذا رأيته، فهو تأويل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره"، وهذا البيع باطل.
والثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعا بأن يقول البائع للمشتري: إذا لمست ثوبي فهو مبيع، وهذا باطل لما فيه من التعليق.
والثالث: أن يبيعه شيئا على أنه متى يلمسه فقد وجب البيع وسقط خيار المجلس وهو فاسد أيضا.
وللمنابذة ثلاث تأويلات أيضا:
أحدها: أن يجعل نفس نبذ الثوب بأن يقول: انبذ ثوبي إليك وتنبذ ثوبك إلي، على أن كل واحد بالآخر.
والثاني: تأويل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " المختصر ": أن يقول: بعتك هذا بكذا على أني إذا نبذته إليك فقد وجب البيع.
والثالث: أن المراد منه نبذ الحصاة، وهو أن يقول: بعتك ثوبا من هذه الأثواب وأرمي به الحصاة فعلى أيها وقعت فهو المبيع، أو يقول: بعتك هذا هكذا على أنك بالخيار إلى أن ترمي بهذه الحصاة فالبيع باطل في الكل.(8/157)
فالأول بيع الملامسة، والثاني بيع المنابذة، والثالث إلقاء الحجر، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة والمنابذة. ولأن فيه تعليقا بالخطر.
قال: ولا يجوز بيع ثوب من ثوبين لجهالة المبيع، ولو قال على أنه بالخيار في أن يأخذ أيهما شاء، جاز البيع استحسانا، وقد ذكرناه بفروعه.
قال: ولا يجوز بيع المراعي ولا إجازتها، والمراد به الكلأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالأول: بيع الملامسة، والثاني: بيع المنابذة، والثالث: إلقاء الحجر، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة والمنابذة» ش: وقد مر هذا عن قريب من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، والمنابذة تتناول الكل.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعبارة الكتاب تشير إلى أن المنهي عنه منع الملامسة والمنابذة وبيع إلقاء الحجر ملحق بهما، لأنه في معناهما.
قلت: قد جاء في حديث أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر وبيع الحصاة» وما وقف الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا الحديث، فلذلك اقتصر على الكلام الذي قاله.
م: (ولأن فيه) ش: أي ولأن في كل واحد من هذه البيوع م: (تعليقا) ش: أي تعليق التمليك م: (بالخطر) ش: وفي " المغرب "، الخطر: الإشراف على الهلاك، قالت الشراح: وفيه معنى القمار لأن التمليك لا يحتمل التعليق لإفضائه إلى معنى القمار.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز بيع ثوب من ثوبين لجهالة المبيع، ولو قال على أنه بالخيار في أن يأخذ أيهما شاء جاز البيع استحسانا) ش: والقياس أنه لا يجوز، وبه قال: زفر والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال الكاكي: وكذا عبد من عبدين ولا خلاف فيه لأحد حتى إذا قبضهما وماتا، يضمن نصف قيمة كل واحد، لأن أحدهما مضمون بالقيمة لأنه مضمون بحكم البيع الفاسد، والآخر أمانة، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فشاعت خيار الأمانة والضمان م: (وقد ذكرناه بفروعه) ش: أي في باب خيار الشرط.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ولا يجوز بيع المراعي ولا إجارتها) ش: وفسر المصنف قول محمد هذا بقوله م: (والمراد به الكلأ) ش: أي المراد بالمراعي إطلاقا لاسم المحل على الحال، والكلأ واحد الأكلاء وهو كل ما رعته الدواب من الرطب واليابس، كذا في " المغرب "، وروي أن الكلأ ليس له ساق من الحشيش.
وقيل: ما له ساق وما ليس له ساق فهو كلأ، وإنما فسر المصنف المراعي بالكلأ، لأن لفظ المرعى يقع على موضع الرعي وهو الأرض، وعلى الكلأ وعلى مصدر رعي ولو لم يفسر بذلك لتوهم أن بيع الأرض وإجارتها لا يجوز وهو غير صحيح، لأن بيع الأرض وإجارتها صحيح(8/158)
أما البيع فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث، وأما الإجارة فلأنها عقدت على استهلاك عين مباح، ولو عقدت على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سواء كان فيه الكلأ أو لم يكن.
م: (أما البيع) ش: أي أما عدم جواز بيع الكلأ غير المحرز م: (فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث) ش: وهو ما رواه الطبراني في معجمه، بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام".» وفي سنده عبد الله بن خراش وهو ضعيف ضعفه أبو زرعة، وعن البخاري: أنه منكر الحديث.
ورواه أبو داود في سننه عن رجل من الصحابة نحو رواية الطبراني م: (وأما الإجازة) ش: أي عدم جواز الإجارة م: (فلأنها) ش: أي الإجارة م: (عقدت على استهلاك عين مباح) ش: فلا يجوز م: (ولو عقدت) ش: أي الإجارة م: (على استهلاك عين مملوك بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى) ش: يعني عدم جواز الإجارة على عين مباح بالطريق الأولى في عدم الجواز، لأن محل الإجارة المنافع لا الأعيان باتفاق الفقهاء، إلا إذا كانت آلة الإقامة لعمل المستحق بالإجارة كالصبغ واللبن في استئجار الصباغ والطير، لأن اللبن آلة للحضانة والطورة والصبغ آلة للصباغ، ولم يذكر أن إجارة الكلأ وقعت فاسدة أو باطلة.
وذكر في الشرب أنها فاسدة حتى يملك الآجر الأجرة بالقبض وينفذ تمتعه فيها، وقالوا: معنى شركتهم فيها أن لهم الانتفاع بضوء النار والاصطلاء بها وتجفيف الثياب، أما إذا أراد أن يأخذ الجمر لا يكون له ذلك إلا بإذن صاحبه، كذا ذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا الانتفاع من الماء بالشرب، وسقي الدواب والاستقاء من الآبار والحياض والأنهار المملوكة في الأراضي المملوكة، وكذلك الانتفاع بالاحتشاش من الأراضي المملوكة، ولكن له أن يمنع من الدخول في(8/159)
قال: ولا يجوز بيع النحل، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد: يجوز إذا كان محرزا، وهو قول الشافعي لأنه حيوان منتفع به حقيقة وشرعا فيجوز بيعه، وإن كان لا يؤكل، كالبغل والحمار. ولهما أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أرضه فإن منع كان لغيره أن يقول: إن لي في أرضك حقا، فإما أن توصلني إلى حقي أو تحشه فتدفعه إلي أو تدعني آخذه، كثوب رجل وقع في دار إنسان، هذا إذا ثابت ظاهر.
وأما إذا أنبته صاحب الأرض بالسقي ففيه اختلاف الرواية، ذكر في " المحيط "، و" الذخيرة " و" النوازل ": أن صاحبه يملكه وليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه، فجاز بيعه، وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز بيعه لأن الشركة في الكلأ ثابتة بالنص، وإنما تنقطع بالحيازة وسوق الماء إلى أرضه، ليس بخياره للكلأ، فبقي على الشركة فلا يجوز بيعه.
وفي " فتاوى الولوالجي ": رجل باع حشيشا في أرضه، إن كان صاحب الحشيش هو الذي أنبته بأن سقاها الماء لأجل الحشيش، فثبت بتكلفه جاز بيعه لأنه ملكه، وليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه كما لو أخذ السمك وألقاه في الماء، فباع جاز، وإن كان الحشيش ينبت بنفسه، فلا يجوز بيعه لأنه ليس بمملوك له لأنه مباح، ألا ترى أن لكل أحد من الناس أن يأخذه، وذكره قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو باع الكلأ أو الماء بعد الإحراز جاز، لأنه صار أخص به من غيره.
وفي " الإيضاح " لا يجوز بيع الكلأ في أرضه ولا ماء نهره أو بئره، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وهكذا ذكره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه على أصل الإباحة فيما لم يحرزه لم يجز بيعه كبيع الصيد في أرضه ما لم يأخذه، وكذا لا يجوز بيع الكمأة في أرضه ما لم يقلعها، وكذلك بيع السمكة في نهره أو حميه م: (قال: ولا يجوز بيع النحل وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال محمد: يجوز إذا كان محرزا) ش: أي مجموعا م: (وهو قول الشافعي) ش: وفي كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بيع النحل في الكوارة وجهان، أحدهما لا يجوز وهو اختيار أبي حامد هذا إذا لم يشاهده ولو اجتمع في الكوارة وشاهده جاز بيعه. وكذا لو شاهده خارج الكوارة، ففي جواز بيعه له وجهان ومحل الخلاف نحل العسل، أما نحل غير العسل لا يجوز بالإجماع لأنه من الهوام كالزنابير م: (لأنه) ش: أي لأن النحل م: (حيوان منتفع به حقيقة) ش: باستيفاء ما يحدث منه م: (وشرعا) ش: لعدم ما يمنع عنه شرعا وكل ما هو كذلك م: (فيجوز بيعه وإن كان لا يؤكل) ش: كلمة إن واصلة بما قبله م: (كالبغل والحمار) ش: فإن بيعهما يجوز بلا خلاف.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش:(8/160)
من الهوام فلا يجوز بيعه كالزنابير، والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه فلا يكون منتفعا به قبل الخروج، حتى لو باع كوارة فيها عسل بما فيها من النحل يجوز تبعا له، كذا ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ولا يجوز بيع دود القز، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه من الهوام، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا له، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز كيفما كان لكونه منتفعا به. ولا يجوز بيع بيضه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما يجوز لمكان الضرورة، وقيل: أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما في دود القز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي أن النحل م: (من الهوام) ش: جمع هامة وهي دود الأرض م: (فلا يجوز بيعه كالزنابير) ش: والحيات والعقارب والوزغ م: (والانتفاع) ش: جواب عن قوله حيوان منتفع به يعني لا نسلم أنه ينتفع به والانتفاع إنما يحصل م: (بما يخرج منه) ش: وهو العسل م: (لا بعينه) ش: أي لا ينتفع بعين النحل، قيل: هذا احتراز عن المهر والجحش فإنهما وإن كان لا ينتفع بهما في الحال، لكن ينتفع بهما في المآل بأعيانهما، وقال الأكمل: وفيه بعد لخروجهما بقوله، قلت: قابل هذا القول هو الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شيخه.
م: (فلا يكون منتفعا به قبل الخروج حتى لو باع كوارة) ش: بضم الكاف وتشديد الواو وهي معسل النحل إذا استويت من الطين، وفي " التهذيب" كوارة النحل محققة، وفي " المغرب " الكوارة والكوارة بالكسر من غير تشديد وقيده الزمخشري بفتح الكاف، وفي الغريبين بالضم م: (فيها) ش: أي في الكوارة م: (عسل بما فيها من النحل يجوز تبعا له) ش: كما في بيع الأرض مع الشرب، وبيع الشرب وبيع العذرة المختلطة بالتراب م: (كذا ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: في مختصره.
[بيع دود القز]
م: (ولا يجوز بيع دود القز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه من الهوام، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا له) ش: أي للقز لأنه صار منتفعا به في المستقبل م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز كيفما كان) ش: أي سواء كان معه القز أو لا م: (لكونه منتفعا به) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو اختيار الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الفتوى للتعامل كذا في " الذخيرة " و" جامع المحبوبي ".
م: (ولا يجوز بيع بيضه) ش: أي بيض دود القز، وهو البذر الذي منه يكون الدود م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأنه مما لا ينتفع به بعينه بل بما يحدث منه وهو معدوم في الحال (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يجوز لمكان الضرورة) .
ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الفتوى م: (وقيل: أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما في دود القز) ش: في عدم الجواز،(8/161)
والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمها، جاز البيع لأنه مال مقدور التسليم.
ولا يجوز بيع الآبق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجاز محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيع النحل إذا كان مجموعا وكذلك دود القز، يجوز بيعه والسلم فيه إذا كان في وقته القز، وجعل أجله في وقته، وكان محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يضمن من قتله، وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا وأجمعوا على أن بيع هوام الأرض لا يجوز، ومنها الحيات، والعقارب، والوزغ والقطاية والقنافذ والجعل والضب وهوام الأرض كلها.
وقالوا: لا يجوز بيع شيء في البحر من الضفادع والسرطان والسلاحف وغير ذلك إلا السمك، وفي " الأجناس ": قال محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا كان الدود من واحد وورق التوت منه والعمل من آخر على أن يكون القز بينهما نصفان أو أقل أو أكثر لا يجوز وكذلك لو كان العمل منهما لا يجوز، إنما يجوز إذا كان البيض منهما والعمل منهما وهو بينهما نصفان، أما إذا كان البذر بينهما على الثلث والثلثين لا يجوز.
وقال الولوالجي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في فتاواه: امرأة أعطت بذر القز وهو بذر الغليق بالنصف امرأة فقامت عليه حتى أدرك، فالغليق لصاحبة البذر لأنه حدث من بذرها ولها على صاحبة البذر قيمة الأوراق وأجرة مثلها، وعلى هذا إذا دفع البقرة إلى إنسان بالعلف ليكون الحادث بينهما بالنصف فالحادث كله لصاحب البقرة وله على صاحب البقرة ثمن العلف وأجرة المثل، وكذلك إذا دفع الدجاجة ليكون البيض بالنصف.
م: (والحمام إذا علم عددها وأمكن تسليمها، جاز البيع لأنه مال مقدور التسليم) ش: وفي " فتاوى قاضي خان ": لو باع طيرا يطير في الهواء، إن كان داجنا يعود إلى بيته ويقدر على أخذه من غير تكلف جاز بيعه وإلا فلا، وكذا بيع الحمام في البرج.
وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولو باع الحمام الطائر، وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه وجهان فعند بعض أصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الأصح الجواز لاعتبار العود، وعند أكثرهم الأصح عدم الجواز، وكان حق وضع هذه المسألة ذكرها عند قوله: ولا بيع الطير في الهواء فكأنه اتبع في ذلك الصدر الشهيد فإنه ذكر الحمام بعد ذكر النحل ودود القز في " شرح الجامع الصغير ".
م: (ولا يجوز بيع الآبق) ش: وهذا بإجماع الفقهاء الأربعة، عن ابن عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز بيعه، وعن محمد بن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز بيعه لو عرف موضعه، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز بيعه قبل هذا إذا علم المشتري ولو اختلفا في العلم،(8/162)
لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، ولأنه لا يقدر على تسليمه، قال: إلا أن يبيعه من رجل زعم أنه عنده؛ لأن المنهي بيع آبق مطلق، وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين، وهذا غير آبق في حق المشتري، ولأنه إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع، ثم لا يصير قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده، وكان أشهد عند أخذه لأنه أمانة عنده، وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع، ولو كان لم يشهد عند الأخذ يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب، ولو قال: هو عند فلان فبعه مني، فباعه لا يجوز؛ لأنه آبق في حق المتعاقدين، ولأنه لا يقدر على تسليمه، ولو باع الآبق ثم عاد من الإباق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالقول للبائع وأما العبد المرسل في حاجة فيجوز بيعه.
كذا في " المحيط " م: (لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه) ش: أي في بيع الآبق وهو ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة القاصي» وضعفوه.
ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي سعيد الخدري - رَحِمَهُ اللَّهُ - مرفوعا إلا أنه قال: وعن بيع العبد وهو آبق عوض قوله: وشراء م: (ولأنه لا يقدر على تسليمه) ش: أي تسليم الآبق م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إلا أن يبيعه) ش: أي الآبق م: (من رجل زعم أنه عنده لأن المنهي) ش: في الحديث م: (بيع آبق مطلق، وهو أن يكون آبقا في حق المتعاقدين، وهذا غير آبق في حق المشتري) ش: لأنه عنده في زعمه، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الآبق م: (إذا كان عند المشتري انتفى العجز عن التسليم وهو المانع) ش: أي المعجز عن التسليم هو المانع من البيع م: (ثم لا يصير) ش: أي المشتري م: (قابضا بمجرد العقد إذا كان في يده وكان أشهد عند أخذه) ش: أي أشهد عند الأخذ أنه أخذه للرد، ولا يرده على المولى م: (لأنه) ش: يصير م: (أمانة عنده) ش: ولهذا لو هلك قبل الوصول إلى يد المولى فهلك الأمانة م: (وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض البيع) ش: لأن الأدنى لا ينوب عن الأعلى م: (ولو كان لم يشهد عند الأخذ) ش: صوابه عند القبض م: (يجب أن يصير قابضا لأنه قبض غصب) ش: وقبض الغصب قبض ضمان، فينوب عن قبض البيع وهو قبض ضمان.
م: (ولو قال: هو) ش: أي الآبق م: (عند فلان فبعه مني فباعه لا يجوز لأنه آبق في حق المتعاقدين ولأنه لا يقدر على تسليمه) ش: لأنه آبق مطلق م: (ولو باع الآبق) ش: من رجل م: (ثم عاد من الإباق) ش: وسلمه للمشتري لا يتم ذلك العقد لأنه وقع باطلا لانعدام المحلية كبيع الطير في الهواء وهو(8/163)
وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يتم العقد إذا لم يفسخ؛ لأن العقد انعقد بقيام المالية، والمانع قد ارتفع، وهو العجز عن التسليم، كما إذا أبق بعد البيع، وهكذا يروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال: ولا يجوز بيع لبن امرأة في قدح، وقال الشافعي: يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر. ولنا أنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع،
ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها، فكذا على جزئها. قلنا: الرق قد حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه؛ لأنه يختص بمحل يتحقق فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ظاهر رواية وبه أخذ مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يتم العقد إذا لم يفسخ) ش: يعني إذا عاد العبد من إباقه يتم العقد، ولكن يشترط أن لا يفسخ القاضي العقد قبل عوده، وإن فسخه قبل ذلك فلا بد حينئذ من البيع الجديد م: (لأن العقد انعقد بقيام المالية) ش: لأن الآبق مال مملوك م: (والمانع) ش: من الجواز م: (قد ارتفع وهو) ش: أي المانع م: (العجز عن التسليم) ش: فصار م: (كما إذا أبق بعد البيع) ش: وبه أخذ الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة من المشايخ، كذا ذكره الأسبيجابي.
م: (وهكذا يروى عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني مثل ما روي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (قال) ش: أي محمد في الجامع الصغير: م: (ولا يجوز بيع لبن امرأة) ش: أي ولا يجوز بيع لبن امرأة، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأبو القاسم بن يسار من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه نجس عنده م: (في قدح) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر القدح اتفاقي وإن حرمة بيعه غير موقوفة على كونه في قدح، ولكنه أخرج الكلام مخرج العادة ثم قال: والأصح أن هذا قيد مفيد لأنه لو لم يذكره لتوهم جواز بيعه في القدح، وإنما لا يجوز لكونه في الضرع كما هو الحكم في لبن سائر الحيوانات، فإنه لا يجوز في الضرع ويجوز في القدح وفي غيره من الآنية.
وإليه أشار الإمام أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " كشف الغوامض ".
م: (وقال الشافعي: يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر) ش: احترز بالطاهر عن الخمر فإنها نجسة فلا يحل بيعها م: (ولنا أنه جزء الآدمي وهو) ش: أي الآدمي م: (بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع) ش: أي محفوظ عن الإهانة بسبب البيع.
[بيع لبن الأمة]
م: (ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحر والأمة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها فكذا على جزئها) ش: اعتبارا للجزء بالكل م: (قلنا: الرق قد حل نفسها، فأما اللبن فلا رق فيه) ش: لأن الرق ضعف حكمي م: (لأنه يختص بمحل يتحقق فيه(8/164)
القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن.
قال: ولا يجوز بيع شعر الخنزير لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة، فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه، ويوجد مباح الأصل فلا ضرورة إلى البيع. ولو وقع في الماء القليل أفسده، عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسده لأن إطلاق الانتفاع به دليل طهارته ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإطلاق للضرورة فلا تظهر إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع تغايرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القوى التي هي ضده) ش: أي ضد الرق يعني العتق م: (وهو) ش: أي المحل م: (الحي) ش: ومعناه أنهما صفتان تتعاقبان على موضوع واحد وهما ضدان.
م: (ولا حياة في اللبن) ش: فلا يرد عليه الرق ولا العتق لانتفاء الموضوع، والجواب: عن قوله: مشروب طاهر أن المراد به كونه مشروبا مطلقا أو في حال الضرورة.
والأول: ممنوع فلأنه إذا استغنى عنه حرم شربه، والثاني مسلم لأنه غذاء عند الضرورة وليست بمال فلا يجوز بيعه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ولا يجوز بيع شعر الخنزير) ش: باتفاق الأئمة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الخنزير م: (نجس العين فلا يجوز بيعه) ش: أي بيع شعره م: (إهانة له) ش: كالخمر لأن النجاسة في الشعر كهواء المحل وجواز البيع يشعر بإعزازه.
م: (ويجوز الانتفاع به) ش: أي بشعر الخنزير م: (للخرز للضرورة فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه) ش: أي لأن عمل الخرز لا يتأتى بدونه والضرورة آكد في إثبات التخفيف وسقوط الخطر والانتفاع بلحمه جائز عند الضرورة بالنص، فالانتفاع بشعره كان أولى عند الضرورة لأن الشعر أخف منه بدليل أن شعر الميتة طاهر ولحمها لا.
م: (ويوجد مباح الأصل) ش: جواب عما يقال: إذا كان كذلك ينبغي أن يجوز بيعه وتقرير الجواب أن شعر الخنزير يوجد مباح الأصل م: (فلا ضرورة إلى البيع) ش: وعلى هذا قيل: إذا كان لا يوجد إلا بالبيع جاز بيعه، لكن الثمن لا يطيب للبائع، وقال أبو الليث: إن كانت الأساكفة لا يجدون شعر الخنزير إلا بالشراء فينبغي أن يجوز لهم الشراء.
م: (ولو وقع) ش: أي شعر الخنزير م: (في الماء القليل أفسده، عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يفسده لأن إطلاق الانتفاع به دليل طهارته) ش: ووقوع الطاهر في الماء لا ينجسه م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإطلاق) ش: أي إطلاق الجواز م: (للضرورة فلا تظهر) ش: أي الضرورة م: (إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع تغايرها) ش: أي تغاير حالة الاستعمال(8/165)
ولا يجوز بيع شعر الإنسان ولا الانتفاع به لأن الآدمي مكرم غير مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا مبتذلا، وقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» .... " الحديث. وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء وذوائبهن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا بأس للساكنة أن يصلوا مع شعر الخنزير وإن كان أكثر من قدر الدرهم.
م: (ولا يجوز بيع شعر الإنسان ولا الانتفاع به) ش: ولا خلاف فيه للفقهاء إلا رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز الانتفاع بشعر الآدمي، استدلالا بما روي، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حلق رأسه قسم شعره بين أصحابه» .
وكانوا يتبركون به ولو كان نجسا لما فعل، إذ النجس لا يتبرك به، وجهه الظاهر هو قوله م: (لأن الآدمي مكرم غير مبتذل) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بكسر الذال يعني بالمعجمة ومعناه غير تارك بتهاون نفسه م: (فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهانا مبتذلا) ش: بفتح الذال كيلا يلزم الإهانة.
م: (وقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» . الحديث) ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في كتبهم كلهم من حديث عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة» انتهى.
وقال أبو داود: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الواصلة هي التي تصل الشعر بشعر النساء والمستوصلة المعمول بها، والواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد والمستوشمة المعمول بها، والاستدلال بهذا الحديث على منع بيع شعر الإنسان والانتفاع به لكرامته غير واضح، كذا قيل.
قلت: واضح به لأن المدعي عدم جواز البيع وعدم جواز الانتفاع به واستحقاق اللعن في الوصل يدل على عدم جواز الانتفاع به وعدم جواز الانتفاع يدل على عدم جواز البيع م: (وإنما يرخص فيما يتخذ من الوبر فيزيد في قرون النساء ذوائبهن) ش: وهو اتخاذ القوابيل وهو رخصة، وهو يتخذ من وبر الجمل ليزيد في أصول شعورهن بالتكثير وفي ذوائبهن بالتطويل. وقال الجوهري: القوابل ما تشهرها المرأة من شعرها.(8/166)
قال: ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ؛ لأنه غير منتفع به، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» . وهو اسم لغير المدبوغ، على ما مر في كتاب الصلاة. ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ لأنها طهرت بالدباغ، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة.
ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بهذا كله؛ لأنها طاهرة لا يحلها الموت لعدم الحياة وقد قررناه من قبل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ) ش: أي ولا يجوز بيعها قبل الدباغة قيد بقوله: قبل أن تدبغ لأن بعد الدبغ يجوز بلا خلاف بين الفقهاء.
فإن قيل: نجاستها مجاورة باتصال الدسومات، ومثل ذلك يجوز بيعه كالثوب النجس، أجيب: بأنها خلقية فما لم تزايل كالدباغ فهو كعين الجلد بخلاف نجاسة الثوب فإنها بالمجاورة فلا يتغير حكم أصول الثوب م: (لأنه غير منتفع به) ش: أي بجلود الميتة قبل الدباغة:
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب» ش: هذا الحديث رواه الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من حديث عبد الله بن عكيم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .
وقد تقدم في كتاب الطهارة في باب الماء الذي يجوز الوضوء به وبسطنا الكلام فيه هناك م: (وهو) ش: أي الإهاب م: (اسم لغير المدبوغ، على ما مر في كتاب الصلاة ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ لأنها طهرت بالدباغ، وقد ذكرناه في كتاب الصلاة) ش: ولم يمر إلا في كتاب الطهارات.
م: (ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بهذا كله) ش: وفي بعض النسخ بذلك كله أشار به إلى المذكورات قبله م: (لأنها) ش: أي لأن هذه الأشياء م: (طاهرة لا يحلها الموت لعدم الحياة) ش: لأن الموت لا يحل إلا في محل الحياة م: (وقد قررناه من قبل) ش: وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الصلاة: وليس كذلك بل في كتاب الطهارة بقوله: وشعر الميتة وعظمها طاهر وقد تكلمنا هناك بما فيه من الخلاف مبسوطا.(8/167)
والفيل كالخنزير نجس العين عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما، بمنزلة السباع حتى يباع عظمه وينتفع به.
قال: وإذا كان السفل لرجل وعلوه لآخر، فسقطا أو سقط العلو وحده، فباع صاحب العلو علوه، لم يجز لأن حق التعلي ليس بمال لأن المال ما يمكن إحرازه، والمال هو المحل للبيع بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات، ومنفردا في رواية، وهو اختيار مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والفيل كالخنزير نجس العين عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فلا يجوز بيعه مطلقا ولا يجوز الانتفاع به لأنه نوع من الخنزير م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، م: (بمنزلة السباع) ش: يعني ليس بنجس العين كالخنزير م: (حتى يباع عظمه وينتفع به) ش: أي بالفيل في الركوب والحمل وغير ذلك.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى المعظم لما ذكره البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صحيحه عن الزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في عظام الموتى نحو الفيل وغيره أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون بها لا يرون بأسا، وقال ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإبراهيم: لا بأس بتجارة العاج.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصره " وأما الفيل فأجمعوا على جواز بيعه ولم يذكر الخلاف، وكذلك ذكر في البيوع في " كتاب العيون "، ولكن ذكر في باب الطهارات من العيون عن محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: الفيل لا يقع عليه الزكاة، وإذا دبغ جلده لم يطهر. وروي عن محمد في كتاب الحج عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا بأس ببيع عظام الفيل وغيرها من الميتة وكذلك جلدها إذا دبغ، وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - نحو هذا ذكر في " العيون " أيضا رواية إبراهيم بن رستم عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها من كلب أو أسد أو شعطب فصلاتها تامة لأنه يقع عليها الزكاة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كان السفل لرجل وعلوه لآخر فسقطا، أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه، لم يجز؛ لأن حق التعلي ليس بمال) ش: لأنه يتعلق بالهواء والهواء ليس بمال م: (لأن المال ما يمكن إحرازه، والمال هو المحل للبيع) ش: والهواء ليس بمحل وإنما يجوز قبل الانهدام باعتبار البناء القائم ولم يبق م: (بخلاف الشرب) ش: هذا جواب عما يقال: الشرب حق الأرض، ولهذا قال في كتاب الشرب: إذا اشترى أرضا لم يكن له شرب ينبغي أن لا يجوز.
فأجاب بقوله: بخلاف الشرب م: (حيث يجوز بيعه تبعا للأرض باتفاق الروايات، ومنفردا) ش: أي ويجوز بيعه أيضا حال كونه مفردا م: (في رواية، وهو اختيار مشايخ بلخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه)(8/168)
حظ من الماء ولهذا يضمن بالإتلاف وله قسط من الثمن على ما نذكره في كتاب الشرب.
قال: وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل، والمسألة تحتمل وجهين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسئيل، فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم لأن له طولا وعرضا معلوما، وأما المسيل فمجهول لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن الشرب م: (حظ من الماء) ش: والماء عين فكان بيع الشرب بيع العين أو بيع شيء يتعلق بالعين، فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز إذا كان الماء معدوما في الأرض. أجيب: بأنما جوز للضرورة أو بعرضية وجوده كما في السلم والاستصناع.
م: (ولهذا) ش: ولكون الشرب حظا من الماء م: (يضمن بالإتلاف) ش: بأن سقى رجل أرضه بشرب غيره يضمن، وهو رواية البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعلى رواية شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يضمن وقيل: يضمن إذا جمع الماء ثم أتلفه ولا يضمن قبل الجمع.
وقيل: في المسألة روايتان ونقل عن الإمام جمال الدين ابن المصنف - رحمهما الله - قال: والإتلاف أن يكون بأن يشهد به الآخر ثم رجع بعد القضاء ولا وجه للقول بالضمان بالإتلاف سوى هذه الصورة لأنه لو ضمن بغيرها إما أن يضمن بالسقي أو يمنع حق الشرب ولا وجه إلى الأول لأن الماء مشترك بين الناس بالحديث، ولا وجه إلى الثاني لأنه منع حق الغير ليس بسبب الضمان بل السبب منع الغير ولم يوجد م: (وله) ش: أي للشرب م: (قسط من الثمن) ش: يعني إذا بيعت أرض وفيها نهر يقع الثمن عليهما م: (على ما نذكره في كتاب الشرب) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي في " المبسوط ".
قلت: هذا على النسخة التي فيها على ما ذكره، وفي بعض النسخ على ما نذكره بصيغة الجمع، فإن صحت هذه النسخة يكون المراد من قوله في كتاب الشرب مسائل الشرب التي ذكرها في كبرى الأنهار في كتاب إحياء الموات.
[بيع الطريق وهبته]
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل) ش: هذا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والمسألة تحتمل وجهين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسئيل، فإن كان الأول) ش: وهو بيع رقبة الطريق والمسيل م: (فوجه الفرق بين المسألتين) ش: وهما بيع رقبة الطريق وبيع مسيل الماء م: (أن الطريق معلوم لأن له) ش: أي للطريق م: (طولا وعرضا معلوما) ش: فإن عرضه مقدار باب الدار وطوله إلى السكة النافذة غالبا فيجوز البيع م: (وأما المسيل) ش: أي مسيل الماء م: (فمجهول لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء) ش: أي قدر ما يشغل المسيل لأنه يختلف بقلة الماء وكثرته، حتى لو باع رقبة الأرض بمسيل الماء وبين موضعه وحدوده جاز.(8/169)
وإن كان الثاني ففي بيع حق المرور روايتان، ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق التسئيل أن حق المرور معلوم لتعلقه بمحل معلوم وهو الطريق. أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي، وعلى الأرض مجهول لجهالة محله، ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي -على إحدى الروايتين -، أن حق التعلي يتعلق بعين لا تبقى وهو البناء فأشبه المنافع، أما حق المرور يتعلق بعين تبقى وهو الأرض فأشبه الأعيان.
قال: ومن باع جارية فإذا هو غلام فلا بيع بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإن كان الثاني) ش: وهو حق المرور وحق مسيل الماء م: (ففي بيع حق المرور روايتان) ش: إحداهما رواية الزيادات لا يجوز وبه أخذ الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجهالته، والأخرى رواية كتاب القسمة يجوز وبه أخذ عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (ووجه الفرق على إحداهما) ش: أي على إحدى الروايتين م: (بينه) ش: أي بين حق المرور حيث جاز بيعه على هذه الرواية م: (وبين حق التسئيل) ش: حيث لم يجز بيعه أصلا م: (أن حق المرور معلوم لتعلقه بمحل معلوم وهو الطريق) ش: لأنه معلوم القدر م: (أما المسيل على السطح) .
ش: أي أما حق المسيل على السطح م: (فهو نظير حق التعلي) ش: وبيع حق التعلي لا يجوز باتفاق الروايات م: (وعلى الأرض) ش: أي وحق المسيل إن كان على الأرض م: (مجهول لجهالة محله) ش: أي لجهالة قدر ما يشغله الماء م: (ووجه الفرق بين حق المرور) ش: حيث جاز بيعه على هذه الرواية م: (وحق التعلي) ش: أي وبين حق التعلي حيث لم يجز أصلا م: (على إحدى الروايتين) ش: متعلق بحق المرور لأن حق التعلي لا يجوز بيعه في جميع الروايات م: (أن حق التعلي يتعلق بعين لا تبقى وهو البناء) ش: فأخذ حكم ما لا يبقى م: (فأشبه المنافع) ش: لأنها لا بقاء لها م: (أما حق المرور يتعلق بعين تبقى وهي الأرض فأشبه الأعيان) ش: لأن لها بقاء.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع جارية فإذا هو غلام) ش: ذكر الضمير باعتبار تذكير الخبر وعكسه، فإن اشترى عبدا فإذا هو جارية م: (فلا بيع بينهما) ش: أي لا يجوز البيع وإنما ذكر هذه العبارة لأنه لم يغير لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع "، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز فصار كأنه اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو لم يكن فصح البيع وثبت له الخيار.
وهو قياس مذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بفوات الوصف المرغوب فيه، وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أثبت له الخيار في مثل هذا ثم اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا بيع بينهما، أنه إما باطل أو فاسد، وقال صاحب " الإيضاح ": باطل يتعلق العقد بالمسمى وهو معدوم وبيع المعدوم باطل، وقال بعضهم: إنه فاسد، وهو اختيار الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونقل الأترازي هذا - بعد أن قال بعضهم في شرحه - ثم قال: هذا اختلاف عجيب، ونقل هذا عن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عجيب.(8/170)
بخلاف ما إذا باع كبشا فإذا هو نعجة حيث ينعقد البيع ويتخير، والفرق يبتنى على الأصل الذي ذكرناه في النكاح لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا ففي مختلفي الجنس يتعلق العقد بالمسمى ويبطل لانعدامه، وفي متحدي الجنس يتعلق بالمشار إليه وينعقد لوجوده، ويتخير لفوات الوصف، كمن اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو كاتب، وفي مسألتنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما الأول: فلأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا بيع بينهما فهو تنصيص على البطلان، لأن مثل هذا النفي يدل على الباطل لا الفاسد.
أما الثاني: فإن الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صرح في مختصره، بأن اختلاف الصفة إذا أوجب اختلافا فاحشا كان ذلك بمنزلة الاختلاف في الجنس، ثم في اختلاف الجنس كما إذا باع فضة على أنه ياقوت فكان زجاجا، أو باع هذا الثوب على أنه خزفا فإذا هو مرغزي، قال: فالبيع باطل.
قلت: الذي قال هذا هو قول السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا نقله الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه.
قلت: قوله وتنصيص على البطلان غير مسلم لأن البيع الذي وقع بعد كلمة النفي أعم من الباطل والفاسد، ودعوى التعيين تحكم، وأما الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه يحتمل أن يكون عنه فيه روايتان م: (بخلاف ما إذا باع كبشا فإذا هو نعجة حيث ينعقد البيع ويتخير) ش: أي المشتري م: (والفرق) ش: يعني بين المسألتين م: (يبتنى على الأصل الذي ذكرناه في النكاح لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وذلك الأصل متفق عليه.
ولكن ذكر في كتاب النكاح في وجه قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسألة التزوج على دن من الخل، إلا أن ذلك الأصل عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولهذا لم يقع الاختلاف بينهم في هذه المسألة.
م: (وهو) ش: أي الأصل م: (أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا ففي مختلفي الجنس يتعلق العقد بالمسمى) ش: لأن التسمية أبلغ في التعريف من الإشارة لأن الإشارة لتعريف الذات، فإنه إذا قال هذا صار الذات معينا، والتسمية إعلام الماهية وإنه أمر زائد على أصل الذات فكانت أبلغ في التعريف؛ فلذلك تعلق الحكم بالمسمى لا بالمشار إليه.
م: (ويبطل لانعدامه) ش: أي ويبطل العقد لانعدام المسمى م: (وفي متحدي الجنس يتعلق) ش: أي العقد م: (بالمشار إليه وينعقد لوجوده ويتخير) ش: أي المشتري م: (لفوات الوصف) ش: المرغوب فيه م: (كمن اشترى عبدا على أنه خباز فإذا هو كاتب) ش: حيث ينعقد العقد ويتخير المشتري م: (وفي مسألتنا) ش: أراد بها المسألة المصدرة وهي قوله ومن باع جارية فإذا هو غلام فلا بيع بينهما.(8/171)
الذكر والأنثى من بني آدم جنسان للتفاوت في الأغراض. وفي الحيوانات جنس واحد لقلة التفاوت فيها، وهو المعتبر في هذا دون الأصل كالخل والدبس جنسان، والوذاري والزندنيجي - على ما قالوا - جنسان مع اتحاد أصلهما.
قال: ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن لا يجوز البيع الثاني، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز؛ لأن الملك قد تم فيها بالقبض، فصار البيع من البائع ومن غيره سواء، وصار كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (الذكر والأنثى من بني آدم جنسان للتفاوت في الأغراض) ش: لأن المطلوب من العبد الاستخدام خارج الدار ومن الأمة الاستخدام داخل الدار كالطبخ والكنس والاستفراش والاستيلاد، والغلام لا يصلح للاستفراش والاستيلاد فكان التفاوت بينهما فاحشا.
م: (وفي الحيوانات جنس واحد لقلة التفاوت فيها) ش: أي في الأغراض م: (وهو المعتبر) ش: أي التفاوت هو المعتبر م: (في هذا) ش: أي في كونهما جنسين متحدين أو مختلفين م: (دون الأصل) ش: أي أصل المادة والماهية م: (كالخل والدبس جنسان) ش: مع اتحاد أصليهما وهو العنب م: (والوذاري) ش: بكسر الواو وفتحها وبالذال المعجمة، وهو ثوب منسوب إلى وذار وهي قرية بسمرقند م: (والزندنيجي) ش: بفتح الزاي وسكون النون وفتح الدال المهملة وكسر النون وبالياء آخر الحروف الساكنة وبالجيم ثوب منسوب إلى زندنة على خلاف القياس. وهي من أشهر قصبات بخارى م: (على ما قالوا جنسان) ش: أي على ما قال المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في شروح الجامع الصغير أنهما جنسان م: (مع اتحاد أصلهما) ش: يعني مع أن أصلهما متحد.
وقالت الحكماء: الذكر والأنثى من بني آدم جنس واحد لاتحادهما في الحقيقة والجنس مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة، وأهل الحق جعلوهما جنسين لتفاوت المقاصد، والحق معهم لأن اختلاف الحقائق يعرف باختلاف الخواص لا بأصل المادة لكونه لو اعتبر أصل المادة ينبغي أن لا يكون الفرس والإنسان جنسين لاتحاد مادتهما وهو النطفة.
م: (قال ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة، فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن لا يجوز البيع الثاني) ش: وبه قال مالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: واعلم أن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن لا يجوز عندنا.
م: (وقال الشافعي: يجوز) ش: وبعد نقد الثمن يجوز عندنا أيضا وبالمثل أو الأكثر يجوز بالإجماع سواء كان قبل نقد الثمن أو بعده، وكذا يجوز قبل نقد الثمن إذا اشترى بعرض قيمته أقل منه م: (لأن الملك) ش: أي ملك المشتري م: (قد تم فيها) ش: أي في الجارية م: (بالقبض، فصار البيع من البائع ومن غيره سواء، وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما لو باع بمثل الثمن الأول أو بالزيادة)(8/172)
أو بالعرض، ولنا قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله أبطل حجه وجهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: من الثمن الأول م: (أو بالعرض) ش: يعني باعها منه بالعرض قبل نقد الثمن وقيمة العرض أقل من قيمة الألف يجوز بالإجماع وقيد بالعرض لأنه لو باعها منه بالدنانير وقيمة الدنانير أقل من الألف لا يجوز عندنا استحسانا ويجوز قياسا، وهو قول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي بعض الحواشي مال كثير من مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كالكرخي والزعفراني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - والصفار إلى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة، والقياس ما قاله، ولكن ما وجدته في كتب عندي.
م: (ولنا قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل حجه وجهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب) .
ش: هذا أخرجه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مصنفه، أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في نسوة فسألت امرأة فقالت: يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدت له الستمائة وكتبت عليه بثمانمائة.
فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن يتوب، فقالت المرأة لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل فقالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) .
وأخرجه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سننهما عن يونس بن أبي إسحاق الهمذاني - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أمه العالية، قالت: كنت قاعدة عند عائشة - رضي الله(8/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنها - فأتتها أم محبة فقالت: إني بعت زيد بن أرقم جارية إلى عطاء فذكر بنحوه، وقال الدارقطني: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما.
قلت: بل أم العالية امرأة معروفة جليلة القدر ذكرها ابن سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الطبقات، فقال: أم العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سمعت من عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأم محبة بضم الميم وكسر الحاء كذا ضبطه الدارقطني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " المؤتلف والمختلف ".
ورواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي إسحاق - رحمهما الله - سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة واشتراها مني بستمائة فقالت: أبلغي عني زيد بن أرقم أن الله عز وجل قد أبطل جهاده إن لم يتب.
وجه الاستدلال: أنها جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب وأجزية الجرائم لا تعلم بالرأي فكان مسموعا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والعقد الصحيح لا يجازى بذلك فكان فاسدا، وأن زيدا اعتذر إليها وهو دليل على كونه مسموعا لأنه في المجتهد إن كان بعضهم يخالف بعضا وما كان أحدهما يعتذر إلى صاحبه.
فإن قلت: يجوز أن يكون إلحاق الوعيد لكون البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول.
قلت: ثبت من مذهب عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جواز البيع إلى العطاء وهو مذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وآخرين فلم يكن كذلك.
فإن قلت: لم كرهت العقد الأول مع أن الفساد من الثاني؟
قلت: لأنه تطرق به إلى الثاني كالسفر يكون محظورا إذا كان لقطع الطريق وإن كان السفر مباحا في نفسه.
فإن قلت: القبض غير مذكور في الحديث فيمكن أن يكون الوعيد للتصرف في المبيع قبل القبض.
قلت: تلاوتها آية الربا دليل على أنه للربا لا لعدم القبض.
فإن قلت: الوعيد قد لا يستلزم الفساد كما في تفريق الولد عن الوالد بالبيع فإنه جائز مع وجود الوعيد.(8/174)
ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه، فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض؛ لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة.
قال: ومن اشترى جارية بخمسمائة ثم باعها وأخرى معها من البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة، فالبيع جائز في التي لم يشترها من البائع، ويبطل في الأخرى؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الوعيد ليس للبيع ثمة بل ليس التفريق حتى لو فرق بدون البيع كان الوعيد لاحقا.
م: (ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه) ش: أي في ضمان البائع قبل القبض م: (فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة) ش: أي بين الثمن في الأول وبين الثمن في البيع الثاني إذا عاد إليه الكل الذي زال عنه بعينه م: (بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض) ش: فهذا ربح حصل لا على ضمانه.
«ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربح ما لم يضمن» م: (بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة) ش: لأن الربح لا يظهر عند مخالفة الجنس.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": ولا يجوز أن يشتري ذلك أم وكيل البائع ولا عبد البائع مأذون له في التجارة في قولهم جميعا، وإن اشتراه والد البائع أو ولد ولده علا أو سفل أو من يجوز شهادته للبائع ولا شهادة البائع لم يجز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذلك جائز، ولذلك لا يجوز للمولى أن يشتري ما باعه مكاتبه ولا عبده المأذون ولا مضاربه بأقل من الثمن الذي باعوه.
فإن وكل البائع من يشتريه بأقل من الثمن الأول فاشتراه، فالشراء جائز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشراء لازم للوكيل ولا يلزم الأمر، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزم الأمر شراء فاسدا.
وقال في " شرح الطحاوي " إذا مات المشتري فاشتراه البائع من الوارث لا يجوز لأن الوارث يقوم مقام المورث، ولو مات البائع فاشترى وارثه من المشتري جاز الشراء إذا كان الوارث ممن يجوز شهادته للبائع في حال الحياة وقرابته من البائع لا تمنع بخلاف المشتري، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لا يجوز شراء وارث البائع أيضا كوارث المشتري.
[شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية بخمسمائة ثم باعها وأخرى) ش: أي وجارية أخرى م: (معها من البائع قبل أن ينقد الثمن بخمسمائة، فالبيع جائز في التي لم يشترها) ش: أي في الجارية التي لم يشترها م: (من البائع ويبطل) ش: أي البيع م: (في الأخرى) ش: أي في الجارية الأخرى.
وهذه المسألة فروع المسألة المتقدمة لأنها مبنية على شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن(8/175)
لأنه لا بد أن يجعل بعض الثمن بمقابلة التي لم يشترها منه، فيكون مشتريا للأخرى بأقل مما باع، وهو فاسد عندنا، ولم يوجد هذا المعنى في صاحبتها، ولا يشيع الفساد لأنه ضعيف فيها لكونه مجتهدا فيه، أو لأنه باعتبار شبهة الربا، أو لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولهذا لم يجز البيع في التي اشتراها من البائع، وبين ذلك بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن المشتري لما باع الجاريتين بخمسمائة إحداهما هي التي اشتراها من البائع في المرة الأولى بخمسمائة والأخرى هي التي لم يشترها منه م: (لا بد أن يجعل بعض الثمن) ش: في البيع الثاني م: (بمقابلة التي) ش: أي بمقابلة الجارية التي م: (لم يشترها منه) ش:
فلا محالة أن يكون ثمن الجارية التي بيعت أولا أقل مما بيعت م: (فيكون مشتريا للأخرى بأقل مما باع، وهو فاسد عندنا) ش: كما في المسألة المتقدمة م: (ولم يوجد هذا المعنى) ش: وهو الشراء بأقل مما باع م: (في صاحبتها) ش: وهي الجارية التي ضمها إلى الجارية المبيعة؛ لأنه ما اشتراها منه حتى باع بأقل منه فيجوز لعدم المفسد م: (ولا يشيع الفساد لأنه ضعيف فيها) ش: أي لأن الفساد ضعيف في الجارية المشتراة، ولما ضعف الفساد لم يتعد إلى المضمومة إليها كما لو باع قنا ومدبرا حيث يصح في القن ولم يتعد فساد البيع في المدبر إلى القن لكون بيع المدبر مجتهدا فيه م: (لكونه) ش: أي لكون الشراء فساد ما باع بأقل مما باع م: (مجتهدا فيه) ش: فإن عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز بخلاف الجمع بين الحر والعبد في عقد واحد حيث يشيع الفساد في القن لأن الفساد في الحر قوي مجمع عليه.
فإن قلت: يشكل بما إذا أسلم حنطة في شعير وزيت وبين حصة كل واحد ودفع رأس المال إليه فإن السلم في الزيت لا يجوز، وإن كان الفساد في هذا العقد مجتهدا فيه، فإن أسلم الحنطة في الشعير جائز عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قلت: مبنى عقد السلم على المضايقة لتوقف الجواز على شرائط لم يتوقف عليها مطلق البيع فلا يلزم من تأثير الضعيف فيه تأثيره فيما بني على التوسع.
م: (أو لأنه) ش: أي ولأن الفساد م: (باعتبار شبهة الربا) ش: فلو اعتبرنا تلك الشبهة في الجارية التي ضمت إلى المشتراة الكفارة اعتبرنا شبهة الشبهة، والمعتبر الشبهة لا شبهة الشبهة، وبيان ذلك ما ذكره الإمام قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن المسألة الأولى إنما لم يصح شراء ما باع بأقل مما باع لشبهة الربا، وذلك لأن الألف وإن وجب البائع بالعقد الأول لكنها على شرف السقوط لاحتمال أن يجد المشتري بها عيبا فيرده فيسقط الثمن عن المشتري، وبالبيع الثاني يقع الأمن عنه فيصير البائع بالعقد الثاني مشتريا ألفا بخمسمائة من هذا الوجه.
والشبهة ملحقة في الحقيقة في باب الربا احتياطا م: (أو لأنه) ش: أي أو لأن الفساد م:(8/176)
طارئ لأنه يظهر بانقسام الثمن أو المقاصة فلا يسري إلى غيرها.
قال: ومن اشترى زيتا على أن يزنه بظرفه فيطرح عنه مكان كل ظرف خمسين رطلا، فهو فاسد، وإن اشترى على أن يطرح عنه بوزن الظرف جاز، لأن الشرط الأول لا يقتضيه العقد والثاني يقتضيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(طارئ) ش: فلا يتعدى إلى الآخر م: (لأنه) ش: أي لأن الفساد م: (يظهر بانقسام الثمن) ش: وحاصل الكلام أن لظهور الفساد في المشتراة وجهين:
أحدهما: انقسام الثمن.
والآخر: هو قوله م: (أو المقاصة) ش: أما بيان انقسام الثمن فيما قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أو لأنه طارئ يعني أن فساد العقد في البعض إنما يؤثر في الباقي إذا كان المفسد مقارنا، وهاهنا طارئا لأنه ما شرط في العقد أن يكون بإزاء ما باعه بأقل من الثمن الأول بل جعل كل الثمن بمقابلة الجاريتين، ثم ينقسم الثمن إذا وقعت المقاصة بين الثمن الثاني والأول ويبقى من الثمن الأول فضل يستحق الفساد، والمقاصة تقع عقيب وجوب الثمن على البائع الأول بالعقد الثاني فيكون طارئا. وأما بيان المقاصة فلأنه لما باعها بألف ثم اشتراها قبل نقد الثمن بخمسمائة فتقاصا خمسمائة بخمسمائة مثلها، بقي للبائع خمسمائة أخرى مع الجارية، والمقاصة تقع يجب عقيب وجوب الثمن على البائع بالعقد الثاني فيفسد عندها وذلك لا شك في طرفه م: (فلا يسري إلى غيرها) ش: أي فلا يسري الفساد إلى غير المشتراة، كما إذا باع عبدين وفي أحدهما أجل إلى الحصاد، أو جمع بين عبد ومدبر وباعهما فإن البيع لا يفسد في القن ولا في المدبر لأجل فيه. وقاله شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مبسوطه" في هذه المسألة.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل مقابلة ما باع مثل الثمن الأول احتياطا لتصحيح العقد قلنا: هذا الوجه غير متعين فإنه وإن جعل بمقابلته أكثر من الثمن الأول يجوز العقد أيضا، وعند المقاصة لا يترجح البعض على البعض من غير دليل وفيه نوع تأمل.
فإن قيل: ينبغي أن يفسد العقد في الآخر لأن قبول العقد في ذلك شرط لقبول العقد في الآخر وهو شرط فاسد كما هو مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نظائرها.
قلنا: قبول العقد فيه ليس بشرط فاسد، ألا ترى أنه لو كان ثمنه مثل الثمن الأول أو خلاف جنس الثمن الأول كان صحيحا، وإنما الفساد لأجل الربح الحاصل لا على ضمانه، وهذا المعنى يقتصر على العبد الذي باعه ولا يتعدى إلى العقد في العبد الثاني.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى زيتا على أن يزنه بظرفه فيطرح عنه مكان كل ظرف خمسين رطلا فهو فاسد، وإن اشترى على أن يطرح عنه) ش: أي يطرح البائع عن المشتري م: (بوزن الظرف جاز) ش: أي البيع م: (لأن الشرط الأول لا يقتضيه العقد) ش: فإن مقتضاه(8/177)
قال: ومن اشترى سمنا في زق، فرد الظرف وهو عشرة أرطال، فقال البائع: الزق غير هذا وهو خمسة أرطال فالقول قول المشتري، لأنه إن اعتبر اختلافا في تعيين الزق المقبوض، فالقول قول القابض ضمينا كان أو أمينا، وإن اعتبر اختلافا في السمن فهو في الحقيقة اختلاف في الثمن، فيكون القول قول المشتري لأنه ينكر الزيادة.
قال: وإذا أمر المسلم نصرانيا ببيع خمر أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أن يطرح عنه وزن الظرف ما يوجد، وعسى أن يكون وزنه أقل من ذلك أو أكثر، يشترط مقدار معين مخالف لمقتضاه، وأيضا ففيه نفع لأحد المتعاقدين من قبل أن وزن الظرف لو كان أقل من خمسين يجب تكميله فيخرج عن البيع بعض الزيت ولا يدرك ما مقداره، وإن كان وزن الظرف أكثر وجب ضم نفس الظرف إلى الزيت ولا يدري كم يكون.
م: (والثاني) ش: أي الشرط الثاني وهو طرح وزن الظرف م: (يقتضيه) ش: أي العقد لأن طرح الظرف بوزنه شرط يوجبه العقد لأن الظرف غير مبيع وطرح وزن الظرف واجب فيكون شرطا ملائما للعقد فلا يفسد العقد به، كذا في " جامع البزدوي ".
م: (قال: ومن اشترى سمنا في زق فرد الظرف، وهو عشرة أرطال، فقال البائع: الزق غير هذا وهو خمسة أرطال) ش: صورة المسألة في " الجامع "، محمد عن يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل اشترى من رجل السمن الذي في هذا الزق، كل رطل بدرهم فوزن له السمن والزق فبلغ مائة رطل وقبضه المشتري ثم جاء فقال وجدت السمن تسعين رطلا والزق هذا وزنه عشرة أرطال، وقال البائع: الزق غير هذا وزنه خمسة أرطال والسمن خمسة وتسعون رطلا، قال: هذا جائز م: (فالقول قول المشتري) ش: أي مع يمينه إذا لم يقم البائع البينة.
م: (لأنه) ش: أي لأن هذا الاختلاف م: (إن اعتبر اختلافا في تعيين الزق المقبوض فالقول قول القابض ضمينا كان) ش: كالغاصب م: (أو أمينا) ش: كالمودع م: (وإن اعتبر اختلافا في السمن فهو في الحقيقة اختلاف في الثمن، فيكون القول قول المشتري لأنه ينكر الزيادة) ش: والقول قول المنكر مع يمينه.
فإن قيل: الاختلاف في الثمن يوجب التحالف فما وجه المعدول إلى الحلف؟ أجيب: بأن موجبه إذا كان قصدا وهذا ضمني لوقوعه في ضمن الاختلاف في الزق، والفقه فيه أن الاختلاف الابتدائي في الثمن إنما يوجب التحالف ضرورة أن كل واحد منهما يدع خلاف عقد الآخر، وأما الاختلاف بناء على اختلافهما في الزق فلا يوجب الاختلاف في العقد فلا يوجبه.
[أمر المسلم نصرانيا ببيع الخمر أو بشرائها ففعل]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا أمر المسلم نصرانيا ببيع الخمر أو(8/178)
بشرائها ففعل ذلك، جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا يجوز على المسلم. وعلى هذا الخلاف الخنزير، وعلى هذا توكيل المحرم غيره ببيع صيده. لهما، أن الموكل لا يليه فلا يوليه غيره؛ لأن ما يثبت للوكيل ينتقل إليه فصار كأنه باشره بنفسه فلا يجوز. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العاقد هو الوكيل بأهليته وولايته، وانتقال الملك إلى الآمر أمر حكمي فلا يمتنع بسبب الإسلام، كما إذا ورثهما. ثم إن كان خمرا يخللها وإن كان خنزيرا يسيبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بشرائها ففعل ذلك جاز عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقالا: لا يجوز على المسلم) ش: يعني يبطل ولا ينفذ على المسلم، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (وعلى هذا الخلاف الخنزير) ش: إذا وكل المسلم نصرانيا ببيع خنزير أو شرائه م: (وعلى هذا) ش: الخلاف م: (توكيل المحرم) ش: آخر م: (غيره ببيع صيده. لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أن الموكل لا يليه) ش: أي لا يلي الذي أمره للنصراني م: (فلا يوليه غيره) ش: لأن المسلم لا يملك بنفسه فلا يملك غيره.
لأن تمليك ما لا يملك لا يجوز كنكاح المجوسية م: (ولأن ما يثبت للوكيل ينتقل إليه) ش: أي إلى الموكل م: (فصار كأنه باشره بنفسه فلا يجوز) ش: فمباشرته بنفسه لا يجوز فكذا توكيله به م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العاقد هو الوكيل بأهليته) ش: لأن النصراني أهل لمباشرة ذلك م: (وولايته) ش: أي وولاية العاقد ذلك م: (وانتقال الملك إلى الآمر أمر حكمي) ش:.
جواب: عن قولهما كما ثبت للوكيل ينتقل إلى الموكل بيانه: أن انتقال الملك إلى الآمر وهو الموكل حكمي، يعني جبري لا اختياري فلذلك لم يجعل كالمباشر بنفسه م: (فلا يمتنع بسبب الإسلام كما إذا ورثهما) ش: أي كما إذا ورث المسلم الخمر والخنزير بأن كان أبو المسلم نصرانيا أسلم وترك خمرا وخنزيرا فصار كمسلم له عبد نصراني مأذون أو مكاتب اشترى خمرا صح وثبت الملك للمولى.
فإن قلت: الوراثة أمر جبري والتوكيل اختياري. فأنى يتشابهان؟ أجيب بأن ثبوت الحكم أعني الملك للموكل بعد تحقق العلة أعني مباشرة الوكيل جبري، لذلك يثبت بدون اختياره شاء أو أبى في غير هذه الصورة بالاتفاق كما في الموت.
م: (ثم) ش: لما صح شراء الوكيل م: (إن كان) ش: الموكل به م: (خمرا يخللها) ش: الموكل م: (وإن كان خنزيرا يسيبه) ش: لكن قالوا: هذه الوكالة مكروهة أشد الكراهة.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما جاز البيع ينبغي للمسلم أن يتصدق بالثمن، وأما قولهما: إن الموكل لا يليه فلا يوليه غيره منقوض بمسائل منها: إن رجلا لو وكل غيره بشراء عبد بعينه فوكل هذا الوكيل غيره بشراء ذلك يجوز(8/179)
قال: ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها، فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع وشرط، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط، ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد، كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويثبت الملك للوكيل ولا يملك هو أن يشتريه لنفسه، ومنها أن القاضي إذا أمر ذميا ببيع خمر أو خنزير خلفه ذمي آخر يصح والقاضي لا يملك التصرف بنفسه.
ومنها، أن الذي إذا وصى إلى مسلم وقد ترك خمرا أو خنزيرا فإن الموصي يوكل ذميا بالبيع والقسمة وهو لا يلي ذلك بنفسه، وفي "الجنازية" المريض مرض الموت لو باع بما يتغابن في مثله وعليه ديون مستغرقة لا يجوز، ومن وصيه يجوز بعد موته، وكذا لا يبيع الإمام عروض الولد ووصيها يبيع العروض التي هي من ميراثها، والقياس على تزويج المجوسي مدفوع لأن حقوق العقد في باب النكاح راجعة إلى الموكل لا إلى الوكيل لأنه سفير وفي باب الشراء والبيع على العكس.
[باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": م: (ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه، أو أمة) ش: أي أو باع أمة م: (على أن يستولدها، فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع وشرط، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع وشرط» ش: وفي بعض النسخ، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع وشرط» وهذا رواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن "النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .
ومطلق النهي يقتضي الفساد ولا خلاف في هذه الجملة بيننا وبين الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا في شرط العتق فعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز ذلك وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا في " شرح الأقطع ". واختلف الفقهاء في البيع والشرط على ثلاثة أقوال قال أصحابنا: البيع والشرط كلاهما باطلان. وقال ابن أبي ليلى: البيع جائز والشرط باطل. وقال ابن شبرمة: البيع والشرط كلاهما جائزان.
م: (ثم جملة المذهب فيه) ش: أي الجملة الكلية والأصل الشامل بفروع أصحابنا م: (أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد) ش: أي يجب بالعقد من غير شرط م: (كشرط الملك للمشتري) ش: وشرط تسليم الثمن أو المبيع أو شرط حبس المبيع لاستيفاء الثمن م: (لا يفسد العقد) ش: لأن كل هذه(8/180)
لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، أو للمعقود عليه،
وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع؛ لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تثبت بمطلق العقد م: (لثبوته بدون الشرط) ش: أي لثبوت مطلق العقد بدون هذا الشرط وذكره لا يفيد إلا تأكيدا م: (وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه) ش: أي والحال أن فيه م: (منفعة لأحد المتعاقدين) ش: بأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع أو ثوبا على أن يخيطه أو باع عبدا على أن يخدمه البائع شهرا مثلا ولو شرطا لا يقتضيه العقد، ولكن ورد الشرع بجوازه كالأجل، والخيار رخصة وتيسيرا فإنه لا يفسد العقد لأنه لما ورد الشرع به دل على أنه من باب المصلحة دون المفسدة والقياس أن يفسد، ولكن أخذنا بالاستحسان للحديث الوارد في باب الخيار ولو شرط شرطا أن يعطي لا يقتضيه العقد ولا ورد الشرع به لكنه يلائم العقد ويوافقه نحو أن يشتري، بشرط البائع كفيلا بالثمن أو رهنا بالثمن ولم يعين الكفيل ولا أشار إلى أحد فالبيع فاسد.
وكذلك إذا لم يسم الرهن ولا أشار إليه وإذا عينها بالإشارة أو التسمية فالقياس أن لا يجوز البيع أيضا. وبه أخذ زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الاستحسان ": يجوز وهو الصحيح والشرط في صحة اشتراط الكفالة حضور الكفيل في المجلس وقبوله، وإذا كان غائبا لا يجوز وإحضار الرهن في المجلس ليس بشرط.
وما لم يسلم الرهن إلى البائع لا يثبت فيه حكم الرهن، فإن امتنع عن التسليم لا يجبر عليه، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجبر لكن عندنا يقال المشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تدفع الثمن أو تفسخ البيع. فإن لم يقبل المشتري شيئا من ذلك فللبائع أن يفسخ البيع لأنه فات غرضه، ثم إنه قال: وفيه منفعة لأحد المتعاقدين لأنه إذا كان في الشرط ضرر لأحدهما بأن باع ثوبا أو حيوانا سوى الرقيق بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه، ذكر في المزارعة الكبيرة أنه لا يفسد بهذا الشرط. روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يفسد والأول هو الصحيح م: (أو للمعقود عليه) ش: أي أو في الشرط منفعة للمعقود عليه.
م: (وهو) ش: أي المعقود عليه م: (من أهل الاستحقاق) ش: أي من أهل أن يستحق حقا على الغير وهو الآدمي، وقال بعض الشراح: من أهل الاستحقاق أي من أهل الخصومة وليس هذا إلا الآدمي م: (يفسده) ش: جواب قوله: وكل شرط لا يقتضيه العقد، أي يفسد العقد م: (كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع؛ لأن فيه) ش: أي في هذا الشرط م: (زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا) ش: لأن الربا عبارة عن فضل حال عن المعوض.(8/181)
أو لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده، إلا أن يكون متعارفا لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد، ولا منفعة فيه لأحد، لا يفسده، وهو الظاهر من المذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الشرط حال عن عوض لأن العاقدين تقابلا العوض مع المعوض والشرط الذي شرطاه ليس في مقابلته عوض، وفيه معنى المال ولهذا يجوز أخذ المعوض عن الشرط ولم يعوض عنه بشيء في العقد فكان ربا ولهذا يجاب عما يقال: لا تطلق الزيادة إلا على المجانس للمزيد عليه والشرط منفعة فكيف يكون ربا؟
م: (أو لأنه) ش: أي ولأن هذا الشرط م: (يقع بسببه المنازعة) ش: لأنه ذريعة إلى وقوع النزاع لتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط م: (فيعرى العقد عن مقصوده) ش: أي مقصود العقد أي منه وهو التملك والتمليك وقيل المقصود من العقد قطع المنازعة.
وقال الأترازي: مقصود العقد هو الاسترباح م: (إلا أن يكون متعارفا) ش: هذا استثناء من قوله يفسده، أي إلا أن يكون الشرط متعارفا بين الناس، كما لو اشترى نعلا أو شراكين بشرط أن يحدده البائع فلا يفسد به البيع م: (لأن العرف قاض على القياس) ش: لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» أو ثابت بالإجماع، فيكون العرف راجحا على القياس إما بالنص أو بالإجماع ولأن التورع من العادة الظاهرة حرج بين، والحرج مدفوع الكل.
وفي " المبسوط " لا يقال فساد البيع بشرط ثابت بالحديث، والعرف ليس بقاض عليه لأنه معلوم بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة والعرف ينفي النزاع فكان موافقا لمعنى الحديث.
م: (ولو كان) ش: أي الشرط م: (لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده) ش: أي لا يفسد العقد لأن الشرط يلغو أو يصح العقد م: (وهو الظاهر من المذهب) ش: يعني عدم فساد العقد وآخر الشرط هو الظاهر من مذهبنا، واحترز به عما روي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -،(8/182)
كشرط أن لا يبيع المشتري الدابة المبيعة؛ لأنه انعدمت المطالبة، فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة، إذا ثبت هذا نقول: هذه الشروط لا يقتضيها العقد لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتما، والشرط يقتضي ذلك وفيه منفعة للمعقود عليه، والشافعي وإن كان يخالفنا في العتق ويقيسه على بيع العبد نسمة، فالحجة عليه ما ذكرناه، وتفسير البيع نسمة أن يباع ممن يعلم أنه يعتقه لأن يشترط فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث قال: يبطل العقد، ثم ذكر صورة هذا بقوله م: (كشرط أن لا يبيع المشتري الدابة المبيعة لأنه انعدمت المطالبة) ش: أي من الدابة لأنه لا يطالبه بهذا الشرط م: (فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة) ش: فكان الشرط لغوا.
م: (إذا ثبت هذا) ش: يعني ما ذكره في أول المسألة بقوله: ومن باع عبدا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها، فالبيع فاسد م: (نقول هذه الشروط) ش: أي الإعتاق والتدبير والكتابة، والاستيلاد م: (لا يقتضيها العقد لأن قضيته) ش: أي قضية العقد م: (الإطلاق في التصرف والتخيير) ش: أي إطلاق التصرف في المبيع للمشتري باختياره كيف شاء من غير تقييد تصرف دون تصرف م: (لا الإلزام حتما) ش: أي دون الإلزام على تصرف واحد على سبيل الحتم، أي الوجوب والشرط يقتضي الإلزام حتما وبينهما منافاة ظاهرة وهو معنى قوله م: (والشرط يقتضي ذلك) ش: أي الإلزام م: (وفيه) ش: أي في هذا الشرط أيضا.
م: (منفعة للمعقود عليه) ش: وقد بيناه فيما مضى م: (والشافعي، وإن كان يخالفنا في العتق) ش: حيث يقول بيع الرقيق بشرط العتق يجوزه، لكن هذا في قول منه، وفي " شرح الوجيز " في بيع الرقيق بشرط العتق قولان: أحدهما أنه لا يصح.
وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الحسن وفي قول الشرط باطل والبيع جائز م: (ويقيسه) ش: أي الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقيس هذا م: (على بيع العبد نسمة) ش: ومعناه يأتي الآن لأن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره، وقال الأترازي: انتصاب نسمة على الحالة على معنى معرضا للعتق، وذلك أن القسمة لما ذكرها في مثل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «فك رقبة وعتق النسمة» صارت كأنها اسم لما هو معرض للعتق فعوملت معاملة الأسماء المتضمنة لمعنى الأفعال، كذا قال المطرزي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنسمة النفس مشتقة من نسيم الريح.
م: (فالحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ما ذكرناه) ش: وهو «أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع وشرط» وقد مضى م: (وتفسير البيع نسمة أن يباع ممن يعلم أنه يعتقه لأن يشترط) ش: أي العتق م: (فيه) ش: أي في العبد، وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله:(8/183)
فلو أعتقه المشتري بعدما اشتراه بشرط العتق، صح البيع حتى يجب عليه الثمن، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: يبقى فاسدا حتى تجب عليه القيمة؛ لأن البيع قد وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا، كما إذا تلف بوجه آخر، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن شرط العتق من حيث ذاته لا يلائم العقد على ما ذكرناه، ولكن من حيث حكمه يلائمه لأنه منه للملك والشيء بانتهائه يتقرر، ولهذا لا يمنع العتق الرجوع بنقصان العيب، فإذا تلف من وجه آخر لم تتحقق الملائمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ويقيسه على بيع العبد نسمة غير مستقيم على ما ذكره في " المبسوط " من تفسير الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، بيع العبد نسمة حيث قال من جانب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الشراء بشرط الإعتاق متعارف بين الناس لأن بيع العبد نسمة متعارف في الوصايا وغيرها.
ثم قال: وتفسيره البيع بشرط العتق وكان بيع العبد نسمة على ذلك التفسير عن البيع بشرط العتق، فحينئذ يلزم قياس الشيء على نفسه وذلك باطل، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يمكن أن يجاب عنه.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كيف صح تفسير المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - البيع نسمة، صح قياس الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - البيع بشرط العتق عليه لأن المقيس والمقيس عليه غيران أما على ما قال صاحب المبسوط فلا وجه له لأن المقيس هو المقيس عليه بعينه.
م: (فلو أعتقه المشتري) ش: أي فلو أعتق العبد المشتري الذي شرط عتقه البائع في العقد م: (بعدما اشتراه بشرط العتق صح البيع حتى يجب عليه الثمن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال: يبقى فاسدا) ش: كما كان م: (حتى تجب عليه القيمة؛ لأن البيع قد وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا، كما إذا تلف بوجه آخر) ش: بأن مات أو قتله أو باعه، وفي " المبسوط " قولهما قياس.
وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال في " التحفة " لو أعتقه قبل القبض لم ينفذ عتقه وإن أعتقه بعد القبض عتق فانقلب العقد جائزا استحسانا، في قول: أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال لا ينقلب العقد جائزا إذا أعتقه حتى يجب عليه قيمة العبد، ووجوب الثمن دليل الجواز ووجوب القيمة دليل الفساد.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن شرط العتق من حيث ذاته لا يلائم العقد على ما ذكرناه) ش: إشارة إلى قوله لأن قضية الإطلاق في التصرف م: (ولكن من حيث حكمه يلائمه لأنه) ش: أي لأن العتق م: (منه للملك والشيء بانتهائه يتقرر ولهذا) ش: إيضاح لقوله والشيء بانتهائه يتقرر م: (لا يمنع العتق الرجوع بنقصان العيب) ش: يستدل به على أن العتق مقرر للملك ومتمم له، إذ لو كان مزيلا لمنع الرجوع بالنقصان كالعيب.
م: (فإذا تلف من وجه آخر لم يتحقق الملائمة) ش: لأنه يقرر الفساد لصورة الشرط دون(8/184)
فيتقرر الفساد، وإذا وجد العتق تحققت الملائمة فيترجح جانب الجواز، فكان الحال قبل ذلك موقوفا.
قال: وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا، أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري درهما، أو على أن يهدي له هدية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع وسلف. ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صفقتين في صفقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحكم وهو معنى قوله م: (فيتقرر الفساد، وإذا وجد العتق تحققت الملائمة) ش: باعتبار الملائمة بالعتق م: (فيترجح جانب الجواز) ش: على جانب الفساد م: (فكان الحال قبل ذلك موقوفا) ش: أي كان حال العقد موقوفا قبل الإعتاق بين بقائه فاسدا أو انقلابه إلى الجواز بالإعتاق، فلما وجد الإعتاق ترجح جانب الجواز فانقلب جائزا.
>
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكذلك) ش: يفسد م: (لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري درهما، أو على أن يهدي له هدية) ش: فالبيع فاسد م: (لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن بيع وسلف» ش: هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة إلا ابن ماجه اختصره من حديث عبد الله بن عمر، وابن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك.» وقال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث حسن صحيح ورواه محمد بن الحسن الشيباني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " الآثار " وفسره. وقال: أما السلف والبيع فالرجل يقول للرجل أبيعك عبدي هذا بكذا أو كذا على أن تقرضني كذا وكذا، وأما الشرطان في البيع فالرجل يبيع الشيء بألف حالا ومؤجلا بألفين، وأما ربح ما لم يضمن فالرجل يشتري الشيء فيبيعه قبل أن يقبضه بربح م: (ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجازة في بيع، ولو كان لا يقابلهما) ش: يعني شيئا من الثمن م: (يكون إعارة في بيع) ش: وكل ذلك فاسد.
م: (وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صفقتين في صفقة» ش: هذا الحديث رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(8/185)
قال: ومن باع عينا على أن لا يسلمه إلى رأس الشهر فالبيع فاسد؛ لأن الأجل في المبيع العين باطل، فيكون شرطا فاسدا، وهذا لأن الأجل شرع ترفيها فيليق بالديون دون الأعيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في مسنده بإسناده إلى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صفقتين في صفقة» .
قال أسود بن عامر أحد رواة الحديث - قال شريك هو الآخر من رواته هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هذا نقد بكذا ونسيئة بكذا، وروى العقيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من طريق سماك مرفوعا «الصفقة في الصفقتين ربا» وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيعين» والصفقة في اللغة ضرب اليد على اليد في البيع كذا ذكره في مجمل اللغة، ويراد بها في العقد لأن أحد المتعاقدين يضع يده على يد الآخر إذا أراد العقد، وروى الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة» .
قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال بعض أهل العلم أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة ونسيئة بعشرين فلا مفارقة على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما، وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعنى «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة» أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري وهذا تفارق عن بيع بثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته، انتهى.
وبقولنا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا شرط من منافع المبيع يسير السكنى في الدار يوما صح، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أما شرط سكنى الدار يوما أو يومين لم يفسده بعدم الإفضاء إلى المنازعة ظاهرا، وقال ابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ - البيع جائز والشرط فاسد، وقال ابن شبرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البيع صحيح والشرط صحيح وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بيع الدار بشرط سكناها وبيع دابة بشرط ظهرها.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ومن باع عينا على أن لا يسلمه إلى رأس الشهر، فالبيع فاسد؛ لأن الأجل في المبيع العين باطل فيكون شرطا فاسدا) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكذا في الثمن المعين عنده لا يصح تأجيله لعدم الفائدة، واحترز بالبيع المعين إذا كان المبيع دينا كالمسلم فيه، فإن الأجل فيه صحيح م: (وهذا) ش: أي بطلان الأجل في المبيع المعين م: (لأن الأجل شرع ترفيها) ش: أي تيسيرا م: (فيليق بالديون دون الأعيان) ش: لأن الدين غير حاصل فكان الأجل(8/186)
قال: ومن اشترى جارية إلا حملها فالبيع فاسد، والأصل أن ما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه من العقد، والحمل من هذا القبيل، وهذا لأنه بمنزلة أطراف الحيوان لاتصاله به خلقة وبيع الأصل يتناولها، فالاستثناء يكون على خلاف الموجب فلم يصح فيصير شرطا فاسدا، والبيع يبطل به. والكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع لأنها تبطل بالشروط الفاسدة، غير أن المفسد في الكتابة ما يتمكن في صلب العقد منها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه اتباع المدة التي يتمكن المشتري من تحصيله فيها بالكسب، أما المعين فحاصل فلا حاجة فيها إلى ذكر الأجل للترفيه.
[اشترى جارية إلا حملها]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن اشترى جارية إلا حملها فالبيع فاسد) ش: وبه قال الشافعي في الأصح م: (والأصل) ش: أي في هذا م: (أن ما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه من العقد، والحمل من هذا القبيل) ش: فإن الجنين ما دام في بطن أمه فهو في حكم جزء منها، كاليد والرجل ألا ترى أنه يقطع عنها بالمقراض.
وأجزاء الحيوان لا تقبل العقد مقصودا فلا يكون مقصودا بالاستثناء، وهذا لأن الجنين في البطن مجهول لا يدرى أذكر أم أنثى أو خنثى واحد أو أكثر م: (وهذا) ش: أي كون الجنين من هذا القبيل م: (لأنه بمنزلة أطراف الحيوان) ش: كما ذكرنا وذلك م: (لاتصاله به خلقة) ش: أي لاتصال الجنين بالأم من حيث الخلقة.
م: (وبيع الأصل يتناولها) ش: أي يتناول الأطراف، وفي بعض النسخ يتناولهما أي يتناول الأم والحمل، وفي بعض النسخ يتناوله أي يتناول الحمل فإذا كان كذلك م: (فالاستثناء يكون على خلاف الموجب) ش: أي موجب العقد لأن العقد يوجب أن يكون الحمل بيعا غير مقصود م: (فلم يصح فيصير شرطا فاسدا والبيع يبطل به) ش: أي بالشرط الفاسد م: (والكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع) ش: ذكر هذه المسألة تفريعا لمسألة القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذلك نحو ما إذا كاتب عبده على جارية إلا حملها أو أجر داره على جارية إلا حملها أو رهن جارية إلا حملها، ففي الكل يفسد العقد كما يفسد البيع م: (لأنها) ش: أي لأن الكتابة والإجارة والرهن.
م: (تبطل بالشروط الفاسدة، غير أن المفسد في الكتابة) ش: استثناء من قوله: تبطل بالشروط الفاسدة، يعني هذه الأشياء الثلاثة تبطل بالشروط الفاسدة إلا أن المفسد أي الشرط المفسد في الكتابة م: (ما يتمكن في صلب العقد منها) ش: أي من الشروط المفسدة، كالكتابة على الخمر والخنزير أو على قيمته من حيث دخل في البدل، وأما إذا لم يكن في صلب العقد منها كما إذا شرط على المكاتب أن لا يخرج من اليد فله أن يخرج، والعقد صحيح لأن الكتابة تشبه البيع انتهاء لأنه مال في حق المولى ولا يصح إلا ببدل معلوم، ويحتمل الفسخ ابتداء.(8/187)
والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد لا تبطل باستثناء الحمل، بل يبطل الاستثناء لأن هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة، وكذا الوصية لا تبطل به لكن يصح الاستثناء حتى يكون الحمل ميراثا والجارية وصية؛ لأن الوصية أخت الميراث، والميراث يجري فيما في البطن، بخلاف ما إذا استثنى خدمتها لأن الميراث لا يجري فيها. ومن اشترى ثوبا على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا أو قباء، فالبيع فاسد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه يصير صفقة في صفقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وما يشبه النكاح من حيث إنه ليس بمال في حق نفسه، ولا يحتمل الفسخ بعد تمام المقصود فألحقناه بالبيع في شرط تمكن في صلب العقد، وبالنكاح فيما إذا لم يتمكن منه.
م: (والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد لا تبطل باستثناء الحمل، بل يبطل الاستثناء؛ لأن هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة) ش: لأن الفساد باعتبار إفضائه إلى الربا وذلك لا يتحقق إلا في المعاوضات وهذه تبرعات وإسقاطات، وصور هذه الأشياء بأن قال: وهبت هذه الجارية لك إلا حملها أو تصدقتها عليك إلا حملها أو حبلتها مهر أو بدل الخلع أو بدل الصلح عن دم العمد إلا حملها.
فإن قلت: الهبة من قبل التمليكات ينبغي أن يفسد بالاستثناء.
قلت: سلمنا ذلك ولكن عرفنا بالنص أن الشرط المفسد لا يفسدها، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز العمرى وأبطل شرطه للمعمر حتى يصير العمرى لورثة الموهوب له لا لورثة المعمر إذا شرط عوده وصح العقد وبطل الاستثناء.
م: (وكذا الوصية ولا تبطل به) ش: أي باستثناء الحمل م: (لكن يصح الاستثناء) ش: بأن قال: أوصيت بهذه الجارية لفلان إلا حملها م: (حتى يكون الحمل ميراثا والجارية وصية) ش: يعني يكون للموصي له م: (لأن الوصية أخت الميراث) ش: من حيث إن الملك في كل منهما يحصل بعد الموت م: (والميراث يجري فيما في البطن) ش: لأنه عين م: (بخلاف ما إذا استثنى خدمتها) ش: يعني أوصى بجارية لفلان واستثنى خدمتها، لا يصح الاستثناء وقيل بطل حتى تكون الجارية وخدمتها جميعا للموصى له.
م: (لأن الميراث لا يجري فيها) ش: لأنها ليست بعين، وفي بعض النسخ لا يجري فيه ذكر ضمير الخدمة باعتبار المذكور م: (ومن اشترى ثوبا على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا أو قباء، فالبيع فاسد) ش: وهو من مسائل القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا خلاف فيه للأربعة.
م: (لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين) ش: يعني للمشتري م: (ولأنه) ش: أي ولأن هذا العقد م: (يصير صفقة في صفقة) ش: يعني إجارة في بيع أو إعارة في بيع م:(8/188)
على ما مر. ومن اشترى نعلا على أن يحذوه البائع أو يشركه فالبيع فاسد. قال ما ذكره. جواب القياس ووجهه ما بينا، وفي الاستحسان يجوز للتعامل فيه فصار كصبغ الثوب، وللتعامل جوزنا الاستصناع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(على ما مر) ش: أشار به إلى قوله ولأنه لو كانت الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن إلى آخره.
م: (ومن اشترى نعلا على أن يحذوه البائع) ش: النعل الصرم تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه قال الجوهري: الصرم الجلد فارسي معرب، ومعنى يحذوها يجعلها مساويا للآخر م: (أو يشركه) ش: من التشريك وهو وضع الشراك وفي الصحاح: شركت نعلي جعلت له شراكا والتشريك عليه، والشراك هو أحد سيور النعل التي تكون على وجهها م: (فالبيع فاسد) ش: وهو القياس فلذلك قال المصنف بقوله م: (قال) ش: أي المصنف بقوله م: (ما ذكره) ش: أي ما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله فالبيع فاسد.
م: (جواب القياس ووجهه) ش: أي وجه القياس م: (ما بينا) ش: أراد به قوله: لأنه شرط لا يقتضيه العقد إلى آخره، وبالقياس قال زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح م: (وفي الاستحسان يجوز للتعامل فيه فصار) ش: أي فصار جواز شراك النعل بشرط حذو البائع وتشريكه.
م: (كصبغ الثوب) ش: أي كجواز صبغ الثوب، يعني لو استأجر صباغا ليصبغ ثوبه ففي القياس لا يجوز لأنه عقد على استهلاك العين وهو الصبغ والإجارة، بيع المنافع لا بيع العين وفي صبغه يلزم بيع العين ولهذا لا يجوز استئجار البقرة لشرب اللبن، وكذا ترك القياس في استئجار الحمام والظئر لأن فيهما استهلاك الماء واللبن م: (وللتعامل جوزنا الاستصناع) ش: مع أن القياس يأباه لأنه بيع العدوم.
ومن أنواع التعامل ما ذكره في شرح الطحاوي ما لو اشترى صرما أي جلدا على أن يجوز البائع له خفا، أو اشترى قلنسوة بشرط أن يبطن له البائع من عنده، جاز البيع بهذا الشرط للتعادل.
وفي " المبسوط " اشترى شاة بشرط أنها حامل فالعقد فاسد، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول وقال: في الأصح يصح وهو رواية الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال بعض أصحابه: القولان في غير الآدمي، أما في الجواري يصح قولا واحدا، وذكر هشام - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اشترى جارية على أنها حامل يجوز البيع إلا أن يظهر أن المشتري يريدها للظورة فحينئذ يفسد.(8/189)
قال: والبيع إلى النيروز والمهرجان وصوم النصارى وفطر اليهود، إذا لم يعرف المتبايعان ذلك فاسد لجهالة الأجل، وهي مفضية إلى المنازعة في البيع لابتنائه على المماكسة، إلا إذا كانا يعرفانه لكونه معلوما عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وعن الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو شرط الحبل من البائع لا يفسد لأن البائع يذكره على بيان العيب عادة، ولو وجد في المشتري يفسد لأنه ذكره على وجه اشتراط الزيادة.
م: (قال والبيع إلى النيروز) ش: أصله النوروز ولكن لما لم يكن في أوزان العرب فيعول أبدلوا الواو ياء وهو يوم في طرف الربيع م: (والمهرجان) ش: معرب مهركان وهو يوم في طرف الخريف، وقال في "زيح كوشياء": النيروز أول يوم من فروردي ماه والمهرجان هو اليوم السادس عشر من مهرماه.
قلت: "فروردي ماه" أول أشهر الفرس، و "مهرماه" هو الشهر السابع من السنة عندهم.
م: (وصوم النصارى وفطر اليهود) ش: خص الصوم بالنصارى، والفطر باليهود لاحتمال أن يكون مبدأ صوم اليهود معلوما دون صومهم، ألا ترى أن التأجيل إذا كان إلى فطر النصارى بعدما شرعوا في صومهم يصح، لأن مدة صومهم بالأيام معلومة وهي خمسون يوما م: (إذا لم يعرف المتبايعان) ش: أي المشتري والبائع م: (ذلك) ش: أي وقت هذه الأشياء م: (فاسد) ش: خبر المبتدأ أعني قوله: والبيع إلى النيروز وما بعده عطف عليه والفساد م: (لجهالة الأجل) ش: لأن هذه الآجال ليست من آجال المسلمين، فإنهم لا يعرفون وقت ذلك عادة حتى لو كانت معلومة عند المتبايعين، جاز البيع بمنزلة الأهلة.
م: (وهي) ش: أي جهالة الأجل م: (مفضية إلى المنازعة في البيع لابتنائه) ش: أي لابتناء البيع، وفي بعض النسخ لابتنائها، قال الأترازي " - رَحِمَهُ اللَّهُ - ": أنت الضمير الراجع إلى البيع على تأويل المعاوضة أو الصفقة، وما قيل الضمير راجع إلى المنازعة فليس بشيء م: (على المماكسة) ش: أي على المجادلة في النقصان والمماكسة موجودة في المبايعة إلى هذا الأجل لابتناء المبايعة على المماكسة م: (إلا إذا كانا) ش: استثناء من قوله: فاسد، أي إلا إذا كان المتباعيان م: (يعرفانه) ش: أي الأجل م: (لكونه معلوما عندهما) ش: لارتفاع الجهالة ومعرفة غيرهما لا يعتبر لأن الأجل حق لهما. وقال الفقيه أبو الليث في " شرح الجامع الصغير ": وفي قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - جاز البيع إلى هذه الآجال لأن التفاوت قليل، وقال فخر الدين قاضي خان في شرح الجامع الصغير، والتوكيل إلى هذه الأوقات يجوز لأن الكفالة عقد تبرع، ومبنى التبرع على المساهلة.
ولهذا صحت الكفالة بالمجهول بأن قال ما كان لك على فلان فهو علي فجهالة الأجل فيها(8/190)
أو كان التأجيل إلى فطر النصارى بعد ما شرعوا في صومهم لأن مدة صومهم بالأيام معلومة، فلا جهالة فيه. قال: ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج، وكذلك إلى الحصاد والدياس والقطاف والجزاز، لأنها تتقدم وتتأخر، ولو كفل إلى هذه الأوقات جاز لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة، وهذه الجهالة يسيرة مستدركة لاختلاف الصحابة فيها، ولأنه معلوم الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا كانت يسيرة مستدركة، لا تمنع صحة الأجل ولو كانت غير مستدركة، كالكفالة إلى هبوب الريح أو إلى أن تمطر السماء صحت الكفالة ولا يصح الأجل ويكون حالا.
م: (أو كان التأجيل إلى فطر النصارى بعدما شرعوا في صومهم لأن مدة صومهم بالأيام معلومة) ش: وهي خمسون يوما كما ذكرنا وإذا كانت معلومة م: (فلا جهالة فيه) ش: فلا مانع من الجواز م: (قال: ولا يجوز البيع إلى قدوم الحاج وكذلك إلى الحصاد) ش: أي قطع الزرع، ويجوز في الحاء الفتح والكسر م: (والدياس) ش: من الدوس وأصله دواس قلبت الواو بالانكسار ما قبلها، والدوس شدة وطء الشيء بالقدم وفي الحبوب أن يوطأ بقوائم الدواب.
م: (والقطاف) ش: قطع العنب عن الكرم، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القطاف بالفتح والقطف بالكسر عقود العنب م: (والجزاز) ش: بالزائين المعجمتين من جز الصوف وغيره إذا قطعه.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمراد هنا وقت جزاز النخل وبه صرح في " المبسوط "، وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": الجز آلة فيما يجز من الرطاب وكذلك جزاز النخل م: (لأنها) ش: أي لأن أوقات هذه الأشياء.
م: (تتقدم وتتأخر) ش: وليس لها وقت معلوم قطعا وذلك باختلاف الحر والبرد.
م: (ولو كفل إلى هذه الأوقات، جاز لأن الجهالة اليسيرة متحملة في الكفالة، وهذه الجهالة يسيرة مستدركة) ش: أي يمكن تداركها وإزالة جهالتها م: (لاختلاف الصحابة فيها) ش: أي في الحال المذكورة يعني البيع إليها فاسد عند عامة الصحابة، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها أجازت البيع إلى العطاء، وروى البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب " المعرفة " من طريق الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن عبد الكريم الخزري عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا تبيعوا إلى العطاء ولا إلى الدر ولا إلى الدياس.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إجازة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - البيع إلى العطاء محمولة عندنا على أنها إنما أجازت، لأن الخلفاء لم يكونوا يخلفون الميعاد فلم يختلف. فأما بعد ذلك فقد تغير الأمر فصار من جنس ما يتقدم ويتأخر. م: (ولأنه معلوم الأصل) ش: أي ولأن الدين في الكفالة معلوم الأصل، وإنما المجهول وصفه وهو الأجل، والوصف تابع للأصل، والجهالة(8/191)
ألا ترى أنها تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب على فلان، ففي الوصف أولى، بخلاف البيع، فإنه لا يحتملها في أصل الثمن، فكذا في وصفه بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات، حيث جاز لأن هذا تأجيل في الدين، وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة، ولا كذلك اشتراطه في أصل العقد؛ لأنه يبطل بالشرط الفاسد. ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضا، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا، وصار كإسقاط الأجل في النكاح إلى أجل، ولنا أن الفساد للمنازعة، وقد ارتفع قبل تقرره، وهذه الجهالة في شرط زائد لا في صلب العقد، فيمكن إسقاطه بخلاف ما إذا باع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في أصل العين متحملة، فنفي وصفه بطريق الأولى وهو معنى قوله م: (ألا ترى أنها) ش: أي أن الكفالة م: (تحتمل الجهالة في أصل الدين بأن تكفل بما ذاب) ش: أي بما وجب م: (على فلان ففي الوصف أولى) ش: لأن الوصف لا يفترق من الأصل، فإذا جاز في الأصل الذي هو الأعلى، ففي الوصف الذي هو الأدنى بالطريق الأولى م: (بخلاف البيع، فإنه لا يحتملها) ش: أي الجهالة م: (في أصل الثمن، فكذا في وصفه) ش: وهو الأجل إذ الوصف لا يخالف الأجل م: (بخلاف ما إذا باع مطلقا) ش: أي بدون ذكر الأجل م: (ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز، لأن هذا تأجيل في الدين، وهذه الجهالة فيه متحملة بمنزلة الكفالة ولا كذلك اشتراطه) ش: أي اشتراط التأجيل م: (في أصل العقد لأنه) ش: أي لأن العقد م: (يبطل بالشرط الفاسد، ولو باع إلى هذه الآجال ثم تراضيا) ش: أي المتعاقدان م: (بإسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس، وقبل قدوم الحاج جاز البيع أيضا) ش: وقوله لو باع إلى قوله جاز البيع، من كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقوله أيضا من كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه قال قبل هذا: بخلاف ما إذا باع مطلقا ثم أجل الثمن إلى هذه الأوقات حيث جاز.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز) ش: أي لا ينقلب إلى الجواز، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح م: (لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا) ش: بإسقاط المفسد م: (وصار كإسقاط الأجل في النكاح إلى أجل) ش: يعني في النكاح المؤقت بقول زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا على أصلكم لا يصح النكاح إذا أسقط الوقت، وكذا في المسألة المتنازع فيها، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - النكاح إلى أجل جائز والشرط باطل، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا استدلال من جانب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما لم يقل به وهو ليس على ما يبقى م: (ولنا أن الفساد) ش: في البيع المذكور م: (للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره) ش: أي قبل تقرر الفساد.
م: (وهذه الجهالة في شرط زائد) ش: وهو جهالة الأجل المفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم م: (لا في صلب العقد) ش: وهو أحد البدلين م: (فيمكن إسقاطه بخلاف ما إذا باع(8/192)
الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد؛ لأن الفساد في صلب العقد، وبخلاف النكاح إلى أجل لأنه متعة وهو عقد غير عقد النكاح،
وقوله في الكتاب: ثم تراضيا خرج وفاقا؛ لأن من له الأجل يستبد بإسقاطه لأنه خالص حقه. قال: ومن جمع بين حر وعبد، أو شاة ذكية وميتة بطل البيع فيهما، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن سمى لكل واحد منهما ثمنا جاز في العبد والشاة الذكية. وإن جمع بين عبد ومدبر أو بين عبده وعبد غيره صح البيع في العبد بحصته من الثمن عند علمائنا الثلاثة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد) ش: قبل التقرر وقوله: وهذه الجهالة إلى آخره جواب عما يقال إن الجهالة تقررت في ابتداء العقد فلا يفيد سقوطها، كما إذا باع الدرهم بالدرهمين ثم أسقطا الدرهم الزائد، وقد علم الجواب، وأما القياس على بيع الدرهم بالدرهمين فغير صحيح م: (لأن الفساد في صلب العقد) ش: يعني في أحد العوضين.
م: (وبخلاف النكاح) ش: هذا أيضا جواب عن قوله: كإسقاط الأجل بيانه أن النكاح م: (إلى أجل) ش: يعني إلى وقت م: (لأنه متعة وهو عقد غير عقد النكاح) ش: لأن عقد النكاح مندوب إليه، والمتعة منهية فلا يمكن العود إلى النكاح، عند إسقاط الأجل لعدم عقد النكاح رأسا.
[جمع بين حر وعبد في البيع]
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (في الكتاب) ش: أي في مختصره المنسوب إليه م: (ثم تراضيا خرج وفاقا) ش: يعني على سبيل الاتفاق م: (لأن من له الأجل يستبد) ش: أي يستقل وينفرد م: (بإسقاطه لأنه خالص حقه) ش: فيختص به م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن جمع بين حر وعبد) ش: أي في البيع م: (أو شاة) ش: أي أو جمع بين شاة م: (ذكية وميتة بطل البيع فيهما) ش: أي في الصورتين ولم يذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخلاف.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي البطلان م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني باطل مطلقا سواء وصل الثمن أو لا، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن سمى لكل واحد منهما ثمنا جاز في العبد والشاة الذكية) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية م: (وإن جمع بين عبد ومدبر أو بين عبده) ش: أي أو جمع في البيع بين عبده م: (وعبد غيره صح البيع في العبد بحصته من الثمن عند علمائنا الثلاثة) ش: أي في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه.(8/193)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فسد فيهما ومتروك التسمية عامدا كالميتة والمكاتب، وأم الولد كالمدبر. له الاعتبار بالفصل الأول إذ محلية البيع منتفية بالإضافة إلى الكل، ولهما أن الفساد بقدر المفسد فلا يتعدى إلى القن، كمن جمع بين الأجنبية وأخته في النكاح بخلاف ما إذا لم يسم ثمن كل واحد لأنه مجهول، ولأبي حنيفة وهو الفرق بين الفصلين أن الحر لا يدخل تحت العقد أصلا لأنه ليس بمال، والبيع صفقة واحدة، فكان القبول في الحر شرطا للبيع في العبد، وهذا شرط فاسد بخلاف النكاح لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فسد فيهما) ش: أي في المدبر والعبد جميعا، وقيل في الجمعين بين كورين وهو الجمع بين الحر والعبد والجمع بين المدبر والعبد م: (ومتروك التسمية عامدا كالميتة) ش: هذا عن كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره تفريعا على كلام القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني إذا ضم الذكية مع متروك التسمية يبطل البيع، ونصب عامدا على الحال عن المقدر تقديره ومتروك تارك التسمية حال كونه عامدا، وقيد بالعمد لأن بالنسيان لا يضر على ما عرف، فإن قيل: متروك التسمية مجتهد فيه فصار كالمدبر فيجب جواز بيعه مع المذكى كبيع القن مع المدبر، أجيب: بأنه ليس مجتهد فيه بل خطأ بين لمخالفة الدليل الظاهر، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (الأنعام: الآية: 161) ، حتى إن القاضي إذا قضى بحله لا ينفذ القضاء فكان بمنزلة من جمع بين الحر والعبد في البيع م: (والمكاتب وأم الولد كالمدبر) ش: يعني إذا ضم المكاتب أو أم الولد مع العبد يصح البيع في العبد بحصته من الثمن م: (له) ش: أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الاعتبار بالفصل الأول) ش: يعني الاعتبار بالجمع بين الحر والعبد م: (إذ محلية البيع منتفية) ش: لأن كون المحل لجواز البيع منتفية م: (بالإضافة إلى الكل) ش: يعني بإضافة انتفاء المحلية إلى الجميع، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي كل واحد منهما ليس بمحل للبيع.
م: (ولهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الفساد بقدر المفسد) ش: يعني بقدر ما يفسده إذا سمى لكل واحد منهما ثمنا، إذ الحكم يثبت بقدر دليله والمفسد في الحر كونه ليس بمحل للبيع وهو مختص به م: (فلا يتعدى إلى القن) ش: كما في المدبر إذا ضم مع العبد م: (كمن جمع بين الأجنبية وأخته في النكاح) ش: أي في عقد النكاح م: (بخلاف ما إذا لم يسم ثمن كل واحد) ش: من الحر والعبد حيث يبطل البيع فيهما جميعا م: (لأنه مجهول) ش: أي لجهالة الثمن.
م: (ولأبي حنيفة وهو الفرق بين الفصلين) ش: أي بين فصل الحر وفصل المدبر مع القن م: (أن الحر لا يدخل تحت العقد أصلا لأنه ليس بمال والبيع صفقة واحدة) ش: بدليل أن المشتري لا يملك قبول العقد في أحدهما دون الآخر م: (فكان القبول في الحر شرطا للبيع في العبد وهذا شرط فاسد) ش: والبيع يبطل بالشرط الفاسد م: (بخلاف النكاح لأنه لا يبطل بالشروط الفاسدة) .(8/194)
وأما البيع في هؤلاء موقوف وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية، ولهذا ينعقد في عبد الغير بإجازته، وفي المكاتب برضاه في الأصح، وفي المدبر بقضاء القاضي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: جواب عن قياسهما على النكاح، وهو قياس بالفارق لأن النكاح لا يبطل بالشرط الفاسد بخلاف المبيع فإنه يبطل، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه بحث.
أما أولا: فلأنه إذا بين ثمن كل واحد منهما كانت الصفقة متفرقة، وحينئذ لا يكون قبول العقد في الحر شرطا للبيع في العبد.
وأما ثانيا: فلأن الشرط الفاسد وهو ما يكون فيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه حتى يكون في معنى الربا، وليس في قبول العقد في الحر منفعة لأحدهما أو للمعقود عليه فلا يكون شرطا فاسدا.
وأما ثالثا: فلأن قبول العقد في الحر إنما يكون شرطا لقبول العقد في العبد إذا صح الإيجاب فيهما لئلا يتضرر البائع بقبول العقد في أحدهما دون الأخر، ولم يوجد فيما نحن فيه فصار كالجمع بين العبد والمدبر، وأجيب عن الأول: بأن الصفقة متحدة في مثله إذا لم يكن البيع أو الشراء.
وعن الثاني: بأن في قبول العقد في الحر منفعة للبائع فإنه إذا باعهما بألف والحر ليس بمال يقابله بدل، فكأنه قال: بعت هذا العبد بخمسمائة على أن يتسلم أي خمسمائة أخرى فينتفع بفضل مال عن العوض في البيع وهو الربا.
والثالث: بأن الإيجاب إذا صح فيهما صح العبد والشرط جميعا فلا يكون فيما نحن فيه، وإذا ظهر هذا ظهر الفرق بين الفصلين، وثم جواب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن التزيد بينهما.
م: (وأما البيع في هؤلاء موقوف) ش: متصل بقوله: إن الحر لا يدخل تحت العقد، وأراد بهؤلاء المدبر والمكاتب وأم الولد وعبد الغير م: (وقد دخلوا تحت العقد لقيام المالية) ش: فإنهما باعتبار الرق والتقويم وهما موجودان، ولكن حكم البيع لا يثبت فيهم بل يرد صيانة لحقهم، ولهذا لا يخرجون من أن يكونوا محلا للبيع.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون بيع هؤلاء موقوفا م: (ينعقد) ش: البيع م: (في عبد الغير بإجازته) ش: أي في إجازة الغير وهو مولاه م: (وفي المكاتب) ش: أي ينعقد البيع في المكاتب م: (برضاه في الأصح) ش: احترز به عما روي في " النوادر " عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، أنه لا يصح م: (وفي المدبر) ش: أي ينعقد البيع في المدبر م: (بقضاء القاضي) ش: فإنه إذا قضى ببيع المدبر فإنه يجوز.(8/195)
وكذا في أم الولد، عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - إلا أن المالك باستحقاقه المبيع وهؤلاء باستحقاقهم أنفسهم ردوا البيع، فكان هذا إشارة إلى البقاء، كما إذا اشترى عبدين، وهلك أحدهما قبل القبض، وهذا لا يكون شرط القبول في غير المبيع، ولا بيعا بالحصة ابتداء، ولهذا لا يشترط بيان ثمن كل واحد فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز م: (في أم الولد) ش: أي في بيعها م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان فيه اختلاف بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يجوزه، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جوزه، ثم من بعدهم من السلف أجمعوا على عدم جواز بيعها، فالحاصل أن إجماع المتأخرين مع الاختلاف المتقدم، فعندهما لا يرفع إذ ليس لإجماع التابعين من القوة ما يرفع خلاف الصحابة، فكان قضى في مجتهد فيه فينفذ، وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرفع فكان القضاء مخالفا للإجماع فلا ينفذ والمسألة أصولية.
فإن قيل: كيف يصح قوله: موقوف، وقد قال في أول الباب: وبيع أم الولد والمدبر والمكاتب باطل. فالجواب: أنه باطل، إذا لم يجز للمكاتب ولم يقض القاضي بجواز بيع المدبر وأم الولد يدل على ذلك تمام كلامه هناك.
م: (إلا أن المالك) ش: استثناء من قوله: دخلوا تحت العقد، يعني أن المالك م: (باستحقاقه المبيع) ش: وهو العبد الذي كان للغير م: (وهؤلاء) ش: أي المدبر والمكاتب وأم الولد م: (باستحقاقهم أنفسهم ردوا البيع) ش: وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لأن المالك إلى آخره جواب من يقول: لما دخل هؤلاء تحت العقد لقيام المالية ينبغي أن لا يكون بيع هؤلاء فاسدا. فأجاب بقوله: إلا أن المالك إلى آخره، يعني أن البيع الموقوف إذا رد من له ذلك بطل، وهنا كذلك فإن المالك وهؤلاء رده، ولهم ذلك لاستحقاق المالك واستحقاق هؤلاء أنفسهم م: (فكان هذا) ش: أي الوجه بالاستحقاق بعد الدخول م: (إشارة إلى البقاء) ش: أي بقاء البيع، لأن الرد بالاستحقاق لا يكون إلا في البقاء فكان م: (كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض) ش: فإن العقد يبقى في الباقي بحصته من الثمن بقاء الابتداء.
م: (وهذا) ش: أي الجمع بين القن وأحد المذكورين م: (لا يكون شرط القبول في غير المبيع ولا بيعا) ش: أي ولا يكون بيعا م: (بالحصة ابتداء) ش: بعدما ثبت دخولهم في البيع م: (ولهذا لا يشترط) ش: حالة العقد م: (بيان ثمن كل واحد) ش: من العبد والمدبر م: (فيه) ش: أي فيما إذا جمع بين القن والمدبر أو عبد غيره، وفي " الكافي ": ولو جمع بين وقف وملك وأطلق صح في الملك في الأصح، ولو باع كرما في مسجد قديم إن كان عامرا نفذ البيع وإلا فلا وكذا في المعتبرة.(8/196)
فصل في أحكامه وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد بأمر البائع، وفي العقد عوضان كل واحد منهما مال، ملك المبيع ولزمته قيمته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان أحكام البيع الفاسد]
[قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد]
م: (فصل في أحكامه)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام البيع الفاسد م: (وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد) ش: إنما عبر بالفاسد، لأن الباطل لا يفيد شيئا م: (بأمر البائع) ش: أي بإذنه صريحا أو دلالة بأن يقبضه في المجلس بحضرته، فإن لم يقبضه بحضرة البائع لم يملكه، بخلاف الصريح فإنه يفيده مطلقا.
م: (وفي العقد عوضان كل واحد منهما) ش: يعني مالا قيد به لفائدة وهي أنه إذا كان أحد العوضين أو كلاهما غير مال فالبيع باطل، كالبيع بالميتة والدم، وبالحر والبيع بالخمر والخنزير فاسد، كما ذكره المصنف في أول باب البيع الفاسد، وفي هذا الفصل شرع في بيان حكمها وهو القبض، فقال: وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد إلى آخره.
ثم ذكر خلاف الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما يدل على أنه لا يفرق بين الفاسد والباطل على ما نقف عليه الآن إن شاء الله تعالى م: (مال ملك المبيع ولزمته قيمته) ش: أي قيمة المبيع وهو قول عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - سوى أهل العراق، فإنهم قالوا: إن المشتري في البيع الفاسد بالقبض يملك التصرف ولا يملك المبيع، استدلالا بما قال في كتاب البيوع: إن المشتري إذا أعتقه جاز عتقه، وكان الولاء له لا للبائع لأن البائع سلطه على ذلك، ولهذا لو كان المبيع جارية لا يجوز للمشتري وطئها.
ولو كان دارا لا يجوز فيها الشفعة للشفيع، وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا ليس بصحيح، بل المشتري يملك عين المبيع في قول علمائنا، بدليل أن المبيع لو كان دارا فقبضها فبيعت دار أخرى بجنبها، فللمشتري أن يأخذ الدار بالشفعة.
ولو لم يملك عين الدار لم يجب له الشفعة، ولو كان المبيع جارية فقبضها ثم ردها على البائع وجب الاستبراء، وإنما لم يجز للمشتري أن يطأها لأنه وجب عليه ردها لئلا يكون مصرا على المعصية، فاستعماله بالوطء إعراض عن الرد، فلهذا المعنى لم يجز لا لعدم الملك، وإنما لم يجب فيها الشفعة لأن حق البائع لم ينقطع عنها.
وقال في " شرح الطحاوي ": والأصل في البيع الفاسد أن كل ما يملك بالبيع الجائز يملك بالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض بإذن البائع، وكل ما لا يملك بالبيع الجائز لا يملك بالبيع الفاسد، بيانه: من اشترى من رجل عبدا بخمر أو خنزير وتقابضا وهما مسلمان ملك المشتري(8/197)
وقال الشافعي: لا يملكه، وإن قبضه، لأنه محظور فلا ينال به نعمة الملك، ولأن النهي نسخ للمشروعية للتضاد، ولهذا لا يفيده قبل القبض، وصار كما إذا باع بالميتة أو باع الخمر بالدراهم. ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله فوجب القول بانعقاده، ولا خفاء في الأهلية والمحلية. وركنه مبادلة المال بالمال، وفيه الكلام، والنهي يقرر المشروعية عندنا لاقتضائه التصور، فنفس البيع مشروع وبه تنال نعمة الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العبد إذا قبضه بإذن البائع، ولا يملك الآخر الخمر والخنزير.
وكذلك لو اشترى من رجل عبدا بمدبر أو مكاتب أو بأم ولد، وتقابضا ملك المشتري إذا قبضه بإذن البائع، ومشتري المدبر والمكاتب وأم الولد لا يملك، وإن قبض بإذن البائع، وكذلك لو اشترى من رجل عبده بمال الغير بغير إذن صاحبه وتقابضا ملك مشتري العبد، ولا يملك الآخر ما قبض حتى يجيز ماله البيع فيه.
م: (وقال الشافعي: لا يملكه، وإن قبضه) ش: وبه قال مالك وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (لأنه محظور) ش: أي حرام م: (فلا ينال به نعمة الملك، ولأن النهي نسخ للمشروعية للتضاد) ش: أي بين النهي والمشروعية، إذ النهي يقتضي القبح، والمشروعية تقتضي الحسن وبينهما منافاة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (لا يفيده) ش: أي الملك م: (قبل القبض، وصار كما إذا باع بالميتة أو باع الخمر بالدراهم) ش: وقبضها المشتري فإنه لا يفيد الملك.
م: (ولنا أن ركن البيع) ش: أي ركن البيع الفاسد وهو البيع بالخمر أو الخنزير، وفيه مبادلة المال بالمال بالتراضي م: (صدر من أهله) ش: وهو كونه عاقلا بالغا حال كونه م: (مضافا إلى محله) ش: لأن المبيع فيه مال، والثمن مال من وجه لميلان طباع الناس إلى الخمر والخنزير غير أنه ليس بمتقوم ولإهانة الشرع، فلما كان الثمن مالا من وجه دون وجه لم يبطل البيع بل فسد، فإذا كان كذلك م: (فوجب القول بانعقاده) ش: لوجود شرائط.
م: (ولا خفاء في الأهلية والمحلية، وركنه مبادلة المال بالمال وفيه الكلام) ش: جواب سؤال مقدر بأن يقال: سلمنا بأن ركن البيع مبادلة المال، ولكن لم قلت إنه موجود؟ فأجاب بقوله: وفيه الكلام يعني كلامنا فيما إذا وجد الركن؛ لأن الركن الذي هو المبادلة موجود في جميع البيوع الفاسدة.
م: (والنهي يقرر المشروعية) ش: وهذا جواب عما يقال، قد يكون النهي مانعا، فأجاب بقوله: والنهي يقرر المشروعية م: (عندنا لاقتضائه التصور) ش: ليكون النهي عما يكون ليكون العبد مبتلى بين أن يترك باختياره فيثاب، وبين أن يأتي به فيعاقب عليه م: (فنفس البيع مشروع وبه) ش: أي وبالبيع م: (تنال نعمة الملك) ش: لكن لا بد فيه من قبح مقتضى النهي، فجعلناه في(8/198)
وإنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء، وإنما لا يثبت الملك قبل القبض كيلا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور، إذ هو واجب الرفع بالاسترداد، فبالامتناع عن المطالبة أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصفه مجاورا وهو معنى قوله م: (وإنما المحظور ما يجاوره كما في البيع وقت النداء) ش: يعني يوم الجمعة فجعل وصفه عملا بالوجهين.
فإن قيل: المحظور: وقت النداء مجاور، وأما في المتنازع فيه من قبيل ما اتصل به وصفا، فلا يكون قوله كما في البيع وقت النداء صحيحا، وأيضا الحكم هناك الكراهة، وفي المتنازع فيه الفساد.
وأجيب: بأن غرض المصنف في ذكر المجاورة بيان أن المحظور ليس لمعنى في عين النهي عنه كما زعمه الخصم، والمجاور جمعا والمتصل وصفا سببان فيصبح قياس أحدهما على الآخر، وبأن عرضه أن الحكم المنهي عنه ليس البطلان كما يدعيه الخصم، والكراهة والفساد يشتركان في عدم البطلان.
م: (وإنما لا يثبت الملك قبل القبض) ش: جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولهذا لا يبيعه قبل القبض، بيانه: أن البيع الفاسد لا يثبت الملك قبل القبض للمبيع.
م: (كيلا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور) ش: أي عن جهة الشارع لأن البيع الفاسد منهي عنه، ولو ثبت الملك قبل القبض يكون التسليم والتسلم واجبا شرعا، فيكون الشارع آمرا وناهيا في شيء واحد، وهذا لا يجوز.
فإن قيل: لو ثبت الملك بعد القبض يلزم تقربه الفساد أيضا.
قلنا: لو ثبت القبض يكون الفساد مضافا إلى نفس البيع.
والبيع مشروع الله تعالى فيكون الفساد مضافا إلى الشارع، ولا كذلك بعد القبض لأن الملك مضاف إلى القبض، والقبض يوجب الضمان كما في المقبوض على سوم الشراء فكان تقرير الفساد مضافا إلى العبد، كذا نقل عن القاضي الأرسابندي، وقيل لأن الفاسد لو ثبت قبل الملك قبل القبض وبعده لكان مساويا للصحيح، ولو ألغينا الملك به لكان مساويا للباطل فأثبتنا الملك بعد القبض به عملا بالدليلين وفيه نوع تأمل لأن الفاسد والباطل متساويان عند الخصم.
م: (إذ هو) ش: تعليل كقوله: كيلا يؤدي إلى تقرير الفساد المجاور، أي لأن البيع الفاسد م: (واجب الرفع بالاسترداد) ش: أي بطلب رد المبيع من يد المشتري فلا جرم لم يفد الملك قبل القبض م: (فبالامتناع عن المطالبة أولى) ش: يعني أن البيع الفاسد إذا أفاد الملك بالقبض يجب(8/199)
ولأن السبب قد ضعف لمكان اقترانه بالقبيح فيشترط اعتضاده بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة، والميتة ليست بمال فانعدم الركن، ولو كان الخمر مثمنا فقد خرجناه، وشيء آخر وهو أن في الخمر الواجب هو القيمة وهي تصلح ثمنا له لا مثمنا، ثم شرط أن يكون القبض بإذن البائع وهو الظاهر إلا أنه يكتفى به دلالة، كما إذا قبضه في مجلس العقد استحسانا، وهو الصحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
استرداد المبيع من يد المشتري رفعا للفساد واجتنابا عن المعصية، فبامتناع المشتري عن مطالبة تسليم المبيع منع الفساد أولى من رفع الفساد بالاسترداد، لأن الدفع أسهل من الرفع.
م: (ولأن السبب قد ضعف) ش: دليل ثان على عدم ثبوت الملك قبل القبض، يعني أن السبب وهو البيع الفاسد قد ضعف م: (لمكان اقترانه بالقبيح) ش: وهو النهي عنه فلأجل هذا لم يفد الملك م: (فيشترط اعتضاده) ش: أي تقويته م: (بالقبض في إفادة الحكم بمنزلة الهبة) ش: في احتياجها إلى ما بعضه العقد من القبض.
م: (والميتة ليست بمال) ش: جواب عن قياس الخصم المتنازع فيه على البيع بالميتة، تقريره أن الميتة ليست بمال، وما ليس بمال لا يجوز فيه البيع لفوات ركنه وهو معنى قوله م: (فانعدم الركن) ش: فلا ينعقد العقد فالقياس فاسد م: (ولو كان الخمر مثمنا فقد خرجناه) ش: هذا جواب لقوله: أو باع الخمر بالدرهم يعني ذكرنا تخريجه في أوائل باب البيع الفاسد، وأراد به ما ذكره ثمة لقوله وأما بيع الخمر والخنزير إن كان بالدين كالدراهم والدنانير فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله إلى آخره.
م: (وشيء آخر) ش: أي دليل آخر سوى ما ذكرنا هناك م: (وهو أن في الخمر الواجب هو القيمة) ش: لا عين الخمر لأن المسلم ممنوع عن تسليم الخمر وتسلمها م: (وهي) ش: أي الخمر م: (تصلح ثمنا لا مثمنا) ش: أي مبيعا، فلو قلنا بانعقاد المبيع في هذه الصورة جعلنا القيمة مثمنا، إذ كل عين في مقابلة الدراهم والدنانير في البيع مثمن لتعينها للثمنية خلقة وشرعا، وما عهد في صورة من صور البياعات أن تكون القيمة مثمنا، لأنه يؤدي إلى تغيير المشروع.
م: (ثم شرط) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن يكون القبض بإذن البائع) ش: حيث قال: وإذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد بأمر البائع م: (وهو الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (إلا أنه يكتفى به) ش: أي بالإذن.
م: (دلالة) ش: أي من حيث الدلالة م: (كما إذا قبضه) ش: أي المشتري م: (في مجلس العقد استحسانا) ش: أي يصح من حيث الاستحسان م: (وهو الصحيح) ش: أي الاستحسان هو الصحيح، واحترز به عما ذكره صاحب " الإيضاح " وسماه الرواية المشهورة.(8/200)
لأن البيع تسليط منه على القبض، فإذا قبضه بحضرته قبل الافتراق ولم ينهه كان بحكم التسليط السابق، وكذا القبض في الهبة في مجلس العقد يصح استحسانا،
وشرط أن يكون في العقد عوضان كل واحد منهما مال ليتحقق ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فيخرج عليه البيع بالميتة والدم والحر والريح، والبيع مع نفي الثمن، وقوله لزمته قيمته في ذوات القيم، فأما في ذوات الأمثال يلزمه المثل لأنه مضمون بنفسه بالقبض، فشابه الغصب، وهذا لأن المثل صورة، ومعنى أعدل من المثل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال: وما قبضه بغير إذن البائع في البيع الفاسد فهو كما يقبض، وأشار إلى وجه الصحيح بقوله: م: (لأن البيع تسليط منه) ش: أي من البائع م: (على القبض فإذا قبضه بحضرته) ش: أي بحضرة البائع م: (قبل الافتراق ولم ينهه) ش: أي البائع لم ينه المشتري عن القبض م: (كان) ش: أي القبض م: (بحكم التسليط السابق) ش: فيكتفى به م: (وكذا القبض في الهبة في مجلس العقد يصح استحسانا) ش: يعني يكتفى بسكوت الواهب وعدم نهيه الموهوب له عن القبض استحسانا أي من حيث الاستحسان.
م: (وشرط) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ: ويشترط م: (أن يكون في العقد عوضان كل واحد منهما مال ليتحقق ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال فيخرج عليه) ش: أي على قول القدوري م: (البيع بالميتة والدم والحر والريح) ش: بأن قال: بعت هذا الشيء بالريح الشمالي الذي يأتي من هذا الجانب، وذلك المكان ملك المشتري، وفي " الذخيرة ": صورته بأن يكون لإنسان ظرف منقوح فاشترى بذلك الريح الذي في ذلك الظرف ويجعلها في ظرف احترز له م: (والبيع مع نفي الثمن) ش: أي في رواية لأنه إذا نفاه فقد الركن عن العقد فلم يكن بيعا، وفي رواية: ينعقد بيعا لأن نفيه لا يصح، إذ البيع مشتمل على العوضين وما يشتمل على عوضين فهو هبة وصدقة.
وإذا لم يصح صار كأنه سكت عن ذكر الثمن، فلو باع وسكت عن ذكر الثمن ينعقد البيع فاسدا ويثبت الملك بالقبض لأن مطلق العقد يقتضي المعاوضة، فإذا سكت كان عوضه قيمة وكأنه بقيمته فيفسد البيع.
م: (وقوله) ش: أي قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لزمته قيمته في ذوات القيم) ش: كالحيوانات والعدديات المتفاوتة م: (فأما في ذوات الأمثال) ش: كالمكيلات والموزونات والعدديات غير المتفاوتة م: (يلزمه المثل لأنه مضمون بنفسه بالقبض) ش: واحترز به عن البيع الصحيح، وقالوا جميعا: فالمرجوع في قيمته أو المثل، أي قول المشتري لأنه هو الذي يلزمه الضمان، فالقول قوله واليمين للبائع، كذا في " شرح مختصر الكرخي " م: (فشابه الغصب) ش: والحكم في الغصب كذلك م: (وهذا) ش: أي وجوب المثل في ذوات الأمثال م: (لأن المثل صورة ومعنى أعدل من المثل(8/201)
معنى قال: ولكل واحد من المتعاقدين فسخه رفعا للفساد، وهذا قبل القبض ظاهر لأنه لم يفد حكمه، فيكون الفسخ امتناعا منه، وكذا بعد القبض إذا كان الفساد في صلب العقد لقوته، وإن كان الفساد بشرط زائد فمن له الشرط ذلك دون من عليه لقوة العقد، إلا أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معنى) ش: وهو القيمة لأنه إنما يضاف إليها عند العجز عن المثل صورة ومعنى: وإنما لم يلزم الثمن حتى لا يلزم تقرير البيع الفاسد.
[فسخ البيع الفاسد]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولكل واحد من المتعاقدين فسخه) ش: أي حق فسخ البيع الفاسد.
م: (رفعا للفساد) ش: وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: رفعا للفساد بالراء لا بالدال، كذا السماع، وذلك أن رفع الشيء إنما يكون بعد وقوع ذلك الشيء ودفعه يكون قبل وقوعه، والفساد هنا واقع فكان المسموع هو الصحيح.
قلت: نسخة شيخي أيضا بالراء، ولكن قوله ودفعه يكون قبل وقوعه، والفساد فيه تأمل لأن الدفع بحسب اللغة لا يختص بالقرب والبعد كيلا يقع بتصرفه على المشتري مكروها أو حراما، فقال في "الإيضاح": ويكره للمشتري أن يتصرف فيه بتمليك أو انتفاع لأن الفسخ مستحق حقا لله تعالى، لأن إعدام الفساد واجب، والتصرف فيه تقرير الفساد م: (وهذا) ش: أي كون حق الفسخ لكل منهما م: (قبل القبض ظاهر لأنه) ش: أي لأن البيع الفاسد م: (لم يفد حكمه) ش: وهو الملك م: (فيكون الفسخ امتناعا منه) ش: أي من الحكم م: (وكذا بعد القبض) ش: لكل واحد منهما فسخه.
م: (إذا كان الفساد في صلب العقد) ش: أي في البدل أو المبدل كبيع درهم بدرهمين وبيع ثوب بخمر م: (لقوته) ش: أي لقوة الفساد، ففي الصورتين يملك فسخه بحضرة صاحبه عندهما لأنه إلزام موجب الفسخ، ولا يلزمه إلا بعلمه، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بغير حضرته أيضا.
م: (وإن كان الفساد بشرط زائد) ش: بأن باعه على أن يقرضه أو يهبه، كذا أو باعه إلى أجل مجهول، م: (فمن له الشرط ذلك) ش: والنسخة الصحيحة فلمن له الشرط ذلك أي الفسخ ومن له الشرط أي منفعة الشرط هو البائع في صورة الإقراض، والمشتري في صورة الأجل م: (دون من عليه لقوة العقد) ش: دليل قوله: دون من عليه، يعني أن فسخ من عليه لا يجوز لأن العقد قوي لأن الشرط دخل في أمر زائد لا في صلب العقد.
م: (إلا أنه) ش: استثنى من قوله: لقوة العقد يعني أن العقد لما كان قويا كان القياس أن لا(8/202)
لم تحقق المراضاة في حق من له الشرط.
قال: فإن باعه المشتري نفذ بيعه لأنه ملكه، فملك التصرف فيه وسقط حق الاسترداد لتعلق حق العبد بالثاني، ونقض الأول لحق الشرع، وحق العبد مقدم لحاجته، ولأن الأول مشروع بأصله. دون وصفه، والثاني مشروع بأصله ووصفه فلا يعارضه مجرد الوصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يفسخ من له الشرط أيضا إلا أنه م: (لم يتحقق المراضاة في حق من له الشرط) ش: فله أن يفسخه، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا أنه إلى آخره جواب سؤال يرد على قوله: لقوة العقد، يعني لما كان العقد قويا ينبغي أن لا يكون لأحد ولاية الفسخ.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن باعه المشتري) ش: أي الذي اشترى بالشراء الفاسد م: (نفذ بيعه لأنه ملكه) ش: بالقبض م: (فملك التصرف فيه) ش: سواء كان بيعا أو هبة أو إعتاقا غير أنه لا يحل له الأكل، إن كان مأكولا، وإن كانت جارية لا يحل له وطؤها، كذا في شرح الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال شمس الأئمة الحلواني: يكره له الوطء ولا يحرم، كذا في " الفتاوى الصغرى "، وفي شرح الطحاوي: وإذا باعه المشتري ليس للبائع إبطاله، وعلى المشتري القيمة أو المثل، إن كان مثليا ويطيب ذلك الملك للثاني لأنه ملكه بعقد صحيح بخلاف المشتري الأول لأنه لا يحل له ولا يطيب لأنه ملكه بعقد فاسد.
ولو كان المبيع جارية فاستولدها المشتري صارت أم ولد له ويغرم القيمة ولا يغرم العقر في رواية كتاب البيوع، وفي رواية كتاب الشرب عليه العقر ولو رهن المشتري المبيع صح الرهن، وليس للبائع إبطاله، وإن فكه المشتري قبل أن يقضي عليه بالقيمة فإنه يرد على البائع إبطاله، وإن فكه بعد ما قضى عليه بالقيمة فلا سبيل له على المبيع، وإن أجره صحت الإجارة غير أن للبائع أن يبطلها ويسترد المبيع م: (وسقط حق الاسترداد لتعلق حق العبد بالثاني) ش: أي لتعلق حق المشتري الثاني بالعقد الثاني م: (ونقض الأول) ش: أي البيع الأول م: (لحق الشرع) ش: من جهة الفساد فيه وحق الشرع إذا اجتمع مع حق العبد يقدم حق العبد وهو معنى قوله: م: (وحق العبد مقدم لحاجته) ش: لأن الله تعالى غني فالعفو منه أرجى بخلاف حق من الغاصب لأنه تعلق به حق المغصوب منه، وكلاهما حق العبد فيرجح حق المغصوب منه لأنه أسبق، كذا في " المبسوط ".
م: (ولأن الأول) ش: هذا دليل على سقوط حق الاسترداد للبائع بعد بيع المشتري من غيره يعني أن البيع الأول م: (مشروع بأصله) ش: لأنه لا فساد في أصل البيع م: (دون وصفه) ش: لدخول الفساد فيه م: (والثاني) ش: أي البيع الثاني م: (مشروع بأصله ووصفه) ش: لأنه لا فساد فيهما جميعا م: (فلا يعارضه مجرد الوصف) ش: أي فلا يعارض المشروع بأصله ووصفه المشروع(8/203)
ولأنه حصل بتسليط من جهة البائع، بخلاف تصرف المشتري في الدار المشفوعة؛ لأن كل واحد منهما حق العبد، ويستويان في المشروعية وما حصل بتسليط من الشفيع.
قال: ومن اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه وأعتقه أو باعه أو وهبه وسلمه فهو جائز، وعليه القيمة لما ذكرنا؛ أنه ملكه بالقبض فينفذ تصرفاته، وبالإعتاق قد هلك فتلزمه القيمة، وبالبيع والهبة انقطع حق الاسترداد على ما مر، والكتابة والرهن نظير البيع لأنهما لازمان، إلا أنه يعود حق الاسترداد بعجز المكاتب وفك الرهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بمجرد الوصف، حاصله أن الفساد لا يعارض الصحيح م: (ولأنه) ش: هذا دليل ثالث على سقوط حق الاسترداد بعد بيع المشتري، أي ولأن البيع الثاني م: (حصل بتسليط من جهة البائع) ش: حيث كان القبض بإذنه فاسترداده نقص ما لم يكن من جهته، وذلك باطل.
فإن قلت: هذا المعنى وهو التسليط وجد قبل بيع المشتري أيضا، ومع هذا لكل واحد من المتعاقدين فسخه إعداما للفساد فانتقض العلة.
قلت: معناه حصل بتسليط من جهة البائع وقد تعلق به حق ثالث فبطل السؤال.
م: (بخلاف تصرف المشتري) ش: هذا جواب عما يقال: لو كان تعلق حق الغير بالمشتري مانعا من نقض التصرف لم ينتقض تصرفات المشتري في الدار المشفوعة من البيع والهبة والبناء وغيرها لتعلق حقه بها، لكن للشفيع أن ينقضها. وتقرير الجواب ما قاله من قوله: بخلاف تصرف المشتري م: (في الدار المشفوعة لأن كل واحد منهما) ش: أي من حق الشفيع وحق المشتري م: (حق العبد ويستويان في المشروعية، وما حصل بتسليط من الشفيع) ش: أي لم يوجد التسليط من الشفيع لأن التسليط إنما يثبت بالإذن أو بإثبات الملك المطابق للتصرف، ولم يوجد من الشفيع شيء من ذلك فكان له الاسترداد.
[اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه]
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن اشترى عبدا بخمر أو خنزير فقبضه) ش: بإذن البائع م: (وأعتقه أو باعه أو وهبه وسلمه فهو جائز) ش: أي هذا لأنه كره أن يغير لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعليه القيمة لما ذكرنا) ش: فيما تقدمه م: (أنه ملكه بالقبض فينفذ تصرفاته) ش: وأصل المسألة أن البيع الفاسد يفيد الملك عند اتصال القبض بالإذن عند أصحابنا، خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر بيان ذلك فيما مضى.
م: (وبالإعتاق قد هلك) ش: أي لم يبق مالية بالعتق م: (فتلزمه القيمة، وبالبيع والهبة انقطع حق الاسترداد على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: لتعلق العبد الثاني، وهو المشتري الثاني.
م: (والكتابة والرهن نظير البيع لأنهما لازمان) ش: فإن الرهن إذا اتصل بالقبض صار لأنه ما في حق الراهن، كالكتابة في حق المولى م: (إلا أنه يعود حق الاسترداد بعجز المكاتب وفك الرهن(8/204)
لزوال المانع، وهذا بخلاف الإجارة لأنها تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد عذر، ولأنها تنعقد شيئا فشيئا فيكون الرد امتناعا. قال: وليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يرد الثمن لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسا به كالرهن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لزوال المانع) ش: وهو تعلق حق العبد قبل وليس في تخصيصهما في عود الاسترداد زيادة فائدة لإثبات في جميع الصور إذا انتقض التصرفات حتى لو رد المبيع بعيب قبل القضاء بالقيمة أو رجع الواهب في هبته عاد للبائع، ولأنه الاسترداد لعود قديم ملكه إليه ثم عود حق الاسترداد في جميع الصور، إنما يكون إذا لم يقض على المشتري بالقيمة وأما إذا كان بعد القضاء بذلك عند تحول الحق إلى القيمة فلا يعود إلى الغير كما إذا قضى على الغاصب بقيمة المغصوب الآبق ثم عاد.
م: (وهذا) ش: أي انقطاع الاسترداد بالتصرفات المذكورة م: (بخلاف الإجارة) ش: فإن حق الاسترداد فيها لا ينقطع م: (لأنها تفسخ بالأعذار، ورفع الفساد عذر) ش: من أقوى الأعذار، وفي " الذخيرة " و " المبسوط " لا يبطل حق الاسترداد بالإجارة والنكاح، لأن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وقيام حق الشرع في الرد إفساد السبب من أقوى الأعذار فيفسخ به، ألا ترى أن المشتري لو أجر المبيع ثم وجد به عيبا كان له فسخ الإجارة للرد بالعيب، فهذا أولى ولم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من يفسخ الإجارة.
وذكر في " النوادر " أن القاضي يفسخها م: (ولأنها) ش: أي ولأن الإجارة م: (تنعقد شيئا فشيئا فيكون الرد امتناعا) ش: يعني أن الإجارة تنعقد على المنافع وهي تحدث شيئا فشيئا، إلا أن العين أقيمت مقام المنفعة، ففي أي وقت رد العقد كان الرد امتناعا من انعقاد العقد في حق المنفعة التي تحدث بعده لعدم الضرورة، فلا يكون فيه رفع العقد الثابت.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وليس للبائع في البيع الفاسد أن يأخذ المبيع حتى يرد الثمن) ش: الذي أخذه، قال الأترازي: قوله حتى يرد الثمن أي القيمة التي أخذها من المشتري، ذكره بعض الشارحين، وفيه نظر؛ لأن القيمة إنما تجب في البيع الفاسد إذا هلك المبيع، وهنا المبيع قائم، وإنما أثبت محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسم الثمن، وإن كان البيع فاسد التصور بصورة الثمن حيث قوبل بالمبيع.
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه قال: هكذا فرارا عن المجاز، وقال الإمام التمرتاشي: هذا الحكم ليس بخصوص البيع الفاسد بل هذا الحكم ثابت في الإجارة الفاسدة والرهن الفاسد والعرض الفاسد اعتبارا بالعقد الجائز إذا تفاسخا، لأن هذه عقود معاوضة فيوجب السوية بين البدلين م: (لأن المبيع مقابل به) ش: أي بالثمن الذي أعطاه المشتري م: (فيصير محبوسا به) ش: أي بالثمن م: (كالرهن) ش: بالدين لكنه يفارقه من وجه آخر، وهو أن(8/205)
وإن مات البائع فالمشتري أحق به حتى يستوفي الثمن؛ لأنه يقدم عليه في حياته، فكذا على ورثته وغرمائه بعد وفاته كالراهن، ثم إن كانت دراهم الثمن قائمة يأخذها بعينها لأنها تتعين في البيع الفاسد، وهو الأصح لأنه بمنزلة الغصب، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها لما بينا.
قال: ومن باع دارا بيعا فاسدا، فبناها المشتري فعليه قيمتها، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، رواه يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه في " الجامع الصغير " ثم شك بعد ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرهن مضمون بقدر الدين لا غير، وهاهنا المبيع مضمون الثمن بجميع قيمته كما في الغصب م: (وإن مات البائع فالمشتري أحق به) ش: أي بالمبيع م: (حتى يستوفي الثمن لأنه يقدم عليه) ش: أي على البائع م: (في حياته فكذا) ش: يقدم م: (على ورثته وغرمائه بعد وفاته كالراهن) ش: فإنه إذا مات وله ورثة وغرماء فالمرتهن أحق بالرهن من الورثة والغرماء حتى يستوفي الدين.
م: (ثم إن كانت دراهم الثمن قائمة يأخذها بعينها لأنها تتعين) ش: بالتعيين م: (في البيع الفاسد وهو الأصح) ش: احترز به عن رواية أبي حفص - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: لا يتعين كما في البيع الجائز، وقال علاء الدين العالم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " طريقة الخلاف " والمختار عدم التعيين يعني في العقود الفاسدة، وإليه ذهب فخر الإسلام والصدر الشهيد - رحمهما الله - لأن البيع الفاسد في حكم النقض والاسترداد.
ثم كما تتعين الدراهم والدنانير في العقود الفاسدة فتعين في الوديعة والغصب والهبة والوصية في المضاربة والشركة قبل القبض والتسليم، وقال الإمام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "جامعه ": إنما يتعين الدراهم والدنانير في البيع الفاسد إذا كان البيع الفاسد صريحا لا يتعين.
ألا ترى أن البيع الفاسد بمنزلة الغصب وكان الثمن في يد البائع بمنزلة المغصوب، والدراهم المغصوبة تتعين حتى وجب رد فيها إن كان قائما، وبه صرح الإمام قاضي خان م: (لأنه) ش: أي لأن الثمن م: (بمنزلة الغصب) ش: لأنه مضمون بالقبض كالغصب م: (وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها لما بينا) ش: أشار به إلى قوله: لأنه بمنزلة الغصب.
[باع دارا بيعا فاسدا فبناها المشتري]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع دارا بيعا فاسدا فبناها المشتري فعليه قيمتها عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجل باع من رجل دارا بيعا فاسدا فقبضها المشتري فبنى فيها، قال: ليس للبائع أن يأخذها ولكنه يأخذ قيمتها، ثم شك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة بعد ذلك، وقال يعقوب ومحمد - رحمهما الله -: ينقض البناء ويرد الدار إلى صاحبها، إلى هنا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (رواه يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه) ش: أي روى أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الجامع الصغير ثم شك) ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بعد ذلك) ش: أي بعد الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -(8/206)
في الرواية. وقالا: ينقض البناء وترد الدار، والغرس على هذا الاختلاف. لهما أن حق الشفيع أضعف من حق البائع، حتى يحتاج فيه إلى القضاء ويبطل بالتأخير بخلاف حق البائع، ثم أضعف الحقين لا يبطل بالبناء فأقواهما أولى. وله أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام، وقد حصل بتسليط من جهة البائع فينقطع حق الاسترداد كالبيع، بخلاف حق الشفيع لأنه لم يوجد منه التسليط، ولهذا لا يبطل بهبة المشتري وببيعه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شك في حفظهما عنه، وهو معنى قوله م: (في الرواية) ش: عن أبي حنيفة لا في مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن ذكر في " جامع البزدوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قال أبو يوسف لمحمد - رحمهما الله -: ما رويت لك عن أبي حنيفة إنما رويت لك أن ينقض البناء، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بل رويت أن يأخذ قيمتها، وقد أشار إلى ذلك في بعض النسخ، فقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثم شك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة ولم يزل به أنه شك في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقوله الأول مع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل شك في سماعه عنه.
وفي " الإيضاح " قاله المعلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - رجع أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقوله الأول مع محمد أشار إليه المصنف بقوله:
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ينقض البناء وترد الدار) ش: أي على صاحبها كما هو مذكور في " الجامع الصغير " م: (والغرس على هذا الاختلاف) ش: يعني ينقطع به حق الفسخ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، وقد نص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الاختلاف في كتاب الشفعة، فإنه قال: إذا اشترى المشتري شراء فاسدا فبنى فيه أو غرس، لا يثبت حق الشفعة للشفيع، وعندهما وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن حق الشفيع أضعف من حق البائع حتى يحتاج فيه) ش: أي في حق الشفيع م: (إلى القضاء ويبطل) ش: أي حق الشفيع م: (بالتأخير) ش: أي بتأخير المطلب م: (بخلاف حق البائع) ش: فإنه لا يحتاج إلى ذلك م: (ثم أضعف الحقين) ش: وهما حق الشفيع وحق البائع م: (لا يبطل بالبناء فأقواهما) ش: أي فأقوى الحقين الذي هو حق البائع م: (أولى) ش: بأن لا يبطل م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام) ش: احترازا عن الإجارة م: (وقد حصل) ش: أي كل واحد من البناء والغرس م: (بتسليط من جهة البائع فينقطع حق الاسترداد) ش: لأنه لا يجوز للإنسان أن يسعى في نقض ما تم من جهته م: (كالبيع) ش: أي فصار كما إذا باعه المشتري أو وهبه من غيره م: (بخلاف حق الشفيع لأنه لم يوجد منه التسليط ولهذا) ش: أي ولأجل عدم التسليط من الشفيع م: (لا يبطل) ش: أي حق الشفيع م: (بهبة المشتري وبيعه) ش: يعني لو وهبها الإنسان أو باعها من آخر.(8/207)
فكذا ببنائه. وشك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حفظه الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد نص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الاختلاف في كتاب الشفعة، فإن حق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع بالبناء وثبوته على الاختلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فكذا ببنائه) ش: أي فكذا لا يبطل ببنائه، وإذا ثبت هذا كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة لانقطاع حق البائع في الاسترداد بالبناء، يصير ورثه حينئذ بمنزلة البيع الصحيح فينقض بناء المشتري واعترض بأنه إذا وجب نقض البناء لحق الشفيع وفيه تقرير العقد الفاسد وجب نقضه لحق البائع بطريق الأولى، لأن فيه إعدام الفاسد، قال الأكمل: وإذا لزم ما ذكر فليس بوارد علي إذ البائع دون الشفيع، ولا يلزم من نقضه لمن ليس بمسلط نقضه لمن سلط فانتفى الأولية وبطلت الملازمة.
م: (وشك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: هو أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في حفظه الرواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لما كان هذا الموضع محتاجا إلى تأكيد، كرر المصنف قوله: شك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي كلامه نوع العلاق لأنه قال: رواه يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه في " الجامع الصغير "، والراوي في " الجامع الصغير " محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه تصنيفه، إلا إذا أريد بالجامع الصغير المسائل التي رواها يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة لمحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وشك يعقوب - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حفظ الرواية، قال مشايخنا: شك أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل يخالف قولهما أم لا، وقع الشك لا يتحقق الاختلاف والأصح على الخلاف، وشك أبي يوسف في الرواية أنه سمع منه أم لا.
م: (وقد نص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الاختلاف في كتاب الشفعة) ش: الشفعة للشفيع عندهما وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت م: (فإن حق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع بالبناء وثبوته على الاختلاف) ش: فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يثبت حق الشفعة، فكان انقطاع حق البائع في الاسترداد ثابتا، وعندهما: لا يثبت لأنه لم ينقطع حق البائع في الاسترداد، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال بعض الشارحين: قوله: وثبوته بالرفع عطفا على قوله: مبني وهو ضعيف.
قلت: أراد بعض الشارحين السفناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتبعه على ذلك الكاكي أيضا، ولكن الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما بين وجه الضعف صريحا، والذي يظهر لي أن ثبوته مرفوع بالابتداء أو خبره هو قوله على الاختلاف لأن تحرير الكلام هنا، وتحقيق معناه أن حق استحقاق الشفعة مبني على انقطاع حق البائع في الاسترداد بالبناء والغرس، وثبوته مختلف فيه، فمن قال بثبوته(8/208)
قال: ومن اشترى جارية بيعا فاسدا وتقابضا، فباعها وربح فيها تصدق بالربح، ويطيب للبائع ما ربح في الثمن، والفرق أن الجارية مما يتعين فيتعلق العقد بها، فيتمكن الخبث في الربح، والدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود، فلم يتعلق العقد الثاني بعينها، فلم يتمكن الخبث فلا يجب التصدق، وهذا في الخبث الذي سببه فساد الملك. أما الخبث لعدم الملك عند أبي حنيفة ومحمد يشمل النوعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال بانقطاع حق البائع
ومن قال بانقطاعه قال بعدم انقطاع حق البائع لأن وجود اللزوم بدون لازمه محال، وعلى هذا فمن حفظه مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ثبوت الشفعة، لا يشك في مذهبه في انقطاع حق البائع في الاسترداد فلم يبق الشك إلا في رواية عنه لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فافهم فإنه موضع دقيق يحتاج إلى فكر عميق.
م: (قال: ومن اشترى جارية بيعا فاسدا وتقابضا، فباعها وربح فيها تصدق بالربح، ويطيب للبائع ما ربح في الثمن) ش: البائع هو بائع الجارية م: (والفرق) ش: أي بين الصورتين وهما طيب الربح لبيع الجارية في الثمن، وعدم طيبه لمشتري الجارية م: (أن الجارية مما يتعين فيتعلق العقد بها) ش: أي بعين الجارية.
ومعنى تعين الجارية، أنه إذا باع جارية معينة ليس له أن يعطي جارية أخرى مكانها، ولما تعلق العقد بها وحصل الربح من هذه الجارية كان الربح، جاء من بدل المملوك ملكا فاسدا، فيمكن الخبث في الربح ويتصدق به م: (فيتمكن الخبث في الربح) ش: والخبث عدم الطيب م: (والدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود) ش: أي في عقود البياعات، واحترز به عن الوديعة والشركة والغصب ونحوها. وعند زفر والشافعي - رحمهما الله - يتعينان حتى لو اشترى بدراهم معينة، فحبسها وأعطى البائع غيرها فللبائع أن يأبى ذلك، ولو هلكت الدراهم أو استحقت يبطل البيع عندهما كما في البيع المعين، وعندنا لا يبطل م: (فلم يتعلق العقد الثاني بعينها) ش: أي بعين الدراهم التي باع المشتري الجارية بها م: (فلم يتمكن الخبث، فلا يجب التصدق) ش: لأن الربح حصل بالعقد لا بالدراهم.
م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا من الفرق بين ما يتعين وبين ما لا يتعين، حيث لا يطيب الربح في الأول، ويطيب في الثاني م: (في الخبث الذي سببه فساد الملك) ش: والخبث على نوعين: خبث لفساد الملك، وخبث لعدم الملك، كما يجيء الآن، وكذلك المال على نوعين: نوع لا يتعين في العقد كالدراهم والدنانير، ونوع يتعين بخلافهما.
م: (أما الخبث لعدم الملك عند أبي حنيفة ومحمد يشمل النوعين) ش: أراد بهما ما يتعين من المال(8/209)
لتعلق العقد فيما يتعين حقيقة وفيما لا يتعين شبهة، من حيث إنه يتعلق به سلامة المبيع أو تقدير الثمن، وعند فساد الملك تنقلب الحقيقة شبهة، والشبهة تنزل إلى شبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها. قال: وكذا إذا ادعى على آخر مالا فقضاه إياه، ثم تصادقا، أنه لم يكن عليه شيء، وقد ربح المدعي في الدراهم يطيب له الربح، لأن الخبث لفساد الملك هاهنا؛ لأن الدين وجب بالتسمية ثم استحق بالتصادق، وبدل المستحق مملوك فلا يعمل فيما لا يتعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وما لا يتعين م: (لتعلق العقد) ش: أي بمال الغير م: (فيما يتعين حقيقة) ش: أي من حيث حقيقة الخبث م: (وفيما لا يتعين شبهة) ش: أي من حيث الشبهة، أي شبهة الخبث، وبينه بقوله م: (من حيث إنه يتعلق به) ش: أي بمال يتعين م: (سلامة المبيع) ش: بأن ينقد الدراهم المغصوبة م: (أو تقدير الثمن) ش: عطف على قوله: سلامة المبيع، يعني أن الخبث لعدم الملك إنما يثبت فما لا يتعين بطريق الشبهة لأنه تعلق به سلامة المبيع كما قلنا أو تقدير الثمن بأن يشير إلى الدراهم المغصوبة، ونقد من غيرها م: (وعند فساد الملك تنقلب الحقيقة شبهة) ش: يعني أن الخبث لفساد الملك تنقلب حقيقة شبهة أي ما كان من الخبث بسبيل الحقيقة في الخبث لعدم الملك، كما في ما يتعين يكون ذلك الخبث فيما يتعين شبهة لفساد الملك لأن الخبث لفساد الملك أدنى من الخبث لعدم الملك م: (والشبهة) ش: باعتبار فساد الملك فيما لا يتعين م: (تنزل إلى شبهة الشبهة) ش: فيما لا يتعين م: (والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها) ش: أي من الشبهة لأن شبهة الشبهة إذا اعتبرت، ينسد باب العقود إذ لا يخلو عن شبهة الشبهة.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وكذا إذا ادعى) ش: رجل م: (على آخر مالا) ش: بأن ادعى عليه ألف درهم مثلا م: (فقضاه إياه) ش: أي فقضى الرجل المال م: (ثم تصادقا، أنه لم يكن عليه شيء) ش: والحال م: (وقد ربح المدعي في الدراهم يطيب له الربح؛ لأن الخبث لفساد الملك هاهنا؛ لأن الدين وجب بالتسمية) ش: بدعوى الدعوى م: (ثم استحق بالتصادق وبدل المستحق مملوك) ش: ملكا فاسدا والمستحق هو الدين والبدل الدراهم م: (فلا يعمل) ش: أي الخبث م: (فيما لا يتعين) ش: لأن الخبث لفساد الملك لا أثر له فيما لا يتعين، لأنه شبهة الشبهة، ولهذا طاب له الربح ولم يجب التصدق به.(8/210)
فصل فيما يكره قال: ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش، وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب غيره، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تناجشوا» ،
قال: وعن السوم على سوم غيره، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيان ما يكره في باب البيوع]
[المكروه أدنى درجة من الفاسد]
م: (فصل فيما يكره) ش: أي هذا فصل في بيان ما يكره في باب البيوع، والمكروه أدنى درجة من الفاسد، ولكن هو شعبة من شعبه فلذلك ألحقه به وأخره عنه، وقد علم في الأصول أن الفسخ إذا كان لأمر متجاوز كان مكروها، وإذا كان لوصف متصل كان فاسدا م: (قال: «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش» ش: بفتحتين، ويروى بالسكون، وقيل: بالتحريك اسم وبالسكون مصدر. وهو مكروه بإجماع الأئمة الأربعة، قوله: «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش،» لفظ القدوري وفسره المصنف بقوله: م: (وهو أن يزيد في الثمن ولا يريد الشراء ليرغب) ش: من الترغيب م: (غيره) ش: فيوقعه فيه، ثم ذكر الحديث بقوله: م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تناجشوا» ش: هذا الحديث رواه البخاري بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا» الحديث، ورى البخاري أيضا: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش".»
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وعن السوم على سوم غيره) ش: وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه» ش: هذا الحديث رواه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقي الركبان وأن يبيع حاضر لباد الحديث. وفي آخره: وأن يستام الرجل على سوم أخيه» ورواه محمد في كتاب الآثار: أخبرنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن حماد عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يستام الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته» الحديث.
وفي " شرح الطحاوي ": وصورته أن يتراوض الرجلان على السلعة ويتساومان عليها ويرضى البائع والمشتري بذلك ولم يعقد عقد المبيع حتى ساومه آخر على سومه واشتراه منه، فإنه يجوز في الحكم، ولكنه يكره هذا، إذا جنح قلب البائع إلى البيع من الأول بما طلب منه من الثمن، وأما إذا لم يجنح قلبه ولم يرض بذلك فلا بأس للثاني أن يشتريه لأن هذا بيع من يزيد.(8/211)
ولأن في ذلك إيحاشا وإضرارا، وهذا إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمن في المساومة، أما إذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد، ولا بأس به على ما نذكره، وما ذكرناه محمل النهي في النكاح أيضا.
قال: وعن تلقي الجلب وهذا إذا كان يضر بأهل البلد، فإن كان لا يضر فلا بأس به إلا إذا لبس السعر على الواردين، فحينئذ يكره لما فيه من الغرر والضرر.
وقال: وعن بيع الحاضر للبادي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد وكذلك الرجل إذا خطب امرأة وجنح قلبها إليه كره لغيره أن يخطبها، وإن لم يجنح قلبها إلى الأول فلا بأس للثاني أن يخطبها.
وفي " الكافي ": السوم أن يزيد في الثمن بعد تقرير لإرادة الشراء م: (ولأن في ذلك) ش: أي في السوم على أخيه م: (إيحاشا) ش: أي إلقاء الوحشة في قلبه م: (وإضرارا) ش: في زيادة الثمن م: (وهذا) ش: أي كون السوم مكروها م: (إذا تراضى المتعاقدان على مبلغ ثمن في المساومة، أما إذا لم يركن) ش: أي فإذا لم يرض ولم يجنح م: (أحدهما إلى الآخر فهو) ش: أي السوم م: (بيع من يزيد، ولا بأس به) ش: حينئذ م: (على ما نذكره) ش: إشارة إلى قوله: وقد صح أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد» وسيجيء عن قريب وقد ذكرناه أيضا. م: (وما ذكرناه) ش: أراد به قوله: وهذا إذا تراضى المتعاقدان م: (محمل النهي في النكاح أيضا) ش: يعني إذا ركن قلب المرأة إلى الخاطب يكره خطبة غيره فإذا لم يركن فلا يكره.
[تلقي الجلب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وعن تلقي الجلب) ش: أي «ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تلقي الجلب» أي المجلوب، صورته أن واحدا من أهل المصر أخبر بمجيء قافلة بمسيرة عظيمة فيخرج ويتلقاهما ويشتري منهم ما يتمارون ويدخل المصر ويبيعه على ما يريد من الثمن م: (وهذا) ش: أي تلقي الجلب على ما وصفناه إنما يكره م: (إذا كان يضر بأهل البلد) ش: بأن يكونوا في ضيق من جدب وقحط م: (فإن كان لا يضر) ش: أهل البلد ذلك م: (فلا بأس به إلا إذا لبس السعر عل الواردين) ش: بأن يشتري منهم بأرخص من سعر المصر وهم لا يعلمون بالسعر م: (فحينئذ يكره لما فيه من الغرر) ش: في حقهم م: (والضرر) ش: لأهل المصر وكلاهما قبيح.
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره": م: (وعن بيع الحاضر للبادي) ش: وفسره ابن(8/212)
فقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لا يبيع الحاضر للبادي، وهذا إذا كان أهل البلدة في قحط وعوز، وهو أن يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي لما فيه من الإضرار بهم، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر،
قال: والبيع عند أذان الجمعة، قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية: 9) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: لا يكون له سمادا وبينه الحلواني حيث قال: صورته أن يجيء القروي بالطعام إلى المصر فلا بد للسمسار الحاضر أن يبيع القروي بنفسه، بل يقول له: لا تفعل شيئا فلا أعلم، فيتوكل هذا السمسار الحاضر من البادي ويبيعه ويعلي على الناس السعر، فلو تركه يبيعه بنفسه ربما يرخص، وهذا مبني لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا يبيع حاضر لباد وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» رواه مسلم عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقول: "لا يبيع حاضر لباد" وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا، وقال ابن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هي كلمة جامعة للبيع والشراء ويجيء الآن تفسير المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لقوله: لا يبيع حاضر لباد م: (فقد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا يبيع الحاضر للبادي» ش: وقد ذكرنا عن قريب أن هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظ الحديث في كتب الحديث بلفظ النكرة في الحاضر والبادي.
م: (وهذا) ش: أي كراهة بيع الحاضر للبادي م: (إذا كان أهل البلدة في قحط وعوز) ش: أي ضيق م: (وهو) ش: أي الحاضر م: (أن يبيع من أهل البدو طمعا في الثمن الغالي) ش: ويبيعه من أهل البادية بثمن غال، وأهل المصر يتضررون بذلك فلا يجوز م: (لما فيه من الإضرار بهم) ش: أي بأهل البلد م: (أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به لانعدام الضرر) ش: وهكذا قال في " شرح الطحاوي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[البيع عند أذان الجمعة]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والبيع عند أذان الجمعة) ش: أي ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البيع عند أذان الجمعة هكذا فسره الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو بالجر معطوف على قوله عن النجش، وهو أيضا يؤدي معنى ما قاله الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر فيه النهي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك صريحا، وإنما قال: م: قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] (الجمعة: الآية: 9) ، ش: ولكن ما نهى الله عز وجل عن شيء وهو أيضا نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعنى ذروا: اتركوا أمرا للجماعة من يذرون ما أتوا ما فيه وأصله اذروا أو ذروا حذفت الواو تبعا لفعله واستغني عن الهمزة فحذفت فصار ذروا، وأقل أحوال النهي الكراهة، ولأن السعي إلى الجمعة واجب بالنص.
وفي الاشتغال بالبيع والشراء أو بالنوم ونحو ذلك ترك السعي الواجب، وقد مر الكلام(8/213)
ثم فيه إخلال بواجب السعي على بعض الوجوه، وقد ذكرنا الأذان المعتبر في كتاب الصلاة.
قال: وكل ذلك يكره لما ذكرنا، ولا يفسد به البيع لأن الفساد في معنى خارج زائد لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة،
قال: ولا بأس ببيع من يزيد، وتفسيره ما ذكرنا وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه مستقصى في باب الجمعة م: (ثم فيه) ش: أي في الاشتغال بالبيع م: (إخلال بواجب السعي على بعض الوجوه) ش: بأن عقدا ووقفا ولم يسعيا، وأما إذا كانا يمشيان ويبيعان فلا بأس به، ذكره أبو الليث في أصوله م: (وقد ذكرنا الأذان المعتبر في كتاب الصلاة) ش: أراد به ما ذكره في باب الجمعة، والأصح أن المعتبر هو الأول أي الأذان الأول إذا كان بعد الزوال، لحصول الإعلام به.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكل ذلك يكره) ش: أي كل ما ذكرنا من أول الفصل إلى هنا مكروه وهو النجش والسوم على سوم غيره، وتلقي الجلب، وبيع الحاضر للباد، والبيع عند أذان الجمعة م: (لما ذكرنا) ش: أي لما ذكرنا من الدلائل في كل واحد منهما بمفرده.
م: (ولا يفسد به البيع) ش: أي بالنهي المذكور حتى يجب الثمن ويثبت الملك قبل القبض، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن يثبت الخيار في وجه في صورة تلقي الركبان، إذ ليس السعر عليهم، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بيع التناجش باطل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ضعيفة، وفي صورة تلقي الركبان البيع باطل عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا بيع الحاضر للبادي وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الفساد في معنى خارج زائد) ش: أي مجاور م: (لا في صلب العقد) ش: أي لا متصل به م: (ولا في شرائط الصحة) ش: من الحرية والعقل والبلوغ، قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأراد بقوله: خارج مجاور لا مطلق الخارج بدليل قوله: زائد لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة، وإلا يشكل بالبيوع الفاسدة بالشرط، فإن الفساد لمعنى خارج لكن ليس مجاورا، لهذا قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قوله: لمعنى خارج مشكل إلا أن يؤول خارج بالمجاور.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ولا بأس ببيع من يزيد، وتفسيره ما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: فإذا لم يركن أحدهما إلى الآخر فهو بيع من يزيد م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع قدحا وحلسا ببيع من يزيد» .
ش: هذا الحديث أخرجه الأربعة فأخرجه أبو داود في "الزكاة"، وابن ماجه في "التجارات" عن عيسى بن يونس عن الأخضر بن عجلان عن أبي بكر عبد الله الحنفي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من الأنصار أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليسأله، فقال له: " أما في بيتك شيء؟ "(8/214)
..
....
....
....
....
....
....
....
....
....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، قال: "ائتني بهما" فأتاه بهما فأخذهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده وقال: "من يشتري هذين؟ " فقال رجل: أنا آخذهم بدرهم، قال: "من يزيد على درهم؟ " مرتين أو ثلاثا، فقال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر فأسا فائتني به". فأتاه به فشد فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عودا بيده ثم قال: "اذهب واحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما" فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» وأخرجه الترمذي مختصرا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع حلسا وقدحا فيمن يزيد» وكذلك أخرجه النسائي مختصرا.
فإن قلت: كيف يقول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد صح، وضعفه العقيلي في كتابه والأخضر بن عجلان ذكره الأزدي في الضعفاء وأبو بكر الحنفي، قال ابن القطان: فيه مجهول لا أعرف أحدا نقل عدالته.
قلت: هذا الحديث لما رواه الترمذي حسنه، وعند البعض: الحسن من الصحيح والأخضر ابن عجلان وثقه البخاري، وأبو بكر الحنفي روى عنه جماعة وحسن الترمذي حديثه، ولولا أنه ثقة عنده لما حسن حديثه.
فإن قلت: كيف باع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحلس والقدح بغير إذن صاحبهما؟
قلت: قيل: يجوز للحاكم أن يبيع على المعسر.
فإن قلت: قال الترمذي: لم ينقل أنه كان معسرا.
قلت: كانت نفقة أهله واجبة عليه فهي كالدين، قلت: لا يحتاج إلى هذه التكلفات، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجوز له التصرف في أموال أمته بما شاء فيتصرف على وجه المصلحة.
فإن قلت: قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، لم يروا بما شاء ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث [بأسا] .
قلت: قال ابن العربي: والباب واحد والمعنى مشترك لا يختص به غنيمة ولا ميراث والحلس بكسر الحاء المهملة كساء يطرح على ظهر البعير أو الحمار، والجمع أحلاس وحلوس كذا في الجمهرة، ويقال: فلان حلس بيته إذا لم ينزح منه.(8/215)
ولأنه بيع الفقراء والحاجة ماسة إليه نوع منه. قال: ومن ملك مملوكين صغيرين أحدهما ذو رحم محرم من الآخر لم يفرق بينهما، وكذلك إن كان أحدهما كبيرا، والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: مدقع من الدقعاء وهو التراب، ومعنى فقر مدقع أي شديد يفضي بصاحبه إلى التراب.
وقيل: وهو سواء احتمال الفقر، قوله: أو لذي غرم مفظع أي لذي خلعة لازمة من غرامة مثقلة، وقال ابن الأثير: المفظع الشديد الشنيع، وقد أقطع يقطع فهو مقطع وقطع الأمر فهو قطيع، قوله: لذي دم موجع: هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤدها قبل التحمل عنه فيوجعه قتله.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن بيع من يزيد م: (بيع الفقراء والحاجة ماسة إليه) ش: أي الحاجة داعية إلى ذلك، وتوارثها الناس في الأسواق م: (نوع منه) ش: أي من البيع المكروه، وإنما فصل هذا لما أن الكراهة في الدين تذكر بعد لمعنى راجع إلى المعقود عليه، والكراهة فيما ذكر قبل لمعنى يرجع إلى غير المعقود عليه، أو لأن الذي يذكر بعد مسائل مختلفة يجمعها معنى واحد وهو التفريق بخلاف الأول؛ لأن فيها مسائل شتى ولها أصول مختلفة.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولأن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصل هذا عما تقدم لأن هذا النوع له باب على حدة في الأصل والزيادات، ولهذا ذكره الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره في باب على حدة، قلت: على ما ذكره كان ينبغي أن يذكر له بابا على حدة.
م: (قال: ومن ملك مملوكين) ش: إنما قال: ملك، ولم يقل: اشترى لتناول وجوه سبب الملك من قبول الهبة والوصية والإرث والشراء م: (صغيرين أحدهما ذو رحم محرم من الآخر) ش: وقيد بالصغيرين لأنه يكره في الكبيرين م: (لم يفرق بينهما) ش: ومراده بالتفريق أن يكون ذلك في ملك واحد، لأنه إذا كان أحدهما في ملك رجل والآخر في ملك الآخر لم يكره التفريق، ألا ترى إلى ما قال في " الشامل ": ولو كان أحدهما مملوكا له، والآخر لولده الصغير أو مكاتبه أو مضاربه جاز التفريق.
قال في " شرح الطحاوي ": إذا كان له ولدان صغيران فدخل أحدهما في ملك أحدهما الآخر فلا بأس ببيع أحدهما، وإن كان يملك بيعهما جميعا، وقال فيه أيضا: وكما يكره التفريق في البيع فكذلك يكره التفريق في القسمة في الميراث والغنائم.
م: (وكذلك) ش: أي لم يفرق م: (إن كان أحدهما) ش: أي أحد المملوكين م: (كبيرا) ش: وإلا صغيرا م: (الأصل فيه) ش: أي في هذا النوع م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي(8/216)
«من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» «ووهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غلامين أخوين صغيرين، ثم قال له: "ما فعل الغلامان؟ "
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» .
ش: هذا الحديث رواه الترمذي عن حسين بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن أبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من فرق.... " إلخ نحوه، وقال: حديث حسن غريب.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": روينا عن أبي أيوب قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته» قال: وهكذا ذكر لفظ الحديث شمس الأئمة البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الشامل " و" الكفاية "، وكذا ذكره في "شرح الأقطع " و" الإيضاح "، ولكن ذكر صاحب " الهداية " بلفظ الأحبة.
قلت: المحدثون رووه بلفظ الأحبة، منهم الترمذي كما ذكرنا، والحاكم، والبيهقي، والدارمي، والدارقطني، وأحمد في مسنده بعضه، وقال شيخنا زين الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرح الترمذي: استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعموم الحديث على أنه لا يصح التفريق بين الأم وولدها الكبير في البيع ونحوه وهو رواية ابن الحكم عن مالك، وقال أيضا: هل يحصل الحكم بالوالدة أو يدخل فيه الجدة للأب، وكذلك الولد الصغير مع الولد هل يجوز التفريق بينهما بالبيع ونحوه. كذلك الجدة للأب والجد للأب صرح أصحابنا بأن الجدة كالأم عند عدم الأم، وكذلك الجد كالأب عند عدم الأب، فإن كان له أم أو أب رقيقان حرم التفريق بينه وبين الأم، وجاز التفريق بينه وبين الأب، وكذلك لو كان له أم وجدة لم يجز التفريق بينه وبين الأم، فإن بيع مع جدته دون أمه فالأصح أنه حرام.
وقال أيضا: فيه حجة للصحيح من الوجهين عند أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يزول تحريم التفريق بإذن الأم في أن يفرق بينها وبين ولدها، وبناه بعض العلماء على أن الحق في هذا هل هو لحق الوالدة أو لحق الله تعالى؟ فإن كان لحق الوالدة جاز التفريق بإذنها، وإن كان لحق الولد أو لحق الله تعالى فلا يجوز التفريق وإن أذنت، وجوز مالك التفريق بإذنها.
م: «ووهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غلامين صغيرين ثم قال له: "ما فعل الغلامان؟ "،(8/217)
فقال: بعت أحدهما فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "أدرك أدرك"، ويروى: "اردد، اردد» ، ولأن الصغير يستأنس بالصغير وبالكبير، والكبير يتعاهده فكان في بيع أحدهما قطع الاستئناس، والمنع من التعاهد، وفيه ترك الرحمة على الصغار وقد أوعد عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال: بعت أحدهما، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "أدرك أدرك"، ويروى: "اردد، اردد") » ش: هذا رواه الترمذي وابن ماجه عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عتيبة عن ميمون بن أبي شبيب «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وهب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلاماك أخوين فبعت أحدهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا علي ما فعل غلاماك" فأخبرته، فقال: "رده".» ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وقال أبو داود في "سننه": ميمون بن أبي شبيب لم يدرك عليا فإنه قتل في الجماجم في سنة ثلاث وثمانين.
وأخرج الدارقطني في "سننه"، والحاكم في "مستدركه" عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدم علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبي فأمرني ببيع أخوين فبعتهما وفرقت بينهما، ثم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فقال: "أدركهما وارتجعهما وهما جميعا، ولا تفرق بينهما» وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
م: (ولأن الصغير يستأنس بالصغير وبالكبير) ش: أي ويستأنس بالكبير أيضا، ففي التفريق زوال الأنس وزيادة الإيحاش فيكره ما لم يبلغ الغلام، أو تحض الجارية، فإذا بلغا لا يكره التفريق م: (والكبير يتعاهده) ش: أي يتعاهد الصغير أي يقوم بحوائجه باعتبار الشفقة الناشئة من قرب القرابة م: (فكان في بيع أحدهما قطع الاستئناس والمنع من التعاهد وفيه ترك الرحمة على الصغار وقد أوعد عليه) ش: أي على ترك المرحمة، وفيه أحاديث:
منها: ما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا".»(8/218)
ثم المنع معلول بالقرابة المحرمة للنكاح حتى لا يدخل فيه محرم غير قريب ولا قريب غير محرم، ولا يدخل فيه الزوجان حتى جاز التفريق بينهما، لأن النص ورد بخلاف القياس فيقتصر على مورده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومنها: حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه الترمذي عن عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعا.
ومنها: حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الترمذي أيضا مرفوعا نحوه.
ومنها: حديث رواه أبو يعلى الموصلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده عن أنس مرفوعا: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".»
م: (ثم المنع) ش: أي المنع من التفريق م: (معلول بالقرابة المحرمة للنكاح) ش: بأن يكون أحدهما ذا رحم محرم من الآخر م: (حتى لا يدخل فيه محرم غير قريب) ش: كأولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات.
م: (ولا قريب غير محرم) ش: أي ولا يدخل فيه محرم كالأخت من الرضاع وكامرأة الأب م: (ولا يدخل فيه) ش: أي في المبيع من التفريق م: (الزوجان حتى جاز التفريق بينهما لأن النص ورد بخلاف القياس) ش: فإن القياس أن يتصرف المالك في ملكه كيف شاء م: (فيقتصر على مورده) ش: أي مورد النص وهو القرابة المحرمة للنكاح.
فإن قلت: كيف يكون على خلاف القياس، والمعنى هو قطع المعاهدة بالتفريق موجود؟
قلنا: وجود المعنى يدل على أنه لا يكون على خلاف القياس، فإن السلم شرع لحاجة المفاليس، ومع ذلك شرع على خلاف القياس، كذا قيل: لو كان منع التفريق معلوما بالقرابة المحرمة للنكاح لما جاز التفريق عند وجود هذه العلة، وقد جاز في مواضع مع وجودها.
أحدها: ما إذا كان أحد المملوكين بحال لا يمكن للمولى أن يبيعه بأن دبره، ولا بأس ببيع الذي هو محل البيع هنا وإن حصل التفريق.
والثاني: ما إذا جنى أحدهما، فلا بأس أن يدفعه المولى إلى ولي الجناية مع أن له منع البيع باختيار الفداء.(8/219)
ولا بد من اجتماعهما في ملكه لما ذكرنا، حتى لو كان أحد الصغيرين له والآخر لغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: ما لو استهلك مال أمان يباع فيه مع أن للمولى ولاية المنع بأداء قيمته.
والرابع: ما لو كانا مملوكين لحربي مستأمن فإنه يجوز للمسلم أن يشتري أحدهما مع أن كل موضع يكره التفريق بالبيع يكره التفريق بالشراء، وهاهنا لا يكره.
والخامس: أنه لو كان ثلاثة إخوة في يد رجل وأحدهم صغير فللمالك أن يبيع أحد الكبيرين استحسانا مع وجود التفريق.
والسادس: ما إذا اشتراهما ووجد بأحدهما عيبا فله أن يرده ويمسك الثاني في ظاهر الرواية.
والسابع: ما لو كان أحدهما أعتقه على مال أو غير مال فيقع التفريق باعتبار الإخراج عن الملك.
الثامن: أنه لو كان في يد رجل أمة، ولها ولد صغير مراهق يجوز بيعه باختياره ورضى أمه، والمسائل من المبسوط والإيضاح وشرح الطحاوي.
قلنا: أما الجواب عن الأول: أنه إنما لم يجوز التفريق باعتبار ضرر المملوك، فلو منعناه من بيع الآخر لحق الضرر للمولى فيه، وتعارض الضررين، فنفي الضرر عن المولى أولى لئلا يلزم الحجر عن التصرف في ملكه، وكذلك الجواب في الثاني والثالث.
وعن الرابع: أنه لو لم يجز شراء المسلم منه لذهب الحربي بينهما إلى دار الحرب، وضرر فساده في دار الحرب ثابت في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلعرضية الأمن والقتل إذ الظاهر من حال من يشأ في دارهم كان على دينهم، وأما ضرر الآخر فظاهر.
وأما الخامس: بأن المنع لحق الصغير وجه مرعي إذا كان معه أحد الكبيرين ليستأنس به ويقوم بحوائجه، مع أن فيه رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يكره أيضا.
وعن السادس: بالجواب عن الثاني.
وعن السابع: أن الكتابة والإعتاق هو عين الجمع بأكمل الوجوه، إذ المكاتب أو المعتق صار أحق بنفسه، فيدور هو حيث ما دار أخوه فيتعاهد أموره.
وعن الثامن: أنه لما رضيا بالتفريق لم يبق الضرر فيجوز.
م: (ولا بد من اجتماعهما) ش: أي اجتماع المملوكين الصغيرين م: (في ملكه لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من فرق بين والدة وولدها» م: (حتى لو كان أحد الصغيرين له والآخر لغيره) ش: وفي بعض النسخ، والآخر لغيره وهو الأظهر، لأن لفظ الغير مطلقا يتناول(8/220)
لا بأس ببيع واحد منهما، ولو كان التفريق بحق مستحق لا بأس به كدفع أحدهما بالجناية وبيعه بالدين ورده بالعيب؛ لأن المنظور إليه دفع الضرر عن غيره لا الإضرار به.
قال: فإن فرق كره له ذلك وجاز العقد، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز في قرابة الولادة ويجوز في غيرها. وعنه أنه لا يجوز في جميع ذلك لما روينا، فإن الأمر بالإدراك والرد لا يكون إلا في البيع الفاسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل من هو غير المالك م: (لا بأس ببيع واحد منهما) ش: أي من الاثنين المذكورين لأن التفريق إنما يتحقق في ملك واحد لا في ملك اثنين.
م: (ولو كان التفريق بحق) ش: أي بسبب حق م: (مستحق لا بأس به) ش: أي بالتفريق ومثل لذلك بقوله: م: (كدفع أحدهما بالجناية) ش: بأن جنى أحدهما فدفعه م: (وبيعه بالدين) ش: بأن كان مأذونا وأحاط به دينه أو وجب الدين على المالك ولا مال له م: (ورده بالعيب) ش: بأن اشتراهما وكان بأحدهما عيب لم يظهر عند العقد، وعلل بقوله: م: (لأن المنظور إليه) ش: في منع التفريق م: (دفع الضرر عن غيره) ش: أي عن غير الصغير م: (لا الإضرار به) ش: أي بالصغير.
وحاصل الكلام: أن التفريق إنما نهي عنه لدفع الضرر عن الصغير وليس من شرط دفع الضرر عن شخص إلحاق الضرر بغيره، فإذا تعلق بأحدهما حق فالمنع من إيفاء الحق الضرار بصاحب الحق، وإنما حصل الإضرار بالصغير ضمنا لحق مستحق فلا يلتفت إليه لأنه كم من شيء يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن فرق كره له ذلك وجاز العقد) ش: الكراهة بالإجماع وفي الجواز خلاف، فعند أبي حنيفة، ومحمد - رحمهما الله - يجوز وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن التفريق م: (لا يجوز في قرابة الولادة) ش: أي في الولدين والمولودين، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الأصح م: (ويجوز في غيرها) ش: أي غير الوالدين والمولودين م: (وعنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه) ش: أي أن التفريق م: (لا يجوز في جميع ذلك) ش: أي في قرابة الولادة وغيرها، وبه قال زفر والحسن وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لما روينا) ش: أشار به إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الحديث: بعت أحدهما وقد مر م: (فإن الأمر بالإدراك) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث المذكور: أدرك.
م: (والرد) ش: أي القول بالرد في قوله: ويروى اردد، اردد م: (لا يكون إلا في البيع الفاسد) ش: وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا ينبغي لأحد أن يفرق بين ذي رحم محرم فيهما صغير، فإن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يكره ذلك، ولا يفسخ البيع، وكان أبو يوسف ومحمد(8/221)
ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، وإنما الكراهة لمعنى مجاور فشبه كراهة الاستيام، وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما؛ لأنه ليس في معنى ما ورد به النص، وقد صح أنه فرق بين مارية وسيرين، وكانتا أمتين أختين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - يكرهان ذلك ولا يفسخان البيع.
وكذلك الحكم فيه حتى يبلغ الصغير غير أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في الصبي: إذا كان أخوان أو أختان أو عمتان أو خالتان فإنه لا بأس ببيع واحد من ذلك واحتباس الصغير مع الآخر، هذا لفظ الطحاوي، وقد ذكر قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع أبي يوسف كما ترى، وقد ذكر الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مختصره قول محمد مع أبي حنيفة كما ذكره المصنف.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أن ركن البيع صدر من أهله) ش: وهو العاقل البالغ حال كونه مضافا م: (في محله) ش: وهو المالية م: (وإنما الكراهة لمعنى مجاور) ش: وهو للرخصة الحاصلة بالتفريق م: (فشابه كراهة الاستيام) ش: أي السوم على سوم أخيه فإنه مكروه لا فاسد، والحديث محمول على طلب الإقالة أو بيع آخر ممن باع من أحدهما م: (وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما لأنه ليس في معنى ما ورد به النص) ش: لأن معنى ما ورد به الشرع هو أن التفريق قطع الاستئناس.
وترك التعاهد وليس هذا في الكبيرين م: (وقد صح أنه) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (فرق بين مارية وسيرين وكانتا أمتين أختين) ش: بيان هذا ما رواه البزار في مسنده من «حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: أهدى المقوقس القبطي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاريتين وبغلة كان يركبها، فأما إحدى الجاريتين فتسراها فولدت له إبراهيم - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهي مارية أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهي أم عبد الرحمن بن حسان» .
وأخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق في " دلائل النبوة " عن الزهري «عن عبد الرحمن بن عبد القادر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب، فقبل الكتاب وأكرم حاطبا، وأحسن نزله ومخرجه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهدى له مع حاطب كسوة، وبغلة مسروجة وجاريتين، إحداهما أم إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها(8/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجهم بن قيس العقدي، وهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر،» انتهى، وهذا مرسل ومخالف لما رواه البزار كما تراه.
ولكن الجمع بينهما بحديث آخر رواه البيهقي أيضا بإسناده إلى «حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المقوقس ملك الإسكندرية فجئته بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزلني في منزله فأقمت عنده ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته إلى أن قال: وهذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، فأهدى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث جوار منهن: أم إبراهيم ابن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وواحدة وهبها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأبي جهم بن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت الأنصاري:» انتهى.
قلت: أبو جهم ذكره أبو عمر في " الاستيعاب " وقال: قيل اسمه عامر بن حذيفة، وقيل: عبيد بن حذيفة أسلم عام الفتح وصحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توفي آخر خلافة معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأما جهم بن قيس فذكره أيضا في الاستيعاب، وقال: جهم بن قيس بن عبد بن شراحبيل بن عبد مناف بن عبد الدار. وقال: هاجر إلى الأرض الحبشة مع امرأته، وتوفيت امرأته هناك.
ولم يتعرض إلى قضية هبة النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إياه الجارية، ولا في أبي جهم، وأما سيرين فقد ذكرها أبو عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الاستيعاب في باب السين المهملة، وكذا ذكرها الذهبي في تجريد الصحابة وذكرها الأترازي بثلاث نقط على السين، والظاهر أنه سهو.(8/223)
باب الإقالة
الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» . ولأن العقد حقهما فيملكان رفعه دفعا لحاجتهما، فإن شرط أكثر منه أو أقل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الإقالة]
[تعريف الإقالة]
م: (باب الإقالة)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام الإقالة، قيل: الإقالة مشتق من القول والهمزة للسلب كأشكى يعني أزال القول السابق [....
....] .
والجوهري ذكرها في " الصحاح " في القاف مع الياء وأقلته البيع إقالة وهو فسخه ورفعه، وذكر في " مجموع اللغة " قال: أقال البيع قيلا وإقالة فسخ، والمناسبة بين هذا الباب وبين الذي قبله هي أن الخلاص من حيث البيع فاسد والمكروه لما كان بالفسخ كان للإقالة تعلقا خاصا بها فذكر عقبها.
[حكم الإقالة]
م: (الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول) ش: لا خلاف للأئمة الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في جواز الإقالة ولكن خلافهم أنها فسخ أو بيع على ما يأتي، والدليل على جوازها الحديث الذي يأتي ولأن الإقالة رفع العقد والعقد حق المتعاقدين وقد انعقد بتراضيهما فكان لهما رفعه دفعا للحاجة م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: أي لقول النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - م: م: «من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال مسلما ببيعته أقال الله عثرته» ، زاد ابن ماجه يوم القيامة، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن حبان فيه: يوم القيامة دون الحاكم ونادما عند البيهقي.
م: (ولأن العقد) ش: أي عقد البيع م: (حقهما فيملكان رفعه) ش: أي رفع العقد الذي وقع بينهما م: (دفعا) ش: أي لأجل الدفع م: (لحاجتهما) ش: لأن كل من كان له حق يملك رفعه م: (فإن شرط أكثر منه) ش: أي من الثمن الأول م: (أو أقل) ش: أي أو شرط الأقل من الثمن الأول م:(8/224)
فالشرط باطل ويرد مثل الثمن الأول، والأصل أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق غيرهما، إلا أنه لا يمكن جعله فسخا فتبطل، وهذا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو بيع إلا أنه لا يمكن جعله بيعا فيجعل فسخا، إلا أنه لا يمكن فتبطل. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو فسخ إلا إذا تعذر جعله فسخا فيجعل بيعا، إلا أنه لا يمكن فتبطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فالشرط باطل) ش: ولا يسقط رد الثمن من البائع، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الإقالة فاسدة والثمن على حال، وإذا كان الشرط المذكور باطلا م: (ويرد) ش: أي البائع م: (مثل الثمن الأول) ش: الذي وقع العقد عليه.
م: (والأصل) ش: أي في هذا الباب م: (أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين) ش: في جميع الأحوال منقولا كان المبيع أو غير منقول، مقبوض أو غير مقبوض م: (بيع جديد) ش: أي الإقالة بيع م: (في حق غيرهما) ش: ولهذا تجب الشفعة للشفيع فيما إذا باع دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم تقايلا وعاد المبيع إلى ملك البائع، ولو كانت الإقالة بيعا لما جاز لكونه قبل القبض بل هي جديد في حق غيرهما م: (إلا أنه لا يمكن جعله فسخا فتبطل) ش: أي الإقالة كما إذا ولدت المبيعة بعد القبض ولدا فإن الزيادة المنفصلة تمنع فسخ العقد حقا للشرع.
م: (وهذا) ش: أي المذكور كله م: (عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو بيع) ش: أي الإقالة بيع، وإنما ذكر الضمير باعتبار المذكور أو بالنظر إلى أن لفظ الإقالة في الأصل مصدر م: (إلا أنه لا يمكن جعله بيعا) ش: كما إذا تقايلا في المنقول قبل القبض م: (فيجعل فسخا إلا أنه لا يمكن) ش: أي جعله فسخا م: (فتبطل) ش: أي الإقالة كما إذا تقايل في العروض المبيعة بالدراهم بعد هلاكها، أو تقايلا في المنقول قبل القبض على خلاف جنس الثمن الأول، لأن بيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز والفسخ يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمنا آخر.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو فسخ، إلا إذا تعذر جعله فسخا) ش: أي إلا إذا تعذر جعل عقد الإقالة فسخا، بأن تقايلا بعد القبض بالثمن الأول بعد الزيادة المنفصلة أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثمن الأول، م: (فيجعل بيعا إلا أنه لا يمكن) ش: أي جعله بيعا كما في صورة بيع العروض بالدراهم بعد هلاكها م: (فتبطل) ش: أي الإقالة ويبقى العقد على حاله.
وفي " الذخيرة ": هذا الخلاف بينهم فيما إذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة، أما إذا جعل بلفظ المفاسخة والمبادلة أو الرد فإنها لا تجعل بيعا وإن أمكن أن تجعل بيعا، وفي " شرح الوجيز ": إذا كانت الإقالة بلفظ الإقالة فيه قولان فسخ أو بيع، أما إذا قالا تفاسخنا فهو فسخ لا محالة، وفي " شرح الأقطع ": وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن الإقالة بيع بعد القبض وفسخ قبله.(8/225)
لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللفظ للفسخ والرفع، ومنه يقال أقلني عثرتي فيوفر عليه قضيته، وإذا تعذر يحمل على محتمله وهو البيع، ألا ترى أنه بيع في حق الثالث، ولأبي يوسف أنه مبادلة المال بالمال بالتراضي، وهذا هو حد البيع، ولهذا تبطل بهلاك السلعة وترد بالعيب وتثبت به الشفعة وهذه أحكام البيع. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللفظ ينبئ عن الرفع والفسخ كما قلنا، والأصل إعمال الألفاظ في مقتضياتها الحقيقية، ولا يحتمل ابتداء العقد ليحمل عليه عند تعذره لأنه ضده، واللفظ لا يحتمل ضده فتعين البطلان، وكونه بيعا في حق الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " شرح الطحاوي ": وروي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: الإقالة بيع على كل حال حتى إنه أبطل الإقالة في المنقول قبل القبض لأنه لا يجوز بيعه م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللفظ) ش: أي لفظ الإقالة م: (للفسخ والرفع) ش: يعني في اللغة م: (ومنه يقال: أقلني عثرتي) ش: أي ارفعها م: (فيوفر عليه) ش: أي على اللفظ م: (قضيته) ش: أي ما اقتضاه من موضوعه اللغوي.
م: (وإذا تعذر) ش: أي الفسخ م: (يحمل على محتمله وهو البيع) ش: بطريق المجاز، ولهذا كانت بيعا في حق الثالث، وإنما يحمل على البيع صيانة لكلام العاقل عن الإلغاء، وقوله: م: (ألا ترى) ش: توضح لكون الإقالة بيعا عند تعذر الفسخ بطريق المجاز وهو احتمال اللفظ إياه م: (أنه) ش: أي أن الإقالة م: (بيع في حق الثالث) ش: وهو الشفيع م: (ولأبي يوسف أنه) ش: أي أن الإقالة م: (مبادلة المال بالمال بالتراضي وهذا) ش: أي المذكور وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي م: (هو حد البيع) ش: وإن تلفظا بلفظ الإقالة لأن العبرة للمعاني لا للألفاظ، ولهذا تجعل الكفالة بشرط براءة الأصل حوالة والحوالة بشرط عدم البراءة كفالة.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الإقالة مبادلة المال بالمال بالتراضي الذي هو حد البيع م: (تبطل) ش: أي الإقالة م: (بهلاك السلعة وترد بالعيب) ش: كما في البيع م: (وتثبت به الشفعة، وهذه أحكام البيع) ش: فتكون الإقالة بيعا إلا أن المنقول قبل القبض لو حملت على البيع كان فاسدا فحملت على الفسخ حملا لكلامهما على الصحة.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللفظ) ش: أي لفظ الإقالة م: (ينبئ عن الرفع والفسخ كما قلنا) ش: أشار به إلى قوله: إن اللفظ للفسخ والرفع م: (والأصل إعمال الألفاظ في مقتضياتها الحقيقية) ش: فإذا تعذر صير إلى المجاز إن أمكن وإلا بطل م: (ولا يحتمل) ش: أي الإقالة م: (ابتداء العقد ليحمل عليه) ش: أي على العقد مجازا م: (عند تعذره لأنه) ش: لأن العقد م: (ضده) ش: أي ضد الرفع م: (واللفظ لا يحتمل ضده) ش: واستعارة أحد الضدين للآخر لا يجوز كما عرف في موضعه، فإذا كان كذلك م: (فتعين البطلان) ش: أي بطلان الإقالة.
م: (وكونه بيعا في حق الثالث) ش: جواب عما يقال: الإقالة بيع جديد في حق الثالث، ولو(8/226)
أمر ضروري؛ لأنه يثبت به مثل حكم البيع وهو الملك لا مقتضى الصيغة، إذ لا ولاية لهما على غيرهما، إذا ثبت هذا نقول: إذا شرط الأكثر فالإقالة على الثمن الأول، لتعذر الفسخ على الزيادة؛ إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال فيبطل الشرط؛ لأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة بخلاف البيع، لأن الزيادة يمكن إثباتها في العقد فيتحقق الربا، أما لا يمكن إثباتها في الرفع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يحتمل البيع لم يكن ذلك، تقرير الجواب أن كون الإقالة بيعا في حق الثالث الذي هو الشفيع م: (أمر ضروري) ش: يعني ثبوته بيعا بطريق الضرورة، والمحكم لا باعتبار اللفظ وليس بطريق المجاز إذ الثابت بالمجاز ثابت تقتضيه الصيغة، وهذا ليس كذلك م: (لأنه يثبت به مثل حكم البيع وهو الملك) ش: للبائع ببدل ظهر موجبه في حق ثالث دونهما لامتناع ثبوت الضدين في محل واحد فإذا كان كذلك اعتبر الحكم في الثالث لا الصيغة يعني لا تعتبر الصيغة وهو معنى قوله: م: (لا مقتضى الصيغة) ش: لأن البيع وضع لإثبات الملك قصدا وزوال الملك من ضروراته والإقالة وضعت لإزالة الملك وإبطاله وثبوت الملك من ضروراته فيثبت لكل واحد منهما الملك فيما كان لصاحبه كما ثبت في المبايعة فاعتبر موجب الصيغة في حق المتعاقدين، لأن لهما ولاية على أنفسهما، واعتبر الحكم في حق غيرهما، ولا ولاية لهما في حق غيرهما وهو معنى قوله: م: (إذ لا ولاية لهما) ش: أي للمتعاقدين م: (على غيرهما) ش: بأن يجعلا هذا المبيع فسخا في حق غيرهما، لكون الفسخ إضرارا في حق الغير، وجواب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الحقيقة....
... إلخ.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وجواب إخوان المدعي أن كون الإقالة بيعا جديدا في حق ثالث ليس مقتضى الصيغة.
لأن كونها فسخا مقتضاها فلو كان كونها بيعا كذلك لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز م: (إذا ثبت هذا) ش: أي ما ذكر من الأصل م: (نقول: إذا شرط الأكثر فالإقالة على الثمن الأول) ش: الذي وقع عليه العقد م: (لتعذر الفسخ على الزيادة) ش: لأن فسخ العقد عبارة عن رفعه على الوصف الذي كان قبله، والفسخ على الزيادة ليس كذلك م: (إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال فيبطل الشرط) ش: والإقالة لا تبطل م: (لأن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة بخلاف البيع) ش: حيث يبطل بالشروط الفاسدة م: (لأن الزيادة يمكن إثباتها في العقد فيتحقق الربا) ش: لأن في الشرط شبهة الربا.
لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين وهو مستحق بعقد المعاوضة خال عن العوض.
م: (أما لا يمكن إثباتها) ش: أي إثبات الزيادة م: (في الرفع) ش: أي في رفع العقد لأن الإقالة تشبه البيع من حيث المعنى فكان الشرط الفاسد فيها شبهة الشبهة، فلا يؤثر في صحة الإقالة كما لا يؤثر في صحة البيع بخلاف البيع لأن الزيادة فيه إثبات ما لم يكن بالعقد فيتحقق الربا.(8/227)
وكذا إذا شرط الأقل لما بيناه، إلا أن يحدث في المبيع عيب فحينئذ جازت الإقالة بالأقل؛ لأن الحط يجعل بإزاء ما فات بالعيب. وعندهما في شرط الزيادة يكون بيعا، لأن الأصل هو البيع، عند أبي يوسف، وعند محمد جعله بيعا ممكن، فإذا زاد كان قاصدا بهذا البيع، وكذا في شرط الأقل عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه هو الأصل عنده، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو فسخ بالثمن الأول لأنه سكوت عن بعض الثمن الأول، ولو سكت عن الكل وأقال يكون فسخا، فهذا أولى بخلاف ما إذا زاد، وإذا دخله عيب فهو فسخ بالأقل لما بيناه. ولو أقال بغير جنس الثمن الأول فهو فسخ بالثمن الأول عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجعل التسمية لغوا، وعندهما بيع لما بينا، ولو ولدت المبيعة ولدا ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذا إذا شرط الأقل) ش: أي من الثمن الأول م: (لما بيناه) ش: من قوله: إذ رفع ما لم يكن ثابتا محال، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إشارة إلى قوله: لتعذر الفسخ م: (إلا أن يحدث في المبيع عيب فحينئذ جازت الإقالة بالأقل؛ لأن الحط يجعل بإزاء ما فات بالعيب) ش: وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كانت حصة العيب مقدار المحطوط أو زائدا أو أنقص بقدر ما يتغابن الناس فيه م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (في شرط الزيادة يكون بيعا؛ لأن الأصل هو البيع عند أبي يوسف، وعند محمد جعله بيعا ممكن) ش: يعني وإن كانت الإقالة عنده فسخا، لكنها في الزيادة غير ممكن، وجعله بيعا ممكن م: (فإذا زاد كان قاصدا بهذا البيع) ش: لأن في الزيادة تعذر العمل بالحقيقة فيصار إلى المجاز صونا لكلام العاقل عن الإلغاء، ولا فرق عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزيادة والنقصان، لأن الأصل عنده هو البيع، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الفسخ.
م: (وكذا في شرط الأقل عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي بيع عنده م: (لأنه) ش: أي لأن البيع م: (هو الأصل عنده، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو فسخ بالثمن الأول لأنه سكوت عن بعض الثمن الأول، ولو سكت عن الكل) ش: أي عن جميع الثمن م: (وأقال يكون فسخا، فهذا أولى بخلاف ما إذا زاد) ش: حيث يجعل بيعا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واعترض بأن كونه فسخا إذا سكت عن كل الثمن إما أن يكون على مذهبه خاصة أو على الاتفاق والأول رد المختلف على المختلف، والثاني غير ناهض، لأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يجعله فسخا لامتناع جعله بيعا لانتفاء ذكر الثمن بخلاف صورة النقصان، فإن فيها ما يصلح ثمنا.
م: (وإذا دخله عيب فهو فسخ بالأقل لما بيناه) ش: أن الحط يجعل بإزاء ما فاته بالعيب م: (ولو أقال بغير جنس الثمن الأول فهو فسخ بالثمن الأول عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ويجعل التسمية لغوا، وعندهما بيع لما بينا) ش: يعني وجه كل واحد منهما في فضل الزيادة م: (ولو ولدت المبيعة ولدا ثم(8/228)
تقايلا فالإقالة باطلة عنده لأن الولد مانع من الفسخ، وعندهما تكون بيعا، والإقالة قبل القبض في المنقول وغيره فسخ عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وكذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المنقول لتعذر البيع، وفي العقار يكون بيعا عنده لإمكان البيع فإن بيع العقار قبل القبض جائز عنده،
قال: وهلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة وهلاك المبيع يمنع عنها؛ لأن رفع البيع يستدعي قيامه وهو قائم بالمبيع دون الثمن، فإن هلك بعض المبيع جازت الإقالة في الباقي لقيام البيع فيه، وإن تقايضا تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما، ولا تبطل بهلاك أحدهما لأن كل واحد منهما مبيع فكان البيع باقيا، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تقايلا فالإقالة باطلة عنده) ش: يعني عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الولد مانع من الفسخ) ش: لأجل الزيادة م: (وعندهما يكون بيعا) ش: وحاصله ما ذكره في " الذخيرة " أن الجارية إذا ولدت ثم تقايلا فإن كان قبل القبض صحت الإقالة سواء كانت الزيادة متصلة كالسمن والجمال أو منفصلة كالولد والأرش والعقر، لأن الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ منفصلة كانت أو متصلة، والزيادة بعد القبض إن كانت منفصلة فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يصححها إلا فسخا، وقد تعذر حقا للشرع، وإن كانت متصلة فهي صحيحة عنده لأن المتصلة لا تمنع الفسخ عنده متى وجد برضا من له الحق في الزيادة ببطلان حقه فيها وقد وجد الرضا لما تقايلا فأمكن تصحيحها فسخا عنده.
م: (والإقالة قبل القبض في المنقول وغيره فسخ عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -، وكذا عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المنقول لتعذر البيع) ش: وذلك أن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز بالإجماع، وبيع العقار قبل القبض يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (في العقار يكون بيعا عنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لإمكان البيع، فإن بيع العقار قبل القبض جائز عنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[هلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وهلاك الثمن لا يمنع صحة الإقالة وهلاك المبيع يمنع عنها) ش: أي صحة الإقالة م: (لأن رفع البيع يستدعي قيامه) ش: أو قيام البيع م: (وهو) ش: أي قيام البيع م: (قائم بالمبيع دون الثمن) ش: لأن الأصل هو المبيع ولهذا شرط وجوده عند البيع بخلاف الثمن فإنه بمنزلة الوصف، ولهذا جاز العقد وإن لم يكن موجودا م: (فإن هلك بعض المبيع جازت الإقالة في الباقي لقيام البيع فيه، وإن تقايضا) ش: أي لو عقدا عقد المقايضة وهي بيع عوض بعوض مأخوذ من قولهم هما قيضان أي مثلان م: (تجوز الإقالة بعد هلاك أحدهما) ش: أي أحد العوضين م: (ولا تبطل بهلاك أحدهما لأن كل واحد منهما مبيع فكان البيع باقيا، والله أعلم بالصواب) ش: لأن الأصل وجود المبيع.(8/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: ما الفرق بين التقايض والتصارف فإن هلاك البدلين في الصرف غير مانع من الإقالة، وفي التقايض مانع مع أن في كل منهما لكل واحد من البدلين حكم المبيع، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر في جعله مبيعا أو ثمنا.
قلنا: الفرق أن في التصارف لا يلزمه رد المقبوض بعد الإقالة وله الخيار إن شاء رده وإن شاء رد مثله، فلا يكون هلاك المقبوض مانعا لصحة الإقالة، وإن كان في العوضين جميعا لأن الإقالة لا تتعلق بأعيانهما لو كانا قائمين فصار هلاكهما كقيامهما، بخلاف المقايضة لأنهما متى كانا قائمين فتعلق الإقالة بأعيانهما وبهلاكهما لم يبق شيء من المعقود عليه، وشرط قيامه في البيع والإقالة كذا في " المبسوط ".(8/230)
باب المرابحة والتولية قال: المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح، والتولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب المرابحة والتولية]
[تعريف المرابحة]
م: (باب المرابحة والتولية)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام المرابحة والتولية، ولما ذكر أنواع البيوع التي ترجع إلى جانب المبيع، شرع في بيان أنواع البيوع التي ترجع أحكامها إلى جانب الثمن من المرابحة والتولية والربا والصرف والبيع بالنسيئة وتقديم الأول على الثاني لأصالة المبيع دون الثمن.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح) ش: هذا تعريف المرابحة وهو مصدر رائج من باب المفاعلة الذي يستدعي مشاركة الاثنين، قوله: ما ملكه وفي بعض النسخ ما تملكه من باب التفعل م: (والتولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح) ش: التولية مصدر وفي غيره أي جعله واليا. هذا بحسب اللغة وأما بحسب اصطلاح الشرع فهو الذي ذكره وفي كل منهما اعتراض.
أما تعريف المرابحة: فغير مطرد ولا منعكس، أما الأول: فلأنه من اشترى دنانير بالدراهم لا يجوز بيع الدنانير مرابحة مع صدق التعريف عليه، وأما الثاني: فلأن المغصوب الآبق إذا عاد بعد القضاء بالقيمة على الغاصب جاز بيعه للغاصب مرابحة، والتعريف ليس بصادق عليه لأنه لا عقد فيه.
ولأنه مشتمل على إبهام يجب عنه خلو التعريف، وذلك لأن قوله: بالثمن الأول إما أن يراد به عين الثمن الأول أو مثله لا سبيل إلى الأول لأن عين الثمن الأول صار ملكا للبائع الأول، فلا يكون مرادا في البيع الثاني، ولا إلى الثاني، لأنه لا يخلو إما أن يراد المثل من حيث الجنس أو المقدار، والأول ليس بشرط لما ذكر في " الإيضاح " و" المحيط " أنه إذا باعه مرابحة، فإن كان ما اشتراه بدله مثلا جاز جعل الربح من جنس رأس المال للدراهم من الدراهم أومن غير الدراهم من الدنانير أو على العكس، إذا كان معلوما يجوز به الشراء لأن الكل ثمن.
والثاني: يقتضي أن لا يضم إلى رأس المال أجرة القصار والصباغ والطراز وغيرها بأنها ليست بثمن في العقد الأول على أن الثمن ليس بشرطه في المرابحة أصلا، فإنه لو ملك ثوبا بهته أو وصبه فقومه ثم باعه مرابحة على ملك والقيمة جاز، والمسألة في " المبسوط ".
قيل: فعلى هذا الأولى أن يقال: نقل ما ملكه من السلع بما قام عنده، والجواب عن الأول: أنا لا نسلم صدق التعريف عليه، فإنه إذا لم يجز البيع لا يصدق عليه النقل، وعن الثاني: بأن المراد بالعقد أعم من أن يكون ابتداء أو انتهاء، وإذا قضى بالقيمة عاد ذلك عقدا حتى لا يقدر(8/231)
والبيعان جائزان لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع؛ لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد على فعل الذكي المهتدي، ويطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح فوجب القول بجوازهما، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر بعيرين، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولني أحدهما" فقال: هو لك بغير شيء، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "أما بغير ثمن فلا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المالك على رد القيمة وأخذ المغصوب، والمراد به بالمثل هو المثل في المقدار، والعادة جرت بإلحاق ما يزيد في البيع أو قيمته إلى رأس المال كان من جملة الثمن الأول عادة، وإذا لم يكن الثمن نفسه مرادا يجعل مجازا عما قام عنده من غير خيانة فيدخل فيه مسألة " المبسوط ".
وإنما عبر عنه بالثمن لكونه العادة الغالبة في المرابحات فيكون من باب ترك الحقيقة للعادة، وأما تعريف التولية فإنه يرد عليه ما كان يرد على المرابحة من حيث لفظ العقد والثمن الأول والجواب.
م: (والبيعان) ش: أي بيع المرابحة وبيع التولية م: (جائزان لاستجماع شرائط الجواز) ش: لأن المبيع معلوم والثمن معلوم والناس يعاملون بهما من غير نكير، وتعامل الناس من غير نكير حجة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» م: (
والحاجة
ماسة إلى هذا النوع من البيع لأن الغبي) ش: بفتح الغين المعجمة وكسر الباء الموحدة وتشديد الياء، هو الذي يخفى عليه الأمور، ويقال: هو قليل الفطنة وهو على وزن فعيل من السواء.
وقال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقول غبيت عن الشيء وغبيته أيضا أغبى غباوة إذا لم يفطن له وغبي على الشيء غبيا كذلك إذا لم تعرفه، ووصف المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - المعنى بقوله: م: (الذي لا يهتدي في التجارة إلى أن يعتمد على فعل الذكي المهتدي ويطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح) ش: نقدا بأمانته واعتمادا على بصيرته م: (فوجب القول بجوازهما، ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (كان مبناهما) ش: أي مبنى المرابحة والتولية م: (على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها) ش: أي وعن شبهة الخيانة حتى إذا اشترى شيئا مؤجلا ليس له أن يبيعه مرابحة إلا إذا بين الأجل م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر بعيرين، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولني أحدهما"، فقال: هو لك بغير شيء، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما بغير ثمن فلا» ش: هذا غريب فلذلك قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد صح التولية من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكره في الكتاب ولم يزد عيه شيئا.
وحديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة -(8/232)
قال: ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل؛ لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهي مجهولة، ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز؛ لأنه يقدر على الوفاء بما التزم، وإن باعه بربح ده يازده لا يجوز؛ لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته لأنه ليس من ذوات الأمثال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وفيه «أن أبا بكر قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله راحلتي هاتين فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بالثمن» الحديث ليس فيه غير ذلك أخرجه في مكرمة الخلق.
ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده ولفظه: «فأعطى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إحدى الراحلتين، فقال: خذها يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاركبها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أخذتها بالثمن» الحديث.
وفي " الطبقات لابن سعد "، «وكان أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد اشتراها بثمانمائة درهم من نعم بني قسر، فأخذ إحداهما وهي القصواء.»
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض) أي الثمن م: (مما له مثل؛ لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهي مجهولة) ش: تعرف بالحرز والظن، فيتمكن فيه شبهة الخيانة فيحترز عنها كما يحترز عن حقيقة الخيانة إذ مبنى المرابحة على الأمانة، ولهذا لو اشترى عبدين أو ثوبين بثمن مؤجل فباع أحدهما مرابحة بحصة من الثمن أو بغير بيان الأجل لا يجوز عندنا.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يجوز إن قسط الثمن على القيمة وأخبر بما يخصه م: (ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل) ش: قوله: مرابحة نصب على التمييز، وقوله: ممن يملك ذلك البدل خبر كان، صورته رجل باع عبدا بثوب وملك ذلك الثوب غيره من البائع بسبب من الأسباب.
وذلك الغير الذي في يده الثوب يشتري هذا العبد بذلك الثوب ويربح درهم، جاز وهو معنى قوله م: (وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز؛ لأنه يقدر على الوفاء بما التزم، وإن باعه بربح ده يازده) ش: أي بربح درهم على عشرة دراهم، وإن كان الثمن عشرين كان الربح بزيادة درهمين.
وإن كان ثلاثين فثلاثة ولفظ " ده " بفتح الدال وسكون الهاء وهو اسم العشرة بالفارسية ويازده بالياء آخر الحروف، وسكون الزاي، وده مثل الأول وهو اسم أحد عشر بالفارسية. قال في هذه الصورة: م: (لا يجوز لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته، لأنه ليس من ذوات الأمثال) ش: فصار البائع بائعا بذلك الثمن القيمي كالثوب مثلا أو بجزء من أحد عشر جزءا من الثوب، والجزء(8/233)
ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ، والفتل وأجرة حمل الطعام؛ لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار؛ ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به، هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة، إذ القيمة تختلف باختلاف المكان. ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا كيلا يكون كاذبا، وسوق الغنم بمنزلة الحمل بخلاف أجرة الراعي، وكراء بيت الحفظ لأنه لا يزيد في العين والمعنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحادي عشر لا يعرف إلا بالقيمة وهي مجهولة فلا يجوز م: (ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ) ش: والطراز بكسر الطاء وتخفيف الراء وهو علم بالثوب قاله في " المغرب ".
م: (والفتل) ش: من فتلت الحبل وغيره م: (وأجرة حمل الطعام؛ لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار، ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به، هذا هو الأصل وما عددناه بهذه الصفة، لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين، والحمل يزيد في القيمة، إذ القيمة تختلف باختلاف المكان) ش: بحسب قرب المسافة وبعدها، وفي " شرح الطحاوي ": وبعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أصل في ذلك أصلا، فقال: كل ما يؤثر في المعقود عليه، فإن بدله يلحق برأس المال، وكل ما لا يؤثر في العين، فإنه لا يلحق برأس المال.
إلا أن هذا الأصح لا يصح، فإن الكبري وأجرة الثمار وسابق الغنم تضم ولا تؤثر في العين، وفي " الإيضاح " والمعنى الذي اعتمد عليه من اعتبار عادة التجار تعم المواضع كلها م: (ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا كيلا يكون كاذبا) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني في كل موضع يجوز له أن يضم إلى رأس المال بقوله: قام علي بكذا، ولأنه صدق لا يقول: اشتريته بكذا لأنه كذب وهو حرام، وهذا بخلاف ما إذا اشترى متاعا ثم رقمه بأكثر من ثمنه ثم باعه مرابحة على رقمه فهو جائز، هي مسألة الأصل حيث لا يقول: قام علي بكذا ولا اشتريته بكذا لأنه كذب، وإنما يقول: رقمه كذا وكذا فأنا أبيعه مرابحة على كذا، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل: وكذلك لو كان أصله ميراثا أو هبة أو صدقة فقومه قيمة ثم باعه مرابحة على تلك القيمة كان ذلك جائزا، ورقم الثوب وشاه رقما، والتاجر يرقم الثياب أي يعلم بها أن ثمنها كذا ومنه لا يجوز بيع الشيء برقمه كذا في " المغرب ".
م: (وسوق الغنم بمنزلة الحمل) ش: يعني في جواز ضم ما أنفق على الغنم في سياقها كما له أن يضم أجرة الحمل م: (بخلاف أجرة الراعي) ش: حيث لا يجوز ضمه م: (وكراء بيت الحفظ لأنه) ش: أي لأن أجرة الراعي، وكذا كراء بيت الحفظ م: (لا يزيد في العين) ش: وهو ظاهر م: (والمعنى) ش:(8/234)
وبخلاف أجرة التعليم لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه وهو حذاقته، فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار، عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه،
وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحط فيهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي ولا يزيد في المعنى وهو القيمة والمالية م: (وبخلاف أجرة التعليم) ش: وهو عطف على قوله: بخلاف أجرة الراعي م: (لأن ثبوت الزيادة لمعنى فيه) ش: أي في المتعلم م: (وهو حذاقته) ش: أي ذكاء ذهنه. وفي " المبسوط ": أنفق على عبده في تعلم الدراهم لا يلحقها برأس المال لأنه ليس فيه عرف، وكذلك في تعلم الشعر والغناء والعربية وتعلم القرآن والحساب حتى لو كان في شيء من ذلك عرف ظاهر يلحقه برأس المال، وكذا لا يلحق أجرة الطبيب والرائض والبيطار والراعي وجعل الآبق والختان والحجام لعدم العرف وفي " التحفة "، وأما أجرة السمسار في ظاهر الرواية ملحق برأس المال وفي البرامكة قال: لا يلحق.
وقال الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": وكذلك إذا كان مضار بما أنفق على الرقيق في طعامهم وكسوتهم، وما لا بد لهم منه إذا كان ما أنفق من ذلك بالمعروف، فإن كان أسرف لم يضم الفضل وضم ما بقي ولا يضم ما أنفق عل نفسه في سفره في كسوته وطعامه ومركبه ودهنه وغسل ثيابه، ولا يضم أيضا ما أنفق على مرض الرقيق في أجرة طبيب أو حجام أو دواء.
وقيل: أجرة الدلال لا تضم، وكذا المساح الذي يؤجر في الطريق إلا إذا جرت عادة التجار، وكذا لا يضم كل ما جاوز القوت من الطعام والإمام، وإلا أجرة الكيال في الطعام ونحوه، ويلحق به ثمن علف الدواب وأجرة التجصيص والتطيين وحفر البئر في الدار والقناة في الأرض ونفقة الكراب وكسح الكروم وسقي الزرع والكروم ما بقيت، فإذا ذهبت لم يحسب شيء منه، وأجرة لقاط التمر والسلاح والملاح ونحوها، فإن أنفق على الغنم وأصاب من أصوافها وألبانها يضم ما فضل من قيمتها من الصوف واللبن وكذا الدجاجة إذا باضت.
وفي " تتمة الشافعية ": يدخل المسكن الذي يأخذه السلطان م: (فإن اطلع المشتري على خيانة) ش: وفي " التحفة " ظهور الخيانة إما بإقرار البائع أو بالبينة أو بالنكول عن اليمين وكذا في " تتمة الشافعية " م: (في المرابحة فهو بالخيار عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله:
[اطلع على خيانة في التولية]
م: (وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن) ش: أي أسقط الخيانة أي قدرها.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحط فيهما) ش: أي يحط قدر الخيانة في المرابحة والتولية جميعا، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أبو حامد المروزي قولا آخر عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن البيع لا يصح.(8/235)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يخير فيهما. لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الاعتبار للتسمية لكونه معلوما، والتولية والمرابحة ترويج وترغيب فيكون وصفا مرغوبا فيه كوصف السلامة فيتخير بفواته، ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأصل فيه كونه تولية ومرابحة، ولهذا ينعقد بقوله: وليتك بالثمن الأول، أو بعتك مرابحة على الثمن الأول، إذا كان ذلك معلوما فلا بد من البناء على الأول وذلك بالحط، غير أنه يحط في التولية قدر الخيانة من رأس المال، وفي المرابحة منه ومن الربح، ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لو لم يحط في التولية لا يبقى تولية لأنه يزيد على الثمن الأول فيتغير التصرف فتعين الحط، وفي المرابحة لو لم يحط تبقى مرابحة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: هو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخير فيهما) ش: يعني له الخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الاعتبار للتسمية) ش: لتعلق العقد بالتسمية م: (لكونه) ش: أي لكون التسمية م: (معلوما) ش: لأنه بحسب أن يكون الثمن معلوما والعلم يحصل بالتسمية م: (والتولية والمرابحة ترويج وترغيب فيكون) ش: أي ذكر التولية والمرابحة م: (وصفا مرغوبا فيه كوصف السلامة) ش: أي كوصف سلامة المبيع.
فإذا فات الوصف المرغوب فيه بظهور الخيانة كان بمنزلة العيب م: (فيتخير بفواته) ش: كما لو وجد المبيع معيبا م: (ولأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأصل فيه) ش: أي في لفظ المرابحة والتولية م: (كونه) ش: أي كون المعقد م: (تولية ومرابحة) ش: لا التسمية م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون العقد تولية ومرابحة م: (ينعقد) ش: أي المعقد م: (بقوله: وليتك بالثمن الأول، أو بعتك مرابحة على الثمن الأول إذا كان ذلك) ش: أي الثمن م: (معلوما) ش: واقتصر هو على التسمية صح العقد والتسمية كالتفسير م: (فلا بد من البناء على الأول) ش: أي فلا بد من بناء العقد الثاني في حق الثمن على العقد الأول، إذ الثاني في حكم الأول، وقدر الخيانة لم يكن ثابتا في العقد الأول فلا يمكن إثباته في العقد الثاني، فيحط ضرورة وهو معنى قوله: م: (وذلك بالحط) ش: أي بحط شيء من الثمن وهو مجهول فبينه بقوله: م: (غير أنه يحط في التولية قدر الخيانة من رأس المال) ش: وهو ظاهر.
م: (وفي المرابحة منه) ش: أي ويحط في المرابحة من رأس المال م: (ومن الربح) ش: حتى لو باع ثوبا بعشرة على ربح خمسة فظهر أن الثمن كان ثمانية، يحط قدر الخيانة وهو درهمان من الأصل وما قابله من الربح وهو درهم، فيأخذ الثوب باثني عشر درهما لأن هذا ربح على الكل، وما قابله من الربح وهو درهم، فيأخذ الثوب باثني عشر درهما لأن هذا ربح على الكل، فظهرت الخيانة في الكل، فيظهر الأثر في الربح أيضا.
م: (ولأبي حنيفة أنه لو لم يحط في التولية لا يبقى) ش: أي العقد م: (تولية لأنه يزيد على الثمن الأول) ش: لكن لا يجوز أن لا يبقى تولية م: (فتغير التصرف) ش: حينئذ فلا يجوز، فإذا كان كذلك م: (فتعين الحط، وفي المرابحة لو لم يحط تبقى مرابحة) ش: كما كانت من غير تغير التصرف، لكن(8/236)
وإن كان يتفاوت الربح فلا يتغير التصرف، فأمكن القول بالتخيير، فلو هلك قبل أن يرده أو حدث فيه ما يمنع الفسخ يلزمه جميع الثمن في الروايات الظاهرة، لأنه مجرد خيار لا يقابله شيء من الثمن، كخيار الشرط والرؤية بخلاف خيار العيب؛ لأنه مطالبة بتسليم الفائت فيسقط ما يقابله عند عجزه
قال: ومن اشترى ثوبا فباعه بربح ثم اشتراه، فإن باعه مرابحة طرح عنه كل ربح كان قبل ذلك، فإن كان استغرق الثمن لم يبعه مرابحة، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يبيعه مرابحة على الثمن الأخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتفاوت الربح م: (وإن كان يتفاوت الربح فلا يتغير التصرف فأمكن القول بالتخيير) ش: لفوات الرضا م: (فلو هلك) ش: أي المبيع م: (قبل أن يرده أو حدث فيه ما يمنع الفسخ) ش: عند ظهور الخيانة م: (يلزمه جميع الثمن في الروايات الظاهرة) ش: احترز به عما روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول، أنه يفسخ البيع على القيمة، إن كانت أقل من الثمن حتى يندفع الضرر عن المشتري بناء على حاصله في مسألة التحالف بعد هلاك السلعة، إنه يفسخ بعد التحالف دفعا للضرر عن المشتري ويرد القيمة ويسترد الثمن كذا هاهنا.
وقال الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من قال بالحط لو هلك المبيع أو استهلكه أو انتقض فله الحط، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قولا واحد وإنما القولان له فيما إذا كانت السلعة قائمة، ومن قال بالفسخ إذا امتنع لزمه جميع الثمن.
وفي " الكافي ": لو هلك المبيع قبل أن يرده أو حدث به ما يمنع الفسخ عند ظهور الخيانة لزمه جميع الثمن وسقط خياره عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو المشهور من قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه مجرد خيار لا يقابله شيء من الثمن كخيار الشرط والرؤية) ش: وقد تعذر الرد بالهلاك أو غيره فيسقط خياره م: (بخلاف خيار العيب) ش: بحيث لا يجب كل الثمن بل ينقص منه مقدار العيب لأجل العيب م: (لأنه) ش: أي لأن خيار العيب م: (مطالبة بتسليم الفائت) ش: أي الجزء الفائت م: (فيسقط ما يقابله) ش: أي ما يقابل العيب من الثمن م: (عند عجزه) ش: أي عجز المشتري عن تسليمه بهلاك المبيع أو بحدوث ما يمنع الفسخ.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى ثوبا فباعه بربح ثم اشتراه فإن باعه مرابحة طرح) ش: أي طرح البائع الأول وهو المشتري الثاني م: (عنه) ش: أي عن ثمن ما اشترى م: (كل ربح كان قبل ذلك) ش: أي قبل الربح الذي حصل في العقد الثاني م: (فإن كان) ش: أي في الربح م: (استغرق الثمن لم يبعه مرابحة، وهذا عند أبي حنيفة) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وقالا: يبيعه مرابحة على الثمن الأخير) ش: في الفصلين، وبه قال الشافعي ومالك -(8/237)
صورته إذا اشترى ثوبا بعشرة فباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة، فإنه يبيعه مرابحة بخمسة ويقول: قام علي بخمسة، ولو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين مرابحة ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلا، وعندهما يبيعه مرابحة على العشرة في الفصلين. لهما أن العقد الثاني عقد متجدد منقطع الأحكام عن الأول فيجوز بناء المرابحة عليه كما إذا تخلل ثالث. ولأبي حنيفة أن شبهة حصول الربح بالعقد الثاني ثابتة لأنه يتأكد به بعدما كان على شرف السقوط بالظهور على عيب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رحمهما الله - م: (صورته) ش: ما ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من المسألة م: (إذا اشترى ثوبا بعشرة فباعه بخمسة عشر) ش: توضيحه رجل اشترى ثوبا بعشرة دراهم وقبض ثم باعه من غيره بخمسة عشر وسلم المبيع وانتقد الثمن م: (ثم اشتراه بعشرة، فإنه يبيعه مرابحة بخمسة) ش: عن الثمن الثاني الذي ربح وهو خمسة، فيبيعه مرابحة على خمسة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (ويقول: قام علي بخمسة) ش: ولا يقول: اشتريته بخمسة لئلا يصير كاذبا م: (ولو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين مرابحة، ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلا) ش: عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني لا يبيعه مرابحة من غير بيان، بل يبيعه مساومة لأنه إذا حط عنه الربح لا يبقى الثمن م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (يبيعه مرابحة على العشرة في الفصلين) ش: أي في الفصل الأول والثاني م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.
م: (أن العقد الثاني عقد متجدد منقطع الأحكام عن الأول) ش: وفي " المبسوط ": إنه شراء مستقل فلا يدخل فيه ما قبله من ربح أو وضيعة وكل ما هو كذلك م: (فيجوز بناء المرابحة عليه كما إذا تخلل ثالث) ش: بأن اشترى من مشتريه، توضيحه باعه بعشرين ثم باعه المشتري إلى ثالث، ثم اشتره البائع الأول بعشرة تجوز المرابحة بعشرة.
م: (ولأبي حنيفة أن شبهة حصول الربح بالعقد الثاني ثابتة) ش: يعني أن الربح الثاني الذي استفاده بالعقد كان على شرف السقوط بأن يرد بعيب، فإذا اشتراه من المشتري تأكد وهو معنى قوله: م: (لأنه يتأكد به) ش: أي لأن الربح الذي كان على شرف السقوط يتأكد به، أي بالعقد الثاني م: (بعدما كان على شرف السقوط بالظهور على عيب) ش: وللتأكيد في بعض المواضع حكم الإيجاب، كما في شهود الطلاق قبل الدخول، إذا رجعوا يضمنون نصف المهر لتأكد ما كان على شرف السقوط لاحتمال أنه يسقط بتقبيل ابن الزوج أو بالارتداد.
فإذا اعتبرنا التأكيد يصير البائع في مسألتنا مشتريا بالعقد الثاني ثوبا وخمسة دراهم بالعشرة، فيكون خمسة بإزاء الخمسة ويبقى الثوب بالخمسة، ويبيعه مرابحة على خمسة احترازا عن شبهة الخيانة فإنها لحقيقتها، وهو معنى قوله:(8/238)
والشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطا، ولهذا لم تجز المرابحة فيما أخذ بالصلح بشبهة الحطيطة، فيصير كأنه اشترى خمسة وثوبا بعشرة، فيطرح خمسة بخلاف ما إذا تخلل ثالث؛ لأن التأكد حصل بغيره.
قال: وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة، وعليه دين يحيط برقبته فباعه من المولى بخمسة عشر فإنه يبيعه مرابحة على عشرة، وكذلك إن كان المولى اشتراه فباعه من العبد؛ لأن في هذا العقد شبهة العدم، لجوازه مع المنافي، فاعتبر عدما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والشبهة كالحقيقة في بيع المرابحة احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (لم تجز المرابحة فيما أخذ بالصلح) ش: صورة الصلح ادعى على رجل ألف درهم فصالحه على ثوب أو عبد، فإنه لا يبيعها مرابحة على ألف لأن الصلح بناه على التجوز والحطيطة، ولو وجد حقيقة ما جاز المبيع مرابحة فكذا م: (بشبهة الحطيطة) ش: وهي ما يحط من ثمن السلعة م: (فيصير كأنه اشترى خمسة وثوبا بعشرة فطرح خمسة) ش: يعني إذا كان شبه حصول الربح ثابتة، يصير كأنه اشترى بالعقد الثاني خمسة دراهم وثوبا بعشرة، فالخمسة بإزاء الخمسة، والثوب بخمسة فيبيعه مرابحة على خمسة، وعورض بأنه لو كان كذلك لما جاز الشراء بعشرة فيما إذا باعه بعشرين، لأنه يصير في الشراء الثاني كأنه اشترى ثوبا وعشرة بعشرة فكان ثمنه شبهة الربا وهو حصول الثوب بلا عوض.
وأجيب: بأن التأكيد له شبهة الإيجاب في حق العباد واحترازا عن الخيانة لا في حق الشرع، وشرعية جواز المرابحة لمعنى راجع إلى العباد فيؤثر التأكيد في المرابحة، وأما جواز البيع وعدمه في شبهة الربا فحق الشرع فلا يكون التأكيد فيه شبهة الإيجاب، كذا نقل من " فوائد الإمام العلامة حميد الدين" - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بخلاف ما إذا تخلل ثالث) ش: أي بينهما م: (لأن التأكيد) ش: أي تأكيد الربح م: (حصل بغيره) ش: وهو الثالث فلم يستفد ربح المشتري الأول بالشراء الثاني، فانتفت الشبهة.
[اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة وعليه دين يحيط برقبته]
م م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا اشترى العبد المأذون له في التجارة ثوبا بعشرة وعليه دين يحيط برقبته) ش: أي والحال أنه مديون بدين يحيط برقبته، وفي " النهاية " إنما قيد به لأنه لو لم يكن على العبد دين وباع من المولى لم يصح، لأن هذا البيع لا يفيد للمولى شيئا لم يكن له قبل البيع لا يملك الرقبة ولا يملك التصرف م: (فباعه من المولى بخمسة عشر فإنه) ش: أي فإن المولى م: (يبيعه مرابحة على عشرة، وكذلك إن كان المولى) ش: هو العقد الذي م: (اشتراه فباعه من العبد) ش: بخمسة عشر، باعه العبد مرابحة على عشرة م: (لأن في هذا العقد) ش: أي بيع العبد من المولى وعكسه م: (شبهة العدم) ش: أي شبهة عدم الجواز لا حقيقة عدم الجواز م: (لجوازه مع المنافي) ش: أي لجواز العقد، لقيام الدين مع وجود المنافي للجواز وهو كون العبد ملكا للمولى فصار كأنه باع ملك نفسه من نفسه وكذا في الشراء م: (فاعتبر عدما) ش: أي فاعتبر(8/239)
في حكم المرابحة وبقي الاعتبار للأول، فيصير كأن العبد اشتراه للمولى بعشرة في الفصل الأول، وكأنه يبيعه للمولى في الفصل الثاني، فيعتبر الثمن الأول.
قال: وإذا كان مع المضارب عشرة دراهم بالنصف، فاشترى ثوبا بعشرة، وباعه من رب المال بخمسة عشر، فإنه يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقد كأن لم يكن م: (في حكم المرابحة) ش: لوجوب الاحتراز فيها عن شبهة الجناية.
وإذا عدم البيع الثاني م: (وبقي الاعتبار الأول) ش: أي العقد الأول م: (فيصير كأن العبد اشتراه للمولى بعشرة في الفصل الأول) ش: أي فيما إذا باعه من مولاه م: (وكأنه يبيعه للمولى في الفصل الثاني) ش: أي فيما إذا باعه المولى من عبده م: (فيعتبر الثمن الأول) ش: أي الثمن المذكور في الفصل الأول فلا يبيعه مرابحة على الثمن المذكور فيه وإنما يبيعه على الثمن المذكور في الأول.
وقال الكاكي: ذكر هذه المسألة وأخواتها في " المبسوط " من غير ذكر دين العبد فقال: وإذا اشترى شيئا من أبيه، أو أمه، أو ولده، أو مكاتبه، أو عبده، أو اشترى العبد، أو المكاتب من مولاه أشياء بثمن قد قام على البائع بأقل من ثمنه، لم يكن له أن يبيعه مرابحة إلا بالذي قام على البائع من العبد والمكاتب بالاتفاق، لأن بيع المرابحة على ما يتقين بخروجه عن ملكه، لأن كسب العبد لمولاه، وما حصل من مكاتبه من وجه كان له أيضا.
وللمولى في حق الملك في كسب المكاتب وينقلب ذلك حقيقة الملك عند عجزه، فأما في غير المماليك من الآباء والأولاد والأزواج فكذلك الجواب عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال أحمد والشافعي - رحمهما الله - في وجه.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قول: له أن يبيعه مرابحة بما اشتراه لتباين الأملاك بينهما.
وقال الأترازي: قد اختلف نسخ شروح " الجامع الصغير "، فقد قيد فخر الإسلام دين العبد المستغرق.
وقال الصدر الشهيد: بعبد مأذون عليه دين محيط برقبته أو غير محيط. وقاضي خان قيد بالمحيط أيضا، والعتابي قيد بالمأذون فحسب، ولم يذكر الدين أصلا، وقال في " شرح الطحاوي ": لو اشترى من مماليكه ومكاتبه وعبده المأذون الذي عليه دين أو لا دين عليه فإنه يبيعه مرابحة على أقل الضمانين إلا أن يبين الأمر على وجه.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا كان مع المضارب عشرة دراهم بالنصف، فاشترى ثوبا بعشرة، وباعه من رب المال بخمسة عشر فإنه) ش: أي فإن رب المال م: (يبيعه مرابحة باثني عشر ونصف) ش: لأن بيع المرابحة بيع أمانة يحترز فيها عن الخيانة وعن شبهتها(8/240)
لأن هذا البيع، وإن قضى بجوازه عندنا عند عدم الربح خلافا لزفر، مع أنه اشترى ماله بماله لما فيه من استفادة ولاية التصرف، وهو مقصود، والانعقاد يتبع الفائدة ففيه شبهة العدم، ألا ترى أنه وكيل عنه في البيع الأول من وجه فاعتبر البيع الثاني عدما في حق نصف الربح.
قال: ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن هذا البيع، وإن قضى بجوازه عندنا عند عدم الربح خلافا لزفر) ش: فإن عنده لا يجوز بيع رب المال من المضارب، ولا بيع المضارب من رب المال، إذا لم يكن في المال ربح م: (مع أنه اشترى ماله بماله) ش: أي مع أن رب المال يشتري مال نفسه بمال نفسه، لأن رقبة المال له م: (لما فيه) ش: دليل قوله: قضى بجوازه وذلك أن ولاية التصرف انقطعت عن رب المال بتسليم المال إلى المضارب، ثم لما اشترى من المضارب استفاد ولاية التصرف وهو معنى قوله: لما فيه، أي لما في هذا العقد.
م: (من استفاد ولاية التصرف) ش: أي ملك اليد، لأن رب المال بالتسليم إلى المضارب قطع ولاية التصرف عن ماله، وبالشراء عن المضارب يحصل له ولاية التصرف، ولهذا لو صار مال المضارب جارية لا يحل لرب المال وطؤها وإن لم يكن فيها ربح، ذكره الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وللمضارب حق التصرف، ولهذا لا يملك رب المال منع المضارب عن التصرف، ذكره في الإيضاح م: (وهو مقصود) ش: أي حصول ولاية التصرف هو المقصود م: (والانعقاد يتبع الفائدة) ش: أي انعقاد العقد يتبع الفائدة، ولهذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره، واشتراهما صفقة واحدة جاز، ودخل عبده في الشراء لحصول الفائدة في حق انقسام الثمن ثم يخرج.
فكذا فيما نحن فيه، لأن المال كالمملوك للمضارب في حق التصرف، وكغير المملوك لرب المال في حق التصرف، ولا يملك رب المال إبطال هذا الملك للمضارب إلا بالشراء فجاز ذلك لحصول الفائدة.
م: (ففيه شبهة لعدم) ش: جواب قوله: وإن قضى بجوازه، أي عدم الجواز، ثم أوضح المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك بقوله: م: (ألا ترى أنه) ش: أي أن المضارب م: (وكيل عنه) ش: أي عن رب المال م: (في البيع الأول من وجه) ش: لأنه يعمل لنفسه ولرب المال، ولهذا يكون الربح لهما بخلاف الوكيل لأنه يعمل للموكل، ولهذا يكون الربح له م: (فاعتبر البيع الثاني) ش: يعني لما كان فيه شبهة العدم اعتبر البيع الثاني م: (عدما في حق نصف الربح) ش: لأن ذلك حق رب المال.
وقال تاج الشريعة: في حق نصف الربح وهو نصف حق الربح الذي بحصته ولا يعمل في حق نصف الربح يستحقه المضارب إذ لا شبهة في هذا النصف أصلا.
م: (قال) ش: أي محمد -(8/241)
اشترى جارية فأعورت أو وطئها وهي ثيب يبيعها مرابحة ولا يبين؛ لأنه لم يحتبس عنده شيء يقابله بمقابلة الثمن، لأن الأوصاف تابعة لا يقابلها الثمن، ولهذا لو فاتت قبل التسليم لا يسقط شيء من الثمن. وكذا منافع البضع لا يقابلها الثمن، والمسألة فيما إذا لم ينقصها الوطء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن اشترى جارية فأعورت) ش: أي بآفة سماوية أو ثوبا أو طعاما، فأصابه عيب عند المشتري بغير فعل أحد م: (أو وطئها وهي ثيب يبيعها مرابحة، ولا يبين) ش: أي لا يقول: إنها سليمة فأعورت في يدي م: (لأنه لم يحتبس عنده) ش: أي عند المشتري.
وفي بعض النسخ لأنه لم يحتبس بفعله أي بفعل المشتري م: (شيء يقابله بمقابلة الثمن؛ لأن الأوصاف تابعة) ش: والغاية وصف م: (لا يقابلها الثمن) ش: أي فلا يقابلها شيء من البدل إذا جاءت بغير صنع أحد، وإنما البدل كله مقابلة الأصل وهو باق على حاله فيبيعه مرابحة بلا بيان.
م: (ولهذا) ش: توضيح لقوله: لأنه لم يحتبس عنده شيء بمقابلة الثمن م: (لو فاتت) ش: أي العين م: (قبل التسليم) ش: إلى المشتري م: (لا يسقط شيء من الثمن، وكذا منافع البضع لا يقابلها الثمن) ش: لأنها ليست بمال، فإن قيل: يشكل على قول الغاية وصف لا يقابله شيء من الثمن الآجل، فإنه وصف وعليه أن يبيعه إذا اشتراه بالأجل.
قلنا: يعطي في مقابلة الأجل شيء عادة فيكون في مقابلة شيء من الثمن، فيكون كالجزء فيلزمه البيان، فإن قيل: المستوفى من منافع البضع بمنزلة الجزء والجزاء إذا قصد إتلافه كان له قسط من الثمن، بدليل أنه لو اشترى جارية فوطئها، ثم وجد بها عيبا لم يتمكن من الرد، وإن كانت هي ثيبا وقت الشراء، وذلك باعتبار أن المستوفي بالوطء بمنزلة إحباس جزء من البيع عند المشتري.
قلنا: عدم جواز الرد باعتبار ما ذكرت غير مسلم، بل لمعنى آخر، وهو لا يخلو: إما أن يردها مع العقد ولا وجه إليه، لأن العقد ما ورد على الزيادة، أو يردها بغير عقد ولا وجه إليه أيضا؛ لأنها تعود إلى قديم ملكه فيكون وطء المشتري بلا ملك وذا لا يجوز م: (والمسألة فيما إذا لم ينقصها الوطء) ش: لأنها إذا نقصها فات الوصف بفعل قصدي، هذا في الثيب لأن الوطء لا ينقصها فإنه يبيعها، مرابحة قبل البيان، بخلاف البكر، فإنه إذا وطئها، فأزال لعذرتها لا يبيعها مرابحة قبل البيان لأنه حبس جزء من العين كما يجيء عن قريب.
وفي الثيب المستوفى ليس بمال فلا يقابله البدل، فكان كالاستخدام، ولهذا لو حدث بالمبيع عيب قبل القبض لا يسقط شيء من الثمن غير أن المشتري يخير بين أخذه بكل الثمن وتركه.
وفي قول زفر إذا أعورت بآفة سماوية لا يبيعها مرابحة من غير بيان لأنها قد تغير عن حالها التي اشتراها به.(8/242)
وعن أبي يوسف في الفصل الأول أنه لا يبيع من غير بيان كما إذا احتبس بفعله، وهو قول الشافعي، فأما إذا فقأ عينها بنفسه، أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يبعها مرابحة حتى يبين؛ لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن، وكذا إذا وطئها وهي بكر لأن العذرة جزء من العين، فيقابلها الثمن وقد حبسها. ولو اشترى ثوبا فأصابه قرض فأر، أو حرق نار يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو تكسر بنشره وطيه لا يبيعه حتى يبين، والمعنى ما بيناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقول زفر أحوط، ثم قال: وبه نأخذ.
م: (وعن أبي يوسف في الفصل الأول) ش: وهو ما إذا اشترى جارية فأعورت م: (أنه لا يبيع من غير بيان كما إذا احتبس بفعله) ش: أي كما إذا احتبس الشيء الغائب بفعل المشتري م: (وهو قول الشافعي) ش: وهو زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا، لكنهما اختلفا في التخريج، فعند زفر يجب البيان باعتبار أنه لو علم المشتري أنه اشتراه غير معيب بما سمى من البدل لم يلزم له ربحا على ذلك ما لم يعين بعد ما تعيب.
وأما الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيقول وجب البيان بناء على مذهبه أن للأوصاف حصة من الثمن، وأن التعيب بآفة سماوية، ويضع العباد سواء عنده م: (فأما إذا فقأ عينها) ش: وفي بعض النسخ قلنا: إن فقأ عينها، وفي بعضها: وأما إذا فقأ.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو الأصح، وقال الأكمل: وفي بعض النسخ، قلنا فيكون جوابا لقول أبي يوسف، والشافعي - رحمهما الله -، يعني إذا فقأ المشتري عين الجارية م: (بنفسه أو فقأها أجنبي فأخذ أرشها لم يبعها مرابحة حتى يبين؛ لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابلها شيء من الثمن) ش: وعبارة المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - تدل بالتنصيص عل أخذ أرشها وهو المذكور في لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصل " الجامع الصغير "، وقال في " النهاية ": كان ذكر الأرش وقع اتفاقا، لأنه لما فقأ الأجنبي وجب عليه ضمان الأرش، وجوب ضمان الأرش سبب لأخذ الأرش فأخذ حكمه.
ثم قال: والدليل على هذا الإطلاق ما ذكره في " المبسوط " من غير تعرض لأخذ الأرش، وذكر نقل " المبسوط " كذلك م: (وكذا إذا وطئها وهي بكر) ش: لا يبيعها مرابحة إلا بالبيان م: (لأن العذرة جزء من العين، فيقابلها الثمن وقد حبسها) ش: فلا بد من البيان، ولو فقأت عين نفسها بنفسها فهو كالأعور إذ لا يلزمه البيان كذا في " المبسوط " م: (ولو اشترى ثوبا فأصابه قرض فأر) ش: بالقاف، من قرض الثوب بالمقراض إذا قطعه. ونص أبو اليسر على أنه بالفاء م: (أو حرق نار يبيعه مرابحة من غير بيان) ش: لأن الأوصاف تابعة لا يقابلها الثمن م: (ولو تكسر بنشره وطيه لا يبيعه حتى يبين) ش: لأنه صار مقصودا بالإتلاف م: (والمعنى ما بيناه) ش: يعني في الدليلين،(8/243)
قال: ومن اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين، فعلم المشتري، فإن شاء رده وإن شاء قبل؛ لأن للأجل شبها بالمبيع. ألا ترى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، والشبهة في هذا ملحقه بالحقيقة فصار كأنه اشترى شيئين وباع أحدهما مرابحة بثمنهما، والإقدام على المرابحة يوجب السلامة عن مثل هذه الخيانة، فإذا ظهرت يخير، كما في العيب. وإن استهلكه ثم علم لزمه بألف ومائة؛ لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن،
قال: فإن كان ولاه إياه ولم يبين رده إن شاء؛ لأن الخيانة في التولية مثلها في المرابحة لأنه بناء على الثمن الأول، وإن كان استهلكه ثم علم لزمه بألف حالة لما ذكرناه. وعن أبي يوسف أنه يرد القيمة ويسترد كل الثمن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحدهما في قرض الفأر، والآخر في تكسر الثوب.
[اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى غلاما بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين) ش: أنه اشتراه نسيئة م: (فعلم المشتري فإن شاء رده وإن شاء قبل) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -.
وقال الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يثبت الأجل م: (لأن للأجل شبها بالمبيع، ألا ترى أنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، والشبهة في هذا) ش: أي في هذا الباب م: (ملحقة بالحقيقة) ش: أي بحقيقة المبيع احتياطا م: (فصار كأنه اشترى شيئين وباع أحدهما مرابحة بثمنهما) ش: أي بثمن الاثنين، وذلك حرام يجب الاحتراز عنه فكذا هذا م: (والإقدام على المرابحة يوجب السلامة عن مثل هذه الخيانة) ش: فإذا لم يبين أنه نسيئة تظهر الخيانة، وظهورها كالعيب فيكون له الخيار وهو معنى قوله م: (فإذا ظهرت) ش: أي الخيانة م: (يخير) ش: أي له الخيار بين الأخذ والترك م: (كما في العيب) ش: أي كما له الخيار عند ظهور العيب في البيع م: (وإن استهلكه) ش: أي وإن استهلك المشتري المبيع المذكور بوجه بأن باعه، أو بوجه آخر.
م: (ثم علم لزمه) ش: أي المبيع لزم المشتري لتعذر الفسخ م: (بألف ومائة لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن) ش: حقيقة ولكن فيه لشبهة المقابلة، فباعتبار شبهة الخيانة كان له أن يفسخ البيع إذا كان المبيع قائما، فأما أن يسقط من الثمن شيء بعد الهلاك بمقابلة الأجل فلا.
[الخيانة في التولية]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن كان ولاه إياه) ش: أي باعه بالتولية م: (ولم يبين) ش: أنه اشتراه بألف نسيئة ثم علم المشتري كان له الخيار م: (رده إن شاء؛ لأن الخيانة في التولية مثلها في المرابحة؛ لأنه بناء على الثمن الأول) ش: فلا زيادة ولا نقصان، فلا يمكن الحط هنا لأن الثمن هو الألف ولا زيادة، فأي شيء يحط م: (وإن كان استهلكه ثم علم لزمه بألف حالة لما ذكرناه) ش: أراد به قوله: لأن الأجل لا يقابله شيء من الثمن م: (وعن أبي يوسف) ش: في " النوادر " أنه قال: م: (أنه) ش: أي أن المشتري م: (يرد القيمة) ش: أي قيمة العين م: (ويسترد كل الثمن وهو)(8/244)
وهو نظير ما استوفى الزيوف مكان الجياد، وعلم بعد الإنفاق، وسيأتيك من بعد إن شاء الله تعالى. وقيل: يقوم بثمن حال وبثمن مؤجل، فيرجع بفضل ما بينهما، ولو لم يكن الأجل مشروطا في العقد، ولكنه منجم معتاد قيل لا بد من بيانه لأن المعروف كالمشروط، وقيل: يبيعه ولا يبينه لأن الثمن حال.
قال: ومن ولى رجلا شيئا بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد لجهالة الثمن، فإن أعلمه البائع بثمنه في المجلس فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأن الفساد لم يتقرر، فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي المذكور من هذا الحكم م: (نظير ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد) ش: بأن كان له على آخر عشرة جياد.
فإذا استوفى زيوفا م: (وعلم بعد الإنفاق) ش: يرد زيوفا مثلها ويأخذ الجياد م: (وسيأتيك من بعد إن شاء الله تعالى) ش: أي في مسائل منثورة قبيل كتاب الصرف م: (وقيل) ش: قائله الفقيه أبو جعفر الهندواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقوم بثمن حال وبثمن مؤجل فيرجع) ش: أي البائع م: (بفضل ما بينهما) ش: أي التفاوت الذي بين القيمتين م: (ولو لم يكن الأجل مشروطا في العقد ولكنه منجم معتاد) ش: كعادة بعض البلدان يشترون بعقد ويسلمون الثمن بعد أشهر، إما جملة وإما منجما م: (قيل: لا بد من بيانه لأن المعروف كالمشروط) ش: أي لأن الثابت بالعرف كالمشروط بين العاقدين م: (وقيل: يبيعه ولا يبينه) ش: يعني لا يجب بيانه م: (لأن الثمن حال) ش: لعدم ذكر الأجل، والأصل الحال في الثمن.
>
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن ولى رجلا شيئا بما قام عليه) ش: يعني إذا قال: وليتك هذا بما قام علي، يريد به بما اشتراه به مع ما لحقه من المؤن كالصبغ والعقل وغير ذلك، م: (ولم يعلم) ش: أي والحال أنه لم يعلم م: (المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد لجهالة الثمن) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصح الوجهين.
والوجه الثاني أنه لا يفسد البيع م: (فإن أعلمه البائع بثمنه) ش: أي فإن أعلم المشتري البائع بثمنه م: (في المجلس، فهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأن الفساد لم يتقرر) ش: لأنه في مجلس العقد لا يتقرر لأن ساعات المجلس كساعة واحدة، دفعا للضرر وتحقيقا لليسر م: (فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد) ش: العقد لا يتقرر لأن ساعات المجلس كساعة واحدة دفعا للضرر وتحقيقا في وجه، وفي وجه قال: لا ينقلب صحيحا بعد ما انعقد فاسدا م: (وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس) ش: فإن التأخير إلى آخر المجلس عفو كتأخير القبول، فإن التأخير في آخر المجلس يترابط بالإيجاب.(8/245)
وبعد الافتراق قد تقرر فلا يقبل الإصلاح ونظيره بيع الشيء برقمه إذا علم في ذلك المجلس، وإنما يتخير لأن الرضا لم يتم قبله لعدم العلم فيتخير كما في خيار الرؤية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن تخللت بينهما ساعات فكذا العلم في آخر المجلس كالعلم الحاصل في أوله، فيصح على تقدير الابتداء م: (وبعد الافتراق قد تقرر) ش: أي الفساد م: (فلا يقبل الإصلاح) ش: وفي " الكافي " هذا فساد لا يحتمل الإصلاح م: (ونظيره) ش: أي نظير هذا الحكم م: (بيع الشيء برقمه) ش: بسكون القاف، صورته أن التاجر يرقم الثياب، أي يعلمها بعلامة بأن ثمنها كذا فيبيع بذلك الثمن الذي هو معلوم للبائع غير معلوم للمشتري م: (إذا علم) ش: أي المشتري إذا علم قدر ذلك الثمن م: (في ذلك المجلس) ش: صح البيع، وإن كان بعد القبول، ويحصل كأنه علم وقت القبول، ولو علم بعد الافتراق لا يصح م: (وإنما يتخير) ش: أي المشتري م: (لأن الرضا لم يتم قبله) ش: أي قبل العلم بمقدار الثمن كما لا يتم بعدم الرؤية م: (لعدم العلم فيتخير) ش: أي المشتري م: (كما في خيار الرؤية) ش: أي كما يتخير في خيار الرؤية إذا رآه إن شاء أخذه وإن شاء رده، لأن ورود الشرع بإثبات الخيار ثمن ورد هاهنا.
فإن قيل: ينبغي أن لا يكون للمشتري الخيار لما ذكرنا أن الموجود في آخر المجلس كالموجود في أوله.
قلنا: لم يوجد الرضا في آخر المجلس حتى يجعل كالموجود في أوله فلهذا كان له الخيار.(8/246)
فصل ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع ما لم يقبض؛ لأن فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بيع ما لم يقبض]
م: (فصل) ش: أي هذا فصل في بيان مسائل غير المسائل التي ذكرت قبله، وإنما ذكرها هنا استطرادا باعتبار تقيدها بقيد زائد على البيع المجرد من الأوصاف كالمرابحة والتولية م: (ومن اشترى شيئا مما ينقل ويحول لم يجز له بيعه حتى يقبضه) ش: قيد بالبيع، ولم يقل لم يجز أن يتصرف فيه لتقع المسألة على الاتفاق.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز جميع التصرفات فيه قبل القبض في غير الطعام، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خص الطعام بالذكر عند النهي بقوله: «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه» فدل على تخصيص الحكم وإلا فليس لهذا التخصيص فائدة.
قلنا: التخصيص بالشيء لا يدخله على نفي الحكم فيما عداه، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان البيع مكيلا أو موزونا أو معدودا لم يجز بيعه قبل القبض وفي غيره يجوز م: (لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لأن النبي صلى الله عيه وسلم م: «نهى عن بيع ما لم يقبض» ش: روى النسائي في سننه الكبرى عن يعلى بن حكيم، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عصمة، «عن حكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: "قلت يا رسول الله، إني رجل أبتاع هذه البيوع وأبيعها، فما يحل لي منها وما يحرم، قال: لا تبيعن شيئا حتى تقبضه» ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مسنده" وابن حبان في "صحيحه".
وروى الطحاوي بإسناده إلى «حكيم بن حزام قال: كنت أشتري طعاما فأربح فيه قبل أن أقبضه فسألت النبي صلى الله عيه وسلم فقال: لا تبعه حتى تقبض» م: (لأن فيه) ش: أي في المنقول م: (غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك) ش: أي هلاك المبيع قبل القبض فيتبين حينئذ أنه باع ملك الغير(8/247)
ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز، رجوعا إلى إطلاق الحديث، واعتبارا بالمنقول، وصار كالإجارة، ولهما أن ركن البيع صدر من أهله في محله، ولا غرر فيه؛ لأن الهلاك في العقار نادر بخلاف المنقول،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بغير إذنه، وذلك مفسد للعقد.
وفي " الإيضاح " كل عرض ملك بعقد ينفسخ العقد فيه بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه، كالمبيع والأجرة إذا كانت عينا، ويدل الصلح إذا كان معينا وما لا ينفسخ العقد بهلاكه فالتصرف فيه جائز قبل القبض كالمهر، وبدل الخلع والعتق على مال، وبدل الصلح عن دم العمد.
م: (ويجوز بيع العقار قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال زفر والشافعي رحمهما الله، وأحمد وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أولا م: (رجوعا) ش: أي راجعا أو لأجل الرجوع م: (إلى إطلاق الحديث) ش: المذكور، فإن كلمة ما في الحديث للتعميم فيما لا ينتقل ولم يلحقه خصوص فلا يجوز تخصيصه بالقياس م: (واعتبارا بالمنقول) ش: أي وبالقياس عليه، لأنه مبيع لم يقبض فلا يجوز بيعه كالمنقول م: (وصار كالإجارة) ش: فإنها في العقار لا يجوز قبل القبض، والجامع اشتمالهما على ربح لم يضمن.
فإن المقصود من البيع والربح، وربح ما لم يضمن نهي عنه شرعا، والنهي يقتضي الفساد فيكون البيع فاسدا قبل القبض لأنه لم يدخل في ضمانه كما في الإجارة م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (أن ركن البيع) ش: وهو الإيجاب والقبول م: (صدر من أهله) ش: أي من العاقل والبالغ م: (في محله) ش: وهو المال المملوك وهو يقتضي الجواز م: (ولا غرر فيه) ش: لأنه لا يتوهم انفساخ العقد فيه بالهلاك.
م: (لأن الهلاك في العقار نادر) ش: إما بغلبة الماء أو الرمل أو لجوار بيت الغال والنادر لا يعتد به م: (بخلاف المنقول) ش: فإن الهلاك من غيره نادر.
وقال بعض مشايخنا: في موضع لا يخفى عليه أن يصير لجوار يغلب عليه الرمال، فأما في موضع لا يؤمن ذلك فلا يجوز، كذا ذكره الإمام المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن قيل: هذا التعليل معارض لمطلق النص، فإن مطلقه يتناول العقار كما بينا، قلنا الحديث مخصوص فإن بيع عقد المهر وبدل الخلع. والصلح عن دم العمد والميراث، والثمن قبل القبض يصح بالاتفاق، فحينئذ يجوز تخصيصه بالقياس، والدليل عليه ثبوت حق الشفعة قبل القبض والشفيع يتملك، فلو كان العقار قبل القبض لا يحتمل الملك ببدل لما جاز للشفيع الأخذ بالشفعة قبل القبض.
وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأخذ بالشفعة قبل القبض وجهان: في وجه لا يصح، وفي وجه يصح، وهو الأصح.(8/248)
والغرر المنهي عنه غرر انفساخ العقد، والحديث معمول به، عملا بدلائل الجواز والإجارة. قيل على هذا الخلاف، ولو علم في المعقود عليه في الإجارة المنافع وهلاكها غير نادر. قال ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: يتوهم انفساخ العقد بالرد بالعيب، وذلك غير نادر، قلنا: لا يتوهم الانفساخ بالرد حتى جاز البيع فيه قبل القبض، لأنه على تقدير جواز البيع قبل القبض يصير ملكا للمشتري، وحينئذ لا يملك المشتري الأول الرد بالعيب فلا يتوهم الانفساخ فيه بالرد حينئذ، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
م: (والغرر المنهي عنه غرر انفساخ العقد) ش: هذا جواب عما يقال: كيف قلت: ولا غرر فيه لأن الهلاك في العقار نادر، والغرر موجود أيضا بعقد القبض بظهور الاستحقاق فأجاب بقوله: والغرر المنهي عنه في الحديث غرر انفساخ العقد الأول م: (والحديث) ش: أي الحديث المذكور م: (معمول به) ش: أي بغرر انفساخ العقد فيما قبل القبض بهلاك المعقود عليه فيكون مخصوصا بالمنقول، ألا ترى أنه يجوز الإعتاق قبل القبض والوصية قبله م: (عملا بدلائل الجواز) ش: أي جواز البيع من الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (البقرة: الآية 275) ، وأما السنة فقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة» هكذا ذكره الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه، ثم قال: رواه في السنن قيس بن غرزة.
قلت: الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة، ولفظه فيما ذكره الترمذي:
حدثنا هناد، ثنا أبو بكر بن عباس، عن عاصم، عن أبي وائل، «عن قيس بن غرزة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عيه وسلم ونحن نسمى السماسرة فقال: "يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة» ثم قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقيس بن غرزة، بفتح الغين المعجمة، والراء ثم الزاي، غفاري نزل الكوفة ومات بها.
وأما الإجماع فإن النبي صلى الله عيه وسلم بعث والناس يتبايعون فلم ينكرهم على ذلك بل قررهم عليه، وقد انعقد إجماع الأمة على ذلك م: (والإجارة) ش: جواب عن قياس محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - صورة النزاع على الإجارة وتقريره أنها لا تصلح مقيسا عليها، لأنها على الاختلاف وهو معنى قوله: م: (قيل على هذا الخلاف ولو علم في المعقود عليه في الإجارة المنافع وهلاكها غير نادر) ش: يعني عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - إجارة العقار قبل القبض جائزة.
وقال في " الإيضاح ": ما لا يجوز بيعه قبل القبض لا يجوز إجارته، لأن صحة الإجارة(8/249)
اشترى مكيلا مكايلة، أو موزونا موازنة فاكتاله أو اتزنه، ثم باعه مكايلة أو موازنة، لم يجز للمشتري منه أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تملك الرقبة، فإذا ملك التصرف في الأصل وهو الرقبة ملك في المنافع، وقيل: لا يجوز بلا خلاف وهو الصحيح، لأن المنافع بمنزلة المنقول.
والإجارة تمليك المنافع فيمتنع جوازها لبيع المنقول.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن اشترى مكيلا مكائلة) ش: يعني رد الكيل م: (أو موزونا) ش: أي أو اشترى ما يوزن م: (موازنة) ش: يعني بالوزن قيد بالشراء لأنه إذا ملك مكيلا موزونا أو معدودا بهبة أو وصية أو ميراث جاز لمن ملك أن يتصرف فيه قبل القبض وقبل الكيل والوزن والعدد، قيد بقوله مكائلة أو موازنة، يعني بشرط الكيل والوزن بأن اشترى هذا الطعام على أنه عشرة أقفزة، أو هذا الحديد على أنه كذا كذا منا وقبضه لا يجوز له أن يتصرف فيه قبل الكيل والوزن وبعد المكائلة أيضا يخرج المجازفة، فإنه إذا اشتراه مجازفة وقبضه جاز التصرف فيه قبل الكيل والوزن على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى م: (فاكتاله أو اتزنه) ش: الاكتيال الأخذ بالكيل والاتزان الأخذ بالوزن، يقال: كال المعطي فاكتال الآخذ، ووزن المعطي فاتزن الآخذ.
م: (ثم باعه مكائلة أو موازنة) ش: أي باعه المشتري بشرط الكيل م: (لم يجز للمشتري منه) ش: أي لم يجز للمشتري الثاني من المشتري الأول الذي اشتراه مكائلة أو موازنة م: (أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل والوزن، لأن «النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، صاع البائع وصاع المشتري» ش: هذا الحديث رواه ابن ماجه في "سننه" عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه أبو الزبير عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عيه وسلم نحوه، ورواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا. أخرجه عنه البزار من طريق محمد بن سيرين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن النبي صلى الله عيه وسلم: نحوه. وزاد فيه، فيكون لصاحبه فيه الزيادة وعليه النقصان، انتهى.
وأراد بصاع البائع صاعه لنفسه حتى يشتريه وبصاع المشتري، صاعه لنفسه حتى يبيعه لإجماعهم أن البيع الواحد له يحتاج إلى الكيل مرتين، وبقولنا قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(8/250)
ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع، والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه، وبخلاف ما إذا باعه مجازفة لأن الزيادة له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومالك وأحمد - رحمهما الله - وكما لا يملك سائر التصرفات المختصة بالملك كالهبة والوصية ونحو ذلك كذا في " المبسوط "، وفي " الجامع الصغير " المحبوبي ولو قبضه بغير كيل وأكله لا يقال إنه حرام لأنه أكل ملك نفسه إلا أنه يأثم لرد ما أمر به من الكيل.
وفي الفوائد الظهيرية: المكيلان على أقسام:
الأول: ما يحتاج إلى الكيل مرتين وهو السلم على ما يجيء في بابه، وبيع العين المكيل مكايلة بعدما اشتراه مكائلة.
والثاني: ما يحتاج إلى كيل واحد، وهو ما إذا اشترى المسلم إليه حنطة مجازفة أو استفادها زراعة أو أرشا، أو استقرض حنطة على أنها كر ثم أدناها رب السلم أو باعها مكايلة احتج فيه إلى كل واحد وكذا فيما استفاد أرشا أو زراعة وكذا فيما استفاده قرضا بشرط الكيل.
والثالث: هو ما لا يحتاج فيه إلى الكيل وهو ما إذا اشترى حنطة مجازفة ثم باعها مجازفة في "نوادره" أنه يجوز، واعلم أن الأموال ثلاثة مقدارات كالكيلي والوزني، فإن اشتراه مجازفة وقبضه جاز تصرفه قبل الكيل والوزن على ما يجيء، وإن اشتراه بشرط الكيل والوزن فلا يجوز وقد مر.
وعدديات الجوز والبيض، فإن اشتراه بشرط العد فقبضه فهل يجوز له التصرف قبل العد ثانيا؟ لم يذكر جوابه في الكتاب فقد ذكروا في " شرح الجامع الصغير " عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه أبطل البيع قبل العد ثانيا كما في الكيل والوزن لأن العدد لمعرفة المقدار، ألا ترى أنه لو اشترى جوازا على أنه مائة فزاد فالزيادة للبائع ولا يدخل في البيع.
وروي عنهما أنهما أجازا العقد قبل العد لأن العد يخالف الكيل والوزن، ألا ترى أنه يجري فيه الربا، ولهذا لو باع جوزة بجوزتين جاز. ومذروعات كالثوب والعقار، ونحو ذلك، فإن اشترى مجازفة أو بشرط الذرع بأن اشترى على أنه عشرة أذرع مثلا فقبضه لا يجوز له التصرف فيه لأنه مال الغير وهو حرام فيجب التحرز عنه قبل الذرع، وقد مر في أول كتاب البيوع.
م: (ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط وذلك للبائع، والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه) ش: وهو بترك التصرف م: (بخلاف ما إذا باعه مجازفة لأن الزيادة) ش: يعني الكل م: (له) ش: واعترض بأن الزيادة لا تتصور في المجازفة وأجيب بأن من الجائز أنه اشترى مكيلا مكايلة واكتاله على أنه عشرة أقفزة مثلا، ثم باعه مجازفة فإذا هو اثنا عشر في الواقع فيكون زيادة على(8/251)
وبخلاف ما إذا باع الثوب مذارعة لأن الزيادة له؛ إذ الذرع وصف في الثوب بخلاف القدر،
ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري؛ لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط، ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري لأن الكيل من باب التسليم؛ لأن به يصير المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته، ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري فقد قيل لا يكتفى به لظاهر الحديث، فإنه اعتبر صاعين، وقيل: يكتفى به وهو الصحيح؛ لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكيل الذي اشتراه المشتري الأول كذا في " الكافي ".
قال الأكمل: وفيه من التمحل ما ترى، وقيل المراد الزيادة التي كانت في ذهن البائع وذلك بأنه باع مجازفة، وفي ذهنه أنه مائة قفيز، فإذا هو زائد على ما ظنه، والزائد للمشتري م: (وبخلاف ما إذا باع الثوب مذارعة لأن الزيادة له، إذ الذرع وصف في الثوب) ش: وليس فيه جهالة، ولا اختلاط المبيع بغيره م: (بخلاف القدر) ش: أي الكيل فإنه ليس بوصف، لأن بازدياد القدر لا يزداد قيمة المقدر كخمسين منا من الحنطة إذا زاد عليه خمسون أخرى لا يزداد قيمة الخمسين الأولى.
[كيل البائع قبل البيع]
م: (ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع) ش: المراد من البائع المشتري الأول م: (وإن كان بحضرة المشتري) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها وذلك م: (لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو الشرط) ش: أي الشرط هو صاع البائع والمشتري م: (ولا بكيله) ش: أي بكيل البائع م: (بعد البيع بغيبة المشتري، لأن الكيل من باب التسليم لأن به) ش: أي بالكيل م: (يصير المبيع معلوما، ولا تسليم إلا بحضرته) ش: أي بحضرة المشتري إذ لا بد للتسليم من مسلم حاضر، فالتسليم إلى الغائب لا يتحقق م: (ولو كاله البائع بعد البيع بحضرة المشتري، فقد قيل: لا يكتفى به) ش: أي بكيل البائع.
م: (لظاهر الحديث فإنه) ش: أي فإن الحديث م: (اعتبر صاعين، وقيل: يكتفى به) ش: أي بكيل البائع م: (وهو الصحيح) ش: أي الاكتفاء بالكيل الواحد هو الصحيح، م: (لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد وتحقق معنى التسليم) ش: وانتفى احتمال الزيادة، قيل في كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إيهام التناقض وذلك لأنه وضع المسألة أولا فيما إذا كان العقد أن يشترط الكيل واستدل على وجوب جريان الصاعين بالحديث.
ثم ذكر في آخر المسألة أن الصحيح أن يكتفى بالكيل الواحد، وهو يقتضي أن يكون وضع المسألة فيما يكون عقدا واحدا، بشرط الكيل كما أن الاكتفاء بالكيل الواحد في الصحيح من الرواية، إنما هو العقد الثالث بشرط الكيل، وأما إذا وجد العقدان بشرط الكيل، فالاكتفاء بالكيل الواحد فيهما ليس بصحيح من الرواية، بل الجواب فيه على الصحيح من الرواية وجوب الكيلين.(8/252)
ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى، ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما؛ لأنه ليس بمال الربا وكالموزون، فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط. قال: والتصرف في الثمن قبل القبض جائز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ودفعه بأن يكون المراد بالبائع في قوله: ولو كاله البائع، المشتري الأول أو بالمشتري هو الثاني وبالبيع البيع الثاني، ومعناه أن المشتري إذا باع مكايلة وكاله بحضرة مشتريه يكتفى بذلك، ويدل على ذلك قوله: م: (ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين) ش: فإنه يدل على أن في هذه الصورة اجتماع الصفقتين غير منظور إليه فكأنه يقول: الحديث دليل عل وجوب الصاعين فيما اجتمعت الصفقتان كما في أول المسألة.
والأكمل غير منفرد بهذا الكلام، لأن السفناقي: ذكر هذا وتبعه الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا م: (على ما نبين في باب السلم إن شاء الله تعالى) ش: عند قوله: ومن أسلم فلأجل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا، فأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز.
قالوا: الحديث ورد فيما إذا وجد عقدان بشرط الكيل، بأن يشتري المسلم إليه إلى آخر ما ذكرناه، فإنه اشترط فيه صاعان، صاع للمسلم إليه وصاع لرب السلم بكيله للمسلم إليه أولا ثم يكيله لنفسه، لأن هاهنا وجد عقدان بشرط الكيل فيشترط لكل كيل على حدة.
وفي " الكافي " قال أيضا: إن محمل الحديث على المسلم إليه فذكر نحوه وقال: فإنه لا يصح إلا بصاعين لاجتماع الصفقتين بشرط الكيل، إحداهما اشترى المسلم إليه والأخرى قبض رب السلم لنفسه وهو كالبيع الجديد فإنه يحتاج فيه إلى الكيلين م: (ولو اشترى المعدود عدا فهو كالمذروع فيما يروى عنهما) ش: أي عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأنه ليس بمال الربا) ش: ولهذا جاز بيع الواحد بالاثنين فكان المذروع وحكمه مر م: (وكالموزون فيما يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه لا تحل له الزيادة على المشروط) ش: ألا ترى أنه من اشترى جزافا على أنه ألف فوجدها أكثر لم تسلم له الزيادة ولو وجدها أقل يسترد حصة النقصان من البائع فلا بد لجواز التصرف من العدد كالوزن في الموزون م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والتصرف في الثمن قبل القبض جائز) ش: بأن يأخذ من المشتري مكان الدراهم الثمن ثوبا أو غيره.(8/253)
لقيام المطلق، وهو الملك، وليس فيه غرر الانفساخ بالهلاك لعدم تعينها بالتعيين بخلاف المبيع.
قال: ويجوز للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن. ويجوز للبائع أن يزيد المشتري في المبيع، ويجوز أن يحط عن الثمن، ويتعلق الاستحقاق بجميع ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا في سائر الديون من المهر والأجرة وضمان المتلفات ونحوها سوى الصرف والسلم جائز م: (لقيام المطلق) ش: بكسر اللام م: (وهو الملك) ش: حتى لو باع إبلا بدراهم أو بكر حنطة جاز له أن يأخذ به له شيئا آخر م: (وليس فيه) ش: أي في التصرف في الثمن م: (غرر الانفساخ بالهلاك) ش: أي انفساخ العقد بهلاك الثمن م: (لعدم تعينها بالتعيين بخلاف المبيع) ش: أي من النقود، وإذا لم يفسخ يبقى الثمن على ذمة المشتري،.
[الزيادة في الثمن]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز للمشتري أن يزيد للبائع في الثمن) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شرط صحة الزيادة في الثمن في ظاهر الرواية بقاء المبيع وكون المبيع محال للمقابلة في حق المشتري حقيقة، وروي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن شرط صحة الزيادة كون المبيع قابلا للمقابلة في نفسه لا في حق المشتري حقيقة، فعلى هذه الرواية تصح الزيادة في الثمن بعدما باع المشتري أو وهب وسلم أو تصدق، لأن البيع بقي محلا للمقابلة في نفسه.
وفي ظاهر الرواية لم يصح؛ لأنه لم يبق محلا للمقابلة في حق المشتري، وقال الأترازي: الزيادة في الثمن إنما تصح إذا كان المعقود عليه قائما، أما إذا لم يكن فلا يصح وإن كان الهلاك حقيقة أو حكما، أما حقيقة كما إذا مات، وأما حكما كما إذا اشترى الرجل من الرجل جارية بألف درهم فقبضها المشتري فأعتقها أو دبرها أو كاتبها أو كان استولدها، ثم إن المشتري زاد في ثمنها فالزيادة لا تصح، وكذلك لو باعها أو وهبها من غيره وسلمها إليه.
وقال في " شروح الجامع الكبير " ولو رهنها أو أجرها أو قطعت يدها صحت الزيادة لأن المعقود عليه قائم والنصرانيان إذا تبايعا خمرا ثم أسلما لم يجز الزيادة في الثمن لأنه كالهلاك في حق المسلم، ولو زاد في الثمن بعد هلاك الشاة لم يجز لأن المحل ليس بقابل م: (ويجوز للبائع أن يزيد المشتري في المبيع ويجوز أن يحط عن الثمن) ش: زيادة البائع للمشتري في البيع جائزة ما دام المبيع قائما لأن المعقود عليه ما دام قائما كان العقد قائما لقيام أثره وهو الملك المستفاد في العين فإذا هلك لم تصح الزيادة لأن العدم لا يصح تغييره بخلاف الحط فإنه يصح بعد هلاك المعقود عليه، فإنه لو أمكن أن يجعل تغييرا للعقد بأن كان العقد قائما جعل تغييرا وإن لم يكن جعله تغييرا كما في حالة الهلاك جعل برءا عن الدين فصح الحط في الحالين.
م: (ويتعلق الاستحقاق بجميع ذلك) ش: أو بالمزيد والمزيد عليه فإن للبائع أن يحبس المبيع ما لم يستوف المزيد والمزيد عليه من الثمن إذا كان الثمن حالا، وليس للمشتري أن يمنع الزيادة بعد ذلك لأنها استحقت بأصل العقد.(8/254)
فالزيادة والحط يلتحقان بأصل العقد عندنا، وعند زفر والشافعي لا يصحان على اعتبار الالتحاق بل يصحان على اعتبار ابتداء الصلة. لهما أنه لا يمكن تصحيح الزيادة ثمنا؛ لأنه يصير ملكه عوض ملكه، فلا يلتحق بأصل العقد، وكذلك الحط لأن كل الثمن صار مقابلا بكل المبيع فلا يمكن إخراجه فصار برءا مبتدأ. ولنا أنهما بالحط والزيادة يغيران العقد، من وصف مشروع إلى وصف مشروع، وهو كونه خاسرا أو رابحا أو عدلا، ولهما ولاية الرفع، فأولى أن يكون لهما ولاية التغيير وصار كما إذا أسقط الخيار أو شرطاه بعد العقد، ثم إذا صح يلتحق بأصل العقد؛ لأن وصف الشيء يقوم به لا بنفسه بخلاف حط الكل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك المشتري ليس له مطالبة البائع بتسليم المبيع ما لم يسلم المزيد والمزيد عليه من الثمن، وكذلك المشتري يرجع على البائع بجميع ذلك، أعني بالأصل والزيادة إذا استحق المبيع.
وفي صورة الحط للمشتري مطالبة البائع بتسليم المبيع إذا سلم ما بقي من الثمن بعد الحط، وكذلك الشفيع يستحق المبيع بما بقي بعد الحط م: (فالزيادة والحط يلتحقان بأصل العقد عندنا، وعند زفر والشافعي لا يصحان على اعتبار الالتحاق) ش: يعني بأصل العقد م: (بل يصحان على اعتبار ابتداء الصلة) ش: أي الهبة بالزيادة عندهما في الثمن، والثمن هبة ابتداء لا يتم إلا بالتسليم م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي - رحمهما الله - م: (أنه لا يمكن تصحيح الزيادة ثمنا) ش: أي من حيث كونه ثمنا م: (لأنه يصير ملكه) ش: أي ملك المشتري م: (عوض ملكه) ش: لأنه ملك المبيع بالعقد المسمى ثمنا. فالزيادة في الثمن تكون في مقابلة ملك نفسه وهو المبيع، وذلك لا يجوز فحينئذ م: (فلا يلتحق بأصل العقد، وكذلك الحط لأن كل الثمن صار مقابلا بكل المبيع فلا يمكن إخراجه) ش: عند ذلك م: (فصار برءا مبتدأ) ش: يعني ابتداء غير داخل في شيء.
م: (ولنا أنهما) ش: أي البائع والمشتري م: (بالحط والزيادة يغيران العقد) ش: لتراضيهما م: (من وصف مشروع) ش: وهو أصل العقد م: (إلى وصف مشروع وهو كونه خاسرا) ش: في الحط م: (أو رابحا) ش: في الزيادة م: (أو عدلا) ش: يعني لا خسارة ولا ربح، والزيادة في المبيع أو الثمن أو الحط يغيره إلى هذه الأوصاف لا يرفع أصله كما شرع باتا وانحيازا م: (ولهما) ش: أي وللبائع والمشتري م: (ولاية الرفع) ش: أي رفع العقد بالإقالة م: (فأولى أن يكون لهما ولاية التغيير) ش: من وصف إلى وصف، والتصرف في وصف الشيء أهون من التصرف في أصله، فالذي يملك التصرف في الأصل أولى بأن يملك التصرف في الوصف م: (وصار كما إذا أسقط الخيار) ش: أي وصار كما إذا كان للعاقدين أو لأحدهما خيار الشرط فأسقطه.
م: (أو شرطاه بعد العقد) ش: أي أو شرطا الخيار به، أي وصار كما بعد إتمام العقد م: (ثم إذا صح) ش: أي الحط أو الزيادة م: (يلتحق بأصل العقد) ش: أي بأصل العقد م: (لأن وصف الشيء يقوم به لا بنفسه) ش: أي لا يقوم بنفسه م: (بخلاف حط الكل) ش: هذا جواب عما يقال:(8/255)
لأنه تبديل لأصله لا تغيير لوصفه فلا يلتحق به، وعلى اعتبار الالتحاق لا تكون الزيادة عوضا عن ملكه،
ويظهر حكم الالتحاق في التولية والمرابحة حتى يجوز على الكل في الزيادة، ويباشر على الباقي في الحط وفي الشفعة حتى يأخذ بما بقي في الحط، وإنما كان للشفيع أن يأخذ بدون الزيادة لما في الزيادة من إبطال حقه الثابت فلا يملكانه ثم الزيادة لا تصح بعد هلاك المبيع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لو كان حط البعض صحت لكان حط الكل كذلك اعتبارا للكل بالبعض، فأجاب بقوله بخلاف حط الكل حيث لا يصح م: (لأنه) ش: أي لأن حط الكل م: (تبديل لأصله) ش: أي تغيير لأصل العقد م: (لا تغيير لوصفه) ش: لأن عمل الحط في إخراج القدر المحطوط من أن يكون ثمنا.
فالشرط فيه قيام الثمن وذلك في حط البعض لوجود ما يصلح ثمنا، وأما حط الجميع فتبديل العقد لأنه إما أن يبقى بيعا باطلا لعدم الثمن حينئذ، وقد علمنا أنهما لم يقصدا ذلك أو يصير هبة، وقد كان قصدهما التجارة في البيع دون الهبة م: (فلا يلتحق به) ش: أي بأصل العقد لوجود المانع، فلا يلزم من عدم الالتحاق لمانع عدمه لا لمانع فيلحق حط البعض بأصل العقد.
م: (وعلى اعتبار الالتحاق) ش: هذا جواب عن تعليل زفر والشافعي - رحمهما الله - أن بالزيادة يصير ملكه عوض ملكه فأجاب بقوله: وعلى اعتبار الالتحاق يعني إذا اعتبرنا الالتحاق م: (لا تكون الزيادة عوضا عن ملكه) ش: أي عن ملك المشتري لأن الزيادة لما التحقت بأصل العقد صارت كالموجود عند العقد فلا يلزم حينئذ ما قالاه.
[حكم الالتحاق في التولية والمرابحة]
م: (ويظهر حكم الالتحاق في التولية والمرابحة حتى يجوز على الكل في الزيادة، ويباشر على الباقي في الحط) ش: فإن البائع إذا حط بعض الثمن عن المشتري، والمشتري قال الآخر وليتك هذا الشيء وقع عقد التولية على ما بقي من الثمن بعد، فكان الحط بعد العقد ملتحقا بأصل العقد وكان الثمن في ابتداء العقد هو ذلك المقدار وكذلك في الزيادة.
م: (وفي الشفعة) ش: أي يظهر حكمه أيضا في الشفعة م: حتى يأخذ) ش: أي الشفيع م: بما بقي في الحط) ش: دون الزيادة لما فيه من إبطال حقه الثابت بالثمن الأول فلا يملكان إبطاله م: (وإنما كان للشفيع) ش: هذا جواب سؤال مقدر تقديره أن يقال: لو كانت الزيادة ملتحقة بأصل العقد لأخذ الشفيع بالزيادة كما لو كانت في ابتداء العقد وتقرير الجواب إنما كان للشفيع م: (أن يأخذ بدون الزيادة) ش: لأن حقه تعلق بالعقد الأول فإذا أخذ بالزيادة يبطل حقه الذي تعلق بالعقد وهو معنى قوله م: (لما في الزيادة من إبطال حقه الثابت) ش: أي الثابت له بالعقد الأول، وليس لها ولاية على إبطال حق الغير، تراضيهما وهو معنى قوله م: (فلا يملكانه) ش: أي التصرف بالزيادة فيما يرجع إليه الشفيع لأنه إضرار به، فلم تظهر الزيادة في حقه م: (ثم الزيادة) ش: أي في الثمن م: (لا تصح بعد هلاك المبيع) ش: لأن الزيادة تغير العقدين من وصف يستدعي قيام العقد وقيامه بقيام(8/256)
على ظاهر الرواية؛ لأن المبيع لم يبق على حالة يصح الاعتياض عنه، والشيء يثبت ثم يستند، بخلاف الحط؛ لأنه بحال يمكن إخراج البدل عما يقابله فيلتحق بأصل العقد استنادا.
قال: ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا؛ لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه، ألا يرى أنه يملك إبراءه مطلقا، فكذا مؤقتا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المعقود عليه م: (على ظاهر الرواية) .
ش: احترازا عما روي عن الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية الأصول أن الزيادة تصح كالحط، وأشار إلى وجه ظاهر الرواية بقوله: م: (لأن المبيع لم يبق على حالة يصح الاعتياض عنه) ش: إذ الاعتياض إنما يكون في موجود م: (والشيء يثبت ثم يستند) ش: فلم يستند الزيادة لعدم ما يقابله فلا يستند.
وذكر في " الشامل " في رواية " النوادر ": ويجوز الزيادة بعد الهلاك كالحط م: (بخلاف الحط) ش: حيث يصح بعد الهلاك م: (لأنه بحال يمكن إخراج البدل عما يقابله) ش: لكونه إسقاطا والإسقاط لا يستلزم ثبوت ما يقابله فيثبت الحط في الحال م: (فيلتحق بأصل العقد استنادا) ش: أي من حيث الاستناد.
وقال تاج الشريعة: قوله: بحال يمكن إخراج البدل إلى آخره فإن الهلاك لا قيمة له، فإخراج البدل عما يقابله ملائم له ولا كذلك الزيادة في الثمن بعد هلاك المبيع ونظيره ما ذكر في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة فماتت المرأة بعد قوله: أنت طالق قبل قوله واحدة لا يقع الطلاق لأن العدد إذا قرن بالطلاق كان المعتبر هو العدد، وحين قال واحدة ما يثبت المرأة محلا للطلاق فيبطل.
ولو قال أنت طالق إن شاء الله، فماتت بعد قوله أنت طالق قبل قوله: إن شاء الله لا يبطل الاستثناء ويعمل عليه بعد الموت، كذلك فيما نحن فيه هلاك المبيع ملائم إخراج الثمن عن مقابلته ولا يلائم جعل الشيء بمقابلته فلهذا يصح الحط ولا تصح الزيادة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن باع بثمن حال ثم أجله أجلا معلوما صار مؤجلا) ش: وقال الشافعي وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصير مؤجلا حتى يجوز له أن يطالبه في الحال، لأن هذا وعد، وكذا خلافه في كل دين حال إذا أجل فعندنا يصير مؤجلا وبه قال مالك إلا القرض فإن تأجيله لا يصح، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح ما يجيء عن قريب.
م: (لأن الثمن حقه فله أن يؤخره تيسيرا على من عليه) ش: لأن التأجيل براءة مؤقتة إلى حلول الأجل، وهو يملك البراءة المطلقة بالإبراء عن الثمن فلأن يملك البراءة المؤقتة أولى وهو معنى قوله: م: (ألا يرى أنه يملك إبراءه مطلقا فكذا مؤقتا) ش: أي فكذا يملك إبراءه مؤقتا بل هو بطريق(8/257)
ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح لا يجوز، وإن كانت متقاربة كالحصاد والدياس، يجوز لأنه بمنزلة الكفالة، وقد ذكرناه من قبل. وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا لما ذكرنا إلا القرض. فإن تأجيله لا يصح لأنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظ الإعارة ولا يملكه
من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضته في الانتهاء، فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة إذ لا جبر في التبرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأولى.
م: (ولو أجله إلى أجل مجهول إن كانت الجهالة متفاحشة كهبوب الريح) ش: ونزول المطر وقدوم الحاج وقدوم رجل من سفره م: (لا يجوز وإن كانت) ش: أي الجهالة م: (متقاربة كالحصاد والدياس) ش: أي حصاد الزرع ودياسه، والجذاذ والنيروز والمهرجان والميلاد م: (يجوز لأنه بمنزلة الكفالة) ش: فإن الأجل لم يشترط في عقد المعاوضة فيصح مع الجهالة اليسيرة بخلاف البيع. م: (وقد ذكرناه من قبل) ش: يعني في أواخر البيع الفاسد.
م: (وكل دين حال إذا أجله صاحبه صار مؤجلا لما ذكرنا) ش: أنه حقه فله أن يؤخره م: (إلا القرض فإن تأجيله لا يصح لأنه) ش: أي لأن القرض م: (إعارة وصلة في الابتداء) ش: فبهذا الاعتبار من التبرعات م: (حتى يصح بلفظ الإعارة) ش: حتى لو قال: أعرتك هذه المائة مثلا فيكون قرضا م: (ولا يملكه) ش: أي ولا يملك القرض.
م: (من لا يملك التبرع كالوصي) ش: فإنه لا يجوز له أن يقرض مال الصغير م: (والصبي) ش: فإنه لا يملك التصرف فضلا عن القرض الذي هو التبرع م: (ومعاوضته) ش: أي القرض معاوضة م: (في الانتهاء) ش: لأن الواجب بالقرض دون المثل لا رد العين م: (فعلى اعتبار الابتداء لا يلزم التأجيل فيه كما في الإعارة) ش: أي كما لا يلزم في الإعارة م: (إذ لا جبر في التبرع) ش: لأن الأجل لو لزم فيه لصار المتبرع ملزما على المتبرع وهو المكث على المطالبة إلى مضي الأجل وذاتيا في موضوع التبرعات.
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] لو ثبت الجبر لتحقق السبيل وفي " شرح الأقطع " لو شرط الأجل في ابتداء القرض بطل الشرط وصح القرض، وكذلك إذا شرطاه في ثاني الحال ولو مات المقرض وأجل وارثه.
قال الإمام قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يصح كما لو أجل المقرض وقال صاحب " المحيط " ينبغي أن يصح من الوارث على قول البعض، وقال واحد من الفقهاء: رأيت في المنتقى أن القرض إذا صار مستهلكا يصح تأجيله والصحيح أنه لا يصح. وقال الإمام السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التأجيل في بدل المستهلك صحيح سواء كان المستهلك دراهم أو دنانير أو غير ذلك وعند(8/258)
وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا، وهذا بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة، حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة؛ لأنه وصية بالتبرع بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى فيلزم حقا للموصي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يصح والحيلة في تصحيح تأجيل القرض أن يحيل المستقرض المقرض على آخر بدينه وأجل المقرض ذلك الرجل فحينئذ يصح، كذا في " فصول" الأستروشي.
م: (وعلى اعتبار الانتهاء لا يصح لأنه يصير بيع الدراهم بالدراهم نسيئة وهو ربا) ش: والمعول على النكتة الأولى لا على النكتة الثانية لأن على النكتة الثانية يلزم أن لا يصح القرض أصلا وهو جائز بالإجماع وكأنه انتفع بالعين وردها م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرنا م: (بخلاف ما إذا أوصى أن يقرض من ماله ألف درهم فلانا إلى سنة، حيث يلزم الورثة من ثلثه أن يقرضوه ولا يطالبوه قبل المدة؛ لأنه وصية بالتبرع، بمنزلة الوصية بالخدمة والسكنى) ش: في كونهما وصية بالتبرع بالمنافع ويلزم في الوصية ما لا يلزم في غيرها ألا ترى أنه لو أوصى بثمرة بستانه إلى فلان صح ولزم وإن كانت معدومة وقت الوصية فلذلك يلزم التأجيل في القرض.
وهو معنى قوله: م: (فيلزم حقا للموصي) ش: حتى لا يجوز للورثة مطالبة الموصى له بالاسترداد قبل السنة حقا له.(8/259)
باب الربا قال: الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا، فالعلة عندنا الكيل مع الجنس، أو الوزن مع الجنس، قال: ويقال: القدر مع الجنس وهو أشمل، والأصل فيه الحديث المشهور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الربا]
[تعريف الربا]
م: (باب الربا)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام الربا، ولما فرغ من بيان أبواب البيوع التي أمر الشارع بمباشرتها بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] مع أنواعها صحيحها وفاسدها شرع في بيان أبواب البيوع التي نهى الشارع عنها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] ، يقال: ربا المال يربو ربوا إذا زاد وارتفع والاسم الربا مقصور، وفي الشرع فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال.
وإذا نسب إليه يقال: هذا مال ربوي بكسر الراء والفتح خطأ، وفي " المبسوط ": الربا فضل خال عن العوض المشروط في البيع.
وقال علماؤنا: هو نوع بيع فيه فضل مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من عوض شرط في هذا العقد، وعلى هذا سائر أنواع البيوع الفاسدة من قبيل الربا، وفي جميع المعلوم الربا شرعا عبارة عن عقد فاسد وإن لم يكن زيادة.
لأن بيع الدراهم بالدراهم نسيئة ربا، وإن لم يتحقق فيه زيادة، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: البيع هو التصرف المشروع بحده، والربا اسم جعل علما على تصرف يفيد العقد لا على الحد المشروع، انتهى.
وليس المراد مطلق الفضل بالإجماع، وإن فتح الأسواق في سائر بلاد المسلمين للاستفضال والاسترباح وإنما المراد فضل مخصوص وهو فضل مستحق لأحد المتعاقدين خال عما يقابله من العوض.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا) ش: أي حكم الربا وهو ثبوت الحرمة حاصل في كل مكيل بجنسه أو كل موزون بيع بجنسه، إذا وجد علة تحريم التفاضل كما إذا باع مكيلا، أي مكيل كان بجنسه يحرم الفضل، وكذلك إذا باع الموزون، أي موزون كان بجنسه يحرم الفضل م: (فالعلة) ش: أي علة الربا م: (عندنا الكيل مع الجنس، أو الوزن مع الجنس) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويقال القدر مع الجنس وهو أشمل) ش: لأنه يتناولهما، وليس كل واحد بانفراده يتناول آخر م: (والأصل فيه) ش: أي في باب حكم الربا م: (الحديث المشهور) ش: وهو الذي تلقته الأمة بالقبول ولشهرته ظن بعض العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أنه متواتر.(8/260)
وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد والفضل ربا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس كذلك لأنه لا يصدق عليه حد التواتر، ولكنه مشهور تجوز الزيادة به على الكتاب، وقال الجصاص: هذا الحديث يقرب من المتواتر لكثرة رواته م: (وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد، والفضل ربا» ش: الحديث ورد في هذا الباب مروي عن جماعة من الصحابة.
وقال الكاكي: ومداره على أربعة نفر من الصحابة: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومعاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم يقل شيئا غير ذلك.
قلت: روي أيضا عن بلال، وأبي هريرة، ومعمر بن عبد الله، وأبي بكر، وعثمان، وهشام بن عامر، والبراء، وزيد بن أرقم، وخالد بن أبي عبيد، وأبي بكرة، وابن عمر وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فهؤلاء اثنا عشر نفرا غير الأربعة الذين ذكرهم الكاكي فالجميع ستة عشر نفرا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
أما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه الأئمة الستة من رواية مالك بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الورق بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء» .
وأما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه الجماعة غير البخاري، واللفظ للترمذي عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» .
وأما حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه مسلم والنسائي عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ".
وأما حديث معاوية صريحا فلم أقف عليه، وإنما ذكر في حديث أبي الدرداء أخرجه النسائي: حدثنا قتيبة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق أكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل» .
وأما حديث بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند الطحاوي والطبراني وفيه قال: قال رسول الله(8/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فإذا اختلف النوعان فلا بأس واحد بعشرة» .
وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند مسلم عن أبي زرعة عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة» الحديث.
وأما حديث معمر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند مسلم في أفراده وفيه: كنت أسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل» .. " الحديث.
وأما حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند البزار في مسنده عن أبي رافع قال: سمعت أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل الزائد والمستزيد في النار» .
وأما حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعند مسلم، والطحاوي، عن سليمان بن يسار أنه سمع مالك بن أبي عامر يحدث عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين» .
وأما حديث هشام بن عامر، فعند الطبراني بإسناده عنه، وفيه: «نهى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الذهب بالورق نسيئة» ".
وأما حديث البراء وزيد بن أرقم فعند البخاري ومسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وفيه كلاهما قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الذهب بالورق، والورق بالذهب دينا» .
وأما حديث فضالة بن عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فعند أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - والطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر....
الحديث، وفيه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن» .(8/262)
وعد الأشياء الستة، الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال، ويروى بروايتين، بالرفع "مثل" وبالنصب "مثلا"، ومعنى الأول بيع التمر ومعنى الثاني بيعوا التمر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما حديث أبي بكرة فعند النسائي والطحاوي قال: «نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيع الفضة بالفضة إلا عينا بعين سواء بسواء، ولا نبيع الذهب بالذهب إلا عينا بعين سواء بسواء» .
وأما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فعند الطحاوي والحاكم في مستدركه وفيه «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا ما عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم» .
وأما حديث أبي الدرداء، فقد مضى عن قريب.
ثم اعلم أن المصنف قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحنطة بالحنطة» بدأ بالحنطة، وليس في الأحاديث المذكورة الابتداء بالحنطة كما رأيت، ولكن الحنطة مذكورة في أثناء الحديث، ولكنه ذكر ما ذكر في " المبسوط " فإنه قال فيه: بدأ أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكتاب بحديث رواه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحنطة بالحنطة» ... " الحديث.
[ما يجري فيه الربا]
ثم قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعد الأشياء الستة) ش: أي وعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما فيه ربا ستة أشياء م: (الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال) ش: أي مثلا بمثل يدا بيد في جميع ذلك م: (ويروى) ش: يعني يروى قوله مثلا بمثل م: (بروايتين بالرفع مثل، وبالنصب مثلا، ومعنى الأول) ش: أي الرفع م: (بيع التمر) ش: أي بيع التمر بالتمر مثل بمثل، فعلى هذا يكون ارتفاع مثل على أنه خبر للمبتدأ وهو قوله: بيع التمر فإنه مرفوع بالابتداء.
م: (ومعنى الثاني) ش: أي النصب م: (بيعوا التمر) ش: فالمعنى على هذا بيعوا التمر بالتمر حال كونه مثلا بمثل، فقوله التمر منصوب على المفعولية، ومثلا نصب على الحال، والتقدير حال كونهما متماثلين، وأما وجه الرفع والنصب في قوله: يدا بيد فما تعرض إليه المصنف ولا غالب الشراح غير أن الأترازي قال: قوله يدا بيد، مثلا بمثل، حال أي قابضا يدا بيد.
قلت: فيه ما فيه لأن على تقديره يكون انتصاب يدا على المفعولية لا على الحال، ولا يكون الحال إلا قوله قابضا، والكلام في أن نفس يدا هو حال فكأنه لما علم أن من شرط الحال أن يكون من المشتقات ولفظ يد غير مشتق، فقدر هذا التقدير فوقع فيما ينوب عنه.
والقاعدة في وقوع الحال في غير المشتقات أن يؤول بالمشتق فأولوا قوله: يدا بيد على معنى(8/263)
والحكم معلول بإجماع القائسين، لكن العلة عندنا ما ذكرناه، وعند الشافعي الطعم في المطعومات، والثمنية في الأثمان، والجنسية شرط، والمساواة مخلص، والأصل هو الحرمة عنده لأنه نص على شرطين: التقابض والمماثلة، وكل ذلك يشعر بالعزة والخطر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متناجزين م: (والحكم) ش: وهو حرمة الفضل م: (معلول بإجماع القائسين) ش: وهم الأئمة الأربعة وأصحابهم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - واحترز به عن أهل الظاهر فإنهم ينفون القياس ويقولون: لا يكون الربا إلا في الأشياء الستة التي ذكرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخصها بالذكر، وهو أيضا منقول عن طاووس وقتادة وعثمان البتي، وأبي سليمان. قلنا: إنما ذكر هذه الأشياء لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها، فالعلة فحيثما وجدت تلك العلة يوجد الربا.
م: (لكن العلة عندنا ما ذكرناه) ش: وهو قوله: القدر مع الجنس، وعدوا هذا الحكم إلى كل مكيل أو موزون قوبل بجنسه حتى أثبتوا هذا الحكم في الجص والنورة ونحوهما لوجود الكيل وأثبتوه في الحديد والنحاس والرصاص ونحو ذلك لوجود الوزن.
م: (وعند الشافعي الطعم) ش: أي العلة في الربا الطعم م: (في المطعومات والثمنية) ش: أي كونها ثمنا م: (في الأثمان) ش: وعدي هذا الحكم إلى كل ما صار ثمنا بالاصطلاح كالدراهم المنقوشة والفلوس الرائجة، وقيل الثمنية المطلقة لا تتعدى إلى الفلوس والقطارفة كذا في المختلف، وفي الروضة: والمراد بالمطعوم ما يعد للطعم غالبا تقوتا أو تأدما، أو تفكها وغيرها، فيدخل فيه الفواكه والحبوب والبقول والتوابل.
ويدخل الثمنية والتبر والمضروب والحلي والأواني من الذهب والفضة في تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت، وجه. والصحيح أنها لا ربا فيها لانتفاء الثمنية الغالية ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرها قطعا، وبقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال أبو ثور، وابن المنذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: م: (والجنسية شرط) ش: أي شرط العمل العلة عليها حتى لا تصل العلة المذكورة عنده إلا عند وجود الجنسية، وحينئذ لا يكون لها أثر في تحريم النساء، فلو أسلم هرويا في هروي جاز عنده، وعندنا لا يجوز.
م: (والمساواة مخلص) ش: بفتح الميم وسكون الخاء أي موضع الخلاص، يعني يتخلص بالمساواة عن الحرمة م: (والأصل هو الحرمة عنده) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان حق الكلام أن يقال: والأصل هو الحرمة عنده والمساواة تختلص أي عند الحرمة.
م: (لأنه) ش: أي لأن الشارع م: (نص على شرطين) ش: أحدهما هو قوله م: (التقابض) ش: يفهم من قوله: يدا بيد والآخر هو قوله م: (والمماثلة) ش: يفهم من قوله: مثلا بمثل م: (وكل ذلك) ش: أي وكل من الشرطين م: (يشعر بالعزة والخطر) ش: أي عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(8/264)
كاشتراط الشهادة في النكاح فيعلل بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة، وهو الطعم لبقاء الإنسان به والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها ولا أثر للجنسية في ذلك، فجعلناه شرطا، والحكم قد يدور مع الشرط. ولنا أنه أوجب المماثلة شرطا في البيع، وهو المقصود بسوقه تحقيقا لمعنى البيع، إذ هو ينبئ عن التقايل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كاشتراط الشهادة في النكاح) ش: فإن اشتراط الشهادة في عقد النكاح لأجل إظهار خطرها وعزتها دون سائر المعاملات م: (فيعلل) ش: أي إذا كان الشرطان يشعران بالعزة والخطر فيعلل الربا م: (بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة وهو الطعم) ش: في المطعومات م: (لبقاء الإنسان به، والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها) ش: أي تعلق مصالح الإنسان بالأموال والمناط مصدر ميمي من ناط الشيء ينوطه نوطا أي علقه.
م: (ولا أثر للجنسية في ذلك) ش: أي في إظهار الخطر والعزة م: (فجعلناه) ش: أي جعلنا الجنس م: (شرطا) ش: لا علة م: (والحكم قد يدور مع الشرط) ش: بيان هذا أن العلة إنما تعرف بالتأثير وللطعم والثمنية أثر كما ذكرنا وليس للجنسية أثر لكن لا تكميل إلا عند وجود الجنس فكان شرطا لأن الحكم يدور مع الشرط وجودا عنده لا وجوبا به.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: والحكم قد يدور لدفع شبهة ترد على جعله الطعم علة أو الثمنية علة، وهو أن الحكم يدور مع الجنسية كما يدور مع الطعم والثمنية عنده فلم يجعل الجنسية علة كما جعلها خصمك علة الربا.
فأجاب عنها فقال: نعم كذلك إلا أن العلة للوصف الذي له أثر في استجلاب ذلك الحكم لا لمجرد الدوران فإن الحكم قد يدور مع الشرط، كالرجم مع الإحصان مع الزنا فإنه يدور معه وجودا وعدما، ولا يدل على كونه علة، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذكر من المطعومات أربعة، وهي أصول الطعم فإن الحنطة أصل لقوت بني آدم، والشعير للدواب، والتمر من الأصول تفكها، والملح أصل لتطيب الأطعمة.
فتبين بذلك أن العلة هي الطعم، أما إذا جعلت القدر مع الجنس يتمحض ذكر هذه الأشياء تكرارا إذ صفة القدر فيهما لا يتنوع، وحمل كلام الشارع على ما يفيده فائدة زائدة أولى م: (ولنا أنه) ش: أي أن الحديث المذكور أو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أوجب المماثلة شرطا في البيع) ش: بقوله: مثلا بمثل، لما مر أنه حال والأحوال شروط م: (وهو المقصود بسوقه) ش: أي وجوب المماثلة هو المقصود بسوق الحديث لأحد معان ثلاثة. أشار إلى الأول بقوله م: (تحقيقا لمعنى البيع) ش: أي لأجل تحقيق معنى البيع م: (إذ هو) ش: أي لأن البيع م: (ينبئ عن التقايل) ش: لأن البيع مبادلة المال بالمال لأن ما كان من باب المفاعلة يقتضي مقابلة كل جزء من أجزاء الآخر في متحد الجنس، ولو فضل أحد العوضين لخلا ذلك الفضل عن العوض فلا يتحقق معنى التقايل فلا تتحقق المعاوضة(8/265)
وذلك بالتماثل، أو صيانة لأموال الناس عن التوى، أو تتميما للفائدة باتصال التسليم به، ثم يلزم عند فوته حرمة الربا، والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بل يكون استحقاقا لذلك القدر.
وذا خلاف قضية المعاوضة م: (وذلك) ش: أي التقايل يحصل م: (بالتماثل) ش: لأنه لو كان أحدهما أنقص من الآخر لم يحصل التقايل من كل وجه، وأشار إلى المعنى الثاني بقوله م: (أو صيانة لأموال الناس عن التوى) ش: أو صيانة عطف على قوله: تحقيقا، أي أو لأجل صيانة أموال الناس عن التوى أي الهلاك والتلف. لأن أحد البدلين إن كان أنقص من الآخر كان التبادل مضيعا لفضل ما عليه الفضل، يوضحه إذا كان الزائد خاليا عن العوض، وفيه تلف الزائد فاشترطت المماثلة حتى يتعين أموال الناس.
وإليه أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «والفضل ربا» أي الفضل على المتماثلين ربا، يعني أن الذي نطق به القرآن بقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] المراد به هذا الفضل، وأشار إلى المعنى الثالث بقوله: م: (أو تتميما للفائدة) ش: أي لأجل التتميم لفائدة البيع وهو ملك الرقبة قبل القبض وملك التصرف بعده م: (باتصال التسليم به) ش: أي بالتماثل، يعني أن في النقدين لكونهما لا يتعينان بالتعيين شرطت المماثلة قبضا بعد مماثلة كل منهما للآخر ولتتميم فائدة البيع وهو ثبوت الملك.
وفي " المبسوط ": صاحب الشرع أوجب المماثلة في الجنس الواحد تتميما للفائدة في حق المتعاقدين، إذ لو كان أحد المعوضين أقل من الآخر تكون الفائدة تامة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر وفي إيجاب المماثلة إتمام الفائدة لكل واحد منهما م: (ثم يلزم عند فوته) ش: أي عند فوت التماثل الذي هو شرط الجواز م: (حرمة الربا) ش: لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «والفضل ربا» م: (والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى) ش: هذا بيان عليه القدر والجنس لوجوب المماثلة، لأن المماثلة بين الشيئين إنما تكون باعتبار الصورة والمعنى، لأن كل محدث موجود بصورته ومعناه، وإنما تقوم المماثلة بهما فالقدر عبارة عن التساوي في المعيار فيحصل به المماثلة صورة، والجنس عبارة عن التشاكل في المعاني فتثبت به المماثلة معنى.
فإن قيل: حكم النص وجوب المماثلة فأي أثر للكيل والجنس في وجوب المماثلة؟ بل أثرهما في الوجود.
قلنا: المراد المقصود من الوجوب الوجود ولا يمكن الابتداء بالإيجاد إلا بالوجوب لأن الوجود يفضي إلى الوجوب ولا يمكن إيجاد المماثلة إلا بالقدر والجنس فيكون لهما أثر في وجود المماثلة وأضيف إليه لأن حكم النص إيجاب المماثلة، وحرمة الفضل عند فوتهما كذا في " جامع قاضي خان ".(8/266)
والمعيار يسوي الذات، والجنسية تسوي المعنى، فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا؛ لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه، ولا يعتبر الوصف لأنه لا يعد تفاوتا عرفا، أو لأن في اعتباره سد باب البياعات أو لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جيدها ورديئها سواء» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمعيار يسوي الذات) ش: قال الجوهري: المعيار من عايرت المكاييل والموازين عيارا وعارت بمعنى، ومعنى المعيار يسوى الذات أي الصورة، فإن كيلا من البر مماثل كيلا من الذرة من حيث الصورة دون المعنى لعدم الجنسية م: (والجنسية تسوي المعنى) ش: فإن كيلا من بر يساوي كيلا من بر من حيث الصورة والمعنى، أما صورة فظاهر وأما معنى فللجنسية.
والقفيز من الحنطة يساوي القفيز من الشعير من حيث الصورة والمعنى، فإذا كان كذلك م: (فيظهر الفضل على ذلك) ش: أي على التساوي من حيث الصورة والمعنى م: (فيتحقق الربا، لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه) ش: قوله الخالي صفة للفضل، قوله: فيه أي في العقد م: (ولا يعتبر الوصف) ش: هذا جواب عما يقال إذا كانت المماثلة شرطا على ما قلتم، فكيف أهدر التفاوت في الوصف وهو الجودة في أحد البدلين دون الآخر، فأجاب بقوله: ولا يعتبر الوصف أي وصف الجودة والرداءة م: (لأنه) ش: أي لأن الوصف م: (لا يعد تفاوتا عرفا) ش: أي من حيث العرف فإن الناس لا يعدون التفاوت فيه معتبر العلة، ولهذا تصرف الأموال بالعدد دون الوصف فيقال: له مائة درهم أو دينار من غير اعتبار التفاوت بين الجيد والرديء، قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه تأمل؛ لأنه لو كان كذلك لما تفاضلا في القيمة في العرف، انتهى.
قلت: الكلام فيه من حيث الوصف لا من حيث الذات، والتفاضل في القيمة يرجع إلى الذات م: (أو لأن في اعتباره) ش: أي في اعتبار التفاوت في الوصف م: (سد باب البياعات) ش: في هذه الأشياء، وهو مفتوح لأن بيع هذه الأشياء لا يجوز متفاضلا ولا مجازفة فلم يبق إلا حالة التساوي، ولو اعتبر المساواة في الوصف تسد بياعات هذه الأشياء بجنسها لأن الحنطة لا تكون مثل حنطة أخرى في الوصف لا محالة، والبياعات بكسر الباء جمع بياعة، وإنما جمعوا المصدر على تأويل الأنواع م: (أو لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي ولا يعتبر الوصف لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «جيدها ورديئها سواء» .(8/267)
والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع، والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه، فلا معتبر بما ذكره، إذا ثبت هذا فنقول: إذا بيع المكيل أو الموزون بجنسه يدا بيد مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجود شرط الجواز وهو المماثلة في المعيار، ألا ترى إلى ما يروى مكان قوله "مثلا بمثل": كيلا بكيل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وهذا الحديث غريب ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد مر في هذا الباب.
وذر الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره هذا الحديث وسكتوا عنه م: (والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع) ش: هذا جواب عن جعل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطعم والثمنية علة للحرمة، تقريره أن ذلك فاسد لأنهما يقتضيان خلاف ما أضيف إليهما لما كانا من أعظم وجوه المنافع كان الطريق فيه الإطلاق وهو معنى قوله:
م: (والسبيل في مثلها) ش: أي في مثل هذه الأشياء التي تتعلق بها أعظم وجوه المنافع م: (الإطلاق) ش: أي التوسعة م: (بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه) ش: فإن السنة الإلهية جرت في حق الإنس وسائر الحيوانات، إنما كان الاحتياج إليها أكثر فكان أمره في الوجود وإطلاق الشرع أوسع كالماء والهواء وعلف الدواب، وعلف الدواب، وإذا كان كذلك كان تعليله بما يوجب التضييق تعليلا بفساد الوضع م: (فلا معتبر بما ذكره) ش: أي بما ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا أنه علل بعلة وقعت فاسدة في مخرجها.
فإن قلت: الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام» .
قلت: قالوا هذا خبر لا يعرفه هو ولا ذكره أحد في كتاب مسند، وإنما المروي: «الطعام مثلا بمثل كيلا بكيل» ، وهذا لا يتناول إلا ما يكال بعينه كذا في " شرح مختصر" الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا ثبت هذا) ش: أي ما ذكرنا أن العلة القدر والجنس عندنا مطعوما كان أو غيره م: (فنقول: إذا بيع المكيل أو الموزون) ش: أي لو بيع الموزون م: (بجنسه يدا بيد مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجود شرط الجواز) ش: أي جواز البيع.
م: (وهو) ش: أي شرط الجواز م: (المماثلة في المعيار، ألا ترى) ش: توضيح المماثلة في المعيار، فإن قوله: كيلا بكيل بمنزلة التفسير لقوله: مثلا بمثل، إذ كلام الشارع يفسر بعضه بعضا م: (إلى ما يروى مكان قوله: مثلا بمثل كيلا بكيل) ش: أشار به إلى ما قلنا: إن قوله كيلا بكيل بمنزلة التفسير إلى آخره.(8/268)
وفي الذهب بالذهب وزنا بوزن. وإن تفاضلا لم يجز لتحقق الربا، ولا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلا بمثل لإهدار التفاوت بالوصف. ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين، والتفاحة بالتفاحتين لأن المساواة بالمعيار، ولم يوجد فلم يتحقق الفضل، ولهذا كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - العلة هي الطعم، ولا مخلص وهو المساواة فيحرم، وما دون نصف الصاع فهو في حكم الحفنة لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه،
ولو تبايعا مكيلا أو موزونا غير مطعوم بجنسه متفاضلا كالجص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بيع الذهب وزنا بوزن]
م: (وفي الذهب) ش: أي جاز المبيع أيضا في الذهب إذا بيع م: (الذهب وزنا بوزن) ش: أي من حيث الوزن يعني متساويين م: (وإن تفاضلا لم يجز لتحقق الربا) ش: يفضل أحدهما على الآخر م: (ولا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا) ش: أي ما يتحقق فيه من الأشياء الربوية م: (إلا مثلا بمثل) ش: يعني متماثلين متساويين م: (لإهدار التفاوت في الوصف) ش: أي لأجل إهدار التفاوت في وصف الجودة والرداءة شرعا وعرفا م: (ويجوز بيع الحفنة) ش: هي ملء الكف.
قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال الجوهري: الحفنة ملء الكفين من الطعام م: (بالحفنتين، والتفاحة) ش: أي بيع التفاحة م: (بالتفاحتين لأن المساواة بالمعيار) ش: يعني المساواة بالكيل شرط م: (ولم يوجد) ش: لأنه لا كيل في الحفنة والحفنتين م: (فلم يتحقق الفضل) ش: لأن تحققه مبني على المساواة بالمعيار. فإذا لم يتحقق الفضل فلا يكون ربا واستوضح ذلك بقوله م: (ولهذا) ش: أي ولأجل أن الحفنة والحفنتين لا تدخل تحت المعيار الشرعي م: (كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف) ش: إذ لو كان داخلا تحت المعيار كان مضمونا بالمثل عند الإتلاف كما في سائر المكيلات والموزونات، لأن المكيلات والموزونات كلها في ذوات الأمثال دون القيم م: (وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العلة) ش: أي علة الربا م: (هي الطعم) ش: فلا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين لوجود الطعم م: (ولا مخلص وهو المساواة فيحرم) .
ش: وفي " شرح الطحاوي ": ولو باع البطيخة ببطيختين أو تفاحة بتفاحتين أو بيضة ببيضتين أو جوزة بجوزتين يجوز عندنا لعدم الكيل، وعنده لا يجوز لوجود الطعم، وكذلك إذا باع حفنة بحفنتين أو حبة بحبة أو تفاحة بتفاحة يجوز عندنا وعنده لا يجوز م: (وما دون نصف الصاع فهو في حكم الحفنة؛ لأنه لا تقدير في الشرع بما دونه) ش: أي بما دون نصف الصاع بخلاف النصف لأن الشرع ورد بالتقدير فيه كما في صدقة الفطر وغيرها.
وفي " المبسوط ": هذا إذا لم يدخل كل واحد من البدلين تحت النصف، أما إذا بلغ أحدهما النصف والآخر لم يبلغ أو أكثر من النصف حتى لو باع حفنة بقفيز لا يجوز، وفي " الأسرار ": ما دون الحبة من الفضة لا قيمة له
م: (ولو تبايعا مكيلا أو موزونا غير مطعوم بجنسه متفاضلا كالجص(8/269)
والحديد لا يجوز عندنا لوجود القدر والجنس، وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية. قال: وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم إليه حل التفاضل والنساء لعدم العلة المحرمة. والأصل فيه الإباحة، وإذا وجدا حرم التفاضل والنساء لوجود العلة المحرمة وإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء، مثل أن يسلم هرويان في هروي أو حنطة في شعير، فحرمة ربا الفضل بالوصفين، وحرمة النساء بأحدهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحديد لا يجوز عندنا لوجود القدر والجنس، وعنده) ش: أي وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يجوز لعدم الطعم والثمنية) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: ولو تبايعا وزنا بوزنين وهو مأكول أو مشروب كالدهن، والزيت والرب والخل لا يجوز إلا وزنا بوزن عند الكل لكن باختلاف التخريج أما عندنا فلوجود الجنس والوزن، وأما عند الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في رواية لوجود الطعم.
وأما عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلوجود الادخار، لأن عنده علة الربا الادخار والاقتيات.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا عدم الوصفان الجنس والمعنى المضموم) ش: المعنى المضموم هو القدر م: (إليه) ش: أي إلى الجنس كبيع الحنطة بالدرهم أو الثياب م: (حل التفاضل والنساء) ش: بفتح النون والمد وهو البيع إلى أجل م: (لعدم العلة المحرمة) ش: معناه أن علة حرمة الربا القدر والجنس فلما انعدم لم تثبت الحرمة وحل التفاضل والنساء؛ لأن الحل هو الأصل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
فإن قيل: عدم العلة لا يدل على عدم الحكم.
قلنا: الأصل جواز البيع مطلقا والإباحة، إلا أن الشرع اعتبر التحريم بوصفه، فإذا وجد هذا الوصف قلنا بالتحريم وإلا نعمل بالأصل وهو معنى قوله م: (والأصل فيه الإباحة) ش: أي الأصل في البيع الإباحة إلا عند اعتبار الشرع التحريم م: (وإذا وجدا) ش: أي الوصفان م: (حرم التفاضل والنساء لوجود العلة المحرمة وإذا وجد أحدهما) ش: أي أحد الوصفين م: (وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء مثل أن يسلم هرويان في هروي) ش: أي الثوب الهروي.
وفي بعض النسخ: مرويان في مروي، وفيه عدم القدرة الذي هو أحد الوصفين، ويجوز فيه التفاضل بأن يباع واحد باثنين، ولا يجوز أن يباع بالنسيئة م: (أو حنطة في شعير) ش: أي أو أسلم حنطة في شعير وفيه عدم الجنس، فيجوز فيه التفاضل ولا يجوز النساء كما إذا أسلم أحدهما في الآخر م: (فحرمة ربا الفضل بالوصفين) ش: القدر والجنس م: (وحرمة النساء بأحدهما) ش: أي بأحد الوصفين.(8/270)
وقال الشافعي: الجنس بانفراده لا يحرم النساء؛ لأن بالنقدية وعدمها لا يثبت إلا شبهة الفضل، وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى. ولنا أنه مال الربا من وجه نظرا إلى القدر أو إلى الجنس، والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتحقق شبهة الربا وهي مانعة كالحقيقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقال الشافعي: والجنس بانفراده لا يحرم النساء لأن بالنقدية) ش: أي في جانب م: (وعدمها) ش: أي في جانب آخر م: (لا يثبت إلا شبهة الفضل) ش: لأن النسيئة عبارة عن تأخير المطالبة وهي ليست حقيقة الفضل إلا أن فيها تفاوت المالية حكما، والتفاوت في المالية حقيقة أكثر تأثيرا في التفاوت في المالية حكما، ولا أثر له في المنع من جواز العقد حتى يجوز بيع ثوب بثوبين، فالتفاوت حكما أولى. كذا قاله تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويفهم منه معنى قوله: م: (وحقيقة الفضل غير مانع فيه حتى يجوز بيع الواحد بالاثنين فالشبهة أولى) ش: أي بأن لا تكون مانعة، بيانه على وجه الإيضاح: أن حقيقة الفضل غير مانع في الجنس حتى جاز بيع الهروي بالهرويين، والعبد بالعبدين والشبهة أولى.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل ليس في تخصيص الجنس بالذكر في عدم تحريم النساء زيادة فائدة فإن القدر عنده كذلك، فإنه يجوز إسلام الموزونات في الموزونات كالحديد والرصاص.
ويمكن أن يقال: إنما خصه بالذكر لأن الحكم وهو حرمة النساء إنما لم توجد عنده في صورة الجنس وأما في صورة القدر فقد توجد، فإنه لم يجوز بيع الذهب بالفضة نسيئة، وكذا بيع الحنطة بالشعير وإن كان علة ذلك عنده غير القدر وهو أن التقابض شرط في الصرف وبيع الطعام عنده م: (ولنا أنه) ش: أي أن بيع النسيئة م: (مال الربا من وجه نظرا إلى القدر) ش: أي إلى القدر وحده كما في الحنطة مع الشعير م: (أو إلى الجنس) ش: أي أو نظرا إلى الجنس وحده كالثوب الهروي مع الهروي.
م: (والنقدية أوجبت فضلا في المالية فتحقق شبهة الربا) ش: لأن الفضل من حيث النقدية فضل من حيث المعنى، والنقد خير من النسيئة فمن الوجه الذي هو مال الربا أظهر الفضل من حيث النقدية في أحدهما، وذلك شبهة الربا م: (وهي) ش: أي شبهة الربا م: (مانعة) ش: عن الجواز م: (كالحقيقة) ش: قال الأكمل في بحث من وجهين:
أحدهما: ما قيل أن كونه من مال الربا من وجه شبهة، وكون الشبهة أوجبت فضلا شبهة فصار بشبهة الشبهة، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها.
والثاني: أن كونها شبهة الربا كالحقيقة إما أن يكون مطلقا أو في محل الحقيقة، والأول ممنوع والثاني مسلم لكنها كانت جائزة فيما نحن فيه، فيجب أن تكون الشبهة كذلك.(8/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن الأول: أن الشبهة الأولى في المحل والثانية في الحكم، وثمة شبهة أخرى، وهي التي في العلة، وبشبهة العلة والعمل يثبت شبهة الحكم لا شبهة الشبهة، وعن الثاني: أن القسمة غير حاضرة بل الشبهة مانعة في محل الشبهة كما أن الحقيقة مانعة في محلها إذا وجدت العلة بكمالها.
فإن قيل: بعض الشراح استدل للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما روي «عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أمره أن يجهز جيشا فبعدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» ، رواه أبو داود.
واستدل لأصحابنا بما رواه أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا من حديث الحسن عن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحيوان نسيئة» ورواه بقية الأربعة.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل: ما قال المصنف لم يستدل للجانبين بهذه الأحاديث، ثم قال: فالجواب أن جهالة التاريخ وتطرق التأويلات منعاه عن ذلك. قلت: قيل: الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان في دار الحرب وقد أخذ عبد الله من أهل الحرب ولا ربا بينهما عندنا.
وقيل: إن كان قبل تحريم الربا، وقيل: حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طريق ابن إسحاق بطريق بقية وهو مدلس فلا يحتج به.
ولما أخرج الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث سمرة قال: حديث سمرة حسن صحيح، وسماع الحسن عن سمرة صحيح، هكذا قال علي بن المديني وغيره، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو قول سفيان الثوري، وأهل الكوفة، وبه يقول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - انتهى كلام الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(8/272)
إلا أنه إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه يجوز، وإن جمعهما الوزن؛ لأنهما لا يتفقان في صفة الوزن، فإن الزعفران يوزن بالأمناء وهو مثمن يتعين بالتعيين، والنقود توزن بالسنجات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن ابن عباس وجابر وابن عمر في هذا الباب أيضا فحديث ابن عباس أخرجه الترمذي في كتاب العلل المفرد من حديث عكرمة عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه الترمذي في العلل ونحوه، وحديث جابر رواه ابن ماجه بلفظ: «لا بأس بالحيوان واحد باثنين يدا بيد» وكره نسيئة.
م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: وحرم النساء في قوله: فإذا وجد أحدهما وعدم الآخر حل التفاضل وحرم النساء، إلا أن الرجل م: (إذا أسلم النقود في الزعفران ونحوه) ش: كالقطن والحديد م: (يجوز وإن جمعهما الوزن) ش: بيانه أن قوله: وحرم النساء بإطلاقه يتناول أن كل ما يوجد فيه أحد وصفي الربا من الجنس والقدر لا يجوز إلا إسلام أحدهما بالآخر وهاهنا يجوز إسلام النقود بالزعفران ونحوه مع وجود أحد الوصفين وهو الوزن.
فقال المصنف: م: (لأنهما) ش: أي لأن النقد والزعفران م: (لا يتفقان في صفة الوزن، فإن الزعفران يوزن بالأمناء) ش: وهو جمع المنا مقصور، والتثنية منوان، وقال الجوهري: المنا الذي يوزن به م: (وهو) ش: أي الزعفران م: (مثمن يتعين بالتعيين) ش: ولهذا إذا اشترى الدنانير أو الدراهم موازنة وقبض كان له أن يبيعه موازنة بدون إعادة الوزن.
وفي الزعفران ونحوه يشترط إعادة الوزن إذا اشترى موازنة ثم باع موازنة، وهذا اختلاف بينهما حكما، فإذا وجد الوزن في كل وجه يحرم النساء لوجود أحد وصفي علة الربا؛ لأنه حصل شبهة الربا، وإذا وجد الاتفاق في الوزن من وجه دون وجه نزلت الشبهة إلى شبهة الشبهة، والمعتبر هو الشبهة لا شبهة الشبهة م: (والنقود توزن بالسنجات) ش: بتحريك النون جمع سنجة، وهو بالفارسية سنك ترازو، وعن دريد بن السكيت: لا يقال بالسين بل هي بالصاد(8/273)
وهو ثمن لا يتعين بالتعيين. ولو باع بالنقود موازنة وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز، فإذا اختلفا فيه صورة ومعنى وحكما لم يجمعهما القدر من كل وجه، فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة وهي غير معتبرة.
قال: وكل شيء نص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا. وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صنجات، وفي المغرب: الصنجات بالتحريك جمع صنجة بالتسكين.
وعن الفراء: السين أفصح، والكر القبتي السين أصلا، قلت: الصواب مع الفراء لا يعرفه إلا من يعرف اللغة الفارسية م: (وهو) ش: أي النقود على تأويل ما يوزن بالسنجات م: (ثمن لا يتعين بالتعيين) ش: لأن النقدين لا يتعينان بالتعيين وقد مر غير مرة م: (ولو باع بالنقود موازنة) ش: أي لو باع الزعفران بالنقود، وفي بعض النسخ: ولو باع النقود موازنة بلا صرف الباقي أول النقود.
م: (وقبضها صح التصرف فيها قبل الوزن، وفي الزعفران وأشباهه لا يجوز) ش: وقد أوضحنا عن قريب م: (فإذا اختلفا) ش: أي النقود والزعفران م: (فيه) ش: أي في الوزن م: (صورة ومعنى وحكما) ش: هذا على طريق اللف والنشر، فقوله: صورة يرجع إلى قوله: يوزن بالأمناء، وقوله: معنى يرجع إلى قوله: يتعين بالتعيين، وقوله: وحكما يرجع إلى قوله: لا يجوز أي التصرف فيها لا يجوز م: (لم يجمعهما القدر من كل وجه) ش: أي لم يجمع النقود والزعفران القدر وهو الوزن من كل وجه، بل من وجه دون وجه، فإذا كان كذلك م: (فتنزل الشبهة فيه إلى شبهة الشبهة) ش: فإن الموزونين إذا اتفقا كان المنع للشبهة، وإذا لم يتفقا كان ذلك شبهة الوزن والوزن وحده شبهة فكان ذلك شبهة الشبهة م: (وهي) ش: أي شبهة الشبهة م: (غير معتبرة) ش: لأن الشبهة هي المعتبرة، ألا يقال: لم يخرجا بذلك عن كونهما موزونين فقد جمعهما الوزن لأن إطلاق اللفظ عليهما حينئذ بالاشتراك اللفظي ليس إلا، وهولا يفيد الاتحاد بينهما، وصار كأن الوزن لم يجمعهما حقيقة.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي عبارة المصنف تسامح، فإنه قال: إذا اختلفا صورة ولم يختلفا صورة ولهذا قال شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بل نقول: اتفاقهما في الوزن صورة لا معنى، وحكما إلا إذا حمل قوله: صورة على أن معناه حقيقة فافهم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكل شيء نص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل أبدا، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح) ش: حاصله أن ما كان مكيلا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغير أبدا عن ذلك بل يعتبر ما كان مكيلا في(8/274)
وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة؛ لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى، وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس لأنها دالة، وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك لمكان العادة فكانت هي المنظور إليها وقد تبدلت، فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها متساويا وزنا أو الذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما، وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل على ما هو المعيار فيه كما إذا باع مجازفة، إلا أنه يجوز الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا لوجود الإسلام في معلوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عهده.
ويشترط فيه التساوي بالكيل ولا يلتفت إلى التساوي في الوزن دون الكيل حتى لو تساوى الحنطة بالحنطة وزنا لا كيلا لم يجز م: (وكل ما نص) ش: أي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة) ش: كذلك يعتبر فيه التساوي بالكيل دون الوزن حتى لو تساوى الذهب بالذهب كيلا لا وزنا لم يجز.
وكذلك الفضة بالفضة وذلك لأن طاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجبة علينا م: (لأن النص أقوى من العرف) ش: لكون النص حجة على من تعارف وعلى من لم يتعارف، والمعروف ليس بحجة إلا على من تعارف به م: (والأقوى لا يترك بالأدنى، وما لم ينص) ش: من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (عليه فهو محمول على عادات الناس لأنها دالة) ش: أي لأن العادات دالة على جواز الحكم فيما وقعت عليه العادة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» .
م: (وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك) ش: أي على الكيل في المكيل والوزن في الموزون في ذلك الوقت إنما كان م: (لمكان العادة) ش: فيه م: (فكانت) ش: أي العادة م: (هي المنظور إليها) ش: في ذلك الوقت م: (وقد تبدلت) ش: أي تلك العادة فيجب أن يكون الحكم على وفاق ذلك.
م: (فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها متساويا وزنا أو الذهب) ش: أي أو باع ذهبا م: (بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإن تعارفوا ذلك) ش: وكلمة إن واصلة بما قبلها، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إذا تعارفوا ذلك م: (لتوهم الفضل) ش: من دليلهما م: (على ما هو المعيار فيه كما إذا باع مجازفة إلا أنه يجوز) ش: استثناء من قوله: لا يجوز عندهما أي لكن يجوز م: (الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا) ش: على ما اختاره الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لوجود الإسلام في معلوم) ش: فإن المماثلة ليست بمعتبرة فيه،(8/275)
قال: وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني، معناه ما يباع بالأواقي لأنها قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا، بخلاف سائر المكاييل، وإذا كان موزونا فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله؛
لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إنما المعتبر هو الإعلام على وجه ينفي المنازعة في التسليم، وذلك كما يحصل بالكيل يحصل بذكر الوزن، ذكر في " التتمة " أنه ذكر في " المجرد " عن أصحابنا أنه لا يجوز فكان في المسألة روايتان.
[بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وكل ما ينسب إلى الرطل) ش: بكسر الراء وفتحها. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرطل نصف منا مقصور، ثم قال: هو الذي يوزن به، وقال في كتاب يوحنا بن سرافيون: الرطل اثنتا عشرة أوقية، وقال أيضا: الرطل عشرون أستارا والأستار ستة دراهم ودانقان، أو قال: أربعة مثاقيل فعلى هذا فيما قيل إن الأوقية أربعون درهما نظر.
وقال أبو عبيد: وزن الرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وزن سبعة، وفي " المغرب ": الرطل الذي يوزن به أو يكال به م: (فهو وزني) ش: خبر المبتدأ أعني قوله، وكلما دخلت الفاء فيه لتضمنه الشرط قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه ما يباع بالأواقي) ش: وكذا قال فخر الدين قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
تفسيره أن ما يباع بالأواقي فهو وزني م: (لأنها) ش: أي لأن الأواقي م: (قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا) ش: حتى لو بيع شيء منها بجنسه متساويا كيلا يجوز لجواز التفضيل في الوزن، وهذا لأنه يشق وزن الدهن بالأمناء والسنجات لأنه لا يتمسك إلا في وعاء، وفي وزن كل وعاء نوع خرج فاتخذ الرطل لذلك.
" والأواقي " جمع أوقية بالتشديد وهي أربعون درهما وهي أفعولة من الوقاية لأنها تقي صاحبها من الضرر، وعند الأطباء: الأوقية وزن عشرة مثاقيل وخمسة أسباع درهم، وهو أستار وثلثا أستار.
وفي " كتاب العين ": الأوقية وزن من أوزان الدهن وهي سبعة مثاقيل م: (بخلاف سائر المكاييل) ش: متصلا بقوله: لأنها قدرت يعني أن سائر المكاييل لم تقدر بالوزن فلا يكون للوزن فيه اعتبار.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: بخلاف سائر المكاييل يعني أن هاهنا القدر بالوزن فيجوز البيع بالأوقية، وإن كانت الأوقية كيلا لأنها قدرت بالوزن م: (وإذا كان موزونا) ش: يعني إذا ثبت أن ما ينسب إلى الرطل وزني م: (فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله لا(8/276)
يجوز لتوهم الفضل في الوزن، بمنزلة المجازفة. قال: وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الفضة بالفضة هاء وهاء» ، معنا يدا بيد، وسنبين الفضة في الصرف إن شاء الله تعالى. قال: وما سواه مما فيه الربا يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض، خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بيع الطعام بالطعام. له قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الحديث المعروف: "يدا بيد".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجوز) ش: ولو كان سواء بسواء م: (لتوهم الفضل في الوزن بمنزلة المجازفة) ش: إنما قيد بقوله: لا يعرف وزنه بمكيال مثله لأنه إذا عرف وزنه جاز م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره" م: (وعقد الصرف ما وقع على جنس الأثمان) ش: وهي النقود.
وقوله: وعقد الصرف كلام إضافي مبتدأ، وقوله: ما وقع خبره، وقوله م: (يعتبر) ش: خبرا بعد خبر أي يجيب م: (فيه قبض عوضيه في المجلس لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الفضة بالفضة هاء وهاء» ش: هذا الحديث أخرجه محمد بن الحسن في الأصل عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أشهد أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلا هاء وهاء فمن زاد فقد أربى» .
وروى الجماعة في كتبهم عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» .
قوله: هاء ممدود على وزن هاع ومعناه خذ، أي كل واحد من المتعاقدين يقول لصاحبه فيتقابضان، وفسر المصنف بقوله م: (معناه يدا بيد) ش: وكذا قال الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن روى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معنى قوله: إلا هاء وهاء بقول: يدا بيد، وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قوله يدا بيد أي قبضا بقبض كنى باليد عنه لكونه آلة القبض، ويقال: معنى يدا بيد عينا بعين، وكذا وقع في حديث مسلم عن عبادة وفيه: إلا سواء بسواء وعينا بعين م: (وسنبين الفقه في الصرف إن شاء الله تعالى) ش: هذه حوالة رابحة تأتي في باب المصرف.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وما سواه مما فيه الربا) ش: أي ما سوى عقد الصرف مما يجري فيه ربا كالمكيلات والموزونات غير الذهب والفضة م: (يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض) ش: أي قبل التفرق بالأبدان م: (خلافا للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بيع الطعام بالطعام) ش: فإن عنده التقابض في المجلس شرط فيه إن اتحد المجلس أو لم يتحد، كأن باع كر حنطة بكر حنطة أو بثمن فافترقا من غير قبض فإنه لا يجوز عنده، وبه قال مالك م: (له) ش: أي للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في الحديث المعروف: يدا بيد) ش: سواء(8/277)
ولأنه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب القبض، وللنقد مزية فتتحقق شبهة الربا. ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب، وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف، ويترتب ذلك على التعيين، بخلاف الصرف لأن القبض فيه ليتعين به، ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يدا بيد عينا بعين» كذا رواه عبادة بن الصامت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بسواء م: (ولأنه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب القبض وللنقد مزية) ش: على غيرها م: (فتتحقق شبهة الربا) ش: وهي كالحقيقة في باب الربا.
م: (ولنا أنه) ش: أن ما سوى عقد الصرف مما يجري فيه الربا م: (مبيع متعين) ش: وكل ما هو متعين قد تعين بالتعيين م: (فلا يشترط فيه القبض كالثوب) ش: والعبد والدابة وغيرها م: (وهذا) ش: أي عدم اشتراط القبض فيما يتعين م: (لأن الفائدة المطلوبة) ش: بالعقد م: (إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين) ش: فلا يحتاج إلى القبض م: (بخلاف الصرف) ش: جواب عما يقال: لو كان الأمر كما قلتم لما وجب القبض في الصرف؟ فأجاب بقوله: بخلاف الصرف حيث يشترط فيه القبض م: (لأن القبض فيه) ش: أي في الصرف م: (ليتعين به) ش: أي بالقبض لأن النقود لا تتعين.
م: ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: هذا جواب عن استدلال الخصم بالحديث، أي معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «يدا بيد عينا بعين» ش: تقريره أن المعنى إذا كان عينا بعين يعني معينا بعين يدل على أن المراد منه التعيين، إلا أن التعيين في الصرف لا يتحقق قبل التقابض فلأجل هذا اشترط التقابض.
م: (كذا رواه) ش: أي كذا روى عينا بعين م: (عبادة بن الصامت) ش: حاصله أن الروايتين أعني يدا بيد وعينا بعين كلتيهما وقعتا في حديث عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غير أن رواية عينا بعين وقعت في رواية مسلم عنه وقد مضى كما ينبغي، ثم اشتراط التعيين والتقابض جميعا المدلول عليهما بالروايتين منتف بالإجماع المركب، أما عندنا فلأن الشرط هو التعيين لا القبض، وأما عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبالعكس فحينئذ لا بد من حمل أحدهما على الآخر.
وقوله: يدا بيد يحتمل أن يكون المراد به القبض لأن اليد آلته، ويحتمل أن يكون المراد التعيين لأنه إنما يكون بالإشارة باليد.
وقوله: عينا بعين محكم لا يحتمل غيره فيحمل المحتمل على الحكم.
فإن قيل: يلزمكم على هذا العمل بعموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز لأنكم جعلتم يدا بيد بمعنى القبض في الصرف، وبمعنى التعيين في بيع الطعام.
قلنا: لا نسلم ذلك لأن المراد في كلتا الصورتين التعيين، إلا أن التعيين في كل موضع(8/278)
وتعاقب القبض لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا بخلاف النقد والمؤجل. قال: ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين والجوزة بالجوزتين لانعدام المعيار، فلا يتحقق الربا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يختلف بحسب حاله ففي الدراهم والدنانير التعيين لا يكون إلا بالقبض إذ هما لا يتعينان في المعقود والفسخ فكان القبض هناك في ضرورة وجوب التعيين.
أما الطعام فما يتعين بالتعيين ثمنا كان أو مثمنا فلم يحتج في تعيينه إلى القبض.
فإن قيل: يشكل بما إذا باع إبريق فضة بجنسه فإنه يشترط القبض مع أنه يتعين بالتعيين.
قلنا: التعيين في الإبريق بعارض الصفة فاعتبر فيما يرجع إلى الاحتياط الأصل وهو الثمنية وعدم التعيين، والشبهة في الربا كالحقيقة فاشترط القبض دفعا لها.
وقال الأكمل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: واعترض بأن ما ذكرتم إنما هو على طريقتكم في أن الأثمان لا تتعين، وأما الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فليس بقائل به فلا يكون ملزما. والجواب: أنه ذكره بطريق البادي هاهنا لثبوته بالدلائل الملزمة على ما عرف في موضعه، وقال تاج الشريعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
فإن قلت: روي أيضا في رواية في حديث عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبضا بقبض وهذا صريح في الباب.
قلت: هذه رواية شاذة فلا يترك الحديث المشهور، وهو قوله: الحنطة بالحنطة، مثلا بمثل عينا بعين بهذه الرواية.
م: (وتعاقب القبض) ش: جواب عن قوله: إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب القبض فأجاب بقوله: وتعاقب القبض بوجهيه أن تعاقب القبض المانع الذي يعد تفاوتا في المالية وهاهنا ليس كذلك لأن التعاقب هاهنا م: (لا يعتبر تفاوتا في المال عرفا) ش: فإن التجار لا يفصلون بين المقبوض وغيره بعد أن يكون حالا فلا يتحقق فضل أحدهما فيجوز م: (بخلاف النقد) ش: أي الحال م: (والمؤجل) ش: فإن فيهما التعاقب يعد تفاوتا لأنهم يفصلون فيهما.
م: (قال) ش: أي محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الجامع الصغير " م: (ويجوز بيع البيضة بالبيضتين والتمرة بالتمرتين والجوزة بالجوزتين) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما كرر هذه المسألة لأنها من مسائل " الجامع الصغير "، وقد علم حكمها قبل ذلك، وكان القياس أن يذكرها عند قوله: ويجوز بيع الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين م: (لانعدام المعيار) ش: وهو الكيل م: (فلا يتحقق الربا) ش: يعني حكم النص وجوب التساوي بين البدلين فلا يشرع إلا في محل قابل له وهذا المحل لا يقبله فلم يشترط التساوي فيه فبقي على الأصل وهو الإباحة.(8/279)
والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه لوجود الطعم على ما مر. قال: ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز لأن الثمنية ثبت باصطلاح الكل فلا تبطل باصطلاحهما، وإذا بقيت أثمانا لا تتعين، فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما، وكبيع الدرهم بالدرهمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان البدلين نقدين، أما إذا كان كلاهما أو أحدهما نسيئة لا يجوز لأن الجنس بانفراده يحرم النساء.
فإن قيل: الجوز والبيض في ضمان المستهلكات مثليين فينبغي أن لا يجوز بيع الواحد بالاثنين لشبهة الربا.
قلنا: لا مماثلة بينهما حقيقة للتفاوت صغرا وكبرا إلا أن الناس اصطلحوا على إهدار التفاوت في حق ضمان العددان فيعمل ذلك في حقهم دون الربا الذي هو حق الشرع، كذا في " الذخيرة ".
م: (والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه) ش: أي في بيع البيضة بالبيضتين ونحوها م: (لوجود الطعم على ما مر) ش: من أصله أن علة الربا عنده في المطعومات الطعم، وفي " شرح الطحاوي ": لو باع بطيخة ببطيختين أو تفاحة بتفاحتين أو بيضة ببيضتين أو جوزة بجوزتين أو حفنة من الحنطة بحفنتين يجوز عندنا لعدم الكيل، وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز لوجود الطعم.
وكذلك إذا باع حفنة بحفنة أو حبة بحبة أو تفاحة بتفاحة يجوز عندنا وعنده لا يجوز م (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما) ش: قيد بأعيانهما احترازا عما إذا باع بغير عين أحدهما أو كلاهما فإنه لا يجوز بالاتفاق لأن غير المعين إن كان كلا البدلين يلزم بيع الكالئ بالكالئ.
وإن كان أحدهما يلزم النساء. والجنس بانفراده يحرم النساء م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: استحسانا وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وجه م: (لأن الثمنية) ش: في الفلوس م: (ثبت باصطلاح الكل) ش: أي كل الناس م: (فلا تبطل باصطلاحهما) ش: لعدم ولايتهما على غيرهما م: (وإذا بقيت أثمانا لا تتعين) ش: بالاتفاق م: (فصار) ش: حكمه م: (كما إذا كانا بغير أعيانهما) ش: حيث لا يجوز بالاتفاق م: (وكبيع الدرهم بالدرهمين) ش: أي وصار أيضا حكمه كحكم بيع الدرهم بالدرهمين حيث لا يجوز بالاتفاق.
ولهذا تبين أن الفلوس الرائجة ما دامت رائجة لا تتعين بالتعيين حتى لو قوبلت بخلاف(8/280)
ولهما أن الثمنية في حقهما تثبت باصطلاحهما، إذ لا ولاية للغير عليهما، فتبطل باصطلاحهما
وإذا بطلت الثمنية تتعين بالتعيين، ولا يعود وزنيا؛ لبقاء الاصطلاح على العد، إذ في نقضه في حق العد فساد العقد، فصار كالجوزة بالجوزتين، بخلاف النقود لأنها للثمنية خلقة، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما لأنه كالئ بكالئ وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جنسها، كما إذا اشترى ثوبا بالفلوس معينة فهلكت قبل التسليم لم يبطل العقد كالذهب والفضة م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله- م: (أن الثمنية) ش: في الفلوس م: (في حقهما تثبت باصطلاحهما) ش: لا باصطلاح الناس م: (إذ لا ولاية للغير عليهما فتبطل) ش: أي الثمنية م: (باصطلاحهما) ش: يعني إذا ثبت الثمنية في حقهما باصطلاحهما كان لهما أن ينقضا ذلك الاصطلاح باصطلاح آخر.
[بيع الجوزة بالجوزتين]
م: (وإذا بطلت الثمنية تتعين بالتعيين) ش: لأنه عاد مثمنا كما كان م: (ولا يعود وزنيا لبقاء الاصطلاح) ش: أي اصطلاحهما م: (على العد) ش: تصحيحا لتصرفهما.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: ولا يعود وزنيا جواب لإشكال ذكره في " المبسوط " فقال: فإن قيل: تحت هذا الكلام فساد عظيم، فإنه إذا خرج عن أن يكون ثمنا في حقهما كان هذا قطعة صفر بقطعتي صفر وذلك لا يجوز في الوزني مجازفة فلم يكن في إبطال وصف الثمنية تصحيح هذا العقد، قلنا: الاصطلاح في الفلوس كان على صفة الثمنية والعد، وهما أعرضا في هذه المبالغة عن اعتبار صفة الثمنية وما أعرضا عن اعتبار صفة العد فيها. وليس من ضرورة خروجها من أن يكون بينهما في حقهما خروجهما من أن يكون عدديا كالجوز والبيض فإنه عددي وليس بثمني.
ثم إن المصنف استدل على بقاء اصطلاحهما في حق العد بقوله م: (إذ في نقضه) ش: أي في نقض الاصطلاح م: (في حق العد فساد العقد) ش: والحال أنهما قصدا صحة العد ولا صحة إلا بقاء العد م: (فصار كالجوزة بالجوزتين) ش: هذا بيان لانفكاك العددية عن الثمنية.
وبيع الجوزة بالجوزتين يجوز لانعدام المعيار فلا ربا فيه م: (بخلاف النقود) ش: جواب عن قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كبيع الدرهم بالدرهمين م: (لأنها) ش: أي لأن النقود م: (للثمنية خلقة) ش: أي من حيث الخلقة لا من حيث الاصطلاح فلا تبطل الثمنية باصطلاحهما م: (وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما) ش: جواب عما قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما إذا كان بغير أعيانهما فإن ذلك لم يجز.
م: (لأنه كالئ بكالئ) ش: أي لأن هذا العقد نسيئة بنسيئة، وهو منهي عنه، وهو معنى قوله م: (وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه) ش: هذا رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار -(8/281)
وبخلاف ما إذا كان أحدهما بغير عينه؛ لأن الجنس بانفراده يحرم النساء،
قال: ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في مسانيدهم من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يباع كالئ بكالئ، يعني دينا بدين» .
ورواه ابن عدي في "الكامل " وأعله بموسى بن عبيدة ونقل تضعيفه عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قيل لأحمد: إن شعبة يروي عنه قال: لو رأى شعبة ما رأينا منه لم يرو عنه، وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بين.
ورواه أبو عبيدة في كتاب " غريب الحديث " عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة إلى آخره نحوه، وقال أبو عبيدة: هو النسيئة بالنسيئة، وقال في " الفائق ": كلأ الدين كلوءا فهو كالئ إذا تأخر، وذكر الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في المهموز، وقال: وكان الأصمعي يهمزه وينشد:
وإذا تباشرك الهمو ... م فإنها كالئ وناجز
أي منها ما هو نسيئة ومنها ما هو نقد.
وقال أبو عبيدة: تكلأت أي استنسأت نسيئة، وكذلك استكلأت كلأ بالضم وهو من التأخير، وقال أبو زيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلأت الطعام تكليا أو كلأت أكلأتها إذا أسلفت فيه وما أعطيت في الطعام نسيئة من الدراهم فهو الكلاءة بالضم م: (وبخلاف ما إذا كان أحدهما بغير عينه) ش: هذا جواب عما إذا كان أحدهما غير عين م: (لأن الجنس بانفراده يحرم النساء) .
ش: واعلم أن بيع الفلس بجنسه متفاضلا على أربعة أوجه: بيع فلس بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما، وبيع فلس بعينه بفلسين بغير أعيانهما، وبيع فلس بغير عينه بفلسين بأعيانهما، وبيع فلس بعينه بفلسين بأعيانهما والكل فاسد سوى الوجه الرابع ففيه الخلاف المذكور.
[بيع الحنطة بالدقيق]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق) ش: لا متساويا ولا متفاضلا ولا بالكيل ولا بغيره، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد -(8/282)
لأن المجانسة باقية من وجه؛ لأنهما من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل لكن الكيل غير مسو بينهما وبين الحنطة لاكتنازهما فيه وتخلخل حبات الحنطة فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل، ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وهو قول الثوري أيضا، ونقل عن الشافعي وأحمد -رحمهما الله- في رواية أنه يجوز بيع الحنطة بالدقيق متساويا، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- في أظهر القولين، إلا أن مالكا يعتبر الكيل، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز بالوزن فقالا: الدقيق نفس الحنطة إلا أن أجزاءها قد تفرقت فأشبه بيع حنطة صغيرة الحبات بحنطة كبيرة الحبات.
وكذا الخلاف في بيع الحنطة بالنخالة م: (لأن المجانسة باقية من وجه) ش: لأن بالطحن لم يوجد إلا تفريق الأجزاء م: (لأنهما) ش: أي لأن الدقيق والسويق م: (من أجزاء الحنطة والمعيار فيهما الكيل، لكن الكيل غير مسو بينهما) ش: أي لكن بين الدقيق والسويق م: (وبين الحنطة لاكتنازهما) ش: أي لاجتماعهما م: (فيه) ش: أي في الكيل م: (وتخلخل حبات الحنطة) ش: يقال: أجزاؤه متخلخلة أي في خلالها فرج فإذا كان كذلك صار كالمجازفة في احتمال الربا م: (فلا يجوز وإن كان كيلا بكيل) ش: لعدم إشارة لأنه من جنسه من وجه وإن خص باسم الحر.
وفي " المبسوط ": لا يعرف التساوي بين الدقيق والحنطة فإن الدقيق لا يصير حنطة ولكن الحنطة تطحن، ولا بد وإن بعد الطحن متساويان في المكيال أم لا فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر.
فإن قيل: ينبغي أن يجوز بيع الحنطة بالسويق لعدم الاكتناز في السويق.
قلنا: الحرمة باعتبار الشبهة وهي كافية لثبوت الحرمة فإن السويق في ضمن الحنطة فيتحقق شبهة الجنسية، كما لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية م: (ويجوز بيع الدقيق بالدقيق متساويا كيلا) ش: متساويا نصب على الحال، وكيلا نصب على التمييز أي حال كونه متساويا من حيث الكيل.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: متساويا حال، وكذا كيلا حال، والعامل في متساويا بيع وفي كيلا لفظ متساويا، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل: متساويا وكيلا حالان متداخلان لأن العامل في الأول بيع وفي الثاني متساويا، هذا نقله من كلام الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قال: ويجوز أن يكونا مترادفين.
قلت: الصواب هو الذي قلته لأن من شرط الحال أن يكون من المشتقات، وكيلا اسم غير مشتق لأن المراد به هي الآلة التي يكتال بها لا الكيل الذي هو مصدر كال يكيل كيلا.
ولئن سلمنا وقوع الحال من غير المشتقات لكن حينئذ يؤول بالمشتق وهاهنا كيف يؤول فلا يتأتى من لفظه.(8/283)
لتحقق الشرط،
وبيع الدقيق بالسويق لا يجوز عند أبي حنيفة متفاضلا ولا متساويا؛ لأنه لا يجوز بيع الدقيق بالمقلية، ولا بيع السويق بالحنطة، فكذا بيع أجزائهما لقيام المجانسة من وجه.
وعندهما يجوز؛ لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المقصود. قلنا: معظم المقصود وهو التغذي يشملهما، ولا يبالي بفوات البعض كالمقلية مع غير المقلية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لتحقق الشرط) ش: وهو المساواة في الكيل فيما هو مكيل، والكيل معيار شرعي في المكيل، وعن الإمام الفضلي: أنه يجوز إذا تساويا كيلا إذا كانا مكبوسين، وفي الدقيق بالدقيق وزنا روايتان. وفي الشامل: والدقيق بالدقيق، والمقلي بالمقلي، في رواية يجوز متساويا، والمقلي بغير المقلي لا يجوز لانعدام التساوي بينهما. وفي " شرح الأقطع ": يجوز بيع الدقيق بالدقيق إذا كانا على صفة واحدة من النعومة. وفي " خلاصة الفتاوى ": سواء كان أحدهما أحسن أو أدق، وكذا بيع النخالة بالنخالة.
م: (وبيع الدقيق بالسويق لا يجوز عند أبي حنيفة متفاضلا ولا متساويا؛ لأنه لا يجوز بيع الدقيق بالمقلية ولا بيع السويق بالحنطة، فكذا بيع أجزائهما) ش: أي أجزاء المقلية وهي السويق وأجزاء الحنطة وهي الدقيق م: (لقيام المجانسة من وجه) ش: لأن السويق أجزاء حنطة مقلية، وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الشافعي.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (يجوز لأنهما) ش: أي لأن دقيق الحنطة وسويقها: (جنسان مختلفان) ش: لاختلافهما في الاسم والهيئة والمعنى م: (لاختلاف المقصود) ش: لأن المقصود من الدقيق اتحاد الخبز والعصائد، ولا يحصل شيء من ذلك في السويق، بل المقصود منه أن يلت بالسمن أو العسل، أو يشرب بالماء وكان التفاوت بينهما أظهر من التفاوت بين الهروي والمروي.
وأشار إلى الجواب عن هذا بقوله: م: (قلنا: معظم المقصود وهو التغذي يشملهما) ش: أي يشمل الدقيق والسويق. فقوله: معظم المقصود مبتدأ، وقوله: يشملهما خبره، وقوله: وهو التغذي جملة معترضة بينهما م: (ولا يبالي بفوات البعض) ش: أي بعض المقصود م: (كالمقلية مع غير المقلية) ش: يعني لا يجوز لأنهما اعتبرا جنسا واحدا، وإن فات بعض المقاصد، لأن معظم المقاصد باق، والمقلية: المشوية من قلى يقلي إذا شوى، وقد طعنوا على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا اللفظ؛ لأنه لا يقال إلا مقلوة، والمقلية المبعضة، وطعنهم عليه خطأ، لأن محمدا كان من الفصحاء في اللغة، وهذا اللفظ جاء يائيا وجاء واويا، يقال: قليت السويق واللحم فهو مقلي وقلوت فهو مقلو لغة. كذا قال الجوهري: غاية ما في الباب أن محمدا ذكر الياء لأنه كان هذا المعروف عندهم.(8/284)
والعلكة بالمسوسة. قال: ويجوز بيع اللحم بالحيوان عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا باعه بلحم من جنسه لا يجوز إلا إذا كان اللحم المفرز أكثر ليكون اللحم بمقابلة ما فيه من اللحم، والباقي بمقابلة السقط، إذ لو لم يكن كذلك يتحقق الربا من حيث زيادة السقط، أو من حيث زيادة اللحم، فصار كالحل بالسمسم. ولهما أنه باع الموزون بما ليس بموزون، لأن الحيوان لا يوزن عادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والعلكة بالمسوسة) ش: يعني لا يجوز أيضا، والحنطة العلكة -بفتح العين المهملة وكسر اللام- الجيدة، وقال ابن دريد: طعام علك تبين المضغة وهي التي تكون كالعلك من صلابتها بتمدد من غير انقطاع، والحنطة المسوسة المدودة يقال: سوس الطعام إذا دود من السوس، وهو الذي يقع في الصوف والثياب والطعام، يقال: حنطة مسوسة بكسر الواو المشددة.
وفي " الكافي ": بيع الحنطة المقلية بغير المقلية لا يصح في الأصح لعدم التساوي بينهما لاكتناز أحدهما وتخلخل الآخر، وبيع العلكة بالمسوسة يجوز لوجود تساو بينهما. وفي " الذخيرة ": بيع المقلية بالمقلية يجوز متساويا للمجانسة بينهما في كل ذمة، ولكن ذكر في " المبسوط " أنه لا يجوز والله أعلم بصحته.
م: (قال: ويجوز بيع اللحم بالحيوان عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ش: قال المزني وقال الشافعي، ومالك وأحمد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان لا بطريق الاعتبار ولا بغيره م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا باعه) ش: أي إذا باع اللحم م: (بلحم من جنسه لا يجوز) ش: قيد به لأنه باع اللحم بلحم من غير جنسه، كما إذا باع لحم البقرة بلحم الشاة، فإنه يجوز بالإجماع من غير اعتبار القلة والكثرة.
م: (إلا إذا كان اللحم المفرز أكثر) ش: أي اللحم الخالص الصافي أكثر من اللحم الذي في الشاة م: (ليكون اللحم) ش: الذي هو المفرز م: (بمقابلة ما فيه) ش: أي في الحيوان م: (من اللحم والباقي بمقابلة السقط) ش: بفتح السين والقاف، وهو ما لا ينطلق عليه اسم اللحم كالجلد والكرش والأمعاء والطحال م: (إذ لو لم يكن كذلك) ش: أي وإن لم يكن اللحم المفرز أكثر م: (يتحقق الربا من حيث زيادة السقط) ش: هذا على تقدير أن يكون اللحم الخالص أقل م: (أو من حيث زيادة اللحم، فصار كالحل) ش: بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام، وهو من السمسم فلا يجوز بيعه م: (بالسمسم) ش: بالاتفاق إذا كان الحل أكثر من الدهن الذي في السمسم.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - م: (لأنه) ش: أي أن البائع م: (باع الموزون) ش: وهو اللحم م: (بما ليس بموزون) ش: وهو الشاة، فصح كبيع السيف بالحديد م: (لأن الحيوان لا يوزن عادة) ش: لأن الموزون حقيقة ما يمكن معرفة مقدار ثقله بالوزن، وهذا لا(8/285)
ولا يمكن معرفة ثقله بالوزن؛ لأنه يخفف نفسه مرة، ويثقل أخرى، بخلاف تلك المسألة؛ لأن الوزن في الحال يعرف قدر الدهن إذا ميز بينه وبين الثجير ويوزن الثجير.
قال: ويجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل عند أبي حنيفة وقالا: لا يجوز لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حين سئل عنه: «أوينقص إذا جف؟ فقيل: نعم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لا إذا» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتحقق في لحم الشاة الحية، وهو معنى قوله م: (ولا يمكن معرفة ثقله بالوزن؛ لأنه) ش: أي لأن الحيوان م: (يخفف نفسه مرة ويثقل أخرى) ش: باختصاصه بضرب قوة فيه، فلا يدرى أن الشاة خففت نفسها أو أثقلت.
م: (بخلاف تلك المسألة) ش: أشار به إلى مسألة الحل بالسمسم م: (لأن الوزن في الحال يعرف قدر الدهن إذا ميز بينه وبين الثجير) ش: بفتح الثاء المثلثة وكسر الجيم وسكون الياء وآخر الحروف الراء، وهو تفل كل ما يعصر، كذا في "المجمل" م: (ويوزن الثجير) ش: فيقع التمييز بينه وبين الدهن.
[بيع الرطب بالتمر]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (ويجوز بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل عند أبي حنيفة) ش: تفرد به أبو حنيفة بالقول بالجواز، لأن الباقين من أهل العلم لا يجوزون، وفيهم أبو يوسف ومحمد، أشار إليه بقوله م: (وقالا: لا يجوز) ش: وأجمعوا على أن بيع الرطب بالتمر متفاضلا لا يجوز م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (حين سئل عنه) ش: أي عن بيع الرطب بالتمر م: (أوينقص إذا جف؟ فقيل: نعم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لا إذا) » ش: هذا رواه مالك في الموطأ والأئمة الأربعة في سننهم عن زيد بن أبي عياش «عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " فقالوا: نعم، فنهاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» .
فإن قلت: قال الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد تكلم بعض الناس في إسناد هذا الحديث، وقال: زيد: أبو عياش مجهول.
قلت: ليس كذلك، فإن أبا عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك -(8/286)
وله أن الرطب تمر لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حين أهدي إليه رطبا: «أوكل تمر خيبر هكذا؟ " سماه تمرا»
وبيع التمر بمثله جائز لما روينا، ولأنه لو كان تمرا جاز البيع بأول الحديث. وإن كان غير تمر فبآخره، وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في الموطأ. وأخرج حديثه مع شدة تحريه في الرجال ونقده وتتبعه لأحوالهم، ولما أخرجه الترمذي قال: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد في "مسنده "، وابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه "، ولفظهم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ "قيل: نعم، قال: "فلا إذن» ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم لكل ما يرويه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أن الرطب تمر لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (حين أهدي إليه رطبا أو كل تمر خيبر هكذا؟ سماه تمرا) » ش: أي سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرطب تمرا.
قلت: هذا الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في أربعة مواضع من صحيحه، وليس فيها ذكر الرطب، لأن لفظه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر خيبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أكل تمر خيبر هكذا" قال: لا والله يا رسول الله» الحديث، ولأجل ذلك قال الأترازي حين ذكر الحديث على ما في الكتاب: فيه نظر، لأن الهداية كانت تمرا، والسغناقي والكاكي والأكمل - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لم يحرروا هذا ونقلوا مثل ما في الكتاب، والآفة في ذلك عدم مراجعتهم إلى كتب الحديث.
م: (وبيع التمر بمثله جائز لما روينا) ش: وهو «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "التمر بالتمر مثلا بمثل» وقد مضى في حديث عبادة بن الصامت - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره م: (ولأنه) ش: أي لأن الرطب م: (لو كان تمرا جاز البيع بأول الحديث) ش: يعني الحديث الذي مضى، فإن في أوله التمر بالتمر م: (وإن كان) ش: أي الرطب م: (غير تمر فبآخره) ش: أي فبآخر الحديث م: (وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: (إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم) » ش: قد ذكرنا في أوائل البيوع أن هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، ولكن روى مسلم والأربعة حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي آخره: «وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» ".(8/287)
ومدار ما روياه على زيد بن عياش - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ضعيف عند النقلة.
قال: وكذلك الزبيب بالعنب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومدار ما روياه) ش: هذا جواب من جهة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الحديث الذي احتجا به، وهو حديث سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور، أي مدار ما رواه أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - من حديث سعد م: (على زيد بن عياش - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو ضعيف عند النقلة) ش: أي نقلة الحديث، وهذا ليس بصحيح، بل هو ثقة عند النقلة ومضى الكلام فيه عن قريب.
وقال الأترازي: ونقلوا التضعيف عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن لم يصح ضعفه في كتب الحديث، فمن ادعى فعليه البيان.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي " المبسوط " دخل أبو حنيفة بغداد فسئل عن هذه المسألة، وكانوا أشداء عليه لمخالفته الخبر، فقال: الرطب لا يخلو إما أن يكون تمرا أو لا إلى آخره، فأوردوا عليه حديث سعد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: مداره على زيد بن عياش، وهو ممن لا يقبل حديثه، واستحسن أهل الحديث منه هذا الطعن، حتى قال ابن المبارك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كيف يقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يعرف الحديث، وهو يقول: زيد بن عياش ممن لا يقبل حديثه.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سلمنا قوته في الحديث يعني قوة زيد بن عياش، لكنه خبر واحد لا يعارض به المشهور، ثم قال: واعترض بأن الترديد المذكور يقتضي أن بيع المقلية بغير المقلية جائز، لأن المقلية إما أن تكون حنطة فيجوز بأول الحديث، أو لا تكون، فيجوز بآخره فمنهم من قال: ذلك كلام حسن في المناظرة لدفع استدلال الخصم، والحجة لا تتم به بل بينا من إطلاق اسم التمر عليه، فقد ثبت أن التمر اسم لثمرة خارجة من النخل من حيث تنعقد صورتها إلى أن يدرك، والرطب اسم النوع منه كالبرني وغيره.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله ومدار ما روياه على زيد بن عياش والمذكور في كتب الحديث زيد أبو عياش.
قلت: وهم فيه وظن أن ذكر المصنف بأنه ابن عياش غير صحيح، وليس كذلك، بل هو ابن عياش - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكنيته أبو عياش، وكذلك وهم فيه الشيخ علاء الدين التركماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - هكذا. وقال صاحب " التنقيح ": زيد بن عياش أبو عياش الزرقي، ويقال: المخزومي، ويقال: مولى بني زهرة المدني ليس به بأس.
م: (وقال: وكذلك الزبيب بالعنب) ش: أي كذا الحكم في بيع الزبيب بالعنب وأكثر النسخ:(8/288)
يعني على هذا الخلاف، والوجه فيه ما بيناه، وقيل: لا يجوز بالاتفاق اعتبارا بالحنطة المقلية بغير المقلية. والرطب بالرطب يجوز متماثلا كيلا عندنا؛ لأنه بيع التمر بالتمر،
وكذا بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة بمثلها أو اليابسة، أو التمر أو الزبيب المنقع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذلك العنب بالزبيب م: (يعني على هذا الخلاف) ش: فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز إذا تساويا كيلا، وعندهما: لا يجوز تساويا أو تفاضلا كما قالا في الرطب بالتمر م: (والوجه فيه) ش: أي في بيع العنب بالزبيب م: (ما بيناه) ش: في بيع الرطب بالتمر، وهو أن الزبيب مع العنب إن كان جنسا واحدا جاز بيع أحدهما بالآخر متماثلا كيلا، وإن كانا جنسين جاز أيضا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد» .
م: (وقيل: لا يجوز بالاتفاق اعتبارا بالحنطة المقلية بغير المقلية) ش: هذه الرواية تقوي قول من قال: الحجة إنما تتم بإطلاق اسم التمر عليه، فإن النص لما أورد بإطلاق التمر على الرطب جعلا نوعا واحدا فجاز البيع مثلا بثمل، ولم يرد بإطلاق اسم العنب على الزبيب فاعتبر فيه التفاوت الصنفي المفسد، كما في المقلية بغيرها.
م: (والرطب بالرطب) ش: أي بيع الرطب بالرطب م: (يجوز متماثلا كيلا) ش: أي من حيث الكيل م: (عندنا) ش: وبه قال مالك وأحمد والمزني، وفي " حلية المؤمن ": وهو الاختيار م: (لأنه بيع التمر بالتمر) ش: وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز، وكذا الخلاف في بيع العنب بالعنب، وكذا في كل ثمرة عنه لها حالة جفاف كالتين والمشمش والخوخ والكمثرى والرمان الحامض والإجاص لا يجوز بيع رطبه برطبه، كما لا يجوز بيع رطبه بيابسه؛ لأنه لا يعرف قدر النقصان بينهما، وقد يكون الناقص من أحدهما أكثر من الآخر، كذا في " شرح جامع الوجيز " وكذا لا يجوز عنده بيع الباقل الأخضر بمثله.
م: (وكذا بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة بمثلها أو باليابسة) ش: أي أو بيع الحنطة الرطبة باليابسة م: (أو التمر) ش: أي أو بيع التمر م: (أو الزبيب) ش: أي أو بيع الزبيب م: (المنقع) ش: بضم الميم وسكون النون وفتح القاف من أنقع الزبيب إذا ألقي في الخابية ليبتل ويخرج منه الحلاوة. قال الأترازي: كذا قالوا بفتح القاف مخففا، ولكن المشهور بين الفقهاء منقع بالتشديد وعليه بيت المنظومة في باب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قلت الأصل إثبات التشديد في اللغة، ولم يثبت إلا من باب الأفعال، فقال الجوهري: ونقعت الدواء وغيره في الماء فهو منقع ونقع لما ينقع نقوعا اجتمع. وقال ابن الأثير: وفي حديث الكريم يتخذونه زبيب فينقعونه، أي يخلطونه بالماء ليصير شرابا، وكل ما ألقي في ماء فقد أنقع، يقال: أنقعت الدواء وغيره في الماء فهو منقع والنقوع بالفتح ما ينقع في الماء من الليل ليشرب نهارا وبالعكس.(8/289)
بالمنقع منهما متماثلا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز جميع ذلك؛ لأنه يعتبر المساواة في أعدل الأحوال وهو المال. وأبو حنيفة يعتبر في الحال، وكذا أبو يوسف عملا بإطلاق الحديث، إلا أنه ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر لما روينا لهما. ووجه الفرق لمحمد بين هذه الفصول وبين الرطب بالرطب أن التفاوت فيها يظهر مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه العقد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والنقيع شراب يتخذ من زبيب أو غيره ينقع في الماء من غير طبخ م: (بالمنقع) ش: أي بالزبيب والتمر المنقع وغير المنقع، أي وبيع غير المنقع م: (منهما متماثلا) ش: أي من التمر والزبيب م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-) ش:
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز جميع ذلك) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الإمام الحلواني: إن الرواية محفوظة عن محمد أن بيع الحنطة اليابسة بالمبلولة إنما لا يجوز إذا ابتلت الحنطة وانتفخت، أما إذا لم تنتفخ بعد ذلك، لكن ثبت من ساعته يجوز إذا تساويا كيلا. كذا في " المحيط " و" الذخيرة ". وفي " المبسوط "، وذكر في بعض النسخ أبي حفص قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قوله الأخير أما قوله الأول كقول محمد م: (لأنه) ش: أي لأن محمدا م: (يعتبر المساواة في أعدل الأحوال وهو المال) ش: وهو حالة الجفاف كما ذهب إليه في بيع الرطب بالتمر بحديث سعد، إلا أن بيع الرطب بالرطب اعتبر المساواة في الحال.
م: (وأبو حنيفة يعتبر) ش: أي يعتبر أعدل الأحوال م: (في الحال) ش: عملا بإطلاق الحديث المشهور، وهو الحديث الذي اعتبر فيه المماثلة في حالة المبيع، وهو حديث عبادة وغيره م: (وكذا أبو يوسف) ش: أي وكذا يعتبر أبو يوسف أعدل الأحوال في الحال م: (عملا بإطلاق الحديث) ش: يرجع إلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله - جميعا م: (إلا أنه ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر لما روينا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- من بيان دليلهما.
وأراد به قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "أينقص إذا جف؟ " إلى آخر الحديث، وهو حديث سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فبقي الباقي على القياس والمخصوص من القياس بالأثر لا يلحق به إلا ما كان في معناه، والحنطة الرطبة ليس في معنى الرطب من كل وجه، فالرطوبة في الرطوبة مقصودة، وفي الحنطة غير مقصودة بل هو عيب، فلهذا أخذ بالقياس.
م: (ووجه الفرق لمحمد بين هذه الفصول) ش: أراد بها بيع الحنطة الرطبة أو المبلولة إلى آخره م: (وبين الرطب بالرطب أن التفاوت فيها) ش: أي في هذه الفصول م: (يظهر) ش: في المال م: (مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه العقد) ش: أراد به بقاء اسم الحنطة والزبيب والتمر بعد(8/290)
وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما على ذلك، فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه، وفي الرطب بالرطب التفاوت بعد زوال ذلك الاسم، فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه، فلا يعتبر.
ولو باع البسر بالتمر متفاضلا لا يجوز؛ لأن البسر تمر، بخلاف الكفرى حيث يجوز بيعه بما شاء من التمر اثنان بواحد؛ لأنه ليس بتمر، فإن هذا الاسم له من أول ما تنعقد صورته لا قبله، والكفرى عددي متفاوت حتى لو باع التمر به نسيئة لا يجوز للجهالة. قال: ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج حتى يكون الزيت والشيرج أكثر مما في الزيتون والسمسم، فيكون الدهن بمثله والزيادة بالثجير، لأن عند ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجفاف، فوجد التغيير في المعقود عليه فلا يجوز م: (وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما) ش: أي أحد البدلين م: (على ذلك) ش: أي على اسم التمر م: (فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه) ش: فيكون مفسدا للعقد م: (وفي الرطب بالرطب التفاوت بعد زوال ذلك الاسم) ش: أي اسم الرطب على البدلين م: (فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه فلا يعتبر) ش: فيصح العقد.
م: (ولو باع البسر بالتمر متفاضلا) ش: ومتماثلا م: (لا يجوز لأن البسر تمر) ش: لأن التمر اسم لثمرة النخل من أول ما ينعقد، صورتها وبيعه به متساويا من حيث الكيل يدا بيد جاز بالإجماع م: (بخلاف الكفرى، حيث يجوز بيعه بما شاء من التمر اثنان بواحد) ش: أي الكيلان من التمر بكيل من الكفرى وبالعكس يدا بيد.
" الكفرى " بضم الكاف وفتح الفاء وتشديد الراء مقصور، وهو اسم نوع من الطلع. وفي " المغرب ": وهو كم النخل أول ما يشق م: (لأنه) ش: أي لأن الكفرى م: (ليس بتمر، فإن هذا الاسم له) ش: أي التمر م: (من أول ما تنعقد صورته) ش: يعني التمر اسم لما يخرج من النخل من حين ينعقد، صورته إلى أن يدرك م: (لا قبله) ش: أي لا قبل الكفرى؛ لأنه يسبق، واشتقاقه من الكفر وهو الستر، سمي به لأنه يستر ما في جوفه من التمر، ويسمى كافرا وكفرا أيضا.
م: (والكفرى عددي متفاوت) ش: فهذا جواب إشكال يرد على قوله: إنه ليس بتمر فإنه إذا لم يكن تمرا ينبغي أن يجوز إسلام التمر في الكفرى. فأجاب بقوله: والكفرى عددي متفاوت في الصغر والكبر، فلا يجوز ثم أوضح ذلك بقوله م: (حتى لو باع التمر به) ش: أي الكفرى م: (نسيئة) ش: أي إلى أجل م: (لا يجوز للجهالة) ش: لتفاوت آحاده؛ لأنه عددي متفاوت.
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (ولا يجوز بيع الزيتون بالزيت، والسمسم) ش: وبيع السمسم م: (بالشيرج حتى يكون الزيت) ش: في بيع الزيتون به م: (والشيرج) ش: أي ويكون بالشيرج في بيع السمسم به م: (أكثر مما في الزيتون) ش: في بيعه بالزيت م: (والسمسم) ش: في بيعه بالشيرج م: (فيكون الدهن بمثله) ش: أي بمثل الدهن، بيانه أن الدهن الخالص إذا كان أكثره من الدهن الخالص بمقابلة الثجير، وهو النقل م: (والزيادة بالثجير؛ لأن عند ذلك) ش: أي عند(8/291)
يعرى عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون، وهذا لأن ما فيه لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن أو الثجير وحده فضل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مقابلة الدهن بالدهن، ومقابلة الزائد بالثجير م: (يعرى) ش: أي العقد م: (عن الربا إذ ما فيه من الدهن موزون) .
ش: قال تاج الشريعة:
فإن قلت: ينبغي أن يجوز بيع الدهن بالسمسم كيفما كان لأن السمسم كيلي، والدهن وزني.
قلت: السمسم اشتمل على الدهن وهو المقصود منه، وأنه وزني، والتمييز ممكن، فاعتبر الدهن الذي فيه احتياطا.
فإن قلت: لما كان المقصود هو الدهن ينبغي أن يجوز بيع السمسم بالسمسم متفاضلا، وينصرف الكثير إلى الدهن تصحيحا للعقد.
قلت: السمسم له صورة يقصد إليها، ومعنى وهو الدهن، فإذا بيع بجنسه تعتبر الصورة فوجبت التسوية إذا بيع بالدهن يعتبر المعنى، فيجب التسوية بين الدهن المقر فيه، وبين الذي في السمسم عملا بالشبهين. وفي " فتاوي قاضي خان ": إنما يشترط أن يكون الخالص أكثر من التفل في البدل الآخر شيء له قيمته، أما إذا كان شيء لا قيمة له كما في الزبد يجوز بالمثل، يروى ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال زفر: يجوز الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج مع الجهالة بأنه أكثر منه أو أقل أو متساويا. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز بيع الزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج أصلا، وكذا لا يجوز عنده بيع الجوز بدهنه، واللبن بسمنه والعنب بعصيره والتمر بدبسه.
وفي " الكافي ": اعلم أن بيع أحدهما بالآخر على أربعة أوجه: إن علم أن الزيت الذي في الزيتون أكثر من الزيت المنفصل لم يصح لتحقق الفضل الخالي عن العوض من حيث زيادة الدهن والثجير، وكذا إن علم أنه مثله، لأن التفل المسيل يكون فضلا، وإن كان الزيت المنفصل أكثر جاز، والفضل بالتفل، وهذه الثلاثة بالإجماع، وإن لم يعلم أنه مثله أو أكثر منه أو أقل منه صح عند زفر، وعندنا لا يصح.
م: (وهذا) ش: إيضاح لبيان ما قبله م: (لأن ما فيه) ش: أي في الموزون م: (لو كان أكثر أو مساويا له، فالثجير وبعض الدهن) ش: يعني إذا كان بعض ما فيه أكثر م: (أو الثجير وحده) ش: أي ولو كان ما فيه مساويا، وقوله م: (فضل) ش: خبر قوله: فالثجير، فإذا كان فضلا يكون خاليا عن العوض.(8/292)
ولو لم يعلم مقدار ما فيه لا يجوز لاحتمال الربا، والشبهة فيه كالحقيقة، والجوز بدهنه، واللبن بسمنه، والعنب بعصيره، والتمر بدبسه على هذا الاعتبار.
واختلفوا في القطن بغزله، والكرباس بالقطن يجوز كيفما كان بالإجماع. قال: ويجوز بيع اللحمان المختلفة بعضها ببعض متفاضلا، ومراده لحم الإبل والبقر والغنم، فأما البقر والجواميس فجنس واحد، وكذا المعز مع الضأن، وكذا العراب مع البخاتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو لم يعلم مقدار ما فيه) ش: أي ما في الموزون م: (لا يجوز لاحتمال الربا) ش: لتوهم الفضل الذي كالمتحقق في هذا الباب، وهو معنى قوله م: (والشبهة فيه كالحقيقة) ش: للاحتياط م: (والجوز بدهنه) ش: كلام إضافي مبتدأ، وقوله م: (واللبن بسمنه، والعنب بعصيره، والتمر بدبسه) ش: معطوفات على المبتدأ. وقوله م: (على هذا الاعتبار) ش: خبره، يعني أن الدهن الخالص ينبغي أن يكون أكثر، حتى يجوز، بيانه إذا كان الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في الجوز والسمن الخالص أكثر مما في اللبن والعصير الخالص أكثر مما في العنب والدبس الخالص أكثر مما في التمر جاز، وإلا فلا.
[بيع القطن بغزل القطن متساويا وزنا]
م: (واختلفوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (في القطن بغزله) ش: أي في بيع القطن بغزل القطن متساويا وزنا. قال بعضهم: يجوز، لأن أصلها واحد، وكلاهما موزون. وقال بعضهم: لا يجوز، وإليه ذهب صاحب خلاصة الفتاوى، لأن القطن ينقص إذا غزل، فصار كالحنطة مع الدقيق، واتفقوا في بيع القطن بالقطن أنه جائز، وبيع المحلوج بالقطن إذا كان يعلم أن الخالص أكثر جاز وإلا فلا. وفي " الإيضاح " و" الذخيرة ": بيع غزل القطن بالقطن لا يجوز متساويا. وفي " فتاوي قاضي خان ": لا يجوز إلا متساويا، ولو خرجا أو أحدهما من الموزون فلا بأس ببيعهما متفاضلا، وبيع الغزل بالثوب جائز على كل حال. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بيع القطن بالثوب لا يجوز متفاضلا، وعندنا: لا يجوز مطلقا، وفي " جمع العلوم ": بيع الجوزقة بالغزل جائز كيفما كان على الأصح، وقيل: إنما يجوز بالاعتبار.
م: (والكرباس) ش: أي وبيع الكرباس م: (بالقطن يجوز كيفما كان) ش: يعني متساويا أو غير متساو م: (بالإجماع) ش: لاختلافهما من كل وجه لأن الكرباس بالصنعة صار شيئا آخر.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز بيع اللحمان المختلفة بعضها ببعض متفاضلا) ش: وعن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يجوز بيع اللحوم المختلفة متفاضلا. وفي الوجيز: وفي لحوم الحيوانات قولان، أصحهما أنها مختلفة م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري من قوله م: (لحم الإبل والبقر والغنم، فأما البقر والجواميس فجنس واحد، وكذا المعز مع الضأن، وكذا العراب مع البخاتي) ش: يعني جنس واحد، وقال الجوهري: الإبل العراب والخيل العراب خلاف البخاتي والبراذين.(8/293)
قال: وكذلك ألبان البقر والغنم. وعن الشافعي لا يجوز لأنهما جنس واحد لاتحاد المقصود. ولنا أن الأصول مختلفة حتى لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، فكذا أجزاؤها إذا لم تتبدل بالصنعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المغرب ": يقال فرس عربي، وخيل عراب، وفرقه في الجمع بين الأناسي والبخاتي والبهائم جمع بختي منسوب إلى بخت نصر؛ لأنه أول من جمعه بين العربي والعجمي. وقال الجوهري: البخت من الإبل معرب، وبعضهم يقول: هو عربي الواحد بختي، والأنثى بختية، وجمعه بخاتي غير مصروف لأنه بزنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكذلك ألبان البقر والغنم) ش: يعني يصح بيع بعضها بالبعض متفاضلا م: (وعن الشافعي: لا يجوز لأنهما) ش: أي اللحمان والألبان م: (جنس واحد لاتحاد المقصود) ش: أي من اللحم، وهو التغذي والتقوي وائتلاف المقاصد بعد ذلك يرجع إلى الوصف. وفي كتبهم: اللحمان احتباس، وهو ظاهر المذهب، وهو اختيار المزني، انتهى.
وقال مالك: اللحوم ثلاثة أجناس: الطيور، والدواب أهليها ووحشيها، والجريات. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إحدى روايتيه كقول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وفي رواية كقولنا.
وفي " شرح الطحاوي ": ولو باع لحوم الشاة بشحمها أو بأليتها أو لحمها بصوفها يجوز ذلك كيفما كان، ولا يجوز نسيئة، لأن الوزن يجمعهما. وأما صوف الشاة مع شعر البقر جنسان يختلفان، ولو باع بعضها ببعض متفاضلا يجوز، ولا يجوز نسيئة، لأن الوزن يجمعها، وأما الرؤوس والأكارع والجلود يجوز يدا بيد كيفما كان، ولا يجوز نسيئة لأنه لم يضبط بالوصف.
ولو باع لحم الإبل بلحم الغنم أو بلحم البقر أو لبنها بلبن الغنم أو بلبن البقر يجوز كيفما كان، ولا يجوز نسيئة، لأن الوزن يجمعهما، وفي " الإيضاح ": روي عن أبي يوسف أنه يجوز بيع لحم الطير بعضه ببعض متفاضلا، وإن كان من نوع واحد لأنه لا يوزن في العادة.
م: (ولنا أن الأصول) ش: أي أصول اللحمان م: (مختلفة) ش: فكانت فروعها أجناسا، والدليل على أن أصولها مختلفة قوله: م: (حتى لا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة) ش: يعني لا تكمل نصاب البقر بالإبل وبالغنم م: (فكذا أجزاؤها) ش: أي أجزاء الأصول م: (إذا لم تتبدل بالصنعة) ش: فإذا تبدلت تصير جنسين بسبب تبدلهما بالصنعة.
وإن كان أصلهما واحدا كالنذبنجي مع الودراي والهروي مع المروي، قال الأكمل: فيه نظر، لأن كلامه في اختلاف الأصول لا في اتحادها، فكأنه يقول: اختلاف الأصول يوجب(8/294)
قال: وكذا خل الدقل بخل العنب للاختلاف بين أصليهما، فكذا بين ماءيهما، ولهذا كان عصيراهما جنسين، وشعر المعز وصوف الغنم جنسان لاختلاف المقاصد. قال: وكذا شحم البطن بالألية أو باللحم؛ لأنها أجناس مختلفة لاختلاف الصور والمعاني والمنافع اختلافا فاحشا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلاف الأجزاء إذا لم يتبدل بالصنعة، وأما إذا تبدلت فلا توجبه، وإنما توجب الاتحاد، فإن الصنعة كما تؤثر في تغيير الأجناس مع اتحاد الأصل كالهروي مع المروي مع اتحادهما في الأصل وهو القطن.
كذلك يؤثر في اتحادهما مع اختلاف الأصل كالدراهم المغشوشة المختلفة الغش مثل الحديد والرصاص إذا كانت الفضة غالبة. فإنها متحدة في الحكم بالصنعة مع اختلاف الأصول.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكذا خل الدقل بخل العنب) ش: يعني يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا يدا بيد، والدقل بالفتحتين رديء التمر م: (للاختلاف بين أصليهما) ش: لأن الدقل غير العنب م: (فكذا بين ماءيهما) ش: أي فكذا الاختلاف بين ماءيهما م: (ولهذا) ش: أي ولأجل الاختلاف بين ماءيهما م: (كان عصيراهما جنسين) ش: بإجماع الأئمة الأربعة.
فإن قلت: لم خص خل الدقل والحكم في خل كل تمر كذلك.
قلت: إجراء الكلام مجرى العادة لأنهم اعتادوا اتخاذ الخل من الدقل.
م: (وشعر المعز وصوف الغنم جنسان، لاختلاف المقاصد) ش: فإن الحبال الصلبة والمسوح إنما تتخذ من شعر المعز أو اللفافة، واللبد تتخذ من صوف الغنم.
فإن قلت: الشاة والمعز جنس واحد، ولهذا يملك نصاف أحدهما بالآخر، فينبغي أن تكون أجزاؤهما كذلك.
قلت: لما اختلفت المقاصد في الأجزاء جعلت مختلفة كألية الشاة مع لحمها، ألا ترى أن أحدهما يصلح لما لا يصلح الآخر، كما ذكرنا م: (قال: وكذا شحم البطن بالألية) ش: يعني يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا م: (أو باللحم) ش: أي أو شحم البطن باللحم فكذلك يجوز م: (لأنها) ش: أي لأن الشحم والألية واللحم م: (أجناس مختلفة لاختلاف الصور) ش: جمع صورة، واختلافها ظاهر، لأن الصور ما يحصل منه في الذهن عند تصوره.
ولا شك في ذلك عند تصور هذه الأشياء م: (والمعاني) ش: أي واختلاف المعاني، فلأن حقيقة كل واحد من هذه الأشياء تخالف حقيقة الآخر، ولهذا يقع على أحدهما اسم الشحم، وعلى الآخر اسم الألية، وعلى الآخر اسم اللحم م: (والمنافع اختلافا فاحشا) ش: أي واختلاف المنافع اختلافا فاحشا بحسب اختلاف اللحوم والشحوم والأليات.(8/295)
قال: ويجوز بيع الخبز بالحنطة والدقيق متفاضلا؛ لأن الخبز صار عدديا أو موزونا، فخرج من أن يكون مكيلا من كل وجه، والحنطة مكيلة. وعن أبي حنيفة أنه لا خير فيه، والفتوى على الأول،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقال الأكمل: وأما اختلاف المنافع فمكانه الطب، وهذا قصور في حق الطالب، أما الألية فإنها حارة رطبة أكثر من الشحم تصلح لمن به برودة ويبوسة، وتنفع العصب الجاسي ورديئة الغذاء والهضم.
وأما الشحم فمن ذكور الحيوانات أشد حرارة من شحم الإناث، وشحم الخصي أشد تسخينا، فالجملة في هذا أن أصناف شحوم الحيوانات إنما تكون بحسب مزاجها، وقوة كل شحم تسحق وترطب بدن الإنسان، ولكن إضافته قد تختلف في الزيادة والنقصان بحسب كل واحد من الحيوانات.
وأما اللحم فإنه غذاء يقوي البدن، واللحوم الفاضلة في لحوم الضأن والثني من العجاجيل والماعز، ولحوم الصغار منها أقبل للهضم وألطف غذاء، ولحوم الهرم والعجف رديء، ولحم الأسود أخف وألذ، وكذا لحم الذكر، وفي اللحم كلام كثير موضعه كتب الطب.
[بيع الخبز بالحنطة والدقيق]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز بيع الخبز بالحنطة، والدقيق متفاضلا) ش: يعني إذا كان يدا بيد م: (لأن الخبز صار عدديا أو موزنا، فخرج من أن يكون مكيلا من كل وجه) ش: بواسطة الصنعة م: (والحنطة مكيلة) ش: بالنص، وكذا الدقيق باعتبار أنه جزء الحنطة المكيلة، ومن جعله وزنيا باعتبار العرف لم يثبت الجنسية بينه وبين الخبز فلم يجمعها القدر من كل وجه، فلم تتحقق علة الربا، وهو وجود الوصفين.
م: (وعن أبي حنيفة أنه لا خير فيه) ش: أي في بيع الخبز بالحنطة والدقيق، يعني لا يجوز، وهو نفي الجواز على وجه المبالغة لكونه نفي الجنس، وهو قول الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (والفتوى على الأول) ش: يعني على جواز بيع الخبز بالحنطة والدقيق، وهو اختيار المتأخرين، وذكر في " النوادر " عن أبي بكر أن بيع الحنطة بالخبز لا يجوز لا متفاضلا ولا متساويا.
وقال أبو الليث: هذا الجواب موافق قول أبي حنيفة خاصة كالحنطة بالدقيق. وفي " فتاوي قاضي خان ": بيع الخبز بالخبر متفاضلا عددا أو وزنا جائز في قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يد بيد.
ولا خير فيه نسيئة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ الخبز ليس بوزني ولا عددي عنده. وقال محمد: هو عددي، وقال أبو يوسف: هو وزني إلا أن يكون قليلا لا يدخل تحت الوزن،(8/296)
وهذا إذا كانا نقدين، فإن كانت الحنطة نسيئة جاز أيضا، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف وعليه الفتوى، وكذا السلم في الخبز جائز في الصحيح، ولا خير في استقراضه عددا أو وزنا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه يتفاوت بالخبز والخباز والتنور والتقدم والتأخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيجوز الواحد بالاثنين وإن كان كثيرا لا يجوز.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز بيع الخبز بالخبز إذا كانا رطبين أو أحدهما. وقال أحمد: يجوز متماثلا إذا كانا رطبين، ولو كانا يابسين غير مدقوقين ففيه قولان: أحدهما: يجوز، والآخر: لا يجوز، ولو كانا يابسين غير مدقوقين لا يجوز لجهالة التماثل، كما لو كانا رطبين أو أحدهما.
م: (وهذا) ش: أي جواز بيع الخبز بالحنطة أو بالدقيق م: (إذا كانا نقدين، فإن كانت الحنطة نسيئة جاز أيضا، وإن كان الخبز نسيئة يجوز عند أبي يوسف، وعليه الفتوى) ش: أي على قول أبي يوسف لا يجوز السلم في الخبز فيجوز عنده كيفما كان. وذكر خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب أن يفتي على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا محالة م: (وكذا السلم في الخبز جائز في الصحيح) ش: وهو قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - واحترز به عن قولهما كذا قاله الأترازي.
وقال الكاكي: احترز به بقوله في الصحيح عن ما روي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وفي " المبسوط ": وأما السلم في الخبز فلا يجوز عند أبي حنيفة ولا يحفظ عنهما خلاف ذلك. ومن أصحابنا من يقول: يجوز عندهما على قياس السلم في اللحم، ومنهم من يقول: لا يجوز لأنه لا يوقف على حدة مضيا، وأنه يتفاوت بالعجز والنضج عند الخبز.
م: (ولا خير في استقراضه عددا) ش: أي لا يجوز استقراض الخبز من حيث العدد م: (أو وزنا) ش: أي أو استقراضه من حيث الوزن م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه) ش: أي لأن الخبز بالضم م: يتفاوت بالخبز) ش: بالفتح من حيث الطول والعرض والغلظ والرقة م: (والخباز) ش: أي ويتفاوت أيضا بالخباز، لأن الخباز إذا كان حاذقا في هذا الباب يجيء خبزه أحسن ما يكون، وإلا فلا يجيء كما هو المطلوب م: (والتنور) ش: أي ويتفاوت أيضا بالتنور؛ لأنه إذا كان جديدا يجيء خبزه جيدا، بخلاف ما إذا كان عتيقا، كذا قاله الشراح.
قلت: بحسب قوة نار التنور وضعفها، فإن التنور إذا كانت ناره قوية يحترق وجه الخبز ولا ينضج لبابه، وإذا كانت ضعيفة لا يتخبز جيدا، بل ينبغي أن تكون النار معتدلة م: (والتقدم والتأخر) ش: أي ويتفاوت أيضا بحسب تقدم الخبز في أول التنور وتأخره إلى آخر التنور.
فإن في آخر التنور النار قوية يحترق الخبز بذلك، وفي أوله: لا ينضج كما ينبغي، والخباز إذا كان حاذقا يدري كيف يرفض الخبز فيه.(8/297)
وعند محمد يجوز بهما للتعامل، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز وزنا، ولا يجوز عددا للتفاوت في آحاده.
قال: ولا ربا بين المولى وعبده؛ لأن العبد وما في يده ملك لمولاه، فلا يتحقق الربا، وهذا إذا كان مأذونا له ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لا يجوز بالاتفاق؛ لأن ما في يده ليس ملك المولى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما تعلق به حق الغرماء فصار كالأجنبي فيتحقق الربا كما يتحقق بينه وبين مكاتبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعند محمد: يجوز بهما) ش: أي العدد والوزن م: (للتعامل) ش: أي لتعامل الناس كذلك، وكذا ذكره قول محمد في " شرح الطحاوي "، و" المختلف والحصر "، و" خلاصة الفتاوى "، وذكر الولوالجي وصاحب " الفتاوى الصغرى " أنه يجوز عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عددا ولم يذكر الوزن، وإن كان لا يجوز السلم فيه عنده لا وزنا ولا عددا قال الولوالجي: وكان محمد ترك القياس في جواز استقراضه عددا لتعارف الناس كما ترك القياس بالعرف في جواز الاستصناع.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز) ش: أي استقراض الخبز م: (وزنا) ش: أي من حيث الوزن م: (ولا يجوز عددا) ش: أي من حيث العدد م: (للتفاوت في آحاده) ش: أي لأجل التفاوت في أفراد الخبز، فلا يتحقق التساوي فيه وعليه الفتوى. وفي " المجتبى ": باع رغيفا نقدا برغيفين نسيئة يجوز، ولو كان الرغيفان نقدا والرغيف نسيئة لا يجوز.
ولو باع كسرات الخبز يجوز نقدا ونسيئة كيفما كان عند صاحبه.
وللشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في الاستقراض وجهان كما في السلم.
أحدهما: لا يجوز كما قال أبو حنيفة وهو الأصح عند صاحب " التقريب ".
والثاني: يجوز وبه قال أحمد وهو اختيار ابن الصباغ لحاجة العامة وإطباق الناس عليه وعلى قول يجوز استقراضه، ويجب رد مثله وزنا فيجب أن يكون القرض معلوم القدر، كذا في " شرح الوجيز ".
[الربا بين المولى وعبده]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره " م: (ولا ربا بين المولى وعبده، لأن العبد وما في يده ملك لمولاه، فلا يتحقق الربا، وهذا) ش: أي عدم كون الربا بين المولى وعبده م: (إذا كان) ش: أي العبد م: (مأذونا له) ش: في التجارة.
م: (ولم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين لا يجوز بالاتفاق، لأن ما في يده ليس ملك المولى عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما تعلق به) ش: أي بما في العبد م: (حق الغرماء فصار) ش: أي العبد م: (كالأجنبي) ش: من مولاه م: (فيتحقق الربا كما يتحقق) ش: أي الربا م: (بينه) ش: أي بين المولى م: (وبين مكاتبه) ش: لأن المكاتب صار كالحر يدا أو تصرفا في كسبه، فيجري الربا بينه(8/298)
قال: ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب، خلافا لأبي يوسف والشافعي. لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا. ولنا قوله -عليه الصلاة السلام-: «لا ربا بين المسلم الحربي في دار الحرب» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبين مولاه، كما يجري بينه وبين غيره.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب) ش: أي ولا ربا أيضا بين المسلم الذي دخل دار الحرب بأمان وباع درهما بدرهمين، وكذا إذا باع خمرا أو خنزيرا أو ميتة أو قامرهم وأخذ المال كل ذلك يحل له إذا كان في دار الحرب عند أبي حنيفة ومحمد م: (خلافا لأبي يوسف والشافعي) ش: ومالك وأحمد.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف والشافعي م: (الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا) ش: يعني المستأمن من أهل الحرب الذي دخل دارنا بأمان تجري الربا بينه وبين المسلم فكذلك يجري بينه وبين المسلم في دار الحرب قياسا عليه بجامع تحقق الفضل الحالي عن العوض المستحق بعقد البيع.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» ش: هذا حديث غريب ليس له أصل مسند، وقال الكاكي: ولنا الحديث المذكور في المتن. وفي " المبسوط ": عن مكحول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ربا بين المسلم....» الحديث، وهذا الحديث وإن كان مرسلا فمكحول ثقة والمرسل من مثله مقبول.
قال الأكمل: ولأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- ما روى مكحول إلى آخره، ثم قال: ذكره محمد بن الحسن، وذكره الأترازي، كذا ثم قال: كذا في شرح أبي نصر. قلت: أسند البيهقي في " المعرفة " في كتاب السير عن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا لأن بعض المشيخة، حدثنا عن مكحول عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ربا بين أهل الحرب» أظنه قال: "وأهل الإسلام" قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا ليس بثابت، ولا حجة فيه، انتهى.(8/299)
ولأن مالهم مباح في دارهم، فبأي طريق أخذه المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن فيه غدر، بخلاف المستأمن منهم، لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا نسلم عدم ثبوته لأن جلالة قدر الإمام لا تقتضي أني جعل لنفسه مذهبا من غير دليل واضح، وأما قوله: ولا حجة فيه فبالنسبة إليه، لأن مذهبه عدم العمل بالمرسلات إلا مرسل سعيد بن المسيب والمرسل عندنا حجة على ما عرف في موضعه، والله أعلم.
م: (ولأن مالهم) ش: أي مال أهل الحرب م: (مباح في دارهم) ش: لأنه غير معصوم.
بل هو على أصل الإباحة م: (فبأي طريق أخذه المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن فيه) ش: أي في أخذه م: (غدر) ش: لأن الغدر حرام م: (بخلاف المستأمن منهم) ش: هذا جواب عن قياس أبي يوسف والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تقريره ما قاله بقوله م: (لأن ماله) ش: أي من المستأمن م: (صار محظورا) ش: أي ممنوعا أخذه م: (بعقد الأمان) ش: ولهذا لا يحل تناوله بعد انقضاء المدة.
وفي "الحجنى في الكناية مستاه": إن باشر مسلما أو ذميا في دارهم أو من أسلم هناك شيئا من العقود التي لا تجوز فيما بيننا كالربويات وبيع الميتة جاز عندهما خلافا لأبي يوسف والأئمة الثلاثة، والله أعلم بالصواب.(8/300)
باب الحقوق ومن اشترى منزلا فوقه منزل فليس له الأعلى إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه أو بكل قليل وكثير هو فيه أو منه ومن اشترى بيتا فوقه بيت بكل حق هو له لم يكن له الأعلى ومن اشترى دارا بحدودها فله العلو والكنيف جمع بين المنزل والبيت والدار، فاسم الدار ينتظم العلو لأنه اسم لما أدير عليه الحدود والعلو من توابع الأصل وأجزائه فيدخل فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الحقوق]
[اشترى منزلا فوقه منزل]
م: (باب الحقوق)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام الحقوق، وهو جمع حق، وهو ما يستحقه الرجل، وله معان أخرى، منها الحق ضد الباطل. وقال بعض الشراح: كان من حق مسائل هذا الباب أن تذكر في الفصل المتصل بأول كتاب البيوع، إلا أن المصنف التزم ترتيب " الجامع الصغير "، وهناك هكذا وقع، فكذا هنا وقبل الحقوق توابع فيليق ذكرها بعد مسائل البيوع.
م: (ومن اشترى منزلا فوقه منزل فليس له الأعلى) ش: أي لا يدخل في بيعه المنزل الأعلى م: (إلا أن يشتريه بكل حق هو له) ش: أي إلا أن يقول وقت شرائه المنزل: اشتريته بكل حق هو له م: (أو بمرافقه) ش: أي أو يشتريه بمرافقه بأن يقول: اشتريته بمرافقه. وفي " المغرب ": مرافق الدار المتوضأ والمطبخ ونحوهما الواحد مرفق بكسر الميم وفتح الفاء لا غير م: (أو بكل قليل وكثير هو فيه) ش: أي أو إلا أن يشتريه بكل قليل وكثير هو فيه، أي في المنزل.
م: (أو منه) ش: أي من المنزل، وهنا ثلاثة أشياء: المنزل والبيت والدار، وفسرها المصنف كلها ليتبين ما يترتب على كل اسم منها من الاحتياج إلى تصريح ما يدل على المرافق لدخولها وعدمه، فقال م: (ومن اشترى بيتا فوقه بيت بكل حق هو له لم يكن له الأعلى) ش: أي البيت الأعلى.
م: (ومن اشترى دارا بحدودها فله العلو) ش: الذي عليها م: (والكنيف) ش: أي وله الكنيف أيضا، وهو المستراح م: (جمع) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (بين المنزل والبيت والدار، فاسم الدار ينتظم العلو) ش: يعني يشمله من غير نص باسمه الخاص.
ومن غير ذكر الحقوق م: (لأنه) ش: أي لأن العلو م: (اسم لما أدير عليه الحدود والعلو من توابع الأصل وأجزائه) ش: فلا يخرج عنها م: (فيدخل فيه) ش: أي في الأصل. وفي شرح نظم " الجامع الكبير ": الدار اسم في اللغة لقطعة أرض ضربت لها الحدود وميزت عما يجاورها بإدارة خط عليها فبين في بعضها دون البعض ليجمع فيها مرافق الصخر للاسترواح ومنافع الأبنية للإسكان وغير ذلك، ولا فرق فيما إذا كانت الأبنية بالماء والتراب أو بالخيام والغاب.(8/301)
والبيت اسم لما يبات فيه، والعلو مثله، والشيء لا يكون تبعا لمثله فلا يدخل فيه إلا بالتنصيص عليه. والمنزل بين الدار والبيت لأنه يتأتى فيه مرافق السكنى مع ضرب قصور؛ إذ لا يكون فيه منزل الدواب، فلشبهه بالدار يدخل العلو فيه تبعا عند ذكر التوابع، ولشبهه بالبيت لا يدخل فيه بدونه. وقيل: وفي عرفنا يدخل العلو في جميع ذلك؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والبيت اسم لما يبات فيه والعلو مثله) ش: أي مثل البيت م: (والشيء لا يكون تبعا لمثله) ش: لأن تبع الشيء أدنى منه لا محالة لا مثله، وبين نتيجة هذا بقوله م: (فلا يدخل فيه) ش: أي يدخل العلو في شراء البيت م: (إلا بالتنصيص عليه) ش: أي على اسم العلو بذكره وإلا لكان الشيء تابعا لمثله وهولا يجوز ولا يرد على هذا المستعير، فإن له أن يعير فيما لا يختلف باختلاف المستعيرين ولا يرد المكاتب أيضا فإن له أن يكاتب.
لأن المراد بالتبعية هاهنا أن يكون اللفظ الموضوع لشيء يتبعه ما هو مثله في الدخول تحت الدلالة؛ لأنه ليس بلفظ عام يتناول الأفراد، إذ فرض المسألة في معلوم ولا من لوازمه وليس في الإعادة والكتاب ذلك، فإن لفظ المعير: أعرتك لم يتناول عارية المستعير أصلا لا تبعا ولا أصالة، وإنما ملك الإعارة لأنها تمليك المنافع، ومن ملك شيئا جاز أن يملك لغيره.
وإنما لا يملك فيما يختلف باختلاف المستعمل حذاء وقوع التغيير به، والمكاتب لما اختص بمكاتبه كان أحق بتصرف ما يوصله إلى مقصوده في كتابة عبده بسبب إلى ما يوصله إلى ذلك فكانت جائزة.
م: (والمنزل بين الدار والبيت؛ لأنه يتأتى فيه مرافق السكنى) ش: أي منافعها م: (مع ضرب قصور) ش: يعني لكن فيه قصور م: (إذ لا يكون) ش: أي لأنه لا يكون م: (فيه منزل الدواب) ش: وما يجري مجرى ذلك م: (فلشبهه) ش: أي فلشبهه المنزل م: (بالدار يدخل العلو فيه تبعا عند ذكر التوابع ولشبهه بالبيت لا يدخل فيه بدونه) ش: أي بدون ذكره، لأن المنزل له منزلة بين المنزلتين.
وقال السرخسي: المنزل اسم لما يشتمل على بيوت ومطبخ وموضع قضاء الحاجة، ولكن لا يكون فيه صحن. وفي " الفوائد ": المنزل اسم لبيتين أو ثلاثة ينزل فيه ليلا أو نهارا.
والعلو وإن كان محلا للنزول فيه فهو دون السفل في احتمال السكنى، لأن السفل محتمل السكنى لنفسه ودوابه والعلو لا يحتمل السكنى للدواب، فكان أصلا من وجه تبعا من وجه، فلو ذكر الحقوق يدخل، وإلا فلا، فيكون منزلته دون منزلة الدار فوق منزلة البيت، وهكذا ذكره في " جامع قاضي خان ".
م: (وقيل: في عرفنا يدخل العلو في جميع ذلك) ش: أي الدار والمنزل والبيت. وقال الإمام الزاهد العتابي في " شرح الجامع الصغير ": هذا - يعني الذي ذكره أولا - في عرفهم وفي عرفنا(8/302)
لأن كل بيت يسمى بالفارسية خانه ولا يخلو عن علو، وكما يدخل العلو في اسم الدار يدخل الكنيف لأنه من توابعها، ولا تدخل الظلة إلا بذكر ما ذكرنا عند أبي حنيفة لأنه مبني على هواء الطريق فأخذ حكمه. وعندهما إن كان مفتحه في الدار يدخل من غير ذكر شيء مما ذكرنا؛ لأنه من توابعه فشابه الكنيف،
قال: ومن اشترى بيتا في دار أو منزلا أو مسكنا لم يكن له الطريق إلا أن يشتريه بكل حق هو له، أو بمرافقه، أو بكل قليل وكثير، وكذا الشرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يدخل العلو من غير ذكر في الفصول كلها، لأن في عرفنا الدار والمنزل والبيت كله واحد. وقال المصنف: م: (لأن كل بيت يسمى بالفارسية خانه) ش: وفي بعض النسخ: لأن كل مسكن يسمى خانه م: (ولا يخلو عن علو) ش: يعني في عرف بلاد العجم يسمى كذلك، سواء كان المسكن صغيرا أو كبيرا، ولفظ خانه بالخاء المعجمة وفتح النون وهو اسم البيت بالعجمي.
م: (وكما يدخل العلو في اسم الدار يدخل الكنيف) ش: وهو المستراح م: (لأنه من توابعها) ش: أي من توابع الدار. وفي بعض النسخ من توابعه. قال الكاكي: أي من توابع الدار؛ لأنه يجوز فيه التذكير؛ لأنه مؤنث غير حقيقي، ولأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط والكنيف مما أدير عليه الحائط، فيكون من الدار فيدخل تحت بيع الدار بلا ذكر الحقوق.
م: (ولا تدخل الظلة) ش: وهي الساباط الذي أحد طرفيه على الدار المبيعة والطرف الآخر على دار أخرى أو على الأسطوانات في السكة ومفتحة في الدار، كذا في " الجامع الصغير لقاضي خان "، وفي " المغرب ": قول الفقهاء ظلة الدار يريدون السدة التي تكون فوق الباب م: (إلا بذكر ما ذكرنا عند أبي حنيفة) ش: وهو قوله بكل حق هو له أو مرافقه أو بكل قليل وكثير هو فيه م: (لأنه مبني) ش: أي لأن الظلة على تأويل الساباط م: (على هواء الطريق فأخذ حكمه) ش: أي حكم الطريق.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد م: (إن كان مفتحه) ش: أي مفتح الظلة م: (في الدر يدخل) ش: أي في البيع م: (من غير ذكر شيء مما ذكرنا) ش: من المرافق والحقوق م: (لأنه) ش: أي لأن الظلة م: (من توابعه) ش: أي من توابع الدار م: (فشابه الكنيف) ش: حيث يدخل من غير ذكر شيء من الحقوق والمرافق.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى بيتا في دار أو منزلا) ش: أي أو اشترى منزلا م: (أو مسكنا) ش: أي أو اشترى مسكنا م: (لم يكن له) ش: أي للمشتري م: (الطريق إلا أن يشتريه بكل حق هو له أو بمرافقه) ش: أو يشتري بمرافقه م: (أو بكل قليل وكثير) ش: هو منه أو فيه فيكون له الطريق حينئذ. وقال الكاكي: المراد الطريق الخاص في ملك إنسان.
قلنا: طريقها إلى مكة غير نافذة وإلى طريق عام فيدخل م: (وكذا الشرب) ش: بكسر(8/303)
والمسيل؛ لأنه خارج الحدود إلا أنه من التوابع فيدخل بذكر التوابع، بخلاف الإجارة لأنها تعقد للانتفاع، ولا يتحقق إلا به؛ إذ المستأجر لا يشتري الطريق عادة ولا يستأجره، فيدخل تحصيلا للفائدة المطلوبة منها. أما الانتفاع بالمبيع فممكن بدونه لأن المشتري عادة يشتريه وقد يتجر فيه فيبيعه من غيره فحصلت الفائدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشين المعجمة، أي لا يدخل في الأرض م: (والمسيل) ش: وكذا مسيل الماء أو إلقاء الثلج في ملك إنسان لا يدخل من غير ذكر مما ذكرنا م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الطريق والشرب والمسيل م: (خارج عن الحدود) ش: أي حدود المبيع فكانت هذه الأشياء أصلا بنفسها من حيث إنه مقصود قيامها بدون المبيع م: (إلا أنه من التوابع) ش: من حيث إنه لا يقصد به.
وإنما يقصد بها الانتفاع بالمبيع فكانت تابعة م: (فيدخل بذكر التوابع) ش: أي بذكر الحقوق والمرافق. وفي " الذخيرة " بذكر الحقوق إنما يدخل الطريق الذي يكون عند البيع لا الطريق الذي كان قبل البيع، حتى إن من سد طريق منزله وجعل له طريقا آخر وباع المنزل بحقوقه يدخل تحت البيع الطريق الثاني لا الطريق الأول.
م: (بخلاف الإجارة) ش: بهذه تدخل هذه الأشياء في الإجارة بدون ذكر الحقوق، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأنها) ش: أي لأن الإجارة م: (تعقد للانتفاع ولا يتحقق) ش: أي الانتفاع م: (إلا به) ش: أي بالطريق م: (إذ المستأجر لا يشتري الطريق عادة ولا يستأجره، فيدخل تحصيلا للفائدة المطلوبة منها) ش: أي من الإجارة، بيان هذا أن البيع شرع لتمليك العين لا لتمليك المنفعة وهذا يصح فيما لا ينتفع به في الحال كالجحش والمهر الصغير والأرض السبخة والإجارة لا تصح فيه والإنسان قد يشتري ليبيعه ليربح، وقد يشتريه للانتفاع.
فكان القصد فيه تملك العين لا الانتفاع لا محالة، فلا ضرورة في إدخال هذه الأشياء في البيع، فلا يدخل إلا بالذكر، كذا في " جامع قاضي خان ".
وفي " الكافي " ولهذا لو استأجر علوا واستثنى الطريق فسدت الإجارة. بخلاف البيع، فإنه لو اشترى علوا واستثن الطريق صح، لأن موجب البيع تمليك الرقبة والانتفاع من ثمراته، أما الإجارة فللانتفاع، ولا انتفاع بدون الطريق.
م: (أما الانتفاع بالمبيع فممكن بدونه) ش: أي بدون الطريق م: (لأن المشتري عادة يشتريه) ش: أي يشتري الطريق والشرب والمسيل، ووحد الضمير لكل واحد أو بتأويل المذكور م: (وقد يتجر فيه) ش: أي في شرائه م: (فيبيعه من غيره فحصلت الفائدة) ش: المطلوبة.(8/304)
باب الاستحقاق ومن اشترى جارية فولدت عنده فاستحقها رجل ببينة فإنه يأخذها وولدها، وإن أقر بها لرجل لم يتبعها ولدها، ووجه الفرق أن البينة حجة مطلقة فإنها كاسمها مبينة فيظهر بها ملكه من الأصل والولد كان متصلا بها، فيكون له. أما الإقرار حجة قاصرة يثبت الملك في المخبر به ضرورة صحة الإخبار، وقد اندفعت بإثباته بعد الانفصال فلا يكون الولد له، ثم قيل: يدخل الولد في القضاء بالأم تبعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الاستحقاق]
[حكم الاستحقاق]
م: (باب الاستحقاق)
ش: أي هذا باب في بيان حكم الاستحقاق، وهو طلب الحق، وذكر هذا الباب عقيب باب الحقوق للمناسبة التي بينهما لفظا ومعنى.
م: (ومن اشترى جارية فولدت عنده) ش: أي عند المشتري ولدت من غير مولاها.
وفي " الكافي " ولدت لا باستيلاده م: (فاستحقها رجل ببينة فإنه يأخذها) ش: أي فإن المستحق يأخذ الجارية م: (وولدها) ش: أي يأخذ ولدها معها أيضا م: (وإن أقر بها) ش: أي وإن أقر بالجارية م: (لرجل لم يتبعها) ش: أي لم يتبع الجارية م: (ولدها) ش: أي لا يأخذ المقر له الولد ويأخذ الأمة فقط م: (ووجه الفرق) ش: أي بين البينة والإقرار حيث يأخذ الجارية وولدها بالبينة فقط لا بالإقرار م: (أن البينة حجة مطلقة) ش: يعني غير مقتصرة على المقضي عليه فهي حجة في قول كافة الناس.
وفي " الكافي " البينة حجة متعدية حتى تظهر في حق كافة الناس والإقرار حتى لا يقتصر على المقر م: (فإنها) ش: أي فإن البينة م: (كاسمها مبينة) ش: من التبين وهو الإظهار، وأصله من البيان وهو الظهور م: (فيظهر بها) ش: أي بالبينة م: (ملكه) ش: أي ملك الرجل المستحق م: (من الأصل) ش: يعني في حق الجارية والولد جميعا م: (والولد كان متصلا بها) ش: أي بالجارية م: (فيكون) ش: أي الولد م: (له) ش: أي للمستحق، ولهذا يرجع الباعة بعضهم على بعض.
م: (أما الإقرار حجة قاصرة) ش: فتظهر في حقه دون غيره م: (يثبت الملك في المخبر به) ش: أي مقصورا على ما أقر به وهو الجارية م: (ضرورة صحة الإخبار) ش: أي لأجل ضرورة صحة إخبار المخبر م: (وقد اندفعت) ش: أي الضرورة م: (بإثباته) ش: أي بإثبات الملك م: (بعد الانفصال) ش: أي انفصال الولد فلا يظهر الإلحاق بالولد م: (فلا يكون الولد له) ش: ولهذا لا يرجع المشتري على البائع بالثمن عند الاستحقاق بالإقرار م: (ثم قيل) ش: أشار بهذا إلى اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في فصل الاستحقاق بالبينة في أن الولد في القضاء بالأم يدخل تبعا أم لا.
فقال بعضهم م: (يدخل الولد في القضاء بالأم تبعا) ش: أي تبعا للأم لأنه لما ظهر الملك في(8/305)
وقيل: يشترط القضاء بالولد وإليه تشير المسائل، فإن القاضي إذا لم يعلم بالزوائد، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تدخل الزوائد في الحكم، وكذا الولد إذا كان في يد غيره لا يدخل تحت الحكم بالأم تبعا.
قال: ومن اشترى عبدا فإذا هو حر وقد قال العبد للمشتري: اشترني فإني عبد له، فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة لم يكن على العبد شيء، وإن كان البائع لا يدري أين هو رجع المشتري على العبد ورجع هو على البائع، وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية فوجده حرا لم يرجع عليه على كل حال. وعن أبي يوسف - أنه لا يرجع فيهما؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الجارية من الأصل يدخل في الأولاد م: (وقيل يشترط القضاء بالولد) ش: على حدة؛ لأنه أصل يوم القضاء لكونه منفصلا عن الأم، فلا بد من الحكم كذا قيل وهو الأصح م: (وإليه) ش: أي إلى هذا القول وهو اشتراط القضاء بالولد م: (تشير المسائل) ش: وبين ذلك بقوله م: (فإن القاضي إذا لم يعلم بالزوائد) ش: يعني إذا قضى القاضي بالأصل ولم يعرف الزوائد.
م: (قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تدخل الزوائد في الحكم) ش: بالأصل، فيجب الحكم بالزوائد أيضا م: (وكذا الولد إذا كان في يد غيره لا يدخل تحت الحكم) ش: أي حكم القاضي م: (بالأم تبعا) ش: أي من حيث التبعية للأم؛ لأنها منفصلة من الأصل يوم القضاء في الولد لعدم دخوله إذا كان في يد الغائب في القضاء بالأم؛ لأنه إذا دخل حينئذ يكون قضاء على الغائب.
[اشترى عبدا فإذا هو حر]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى عبدا فإذا هو حر) ش: كلمة إذا للمفاجأة، أي فظهر أنه حر م: (وقد قال العبد) ش: أي والحال أن العبد قد قال م: (للمشتري اشترني فإني عبد له) ش: إنما قيد بهذين القيدين لأنه لو قال وقت البيع: إني عبد ولم يأمره بالشراء أو قال: اشترني ولم يقل: إني عبد لا يرجع عليه بالثمن في قولهم، كذا ذكره الإمام التمرتاشي في جامعه محالا إلى شيخ الإسلام خواهر زاده.
م: (فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة) ش: أي يدري مكانه م: (لم يكن على العبد شيء) ش: لأن البائع هو الذي أخذ ماله فوجب أن يسترد منه، والعبد لم يأخذ منه شيئا م: (وإن كان البائع لا يدري أين هو رجع المشتري على العبد) ش: بالثمن على العبد؛ لأنه غره حيث أمره بالشراء وأتلف ماله م: (ورجع هو) ش: أي العبد م: (على البائع) ش: إذا قدر عليه.
لأنه أدى عنه م: (وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية) ش: يعني إن ارتهن رجل عبدا قد أقر بأنه عبد للمرتهن م: (فوجده حرا) ش: أي فوجد المرتهن العبد وهو حر م: (لم يرجع عليه) ش: أي لم يرجع المرتهن على العبد بشيء م: (على كل حال) ش: أي سواء كان الراهن حاضرا أو غائبا أية غيبة كانت.
م: (وعن أبي يوسف أنه لا يرجع فيهما) ش: أي إن كل واحد من البائع والمرتهن لا يرجع(8/306)
لأن الرجوع بالمعاوضة أو بالكفالة، والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا، فصار كما إذا قال الأجنبي ذلك، أو قال العبد: ارتهني فإني عبد، وهي المسألة الثانية. ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على أمره وإقراره إني عبد. إذ القول له في الحرية فيجعل العبد بالأمر بالشراء ضامنا للثمن له عند تعذر رجوعه على البائع دفعا للضرر والغرر، ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه، والبيع عقد معاوضة فأمكن أن يجعل الآمر به ضامنا للسلامة كما هو موجبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على العبد في البيع والرهن م: (لأن الرجوع) ش: إنما يكون م: (بالمعاوضة) ش: في المبايعة م: (أو بالكفالة) ش: أي أو بكفالة العبد بالثمن ولم يوجد واحد منهما م: (والموجود ليس إلا الإخبار كاذبا) ش: بأنه عبد.
وقال فخر الدين الحسن بن منصور بن محمود الأوزجندي المعروف بقاضي خان في شرح " الجامع الصغير ": وهذه المسألة دليل على أن العبد إذا كفل بثمن نفسه عن البائع صحت الكفالة، فإذا تعذر استيفاؤه من البائع يرجع عليه ثم يرجع العبد على البائع إذا حضر؛ لأنه أدى ضمانا عليه م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كما إذا قال الأجنبي ذلك) ش: بأن قال: اشتره فإنه عبد فظهر حرا إذا اشتراه فهو حر.
م: (أو قال العبد: ارتهني فإني عبد) ش: فظهر حرا ليس له عليه شيء م: (وهي المسألة الثانية) ش: وهي قوله وإن ارتهن عبدا مقرا بالعبودية م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- م: (أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على أمره) ش: أي أمر العبد حيث قال: اشترني فأنا عبد م: (وإقراره) ش: بقوله م: (إني عبد، إذ القول) ش: أي لأن القول م: (له في الحرية) ش: أي للعبد لأنه متمسك بالأصل، إذ الأصل الحرية م: (فيجعل العبد بالأمر بالشراء) ش: أي بقوله: اشترني م: (ضامنا للثمن له) ش: أي للمشتري م: (عند تعذر رجوعه) ش: أي رجوع المشتري م: (على البائع دفعا للضرر) ش: عن المشتري م: (والغرر) ش: أي ولأجل الغرور من جهته.
والغرور في المعاوضات التي تقتضي سلامة العوض يجعل سببا للضمان دفعا للضرر بقدر الإمكان م: (ولا تعذر إلا فيما لا يعرف مكانه) ش: أي لا يعذر في الرجوع إلا في الذي لا يعرف مكانه لعدم القدرة عليه.
م: (والبيع) ش: كأنه جواب عما يقال من جهة أبي يوسف كيف فرقتم بين البيع والرهن في الرجوع وعدمه؟ فأجاب بقوله والبيع م: (عقد معاوضة) ش: يستحق العبد بها السلامة م: (فأمكن أن يجعل الآمر) ش: على وزن اسم الفاعل م: (به ضامنا للسلامة) ش: أي سلامة المبيع للمشتري م: (كما هو موجبه) ش: أي موجب البيع، لأن موجبه سلامة المبيع للمشتري.
>(8/307)
بخلاف الرهن؛ فإنه ليس بمعاوضة، بل هو وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى يجوز الرهن ببدل الصرف، والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال، فلا يجعل الآمر به ضامنا للسلامة. وبخلاف الأجنبي لأنه لا يعبأ بقوله فلا يتحقق الغرور. ونظير مسألتنا قول المولى: بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له، ثم ظهر الاستحقاق فإنهم يرجعون عليه بقيمته. ثم في وضع المسألة ضرب إشكال على قول أبي حنيفة، لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده، والتناقض يفسد الدعوى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (بخلاف الرهن فإنه ليس بمعاوضة) ش: وهو ظاهر م: (بل هو) ش: أي الرهن م: (وثيقة لاسيتفاء عين حقه) ش: من غير عوض م: (حتى يجوز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه مع حرمة الاستبدال) ش: حتى إذا هلك يقع الاستيفاء. ولو كان معاوضة لكان استبدالا برأس مال السلم أو بالمسلم فيه وهو حرام، وكذا في بدل الصرف فلم يكن هذا غرورا في عقد المعاوضة، فلا ينتهض سببا للضمان، ولهذا قلنا: لو سأل رجل غيره عن أمن الطريق فقال: له اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلكه فسلب اللصوص أمواله لا يضمن المخبر بشيء؛ لأنه غرور فيما ليس بمعاوضة.
وكذا لو قال: كل هذا الطعام فإنه غير مسموم فأكل ثم ظهر بخلافه لا يضمن أيضا م: (فلا يجعل الآمر به) ش: يعني إذا لم يكن معاوضة لم يجعل الآمر به م: (ضامنا للسلامة) ش: فلا يجب عليه شيء.
م: (وبخلاف الأجنبي) ش: عطف على قوله: بخلاف الرهن، يعني إخبار الأجنبي بكونه عبدا لا يفضي إلى البيع م: (لأنه) ش: أي لأن الأجنبي م: (لا يعبأ) ش: أي لا يبالي م: (بقوله) ش: لعدم الاعتماد على قوله م: (فلا يتحقق الغرور) ش: بقوله لعدم الاكتراث به.
م: (ونظير مسألتنا) ش: وهي أن الغرور في المعاوضات التي تقتضي سلامة العوض جعل سببا للضمان نظير م: (قول المولى) ش: للناس من أهل السوق م: (بايعوا عبدي هذا فإني قد أذنت له) ش: في التجارة، فبايعوه ولحقه ديون م: (ثم ظهر الاستحقاق) ش: أي ثم ظهر أنه حر م: (فإنهم) ش: أي فإن الذي بايعوه م: (يرجعون عليه) ش: أي على المولى بديونهم م: (بقيمته) ش: أي بقدر قيمته بحكم الغرور م: (ثم في وضع المسألة) ش: بقوله فإذا هو حر م: (ضرب إشكال على قول أبي حنيفة؛ لأن الدعوى شرط في حرية العبد عنده) ش: أي عند أبي حنيفة.
وقوله: أنا حر بعد قوله: أنا عبد متناقض م: (والتناقض يفسد الدعوى) ش: فيكف تثبت الحرية.
وأجابوا عنه بجوابين.(8/308)
وقيل: إن كان الوضع في حرية الأصل فالدعوى فيها ليس بشرط عنده لتضمنه تحريم فرج الأم. وقيل: هو شرط، لكن التناقض غير مانع لخفاء العلوق، وإن كان الوضع في الإعتاق فالتناقض لا يمنع لاستبداد المولى به، فصار كالمختلعة تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع والمكاتب يقيمها على الإعتاق قبل الكتابة.
قال: ومن ادعى حقا في دار معناه حقا مجهولا، فصالحه الذي في يده على مائة درهم فاستحقت الدار إلا ذراعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أشار المصنف إلى الجواب الأول بقوله م: (وقيل: إن كان الوضع في حرية الأصل) ش: فلقبول البينة وجهان: أحدهما ما قاله عامة المشايخ، وهو عدم اشتراط الدعوى لقبول الشهادة على حرية الأصل وهو معنى قوله م: (فالدعوى فيها ليس بشرط عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (لتضمنه تحريم فرج الأم) ش: أي لتضمن الدعوى، أي دعوى حرية الأصل، وذكر الضمير الراجع إلى الدعوى على معنى الادعاء.
وأشار إلى الوجه الثاني بقوله م: (وقيل هو شرط) ش: أي الدعوى شرط على تأويل الادعاء م: (لكن التناقض) ش: هنا لم يمنع صحة الدعوى، فإنه م: (غير مانع لخفاء العلوق) ش: أي حال العلوق، وكل ما كان مبناه على الخفاء فالتناقض معفو، وقوله م: (وإن كان الوضع في الإعتاق) ش: هو الجواب الثاني أراد أنه إن كان المراد به الحرية بعتاق عارض م: (فالتناقض) ش: في الدعوى م: (لا يمنع) ش: صحة الدعوى في المعتق؛ لأنه أمر يجري فيه الخفاء.
م: (لاستبداد المولى به) ش: أي لتفرد المولى بالإعتاق، فربما لا يعلم العبد إعتاقه ثم يعلم بعد ذلك م: (فصار) ش: هذا م: (كالمختلعة) ش: أي كالمرأة التي اختلعت م: (تقيم البينة على الطلقات الثلاث قبل الخلع) ش: فإنه يقبل ذلك منها وإن تناقضت للخفاء في تطليقة لاستبداده به، وإنما قيد بالثلاث لأن فيما وراءها يمكن أن يقيم الزوج بينة أنه قد تزوجها بعد الطلاق الذي قد أثبتته المرأة قبل يوم أو يومين.
وأما في الثلاث فلا يمكنه ذلك م: (والمكاتب يقيمها) ش: أي يقيم البينة م: (على الإعتاق قبل الكتابة) ش: فإنها تقبل منه لاستبداد سيده بالتحرير، ثم المرأة والمكاتب يستردان بدل الخلع والكتابة بعد إقامتهما البينة على ما ادعياه.
وقال الناطفي في " الأجناس ": رجل باع غلاما وهو ساكت ثم قال بعد البيع مع علمه بالبيع: أنا حر لا يقبل قوله وهو عبد، وزاد في " مختصر الطحاوي ": وقيل له بعد البيع: قم مع مولاك فقام فذاك إقرار منه بالرق.
[ادعى حقا في دار فصالحه الذي هو في يده]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى حقا في دار معناه حقا مجهولا) ش: فأنكر المدعى عليه م: (فصالحه الذي هو في يده على مائة درهم، فاستحقت الدار إلا ذراعا منها)(8/309)
منها لم يرجع بشيء، لأن للمدعي أن يقول دعواي: في هذا الباقي. وإن ادعاها كلها فصالحه على مائة درهم فاستحق منها شيء رجع بحسابه؛ لأن التوفيق غير ممكن فوجب الرجوع ببدله عند فوات سلامة المبدل، ودلت المسألة على أن الصلح عن المجهول على معلوم جائز؛ لأن الجهالة فيما يسقط لا تفضي إلى المنازعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي موضع ذراع منها م: (لم يرجع بشيء) ش: أي لم يرجع المدعى عليه على المدعي م: (لأن للمدعي أن يقول دعواي في هذا الباقي) ش: فلا يثبت حق الرجوع بالشك.
م: (وإن ادعاها كلها) ش: أي كل الدار م: (فصالحه على مائة درهم فاستحق منها شيء رجع بحسابه، لأن التوفيق غير ممكن) ش: لأنه ادعى كل الدار فصالح على ذلك فاستحق بعض الدار والمائة كانت وقعت بدلا عن كل الدار، لأن البدل يقسم على أجزاء المبدل، فلما استحق بعض المبدل تعين الرجوع م: (فوجب الرجوع ببدله) ش: أي بحصته م: (عند فوات سلامة المبدل) ش: لأنه أخذ ذلك القدر من البدل بغير حق.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ودلت المسألة على أن الصلح عن المجهول على معلوم جائز، لأن الجهالة فيما يسقط لا تفضي إلى المنازعة) ش: ودلت المسألة أيضا على أن صحة الدعوى ليست بشرط لصحة الصلح، لأن دعوى الحق في الدار لا تصح للجهالة، ولهذا لا تقبل البينة على ذلك إلا إذا ادعى إقرار المدعى عليه بالحق فحينئذ تصح الدعوى وتقبل البينة، والإقرار عن المجهول جائز عندنا.(8/310)
فصل في بيع الفضولي قال: ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار إن شاء أجاز البيع وإن شاء فسخ. وقال الشافعي: لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية؛ لأنها بالملك أو بإذن المالك، وقد فقدا ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في بيع الفضولي]
[حكم بيع الفضولي]
م: (فصل في بيع الفضولي)
ش: أي هذا فصل في بيان حكم بيع الفضولي وهو نسبة إلى الفضول جمع الفضل، يعني الزيادة. وفي " المغرب " وقد غلب جمعه على ما لا خير فيه، حتى قيل فضول بلا فضل وسنا بلا سن وطولا بلا طول وعرضا بلا عرض ثم قيل: لمن يشتغل بما لا يعنيه فضولي وهو في اصطلاح الفقهاء من ليس بوكيل وبفتح الفاء خطأ، انتهى كلامه.
وقيل: الفضولي من يتصرف في حق الغير بلا إذن شرعي كالأجنبي يزوج أو يبيع ولم يرد في النسبة إلى الواحد، وإن كان هو القياس لأنه صار بالغلبة كالعلم بهذا المعنى، فصار كالأنصاري والأعرابي. وقال الأكمل: مناسبة هذا الفصل بباب الاستحقاق ظاهرة، لأن بيع الفضولي صورة من صور الاستحقاق، لأن المستحق يقول عند الدعوى. هذا ملكي. ومن باعك فإنما باعك بغير إذني فهو عين بيع الفضولي.
قلت: لا يقال مناسبة هذا الفصل بباب الاستحقاق، وإنما يقال: هذا الفصل داخل في هذا الباب الذي قبله، لأن الباب عند المصنفين إذا ذكروا فصلا أو فصلين أو أكثر عقيب باب يقولون هذا داخل في الباب الذي قبله، وإنما يفردونه بالذكر لأنه ليس بداخل فيه من كل وجه فافهم.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار إن شاء أجاز البيع، وإن شاء فسخ) ش: وبه قال مالك وأحمد في رواية م: (وقال الشافعي لا ينعقد) ش: أي بيع الفضولي لا ينعقد أصلا وعنده تصرفات الفضولي كلها باطلة في الجديد، وبه قال أحمد: في رواية، وفي القديم كمذهبنا م: (لأنه) ش: أي لأن بيع ملك غيره م: (لم يصدر عن ولاية شرعية) ش: قال الكاكي، احترز به عن الولاية الحسية، فإنها تثبت بمجرد اليد، سواء كانت اليد حقا أو لا.
وقال غيره: يعني لم يصدر عن ولاية شرعية أنه أضاف التصرف إلى محل ليس له ولاية عليه فيلغو م: (لأنها) ش: أي لأن الولاية الشرعية تثبت م: (بالملك) ش: المطلق للتصرفات م: (أو بإذن المالك) ش: الذي له ولاية التصرف م: (وقد فقدا) ش: على صيغة المجهول، أي فقد فقد الملك والمالك، يعني لم يوجدا م: (ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية) ش: أي بالولاية الشرعية وقد عدمت، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» .(8/311)
ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله، فوجب القول بانعقاده إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره، بل فيه نفعه حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء، وفيه نفع المشتري فثبت القدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه، كيف وأن الإذن ثابت دلالة؛ لأن العاقل يأذن في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا أنه) ش: أي أن بيع الفضولي م: (تصرف تمليك) ش: إلا أنه فيه من قبيل إضافة العام إلى الخاص كعلم الفقه، فلا نزاع في ذلك، وإنما قال تصرف تمليك ولم يقل تمليك، لأن التمليك من غير المالك لا يتصرف، وأما كونه تصرف تمليك فلأن كون المبيع تمليك مال بمال وهو قصد إيقاعه تمليكا في محل قابل للملك.
ولكن لا ينفذ في الحال قبل الإجازة لئلا يتضرر المالك. وقال الكاكي: وقيد التصرف بالتمليك احترازا عن تصرف هو إسقاط كالطلاق والعتاق بمال أو بغير مال من الصبي والمجنون.
فإن هذه التصرفات منهما لا تصح ولا تتوقف على إجازة الولي ولا على إجازة نفسهما بعد البلوغ والإفاقة، بخلاف ما إذا اشترى الصبي شيئا أو تزوج امرأة أو زوج أمته، فإن هذه التصرفات منه تتوقف على إجازة الولي أو إجازة نفسه بعد البلوغ، ولا يجوز بنفس البلوغ بغير إجازة بعده.
م: (وقد صدر) ش: أي والحال أن هذا العقد قد صدر م: (من أهله) ش: وهو كونه عاقلا بالغا م: (في محله) ش: أي في محل العقد وهو كونه مالا متقوما م: (فوجب القول بانعقاده، إذ لا ضرر فيه) ش: أي في هذا العقد م: (للمالك مع تخييره) ش: أي مع كونه مخيرا بين الإجازة والفسخ م: (بل في) ش: أي في هذا العقد م: (نفعه) ش: أي نفع للمالك م: (حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره) ش: وهو حقوق العبد، فإنها لا ترجع إلى المالك م: (وفيه) ش: أي في هذا العقد م: (نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء وفيه نفع المشتري) ش: لأنه أقدم عليه طائعا ولولا النفع لما أقدم م: (فثبت القدرة الشرعية) ش: وهو التصرف الذي ينعقد به العقد.
وهذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية م: (تحصيلا لهذه الوجوه) ش: أي لأجل تحصيل هذه الوجوه، وهي كفاية مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن ونفع العاقدين لصون كلامهما عن الإلغاء.
م: (كيف وأن الإذن ثابت دلالة) ش: فهذا جواب عن قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الولاية الشرعية بإذن المالك وقد فقد الإذن فقال كيف لا ينعقد بيع الفضولي لعدم الإذن من المالك والحال أن الإذن ثابت دلالة، أي في حق انعقاد العقد لاشتماله على النفع م: (لأن العاقل يأذن في(8/312)
التصرف النافع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التصرف النافع) ش: وقيل قوله: وكيف لا إلى آخره جواب عما يقال القدرة بالملك أو بالإذن ولم يوجد، فأجاب عن ذلك منكرا بقوله: وكيف لا إلى آخره.
فإن قيل: لو كان الإذن ثابتا دلالة فيما هو نافع يكون الرضا من المالك متحققا دلالة، فينبغي أن لا يثبت له الخيار.
قلنا: الإذن ثابت دلالة فيما هو نافع لا فيما هو ضار، وفي الانعقاد نفع فيثبت من وجه في انعقاده بغير اختياره ضرر فلا يثبت الإذن في حقه فلذلك يخير.
والجواب عن حديث حكيم بن حزام الذي استدل به الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو نهيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عن بيع ما ليس عنده لأن مطلق النهي يوجب فساد النهي عنه أنه كان يبيعه ثم يشتريه ويزيد تسليمه بحكم ذلك العقد.
والدليل عليه أن قال: «يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن الرجل يأتيني فيطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فأشتريها فأسلمها، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "لا تبع ما ليس عندك» .
وقال الأترازي في استدلال أصحابنا: ولنا ما روى أصحابنا في كتبهم " كالأسرار " وغيره في «حديث عروة البارقي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى له دينارا يشتري به أضحية، فاشترى شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاء بالشاة والدينار الآخر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخبره بذلك فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بارك الله في صفقتك، فأما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به» فقد باع ما اشترى له - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بغير أمره. وأجاز - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بيعه، ثم قال: وفي كتب الحديث وإن عروة البارقي وحكيم بن حزام يعني روى الحديث عن الاثنين.
قلت: أما حديث عروة البارقي فرواه الترمذي: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ثنا حبان ثنا هارون بن موسى ثنا الزبير بن الحر عن أبي لبيد «عن عروة البارقي قال دفع إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دينارا لأشتري له شاة فاشتريت له شاتين، فبعت أحدهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ما كان من أمره فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك"، فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة الكوفة فيربح الربح العظيم فكان من أكثر أهل الكوفة مالا» . وأخرجه ابن ماجه عن أحمد بن سعيد.
وأما حديث حكيم بن حزام فرواه الترمذي أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن حبيب بن أبي ثابت «عن حكيم بن حزام أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث حكيم بن حزام يشتري له أضحية بدينار قال فاشترى أضحية فربح فيها دينارا فاشترى أخرى مكانها فجاء(8/313)
قال: وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما؛ لأن الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيامه وذلك بقيام العاقدين والمعقود عليه، وإذا أجاز المالك كان الثمن مملوكا له أمانة في يده بمنزلة الوكيل؛ لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالأضحية والدينار إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ضح بالشاة وتصدق بالدينار» .
ورواه أبو داود أيضا عن محمد بن كثير. ولما أخرج الترمذي الحديثين لم يسكت عنهما، بل قال: وحبيب بن ثابت لم يسمع عندي من حكيم بن حزام، وأبو لبيد اسمه لمازة، وفي إسناد أبي داود مبهم.
وقيل: حديث حكيم لا يصح لأنه إما منقطع أو في إسناده مجهول.
قلت: الانقطاع في إسناد الترمذي والمجهول في إسناد أبي داود، وقال ابن العربي: حديث عروة صحيح.
وأما الإبهام الذي في إسناد أبي داود فإنه روى عن شبيب عن فرقدة حدثني الحي عن عروة البارقي الحديث.
وقال الخطابي: يعني الحي حدثوه وما كان سبيله هذا من الرواة لم تقم به الحجة، ووقع في رواية الكرخي عن شبيب عن فرقدة يسمعه من قومه عن عروة البارقي، وروي أيضا من حديث سفيان عن شبيب بن فرقدة قال: أخبرنا الحسن عن عروة البارقي الحديث، وهذا الإسناد ما فيه إبهام وهو صحيح كما قاله ابن العربي.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وله الإجازة) ش: أي وللمالك إجازة البيع الذي عقد الفضولي م: (إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما؛ لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيامه) ش: أي من قيام العقد م: (وذلك) ش: أي قيام العقد م: (بقيام العاقدين والمعقود عليه) ش: كما في الإنشاء وبقاء الفضولي إنما يشترط لصحة الإجازة في البيع إلا في النكاح حتى لو زوج رجل ابنته الصغيرة من رجل غائب ثم مات الأب وبلغ الزوج النكاح فأجاز ذلك فهو جائز وهذا نص أن بموت الأب لا ينقطع نكاح الصغيرة، كذا في " فصول الأستروشي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وإذا أجاز المالك) ش: البيع م: (كان الثمن مملوكا له) ش: أي للمالك م: (أمانة في يده) ش: أي في يد الفضولي م: (بمنزلة الوكيل) ش: بالبيع إذا باع وقبض الثمن فإنه أمانة في يده م: (لأن الإجازة اللاحقة) ش: في بيع الفضولي م: (بمنزلة الوكالة السابقة) ش: في البيع بالوكالة من حيث إن كلا منهما يثبت الحكم ويرفع المانع، والمال في يد الوكيل أمانة، فكذا في يد الفضولي.
فإن قلت: ليس كذلك، فإن المشتري من الفضولي إذا باع ثم أجاز المالك المبيع بطل البيع الثاني، ولو كان البيع الأول صدر من الوكيل لا يبطل البيع الثاني.(8/314)
وللفضولي أن يفسخ قبل الإجازة دفعا للحقوق عن نفسه، بخلاف الفضولي في النكاح؛ لأنه معير محض، هذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عرضا معينا إنما تصح الإجازة إذا كان العرض باقيا أيضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: المالك البات إذا طرأ على ملك موقوف أبطله، وقد طرأ المالك البات للمشتري الأول فأبطل الملك الموقوف الذي كان للمشتري الثاني، ونظيره تزوج أمة بغير إذن مولاها فمات المولى فإنه لا ينعقد بإجازة الوارث، لأن ملك التزوج للأمة موقوف، وملك الوارث فيها ملك بات فيبطل الملك الموقوف بطرآن ذلك الملك بالبات.
[للفضولي أن يفسخ قبل إجارة المالك البيع]
م: (وللفضولي أن يفسخ قبل الإجازة) ش: أي قبل إجارة المالك البيع م: (دفعا للحقوق عن نفسه) ش: لما أن الحقوق ترجع إلى الوكيل وهو ما بالإجازة وهو ما بالإجازة يصير بمنزلته في رجوع الحقوق إليه فله أن يفسخه لدفع الضرر عن نفسه، وكذلك للمشتري أن يفسخه. فإن قيل: في القول بجواز فسخه قبل الإجازة ضرر للمالك كما ذكرنا أن للمالك فيه نفع فيفوت ذلك بالفسخ.
قلنا: ضرر للمالك يحصل في ضمن دفع الضرر عن نفسه فلا يعتبر.
م: (بخلاف الفضولي في النكاح) ش: حيث لا يجوز له أن يفسخه قبل إجازة الموقوف له أو فسخه لأن الحقوق لا ترجع إليه م: (لأنه معير محض) ش: وسفير، فإنه لما أعير انتهى أمره فصار بمنزلة الأجنبي، بخلاف الفضولي في البيع؛ لأنه لا يثني أمره بالبيع لما ذكرنا أن الحقوق ترجع إليه.
وقال الكاكي: قال شيخي العلامة صاحب " النهاية " - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان الفسخ بالقول، أما إذا كان الفسخ بالفعل بأن يتزوج الفضولي امرأة برضاها فقيل إجازة زوج أختها كان ذلك نقضا للنكاح الأول، كذا ذكره في الفضول " الإستروشيني " م: (هذا) ش: أي ما قلنا من قيام المتعاقدين والمعقود عليه م: (إذا كان الثمن دينا) ش: في بيع الفضولي كالدراهم والدنانير والفلوس والكيلي والوزني الموصوف في الذمة بغير عينه.
م: (فإن كان عرضا) ش: أي مما يعين بالتعيين م: (معينا) ش: عين في العقد م: (إنما تصح الإجازة إذا كان العرض باقيا أيضا) ش: فهاهنا قيام خمسة أشياء يشترط البائع والمشتري والمالك والمبيع وقيام ذلك العرض فيما إذا كان الثمن دينا يشترط قيام الأربعة من الخمسة المذكورة فقط، والخامس وهو العرض فيما ليس بشرط. وفي الفصل الأول قيام الثمن في يد البائع ليس بشرط، فإن أجاز المالك بعد قيام الأربعة جاز البيع، ولو لم يجز المالك البيع وفسخه انفسخ البيع، وله أن يسترد المبيع ويرجع المشتري بالثمن على البائع إن كان نقده، ولو مات المالك قبل الإجازة انفسخ البيع.(8/315)
ثم الإجازة إجازة نقد لا إجازة عقد، حتى يكون عرض الثمن مملوكا للفضولي، وعليه مثل المبيع إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا؛ لأنه شراء من وجه، والشراء لا يتوقف على الإجازة. ولو هلك المالك لا ينفذ بإجازة الوارث في الفصلين؛ لأنه توقف على إجازة المورث لنفسه فلا يجوز بإجازة غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الإجازة في بيع المقايضة]
م: (ثم الإجازة) ش: أي الإجازة في بيع المقايضة يعني فيما إذا كان الثمن عرضا م: (إجازة نقد) ش: أي ينقد الثمن من ماله، لأن العوضين إذا كان عرضا كان العقد شراء من وجه والشراء لا يتوقف بل ينفذ على الفضولي، فيصير ملكا له.
وبإجازة المالك لا ينتقل الملك إليه فيكون تأثير الإجازة في أن ينقد الفضولي الثمن من مال المجيز.
وهذا استقراض حصل في ضمن الشراء فيصح حكما له كما لو قال: اشتر لي عبد فلان بعبدك هذا فاشتره جاز وعلى الآمر قيمة عبد المأمور؛ لأنه صار كالمستقرض لعبده فيجب عليه مثله إن كان مثليا وقيمته إن لم يكن م: (لا إجازة عقد) ش: لأنه نقد م: (حتى يكون عرض الثمن مملوكا للفضولي) ش: كما ذكرناه الآن م: (وعليه) ش: أي على الفضولي م: (مثل المبيع إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا لأنه) ش: أي لأن البيع بالعرض م: (شراء من وجه) ش: لأنه بيع مقايضة م: (والشراء لا يتوقف على الإجازة) ش: أي على إجازة من اشترى له، لأن الأصل في التصرفات النفاذ والتوقف للضرورة، ولأن الأصل في تصرف الإنسان أن يكون واقفا على نفسه.
فإن قلت: لو كان كذلك لما صح العقد إذا باع الوكيل بالعرض، لأن الموكل وكله بالبيع لا بالشراء.
قلت: صح لأن التوكيل بالبيع مطلق، والبيع يكون بالدين والعين، والموكل عالم بذلك، فلما أطلق الوكالة صار كأنه قال: بعه بأي طريق شئت. فيجوز بأي طريق باع. م: (ولو هلك المالك لا ينفذ بإجازة الوارث) ش: أي وارث المالك م: (في الفصلين) ش: أي فيما إذا كان الثمن عرضا أو دينا.
فإن قلت: هو في الفصل الثاني مشتري فكان ينبغي أن ينفذ الشراء في حق الفضولي.
قلت: لا ينفذ لعجزه عن تسليم الثمن؛ لأنه ملك الغير وقد مات المالك قبل الإجازة.
م: (لأنه) ش: أي لأن بيع الفضولي م: (توقف على إجازة المورث لنفسه فلا يجوز بإجازة غيره) ش: لأن الإجازة عبارة عن اختيار العقد الذي باشره الفضولي والاختيار لا يحتمل النقل لأنه لا يتصور في الأعراض.(8/316)
ولو أجاز المالك في حياته ولم يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الأصل بقاؤه، ثم رجع أبو يوسف وقال: لا يصح حتى يعلم قيامه عند الإجازة؛ لأن الشك وقع في شرط الإجازة فلا يثبت مع الشك.
قال: ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري، ثم أجاز المولى البيع، فالعتق جائز؛ استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز؛ لأنه لا عتق بدون الملك، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عتق فيما لا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: يشكل بأمة تزوجت بغير إذن مولاها ثم مات المولى فإنه ينعقد بإجازة الوارث إذا لم يحل له وطؤها.
قلت: الأمة تتصرف بأهليتها لأنها باقية على أصل الحرية فيما هو من خواص الآدمية، والنكاح من خواصها. وإنما يتوقف على إجازة المالك كيلا يتضرر والوارث مالك كالمورث، ولم يثبت له ملك بات ليبطل الملك الموقوف.
م: (ولو أجاز المالك في حياته) ش: ثم مات م: (ولم يعلم حال المبيع) ش: يعني باق أو غير باق م: (جاز البيع في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا، وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن الأصل بقاؤه، ثم رجع أبو يوسف وقال: لا يصح حتى يعلم قيامه عند الإجازة؛ لأن الشك وقع في شرط الإجازة) ش: وهو بقاء المسمى م: (فلا يثبت مع الشك) ش:
فإن قلت: الشك متساوي الطرفين وقد ترجح جانب الوجود هنا.
قلت: استصحاب الحال لا يصلح للإثبات، فسقط اعتبار ترجيح جانب الوجود، فصار متساوي الطرفين لتحقق الشك.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري ثم أجاز المولى البيع فالعتق جائز) ش: من المشتري م: (استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-) ش: ذكر هذه المسألة في " الجامع الصغير " ولم يذكر فيها الاختلاف، ولهذا قالوا في شروح " الجامع الصغير ": إن العتق جائز اسحتسانا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز) ش: قياسا، وبه قال زفر والشافعي ومالك وأحمد وهو رواية عن أبي يوسف، وهذه المسألة هي المسألة التي جرت المحاورة بين أبي يوسف ومحمد حين عرض هذا الكتاب عليه فإن أبا يوسف قال: ما رويت لك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العتق جائز، وإنما رويت أن العتق باطل.
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل رويت لي أن العتق جائز م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا عتق بدون الملك) ش: عن أبي حنيفة م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «لا عتق فيما لا(8/317)
يملك ابن آدم» ، والموقوف لا يفيد الملك، ولو ثبت في الآخرة يثبت مستندا، وهو ثابت من وجه دون وجه، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا، ولهذا لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان، ولا أن يعتق المشتري والخيار للبائع ثم يجيز البائع، ذلك:
، وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أنه أسرع نفاذا حتى نفذ من الغاصب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يملك ابن آدم» ش: هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ للترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» .
وقال: حديث حسن صحيح وقد تقدم في كتاب العتق مع الكلام فيه مقتضى.
م: (والموقوف لا يفيد الملك) ش: أي الموقوف نفوذه على إجازة مالك ظاهر الملك وهو المغصوب منه، ألا ترى أن بيع الفضولي لا يفيد الملك للمشتري في الحال بالإجماع ولا ملك للمشتري من الغاصب في الحال.
م: (ولو ثبت في الآخرة) ش: بالفتحات بمعنى الأخير م: (يثبت مستندا) ش: إلى سببه وهو بيع الغاصب منه م: (وهو) ش: أي الملك الثابت بطريق الاستناد م: (ثابت من وجه دون وجه، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» م: (ولهذا) ش: هذا استيضاح من المصنف بفروع تؤنس، ذكر منها قوله: م: (لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان) ش: وهو راجع إلى قوله: لأنه لا عتق بدون الملك.
فالغاصب إذا أعتق ثم أدى الضمان لا يعتق، وإن كانت المضمونات تملك مستندة إلى أول السبب لما قلنا: إن الملك المستند ثابت من وجه دون وجه م: (ولا أن يعتق المشتري، والخيار للبائع ثم يجيز البائع ذلك) ش: هذا راجع إلى قوله: والموقوف لا يفيد الملك، حاصله أنه لا ينفذ عتق المشتري العبد، والحال أن البائع كان بالخيار ثم أجاز البيع.
م: (وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب) ش: يعني أن المشتري من الغاصب إذا باع العبد المغصوب من الغير ثم أجاز المالك البيع الأول لا يصح هذا البيع الثاني، فكذلك إذا أعتق ينبغي أن يكون كذلك، وأراد بقوله م: (فيما نحن فيه) ش: المسألة المصدرة بقوله: ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري إلى آخره.
فالعتق لا يصح عند محمد كما ذكر م: (مع أنه) ش: أي أن البيع م: (أسرع نفاذا) ش: من العتق أي أقل احتياجا إلى الملك في النفوذ من العتق م: (حتى نفذ) ش: أي البيع م: (من الغاصب(8/318)
إذا أدى الضمان، وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان، ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك، ولا ضرر فيه، على ما مر، فيتوقف الإعتاق مرتبا عليه وينفذ بنفاذه، وصار كإعتاق المشتري من الراهن، وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي مستغرقة بالديون يصح وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك، بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه؛ لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إذا أدى الضمان، وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان) ش: يعني إذا باع الغاصب ثم أدى الضمان يعني المشتري من الغاصب إذا أعتق العبد الذي اشتراه منه ثم ملكه الغاصب بأداء الضمان وأجاز العتق لا ينفذ.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (أن الملك ثبت موقوفا) ش: أي ثبت ملك المشتري من الغاصب موقوفا على إجازة مالك العبد م: (بتصرف مطلق) ش: بفتح اللام وقيل بالكسر، والأول أشهر، واحترز به عن البيع بشرط الخيار، لأن الملك ثمة لم يثبت أصلا لا موقوفا ولا باتا ووصف المطلق بوصفين أحدهما وهو قوله: م: (موضوع لإفادة الملك) ش: واحترز به عن الغصب فإنه لم يوضع لإفادة الملك، والآخر بقوله م: (ولا ضرر فيه) ش: أي في إعتاق المشتري م: (على ما مر) ش: أشار به إلى قوله: إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخيره، كذا قاله الكاكي.
وقال الأترازي: على ما مر إشارة إلى قوله: ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله إلى آخره. قلت: الأول أظهر م: (فيتوقف الإعتاق مرتبا عليه) ش: أي على المالك الموقوف م: (وينفذ) ش: أي الإعتاق م: (بنفاذه) ش: أي بنفاذ الملك؛ لأنه من حقوقه، والشيء إذا فقد فقد بحقوقه، وإذا توقف توقف بحقوقه.
م: (وصار) ش: أي إعتاق المشتري من الغاصب م: (كإعتاق المشتري من الراهن) ش: فإنه يتوقف نفاذه على إجازة المرتهن أو فك الرهن، والجامع بينهما لأنه إعتاق في بيع موقوف م: (وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي) ش: أي التركة، والحال أي والحال أن التركة م: (مستغرقة بالديون يصح) ش: أي الإعتاق موقوفا م: (وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك) ش: أي بعد إعتاق الوارث ثم شرع المصنف في الجواب عن المسائل المذكورة التي ذكرها محمد تثبتا لما ذهب إليه.
فقال: م: (بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه) ش: حيث لم ينفذ بعد ضمان القيمة م: (لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك) ش: لأنه عدوان محض، وهذا التعليل لا يتم؛ لأنه يرد عليه أن ينفذ بيعه أيضا عند إجازة المالك لأنه لم يوضع لإفادة الملك كما لا ينفذ عتقه، لما أن كلا من جواز البيع والعتق يحتاج إلى الملك، ولكن وجه تمام التعليل بما ذكره في " المبسوط " بخلاف(8/319)
وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار للبائع لأنه ليس بمطلق، وقران الشرط به يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا. وبخلاف المشتري من الغاصب إذا باع؛ لأن بالإجازة يثبت للبائع ملك بات، فإذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغاصب إذا أعتق ثم ضمن القيمة، لأن المستند له حكم الملك لا حقيقة الملك، ولهذا لا يستحق الزوائد المنفصلة وحكم المالك يكفي لنفوذ البيع دون العتق كحكم ملك المكاتب في كسبه، وهاهنا الثابت للمشتري من وقت العقد حقيقة الملك، ولهذا استحق الزوائد المتصلة والمنفصلة جميعا، لأن الملك ثبت مطلقا لا ضرورة إذا للضمان.
م: (وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار للبائع) ش: حيث لا ينفذ العتق م: (لأنه) ش: أي لأن البيع بالخيار م: (ليس بمطلق) ش: أي غير تام م: (وقران الشرط به) ش: أي بالبيع أو بالعقد م: (يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا) ش: فكان الملك معدوما مع وجود الخيار المانع، فلم يصادف إعتاق المشتري محال مملوكا له فيلغو.
م: (وبخلاف المشتري من الغاصب إذا باع) ش: هذا جواب عن المسألة الثالثة، بيانه أن الذي اشترى من الغاصب إذا باع ما اشتراه لا يتوقف بيعه بل يبطل م: (لأن بالإجازة) ش: أي بإجازة المبيع الأول م: (يثبت للبائع) ش: وهو المشتري من الغاصب م: (ملك بات) ش: أي من كل وجه م: (فإذا طرأ) ش: أي الملك البات م: (على ملك موقوف لغيره) ش: أي لغير المشتري من الغاصب وهو المشتري من المشتري من الغاصب م: (أبطله) ش: أي أبطل الملك الموقوف لغيره؛ لأنه لا يتصور اجتماع البات مع الموقوف في محل واحد والبيع بعد ما بطل لا يلحقه الإجازة، وكذا لو وهبه مولاه للغاصب أو تصدق به عليه أو مات فورثه فهذا كله مبطل للملك الموقوف بطروء الملك البات على الملك الموقوف.
فإن قيل: يشكل على هذا الأصل ما إذا باع الغاصب ثم أدى الضمان ينقلب بيع الغاصب جائزا، وإن طرأ الملك الذي يثبت للغاصب بأداء الضمان على ملك المشتري الذي اشتراه منه وهو موقوف.
قلنا: إن ثبوت الملك للغاصب ضروري ثبت له ضرورة وجوب الضمان، فلم يظهر في حق إبطال ملك المشتري.
فإن قيل: لو كان الملك البات يبطل الملك الموقوف فأولى أن يمنعه، لأن المنع أسهل من الرفع، فعلى هذا يجب أن لا ينعقد بيع الفضولي، لأن للمالك ملكا باتا فيجب أن يمنع الفضولي عن الانعقاد لعدم اجتماع الملك الموقوف مع البات.
قلنا: البيع الموقوف غير موجود في حق المالك بل يوجد من الفضولي، فالمنع إنما يكون بعد(8/320)
وأما إذا أدى الغاصب الضمان ينفذ إعتاق المشتري منه، كذا ذكره هلال وهو الأصح. قال: فإن قطعت يد العبد فأخذ أرشها، ثم أجاز البيع؛ فالأرش للمشتري؛ لأن الملك قد تم له من وقت الشراء، فتبين أن القطع حصل على ملكه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوجود، أي وجود المعارض ولا معارض هنا، بخلاف ما نحن فيه. فإن الملك البات ثبت للفضولي، والملك الموقوف ظهر في حقه فوقع التعارض بين الملكين فيرفع البات الموقوف.
وقال الأكمل: وفيه نظر لأن ما يكون بعد الوجود رفع لا منع، وفي الحقيقة هو مغالطة وإن كلامنا في أن طرأ الملك البات يبطل الموقوف وليس ملك المالك طارئا حتى يتوجه السؤال.
[إعتاق المشتري من الغاصب]
م (وأما إذا أدى الغاصب الضمان) ش: هذا جواب عن المسألة الرابعة بيانه أن الغاصب إذا أدى الضمان فلا نسلم له وأن إعتاق المشتري منه لا ينفذ كما قال محمد م: (ينفذ إعتاق المشتري منه) ش: أي من الغاصب م: (كذا ذكره هلال) ش: وهو هلال الري بن يحيى البصري صاحب " الوقف "، ومن قال: إنه الزازي فقد صحف م: (وهو الأصح) ش: أي نفاذ إعتاق المشتري من الغاصب هو الأصح، وفيه إشارة إلى أن فيه اختلاف المشايخ.
وقال علاء الدين العالم في " طريقة الخلاف ": فيه اختلاف المشايخ والأصح أنه ينفذ، وإليه أشار في وقف هلال، فإنه نفذ وقف المشتري من الغاصب إذا ملكه الغائب بالضمان والوقف تحرير الأرض كالإعتاق تحرير العبد.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (فإن قطعت يد العبد) ش: أي في يد المشتري من الغاصب م: (فأخذ) ش: أي المشتري م: (أرشها ثم أجاز) ش: أي المولى م: (البيع) ش: أي بيع الغاصب م: (فالأرش) ش: أي فأرش اليد م: (للمشتري لأن الملك قد تم له) ش: بعد الإجازة م: (من وقت الشراء، فتبين أن القطع حصل على ملكه) ش: قال الأكمل: واعترض بما إذا غصب عبدا فقطعت يده وضمنه الغاصب فإنه لا يملك الأرض، وإن ملك المضمون، والفضولي إذا قال لامرأة: أمرك بيدك فطلقت نفسها ثم بلغ الخبر الزوج فأجاز صح التفويض دون التطليق وإن ثبت المالكية لها من حين التفويض حكما للإجازة. وأجيب عن الأول: بأن الملك في المغصوب ثبت ضرورة على ما عرف وهي تندفع مثبوتة من وقت الأداء فلا تملك الأرش لعدم حصوله في ملكه.
وعن الثاني: بأن الأصل أن كل تصرف يوقف حكمه على شيء أن يجعل معلقا بالشرط لا سببا منه وقت وجوده لئلا يتخلف الحكم عن السبب إلا فيما لا يحتمل التعليق بالشرط كالبيع ونحوه، فإنه يعتبر سببا من وقت وجوده متأخرا حكمه إلى وقت الإجازة فعندهما يثبت الملك من وقت العقد والتفويض مما يحتمله، فجعل الموجود من الفضولي معلقا بالإجازة(8/321)
وهذا حجة على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعذر له أن الملك من وجه يكفي لاستحقاق الأرش، كالمكاتب إذا قطعت يده فأخذ الأرش ثم رد في الرق يكون الأرش للمولى، وكذا إذا قطعت يد المشتري في يد المشتري، والخيار للبائع، ثم أجيز البيع؛ فالأرش للمشتري. بخلاف الإعتاق على ما مر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فعندهما يصير كأنه وجد الآن فلا يثبت حكمه إلا من وقت الإجازة.
م: (وهذا حجة على محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: قال الأترازي: إن كون أرش اليد للمشتري بعد الإجازة حجة عليه، يعني لما تم الملك من وقت الشراء حتى كان الأرش للمشتري كان ينبغي أن ينفذ إعتاق المشتري من الغاصب أيضا عنده، لأن الإعتاق يكون حينئذ في الملك وفي نسخة شيخي العلاء: وهذه حجة على محمد. قال الكاكي: أي هذه المسألة، وفي بعض النسخ وهو أي قوله: فتبين أن القطع ... إلى آخره، والأول أصح.
وجه كونها حجة أن الملك الثابت عنده بطريق الاستناد لا يكفي لنفوذ العتق ويكفي لاستحقاق الأرش، وعندهما يكفي لهما، وفي نسخة " الأكمل " وهذا أي كون الأرش للمشتري حجة على محمد في عدم تجويز الإعتاق في الملك الموقوف لما أنه لو لم يكن للمشتري شيء من الملك لما كان له الأرش عند الإجازة كما في الغصب، حيث لا يكون له ذلك عند أداء الضمان.
م: (والعذر له) ش: أي لمحمد، قال الكاكي: أي الجواب عن هذه المسألة. وقال الأترازي: أي جواب محمد عن هذا بأن يقول: م: (أن الملك من وجه يكفي لاستحقاق الأرش) ش: والثابت بالاستناد ملك من وجه دون وجه م: (كالمكاتب إذا قطعت يده فأخذ الأرش ثم رده في الرق يكون الأرش للمولى، وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا قطعت يد المشتري) ش: بفتح الراء وهو العبد م: (في يد المشتري) ش: بكسر الراء م: (والخيار للبائع) ش: الواو فيه للحال م: (ثم أجيز البيع فالأرش للمشتري) ش: بكسر الراء م: (بخلاف الإعتاق) ش: حيث لا ينفذ إعتاق المشتري فيما إذا كان الخيار للبائع م: (على ما مر) ش: إشارة إلى قوله: والمصحح للإعتاق هو الملك الكامل لا الملك من وجه دون وجه.
وفي " النهاية ": قوله: على ما مر هو قوله: وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار البائع لأنه ليس بمطلق، وقران الشرط به يقع انعقاده. وقال الأكمل: وقيل بخلاف الإعتاق متعلق بقوله إن الملك من وجه لاستحقاق الأرش، يعني أن إعتاق المشتري من الغاصب بعد الإجازة لا ينفذ عند محمد، لأن المصحح للإعتاق وهو الملك الكامل لا الملك من وجه دون وجه.
وقوله على ما مر إشارة إلى قوله: والمصحح الإعتاق هو الملك الكامل، وهذا أقرب،(8/322)
ويتصدق بما زاد على نصف الثمن؛ لأنه لم يدخل في ضمانه أو فيه شبهة عدم الملك. قال: فإن باعه المشتري من آخر ثم أجاز المولى البيع الأول لم يجز البيع الثاني لما ذكرنا، ولأن فيه غرر الانفساخ على اعتبار عدم الإجازة في البيع الأول والبيع يفسد به، بخلاف الإعتاق عندهما لأنه لا يؤثر فيه الغرر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: أي أقرب من الوجه الذي ذكره في النهاية. ووجه الأقربية ما ذكرناه، وهو الذي ذكره الشراح.
م: (ويتصدق) ش: أي المشتري من الغاصب م: (بما زاد) ش: من أرش اليد م: (على نصف الثمن) ش: لأن أرش اليد الواحدة في المرء نصف الدية، وفي العبد نصف القيمة والذي دخل في ضمان المشتري بمقابلة اليد المقطوعة نصف الثمن وما زاد عليه لم يدخل في ضمانه فكان ربح ما لم يضمن فيتصدق بالفضل وهو حاصل معنى قوله: م: (لأنه لم يدخل في ضمانه) ش: أي لأن ما زاد على نصف الثمن لم يدخل في ضمان المشتري م: (أو فيه شبهة عدم الملك) ش: تعليل آخر، أي أو في أخذ الأرش بعد القبض شبهة عدم الملك، لأن الملك يثبت يوم القطع مستندا إلى وقت البيع وهو ثابت من وجه دون وجه فيكون فيه شبهة عدم الملك فلا يطيب الربح الحاصل به. وقال الأترازي: وفيه نظر؛ لأنه إذا كان بشبهة العدم اعتبار ينبغي أن يتصدق بجميع الأرش لا بالنظر وحده، انتهى.
قلت: كان ينبغي ألا يتصدق بشيء بالنظر إلى ثبوت الملك من كل وجه ولكن لما كان غير ثابت من كل وجه يتصدق بالربح فقط بالنظر إلى عدم ثبوت الملك من كل وجه.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (فإن باعه المشتري من آخر) ش: أي فإن باع المشتري من الغاصب العبد من شخص آخر م: (ثم أجاز المولى البيع الأول لم يجز البيع الثاني لما ذكرنا) ش: أي بالإجازة يثبت للبائع ملك بات، والملك البات إذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله م: (ولأن فيه) ش: أي في البيع الثاني م: (غرر الانفساخ على اعتبار عدم الإجازة في البيع الأول والبيع يفسد به) ش: أي بالغرر ولورود النهي عن بيع فيه غرر.
قيل: هذا التعليل شامل لبيع الغاصب من مشتريه وبيع الفضولي أيضا؛ لأنه يحتمل أن يجيز المالك بيعها وأن لا يجيز، ومع ذلك انعقد بيع الغاصب والفضولي موقوفا. وأجيب: بأن غرر الانفساخ في بيعهما عارضه النفع الذي يحصل للمالك المذكور فيما تقدم، فبالنظر إلى العذر يفسد وبالنظر إلى النفع وعدم الضرر يجوز فقلنا بالجواز الموقوف عملا بهما.
م: (بخلاف الإعتاق عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- حيث ينفذ إعتاق المشتري من الغاصب بعد الإجازة على قولهما م: (لأنه) ش: أي لأن الإعتاق م: (لا يؤثر فيه الغرر) ش: بدليل أن المشتري لو أعتق المبيع قبل القبض يجوز، ولو باعه لا يجوز، وقد(8/323)
قال: فإن لم يبعه المشتري فمات في يده أو قتل، ثم أجاز البيع لم يجز؛ لما ذكرنا أن الإجازة من شرطها قيام المعقود عليه وقد فات بالموت، وكذا بالقتل إذ لا يمكن إيجاب البدل للمشتري بالقتل، حتى يعد باقيا ببقاء البدل؛ لأنه لا ملك للمشتري عند القتل ملكا يقابل بالبدل، فيتحقق الفوات، بخلاف البيع الصحيح؛ لأن ملك المشتري ثابت فأمكن إيجاب البدل له فيكون المبيع قائما بقيام خلفه.
قال: ومن باع عبد غيره بغير أمره، وأقام المشتري البينة على إقرار البائع أو رب العبد أنه لم يأمره بالبيع، وأراد رد البيع لم تقبل بينته؛ للتناقض في الدعوى، إذ الإقدام على الشراء إقرار منه بصحتة، والبينة مبنية على صحة الدعوى. وإن أقر البائع بذلك عند القاضي بطل البيع إن طلب المشتري ذلك؛ لأن التناقض لا يمنع صحة الإقرار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
روي عن أبي حنيفة أنه يتوقف البيع كما يتوقف الإعتاق.
م: (قال) ش: أي المصنف، لأن محمدا لم يذكر هذه المسألة في " الجامع الصغير "، ولكن الشراح ذكروها، وصاحب " الهداية " ذكرها تفريعا كما ذكرها الشراح م: (فإن لم يبعه المشتري) ش: أي المشتري من الغاصب م: (فمات) ش: أي العبد م: (في يده) ش: أي في يد المشتري م: (أو قتل ثم أجاز) ش: أي المالك م: (البيع) ش: أي بيع الغاصب م: (لم يجز) ش: بالاتفاق م: (لما ذكرنا أن الإجازة من شرطها قيام المعقود عليه وقد فات بالموت، وكذا بالقتل إذ لا يمكن إيجاب البدل للمشتري بالقتل حتى يعد باقيا ببقاء البدل؛ لأنه لا ملك للمشتري عند القتل ملكا يقابل بالبدل فيتحقق الفوات. بخلاف البيع الصحيح) ش: يعني البيع الصحيح إذا قتل العبد قبل القبض يمكن إيجاب البدل للمشتري م: (لأن ملك المشتري ثابت فأمكن إيجاب البدل له فيكون المبيع قائما بقيام خلفه) ش: وهو القيمة والمشتري بالخيار فإن اختار البدل كان البدل له.
[باع عبد غيره بغير أمره]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع عبد غيره بغير أمره) ش: صورته في " الجامع " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل باع عبد رجل بغير أمر صاحبه فقال المشتري: أرد البيع لأنك بعتني بغير أمر صاحبه وجحد البائع ذلك م: (وأقام المشتري البينة على إقرار البائع أو رب العبد) ش: أي وأقام البينة على رب العبد م: (أنه لم يأمره بالبيع وأراد رد البيع لم تقبل بينته للتناقض في الدعوى) ش: لأن صحة البينة عند صحة الدعوى، وهنا بطلت الدعوى م: (إذ الإقدام) ش: أي لأن إقدام المشتري م: (على الشراء إقرار منه بصحته) ش: أي صحة الشراء وأن البائع ملك البيع م: (والبينة مبنية على صحة الدعوى) ش: والدعوى غير صحيحة لما قلنا.
م: (وإن أقر البائع بذلك) ش: أي بأنه باعه بغير أمره عند القاضي أو عند غير القاضي إلا أن البينة تختص بمجلس القاضي فلهذا ذكر م: (عند القاضي بطل البيع إن طلب المشتري ذلك) ش: أي إبطال البيع م: (لأن التناقض لا يمنع صحة الإقرار) ش: ألا ترى أن من أنكر شيئا ثم أقر بذلك(8/324)
فللمشتري أن يساعده على ذلك فيتحقق الاتفاق بينهما، فلهذا شرط طلب المشتري. قال: وذكر في الزيادات أن المشتري إذا صدق مدعيه ثم أقام البينة على إقرار البائع أنه للمستحق تقبل، وفرقوا أن العبد في هذه المسألة في يد المشتري، وفي تلك المسألة في يد غيره وهو المستحق، وشرط الرجوع بالثمن أن لا يكون العين سالما للمشتري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صح إقراره، إلا أن الإقرار حجة قاصرة نافذ في حق الغير خاصة م: (فللمشتري أن يساعده على ذلك) ش: أي يوافق البائع على إقراره.
فإذا ساعده م: (فيتحقق الاتفاق بينهما) ش: فينفذ عليهما م: (فلهذا) ش: أي فلأجل ذلك م: (شرط طلب المشتري) ش: حتى يكون نقضا باتفاقهما.
ثم ذكر المصنف مسألة الزيادات نقضا على مسألة " الجامع الصغير " بقوله م: (قال) ش: أي المصنف م: (وذكر في الزيادات) ش: في الباب الثالث من الكتاب م: (أن المشتري إذا صدق مدعيه) ش: يوضحه رجل ادعى على المشتري بأن ذلك العبد له وصدقه المشتري في ذلك م: (ثم أقام البينة على إقرار البائع أنه) ش: أي أن البيع م: (للمستحق) ش: أي هذا المستحق م: (تقبل) ش: وإن تناقض في دعواه.
م: (وفرقوا) ش: أي المشايخ بين رواية " الجامع الصغير " والزيادات م: (أن العبد في هذه المسألة) ش: أي في مسألة " الجامع الصغير " م: (في يد المشتري) ش: فيكون سالما له فلا يثبت له حق الرجوع بالثمن مع سلامة المبيع، لأن شرط الرجوع بالثمن عدم سلامة المبيع م: (وفي تلك المسألة) ش: أي في مسألة الزيادات م: (في يد غيره) ش: أن العبد المبيع في يد غيره م: (وهو المستحق، وشرط الرجوع بالثمن أن لا يكون العين سالما للمشتري) ش: وهاهنا لم يسلم فله الرجوع لوجدان شرطه.
وقال الأترازي: ولنا في هذا الفرق نظر، لأن وضع المسألة في الزيادات أيضا في العبد في يد المشتري، ولئن قلنا: إن العبد في يد المستحق فلا نسلم أن البينة تقبل حينئذ، لأن التناقض في الدعوى موجود لا محالة كما بينا، ومبنى البينة على صحة الدعوى فلم تصح فلا تصح البينة، والأولى أن يقال: إن المشتري أقام البينة على قرار البائع أو رب العبد قبل البيع في مسألة " الجامع الصغير "، فلهذا لم تقبل البينة للتناقض وفي مسألة الزيادات أقام البينة على الإقرار بعد البيع، فلم يلزم التناقض فقبلت البينة، انتهى. وقد نقل الأكمل هذا بقوله: قيل في هذا الفرق نظر إلى آخره.
ثم قال: قال صاحب " النهاية ": ولم يتضح لي فيه شيء سوى هذه بعد أن تأملت فيه برهة من الدهر وفيه نظر، لأن التوفيق في وضع " الجامع الصغير " ممكن لجواز أن يكون المشتري أقدم(8/325)
قال: ومن باع دارا لرجل وأدخلها المشتري في بنائه لم يضمن البائع، عند أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف آخرا، وكان يقول أولا: يضمن البائع، وهو قول محمد، وهي مسألة غصب العقار، وسنبينه في الغصب إن شاء الله تعالى، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الشراء ولم يعلم بإقرار البائع لعدم الأمر، ثم ظهر له ذلك بأن قال عدول: سمعناه قبل البيع أقر بذلك ويشهدون به، ومثل ذلك ليس بمانع، وهذا الموضع موضع تأمل.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن باع دارا لرجل) ش: أي باع دار غيره بغير أمره، وفي جامع فخر الإسلام: ومعنى المسألة إذا باعها ثم اعترف بالغصب وكذبه المشتري م: (وأدخلها المشتري في بنائه) ش: يعني قبضها، وإنما قيد بهذا لأن المسألة هكذا وقعت م: (لم يضمن البائع) ش: أي قيمة الدار إن أقر أنه غصب منه م: (عند أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف آخرا، وكان يقول أولا: يضمن البائع وهو قول محمد، وهي مسألة غصب العقار، وسنبينه في الغصب) ش: أي في كتاب الغصب م: (إن شاء الله تعالى) ش: والله القادر على ذلك.
فروع: عقدان موقوفان أجيزا وتوافقا كالبيعين ثبتا، ولو تنافيا ثبت إقرارهما كالبيع والنكاح وإلا بطلا كالنكاحين. ولو اجتمع بيعان في عقد من فضوليين وأجيزا معا أخذ كل واحد النصف أو ترك، لأن كل واحد شرع في العقد على أن العبد كله له، فإذا انتصف يجوز، والبيع أحق من النكاح والإجارة والرهن، حتى لو باعه فضولي والآخر رهنه أو أجره أو زوجه فأجازهما المولى جاز البيع وبطل غيره، لأن البيع أقوى لأنه يفيد ملك الرقبة ولا كذلك غيره، والكتابة والتدبير أحق من غيرهما؛ لأنها لازمة، بخلاف غيرها، والهبة والإجارة أحق من الرهن، لأن الهبة تفيد ملك الرقبة والإجارة ملك المنفعة ولا كذلك الرهن والهبة أحق من الهبة في الدار، فإن الهبة تبطل بالشروع ويبقى البيع بلا مزاحم، وفي العبد استويا لأن الهبة مع القبض تساوي البيع في إفادة الملك، وكل واحد يأخذ بالنصب، لأن هبة المشاع فيما لا يقيم صحيحة، م: (والله أعلم بالصواب) .(8/326)
باب السلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب السلم]
[تعريف السلم]
م: (باب السلم)
ش: أي هذا باب في بيان أحكام السلم. ولما فرغ من أنواع البيع التي لا يشترط فيها قبض العوضين أو أحدهما شرع في بيان ما يشترط فيه ذلك وقدم السلم على الصرف لكون الشرط فيه قبض أحد العوضين فهو منزلة المفرد من المركب، والمفرد مقدم.
وقال الكاكي: والهمزة فيه للسلب، أي أزال سلامة الدراهم بالتسليم إلى مفلس في مؤجل، أو هو من التسليم، لأن تسليم رأس المال فيه لازم، وفيه تأمل.
وفي " الإيضاح " السلم لغة عبارة عن الاستعجال والسلم والسلف، بمعنى واحد وخص هذا النوع بهذا الاسم، لأن شرعيته كانت لمعنى يخص رأس المال وهو استعجاله وتحصيله قبل وجود المبيع، لأن الحاجة إليه.
وقيل: سمي به لكون معجلا على وقته، فإن أوان البيع عند وجود المبيع المعقود عليه في ملك العاقد، والسلم عادة إنما يكون فيما ليس بموجود في ملكه فيكون معجلا على وقته، وكذا في " الكافي ".
وقال: "صاحب التحفة ": السلم عقد يثبت الملك في الثمن عاجلا. وفي الثمن آجلا يسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فيه من تسليم رأس المال للحال. وفي عرف الشرع عبارة عن هذا أيضا مع زيادة شرائط ورد الشرع بها لم يعرفها أهل اللغة.
وقال الأكمل: السلم في اصطلاح الفقهاء أخذ عاجل، ورد بأن السلعة إذ بيعت بثمن مؤجل وجد فيه هذا المعنى وليس بسلم، ولو قبل بيع آجل بعاجل لاندفع ذلك، وكذا قال الأترازي: فمن هذا عرفت قسما. وما قيل في بعض الشروح أن السلم أخذ عاجل بآجل، لأن السلعة إذا بيعت بثمن مؤجل يوجد هذا المعنى وليس بسلم، انتهى.
قلت: في كلام الأكمل نسبة الفقهاء إلى الخطأ. وفي كلام الأترازي نسبة بعض الشراح إليه ولا ينبغي هذا، والظاهر أنه لم يقل هذا هكذا أحد منهم، وإنما هذا وقع هكذا تحريفا من النساخ الجهلة، فاستمر النقل على هذا التحريف، وإنما قالوا: السلم أخذ آجل بعاجل فلا يرد عليه شيء.
وركن السلم الإيجاب والقبول بأن يقول رجل لآخر: أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة، أو قال أسلفت وقال الآخر: قبلت، ويسمى صاحب الدراهم رب السلم والمسلم أيضا، ويسمى الآخر المسلم إليه والحنطة المسلم فيه.(8/327)
السلم عقد مشروع بالكتاب، وهو آية المداينة، فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن الله أحل السلف المضمون، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولو قال المسلم إليه لآخر: بعت منك كر حنطة هكذا وذكر شرائط المسلم ينعقد أيضا، لأن السلم نوع بيع وشرائطه تذكر عند قوله: ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبعة شرائط، وحكمه ثبوت الملك لرب السلم في المسلم فيه مؤجلا بمقابلة ثبوت الملك في رأس العين أو الموصوف للمسلم إليه معجلا بطريق الرخصة دفعا لحاجة الناس.
[مشروعية السلم]
م: (السلم عقد مشروع بالكتاب، وهو آية المداينة) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282) ، وهي أطول آية في القرآن يعني إذا تداينتم بدين مؤجل أي مؤجل إلى أجل مسمى فاكتبوه، وفائدة قوله مسمى الإعلام بأن من حق الأجل أن يكون معلوما، ومعنى تداينتم بدين إذا تداين بعضكم بعضا، يقال: داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا كما تقول بايعته إذا بعته أو باعك.
م: (فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن الله أحل السلف المضمون، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] (البقرة: الآية 282)) ش: هذا رواه الحاكم في مستدركه في تفسير سورة البقرة عن أيوب عن قتادة عن أبي حسام الأعرج عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] الآية، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وكذلك رواه الشافعي في مسنده ومن طريقه رواه البيهقي في المعرفة ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما وقال مخرج الأحاديث: ورأيت بعض مصنفي زماننا أسندوا هذا الحديث إلى البخاري وهو غلط ولم يخرج البخاري في صحيحه لأبي حسان الأعرج شيئا واسمه مسلم.
قوله: أحل السلف المضمون أي المؤجل، وهذا جاء في رواية أخرى أنه تعالى أحل السف المؤجل، وقيل إن السلف الواجب في الذمة.
وقوله: المضمون صفة السلف والسلف متميز لا مميز كما في قَوْله تَعَالَى: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وكقولهم الحبشي الأسود والكافور الأبيض، وهذا لأن المسلم فيه واجب في الذمة لا(8/328)
وبالسنة، وهو ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه. ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المسلم فيه هو المبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
محالة.
وقيل مميزه لأن السلف يطلق أيضا على معنى آخر يقال: سلف الرجل آباءه الأقدمين. قوله: وأنزل فيه وفي بعض النسخ وأنزل فيها، وكذا في نسخة شيخي العلاء. وقال الأترازي: في السلف وإنما أنث الضمير على تأويل المداينة، ومثل ذلك حاكما روى صاحب " الجمهرة " عن أبي حاتم الأصمعي قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابيا يمانيا يقول: لفلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت: أتقول جاءته كتابي؟ فقال أليس بصحيفة؟ فقلت له ما اللغوب؟ قال: الأحمق.
م: (وبالسنة) ش: هو عطف على قوله بالكتاب، أي ومشروع بالسنة م: (وهو ما روي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» ش: هذا غريب بهذا اللفظ. وقوله ورخص في السلم من تمام الحديث لا من كلام المصنف.
وقال الكاكي: هذا نقل الحديث بالمعنى، ولفظ الحديث "لا «تبع ما ليس عندك» . والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رووه بهذا اللفظ، والمراد بما ليس عندك ما ليس في ملكه، فإنه لو كان في ملكه يجوز وإن لم يكن حاضرا إذا كان المشتري رآه قبل ذلك، انتهى. قلت: الظاهر أن هذا الحديث مركب من حديثين فحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا تبع ما ليس عندك» . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما الرخصة في السلم فأخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي المنهال «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» .
م: (والقياس وإن كان يأباه) ش: أي السلم أي جوازه م: (ولكنا تركناه) ش: أي القياس م: (بما رويناه) ش: وهو الحديث الذي ذكرنا الآن م: (ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المسلم فيه هو المبيع) ش: وفي أكثر النسخ إذ المبيع هو المسلم فيه وهو معدوم وبيع موجود غير مملوك أو مملوك غير مقدور التسليم لا يصح، فبيع المعدوم أولى وأجدر وانعقد الإجماع على جوازه باعتبار الحاجة والضرورة.(8/329)
قال: وهو جائز في المكيلات والموزونات لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير؛ لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا، فلا يصح السلم فيها. ثم قيل: يكون باطلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه يحتاج إليه الفقير والغني لأنه ربما لا يكون عنده عين مال يبيعها وينفق على نفسه فيحتاج إلى أخذ السلم والغني يحتاج إلى أن ينفق على نفسه وعياله، فيحتاج إلى الاسترباح والاسترباح يحصل بهذا الطريق أكثر مما يحصل بشراء الأعيان، لأن الأعيان تشترى بمثل والدين بأقل يأكل منه فجوز باعتبار الحاجة.
[السلم في الدراهم والدنانير]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وهو) ش: أي السلم م: جائز في المكيلات) ش: يعني في كل كيلي م: والموزونات) ش: يعني في كل وزني م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن المنهال قال: سمعت ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الحديث، وقد مضى الآن، ورواه أحمد في مسنده بلفظ «فلا يسلف إلا في كيل معلوم» .
قال البيهقي: قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معناه إذا أسلف أحدكم في كيل فليسلف في كيل معلوم وإن أسلف فليسلف في وزن معلوم، وإذا سمى أجلا فليسلم أجلا معلوما.
م: (والمراد) ش: أي مراد القدوري في قوله م: (بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان، والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا) ش: لكونه مبيعا م: (فلا يصح السلم فيهما) ش: أي في الدراهم والدنانير، صورته أن يسلم عشرة أذرع من الكرباس وغيره من المكيل والموزون في عشرة دراهم أو دنانير، أما لو أسلم عشرة دراهم في عشرة دنانير لا يجوز بالإجماع؛ لأنه ربا.
واختلف المشايخ في السلم في الدراهم والدنانير، أشار المصنف إلى بيانه بقوله م: (ثم قيل يكون باطلا) ش: أي يكون السلم باطلا، وهو قول عيسى بن أبان.
وقال الكاكي: هذا الاختلاف فيما إذا أسلم الحنطة أو غيرها من المعروض.
وفي " المبسوط " لو أسلم الحنطة في الذهب والفضة لا يجوز عندنا، وعند الشافعي في القدر يجوز، وبه قال مالك بناء على أن النقد يصلح أن يكون مبيعا عنده، ولكن ذكر في كتبهم أنه يصح مطلقا ويذكر ستة أوصاف، النوع واللون والجودة وأنه حديث أو عتيق وصغار أو كبار، وعندنا لا يصح.(8/330)
وقيل: ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني، والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك.
قال: وكذا في المذروعات؛ لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل ينعقد بيعا) ش: وهو قول أبي بكر الأعمش فعنده ينعقد بيعا م: (بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان، والعبرة في العقود للمعاني) ش: لا للألفاظ م: (والأول) ش: وهو قول عيسى بن أبان م: (أصح لأن التصحيح) ش: أي تصحيح العقد م: (إنما يجب في محل أوجبا) ش: أي البائع والمشتري م: (العقد فيه) ش: وهو الدراهم والدنانير م: (ولا يمكن ذلك) ش: أي تصحيحه في محل آخر؛ لأنهما لم يوجبا العقد فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وكذا) ش: أي يجوز م: (في المذروعات) ش: ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة م: (لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع) ش: أي طولا وعرضا م: (والصفة والصنعة، ولا بد منها) ش: أي من الصفات الثلاث م: (لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم) ش: والتفاوت اليسير بعدها غير معتبر لأنه لا يفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم.
وفي " المجتبى " والقياس أن لا يجوز السلم في المذروعات كالثياب والحصر والبواري لتعذر قبولها في الذمة، ولهذا لا يضمن بالمثل بالاستهلاك كالجواهر، لكن ترك ذلك بإجماع الفقهاء، انتهى.
وقيل ألحقت المذروعات بالمكيلات والموزونات بدلالة النص، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أسلم منكم.. الحديث يقتضي الجواز في المكيلات والموزونات باعتبار التسوية في التسليم على ما وصف في المسلم فيه، والتسوية تتحقق في المذروعات فيجوز إلحاقها بهما بطريق الدلالة.
فإن قيل: إنما يجوز العمل بالدلالة إذا لم يعارضه عبارة النص، وهاهنا عبارة قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا تبع ما ليس عندك» نافية لإلحاقها بهما، لأن تلك العبارة لما خصصت بالكيلي والوزني بالحديث انحصر الجواز فيهما وبقي ما وراءهما تحت نفي عبارة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لا تبع ... الحديث، والمذروع فيما وراءهما فلا يصح العمل بالدلالة.
قلنا: هذا الذي ذكرته حجة عليك، لأن العام من الكتاب إذا خص منه البعض لا يبقى الباقي حجة أصلا عند الكرخي، فيكف في السنة؟!، وعلى القول المختار إن بقي حجة ولكن مرتبته دون مرتبة القياس وخبر الواحد ولا شك أن دلالة النص أقوى من القياس وخبر الواحد، فلم يكن ذلك العام معارضا للدلالة، فبقيت الدلالة سالمة عن المعارض فيجوز السلم في(8/331)
وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض؛ لأن العددي المتقارب معلوم، مضبوط الوصف، مقدور التسليم، فيجوز السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت،
بخلاف البطيخ والرمان؛ لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا، وتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي المتفاوت. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المذروعات والعدديات الثابت بها مساويا لما ثبت بالنص أو أقوى. وفي " الإيضاح " جواز السلم في الثياب بطريق الاستحسان؛ لأنها مصنوع العبد، والعبد يصنع بالآلة، فإذا اتخذ الآلة والصانع يتخذ المصنوع فلا يبقى بعد ذلك إلا قليل تفاوت، وذا يحتمل في المعاملات دون الاستهلاكات، ألا ترى أن الأب إذا باع مال ولده الصغير بغبن يسير كان متحملا، ولو استهلك شيئا يسيرا يجب عليه ضمانه.
م: (وكذا) ش: أي وكذا يجوز السلم م: (في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض؛ لأن العددي المتقارب) ش: وهو ما لا يتفاوت آحادها بالقيمة ويضمن بالمثل م: (معلوم مضبوط الوصف، مقدور التسليم، فيجوز السلم فيه، والصغير والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت) ش: فإن المسامحة تجري فيما بينهم في صغيره وكبيره، فإنك لا ترى جوزة بفلس وجوزة بفلسين، وإنما تفاوت إذا عد في المالية وذلك التفاوت يفوت بذكر النوع، ولهذا جوزوا السلم في الباذنجان والكاغد عددا، وبه قال الشافعي، وفي " شرح الطحاوي " صغير البيض وكبيره سواء بعد إن كان من جنس واحد.
وقال الشافعي: يجوز السلم في كل المعدودات المتقاربة والمتفاوت وزنا وهل يجوز كيلا له، فيه وجهان.
وقال في الجوز واللوز: يجوز وزنا ولا يجوز كيلا، وقال الأوزاعي: في العدديات المتفاوت وبه مثل مذهبنا واسمه عبد الرحمن بن عمرو. وفي " وجيز الشافعية " ولا يكفي العد في المعدودات، بل لا بد من ذكر الموزون.
م: (بخلاف البطيخ والرمان؛ لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا) ش: فإنك ترى بطيخا بدرهم وبطيخا بدرهمين، وبين الضابط في معرفة العددي المتفاوت عن المتفاوت بقوله م: (وتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي المتفاوت) ش: أي بتفاوت آحاد العددي في المالية دون الأنواع يعرف العددي المتفاوت وهو المروي عن أبي يوسف.
وأيد ذلك بقوله م: (وعن أبي حنيفة أنه) ش: أي أن السلم م: (لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية) ش: وقال الأترازي: وتفسير العددي المتفاوت ما نقل عن أبي يوسف ما(8/332)
ثم كما يجوز السلم فيه عددا يجوز كيلا. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز كيلا؛ لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت. ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما. وكذا في الفلوس عددا. وقيل: هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز لأنها أثمان. ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا، وقد ذكرناه من قبل.
ولا يجوز السلم في الحيوان، وقال الشافعي: يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اختلف آحاده في القيمة واختلف أجناسه فلا يجوز السلم فيه وذلك كالدر والجواهر واللآلئ والأدم والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والبطيخ والسفرجل ونحوها، إلا إذا بين من جنس الجلود والأدم والخشب والجذع شيئا معلوما وطولا معلوما وغليظا معلوما وأتى بجميع شرائط السلم والتحق بالمتقاربة يجوز، وكذا السلم في الجوالق والغدائر كذا في " التحفة ".
وقال الكاكي والحد الفاصل بين التفاوت والمتقارب أن ما كان مستهلكة بالمثل يكون متقاربا وبالقيمة يكون متفاوتا.
م: (ثم كما يجوز السلم فيه) ش: أي في العددي المتقارب م: (عددا) ش: أي من حيث العدد م: (يجوز كيلا) ش: أي من حيث الكيل م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز كيلا؛ لأنه عددي وليس بمكيل. وعنه) ش: أي وعن زفر م: (أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت) ش: في الآحاد.
م: (ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل، وإنما صار معدودا بالاصطلاح فيصير مكيلا باصطلاحهما) ش: أي باصطلاح المتعاقدين، فلا يفضي إلى المنازعة في التسليم والتسلم م: (وكذا) ش: أي كذا يجوز السلم م: (في الفلوس عددا) ش: أي من حيث العدد، وهو ظاهر الرواية م: (وقيل هذا) ش: أي الجواب م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز؛ لأنها أثمان) ش: والثمن في السلم لا يجوز.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن الثمنية في حقهما) ش: أي في حق المتعاقدين م: (باصطلاحهما) ش: لعدم ولاية الغير عليهما م: (فيبطل باصطلاحهما) ش: أي ولهما إبطال اصطلاحهما، فإذا بطلت الثمنية بقي مثمنا يتعين بالتعيين فجاز السلم م: (ولا تعود وزنيا) ش: هذا رد لقول محمد أنها بعد الكساد تعود وزنيا لأنها قطع صغار موزونة م: (وقد ذكرناه من قبل) ش: أي في باب الربا في مسألة بيع الفلس بالفلسين.
[السلم في الحيوان]
م: (ولا يجوز السلم في الحيوان) ش: سواء كان دابة أو رقيقا، وبه قال الثوري والأوزاعي م: (وقال الشافعي: يجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد إلا في الخلفات، فإن الخلفة اسم لمجهول الحال(8/333)
لأنه يصير معلوما ببيان الجنس والسن والنوع والصفة والتفاوت بعد ذلك يسير فأشبه الثياب. ولنا أن بعد ذكر ما ذكر يبقى فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة فيفضي إلى المنازعة، بخلاف الثياب؛ لأنه مصنوع العباد، فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال واحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولمعاد الحيوان المطلق بلا صفة، فيجوز بالاتفاق.
قلت: الخلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وبالفاء الحامل من النوق، ويجمع على خلفات وخلائف، وقد خلفت إذا حملت، وأخلفت إذا حالت م: (لأنه) ش: أي لأن الحيوان م: (يصير معلوما ببيان الجنس) ش: بأن قال إبل م: (والسن) ش: بأن قال: بنت مخاض أو جذع أو ثني م: (والنوع) ش: بأن قال بختي أو عربي م: (والصفة) ش: بأن قال: سمين أو هزال، يعني يضبط ماليته بهذه الأربعة، والموصوف بمنزلة المرئي م: (والتفاوت بعد ذلك) ش: أي بعد بيان هذه الأربعة م: (يسير) ش: لقلته م: (فأشبه الثياب) ش: في الجواز، وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمرو بن العاص أن يشتري بعيرا ببعيرين في تجهيز الجيش إلى أجل، وأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - استقرض بكرا وقضاه رباعيا» والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض.
م: (ولنا أن بعد ذكر ما ذكر) ش: أي من الجنس والسن والنوع والصفة م: (يبقى فيه تفاوت فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنة) ش: كالصباحة والملاحة والخلق الحسن والذهن والكياسة وحسن الشهرة والهملجة في الدواب وهي معنى سهل وشدة العدو، فإنك ترى عبدين متفقين في الأوصاف المذكورة مع ذلك يساوي أحدهما ألفا والآخر ألفين، قال الشاعر:
الأدب فردا يعدل الألف زائدا ... وألف تراهم لا يساوون واحدا
وهذه معاني لا تضبط بالوصف، فبقي جهالة م: (فيفضي إلى المنازعة) ش: فلا يجوز م: (بخلاف الثياب) ش: جوابا عن قياس الشافعي السلم في الحيوان على القياس في الثياب فأجاب بأن هذا القياس غير صحيح م: (لأنه) ش: أي لأن الثياب، وتذكير الضمير باعتبار المذكور م: (مصنوع العباد فقلما يتفاوت الثوبان إذا نسجا على منوال واحد) ش: لأن العبد إنما يصنع بآلة، فإذا اتحد الصانع والآلة اتحد المصنوع، ولا يتفاوت في المالية إلا يسيرا، ولا يعتبر بذلك القدر والحيوان صنع الله تعالى.
وذلك يكون على ما يريده تعالى، فقد كان على وجه لا يوجد له نظير، وفي مثله لا يجوز السلم بالاتفاق.(8/334)
وقد صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن السلم في الحيوان» ، ويدخل فيه جميع أجناسه حتى العصافير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والجواب عن حديث عمرو بن العاص: أنه كان قبل نزول آية الربا، أو كان في دار الحرب ولا ربا بين المسلم والحربي فيها، وتجهيز الجيش وإن كان في دار الإسلام فنقل الآلات كان في دار الحرب لعزتها في دار الإسلام يومئذ.
والجواب عن الحديث الثاني: أنه لم يكن القرض ثابتا في ذمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل أنه قضاه من إبل الصدقة والصدقة حرام عليه، فكيف يجوز أن يفعل ذلك.
م: (وقد صح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السلم في الحيوان» ش: هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والدارقطني في سننه عن إسحاق بن إبراهيم بن حربي حدثنا عبد الملك الزماري حدثنا سفيان الثوري عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السلف في الحيوان» وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال ابن حبان: إسحاق بن إبراهيم منكر الحديث جدا يأتي عن الثقات بالموضوعات لا يحل كتب حديثه إلا على وجهة التعجب م: (ويدخل فيه) ش: أي في قوله في الحيوان م: (جميع أجناسه) ش: أي أجناس الحيوان م: (حتى العصافير) ش: أي حتى يدخل العصافير أيضا، لا يقال النهي عن الحيوان في الوصف والمتنازع فيه هو الموصوف منه فلا يتصل محل النزاع، لأنا نقول إن محمد بن الحسن قد فسر هذا الحديث في أول كتاب المضاربة أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دفع مالا مضاربة إلى زيد بن خليدة فأسلمها زيد إلى عتريس بن عرقوب في قلائص معلومة.
وقال ابن مسعود: اردد مالنا، لا نسلم أموالنا في الحيوان، فعلم أن عدم جواز السلم في الحيوان لم يكن فيه باعتبار ترك الوصف، لأن القلائص كانت معلومة، فكان المنع لكونه حيوانا لا يقال في كلام المصنف تسامح، لأن الدليل المذكور بقوله: ولنا منقوض بالعصافير، لأن ذكر ذلك لم يكن من حيث الاستدلال على المطلوب، بل من حيث جواب الخصم، وأما الدليل على ذلك فهو السنة.
فإن قلت: السلم في الحيوان إنما لا يصح لتفاوت يعتبره الناس والتفاوت من العصافير غير معتبر، فينبغي أن يجوز السلم فيها.(8/335)
قال: ولا في أطرافه كالرؤوس والأكارع للتفاوت فيها، إذ هو عددي متفاوت لا مقدار لها.
قال: ولا في الجلود عددا، ولا في الحطب حزما، ولا في الرطبة جرزا للتفاوت فيها، إلا إذا عرف ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلنا: العبرة في المنصوص لعين النص لا للمعنى، والنص لم يفصل بين حيوان وحيوان، كذا في " الكافي ".
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في أطرافه) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في أطراف الحيوان م: (كالرؤوس والأكارع) ش: هو جمع كراع الشاة والبقر، ويجمع على كراع أيضا م: (للتفاوت فيها، إذ هو عددي متفاوت لا مقدار لها) ش: أي لا مقدر له لاختلافها بالصغر والكبر والسمنى والهزال، وتذكير الضمائر باعتبار المذكور، وبقولنا قال الشافعي في الأظهر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في الجلود عددا) ش: أي ولا يجوز السلم في الجلود أيضا من حيث العدد لأنها عددية، وفيها الصغير والكبير فيفضي السلم فيها إلى المنازعة ولا يتوهم أنه يجوز وزنا لقيده عددا، لأن معناه أنه عددي فحيث لم يجز عددا لم يجز وزنا بالطريق الأولى؛ لأنه لا يوزن عادة وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأظهر، وقال مالك وأحمد في قول يجوز السلم في الجلود والرؤوس والأكارع عددا أو وزنا.
وفي " الذخيرة ": ولو بين للجلود ضربا معلوما يجوز السلم فيه م: (ولا في الحطب حزما) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في الحطب من حيث الحزم وهو جمع حزمة، قال في " الجمهرة " كل شيء جمعته كالإضبارة فقد حزمته، ومنه سميت حزمة الحطب، وإنما لا يجوز لكونه مجهولا من حيث طوله وعرضه وغلظه، فإن عرف ذلك جاز، كذا في " المبسوط " م: (ولا في الرطبة جرزا) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في الرطبة من حيث الجرز بضم الجيم وفتح الراء بعدها الزاي، أي جمع جرزة وهي أي الحزمة والرطبة الاسفيست، والجمع رطاب قاله في " المغرب "، وهي التي تسميها أهل مصر برسيما.
وأهل البلاد الشمالية مسخا. وفي " الشامل ": لا خير في السلم في الرطبة لأنها تباع حزما ويجوز في القت لأنه يباع وزنا. وفي " المبسوط ": ولا يجوز أوقارا، أي أحمالا للجهالة م: (للتفاوت فيها) ش: أي لأجل التفاوت في عدد الجلود وحزم الحطب وجرز الرطبة. م: (إلا إذا عرف ذلك) ش: هذا الاستثناء متعلق بمسألة الرطبة جرزا، لأن ما بعده من كلام المصنف يدل على ذلك لا يخفى على المتأمل.
قوله: عرف يجوز فيه التخفيف والتشديد، فعلى التخفيف يكون على صيغة المجهول، ويكون قوله ذلك في محل الرفع، وهو إشارة إلى ما ذكر من الجرز. وأما على التشديد من(8/336)
بأن يبين له طول ما يشد به الحزمة أنه شبر أو ذراع، فحينئذ يجوز إذا كان على وجه لا يتفاوت.
قال: ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين المحل، حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس، أو منقطعا فيما بين ذلك لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة وله أنه على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التعريف فعلى صيغة المعلوم والفاعل فيه فهو الضمير الذي يرجع بالقرينة إلى المسلم إليه، ويجوز أن يرجع إلى رب السلم ويكون قوله ذلك حينئذ في محل النصب على أنه مفعول عرف. ثم بين المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه التعريف بقوله:
م: (بأن يبين له طول ما يشد به الحزمة) ش: وكلمة "أن" مصدرية، أي ببيان طول ما يشد به الحزمة، ولفظ يبين أيضا يحتمل الوجهين المعلوم والمجهول بحسب الوجهين المذكورين في عرف، فعلى كون عرف مجهولا يكون لفظ يبين مجهولا أيضا، وعلى كونه مشددا معلوما يكون يبين أيضا معلوما، والضمير فيه يرجع إلى رب السلم أو المسلم إليه كما ذكرنا الآن في عرف وقوله م: (أنه) ش: بفتح الهمزة بدل من قوله طول، وقوله: م: (شبر) ش: مرفوع لأن خبر أن.
وقوله م: (أو ذراع) ش: عطف عليه، وقوله م: (فحينئذ) ش: أي حين يبين طول ما يشد به الحزمة من كونه قدر شبر أو قدر ذراع م: (يجوز) ش: أي السلم م: (إذا كان) ش: أي تشدد الحزمة م: (على وجه لا يتفاوت) ش: أي بالشد، أما إذا كان يتفاوت كالشوك ونحوه فلا يجوز لإفضائه إلى المنازعة، ولم أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضوع كما ينبغي فبحمد الله حررناه كما هو المطلوب.
[وجود المسلم فيه زمان العقد وزمان المحل وفيما بينهما]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موجودا من حين العقد إلى حين المحل) ش: حاصل هذا أنه يشترط وجود المسلم فيه زمان العقد وزمان المحل وفيما بينهما م: (حتى لو كان منقطعا عند العقد موجودا عند المحل أو على العكس) ش: فإن كان موجودا عند العقد ومنقطعا عند المحل م: (أو منقطعا) ش: أي أو كان منقطعا م: (فيما بين ذلك) ش: أي فيما بين وقت العقد ووقت المحل م: (لا يجوز) ش: أي السلم عندنا ولعل المسألة أن السلم في المنقطع لا يجوز عندنا.
م: (وقال الشافعي: يجوز إذا كان موجودا وقت المحل لوجود القدرة) ش: فإنه يقول: يشترط أن يكون موجودا عند المحل فحسب، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
وقال الكاكي والشافعي: يعتبر وجوده عند المحل، ومالك عند العقد وعند المحل، ولا ينقطع الانقطاع فيما بين ذلك م: (وله) ش: أي الشافعي م: (أنه) ش: أي أن المسلم فيه م: (على(8/337)
التسليم حال وجوبه. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها» ولأن القدرة على التسليم بالتحصيل فلا بد من استمرار الوجود في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التسليم حال وجوبه) ش: وهو زمان حلول الأجل والمعجزة، قيل ذلك لا يعتبر لأنه ليس بأوان توجيه المطالبة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تسلفوا في الثمار حتى يبدو صلاحها» ش: وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي إسحاق عن رجل، قال قلت لعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... الحديث، وفي آخره: «ولا تسلفوا في نخل حتى يبدو صلاحها» انتهى.
وقال المنذري: في إسناده رجل مجهول، وذكره عبد الحق في "أحكامه " من جهة أبي داود وقال: إسناده منقطع. وأخرج الطبراني في "الأوسط " حديثا عن أبي هريرة وفي آخره «لا تسلموا في ثمرة حتى يأمن عليها صاحبها العاهة» م: (ولأن القدرة على التسليم) ش: أي على تسليم المسلم فيه م: (بالتحصيل) ش: أي تحصيل المسلم فيه م: (فلا بد من استمرار الوجود) ش: أي وجود المسلم فيه م: (في مدة الأجل ليتمكن من التحصيل) ش: ولا يقدر المسلم إليه على اكتساب المنقطع. وقول الشافعي القدرة على التسليم عند المحل موجودة. قلنا: إنما تكون القدرة حينئذ موجودة إذا بقي العاقد حيا إلى ذلك الوقت، وفي بقائه حيا شك فلا تثبت القدرة بأمر مشكوك. فإن قال: الأصل هو الحياة وما يثبت يبقى إلى أن يوجد دليل الزوال. قلنا: الأصل يعتبر لإبقاء ما كان على ما كان، والقدرة على الحال معدومة فلا يعتبر الأصل لإثبات شيء يوجد في المستقبل.
وقال الولوالجي في "فتاواه " وحد الانقطاع ما قاله الفقيه أبو بكر البلخي أن لا يوجد في سوقه الذي يخبز ويباع فيه، وإن كان قد يوجد في البيوت.
وفي " مبسوط أبي اليسر " ولو انقطع في إقليم دون إقليم لا يصح السلم في الإقليم الذي لا(8/338)
ولو انقطع بعد المحل فرب السلم بالخيار إن شاء فسخ السلم وإن شاء انتظر وجوده؛ لأن السلم قد صح والعجز الطارئ على شرف الزوال، فصار كإباق المبيع قبل القبض. قال: ويجوز السلم في السمك المالح وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم، إذ هو غير منقطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يوجد فيه؛ لأنه لا يمكن إحضاره إلا بمشقة عظيمة فيعجز عن التسليم حتى لو أسلم في الرطب ببخارى لا يجوز وإن كان يوجد بسجستان.
م: (ولو انقطع بعد المحل) ش: ذكر هذا تفريعا على مسألة القدوري، أراد أن المسلم فيه كان موجودا من وقت العقد إلى وقت المحل ثم انقطع بعد المحل، أي بعد حلول الأجل م: (فرب السلم بالخيار إن شاء فسخ السلم) ش: ويأخذ رأس المال م: (وإن شاء انتظر وجوده) ش: أي وجود المسلم فيه م: (لأن السلم قد صح) ش: ولكنه قد عجز عن التسليم م: (والعجز الطارئ على شرف الزوال) ش: فيتخير المعاقد م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كإباق المبيع قبل القبض) ش: في بقاء العقد، وبقولنا قال الشافعي في الأصح.
وقال زفر: يبطل العقد وبه قال الشافعي في قول، وهو رواية عن الكرخي: ويسترد رأس المال للعجز عن التسليم، فصار كما لو ملك المبيع قبل القبض في بيع العين، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي قوله: والعجز الطارئ عن التسليم على شرف الزوال إشارة إلى جواب زفر عن قياسه المتنازع فيه في هلاك المبيع في العجز عن التسليم وفي ذلك يبطل البيع، وكذلك هاهنا. ووجهه أن العجز عن التسليم إذا كان على شرف الزوال لا يكون كالعجز بالهلاك لأنه غير ممكن الزوال عادة، فكان القياس فاسدا.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ويجوز السلم في السمك المالح) ش: قال الكاكي: السمك المالح بالفارسية "ما هي خشك" وفي " المغرب ": سمك مليح ومملوح وهو المقدر الذي فيه ملح، ولا يقال سمك مالح إلا في لغة رؤبة، ولكن قال الشاعر.
بصرية تزوجت بصريا ... أطعمها المالح والطريا
وقال الإمام الزرنوجي: وكفى بذلك حجة للفقهاء. قلت: قال ابن دريد: سمك وملح مليح ولا تلتفتن إلى قول الآخر: أطعمها المالح والطريا، ذلك مولد لا يؤخذ بلغته. وقال في ديوان الأدب. ملح القدر طرح الملح فيها بقدر، فعلى هذا يجوز أن يقال: سمك مملوح م: (وزنا معلوما) ش: أي من حيث الوزن المعلوم م: (وضربا معلوما) ش: أي من حيث الضرب، أي النوع المعلوم م: (لأنه معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم، إذ هو) ش: أي لأن السمك م: (غير منقطع) ش: عن الوجود.(8/339)
ولا يجوز السلم فيه عددا للتفاوت. قال: ولا خير في السلم في السمك الطري إلا في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده.
قال: ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولا يجوز السلم فيه) ش: أي في السمك م: (عددا) ش: أي من حيث العدد م: (للتفاوت) ش: أي لتفاوت آحاده، فإن قيد الصغير والكبير. وقال صاحب " التحفة " فأما السلم في السمك فقد اضطربت عبارة الروايات عن أصحابنا في الأصل والنوادر.
والصحيح من المذهب أن السلم يجوز في السمك الصغار وزنا وكيلا، ويستوي فيه المالح والطري في حينه، وأما الكبار ففيه روايتان عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية يجوز كيفما كان، وفي رواية أبي يوسف في كتب " الأمالي " عنه أنه لا يجوز، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في ظاهر الرواية كما في اللحم.
وفي رواية أخرى عنهما لا يجوز، بخلاف اللحم. م: (قال: ولا خير في السلم في السمك الطري إلى في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما؛ لأنه ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده) ش: وقال محمد في " الجامع الصغير " عن يعقوب عن أبي حنيفة: لا يجوز السلم في السمك الطري، إلا أن يكون في حينه ضربا معلوما، قال الفقيه أبو الليث السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى:
قال بعض الناس: هذا الحرف خطأ يعني قوله: في حينه، لأن السمك صيد والصيد لا يكون له حين ففي كل وقت يمكن صيده، ثم قال الصحيح ما ذكره في الكتاب، لأن صفة الانقطاع أن لا يوجد في الأسواق والسمك الطري ربما يوجد في السوق، وربما لا يوجد فإن أسلم في وقت يوجد في السوق جاز السلم، وإن أسلم في وقت لا يوجد في السوق لا يجوز.
[السلم في اللحم]
م: (قال: ولا خير في السلم في اللحم) ش: أي لا يجوز السلم في اللحم م: (عند أبي حنيفة) ش: وعن العلامة شمس الأئمة الكردي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المجتهد إذا استخرج حكما بالرأي، فإن كان في حيز عدم الجواز يقول: لا خير، وإن كان في حيز الجوز يقول لا بأس تحرزا عن القطع في حكم الله تعالى بالرأي.
وفي " المبسوط " وإنما قال: لا خير لأنه مختلف في قول أبي حنيفة. وقال الأكمل: خير نكرة وقعت في سياق النفي فيفيد نفي أنواع الخبر بعمومه، ومعناه لا يجوز على وجه المبالغة.(8/340)
وقالا: إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز؛ لأنه موزون مضبوط الوصف، ولهذا يضمن بالمثل، ويجوز استقراضه وزنا، ويجري فيه ربا الفضل، بخلاف لحم الطيور؛ لأنه لا يمكن وصف موضع منه، وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، وفي مخلوع العظم لا يجوز على الوجه الثاني، وهو الأصح. والتضمين بالمثل ممنوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقالا) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد: م: (إذا وصف) ش: أي رب السلم م: (من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز) ش: يعني إذا بين جنسه ونوعه وصنفه وموضعه كشاة خصي لشيء سمين من الجنب أو الظهر مائة من ربه، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الحقائق والعيون " والفتوى على قولهما م: (لأنه) ش: أي لأن اللحم م: (موزون) ش: في عادة الناس م: (مضبوط الوصف) ش: ببيان هذه الأشياء. وفي " المبسوط " قيل لا خلاف بينهما وبين أبي حنيفة، بل جواب أبي حنيفة فيما إذا أطلق السلم في اللحم ومما لا يجوز أن ذلك أيضا وجوبهما فيما إذا بينا موضعا معلوما، وأبو حنيفة يجوز ذلك أيضا.
والأصح أن الخلاف ثابت وأن عنده لا يجوز السلم وإن بين موضعا معلوما، وعندهما يجوز إذا بينا موضعا معلوما م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه موزونا مضبوط الوصف م: (يضمن بالمثل) ش: في زمان العدوان إذا أتلفه الغاصب يضمن المثل وزنا وما فيه من العظم غير مانع لجوازه لأنه ثابت بأصل الخلقة كالنوى في التمر، وهكذا يجوز السلم في الألية وإن كانت لا تخلو عن أدنى عظم، ويجوز السلم في الشحم والألية بالإجماع؛ لأنه موزون معلوم الوصف م: (ويجوز استقراضه) ش: أي استقراض اللحم م: (وزنا) ش: أي من حيث الوزن م: (ويجري فيه ربا الفضل) ش: بعلة الوزن م: (بخلاف لحم الطيور) ش: فإنه لا يجوز السلم فيه م: (لأنه لا يمكن وصف موضع منه) ش: لقلة لحمه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة م: (أنه) ش: أي أن اللحم م: (مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته) ش: فيؤدي إلى المنازعة م: (أو في سمنه) ش: أي أو للتفاوت في سمنه م: (وهزاله) ش: لأن هذا يختلف م: (على اختلاف فصول السنة) ش: وبقلة الكلأ وكثرته م: (وهذه الجهالة) ش: أشار به إلى الجهالة في الوجهين م: (مفضية إلى المنازعة) ش: والمفضي إلى المنازعة مانع م: (وفي مخلوع العظم لا يجوز على الوجه الثاني) ش: وهو وجه السمن والهزال.
قال صاحب " المختلف " وهو رواية أبي شجاع عن أبي حنيفة م: (وهو الأصح) ش: أي وهذا هو الأصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون الحكم حلالا بعلتين ولا يلزم من انتفاء إحدى العلتين انتفاء الحكم م: (والتضمين بالمثل ممنوع) ش: هذا جواب عن قولهما، ولهذا يضمن بالمثل بالمنع وبعد التسليم، فالمثل أعدل من القيمة، لأن فيه رعاية الصورة والمعنى.(8/341)
وكذا الاستقراض، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة؛ ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفى به.
قال: ولا يجوز السلم إلا مؤجلا. وقال الشافعي: يجوز حالا لإطلاق الحديث ورخص في السلم. ولنا وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلى أجل معلوم» فيما روينا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الإمام ظهير الدين كان: والذي يقول: إن كان اللحم نضيجا فهو من ذوات القيم وإن كان نيئا ففيه روايتان. وذكر في الجامع الكبير ولو أن رجلا غصب من رجل لحما فشواه ثم جاء إنسان واستحق ذلك لا يسقط ضمان الغصب، وكان للمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم.
وقال الشيخ أبو المعين النسفي في شرح "الجامع الكبير " قول محمد في هذه المسألة كان للمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم، نص على أن اللحم مضمون بالقيمة دون المثل ولا توجد الرواية أنه من ذوات القيم وليس بمثلي إلا في هذا الموضع، يعني في " الجامع الكبير "، ولهذا قال صاحب " الفتاوى الصغرى " تضمين اللحم بالمثل قولهما، ثم قال: ورأيت وسط غصب المنتفى روى أبو يوسف عن أبي حنيفة إذا استهلك لحما كان عليه قيمته.
م: (وكذا الاستقراض) ش: أي ممنوع أيضا وزنا م: (وبعد التسليم) ش: أي وبعد تسليم الجواز في التضمين بالمثل م: (فالمثل أعدل من القيمة) ش: لأن الأصل في ضمان العدلان الماثلة في مثل الشيء صورة ومعنى، فيكون أعدل من القيمة لأنها مثل معنى لا صورة م: (ولأن القبض) ش: يعني في الاستقراض م: (يعاين) ش: فيقبض حالا فترتفع الجهالة فلا تفضي إلى المنازعة، وهو معنى قوله م: (فيعرف مثل المقبوض به في وقته) ش: لأن القبض محسوس معاين م: (أما الوصف فلا يكتفى به) ش: أي السلم يقع على الموصوف في الذمة، ولا يكتفى بالوصف عند العقد حيث لا يعرف الموجود عند المحل، فلا يكتفى به لبقاء الجهالة المفضية إلى المنازعة.
[السلم بغير أجل]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز السلم إلا مؤجلا) ش: يعني السلم الحال وهو السلم بغير أجل، لا يجوز عندنا، وبه قال مالك وأحمد م: (وقال الشافعي: يجوز حالا) ش: وفي بعض النسخ وقال الشافعي: يجوز أي السلم بدون الأجل، وبه قال عطاء وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وصورة السلم الحال أن يقول: أسلمت عشرة في كر حنطة ولم يذكر الأجل م: (لإطلاق الحديث) ش: وهو ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان» م: (ورخص في السلم) ش: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز السلم مطلقا، فاشتراط التأجيل زيادة على النص.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إلى أجل معلوم" فيما روينا) ش: يعني في أوائل الباب وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم» ، وقد مر الكلام(8/342)
ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل فيه فيسلم، ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد المرخص فبقي على النافي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه هناك. وقد شرط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأجل كما ترى.
فإن قيل: معناه من أراد سلما مؤجلا فليسلم إلى أجل معلوم، وبه نقول، والحصر ممنوع، وحينئذ لم يبق مفيدا فيحمل عليه المطلق، والدليل على ذلك قوله: في كيل معلوم ووزن معلوم فإنه لا يجوز اجتماع الكيل والوزن في شيء واحد، فكان معناه في كيل معلوم إن كان كيليا، ووزن معلوم إن كان وزنيا فيقدر إلى أجل معلوم إن كان مؤجلا.
فالجواب: أن قضية العقد كفت مؤنة التمييز، فلا حاجة إلى التقدير؛ لأنه خلاف الأصل سلمناه، ولكن لا يلزم من تحمل المحذور لضرورة تحمله ولا لضرورة في التقدير في الأجل لا يقال العمل بالدليلين ضرورة فيتحمل التقدير لأجله، لأن قوله: رخص في السلم يدل على جوازه بطريق الرخصة وهي إنما تكون لضرورة ولا ضرورة في السلم الحال، على أن سوق الكلام لبيان شروط السلم لا لبيان الأجل فليتأمل.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن السلم م: (شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من الأجل ليقدر) ش: أي المسلم إليه م: (على التحصيل) ش: أي تحصيل المسلم فيه م: (فيه) ش: أي فيه الأجل الذي عيناه ليحصل م: (فيسلم) ش: أي المسلم فيه م: (ولو كان قادرا على التسليم) ش: في الحال لم يوجد المرخص، لأن الرخصة شرعت لعذر مع قيام المانع وهو بيع المعدوم والعذر هو العجز عن التسليم، ولو قدر على تسليمه م: (لم يوجد المرخص) ش: فيه وهو عجز المسلم إليه م: (فبقي على النافي) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تبع ما ليس عندك» .
فإن قيل: لو كانت شرعية السلم دفعا لحاجة المفاليس لكان اختص بحالة الإفلاس؛ لأنه ثبت على خلاف القياس فيقتصر عليه وليس كذلك، ألا ترى أنه يجوز بيع الحنطة سلما وعنده أكرار حنطة.
قلنا: إن الشيء لا يباع سلما إلا بأدنى الثمنين والتاجر لا يبيع إلا للربح، فذاك البيع بأدنى التمييز على أنه لا يبيع إلا للعجز عن الربح ولا عجز إلا بأن يجعل ما عنده مستغرقا لحاجته، ولأن حقيقة العدم أمر باطني لا يمكن الوقوف عليه حقيقة، والشرع بنى هذه الرخصة على العدم، فيبني على السبب الظاهر الدال على العدم ليمكننا تعليق الحكم به والبيع بالخسران دليل العدم. والجواب عن الحديث الذي استدل به الشافعي أنه يدل على جواز السلم بطريق الرخصة والضرورة، ونحن نقول به، ولكن لا ضرورة في سلم الحال لأنه إن كان قادرا انتفت الضرورة وإن لم يكن قادرا انتفى الغرض والمقصود.(8/343)
قال: ولا يجوز إلا بأجل معلوم لما روينا، ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع والأجل أدناه شهر، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: أكثر من نصف اليوم، والأول أصح.
قال: ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه، معناه إذا لم يعرف مقداره؛ لأنه يتأخر فيه التسليم فربما يضيع فيؤدي إلى المنازعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: معاوضة محضة فلا يكون التأجيل فيها شرطا كما في بيوع الأعيان.
قلت: يبطل ذلك بالكتابة عند الخصم، فإنه يشترط الأجل فيها ويبطل أيضا بالسلم المعدوم. م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يجوز) ش: أي السلم م: (إلا بأجل معلوم لما روينا) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسلم منكم ... الحديث، وفيه إلى أجل معلوم وقد مر في أوائل الباب، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال مالك: يجوز الأجل إلى الحصاد لعدم إفضائه إلى المنازعة غالبا م: (ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع) ش: فيفسد العقد بها م: (والأجل أدناه شهر) ش: قال صاحب " التحفة ": لا رواية عن أصحابنا في المبسوط في مقدار الأجل، واختلفت الروايات عنهم، والأصح ما روي عن محمد أنه مقدر بالشهر؛ لأنه أدنى الأجل وأقصى العاجل م: (وقيل ثلاثة أيام) ش: أي أدنى المدة ثلاثة أيام، وهو قول الشيخ أبي جعفر أحمد بن أبي عمران الشيخ الطحاوي اعتبارا للأجل الذي ورد الشرع بتقديره بثلاثة أيام، وهو رواية عن محمد.
وفي " شرح المجمع " وهذا ليس بصحيح، لأن الثلاث هناك أقصى المدة وأدناه غير مقدر، وهكذا في الإيضاح م: (وقيل أكثر من نصف اليوم) ش: وبه قال أبو بكر الرازي وبعض أصحاب زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المعجل ما كان مقبوضا في المجلس والمؤجل ما يتأخر قبضه عن المجلس ولا يبقى المجلس بينهما في العادة أكثر من نصف يوم. وفي " الذخيرة " عن الكرخي: أنه ينظر إلى مقدار المسلم فيه وإلى عرف الناس في التأجيل فيه فإن كان قدر ما أجل أحد يؤجل مثله في العرف والعادة يجوز السلم م: (والأول أصح) ش: أي تقدير أجل بشهر هو الأصح. وقال الصدر الشهيد في طريقته المطولة: والصحيح ما رواه الكرخي أنه مقدار ما يمكن فيه تحصيل المسلم فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه) ش: وقال المصنف م: (معناه إذا لم يعرف مقداره) ش: يعني إذا كان لا يعرف مقدار المكيال والذارع لا يجوز م: (لأنه يتأخر فيه التسليم) ش: أي تسليم المسلم فيه م: (فربما يضيع) ش: لجواز الهلاك فيعجز عن التسليم م: (فيؤدي إلى المنازعة) ش: وفي " شرح الطحاوي ": ولو أعلم قدره بملء هذا الإناء لم يجز إذا كان لا يدري كم يسع فيه، بخلاف بيع العين.(8/344)
وقد مر من قبل. ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان ما ينكبس بالكبس كالزنبيل والجراب لا يجوز للمنازعة إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي يوسف. قال: ولا في طعام قرية بعينها؛ أو ثمرة نخلة بعينها؛ لأنه قد يعتريه آفة فلا يقدر على التسليم، وإليه أشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حيث قال: «أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإنه إذا قال: بعت منك من هذه المصيرة بملء هذا الإناء بدرهم يجوز، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجوز بيع العين أيضا، ولا يدري كم يسع في الإناء وقيل هذا إذا كان الإناء من حديد أو خشب أو خزف أو ما أشبه ذلك فيما لا يحتمل الزيادة والنقصان.
فأما إذا كان الإناء يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجوالق والقرارة وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز بيع المعين أيضا، إلا أن أبا يوسف استحسن قرب الماء وأجازه، وإن كان يحتمل الزيادة والنقصان وهو أن يشتري من سقاء كذا كذا قربة من ماء هذه القرية وعينها جاز البيع فيه م: (وقد مر من قبل) ش: أي في أول كتاب البيوع في مسألة: ويجوز البيع بإناء معينة.
م: (ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان مما ينكبس) ش: من كبس النهر أي طمه م: (بالكبس كالزنبيل) ش: بكسر الزاي وسكون النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وباللام، ويقال: الزنبيل بدون النون كذا في بعض النسخ، وفي " المغرب " و" الصحاح ": والزنبيل، والزنبيل بالفتح بدون التشديد وبالكسر مع التشديد؛ لأنه ليس في كلام العرب فقيل بالفتح.
م: (والجراب) ش: بكسر الجيم م: (لا يجوز للمنازع إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي يوسف) ش: وقد مر بيانه الآن.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا في طعام قرية بعينها) ش: أي ولا يجوز السلم في طعام قرية بعينها لاحتمال الانقطاع عنها م: (أو ثمرة نخلة بعينها) ش: ولا يجوز السلم أيضا في ثمرة نخلة بعينها م: (لأنه قد يعتريه) ش: أي تصيبه م: (آفة فلا يقدر) ش: حينئذ م: (على التسليم، وإليه) ش: أي إلى هذا المعنى م: (أشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (حيث قال: «أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟» !) ش: هذا الموضع يحتاج إلى تحرير شاف ولم أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضع كما ينبغي.
والمصنف استدل بهذا الحديث لما ذكره القدوري وليس بمستقيم؛ لأن هذا الحديث بهذا اللفظ ورد في البيع كما أخرجه البخاري ومسلم «عن حميد عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ثمر النخل حتى تزهو. فقلت لأنس: وما زهوها، قال: تحمر وتصفر(8/345)
ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة لا بأس به على ما قالوا كالخشمراني ببخارى والبساخي بفرغانة.
قال: ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط: جنس معلوم كقولنا: حنطة أو شعير، ونوع معلوم كقولنا: سقية أو بخسية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أرأيتك إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟» ! ولم يعرف ورود هذا الحديث في السلم.
وقال الأترازي: وقال في " شرح الطحاوي ": ولا يجوز السلم في طعام من موضع بعينه؛ لأنه ورد فيه الخبر وهو ما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن السلم في ثمر فلان فقال: أما من ثمر حائط فلان فلا، أرأيت لو أذهبت الله ثمره فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟» فنهى عن ذلك، انتهى. ولم يبين من الذي رواه من الصحابة ومن الذي استخرجه من أصحاب الصحاح أو السنن، أفيرضى الخصم بذلك؟!
فإن قلت: في الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه» فهل يؤخذ بإطلاق هذا اللفظ فيدخل فيه السلم أيضا.
قلت: الظاهر أنه يصرف إلى البيع ولا يؤخذ منه السلم، لأن الروايتين أعني الأولى التي رواها حميد وهذه الرواية حديث واحد وروده في البيع. قوله: أرأيت معناه أخبرني.
م: (ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة) ش: أي لبيان أن صفة تلك الحنطة التي هي المسلم فيه مثل صفة حنطة تلك القرية المعينة لا لتعيين المكان، لأن المراد الجودة م: (لا بأس به على ما قالوا) ش: أي على ما قال المشايخ م: (كالخشمراني) ش: أي كالحنطة المنسوبة إلى الخشمران بضم الخاء وسكون الشين المعجمتين وضم الميم وبالراء وفي آخره نون، وهي قرية من قرى بخارى، ونبه عليه المصنف بقوله م: (ببخارى) ش: وبخارى مدينة مشهورة بما وراء النهر م: (والبساخي) ش: أي وكالحنطة المنسوبة إلى بساخ بكسر الباء الموحدة وبالسين المهملة وبعد الألف خاء معجمة، وهي قرية من قرى فرغانة نبه عليه بقوله م: (بفرغانة) ش: بفتح الفاء، وسكون الراء وبالغين المعجمة وبعد الألف نون مفتوحة وهاء، هي بلدة وراء الشاش، وشاش بالمعجمتين مدينة وراء جيحون.
[شروط صحة السلم]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط) ش: وفي بعض النسخ بسبعة، والأصح هو الأول م: (جنس معلوم كقولنا حنطة أو شعير) ش: والثاني م: (ونوع معلوم كقولنا سقية) ش: أي سقيته. وفي " المغرب " السقية ما يسقى سحا م: (أو بخسيه) ش: بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وكسر السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالهاء، وهي الحنطة المنسوبة إلى البخس، وهي الأرض التي تسقيها السماء لأنها مبخوسة الحظ من الماء.(8/346)
وصفة معلومة كقولنا جيد أو رديء، ومقدار معلوم كقولنا: كذا كيلا بمكيال معروف، أو كذا وزنا، وأجل معلوم. والأصل فيه ما روينا، والفقه فيه ما بينا. ومعرفة مقدار رأس المال إذا كان يتعلق العقد على مقداره كالمكيل والموزون والمعدود، وتسمية المكان الذي يوفيه فيه إذا كان له حمل ومؤنة. وقالا: لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: هو ما ذكره بقوله م: (وصفة معلومة كقولنا جيد أو رديء) ش: وأشار إلى الرابع بقوله م: (ومقدار معلوم كقولنا كذا كيلا بمكيال معروف، أو كذا وزنا) ش: وأشار إلى الخامس بقوله م: (وأجل معلوم) ش: وهذه خمسة متفق عليها، فلذلك ذكرها مقتصرا عليها ولم يذكر السادس والسابع عقيب هذه الخمسة للاختلاف فيهما، وذكرهما بعد بعض ألفاظ وبين الخلاف فيهما.
م: (والأصل فيه) ش: أي في اشتراط الشرائط المذكورة م: (ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - "من أسلم منكم" ... الحديث وقد مضى م: (والفقه فيه ما بينا) ش: أي الجهالة فيه مفضية إلى النزاع م: (ومعرفة مقدار رأس المال) ش: هذا هو الشرط السادس من الشروط السبعة التي شرطها أبو حنيفة وهو عطف على قوله: وأجل معلوم.
وقوله والأصل فيه ما رويناه: الفقه ما بينا، جمل معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وقيد بقوله م: (إذا كان) ش: أي رأس المال م: (يتعلق العقد على مقداره) ش: احترازا عما لا يتعلق العقد بمقداره كالمذروعات، فإنه يجب فيه بيان مقداره عند أبي حنيفة وعندهما أيضا، وهو قول مالك وأحمد أيضا، وبه قال الشافعي في قول، وبين قوله إذا كان العقد يتعلق بمقداره بقوله م: (كالمكيل) ش: من المكيلات م: (والموزون) ش: من الموزونات م: (والمعدود) ش: من المعدودات، ووجب في كل منهما إعلام مقداره وإن كان مشارا إليه، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قول، وهو مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقول الفقيه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مقدم على القياس.
م: (وتسمية المكان) ش: وهو الشرط السابع وهو عطف على قوله: ومعرفة مقدار رأس المال م: (الذي يوفيه) ش: أي المسلم م: (فيه) ش: أي في المكان م: (إذا كان له حمل) ش: بالفتح ذكره في المغرب وهو مصدر حمل الشيء يعنون به ما له ثقل يحتاج في حمله إلى ظهر وأجرة حمال م: (ومؤنة) ش: أي كلفة، وهذان الشرطان من السبعة عند أبي حنيفة، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا) ش: أي إذا كان مشارا إليه لا يحتاج إلى تسمية قدره م: (ولا) ش: أي ولا يحتاج أيضا(8/347)
إلى مكان التسليم ويسلمه في موضع العقد، فهاتان مسألتان. ولهما في الأولى أن المقصود يحصل بالإشارة فأشبه الثمن والأجرة، فصار كالثوب. وله أنه ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في المجلس، فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي، أو ربما لا يقدر على تحصيل المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلى مكان التسليم) ش: أي إلى بيان مكان تسليم المسلم فيه م: (ويسلمه) ش: أي المسلم إليه المسلم فيه م: (في موضع العقد) ش: وبه قال أبو حنيفة أولا والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في الأصح واختاره المزني. وقال أحمد: لا يجب ذكر بيان مكان الإيفاء ولو ذكره فهل يبطل المسلم عنه روايتان م: (فهاتان مسألتان) ش: أي المسألتان اللتان فيهما اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (في الأولى) ش: أي في المسألة الأولى، وهي إعلام مقدار رأس المال م: (أن المقصود) ش: أي من إعلام مقدار رأس المال القدرة على التسليم وهي م: (يحصل بالإشارة) ش: إلى العين، فيغني ذلك عن الإعلام بالقدر م: (فأشبه الثمن) ش: يعني في البيع م: (والأجرة) ش: يعني في الإجارة يعني إذا جعل المكيل والموزون ثمن المبيع أو أجرة في الإجارة، وأشار إليهما جاز، وإن لم يعرف مقدارهما فكذا ينبغي أن يكتفي بالإشارة في رأس المال بجامع كونه بدلا م: (وصار كالثوب) ش: أي وصار هذا كما إذا كان رأس المال ثوبا فإن الإشارة فيه تكفي اتفاقا وإن لم يعرف ذرعانه.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه ربما يوجد بعضها زيوفا) ش: ثابت لفظ بعضها ليس له وجه، لأن المراد إذا وجد بعض رأس المال زيوفا م: (ولا يستبدل في المجلس) ش: أي في مجلس الرد م: (فلو لم يعلم قدره) ش: وفي بعض النسخ فلو لم يعرف قدره، أي قدر رأس المال م: (لا يدري في كم بقي) ش: بعد إخراج الزيوف وإذا كان معلوما بوزن الزيوف، فيعلم في كم انتقص، وتحقيقه أن جهالة قدر رأس المال تستلزم جهالة المسلم فيه، لأن المسلم إليه يتفق رأس المال شيئا فشيئا وربما يجد بعض ذلك زيوفا، ولا يستبدل له في مجلس الرد فيبطل العقد بقدر ما رده.
فإذا لم يكن مقدار قدر رأس المال معلوما لا يعلم في كم انتقص السلم، وفي كم بقي فجهالة المسلم فيه مفسدة بالاتفاق، فكذا ما يستلزمها، وهكذا إذا استحق بعض رأس المال ينفسخ العقد بقدره م: (أو ربما) ش: إشارة إلى وجه آخر لفساده م: (لا يقدر) ش: أي المسلم إليه م: (على تحصيل المسلم فيه، فيحتاج إلى رد رأس المال) ش: لأنه ليس لرب السلم حينئذ إلا رأس ماله، وإذا كان مجهول المقدار تعذر ذلك. فإن قيل: ذلك أمر موهوم لا معتبر به فيما بني على الرخص.(8/348)
والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافي، بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا، لأن الذرع وصف فيه لا يتعلق العقد على مقداره.
ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما أو أسلم جنسين ولم يبين مقدار أحدهما. ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد الموجب للتسليم فيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن ذلك بقوله م: (والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه) ش: أي لشرع السلم م: (مع المنافي) ش: إذ القياس يخالفه، ألا ترى أنه إذا أسلم بمكيال رجل بعنيه لم يجز، لتوهم هلاك ذلك المكيال وجوده إلى الجهالة.
فإن قيل: هذا اعتبار لشبهة الشبهة، وذلك أن وجود بعض رأس المال زيوفا فيه شبهة واحتمال؛ لأنه يحتمل أن لا يجد زيوفا وهو الظاهر، وبعد وجود الرد محتمل وبعد الرد ترك الاستبدال في مجلس الرد محتمل، والمعتبر الشبهة دون النازلة عنها وهي شبهة الشبهة.
قلنا: هذا شبهة واحدة لأن كلا منهما مبني على وجوده زيوفا فكان شبهة واحدة فيعتبر.
م: (بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا) ش: هذا جواب عما قاسه عليه من الثوب وتقريره أن الثوب الذي جعل رأس المال الذي قاسا المتنازع فيه عليه لا يصح م: (لأن الذرع وصف فيه) ش: أي في الثوب المعين م: (لا يتعلق العقد على مقداره) ش: ولهذا لو وجده زائدا على المسمى سلم له الزيادة مجانا، ولو وجده ناقصا لم يحط شيئا من الثمن وليس كلامنا في ذلك، وإنما هو فيما يتعلق العقد على مقداره فكان قياسا بالفارق ولم تجب على الثمن والأجرة أن الدليل تضمن ذلك، فإن البيع والإجارة لا ينفسخان برد الثمن والأجرة وترك الاستبدال في مجلس الرد.
م: (ومن فروعه) ش: أي ومن فروع الاختلاف في معرفة مقدار رأس المال م: (إذا أسلم في جنسين) ش: بأن قال: أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة وكر شعير، أو في ثوبين مختلفين م: ولم يبين رأس مال كل واحد منهما) ش: فعنده لا يجوز، وعندهما يجوز م: (أو أسلم جنسين) ش: بأن فال: أسلمت إليك هذه الدراهم العشرة وهذه الدنانير أو على العكس م: (ولم يبين مقدار أحدهما) ش: أي الدنانير أو الدراهم العشرة وهكذا، فعند أبي حنيفة لا يجوز، وعندهما يجوز لما أن إعلام رأس المال شرط عنده والمالية تنقسم على الحنطة والشعير باعتبار القيمة وطريق معرفة الحرز فلا يكون مقدار رأس المال كل واحد منهما معلوما، وكذلك في المسألة الثانية، كذا في " المبسوط ".
م: (ولهما) ش: أي ولأبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (في الثانية) ش: أي في المسألة الثانية م: (أن مكان العقد يتعين) ش: أي للإيفاء، لأن مكان العقد مكان الإلزام متعين لإيفاء ما التزمه في ذمته لوضع الاستقراض والاستهلاك م: (لوجود العقد الموجب للتسليم فيه) ش: أي في(8/349)
ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه، فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر، وصار كالقرض والغصب. ولأبي حنيفة أن التسليم غير واجب في الحال فلا يتعين، بخلاف القرض والغصب، وإذا لم يتعين فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة؛ لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان، فلا بد من البيان، فصار كجهالة الصفة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مكان العقد، وما كان كذلك يتعين كما في بيع الحنطة بعينها، فإن التسليم يجب في موضع العقد م: (ولأنه) ش: أي ولأن مكان العقد م: (لا يزاحمه مكان آخر فيه) ش: لعدم ما يوجبه ما هو كذلك م: (فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر) ش: لأن الجزء الأول يتعين للسببية لعدم ما يزاحمه، وهذا على قول الكرخي في الأمر المطلق، فإنه يتعين وجوب الأداء في أول أوقات المكنة عند م: (وصار كالقرض والغصب) ش: فإنه يتعين مكان القرض والغصب للتسليم بالإجماع. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونوقض بما إذا باع طعاما وهو في السواد.
فإنه روي عن محمد: أن المشتري إن كان يعلم مكان الطعام فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار، ولو تعين مكان البيع للتسليم لما كان له الخيار وعورض بأن مكان العقد لو تعين لبطل العقد ببيان مكان آخر كما في بيع العين، فإن من اشترى كر حنطة وشرط على البائع الحمل إلى منزله يفسد عقده، سواء اشتراها في المصر أو خارجه بجنسه أو بخلاف جنسه.
والجواب على النقص: أن مكان البيع يتعين للتسليم إذا كان المبيع حاضرا والبيع في السلم حاضر لأنه في ذمة المسلم إليه وهو خاص في مكان العقد، فيكون المبيع حاضرا بحضوره، وفيه نظر، لأن فيه قيدا لم يذكر في التعليل، ومثله بعد انقطاعا، وعن المعارضة بأن التعيين بالدلالة، فإذا جاء صريح يخالفها يبطلها، وإنما فسد في بيع العين؛ لأنه قابل الثمن بالمبيع والحمل فيصير صفقة في صفقة.
م: (ولأبي حنيفة أن التسليم) ش: أي تسليم السلم فيه م: (غير واجب في الحال) ش: لاشتراط الأجل بالاتفاق وكل ما هو تسليمه غير واجب في الحال م: (فلا يتعين) ش: مكان العقد فيه للتسليم م: (بخلاف القرض والغصب) ش: والاستهلاك، فإن تسليمها يستحق بنفس الالتزام فيتعين موضعه م: (وإذا لم يتعين) ش: أي مكان العقد للإيفاء بقي مكان الإيفاء مجهولا م: (فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة؛ لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان) ش: ورب السلم يطالبه في موضع يكثر فيه الثمن والمسلم إليه يسلمه في اختلاف القيم ذلك م: (فلا بد من البيان) ش: دفعا للمنازعة م: (فصار كجهالة الصفة) ش: يعني خلال أن اختلاف الصفة في المسلم فيه تختلف القيمة، فكذلك باختلاف المكان تختلف أيضا، ثم مع جهالة الصفة لا يجوز السلم فكذلك لا يجوز مع جهالة المكان لهذا المعنى فلا بد من البيان.(8/350)
وعن هذا من قال من المشايخ: إن الاختلاف فيه عنده يوجب التحالف كما في الصفة. وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية العقد عندهما. وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة
والقسمة. وصورتها إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة. وقيل: لا يشترط ذلك في الثمن، والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي. وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء. قال: وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن هذا) ش: أي عن هذا الذي قلنا، وهو اختلاف المكان كجهالة الصفة م: (قال من قال من المشايخ: إن الاختلاف فيه) ش: أي في مكان الإيفاء م: (عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (يوجب التحالف كما في الصفة) ش: أي كما إذا اختلفا في صفة الجودة والرداءة في أحد بدلي السلم م: (وقيل على عكسه) ش: أي لا يوجب التحالف عنده بل القول قول المسلم إليه، وعندهما يتحالفان هكذا ذكر الخلاف القدوري وصاحب " الإيضاح " وصاحب " الكفاية "، لأن المكان يتعين عندهما وهو معنى قوله م: (لأن تعين المكان قضية العقد) ش: أي مقتضاه م: (عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد، فكان الاختلاف في المكان كالاختلاف في نفس العقد، وعنده لما لم يكن من مقتضيات العقد صار بمنزلة الأجل، والاختلاف فيه لا يوجب التحالف.
م: (وعلى هذا الخلاف) ش: وهو أنه هل يشترط بين مكان إيفاء الثمن في بيع العين إذا كان له حمل ومؤنة م: (الثمن) ش: صورته جعل المكيل أو الموزون دينا في الذمة ثمنا في البيع يشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة، خلافا لهما م: (والأجرة) ش: صورته منصوص في كتاب الإجارات إذا كان الشيء الذي جعل أجرا دينا ولحمله مؤمنة عند أبي حنيفة لا يصح إلا بتعيين مكان الإيفاء.
وعندهما يجوز من غير تعيين كما يجيء الآن
[اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة]
م: (والقسمة، وصورتها إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة) ش: يشترط بيان مكان الإيفاء عند أبي حنيفة، وعندهما لا يشترط ويتعين مكان القسمة م: (وقيل: لا يشترط ذلك) ش: أي بيان مكان الإيفاء م: (في الثمن) ش: عند الكل م: (والصحيح أنه) ش: أي أن بيان مكان الإيفاء م: (يشترط إذا كان مؤجلا) ش: عند أبي حنيفة م: (وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي) ش: وبه قال الشافعي.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد م: (يتعين مكان الدار) ش: أي في إجارة الدار م: (ومكان تسليم الدابة) ش: في إجارة الدابة م: (للإيفاء) ش: أي لأجل إيفاء الأجرة.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وما لم يكن له حمل ومؤنة) ش: كالمسك والكافور والزعفران وصغار اللؤلؤ م: (لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع) ش:(8/351)
لأنه لا يختلف قيمته ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه. قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهذا رواية " الجامع الصغير " والبيوع، وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء وهو الأصح؛ لأن الأماكن كلها سواء ولا وجوب في الحال، ولو عينا مكانا قيل لا يتعين لأنه لا يفيد. وقيل: يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق.
ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة فيكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي بإجماع الأئمة الأربعة وأصحابهم م: (لأنه) ش: أي لأن ما ليس له حمل ومؤنة م: (لا يختلف قيمته) ش: لأن الأماكن كلها سواء والمال لا يختلف باختلاف الأماكن فيما لا حمل ولا مؤنة، وإنما تختلف بعبرة الوجود وكثرة رغبات الناس وقلتها.
وقيل: ما لم يكن له حمل ومؤنة هو الذي لو أمر إنسانا بحمله إلى مجلس القضاء مجانا وقيل: وهو ما يمكن رفعه بيد واحدة م: (ويوفيه) ش: أي يوفي المسلم إليه المسلم فيه م: (في المكان الذي أسلم فيه) ش: لأنهم اتفقوا على أن بيان مكان الإيفاء فيه ليس بشرط لصحة السلم لعدم اختلاف القيمة، ولكن هل يتعين مكان العقد للإيفاء فيه روايتان.
أشار المصنف إليهما بقوله: م: (قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي قوله: ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه م: (رواية " الجامع الصغير " والبيوع) ش: أي بيوع الأصل وهو " المبسوط " م: (وذكر في الإجارات) ش: أي في كتاب "الإجارات" م: (أنه يوفيه في أي مكان شاء) ش: أي المسلم إليه م: (وهو الأصح) ش: أي المذكور في الإجارات هو الأصح، وبه قال الشافعي في الأصح م: (لأن الأماكن كلها سواء) ش: وقد ذكرناه الآن م: (ولا وجوب في الحال) ش: جواب عن سؤال، وهو أن يقال: يجوز أن يتعين مكان العقد ضرورة وجوب التسليم، فقال: لا يجب التسليم في الحال ليتعين ضرورة اعتباره م: (ولو عينا مكانا) ش: أي فيما لا حمل له ولا مؤنة م: (قيل لا يتعين لأنه) ش: أي لأن التعيين م: (لا يفيد) ش: حيث لا يلزم بثقله مؤنة م: (وقيل: يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق) ش: لرب السلم.
م: (ولو عين المصر) ش: أي رب السلم م: (فيما له حمل ومؤنة فيكتفى به) ش: وفي بعض النسخ يكتفى به، أي يتعين المصر م: (لأنه) ش: أي لأن المصر م: (مع تباين أطرافه كبقعة واحدة) ش: أي كمكان واحد، لأن القيمة لا تختلف باختلاف المصر عادة، حتى قيل هذا إذا لم يكن المصر عظيما، فلو كان بين نواحيه فرسخ ولم يبين ناحيته منه لا يجوز، لأن هذه جهالة مفضية إلى المنازعة، كذا في " المحيط " م: (فيما ذكرنا) ش: قال الكاكي: أي في اختلاف القيمة.
وقال الأترازي: قوله فيما ذكرنا، أي المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة في القيمة، حيث لا تختلف باختلاف الحال، وهذا لو دفع المال مضاربة ليعمل بالكوفة كان له أن يعمل في(8/352)
قال: ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن يفارقه فيه، أما إذا كان من النقود فلأنه افتراق عن دين بدين، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكالئ بالكالئ وإن كان عينا» فلأن السلم أخذ عاجل بآجل، إذ الإسلام والإسلاف يبنيان عن التعجيل فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم. ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب المسلم إليه فيه فيقدر على التسليم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي مكان شاء منها، وقال الأكمل: ومما ذكرنا من أنه لا يختلف قيمته باختلاف المحلة. وقيل فيما ذكرنا من المسائل وهي الثمن والأجرة والقسمة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن يفارقه فيه) ش: أي في المجلس، والمراد منه المفارقة بالأبدان، ألا ترى إلى ما قال في "شرح الطحاوي ": تسليم رأس المال ليس بشرط في مجلس العقد، وإنما تسليمه جعل إلى المسلم إليه شرطا قبل الافتراق بالأبدان.
ألا ترى أنهما لو تعاقدا عقد السلم ومكثا بعد ذلك يوما إلى الليل ولم يغب أحدهما عن صاحبه، ثم أسلم رأس المال وافترقا صح السلم. واعلم أن تسليم رأس المال قبل المفارقة شرط.
م: (أما إذا كان من النقود) ش: مثل الدراهم والدنانير وافترقا قبل قبض رأس المال السلم فإنه لا يصح م: (فلأنه افتراق عن دين بدين) ش: وذلك لا يجوز م: (وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكالئ بالكالئ» ش: وهذا الحديث قد تقدم أي النسيئة بالنسيئة م: (وإن كان) ش: أي رأس المال م: (عينا) ش: كالتبر والمصوغ والثوب والحيوان م: (فلأن السلم أخذ عاجل بآجل) ش: لأنه عقد يثبت الملك في الثمن عاجلا، وفي الثمن آجلا، فاشترط تعجيل رأس المال ليستحق به المعنى الذي وضع له الاسم م: (إذ الإسلام والإسلاف يبنيان عن التعجيل) ش: لأن السلم أخذ عاجل بآجل، والسلم فيه آجل، فيجب أن يكون رأس المال عاجلا ليكون حكمه على وقف ما يقتضيه اسمه كما في الصرف والحوالة والكفالة.
فإن هذه العقود تثبت أحكامها بمقتضيات أساميها لغة، كذا في " المبسوط "، فإذا كان الاسم كذلك م: (فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم) ش: أي اسم السلم أو السلف.
م: (ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب) ش: أي ليتصرف م: (السلم إليه فيه) ش: أي في رأس المال م: (فيقدر) ش: بالنصب عطفا على ليتقلب م: (على التسليم) ش: إذا كان فيه الشرط(8/353)
ولهذا قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما أو لأحدهما؛ لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا من الانعقاد في حق الحكم، وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنه غير مفيد،
بخلاف خيار العيب لأنه لا يمنع تمام القبض. ولو أسقط خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم جاز، خلافا لزفر وقد مر نظيره، وجملة الشروط جمعوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهما م: (ولهذا) ش: إيضاح لاشتراط قبض رأس مال السلم م: (قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما) ش: أي للمتعاقدين م: (أو لأحدهما) ش: أي أو كان خيار الشرط لأحدهما م: (لأنه) ش: أي لأن خيار الشرط م: (يمنع تمام القبض لكنه مانعا من الانعقاد في حق الحكم) ش: وهو ثبوت الملك م: (وكذا لا يثبت فيه) ش: أي في السلم م: (خيار الرؤية لأنه غير مفيد) ش: إذ فائدة الخيار رد المبيع والمسلم فيه دين في الذمة.
فإذا رد المقبوض عاد دينا كما كان؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد، لأن العقد لم يتناول هذا المقبوض، وإنما تناول مثله دينا في الذمة فلا ينفسخ العقد برده، بل يعود حقه في مثله، فإذا لم يفد فائدته لا يثبت بخلاف بيع العين، فإنه لو رد العين بخيار الرؤية ينفسخ العقد؛ لأنه رد عين ما تناوله العقد فينفسخ العقد برده، كذا ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي: قوله: وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية فيه إشكال، لأن الضمير في قوله: فيه إما أن يراد به رأس المال، أو المسلم فيه، فلا يجوز الأول لأن خيار الرؤية ثابت في رأس المال، وبه صرح في " التحفة "، ولا يجوز الثاني أيضا لأنه لا يرتبط به الكلام، لأن سوق كلامه أن تسليم رأس المال شرط قبل المفارقة، وأوضح ذلك بعدم صحة السلم بخيار الشرط، ويبقى قوله: وكذا لا يثبت خيار الرؤية فيه أجنبيا، انتهى. وقال الأكمل: إنه يعود إلى المسلم فيه، وذكره استطرادا ويجوز أن يعود إلى رأس المال.
م: (بخلاف خيار العيب؛ لأنه لا يمنع تمام القبض) ش: لأن تمام العقد يتعلق بتمام الصفقة وتمام الصفقة يتعلق بتمام الرضا، والرضا تام وقت العقد، كذا في " المبسوط "، م: (ولو أسقط) ش: أي رب السلم م: (خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم) ش: أي والحال أن رأس المال قائم في يد المسلم إليه م: (خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم) ش: أي والحال أن رأس المال قائم في يد المسلم إليه م: (جاز) ش: أي السلم عندنا، إنما قيد بكون رأس المال قائما؛ لأنه إذا أسقط خياره بعد هلاك رأس المال في يد المسلم إليه وإنفاقه لا يعود السلم جائزا بالإجماع م: (خلافا لزفر) ش: والشافعي ومالك أيضا م: (وقد مر نظيره) ش: أي مر نظير هذا في باب البيع الفاسد وهو أنه إذا باع لأجل مجهول كالحصاد والدياس ونحوهما ثم تراضيا بإسقاط الأجل قبل الأجل جاز عندنا خلافا لهم.
م: (وجملة الشروط) ش: أي جملة شروط السلم م: (جمعوها) ش: أي جمعها المشايخ م:(8/354)
في قولهم: إعلام رأس المال وتعجيله، وإعلام المسلم فيه وتأجيله، وبيان مكان الإيفاء والقدرة على تحصيله.
فإن أسلم مائتي درهم في كر حنطة، مائة منها دين على المسلم إليه ومائة نقدا، فالسلم في حصة الدين باطل لفوات القبض، ويجوز في حصة النقد لاستجماع شرائطه، ولا يشيع الفساد؛ لأن الفساد طارئ إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح، إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا، وهذا لأن الدين لا يتعين في البيع، ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين، ثم تصادقا أن لا دين، لا يبطل البيع، فينعقد صحيحا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(في قولهم: إعلام رأس المال) ش: هو مشتمل على بيان جنسه وقدره وصفته م: (وتعجيله) ش: المراد به التسليم قبل الافتراق م: (وإعلام المسلم فيه) ش: أي وفي إعلام المسلم فيه، وهو مشتمل على بيان الجنس والنوع والصفة والقدر م: (وتأجيله) ش: يعني أجل معلوم م: (وبيان مكان الإيفاء) ش: أي وفي بيان مكان إيفاء المسلم فيه م: (والقدرة على تحصيله) ش: أي وفي القدرة على تحصيل المسلم فيه، وهو أن لا ينقطع، وهذه الشروط مر بيانها جميعا عند قوله: ولا يصح السلم عند أبي حنيفة إلا بسبع شرائط.
م: (فإن أسلم) ش: وفي نسخة تاج الشريعة، ومن أسلم م: مائتي درهم في كر حنطة) ش: قال الأترازي: الكر ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وفي " الجامع الصغير " جاء الكر اسم لأربعين قفيزا كذا في " المغرب "، م: (مائة منها دين على المسلم إليه، ومائة نقدا، فالسلم في حصة الدين باطل) ش: وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لفوات القبض) ش: في قدر الدين، إذ العقد لا يتعلق بالدين المضاف إليه، وإنما ينعقد بمثله، وهو غير مقبوض م: (ويجوز في حصة النقد لاستجماع شرائطه) ش: أي شرائط السلم م: (ولا يشيع الفساد) ش: جواب عن قول زفر، فإنه يقول: يشيع الفساد ويبطل العقد في حصة النقد أيضا، لأن هذا فساد قوي تمكن في صلب العقد فيفسد به الكل.
وقال المصنف: ما يشيع الفساد م: (لأن الفساد طارئ) ش: لأنه ما اقترن بأصل العقد، لأن كونه دينا عفو في المجلس، ألا ترى أنهما لو أخرا التسلم والتسليم إلى آخر المجلس يكون العقد صحيحا م: (إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح) ش: السلم م: (إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكالئ م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: إذ المسلم وقع صحيحا م: (لأن الدين لا يتعين في البيع) ش: لأن النقود لا تتعين في المعقود إذا كانت عينا، فكذا إذا كانت دينا، فصار الإطلاق والتقييد سواء.
م: (ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين، ثم تصادقا أن لا دين، لا يبطل البيع، فينعقد صحيحا) ش: ويستدل بهذه المسألة على أن الدين لا يتعين بإضافة العقد إليه، فيكون الإطلاق والتقييد فيه سواء. وفي " النهاية ": وإنما قيد بقوله: مائة منها على المسلم إليه؛ لأنه لو كان دينا على(8/355)
قال: ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض، أما الأول فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد، وأما الثاني فلأن المسلم فيه مبيع والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجنبي والمسألة بحالها يشيع الفساد في الكل؛ لأنها ليست بمال في حقهما، ومذهبنا مروي عن ابن عباس.
فإن قيل: هذا منقوض بثلاث مسائل:
إحداها: أن الرجل إذا قال: إن بعت هذا العبد بهذا الكر من الحنطة وبهذه الدراهم فهما في المساكين صدقة فباعه بهما يحنث بالكر والدراهم، وهذا آية تعيين النقود.
وثانيها: أن الرجل إذا باع دينارا بعشرة فنقد الدينار ولم يقبض العشرة، حتى اشترى بالعشرة ثوبا فالبيع فاسد.
ثالثها: أن الرجل إذا باع عينا بدين وهما يعلمان أن لا دين فالبيع فاسد، ولو كان الإطلاق والتقييد سواء لجاز العقدان ولما حنث في المسألة الأولى.
قلنا: أما الأولى: فنحن ندعي أن النقود لا تتعين في العقد استحقاقا لا جوازا فلا يلزم لأنها تتعين جوازا لا استحقاقا، وأما الثانية: فلانتقاض الصرف باختلاف الجنس بالاستعمال بالعقد الآخر، فيتحقق البيع بلا ثمن.
وأما الثالثة: فإنما لم يجز البيع لمكان الهازل به، لأن هذا بيع بلا ثمن، فيكون منهما تهازلا به وهي تتعين في حق الجواز.
[التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض) ش: هذا باتفاق الفقهاء م: (أما الأول) ش: أي التصرف في رأس المال السلم قبل القبض م: (فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد) ش: لأن قبض رأس المال في المجلس حق الله تعالى، والتصرف يبطله، وإنما شرط القبض احترازا عن الكالئ بالكالئ، فلو جاز التصرف فيه بالبيع والهبة والوصية ونحوها فات الشرط.
م: (وأما الثاني) ش: وهو التصرف في المسلم فيه قبل القبض م: (فلأن المسلم فيه مبيع، والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز) ش: أما لو دفع إليه أردأ أو أجود برضا المسلم إليه جاز؛ لأنه جنس حقه فلم يكن استبدالا، ولو أبرأه عنه فقيل: يبطل العقد لعدم القبض، ولو رد البراءة لم تبطل والتخلية فيه قبض عند محمد خلافا لأبي يوسف، وإنما قيد بقوله: قبل القبض احترازا عما بعد القبض، ولهذا قال في " شرح الطحاوي ": ولا بأس أن يبيع رب السلم سلمه بعد قبضه إياه مرابحة على رأس المال، وأن يبيعه تولية، وأن يبيعه مواضعة، وأن يشرك فيه(8/356)
ولا يجوز الشركة والتولية في المسلم فيه؛ لأنه تصرف فيه، فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا، حتى يقبضه كله؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» أي عند الفسخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غيره.
م: (ولا يجوز الشركة والتولية في المسلم فيه) ش: قبل قبضه م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الشركة والتولية م: (تصرف فيه) ش: أي في المسلم فيه والتصرف فيه قبل القبض لا يجوز، وهذا أيضا من لفظ القدوري، وإنما خصهما بالذكر بعدما عمهما بقوله: ولا يجوز التصرف.... إلى آخره؛ لأنهما أكثر وقوعا من المرابحة والمواضعة، وقيل: احترازا عن قول البعض إنه يجوز عنده التولية في بيع العين والسلم، وحكي ذلك عن مالك.
م: (فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا، حتى يقبضه كله) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير "، وصورة المسألة فيه: محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة فتقايلا السلم، فأراد رب السلم أن يشتري برأس المال شيئا قبل أن يقبضه، قال: ليس له ذلك ولا يجوز شراؤه.
قوله: لم يكن له أن يشتري، وفي " الإيضاح ": هذا الاستحسان، والقياس لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي لأنهما لما تقايلا بطل السلم، وبقي رأس المال دينا في حصته فيصح الاستبدال به كسائر الديون؛ لأنه لا يجب قبضه في المجلس، ودليلنا قول المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ش: لم أر أحدا من الشراح بين حال هذا الحديث، غير أن الأترازي قال: واحتج أصحابنا بما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ورواه الترمذي في علله الكبير، وقال: لا أعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وهو حديث حسن.(8/357)
ولأنه أخذ شبها بالمبيع فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه، وهذا لأن الإقالة بيع جديد في حق ثالث، ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوطه فجعل رأس المال مبيعا؛ لأنه دين مثله، إلا أنه لا يجب قبضه في المجلس؛ لأنه ليس في حكم الابتداء من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه ابن ماجه في سننه عن عطية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا ولم يذكر فيه أبا سعيد، ورواه الدارقطني في سننه بلفظ: فلا يأخذ إلا ما أسلم فيه أو رأس ماله، وهذا قريب من لفظ المصنف.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن قتادة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا أسلفت في شيء فلا تأخذ إلا رأس مالك أو الذي أسلمت فيه م: (أي عند الفسخ) ش: هذا تفسير من المصنف، والمعنى لا تأخذ إلا سلمك، أي المسلم فيه حال قيام العقد أو رأس مالك عند الانفساخ إذ لا يمكنه أخذه حال قيام العقد، فقد جعل حق رب السلم أخذ المسلم فيه وبعده أخذ رأس المال.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن رأس المال م: (أخذ شبها بالمبيع، فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه) ش: أي في رأس المال قبل قبضه م: (وهذا) ش: أي كونه مشابها للمبيع م: (لأن الإقالة بيع جديد) ش: أي بيع ابتداء م: (في حق ثالث) ش: أي غير المتعاقدين م: (ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوط) ش: أي بالإقالة، هذا جواب سؤال، وهو أن يقال: لم لا يجوز أن يجعل بيعا جديدا في جانب المسلم فيه حتى لا يكون لرأس المال جهة كونه مبيعا.
فقال: لا يمكن جعله مبيعا لسقوطه لأنه دين يثبت بالسلم ويسقط بالإقالة.
ولهذا إن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض بعد وقوعها لسقوط المسلم فيه عن الذمة، فلو صح بنقضها لعاد المسلم فيه واجبا، والساقط لا يعود م: (فجعل رأس المال مبيعا لأنه دين مثله) ش: أي مثل المسلم فيه، وجعل الدين مبيعا ليس بمحال فجعل رأس المال مبيعا ضرورة إذ لو لم يجعل مبيعا تبطل الإقالة، ألا ترى أنهما لو تقايلا في باب البيع وهلك المبيع بعد الإقالة قبل القبض تبطل الإقالة، وهاهنا لما تقايلا سقط والمسلم فيه، وصار كالهالك، فلو لم يجعل رأس المال مبيعا لبطلت الإقالة، وقد صحت هاهنا، فلا بد من قيام المعقود عليه.
وليس ذلك إلا رأس المال لسقوط المسلم فيه، إلا أنه لا يجب، جواب سؤال وهو أن يقال: لو كان هذا بمنزلة بيع جديد وجب أن يقبض رأس المال في المجلس، لأن إقالة بيع السلم بمنزلة بيع السلم وفيه القبض شرط وبالإجماع لا يجب قبضه في المجلس.
فأجاب بقوله: م: (إلا أنه) ش: أي أن رأس المال م: (لا يجب قبضه في المجلس لأنه) ش: أي لأن الإقالة على تأويل تصرف الإقالة م: (ليس في حكم الابتداء) ش: أي ابتداء عقد المسلم م: (من(8/358)
كل وجه وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والحجة عليه ما ذكرناه.
قال: ومن أسلم في كر حنطة، فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا، وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز؛ لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل، فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، وهذا هو محمل الحديث على ما مر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كل وجه) ش: لأن المسلم عقد من كل وجه.
والإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق ثالث، فكان عقدا من وجه م: (وفيه) ش: أي وفي جعل رأس المال بعد الإقالة مبيعا م: (خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: والشافعي أيضا، فإنهما يقولان: لو تقايلا السلم واشتري رب السلم برأس المال شيئا قبل القبض يجوز ذلك، وهو القياس لأنهما لما تقايلا ارتفع العقد وعاد الملك في الدراهم على قديم الملك، فجاز الاستبدال عنه، ولهذا لم يجب قبضه في المجلس فصار كدين القرض والغصب.
م: (والحجة عليه) ش: أي على زفر م: (ما ذكرناه) ش: أي من الحديث والمعقول.
أما الحديث فهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» .
وأما المعقول فهو ما ذكره من قوله: " ولأنه أخذ شبها بالمبيع..... إلى آخره، وقد مر بيانه.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: ومن أسلم في كر حنطة فلما حل الأجل) ش: أي أجل السلم م: اشترى المسلم إليه من رجل كرا) ش: وهو ستون قفيزا م: وأمر رب السلم بقبضه) ش: أي بقبض الكر الذي اشتراه من رجل م: (قضاء) ش: أي لأجل القضاء لحقه م: (لم يكن قضاء) ش: أي لم يكن إذا لحقه، وفي الثاني: إذا أمره بقبضه فاقتضاه رب السلم لم يكن قبضا عن المسلم فيه حتى لو هلك المقبوض في يد رب السلم هلك من مال المسلم إليه م: (وإن أمره أن يقبضه له) ش: أي وإن أمر المسلم إليه رب السلم أن يقبضه، أي يقبض السلم فيه لأجل المسلم إليه م: (ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له) ش: أي لأجل المسلم إليه م: (ثم اكتاله لنفسه جاز؛ لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل) ش: أحدهما صفقة عقد السلم، والثانية هي الصفقة التي جرت بين المسلم إليه مع رب السلم م: (فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان) ش: تقدم هذا الحديث في المرابحة والتولية م: (وهذا هو محمل الحديث) ش: يعني معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حتى يجري فيه صاعان هو محمل الحديث، يعني اجتماع الصفقتين المذكورتين: م: (على ما مر) ش: في الفصل الذي بعد باب المرابحة والتولية، وهو قوله: ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين على ما نبين. والأصل في هذا أن العقد إذا وقع مكايلة أو موازنة لم(8/359)
والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه لاحق، وأنه بمنزلة ابتداء البيع؛ لأن العين غير الدين حقيقة، وإن جعل عينه في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء، وإن لم يكن سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز؛ لأن القرض إعارة، ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة، فكان المردود عين المأخوذ مطلقا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجز للمشتري أن يتصرف حتى يعيد الكيل أو الوزن ثانيا للحديث المذكور، وهو ما رواه ابن ماجه في سننه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان» صاع البائع وصاع المشتري، والسلم بيع بشرط الكيل فيشترط الكيل ثانيا؛ لأنه إذا كاله ثانيا ربما يزيد على قدر الكر فلا تسلم له الزيادة، فلو جاز التصرف قبل الكيل ثانيا يلزم التصرف في مال الغير وهو حرام.
م: (والسلم وإن كان سابقا) ش: هذا جواب عما يقال: بيع المسلم إليه مع رب المسلم كان سابقا على شراء المسلم إليه من بائعه، فلا يكون المسلم إليه بائعا بعد المشتري فلم تتحقق الصفقة الثانية ليدخل تحت النهي.
وتقرير الجواب: القول بموجب العلة سلمنا ذلك، ولكن السلم وإن كان سابقا على شراء المسلم إليه من بائعه م: (لكن قبض المسلم فيه لاحق) ش: في التقدير فتجتمع الصفقتان في التقدير م: (وأنه) ش: أي وأن قبض المسلم فيه م: (بمنزلة ابتداء البيع) ش: تحقيق هذا ما قاله المقبوض في مسائل السلم غير المسلم فيه حقيقة، فباعتبار هذه الحقيقة لم يكن المقبوض عين ما تناوله العقد فلا بد من طريق يجعل بذلك الطريق كأنه عين المعقود عليه، وذلك بأن يجعل عند القبض كأنهما جددا ذلك العقد على المقبوض، وإنما قال: بمنزلة ابتداء البيع، لأن المسلم فيه دين في ذمته والمقبوض عين وهو غير الدين، وهو معنى قوله م: (لأن العين غير الدين حقيقة) ش: وهو ظاهر، وقوله م: (وإن جعل) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، أي وإن جعل الدين م: (عينه) ش: أي وإن جعل المقبوض عين الدين م: (في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال) ش: لأنه لو لم يجعل في حق الاستبدال عين حقه يلزم استبدال المبيع قبل قبضه، وذا لا يجوز.
وإذا جعل الدين عين المقبوض الذي هو الدين ضرورة حرمة الاستبدال فلا يتعدى، فبقي ما وراءه كالبيع م: (فيتحقق البيع بعد الشراء) ش: أي بيع السلم إليه من رب المسلم بعد شراء المسلم إليه من بائعه بشرط الكيل، فقد اجتمعت الصفقتان فلا بد من تكرار الكيل.
م: (وإن لم يكن) ش: أي الكر م: (سلما وكان قرضا فأمره) ش: أي فأمر المستقرض القرض م: (بقبض الكر جاز، لأن القرض إعارة، ولهذا) ش: أي ولأجل كون القرض إعارة م: (ينعقد) ش: أي القرض م: (بلفظ الإعارة) ش: بأن يقول: أعرتك هذا المبلغ من الدراهم أو الدنانير، فإذا كان إعارة م: (فكان المردود عين المأخوذ) ش: أي عين المقبوض م: (مطلقا) ش: أي سواء كان في(8/360)
حكما، فلا تجتمع الصفقتان.
قال: ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم، ففعل وهو غائب، لم يكن قضاء؛ لأن الأمر بالكيل لم يصح؛ لأنه لم يصادف ملك الأمر؛ لأن حقه في الدين دون العين، فصار المسلم إليه مستعيرا للغرائر منه، وقد جعل ملك نفسه فيها، فصار كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه كيسا ليزنها المديون فيه لم يصر قابضا؛ ولو كانت الحنطة مشتراة والمسألة بحالها صار قابضا، لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه؛ لأنه ملك العين بالبيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق الاستبدال أو غيره م: (حكما) ش: أي تقديرا، ولا يلزم تمليك الشيء بجنسه نسيئة، وهو ربا، فإذا كان كذلك م: (فلا تجتمع الصفقتان) ش: فيكتفى بكيل واحد.
وفي " الشامل " في كل موضع وجد عقدان لا يكتفى بكيل واحد، وإن كان بحضرة الآخر وفي كل موضع وجد عقد واحد يكتفى فيه بكيل واحد، وكذلك إذا اشترى موازنة لا يتصرف ما لم يستزنه، فإن اشترى مجازفة أو أخذ قرضا جاز أن يترك الكيل والوزن. ولو اشترى المعدود عدا هل يشترط العد ثانيا، فيه روايتان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم) ش: الغرائر جمع غرارة بكسر الغين المعجمة، قال الجوهري: الغرارة واحدة الغرائر التي للتبين وما أظنه عربيا م: (ففعل وهو) ش: أي رب السلم م: (غائب لم يكن قضاء) ش: أي قبضا يريد به إذا كان الطعام عينا، وإنما قيد بقوله: وهو غائب لأنه إذا كان حاضرا صار المسلم إليه قابضا سواء كان الغرائر له أو للبائع أو كانت مستأجرة، وبه صرح الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما لم يكن قضاء م: (لأن الأمر بالكيل لم يصح؛ لأنه لم يصادف ملك الأمر) ش: لأنه تناول عينا مملوكة للبائع م: (لأنه حقه) ش: أي حق رب السلم م: (في الدين دون العين) ش: لأن جعل العين وهو وصف ثابت في الذمة في غرائر رب السلم محال.
وحقه في العين إنما يتحقق بالقبض ولم يوجد م: (فصار المسلم إليه مستعيرا للغرائر منه) ش: أي من رب السلم م: (وقد جعل ملك نفسه إليه) وقد جعل المسلم إليه ملك نفسه في الغرائر فلم يصر رب السلم قابضا حتى إذا هلك الكر هلك من مال المسلم إليه وبقي الدين في ذمته كما كان.
م: (فصار) ش: أي رب السلم م: (كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه) ش: أي فدفع الدائن المديون م: (كيسا ليزنها المديون فيه) ش: أي في الكيس م: (لم يصر قابضا) ش: بوزنه فيه م: (ولو كانت الحنطة مشتراة) ش: بأن اشترى حنطة بعينها م: (والمسألة بحالها) ش: وهي أنه دفع غرائره إلى البائع وقال: اجعلها فيها ففعل والمشتري حاضر أو غائب م: (صار قابضا؛ لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه؛ لأنه ملك العين بالبيع) ش: يعني بنفس العقد فصح الأمر لمصادفة الملك.(8/361)
ألا ترى أنه لو أمره بالطحن كان الطحين في السلم للمسلم إليه، وفي الشراء للمشتري لصحة الأمر، وكذا إذا أمر أن يصبه في البحر في السلم يهلك من مال المسلم إليه، وفي الشراء من مال المشتري، ويتقرر الثمن عليه لما قلنا، ولهذا يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح؛ لأنه نائب عنه في الكيل والقبض بالوقوع في غرائر المشتري،
ولو أمره في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا؛ لأنه استعار غرائره ولم يقبضها فلا تصير الغرائر في يده، فكذا ما يقع فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا صح صار البائع وكيلا عنه في إمساك الغرائر فبقيت الغرائر في يد المشتري حكما، فصار الواقع فيها واقعا في يد المشتري حكما لأن فعل نائبه كفعله، حتى لو كانت الغرائر للبائع لا يصير قابضا في رواية عن محمد. وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصير قابضا سواء كانت الغرائر للمشتري أو للبائع كما في السلم.
م: (ألا ترى) ش: توضيح لتملكه بالبيع م: (أنه) ش: أي أن المشتري م: (لو أمره) ش: أي لو أمر البائع م: (بالطحن) ش: أي بطحن الحنطة المشتراة م: (كان الطحين في السلم للمسلم إليه) ش: لأن الأمر بالطحن في السلم لم يصح؛ لأنه تلافى ملك المسلم إليه فلا يصح م: (وفي الشراء) ش: أي وكان الطحين في الشراء م: (للمشتري لصحة الأمر) ش: لأنه لافى ملك المشتري.
م: (وكذا) ش: الحكم م: (إذا أمره) ش: أي المشتري م: (أن يصبه في البحر) ش: ففعل م: (في السلم يهلك من مال المسلم إليه، وفي الشراء من مال المشتري) ش: لصحة الأمر م: (ويتقرر الثمن عليه) ش: وليس ذلك إلا باعتبار صحة الأمر وعدمها وصحة موقوفه على الملك، فلولا أنه ملكه لما صح أمره م: (لما قلنا) ش: إشارة إلى قوله صح الأمر.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الأمر قد صح م: (يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح) احترز به عما قيل في الشراء لا يكتفى بكيل واحد، بل يشترط كيلان وعلل الصحيح بقوله: م: (لأنه) ش: أي لأن البائع م: (نائب عنه) ش: أي عن المشتري م: (في الكيل) ش: فيكتفى بكيل واحد م: (والقبض) ش: مرفوع بفعل مقدر، أي وحصل القبض م: (بالوقوع في غرائر المشتري) ش: وهذا جواب عما يقال: البائع مسلم فكيف يكون متسلما؟ وتقرير الجواب أن القبض يتحقق بالوقوع في غرائر المشتري فلا يكون مسلما ومتسلما.
[أمر المشتري البائع في الشراء أن يكيله في غرائر البائع]
م: (ولو أمره) ش: أي ولو أمر المشتري البائع م: (في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا لأنه) ش: أي لأن المشتري م: (استعار غرائره) ش: أي غرائر البائع م: (ولم يقبضها) ش: أي والحال أن المشتري لم يقبض الغرائر م: (فلا تصير الغرائر في يده) ش: لأن الاستعارة تبرع فلا تتم بدون القبض م: (فكذا ما يقع فيها) ش: أي فكذا لا يصير المشتري قابضا ما في الغرائر، وفي(8/362)
وصار كما لو أمره أن يكيله ويعزله في ناحية من بيت البائع؛ لأن البيت بنواحيه في يده فلم يصر المشتري قابضا. ولو اجتمع الدين والعين والغرائر للمشتري إن بدأ بالعين صار قابضا، أما العين فلصحة الأمر فيه، وأما الدين فلاتصاله بملكه وبمثله يصير قابضا، كمن استقرض حنطة وأمره أن يزرعها في أرضه، وكمن دفع إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده من عنده نصف دينار، وإن بدأ بالدين لم يصر قابضا. أما الدين فلعدم صحة الأمر. وأما العين فلأنه خلطه بملكه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ: فيه قال الكاكي: أي في الغرائر على تأويل الظرف أو المذكور وذلك لعدم صحة العارية لعدم القبض، وكذا لا يصير الواقع فيها قبضا.
م: (وصار) ش: أي حكم هذا م: (كما لو أمره) ش: أي كحكم ما لو أمر المشتري البائع م: (أن يكيله) ش: أن يكيل الكر م: (ويعزله في ناحية من بيت البائع) ش: أي أمره بأن يعزل الكر في جانب من بيت البائع فعزله لا يكون المشتري قابضا، فكذا هذا م: (لأن البيت بنواحيه) ش: أي بجوانبه الأربعة م: (في يده) ش: أي في يد البائع، فإذا كان كذلك م: (فلم يصر المشتري قابضا، ولو اجتمع الدين والعين) ش: صورته اشترى كرا معينا وله على البائع كر آخر دين وهو المسلم فيه م: (والغرائر للمشتري) ش: أي والحال أن الغرائر للمشتري وأمره أن يجعل الدين والعين فيها م: (إن بدأ) ش: أي إن بدأ البائع وهو المسلم إليه م: (بالعين) ش: أي بالمشترى بفتح الراء م: (صار) ش: أي المشتري بكسر الراء م: (قابضا) ش: أي صار قابضا للكيل والعين والدين.
م: (أما العين) ش: أي أما صحة قبض العين م: (فلصحة الأمر فيه) ش: أي في العين م: (وأما الدين) ش: أي وأما صحة قبض الدين م: (فلاتصاله بملكه) ش: أي فلاتصال الدين بملكه، أي بملك المشتري، لأن العين في يده حكما م: (وبمثله يصير قابضا) ش: أي وبمثل اتصال الدين بالكيل بالرضا يثبت القبض، فيصير المشتري قابضا م: (كمن استقرض حنطة) ش: أي نظير الحكم المذكور نظير من استقرض كرا من حنطة م: (وأمره أن يزرعها في أرضه) ش: أي وأمر المقرض المستقرض أن يزرع الحنطة في أرض المستقرض صح القرض، وصار المستقرض قابضا له باتصاله بملكه فكذا هذا.
م: (وكمن دفع) ش: أي ونظير الحكم المذكور أيضا نظير من دفع م: (إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده) ش: أي يزيد الخاتم م: (من عنده) ش: أي من عند الصائغ م: (نصف دينار) ش: جاز لأنه يصير قرضا ويصير بالاتصال إلى ملكه قابضا م: (وإن بدأ بالدين) ش: ثم بدأ بالعين م: (لم يصر قابضا، أما الدين فلعدم صحة الأمر) ش: لعدم مصادفة الملك، لأن حقه في الدين لا في العين. وهذا عين فكان المأمور يجعله في الغرائر متصرفا في ملك نفسه فلا يكون فعله كفعل الآمر.
م: (وأما العين) ش: أي وأما عدم صحة القبض في العين م: (فلأنه خلطه بملكه) ش: أي فلأن(8/363)
قبل التسليم، فصار مستهلكا، عند أبي حنيفة فينتقض البيع، وهذا الخلط غير مرضي به من جهته لجواز أن يكون مراده البداية بالعين، وعندهما هو بالخيار إن شاء نقض البيع، وإن شاء شاركه في المخلوط؛ لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما.
قال: ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه، ثم تقايلا، فماتت في يد المشتري، فعليه قيمتها يوم قبضها. ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز؛ لأن صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البائع خلط كر المشتري بملكه، أي بملك نفسه م: (قبل التسليم) ش: بحيث لا يمتاز م: (فصار) ش: أي البائع م: (مستهلكا) ش: أي المبيع م: (عند أبي حنيفة فينتقض البيع) ش: أي ينفسخ العقد م: (وهذا الخلط) ش: هذا جواب عما يقال: إن الخلط حصل بإذن المشتري فلا ينتقض البيع، وتقرير الجواب: أن هذا الخلط على هذا الوجه م: (غير مرضي به من جهته) ش: أي من جهة المشتري أراد أن الخلط على هذا الوجه ما حصل بإذن المشتري بل الخلط على وجه يصير الآمر به قابضا هو الذي كان مأذونا به، وهاهنا لم يصر الخلط مأذونا مرضيا به، وإنما أذن له بأن يخلط على وجه يصير قابضا بالبداية بالعين.
وقال الأكمل: وفي عبارة المصنف تسامح؛ لأنه حكم بكون الخلط غير مرضي به جزما، واستدل بقوله م: (لجواز أن يكون مراده البداية بالعين) ش: فيكون الدليل أعم من المدعى، ولا دلالة للأعم على الأخص. ويجوز أن يقال: كلامه في قوة الممانعة، فكأنه قال: ولا نسلم أن هذا الخلط مرضي به، وقوله: لجواز سند المنع فاستقام الكلام.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد م: (هو) ش: أي المشتري م: (بالخيار إن شاء نقض البيع وإن شاء شاركه في المخلوط، لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما) ش: وقال الإمام قاضي خان: ما ذكر من جواب الكتاب قول محمد، أما عند أبي يوسف إذا بدأ بالعين ضرورة اتصاله بملكه في الصورتين، إذ الخلط ليس باستهلاك وعند محمد يصير قابضا للعين دون الدين، قلت: عند الشافعي لا يصير قابضا سواء بدأ بالعين أو بالدين.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا) ش: أي المسلم م: (فماتت) ش: أي الجارية م: (في يد المشتري) ش: أي المسلم إليه، وإنما سماه مشتريا بالنظر إلى شرائه الجارية بالحنطة، لأن كلا في العينين الثمن والمثمن م: (فعليه) ش: أي فعلى المشتري م: (قيمتها) ش: أي قيمة الجارية م: (يوم قبضها) ش: يعني لما ثبتت الإقالة وجب ردها، وقد عجز فيجب رد بدلها، وبه قال الشافعي وإنما قال: يوم قبضها، لأن السبب الموجب للضمان إنما هو القبض فصار كالغصب.
م: (ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز) ش: أي التقايل م: (لأن صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد)(8/364)
وذلك بقيام المعقود عليه. وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه. وإذا جاز ابتداء أولى أن يبقى انتهاء؛ لأن البقاء أسهل، وإذا انفسخ العقد في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا فيجب عليه ردها وقد عجز فيجب عليه رد قيمتها،
ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة؛ لأن المعقود عليه في البيع إنما هو الجارية، فلا يبقى العقد بعد هلاكها، فلا تصح الإقالة ابتداء فلا تبقى انتهاء لانعدام محله، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: وفي بعض النسخ: يعتمد قيام العقد م: (وذلك) ش: أي بقاء العقد م: (بقيام المعقود عليه، وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه) ش: أي حال بقاء المعقود عليه م: (وإذا جاز) ش: أي التقايل بعد موتها م: (ابتداء أولى أن يبقى) ش: بعد موتها م: (انتهاء، لأن البقاء أسهل) ش: من الابتداء.
فإن قيل: ينبغي أن لا تصح الإقالة بعد هلاك الجارية لأنها بعد الهلاك بمنزلة المسلم فيه من حيث وجوب قيمتها دينا في الذمة والمسلم فيه قد سقط أيضا بالإقالة، فصار بمنزلة العوضين في بيع المقايضة، فإنه إذا هلك أحد العوضين في المقايضة ثم تقايلا ثم هلك العوض الآخر تبطل الإقالة، فكذا هنا ينبغي أن يمتنع التقايل بهلاك العوضين.
قلنا: في بيع المقايضة ثم الرد واجب بعد الإقالة، وهلاك المبيع قبل القبض يوجب فسخ العقد. وفي المسلم قامت قيمة الجارية مقامها، فلم يكن رد عين الجارية واجبا، فكان قيام القيمة بمنزلة قيام الجارية.
م: (وإذا انفسخ العقد في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا) ش: يعني تبعا لانفساخ العقد في المسلم فيه وإن لم يصح الفسخ في الجارية بعد هلاكها، هكذا قدره شيخي العلاء. وقال تاج الشريعة. هذا جواب من يقول: إن الانفساخ في حق الجارية الميتة كيف يتحقق، وإنه ليس بمحل لذلك.
قال: الانفساخ بطريق التبعية وكم من شيء يثبت تبعا ولا يثبت قصدا م: (فيجب عليه ردها) ش: أي رد الجارية على المسلم إليه م: (وقد عجز) ش: أي والحال أن المسلم إليه قد عجز عن رد الجارية بسبب موتها م: (فيجب عليه رد قيمتها) ش: وقامت القيمة مقام الجارية.
[اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري]
م: (ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة) ش: أيضا م: (لأن المعقود عليه في البيع إنما هو الجارية، فلا يبقى العقد بعد هلاكها، لا تصح الإقالة ابتداء، فلا تبقى انتهاء لانعدام محله) ش: أي محل البيع، لأن الإقالة فسخ العقد ولا قيام لها إلا بقيام العقد ولا قيام العقد إلا بقيام المبيع لأنه هو الأصل وقد فات م: (وهذا)(8/365)
بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى بعد هلاك أحد العوضين، لأن كل واحد منهما مبيع فيه.
قال: ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه: شرطت رديئا، وقال رب السلم: لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه؛ لأن رب السلم متعنت في إنكاره الصحة؛ لأن المسلم فيه يربو على رأس المال في العادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي هذا الذي ذكرناه. م: (بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى) ش: أي الإقالة م: (بعد هلاك أحد العوضين، لأن كل واحد منهما مبيع فيه) ش: أي في بيع المقايضة.
والحاصل أنه أشار بهذا الكلام إلى الفرق بين السلم حيث تصح الإقالة فيه بعد هلاك الجارية في يد المسلم إليه قبل الرد إلى رب السلم، سواء ماتت قبل الإقالة أو بعدها وبين البيع حيث لا تصح الإقالة إذا هلكت الجارية سواء كانت الإقالة قبل هلاكها أو بعد هلاكها، وقد أوضحنا هذا في السؤال والجواب اللذين ذكرناهما الآن.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه: شرطت رديئا) ش: أي طعاما رديئا م: (وقال رب السلم: لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه) ش: بالاتفاق، وبه قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وفي " الكافي ": كلام المتعنت مردود فبقي قول صاحبه بلا معارض م: (لأن رب السلم متعنت في إنكاره الصحة) ش: التعنت في اللغة من يطلب العنت، وهو الوقوع فيما لا يستطيع الإنسان الخروج عنه، والمراد بالتعنت شرعا من ينكر ما ينفعه ويريد الإضرار بغيره، وبالمخاصم من ينكر ما يضره، كذا في الفوائد الظهيرية م: (لأن المسلم فيه يربو) ش: يزيد م: (على رأس المال في العادة) ش: هذا دليل على قوله: إن رب السلم متعنت لرب المسلم فيه على رأس المال عادة، فكان الخير له في صحة العقد، فإذا أنكر صحته فقد كان متعنتا.
فإن قيل: لا نسلم أن المسلم فيه يربو، بل رأس المال خير وإن قل من المسلم فيه، وإن جل، لما أن رأس المال نقد، والمسلم فيه نسيئة، وفي المثل السائر: النقد خير من النسيئة.
قلنا: بلى كذلك، إلا أن ذلك متروك بالعرف والعادة، فإن الناس مع وفور عقولهم يقدمون في عقد السلم وما ذاك إلا لفائدة زائدة رأوها، فكان النقد بمقابلة زيادة فائدة مع كونه نسيئة، وإنما ذكروا ربا المسلم فيه لإثبات المعادلة بينه وبين رأس المال، لأن المسلم فيه وإن كان أكثر مالية عادة إلا أنه آجل، ورأس المال وإن قلت ماليته عاجل والعاجل خير من الآجل، فيخير قصور كل واحد منهما بوفور كل واحد منهما فيتعادلان.
وذكر الإمام السرخسي: أن القول قول المسلم إليه لأنه هو الذي يلتزم الطعام بعقد السلم فالقول قوله في بيان صفة ما التزم، ثم اتفاقهما على أصل العقد اتفاق على ما هو شرط جواز(8/366)
وفي عكسه قالوا: يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة لأنه يدعي الصحة، وإن كان صاحبه منكرا. وعندهما القول للمسلم إليه لأنه منكر وإن أنكر الصحة، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى. ولو قال المسلم إليه: لم يكن له أجل، وقال رب السلم: بل كان له أجل فالقول قول رب السلم؛ لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد لعدم الأجل غير متيقن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العقد، ومن شرط جوازه بيان صفة الطعام، فقول رب السلم: لم يسلم صفة الطعام يكون رجوعا عما أقر به وسعيا منه في نقض ما تم من جهته.
م: (وفي عكسه) ش: أي وفي عكس الحكم المذكور، والحكم المذكور هو قول المسلم إليه: شرطت لك رديئا، وقال رب السلم لم تشترط شيئا، وعكسه أن يقول رب السلم: شرطت لي رديئا، ويقول المسلم إليه: لم أشترط لك شيئا.
وقال الفقيه أبو الليث: لم يذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الأصل في الكتاب، يعني في " الجامع الصغير ". وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قالوا) ش: أي قال المتأخرون في شروح " الجامع الصغير " مثل فخر الإسلام وغيره: م: (يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة) ش: وبه قال الشافعي م: (لأنه يدعي الصحة وإن كان صاحبه منكرا) ش: لأن الظاهر شاهد له، لأن العقد الفاسد معصية، والظاهر من حال المسلم التحادي عن المعصية.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد م: (القول للمسلم إليه؛ لأنه منكر وإن أنكر الصحة) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، وكذلك إن التي قبلها م: (وسنقرره) ش: أي وسنقرر أصل هذا الخلاف م: (من بعد إن شاء الله تعالى) ش: قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي في المسألة التي تلي هذه عند قوله: القول لرب السلم عندهما.
وفي عبارته تسامح لأنها تستعمل للبعد، أي لأن السين كذلك، والمطابق نقرره يعني بدون السين م: (ولو قال المسلم إليه: لم يكن له أجل) ش: أي لم يكن للسلم أجل م: (وقال رب السلم: بل كان له أجل، فالقول قول رب السلم) ش: أي بالاتفاق، وبه قال الشافعي م: (لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له) ش: أي لرب السلم م: (وهو) ش: أي الحق هو م: (الأجل) ش: حاصله أن الكلام إذا خرج مخرج التعنت لا مخرج الخصومة بطل وكان القول لمدعي الصحة، لأن كلام المتعنت مردود، فإذا رد بقي كلام الآخر بلا معارض، فكان القول قوله.
م: (والفساد لعدم الأجل غير متيقن) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: ينبغي أن لا يكون المسلم إليه متعنتا في إنكاره الأجل؛ لأنه يرد رأس المال لفساد العقد بعدم الأجل، وبرد رأس المال يبقى له المسلم فيه والمسلم فيه خير من رأس المال وارتفع منه.(8/367)
لمكان الاجتهاد، فلا يعتبر النفع في رد رأس المال، بخلاف عدم الوصف، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما؛ لأنه ينكر حقا عليه فيكون القول قوله، وإن أنكر الصحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وتقرير الجواب: أن فساد العقد لعدم الأجل غير متقين م: (لمكان الاجتهاد) ش: فإن السلم الحال جائز عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا لم يكن متعنتا بعدمه لم يلزم من إنكاره رد رأس المال م: (فلا يعتبر النفع في رد رأس المال) ش: يعني ولا يعتبر جهة كونه منتفعا بهذا الإنكار معارضا لجهة التعنت والتضرر به، إذ الظني لا يعارض القطعي.
م: (بخلاف عدم الوصف) ش: قال صاحب النهاية: أي لو قال المسلم إليه: شرطت رديئا، وقال رب السلم: لم تشترط شيئا، وهي المسألة الأولى، كان القول قول المسلم إليه، لأن فساد السلم بسبب ترك الوصف متقين غير مجتهد فيه، فقال رب السلم هناك متعنتا، وقال غيره: فإن الفساد فيه قطعي.
وقال الأكمل: وفيه نظر، لأن بناء المسألة على خلاف مخالف لم يوجد عند وضعها غير صحيح، فالأولى أن يقال: إن الاختلاف كان ثابتا بين الصحابة إن ثبت ذلك وليس مطابقا لما ذكره صاحب " النهاية " وغيره.
م: (وفي عكسه) ش: يعني فيما إذا ادعى المسلم إليه الأجل وأنكره رب السلم م: (القول لرب السلم عندهما؛ لأنه ينكر حقا عليه فيكون القول قوله، وإن أنكر الصحة) ش: كلمة إن واصلة بما قبله. واعلم أن الاختلاف في الأصل على ثلاثة أوجه:
أحدها: في أصل الأجل، ففيه القول قول المدعي للأجل مع يمينه، طالبا كان أو مطلوبا، وعندهما: القول قول الطالب سواء كان مدعيا للأجل أو منكرا.
والثاني: في مقدار الأجل مثل أن يدعي أحدهما أنه شهر، وقال الآخر: إنه شهران ففيه القول قول الطالب مع يمينه؛ لأنه ينكر الزيادة، وإن قامت بينته لأحدهما يقضي ببينته، وإن قامت لهما يقضي ببينة المطلوب؛ لأنه يثبت الزيادة.
والثالث: في مضي الأجل فإن قال الطالب: كان الأجل شهرا، وقد مضى، وقال المطلوب: كان شهرا ولم يمض فالقول قول المطلوب مع يمينه لأنه ينكر توجه المطالبة، فإن أقام أحدهما البينة يقضي ببينة المطلوب؛ لأنها تثبت زيادة الأجل، ثم ينبغي لك أن تعرف أن الاختلاف في قدر الأجل لا يوجب التحالف عندنا خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن التحالف في البيع ثبت بخلاف القياس، عند اختلاف المتبايعين في المعقود عليه أو بدله، والأجل بمعزل من ذلك.
بخلاف ما إذا اختلفا في الوصف فإنهما يتحالفان، لأن الوصف جار مجرى الأصل،(8/368)
كرب المال إذا قال للمضارب: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال؛ لأنه ينكر استحقاق الربح، وإن أنكر الصحة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للمسلم إليه؛ لأنه يدعي الصحة، وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا، بخلاف مسألة المضاربة؛ لأنه ليس بلازم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأن الدين يعرف به ويختلف أصله باختلافه ما إذا اختلفا، وليس كذلك الأجل.
>
م: (كرب المال إذا قال للمضارب) ش: نظير المسألة المذكورة بمسألة رب المال إذا قال للمضارب: م: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة) ش: قال الكاكي: وفي بعض النسخ شرطت لك نصف الربح وزياة عشرة، وهذه النسخة ليست بصحيحة؛ لأنه على ذلك التقدير القول للمضارب بالإجماع، والصحيح النسخة الأولى؛ لأنه على ذلك التقدير كان القول لرب المال م: (وقال المضارب) ش: أي وقال المضارب ليس الأمر كما ذكرت م: (لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال؛ لأنه ينكر استحقاق الربح وإن أنكر الصحة) ش: أي صحة العقد.
م: (وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول للمسلم إليه لأنه يدعي الصحة، وقد اتفقا على عقد واحد) ش: لأن السلم عقد واحد إذ السلم الحال فاسد، وليس بعقد آخر م: (فكانا متفقين على الصحة ظاهرا) ش: أي بحسب الظاهر لوجهين:
أحدهما: أن الظاهر من حالهما مباشرة العقد بوصف الصحة.
والثاني: أن الإقدام على العقد التزام لشرائطه، والأجل من شرائط السلم فكان اتفاقهما على العقد إقرار بالصحة، فالمنكر بعده ساع في نقض ما تم به، وإنكاره إنكار بعد الإقرار وهو مردود وبقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال الشافعي.
م: (بخلاف مسألة المضاربة) ش: جواب عن قياسهما المسألة المذكورة على مسألة المضاربة فإنه قياس غير صحيح، وقال الأكمل: فإنهما إذا اختلفا فيها، أي في المضاربة تنوع محل الاختلاف، فإنها إذا فسدت صار إجارة، وإذا صحت كانت شركة، فإذا اختلفا فالمدعي للصحة مدع لعقد، والمدعي للفساد مدع لعقد آخر خلافه، ووحدة العقد عند الاختلاف في الجواز والفساد يستلزم اعتبار الاختلاف الموجب للتناقض المردود لوحدة المحل، وعدم وحدته يستلزم عدم اعتبار الاختلاف لاختلاف المحل.
وأما المضاربة فهي ليست بعقد واحد عند الاختلاف، فكان المحل مختلفا فلا تناقض في ذلك، فلم يكن الاختلاف معتبرا، فكان المضارب يدعي استحقاق شيء في مال رب المال وهو ينكر، فالقول قول المنكر.
م: (لأنه) ش: أي لأن عقد المضاربة م: (ليس بلازم) ش: ولهذا يتمكن رب المال من عزله قبل(8/369)
فلا يعتبر الخلاف فيه، فبقي مجرد دعوى استحقاق الربح. أما السلم فلازم، فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق، وإن خرج خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة.
قال: ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا ورقعة؛ لأنه أسلم في معلوم مقدور التسليم، على ما ذكرنا. وإن كان ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا؛ لأنه مقصود فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شراء المضارب برأس المال شيئا، وكذا المضارب يتمكن من فسخه. وإذا كان غير لازم يرتفع باختلافهما م: (فلا يعتبر الاختلاف فيه) ش: ولا الدعوى تعتبر فيه م: (فبقي مجرد دعوى استحقاق الربح) ش: والآخر ينكر فالقول للمنكر م: (أما السلم) ش: فإنه عقد م: (فلازم) ش: فلا ينفسخ بفسخ أحدهما، فبالاختلاف لا يرتفع، فإذا بقي العقد كان القول قول مدعي الصحة لشهادة الظاهر ثم لما جعل القول قول المسلم إليه في الأجل كان القول قوله أيضا في مقدار الأجل م: (فصار الأصل) ش: أي الأصل في مسألة السلم المذكورة م: (أن من خرج كلامه تعنتا) ش: أي من حيث التعنت لا مخرج الخصومة، وقد مر تفسيره عن قريب م: (فالقول لصاحبه) ش: وهو مدعي الصحة م: (بالاتفاق) ش: لأن كلام المتعنت مردود.
م: (وإن خرج) ش: أي كلامه م: (خصومة) ش: أي من حيث الخصومة بأن ينكر ما يضره م: (ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (وعندهما للمنكر) ش: أي القول قول المنكر م: (وإن أنكر الصحة) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
[السلم في الثياب]
م: (قال) ش: أي القدوري في "مختصره": م: (ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا) ش: أي من حيث الطول ومن حيث العرض م: (ورقعة) ش: أي من حيث الغلظة والثخانة، كذا في " المغرب ". وقيل: المراد عدد الكرباس، يعني أنه كثير الرقاع أو قليل الرقاع، وقيل: تعريفه بكونه خماسيا أو سداسيا، وقال تاج الشريعة: ورقعة يقال رقعة هذا الثوب جيدة، يراد به غلظته وثخانته وهو مجاز م: (لأنه) ش: أي ولأن السلم م: (أسلم في معلوم مقدور التسليم على ما ذكرنا) ش: أي عند قوله في أول الباب وفي المذروعات م: (وإن كان) ش: أي المسلم م: (ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا؛ لأنه) ش: أي لأن الوزن م: (مقصود فيه) ش: أي في السلم في الثوب الحرير، وإذا كان كذلك فلا بد من بيانه، أي بيان الوزن.
وعند الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: بيان الوزن ليس بشرط، وفي الإيضاح: وتحتاج إلى بيان الوزن في ثياب الحرير والديباج إذا كان التفاوت بعد ذكر الطول والعرض؛ لأنها تختلف باختلاف الوزن، فإن الديباج كلما ثقل وزنه ازدادت قيمته، والحرير كلما خف وزنه ازدادت قيمته فلا بد من بيانه، انتهى.(8/370)
ولا يجوز السلم في الجواهر ولا في الخرز، لأن آحادها تتفاوت تفاوتا فاحشا، وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم؛ لأنه مما يعلم بالوزن، ولا بأس بالسلم في الآجر واللبن إذا سمي ملبنا معلوما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الشيخ أبو نصر البغدادي: قالوا: إذا كانت الثياب مما يقصد وزنها فلا بد من ذكر الوزن أيضا كثياب الحرير. وقال الولوالجي في فتاواه: ولو بين الذرعان ولم يبين الوزن هل يجوز السلم في الحرير، واختلف المشايخ فيه: منهم من قال: ليس بشرط، ومنهم من قال: شرط، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي وهو الصحيح، بخلاف سائر الثياب، فإنه لا يشترط فيها الوزن مع الذرع، لأن الحرير يختلف باختلاف الوزن كما يختلف باختلاف الطول والعرض، ولا كذلك الكرباس.
وفي " المنتقى ": إذا باع ثوب حرير يدا بيد لا يجوز إلا وزنا، وفي " المحيط ": لو شرط كذا وكذا ذراعا فله ذراع وسط. واختلف في تفسير الوسط، قيل: أراد به الفعل، يعني لا يمد كل المد ولا يرخي كل الإرخاء، وقيل: أراد به الخشب لأنه لا يتفاوت في الأسواق، قال شيخ الإسلام: والصحيح أنه يحمل عليهما نظرا للجانبين.
وقال الكاكي: وكذا يجوز السلم في البواري والجوالق والمسوح والأكسية والبسوط استحسانا إذا بين طوله وعرضه وصفته وصنعته. قال الولوالجي: السلم في الكاغد يجوز عددا؛ لأنه عددي كالجوز والبيض، وكذا الاستقراض عددي.
[السلم في الجواهر]
م: (ولا يجوز السلم في الجواهر) ش: نحو الياقوت والبلخش واللؤلؤ ونحو ذلك م: (ولا في الخرز) ش: أي ولا يجوز السلم أيضا في الخرز بفتح الخاء والراء ثم الزاي. وقال الجوهري: الخرز بالتحريك الذي ينظم، والواحدة خرزة، وخرزات الملك جواهر تاجه، وعند مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجوز م: (لأن آحادها) ش: أي آحاد الجواهر الخرز م: (تتفاوت تفاوتا فاحشا) ش: لأن كل معدود تتفاوت آحاده في المالية لا يجوز السلم فيه كالبطيخ والرمان، والذي لا تتفاوت آحاده في المالية جاز السلم فيه كالجوز والبيض إذا كان من جنس واحد، وفيه خلاف زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقد مر بيانه في أول الباب م: (وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم؛ لأنه مما يعلم بالوزن) ش: لأنه يدق ويجعل في الدواء ولا خلاف فيه للفقهاء.
م: (ولا بأس بالسلم في الآجر) ش: بفتح الهمزة وضم الجيم وتشديد الراء وهو الطوب المشوي م: (واللبن) ش: بفتح اللام وكسر الباء الموحدة وبالنون، وهو الطوب النيئ م: (إذا سمي ملبنا معلوما) ش: الملبن يحتمل أن يكون اسم ما يصنع فيه اللبن، ويحتمل أن يكون المراد به الآلة.(8/371)
لأنه عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن.
قال: وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه؛ لأنه لا يفضي إلى المنازعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط ": يشترط بيان مكانه والآلة، وقيل: لا يشترط بيان مكانه، وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الآجر واللبن م: (عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن) ش: بكسر الميم وهو الآلة.
وقال الولوالجي في فتاواه: ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه ملبنا معروفا؛ لأنه متى بين ملبنا معرفا فما يقع من التفاوت بين لبن ولبن يكون يسيرا، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعدديات المتقاربة، فيجوز فيه السلم. بخلاف ما لو باع مائة آجرة من آتون لم يجز.
لأن التفاوت فيه في النضج تفاوت فاحش، فألحقناه بالمتقاربة في حق المسلم وفي المتفاوتة في حق المبيع عملا بهما.
وفي شرح " الجامع الصغير " لقاضي خان: أما السلم في الباذنجان عددا لم يذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يجوز وألحقه بالجوز والبيض.
[كل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه) ش: هذا أصل كلي يتخرج منه المسائل، وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيه بحث من وجهين:
أحدهما: أنه عكسها فقال: وما لا يضبط صفته ولا معرفة مقداره لا يجوز السلم فيه ولا ينعكس قولنا: كل إنسان حيوان إلى كل ما ليس بإنسان ليس بحيوان.
والثاني: أنه ذكر القاعدة بعد ذكر الفروع والأصل ذكر القاعدة أولا ثم تفريع الفروع عليها.
والجواب عن الأول: أن جواز السلم يستلزم أوصاف ضبط الصفة ومعرفة المقدار بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم» الحديث، وحينئذ كان مثل قولنا: كل إنسان ناطق وهو ينعكس إلى قولنا: كل ما ليس بإنسان ليس بناطق.
وعن الثاني: أن تقديم القاعدة على الشروع يليق بوضع أصول الفقه، فالمقصود معرفة المسائل الجزئية، فيقدم الفروع ثم يذكر ما هو الأصل الجامع للفروع المتقدمة.
م: (لأنه لا يفضي إلى المنازعة) ش: كما في الأجناس الأربعة من المكيلات والموزونات والمذروعات والعدديات المتقاربة. وقال الكاكي: لا خلاف للفقهاء في جواز السلم في كل ما هو من ذوات الأمثال كالقطن والكتان والإبريسم والنحاس والتبر والحديد والرصاص والصفر(8/372)
وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه؛ لأنه دين، وبدون الوصف يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة،
ولا بأس بالسلم في طست، أو قمقمة، أو خفين، أو نحو ذلك إذا كان يعرف؛ لاجتماع شرائط السلم، وإن كان لا يعرف فلا خير فيه؛ لأنه دين مجهول. قال: وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا للإجماع الثابت بالتعامل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والحناء والوسمة والرياحين اليابسة.
وفي الجذوع البائن الطول والعرض والغلظ، وكذا الساج وصنوف العيدان والخشب والقصب والغزل، ويجوز السلم في التين كيلا وكيله الغرائر، وقيل: إنه موزون، وقيل: المعتبر هو المتعارف، كذا في " المجتبى ".
م: (وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه؛ لأنه دين) ش: أي لأن السلم دين، والدين يعرف بوصفه م: (وبدون الوصف يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة) ش: فلا يجوز لأن جهالة المعقود عليه تفسد العقد
م: (ولا بأس بالسلم في طست) ش: وفي " المغرب ": الطست إناء وهي أعجمية والطست تعريبها، والجمع طساس وطسوس، وقد يقال الطشوش، ذكره في الشين المعجمة.
وقال الجوهري: الطشت الطش بلغة طيء أبدل من إحدى الشينين تاء للاستثقال، فإذا جمعت أو صغرت ردت الشين، لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء قلت طشاش وطشيش م: (أو قمقمة) ش: قال الجوهري: القمقمة بالضم معروفة، وقال الأصمعي: هو رومي والجمع قماقم م: (أو خفين أو نحو ذلك) ش: مثل الكوز والآنية من النحاس والصفر والقلنسوة.
وبه قال الشافعي إن كان يتساوى جوانبه ويمكن العسارة عن ثخانته وطوله وعرضه وما يختلف به العرض، فأما أن يكون أجزاؤه يختلف كالقماقم والطواجن والأواني المتخذة من الصفر والزجاج والمكيزان والحباب فلا يجوز لتفاوت أجزائها فمنها ما يكون أعلاه أوسع وأسفله أضيق وبالعكس وقد يكون وسطه كذلك كذا في تتمتهم.
والشرطان عندنا في جواز ذلك م: (إذا كان يعرف لاجتماع شرائط السلم، وإن كان لا يعرف فلا خير فيه) ش: أي لا يجوز م: (لأنه دين مجهول) ش: والجهالة في الدين تمنع.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإن استصنع شيئا من ذلك) ش: أي من ما ذكر من الطست والقمقمة والخف م: (بغير أجل) ش: أي بغير ذكر مدة فيه م: (جاز استحسانا للإجماع الثابت بالتعامل) ش: في هذه الأشياء، قال أبو أنيس في جامعه: صورة الاستصناع أن يجيء رجل إلى خفاف، ويقول له: اخرز لي خفا صفته كذا وقدره كذا بكذا ويسلم الدراهم أو بعضها أو لا يسلم.(8/373)
وفي القياس لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم، والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة، والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما، والمعقود عليه العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغا عنه لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي القياس: لا يجوز؛ لأنه بيع المعدوم) ش: وبه قال زفر والشافعي، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع ما ليس عند الإنسان» ورخص في السلم وهذا ليس بمسلم؛ لأنه لم يضرب له أجلا، أشار إليه بقوله: بغير أجل، وجه الاستحسان هو ما ذكره بقوله: للإجماع الثابت بالتعامل، فإن الناس في سائر الأعصار تعارفوا الاستصناع فيما فيه تعامل من غير نكير، والقياس يترك بمثله كدخول الحمام.
ولا يشكل بالمذارعة، فإن فيها للناس تعامل وهي فاسدة عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الخلاف فيها كان ثابتا في الصدر الأول دون الاستصناع.
م: (والصحيح أنه) ش: أشار به إلى أنهم اختلفوا في جواز الاستصناع هل بيع أو عدة؟ فقال: والصحيح أن الاستصناع م: (يجوز بيعا) ش: أي من حيث البيع م: (لا عدة) ش: أي لا من حيث الوعد. وقال فخر الإسلام في شرط " الجامع الصغير ": هو بيع عند عامة مشايخنا، لا مواعدة؛ لأنه سماه في الكتاب بيعا وأثبت فيه خيار الرؤية وهو يثبت في البيع لا في الوعد م: (والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما) ش: هذا جواب عما يقال: كيف يجوز أن يكون بيعا والمعدوم لا يصلح أن يكون مبيعا، وتقرير الجواب أن المعدوم قد يعتبر حكما، أي من حيث الحكم كالناسي للتسمية عند الذبح، فإن التسمية جعلت موجودة لعذر النسيان. والطهارة للمستحاضة جعلت موجودة لعذر جواز الصلاة لئلا تتضاعف الواجبات فكذلك المستصنع المعدوم جعل موجودا حكما لتعامل الناس، وقد يكون الشيء موجودا حقيقة ويجعل معدوما حكما كالماء المستحق للعطش، حتى يجوز التيمم مع وجوده.
م: (والمعقود عليه العين) ش: هذا جواب عما يقال: إنما يصح ذلك أن لو كان المعقود عليه هو المستصنع، والمعقود عليه هو الصنع. فأجاب: بأن المعقود عليه هو العين لأن المقصود هو المستصنع م: (دون العمل) ش: وفيه نفي لقول أبي سعيد البردعي، فإنه يقول: المعقود عليه العمل، لأن الاستصناع استفعال من الصنع وهو العمل، فتسميته للمعقود به دليل على أنه هو المعقود عليه، والأديم والصرم فيه بمنزلة الآلة للعمل، ولكن الأصح أن المعقود عليه هو العين، لأن المقصود هو المستصنع فيه وذكر الصفة لبيان الوصف، والدليل عليه أن محمدا أثبت خيار الرؤية فيه، وهو إنما يكون في بيع العين، وكذا يدل عليه قول المصنف بقوله م: (حتى لو جاء به مفروغا عنه) ش: أي لو جاء الصانع الذي يعمل بالمستصنع حال كونه مفروغا م: (لا من صنعته أو من صنعته) ش: أي أو جاء به حال كونه من صنعته م: (قبل العقد) ش: أي قبل عقد الاستصناع(8/374)
فأخذه جاز، ولا يتعين إلا بالاختيار، حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، وهذا كله هو الصحيح. قال: وهو بالخيار إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى شيئا لم يره، ولا خيار للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح؛ لأنه باع ما لم يره. وعن أبي حنيفة أن له الخيار أيضا؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا لضرر وهو قطع الصرم وغيره. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار لهما. أما الصانع فلما ذكرنا، وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرار بالصانع؛ لأنه لا يشتريه غيره بمثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأخذه) ش: أي فأخذه المستصنع م: (جاز) ش: فلا يجبر على قبوله، ولو كان بعد العقد يجبر الآمر على القبول. كذا في " المبسوط ".
م: (ولا يتعين إلا بالاختيار) ش: أي ولا يتعين المستصنع الذي اتخذه الأجل المستصنع إلا باختيار المستصنع، وأوضح ذلك بقوله م: (حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز) ش: لأنه لو تعين لما جاز بيعه قبل اختياره م: (وهذا كله) ش: أي كونه بيعا لا عدة وكون المعقود عليه العين دون العمل، وكونه لا يتعين إلا باختياره م: (هو الصحيح) ش: لما أن في كل واحد منهما قولا آخر كما يجيء بعد هذا.
م: (قال: وهو) ش: أي المستصنع م: (بالخيار) ش: أي إذا رآه م: (إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى شيئا لم يره) ش: فله الخيار إذا رآه م: (ولا خيار للصانع) ش: بل يجبر على العمل لأنه باع ما لم يره م: (كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح لأنه باع ما لم يره) ش: أشار به إلى نفي ما ذكره في " الذخيرة " من أن للصانع الخيار أشار إليه بقوله: م: (وعن أبي حنيفة أن له الخيار أيضا) ش: أي أن للصانع الخيار أيضا كما للآمر.
ذكر هذا في " الذخيرة " من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وكذا في رواية أبي اليسر وقاضي خان م: (لأنه لا يمكنه) ش: أي لأن الصانع لا يمكنه م: (تسليم المعقود عليه إلا لضرر وهو قطع الصرم) ش: بفتح الصاد المهملة وسكون الراء والميم هو الجلد. وفي " المغرب " هو تعريب جرم م: (وغيره) ش: أي وغير الصرم مثل إتلاف الخيط في خرزه.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا خيار لهما) ش: أي للصانع والآمر م: (أما الصانع فلما ذكرنا) ش: أنه لا خيار له لما أن الاستصناع بيع ولا خيار للبائع فيما لم يره م: (وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرار بالصانع لأنه لا يشتريه غيره بمثله) ش: أي بمثل ما اشتراه المستصنع وقد لا يشتريه غيره أصلا، كما لو استصنع واعظ منبرا يعظ الناس عليه فلم يأخذه فالعامي لا يشتريه أصلا.
فإن قيل: الضرر حصل برضاه فلا يكون معتبرا.(8/375)
ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب لعدم المجوز، وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم، وإنما قال: بغير أجل؛ لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أجيب: يجوز أن يكون الرضا على ظن أن المستصنع مجبور على القبول، فلما علم اختياره عدم رضاه.
فإن قيل: ذلك لجهل منه وهو لا يصلح عذرا في دار الإسلام.
أجيب: بأن خيار المستصنع اختيار بعض المتأخرين من أصحابنا ولم يجب على كل واحد من المسلمين في دار الإسلام على أقوال جميع المجتهدين وإنما الجهل ليس بعذر في دار الإسلام في الفرائض التي لا بد لإقامة الدين منها لا في حيازة اجتهاد المجتهدين.
قال الأكمل: وفيه نظر، لأن غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة ثم بلغت فإن لها خيار البلوغ، فإن سكت لجهلها بأن لها الخيار بطل خيارها، لأن الجهل ليس بعذر مع أنه ليس من الفرائض التي لا بد لإقامة الدين منها.
م: (ولا يجوز) ش: أي الاستصناع م: فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب) ش: وفي " الكافي ": كالجباب والثياب، وصورته أن يدفع إلى حائك دينارا ليحيك له ثوبا من غزل نفسه، إبقاء له على القياس السالم عن معارضة الاستحسان بالإجماع م: (لعدم المجوز) ش: بكسر الواو من التجويز والمجوز هو التعامل م: (وفيما فيه تعامل) ش: مثل الذي ذكرناه م: (إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم) ش: أي تسليم المستصنع م: (وإنما قال) ش: أي محمد في أول المسألة م: (بغير أجل) ش: في قوله: وإن استصنع في شيء من ذلك بغير أجل م: (لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فلا يجوز إلا بشرائط السلم في تعجيل رأس المال واستقصاء الوصف وعدم جواز خيار الرؤية، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد -رحمهما الله- لأنهم لا يجوزون الاستصناع م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد فإنه عندهما استصناع.
م: (ولو ضربه) ش: أي الأجل م: (فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق) ش: المراد بضرب الأجل ما يذكر على سبيل الاستمهال، أما المذكور على سبيل الاستعجال على أنه قال: على أن تفرغ غدا أو بعد غد لا يصير سلما؛ لأنه ذكره حينئذ للفراغ لا لتأخير المطالبة بالتسليم، ويحكى عن الهندواني: أن ذكر المدة إن كان من قبل المستصنع فهو الاستعجال، ولا يصير به سلما، وإن كان من الصانع فهو سلم لأنه يذكره على سبيل الاستمهال، وقيل: إن ذكروا في مدة يتمكن فيها من العمل فهو استصناع، وإن كان أكثر من ذلك فهو سلم، لأن ذلك يختلف(8/376)
لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته، ويحمل الأجل على التعجيل، بخلاف ما لا تعامل فيه؛ لأن ذلك استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح. ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم، وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه، وفي تعاملهم الاستصناع نوع شهبة، فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
باختلاف المدة فلا يمكن تقديره بشيء معلوم.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد في المسألة الخلافية م: (أن اللفظ) ش: أي لفظ الاستصناع م: (حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته) ش: الاستصناع أو اللفظ م: (ويحمل الأجل على التعجيل) ش: لأن ذكر الأجل محتمل، فإنه يحتمل أن يكون للتعجيل ويحتمل أن يكون للاستمهال والاستصناع محكم في تناوله ما وضع له غير محتمل لشيء آخر، فيحمل المحتمل على المحكم، فيقال: إن ذكر الأجل للتعجيل م: (بخلاف ما لا تعامل فيه؛ لأن ذلك استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح) ش: بدلالة الأجل تصحيحا لتصرف العاقل ما أمكن.
م: (ولأبي حنيفة أنه) ش: أي أن المستصنع المبيع م: (دين) ش: والمبيع الدين م: (يحتمل السلم) ش: كما لو ذكر لفظ السلم م: (وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه) ش: لأنه ثابت بآية المداينة والسنة م: (وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة) ش: لكونه مجتهد فيه، ولأن فيه خلاف زفر والشافعي -رحمهما الله- م: (فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم) ش: لكونه أقرب إلى الجواز وأحق بالرخصة.(8/377)
مسائل منثورة
قال: ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء. وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل منثورة]
[بيع الكلب والفهد والسباع]
م: (مسائل منثورة)
ش: مسائل مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي هذه مسائل، ومنثورة صفتها من نثرت الدراهم، والتقدير هذه مسائل من كتاب البيوع نثرت عن أبوابها ولم تذكر ثمة، فاستدركت بذكرها هاهنا.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع) ش: مثل الأسد والدب ونحوهما، فالقدوري أطلق بيع الكلب وما ذكر معه ليتناول م: (المعلم وغير المعلم) ش: وأوضحه المصنف بقوله: وغير المعلم م: (في ذلك سواء) ش: أي المعلم وغير المعلم منها من الكلب والفهد والسباع من المذكور في جواز البيع سواء.
وفي " الإيضاح ": بيع كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير جائز معلما كان أو غير معلم في رواية الأصل، أما الكلب المعلم فلا شك في جواز بيعه لأنه آلة الحراسة والاصطياد فيكون محلا للبيع منتفعا به حقيقة وشرعا، فيكون مالا.
وأما غير المعلم فلأنه يمكن أن ينتفع به بغير الاصطياد فإن كل كلب يحفظ بيت صاحبه ويمنع الأجانب عن الدخول فيه ويخبر عن الجاني بنباحه عليه فساوى المعلم في الانتفاع به.
م: (وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به) ش: وفي " شرح الإرشاد ": يجب قتله ويحرم اقتناؤه فلا يجوز بيعه كما في الخنزير، وقال شمس الأئمة السرخسي: ولو كان الكلب العقور بحال يقبل التعليم يجوز بيعه في الصحيح من المذهب، ولا يجوز الذي لا يقبل التعليم.
ونقل الناطفي في " الأجناس " عن مسائل الفضل بن غانم: قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أجيز بيع كلب الصيد والماشية ولا أجيز بيع الكلب العقور، وقال محمد في " نوادر هشام ": يجوز بيع الكلب العقور. وفي الكيسانيات قال محمد: ومن قتله ضمن قيمته، إلى هنا لفظ " الأجناس ".
ونقل في " الأجناس " أيضا عن شرح اختلاف زفر: روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز بيع الأسد حيا ويجوز أن يكون مذبوحا. وجاز بيع الفهد، وفي البيوع للحسن: جاز بيع القرد. وذكر في الأجناس قال أبو يوسف:(8/378)
وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أكره بيع المهر لأنه لا منفعة به، وإنما هو للهو.
م: (وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب) ش: مطلقا؛ لأنه لا منفعة به، وبه قال أحمد، وبعض أصحاب مالك يجوز بيع المأذون بإمساكه ويكره، وجوز الشافعي إجارة الكلب المعلم في أصح الوجهين: أما اقتناء الكب للصيد والزرع والبيوت والمواشي فيجوز بالإجماع م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب» ش: هذا الحديث بغير هذا اللفظ رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام» . وأخرجه الدارقطني أيضا، ولفظه: «ثلاث كلهن سحت أجر الحجام ومهر البغي وثمن الكلب» . وقال الأترازي: وجه قول الشافعي ما وري في صحيح البخاري والسنن مسندا إلى أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن» وذكر أحاديث أخر من هذا الباب، ولكن هذا غير مناسب للحديث الذي ذكره المصنف، ورعاية المناسبة من التناسب.
السحت: الحرام المحض الخالص، وقيل: السحت الحرام المتأصل، من سحته وأسحته أي استأصله، سمي الحرام سحتا لأنه مستأصل دين الآكل ومهر البغي أجرة الزانية، يقال: بغت المرأة بغاء بالكسر، والتي زنت فهي بغي أي زانية، ومن حقه أن يقال: بغية؛ لأنه فعيل بمعنى فاعل، والحكم فيه أن يفرق بين المذكر والمؤنث، إلا أنه قد يشبه فعيلا بمعنى مفعول، فلا يفرق كما في قولهم: ملحفة جديد.
قوله: وثمن الكلب، سماه ثمنا باعتبار صورة البيع، وحلوان الكاهن أجرته من الحلاوة(8/379)
ولأنه نجس العين، والنجاسة تشعر بهوان المحل، وجواز البيع بإعزازه فكان منتفيا. ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو الذي يخبر عن الأشياء بإلقاء الشيطان إليه.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكلب م: (نجس العين) ش: بدلالة نجاسة سؤره، فإنه متولد من اللحم وما كان كذلك لا يجوز بيعه م: (والنجاسة تشعر بهوان المحل) ش: أي بذلته م: (وجواز البيع بإعزازه) ش: أي تشعر بإعزازه م: (فكان منتفيا) ش: أي فكان جواز البيع منتفيا وإلا يلزم اجتماع المتنافيين فلا يجوز.
م: (ولنا أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية» ش: هذا الحديث غريب بهذا اللفظ، ولكن روى الترمذي عن أبي هريرة قال «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد» ثم قال: لا يصح إلا من هذا الوجه، وروى النسائي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكب والسنور إلا كلب الصيد» وقال: حديث منكر، وقال مرة: ليس بصحيح، وقال الكاكي: المدعي جواز بيع جميع الكلب، وهذا الحديث يقتضي جواز بيع كلب الصيد والماشية. قلنا: المقصود من إيراد الحديث إبطال مذهب الخصم، فإنه يدعي شمول عدم الجواز في الكل، أما إثبات المدعي والمذهب بما ذكر في " الأسرار " حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كلب بأربعين درهما» فذكره مطلقا من غير تخصيص في أنواع الكلب بالتضمين وتضمين المتلف دليل على تقومه وماليته.
أو نقول: ثبت جواز بيع الكلب المعلم بقوله: إلا كلب صيد، وجواز بيع الكلب الغير المعلم سوى العقور بقوله أو ماشية، فإن كل كلب يصلح لحراسة الماشية إذ من عادته النباح عند(8/380)
ولأنه منتفع به حراسة واصطيادا، فكان مالا فيجوز بيعه، بخلاف الهوام المؤذية؛ لأنه لا ينتفع بها، والحديث محمول على الابتداء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حضور الذئب، أو السارق فبقي العقور تحت المستثنى منه، كذا في " الأسرار ".
قلت: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح مرسلا، حيث قال: وقد روي في ذلك عن من بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي من الصحابة والتابعين، ثم قال: حديث يونس قال حدثنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما، وقضى في كلب ماشية بكبش.
وأخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال: في كلب الصيد أربعون درهما وفي كلب الماشية شاة من الغنم، وفي كلب الحرث فرق من طعام، وفي كلب الدار فرق من تراب حق على الذي أصابه أن يعطيه، وحق على صاحب الكلب أن يقبله.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكلب م: (منتفع به حراسة واصطيادا) ش: حقيقة وشرعا م: (فكان مالا فيجوز بيعه) ش: لأن المال غير الآدمي خلق لمصالح للآدمي، فيكون محلا للبيع.
فإن قيل: الكلب يمسك للانتفاع بمنافعه لا لعينه كالآدمي فإنه ينتفع بمنافعه إجارة وغيرها، ولا يدل على أن عينه مال.
قلنا: الانتفاع بمنفعة الكلب يقع تبعا لملك العين لا قصدا في المنفعة إلا أنه يورث والمنفعة وحدها لا تورث، فيجري مجرى الانتفاع بمنافع العبد والأمة والثوب، ولا يقال شعر الخنزير ينتفع به للخرز ولا يجوز بيعه، لأنا نقول: إن الخنزير محرم العين شرعا، لا يباح إمساكه لمنفعة بوجه، فيثبت الحرمة في كل جزء منه وسقطت القيمة، ثم الإباحة لضرورة الخرز لا يدل على رفع الحرمة عن أصله فيما عدا الضرورة كإباحة لحمه حال الضرورة لا يدل على صحة أكله وجواز بيعه، فأما الكلب فما ثبت فيه تحريم مطلق وإباحة للضرورة فيبقى ما وراءها على التحريم، كذا في " الأسرار ".
م: (بخلاف الهوام المؤذية) ش: من الحيات والعقارب والوزغ والقنافذ والضب وهوام الأرض جميعا م: (لأنه) ش: أي لأن المذكور من الهوام المؤذية م: (لا ينتفع بها) ش: بل هي مضرة قطعا، والهوام جمع هامة بتشديد الميم، وفي " المغرب " الهامة من الدواب ما يقتل من ذوات السموم كالعقارب والحيات م: (والحديث) ش: أي الحديث المذكور الذي استدل به الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (محمول على الابتداء) ش: أي حاله ابتداء الإسلام وتقريره ما روي عن إبراهيم أنه قال: روي عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص في ثمن كلب الصيد» وذلك دليل على تقديم(8/381)
قطعا لهم عن الاقتناء، ولا نسلم نجاسة العين، ولو سلم فيحرم التناول دون البيع.
قال: ولا يجوز بيع الخمر والخنزير لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها» ، ولأنه ليس بمال في حقنا وقد ذكرناه. قال: وأهل الذمة في البياعات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نهي انتسخ، فإنهم كانوا ألفوا اقتناء الكلاب وكانت تؤذي الضيفان والغرباء فنهوا عن اقتنائها، وهو معنى قوله م: (قطعا لهم عن الاقتناء) ش: وفي بعض النسخ قلعا لهم، فشق ذلك عليهم فأمروا بقتل الكلاب ونهوا عن بيعها تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة، ثم رخص لهم بعد ذلك في ثمن ما يكون منتفعا به من الكلاب، فالحديث الذي رواه الشافعي، كان في الابتداء أو يجوز أن يقال الحديث مشترك الإلزام؛ لأنه قال: ثمن الكلب والثمن في الحقيقة لا يكون إلا في المبايعة.
م: (ولا نسلم نجاسة العين) ش: جواب عن استدلال الشافعي بالمعقول بالمنع، فإن تمليكه في حالة الاجتناب يجوز بالهبة والوصية وليس نجس العين كذلك م: (ولو سلم فيحرم التناول دون البيع) ش: وفي " الإيضاح " فأما نجاسة العين في ذاته -إن سلم له- فتأثيرها في تحريم التناول ووجوب الاجتناب عنه حسنا صونه لنفسه وثيابه عن النجاسة، فأما في حق جواز الانتفاع بها اصطيادا وحراسة فلا. وفي " جامع قاضي خان ": ومثل السرقين عندنا، فإنه يجوز بيعه لانتفاع الناس به من غير نكير، وعند الشافعي: لا يجوز لنجاسة عينه كالعذرة.
قلنا: العذرة لا ينتفع بها إلا إذا اختلط بالتراب، فحينئذ يجوز بيعها تبعا.
[بيع الخمر والخنزير]
م: (قال: ولا يجوز بيع الخمر والخنزير) ش: هذا لفظ القدوري في "مختصره "، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] ....
. الآية فقال: رجس، والرجس اسم للحرام النجس، ولا يجوز التصرف في الحرام م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها» ش: هذا في حديث مسلم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولفظه قال: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» ".
م: (ولأنه) ش: أي ولأن كل واحد من الخمر والخنزير م: (ليس بمال في حقنا) ش: أي ليس بمال متقوم في حق المسلمين م: (وقد ذكرناه) ش: أي في باب البيع الفاسد. م: (قال) ش: أي قال القدوري في "مختصره ".
وقال الأكمل: قال محمد في الأصل: لا يجوز بين أهل الذمة الربا ولا بيع الحيوان بالحيوان، ونقل مطولا من الأصل وكان ينبغي له أن يقول أولا: قال القدوري ثم يقول ما قاله محمد في الأصل تحرزا عن اللبس م: (وأهل الذمة في البياعات) ش: بكسر الباء الموحدة وتخفيف الياء آخر الحروف. قال الجوهري: البياعة السلعة، انتهى.(8/382)
كالمسلمين لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك الحديث: «فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ، ولأنهم مكلفون محتاجون كالمسلمين. قال: إلا في الخمر والخنزير خاصة، فإن عقدهم على الخمر كعقد المسلم على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقد المسلم على الشاة؛ لأنها أموال في اعتقادهم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يعتقدون، دل عليه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فهذا يدل على أن البياعات جمع بياعة، والظاهر من هذا أن المعنى أن أهل الذمة في بيع السلع م: (كالمسلمين) ش: ولكن الظاهر أن الفقهاء أرادوا بالبياعات البيوع، وليس في اللغة ما يدل على هذا م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (في ذلك الحديث: «فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» ش: أراد بذلك الحديث أول حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فإنه حديث أخرجته الأئمة الستة في كتبهم وليس فيه ما ذكر المصنف من قوله ما عليهم.. إلى آخره. وقال مخرج أحاديث الهداية: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف ولم يتقدم في هذا المعنى إلا حديث معاذ، وهو في كتاب الزكاة، وحديث بريدة وهو في كتاب السير وليس فيهما ذلك ولم يتعرض أحد من الشراح إلى تحرير هذا تقصيرا منهم.
م: (ولأنهم) ش: أي ولأن أهل الذمة م: (مكلفون) ش: أي بالإيمان م: (محتاجون) ش: أي في المعاملات م: (كالمسلمين) ش: فكانوا محتاجين إلى ما تبقى به أنفسهم، ولا تبقى الأنفس إلا بالطعام والشراب والكسوة والسكنى، ولا تحصل هذه الأشياء إلا بمباشرة الأشياء المشروعة ومنها البيع، فيجب أن يكون مشروعا في حقهم ليمكنوا من تبقية أنفسهم.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إلا في الخمر والخنزير خاصة، فإن عقدهم على الخمر كعقد المسلم على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقد المسلم على الشاة) ش: حاصل الكلام يحل لهم ما يحل لنا، ويحرم عليهم ما يحرم علينا من البيوع سوى الخمر والخنزير، فإنهم أقروا بعقد الأمان على أن يكون ذلك مالا لهم، فلو لم يجز تصرفهم خرج ذلك من أن يكون مالا وفيه نقض الأمان م: (لأنها) ش: أي الخمر والخنزير م: (أموال في اعتقادهم ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يعتقدون، دل عليه) ش: أي على ما ذكرنا من أنا أمرنا أن نتركهم وما يعتقدون م: (قول عمر: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها) ش: هذا رواه عبد الرزاق في مصنفه في البيوع أخبرنا سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى الحنفي عن سويد بن غفلة قال بلغ عمر بن الخطاب أن عماله يأخذون الجزية من الخمر فناشدهم ثلاثا، وقال له بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنهم ليفعلون ذلك، قال: فلا تفعلوا، قال: فلا تفعلا ولوهم بيعها فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا(8/383)
قال: ومن قال لغيره بع عبدك من فلان بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف ففعل فهو جائز، ويأخذ الألف من المشتري والخمسمائة من الضامن، وإن كان لم يقل "من الثمن" جاز البيع بألف درهم ولا شيء على الضمين. وأصله أن الزيادة على الثمن والمثمن جائزة عندنا وتلتحق بأصل العقد، خلافا لزفر والشافعي لأنه تغيير للعقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع، وهو كونه عدلا أو خاسرا أو رابحا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أثمانها. ورواه أبو عبيد في كتاب الإيمان، وقال فيه ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن.
م: (قال: ومن قال لغيره: بع عبدك من فلان بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف ففعل فهو جائز) ش: هذه المسألة من مسائل " الجامع الصغير "، صورة المسألة أن يطلب إنسان من آخر شراء عبده بألف درهم وهو لا يبيع إلا بألف وخمسمائة والمشتري لا يرغب فيه إلا بالألف فيجيء آخر ويقول لصاحب العبد: بع عبدك هذا من هذا الرجل بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف، فيقول صاحب العبد بعت كذا فالبيع جائز م: (ويأخذ الألف) ش: أي يأخذ البائع الألف م: (من المشتري والخمسمائة) ش: أي ويأخذ الخمسمائة م: (من الضامن) ش: وهو الفضولي الذي لا يتعلق له في الوسط.
م: (وإن كان) ش: أي الرجل الآخر م: (لم يقل "من الثمن" جاز البيع بألف درهم ولا شيء على الضمين) ش: ذكر الإمام السرخسي الفرق بين المسألتين أن في المسألة الأولى ضمن الأجنبي وصير نفسه زعيما حيث قال من الثمن فيجب عليه، وفي الثانية أنه رشاه على البيع بما سماه من المال والرشوة حرام لا يلزم بالضمان م: (وأصله) ش: أي وأصل ما ذكر من هذه المسألة م: (أن الزيادة على الثمن والمثمن جائزة عندنا، وتلتحق) ش: أي الزيادة م: (بأصل العقد، خلافا لزفر كونه) ش: أي كون الثمن م: (عدلا) ش: بأن يكون مساويا لقيمة البيع م: (أو خاسرا) ش: بأن يكون الثمن أقل من قيمة المبيع م: (أو رابحا) ش: بأن يكون الثمن زائدا على قيمة المبيع وكل ذلك مشروع.
فإن قيل: كيف يجب عليه شيء من الثمن بالبيع ولم يدخل في ملكه شيء من المعقود عليه؟
قلنا: التزام الثمن بالبيع مقصودا فصار كبدل الخلع، وقال تاج الشريعة: وإن قلت لو ثبتت هذه الزيادة ثمنا لتوجهت المطالبة بها على المشتري ثم الضامن يتحمل ولا يطالب المشتري بها؛ لأنه لم يلتزمها وإنما يطالب بها من التزمها، لأن من الثمن في حق من التزمها لا في حق(8/384)
ثم قد لا يستفيد المشتري بها شيئا بأن زاد في الثمن وهو يساوي المبيع بدونها، فيصح اشتراطه على الأجنبي، كبدل الخلع، لكن من شرطها المقابلة تسمية وصورة. فإذا قال "من الثمن" وجد شرطها فيصح، وإذا لم يقل لم يوجد فلم يصح.
قال: ومن اشترى جارية ولم يقبضها حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من لم يلتزمها وثبوت الحكم بحسب السبب كالرجل يقول: لفلان على فلان ألف درهم وأنا به كفيل، وأنكر الأصيل ذلك يصير الكفيل مطالبا دون الأصيل لهذا المعنى، انتهى.
وقال بعضهم: القياس يأبى جواز الزيادة من الأجنبي لأنها بدل مال معاوضة من غير أن يحصل ما بإزائه عوض، وذلك لا يجوز اعتبارا بأصل الثمن، إلا أنا تركنا القياس بالنص الوارد بجواز قضاء الدين من الأجنبي شرعا، وهو حديث أبي قتادة حين امتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة على رجل من الأنصار لمكان دين عليه، قال أبو قتادة: هو علي وإلي وفي مالي يا رسول الله. وجوز ذلك منه حتى صلى على الميت وذلك إمضاء منه بذلك المال عوضا عن دينه من غير أن يحصل له عوض بإزائه، والزيادة في الثمن من الأجنبي في معناه فيلحق به دلالة.
وقال صاحب النهاية: الأولى ما قاله العلماء لأنا لو استدللنا في جواز التزام الزيادة من الأجنبي بهذا الحديث ينبغي أن يجوز للأجنبي التزام أصل الثمن أيضا إذ الحكم لا يفرق بينهما وبالاتفاق لا يجوز التزام أصل الثمن من الأجنبي، ولأن حكم الحديث كان بعد الوجوب والتزام الزيادة من الأجنبي وقت المعاقدة بل وجوب أصل الثمن على المشتري فعلم أن بينهما فرقا.
م: (ثم قد لا يستفيد المشتري بها) ش: أي بالزيادة م: (شيئا بأن زاد في الثمن وهو) ش: أي والحال أن الثمن م: (يساوي المبيع بدونها) ش: أي بدون الزيادة، فإذا كان كذلك م: (فيصح اشتراطه) ش: أي اشتراط الثمن.
وفي بعض النسخ فيصح اشتراطها أي اشتراط الزيادة م: (على الأجنبي كبدل الخلع) ش: لأن الخلع لا يسلم شيئا للمرأة بمقابلة بدل الخلع لأنه إسقاط محض واشتراط البدل على الأجنبي غير جائز فكذلك اشتراط الضمان هنا على غير المشتري م: (لكن من شرطها) ش: أي من شرط الزيادة م: (المقابلة تسمية) ش: بأن يتكلم المتكلم بلفظه من الثمن م: (وصورة) ش: بأن يكون المسمى بمقابلة المبيع صورة وإن لم يقابله من حيث المعنى لكون جميع المبيع حاصلا للبيع عليه م: (فإذا قال "من الثمن" وجد شرطها) ش: وهو المقابلة م: (فيصح وإذا لم يقل) ش: من الثمن م: (لم يوجد) ش: أي شرطه م: (فلم يصح) ش: لأنها ليست زيادة في الثمن، بل هو التزام مبتدأ فيكون بطريق الرشوة وهو حرام.
[اشترى جارية ولم يقبضها حتى زوجها فوطئها الزوج]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية ولم يقبضها حتى(8/385)
زوجها فوطئها الزوج، فالنكاح جائز لوجود سبب الولاية، وهو الملك في الرقبة على الكمال وعليه المهر، وهذا قبض لأن وطء الزوج حصل بتسليط من جهته فصار فعله كفعله. وإن لم يطأها فليس بقبض. والقياس أن يصير قابضا لأنه تعييب حكمي فيعتبر بالتعييب الحقيقي. وجه الاستحسان: أن في الحقيقي استيلاء على المحل، وبه يصير قابضا ولا كذلك الحكمي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زوجها فوطئها الزوج فالنكاح جائز لوجود سبب الولاية) ش: أي ولاية التزويج م: (وهو الملك في الرقبة على الكمال وعليه المهر) ش: قيد بالكمال، لأنه لو ملك نصفها لا يملك التزويج.
فإن قيل: ملك الرقبة سبب ولاية التزويج فكذلك سبب ولاية التصرف أيضا، فلم لا يجوز البيع قبل القبض كما قال مالك، فإن عنده يجوز جميع التصرفات قبل القبض، وعندنا لا يجوز البيع وبه قال الشافعي وأحمد، ويجوز التزويج والعتق.
قلنا: لورود النهي في ذلك والنكاح ليس ببيع ولا في معناه، 4ولا يثبت حكم البيع فيه، ألا ترى أن البيع ينفسخ بهلاك المعقود عليه قبل القبض، بخلاف النكاح، وشرط البيع أن يكون مقدور التسليم، بخلاف النكاح فإنه ليس بشرط فيه، ولهذا لا يجوز بيع الآبقة ويجوز إنكاحها.
وذكر الشهيد في " الفتاوى الكبرى ": جاز نكاحها قبل القبض إن تم البيع، وإن انتقض بطل النكاح في قول أبي يوسف، خلافا لمحمد، والمختار قول أبي يوسف، وذكر الإمام قاضي خان والزدمكري: لو ماتت الجارية قيل لا يبطل النكاح وإن بطل البيع، ومتى لم يطأها حتى مات يجب المهر للمشتري.
م: (وهذا) ش: أي وطء الزوج م: (قبض) ش: وعند الشافعي وأحمد، ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا يصير قبضا م: (لأن وطء الزوج حصل بتسليط من جهته) ش: أي من جهة المشتري م: (فصار فعله كفعله) ش: أي فعل الزوج كفعل المشتري م: (وإن لم يطأها) ش: أي الزوج م: (فليس بقبض، والقياس أن يصير قابضا) ش: أي فيصير المشتري قابضا بمجرد النكاح م: (لأنه) ش: أي لأن التزويج م: (تعييب حكمي، فيعتبر بالتعييب الحقيقي) ش: حتى لو وجدها المشتري ذات زوج كان له أن يردها فيصير كالتعييب الحقيقي كقطع اليد وفقء العين.
م: (وجه الاستحسان أن في الحقيقي) ش: أي في التعييب الحقيقي م: (استيلاء على المحل) ش: باتصال فعل منه إليه م: (وبه يصير قابضا) ش: أي بالتعييب الحقيقي يصير قابضا م: (ولا كذلك الحكمي) ش: أي التعييب الحكمي، فلا يصير قابضا.
فإن قيل: يشكل هذا بالإعتاق والتدبير فإنهما إبقاء بالاستيلاء على المحل بالفعل الحسي، ومع أنه يصير قابضا بهما بإجماع العلماء قلنا هما إتلاف من وجه، لأن الإعتاق إنهاء للملك(8/386)
فافترقا.
قال: ومن اشترى عبدا فغاب والعبد في يد البائع، وأقام البائع البينة أنه باعه إياه، فإن كانت غيبة معروفة لم يبع في دين البائع؛ لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع، وفيه إبطال حق المشتري، وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن؛ لأن ملك المشتري ظهر بإقراره، فيظهر على الوجه الذي أقر به مشغولا بحقه. وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري يبيعه القاضي فيه، كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع لم يقبض، بخلاف ما بعد القبض؛ لأن حقه لم يبق متعلقا به، ثم إن فضل شيء يمسك للمشتري؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإتلاف للمالية، ولهذا ثبتت الولاية. وله من ضرورته أن يصير قابضا وكذا التدبير في استحقاق الولاء وثبوت حق الحرية كذا في " المبسوط ". م: (فافترقا) ش: أي بالوجه المذكور افترق الحكمان المذكوران.
[اشترى عبدا فغاب والعبد في يد البائع]
م: (قال: ومن اشترى عبدا فغاب والعبد في يد البائع) ش: أي فغاب المشتري والحال أنه لم يدفع الثمن إلى البائع م: (وأقام البائع البينة) ش: عند القاضي م: (أنه باعه إياه) ش: أي أن البائع باع العبد إياه، أي للذي اشتراه ثم غاب قبل نقد الثمن، وهو معنى قوله: ولم يقبض الثمن وطلب من القاضي أن يبيعه بدينه.
م: (فإن كانت غيبة) ش: المشتري م: (معروفة لم يبع في دين البائع) ش: على صيغة المجهول، أي العبد لم يبع م: (لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع وفيه) ش: أي وفي بيع العبد م: (إبطال حق المشتري) ش: لأن البيع يبطل حقه في العبد م: (وإن لم يدر) ش: أي وإن لم يعلم م: (أي هو) ش: أي المشتري يعني في أي مكان هو م: (بيع العبد) ش: في دين البائع م: (وأوفى الثمن) ش: أي ثمن العبد الذي اشتراه الرجل يوفي من ثمنه الذي يباع لأجل دين البائع م: (لأن ملك المشتري ظهر بإقراره) ش: أي بإقرار البائع أنه باعه إياه م: (فيظهر على الوجه الذي أقر به) ش: حال كونه م: (مشغولا بحقه) ش: أي بحق البائع.
م: (وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري) ش: لأجل غيبة المشتري وعدم معرفة مكانه م: (يبيعه القاضي) ش: لأنه نصب ناظرا لمصالح المسلمين م: (فيه) ش: أي في استيفاء م: (كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع) ش: فإن المرتهن أحق بالمرهون يباع في دينه إذا تعذر الاستيفاء م: (لم يقبض) ش: فإن المبيع يباع بثمنه.
م: (بخلاف ما بعد القبض) ش: أي بخلاف ما إذا قبض المشتري المبيع فإن بينه البائع لم تقبل. م: (لأنه حقه) ش: أي حق البائع. م: (لم يبق متعلقا به) ش: أي بالعبد بل صار دينا في ذمة المشتري م: (ثم إن فضل شيء) ش: من ثمن العبد م: (يمسك المشتري) ش: لأن الفاضل له م:(8/387)
لأنه بدل حقه. وإن نقص يتبع هو أيضا.
فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه. وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه؛ لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه، وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه. ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن، لأن البيع صفقة واحدة وله حق الحبس ما بقي شيء منه، والمضطر يرجع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لأنه بدل حقه. وإن نقص يتبع هو أيضا. فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه. وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه؛ لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه، وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه. ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن، لأن البيع صفقة واحدة وله حق الحبس ما بقي شيء منه، والمضطر يرجع
م: (لأنه بدل حقه) ش: أي لأن الفاضل بدل حق المشتري م: (وإن نقص) ش: حق البائع من ثمن العبد م: (يتبع هو أيضا) ش: أي يتبع البائع المشتري أيضا، يعني يرجع البائع بالنقصان إذا ظفر به.
م: (فإن كان المشتري اثنين) ش: أي فإن كان مشتري العبد اثنين م: (فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه) ش: أي ويقبض العبد م: (وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن، وهو) ش: أي المذكور من الحكم م: (قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه؛ لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه، وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه) ش: ذكر هذه المسألة تفريعا لما تقدم، والخلاف في موضعين: في قبض الكل وفي ولاية الرجوع، واعلم أولا أن الحاضر ليس له أن يقبض العبد حتى يؤدي كل الثمن بالاتفاق، لأن للبائع حبس المبيع بكل الثمن، فإذا أدى كل الثمن لا يقبض إلا نصيبه ولا يرجع عليه بما أدى عند أبي يوسف، وعندهما يقبض الكل ويرجع بما أدى.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الحاضر م: (مضطر فيه) ش: أي في دفع كل الثمن م: (لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن؛ لأن البيع صفقة واحدة وله) ش: أي وللبائع م: (حق الحبس) ش: أي حبس المبيع لأجل قبض جميع الثمن م: (ما بقي شيء منه) ش: أي من الثمن فيكون مضطرا في ذلك م: (والمضطر يرجع) .
فإن قيل: لو كان التعليل بالاضطرار مقولا عليه لما تفاوت الحكم بين أن يكون الشريك حاضرا أو غائبا كما في صاحب العلو، فإنه يبني السفل ليبني عليه علوه، فإنه لا يكون متبرعا ببناء السفل، سواء كان صاحب السفل حاضرا أو غائبا. وهاهنا لو كانا حاضرين فأراد أحدهما نقد الثمن وقبض نصيبه ليس له ذلك بالإجماع، ولو نقد نصيبه كان متبرعا فيما نقد بالإجماع.
قلنا: الملك للغائب إنما يثبت في نصيبه باعتبار قبول الحاضر؛ لأن من خاطب الاثنين بالبيع(8/388)
كمعير الرهن. وإذا كان له أن يرجع عليه كان له الحبس عنه إلى أن يستوفي حقه، كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن من مال نفسه.
قال: ومن اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة فهما نصفان؛ لأنه أضاف المثقال إليهما على السواء فيجب من كل واحد منهم خمسمائة مثقال لعدم الأولوية. وبمثله لو اشترى جارية بألف من الذهب والفضة يجب من الذهب مثاقيل، ومن الفضة دراهم وزن سبعة؛ لأنه أضاف الألف إليهما فينصرف إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقبل أحدهما دون الآخر لم يملك شيئا منه، وإذا ثبت أن الملك له باعتبار قبول الحاضر بمنزلة الوكيل عنه بالشراء، وإذا نقد الثمن يتمكن من قبض المبيع ويثبت له حق الرجوع على صاحبه بنصيبه. وأما صاحب العلو فإنه مضطر إلى أن يتوصل إلى حقه من بناء العلو، سواء كان صاحب السفل حاضرا أو غائبا، لأنه ليس له أن يخاصمه في أن يبني السفل ليبني هو علوه، فلذلك افترقا.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما إذا استأجر رجلان دارا فغاب أحدهما قبل نقد الأجرة فنقد الحاضر الأجر كله فإنه يكون متبرعا بالإجماع.
قلنا: إنه غير مضطر في نقد نصيب صاحبه من الأجرة من قبل أنه ليس للآجر حبس الدار لاستيفاء الأجر، كذا ذكره التمرتاشي م: (كمعير الرهن) ش: صورته رجل أعار إنسانا شيئا ليرهنه فرهنه المستعير ثم أفلس أو غاب فأهلكه المعير يرجع بما أدى منه عليه، وإن كان ذلك الأداء بغير أمره لأنه مضطر، فكذا فيما نحن فيه.
م: (وإذا كان له) ش: أي للبائع م: (أن يرجع عليه) ش: أي على المشتري م: (كان له الحبس عنه) ش: أي حبس نصيبه م: (إلى أن يستوفي حقه) ش: وهو ادعى عنه م: (كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن) ش: أي ثمن الذي اشتراه م: (من مال نفسه) ش: دون مال الموكل فإنه يرجع عليه بما أدى من الثمن.
[اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة فهما) ش: أي الذهب والفضة م: (نصفان) ش: يعني من الذهب خمسمائة مثقال ومن الفضة خمسمائة مثقال ولم يرجح الذهب لاختصاصه بالمثاقيل، ولم تترجح الفضة لكونها غالبة في المبايعات لأنهما لما تعارضا ولم يوجد المرجح صير إلى قضية الإضافة والبيان فوجب من كل واحد منهما خمسمائة. م: (لأنه أضاف المثقال إليهما على السواء فيجب من كل واحد منهما خمسمائة مثقال لعدم الأولوية) ش: للترجيح م: (وبمثله) ش: أي وبمثل المذكور م: (لو اشترى جارية بألف من الذهب والفضة يجب من الذهب مثاقيل ومن الفضة دراهم وزن سبعة) ش: يعني كل عشرة وزن سبعة م: (لأنه أضاف الألف إليهما) ش: أي إلى الذهب والفضة م: (فينصرف إلى(8/389)
الوزن المعهود في كل واحد منهما. قال: ومن له على آخر عشرة دراهم جياد، فقضاه زيوفا وهو لا يعلم، فأنفقها، أو هلكت؛ فهو قضاء عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه؛ لأن حقه في الوصف مرعي، كهو في الأصل، ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف؛ لأنه لا قيمة له عند المقابلة بجنسه، فوجب المصير إلى ما قلنا: ولهما أنه من جنس حقه حتى لو تجوز به فيما لا يجوز الاستبدال جاز، فيقع به الاستيفاء، ولا يبقى حقه إلا في الجودة، ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما ذكرنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوزن المعهود في كل واحد منهما) ش: وفي بعض النسخ إلا أنه ينصرف المعهود، والمعهود في الذهب المثاقيل وفي الفضة الدراهم.
وقال التمرتاشي: لو قال: بألف مثقال من الذهب والفضة فهما نصفان؛ لأنه أضاف العقد إليهما على السواء، ويشترط بيان صفتهما بخلاف الدراهم والدنانير حيث ينصرف إلى الجيد. وكذا لو قال: على مائة مثقال ذهب وفضة فعليه من كل واحد النصف، وهكذا في جميع ما يقر به من المكيل والموزون والثياب وغيرها قرضا أو سلما أو غصبا أو وديعة أو بيعا أو شراء أو مهرا، وجعلا في خلع أو وصية أو كفالة، وكذا لو قال: علي كر حنطة وشعير وسمسم، كان عليه الثلث من كل جنس.
[له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفا]
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفا) ش: أي دراهم زيوفا م: (وهو لا يعلم) ش: أي والحال أن صاحب الدين لا يعلم زيافتها م: (فأنفقها) ش: أي فأنفق تلك الزيوف رب الدين م: (أو هلكت فهو قضاء عند أبي حنيفة ومحمد) ش: يعني يكون مؤديا ما عليه من تلك الدراهم ولا يبقى عليه شيء.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه لأن حقه في الوصف) ش: وهو الجودة أو الرداءة م: (مرعي كهو في الأصل) ش: أي كحقه في القدر حتى لو كان حقه في القدر الذي هو الأصل لم يسقط مطالبته فكذا إذا كان دون حقه وصفا فيرد المقترض إن كان باقيا وبمثله إن كان مستهلكا م: (ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف) ش: منفردا لعدم انفكاكه م: (لأنه) ش: أي لأن الوصف (لا قيمة له عند المقابلة بجنسه) لأنه يؤدي إلى الربا، فإذا كان الأمر كذلك م: (فوجب المصير إلى ما قلنا) ش: وهو قوله: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي المؤدَّى وهو الزيوف م: (من جنس حقه) ش: وأوضح ذلك بقوله: م: (حتى لو تجوز به) ش: أي بالمؤدى يعني يؤاخذه مسائلا لنقصان حقه م: (فيما لا يجوز الاستبدال) ش: فيه كما في الصرف والسلم م: (جاز فيقع به الاستيفاء، ولا يبقى حقه إلا في الجودة، ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما ذكرنا) ش: إشارة إلى(8/390)
وكذا بإيجاب ضمان الأصل؛ لأنه إيجاب له عليه ولا نظير له.
قال: وإذا فرخ طير في أرض رجل فهو لمن أخذه، وكذا إذا باض فيها، وكذا إذا تكنس فيها ظبي؛ لأنه مباح سبقت يده إليه، ولأنه صيد وإن كان يؤخذ بغير حيلة والصيد لمن أخذه، وكذا البيض لأنه أصل الصيد، ولهذا يجب الجزاء على المحرم بكسره أو شيه، وصاحب الأرض لم يعد أرضه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: لأنه لا قيمة له عند المقابلة بجنسه.
م: (وكذا بإيجاب ضمان الأصل) ش: أي وكذا لا يمكن تداركها بإيجاب ضمان الأصل م: (لأنه) ش: أي لأن إيجاب ضمان الأصل م: (إيجاب له عليه) ش: أي إيجاب الأصل عليه م: (ولا نظير له) ش: أي في الشرع. وحاصل الكلام أن الجودة لا يمكن فيها الضمان شرعا لأنها عند المقابل بالجنس هدر ولا عقلا لعدم تصور الانفكاك ولا بإيجاب ضمان الأصل، لأن المضمون حينئذ هو الأصل والفرض أنه من حيث الأصل مستوف بإيجاب الضمان باعتباره إيجاب له عليه ولا نظير له في الشرع، واعترض من وجهين:
أحدهما: أن إيجاب الضمان على رجل لنفسه لا يجوز إذا لم يفد، وهاهنا يفيد فصار ككسب المأذون له المديون فإنه مضمون على المولى، وإن كان ملكا له، حتى لو اشترى صح.
والثاني: أن المقصود بالأصلي هو وجوب حق صاحبه ووجوب الضمان له عليه ضمنا فلا يعتبر.
الجواب عن الأول: أن الفائدة إنما هي للغرماء فكان تضمين الشخص لغيره، بخلاف ما نحن فيه. وعن الثاني: أن الوصف تابع فلا يجوز أن يكون الأصل تابع له.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (وإذا فرخ طير في أرض رجل فهو لمن أخذه وكذا) ش: أي وكذا لمن أخذ م: (إذا باض فيها) ش: طير في أرض رجل م: (وكذا إذا تكنس) ش: وفي بعض النسخ تكسر أي في كناسة، وهو موضعه، وفيه احتراز بقوله تكسر لأنه لو كسره أحد يكون له م: (فيها) ش: أي في أرض رجل م: (ظبي) ش: مرفوع لأنه فاعل م: (لأنه) ش: أي ولأن كل واحد من الفرخ والبيض والظبي م: (مباح سبقت يده إليه) ش: فاستحق ذلك بالسبق.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن كل واحد من الفرخ والبيض والظبي م: (صيد) ش: فالذي يأخذه هو حق له بالحديث م: (وإن كان يؤخذ بغير حيلة) ش: كلمة إن واصلة بما قبلها.
م: (والصيد لمن أخذه) ش: بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الصيد لمن أخذ» م: (وكذا البيض) ش: حكمه حكم الصيد م: (لأنه) ش: أي لأن البيض م: (أصل الصيد) ش: وأوضح ذلك بقوله: م: (ولهذا يجب الجزاء على المحرم بكسره) ش: أي بكسر البيض م: (أو شيه) ش: أي أو شي البيض، وأشار إلى أن الحكم المذكور فيما إذا لم يعد صاحب الأرض موضعا لفراخ الصيد ليأخذه، وأما إذا أعد في أرضه موضعا لذلك فهو له، وأشار إليه بقوله م: (وصاحب الأرض لم يعد أرضه(8/391)
لذلك فصار كنصب شبكة للجفاف، وكذا إذا دخل الصيد داره، أو وقع ما نثر من السكر أو الدراهم في ثيابه، لم يكن له ما لم يكفه، وكذا إذا كان مستعدا له، بخلاف ما إذا عسل النحل في أرضه لأنه عد من أنزاله فيملكه تبعا لأرضه كالشجر النابت فيه والتراب المجتمع في أرضه بجريان الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لذلك) ش: أي لأجل فراخ الصيد، والواو فيه للحال م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كنصب شبكة للجفاف) ش: أي لأجل الجفاف فتعلق بها صيد فهو للأخذ، وكذا إذا نصب خيمة.
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا دخل الصيد داره) ش: فهو للأخذ. وقال الأترازي: ولو أن صيدا دخل دار رجل فأغلق عليه الباب فإن كان يقدر على أخذه بغير صيد فقد ملكه، ولو أنه أغلق الباب ولم يرد به الصيد ولم يعلم به فلا يملكه، فإذا خرج منه فهو لمن أخذه م: (أو وقع ما نثر من السكر أو الدراهم في ثيابه لم يكن له) ش: فهو لمن أخذه م: (ما لم يكفه) ش: أي ما لم يضم صاحب الثياب ثيابه، فإذا كان كفه فهو له دون غيره م: (وكذا) ش: أي وكذا يكون لصاحب الثياب م: (إذا كان مستعدا له) ش: بأن قصده وتهيأ له فحينئذ يكون له ما وقع في ثيابه.
م: (بخلاف ما إذا عسل النحل في أرضه) ش: بتشديد السين، يقال زنجبيل معسل، أي جعل فيه العسل، وعسلت القوم إذا رددت لهم العسل يكون العسل له مطلقا م: (لأنه) ش: أي لأن العسل م: (عد من أنزاله) ش: الأرض وذكر الضمير وإن كان راجعا إلى الأرض باعتبار المكان، والأنزال بفتح الهمزة جمع النزل وهو الزيادة والفضل، كذا في " المغرب ". والحاصل أنه من ريع الأرض وما فضل منها، فإذا كان كذلك م: (فيملكه) ش: أي يملكه م: (تبعا لأرضه) ش: لأن العسل غالبا لا يحصل في مطلق المواضع ولا يمطر الأغذية فإذا عسل في أرض علم أنه من نبات تلك الأرض م: (كالشجر النابت فيه) ش: يعني إذا ثبتت في أرضه فتكون له م: (والتراب) ش: أي كالتراب م: (المجتمع في أرضه بجريان الماء) ش: يكون أيضا لمالك الأرض، وإذا لم تكن الأرض معدة لذلك بخلاف الصيد كما ذكرنا.(8/392)
كتاب الصرف
قال: الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان، سمي به للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد. والصرف هو النقل والرد لغة، أو لأنه لا يطلب منه إلا الزيادة إذ لا ينتفع بعينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصرف]
م: (كتاب الصرف) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام الصرف. وجه تأخير كتاب الصرف عن بيان أنواع البيوع أنه ذكر في أول باب السلم، أو لأن الصرف بيع الأثمان والثمن في البياعات يجري مجرى الوصف، والمبيع يجري مجرى الأصل لتوقف جواز البيع إلى وجود المبيع دون الثمن والوصف تابع للأصل.
[تعريف الصرف]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (الصرف هو البيع) ش: وفي " المبسوط ": الصرف اسم لنوع بيع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض، أشار إليه المصنف بقوله: م: (إذا كان كل واحد من عوضيه) ش: أي من عوضي البيع م: (من جنس الأثمان) ش: إنما قال من جنس الأثمان ولم يقل من الأثمان؛ لأن عقد الصرف يشمل التبر والحلي والمضروب والمخلوط، وقال الإمام الأسبيجابي: الصرف اسم لعقود ثلاثة بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة أو أحدهما بالآخر، فما اختص باسم الصرف اختص بشرائط ثلاثة، وجود التقابض من الجانبين جميعا قبل التفرق بالأبدان، وعدم اشتراط الخيار فيه.
ولو أبطل صاحب الخيار خياره قبل التفرق انقلب العقد جائزا عندنا خلافا لزفر، ولا يكون فيه تأجيل م: (سمي به) ش: أي سمي هذا العقد بالصرف م: (للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد) ش: أي لحاجة المتصارفين إلى نقل الثمن من يد أحدهما إلى يد الآخر.
م: (والصرف هو النقل والرد لغة) ش: أي يعني الصرف لغة هو النقل والرد، كذا قاله الخليل. ومنه سميت العبادة النافلة صرفا، وذكر في كتاب " العين " للخليل: الصرف فضل الدرهم على الدرهم في القيمة، وقال ابن دريد في " الجمهرة ": وقال بعض أهل اللغة: الصرف الفريضة والعدل النافلة. وقال قوم: الصرف الوزن والعدل الكيل م: (أو لأنه) ش: أي لأن الصرف عقد م: (لا يطلب منه إلا الزيادة) ش: أي لأنه عقد يرد على مال لا يطلب منه ذاته، بل يطلب منه الفضل م: (إذ لا ينتفع بعينه) ش: أي بعين ما يكون ثمنا خلقة فإن غير الدراهم والدنانير ينتفع بعينه كاللحم والثوب وغيرهما من أشياء غير النقدين، فيجوز أن تكون الفائدة والمقصود في بيعها الانتفاع بها لا الزيادة.(8/393)
والصرف هو الزيادة لغة، كذا قاله الخليل،
ومنه سميت العبادة النافلة صرفا.
قال: فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل، وإن اختلفا في الجودة والصياغة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، وزنا بوزن، يدا بيد والفضل ربا» الحديث، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جيدها ورديئها سواء» وقد ذكرناه في البيوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أما في بيع الصرف لو لم يكن المطلوب الزيادة فيخلو عن الفائدة م: (والصرف هو الزيادة لغة، كذا قاله الخليل) ش: فكانت إرادة الزيادة مطلوبة في بيعها، فلهذا اختص هذا البيع بلفظ الصرف، وعن هذا قيل لمن يعرف هذا الفضل والزيادة صراف وصيرفي.
م: (ومنه) ش: أي ومن القول بأن الصرف لغة الزيادة م: (سميت العبادة النافلة صرفا) ش: لأنها زائدة على الفرائض. وقال الأترازي: وأما قوله: سميت العبادة النافلة صرفا ففيه نظر، لأن الزمخشري أورد في فائقه في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذكر المدينة: «من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرف ولا عدل» ، فقال: الصرف التوبة لأنه صرف للنفس إلى البر عن الفجور والعدل العدية من المعادلة انتهى. قلت: لا وجه في هذا النظر أصلا، لأن الصرف ورد لمعان كثيرة وقد ذكرناها الآن.
[باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل وإن اختلفا) ش: أي العوضان م: (في الجودة والصياغة) ش: أما في الجودة بأن يكون أحدهم أجود من الآخر في ذاته، وأما الصياغة بأن يكون أحدهما أحسن صياغة من الآخر م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا» ش: هذا الحديث قد تقدم في باب الربا م: (الحديث) ش: بالنصب، أي اقرأ هذا الحديث بتمامه، ويجوز بالرفع، أي روي هذا الحديث بتمامه وقد تقدم تمامه هناك.
م: (وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جيدها ورديئها سواء» ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جيد الأموال الربوية ورديئها سواء في حرمة الزيادة، وهذا الحديث غريب ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وهو ما رواه مسلم عنه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الأخذ والعطاء فيه سواء» . وفي حديث عبادة بن الصامت: «الذهب بالذهب» - إلى قوله- «سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» م: (وقد ذكرناه) ش: أي الحديث المذكور م: (في البيوع) ش: أي في كتاب البيوع.(8/394)
قال: ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق لما روينا، ولقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره. ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن بيع الكالئ بالكالئ، ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[بيع الكالئ بالكالئ]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق) ش: يعني قبل الافتراق بالأبدان بإجماع العلماء م: (لما روينا) ش: وهو قوله: «يدا بيد» م: (ولقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره) ش: هذا رواه محمد بن الحسن في أوائل كتاب الصرف، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الذهب بالذهب مثلا بمثل والورق بالورق مثلا بمثل لا تفضلوا بعضها على بعض، لا يباع منها غائب بناجز، فإني أخاف عليكم الربا وإن استنظرك إلى أن يدخل بيته فلا تنظره، انتهى.
قوله: استنظرك يخاطب به أحد عاقدي الصرف يعني إن سألك صاحبك أن يدخل بيته لإخراج بدل الصرف فلا تمهله، وقال القدوري في شرحه لمختصر الكرخي: وعن ابن عمر أنه قال: إن وثب من سطح فثب معه.
وقال الأترازي: الربا إما بالمد يعني الربا، وهذا الذي ذكرناه كله دليل على وجوب التقابض قبل الافتراق. وفي "فوائد" القدوري: المراد بالقبض هنا القبض بالتزاحم لا بالتخلية، وهذا القبض شرط بقاء العقد على الصحة، لا شرط انعقاده صحيحا، يدل عليه قوله: فإن افترقا بطل العقد، والمشي إنما يبطل بعد وجوده.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الشأن م: (لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن بيع الكالئ بالكالئ) ش: أي النسيئة بالنسيئة، «ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الكالئ بالكالئ» . رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يباع كالئ بكالئ يعني دينا بدين.» م: (ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق) ش: بالنصب لأنه جواب النفي، وهو قوله: لا بد، والمعنى كيلا يتحقق م: (الربا) ش: إذ في عدم قبض الآخر شبهة بيع النقد بالنسيئة، فيتحقق شبهة الربا وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل: يشكل على هذا التعليل ما إذا باعا المصوغ بالمضروب، فإن المصوغ مما يتعين بالتعيين، ومع ذلك يشترط قبضها إذ النسيئة بالنسيئة أن ما تكون باعتبار عدم التعيين، ومع ذلك يشترط قبضها، لكن فيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا بالشبهة في باب(8/395)
ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما، سواء كانا يتعينان كالمصوغ، أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا. ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة، فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا،
قال: والمراد منه الافتراق بالأبدان، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة، أو ناما في المجلس، أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر: وإن وثب من سطح فثب معه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الربا.
م: (ولأن أحدهما) ش: دليل آخر، ولأن أحد العوضين م: (ليس بأولى) ش: بالقبض م: (من الآخر فوجب قبضهما سواء كانا يتعينان كالمصوغ) ش: والتبر م: (أو لا يتعينان كالمضروب، أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذهب بالذهب مثلا بمثل» : وهو يتناول المضروب وغيره م: (ولأنه) ش: أي ولأن بيع المصوغ بالمصوغ م: (إن كان يتعين) ش: يعني بالتعيين م: (ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة) ش: أي لكونه خلق ثمنا، فإذا كان كذلك م: (فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا) ش: حاصل هذا أن قوله: ولأنه إن كان يتعين جواب عما يقال: بيع المضروب بلا قبض لا يصح لأنه كالئ بكالئ، وبيع المصوغ بالمصوغ ليس كذلك لتعينه بالتعيين فأجاب بقوله ولأنه إلى آخره.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل: فعلى هذا -أي على الذي ذكره المصنف- يلزم في بيع المضروب بالمصوغ نسيئة بشبهة الفضل، فإذا بيع مضروب بمصوغ نسيئة وهو مما يتعين كان بالنظر إلى كونه خلق ثمنا شبهة عدم التعيين وتلك شبهة زائدة على الشبهة الأولى، والشبهة هي المعتبرة دون النازل عنها.
أجيب: بأن عدم الجواز في المضروب نسيئة بقوله يدا بيد لا بالشبهة، لأن الحكم في موضع النص يضاف إليه لا إلى العلة فتكون الحرمة في هذه الصورة باعتبار النص لا الشبهة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والمراد منه) ش: أي من قوله قبل الافتراق م: (الافتراق بالأبدان) ش: دون المكان م: (حتى لو ذهبا عن المجلس) ش: أي المتعاقدان بالصرف حال كونهما م: (يمشيان معا في جهة واحدة) ش: قيد بمعا لأنهما لو مشيا في جهتين مختلفتين يبطل الصرف لوجود الافتراق بالأبدان م: (أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر) ش: أي لقول عبد الله بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - م: (وإن وثب من سطح فثب معه) ش: وقد مر الكلام في قول ابن عمر هذا عن قريب.
وقوله: فثب بكسر الثاء المثلثة وسكون الباء أمر من وثب يثب، وأصل يثب يوثب فحذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، والأمر منه: ثب على وزن عل، لأن المحذوف منها فاء الفعل م:(8/396)
وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض.
وإن باع الذهب بالفضة جاز التفاضل لعدم المجانسة ووجب التقابض لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» ،
فإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد لفوات الشرط وهو القبض، ولهذا لا يصح شرط الخيار فيه،
ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وكذا المعتبر ما ذكرناه) ش: أي وكذا الذي يعتبر ما ذكرناه وهو الافتراق بالأبدان م: (في قبض رأس مال السلم) ش: أراد أن قبض رأس المال قبل الافتراق بالأبدان في السلم شرط.
م: (بخلاف خيار المخيرة) ش: هذا يرتبط بقوله: لا يبطل الصرف، يعني أن الصرف لا يبطل بذهاب العاقدين معا وخيار المخيرة يبطل م: (لأنه) ش: أي لأن خيارها م: (يبطل بالإعراض) ش: لأن اشتغالها بالمشي وإن كان زوجها معها دليل الإعراض عما جعل إليها فيبطل خيارها وإن لم تفارق الزوج، كذا قال القدوري في شرحه.
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أنه جعل الصرف بمنزلة خيار المخيرة حتى قال: يبطل بما هو دليل الإعراض كالقيام عن المجلس، كذا في " الذخيرة ".
[باع الذهب بالفضة]
م: (وإن باع الذهب بالفضة جاز التفاضل لعدم المجانسة ووجب التقابض لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» ش: هذا الحديث رواه الأئمة الستة في كتبهم عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» . الورق بكسر الراء الفضة.
قوله: ربا أي حرام، بطريق إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا، وذلك لأن الربا يستلزم الحرام، قوله هاء وهاء مقصوران وممدودان ومعنى هاء خذ، ومنه قَوْله تَعَالَى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] (الحاقة: الآية 19) .
وقال الكاكي: وفي بعض الروايات «إلا يدا بيد هاء وهاء» وهو تأكيد لقوله يدا بيد، كأنه قال إلا يدا مع التقابض، كذا في " المغرب ".
قلت: ولم أقف على هذه الرواية في كتب الحديث.
[افترقا في الصرف قبل قبض العوضين]
م: (فإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين) ش: هذا متعلق بقوله: ولا بد من قبض العوضين لبقاء العقد م: (أو أحدهما) ش: أي أو أحد المتعاقدين م: (بطل العقد لفوات الشرط وهو القبض، ولهذا) ش: أي ولأن الافتراق بلا قبض مبطل م: (لا يصح شرط الخيار فيه) ش: أي في الصرف، قيد بشرط الخيار لأن خيار العيب وخيار الرؤية يثبتان في الصرف كما في سائر العقود، إلا أن خيار الرؤية لا يثبت إلا في العين، وقد مر ذلك في أول كتاب الصرف م: (ولا(8/397)
الأجل؛ لأن بأحدهما لا يبقى القبض مستحقا، وبالثاني يفوت القبض المستحق، إلا إذا أسقط الخيار في المجلس فيعود إلى الجواز لارتفاعه قبل تقرره، وفيه خلاف زفر. قال: ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه، حتى لو باع دينارا بعشرة دراهم، ولم يقبض العشرة حتى اشترى بها ثوبا فالبيع في الثوب فاسد؛ لأن القبض مستحق بالعقد حقا لله تعالى وفي تجويزه فواته، وكان ينبغي أن يجوز العقد في الثوب كما نقل عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الدراهم لا تتعين فينصرف العقد إلى مطلقها، ولكنا نقول: الثمن في باب الصرف مبيع؛ لأن البيع لا بد له منه ولا شيء سوى الثمنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجل) ش: أي ولا يصح الأجل فيه أيضا م: (لأن بأحدهما) ش: وهو شرط الخيار م: (لا يبقى القبض مستحقا) ش: لأن الخيار يمنع الملك م: (وبالثاني) ش: أي الأجل م: (يفوت القبض المستحق) ش: بالعقد م: (إلا إذا أسقط الخيار في المجلس) ش: يعني منهما إن كان الخيار لهما أو ممن له ذلك م: (فيعود إلى الجواز) ش: أي جواز العقد م: (لارتفاعه قبل تقرره، وفيه خلاف زفر) ش: أي لارتفاع سبب الفساد قبل تقرره، وهذا عن أصحابنا الثلاثة بالاستحسان والقياس أن لا يجوز العقد بعد وقوعه على فساد وهو قول زفر.
[التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه]
م: (قال: ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه) ش: هذا لفظ القدوري. قال الأترازي: اعلم أن أحد المتعاقدين في الصرف إذا أبرأ صاحبه مما عليه قبل القبض أو وهبه أو تصدق به عليه وقبل الآخر بطل الدين وانتقض الصرف، وإن لم يقبل من عليه لم يبطل م: (حتى لو باع دينارا) ش: إيضاح لما قبله، يعني ولو باع شخص دينارا لرجل آخر م: (بعشرة دراهم ولم يقبض العشرة، حتى اشترى بها ثوبا فالبيع في الثوب فاسد، لأن القبض مستحق) ش: أي واجب م: (بالعقد حقا لله تعالى) ش: حتى لا يسقط بإسقاط المتعاقدين م: (وفي تجويزه) ش: أي وفي تجويز بيع الثوب م: (فواته) ش: أي فوات حق الله عز وجل.
فإن قيل: في عدم تجويزه فوات حق العبد وحق العبد مقدم على حقه تعالى.
قلنا: إنما يكون حق العبد مقدما بعدما ثبت حقه، وهاهنا لم يجز بيعه في الثوب فكيف يكون حقه مقدما؟
م: (وكان ينبغي أن يجوز العقد في الثوب كما نقل عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الدراهم لا تتعين فينصرف العقد إلى مطلقها) ش: أي مطلق الدراهم، إذ الإطلاق والإضافة إلى بدل عقد الصرف سواء، وإنما قال: عن زفر لأن الظاهر من مذهبه كمذهب أصحابنا الثلاثة م: (ولكنا نقول الثمن في باب الصرف مبيع؛ لأن البيع لا بد له منه) ش: أي من المبيع م: (ولا شيء سوى الثمنين) ش: فجعل كل واحد منهما مبيعا لعدم الأولوية يعني أن عقد الصرف بيع لأنه مبادلة مال بمال، وهذا لو(8/398)
فيجعل كل واحد منهما مبيعا لعدم الأولوية. وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز، وليس من الضرورة كونه مبيعا أن يكون متعينا كما في المسلم فيه. ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة؛ لأن المساواة غير مشروطة فيه، ولكن يشترط القبض في المجلس لما ذكرنا، بخلاف بيعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا.
قال: ومن باع جارية قيمتها ألف مثقال فضة
وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حلف لا يبيع فصارف يحنث في يمينه، والبيع ما يشتمل على مبيع وثمن وليس كل واحد من بدلي الصرف بأن يجعل مبيعا أولى من الآخر م: (فيجعل كل واحد منهما) ش: ثمنا من وجه م: (مبيعا لعدم الأولوية) ش: من وجه ضرورة انعقاد البيع.
م: (وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز) ش: كما قلنا في المقايضة م: (وليس من ضرورة كونه مبيعا أن يكون متعينا كما في المسلم فيه) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره بأن يقال: لو كان كل واحد من بدلي الصرف مبيعا لكان متعينا. فأجاب عنه بمنع الملازمة كما في المسلم فيه، لأنه مبيع واجب في الذمة وليس بمتعين.
م: (ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - واعلم أن بيع الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب يجوز مجازفة سواء كان متساويين في الوزن أو أقل أو كان أحدهما أكثر من الآخر؛ لأن المساواة ليست بمشروطة عند اختلاف الجنسين لما روي من حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» فلما لم تكن المساواة مشروطة لم تكن المجازفة حراما، لأن حرمة المجازفة لاحتمال التفاضل وهو معنى قوله م: (لأن المساواة غير مشروطة فيه) ش: أي في بيع الذهب بالفضة م: (ولكن يشترط القبض في المجلس) ش: أي يشترط التقابض قبل الافتراق بالأبدان لهذا الحديث، وهو معنى قوله: م: (لما ذكرنا) ش: أي الحديث الذي ذكره فيما مضى وفي البيوع أيضا.
م: (بخلاف بيعه) ش: أي بيع الذهب م: (بجنسه) ش: أي بالذهب م: (مجازفة لما فيه) ش: أي في هذا البيع م: (من احتمال الربا) ش: حاصل المسألة أن بيع الذهب أو الفضة بالجنس لا يجوز إذا لم يعرف المتعاقدان وزن واحد منهما أو كانا يعرفان وزن واحد منهما ولا يعرفان وزن الآخر أو كان أحدهما يعرف الوزن دون الآخر.
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا وزنا فوجدهما سواء جاز، سواء عرف في المجلس أو بعد التفرق، وعندنا إذا وزنا في المجلس فكانا سواء جاز، وإن وزنا بعد التفرق فوجدا سواء فسد.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن باع جارية قيمتها ألف مثقال فضة وفي(8/399)
عنقها طوق فضة قيمته ألف مثقال بألفي مثقال فضة، ونقد من الثمن ألف مثقال، ثم افترقا فالذي نقد ثمن الفضة؛ لأن قبض حصة الطوق واجب في المجلس لكونه بدل الصرف والظاهر منه الإتيان بالواجب، وكذا لو اشتراهما بألفي مثقال، ألف نسيئة وألف نقدا فالنقد ثمن الطوق؛ لأن الأجل باطل في الصرف جائز في بيع الجارية، والمباشرة على وجه الجواز هو الظاهر منهما، وكذا لو باع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون ودفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة، وإن لم يبين ذلك لما بينا، وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما؛ لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد، قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] (الرحمن: الآية 22) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنقها طوق فضة قيمته ألف مثقال بألفي مثقال فضة، ونقد من الثمن ألف مثقال، ثم افترقا فالذي نقد ثمن الفضة، لأن قبض حصة الطوق واجب في المجلس) ش: لكونه حقًا للشرع م: (لكونه بدل الصرف، والظاهر منه الإتيان بالواجب) ش: تفريغا للذمة، لأن من حال المسلم أن يؤدي الواجب ولا يخل به، وهذا كما إذا ترك سجدة في صلاة صلبية وسها أيضا ثم أتى بسجدة في السهو في آخر الصلاة وسلم فصرف إحداهما إلى الصلبية وإن لم ينوها لكون الإتيان بها على وجه الصحة. وكذا لو طاف للصدر ولم يطف للزيارة بطواف الصدر إلى طواف الزيارة ليكون الإتيان بالحج على وجه الصحة والخروج عن العهدة بيقين.
م: (وكذا لو اشتراهما) ش: أي الجارية والطوق م: (بألفي مثقال ألف نسيئة وألف نقدا فالنقد ثمن الطوق؛ لأن الأجل باطل في الصرف جائز في بيع الجارية) ش: والظاهر من حالهما المباشرة على وجه الجواز، وهو معنى قوله م: (والمباشرة على وجه الجواز هو الظاهر منهما) ش: أي من المتعاقدين م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (لو باع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون، ودفع من الثمن خمسين جاز البيع، وكان المقبوض حصة الفضة، وإن لم يبين ذلك لما بينا) ش: من قولنا: إن الظاهر منه الإتيان بالواجب.
م: (وكذلك) ش: أي الحكم م: (إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما) ش: أي من ثمن الجارية ومن ثمن الطوق، لأن أمور المسلمين محمولة على
إصلاح
ما أمكن وقد أمكن هنا م: (لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد) ش: مجازا عند قيام الدليل، وقد قام الدليل لأن ثمن الطوق واجب في المجلس ونظر المصنف لذلك بقوله م: (قال الله تعال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] (الرحمن: الآية 22)) ش: أي من البحرين العذب والملح، والمراد أحدهما، إذ اللؤلؤ والمرجان يخرجان من الملح دون العذب لما أن العذب والملح يلتقيان فيكون العذب كالعاج للملح، كما يقال الولد من الذكر والأنثى مع أن الولد تلده الأنثى، كذا في " التيسير ".(8/400)
والمراد أحدهما فيحمل عليه بظاهر حاله،
فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية؛ لأنه صرف فيها، وكذا في السيف، إن كان لا يتخلص إلا بضرر؛ لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر، ولهذا لا يجوز إفراده بالبيع كالجذع في السقف. وإن كان يتخلص السيف بغير ضرر جاز البيع في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والمراد أحدهما) ش: أي أحد البحرين وهو البحر الملح م: (فيحمل عليه) ش: أي قوله خذ هذه الخمسين من ثمنيهما على أحدهما، وهو الطوق م: (بظاهر حاله) ش: أي حال المسلم أنه لا يباشر إلا على وجه الجواز.
[لم يتقابضا حتى افترقا بالأبدان]
م: (فإن لم يتقابضا حتى افترقا) ش: بالأبدان م: (بطل العقد في الحلية؛ لأنه صرف فيها) ش: أي في العقد وقد فات شرطه م: (وكذا في السيف) ش: أي وكذا بطل العقد في السيف أيضا م: (إن كان لا يتخلص) ش: أي الحلية م: (إلا بضرر؛ لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر) ش: كما لا يجب تسليم الجوهر على الغاصب إذا ركبه في حلية ولا يمكن تخليصه إلا بضرر فيلحق بالغصب مع أنه جاز.
فإن قيل: ينبغي أن يجعل الحلية تبعا للسيف.
قلنا: إنما يجعل الشيء تبعا لغيره إذا كان مكيلا للمعنى المقصود، وهاهنا المقصود من السيف.
فإن قيل: إن البائع رضي بضرر التخليص حيث باعه مركبا مع علمه أن البيع يقتضي الرضا ولم يوجد من الغاصب رضا ضرر التخليص.
قلنا: لا نسلم أنه رضي به لأنه باع كليهما وظنه وجوب التسليم بالسيف لا بطريق الانفراد.
فإن قيل: فيه تفريق الصفقة فينبغي أن لا يجوز في الكل.
قلنا: التفريق إنما يكون بعد العقد والعقد لم ينعقد في الحلية لفقد شرط الجواز.
فإن قيل: ليس كذلك فإن العقد موجود فيهما بدليل قوله: وبطل العقد.
قيل: اختلف المشايخ فيه على أن التفريق إنما يكون أن لو كان هذا مضافا إلى العاقد كما في النظائر ولم يوجد، إذ المراد بالبطلان عدم الانعقاد.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم إمكان تسليمه إلا بضرر م: (لا يجوز إفراده) ش: أي إفراد السيف م: (بالبيع كالجذع في السقف) ش: أي كما لا يجوز إفراد بيع الجذع في السقف لعدم إمكان تسليمه إلا بضرر ظاهر م: (وإن كان يتخلص السيف) ش: أي في الحلية م: (بغير ضرر جاز البيع في(8/401)
السيف وبطل في الحلية؛ لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق والجارية، وهذا إذا كانت الفضة المفردة أزيد مما فيه، فإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز البيع للربا أو لاحتماله، وجهة الصحة من وجه وجهة الفساد من وجهين فترجحت.
قال: ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل البيع فيما لم يقبض وصح فيما قبض، وكان الإناء مشتركا بينهما؛ لأنه صرف كله فصح فيما وجد شرطه وبطل فيما لم يوجد، والفساد طارئ لأنه يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع. ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذ الباقي بحصته وإن شاء رده؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السيف وبطل في الحلية؛ لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق والجارية) ش: أي فصار حكمه حكم بيع الجارية التي في عنقها طوق فضة وقد مر بيانه م: (وهذا) ش: أي جواز البيع في السيف وبطلانه في الحلية فيما م: (إذا كانت الفضة المفردة أزيد مما فيه) ش: أي في السيف، أي من الفضة الحلية التي في السيف، وهي الفضة المضمومة إلى السيف، لأنه حينئذ تكره الفضة بالفضة، والباقي بمقابلة الفصل والحفر والحمائل، ولكن بطلانه في الحلية لفوات شرط جواز العقد وهو التقابض قبل الافتراق.
م: (فإن كانت) ش: أي الفضة المفردة م: (مثله) ش: أي مثل ما في السيف م: (أو أقل منه) ش: أي أقل ما في السيف من الفضة م: (أو لا يدري) ش: أقل أو أكثر أو مثله م: (لا يجوز البيع للربا) ش: لأنه في صورة العقد م: (أو لاحتماله) ش: أي أو لاحتمال الربا على الصورة التي لا يدري م: (وجهة الصحة من وجه، وجهة الفساد من وجهين) ش: المساواة والنقصان م: (فترجحت) ش: أي جهة الفساد. واعترض بأن كل جهة منهما علة للفساد فلا يصلح للتصحيح، وأجاب شمس الأئمة الكردي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن مراده إذا كان أحدهما يكفي للحكم، فما ظنك بهما إلا بالترجيح الحقيقي إذ لا تعارض بين المفسد والمصحح فيما يلحق الشبهة فيه بالحقيقة.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل البيع فيما لم يقبض، وصح فيما قبض، وكان الإناء مشتركا بينهما؛ لأنه) ش: أي هذا العقد م: (صرف كله فصح فيما وجد شرطه) ش: أي شرط الصرف م: (وبطل) ش: أي العقد م: (فيما لم يوجد) ش: أي الشرط وهو التقابض م: (والفساد طارئ) ش: أي عارض، لأن العقد انعقد صحيحا ثم فسد لعدم القبض وهو معنى قوله م: (لأنه) ش: أي لأن العقد م: (يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع) ش: أي الفساد، كما إذا باع عبدين ومات أحدهما قبل القبض، فإن البيع يبقى في الباقي ويبطل في الهالك ولا يثبت الخيار للمشتري بفعله وهو عدم النقض في بدل الصرف.
م: (ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته وإن شاء رده، لأن(8/402)
الشركة عيب في الإناء. ومن باع قطعة نقرة ثم استحق بعضها أخذ ما بقي بحصته ولا خيار له؛ لأنه لا يضره التبعيض.
قال: ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس منهما بخلافه. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز، وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة. لهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه؛ لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين. والتعيين لا يجوز، وإن كان فيه تصحيح التصرف، كما إذا اشترى قلبا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشركة عيب في الإناء) ش: لأن الشركة في الأعيان المجتمعة عيب لأنها تنقبض بالتبعيض، والإناء ينقبض بالتبعيض، بخلاف ما مر، لأن الشركة فيه وقعت بصنعه.
وقال زفر والشافعي -رحمهما الله-: لا يجوز وهو القياس وهو قول أحمد أيضا. م: (ومن باع قطعة نقرة) ش: وهي قطعة فضة مذابة، كذا في " تهذيب الديوان ". قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فعلى هذا تكون الإضافة في قوله قطعة نقرة من قبيل إضافة الجنس إلى النوع. م: (ثم استحق بعضها أخذ ما بقي بحصته ولا خيار له؛ لأنه لا يضره التبعيض) ش: بخلاف الإناء فإذا لم يكن عيبا لم يثبت الخيار لأن الخيار لا يثبت بلا سبب.
[باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس منهما بخلافه) ش: تصحيحا للعقد، وكذا على هذا إذا باع كر حنطة وكر شعير بكري حنطة وكري شعير، أو باع السيف المحلى بفضة بسيف محلى بفضة ولا يعلم حكمهما يصح البيع عندنا م: (وقال زفر والشافعي -رحمهما الله-: لا يجوز) ش: وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بيننا وبين الشافعي وزفر م: (إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة) ش: يصح البيع عندنا خلافا م: (لهما) ش: أي لزفر والشافعي. م: (أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه) ش: أي تصرف البائع م: (لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته) ش: أي ومن قضية التقابل م: (الانقسام على الشيوع لا على التعيين) ش: ومعنى الشيوع هو أن يكون الكل واحدا من البدلين حظ من جملة الآخر. م: (والتغيير لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف) ش: لأنه يعتبر المقابلة غير الأولى، ويكون التصرف تصرفا آخر.
والواجب تصحيح تصرف العاقل على الوجه الذي باشره وقصده لا على خلاف ذلك والعاقد إن قصد المقابلة المطلقة لا مقابلة الجنس إلى خلاف الجنس، وهي إنشاء تصرف آخر وفسخ التصرف الأول.
م: (كما إذا اشترى قلبا) ش: بضم القاف وسكون اللام وبالباء الموحدة وهو السوار ذكر هذه(8/403)
بعشرة وثوبا بعشرة ثم باعهما مرابحة لا يجوز، وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب. وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم، ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز في المشترى بألف، وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه، وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره، وقال: بعتك أحدهما لا يجوز، وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده، وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين، ولا يصرف الدرهم إلى الثوب لما ذكرنا. ولنا أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه فتحمل عليه تصحيحا لتصرفه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المسألة دليلا على صحة وقوع المسألة المذكورة، صورتها إذا اشترى قلبا م: (بعشرة) ش: يعني سوارا وزنه عشرة دراهم م: (وثوبا بعشرة) ش: أي ثوبا قيمة عشرة دراهم بعشرة دراهم م: (ثم باعهما مرابحة) ش: يعني بعشرين درهما م: (لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب) ش: خاصة تصحيحا لتصرفه م: (وكذا) ش: أي نظيرها م: (إذا اشترى عبدا بألف درهم ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز) ش: أي العقد م: (في المشتري) ش: بفتح الراء م: (بألف) ش: درهم لأنه شراء ما باع بأقل مما باع، وهذا لا يجوز عندهم أيضا م: (وإن أمكن تصحيحه) ش: أي تصحيح العقد م: (بصرف الألف إليه) ش: أي إلى المشتري، والباقي إلى العبد الآخر.
م: (وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره، وقال: بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده) ش: أي نظيرها، م: (وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب، وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين، ولا يصرف الدرهم إلى الثوب) ش: وإن أمكن تصحيح التصرف يصرف الجنس إلى خلاف الجنس م: (لما ذكرنا) ش: أشار به إلى قوله: ومن قضية الانقسام على الشيوع لا على التعيين.
م: (ولنا أن المقابلة المطلقة) ش: يعني المقابلة التي ذكراها مطلقة. م: (تحتمل مقابلة الفرد بالفرد) ش: قال تاج الشريعة: يعني يحتمل أن يقابل أحد الجنسين بالجنس الآخر بأن يقابل الدرهمان بالدينارين، والدينار بالدرهم م: (كما في مقابلة الجنس بالجنس) ش: بأن باع دينارين بدينارين يكون الفرد بمقابلة الفرد بالاتفاق، ألا ترى أنه لو قبض كل واحد منهما دينارا لجاز العقد، ولو كان مقابلا بالآخر يكون العقد فاسدا، لأن المقبوض حينئذ يكون مقابلا بالمقبوض وغير المقبوض م: (وأنه) ش: أي وأن مقابلة الفرد على تأويل التقابل م: (طريق متعين لتصحيحه) ش: أي لتصحيح العقد بأن يكون الواحد بالواحد والاثنان بالاثنين فيلزم منه صرف شيء إلى خلاف جنسه فيصح العقد م: (فتحمل عليه تصحيحا لتصرفه) ش: أي على مقابلة الفرد بالفرد على تأويل التقابل إذ تصحيح كلام العاقد تقتضيه ديانته وعقله واجب ما أمكن.(8/404)
وفيه تغيير وصفه لا أصله؛ لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل، وصار هذا كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه. بخلاف ما عد من المسائل. أما مسألة المرابحة لأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب، والطريق في المسألة الثانية غير متعين؛ لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري، وفي الثالثة: أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفيه) ش: أي فيما قلنا من مقابلة الفرد بالفرد م: (تغيير وصفه) ش: أي وصف العقد وهو بطلان صفة الشيوع م: (لا أصله) ش: أي لا تغيير أصل العقد كما قاله خصم لأن تغيير أصل العقد الصحيح يوجب الملك قبل القبض.
فلو قلنا: بانقسام على طريق الشيوع كما قاله الخصم يفسد العقد ولا يثبت الكل قبل القبض فيلزم تغيير أصل العقد لرعاية وصف العقد، فكان ما قلنا أهون التغييرين، فكان أولى م: (لأنه) ش: أي لأن تغيير الوصف لا الأصل م: (يبقى موجبه الأصلي) ش: ويبقى من الإبقاء وموجبه منصوب به، والأصلي بالنصب صفته م: (وهو) ش: أي الموجب الأصلي م: (ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل) ش: الكل الأول هو الدرهمان والدينار، والكل الثاني هو الدرهم والديناران. م: (وصار هذا) ش: أي صار حكم هذا م: (كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف) ش: أي بيعه م: (إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه) ش: أراد أن العقد يصرف إلى نصف البائع لا إلى النصف الشائع بين النصيبين م: (بخلاف ما عد من المسائل. أما مسألة المرابحة) ش: هذا شروع في الجواب عن المسائل المشتبهة بها، فقوله: خلاف مسألة المرابحة جواب عن المسألة الأولى وهو بنظيرها بمسألة المرابحة المذكورة على المسألة الخلافية، أراد أن مسألة المرابحة ليست كذلك م: (لأنه) ش: أي لأن عقد المرابحة م: (يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب) ش: فإن الربح لو صرف إلى الثوب خاصة كان بائعا للقلب الذي وزنه عشرة دراهم بعشرة دراهم، وهو تولية في القلب، والتولية ضد المرابحة، والشيء لا يتناول ضده.
م: (والطريق في المسألة الثانية غير متعين) ش: لأنه متعدد فيبقى الثمن مجهولا فيفسد العقد م: (لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري) ش: وهذا لأنا لو صرفنا خمسمائة أو أقل من ذلك بدرهم أو درهمين أو ثلاثة ونحو ذلك إلى العبد الآخر لا يلزم شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، بخلاف ما نحن فيه، فإن طريق التصحيح متعين وهو صرف الجنس إلى خلاف الجنس.
م: (وفي الثالثة) ش: أي وفي المسألة الثالثة م: (أضيف البيع إلى المنكر) ش: وهو قوله: وكذا إذا اشترى عبدا م: (وهو ليس بمحل للبيع) ش: أي المنكر لجهالته م: (والمعين ضده) ش: أي المنكر(8/405)
وفي الأخيرة: انعقد العقد صحيحا والفساد في حالة البقاء، وكلامنا في الابتداء.
قال: ومن باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز البيع ويكون العشرة بمثلها والدينار بدرهم؛ لأن شرط البيع في الدراهم التماثل على ما روينا، فالظاهر أنه أراد به ذلك، فبقي الدرهم بالدينار، وهما جنسان، ولا يعتبر التساوي فيهما. ولو تبايعا فضة بفضة، أو ذهبا بذهب، وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر يبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية، وإن لم تبلغ فمع الكراهية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشيء لا يتناول ضده، ويشكل عليه مسألة عبدي أو حماري حر، فإن عند أبي حنيفة يعتق العبد لاستعارة المنكر المعرفة.
م: (وفي الأخيرة) ش: أي في المسألة الأخيرة وهي ما إذا باع درهما أو ثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض م: (انعقد العقد صحيحا) ش: سواء كان الجنس مقابلا بالجنس أو بخلافه م: (والفساد في حالة البقاء) ش: يعني الفساد وقع في حالة البقاء بالافتراق من غير قبض م: (وكلامنا في الابتداء) ش: يعني الذي نحن فيه لا يصح العقد فيه ابتداء بدون صرف الجنس إلى خلاف الجنس فافترقا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز البيع، ويكون العشرة بمثلها والدينار بدرهم؛ لأن شرط البيع في الدراهم التماثل على ما روينا) ش: من الحديث المشهور م: (فالظاهر أنه أراد به) ش: أي بالبيع م: (ذلك) ش: أي التماثل م: (فبقي الدرهم بالدينار وهما جنسان ولا يعتبر التساوي فيهما) ش: لاختلاف الجنسين، وإنما جوزنا على هذا الوجه حملا لأمور المسلمين على
الصلاح،
ولأن كل عين جاز بيعها بجنسها جاز بغير جنسها كالثياب.
م: (ولو تبايعا فضة بفضة) ش: ذكر هذه المسألة تفريعا وليست مذكورة في " الجامع الصغير " ولا في القدوري م: (أو ذهبا بذهب وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر) ش: أي والحال أن مع أقل الوزنين منهما شيء آخر من خلاف جنسه م: (يبلغ قيمته) ش: أي قيمة ذلك الشيء م: (باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية، وإن لم يبلغ فمع الكراهية) ش: أي يجوز مع الكراهية.
وذكر هذه المسألة في " الإيضاح " على الخلاف فقال: روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا باع الدراهم بالدراهم وفي أحدهما فضل من حيث الوزن وفي الجانب الذي لا فضل فيه فلوس قال: هو جائز في الحكم ولكني أكرهه حتى روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قيل له: كيف تجد ذلك في قلبك؟ قال: مثل الجبل.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا بأس به؛ لأنه أمكن تصحيحه بأن يجعل الجنس بالجنس(8/406)
وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع لتحقق الربا، إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا، ومن كان له على آخر عشرة دراهم، فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز، ومعنى المسألة: إذا باع بعشرة مطلقة. ووجهه: أنه يجب بهذا العقد ثمن يجب عليه تعيينه بالقبض لما ذكرنا، والدين ليس بهذه الصفة، فلا يقع بالمقاصة بنفس البيع لعدم المجانسة، فإذا تقاصا تضمن ذلك فسخ الأول والإضافة إلى الدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والزيادة بإزاء الفلوس.
م: (وإن لم يكن له قيمة) ش: أي وإن لم يكن للشيء الآخر قيمة م: (كالتراب) ش: ونحوه م: (لا يجوز البيع لتحقق الربا، إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا. ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز) ش: هذه من مسائل الجامع الصغير، وهذه المسألة على وجهين: أما إن باع الدينار بالعشرة التي عليه، أو باعه بعشرة مطلقة وقبض الدينار وجعل ثمن الدينار قصاصا بالعشرة. فالأول: جائز بلا خلاف، والثاني: جائز استحسانا، والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي وأحمد، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (ومعنى المسألة) ش: هذا من كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي: معنى المسألة المذكورة م: (إذا باع بعشرة مطلقة) ش: يعني لم يقيده بالعشرة التي عليه، لأنه لو أضاف العقد إلى العشرة التي عليه يجوز البيع بلا خلاف، وفي المطلقة يجوز عندنا استحسانا، وعند زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز قياسا، وجه القياس: أن هذا استبدال ببدل الصرف، فلا يجوز، كما لو أخذ ببدل الصرف عرضا أو دينارا، أشار إلى وجه الاستحسان بقوله م: (ووجه) ش: أي وجه الجواز الذي هو استحسان م: (أنه يجب بهذا العقد ثمن يجب عليه تعيينه بالقبض) ش: لأن العقد لما أطلق وجب به ثمن يجب تعيينه بالقبض كيلا يلزم الربا م: (لما ذكرنا، والدين ليس بهذه الصفة) ش: إشارة إلى قوله: ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق م: (فلا يقع بالمقاصة بنفس البيع) ش: لأن الدين لا يصلح وفاء لذلك، فلم يكن قصاصا م: (لعدم المجانسة) ش: من العين والدين.
م: (فإذا تقاصا) ش: يعني بالتراضي جاز ذلك عندنا لأنه م: (تضمن ذلك فسخ الأول) ش: أي الصرف الأول وهو الصرف المطلق وهو بيع الدينار بعشرة مطلقة م: (والإضافة) ش: أي وتضمن ذلك أيضا إضافة العقد م: (إلى الدين) ش: وهو بيع الدينار بالعشرة التي هي دين، فصار كأنه قال: اشتريت هذا الدينار منك بالعشرة التي لك علي وقبل الآخر يعني عند اتفاقهما على المقاصة يجعل كأنهما فسخا الأول ثم جددا العقد مضافا إلى ذلك الدين لأنهما قصدا تصحيح هذه المقاصة ولا طريق له سوى هذا، ولهذا شرطنا تراضيهما على المقاصة هاهنا، وإن كان في(8/407)
إذ لولا ذلك يكون استبدالا ببدل الصرف. وفي الإضافة إلى الدين تقع المقاصة بنفس العقد على ما نبينه. والفسخ قد يثبت بطريق الاقتضاء، كما إذا تبايعا بألف ثم بألف وخمسمائة، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه لأنه لا يقول بالاقتضاء، وهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سائر الديون تقع المقاصة بدون التراضي م: (إذ لولا ذلك) ش: يعني لولا تحويل العقد إلى صرف آخر وهو بيع الدينار بالعشرة التي هي دين م: (يكون استبدالا ببدل الصرف) ش: قبل القبض وهو لا يجوز.
م: (وفي الإضافة إلى الدين تقع المقاصة بنفس العقد) ش: هذا في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: المقاصة إنما تصح إذا كان وجوب بدل الصرف قائما، فإذا بطل عقد الصرف بالفسخ، كيف توجد المقاصة، لأن الفائت بالاقتضاء يجب أن يثبت على وجه لا يبطل به المقتضى، فإذا ثبت الفسخ المقتضي بطل المقتضى وهو المقاصة، لأن المقتضي قيام العشرة الثابت بالعقد وقد فات بالفسخ.
وتحرير الجواب أن يقال: إضافة أي بإضافة العقد ابتداء إلى الدين أي العشرة التي عليه تقع المقاصة بنفس العقد، وإنما تبطل المقاصة عند فسخ الأول إذا لم يتجدد عقد جديد، وهاهنا جدد العقد فصح المقاصة به.
فإن قيل: لو فسخ الصرف ضمنا ينبغي أن يشترط القبض، لأن الإقالة بيع في حق الثالث.
قلنا: صارت الإقالة هاهنا في ضمن المقاصة فجاز أن لا يثبت حكم البيع لمثل هذه الإقالة، بل يثبت حكم البيع إذا كانت الإقالة قصدا م: (على ما نبينه) ش: إشارة إلى قوله: فكفى ذلك للجواز، أي: الإضافة إلى الدين كاف للجواز؛ لأنه دين يسقط لا خطر فيه.
م: (والفسخ قد يثبت بطريق الاقتضاء) ش: هذا جواب أيضا عما يقال: إن العقد لو فسخ للمقاصة وجب قبض الدينار عل البائع بحكم الإقالة، لأن للإقالة حكم الصرف. وتقرير الجواب: أن الفسخ ضمني يثبت في ضمن المقاصة بطريق الاقتضاء، فجاز أن لا يثبت بعد هذا حكم البيع م: (كما إذا تبايعا بألف) ش: يعني عقدا بألف درهم م: (ثم بألف وخمسمائة) ش: أي ثم تبايعا، فإن العقد الأول ينفسخ ضرورة بثبوت الثاني.
م: (وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخالفنا فيه) ش: أي فيما ذكرنا من الحكم المذكور م: (لأنه) ش: أي لأن زفر م: (لا يقول بالاقتضاء) ش: وخالفنا فيه كما خالف في قوله: أعتق عبدك أعني بألف درهم.
فإن قيل: يشكل عليه الشراء بأن قال: إن شريتك فإن الملك يثبت عنده فيه بطريق الاقتضاء.
قلنا: لا نسلم أنه يثبت بطريق الاقتضاء بل يثبت بطريق الدلالة م: (وهذا) ش: أي ما ذكرنا من(8/408)
إذا كان الدين سابقا، فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين لتضمنه انفساخ الأول والإضافة إلى دين قائم وقت تحويل العقد، فكفى ذلك للجواز. قال: ويجوز بيع درهم صحيح ودرهمين غلتين بدرهمين صحيحين ودرهم غلة، والغلة ما يرده بيت المال ويأخذه التجار، ووجهه: تحقيق المساواة في الوزن، وما عرف من سقوط اعتبار الجودة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التقاص والفسخ والإضافة إلى الدين م: (إذا كان الدين سابقا) ش: أي على العقد م: (فإن كان) ش: أي الدين م: (لاحقا) ش: بأن اشترى دينارا بعشرة دراهم وقبض الدينار، ثم إن مشتري الدينار باع ثوبا من بائع الدينار بعشرة دراهم ثم أراد أن يتقاصا م: (فكذلك) ش: تقع المقاصة م: (في أصح الروايتين) ش: وهي رواية أبي حفص سليمان، وهي التي اختارها فخر الإسلام والمصنف، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وفي رواية أبي حفص: لا تقع المقاصة وهي التي اختارها شمس الأئمة وقاضي خان، لأن الدين لاحق والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوز المقاصة في دين سابق؛ «لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه روي أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إني أكري إبلا بالبقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانير، أو قال بالعكس، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا بأس بذلك إذا افترقتما وليس بينكما عمل") » .
وأشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى وجه الأصح بقوله: م: (لتضمنه انفساخ الأول) ش: أي لتضمن التقاصص انفساخ الصرف الأول وإن شاء صرف آخر، لأنهما لما تقاصا صار كأنهما جددا عقدا آخر جديدا، فكان الدين سابقًا على المقاصة، وهو معنى قوله: م: (والإضافة) ش: أي إضافة عقد الصرف م: (إلى دين قائم) ش: أي ثابت م: (وقت تحويل العقد) ش: فيكون الدين حينئذ سابقًا على المقاصة م: (فكفى ذلك للجواز) ش: أي الإضافة إلى الدين كان للجواز، لأنه دين يسقط لا خطر فيه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويجوز بيع درهم صحيح ودرهمين غلتين بدرهمين صحيحين ودرهم غلة) ش: بفتح العين المعجمة وتشديد اللام، قال في " المغرب ": الغلة من الدراهم المقطعة التي في القطعة منها قيراط أو طسوج أو حتة. ونقله المطرزي هكذا عن أبي يوسف في رسالته. وفي بعض الحواشي: دراهم غلة أي منكسرة.
وفي " زاد الفقهاء " الغلة من الغلول وهي الخيانة، يقال غل وأغل أي خان، وقال المصنف: م: (والغلة ما يرده بيت المال ويأخذه التجار) ش: أي يردها بيت المال لكونها قطعا لا لزيافتها. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز هذا البيع.
م: (ووجهه) ش: أي وجه جواز هذا البيع م: (تحقيق المساواة في الوزن) ش: لأن المساواة هي شرط الجواز، فإذا وجدت فلا مانع أصلا م: (وما عرف من سقوط اعتبار الجودة) ش: هذا عطف(8/409)
قال: وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة فهي فضة، وإذا كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهب، ويعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد حتى لا يجوز بيع الخالصة بها ولا بيع بعضها ببعض إلا متساويا في الوزن، وكذا لا يجوز الاستقراض بها إلا وزنا؛ لأن النقود لا تخلو عن قليل غش عادة لأنها لا تنطبع إلا مع الغش. وقد يكون الغش خلقيا كما في الرديء منه فيلحق القليل بالرداءة، والجيد والرديء سواء. وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير اعتبارا للغالب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على قوله: تحقيق المساواة بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جيدها ورديئها سواء» .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة) ش: بالنصب لأنه خبر كان م: (فهي فضة) ش: أي حكمها حكم الدراهم، الأصل أن النقود لا تخلو عن قليل غش خلقة أو عادة، فالأول كما في الرديء، والثاني ما يخلط للانطباع، فإنها بدونه تتفتت، فإذا كان كذلك يعتبر الغالب، لأن المغلوب في مقابلة الغالب كالمستهلك. م: (وإذا كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهب، ويعتبر فيهما) ش: وفي بعض النسخ: ويعتبر فيها، وعلى التقديرين الضمير يرجع إلى الدراهم والدنانير م: (من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد، حتى لا يجوز بيع الخالصة بها) ش: أي بالمغشوشة. م: (ولا بيع بعضها ببعض إلا متساويا في الوزن) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز بيع الخالصة منها بالدراهم المغشوشة، بعضها ببعض، سواء كان الغش غالبا أو النقرة، ويجوز أن يشتري بها سلعة في أظهر الوجهين، كذا في " الحلية ".
م: (وكذا لا يجوز الاستقراض بها إلا وزنا) ش: أي إلا متساويا في الوزن. وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إلا وزنا، أي لا عددا كما في الفلوس م: (لأن النقود لا تخلو عن قليل غش عادة، لأنها لا تنطبع إلا مع الغش) ش: لأنا قد ذكرنا الآن أنها بدون بعض الغش تتفتت ولا يجتمع بعضها ببعض م: (وقد يكون الغش خلقيا) ش: أي من حيث الخلقة وذلك م: (كما في الرديء منه) ش: أي من كل واحد من الذهب والفضة م: (فيلحق القليل بالرداءة) ش: أي يلحق القليل من الغش بالرداءة الفطرية والمتساوي كغالب الفضة في التبايع والاستقراض وفي الصرف كغالب الغش م: (والجيد والرديء سواء) ش: بالنص.
م: (فإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير اعتبارا للغالب) ش: هذا أيضا لفظ القدوري، غير أن قوله اعتبارا للغالب من كلام المصنف. وقال الأقطع: المراد به إذا كانت الفضة لا تتخلص من الغش؛ لأنها صارت مستهلكة فلا اعتبار بها، فأما إذا كانت تتخلص من الغش فليست مستهلكة، فإذا بيعت بفضة خالصة فهي كبيع نحاس بنحاس وفضة بفضة.(8/410)
فإن اشترى بها فضة خالصة فهو على الوجوه التي ذكرناها في حلية السيف. وإن بيعت بجنسها متفاضلا جاز صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، وهي في حكم شيئين فضة وصفر، ولكنه صرف حتى يشترط القبض في المجلس لوجود الفضة من الجانبين، وإذا شرط القبض في الفضة يشترط في الصفر؛ لأنه لا يتميز عنه إلا بضرر. قال: ومشايخنا - رحمهم الله تعالى- لم يفتوا بجواز ذلك في العدالي والغطارفة؛ لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيجوز على هذا الاعتبار م: (فإن اشترى بها) ش: أي بالمغشوشة م: (فضة خالصة فهو على الوجوه التي ذكرناها في حلية السيف) ش: يعني إن كانت الفضة الخالصة مثل تلك الفضة التي في الدراهم المغشوشة أو أقل، أو لا يدري لا يصح. وإن كانت أكثر يصح. م: (وإن بيعت) ش: أي الدراهم المغشوشة م: (بجنسها) ش: أي بالدراهم المغشوشة م: (متفاضلا) ش: أي بيعا متفاضلا. م: (جاز) ش: أي البيع م: (صرفا) ش: أي من حيث الصرف م: (للجنس إلى خلاف الجنس) ش: تحرزا عن الربا م: (وهي) ش: أي الدراهم المغشوشة التي بيعت بالدراهم المغشوشة م: (في حكم شيئين فضة وصفر) ش: وبيع الفضة بالصفر أو العكس متفاضلا يجوز، فكذلك بيع الدراهم المغشوشة بالمغشوشة بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس م: (ولكنه صرف) ش: هذا جواب إشكال، وهو أن يقال: ينبغي أن لا يشترط القبض في هذه الصورة، لأنه لما صرف الجنس إلى خلاف الجنس، أي الفضة إلى الصفر لم يبق صرفا، فيكف يشترط التقابض. فأجاب بقوله: ولكنه صرف، تقريره: أن هذا البيع صرف م: (حتى يشترط القبض في المجلس لوجود الفضة من الجانبين) ش: أي من جانب الثمن، لأن الأصل في المقابلة المطلقة الشيوع م: (وإذا شرط القبض في الفضة يشترط في الصفر؛ لأنه لا يتميز عنه إلا بضرر) ش: لأن صرف الجنس إلى خلاف جنسه كان لضرورة تصحيح التصرف فيما رواءه يكون العقد عقد صرف، فيشترط القبض فيه.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومشايخنا) ش: يريد به علماء ما وراء النهر فدعي لهم بقوله م: (- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، لم يفتوا بجواز ذلك) ش: أي بجواز التفاضل م: (في العدالي) ش: بفتح العين المهملة وتخفيف الدال المهملة وباللام المكسورة، أي الدراهم المنسوبة إلى العدالي وكأنه اسم ملك نسب إليه درهم فيه غش م: (والغطارفة) ش: أي الدراهم الغطرفية وهي المنسوبة إلى غطريف بكسر الغين المعجمة وسكون الطاء وكسر الراء بعدها الياء آخر الحروف الساكنة، وفي آخره فاء وهو ابن عطاء الكندي أمير خراسان أيام هارون الرشيد. وقيل: هو خال الرشيد م: (لأنها) ش: أي لأن العدالي والغطارفة م: (أعز الأموال في ديارنا) ش: أي في بخارى وسمرقند م: (فلو أبيح التفاضل فيه) ش: أي في المذكور من العدالي والغطارفة م: (ينفتح باب الربا) ش: ويندرجون إلى الذهب والفضة بالقياس على ذلك.(8/411)
ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيهما بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد، وإن كانت تروج بهما فبكل واحد منهما؛ لأن المعتبر هو المعتاد فيهما إذا لم يكن فيهما نص. ثم هي ما دامت تروج تكون أثمانا فلا تتعين بالتعيين. وإذا كانت لا تروج فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها، بل بجنسها زيوفا، إن كان البائع يعلم بحالها لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد. إن كان لا يعلم لعدم الرضا منه. وإذا اشترى بها سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ثم إن كانت) ش: أي الدراهم والدنانير التي غلب الغش عليها والدنانير التي كذلك م: (تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيهما) ش: أي في الدراهم والدنانير التي غلب الغش عليهما م: (بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد) ش: أي يعتبران بالعدد م: (وإن كانت تروج بهما) ش: أي بالوزن وبالعد م: (فبكل واحد منهما) ش: أي فيعتبر بكل واحد منهما م: (لأن المعتبر هو المعتاد فيهما إذا لم يكن فيهما نص) ش: قال الأكمل: حيث لم يكن منصوصا عليهما، فهذا التفسير يدل على أن قوله: "إذا لم يكن" ليس هكذا، بل "إذ لم يكن" بدون الألف بعد الذال، ولكن غالب النسخ "إذا" بالألف بعد الذال، والذي يظهر لي أن الصواب مع الأكمل.
م: (ثم هي) ش: أي الدراهم المغشوشة والدنانير المغشوشة م: (ما دامت تروج) ش: فيقبلها الناس م: (تكون أثمانا) ش: يعني يكون حكمها حكم الأثمان م: (فلا تتعين بالتعيين) ش: فإن هلكت قبل التسليم لا يبطل العقد بينهما ويجب عليه مثلها.
م: (وإذا كانت لا تروج فهي سلعة) ش: أي حكمها حكم السلعة م: (تتعين بالتعيين) ش: كالرصاص والستوقة م: (وإذا كانت يتقبلها البعض) ش: أي بعض الناس م: (دون البعض فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها بل بجنسها) ش: حال كونها م: (زيوفا إن كان البائع يعلم بحالها) ش: أي بحال الدراهم والدنانير المغشوشة م: (لتحقق الرضا منه) ش: أي من البائع م: (وبجنسها) ش: أي ويتعلق العقد بجنسها م: (من الجياد إن كان لا يعلم لعدم الرضا منه) ش: أي بالزيوف.
م: وإذا اشترى بها) ش: أي بالدراهم التي غشها غالب م: (سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وتفسير الكساد مذكور في البيوع أنها لا تروج في جميع البلدان، هذا على قول محمد، أما عندهما: الكساد في بلد يكفي لفساد البيع في تلك البلدة.
وفي " العيون ": إن عدم الرواج إنما يوجب فساد البيع إذا كان لا يروج في جميع البلدان، لأنه حينئذ يصير هالكا ويبقى البيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة ويروج في(8/412)
وقال أبو يوسف -رحمة الله عليه-: قيمتها يوم البيع. وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها. لهما أن العقد قد صح إلا أنه تعذر التسليم بالكساد وأنه لا يوجب الفساد، كما إذا اشترى بالرطب فانقطع. وإذا بقي العقد وجبت القيمة، ولكن عند أبي يوسف وقت البيع لأنه مضمون به. وعند محمد: يوم الانقطاع؛ لأنه أوان الانتقال إلى القيمة. ولأبي حنيفة: أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غيرها لا يفسد البيع، لأنه لم يهلك ولكنه تعييب، فكان للبائع الخيار إن شاء قال: أعط مثل النقد الذي وقع عليه العقد، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير.
م: (وقال أبو يوسف -رحمة الله عليه-: قيمتها يوم البيع) ش: لأنها كانت مضمونة م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قيمتها آخر ما تعامل الناس بها) ش: أي بالدراهم المغشوشة والبيع لا يبطل عندهما.
وكذا عند الشافعي وأحمد -رحمهما الله- ولكن عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب ذلك الكاسد؛ لأنه مال عنده في وجه يخير البائع إن شاء أجاز البيع بذلك، وإن شاء فسخه لتعينه. وعند أحمد: يجب النقد الجديد بالقيمة.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد م: (أن العقد قد صح) ش: وقال الكاكي: أي بالإجماع لوجود مبادلة المال بالمال م: (إلا أنه تعذر التسليم بالكساد) ش: أي لأن الشأن تعذر تسليم الثمن وهي المغشوشة بالكساد لانعدام الثمنية ويجوز أن يكون الضمير في "لأنه" للثمن، أي لأن الثمن تعذر تسليمه بالكساد.
م: (وأنه) ش: أي وإن تعذر التسليم أو الكساد م: (لا يوجب الفساد) ش: لأنه صفة عارضة قابلة للزوال ساعة فساعة بالرواج م: (كما إذا اشترى) ش: أي نظير هذا كما إذا اشترى رجل شيئا م: (بالرطب فانقطع) ش: بأن لا يوجد في الأسواق لا يبطل البيع بالاتفاق، ويجب القيمة ولا ينتظر إلى زمان الرطب في السنة الثانية فكذا هذا م: (وإذا بقي العقد وجبت القيمة لكن عند أبي يوسف وقت البيع لأنه مضمون به) ش: أي لأن الثمن مضمون بالبيع فكان كالمغصوب يعتبر قيمته يوم الغصب، لأنه مضمون فيه، وعليه الفتوى، فإنه ذكر في " الذخيرة " وعليه قيمة الدراهم يوم وقع البيع في قول أبي يوسف الآخر وعليه الفتوى.
م: (وعند محمد يوم الانقطاع لأنه) ش: أي لأن يوم الانقطاع م: (أوان الانتقال إلى القيمة) ش: يعني يوجب العقد رد ما انعقد به العقد والانتقال إلى القيمة بالانقطاع فيعتبر يوم الانقطاع. وفي " المحيط " و" التتمة " و" الحقائق ": وبقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْتَى رِفْقًا للناس.
م: (ولأبي حنيفة أن الثمن يهلك بالكساد لأن الثمنية بالاصطلاح) ش: أي ثمنية الدراهم التي(8/413)
وما بقي فيبقى بيعا بلا ثمن فيبطل. وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما، وقيمته إن كان هالكا، كما في البيع الفاسد.
قال: ويجوز البيع بالفلوس؛ لأنه مال معلوم، فإن كانت نافقة جاز البيع بها وإن لم تعين؛ لأنها أثمان بالاصطلاح. وإن كانت كاسدة لم يجز البيع بها حتى يعينها؛ لأنها سلع، فلا بد من تعيينها. وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة خلافا لهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غشها غالب، إنما جعلت ثمنا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح م: (وما بقي) ش: أي الاصطلاح م: (فيبقى) ش: أي العقد م: (بيعا بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما، وقيمته) ش: أي تجب قيمته م: (إن كان هالكا) ش: لا يقال: العقد تناول عينها وهو باق بالكساد وهو مقدور التسليم، لأنا نقول: إن العقد تناولها بصفة الثمنية لأنها ما دامت رائجة فهي تثبت دينا في الذمة، وبالكساد ينعدم منها صفة المالية وصفة الثمنية في الفلوس والدراهم المغشوشة التي غلب غشها كصفة المالية في الأعيان، ولو انعدمت المالية بهلاك المبيع قبل القبض أو بتخمر العصير فسد البيع، فكذا هذا.
وأما الجواب عن البيع بالرطب أن الرطب مرجو الوصول في العام الثاني غالبا، فلم يكن هذا هالكا من كل وجه، فلم يبطل المثمن أصلا، وفي الدراهم المغشوشة بعد الكساد لا يرجى الوصول إلى ثمنها في الحال، لأن الكساد أصلي في الشيء إذا رجع أصله، فلما ينتقل عنه. م: (كما في البيع الفاسد) ش: فإن الحكم فيه أنه يجب على المشتري رد المبيع فيه على البائع إن كان قائما، وإن كان هالكا يجب عليه رد قيمته يوم القبض.
[البيع بالفلوس]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز البيع بالفلوس؛ لأنه مال معلوم) ش: هذا بالإجماع م: (فإن كانت نافقة) ش: أي رائجة م: (جاز البيع بها وإن لم تعين) ش: الفلوس م: (لأنها أثمان بالاصطلاح) ش: فلا يتعين في البيع كالدراهم والدنانير، وإن شرط المتبايعان أعيانهما ويكون ما أوجب كل واحد منهما في العقد على نفسه دينا في ذمته ولا يجبر كل واحد منهما أن يسلمها ما شرط من العين إن شاء أعطى العين، وإن شاء أعطى مثلها.
وإن هلكت لم ينفسخ العقد بهلاكها لأنه لم يقع عليها م: (وإن كانت) ش: أي الفلوس م: (كاسدة) ش: يعني لا تروج م: (لم يجز البيع بها حتى يعينها؛ لأنها سلع فلا بد من تعيينها) ش: فإذا لم يعينها يصح العقد.
م: (وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة) ش: قيد بالكساد لأنها إذا غلت أو رخصت كان عليه رد المثل بالاتفاق، ذكره في " شرح الطحاوي " م: (خلافا لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - هذا الخلاف الذي ذكره القدوري خلاف ما ذكر في(8/414)
وهو نظير الاختلاف الذي بيناه. ولو استقرض فلوسا نافقة فكسدت، عند أبي حنيفة يجب عليه مثلها؛ لأنه إعارة وموجبه رد العين معنى، والثمنية فضل فيه؛ إذ القرض لا يختص به. وعندهما يجب قيمتها؛ لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل و" شرح الطحاوي " و" الأسرار " و" الإشارات "، لأنه ذكر بطلان البيع عند الكساد فيها بلا خلاف، قال في الإشارات: إذا اشترى شيئا بفلوس فكسدت قبل القبض فسد العقد عندنا خلافا لزفر.
وفي " شرح الطحاوي ": وقال بعض مشايخنا: إنما يبطل العقد إذا اختار المشتري إبطاله فسخا، لأن كسادها بمنزلة يجب فيها، والأول أظهر، ولو نقد الدرهم وقبض من الفلوس نصفها خمسين ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقد النصف الآخر بطل البيع في نصفها وله أن يسترد نصف الدراهم. ولو اشترى فاكهة أو شيئا بعينه بفلوس ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها وقد قبض المبيع فسد البيع، وله أن يرد المبيع إن كان قائما أو قيمته أو مثله إن كان هالكا.
وعن أبي يوسف أن عليه قيمة الفلوس ولا يفسد البيع م: (وهو نظير الاختلاف الذي بيناه) ش: أي الاختلاف في كساد الفلوس نظير الاختلاف في كساد الدراهم الذي غشها غالب، يعني يبطل البيع عند أبي حنيفة بكساد الفلوس، وعندهما لا يبطل، لكن عند أبي يوسف يجب قيمتها يوم البيع. وعند محمد: آخر ما يتعامل الناس بها وهو يوم الانقطاع في السوق. م: (ولو استقرض فلوسا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة يجب عليه مثلها لأنه إعارته) ش: أي لأن الاستقراض المثلي إعارة كما أن إعارته قرض وموجب استقراض المثلي رد عينه، وهو معنى قوله م: (وموجبه رد العين معنى) ش: أي موجب عقد الإعارة رد المعين من حيث المعنى لا من حيث الحقيقة، وذا لا يكون إلا بالمثل.
م: (والثمنية فضل فيه) ش: جواب عما يقال: كيف يكون المثل بمعنى العين وقد فات وصف الثمنية، وإنما كان بمعنى العين أن لو رد مثله حال كونه نافقا.
فقال: فأجاب المصنف بقوله: والثمنية فضل، تقريره: أن الثمنية بمعنى صحة استقراض كونه ثمنا فضل في القرض م: (إذ القرض لا يختص به) ش: أي بمعنى الثمنية يعني صحة استقراض الفلس لم يكن باعتبار الثمنية، بل لأنه مثلي وبالكساد لم يخرج من أن يكون مثليا، ولهذا صح استقراضه بعد الكساد.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (يجب قيمتها) ش: أي قيمة الفلوس التي كسدت بعد رواجها م: (لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض) ش:(8/415)
فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليا فانقطع، لكن عند أبي يوسف يوم القبض. وعند محمد يوم الكساد على ما مر من قبل. وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع. وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنظر، وقول أبي يوسف أيسر. قال: ومن اشترى شيئا بنصف درهم فلوس جاز وعليه ما يباع بنصف درهم من الفلوس، وكذا إذا قال: بدانق فلوس، أو بقيراط فلوس جاز. وقال زفر: لا يجوز في جميع ذلك لأنه اشترى بالفلوس، وإنما تقدر بالعدد لا بالدانق ونصف الدرهم، فلا بد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليس المثل المجرد عنها في معناها م: (فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليا فانقطع لكن عند أبي يوسف: يوم القبض، وعند محمد: يوم الكساد على ما مر من قبل) ش: عند قوله: وعند أبي يوسف وقت البيع.
م: (وأصل الاختلاف) ش: أي بين أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- في اعتبار القيمة يوم القبض أو الكساد.
فرع: الاختلاف م: (فيمن غصب مثليا فانقطع) ش: فعند أبي يوسف تجب القيمة يوم الغصب. وعند محمد: يوم الانقطاع، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى في أول كتاب الغصب. م: (وقول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنظر) ش: أي للجانبين.
وفي بعض النسخ: أنظر للجانبين جانب المقرض والمستقرض، أما جانب المقرض فبالنسبة إلى قول أبي حنيفة؛ لأن في رد المثل إضرارا به، وأما في حق المستقرض فلانتقاص قيمته يوم الكساد، وفي اعتبار قيمته يوم القبض إضرار به م: (وقول أبي يوسف أيسر) ش: أي للمفتي وفي بعض النسخ أيسر للمفتي؛ لأن يوم الكساد قيمته غير مضبوطة، ويوم القبض مضبوطة، فاعتبار المضبوط أيسر من اعتبار غير المضبوط.
وقال الأترازي: لأن قيمته يوم القبض معلومة للمقرض والمستقرض وسائر الناس وقيمته يوم الانقطاع تشتبه على الناس ويختلفون فيها، فكان قول أبي يوسف أيسر.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن اشترى شيئا بنصف درهم فلوس جاز) ش: قيد بنصف درهم، لأنه لو قال بدرهم فلوس لا يجوز عند محمد على ما يجيء م: (وعليه) ش: أي وعلى المشتري م: (ما يباع بنصف درهم من الفلوس) ش: لأن ذلك النصف من الدراهم فلوس لا نقرة، وذلك معلوم عند الناس وقت العقد فيجب عليه الوفاء بذلك م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا قال بدانق فلوس أو بقيراط فلوس جاز) ش: الدانق سدس الدرهم والقيراط ست حبات.
م: (وقال زفر: لا يجوز في جميع ذلك؛ لأنه اشترى بالفلوس وإنما تقدر بالعدد لا بالدانق ونصف الدرهم) ش: فإذا لم يبين عدد الفلوس كان مجهولا فلا يجوز، وهو معنى قوله م: (فلا بد(8/416)
من بيان عددها، ونحن نقول: ما يباع بالدانق ونصف الدرهم من الفلوس معلوم عند الناس الكلام فيه فأغنى عن بيان العدد. ولو قال: بدرهم فلوس أو بدرهمين فلوس، فكذلك عند أبي يوسف؛ لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم وهو المراد، لا وزن الدرهم من الفلوس. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز بالدرهم ويجوز فيما دون الدرهم؛ لأن في العادة المبايعة بالفلوس فيما دون الدرهم فصار معلوما بحكم العادة ولا كذلك الدرهم. قالوا: وقول أبي يوسف أصح لا سيما في ديارنا. قال: ومن أعطى صيرفيا درهما، وقال: أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي عندهما؛ لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز وبيع النصف بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز، وعلى قياس قول أبي حنيفة بطل في الكل؛ لأن الصفقة متحدة والفساد قوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من بيان عددها) ش: لنفي الجهالة م: (ونحن نقول: ما يباع بالدانق ونصف الدرهم من الفلوس معلوم عند الناس الكلام فيه) ش: أي فيما إذا كان معلوما، يعني فرض المسألة فيما إذا كان ما يباع بنصف درهم من الفلوس معلوما حين العقد، فكان مغنيا عن ذكر العدد. وقال الإمام الحلواني: هذا إذا كان الدانق والقيراط معلوما، فإن عند الناس لا تختلف معاملتهم فيه، فأما إذا كان مختلفا فكما قاله زفر لمكان المنازعة.
م: (فأغنى عن بيان العدد) ش: يعني إذا كان معلوما أغنى ذلك عن بيان العدد.
م: (ولو قال: بدرهم فلوس أو بدرهمين فلوس فكذلك عند أبي يوسف) ش: يجوز م: (لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم، وهو المراد) ش: أي كونه معلوما هو المراد م: (لا وزن الدرهم من الفلوس) ش: أي ليس المراد علم وزن الدرهم من الفلوس م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز بالدرهم) ش: أي أن الشراء بدرهم فلوس أو بدرهمين لا يجوز م: (ويجوز فيما دون الدرهم، لأن في العادة المبايعة بالفلوس فيما دون الدرهم، فصار معلوما بحكم العادة ولا كذلك الدرهم) ش:
م: (قالوا) ش: أي مشايخنا، م: (وقول أبي يوسف أصح لا سيما) ش: أي خصوصا م: (في ديارنا) ش: بما وراء النهر، لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم. وقال الأترازي: قوله سيما في ديارنا هذا تركيب عجيب، فينبغي أن يقال: لا سيما، كما قال امرؤ القيس:
ولا سيما يوم بدار جلجل
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ومن أعطى صيرفيا درهما وقال: أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي عندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز، وبيع النصف بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز، وعلى قياس قول أبي حنيفة بطل في الكل؛ لأن الصفقة متحدة والفساد قوي) ش: لأنه متمكن في(8/417)
فيشيع وقد مر نظيره. ولو كرر لفظ الإعطاء كان جوابه كجوابهما هو الصحيح، لأنهما بيعان. ولو قال: أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز؛ لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله، وما وراءه بإزاء الفلوس. قال: وفي أكثر نسخ "المختصر" ذكر المسألة الثانية، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صلب العقد، ولأنه يجمع عليه لمعنى الربا م: (فيشيع وقد مر نظيره) ش: أي في البيع، وهو ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع يبطل البيع عنده في الكل.
م: (ولو كرر لفظ الإعطاء) ش: بأن قال: أعطني فلوسا وأعطني بنصفه نصفا إلا حبة م: (كان جوابه) ش: أي جواب أبي حنيفة م: (كجوابهما هو الصحيح) ش: أي كجواب أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- في الأصح لتفرق الصفقة بتكرر لفظ الإعطاء وفساد أحد البيعين لا يوجب فساد الآخر، وأشار إليه المصنف بقوله م: (لأنهما بيعان) ش: يعني بتكرر لفظ الإعطاء.
م: (ولو قال: أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز، لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله، وما وراءه بإزاء الفلوس) ش: وفي الأصل: ولو اشترى فقال: أعطني كذا كذا فلسا ودرهما صغيرا وزنه نصف درهم إلا قيراطا كان هذا جائزا كله إذا تقابضا قبل أن يتفرقا.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي أكثر نسخ المختصر) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ذكر المسألة الثانية) ش: وهي قوله أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز، يعني لم يذكر في أكثر نسخ المختصر المسألة الأولى، وهو قوله من أعطى الصيرفي درهما وقال: أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي، ولهذا قال في " شرح الأقطع ": وهو غلط من الناسخ.
وقال الكاكي: إنما ذكر المصنف هذا، يعني قوله نسخ المختصر دفعا لمؤاخذة ترد على صاحب القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه ذكر في بعض النسخ المسألة، وأجاب بالجواز مطلقًا، وليس كذلك بالإجماع، أما عنده فظاهر لأنه يبطله في الكل. وأما عندهما يجوز في الفلوس ويبطل في الباقي، فعلم أن الجواز ليس بمطلق في المسألة الأولى، فذكر الجواب مطلقًا في بعض النسخ محمول على خطأ من الكاتب، والدليل عليه أن أكثر النسخ ذكر المسألة الثانية وأجاب بالجواز مطلقًا. م: (والله أعلم بالصواب) .(8/418)
كتاب الكفالة قال: الكفالة هي الضم لغة، قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] (آل عمران: الآية 37) ثم قيل: هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل: في الدين، والأول أصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الكفالة]
[تعريف الكفالة]
م: (كتاب الكفالة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الكفالة، وإنما عقب البيوع بذكر الكفالة؛ لأنها تكون في البياعات غالبا، ولأن في الكفالة إذا كانت بأمر معنى المعاوضة انتهى، فناسب ذكرها عقيب البيوع التي هي معاوضة.
م: (قال: الكفالة هي الضم لغة) ش: من كفلت به كفالة وكفلت عنه المال لغريمه، والكفيل أيضا من أكفلته المال أي ضمنته إياه، وكفل هو به كفلا وكفولًا، والتكفيل مثله ومكفل بذمته تكفلا، واستشهد المصنف في قوله الكفالة الضم لغة بقوله: م: (قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] (آل عمران: الآية 37) وضمها إلى نفسه، وقرئ بتشديد الفاء ونصب زكريا أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.
وذكر الأخفش أنه قرئ أيضا: "وكفلها" بكسر الفاء، والضمير المنصوب في "كفلها" يرجع إلى مريم أم عيسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وقصتها مشهورة.
م: (ثم قيل) ش: قائله أكثر الأصحاب م: (هي) ش: أي الكفالة في معناها الشرعي م: (ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد في رواية، وعنه: أن الدين ينتقل في الكفالة عن الميت. ونقل الشيخ أبو حفص أن الدين يسقط عن الأصيل بالكفالة عند مالك، والمشهور عنه خلاف ذلك م: (وقيل في الدين) ش: أي الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في أصل الدين، وهو اختيار بعض المشايخ.
وقال الأترازي: وهو مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والأول أصح) ش: أي القول الأول الذي قاله أكثر الأصحاب هو الأصح، لأن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس ولا دين ثمة.
ولأنه لو ثبت الدين في ذمة الكفيل ولم يبرأ الأصيل صار الدين دينين، وأورد ما إذا وهب رب المدين دينه فإنه يصح ويرجع به الكفيل على الأصيل، ولو لم يصر الدين عليه لما ملك قبل الكفالة، لأن تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز.
وأجيب: بأن رب الدين لما وهب للكفيل صح فجعلنا الدين عليه حينئذ لضرورة تصحيح التصرف، وجعلناه في حكم دينين. وأما قبل ذلك فلا ضرورة فلا يجعل في حكم دينين.(8/419)
قال: الكفالة ضربان: كفالة بالنفس، وكفالة بالمال، فالكفالة بالنفس جائزة والمضمون بها إحضار المكفول به، وقال الشافعي: لا يجوز؛ لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال؛ لأن له ولاية على مال نفسه. ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» . وهذا يفيد مشروعية الكفالة بنوعيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وركن الكفالة الإيجاب والقبول عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال أبو يوسف آخرا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك وأحمد -رحمهما الله- الكفالة تتم بالكفيل وحده وجد القبول أو لا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الكفالة ضربان: كفالة بالنفس وكفالة المال، فالكفالة بالنفس جائزة، والمضمون بها إحضار المكفول به) ش: وبه قال أحمد وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وحمزة بن عمر الأسلمي وجرير بن عبد الله وأبي بن كعب وعمران بن الحصين والأشعث بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - م: (وقال الشافعي: لا يجوز) ش: هذا ليس بمشهور من مذهبه.
فإن الصحيح عنده كمذهبنا م: (لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه، إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال؛ لأن له ولاية على مال نفسه، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «الزعيم غارم» ش: هذا الحديث رواه أبو داود مطولا عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه ... » الحديث، وفي آخره: «والزعيم غارم» .
ورواه ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الزعيم غارم» أخرجه ابن عدي في "الكامل"، ومعناه: الكفيل غارم من غير فصل بين الكفالة بالمال والكفالة بالنفس، وألفاظ المال وكفالة الكفالة. أنا زعيم، أنا ضامن بما عليه، أو كفيل بذلك أو قبيل بذلك، أو قبيل، أو هو علي، أو إلي، أو هو عندي، أو هو لك قبلي.
م: (وهذا) ش: أي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» م: (يفيد مشروعية الكفالة بنوعيها) ش: أي(8/420)
ولأنه يقدر على تسليمه بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه، أو يستعين بأعوان القاضي في ذلك، والحاجة ماسة إليه. وقد أمكن تحقيق معنى الكفالة، وهو الضم في المطالبة فيه. قال: وتنعقد إذا قال: تكفلت بنفس فلان أو برقبته، أو بروحه، أو بجسده، أو برأسه، وكذا ببدنه وبوجهه؛ لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة أو عرفا، على ما مر في الطلاق. وكذا إذا قال: بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه؛ لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ، فكان ذكر بعضها شائعا كذكر كلها. بخلاف ما إذا قال: تكفلت بيد فلان أو برجله؛ لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنوعي الكفالة وهما كفالة المال وكفالة النفس، لأنه مطلق يشملهما. وفي بعض النسخ بنوعيه، قال الأترازي: الضمير راجع إلى الكفالة على تأويل عقد الكفالة.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكفيل جواب عن قياس الشافعي. م: (يقدر على تسليمه) ش: أي تسليم المكفول عنه م: (بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه) ش: أي بين المكفول له والمكفول عنه م: (أو يستعين) ش: أي الكفيل م: (بأعوان القاضي) ش: الأعوان جمع عون وهو الظهير على الآخر. والحاصل: أن أعوان القاضي هم الرجال الذين في خدمته يساعدونه في مهمات الأمور الشرعية. م: (في ذلك والحاجة ماسة إليه) ش: أي مهمة إلى عقد الكفالة بالنفس وهي ضرورة.
أما حقوق العباد لأنه ربما يعيب بنفسه فيتضرر صاحب الحق م: (وقد أمكن تحقيق معنى الكفالة وهو الضم في المطالبة فيه) ش: أي في هذا النوع م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتنعقد) ش: أي الكفالة م: (إذا قال: تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه) ش: هذا كله كلام القدوري، وقوله م: (وكذا ببدنه وبوجهه) ش: من كلام المصنف م: (لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة) ش: كقوله تكلفت بنفس فلان أو ببدنه أو بجسده م: (أو عرفا) ش: كقوله تكفلت بوجهه أو برأسه أو برقبته م: (على ما مر في الطلاق) ش: أنه قال: نفسك طالق أو بدنك طالق أو جسدك طالق فإنها تطلق. وإذا قال: يدك طالق أو رجلك طالق أو دبرك طالق لا يقع شيء. م: (وكذا) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة م: (إذا قال: بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه) ش: أي قال: تكفلت بجزء من فلان بأن قال تكفلت بيده أو رجله م: (لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ فكان ذكر بعضها) ش: أي ذكر بعض النفس الواحدة حال كونه م: (شائعا كذكر كلها) ش: كما في الطلاق؛ لأن إضافة الكفالة إلى جزء شائع تثبت، وترى إلى الجملة كما في الطلاق والعتاق.
م: (بخلاف ما إذا قال: تكفلت بيد فلان أو برجله) ش: حيث لا تصح الكفالة م: (لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما) ش: أي إلى اليد والرجل فكانت إضافة الكفالة(8/421)
وفيما تقدم يصح، وكذا إذا قال: ضمنته لأنه تصريح بموجبه، أو قال: هو علي؛ لأنه صيغة الالتزام، أو قال: إلي؛ لأنه في معنى علي في هذا المقام. قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي» . وكذا إذا قال: أنا زعيم به أو قبيل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إليهما كإضافة الطلاق إليهما على ما مر. م: (وفيما تقدم) ش: أي في الجزء الشائع كالنصف م: (يصح) ش: إضافة الكفالة إليه كما تصح إضافة الطلاق. وقال الشافعي: تجوز الكفالة بما يعبر به عن البدن وجزء شائع أو بجزء لا يمكن فصله عنه كالقلب والكبد، وبه قال أحمد في رواية.
وقال مالك: يصح لكل عضو من بدنه حتى لو قال بوجهه أو بعينه، فهو كفالة بالنفس، وبه قال الشافعي في وجه وأحمد، وعندهما: لو كفل بعينه لم يذكره محمد. وعن أبي بكر البلخي: لا يصح كما في الطلاق، ولو برئ البدن يصح، كذا في " المحيط ".
م: (وكذا) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة م: (إذا قال: ضمنته لأنه تصريح بموجبه) ش: أي بموجب عقد الكفالة، لأنه يصير ضامنا للتسليم والعقد ينعقد بالتصريح بموجبه كالبيع ينعقد بلفظ التمليك. م: (أو قال: هو علي لأنه صيغة الالتزام) ش: لأنه من ألفاظ الوجوب فأفاد الضمان فصحت الكفالة م: (أو قال إلي؛ لأنه في معنى "علي" في هذا المقام) ش: فكأنه قال ضمانه بوجه إلي. م: (قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك كلا فإلي، ومن ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له» ... الحديث، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، وفي لفظ لأبي داود قال: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فإلي» .
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا» والكل بفتح الكاف وتشديد اللام اليتيم هنا بدليل عطف العيال عليه، وإن كان الكل يجيء بمعنى العيال والجمع الكلول والعيال من يعوله أي يصونه وينفق عليه.
م: (وكذا إذا قال) ش: أي وكذا تنعقد الكفالة بقوله م: (أنا زعيم به) ش: أي بفلان، وليس في بعض النسخ لفظ به، وزعيم من زعم به، أي كفل به يزعم زعامة م: (أو قبيل) ش: أي أو قال: أنا قبيل بفلان فهو بمعنى كفيل من قولهم قبل به أي كفل به بفتح العين في الماضي وكسرها(8/422)
لأن الزعامة هي الكفالة وقد روينا فيه، والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال: أنا ضامن لمعرفته؛ لأنه التزم المعرفة دون المطالبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المضارع قبالة م: (لأن الزعامة هي الكفالة) ش: يعني معناهما واحد م: (وقد روينا فيه) ش: أي روينا الحديث، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» وفي بعض النسخ روينا الحديث.
وقوله: فيه أي في معنى أن الزعامة هي الكفالة والحميل أيضا بمعنى الكفيل، يقال حمل به يحمل حمالة بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع، أي كفل به، وروى الزمخشري في " الفائق ": الحميل غارم.
م: (والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال: أنا ضمن لمعرفته) ش: يعني لا يكون كفيلا بهذا اللفظ م: (لأنه التزم المعرفة دون المطالبة) ش: أي لأن الرجل الذي قال هذا اللفظ التزم لمن يطلب الكفيل معرفة الرجل الذي عليه الدين وما التزم مطالبته الدين.
وفي الأصل: لو قال أنا ضامن لمعرفة فلان أو ضامن لأن أدلك عليه، أو لأن أدل على منزله لا يكون كفالة. ولو قال: أنا ضامن تعريفه أو علي تعريفه ففيه اختلاف المشايخ، كذا نقل في " خلاصة الفتاوى " عن " شرح الشافي ".
وقال الفقيه أبو الليث: روي عن علي بن أحمد عن نصير قال: سئل ابن محمد بن الحسن أبا سليمان الجوزجاني عن رجل قال لآخر: أنا ضامن لمعرفة فلان، أما في قول أبي حنيفة ومالك: لا يلزمه شيء، وأما أبو يوسف قال: هذا على معاملة الناس وعرفهم، ثم قال الفقيه أبو الليث في " النوازل ": هذا القول عن أبي يوسف غير مشهور.
والظاهر ما روي عن أبي حنيفة ومحمد، وقال في خزانة الواقعات: وبه يُفتى، أي بظاهر الرواية، وقال في " الفتاوى الصغرى ": "أسنائي فلان برمن" قال الفقيه أبو جعفر: يكون كفيلا.
وقال أبو الليث: لا وعليه الفتوى. ثم نقل في " الفتاوى الصغرى " عن " الواقعات ": أن الفتوى على أنه يصير كفيلا، ثم قال فيهم إذا قال فلان - أسناي من است، أو قال أثناست صارت كفالة بالنفس عرفا.
ولو قال - آن: جه ترا بر فلان إست جواب كريم - فهو كفالة بحكم العرف. ولو قال: أن جه ترا بر فلان است من بدهم - لا يكون كفالة بحكم العرف، ومن وعد غيره أن يقضي دينه بأن قال: بدهم، لا يجب، ونقله عن مأذون شيخ الإسلام خواهر زاده - رَحِمَهُ اللَّهُ -.(8/423)
فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه في ذلك الوقت وفاء بما التزمه. فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه، ولكن لا يحبسه أول مرة فلعله ما درى لماذا يدعى. ولو غاب المكفول بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه، فإن مضت ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه]
م: (فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه به في ذلك الوقت وفاء بما التزمه) ش: أي لأجل وفاء ما التزمه في الوقت المعين، والأصل فيه أن الكفالة بالنفس نوع ضمان، فيصح التأجيل فيها كالكفالة بالمال، فإذا حل الأجل يجب الإحضار م: (فإن أحضره) ش: فلا كلام فيه م: (وإلا) ش: أي وإن لم يحضره بأن امتنع عن إحضاره م: (حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه) ش: لأنه يصير ظالما والحبس جزاؤه.
م: (ولكن لا يحبسه أول مرة) ش: لأن الحبس عقوبة على الظالم ولا يظهر في أول الوهلة م: (فلعله ما درى لماذا يدعى) ش: على صيغة المجهول.
م: (ولو غاب المكفول بنفسه) ش: أي المدعى عليه م: (أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه) ش: هذا إذا علم مكان المكفول به، أما إذا لم يعلم سقطت المطالبة عن الكفيل للحال لعجزه.
وفي " الذخيرة ": ولو كان الكفيل يعرف مكانه أمهله قدر ذهابه ومجيئه، فإن لم يعلم سقطت المطالبة. ولو وقع الاختلاف فقال الطالب: تعرف مكانه.
وقال الكفيل: لا أعرف، فإن كان له خرجة معروفة تخرج إلى موضع معلوم للتجارة في كل وقت فالقول للطالب ويؤمر الكفيل بالذهاب إليه، لأن الظاهر شاهد له.
وإن لم يكن ذلك معروفا منه فالقول للكفيل، لأنه متمسك بالأصل وهو الجهل ومنكر لزوم المطالبة فإن أقام الطالب البينة أنه في موضع كذا يؤمر الكفيل بالذهاب إليه.
وقال الكاكي: وفي بعض النسخ: وكذا إذا ارتد ولحق بدار الحرب، وهذه المسألة ليست في بعض النسخ إلى قوله: وإذا أحضره وسلمه، ثم معنى قوله: وكذا إذا ارتد ولحق بدار الحرب يعني يمهله الحاكم مدة ذهابه إلى دار الحرب ومجيئه، وينبغي أن يبرأ الكفيل كما في الموت، لأن إلحاق المرتد موت حكمي.
والفرق أن اللحاق موت حكمي في قسمة ماله بين ورثته دون الحقوق الثابتة في ذمته. م: (فإن مضت) ش: المدة م: (ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق) ش: مع إمكانه وبيان مطله.(8/424)
قال: وإذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه، مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا لأنه ما التزم التسليم إلا مرة. وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ لحصول المقصود.
وقيل في زماننا: لا يبرأ؛ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار، فكان التقييد مفيدا. وإن سلمه في برية لم يبرأ؛ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في السواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه. ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ عند أبي حنيفة للقدرة على المخاصمة فيه، وعندهما لا يبرأ لأنه قد يكون شهوده فيما عينه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وكذا إذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة؛ لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا) ش: يعني ما ذكرنا من إتيانه بما التزمه. م: (لأنه ما التزم التسليم إلا مرة) ش: فحصل التسليم.
م: (وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ لحصول المقصود) ش: وهو القدرة على المحاكمة م: (وقيل في زماننا لا يبرأ؛ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار، فكان التقييد مفيدا) ش: وقال الأئمة الثلاثة: إذا عين مكانا وفي تسليمه في غيره ضرر يتعين ذلك المكان.
وفي " الشامل " شرط على الكفيل أن يسلمه في المسجد الأعظم فسلمه في السوق برئ، لأن المصر كبقعة واحدة، ثم قال فيه: عن أبي يوسف أنه لا يبرأ، لأن الناس لا يعينونه للإحضار، ثم قال: ويجب أن يكون الفتوى على هذا اليوم.
م: (وإن سلمه في برية لم يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في السواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه) ش: قال الجوهري: سواد الكوفة، والبصرة قرى، والمفهوم من كلام المصنف أن السواد هي القرى التي ليس فيها قضاة، وأما إذا كان فيها قضاة ينبغي أن يبرأ لقدرته على المخاصمة.
م: (ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ -عند أبي حنيفة - للقدرة على المخاصمة فيه) ش: لأن المحاكمة تحقق عنه كل قاض، فصار التسليم في البلدين سواء م: (وعندهما لا يبرأ) ش: وبه قالت الأئمة الثلاثة م: (لأنه قد يكون شهوده فيما عينه) ش: فيتعسر عليه إقامة البينة في بلد آخر.
فقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان. فأبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القرن الثالث والغلبة لأهل الصلاح والقضاة لا يرغبون في الميل إلى الرشوة وتغير الحال في(8/425)
ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه يقدر على المخاصمة فيه. قال: وإذا مات المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة؛ لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل، وكذا إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زمانهما فظهر الفساد والميل إلى الرشوة وعامل كل مصر لا ينقاد لأمر الخليفة فيفيد التقييد.
م: (ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب) ش: أي والحال أن القاضي قد حبسه لأجل غير الطب م: (لا يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيه) ش: وعند مالك يبرأ، وعند أحمد: إن كان في سجن القاضي الذي يرجع الحكم إليه يبرأ وإلا فلا.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (وإذا مات المكفول به) ش: وهو المدعى عليه م: (برئ الكفيل بالنفس من الكفالة) ش: وبه قال الشافعي في وجه وأحمد. وقال في أصح الوجهين: يطالب بإحضار الميت ما لم يدفن إذا أراد المكفول إقامة الشهادة على مورثه كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت، وعلل المصنف ما ذهب إليه أصحابنا بوجهين: الأول: هو قوله م: (لأنه عجز عن إحضاره) ش: أي إحضار المكفول به وهو المدعى عليه. والثاني: هو قوله م: (ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل) ش: لأن الكفيل الأصيل من الحق المضمون يوجب براءة الكفيل.
م: (وكذا) ش: أي وكذا تسقط الكفالة م: (إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول) ش: إلا بإحضار النفس وقد سقط الحضور عن الأصيل، فكذا عن الكفيل، لأن براءة المكفول. م: (بنفسه وماله) ش: أي ومال الكفيل م: (لا يصلح لإيفاء هذا الواجب) ش: وهو الإحضار وتسليم المكفول به.
حاصله: أنه لا يؤدي ما على المكفول به من تركه الكفيل، لأنه ما التزم بأداء المال، وإنما التزم بتسليم النفس، والمال لا يصلح وفاء لهذا الواجب، وبه قال أحمد والشعبي وشريح وحماد بن أبي سليمان والشافعي في أصح الوجهين وقال مالك والليث: يلزمه ما عليه، وبه قال ابن شريح من أصحاب الشافعي.
م: (بخلاف الكفيل بالمال) ش: إذا مات حيث يُؤدى المال من تركه، إذ المقصود هنا إيفاء حق المكفول له في الحال والمآل، والكفيل صالح له فلا تبطل الكفالة فتؤخذ من تركته ويرجع ورثته على المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره كما في حال الحياة.
ولو كان الدين مؤجلا ومات الكفيل قبل الأجل يؤخذ من تركته حالا، ولكن ورثته ترجع على الذي عليه الأصل بعد حلول الأجل، لأنه باق في حق الأصيل لبقاء حاجته، أما الكفيل(8/426)
ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل، وإن لم يكن فلوارثه لقيامه مقام الميت. قال: ومن كفل بنفس آخر ولم يقل إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء، لأنه موجب التصرف فيثبت بدون التنصيص عليه. ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين. ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح لأنه مطالب بالخصومة فكان له ولاية الدفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فقد استغنى عن الأجل بالموت. كذا في " المبسوط "، وبقولنا قال الشافعي وأحمد. وعن زفر: أن للورثة مطالبته حالا لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته.
قلنا: إنه دين مؤجل فلا يجوز قبل الأجل.
م: (ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل) ش: لقيامه مقام المكفول له م: (وإن لم يكن) ش: أي للوصي م: (فلوارثه) ش: المطالبة م: (لقيامه) ش: أي لقيام الوارث م: (مقام الميت) ش: ويجوز أن يكون الضمير في لقيامه راجعا إلى كل واحد من الوصي والوارث لأن كلا منهما يقوم مقام الميت.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن كفل بنفس آخر) ش: بالإضافة م: (ولم يقل) ش: أي والحال أنه لم يقل م: (إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء لأنه) ش: أي لأن دفع المكفول به إلى الطالب، كذا قاله الكاكي.
وقال الأكمل: لأنه يعني البراءة وذكره لتذكير الخير وهو الموجب م: (موجب التصرف فيثبت) ش: أي الموجب م: (بدون التنصيص عليه) ش: كثبوت الملك بالشراء وإن لم يصرح به وكحل الاستمتاع يثبت بمجرد النكاح الصحيح فإنه موجبه.
وكذا في سائر الموجبات م: (ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين) ش: إذا سلمه الغاصب إذا رد المغصوب على المالك، والبائع إذا سلم المبيع إلى المشتري، وبه قال مالك وأحمد.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لزمه القبول. ولو امتنع من القبول، قال بعض أصحابه: يرفع الأمر إلى القاضي ويسلمه حتى يبرأ، فإن لم يجدها أو امتنع أحضر شاهدين ليشهدوا على امتناعه، وبه قال بعض أصحاب أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح) ش: هذه من مسائل " المبسوط " ذكرها تفريعا على ما تقدم م: (لأنه) ش: أي لأن المكفول به م: (مطالب بالخصومة) ش: أي بخصومة المدعي أو مرض من الكفيل، قال شيخنا م: (فكان له ولاية الدفع) ش: أي دفع الخصومة. وفي بعض النسخ: لأنه يطالب بالخصومة. وقال الأترازي: مطالب صح بفتح اللام سماعا، قلت: وكذا قال شيخنا(8/427)
وكذا إذا سلمه إليه وكيل الكفيل أو رسوله لقيامهما مقامه. قال: فإن تكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه، وهو ألف فلم يحضره إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال؛ لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح. فإذا وجد الشرط لزمه المال، ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس، لأن وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه، إذ كل واحد منهما للتوثيق. وقال الشافعي: لا تصح هذه الكفالة؛ لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
العلاء بفتح اللام م: (وكذا) ش: أي وكذا صح م: (إذا سلمه إليه) ش: إذا سلم الكفيل إلى المكفول له م: (وكيل الكفيل أو رسوله) ش: أي أو أسلمه إليه رسول الكفيل م: (لقيامهما) ش: أي لقيام وكيل الكفيل ورسوله م: (مقامه) ش: أي مقام الكفيل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (فإن تكفل بنفسه على أنه لم يواف به) ش: أي إن لم يأت به وهو من الموافاة، وهو مفاعلة من الوفاء م: (إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه وهو ألف) ش: وقال الكاكي: والتقييد بما عليه مقيد؛ لأنه إذا لم يقل لما عليه لا يلزمه شيء عند عدم الموافاة خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تصح الكفالة، وسيجيء بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال الكاكي أيضا: والتقييد بقوله: وهو ألف غير مفيد، لأنه إذا قال: ما عليه ولم يسم كم هو جاز، لأن جهالة المكفول به لا تمنع صحتها لأنها مبنية على التوسع كضمان الدرك وضمان الشجة، فإنه يصح مع أنه مجهول لا يعلم أنها تسري إلى النفس أم لا. م: (فلم يحضره) ش: أي الألف م: (إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال؛ لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح) ش: لأنه متعارف بين الناس وإن كان القياس يأباه، كما لو اشترى نعلا على أن يحذوه البائع.
م: (فإذا وجد الشرط لزم المال، ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس، لأن وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه، إذ كل واحد منهما) ش: أي لأن كل واحد من الكفالتين شرع م: (للتوثيق) ش: فيجوز أن يدعي عليه دينا آخر.
م: (وقال الشافعي: لا تصح) ش: ذكر في " المبسوط " موضع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال ابن أبي ليلى م: (هذه الكفالة) ش: إنما قيد بقوله: هذه الكفالة للاحتراز عن سائر الكفالات بالمال بدون النفس بالشرط لا للاحتراز عن الكفالة بالمال، فإن عنده كلتيهما باطلتين، كذا ذكره قاضي خان والمرغيناني.
وقال الكاكي على قوله المنصوص بصحة الكفالة بالنص: وتبطل الكفالة بالمال فقط، ويفهم ذلك من كتبهم، وتعليل الكتاب أيضا يدل عليه م: (لأنه) ش: أي لأن هذا التعليق. وفي(8/428)
تعليق سبب وجوب المال بالخطر فأشبه البيع. ولنا: أنه يشبه البيع ويشبه النذر من حيث إنه التزام، فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط كهبوب الريح ونحوه، ويصح بشرط متعارف عملا بالشبهين والتعليق بعدم الموافاة متعارف. ومن كفل بنفس رجل، وقال: إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال لتحقق الشرط، وهو عدم الموافاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعض النسخ هذه الكفالة؛ لأنها م: (تعليق سبب وجوب المال بالخطر) ش: أراد بالسبب الكفالة بالمال؛ لأنها سبب وجوب المال، فيكون تعليقها بالشرط تعليق سبب وجوب المال فلا يصح، لأن المال لا يحتمل التعليق بالخطر لإفضائه إلى معنى القمار م: (فأشبه البيع) ش: أي تعليق البيع بالمال وصار كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنا كفيل بمالك على فلان.
م: (ولنا أنه) ش: أي أن عقد الكفالة م: (يشبه البيع) ش: أي انتهاء من حيث إن الكفيل يرجع على الأصيل إذا كان يأمره م: (ويشبه النذر من حيث إنه التزام) ش: يعني التزام شيء غير لازم، فعملنا بالشبهين. م: (فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط) ش: عملا بشبه البيع. م: (كهبوب الريح ونحوه) ش: أراد به دخول الدار ومجيء المطر م: (ويصح بشرط متعارف) ش: عملا بشبه النذر م: (عملا بالشبهين، والتعليق بعدم الموافاة متعارف) ش: وبدخول الدار غير متعارف.
م: (ومن كفل بنفس رجل، وقال: إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال لتحقق الشرط وهو عدم الموافاة) ش: لأنه علق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالمكفول به، وقد تحقق الشرط فيوجب المال.
فإن قيل: هذه المسألة عين الأولى غير أن في الأولى لم يذكر موت المكفول به وهاهنا ذكره وبه لا يقع الفرق، إذ لزوم المال بموته وعدم موته لا يتفاوت.
قلنا: بل بينهما فرق، وهو أنه لم يذكر في بعض النسخ " الجامع " لفظ الغد في هذه المسألة، فكان تعليق الكفالة بالمال بعدم الموافاة مطلقًا وهنا مقيدا، فكان بينهما فرق، إذا المطلق غير المقيد.
وقال الأترازي: والفرق بين هذه المسألة ومسألة القدوري التي تقدمت أن في هذه لم يذكر لفظ الغد في أكثر نسخ الجامع الصغير، ولهذا لم يذكره فخر الإسلام والصدر الشهيد وقاضي خان، وإنما ذكر بعضهم فكانت مسألة القدوري مقيدة بوقت وهذه مطلقة عنه فحصل الفرق.
والوجه الثاني من الفرق: أن المكفول به هنا مات قبل الغد وفي مسألة القدوري هو حي، ولكن الكفيل لم يواف به في ذلك الوقت فذكر مسألة " الجامع الصغير " إزاحة لوهم بعض الناس أنه ربما يكون فرق بين عدم الموافاة وهو حي وعدم الموافاة وهو ميت، فقال: لا فرق بينهما، بل يجب المال إذا وجد الشرط وهو عدم الموافاة في الوقت.(8/429)
قال: ومن ادعى على آخر مائة دينار، بينها أو لم يبينها، حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة، فإن لم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله-، وقال محمد: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه؛ لأنه علق مالا مطلقا بحظر، ألا يرى أنه لم ينسبه إلى ما عليه، ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها ولأنه لم تصح الدعوى من غير بيان فلا يجب إحضار النفس، وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال؛ لأنه بناء عليه، بخلاف ما إذا بين. ولهما أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه، والعادة جرت بالإجمال في الدعاوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال: ومن ادعى على آخر مائة دينار بينها) ش: أي بين صفة مائة دينار أنها جيدة أو رديئة أو خليقة أو ركينة. م: (أو لم يبينها حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة، فإن لم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال أحمد م: (وقال محمد: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه) ش: أي إلى دعوى الطالب، وبه قال الشافعي م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (علق مالا مطلقا) ش: أراد بإطلاقه عدم نسبة المائة إلى المال المدعى به حيث لم يقل: تكفلت بمالك عليه م: (بحظر) ش: أي بتردد وهو شرط عدم الموافاة م: (ألا يرى) ش: توضيح لما قبله م: (أنه لم ينسبه إلى ما عليه) ش: حيث لم يقل التي لك على فلان.
م: (ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها) ش: أي لا تصح الكفالة على وجه تعليق المال مطلقا بحظر، وإن بين صفة المائة من الجودة والرداءة والوسط، وذلك لاحتمال أن يلتزم المائة على وجه الرشوة للمدعي حتى يترك المدعى عليه في الحال، هكذا ذكر الماتريدي.
م: (ولأنه لم تصح الدعوى) ش: هذا وجه آخر منسوب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي م: (من غير بيان فلا يجب إحضار النفس) ش: إلى مجلس القاضي لفساد الدعوى بجهالة المدعى به م: (وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال لأنه بناء عليه) ش: أي لأن عقد الكفالة بالمال بناء على عقد الكفالة بالنفس، وهذا يوجب أن تصح الكفالة بالنفس إذا بين المال، وهو معنى قوله م: (بخلاف ما إذا بين) ش: أي المال، حيث تصح الكفالة بالنفس.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- م: (أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه) ش: يعني أن المال في قول الكفيل ذكر معرفا، حيث قال: إن لم يواف به غدا فعليه المال فينصرف إلى ما على الأصيل لأنه هو المعهود م: (والعادة جرت بالإجمال في الدعاوي) ش: أي العادة جرت بين الناس أنهم يحملون الدعوى أولا في غير مجلس القاضي، وبينوه عند القاضي دفعا لحيل الخصوم وصرفا لكلامهم إلى وقت الحاجة.(8/430)
فتصح الدعوى على اعتبار البيان، فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى فتبين صحة الكفالة الأولى فيترتب عليها الثانية.
قال: ولا يجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه لا يجبر عليها عنده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإذا كان كذلك م: (فتصح الدعوى على اعتبار البيان) ش: من جهته م: (فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى) ش: يعني إلى ابتداء الدعوى، فإذا كان كذلك م: (فتبين صحة الكفالة الأولى) ش: وهي الكفالة بالنفس م: (فيترتب عليها الثانية) ش: أي الكفالة الثانية وهي الكفالة بالمال، ويكون القول له في هذا الباب، لأنه يدعي صحة الكفالة، والكفيل يدعي الفساد.
[الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولا يجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: إلى هنا لفظ القدوري، وقوله م: (معناه لا يجبر عليها عنده) ش: من كلام المصنف، أي معنى قول القدوري: لا تجوز الكفالة بالنفس لا يجبر من عليه الحد أو القصاص على الكفالة، حاصل الكلام: من توجه عليه الحد أو القصاص إذا طلب منه كفيل بنفسه بأن يحضره في مجلس القضاء لإثبات ما يدعيه المدعى عليه فامتنع عن إعطائه لا يجبر عليه عند أبي حنيفة، وعلى هذا يكون معنى قوله: ولا تجوز الكفالة لا يجوز إجبار الكفالة بحذف المضاف وإسناد الجواز إلى الكفالة مجازا. وقال فخر الإسلام في " شرح الجامع الصغير ": معنى قول محمد: لا كفالة في الحدود والقصاص - أن القاضي لا يفعل ذلك، لأن فيه احتيالا للإثبات، والشرع أمر بالدرء وهو خلافه، ثم قال فخر الإسلام: وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر الشيخ الإمام علاء الدين الأسبيجابي في أول باب الكفالة من " شرح مختصر الكافي " أن الكفالة بنفس من عليه حد القذف وحد السرقة ومن عليه القصاص في النفس وما دون النفس يصح، وإنما الخلاف في الجبر على إعطاء الكفيل في الحدود، لا يجبر بالإجماع.
وفي القصاص لا يجبر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند صاحبيه يجبر. وفي " الشامل " وفي القصاص وحد القذف والسرقة جازت الكفالة بالنفس ولا تجوز الكفالة بنفس الحد، وفيه أيضا: لا تجوز كفالة في قصاص واحد، ويقول القاضي لمدعي القذف: الزمه إلى قيامي إن كانت بينتك حاضرة، عند أبي حنيفة. وعندهما يأخذ كفيلا ثلاثة أيام، ثم قال: والخلاف في أمر القاضي بإعطائه لا في الصحة، فإنه لو كفل إنسان صح، وذكر الكرخي: أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص جائزة في قولهم جميعا إذ بدلهما المطلوب بنفسه، ولكن هل للقاضي أن يأمره بالكفيل إذا طلب الخصم؟ قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يأخذ القاضي منه كفيلا، ولكن يحبسه حتى تقام عليه البينة أو تستوفى، كذا ذكر صاحب " التحفة "، ثم لا يحبسه القاضي في الحدود والقصاص حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي فيشهد أنه زنى أو قتل فيحبسه القاضي حينئذ لثبوت التهمة بأحد شطري الشهادة من العدد والعدالة حتى يشهد(8/431)
وقالا: يجبر في حد القذف لأن فيه حق العبد وفي القصاص لأنه خالص حق العبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عليه الشهود العدول، وقد صح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا بالتهمة» . بخلاف الأموال حيث لا يحبس فيها بشهادة الواحد.
وفي " شرح الأقطع " فإن قيل: فقد قال أبو حنيفة: يحبس، والتوثق بالحبس أعظم من التوثق بالكفيل.
قيل له: ليس الحبس للتوثق، وإنما هو للتهمة والحبس بها واجب، ونقل الناطقي في "أجناسه" عن " نوادر ابن رستم " في التعزير: لا يحبس حتى يسأل عن عدالة الشهود وتقبل فيه الشهادة على شهادة النساء مع الرجال، ويجوز فيه العفو وتصح فيه الكفالة وهو حق الآدمي. وفي " نوادر أبي يوسف " رواية ابن سماعة في الذي يجمع الخمر ويشربه، ويترك الصلاة: أحبسه وأؤدبه ثم أخرجه ومن يتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس فإني أحبسه وأخلده في السجن إلى أن يتوب، لأن شر هذا على الناس وشر الأول على نفسه وبقول أبي حنيفة في هذا الباب قال أحمد والشافعي في قول وقول أكثر أهل العلم.
م: (وقالا: يجبر في حد القذف) ش: أي قال أبو يوسف ومحمد: يجبر المدعى عليه في حد القذف على الكفالة، وبه قال الشافعي في قول، وعن مالك مثله م: (لأن فيه) ش: أي في حد القذف م: (حق العبد) ش: ولهذا يشترط الدعوى فيه، وإن كان الغالب حق الله تعالى والمدعي يحتاج إلى أن يجمع بين الشهود وبين المطلوب، والمطلوب قد يخفي نفسه فيحتاج إلى أن يأخذ منه كفيلا، وألحق الإمام المحبوبي حد السرقة بحد القذف في الجبر بالكفالة على قولهما، وفي الجواز بغير الجبر على قول أبي حنيفة لأنه من الحدود التي يتعلق بها حق العباد. وقال المرغيناني: ليس نفس الجبر هنا الحبس لكن يأمره بالملازمة وليس تفسير الملازمة المنع من الذهاب لكن يذهب الطالب مع المطلوب فيدور ومعه أينما دار كيلا يغيب، فإذا انتهى إلى باب الدار وأراد الدخول ليستأذنه الطالب في الدخول فإن أذن له في الدخول يدخل معه وليكن حيث يسكن وإن لم يأذن يحبسه في باب داره ويمنعه من الدخول.
م: (وفي القصاص) ش: أي يجبر في القصاص أيضا م: (لأنه خالص حق العبد) ش: فيجري الجبر في أخذ الكفيل كما في سائر حقوقه. وقال الأترازي: وفيه نظر، لأن القصاص مما اجتمع فيه الحقان حق الله تعالى من حيث إخلاء العالم عن الفساد، وحق العبد من حيث يشفي(8/432)
بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى. ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا كفالة في حد" من غير فصل، ولأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق، بخلاف سائر الحقوق لأنها تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير. ولو سمحت نفسه به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصدور. ولكن حق العبد فيه غالب لصحة الاعتياض والعفو م: (بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى) ش: أراد بها حد الزنا وشرب الخمر، يعني لا يجوز الكفالة فيها بالاتفاق.
م: (ولأبي حنيفة قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «لا كفالة في حد» ش: قال الأكمل: قيل: هذا من كلام شريح لا من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره الخصاف في أدب القاضي عن شريح، وقال الصدر الشهيد في " أدب القاضي ": روي هذا الحديث مرفوعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذا قاله الأترازي بعينه، ثم قال في آخره: ولنا في رفعه نظر. قلت: هذا أخرجه البيهقي في سننه عن بقية عن عمر بن أبي عمر الكلاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا كفالة في حد» . وقال: تفرد به عمر بن أبي عمر الكلاعي، وهو من مشايخ بقية المجهولين ورواياته منكرة، انتهى. ورواه ابن عدي في "الكامل" عن عمر الكلاعي، فأعله به، وقال: إنه مجهول لا أعلم أنه روى عنه غير بقية كما يروي عن سائر المجهولين وأحاديثه منكرة غير محفوظة. م: (من غير فصل) ش: يعني لم يفرق بين حد فيه حق العبد وبين حد هو خالص حق الله تعالى، فلا تجوز الكفالة في جميع الحدود. م: (ولأن مبنى الكل على الدرء) ش: أي على الدفع. م: (فلا يجب فيه الاستيثاق) ش: يعني بالتكفل، فإذا لم يكفل عنده ماذا يصنع به. قال في " جامع البرهاني ": يلازمه إلى وقت قيام القاضي عن المجلس، فإن أحضر البينة فيها وإلا خلى سبيله، هذا إذا لم يكن شاهدا عدلا أو شاهدين غير مستورين، فإن أقام يحبس لا للتكفيل بل للتهمة م: (بخلاف سائر الحقوق) ش: حيث يجب فيه الاستيثاق بالتكفيل م: (لأنها تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير) ش: أي يحبس المطلوب على إعطاء الكفيل فيما يجب فيه التعزير؛ لأنه محض حق العبد ويثبت مع الشبهات، وبالشهادة على الشهادة ويحلف فيه فيجبر فيه كالأموال.
م: (ولو سمحت نفسه به) ش: أي نفس المدعى عليه بإعطاء الكفيل للطالب من غير جبر عليه، يعني لو تبرع بإعطاء الكفيل وسامح في ذلك نفس المطلوب وبدل الكفيل بنفسه في القصاص(8/433)
يصح بالإجماع، لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه؛ لأن تسليم النفس فيها واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم. قال: ولا يحبس فيها حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي؛ لأن الحبس للتهمة هاهنا، والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة، إما العدد أو العدالة، بخلاف الحبس في باب الأموال لأنه أقصى عقوبة فيه فلا يثبت إلا بحجة كاملة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحد القذف والسرقة م: (يصح) ش: أي الكفالة م: (بالإجماع) ش: وفي " الجنازية ": هذا في حد للعباد فيه حق كحد القذف، أما في حد ليس للعبد فيه حق لا يجوز الكفالة وإن سمحت به نفسه.
وقال أحمد والشافعي بعدم المطالبة فيه م: (لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه) ش: موجبه التزام المطالبة. وقال تاج الشريعة: أي موجب عقد الكفالة وهو ضم الذمة في المطالبة، والضمير فيه يرجع إلى التكفيل، وفي "عليه" إلى التكفيل م: (لأن تسليم النفس فيها) ش: أي في الحدود، ويروى "فيهما" بضمير التثنية، أي في حد القذف والقصاص م: (واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم) ش: وهو ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير " - وليس في كثير من النسخ لفظ قال - م: (ولا يحبس فيهما) ش: أي في الحدود، وفي بعض النسخ فيهما أي في حد القذف والقصاص م: (حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي) ش: أي يعرف كونه عدلا قيد به لأنه لو كان مجهولا لا يحبسه م: (لأن الحبس للتهمة هاهنا) ش: التهمة بضم التاء وفتح الهاء، ويجوز بالإسكان أيضا.
وقال ابن الأثير: التهمة فعلة من الوهم والتاء بدل من الواو وقد تفتح الهاء واتهمته أي ظننت فيه ما نسب إليه، من وهمت الشيء أهمه وهما من باب ضرب أي وقع في خلدي، والوهم ما يقع في القلب من الخاطر، ومعنى الحبس للتهمة تهمة الفساد، وهنا للاحتياط وشهادة المستورين تصلح لإثبات الحكم فيصلح لإثبات التهمة، وخبر الواحد حجة في الديانات والمعاملات فيثبت بشهادة العدل التهمة وإن لم تثبت أصل الحق، والحبس لتهمة الفساد مشروع، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حبس رجلا بالتهمة» .
م: (والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة إما العدد أو العدالة) ش: العدد اثنان، والعدالة في الواحد وقد مر أن الحبس للتهمة من باب دفع الفساد وهو من الديانات فيثبت بأحد شطريها م: (بخلاف الحبس في باب الأموال) ش: حيث لا يحبس فيه بشهادة الواحد م: (لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (أقصى عقوبة فيه) ش: أي في باب الأموال م: (فلا يثبت إلا بحجة كاملة) ش: فلا يجوز أن يعاقب به قبل ثبوت الحدود والقصاص به، أما في الحدود والقصاص والتعزير أقصى العقوبة(8/434)
وذكر في " أدب القاضي " أن على قولهما لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة. قال: والرهن والكفالة جائزان في الخراج؛ لأنه دين مطالب به ممكن الاستيفاء فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما.
قال: ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان؛ لأن موجبه التزام المطالبة وهي متعددة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القتل، إذ الضرب والحبس نوع عقوبة، فجاز أن يعاقب به قبل ثبوت الحد والقصاص م: (وذكر في أدب القاضي) ش: ذكر على صيغة المجهول م: (أن على قولهما) ش: أي على قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة) ش: يعني أن عندهما لما كانت الكفالة ثابتة في الحدود والقصاص لم تقع الحاجة إلى الحبس، لأن الاستيثاق يحصل بالكفالة. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا كفالة فيها جبرا فيحبس كي يشهد عليه الشهود العدول.
م: (قال) ش: أي قال محمد في " الجامع الصغير ": م: (والرهن والكفالة جائزان في الخراج لأنه) ش: أي لأن الخراج م: (دين مطالب به) ش: ألا ترى أنه يحبس به ويلازم لأجله ومنع وجوب الزكاة فيجوز الكفالة والرهن به كسائر الديون، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
فإن قيل: يشكل على هذا الزكاة فإنه دين مطالب من جهة العباد في الأموال الظاهرة الإمام، وفي الباطنة نائبه وهو المالك كما مر في الزكاة، ولا يجوز الكفالة بدين الزكاة.
قلنا: قال التمرتاشي: إنما لا يصح لأن الزكاة ليست بدين بل هو تمليك المال، ولهذا لا يؤخذ من تركته عندنا بخلاف الخراج، فإنه يؤخذ من تركته.
م: (ممكن الاستيفاء) ش: راجع إلى الرهن، لأن الرهن توثيق لجانب الاستيفاء فهذا من باب اللف والنشر الغير مرتب، لأن قوله: دين يطالب به يرجع إلى الكفالة م: (فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما) ش: المراد بالعقد الكفالة والرهن وموجب الكفالة كونها مشروعة لتحمل المطالبة، وموجب الرهن كونه مشروعا بمضمون يمكن استيفاؤه من الرهن والضمير في "عليه" يرجع إلى الخراج، وفي "فيهما" يرجع إلى الرهن والكفالة.
[أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب وأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان) ش: أي ذهب الطالب وأخذ من المطلوب وهو المديون كفيلا آخر، فهما -أي الأول والثاني- كفيلان م: (لأن موجبه) ش: أي موجب عقد الكفالة م: (التزام المطالبة وهي متعددة) ش: ألا ترى أنهما لو كفلا جميعا بنفسه معا جاز، فكذا إذا كفلا على التعاقب ثم أسلم أحدهما نفس الأصيل إلى الطالب برئ هو دون الآخر وليس هذا كالدين، فإنه لو قضى أحد الكفيلين لدين واحد يبرآن، وفي " التفاريق ": والكفلاء الثلاثة في العقد الواحد(8/435)
والمقصود التوثق، وبالثانية يزداد التوثق فلا يتنافيان. وأما الكفالة بالمال فجائزة، معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا، مثل أن يقول: تكفلت عنه بألف، أو بما لك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع؛ لأن مبنى الكفالة على التوسع فيحتمل فيها الجهالة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أيهم سلم الأصيل كتسليمهم.
وفي " الشافي ": ثلاثة كفلوا بألف طالب كل واحد بثلث الألف، وإن كفلوا على التعاقب يطالب كل واحد بالألف، كذا ذكره شمس الأئمة والمرغيناني والتمرتاشي، ومذهب الشافعي لا يتأتى هنا؛ لأن الكفالة بالنفس عنده لا تصح، كذا قاله الأترازي، وفي قول ابن أبي ليلى يرى الكفيل الأول م: (والمقصود) ش: من عقد الكفالة م: (التوثيق، وبالثانية) ش: أي وبالكفالة الثانية م: (يزداد التوثق فلا يتنافيان) ش: أي الكفالتان.
فإن قيل: لما أخذ الطالب والمطلوب وأخذ منه كفيلا فقد صار مستوفيا للنفس حين صارت في يده فلم لا يبرأ الكفيل الأول بمنزلة الكفيل بالدين إذا أخذ الطالب من المطلوب الدين برئ الكفيل.
قيل له: لأن الطالب إذا أخذ الدين لم يبق له حق، وهاهنا حقه باق وتسليم النفس إليه يحتاج إليه في كل وقت حتى يستخرج حقه، انتهى.
قلت: نفس السؤال دليل ابن أبي ليلى على قوله برئ الكفيل الأول، والجواب جواب عنه فافهم.
م: (وأما الكفالة بالمال) ش: لما قسم المصنف الكفالة على قسمين كفالة بالنفس وكفالة بالمال وبين الأول فشرع في بيان الثاني بقوله م: (فجائزة) ش: وهو جواب أما، وهذا لا خلاف فيه إذا كان المال معلوما، وأما إذا كان المال مجهولا فكذلك جائز عندنا، وهو معنى قوله م: (معلوما كان المكفول به أو مجهولا) ش: وقال الشافعي: لا يجوز إذا كان مجهولا، وصورة المعلوم مثل قوله تكفلت عنه بألف، وصورة المجهول مثل قوله: تكفلت عنه بمالك عليه. والآن بينه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولكن فيه شرط عندنا، أشار إليه بقوله م: (إذا كان دينا صحيحا) ش: احترز به عن بدل الكتابة، ويجيء الآن أيضا م: (مثل أن يقول: تكفلت عنه بألف) ش: هذا صورة المعلوم م: (أو بما لك عليه) ش: أي أو قال: تكفلت عنه بما لك عليه، وهذا هو صورة المجهول م: (أو بما يدركك في هذا البيع) ش: أي أو يقول: تكفلت عنه بما يدركك من العوارض في هذا البيع م: (لأن مبنى الكفالة على التوسع) ش: لأنها تبرع ابتداء فلا يمنع صحتها الجهالة المستدركة اليسيرة م: (فيحتمل فيها) ش: أي في الكفالة م: (الجهالة) ش: أي جهالة المكفول به، وبقولنا قال مالك وأحمد والشافعي في القديم. وقال في الجديد: لا يصح ضمان المجهول وهو قول الليث والثوري وابن(8/436)
وعلى الكفالة بالدرك إجماع، وكفى به حجة، وصار كما إذا كفل لشجة صحت الكفالة وإن احتملت السراية أو الاقتصار. وشرط أن يكون دينا صحيحا، ومراده أن لا يكون بدل الكتابة، وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل، وإن شاء طالب كفيله لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وذلك يقتضي قيام الأول لا البراءة عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي ليلى وابن المنذر قالوا لأنه التزام، قال: فلم يصح مجهولا كالثمن في البيع. ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72) . لأن حمل البعير يختلف باختلاف البعير، وعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» .
م: (وعلى الكفالة بالدرك إجماع) ش: إجماع مبتدأ وخبره هو قوله: مقدما على الكفالة بالدرك، وأراد به زيادة الإيضاح على صحة الكفالة بجهالة المكفول به فإنه يصح بالإجماع، وفي " الأقطع ": ونص الشافعي على جواز ضمان الدرك، وهو عبارة عن ضمان الاستحقاق وهو مجهول، وهو أن يقول للمشتري: أنا ضامن للثمن إن استحق المبيع أحد والدرك بتحريك الراء وتسكينها التبعة، يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه.
فإن قيل: هذا ضمان مال مجهول فلا يصح كما لو قال: ضمنت لك بعض مالك على فلان. فقيل له: هذا يصح عندنا والخيار فيه إلى الضامن يبين أي مقدار شاء م: (وكفى به) ش: أي بالإجماع م: (حجة) ش: والإجماع من أقوى الحجج م: (وصار) ش: أي حكم هذا المذكور م: (كما إذا كفل لشجة) ش: أي خطأ م: (صحت الكفالة) ش: مع أن فيها جهالة.
م: (وإن احتملت السراية) ش: إلى النفس م: (أو الاقتصار) ش: عليه بدون السراية بخلاف الكفالة بشجة عمدا لأن فيها القصاص ولا تصح الكفالة بالقصاص م: (وشرط) ش: أي القدوري م: (أن يكون) ش: المكفول به م: (دينا صحيحا) ش: وذلك في قوله: وأما الكفالة بالمال فجائزة، معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا، وهذا لفظ القدوري في "مختصره" م: (ومراده) ش: أي مراد القدوري من قوله إذا كان دينا صحيحا م: (أن لا يكون بدل الكتابة) ش: لأن الكفالة ببدل الكتابة لا تصح، لأنه ليس بدين صحيح، لأن الدين الصحيح لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء فيسقط بدل الكتابة بدونهما بتعجيز النفس م: (وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى) ش: في كتاب المكاتب.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل) ش: أي الدين م: (وإن شاء طالب كفيله؛ لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وذلك يقتضي قيام الأول) ش: أي الذمة الأولى م: (لا البراءة عنه) ش: أي لا يستدعي البراءة عنها خلافا لما يقول ابن(8/437)
إلا إذا شرط فيه البراءة، فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا للمعنى كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل يكون كفالة. ولو طالب أحدهما له أن يطالب الآخر وله أن يطالبهما؛ لأن مقتضاه الضم، بخلاف المالك إذا اختار تضمين أحد الغاصبين، لأن اختياره أحدهما يتضمن التمليك منه فلا يمكنه التمليك من الثاني، أما المطالبة بالكفالة فلا يتضمن التمليك فوضح الفرق.
قال: ويجوز تعليق الكفالة بالشروط، مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي أو ما ذاب لك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي ليلى: إن الكفالة توجب براءة الأصيل. وقال الكاكي: قوله وإن شاء طالب الكفيل. قاله أكثر العلماء، وعن مالك في رواية عنه أنه لا يطالب الكفيل إلا إذا تعذر المطالبة عن الأصيل م: (إلا إذا شرط فيه البراءة) ش: أي إلا إذا شرط عقد الكفالة براءة الأصيل م: (فحينئذ تنعقد) ش: أي الكفالة م: (حوالة اعتبارا للمعنى) ش: وهو أنه أتى بخاصية الحوالة.
فإن نوى على ما في الكفيل يرجع على الأصيل عندنا خلافا للشافعي والثوري بأحد الأمور الثلاثة، وسيجيء بيانه في "كتاب الحوالة" إن شاء الله تعالى.
م: (كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها) ش: أي بالكفالة م: (المحيل يكون كفالة، ولو طالب أحدهما) ش: أي ولو طالب المكفول له أحد الاثنين وهما الكفيل والأصيل م: (له أن يطالب الآخر) ش: لأن مطالبة أحدهما لا تسقط مطالبة الآخر م: (وله أن يطالبهما) ش: أي الكفيل والأصيل جميعا م: (لأن مقتضاه) ش: أي مقتضى عقد الكفالة م: (الضم) ش: أي ضم الذمة إلى الذمة.
م: (بخلاف المالك) ش: أي مالك الشيء الذي غصب منه غاصب وغصب من الغاصب غاصب آخر م: (إذا اختار تضمين أحد الغاصبين) ش: وهما الغاصب وغاصب الغاصب فليس له أن يضمن الآخر بعد ذلك م: (لأن اختياره) ش: أي اختيار المالك تضمين م: (أحدهما) ش: أي أحد الغاصبين م: (يتضمن التمليك منه) ش: أي من الذي اختار تضمينه يعني إذا قضى القاضي بذلك، كذا في " المبسوط " م: (فلا يمكنه التمليك من الثاني) ش: أي من الغاصب الثاني، لأنه من المحال أن يملك العين الواحدة جميعا لاثنين في زمان واحد. م: (أما المطالبة بالكفالة فلا يتضمن التمليك) ش: ما لم يوجد الاستيفاء حقيقة فلا يمنع مطالبة أحدهما مطالبة الآخر. م: (فوضح الفرق) ش: بين المسألتين.
[تعليق الكفالة بالشروط]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويجوز تعليق الكفالة بالشروط مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي) ش: قيد بقوله: فلانا ليصير المكفول له معلوما، إذ جهالته تمنع صحة الكفالة، حتى لو قال: ما بايعت من الناس فأنا لذلك ضامن، لا يجوز لجهالة المكفول عنه والمكفول به فتفاحشت الجهالة، بخلاف الأول، لأن الجهالة فهي يسيرة متحملة، كذا في " الإيضاح " م: (أو ما ذاب لك)(8/438)
عليه فعلي، أو ما غصبك فعلي، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72) . والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك. ثم الأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم لها مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله: إذا قدم زيد وهو مكفول عنه، أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله: إذا غاب عن البلدة، وما ذكر من الشروط في معنى ما ذكرناه، فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله: إن هبت الريح أو جاء المطر، وكذا إذا جعل واحدا منهما آجلا إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا؛ لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي أو يقول ما ذاب لك أي ما وجب وثبت لك م: (عليه) ش: أي على فلان فهو م: (فعلي) ش: ولفظ ذاب مستعار من ذوب الشحم، كذا في " المغرب ".
م: (أو ما غصبك) ش: أي أو يقول: ما غصبك فلان أي ما غصب منك م: (فعلي) ش: أي فهو علي، والياء مشددة في لفظة علي في ثلاثة مواضع م: (والأصل فيه) ش: أي في باب تعليق الكفالة بالشروط الملائمة م: (قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] (يوسف: الآية 72)) ش: فإنه يدل على أن جهالة المكفول به لا تمنع صحة الكفالة، إذ حمل البعير مجهول، وقد مر بيانه.
والأصل فيه أن شرائع من قبلنا تلزمنا ما لم ينص الله تعالى على إنكاره م: (والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك) ش: أي الإجماع انعقد على صحة ضمان الدرك، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
م: (ثم الأصل) ش: في هذا الباب م: (أنه يصح تعليقها) ش: أي تعليق عقد الكفالة م: (بشرط ملائم لها) ش: لمقتضى العقد م: (مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع) ش: فأنا ضامن لذلك م: (أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله: إذا قدم زيد وهو مكفول عنه أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله: إذا غاب عن البلدة) ش: أي إذا غاب المكفول عنه عن البلدة فأنا ضامن لك بما عليه م: (وما ذكر من الشروط) ش: أي في أصل المسألة مثل: ما بايعت، وما ذاب، وما غصب م: (في معنى ما ذكرناه) ش: أي بمعنى الأصل الذي ذكرناه وهو أن كل شرط ملائم لعقد الكفالة يصح تعليقها به.
م: (فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط) ش: يعني غير ملائم م: (كقوله إن هبت الريح) ش: فأنا كفيل لك بما عليه م: (أو جاء المطر) ش: أي إن جاء المطر فأنا كفيل م: (وكذا) ش: أي وكذا لا يصح م: (إذا جعل واحدا منهما آجلا) ش: يعني إذا جعل هبوب الريح أو مجيء المطر آجلا لكفالة يبطل الأجل م: (إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا؛ لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشروط لا تبطل بالشروط الفاسدة) .(8/439)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الكاكي: قوله إلا أن تصح الكفالة إلى آخره، اعلم أن في هذا اللفظ نوع اشتباه، لأنه إن أراد بقوله لما يصح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة ابتداء تعليق الكفالة بالشرط، فإن هناك لا يصير كفيلا أصلا، ذكره في " المبسوط "، وإن أراد بهذا اللفظ تأجيل الكفالة إلى هذه الشروط الفاسدة فهذا تأجيل.
والتأجيل غير التعليق ذكره في " فتاوى قاضي خان "، فكيف يصح تعليله بقوله: لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة، إلا إن أراد بالتعليق التأجيل بجامع أن في كل منهما عدم ثبوت الحكم في الحال فحينئذ يصح، وقلد المصنف في هذا الاستعمال لفظ " المبسوط "، فإنه ذكرها هكذا وذكر التعليق وأراد التأجيل.
وقال الأكمل هنا: وفي كلامه نظر من أوجه:
الأول: أن قوله: لا يصح التعليق يقتضي نفي جواز التعليق لا نفي جواز الكفالة، مع أن الكفالة لا تجوز.
الثاني: أن قوله: وكذا إذا جعل معطوفا على قوله: فأما لا يصح فيكون تقديره وكذا لا يصح إذا جعل ولا يخلو، إما أن يكون فاعل يصح هو التعليق أو الكفالة، إذ لم يذكر المصنف ثالثا. والأول: لا يجوز، إذ لا معنى لقوله وكذا لا يصح التعليق إذا جعل كل واحد منهما آجلا.
والثاني: كذلك لقوله بعده: إلا أنه تصح الكفالة.
والثالث: أن الدليل لا يطابق المدلول؛ لأن المدلول بطلان الأجل مع صحة الكفالة والدليل صحة تعليقها بالشرط، وعدم بطلانها بالشروط الفاسدة، ومع ذلك فليس بمستقيم، لأنها تبطل بالشرط المحض وهو أول المسألة.
ويمكن أن يجاب عن الأول بأن حاصل الكلام ينفي جواز الكفالة المعلقة بهما، والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه، لا يقال نفي الكفالة المؤجلة كنفي المعلقة، ولا تنتفي الكفالة بانتفاء الأجل، لأن الإيجاب المعلق نوع، إذ التعليق يخرج العلة عن العلية، كما عرف في موضعه، والأجل عارض بعد العقد، فلا يلزم من انتفائه انتفاء معروضه.
وعن الثاني بأن فاعل يصح المقدر وهو الأجل، وتقديره: وكما لا يصح الأجل إذا جعل كل واحد منهما آجلا.
وعن الثالث بأن الراد بالتعليق بالشرط الأجل مجازا بقرينة قوله، ويجب المال حالا، وتقديره لأن الكفالة لما صح تأجيلها بأجل متعارف لم تبطل بالأجل الفاسد كالطلاق والعتاق، ويجوز المجاز وعدم الثبوت في الحال في كل واحد منهما.(8/440)
كالطلاق والعتاق. فإن قال: تكفلت بما لك عليه فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه فيصح الضمان به. وإن لم تقم البينة فالقول قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به؛ لأنه منكر للزيادة، فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك لم يصدق على كفيله؛ لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه. ويصدق في حق نفسه لولايته عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (كالطلاق والعتاق) ش: أي كما أن الشرط المجهول في الطلاق والعتاق يبطل ويصح الطلاق والعتاق بأن قال: أعتقت عبدي، أو قال: طلقت امرأتي إلى قدوم الحاج أو الحاصد أو القطاف م: (فإن قال: تكفلت عنه بما لك عليه) ش: فإن قال شخص لآخر: تكفلت عنه بما لك عليه من المال م: (فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل) ش: أي ضمن الألف الكفيل م: (لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه) ش: أي ما على الكفيل م: (فيصح الضمان به) ش: فصار كأنه ضمن بالألف الذي عليه فلزمه ذلك م: (وإن لم تقم البينة فالقول قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به) ش: لأنه مال مجهول لزمه بقوله فالقول قوله، كما لو أقر بشيء مجهول م: (لأنه منكر للزيادة) ش: فالقول قول المنكر مع يمينه كالمدعى عليه بالمال م: (فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك) ش: أي مما يعترف به الكفيل م: (لم يصدق على كفيله؛ لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه ويصدق في حق نفسه لولايته عليها) ش: أي على نفسه.
والحاصل أن إقرار المكفول عنه تضمن شيئين، أحدهما على نفسه، والآخر على الكفيل، فيصدق في إقراره على نفسه، لأن له ولاية على نفسه، ولا يصدق على الكفيل لعدم ولايته عليه.
وفي " الشامل ": ما ذاب لك على فلان فهو علي أو ثبت، أو ما قضي عليه فأقر المطلوب يلزم الكفيل، إلا قوله: ما قضي عليه، لم يلزمه إلا أن يقضي القاضي. ولو أبى المطلوب اليمين فألزمه القاضي لم يلزمه الكفيل؛ لأن النكول ليس بإقرار بل بدل، وقال الكاكي: قوله ولا ولاية له عليه.
فإن قيل: يشكل هذا بما يكفل بما ذاب له على فلان ثم بعد ذلك قال الطالب: هو ألفان وقال المطلوب ألف، وقال الكفيل: لا شيء لك عليه فيلزم هناك على الكفيل ألف التي أقر بها الطالب، مع أنه لا ولاية له على الكفيل، ذكره في " المبسوط ".
قلنا: هذا إيجاب المال على الكفيل بكفالته، لا بقوله المطلوب؛ لأنه لما قيد الكفالة بالذوب، مع علمه أن الذوب قد يحصل عليه بإقراره، وقد صار ملتزما ذلك لكفالته، وهذا استحسان، وفي القياس لا يجب على الكفيل شيء كما في مسألتنا لإنكاره الوجوب على المطلوب، كذا في(8/441)
قال: وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره لإطلاق ما روينا، ولأنه التزام المطالبة، وهو تصرف في حق نفسه وفيه نفع الطالب، ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إذ هو عند أمره وقد رضي به، فإن تكفل عنه بأمره رجع بما أدى عليه؛ لأنه قضى دينه بأمره. وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه لأنه متبرع بأدائه، وقوله: رجع بما أدى، معناه إذا أدى ما ضمنه. أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المبسوط ".
[الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره لإطلاق ما روينا) ش: وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الزعيم غارم» . م: (ولأنه التزام المطالبة، وهو تصرف في حق نفسه، وفيه نفع الطالب، ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع، إذ هو) ش: أي الرجوع م: (عند أمره) ش: أي أمر المطلوب م: (وقد رضي به) ش: أي رضي المكفول عنه بالرجوع عليه هذا جواب لإشكال يقال: لم قلتم إن في الكفالة نفعا للمكفول عنه أو لا ضرر عليه. ورجوع الكفيل عليه بما أدى ضرر فقال لا نسلم أنه ضرر مع وجود الرضا بالرجوع، م: (فإن تكفل عنه بأمره رجع بما أدى عليه) ش: أي: رجع بما أدى للمكفول له على المكفول عنه بالإجماع. وفي " النهاية " ليس على إطلاقه بل مقيد بما إذا كان الأمر وهو المطلوب ممن يجوز إقراره على نفسه بالديون ويملك المتبرع، حتى لو كان المطلوب صبيا محجورا وأمر رجلا بأن يكفل عنه فالكفالة صحيحة، ولكن لو أدى الكفيل ما أمره به لا يرجع على الصبي الآمر، وكذا الحكم في العبد المحجور، ذكره في " التحفة ".
وفي " أحكام الصغار " للإستروشني: لو كان الصبي مأذونا له صح أمره ويرجع الكفيل بما أدى عليه بصحة أمره بالإذن، وفي " شرح الأقطع " وهذا الذي ذكره المصنف إنما يصح إذا قال: اضمن عني لفلان كذا، فإن قال له: اضمن الألف التي لفلان علي لم يرجع عليه عند الأداء، لأن قوله اضمن يحتمل أن يكون على وجه التبرع وأن يكون غيره فلا يجوز إيجاب الضمان إلا بلفظ مختص به، فإذا قال: اضمن عني دل على الضمان فلزمه ولا يلزم غيره بالشك، ولكن هذا الذي ذكره مذهب أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- خلافا لأبي يوسف.
م: (لأنه قضى دينه بأمره) ش: أي لأن المأمور قضى دين الآمر بأمره فيرجع عليه م: (وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه لأنه متبرع بأدائه) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد -رحمهما الله- في رواية. وقال مالك، وأحمد في رواية: يرجع كما لو كفل بأمره م: (وقوله رجع بما أدى معناه) ش: أي قول القدوري يرجع بما أدى معناه م: (إذا أدى ما ضمنه، أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن) ش: لا بما أدى، حتى لو كفل بالجياد وأدى الزيوف، ويجوز للطالب أن يرجع على المطلوب(8/442)
لأنه ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث، وكما إذا ملكه المحتال عليه بما ذكرنا في الحوالة، بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء، وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة؛ لأنه إسقاط فصار كما إذا أبرأ الكفيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالجياد. ولو كفل بالزيوف وأدى بالجياد رجع بالزيوف م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب كما إذا ملكه بالهبة) ش: يعني ملك إذن الكفيل المكفول به بأن يهبه المكفول له الكفيل، يرجع الكفيل على المكفول عنه بالمكفول.
فإن قيل: هبة الدين من غير من عليه الدين إنما لا يجوز إذا لم يأذنه بقبضه، وأما إذا أذنه بقبضه يجوز استحسانا، وهاهنا لما أدى الدين فقد سلطه الطالب على قبضه من المطلوب فيصح هبة أو يجعل ذلك نقل الدين إليه فيقضي الهبة فتصير هبة لمن عليه الدين م: (أو بالإرث) ش: بأن مات المكفول له فورثه الكفيل يرجع على المكفول عنه بالمكفول به كما لو ملك ذلك بالأداء.
م: (وكما إذا ملكه المحتال عليه) ش: يعني إذا أحال المديون غريمه على رجل ليس للمديون على رجل دين فتقبل الحوالة فأدى، يرجع المحتال عليه على المحيل بما يضمن لا بما أدى، لأنه ملك الدين بالأداء كالكفيل م: (بما ذكرنا في الحوالة) ش: أي في حوالة كفاية المنتهي م: (بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء) ش: هذا جواب كفل تقديره الكفيل لا يرجع إلا إذا أدى بأمر المكفول عنه، وحينئذ لا فرق بينه وبين المأمور بقضاء الدين والمأمور يرجع بما أدى، فكذلك الكفيل، وتوجيهه أن يقال: المأمور بقضاء الدين لم يجب له على الآمر شيء، حيث لم يلزم بالكفالة فلا يملك الدين بالأداء حتى ينزل منزلة الطالب فيرجع بما ضمن، وإنما الرجوع بحكم الآمر بالأداء فلا بد من اعتبارهما.
فلو أدى الزيوف عن الجياد ويجوز له ذلك رجع بها دون الجياد، لأن أداء المأمور به لم يوجد، وإن عكس فكذلك لأن الآمر لم يوجد في حق الزيادة فكان متبرعا بها، فقوله: رجع بما أدى بإطلاقه، فيه تسامح.
م: (وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة) ش: حيث يرجع بما أدى وهو خمسمائة لا بما ضمن وهو الألف م: (لأنه إسقاط) ش: عن بعض الدين وليس مبادلة، إذ لو جعل مبادلة لكان ربا، وإن كان إسقاطا للبعض م: (فصار كما إذا أبرأ الكفيل) ش: أي أخذ من الكفيل خمسمائة وأبرأ نفسه بدفع خمسمائة لا يرجع الكفيل على المكفول عنه بما أدى وهو خمسمائة لا بما ضمن، وكذا إذا أبرأ الكفيل عن مجموع الدين لا يرجع على المكفول عنه، فكذا إذا صالح الكفيل إياه على بعض الدين لأنه جمع بالباقي مطلقًا باعتبار البعض بالكل.(8/443)
قال: وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه؛ لأنه لا يملكه قبل الأداء بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء؛ لأنه انعقد بينهما مبادلة حكمية. قال: فإن لوزم بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه، وكذا إذا حبس كان له أن يحبسه لأنه لحقه ما لحقه من جهته فيعامله بمثله. وإذا أبرأ الطالب المكفول عنه أو استوفى منه برئ الكفيل؛ لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل، لأن الدين عليه في الصحيح. وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل عنه لأنه تبع، ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه، لأنه لا يملكه) ش: أي لأن الكفيل لا يملك الدين م: (قبل الأداء) ش: لأن الكفيل كالمقرض، يعني والمقرض لا يرجع على المستقرض ما لم يقرض م: (بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء لأنه انعقد بينهما) ش: أي بين الوكيل والموكل م: (مبادلة حكمية) ش: ألا ترى أن الملك ينتقل إلى الموكل من جهة الوكيل، ولهذا يتحالفان إذا اختلفا في الثمن، وللوكيل بالشراء حبس المبيع بالثمن فلا تثبت المبادلة الحكمية وكان الوكيل مع الموكل كالبائع مع المشتري، فللبائع حبس المبيع لاستيفاء الثمن، فكذا الوكيل.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فإن لوزم) ش: أي الكفيل م: (بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه) ش: أي حتى يخلص المكفول عنه الكفيل؛ لأن الأصيل هو الذي أوقعه في هذه الورطة فعليه خلاصه عنها، م: (وكذا إذا حبس كان له) ش: أي الكفيل م: (أن يحبسه) ش: أي أن يحبس المكفول عنه م: (لأنه لحقه) ش: أي لحق الكفيل م: (ما لحقه من جهته) ش: أي من جهة المكفول عنه م: (فيعامله بمثله) ش: أي فيقابل الكفيل المكفول عنه بمثل ما قابله.
وبقولنا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، ومالك وأحمد -رحمهما الله- إذا كانت الكفالة بأمره، قال الشافعي في الأصح: لا يحبسه.
م: (وإذا أبرا الطالب المكفول عنه أو استوفى منه) ش: يعني أخذ الذي كان عليه م: (برئ الكفيل، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل) ش: بلا خلاف بين الفقهاء بخلاف ما إذا كفل بشرط الأصيل فبراءته لا توجب براءة الكفيل، لأنه في معنى الحوالة، والاعتبار للمعاني لا للعبارة.
م: (لأن الدين عليه) ش: أي على المكفول عنه م: (في الصحيح) ش: أي في القول الصحيح، وهو احتراز عن قول بعض المشايخ، حيث قالوا: الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في الدين، فوجب أصل الدين في ذمة الكفيل وقد مر هذا في أول الكتاب.
م: (وإن أبرأ الكفيل) ش: أي وإن أبرأ المكفول له الكفيل عن الدين م: (لم يبرأ الأصيل عنه لأنه تبع ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه) ش: أي بدون المطالبة على تأويل الطلب(8/444)
جائز. وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل؛ لأن التأخير إبراء مؤقت فيعتبر بالإبراء المؤبد، بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل لأنه لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة، فصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (جائز) ش: وفي " شرح الطحاوي ".
وإذا أبرأ المكفول له المطلوب عن الدين وقبل ذلك برئ الأصيل والكفيل جميعا، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل وبراءة الأصيل، إلا أنه اشترط في ذلك، قوله: أو بموت قبل القبول أو الرد فقام ذلك مقام القبول، ولو رده ارتد وأدين الطالب على حاله.
واختلف مشايخنا في ذلك: أن الدين هل يعود إلى الكفيل أم لا؟ قال بعضهم: يعود، وقال بعضهم: لا يعود، ولو أبرأ الكفيل صح الإبراء قبل أو لم يقبل، ولا يرجع على الأصيل. ولو وهب الدين أو تصدق عليه يحتاج إلى القبول.
فإن قيل: كان له أن يرجع على الأصيل، كما إذا أدى، وفي الكفيل حكم إبرائه والهبة تختلف، ففي الإبراء لا يحتاج إلى القبول.
وفي الهبة والصدقة يحتاج إلى القبول. وفي الأصل يتفق حكم إبرائه والهبة والصدقة فيحتاج إلى القبول في الكل. ولو كان الإبراء والهبة والصدقة بعد موته فقبل ورثته صح، وبرد ورثته ارتد وبطل الإبراء عند أبي يوسف، لأن الإبراء بعد الموت إبراء للورثة، وقال محمد: لا يرتد بردهم كما لو أبرأهم في حال حياته ثم مات.
م: (وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل) ش: وهو المكفول عنه ولا نعلم فيه خلافا.
م: (لأن التأخير إبراء مؤقت فيعتبر بالإبراء المؤبد) ش: فإن قيل: الإبراء المؤبد لا يرتد برد الكفيل والمؤقت يرتد برده، وبرد الأصيل يرتدان كلاهما، والرواية في التتمة، فكيف يعتبر المؤقت بالمؤبد؟
قلنا: كلامنا في السقوط والثبوت، أما قبول الارتداد وعدم قبوله حكم آخر سوى ما نحن فيه، فلا يلزم من اعتبارهما حكم اعتبارهما في جميع الأحكام، م: (بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا) ش: نصب على الحال من قوله كفل.
م: (إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل) ش: وقال الشافعي وأحمد ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية: لا يتأجل على الأصيل، بل يتأجل على الكفيل، م: (لأنه) ش: أي لأن الطالب م: (لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة فصار(8/445)
الأجل داخلا فيه، أما هاهنا فبخلافه. فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل؛ لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين، وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط، وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره، بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر لأنه مبادلة حكمية فملكه فيرجع بجميع الألف. ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة لا يبرأ الأصيل؛ لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة. قال: ومن قال لكفيل ضمن له مالا: قد برئت إلي من المال، رجع الكفيل على المكفول عنه، معناه بما ضمن له بأمره؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا يكون إلا بالإيفاء فيكون هذا إقرارا بالأداء فيرجع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأجل داخلا فيه) ش: لأنه أضاف الأجل إلى نفس الدين لأنه لا شيء سوى الدين حتى يصرف الأجل فيه فصار التأجيل وصفا لأجل الدين فيظهر الأجل في حقهما ضرورة. م: (أما هاهنا فبخلافه) ش: يعني فيما كفل حالا، ثم أخر عنه الطالب لم يكن ذلك تأخيرا عن الأصيل.
وفي " الفتاوى الصغرى ": الكفيل بالدين المؤجل إذا أدى قبل حلول الأجل لا يرجع على المكفول عنه حتى يحل الأجل. م: (فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل) ش: وهو الدين م: (لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين، وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط، وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع) ش: أي م: (الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره) ش: وإن كانت بغير أمره لا يرجع وإن صالحه مطلقًا أو أبرأه بطلت المطالبة عن الكفيل وبقي الحق على الأصيل، وكذا قال فخر الإسلام وغيره.
م: (بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر) ش: أي صالح عن ألف هي دراهم على ثوب مثلا حيث يرجع الكفيل إذا أدى بجميع الألف م: (لأنه مبادلة حكمية) ش: وهو جعل الثوب بدل الألف م: (فملكه) ش: أي فملك الألف م: (فيرجع بجميع الألف) ش: هذا نتيجة ملك الألف م: (ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة) ش: الذي استوجب بالكفالة هو المطالبة م: (لا يبرأ الأصيل لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة) ش: لأن هذا فسخ الكفالة لا إسقاط لأصل الدين.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (ومن قال لكفيل ضمن له مالا: قد برئت إلي من المال رجع الكفيل على المكفول عنه، معناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله: ضمن له مالا. م: (بما ضمن له بأمره؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا يكون إلا بالإيفاء فيكون هذا) ش: أي قوله برئت إلي. م: (إقرارا بالأداء) ش: أي بالإيفاء م: (فيرجع) ش: فكأنه قال: استوفيت منك حقي فإذا أقر الطالب بالإيفاء يرجع(8/446)
وإن قال: أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه؛ لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره وذلك بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء. ولو قال: برئت، قال محمد: هو مثل الثاني؛ لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء فيثبت الأدنى إذ لا يرجع الكفيل بالشك. وقال أبو يوسف: هو مثل الأول لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب، وإليه الإيفاء دون الإبراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكفيل فكذا هذا.
م: (وإن قال) ش: أي الطالب م: (أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره، وذلك) ش: يكون م: (بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء) ش: لأن البراءة في هذه الصورة ابتداؤها من الطالب، وهذا لا يكون إلا بالإسقاط، فإذا أسقط من الكفيل لا يرجع؛ لأن براءة الكفيل لا توجب براءة الأصيل م: (ولو قال: برئت) ش: ولم يقل إلي م: (قال محمد: هو مثل الثاني) ش: أي مثل قوله: أبرأتك م: (لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء) ش: ويحتمل البراءة بالإبراء، فإذا كان كذلك م: (فيثبت الأدنى) ش: وهو البراءة بالإبراء لا البراءة بالأداء وهو الإسقاط، وبقوله قالت الثلاثة م: (إذ لا يرجع الكفيل بالشك) ش: هذا نسخة بكلمة أو لا يرجع، والظاهر أن هذا دليل آخر وهو أنه لا يرجع بالشك لاحتمال الأمرين المذكورين فافهم فإن هذا موضع لا يتيقظ فيه كل أحد.
م: (وقال أبو يوسف: هو مثل الأول) ش: وهو قوله برئت إلي من المال م: (لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب) ش: فإنه ذكر حرف الخطاب وهو التاء، وذلك إنما يكون بفعل مضاف إليه على الخصوص كما إذا قيل قمت وقعدت مثلا م: (وإليه) ش: أي وإلى المطلوب م: (الإيفاء دون الإبراء) ش: تقرير هذا أنه أخبر على البراءة بفعل يتعدى عن المطلوب وهو الكفيل إلى الطالب، وذلك بالإيفاء يكون لأنه هو الذي يتعدى من المطلوب إلى الطالب دون الإبراء إذ الإبراء يتعدى من الطالب إلى المطلوب.
وقيل: أبو حنيفة مع أبي يوسف في هذه المسألة، وكان المصنف اختاره فأخره وهو أقرب الاحتمالين، فالمصير إليه أولى، وما قاله محمد إنما يستقيم إذا كان الاحتمالان على السواء وقد يرجح أحد الاحتمالين وهو البراءة بالقبض، لأنه كالحقيقة والآخر كالمجاز. وقيل: برئت مطاوع أبرأتك فتكون حقيقة أيضا.
واختلف مشايخنا المتأخرون فيما إذا قال المدعى عليه أبرأني المدعي من الدعوى التي يدعي علي يكون إقرارا، كما لو قال: أبرأني من هذا المال. وقيل: لا يكون إقراره لأن الدعوى قد تكون حقًّا وباطلا، ولو قال الطالب للكفيل: أنت في حل من المال فهو كقوله أبرأتك بإجماع الأئمة الأربعة، لأن لفظ الحل يستعمل في البراءة بالإبراء دون البراءة بالقبض، كذا ذكره المحبوبي.(8/447)
وقيل في جميع ما ذكرنا: إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل.
قال: ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط لما فيه من معنى التمليك كما في سائر البراءات، ويروى أنه يصح لأن عليه المطالبة دون الدين في الصحيح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل في جميع ما ذكرنا) ش: من الوجوه الثلاثة م: (إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل) ش: لأن الأصل في الإجمال الرجوع إلى بيان المجمل.
فإن قيل: المجمل ما لا يمكن العمل به إلا بالبيان، وهاهنا العمل ممكن في الأوجه الثلاثة بدون البيان على ما ذكر من وجوه البيان خصوصا في الوجه الأول، لأنه بين أن البراءة التي ابتداؤها من الكفيل وانتهاؤها إلى الطالب بمنزلة قوله دفعت إلي وقبضته منك فلا يكون فيه إجمال. وكذا في الشافعي، وهذا لا خلاف فيه أنه أبرأ بدون القبض. وفي الوجه الثالث عمل محمد يتعين. وأبو يوسف رجح الإبراء بالقبض فلا يكون مجملا.
قيل: في جوابه قوله برئت إلي وإن كان بمنزلة الصريح في حق الإيفاء والقبض من حيث الاستدلال، لكنه ليس بصريح فيه بل هو قابل للاستعارة بأن قال: برئت إلي لأني أبرأتك، وإن كان بعيدا عن الاستعمال وما ذكروا في تعليل الأوجه الثلاثة كله استدلال لا صريح في الإيفاء وغير الإيفاء.
ولهذا جعلت الأئمة الثلاثة الكل الإبراء بدون الإيفاء فكان العمل به عند العجز عن العمل بالصريح، فلما أمكن العمل بصريح البيان من الطالب سقط العمل به بالاستدلال وفيه تأمل.
[تعليق البراءة من الكفالة بالشرط]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط) ش: أراد به الشرط الغير المتعارف، كما إذا قال: إذا جاء غدا فأنت بريء من الكفالة. حاصله: أن المراد به الشرط المحض الذي لا منفعة للطالب فيه أصلا كدخول الدار ومجيء الغد لأنه غير متعارف، أما إذا كان متعارفا يجوز كله في تعليق الكفالة.
فإنه ذكر في " الإيضاح " لو كفل بالمال وبالنفس أيضا، وقال: إن وافيتك غدا فأنت بريء من المال فوافاه غدا يبرأ من المال.
وكذا لو علق البراءة باستيفاء البعض يجوز أو علق البراءة عن البعض يجوز ذكره في " مبسوط شيخ الإسلام " م: (لما فيه) ش: أي تعليق البراءة من الكفالة بالشرط م: (من معنى التمليك) ش: ولهذا يرجع الكفيل بما أدى عن المكفول عنه إذا كان بأمره والتمليكات لا يجوز تعليقها بالشروط لإفضائه إلى معنى القمار م: (كما في سائر البراءات) ش: لا يجوز فيها التعليق بالشرط م: (ويروى أنه يصح) ش: أي أن في تعليق البراءة من الكفالة بالشرط م: (لأن عليه) ش: أي على الكفيل م: (المطالبة دون الدين في الصحيح) ش: أي في القول الصحيح من المشايخ، فإذا(8/448)
فكان إسقاطا محضا كالطلاق، ولهذا لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد، بخلاف إبراء الأصيل. وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص، معناه بنفس الحد لا بنفس من عليه الحد؛ لأنه يتعذر إيجابه عليه، وهذا لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة. وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز؛ لأنه دين كسائر الديون، وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح؛ لأنه عين مضمون بغيره وهو الثمن، والكفالة بالأعيان المضمونة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان كذلك م: (فكان) ش: أي إبراء الكفيل م: (إسقاطا محضا) ش: والإسقاط المحض يصح تعليقه م: (كالطلاق) ش: فإنه إسقاط محض يصح تعليقه بالشرط م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كونه إسقاطا محضا م: (لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد بخلاف إبراء الأصيل) ش: فإنه يرتد بالرد م: (وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره"، قوله لا يمكن أي لا يصح، لأن إمكان الضرب أو جر الرقبة ليس بمنفعة لا محالة، لكنه لا يصح شرعا، وعبر عنه بعدم الإمكان مبالغة في نفي الصحة.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (معناه بنفس الحد) ش: يعني بنفس الحد لا يجوز م: (لا بنفس من عليه الحد) ش: فإن الكفالة بنفس من عليه الحد تجوز، لأنه تعليق لقوله: معناه بنفس الحد م: (لأنه) ش: أي لأن الاستيفاء م: (يتعذر إيجابه عليه) ش: أي على الذي يكفل م: (وهذا) ش: أي عدم الإيجاب عليه المتعذر م: (لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة) ش: لعدم حصول المقصود لأن المقصود الزجر وهو لا يتحقق بالنائب.
م: (وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز) ش: هذا لفظ القدوري إنما جاز الكفالة بالثمن. م: (لأنه دين كسائر الديون) ش: لأنه دين صحيح يمكن استيفاؤه من الكفيل فصحت الكفالة به كما في سائر الديون وكالقرض م: (وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح) ش: وهذا أيضا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي بعض النسخ لم يجز، م: (لأنه) ش: أي لأن المبيع.
م: (عين مضمون بغيره وهو الثمن) ش: ولا يمكن أداؤه عن الكفيل إذا هلك فإنه لو هلكت العين سقط الثمن م: (والكفالة بالأعيان المضمونة) ش: الأعيان على نوعين أمانة ومضمونة والكفالة بالأمانة لا تصح كالودائع والعواري ومال المضاربة والشركة والعين المستأجرة، غير أن العارية والعين المستأجرة واجبة الرد إن كان لها حمل ومؤنة، بخلاف الودائع ومال المضاربة والشركة فإنها ليست بواجبة الرد، بل الواجب التخلية، فلو كفل بتسليم العارية والمستأجرة صح، أما الأعيان المضمونة فعلى نوعين:
الأول: ما كان مضمونا بنفسه على معنى أنه يجب رد عينها إن كانت باقية، وقيمتها إن هلكت تصح الكفالة وهي كالعين المغصوبة والمقبوض على سوم الشراء والمبيع بيعا فاسدا.(8/449)
وإن كانت تصح عندنا خلافا للشافعي، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها كالمبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب لا بما كان مضمونا بغيره كالمبيع والمرهون، ولا بما كان أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر ومال المضاربة والشركة. ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض، أو بتسليم الرهن بعد القبض إلى الراهن، أو بتسليم المستأجر إلى المستأجر جاز؛ لأنه التزم فعلا واجبا. ومن استأجر دابة للحمل عليها؛ فإن كانت بعينها لا تصح الكفالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: غير مضمون بنفسه بل هو مضمون بغيره كالمبيع في يد البائع، والمرهون في يد المرتهن، لأن المبيع مضمون بالثمن والرهن مضمون بالدين لا تصح الكفالة به، وإذا تكفل بتسليم المبيع صح.
وقال تاج الشريعة: كون الشيء مضمونا بنفسه أن لا يزول عنه الزمان أصلا كالمقبوض على سوم الشراء والمغصوب، فإنه يجب رد عينه أو قيمته والأعيان المضمونة لغيرها ليست كذلك، إذ المبيع لو هلك يهلك على حكم ملك للمالك وينفسخ البيع، والإنسان لا يضمن مال نفسه.
م: (وإن كانت تصح عندنا) ش: كلمة إن واصلة بما قبله م: (خلافا للشافعي) ش: فإن عنده في وجه لا تصح الكفالة بالأعيان غير ثابتة في الذمة م: (لكن بالأعيان المضمونة بنفسها) ش: هذا في محل الخبر عن قوله والكفالة بالأعيان المضمونة إنما تصح إذا كانت مضمونة بنفسها لا مطلقا، ومثل لذلك بقوله م: (كالمبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب لا بما كان) ش: يعني لا تصح الكفالة بما كان م: (مضمونا بغيره كالمبيع) ش: فإنه مضمون بالثمن م: (والمرهون) ش: فإنه مضمون بالدين م: (ولا بما كان) ش: أي ولا تصح الكفالة أيضا بالشيء يكون م: (أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر، ومال المضاربة والشركة) ش: وقد ذكرنا الجميع آنفا.
م: (ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض أو بتسليم الرهن بعد القبض) ش: أي قبض الدين م: (إلى الراهن أو بتسليم المستأجر) ش: بفتح الجيم، م: (إلى المستأجر) ش: بكسرها م: (جاز لأنه التزم فعلا واجبا) ش: أي لأن الكفيل التزم فعلا واجبا على الأصيل وهو تسليم المبيع والمرهون والمستأجر، فلو هلك المبيع أو الرهن أو المستأجر بطلت الكفالة، ولم يكن على الكفيل شيء لأنه ما ضمن الثمن إلا في المبيع أو القيمة في غيره. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: العين في يد الأجير المشتركة مضمونة فتصح الكفالة بهما عندهما خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي " الذخيرة ": الكفالة بتمكين المودع من الأخذ صحيحة، وكذا الكفالة بتسليم العارية صحيحة لكن بعينها لا تجوز.
وقال " شمس الأئمة ": الكفالة بتسليم العارية باطلة وهذا ليس بصواب، فقد نص محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع " أن الكفالة بتسليم العارية صحيحة، وهكذا في " المبسوط "(8/450)
بالحمل؛ لأنه عاجز عنه. وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه، والحمل هو المستحق، وكذا من استأجر عبدا للخدمة فكفل له رجل بخدمته فهو باطل لما بينا. قال: ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-، وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إذا بلغه فأجاز ولم يشترط في بعض النسخ الإجازة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
و" الإيضاح ". وقال الأكمل: في قوله وهذا ليس بصواب نظر، فإن شمس الأئمة ليس ممن لم يطلع على الجامع، بل لعله قد اطلع عل رواية أخرى أقوى من ذلك فاختارها، وفيه تأمل، وعند أحمد يجوز ضمان العارية لأنه مضمون عنده كالمغصوب.
[الكفالة بالحمل]
م: (ومن استأجر دابة للحمل عليها فإن كانت) ش: أي الدابة م: (بعينها لا تصح الكفالة بالحمل؛ لأنه عاجز عنه) ش: أي لأن الكفيل عاجز عن تسلم الدابة المعينة لأنها ملك الغير والمستحق الحمل عليها م: (وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه والحمل هو المستحق) ش: يعني إذا لم تكن الدابة بعينها م: (وكذا) ش: الحكم في م: (من استأجر عبدا) ش: أي معينا م: (للخدمة فكفل له رجل بخدمته هو باطل لما بينا) ش: إشارة إلى قوله: لأنه عاجز.
م: (قال: ولا تصح الكفالة) ش: سواء كانت بالنفس أو بالمال م: (إلا بقبول المكفول له في المجلس) ش: أي في مجلس عقد الكفالة م: (هذا) ش: أي اشتراط قبول المكفول له. م: (عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز) ش: وبه قال مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في وجه م: (إذا بلغه فأجاز) ش: أي إذا بلغ المكفول له بالتكفيل فأجاز م: (ولم يشترط في بعض النسخ) ش: أي نسخ كفالة " المبسوط " م: (الإجازة) ش: على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الأكمل: قبل أي نسخ كفالة " المبسوط "، وفيه نبوة، لأن نسخ كفالة المبسوط لم تتعدد، وإنما هي نسخة واحدة، فالموجود في بعضها دون بعض يدل على ترك في بعض أو زيادة في آخر.
قلت: النبوة فيما قاله لا فيما قيل.
وفي " الكافي ": واختلفوا في قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقيل: يجوز عنده بوصف التوقف حتى لو رضي به الطالب ينفذ. وقيل: يجوز لوصف النفاد، قيل رضاء الطالب ليس بشرط وهو الأصح عنده. وفي " شرح المجمع " وأفتى بعض المشايخ بقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رفقا بالناس.
وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والحاصل أن الكفالة بالنفس أو بالمال إذا كانت بحضرة المكفول له والمكفول عنه صحت بالإجماع، فإن كان الطالب غائبا فهي جائزة عند أبي يوسف(8/451)
والخلاف في الكفالة بالنفس والمال جميعا. له أنه تصرف التزام فيستبد به الملتزم، وهذا وجه هذه الرواية عنه، ووجه التوقف ما ذكرناه في الفضولي في النكاح. ولهما أن فيه معنى التمليك، وهو تمليك المطالبة منه فيقوم بهما جميعا، والموجود شطره فلا يتوقف على ما رواء المجلس، قال: إلا في مسألة واحدة وهي أن يقول المريض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: لا يجوز إلا أن يقبل عنه قابل فيتوقف على إجازته، كذا في المختلف.
م: (والخلاف) ش: بين أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وبين أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الكفالة بالنفس والمال جميعا له) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إنه) ش: أي أن عقد الكفالة م: (تصرف التزام) ش: للغير م: (فيستبد به) ش: أي فينتقل به م: (الملتزم) ش: كالإقرار والنذر، ولهذا يصح مع الجهالة م: (وهذا) ش: أي هذا التعليل وهو أنه تصرف التزام م: (وجه هذه الرواية عنه) ش: أي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ووجه التوقف) ش: يعني أن وجه الرواية التي أجازت الكفالة عند غيبة المكفول له موقوفة على الإجازة م: (ما ذكرناه) ش: في كتاب النكاح م: (في الفضولي في النكاح) ش: وهو أن شطر العقد يتوقف على ما وراء المجلس عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والجامع عدم الضرر.
وعندهما لا يتوقف شطر العقد على ما وراء المجلس كما في البيع. حاصل الكلام من جعل الخلاف في التوقف جعله فرعا للفضولي في النكاح، إذا تزوج امرأة وليس عنها قابل يتوقف عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على إجازتها فيما وراء المجلس لأنه لا ضرر في هذا التوقف على أحد.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن فيه) ش: في عقد الكفالة، م: (معنى التمليك وهو تمليك المطالبة منه) ش: أي من المكفول عنه، كذا قال شيخنا العلاء، ثم قال: ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الكفيل لأن الكفيل ملك المطالبة للمكفول عنه. وقال تاج الشريعة: منه، أي من الكفيل. ومتى ثبت معنى التملك لم ينفرد الواحد به؛ لأن شطر العقد م: (فيقوم بهما جميعا) ش: أي فيقوم التمليك بالكفيل والطالب، م: (والموجود شطره) ش: أي شطر العقد م: (فلا يتوقف على ما وراء المجلس) ش: فعلى هذا لو قبله عن الطالب فضولي توقف على إجازته لوجود شطريه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (إلا في مسألة واحدة) ش: وهو استثناء من قوله ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس حيث يصح استحسانا، والقياس عدمهما على قولهما، م: (وهي أن يقول المريض) ش: وفي " القدوري ": وهي أن يقول المريض وهذا على الأصل، لأن الضمير يرجع إلى المسألة.(8/452)
لوارثه: تكفل عني بما علي من الدين فكفل به مع غيبة الغرماء جاز؛ لأن ذلك وصية في الحقيقة، ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم، ولهذا قالوا: إنما تصح إذا كان له مال، أو يقال إنه قائم مقام الطالب لحاجته إليه تفريغا لذمته، وفيه نفع الطالب، كما إذا حضر بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ، ولا يشترط القبول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ووجه تذكير الضمير في الكتاب باعتبار المذكور في القدوري أن يقول المريض م: (لوارثه تكفل عني بما علي من الدين فكفل به) ش: أي فتكفل الوارث لما عليه من الدين م: (مع غيبة الغرماء جاز) ش: حيث تصح استحسانا م: (لأن ذلك وصية في الحقيقة) ش: أي يصير كأنه أوصى إليه بقضاء ديونه فيشترط قبول من أوصى إليه ليصير وصيا لا قبول غيره، كذا قاله تاج الشريعة.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل في تعليل الكتاب بقوله: لأن ذلك وصية في الحقيقة نظرا، إذ لو كان وصية حقيقة لما اختلف الحكم بين حالة الصحة وحالة المرض، وقد ذكرنا من " المبسوط " أن هذا لا يصح في حالة الصحة، إلا أن يأول هذا ويقال لأن ذلك في معنى الوصية في الحقيقة وفيه بعد، وقد نقل الأكمل هذا ثم قال: مثل هذه العبارة يستعمل عند المحصلين فيما إذا دل لفظ بظاهره على معنى.
وإذا نظرت في معناه يأول إلى معنى آخر وحينئذ لا فرق بين أن يقول في معنى الوصية أو وصية في الحقيقة، وفيه تأمل. وفي " الشامل ": الإيصاء بقضاء الدين يصح. وفي الخلاصة: ثم هذا من المريض يصح وإن لم يسم الدين ولا صاحب الدين، وأشار إليه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله: م: (ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم) ش: أي ولأجل أن ذاك وصية.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك أيضا م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (إنما تصح) ش: أي عقد الكفالة بدون قبول الطالب م: (إذا كان له) ش: أي للمريض م: (مال) ش: عند الموت إذ الوصية تصح في المال عند الموت م: (أو يقال) ش: إشارة إلى بيان وجه آخر في صحة قول المريض لوارثه: تكفل بما علي من الديون. تقريره أن يقال م: (إنه) : أي المريض م: (قائم مقام الطالب) ش: وهو المكفول له م: (لحاجته إليه) ش: أي لحاجة المريض إلى إقامة نفسه مقام الطالب م: (تفريغا لذمته) ش: أي لأجل تفريغ ذمته عن الدين فصار كأن الطالب حضر بنفسه على ما يجيء م: (وفيه) ش: أي وفي إقامة نفسه مقام الطالب م: (نفع الطالب) ش: وهو حصول حقه إليه، فصار حكمه م: (كما إذا حضر) ش: أي الطالب م: (بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ) ش: متصل بقوله لأن ذلك وصية، يعني أن قول المريض: لوارثه تكفل عني أيضا، ولهذا تصح إذا لم يكن مال ولكن الإيصاء صح بلفظ الضمان.
م: (ولا يشترط القبول) ش: أي قبول المريض، هذا جواب سؤال مقدر، وهو أن يقال: لو(8/453)
لأنه يراد به التحقيق دون المساومة ظاهرا في هذه الحالة فصار كالأمر بالنكاح. ولو قال المريض ذلك لأجنبي اختلف المشايخ فيه،
قال: وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة، وقالا: تصح؛ لأنه كفل بدين ثابت لأنه وجب لحق الطالب ولم يوجد المسقط، ولهذا يبقى في حق أحكام الآخرة. ولو تبرع به إنسان وله مال يصح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان المرض نازلا منزلة الطالب لكان قبوله شرطا كقبول الطالب. وتقرير الجواب: أنه لا يشترط القبول م: (لأنه يراد به التحقيق) ش: أي المريض يريد بقوله تكفل عني تحقيق الكفالة م: (دون المساومة) ش: نظرا إلى ظاهر حالته التي هو عليها، وهو معنى قوله م: (ظاهرا في هذه الحالة فصار) ش: فصار هذا م: (كالأمر بالنكاح) ش: لو قال لامرأة زوجيني نفسك، فقالت: زوجت نفسي منك يكون ذلك بالقبول فكأنها قالت زوجت، وقال: قبلت.
م: (ولو قال المريض ذلك لأجنبي) ش: أي لو قال المريض لأجنبي تكفل عني بما علي من الدين ففعل الأجنبي ذلك، م: (اختلف المشايخ فيه) ش: فمنهم من لم يصح ذلك؛ لأن الأجنبي غير مطالب بقضاء دينه لا في الحياة ولا بعد موته بدون الالتزام، فكان المريض والصحيح في حقه سواء، ولو قال الصحيح ذلك لأجنبي أو لوارثه لم يصح بدون قبول المكفول له، فكذا المريض.
ومنهم من صححه؛ لأن المريض قصد به النظر لنفسه والأجنبي إذا قضى دينه بأمره يرجع في تركته فيصح هذا من المريض، على أن يجعل قائما مقام الطالب لتضيق الحال عليه بمرض الموت؛ لكونه على شرف الهلاك. ومثل ذلك لا يوجد في الصحيح فأخذناه بالقياس.
[مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة) ش: أي لم تصح الكفالة عنده، سواء كان ذلك الرجل أجنبيا أو وارث الميت، م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (تصح) ش: الكفالة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لأنه) ش: أي لأن الرجل، م: (كفل بدين ثابت لأنه) ش: أي لأن الدين م: (وجب لحق الطالب ولم يوجد المسقط) ش: أي مسقط الدين، لأن الإسقاط إنما يكون بالإيفاء أو الإبراء أو انفساخ سبب وجوبه وبالموت لا يتحقق شيء من ذلك.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ما ذكرنا من عدم الإسقاط م: (يبقى) ش: أي الدين م: (في حق أحكام الآخرة) ش: فيطالب به في الآخرة.
م: (ولو تبرع به) ش: أي بأداء الدين م: (إنسان وله مال) ش: أي والحال أن للميت مالا م: (يصح) ش: أي التبرع به، ولو برئ المفلس من الدين بالموت لما حل لصاحب الدين الأخذ من(8/454)
وكذا يبقى إذا كان به كفيل أو مال. وله أنه كفل بدين ساقط لأن الدين هو الفعل حقيقة، ولهذا يوصف بالوجوب؛ لكنه في الحكم مال؛ لأنه يئول إليه في المال، وقد عجز بنفسه وبخلفه، ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط ضرورة، والتبرع لا يعتمد قيام الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المتبرع م: (وكذا يبقى) ش: أي الدين م: (إذا كان به كفيل أو مال) ش: ويبقى هو على كفالته ولو سقط الدين بالموت ليسقط عن الكفيل، لأن سقوط الدين عن الأصيل يوجب براءة الكفيل.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - م: (أنه) ش: أي أن الرجل م: (كفل بدين ساقط) ش: لأن محل الدين قد فات وقيام الدين من غير محل محال م: (لأن الدين هو الفعل حقيقة) ش: لأن المقصود والفائدة الحاصلة منه هو فعل الأداء.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون الدين هو الفعل حقيقة م: (يوصف بالوجوب) ش: يقال دين واجب كما يقال الصلاة واجبة والوصف بالوجوب حقيقة إنما هو في الأفعال م: (لكنه في الحكم مال) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: لزم حينئذ قيام العرض بالعرض هو غير جائز عند المتكلمين من أهل السنة.
وتقرير الجواب هو ما قاله، لكنه أي لكن الدين في الحكم مال، لأن تحقيق ذلك الفعل في الخارج ليس إلا بتمليك طائفة من المال فوصف المال بالوجوب م: (لأنه) ش: أي لأن الأداء الموصوف به م: (يؤول إليه في المال) ش: فكان وصفا مجازيا، وكونه مالا بواسطة الاستيفاء م: (وقد عجز) ش: أي والحال أنه قد عجز عنه م: (بنفسه وبخلقه) ش: أي كفيله م: (ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط) ش: في أحكام الدنيا م: (ضرورة) ش: لأن الكفالة من أحكام الدنيا فانعدم أثر الوجوب في حق الميت فلم تصح الكفالة؛ لأنها بناء على الوجوب في جانب من عليه.
فإن قلت: العجز بنفسه وبخلقه يدل على تعذر المطالبة منه، وذلك لا يستلزم بطلان الدين في نفسه كمن كفل عن عبد محجور أقر بدين فإنها تصح، فإن تعذرت المطالبة في حال الرق.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قلنا غلط بعدم التفرقة بين ذمة صالحة بوجوب الحق عليها ضعفت بالرق وبين ذمته خربت بالموت ولم يبق أهلا للوجوب عليها. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا وهذا التقرير كما ترى يشير إلى أن المصنف ذكر دليل أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بطريق المعارضة. ولو أخرجه إلى سبيل الممانعة بأن يقول: لا نسلم أن الدين ثابت بل هو ساقط ويذكر السند بقوله فإن الدين هو الفعل، كان أحدث في وجوه النظر على ما لا يخفى.
قلت: الذي قرره المصنف يتناول كل واحد من طريق الممانعة وطريق المعارضة على ما لا يخفى.
م: (والتبرع لا يعتمد قيام الدين) ش: هذا جواب عما قال: ولو تبرع به إنسان، تقريره أن(8/455)
وإذا كان به كفيل أوله مال فخلفه أو الإفضاء إلى الأداء باق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشرع لا يعتمد قيام الدين، فإن من قال: لفلان على فلان ألف درهم وأنا كفيل صحت الكفالة وعليه أداؤه وإن لم يوجد الدين أصلا. وقال تاج الشريعة: والتبرع لا يعتمد قيام الدين أي في حق المكفول عنه، بل يعتمد قيامه في حق الكفيل؛ ولهذا لو أقر رجل أن لفلان على فلان كذا وأنا كفيل بذلك وأنكر المكفول عنه تصح الكفالة وعليه أداء الدين م: (وإذا كان به كفيل) ش: جواب عن قولهما: وكذا يبقى إذا كان به كفيل م: (أو له مال) ش: بيان هذا أن القدرة شرط الفعل إما بنفس القادر أو بخلفه، فإذا كان به كفيل أو له مال وانتفى القادر م: (فخلفه) ش: وهو الوكيل أو المال في حق بقاء الدين م: (أو الإفضاء إلى الأداء) ش: هذا غير موجود في بعض النسخ. وقال الأترازي: هكذا وقع السماع مرارا، وقد كانت نسخة شيخ الإسلام حافظ الدين الكبير البخاري هكذا أيضا.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقوله هو الإفضاء على ما هو السماع، وعليه أكثر النسخ، وكأنه قال: الكفيل والمال إن لم يكونا خلفين فالإفضاء إلى الأداء بوجودهما، م: (باق) ش: بخلاف ما إذا عدما. ويجوز أن يكون في الكلام لف ونشر، وتقريره فخلفه وهو الكفيل أو الإفضاء، أي ما يفضي إلى الأداء، وهو المال باق، وعلى هذا يشترط في القدرة، إما نفس القادر أو خلفه أو ما يفضي إلى الأداء، وقد وقع في بعض النسخ، إذ الإفضاء على وجه التعليل لقوله فخلفه.
وعلى هذا يكون تقرير الكلام فخلفه باق حذفه لدلالة المذكور عليه، كما في قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض
والرأي مختلف، ومعناه كل واحد من الكفيل والمال خلف للميت، لأن رجاء الأداء منهما باق، فإن الخلف ما به تحصل كفاية أمر الأصيل عند عدمه، وهما كذلك فكانا خلفين، انتهى.
وقال شيخنا العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله إذا كان به كفيل، أي إذا كان بالدين كفيل فخلفه باق، وكذا إذا له مال فالتقضي إلى الأداء باق، لأنه يستوفي من المال فتحقق باقيا في أحكام الدنيا.
وقوله: فخلفه أي إذا كان له كفيل والإفضاء إليه فيما إذا كان له مال باق، انتهى.
قلت: هنا تكلفات كثيرة، فالمختصر من الكلام أن يقال: فخلفه أي الكفيل أو الإفضاء بالنظر إلى وجود المال، وإعراب ما وقع في المتن أن قوله: فخلفه مبتدأ. وقوله: أو الإفضاء إلى الأداء عطف عليه. وفي بعض النسخ بدون الألف. وقول: باق خبر المبتدأ.(8/456)
قال: ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاء الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها؛ لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال. كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر، بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة لأنه تمحض أمانة في يده. وإن ربح الكفيل فيه فهو له لا يتصدق به؛ لأنه ملكه حين قبضه، أما إذا قضى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره) ش: أي على الرجل بأمره، وهو المديون م: (فقضاه الألف) ش: أي فقضى الرجل الألف الكفيل م: (قبل أن يعطيه صاحب المال) ش: أي قبل أن يعطي الألف صاحب المال وهو منصوب على أنه مفعول ثان للإعطاء م: (فليس له) ش: أي للرجل المذكور وهو المكفول عنه م: (أن يرجع فيها) ش: أي في الألف على تأويل الدراهم م: (لأنه) ش: أي لأن الألف م: (تعلق به حق القابض) ش: وهو الكفيل م: (على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال) ش: يعني ما لم يبطل هذا الاحتمال بأداء الأصل بنفسه حق الطالب ليس له أن يسترده، لأن النفع الدفع إذا كان الفرض لا يجوز الاسترداد فيه ما دام باقيا كيلا يكون سعيا في نقض ما أوجبه.
وهذا م: (كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي) ش: وهو المصدق الذي يتولى أخذ الزكاة فإنه ليس له أن يستردها، لأن الدفع كان لفرض، وهو أن يصير زكاته بعض الحول، فما دام الاحتمال ليس له الرجوع م: (ولأنه) ش: أي ولأن الكفيل م: (ملكه) ش: أي الألف م: (بالقبض) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وقال في وجه: لا يملكه وفي يده أمانة فيسترده قبل أداء الكفيل به، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- م: (على ما نذكر) ش: إشارة إلى قوله بعد خطين، أما إذا قضى الدين فظاهر إلى آخره.
م: (بخلاف ما إذا كان الدفع) ش: أي الدفع إلى الكفيل م: (على وجه الرسالة) ش: يعني يرجع الأصيل على الكفيل بالمدفوع إليه م: (لأنه تمحض أمانة في يده) ش: صورته أن يقول الأصيل للكفيل: خذ هذا المال، وادفع إلى الطالب، فإنه لا يصير ملكا للكفيل، بل هو أمانة في يده، ولكن لا يكون للمطلوب أن يسترده من يد الكفيل، لأنه تعلق بالمؤدى حق الطالب فالمطلوب بالاسترداد يريد إبطال ذلك فلا يقدر عليه، لكنه لم يملكه لكونه إصابة.
م: (وإن ربح الكفيل فيه) ش: أي في الألف المقبوض بأن تصرف فيه وربح م: (فهو له) ش: أي الربح له م: (لا يصدق به) ش: يعني لا يجب أن يتصدق به م: (لأنه ملكه حين قبضه) ش: والربح الحاصل من ملكه طيب له لا محالة، وإنما قلنا: إنه ملكه حين قبضه لأن قضاء الدين إما أن يحصل من الكفيل أو من الأصيل، فإن كان الأول فظاهر، وهو معنى قوله: م: (أما إذا قضى(8/457)
الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه وثبت له حق الاسترداد؛ لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء فنزل منزلة الدين المؤجل. ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه، إلا أن فيه نوع خبث نبينه، فلا يعمل مع الملك فيما لا يتعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين فظاهر) ش: لأنه قبض ما وجب له فيه فيملكه من حيث قبض؛ كمن قبض الدين المؤجل معجلا.
م: (وكذا) ش: أي وكذا الحكم م: (إذا قضى المطلوب بنفسه) ش: أي الأصيل أداه بنفسه حيث يملكه الكفيل م: (وثبت له حق الاسترداد لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه) ش: أي على الكفيل، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل على المكفول له، لأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة لا في الدين، ولكن ذكر في " جامع المحبوبي " و" قاضي خان ": أن الدين وجب للطالب على الكفيل فيكون الضمير في "عليه" راجعا إلى الكفيل.
وفي " المبسوط " الكفالة توجب الدينين دينا للكفيل على الأصيل ودينا للطالب، لكن دين الكفيل مؤجل إلى وقت الأداء، لأن له مطالبة الأصيل بعد الأداء، ولهذا لو أخذ الكفيل من الأصيل رهنا بهذا المال يصح بمنزلة ما لو أخذ رهنا بدين مؤجل.
م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: لأنه وجب له على المكفول عنه فعل ما وجب للطالب عليه، أي إلا أنه م: (أخرت المطالبة) ش: أي مطالبة للكفيل الأصيل م: (إلى وقت الأداء) ش: أي أداء الكفيل م: (فنزل منزلة الدين المؤجل) ش: أي نزل بناء على المكفول عنه الكفيل منزلة الدين المؤجل م: (ولهذا) ش: أي ولأجل تنزله منزلة الدين المؤجل م: (لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه) ش: أي قبل أداء الكفيل للطالب م: (يصح) ش: حتى لم يكن له الرجوع بعد الأداء م: (فكذا إذا قبضه يملكه) ش: أي فكذا إذا قبض الكفيل الدين يملكه، وهذا أيضا يدل على أن الكفالة تقتضي دينين كما ذكرناه عن " المبسوط ".
م: (إلا أن فيه) ش: أي في الربح الحاصل للكفيل بتصرفه في المقبوض على وجه الاقتضاء وقد أدى الأصيل الدين م: (نوع خبث نبينه) ش: أي نبين نوع الخبث ونبينه في مسألة الكفالة بالكبر، والآن نذكرها، م: (فلا يعمل) ش: أي الخبث م: (مع الملك فيما لا يتعين) ش: كغير النقود، وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا استثناء من قوله فهو له ولا يتصدق به، فكأنه ذكره جوابا لسؤال بأن يقال في هذا الربح نوع خبث، فينبغي أن يتصدق به، لأن حق المال الخبيث التصدق به فأجاب عنه وقال: لكن فيه نوع خبث مع الملك، فلا يعمل الخبيث مع الملك فيما لا يتعين،(8/458)
وقد قررناه في البيوع. ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل فباعها وربح فيها فالربح له في الحكم لما بينا أنه ملكه. قال: وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر ولا يجب عليه في الحكم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية " الجامع الصغير "، وقالا: هو له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلأجل هذا لم يؤمر بالتصدق.
وذكر في شروح " الجامع الصغير " هذا الفصل على وجهين: فإما أن يدفع الأصيل إليه على وجه الرسالة، أو على وجه الاقتضاء، وكل ذلك على وجهين، إما إن كان الدفع مما لا يتعين بالتعيين كالنقود أو مما يتعين كالعروض.
فإن دفع على وجه الرسالة بأن قال: خذ هذا المال وادفع إلى الطالب لا يطيب الربح، سواء كان المدفوع مما لا يتعين أو يتعين في قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ومحمد -وطالب له- عند أبي يوسف، لأن الخبث يثبت لعدم الملك، لأن تصرفه وجد في غير ملكه فاستوى فيه المال لأنه وإن دفع على وجه الاقتضاء بأن قال الأصيل للكفيل: إني لا آمن أن يأخذ الطالب حقه منك فأنا أقضيك قبل أن تؤدي طاب له الربح إذا كان المدفوع مما لا يتعين كالنقود لأنه ملكها بالقبض، وإن كان المدفوع مما يتعين كغير النقود.
قال أبو حنيفة -في رواية-: هذا الكتاب يستحب أن يرده على الأصيل، وقال في كتاب الكفالة من الأصل يتصدق به، وقال في كتاب البيوع منه: يطيب له. وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يطيب له ولا يرده، ولا يتصدق به، وقال فخر الإسلام: ويستوي في هذا أن أداء المطلوب إلى الطالب بنفسه أو أداء الكفيل م: (وقد قررناه في البيوع) ش: أي في آخر فصل أحكام البيع الفاسد.
م: (ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل) ش: أي فقبض الكفيل الكر من الأصيل فتصرف فيها م: (فباعها وربح فيه فالربح له) ش: أي الكفيل م: (في الحكم) ش: أي في القضاء م: (لما بينا أنه ملكه) ش: أي أن الكفيل ملك الذي قبضه.
م: (قال) ش: أي قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " لما روى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا كانت الكفالة بكر حنطة فقضاه الذي عليه الأصيل فباعه الكفيل فربح فيه فإن الربح له إلا أنه أحب إلي أن يدفعه إلى الذي قضاه ويرده عليه، ولا أجبره على ذلك في القضاء ونقل المصنف هذا بقوله م: (وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر، ولا يجب عليه في الحكم، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية " الجامع الصغير ") ش: أي ولا يجب الرد على الذي قضاه في الحكم، أي في القضاء، ثم إن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما نقل هذا عن " الجامع الصغير ".
ثم قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقالا هو له) ش: أي وقال أبو يوسف ومحمد: الربح له، م:(8/459)
ولا يرده على الذي قضاه الكر وهو رواية عنه. وعنه أنه يتصدق به. لهما أنه ربح في ملكه على الوجه الذي بيناه فيسلم له. وله أنه تمكن الخبث مع الملك، إما لأنه بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه بنفسه، أو لأنه رضي به على اعتبار قضاء الكفيل، فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به، وهذا الخبث يعمل فيما يتعين فيكون سبيله التصدق في رواية ويرده عليه في رواية؛ لأن الخبث لحقه، وهذا أصح، لكنه استحباب لا جبر لأن الحق له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(ولا يرده على الذي قضاه الكر) ش: وهذا لفظه في " الجامع الصغير "، وقال يعقوب ومحمد: هو له ولا يرده على الذي قضاه الكر م: (وهو رواية عنه) ش: أي قول أبي يوسف ومحمد رواية عن أبي حنيفة أيضا وهو أن الربح للكفيل ولا يرده على الأصيل وهو رواية كتاب البيوع م: (وعنه أنه) ش: أي أن الكفيل م: (يتصدق به) ش: أي بالربح، وهو رواية كتاب الكفالة.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه تمكن الخبث مع الملك) ش: لأحد الوجهين إشارة إلى الوجه الأول بقوله م: (إما لأنه) ش: أي لأن الأصيل م: (بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه) ش: أي يقضي الكر م: (بنفسه) ش: فإذا كان كذلك كان الربح حاصلا في ملك متردد بين أن يقر وأن لا يقر.
ومثل ذلك قاصر، ولو عدم الملك أصلا كان خبيثا، فإذا كان قاصرا تمكن فيه شبهة الخبث. وأشار إلى الوجه الثاني بقوله م: (أو لأنه) ش: أي أو لأن الأصيل م: (رضي به) ش: أي يكون المدفوع ملكا للكفيل م: (على اعتبار قضاء الكفيل) ش: الدين (فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به) ش: فتمكن الخبث م: (وهذا الخبث) ش: أي الخبيث الذي يكون مع الملك م: (يعمل فيما يتعين) ش: كغير النقود م: (فيكون سبيله التصدق في رواية) ش: عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويرده عليه) ش: أي على الأصيل.
م: (في رواية) ش: أخرى عن أبي حنيفة، فإن رده على الأصيل فإن كان الأصيل فقيرا طاب له، وإن كان غنيا ففيه روايتان في كتاب الغصب. قال فخر الإسلام في "شرح الجامع الصغير ": والأشبه أي يطب له، لأنه إنما يرده عليه على أنه حقه م: (لأن الخبث لحقه) ش: أي لحق الأصيل لا لحق الشرع.
م: (وهذا أصح) ش: أي الرد، لأن يرد الربح على المكفول عنه أصح من القول بالتصدق م: (لكنه استحباب) ش: أي لكن الرد عليه مستحب، لأن الملك لكفيل م: (لا جبر، لأن الحق له)(8/460)
قال: ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره، فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا ففعل؛ فالشراء للكفيل والربح الذي ربح البائع فهو عليه، ومعناه الأمر ببيع العينية، مثل أن يستقرض من تاجر عشرة، فيتأبى عليه، ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لا يجبر على دفعه إلا أنه لما تمكن الخبث يستحب الدفع إليه، بخلاف الربح في الغصب حيث يجبر الغاصب على الدفع لأنه لا حق للغاصب في الربح.
وفي " الكافي ": هذا إذ أعطاه على وجه القضاء، أما لو أعطاه على وجه الرسالة فتصرف فيه الرسول وربح لم يطب له الربح، سواء كان ثمنا أو مما يتعين لأنه مودع والمودع إذا تصرف فيه الوديعة وربح لم يطب له الربح عند أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- وطاب له عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما عرف.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا) ش: أي على الأصيل، أي أمره أن يشتري له حريرا بطريق العينية م: (ففعل) ش: أي الكفيل م: (فالشراء للكفيل والربح الذي ربح البائع فهو عليه) ش: أي الربح على الكفيل.
م: (ومعناه) ش: أي معنى قوله أن يتعين عليه حريرا م: (الأمر ببيع العينية) ش: يعني أمره أن يشتري حريرا بطريق العينة فعين ذلك بقوله م: (مثل أن يستقرض من تاجر عشرة) ش: أي يطلب من تاجر عشرة دراهم على سبيل الفرض م: (فيتأبى عليه) ش: أي فيمتنع أن يقرضه عشرة م: (ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة) ش: يعني طمعا في الفضل الذي لا يناله المقرض بالقرض ويقول لا يتيسر لي القرض ثم يبيعه ثوبا م: (ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة) ش: أي يتحمل المقرض خمسة دراهم يحصل له عشرة دراهم، ولرب الثوب خمسة دراهم بطريق البيع، هذا الذي ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جملة صور العينة.
ومن صورها ما ذكره " قاضي خان " وهو أن يجعل المقرض والمستقرض بينهما ثالثا فيبيع صاحب الثوب باثني عشر من المستقرض، ثم إن المستقرض يبيعه من الثالث بعشرة ويسلم ثم يبيع الثالث من المقرض بعشرة ويأخذ منه عشرة ويدفعها إلى المستقرض فتندفع حاجته، وإنما خللا ثالثا تحرزا عن شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن.
وفي " فتاوى الكردي ": صورته أن يبيع المستقرض سلعة من المقرض بعشرة ويسلم إليه، ثم قال المستقرض يعني باثني عشر فباعه جاز.(8/461)
سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين، وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل. ثم قيل: هذا ضمان لما يخسر المشتري نظرا إلى قوله "علي" وهو فاسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " محيط السرخسي ": صورته باع متاعه بالعين في المستقرض إلى أجل ثم يبعث متوسطا ليشتري المتاع لنفسه بألف حالة ويقبضه ثم يبيعه من البائع الأول بألف، ثم يحيل المتوسط بائعه على البائع الأول بالثمن الذي عليه ويخرج من الوسط فيدفع البائع الأول ألفا حالة إلى المستقرض ويأخذ منه ألفين عند حلول الأجل وهذا البيع جائز في الحكم، فقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يكره، لأنه فعل ذلك كثير من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم يعدوه من الربا.
وقال محمد: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال أي لها شبهة كأمثال الجبال اخترعه أكلة الربا وقد ذمهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظفر عليكم عدوكم» . وفي رواية: «سلط الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم» . وقيل: إياك والعينة فإنها لعينة، والمراد باتباع أذناب البقر الزراعة.
م: (سمي به) ش: أي سمي هذا البيع بيع العينة. وفي نسخة شيخنا: سمي بعينه م: (لما فيه) ش: أي في بيع العينة م: (من الإعراض عن الدين إلى العين وهو مكروه) ش: أي بيع العينة مكروه، إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه على الاختلاف م: (لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض) ش: المبرة اسم للبر.
وقال الجوهري: البر خلاف العقوق والمبرة مثله تقول بررت والدي بالكسر أبره برا فأنا بر به وبار، وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة، وروى: المصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر، م: (مطاوعة لمذموم البخل) ش: يعني لأجل المطاوعة للبخل الذي هو مذموم وكان الكره حصل من المجموع فإن الإعراض عن الإقراض ليس بمكروه، والبخل الحاصل من طلب الربح في التجارات كذلك وإلا لكانت المرابحة مكروهة.
م: (ثم قيل هذا ضمان) ش: أي قوله أن يتعين عليه ضمان م: (لما يخسر المشتري نظرا) ش: أي بالنظر م: (إلى قوله علي) ش: بالتشديد، لأن كلمة علي تعني الالتزام م: (وهو فاسد) ش: أي الضمان بالخسران فاسد، لأن الخسران ليس بمضمون على أحد لأن الكفالة والضمان إنما يصح بما هو مضمون فلا يصح ضمانه.
كم قال لآخر: بائع في هذا السوق على أن كل وضيعة وخسران يصيبك فأنا ضامن به(8/462)
وليس بتوكيل، وقيل: هو توكيل فاسد، لأن الحرير غير متعين، وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين، وكيفما كان فالشراء للمشتري وهو الكفيل والربح، أي الزيادة عليه لأنه هو العاقد. قال: ومن كفل عن رجل بما ذاب له عليه، أو بما قضى له عليه فغاب المكفول عنه، فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم ولم يقبل ببينته؛ لأن المكفول به مال مقضي به، وهذا في لفظة القضاء ظاهر، وكذا في الأخرى، لأن معنى ذاب تقرر وهو بالقضاء أو مال يقضي به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لك كان باطلا، كذا في " جامع المحبوبي " م: (وليس بتوكيل) ش: لأنه لم يقل: تعين لي، بل قال: تعين علي وهي ليست بكلمة وكالة.
م: (وقيل: هو توكيل فاسد، لأن الحرير غير متعين) ش: إذ الحرير أجناس مختلفة م: (وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين) ش: أي على قدر الدين، وقال الأكمل: فإن قيل: الدين معلوم والمأمور به هو مقداره، فكيف يكون الثمن مجهولا، أجاب بقوله: لجهالة ما زاد على الدين فإنه داخل في الثمن.
م: (وكيفما كان) ش: سواء كان قوله: تعين علي وكالة أو كفالة فاسدة م: (فالشراء للمشتري) ش: بفتح الراء وصح بكسر الراء م: (وهو الكفيل والربح أي الزيادة) ش: أي الزيادة على الدين م: (عليه لأنه هو العاقد قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: ومن كفل عن رجل بما ذاب له) ش: أي بما وجب وثبت له م: عليه أو بما قضى له عليه) ش: أي بما حكم له عليه من الحق م: (فغاب المكفول عنه فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم، ولم يقبل ببينته) ش: أي بينة المدعي على الكفيل حتى يحضر المكفول عنه فيقضي به عليه م: (لأن المكفول به مال مقضي به) ش: على الأصيل؛ لأن الكفيل التزم ما لا يقضي به في المستقبل، فما لم يقض به لا يجب شيء على الكفيل القضاء على الأصيل ولم يوجد الشرط ولا يوجد القضاء على الأصيل بهذه البينة حال غيبته، لأنه يكون قضاء على الغائب، وهو لا يصح عندنا خلافا للشافعي ومالك، رحمهما الله.
م: (وهذا في لفظة القضاء) ش: وهو قوله أو بما قضى له عليه م: (ظاهر) ش: لدلالة ما قضى بصراحة عبارته.
م: (وكذا في الأخرى) ش: وكذا ظاهر في المسألة الأخرى وهو قوله: ما ذاب له عليه لأنه يستلزم ذلك م: (لأن معنى ذاب تقرر) ش: وهو بالقضاء وقد قلنا إنه مستعار من ذوب الشحم م: (وهو) ش: أي التقرر م: (بالقضاء) ش: أي إنما هو بالقضاء والدعوى مطلق غير ذلك، فلا مطابقة بينهما م: (أو مال يقضي به) ش: معطوف على قوله: أو بما قضي له، يعني كفل بمال(8/463)
وهذا ماض أريد به المستقبل كقوله: أطال الله بقاءك، والدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح. ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه بأمره فإنه يقضي به على الكفيل وعلى المكفول عنه. وإن كانت الكفالة بغير أمره يقضي به على الكفيل خاصة، وإنما تقبل لأن المكفول به مال مطلق بخلاف ما تقدم، وإنما يختلف بالأمر وعدمه لأنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يقضي به بعد الكفالة، فلم توجد هذه الصفقة لا يكون كفيلا به م: (وهذا ماض) ش: أي قوله ذاب أو قضى له ماض، ولكن م: (أريد به المستقبل) ش: وفي نسخة شيخنا أريد به المستأنف، أي يجعل لفظ الماضي بمعنى المستقبل م: (كقوله) ش: أي كقول الداعي لشخص م: (أطال الله بقاءك) ش: فهو وإن كان ماضيا يراد به المستقبل م: (والدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح) ش: أي دعوى المدعي على الكفيل مطلقة عن ذلك حيث لم يتعرض لموجب المال بعد الكفالة بل يحتمل أنه كان واجبا قبل الكفالة وذلك لا يدخل تحت الكفالة ففسدت الدعوى فلم تسمع البينة، حتى لو أقام البينة أنه وجب له على الغائب ألف درهم بعد عقد الكفالة قبلت بينته، كذا قالوا في " شرح الجامع الصغير ".
م: ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه) ش: أي عن فلان م: بأمره) ش: أي بأمر فلان م: (فإنه) ش: أي فإن المال الذي قامت به البينة م: (يقضى به على الكفيل، وعلى المكفول عنه) ش: الذي هو الغائب م: (وإن كانت الكفالة بغير أمره) ش: أي بغير أمر فلان م: (يقضي به) ش: أي المدعي م: (على الكفيل خاصة) ش: يعني دون الغائب م: (وإنما تقبل) ش: إقامة البينة حتى يقضي بالمال على الكفيل م: (لأن المكفول به مال مطلق) ش: أي عن التوصيف بكونه مقضيا به أو يقتضي به فكانت الدعوى مطابقة للمدعى به فصحت وقبلت البينة لابتنائها على دعوى صحيحة.
م: (بخلاف ما تقدم) ش: أي بخلاف المسألة المتقدمة وهي قوله: ومن كفل عن رجل بما ذاب له..... إلى آخره، حيث لا يقبل بينة المدعي على الكفيل، لأن ثمة المكفول به مال مقيد وهو ما يجب على الكفيل بعد عقد الكفالة ودعوى المدعي وقعت مطلقة لم يتعرض لذلك ففسدت الدعوى فلم تقبل. ثم اعلم أن فائدة القضاء على الكفيل وعلى المكفول عنه أنه لو حضر المكفول عنه لا يحتاج إلى إقامة البينة عليه، لأنه لما أثبت الكفالة على الحاضر بأمر الغائب وقضى القاضي بذلك ثبت أمر الغائب بالكفالة عنه وثبت إقراره بالدين وانتصب الحاضر خصما عن الغائب، بخلاف ما إذا أقام البينة على أنه كفيل بغير أمر الغائب ثبت الدين على الكفيل خاصة ولا يثبت على الغائب شيء لأنه لما لم يثبت الأمر من الغائب لم يتعد القضاء إليه، كذا قال الإمام الزاهد العتابي.
م: (وإنما يختلف) ش: أي حكم القاضي بالرجوع على الأصيل م: (بالأمر وعدمه لأنهما)(8/464)
يتغايران لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع في الحالين، فبدعواه أحدهما لا يقضى له بالآخر. وإذا قضى بها بالأمر ثبت أمره وهو يتضمن الإقرار بالمال فيصير مقضيا عليه، والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه؛ لأنه يعتمد صحتها قيام الدين في زعم الكفيل فلا يتعدى إليه. وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر: لا يرجع لأنه لما أنكر فقد ظلم في زعمه فلا يظلم غيره. ونحن نقول: صار مكذبا شرعا فبطل ما في زعمه. قال: ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك فهو تسليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي لأن الكفالة بأمره والكفالة بغير أمره م: (يتغايران، لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء، ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع في الحالين) ش: أي في الابتداء والانتهاء م: (فبدعواه أحدهما) ش: أي أحد عقدي الكفالة م: (لا يقضى له بالآخر) ش: لأن ذلك غير مشهور به م: (وإذا قضى بها) ش: أي بالكفالة، م: (بالأمر ثبت أمره) ش: أي أمر الأصيل، وهو الآمر بالكفالة، م: (وهو) ش: أي الآمر بالكفالة م: (يتضمن الإقرار بالمال) ش: لأنه لا يأمر الكفيل بأن يؤدي عنه إلا إذا كان مقرا بالمال م: (فيصير مقضيا عليه والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه) ش: أي جانب المكفول عنه م: (لأنه) ش: أي لأن الأمر أو الشأن م: (يعتمد صحتها) ش: أي صحة الكفالة م: (قيام الدين) ش: ولفظ صحتها مرفوع بقوله يعتمد. وقوله قيام الدين بالنصب مفعول، م: (في زعم الكفيل) ش: لأن المرء يؤاخذ بزعمه والزعم بفتح الزاي وهو لغة أكثر القراء في قَوْله تَعَالَى: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] (الأنعام الآية: 136) وقرأ الكسائي بالضم م: (فلا يتعدى إيه) ش: أي إلى المكفول عنه، لأنها لم تكن بأمره فلم يمس جانبه.
م: (وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر: لا يرجع) ش: أي الكفيل على الأصيل م: (لأنه) ش: أي لأن الكفيل م: (لما أنكر فقد ظلم في زعمه) ش: يعني أن الكفيل لما أنكر بزعم أن الطالب ظلمه م: (فلا يظلم غيره ونحن نقول صار مكذبا شرعا) ش: لأن القاضي لما قضى عليه فقد أكذبه فيما زعمه م: (فبطل ما في زعمه) ش: كمن اشترى شيئا وأقر أن البائع باع ملكه ثم استحقه آخر بالبينة لا يبطل حقه في الرجوع بالثمن على البائع، كذا ذكره شمس الأئمة وقاضي خان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك) ش: الدرك عبارة عن قبول ثمن الدار عند استحقاق الدار وضمان الدرك صحيح بإجماع الفقهاء وهو المنصوص عن الشافعي، وأخرج أبو العباس عن الشافعي قولا آخر: أنه لا يصح م: (فهو) ش: أي فضمان الدرك م: (تسليم) ش: من الكفيل وتصديق بأن البائع باع ملك نفسه، والمسألة في " الجامع الصغير ": وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يبيع الدار ويكفل رجل للمشتري بما أدركها من درك ثم جاء الكفيل يدعيها، قال: كفالة تسليم للبيع، فإن شهد على البائع وختم لم تكن شهادته وختمه تسليما للبيع، إلى هنا لفظ محمد فيه.(8/465)
لأن الكفالة لو كانت مشروطة في البيع فتمامه بقبوله، ثم بالدعوى يسعى في نقض ما تم من جهته، وإن لم تكن مشروطة فيه فالمراد بها إحكام البيع وترغيب المشتري فيه إذ لا يرغب فيه، دون الكفالة فنزل منزلة الإقرار بملك البائع. قال: ولو شهد وختم ولم يكفل لم يكن تسليما وهو على دعواه، لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع ولا هي إقرارا بالملك؛ لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم، قالوا: إذا كتب في الصك باع وهو يملكه أو بيعا باتا نافذا وهو كتب شهد بذلك فهو تسليم إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال المصنف م: (لأن الكفالة لو كانت مشروطة في البيع فتمامه) ش: يعني لو باع بشرط الكفالة كان تمام البيع متعلقا م: (بقبوله) ش: أي بقبول الكفيل فصار كأنه هو الموجب للعقد ولا يصح دعواه بعد ذلك، وهو معنى قوله م: (ثم بالدعوى) ش: بعد ذلك م: (يسعى في نقض ما تم من جهته) ش: فلا يجوز ذلك م: (وإن لم تكن) ش: أي الكفالة م: (مشروطة فيه) ش: أي في البيع م: (فالمراد بها) ش: أي بالكفالة م: (إحكام البيع) ش: بكسر الهمزة أي إتقانه م: (وترغيب المشتري فيه) ش: أي في البيع م: (إذ لا يرغب) ش: المشتري م: (فيه دون الكفالة) ش: خوفا من الاستحقاق م: (فنزل منزلة الإقرار بملك البائع) ش: أي بمنزلة قوله: اشتر هذه الدار ولا تبالي فإنها ملك البائع. ومن أقر بملك البائع لا تصح دعواه بعد ذلك، وإنما قال: ينزل منزلة الإقرار لأنه يئول إليه في المعنى.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو شهد) ش: أي لو شهد الشاهد على بيع الدار م: (وختم) ش: شهادته بأن كتب اسمه في الصك وجعل اسمه تحت رصاص مكتوبا ووضع عليه نقش خاتمه حتى لا يجري فيه التزوير والتبديل، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل لفظ ختم وقع اتفاقا باعتبار عادة العرب، وهذا عرف زمانهم، أما في زماننا هذا العرف لم يبق م: (ولم يكفل لم يكن تسليما. وهو على دعواه؛ لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع) ش: لعدم الملازمة م: (ولا هي) ش: أي الشهادة م: (إقرارا بالملك لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم) ش: من ضمان الدرك، فإنه إقرار بالملك.
م: (قالوا) ش: مشايخنا م: (إذا كتب في الصك باع) ش: فلان م: (وهو) ش: أي والحال أنه م: (يملكه أو بيعا باتا) ش: أي أو باع بيعا باتا م: (نافذا وهو) ش: أي الشاهد م: (كتب شهد بذلك فهو تسليم) ش: فلا تصح دعواه م: (إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين) ش: فإنه ليس بتسليم وإن كان المكتوب فيما يدل على الصحة والنفاذ.(8/466)
فصل في الضمان قال: ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال فالضمان باطل؛ لأن الكفالة التزام المطالبة وهي إليهما فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه، ولأن المال أمانة في أيديهما والضمان تغيير لحكم الشرع فيرد عليه كاشتراطه على المودع والمستعير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الضمان]
[باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن]
م: (فصل في الضمان) ش: أي هذا فصل في بيان الضمان، والضمان والكفالة بمعنى واحد، ولكن لما كان هذا الفصل في مسائل " الجامع الصغير ": ووردت فيه بلفظ الضمان فلذلك فصلها لتغاير في اللفظ، ولهذا سمى أكثر الفقهاء باب الكفالة باب الضمان.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: (ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن) ش: أي باع لأجل رجل ثوبا وضمن البائع للآمر الثمن، صورته في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في الرجل يعطي الرجل ثوبا ليبيعه بعشرة ففعل ثم ضمن البائع الثمن للآمر، قال: الضمان باطل.
م: (أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال) ش: أي أو باع مضارب من المتاع شيئا وضمن لرب المال م: (فالضمان باطل) ش: في الصورتين م: (لأن الكفالة التزام المطالبة وهي) ش: أي المطالبة م: (إليهما) ش: أي إلى الوكيل والمضارب أو حقوق العقد يرجع إلى العقد فاختصت المطالبة به، فلو صح الضمان منهما م: (فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه) ش: وإنه لا يجبر يجوز، بخلاف الوكيل بالنكاح، فإن ضمن المهر من الزوج يصح، لأنه سفير، ولهذا لا يلي قبض المهر فلا يصير ضامنا لنفسه، كذا ذكره المرغيناني، والمحبوبي، وعلى قياس من قول الأئمة الثلاثة ينبغي أن يصح هذا الضمان، لأن للموكل ولاية مطالبة الثمن فلا يكون ضامنا لنفسه كما في النكاح.
م: (ولأن المال) ش: هذا وجه آخر في تعليل المسألتين المذكورتين وهو أن المال م: (أمانة في أيديهما) ش: أي في يد الوكيل والمضارب والأمين لا يكون ضمينا م: (والضمان تغيير لحكم الشرع) ش: لأنه يناقضه م: (فيرد عليه) ش: أي على الضامن م: (كاشتراطه) ش: أي كاشتراط الضمان م: (على المودع) ش: بفتح الدال.
م: (والمستعير) ش: فإنه لا ضمان عليهما شرعا، فاشتراطه يكون تغييرا للمشروع فلا يجوز، وكمن عليه السهو إذا سلم بنية قصد الخروج، يرد عليه، ولا يخرج حتى كان له أن يعود إلى سجدتي السهو، وكمن نذر أن يصوم غدا وعليه قضاء رمضان يجوز له صوم القضاء، فيرد عليه نية تعيينه الغد لصوم النذر؛ لأنه تغيير المشروع وهو صلاحية الغد لصوم القضاء.(8/467)
وكذلك رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن؛ لأنه لو صح الضمان مع الشركة يصير ضامنا لنفسه. لو صح في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه ولا يجوز ذلك. بخلاف ما إذا باعا بصفقتين؛ لأنه لا شركة، ألا ترى أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل. قال: ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكذلك) ش: أي وكذلك لا يصح الضمان إذا كان م: (رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن؛ لأنه لو صح الضمان مع الشركة) ش: أي مع بقاء الشركة الشائعة م: (يصير ضامنا لنفسه) ش: لأن ما من جزء من الثمن إلا وهو مشترك بينهما م: (ولو صح) ش: أي الضمان م: (في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه) ش: حيث امتاز نصيب أحدهما والدين لا يحتمل قسمة قبل القبض، لأن القسمة إفراز، والإفراز يتحقق في الأعيان لا في الأوصاف.
والدين وصف، ولأن في القسمة معنى التمليك، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز، كذا في " جامع قاضي خان " م: (ولا يجوز ذلك) ش: أي قسمة الدين قبل قبضه.
م: (بخلاف ما إذا باعا) ش: عبدا م: (بصفقتين) ش: بأن سمى كل واحد منهما لنفسه ثمنا ثم ضمن أحدهما الآخر صح ضمانه، م: (لأنه لا شركة) ش: إذ نصيب كل منهما ممتاز عن نصيب الآخر، م: (ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل) ش: أي: وإن قبل المشتري الكل بكلام واحد.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه) ش: جمع نائبة. واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: المراد منه ما يكون بحق كأجر الحارس كري نهر العامة، وأنه دين وسمى نائبه، وقال بعضهم: هو ما يحتاج الإمام إليه نحو تجهيز المقاتلين.
وكفداء الأسارى بأن لا يكون في بيت المال شيء فيوظف ما على الناس فيجوز ذلك، فيجب أداؤه على كل موسر نظرا للمسلمين فضمن إنسان قسمة صاحبه أي نصيبه من ذلك يجوز.
وأما النوائب التي يوظفها السلطان على الناس كالجبايات في زماننا بسبيل الظلم فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تصح الكفالة بها لأنه لا دين عليه فلا تصح. وقال بعضهم: يصح حتى إذا أدى بعدما ضمن بأمره يرجع عليه، لأن العبرة في الكفالة لتوجه المطالبة حسا، فكان بمنزلة دين واجب، وإليه ذهب فخر الإسلام البزدوي. وأما النوائب الكبرى الداهية الدهياء التي هي المكس فهي حرام قطعا، فلا تجوز الكفالة بها، ولا التصرف فيها(8/468)
وقسمته فهو جائز. أما الخراج فقد ذكرناه وهو يخالف الزكاة لأنها مجرد فعل، ولهذا لا تؤدى بعد موته من تركته إلا بوصيته. وأما النوائب فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك، وأجرة الحارس والموظف لتجهيز الجيش وفداء الأسارى وغيرها جازت الكفالة بها على الاتفاق. وإن أريد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بوجه من الوجوه أصلا وقد لعن الشارع صاحب المكس م: (وقسمته) .
ش: قال الفقيه أبو الليث السمرقندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذكر عن أبي بكر بن أبي سعيد أنه قال: وقع هذا الحرف غليظا لأنه لا معنى له، يعني أن القسمة مصدر والمصدر فهو الفعل غير مضمون، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: معناه إذا طلب أحد الشريكين القسمة من صاحبه وامتنع صاحبه من ذلك، فإن القسمة واجبة عليه، فإذا ضمن إنسان ليقوم مقامه في القسمة يجوز ذلك، لأنه ضمن شيئا مضمونا وهو يقدر على ذلك، يعني على إيفائه، وقال بعضهم، منهم فخر الإسلام البزدوي: يحتمل أن يكون المراد بالقسمة ما وظف عليه من النوائب الراتبة كأجرة الحارس ونحوها. وقيل: القسمة تجيء بمعنى النصيب، قال الله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} [القمر: 28] (القمر: الآية 28) ، والمراد النصيب، وقال بعضهم: معناه إذا اقتسما ثم منع أحد الشريكين قسم صاحبه.
قال الأكمل: فتكون الرواية على هذا قسمة بالضمير لا بالتاء. م: (فهو جائز) ش: جواب عن قوله ومن ضمن. م: (أما الخراج) ش: هذا مشروع في بيان قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجامع وهو الذي ذكره أولا بقوله: ومن ضمن إلى آخره، م: (فقد ذكرناه) ش: أي قبل هذا الفصل بقوله والرهن والكفالة في الخراج بلا خلاف، م: (وهو يخالف الزكاة لأنها) ش: أي لأن الزكاة م: (مجرد فعل) ش: وهو تمليك المال من غير أن يكون دينا.
وفي " الفوائد الظهيرية ": الخراج دين كسائر الديون، كأنه أراد به الموظف مخالف الزكاة في الأموال الظاهرة حيث لا يجوز الضمان لها، لأن الواجب جزء من النصاب وهو غير مضمون بدليل أنه لو هلك لا يضمن شيئا والكفالة بأعيان غير مضمونة باطلة م: (ولهذا) ش: أي ولأجل كون الزكاة مجرد فعل م: (لا تؤدى بعد موته) ش: أي بعد موت من عليه الزكاة م: (من تركته إلا بوصيته) ش: منه وقد عرف في موضعه.
م: (وأما النوائب فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك وأجرة الحارس والموظف) ش: من جهة الإمام م: (لتجهيز الجيش) ش: عند خلو بيت المال م: (وفداء الأسارى) ش: وهو تخليصهم من الأسر من أيدي الكفرة م: (وغيرها) ش: كإطفاء النائرة، م: (جازت الكفالة بها) ش: أي من النوائب بالحق م: (على الاتفاق) ش: بين أصحابنا وغيرهم من الفقهاء م: (وإن أزيد(8/469)
بها ما ليس بحق كالجبايات في زماننا ففيه اختلاف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وممن يميل إلى الصحة الإمام علي البزدوي. وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها، والرواية "بأو" وقيل: هي النائبة الموظفة الراتبة، والمراد بالنوائب ما ينوبه غير راتب والحكم ما بيناه. ومن قال لآخر: لك علي مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة، فالقول قول المدعي. ومن قال: ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة، فالقول قول الضامن. ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين، ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بها) ش: أي من النوائب م: (ما ليس بحق) ش: بل لظلم من الملوك الظلمة م: (كالجبايات) ش: وهي الصادرات م: (في زماننا ففيه اختلاف المشايخ) ش: وقد ذكرناه عن قريب مفصلا م: (وممن يميل إلى الصحة) ش: أي صحة الكفالة بها م: (الإمام علي البزدوي) ش: وهو فخر الإسلام علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم النسفي لا أخوه صدر الإسلام محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم النسفي وعبد الكريم هذا كان تلميذ الشيخ الإمام أبي المنصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي.
م: (وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها) ش: أي أو حصة الرجل من النوائب، يعني إذا قسم الإمام ما ينوب العامة نحو مؤنة ككري النهر المشترك فأصاب واحدا شيء من ذلك فكفل به رجل صحت الكفالة بالإجماع، قيل: ولكن كان ينبغي أن يذكر الرواية على هذا التقدير وقسمته بالواو ليكون عطف الخاص على العام كما في قوله عز وجل: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} [البقرة: 98] م: (البقرة الآية 98) ش: وقال المصنف م: (والرواية بأو) ش: أي بكلمة أو على تقدير أن تكون القسمة حصة من النوائب، لأن القسمة إذا كانت حصة منها فهو محل أو، أما إذا كانت هي النوائب بعينها فهو محل الواو.
م: (وقيل: هي النائبة الموظفة الراتبة) ش: أي المقاطعات الديوانية في كل شهر أو ثلاثة أشهر، كذا في " الفوائد الظهيرية "، وفسروها في شروح " الجامع الصغير " بأجرة الحارس ونحوها م: (والمراد بالنوائب) ش: أي بالنوائب المذكورة أولا م: (ما ينوبه غير راتب) ش: أي ما ينوب الشخص مما هو غير متعارف ولا موظف م: (والحكم ما بيناه) ش: يعني جواز الكفالة فيما كان بحق بالاتفاق، واختلاف المشايخ فيما كان بغير حق.
م: (ومن قال لآخر: لك علي مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة فالقول قول المدعي) ش: وهذه والتي بعدها من مسائل " الجامع الصغير " وهي قوله م: (ومن قال: ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر، وقال المقر له: هي حالة فالقول قول الضامن) ش: أي في ظاهر الرواية، وقال قاضي خان في " شرح الجامع الصغير ": قال الشافعي: القول قول المقر في الفصلين على ما يجيء م: (ووجه الفرق) ش: بين المسألتين م: (أن المقر أقر بالدين ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل) ش:(8/470)
وفي الكفالة ما أقر بالدين؛ لأنه لا دين عليه في الصحيح، إنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر، ولأن الأجل في الديون عارض حتى لا يثبت إلا بالشرط، فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار. أما الأجل في الكفالة فنوع منها حتى يثبت من غير شرط إن كان مؤجلا على الأصيل، والشافعي ألحق الثاني بالأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والمقر له ينكر ذلك، فالقول قول المنكر في الشرع. م: (وفي الكفالة ما أقر) ش: أي الكفيل م: (بالدين لأنه لا دين عليه في الصحيح) ش: من الجواب، ولهذا لو أقر بدين الطالب الكفيل فرده الكفيل لا يرتد برده فعلم أن لا دين عليه م: (إنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر) ش: والمكفول له يدعي حق المطالبة لنفسه في الحال، والضامن ينكر ذلك القول فالقول للمنكر.
فإن قيل: فعلي هذا التقدير تتعطل الكفالة عن موجبها، وهو إلزام المطالبة، فينبغي ألا يكون القول للضامن، قلنا: لا يتعطل لأن التزام المطالبة إما للحال أو في المستقبل، وقد وجد منها التزام المطالبة في المستقبل، فكانت صحيحة، إليه أشار في " الفوائد الظهيرية ".
م: (ولأن الأجل في الديون عارض) ش: هذا بيان فوق آخر ذكره لمن له زيادة استكبار في الاستقضاء، لأن الفرق الأول إقناعي جدلي لدفع الخصم في المجلس، ومبنى هذا الفرق على ما لا يثبت لشيء إلا بشرط لم يثبت له ذلك، فكان عارضا. والأجل في الديون بهذه المثابة، م: (حتى لا يثبت إلا بالشرط) ش: لأن ثمن البياعات والمهور وقيم المتلفات حالة لا يثبت الأجل إلا بالشرط م: (فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار) ش: إذا ادعى أحد المتعاقدين خيار الشرط وينكر الآخر فالقول لمنكر الشرط مع اليمين.
م: (أما الأجل في الكفالة فنوع منها) ش: أي نوع من الكفالة، يعني أن الكفالة الموجلة أحد نوعي الكفالة م: (حتى يثبت من غير شرط، إن كان مؤجلا على الأصيل) ش: لأن الأجل في الكفالة ذاتي، فإذا كان ذاتيا كان إقراره نوعا منها فلا يحكم بغيره، فكان القول قوله.
م: (والشافعي ألحق الثاني بالأول. وأبو يوسف فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني) ش: هكذا وقع في عامة النسخ وليس بصحيح، بل الصحيح عكسه، فإن الشافعي ألحق الأول بالثاني، وأبا يوسف ألحق الثاني بالأول، وذلك لأن الشافعي قال: القول للمقر في الفصلين جميعا. وبيانه أن الشافعي ألحق الإقرار بالدين، بالإقرار بالكفالة، حيث صدق المقر بالدين الموجل كما صدقنا المقر بالكفالة، وأبو يوسف ألحق الإقرار بالكفالة المؤجلة بالإقرار بالدين المؤجل حيث لم يصدق المقر فيهما جميعا.
وفي " الكافي ": ما ذكر في الهداية أن الشافعي ألحق الثاني بالأول - مشكل، لأن مذهبه على عكسه فيحتمل أن يكون له قولان، أو لفظ المصنف الشافعي: ألحق الأول بالثاني وأبو يوسف(8/471)
وأبو يوسف فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني، والفرق قد أوضحناه، قال: ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك فاستحقت لم يأخذ الكفيل، حتى يقضى له بالثمن على البائع؛ لأن بمجرد الاستحقاق لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع فلم يجب له على الأصيل رد الثمن، فلا يجب على الكفيل، بخلاف القضاء بالحرية؛ لأن البيع يبطل بها لعدم المحلية فيرجع على البائع والكفيل، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق، وموضعه أوائل الزيادات في ترتيب الأصل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني بالأول، وهكذا في شرح البزدوي الظهيري وقع الخطأ من الكاتب. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فمن الشارحين من حمل على الروايتين عن كل واحد منهما. ومنهم من حمله على الغلط، ولعله أظهر، م: (والفرق) ش: بين المسألتين م: (قد أوضحناه) ش: عند قوله: ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين ثم ادعى حقا لنفسه ... إلى آخره.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك) ش: وتفسير الدرك مر م: (فاستحقت لم يأخذ الكفيل حتى يقضى له بالثمن على البائع لأن بمجرد الاستحقاق) ش: أي القضاء بالاستحقاق والقضاء بالمبيع للمستحق م: (لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع) ش: لأن احتمال الإجازة ثابت، أي لأن احتمال إجازة المستحق البيع ثابت م: (فلم يجب له على الأصيل رد الثمن، فلا يجب على الكفيل) ش: لأن الكفالة محل للضمان عن غيره فلم يقض على الأصيل، لأنه قد يجب التحمل على الكفيل، وإنما قيد بقوله: في ظاهر الرواية احترازا عن رواية " الأمالي "، قال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع "، قال أبو يوسف في " الأمالي ": له أن يأخذ الكفيل قبل أن يقضي على البائع، وهو رواية عن أبي حنيفة، وبه قالت الأئمة الثلاثة. م: (بخلاف القضاء بالحرية؛ لأن البيع يبطل بها) ش: حيث ينتقض البيع بمجرد القضاء بها م: (لعدم المحلية) ش: أي محلية البيع، م: (فيرجع) ش: أي المشتري م: (على البائع والكفيل) ش: أي وعلى الكفيل أيضا إن شاء م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق وموضعه) ش: أي موضع هذا، م: (أوائل الزيادات في ترتيب الأصل) ش: أراد بترتيب الأصل المحلية، أي ترتيب محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه افتتح كتاب الزيادات بباب المأذون مخالفا لترتيب سائر الكتب تبركا بما أملى به أبو يوسف، فإن محمدا أخذ ما أملى أبو يوسف بابا بابا وجعله أصلا وزاد عليه من عنده ما يتم به تملك الأبواب، فكان أصل الكتاب من تصنيف أبي يوسف وزيادته من تصنيف محمد، فلذلك سماه كتاب " الزيادات ".
وكان ابتداء إملاء أبي يوسف في هذا الكتاب من أبواب المأذون، ولم يغيره محمد تبركا(8/472)
ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل، لأن هذه اللفظة مشتبهة قد تقع على الصك القديم وهو ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد وعلى حقوقه وعلى الدرك وعلى الخيار، ولكل ذلك وجه، فتعذر العمل بها، بخلاف الدرك لأنه استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا، ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
به، ثم رتبها الزعفراني على هذا الترتيب الذي عليه اليوم، والزعفراني هذا تلميذ محمد بن الحسن.
[اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة]
م: (ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل) ش: هنا ثلاث مسائل: ضمان العهدة وضمان الدرك وضمان الخلاص.
فضمان الدرك جائزة باتفاق أصحابنا، وضمان العهدة باطل عندهم بالاتفاق، وضمان الخلاص باطل عند أبي حنيفة وجائز عندهما، وأما ضمان العهدة فقد ذكر في " الجامع الصغير " أنه باطل ولم يحك خلافا، وذكر بعض مشايخنا أن عند أبي حنيفة ضمان العهدة ضمان الدرك.
وذكر الصدر الشهيد في " أدب القاضي " للخصاف: أن تفسير الخلاص والدرك والعهدة واحد عند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- وهو الرجوع بالثمن على البيع عند الاستحقاق. وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعند أبي حنيفة شرط.
وفي تفسير الصك الأصل الذي كان عند البائع يشترط أن يسلمه إليه، وهذا شرط لا يقتضيه العقد أو لأحد المتعاقدين فيه منفعة فكان باطلا والضمان به باطل أيضا، لأنه التزام شيء لا يقدر عليه، م: (لأن هذه اللفظة) ش: أي لفظة العهدة م: (مشتبهة) ش: في المراد لاشتراكها فلا يجب العمل به قبل البيان؛ لأنها م: (قد تقع) ش: أي قد تطلق م: (على الصك القديم) ش: لأنه وثيقة بمنزلة كتاب العهد فسمي عهدة لأنه م: (وهو) ش: أي الصك القديم م: (ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد) ش: لأن العهدة أخذت من العهد، والعهد والعقد سواء م: (وعلى حقوقه) ش: أي وقد تقع هذه اللفظة على حقوق العهد؛ لأنها من ثمرات العقد م: (وعلى الدرك) ش: أي وقد يقع على الحديث عهدة الرقيق ثلاثة أيام، م: (وعلى الخيار) ش: أي خيار الشرط م: (ولكل ذلك وجه) ش: يجوز الحمل به عليه فصار بهما، م: (فتعذر العمل بها) ش: قبل البيان فيبطل الضمان للجهالة.
م: (بخلاف الدرك) ش: حيث يصح ضمان الدرك م: (لأنه) ش: أي لأن ضمان الدرك، م: (استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا) ش: فيصح.
م: (ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة) ش: وبه قال أحمد في رواية واختاره القاضي(8/473)
لأنه عبارة عن تخليص المبيع وتسليمه لا محالة، وهو غير قادر عليه. وعندهما هو بمنزلة الدرك وهو تسليم المبيع أو قيمته فيصح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحنبلي م: (لأنه) ش: أي لأن ضمان الخلاص م: (عبارة عن تخليص المبيع) ش: الاستحقاق م: (وتسليمه) ش: أي وتسليم المبيع إلى المشتري م: (لا محالة وهو غير قادر عليه) ش: لأن المبيع إذا خرج حرا أو مستحقا كيف يخلصه.
م: (وعندهما) ش: أي وعند أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- م: (هو) ش: أي ضمان الخلاص، م: (بمنزلة الدرك) ش: أي بمنزلة ضمان الدرك، م: (وهو تسليم المبيع) ش: وهو أن يشترط على البائع أن المبيع إن استحق من يده يخلصه م: (أو قيمته) ش: أو أن يسلم قيمة المبيع إن عجز عن تسليم المبيع، فإذا كان كذلك م: (فيصح) ش: أي ضمان الخلاص، هذا الذي ذكره المصنف، ذكره المحبوبي في جامعه وقاضي خان.
وقال شمس الأئمة: تفسير شرط الخلاص أن يشترط على البائع أن المبيع إن استحق من يده يخلصه ويسلمه بأي طريق يقدر عليه وهذا باطل لأنه شرط لا يقدر عليه الوفاء به، إذ المستحق ربما لا يساعده عليه، ولهذا ذكر أبو زيد في شروطه أن أبا حنيفة وأبا يوسف - رحمهما الله - كانا يكتبان في الشروط: فما أدرك فلان بن فلان قبل فلان خلصه أو رد الثمن، وإن لم يذكر رد الثمن يفسد البيع لأنه يبقى الضمان بتخليص المبيع، وأنه باطل، وعلم من هذا أن الخلاف فيما إذا ذكر ضمان الخلاص مطلقا. أما إذا ذكر بخلاص المبيع أو رد الثمن يجوز بالإجماع، والله أعلم.(8/474)
باب كفالة الرجلين وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه، كما إذا اشتريا عبدا بألف درهم، وكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة؛ لأن كل واحد منهما في النصف أصيل، وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة؛ لأن الأول دين والثاني مطالبة، ثم هو تابع للأول فيقع عن الأول، وفي الزيادة لا معارضة فيقع عن الكفالة ولأنه لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كفالة الرجلين]
[كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه]
م: (باب كفالة الرجلين) ش: أي هذا باب في بيان حكم كفالة الرجلين، ولما ذكر كفالة الواحد عقبه بكفالة الاثنين، إذ الاثنان بعد الواحد وجودا، وكذا ذكرا.
م: (وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه) ش: أي لرب الدين، وهذا لفظ القدوري في "مختصره" وذكر المصنف نظير الدين الكائن على اثنين من " الجامع الصغير " بقوله م: (كما إذا اشتريا) ش: أي الاثنان م: (عبدا بألف درهم وكفل كل واحد منهما عن صاحبه) ش: لما ذكر هذا من " الجامع " أتم لفظ القدوري بقوله م: (فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة) ش: هذا جواب المسألتين، ثم عللهما بقوله م: (لأن كل واحد منهما في النصف أصيل، وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة؛ لأن الأول دين) ش: الأول هو الأصالة وهو دين، لأنه أداء بحقيقة الدين.
م: (الثاني) ش: هو حق الكفالة م: (مطالبة) ش: لأن ما عليه بطريق الكفالة من ثمرات الدين وهو المطالبة م: (ثم هو) ش: أي الثاني وهو المطالبة بالدين بالكفالة م: (تابع للأول) ش: أي الدين، وفي " المحيط ": الدين أقوى من المطالبة، ألا ترى أن الطالب يمكن إخراجه عن المطالبة ولا يملك في حق ما لزم الأصيل، فلما لم يستويا في القوة لم تثبت المعارضة م: (فيقع عن الأول) ش: أي عن حق الأصالة لأنه أقوى، لأن الأصل فرق التبع.
م: (وفي الزيادة) ش: أي على النصف م: (لا معارضة) ش: لأنه لم يبق معارضة الأصل م: (فيقع عن الكفالة) ش: فيرجع فيما أدى فيما وراءه النصف م: (ولأنه) ش: دليل آخر على ذلك أورده بقياس الخلف، فإنه جعل نقيض المدعي وهو الرجوع على صاحبه مستلزما لمحال وهو رجوع صاحبه المستلزم للدور فإنه قال م: (لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع عليه) ش: لكن ليس لصاحبه أن يرجع عليه لأنه يؤدي إلى الدور، فلم يرجع في النصف عن صاحبه ليرجع عليه.(8/475)
لأن أداء نائبه كأدائه فيؤدي إلى الدور، وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه قليلا كان أو كثيرا. ومعنى المسألة في الصحيح أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك، والمطالبة متعددة فيجتمع الكفالتان على ما مر، وموجبها التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل كما تصح الكفالة عن الأصيل، وكما تصح الحوالة من المحتال عليه. وإذا عرف هذا فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما، إذ الكل كفالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقوله م: (لأن أداء نائبه كأدائه) ش: بيان للملازمة، وتقريره أن صاحب المؤدي يقول له: أنت أديت عني بأمري فيكون ذلك كأدائه، ولو أديت بنفسي كان لي أن أجعل المؤدي عنك فإن رجعت علي وأنا كفيل عنك قائما أجعله عنك فأرجع عليك، لأن ذلك الذي أديته عني فهو كأدائي في التقدير.
ولو أديت حقيقة رجعت عليك ففي تقدير أدائي كذلك، والشريك الآخر يقول مثل ما قال، م: (فيؤدي إلى الدور) ش: ولم يكن في الرجوع فائدة فجعلنا المؤدي عن نصيبه خاصة إلى تمام النصف لينقطع الدور، بخلاف الزيادة على النصف، فإنه لو رجع على شريكه بذلك لم يكن لشريكه أن يرجع عليه، إذ ليس على شريك بحكم الأصالة إلا النصف، فيفيد الرجوع.
م: (وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه قليلا كان أو كثيرا، ومعنى المسألة في الصحيح) ش: قال تاج الشريعة: قوله في الصحيح، أي كفل كل واحد منهما مجموع الدين لرب الدين ثم صار كل واحد كفيلا عن صاحبه بجميع المال. وقال الأكمل: وإنما قال في الصحيح لتتأتى الفروع المبينة على ذلك، فإنه قال على الأصيل.... إلى آخره، على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقال الكاكي: إنما قال في الصحيح لأنه لو جعل كل واحد منهما كفيلا بالنصف لما صح النصف الذي يأتي م: (أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك والمطالبة متعددة) ش: لأن كل واحد من الكفيلين مطالب بالكل من جهة الأصيل، ومطالبة بالكل أيضا من جهة الكفيل م: (فيجتمع الكفالتان) ش: فتعددت المطالبتان لتعدد الكفالتين م: (على ما مر) ش: إشارة إلى أن الكفالة التوثق، وعند اجتماع الكفالتين يزداد التوثق م: (وموجبها) ش: أي موجب الكفالة، م: (التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل، كما تصح الكفالة عن الأصيل، وكما تصح الحوالة من المحتال عليه) ش: أي كما تصح حوالة المحتال عليه بما جعل ما عليه على آخر، والجامع بينهما التزام ما وجب.
م: (وإذا عرف هذا) ش: أي الذي ذكرناه م: (فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما إذ الكل كفالة)(8/476)
فلا ترجيح للبعض على البعض، بخلاف ما تقدم فيرجع على شريكه بنصفه، ولا يؤدي إلى الدور؛ لأن قضيته الاستواء، وقد حصل برجوع أحدهما بنصف ما أدى، فلا ينقض برجوع الآخر عليه، بخلاف ما تقدم، ثم يرجعان على الأصيل؛ لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه، وإن شاء رجع بالجميع على المكفول عنه لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره. قال: وإذا أبرأ رب المال أحدهما أخذ الآخر بالجميع؛ لأن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل، فبقي المال كله على الأصيل، والآخر كفيل عنه بكله على ما بيناه، ولهذا يأخذه به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: فيقع شائعا م: (فلا ترجيح للبعض على البعض) ش: لأن الكل كفالة م: (بخلاف ما تقدم) ش: أي في المسألة الأولى حيث لا يرجع على صاحبه ما لم يزد على النصف، لأن أداء النصف كان بحق الأصالة، والنصف الآخر بحق الكفالة م: (فيرجع على شريكه بنصفه ولا يؤدي إلى الدور، لأن قضيته الاستواء) ش: الاستواء بهما في العلة وهي ضمان الكفالة، فلما كان كذلك كان لمن أدى ولاية الرجوع على صاحبه بنصف ما أدى، لأنه مستو لصاحبه في التزام بجهة، فوجب أن يستويا في العزم بسببه.
م: (وقد حصل) ش: أي الاستواء م: (برجوع أحدهما بنصف ما أدى فلا ينقض برجوع الآخر عليه) ش: لأنه لو رجع الشريك على هذا المؤدي ما بقيت المساواة م: (بخلاف ما تقدم) ش: لأن كل واحد منهما لم يلتزم جميع المال بحكم الكفالة بل التزم نصف المال بشرائه بنفسه بكفالة ولو لم يكن عن شريكه وجعل المؤدي عن الكفالة يؤدي إلى الدور كما تقدم.
م: (ثم يرجعان على الأصيل لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه) ش: وهو صاحبه الذي كفل عنه م: (وإن شاء رجع) ش: عطف على قوله رجع شريكه بنصفه قليلا كان أو كثيرا، أي وإن شاء من أدى فيهما شيئا رجع م: (بالجميع) ش: أي بجميع ما أدى م: (على المكفول عنه لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره) ش: ولو كان أحدهما كفيلا عن المكفول فقط لم يكن له رجوع على الأصيل.
م: (قال) ش: قيل: الظاهر أن قائله محمد. قلت: الظاهر أن قائله المصنف لأن المسألة ما ذكرها إلا شرح الجامع الصغير، وقال الأترازي: قالوا في شروح الجامع الصغير م: (وإذا أبرأ رب المال أحدهما) ش: أي أحد الكفيلين م: (أخذ الآخر) ش: أي الكفيل الآخر م: (بالجميع) ش: أي بجميع الدين م: (لأن إبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل، فبقي المال كله على الأصيل، والآخر كفيل عنه بكله) ش: أي بكل الدين فيطالب بذلك م: (على ما بيناه) ش: إشارة إلى قوله: وبالكل عن الشريك.
م: (ولهذا) ش: أي ولأجل بقاء المال كله على الأصيل م: (يأخذه به) ش: أي يأخذ رب(8/477)
قال: وإذا افترق المتفاوضان فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين، لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف؛ لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين. قال: وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه. ووجهه: أن هذا العقد جائز استحسانا، وطريقه: أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه، فيكون عتقهما معلقا بأدائه ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما، ولو رجع بالكل لا تتحقق المساواة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المال الكفيل الذي لم يبرأ به بجميع الدين.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير " م: وإذا افترق المتفاوضان) ش: أي شريكا المفاوضة وعليهما دين م: (فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين، لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة) ش: أي المفاوضة شركة عامة تُبتنى على التوكيل من كل واحد منهما صاحبه فيما كان من أعمال التجارة، وعلى الكفالة بما كان من ضمان التجارة م: (ولا يرجع أحدهما) ش: أي أحد المتفاوضين م: (على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين) ش: في مسألة أول الباب.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة) ش: بأن قال: كاتبتكما على ألف إلى سنة قيد بالكفالة الواحدة، لأن المولى إذا كاتب كل واحد منهما على حدة وكفل أحدهما عن الآخر لا يصح ذلك قياسا واستحسانا، إذ الكفالة ببدل الكتابة لا تصح بإجماع الأئمة الأربعة، أما لو كانت الكتابة واحدة تصح استحسانا عندنا ولا يصح قياسا، وبه قالت الأئمة الثلاثة، م: (وكل واحد منهما) ش: أي من العبدين م: (كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه ووجهه) ش: أي وجه هذا المذكور، م: (أن هذا العقد جائز استحسانا) ش: لا قياسا لأنه باطل قياسا؛ لأن الكفالة تبرع، والمكاتب لا يملك التبرع، م: (وطريقه) ش: أي طريق جوازه استحسانا م: (أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه، فيكون عتقهما معلقا بأدائه) ش: أي بأداء كل واحد منهما كأنه قال لكل واحد منهما: إن أديت الألف فأنت حر، م: (ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب) ش: أي في كتاب المكاتب، م: (إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك) ش: أي ما ذكره، م: (فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما) ش: في العلة وهي أن كل البدل مضمون على أحدهما بعقد الكتابة، ولهذا لا يعتق واحد منهما ما لم يؤد جميع البدل.
م: (ولو رجع بالكل) ش: أي بكل الألف الذي هو البدل م: (لا تتحقق المساواة) ش: وكذا إذا(8/478)
قال: ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق لمصادفته ملكه، وبرئ عن النصف لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق، وما بقي وسيلة فيسقط ويبقى النصف على الآخر، لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما، وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان، وإذا جاء العتق استغنى عنه فاعتبر مقابلا برقبتهما، فلهذا يتنصف، وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء المعتق بالكفالة وصاحبه بالأصالة، فإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي، لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع على المعتق بشيء، لأنه أدى عن نفسه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يرجع بشيء، م: (قال: ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق لمصادفته ملكه) ش: أي لمصادفة العتق المولى م: (وبرئ عن النصف) ش: أي وبرئ العتق عن نصف البدل م: (لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق، وما بقي وسيلة فيسقط) ش: أي النصف م: (ويبقى النصف على الآخر) ش: أي يبقى النصف الآخر على العبد الآخر م: (لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما) ش: حتى يكون موزعا منقسما عليهما م: (وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان) ش: بأن يجعل كأن كل البدل على كل واحد منهما بحكم الأصالة لا الكفالة، فكان ضروريا لا يتعدى غير موضعهما.
م: (وإذا جاء العتق استغنى عنه) ش: أي عن الاحتمال، م: (فاعتبر مقابلا برقبتهما، فلهذا يتنصف) ش: وعورض بأنه إذا كان مقابلا بهما كان على كل واحد منهما بعضه فيجب أن لا يصح الرجوع ما لم يزد المؤدي على النصف لئلا يلزم الدور كما مر.
وأجيب: بأن الرجوع بنصف ما أدى إنما هو للتحرز عن تفرق الصفقة على المولى، لأن المؤدي لو وقع عن المؤدي على الخصوص برئ بأدائه عن نصيبه وعتق، لأن المكاتب إذا أدى ما عليه من بدل الكتاب عتق والمولى شرط عليهما أن يؤديا جميعا ويعتقا جميعا، فكان كالتخصيص إضرار للمولى بتفريق الصفقة، فأوقعنا المؤدى عنهما جميعا، وإذا بقي النصف على الآخر.
م: (وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء) ش: أي العبدين المكاتبين م: (المعتق) ش: بفتح التاء أي يأخذ المعتق م: (بالكفالة وصاحبه بالأصالة فإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع) ش: أي الآخر م: (على المعتق بشيء، لأنه أدى عن نفسه، والله أعلم) ش: قال الأترازي: ولنا فيه نظر، لأن مطالبة المولى المعتق بحكم الكفالة، والكفالة ببدل الكتابة لا تجوز، وإذا سقط النصف بالعتق سقط مطالبة بالأصالة وبقي(8/479)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المطالبة بالكفالة وهي باطلة، فينبغي أن لا يطالبه المعتق أصلا، انتهى.
والجواب عنه: أن الكفالة ببدل الكتابة ابتداء لا تجوز، ولهذا جعلنا البدل على كل واحد منهما تصحيحا للكتابة على هذا الوجه بقدر الإمكان، أما بعد عتق أحدهما صار كفيلا عن العتق ببدل الكتابة بقاء، فيجوز ذلك بقاء، وإن لم يجز ابتداء، والله أعلم.(8/480)
باب كفالة العبد وعنه ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال؛ لأن المال حال عليه لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه لا يطالب به لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض بتعلقه به، والكفيل غير معسر، فصار كما إذا كفل عن غائب أو مفلس، بخلاف الدين المؤجل لأنه متأخر بمؤخر، ثم إذا أدى رجع على العبد بعد العتق؛ لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق، فكذا الكفيل لقيامه مقامه. قال: ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كفالة العبد وعنه]
[ضمن عن عبد مالا]
م: (باب كفالة العبد وعنه) ش: أي هذا باب في بيان كفالة العبد عن الآخر وكفالة الآخر عن العبد، وأخر هذا الباب لأن الحر مقدم على العبد لشرفه.
م: (ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق) ش: لا يجب عليه صفة لقوله: مالا لا يجب، جواب المسألة، إذ هي جملة فعلية وقعت صفة للنكرة، وجواب المسألة هو قوله فهو حال، صورة المسألة في " الجامع الصغير ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في العبد الذي يستهلك المال الذي لا يجب عليه حتى يعتق فضمنه رجل ولم يسم حالا ولا غير حال، وهو معنى قوله: م: (ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال) ش: أي الضمان على الكفيل حال م: (لأن المال حال عليه) ش: أي على العبد م: (لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه) ش: أي أن العبد م: (لا يطالب به لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض) ش: أي المولي م: (بتعلقه به) ش: أي بتعلق الدين بالعبد.
م: (والكفيل غير معسر فضار كما إذا كفل عن غائب) ش: فإن الكفيل يؤخذ به في الحال إن عجز الطالب عن مطالبة الأصيل م: (أو مفلس) ش: بتشديد اللام المفتوحة، أي فصار أيضا كما إذا كفل عن مفلس فإنه يؤاخذ به في الحال.
م: (بخلاف الدين المؤجل) ش: حيث يؤخذ الكفيل به بعد الأجل م: (لأنه) ش: أي لأن الدين م: (متأخر بمؤخر) ش: بكسر الخاء المشددة، أراد أن الدين المؤجل إذا كفل بواحد لا يطالب قبل حلول الأجل، لأن الدين ثمة أخر بمؤخر وقد التزم الكفيل ذلك فلزمه كذلك مؤجلا م: (ثم إذا أدى) ش: أي الكفيل عن العبد المكفول م: (رجع على العبد بعد العتق؛ لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق فكذا الكفيل) ش: لا يرجع عليه إلا بعد العتق م: (لقيامه مقامه) ش: أي لقيام الكفيل مقام الطالب في المطالبة.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل(8/481)
بنفسه فمات العبد برئ الكفيل لبراءة الأصيل، كما إذا كان المكفول بنفسه حرا. قال: فإن ادعى رقبة العبد فكفل به رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته؛ لأن على المولى ردها على وجه تخلفها قيمتها، وقد التزم الكفيل ذلك، وبعد الموت تبقي القيمة واجبة على الأصيل، فكذا على الكفيل بخلاف الأولى. قال: وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره فعتق فأداه، لو كان المولى كفيلا عنه فأداه بعد العتق لم يرجع واحد منهما على صاحبه. وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بنفسه فمات العبد برئ الكفيل لبراءة الأصيل) ش: لأنه كفل عن العبد بتسليم نفسه فسقط التسليم عن الأصيل بموته فيسقط عن الكفيل أيضا، لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل م: (كما إذا كان المكفول بنفسه حرا) ش: حيث يبرأ الكفيل ببراءة الأصيل هنا أيضا، والحاصل أن الكفالة بالنفس لا تتفاوت بين ما إذا كان المكفول بنفسه حرا أو عبد. وقال الكاكي: وهذا الحكم لا يختلف إلا أنه ذكر العبد هاهنا ليبني المسألة الثانية عليها ويفرق بينهما م: (قال: فإن ادعى رقبة العبد فكفل به) ش: أي بالعبد م: (رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته) ش: قبل إثبات ذلك بالبينة لأنه لو ثبت ملك المدعي بإقرار ذي اليد أو بنكوله عند التحليف وقد مات العبد في يد ذي اليد، قضى بقيمة العبد على المدعى عليه ولا يلزم على الكفيل شيء، لأن إقراره غير حجة على الكفيل إلا إذا أقر الكفيل بما أقر به الأصيل.
وقال التمرتاشي: لا يصدق ذو اليد في موت العبد ويحبس هو والكفيل، فإن طال الحبس ضمناه القيمة، وكذا الوديعة المجحودة م: (لأن على المولى ردها) ش: أي رد الرقبة على ذي اليد م: (على وجه تخلفها قيمتها) ش: أي تخلف نفس العبد قيمة نفس العبد عند العجز عن ردها م: (وقد التزم الكفيل ذلك) ش: لأن الكفالة تحمل الضمان عن المغير م: (وبعد الموت تبقي القيمة واجبة على الأصيل فكذا على الكفيل) ش: لأن ضمان القيمة وجب على الأصيل ووجب على الكفيل أيضا؛ لأنه التزم المطالبة بما على الأصيل، وقد انتقل الضمان في حق الأصيل إلى القيمة فينتقل في حق الكفيل أيضا م: (بخلاف الأولى) ش: أي المسألة الأولى حيث لم يجب الضمان على المولى فلا يجب على الكفيل أيضا، وفي بعض النسخ بخلاف الأول، قال الأكمل: أي بخلاف الضمان الأول لأن محل ما التزمه وهو العبد قد مات، ويسقط عن العبد تسليم نفسه، فكذا عن كفيله.
م: (قال) ش: أي محمد في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره) ش: قيد بالأمر، إذ كفالة العبد بغير إذن سيده لا يجوز بإجماع الفقهاء، إلا عند الشافعي في وجه، وبإذن سيده يجوز إلا في المأذون المستغرق بالدين، لا تجوز الكفالة، وبه قال مالك م: (فعتق فأداه لو كان المولى كفيلا عنه فأداه) ش: أي المال المكفول به م: (بعد العتق) ش: أي بعد أن أعتقه مولاه م: (لم يرجع) ش: جواب المسألتين م: (واحد منهما) ش: أي من المولى والعبد م: (على صاحبه. وقال(8/482)
زفر: يرجع، ومعنى الوجه الأول أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال على المولى إذا كان بأمره، أما كفالته عن العبد فتصح على كل حال. له أنه تحقق الموجب للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال. ولنا: أنها وقعت غير موجبة للرجوع؛ لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا، وكذا العبد على مولاه فلا تنقلب موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه. ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به أو عبد؛ لأنه دين ثبت مع المنافي فلا يظهر في حق صحة الكفالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زفر: يرجع) ش: أي كل واحد منهما م: (ومعنى الوجه الأول) ش: وهو كفالة العبد عن مولاه بأمره م: (أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال عن المولى إذا كان بأمره) ش: وفي بعض النسخ أن يكون على العبد دين، وهذا كان مصححا بخط الثقات وهو الأصح، لأنه لو كان على العبد دين مستغرق لم تصح كفالة لحق الغرماء، وإن كان بإذن السيد م: (أما كفالته) ش: أي كفالة المولى م: (عن العبد فتصح على كل حال) ش: يعني سواء كانت الكفالة بالمال أو بالنفس أو على العبد دين أو لا.
م: (له) ش: أي لزفر، وبه قال الشافعي م: (أنه) ش: أي أن الشأن م: (تحقق الموجب) ش: بكسر الجيم م: (للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال) ش: يعني امتناع الكفالة كان المانع الرق، لأن العبد لا يستوجب على مولاه دينا وقد زال المانع فيرجع.
م: (ولنا أنها) ش: أي أن الكفالة م: (وقعت) ش: حال كونها م: (غير موجبة للرجوع، لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا) ش: أي لا يستحق م: (وكذا العبد) ش: لا يستوجب م: (على مولاه فلا تنقلب) ش: أي الكفالة م: (موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه) ش: أي الغير أو جاز ذلك لا يرجع، فكذا هذا.
م: (ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به) ش: أي بمال الكتابة م: (أو عبد) ش: أي أبو العبد تكفل به م: (لأنه دين) ش: أي لأن مال الكتابة دين غير مستقر، لأنه م: (ثبت مع المنافي) ش: وهو الرق م: (فلا يظهر) ش: أي دين بدل الكتابة م: (في حق صحة الكفالة) ش: وبه قال أكثر أهل العلم. وعن أحمد في رواية: تصح؛ لأنه دين كسائر الديون، والأصح عنده أيضا لأن الكفالة به غير جائزة.
وفي " النهاية ": التخصيص بمال الكتابة غير مفيد، فإنه كما لا تجوز الكفالة بمال الكتابة عن المكاتب للمولى لا تجوز بدين آخر للمولى سوى مال الكتابة على المكاتب، ذكره في " المبسوط ". ولو كان للمكاتب دين على مولاه ولم يكن ذلك الدين من جنس الكفالة فكفل به رجل للمكاتب عن المولي صح، لأن الأصيل مطلوب بهذا المال مطلقا فتصح الكفالة.(8/483)
ولأنه لو عجز نفسه سقط، ولا يمكن إثباته على هذا الوجه في ذمة الكفيل، وإثباته مطلقا ينافي معنى الضم، لأن من شرطه الاتحاد. وبدل السعاية كمال الكتابة عند أبي حنيفة، لأنه كالمكاتب عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما العبد التاجر إذا ادَّان مولاه دينا ولا دين على العبد وأخذ منه كفيلا بذلك فالكفالة باطلة وإن كان العبد مديونا صحت الكفالة، لأن كسبه حق الغرماء فكان الدين واجبا في ذمته كما في ذمة غيره فصحت الكفالة، والكفالة بالنفس مثل ذلك، فإن العبد إن كان لا دين عليه لا يصح، وإن كان عليه دين صح.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر على عدم استقرار مال الكتابة، أي ولأن المكاتب م: (لو عجز نفسه سقط) ش: أي بدل الكتاب م: (ولا يمكن إثباته على الوجه في ذمة الكفيل) ش: دليل آخر على المدعي وهو عدم صحة الكفالة ببدل الكتابة، ويدل على هذا الوجه، أي إثبات عقد الكفالة مع سقوط بدل الكتابة بتعجيز النفس في ذمة الكفيل لا يمكن م: (وإثباته مطلقا) ش: أي وإثبات دين الكتابة مطلقا م: (ينافي معنى الضم) ش: الذي هو ركن الكفالة.
وفي " المبسوط ": ولو أثبتناه مطلقا على الكفيل كنا أوجبناه في ذمة الكفيل أكثر ما هو واجب في ذمة الأصيل، وذا لا يجوز إذ يجب على الكفيل بالصفة التي تجب على الأصيل تحقيقا لمعنى الضم م: (لأن من شرطه) ش: أي من شرط الضم م: (الاتحاد) ش: في صفة الواجب بالكفالة تحقيقا لمعنى الضم والمطلق غير المقيد.
م: (وبدل السعاية كمال الكتابة عند أبي حنيفة) ش: يعني أن الكفالة ببدل الكتابة لا تجوز، فكذلك لا تجوز ببدل السعاية م: (لأنه) ش: أي لأن المستسعى، م: (كالمكاتب عنده) ش: أي عند أبي حنيفة في عدم قبول الشهادة وتزوج المرأتين والحدود وغيرها، لكن على اعتبار النكتة الأولى، وهو قوله: لأنه ثبت مع المنافي ... إلى آخره، لا على اعتبار النكتة الثانية؛ لأن المستسعى لا يسقط عنه بدل السعاية بتعجيز النفس، والله أعلم.(8/484)
كتاب الحوالة قال: وهي جائزة بالديون،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الحوالة]
[تعريف الحوالة]
م: (كتاب الحوالة) ش: أي هذا الكتاب في بيان أحكام الحوالة، وجه المناسبة بين الحوالة والكفالة ظاهرة لما في كل منهما التزام ما على الأصيل، ولهذا يجوز استعارة إحداهما للأخرى، حتى كانت الحوالة بشرط عدم براءة الأصيل كفالة، والكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة اعتبارا للمعنى. وأما وجه تأخير الحوالة لأنها مبرئة عندنا، والكفالة غير مبرئة، والأصل عدم البراءة بعد ثبوت المطالبة، والحوالة في اللغة النقل.
وفي " المغرب " أصل تركيب الحوالة يدل على الزوال والنقل، ومنه التحويل وهو نقل الشيء من محل إلى محل، يقال أحلت زيدا بما على رجل فاحتال، أي قبل الحوالة، وهنا أربعة أشياء: المحيل وهو الذي عليه الدين، والمحتال له وهو الدائن، والمحتال عليه وهو الذي قبل الحوالة، والمحتال به وهو المال.
وأصل محتال محتول بكسر الواو في الفاعل وبفتحها في المفعول، وفي اصطلاح الفقهاء: تحويل الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحتال عليه على سبيل التوثق به.
واختلف المتأخرون من مشايخنا أن الحوالة توجب البراءة عن الديون والمطالبة جميعا، أو عن المطالبة دون الدين، فقال بعضهم: عن المطالبة والدين جميعا، حتى إن المحتال له لو أبرأ المحتال عليه عن دين الحوالة أو وهب منه صح. ولو أبرأ المحيل أو وهب منه لم يصح، ولو بقي الدين على المحيل صح.
وقال بعضهم: توجب البراءة عن المطالبة دون الدين، حتى إن المحتال له متى أبرأ المحتال عليه عن الدين فالمحتال عليه لا يرجع على المحيل بشيء وإن كانت الحوالة بأمر المحيل. ولو وهب الدين من المحتال عليه رجع إن لم يكن للمحيل عليه دين كالجواب في الكفيل.
وكذا لو أبرأ المحتال عليه لا يرتد برده، ولو وهب يرتد برده كالجواب في الكفيل.
ولو كان على المحتال عليه المطالبة والدين جميعا كان الإبراء والهبة في حقه سواء، فيرتد برده كما في حق الأصيل. ولو وكل المحتال له المحيل بقبض ما على المحتال عليه لا يصح، ولو لم يكن عليه الدين صح.
م: (قال: وهي) ش: أي الحوالة م: (جائزة بالديون) ش: لأنها مأخوذة من التحويل وتحويل(8/485)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أحيل على مليء فليتبع» ولأنه التزم ما يقدر على تسليمه فتصبح كالكفالة، وإنما اختص بالديون لأنها تنبئ عن النقل والتحويل، والتحويل في الدين لا في العين. قال: وتصح الحوالة برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه. أما المحتال فلأن الدين حقه، وهو الذي ينتقل بها، والذمم متفاوتة فلا بد من رضاه، وأما المحتال عليه فلأنه يلزمه الدين ولا لزوم بدون التزامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الدين من ذمة إلى ذمة ممكن، فأما الأعيان فالحق المتعلق بها التسليم وذلك لا يكون تحويله إلى غيره، فلهذا لم تصح الكفالة فيها، م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «من أحيل على مليء فليتبع» ش: الحديث رواه أحمد في مسنده عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، ومن أحيل على مليء فليحتل» .
ورواه البخاري ومسلم عن أبي الزناد به بلفظ: «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» ، وبلفظ المصنف رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" مع زيادة في أوله عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، ومن أحيل على مليء فليتبع» . وكذلك رواه الترمذي، ومعناه: إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل، وكذا فسره الترمذي.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن المحتال عليه م: (التزم ما يقدر على تسليمه) ش: أي على إيفاء ما التزمه م: (فتصح كالكفالة) ش: لأن كل واحد منهما التزم بما على الأصيل فيصح دفعا للحاجة م: (وإنما اختص) ش: أي عقد الحوالة أو الحوالة باعتبار التحويل، م: (بالديون لأنها) ش: أي لأن الحوالة م: (تنبئ عن النقل والتحويل، والتحويل) ش: الشرعي م: (في الدين لا في العين) ش: في التحويل في العين الحسي.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وتصح الحوالة برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه، أما المحتال) ش: وهو الدائن م: (فلأن الدين حقه وهو الذي ينتقل بها) ش: أي الدين الذي ينتقل بالحوالة م: (والذمم متفاوتة) ش: في المطالبة م: (فلا بد من رضاه) ش: أي رضا المحتال له، ولا خلاف في اشتراط رضاه لأهل العلم.
م: (وأما المحتال عليه) ش: أي وأما رضا المحتال عليه م: (فلأنه يلزمه الدين ولا لزوم بدون التزامه) ش: وبه قال الشافعي في وجه، وقيل: إنه منصوص في الإمام، وأصحهما عنده أنه لا حاجة إلى رضاه إذا كان عليه دين للمحيل، وبه قال مالك وأحمد، لأنه محل التصرف فلا(8/486)
وأما المحيل فالحوالة تصح بدون رضاه، ذكره في الزيادات؛ لأن التزام الدين من المحتال عليه تصرف في حق نفسه، وهو لا يتضرر به، بل فيه نفعه؛ لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره. قال: وإذا تمت الحوالة برئ المحيل من الدين بالقبول. وقال زفر: لا يبرأ اعتبارا بالكفالة؛ إذ كل واحد منهما عقد توثق. ولنا أن الحوالة: النقل لغة، ومنه حوالة الغراس، والدين متى انتقل عن الذمة لا يبقى فيها، أما الكفالة فللضم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يشترط رضاه كما لو باع عبدا لا يشترط رضا العبد. وأما إذا لم يكن للمحيل عليه دين فيشترط رضاه بالإجماع.
م: (وأما المحيل) ش: أي المديون م: (فالحوالة تصح بدون رضاه، ذكره في الزيادات) ش: والقدوري شرط رضاه كما نقل المصنف عنه بقوله: ويصح برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه، قيد بشرط رضا الثلاثة. قال الأكمل: عسى يعلل القدوري بأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين فلا بد من رضاهم.
ثم قال: ولعل موضع ما ذكر أن يكون المحيل على المحتال عليه دين بقدر ما يقبل الحوالة، فإنها حينئذ تكون إسقاط مطالبة المحيل على المحتال عليه فلا تصح إلا برضاه، م: (لأن التزام الدين من المحتال عليه تصرف في حق نفسه، وهو) ش: أي المحيل وهو المديون، م: (لا يتضرر به) ش: أي بتصرف المحتال عليه في حق نفسه م: (بل فيه نفعه) ش: أي نفع المحيل م: (لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره) ش: هذا فائدة عدم اشتراط رضا المحيل أنه إذا كان له عليه دين لا يرجع المحتال عليه بما أدى، بل يتقاصان.
م: (قال) ش: أي القدوري م: وإذا تمت الحوالة) ش: بقبول المحتال له والمحتال عليه والمحيل م: (برئ المحيل من الدين بالقبول) ش: ولا يرجع الطالب بالدين عليه أبدا إلا بالتوى، وهذا عند عامة الفقهاء. وعن الحسن: أنه لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه، م: (وقال زفر: لا يبرأ اعتبارا بالكفالة، إذ كل واحد منهما عقد توثق) ش: أي لأن كل واحد من الحوالة والكفالة عقد توثق بحق الكفالة.
م: (ولنا أن الحوالة النقل لغة) ش: أي معناها من حيث اللغة بدل كما مر، والكفالة الضم لغة، ويختص كل اسم بموجب معنى ذلك الاسم، م: (ومنه حوالة الغراس) ش: جمع غرس بالفتح. وفي " العباب ": الغرس الشجر الذي يغرس، والجمع غراس وأغراس، م: (والدين متى انتقل عن الذمة لا يبقى فيها) ش: أي في الذمة، وتبقى الذمة الأولى فارغة، لأنك إذا حولت الشيء من موضع إلى موضع بقي مكان الأول فارغا لا محالة.
م: (أما الكفالة فللضم) ش: لأنها مشتقة من الكفل وهو ضم الشيء إلى الشيء، وضم(8/487)
والأحكام الشرعية على وفاق المعاني اللغوية، والتوثق باختيار الأملأ والأحسن في القضاء، وإنما يجبر على القبول إذا فقد المحيل؛ لأنه يحتمل عود المطالبة إليه بالتوى فلم يكن متبرعا، قال: ولا يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوي حقه، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرجع وإن توى؛ لأن البراءة قد حصلت مطلقة فلا يعود إلا بسبب جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشيء إلى الشيء لا يوجب فراغ الأول إلا أن يكون بشرط براءة الأصيل فتصير حوالة، لأنها في معنى الحوالة م: (والأحكام الشرعية على وفاق المعاني اللغوية) ش: يعني أن العمل بمعاني اللغات واجب في الأحكام الشرعية، فلما كان كذلك قلنا: إن الكفالة هي الضم لغة وهو لا يقتضي البراءة، والحوالة والنقل وهو يقتضي البراءة. واعترض بالحوالة بغير أمر المحيل، فإنها حوالة صحيحة كما مر ولا نقل فيها ولا تحويل، وهذا نقض إجمالي.
والجواب: أنا لا نسلم أن لا نقل فيها، فإنه بسداد الدين ظاهر متحقق، ولهذا لا يبقي على المحيل شيء.
م: (والتوثق) ش: جواب عن قول زفر أن الحوالة ليست مبرئة لأنها للتوثق. وتقرير الجواب: أن معنى التوثق ليس كما ذكره، بل معناه م: (باختيار الأملأ) ش: أي الأقدر على الإيفاء م: (والأحسن في القضاء) ش: حتى لا يماطل في قضاء الدين ويؤديه أجدر وأرجح مما كان، وهذا لا يدل على أن الحوالة ليست بمبرئة م: (وإنما يجبر على القبول) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن في الحوالة لو كانت نقل كما أخبر الطالب المحيل إذا نقد المحيل لأنه حينئذ يكون متبرعا في قضاء الدين، والمتبرع لو قضى دين غيره لا يجبر الدائن على القبول، وتقرير الجواب أن يقال: إنما يجبر المحتال له على القبول، م: (إذا فقد المحيل، لأنه يحتمل عود المطالبة إليه) ش: أي إلى الدائن م: (بالتوى) ش: وسيجيء معناه عن قريب، لأنه إنما ينتقل إلى ذمة أخرى بشرط السلامة، فإذا توى يرجع، م: (فلم يكن) ش: أي المحيل م: (متبرعا) ش: يعني في القضاء.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ولم يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوي حقه) ش: هذا عطف على قوله برئ المحيل، يعني إذا تمت الحوالة بالقبول يرى المحيل ولم يرجع المحتال على المحيل بشيء إلا أن يتوى حقه على ما يأتي في معنى التوى، م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يرجع وإن توى) ش: بموت أو إفلاس أو غير ذلك، وبه قال أحمد والليث وأبو عبيد وابن المنذر.
وعن أحمد: إذا كان المحتال عليه مفلسا ولم يعلم المطالب بذلك فله الرجوع إلا أن يرضى به بعد العلم، وبه قال مالك، م: (لأن البراءة قد حصلت مطلقة) ش: أي لأن البراءة للمحيل قد حصلت مطلقة عن قيد الرجوع على المحيل عند التوى، م: (فلا يعود إلا بسبب جديد) ش: كما في(8/488)
ولنا: أنها مقيدة بسلامة حقه له إذ هو المقصود، أو تفسخ الحوالة لفواته لأنه قابل للفسخ، فصار كوصف السلامة في المبيع. قال: والتوى عند أبي حنيفة أحد الأمرين، وهو: إما أن يجحد الحوالة ويحلف، ولا بينة له عليه، أو يموت مفلسا؛ لأن العجز عن الوصول يتحقق بكل واحد منهما، وهو التوى في الحقيقة. وقالا هذان الوجهان، ووجه ثالث: وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه حال حياته، وهذا الاختلاف بناء على أن الإفلاس لا يتحقق بحكم القاضي عنده خلافا لهما؛ لأن المال غاد ورائح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الإبراء. وقال تاج الشريعة: قوله إلا بسبب جديد وذلك أن يحيل المحتال عليه المحتال على المحيل.
م: (ولنا أنها) ش: أي البراءة م: (مقيدة بسلامة حقه له) ش: يعني أنها مقيدة بشرط السلامة، يعني وإن كانت مطلقة لفظا بدلالة الحال م: (إذ هو المقصود) ش: أي وصول الحق إلى المحتال له سالما هو المقصود من الحوالة م: (أو تفسخ الحوالة لفواته) ش: أي لفوات المقصود م: (لأنه) ش: أي لأن عقد الحوالة م: (قابل للفسخ) ش: لأنهما لو تفاسخا عقد الحوالة ينفسخ ولو لم يكن قابلا للفسخ لما انفسخ م: (فصار كوصف السلامة في المبيع) ش: يعني أن المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا رجع بنقصان العيب، وإن لم يشترط الرجوع فكذلك هاهنا لما حصل التوى فات المقصود وهو سلامة الحق في البيع؛ لأنه سلامة المبيع فيرجع بالدين على المحيل.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (والتوى عند أبي حنيفة أحد الأمرين، وهو إما أن يجحد) ش: أي المحتال عليه م: (الحوالة ويحلف ولا بينة له) ش: أي للمحتال له م: (عليه) ش: أي على المحتال عليه م: (أو يموت) ش: أي المحتال عليه حال كونه (مفلسا) ولم يترك كفيلا على نفسه للمحتال عليه ولا مالا معينا ولا دينا، وفي الطلبة يقال: ذا فلس أي صار أفلس بعد أن كان صاحب دراهم أو دنانير، فاستعمل مكان افتقر، وفلسه القاضي أي قضي بإفلاسه حين ظهر له حاله م: (لأن العجز عن الوصول يتحقق بكل واحد منهما) ش: أي من الوجهين المذكورين م: (وهو التوى في الحقيقة) ش: أي هذا المذكور هو التوى، وهو من تَوِيَ الشيء يَتْوَى تَوًى إذا تلف، مقصور غير مهموز، وهو توى وقا، وكذا في "الجمهرة" لابن دريد.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد م: (هذان الوجهان) ش: أي التوى م: (ووجه ثالث وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه حال حياته) ش: بالشهود م: (وهذا الاختلاف) ش: بين أبي حنيفة وصاحبيه م: (بناء على أن الإفلاس لا يتحقق بحكم القاضي عنده) ش: أي عند أبي حنيفة م: (خلافا لهما) ش: فإن عندهما يتحقق بحكم القاضي، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حتى يعتبر في حق إخراجه من السجن، وكذا في حق غيره م: (لأن المال غاد ورائح) ش: هذا دليل أبي حنيفة.(8/489)
قال: وإذا طالب المحتال عليه المحيل بمثل مال الحوالة، فقال المحيل: أحلت بدين لي عليك لم يقبل قوله إلا بحجة، وكان عليه مثل الدين؛ لأن سبب الرجوع قد تحقق وهو قضاء دينه بأمره إلا أن المحيل يدعي عليه دينا وهو منكر والقول للمنكر، ولا تكون الحوالة إقرارا منه بالدين عليه لأنها قد تكون بدونه.
قال: وإذا طالب المحيل المحتال بما أحاله به، فقال: إنما أحلتك لتقبضه لي، وقال المحتال: لا بل أحلتني بدين كان لي عليك فالقول قول المحيل، لأن المحتال يدعي عليه الدين، وهو ينكر، ولفظة الحوالة مستعملة في الوكالة، فيكون القول قوله مع يمينه، قال: ومن أودع رجلا ألف درهم وأحال بها عليه آخر فهو جائز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المبسوط ": قد يصبح الرجل فقيرا ويمسي غنيا بأن مات قريب له وترك مالا كثيرا ميراثا ولا يعلم به. قوله: غاد، فاعل من غدا يغدو غدوا، والغدو نقيض الرواح، وغاد مثل قاض، ورائح من راح يروح رواحا، وهو نقيض الغدو، صح من زوال الشمس إلى الليل.
[طالب المحتال عليه المحيل بمثل مال الحوالة]
م: (قال) ش: أي القدوري، م: (وإذا طالب المحتال عليه المحيل بمثل مال الحوالة فقال المحيل أحلت بدين لي عليك لم يقبل قوله إلا بحجة، وكان عليه) ش: أي على المحيل م: (مثل الدين؛ لأن سبب الرجوع) ش: وهو قضاء الدين بالأمر كما يقول المصنف م: (قد تحقق وهو) ش: أي سبب الرجوع م: (قضاء دينه) ش: أي دين المحيل م: (بأمره) ش: أي بأمر المحيل م: (إلا أن المحيل يدعي عليه دينا وهو منكر، والقول للمنكر) ش: لأن الفراغ أصل في الذمم، والمحيل متمسك بالأصل والطالب يدعي العارض، فكان اعتبار الأصل أولى، وبه قال الشافعي في وجه القول للطالب، وبه قال أحمد في الصحيح عنه.
م: (ولا تكون الحوالة) ش: جواب عما يقال: لم لا يجوز أن تكون الحوالة م: (إقرارا منه بالدين عليه) ش: وتقرير الجواب أن يقال: إن الحوالة لا تكون إقرارا منه بالدين م: (لأنها) ش: أي لأن الحوالة م: (قد تكون بدونه) ش: أي بدون الدين على المحال عليه فيجوز انفكاكها عنه.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (وإذا طالب المحيل المحتال بما أحاله به، فقال: إنما أحلتك لتقبضه لي، وقال المحتال: لا بل أحلتني بدين كان لي عليك، فالقول قول المحيل، لأن المحتال يدعي عليه الدين وهو ينكر، ولفظه الحوالة) ش: جواب عما يقال الحوالة حقيقة في نقل الدين، ودعوى المحيل أنه أحاله ليقبضه له خلاف الحقيقة بلا دليل، فأجاب بقوله: ولفظة الحوالة م: (مستعملة في الوكالة) ش: يعني مجازا لما في الوكالة من نقل التصرف من الموكل إلى الوكيل فيجوز أن يكون مراده من لفظه ذلك فيصدقه، م: (فيكون القول قوله مع يمينه) ش: لأن في ذلك نوع مخالفة للظاهر. م: (قال: ومن أودع رجلا ألف درهم وأحال بها) ش: أي بالألف م: (عليه آخر) ش: أي على المودع شخصا آخر، م: (فهو جائز) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير "، وصورتها فيه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل أودع رجلا ألف درهم ولرجل على المودع ألف درهم، فأحال المودع الذي له(8/490)
لأنه أقدر على القضاء، فإن هلكت برئ لتقيدها بها، فإنه ما التزم الأداء إلا منها، بخلاف ما إذا كانت مقيدة بالمغصوب؛ لأن الفوات إلى خلف كالفوات،
وقد تكون الحوالة مقيدة بالدين أيضا، وحكم المقيدة في هذه الجملة أن لا يملك المحيل مطالبة المحتال عليه، لأنه تعلق به حق المحتال على مثال الرهن وإن كان أسوة للغرماء بعد موت المحيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الألف بألفه على المستودع بالألف الذي عنده قال: جائز وهو ضامن م: (لأنه أقدر على القضاء) ش: دليل الجواز، أي لأن المودع بفتح الدال وهو المحتال عليه أقدر على قضاء مال الحوالة من الوديعة م: (فإن هلكت) ش: أي الألف الوديعة م: (برئ) ش: أي المودع وهو المحتال عليه م: (لتقيدها بها) ش: أي لتقيد الحوالة بالألف الوديعة م: (فإنه ما التزم الأداء إلا منها) ش: أي من الألف الوديعة وذلك كالزكاة المتعلقة بنصاب معين تسقط بهلاك ذلك النصاب المعين.
م: (بخلاف ما إذا كانت) ش: أي الحوالة م: (مقيدة بالمغصوب) ش: المعين حيث لا تبطل بهلاكه بل تبقى الحوالة متعلقة بمثله أو بقيمته، إذ هلاك المغصوب في يد الغاصب يوجب المثل أو القيمة، فصار كالفوات، أشار إليه بقوله م: (لأن الفوات إلى خلف) ش: وهو القيمة (كالفوات) ش: فكان باقيا حكما، وَقَيْدُ الحوالة بالمغضوب بيانٌ لجواز الحوالة بالعين المغصوبة، وأنها إذا هلكت لا يبرأ الغاصب، لأن المغصوب إذا هلك وجب على الغاصب بمثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان قيميا.
[الحوالة مقيدة بالدين]
م: (وقد تكون الحوالة مقيدة بالدين أيضا) ش: يعني أن الحوالة المقيدة كما تكون بالعين كالوديعة والغصب، تكون مقيدة بالدين أيضا، مثل ثمن المبيع. وفي " الكافي ": الأصل أن الحوالة نوعان: مقيدة بدين على المحتال عليه أو بعين في يده بغصب أو بوديعة أو غير ذلك، ومطلقة وهو أن لا يقيدها المحيل بالدين الذي على المحتال عليه ولا بالعين الذي في يده أو يحيله على رجل ليس عليه دين ولا في يده عين، فالحوالة المقيدة كما تبطل بموت المحتال عليه مفلسا، تبطل بفوات ما قيد به الحوالة إذا كان الفوات لا إلى خلف، وأما إذا كان الفوات إلى خلف فلا تبطل الحوالة، لأن الحوالة إلى خلف كالفوات.
م: (وحكم المقيدة في هذه الجملة) ش: يعني حكم الحوالة المقيدة بالعين وديعة كانت أو غصبا أو بالعين، م: (أن لا يملك المحيل مطالبة المحتال عليه؛ لأنه تعلق به حق المحتال) ش: حتى إذا دفع المحتال عليه ذلك إلى المحيل ضمن، م: (على مثال الرهن) ش: لما تعلق به حق المرتهن لم يكن للراهن مطالبة قبل أداء الدين.
م: (وإن كان) ش: أي المحتال م: (أسوة للغرماء بعد موت المحيل) ش: كلمة "إن" واصلة بما قبلها، وهذا إشارة إلى حكم آخر به يخالف حكم الحوالة حكم الرهن بعدما اتفقا في عدم بقاء(8/491)
وهذا لأنه لو بقيت له مطالبة به فيأخذه منه لبطلت الحوالة وهي حق المحتال، بخلاف المطلقة لأنه لا تعلق لحقه به، بل بذمته فلا تبطل الحوالة بأخذ ما عليه أو ما عنده.
قال: ويكره السفاتج، وهو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حق الأخذ للمحيل والراهن، وهو أن الحوالة إذا كانت مقيدة بالعين أو بالدين وعلى المحيل ديون كثيرة ومات ولم يترك شيئا سوى العين التي له بيد المحتال عليه أو الدين الذي عليه فالمحتال عليه أسوة الغرماء بعد موته خلافا لزفر.
وأما المرتهن فإنه هلك الرهن يدا وحبسا فثبت له نوع اختصاص بالمرهون شرعا لم يثبت لغيره فلا يكون لغيره أن يشاركه فيه.
م: (وهذا) ش: إشارة إلى قوله: أن لا يملك المحيل مطالبة المحتال عليه وقد قررناه م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لو بقيت له) ش: أي للمحيل م: (مطالبة به) ش: أي مطالبة المحتال عليه م: (فيأخذه منه) ش: أي من المحتال عليه م: (لبطلت الحوالة وهي) ش: أي الحوالة، وفي بعض النسخ: وهو بالتذكير على تأويل عقد الحوالة م: (حق المحتال) ش: أي الطالب م: (بخلاف المطلقة) ش: أي الحوالة المطلقة، أي غير المقيدة بالعين أو الدين م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا تعلق لحقه به) ش: أي بحق المحتال بذلك العين أو الدين م: (بل) ش: يتعلق م: (بذمته) ش: أي بذمة المحتال عليه. وفي الذمة سعة، فيجب عليه أداء دين المحيل من مال نفسه وللمحيل أن يأخذ دينه ووديعته وغصبه منه ولا تبطل الحوالة بأخذه.
وهو معنى قوله: م: (فلا تبطل الحوالة بأخذ ما عليه) ش: أي من الدين أو الغصب م: (أو ما عنده) ش: أي أو يأخذ عينه الذي عنده، أي عنده من الوديعة، ويحتمل أن يراد بما عليه الدين خاصة، وبقوله: عنده أي عنده من العين سواء كان وديعة أو غصبا.
م: (قال) ش: أي القدوري: م: (ويكره السفاتج) ش: وهو جمع سفتجة بضم السين وفتح التاء تعريب سفته بمعنى الحكم، وسمي هذا القرض به لإحكام أمره.
وقال في " الفتاوى الصغرى ": السفتج إن كان مشروطا في القرض فهو حرام، والقرض بهذا الشرط فاسد، وإن لم يكن مشروطا جاز، م: (وهو) ش: أي السفاتج ذكر الضمير باعتبار الخبر، وهو قوله م: (قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق) ش: صورته أن يدفع إلى تاجر عشرة دراهم قرضا ليدفعه إلى صديقه في بلد آخر ليستفيد به سقوط خطر الطريق. وقيل: هو أن يقرض إنسانا مالا ليقبضه المستقرض في بلد يريده المقرض، وإنما يدفعه على سبيل الأمانة ليستفيد به سقوط خطر الطريق.(8/492)
وهذا نوع نفع استفيد به، وقد نهى الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن قرض جر نفعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا نوع نفع استفيد به) ش: أي بالقرض م: (وقد «نهى الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن قرض جر نفعا» ش: الحديث رواه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولفظه: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وفي سنده سوار بن مصعب، قال عبد الحق في أحكامه بعد أن أخرجه: هو متروك.
وروي عن جابر بن سمرة أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السفتجات حرام» . أخرجه ابن عدي في " الكامل " وأعله بعمرو بن موسى بن وجيه، وضعفه عن البخاري والنسائي وابن معين، ووافقهم، وقال: إنه في عداد من يضع الحديث. وقال الأترازي: مع دعاويه العريضة، والأصل فيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قرض جر نفعا» وسكت عنه، وكذا قال الأكمل وسكت عنه، مع أنه كان في ديار الحديث وكتبها المتنوعة، والله أعلم.(8/493)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب أدب القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب أدب القاضي]
[شروط تولى القضاء]
م: (كتاب أدب القاضي)
ش: أي هذا كتاب في بيان أدب القاضي. والأدب الخصال الحميدة، سيمت به لأنها تدعو إلى الخيرات والحسنات، من الأدب بسكون الدال، وهو الدعاء.
قال طرفة الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر
والأدب فاعل من أدب يأدب أدبا، إذا دعا، وسمي الأدب أدبا؛ لأنه يدعو الناس إلى المحامد. وعن أبي يزيد: الأدب يقع على رياضة محمودة، فيخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
والمراد من أدب القاضي هو الخصال المدعو إليها، والقضاء يستعمل في أشياء، ويراد به في الشرع الإلزام، وقيل: القضاء الحكم.
وقال ابن أبي قتيبة: القضاء يجيء لمعان مختلفة كلها تعود إلى واحد أصله الحتم والفراغ عن الأمر، وبه يجري ألفاظ القرآن.
وفي الشرع يراد به الإلزام، وفصل الخصومات وقطع المنازعات، وسمي حكما لما فيه من منع الظالم عن المظلوم، وأصله قضاي؛ لأنه من قضيت، إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت، كرداء أصله رداي. ولما كان وضع القضاء لفصل الخصومات، وتنفيذ الأحكام، وأكثر الخصومات يقع في البياعات والديون، ذكر بعدها كتاب القضاء لمساس الحاجة إلى القضاء.
وفي الزاد القضاء فريضة محكمة وشرعة متبعة، وعبادة شريفة لأجل ذلك أثبت الله تعالى لآدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخلافة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] (البقرة: الآية 30) ولداود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص: 26] (ص: الآية 26) ، وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، ثم القضاء مشروع بالكتاب كما ذكرنا، وبالسنة لما روي أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر، وإن أصاب فله أجران» ،(9/3)
قال: ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث معاذ لما بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظاهر وبالإجماع، وهو ظاهر وبالمعقول وهو أن في القضاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم عن المظلوم، ودفع التهارج، وقطع المنازعات، وفصل الخصومات، والكل حسن عقلا وهو فرض كفاية بالإجماع، وإن لم يصلح للقضاء إلا واحد، تعين عليه ووجب عليه بالإجماع.
م: (قال) ش: أي القدوري م: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى) ش: بفتح اللام اسم مفعول من التولية، وإنما قال: المولى ولم يقل: المتولي ليكون فيه دلالة على تولية غيره إياه بدون طلبه م: (شرائط الشهادة) ش: وهي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة؛ لأن مبنى القضاء على حكم الشهادة م: (ويكون) ش: بالنصب عطفا على قوله حتى يجتمع م: (من أهل الاجتهاد) ش: الصحيح عندنا أن هذا شرط الأولوية، لا شرط الجواز، وقيل شرط الجواز وإليه مال صاحب شرح الأقطع.
وفي " وجيز الشافعية "، لا بد للقضاء من صفات، وهو أن يكون ذكرا حرا، مجتهدا، بصيرا عدلا، فلا يجوز قضاء المرأة، والأعمى، والصبي، والفاسق، والجاهل، والمقلد انتهى.
وقد ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيا. وذكر الخصاف: ما يدل على جوازه، لأنه قال: القاضي يقضي باجتهاد نفسه إذا كان له رأي، فإن لم يكن له رأي، وسأل فقيها، أخذ بقوله.
والدليل على أن الاجتهاد ليس بشرط الجواز ما أخرجه أبو داود عن شريك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن سماك عن حنش «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، قال: "بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا، وما شككت في قضاء بعد» ، ورواه(9/4)
أما الأول، فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلي لم يكن حينئذ من أهل الاجتهاد، وقال الأستروشني في "فصوله ": قال بعضهم إذا كان صوابه أكثر من خطأه حل له الاجتهاد، وقاله البستي في "أصوله ". قال بعض أصحابنا: إذا كان عالما في مسألة تعرف حقيقتها، ولا يخفى عليه دقيقتها يكون من أهل الاجتهاد في تلك المسألة، وأما المجتهد الذي ذكره أهل الأصول، فهو أن يكون عالما بالنصوص من الكتاب والسنة مما يتعلق به الأحكام الشرعية، ولا يشترط أن يكون عالما بجميع ما في الكتاب والسنة، وهذا عزيز، والرخصة في ذلك أن يكون بحال يمكنه طلب الحادثة الواقعة من النصوص التي تتعلق بها الأحكام، ويشترط أيضا أن يكون عالما بوجوه العمل بالكتاب والسنة والإجماع على ما عرف في أصول الفقه، وإذا بلغ الرجل هذا الحد يصير مجتهدا، ويجب عليه العمل باجتهاده، ويحرم عليه تقليد غيره، كذا في الميزان.
وقال صدر الإسلام البزدوي في "أصوله "، وأهل الاجتهاد من يكون عالما بالكتاب ناسخه ومنسوخه، وعالما بالسنن ناسخها ومنسوخها، وعالما بمعاني الكتاب والسنن التي هي أقيسة. وإلى هذا أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب الحدود، وبعضهم قالوا: يجب أيضا أن يكون عالما بعرف بلده وكلامهم ولغتهم من الصريح والكناية، والصحيح أن أهل الاجتهاد في مسائل الفقه، من يكون عالما بدلائل الفقه، وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة، والقياس، إلى هنا لفظ صدر الإسلام.
وأما المفتي فقد قال صدر الإسلام البزدوي في أصوله: أجمع الفقهاء والعلماء، أن المفتي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، فإنه لا يقدر أن يفتي الناس إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، فإنه يحتاج إلى الاجتهاد لا محالة، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، لا يحل له أن يفتي إلا بطريق الحكاية، فيحكي ما يحفظ من أقوال الفقهاء، ولا يحل له أن يفتي فيما لا يحفظ فيه قولا من أقوال المتقدمين، إلى هنا لفظ صدر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (أما الأول) ش: يعني اشتراط شرائط الشهادة وقد ذكرناها م: (فلأن حكم القضاء يستقى) ش: أي يستفاد، وهكذا وقع في نسخة شيخي بلفظ يستفاد في الكتاب. وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يستقى من حكم الشهادة، أي يؤخذ ويستنبط ويستخرج ويستفاد بطريق ترشيح الاستعارة، لمشابهة العلم بالماء، إذ به حياة الأرواح، كما أن بالماء حياة الأشياء م: (من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما) ش: لأنه مبنى القضاء على الشهادة كما مر م: (من باب الولاية) ش: إذ كل واحد منهما تنفيذ القول على الغير، ولأن كل واحد منهما إلزام، فالشهادة ملزمة على القاضي والقضاء ملزم على الخصم.(9/5)
فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء، وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشاهدة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء) ش: هذا نتيجة ما قبله من الكلام، وكذلك قوله م: (وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء) ش: بل اشتراطها في القضاء أولى؛ لأن القضاء ولاية عامة م: (والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح) ش: أي تقليده م: (إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا) ش: وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومالك وأحمد - رحمهما الله -: لا يصح تقليده، وبه قال بعض مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قلت: الصواب معهم، ولا سيما قضاة هذا الزمان. وقال أصبغ المالكي: يصح، ولكن يجب عزله.
وفي " وسيط الغزالي ": اجتماع هذه الشرائط من الاجتهاد والعدالة وغيرهما مستعذر في عصرنا بخلو العصر عن المجتهد والولي، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا فاسقا.
وفي " خلاصة الفتاوى ": واختلفت الروايات في تقليد الفاسق للقضاء، والأصح أنه يصح التقليد، ولا ينعزل بالفسق، ثم قال، قال في " المحيط ": يستحق العزل عند عامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا إذا شرط في التقليد أنه متى جاء ينعزل. وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينعزل، والإمام يصير إماما مع الفسق، ولا ينعزل بالفسق بلا خلاف، إلى هنا لفظ الخلاصة.
وفي " نوادر هشام "، قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو فسق القاضي ثم تاب، فهو على قضائه، وحكي عن الكرخي: أنه ينعزل بفسقه، وعن علي المرازي صاحب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه ينعزل القاضي بفسقه، ولا ينعزل الخليفة بفسقه إلى هنا لفظ كتاب " الأجناس " وقال فيه أيضا:
وفي " أدب القاضي " للحسن بن زياد: وفي قاضي خان مكث وهو تقي، ثم فسق بعد ذلك وارتشى، وقد كان قضى بقضايا، قيل أن يفسق، وبقضايا بعد ما فسق أبطل كل قضية قضى بها، بعد ما فسق، وأنفذت القضايا التي قضى بها قبل أن يفسق.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو أن قاضيا قضى بين الناس زمانا، وأنفذ قضايا كثيرة، ثم علم أنه فاسق مرتش، لم يزل منذ ولي على ذلك، ينبغي للقاضي الذي يختصمون إليه أن تبطل كل قضية قضى بها ذلك القاضي إلى هنا لفظ الأجناس.
م: (ولو كان القاضي عدلا، ففسق بأخذ الرشوة) ش: الرشوة بكسر الراء وضم الراء لغة فيه(9/6)
أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه، كما لا تقبل شهادته عنده. وعن علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في "النوادر" أنه لا يجوز قضاؤه، وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها، وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا، لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح؛ لأنه يجتهد الفاسق حذرا عن النسبة إلى الخطأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مأخوذة من الرشا بالمد، فإن نازح البئر لا يتصل إليه إلا به، فلذلك الإنسان لا يتوصل إلى مقصوده الحرام إلا بها والرشوة على أربعة أوجه:
منها ما هو حرام للآخذ والمعطي، وهو الرشوة في تقليد القضاء، فإنه لا يصير قاضيا بالرشوة بالإجماع سواء كان قضاؤه بحق أم بغير حق، ومنها ما يأخذه القاضي على القضاء، وهو حرام من الجانبين أيضا، ولا ينفذ قضاؤه بحق أو بغير حق، ومنها ما يدفعها لخوف على نفسه أو ماله فهذا حرام على الآخذ لا الدافع، ومنها ما لو دفعها ليستوي أمره عند السلطان حل الدفع، ولا يحل الأخذ، فلو أراد الآخذ أن يحل، يستأجر الدافع الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع إليه فإنه يجوز هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في غيره. كذا في " فتاوى قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - و " أدب القاضي " للصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أو غيره) ش: أي أو في غير أخذ الرشوة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك من المعاصي م: (لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب، وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أي علماء بخارى وسمرقند - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال الشافعي: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده) ش: أي: عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعن علمائنا الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (في " النوادر ": أنه لا يجوز قضاؤه) ش: أي قضاء الفاسق، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها) ش: أي دون العدالة م: (وهل يصلح الفاسق مفتيا قيل: لا) ش: أي لا يصلح م: (لأنه) ش: أي لأن الإفتاء م: (من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات) ش: لأن مبناه على الأمانة والاحتراز عن الجناية، وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - م: (وقيل يصلح لأنه) ش: أي لأن المفتي م: (يجتهد الفاسق) ش: كل الجهد في إصابة الحق م: (حذرا عن النسبة إلى الخطأ) ش: وقال أبو العباس الناطفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر(9/7)
وأما الثاني، فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية، فأما تقليد الجاهل، فصحيح عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه، ولا قدرة دون العلم، ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقيه، وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدب القاضي من كتاب " الأجناس "، للفقيه إذا كان فاسقا، هل يجوز أن يستفتى منه فيه كلام بين المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
ذكر محمد بن شجاع - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "نوادره " سمعت بشر بن غياث - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: أرى الحجر على ثلاثة، قاض فاسق، وطبيب جاهل، ومكار مفلس. وقال محمد بن شجاع - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قول نفسه: لا بأس بأن يستفتى من الفقيه الفاسق؛ لأنه يكره أن يخطئه الفقهاء، فيجيب بما هو الصواب.
م: (وأما الثاني) ش: أي الشرط الثاني في الولي، وهو شرط الاجتهاد، وقد مر الكلام فيه، ولكن نتكلم في حل المتن م: (فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية) ش: والمجتهد أحب من غيره م: (فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وبقوله قال مالك وأحمد - رحمهما الله - م: (وهو) ش: أي الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يقول: إن الأمر بالقضاء يستعدي القدرة عليه) ش: لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا أمر بلا قدرة، ولا قدرة بلا علم، وهو معنى قوله م: (ولا قدرة دون العلم) ش: لأن الجاهل يخبط خبط العشو، ولا يميز بين الحق والباطل م: (ولنا أنه) ش: أي أن الجاهل م: (يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه) ش: وفي بعض النسخ إلى المستحق.
فإن قلت: روى أبو داود عن ابن بريدة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به، وجار في الحكم، فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق، فقضى بين الناس على جهل، فهو في النار» . وقيل له: الحديث محمول على الجاهل الذي يعمل بجهله ولا يرجع إلى الغير.
م: (وينبغي للمقلد) ش: بكسر اللام م: (أن يختار من هو الأقدر) ش: على القضاء م: (والأولى) ش: لعلمه ودينه وأمانته، م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قلد إنسانا عملا، وفي رعيته من هو أولى منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» روى الحاكم -(9/8)
وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه، وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مستدركه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استعمل رجلا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "معجمه " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ولي من أمور المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .
وروى أبو يعلى الموصلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "مسنده "، عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس وعلم أن في العشرة من هو أفطن منه، فقد غش الله ورسوله وجماعة المسلمين» . فانظر إلى ملوك زماننا هذا، كيف يولون قضاة ونوابا، مع علمهم أن في رعيتهم من هو أفضل منهم وأعلم وأدين، وغالب توليتهم بالرشاء والبواطيل.
وقد روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي.» وروى الخصاف من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله الراشي والمرتشي، والرائش ملعون، والراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما ليسوي أمره» .
م: (وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه) ش: أي في أصول الفقه لفخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره في باب معرفة المجتهدين، وقد ذكرنا فيما مضى في هذا الباب مما فيه الكفاية م: (وحاصله) ش: أي حاصل ما قيل في حد الاجتهاد م: (أن يكون) ش: أي الذي يدعي الاجتهاد م: (صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب) ش: أي أو يكون صاحب م: (فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: أن يكون مع ذلك صاحب قريحة) ش: قال صاحب "الجمهرة ": القريحة خالص الطبيعة، ومنه اشتقاق القراح، وهو الخالص الذي لم يمزج بغيره من السبخ، وغيره في "تهذيب الديوان ": قريحة البئر أول(9/9)
يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها.
قال: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوه وكفى بهم قدوة ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف. قال: ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مائها، والقريحة الطبيعة، ومنه يقال لفلان قريحة جيدة براه استنباط العلم، وهي على وزن فعيلة بمعنى مفعولة اسم للبئر من قرحتها، إذا حفرتها ثم سموا الماء بذلك لملابسته بينهما، ثم قالوا فلان حسن القريحة، إذا ابتدع شعرا أو خطبة أجاد فيهما، فاستعاروها للطبع، وهو من مستعار المجاز؛ لأن أصل القرح الجرح والشق ومنه القارح، وهو الفرس الذي قرح نابه أي شق.
م: (يعرف بها) ش: أي بالقريحة م: (عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبتني عليها) ش: أي على العادات، لأن العرف قد يغلب على القياس، كما في الاستصناع جوزوا بخلاف القياس.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أنه يؤدي فرضه) ش: أي فرض القضاء وهو الحق، لأن القضاء بالحق فرض أمر به الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - م: (لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوه) ش: أي القضاء، وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "تقلد القضاء من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
روى البيهقي أيضا أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وروى ابن سعد في "الطبقات " عن نافع لما استعمل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على القضاء فرض له رزقا م: (وكفى بهم قدوة) ش: أي كفى بالصحابة أسوة.
قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القدوة الأسوة، يقال فلان قدوة يقتدى به، وقد يضم فيقال لي بك قدوة وقدوه م: (ولأنه) ش: أي ولأن القضاء م: (فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف) ش: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض.
فإن قيل: قوله فرض كفاية يوجب أن الدخول فيه مستحب كما في صلاة الجنازة وغيرهما قلنا: نعم، لكن فيه خطر عظيم، وأمر مخوف، لا يسلم في بحره كل سائح، فبالنظر إلى كونه فرض كفاية وبالنظر إلى كونه متضمنا أمرا مخوفا يكره، فقلنا لعدم البأس.
م: (قال:) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويكره الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (لمن يخاف العجز عنه) ش: أي عن القضاء وكره بعض العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أو بعض السلف -(9/10)
ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، كيلا يصير شرطا لمباشرته القبيح. وكره بعضهم الدخول فيه مختارا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الدخول فيه سواء، وثقوا بأنفسهم أو خافوا عليها العجز عنه، وفسروا الكراهة هنا بعدم الجواز.
فقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ومنهم من قال: لا يجوز الدخول فيه إلا مكرها.
ألا ترى أن أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دعي إلى القضاء ثلاث مرات فأبى حتى ضرب في كل مرة ثلاثين سوطا، فلما كان في المرة الثالثة، قال: حتى أستشر أصحابي، فاستشار أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو تقلدت لنفعت الناس، فنظر إليه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر المغضب وقال: أرأيت لو أمرت أن أعبر البحر سباحة أكنت أقدر عليه، وكأني بك قاضيا، ويروى أنه قال: أراك أن تبتلى بالقضاء، وكذا دعي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى القضاء فأبى حتى قيد وحبس فاضطر ثم تقلد.
م: (ولا يأمن على نفسه الحيف فيه؛ كيلا يصير شرطا) ش: أي كيلا يصير الدخول في القضاء وسيلة م: (لمباشرته القبيح) ش: وهو الحيف في القضاء، وإنما عين بلفظ الشرط لأنه أكثر ما يقع من الحيف إنما هو بالميل إلى حطام الدنيا بأخذ الرشاء، وفي الغالب يكون ذلك مشروطا بمقدار معين مثل أن يقول: لي على فلان أو له علي مطالبته بكذا، فإن قضيت لي فلك كذا.
م: (وكره بعضهم الدخول فيه) ش: أي في القضاء حال كونه م: (مختارا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: «من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين» ش: هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين» :. ورواه الحاكم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مستدركه " وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. رواه ابن عدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الكامل " عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استقضى فقد ذبح بغير سكين» وروي: "ذبح بسكين" وذكر الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": وجه التشبيه أن السكين تؤثر(9/11)
والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في الظاهر والباطن جميعا، والذبح بغير سكين، ذبح بطريق الخنق والفم ونحو ذلك، فإنه يؤثر في الباطن، والقضاء لا يؤثر في الظاهر، فإنه في ظاهره جاه وفي باطنه هلاك.
وكان شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا ينبغي لأحد أن يزدري هذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي، فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث، فازدراه وقال: كيف يكون هذا، ثم دعا في مجلسه من يسوي شعره، فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه، إذ هو عطس فأصابه الموسي، وألقى رأسه بين يديه.
وقد جاء في التحذير عنه آثار، وقد اجتنبه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصبر على الضرب واجتنبه كثير من السلف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقيد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نيفا وثلاثين يوما أو نيفا وأربعين يوما، حتى تقلده هذا كله ليس بموجود في بعض النسخ، وروايته موجودة في نسخة شيخي العلاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلذلك استدركه وكتبه على الحاشية، وشرحه مضى عن قريب.
والذي ضرب أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تركه القضاء، هو أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، وكان الذي قلد القضاء لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هو الرشيد ثم عزله [ ... ] .
وقد جاء في التحذير، أي عن الدخول في القضاء، آثار أي أخبار كثيرة منها حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه مسلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» ومنها حديث ابن أبي بريدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القضاة ثلاثة» ... " الحديث، ومنها حديث رواه ابن حبان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "صحيحه" عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره» .
م: (والصحيح أن الدخول فيه) ش: أي في القضاء م: (رخصة طمعا في إقامة العدل) ش: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عدل ساعة خير من عبادة سنة".» وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من نور عن يمين(9/12)
والترك عزيمة، فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له، أو لا يعينه عليه غيره ولا بد من الإعانة، إلا إذا كان هو الأصل للقضاء دون غيره، فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد.
قال: وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من طلب القضاء، وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه، نزل ملك عليه يسدده» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا» م: (والترك) ش: أي ترك القضاء م: (عزيمة) ش: من العزم، وهو الجد والصبر م: (فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له) ش: يعني أنه أراد أن يقضي بالحق في الابتداء في ظنه ثم لا يقدر عليه م: (أو لا يعينه عليه غيره ولا بد من الإعانة) ش: أي على القضاء بالحق أنه ربما لا يمكنه القضاء في الأمر إلا بإعانة غيره عليه، ولعل غيره لا يعينه عليه م: (إلا إذا كان هو الأصل للقضاء دون غيره، فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد) ش: هذا بلا خلاف بين الفقهاء كصلاة الجنازة إذا تعين واحد لإقامتها يفترض، ومعنى إخلاء العالم عن الفساد في الحدود والقصاص، وقيد بقوله: " إذا كان هو الأهل للقضاء" يعني وحده؛ لأنه إذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء، فامتنع كل واحد منهم عن الدخول فيه، أثموا إن كان السلطان، بحيث لا يفصل بينهم، وإلا فلا، ولو امتنع الكل حتى قلد جاهل، اشتركوا في الإثم لأدائه إلى تضييع أحكام الله تعالى.
[حكم طلب تولى القضاء]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها) ش: أي لا يطلب ولاية القضاء بقلبه ولا يسألها بلسانه م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل ملك عليه يسدده» ش: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل القضاء وكل إلى نفسه» ... " الحديث، ولفظة أبي داود - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من طلب القضاء» ، كما في رواية المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وزاد عليه قوله: «واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدده.» ولفظ الترمذي: «من ابتغى القضاء وسأل شفعا وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده» قوله: و"كل" على صيغة المبني للمجهول، بتخفيف الكاف، أي فوض أمره إليها، ومن فوض أمره إلى نفسه، كان(9/13)
ولأن من طلبه يعتمد على نفسه فيحرم، ومن أجبر عليه يتوكل على ربه فيلهم، ثم يجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوا من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والحق كان بيد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوبته، والتابعين تقلدوه من الحجاج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مخذولا غيره مرشد إلى الصواب، لكون النفس أمارة بالسوء، قوله يسدده أي يلهمه الرشد ويوفقه للصواب.
م: (ولأن من طلبه) ش: أي القضاء م: (يعتمد على نفسه) ش: من الورع والعلم والفطنة، فيصير معجبا، فلا يلهم الرشد، ويحرم التوفيق، وهو معنى قوله: م: (فيحرم ومن أجبر عليه يتوكل على ربه) ش: ومن يتوكل على الله فهو حسبه م: (فيلهم) أي الرشد والصواب م: (ثم يجوز التقلد) ش: أي تقليد القضاء م: (من السلطان الجائر كما يجوز من العادل؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تقلدوا) ش: أي القضاء م: (من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: ابن أبي سفيان لما انفرد بالإمرة وخالف عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (والحق) ش: أي والحال أن الحق م: (كان بيد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نوبته) ش: أي في خلافته؛ لأن الخلافة كانت له بعد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالنص، وقيد بقوله: "في نوبته" احترازا عن مذهب الروافض، فإنهم يقولون الحق مع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في جميع نوب الخلفاء، في نوبة أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومع أولاده بعد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعند أهل السنة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان باغيا في نوبة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبعده إلى زمان ترك أمير المؤمنين حسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الخلافة إليه فانعقد الإجماع على خلافة معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعده م: (والتابعين) ش: بالنصب عطفا على قوله؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - م: (تقلدوه) ش: أي القضاء م: (من الحجاج) ش: ابن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، ومات في رمضان أو شوال سنة خمسة وتسعين، وعمره ثلاث أو أربع وخمسون سنة.
ولما سمع الحسن البصري بموته سجد، يعني شكرا لله تعالى، وقال: اللهم إنك قد أمته، فأمت عنا سننه. وعن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا أنه قال: لو جاءت كل أمة بخبثها، وجئنا به لغلبناهم، وظلمه مشهور.
وتولى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القضاء بالشام، ولما مات وكان معاوية يستشيره، واستشاره فيمن يولي بعده، فأشار إليه بفضالة بن عبيدة الأنصاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فولاه الشام بعده.
وقال البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "تاريخه الوسيط" بإسناده إلى أبي إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -(9/14)
وهو كان جائرا، إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق؛ لأن المقصود لا يحصل بالتقلد، بخلاف ما إذا كان يمكنه.
قال ومن قلد القضاء يسلم إليه عن ديوان القاضي الذي كان قبله، وهو الخرائط التي فيها السجلات وغيرها؛ لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة، لتجعل في يد من له ولاية القضاء، ثم إن كان البياض من بيت المال فظاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قال: كان أبو بريدة - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكوفة، فعزله الحجاج وجعل أخاه مكانه، وقال في موضع آخر حدثنا الحسن بن رافع حدثنا ضمرة قال: استقضى الحجاج أبا بردة بن أبي موسى، وأجلس معه سعيد بن جبير، ثم قتل سعيد بن جبير، ومات الحجاج بعده بستة أشهر، ولم يقتل بعده أحدا.
وفي " تاريخ أصفهان " للحافظ أبي نعيم، في باب العين المهملة: عبد الله بن أبي مريم الأموي ولي القضاء بأصبهان للحجاج، ثم عزله الحجاج، فأقام محبوسا بواسط، فلما هلك الحجاج رجع إلى أصبهان ومات بها.
م: (وهو) ش: أي الحجاج م: (كان جائرا) ش: أي ظالما شديد الظلم مشهورا م: (إلا إذا كان) ش: استثنى من قوله يجوز التقليد من السلطان الجائر إلا إذا كان م: (لا يمكنه من القضاء بحق) ش: أي إلا إذا كان السلطان الجائر لا يمكنه من التمكين من الحكم بحق م: (لأن المقصود) ش: وهو العمل بحق م: (لا يحصل بالتقلد) ش: من السلطان الجائر م: (بخلاف ما إذا كان يمكنه) ش: حيث يجوز له التقليد منه، والضمير فيما كان يرجع إلى السلطان ويمكنه من التمكن.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي كان قبله، وهو الخرائط التي فيها السجلات) ش: وفي المغرب الديوان الجديدة من دون الكتب، أو أجمعها لأنها قطع من القراطيس مجموعة. ويروى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من دون الدواوين، أي رتب الجراية للولاة والقضاء، وأصله بدون تشديد الواو فعوض من إحدى الواوين، لأنه يجمع على دواوين. ولو كانت الياء أصلية لقالوا دياوين.
وفسر المصنف الديوان بقوله وهو الخرائط، جمع خريطة. قال الجوهري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعامة من الأدم وغيره بشرح علي فيها، والسجلات جمع سجل، وهو كتاب الحكم، وقد سجل عليه القاضي م: (وغيرها) ش: أي غير السجلات من المحاضر والصكوك، وكتاب نصب الأوصياء، وتقدير النفقات، والقيم في أموال الوقف م: (لأنها) ش: أي السجلات وغيرها م: (وضعت فيها) ش: أي في الخرائط م: (لتكون حجة عند الحاجة، فتجعل في يد من له ولاية القضاء) ش: وهو القاضي المولى؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما فيها، فكان له أخذها.
م: (ثم إن كان البياض) ش: الذي كتب عليه السجلات ونحوها م: (من بيت المال فظاهر) ش: أي يجبر المعزول على دفعه؛ لأن ذلك إنما كان في يده لعمله وقد صار العمل لغيره، فلا(9/15)
وكذا إذا كان من مال الخصوم في الصحيح؛ لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولى، وكذا إذا كان من مال القاضي هو الصحيح؛ لأنه اتخذه تدينا لا تمولا، ويبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه ويسألانه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع فيها في خريطة كيلا يشتبه على المولى وهذا السؤال لكشف الحال لا للإلزام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يترك في يده، أي وكذا يجعل في يد من له ولاية القضاء م: (وكذا إذا كان) ش: أي البياض م: (من مال الخصوم) ش: لأنه وضع عنده لصيانة حقوق الناس تدينا لا تمولا (في الصحيح) احترز به عما قال المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذا كان البياض من ماله أو من مال الخصوم لا يجبر على الدفع لأنه ملكه أو وهب له، وفي الصحيح يجبر م: (لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولَّى) ش: بتشديد اللام المفتوحة.
م: (وكذا) ش: أي يجبر على الدفع م: (إذا كان) ش: أي البياض م: (من مال القاضي هو الصحيح) ش: احترز به عن مثل ما مضى في الصورة الأولى م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي المعزول م: (اتخذه تدينا) ش: أي وضع عندهم بطريق الديانة والأمانة م: (لا تمولا) ش: أي ما وضع عنده من حيث أن يتمول به م: (ويبعث) ش: أي القاضي الجديد المولَّى اثنين م: (أمينين ليقبضاها) ش: أي الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، والواحد يكفي والاثنان أحوط م: (بحضرة) ش: القاضي م: (المعزول أو أمينه) ش: أي الأمين من جهة المعزول.
م: (ويسألانه) ش: أي يسألان المعزول م: (شيئا فشيئا) ش: يعني واحدا بعد واحد م: (ويجعلان كل نوع فيها في خريطة) ش: وينسخ الأوصياء في خريطة، وكل نوع في خريطة؛ لأن هذه النسخ كانت في خريطة تحت يد المعزول، فلا يشتبه عليه شيء من ذلك متى احتاج إليه بخلاف المولَّى؛ لأنه لا علم له بذلك، فيجعل كل نوع في خريطة م: (كيلا يشتبه على المولى) ش: شيء منها، أي من هذه السجلات وغيرها.
م: (وهذا السؤال) ش: أي سؤال أحوال الديوان والمحبوسين وسبب الحبس م: (لكشف الحال لا للإلزام) ش: لأن قول المعزول ليس بحجة لالتحاقه بالعزل بواحد من الرعايا، ومتى قبضا ذلك، يختمان ذلك احترازا عن الزيادة والنقصان، وهذا ينبغي أن يكون في حق كل قاض. كذا في " المحيط " وفي " أدب القاضي " للصدر الشهيد.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قيل: والسؤال يعني الاستعلام، يتعدى إلى المفعول الثاني بغير، وهنا قال: يسألانه شيئا فشيئا بدون عن، وأجيب بأن انتصاب شيئا بعامل مضمر يدل عليه قوله: يسألان، تقديره يسألانه عن أحوال السجلات وكيفياتها، أي يسألان شيئا فشيئا عنها.
ونقل الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - جميع ما قاله شيخه الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثم قال: وليس بشيء؛ لأن الكلام في الثاني كالكلام في الأول، والأولى أن يجعل حالا، بمعنى مفصلا كما في(9/16)
قال: وينظر في حال المحبوسين؛ لأنه نصب ناظرا فمن اعترف بحق ألزمه إياه؛ لأن الإقرار ملزم.
ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة؛ لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة. لا سيما إذا كانت على فعل نفسه فإن لم تقم بينة، لم يعجل بتخليته حتى ينادي عليه وينظر في أمره؛ لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر، فلا يعجل كيلا يؤدي إلى إبطال حق الغير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: بينت له حسابه بابا بابا انتهى. إنما قال بمعنى مفصلا؛ لأن من شرط الحال، أن يكون من المشتقات.
[وظائف القاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وينظر في حال المحبوسين) ش: أي ينظر القاضي الجديد في حال المحبوسين. وفي بعض النسخ في حال المحتبسين م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي الجديد م: (نصب ناظرا) ش: لأمور المسلمين م: (فمن اعترف بحق ألزمه إياه؛ لأن الإقرار ملزم، ومن أنكر لم يقبل قول المعزول) ش: أي القاضي المعزول م: (عليه إلا ببينة؛ لأنه) ش: أي لأن المعزول م: (بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة لا سيما إذا كانت) ش: أي شهادته على تأويل الأخبار م: (على فعل نفسه) ش: وبه قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يقبل قوله بعد العزل، كما قبل العزل، لأنه أمين الشرع، وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقبل قوله قبل العزل إلا بحجة.
م: (فإن لم تقم بينه لم يعجل) ش: القاضي م: (بتخليته حتى ينادي عليه) ش: وصفته أن يأمر كل يوم إذا جلس مناديا ينادي في محلته، [من] كان يطلب فلان ابن فلان المحبوس الفلاني بحق فليحضر، ينادي كذلك أياما، فإذا حضر أحد وادعى عليه، وهو على جحوده، ابتدأ الحكم بينهم، فلا يقبل قول المعزول. وإن لم يحضر خصم أخذ منه كفيلا بنفسه، ولعله محبوس بحق غائب، وقد قامت عليه إمارة، وهو حبس القاضي المعزول.
فصل قسمة الميراث عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث يؤخذ الكفيل هناك عنده، على ما يجيء؛ لأن في مسألة الميراث، الحق ظاهر لهذا الوارث وفي ثبوت حق الآخر شك، فلا يجوز تأخيره، كموهوم، أما هناك الحق ثابت، فيحمل فعل القاضي على الصلاح، ولكنه مجهول فلا يكون أخذ الكفالة لموهوم، وقيل: أخذ الكفيل هنا على الخلاف أيضا. وفي " المحيط ": الصحيح أن أخذ الكفيل هاهنا بالاتفاق.
م: (وينظر في أمره لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر) ش: أي من حيث الظاهر م: (فلا يعجل كيلا يؤدي إلى إبطال حق الغير) ش: أي لا يعجل القاضي بإطلاق المحبوس، بل يتأنى وينادي على المحبوس أياما في مجلسه من كان يطلب فلان بن فلان الفلاني المحبوس بحق، فليحضر.(9/17)
وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف، فيعمل فيه على ما تقوم به البينة، أو يعترف به من هو في يده، لأن كل ذلك حجة، ولا يقبل قول المعزول لما بيناه إلا أن يعترف الذي هو في يده، أن المعزول سلمها إليه، فيقبل قوله فيها، لأنه ثبت بإقراره، أن اليد كانت للقاضي، فيصبح إقرار القاضي، كأنه في يده في الحال، إلا إذا بدأ بالإقرار لغيره، ثم أقر بتسليم القاضي، فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه، ويضمن قيمته للقاضي بإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو داود الناصحي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: "في أدب القاضي " للخصاف: فإن قال واحد من المحبوسين: حبست بغير حق، ولم يحضر له خصم، تأنى القاضي، ونادى أياما، فإن لم يحضر له خصم أطلقه وأخذ منه كفيلا بنفسه ويطلقه، فإن قال: لا كفيل لي، أو لا أعطي كفيلا فإنه لا يجب عليه شيء نادى عليه شهرا ثم تركه، لأن الحق لم يثبت عليه، فلا يلزمه إعطاء الكفيل وإنما طلبه القاضي به احتياطا، فإذا لم يعطه، وجب عليه أن يحتاط بنوع آخر، فينادي عليه شهرا، فإذا مضت المدة أطلق عنه، كذا قاله الإمام الناصحي.
م: (وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف) ش: أي التي وضعها المعزول في أيدي الأمناء م: (فيعمل فيه على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده؛ لأن كل ذلك) ش: أي كل واحد من قيام البينة، واعتراف من هو في يده م: (حجة ولا يقبل قول المعزول لما بيناه) ش: إشارة إلى قوله، لأنه بالعزل التحق بالرعايا إلى آخره م: (إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها) ش: أي يقبل قول المعزول حينئذ فيها، أي في الودائع وارتفاع الأوقات م: (لأنه ثبت بإقراره) ش: أي بإقرار ذي اليد م: (أن اليد كانت للقاضي) ش: المعزول م: (فيصح إقرار القاضي) ش: المعزول به.
م: (كأنه في يده في الحال) ش: ولو كانت بيده عيانا، صح إقراره به، فكذا إذا كان بيد مودعه؛ لأن يد المودع كيد المودع م: (إلا إذا بدأ) ش: استثناء من قوله فيقبل، أي إلا إذا بدأ به ذوي اليد م: (بالإقرار لغيره، ثم أقر بتسليم القاضي) ش: إلى الغير من أقر له القاضي م: (فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه) ش: أي يسبق حق المقر له الأول، وهو الذي أقر له ذو اليد م: (ويضمن) ش: أي ذو اليد م: (قيمته للقاضي وبإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي) ش:.
وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حاصل ذلك أن المسألة على أربعة أوجه: إما أن يقول دفعه إلى المعزول، وقال هو لفلان بن فلان، أو قال دفعه إلى المعزول ولا أدري لمن هو، وأنكر ما قوله المعزول أو قال دفعه إلى المعزول، وهو لفلان آخر.
ففي الوجه الأول والثاني يقبل قول المعزول والمال للمقر له؛ لأن المال وصل إلى يده من(9/18)
قال: ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد كيلا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد والجامع أولى؛ لأنه أشهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره الجلوس في المسجد للقضاء؛ لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله. ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جهة المعزول، فكان المال في يد المعزول معنى، ومن في يده المال إذا أقر لإنسان يقبل فكذا هذا وفي الوجه الثالث: القول لصاحب اليد.
وفي الوجه الرابع المسألة على وجهين، أما إن بدأ صاحب اليد وقال دفعه إلى المعزول، وهو لفلان آخر، أو بدأ بالإقرار فقال هو المال لفلان ابن فلان غير الذي أقر له المعزول له، ثم قال دفعه إلى المعزول، ففي الوجه الأول: القول قول المعزول ويؤمر بالدفع إلى من أقر له المعزول وفي الوجه الثاني يؤمر بالدفع إلى من أقر له، ويضمن مثله إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمته للمعزول ثم يسلمه المعزول إلى من أقر له.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويجلس) ش: أي القاضي م: (للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد كيلا يشتبه مكانه على الغرباء) ش: جمع غريب م: (وبعض المقيمين) ش: الذين ليس لهم اختلاط بالقضاء م: (والمسجد والجامع أولى؛ لأنه أشهر) ش: المواضع.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا إذا كان الجامع في وسط البلدة، ولو كان في طرف البلدة، يختار مسجدا في وسط البلدة، كيلا يلحق الناس مشقة الذهاب إلى طرف البلدة ويختار مسجد السوق لأنه أشهر، وفي " المبسوط ": أحب إلي أن يقضي حيث تقام جماعة الناس، يعني في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات، لأن ذلك عن التهمة أبعد.
وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - وفي " وجيز الشافعية " - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: ويكره أن يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، وقال في " خلاصة الفتاوى ": وأفضل ما يجلس في المسجد الجامع، وفي مسجد حيه أو بيته لا بأس به عندنا.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (يحضره المشرك) ش: للدعوى م: (وهو نجس بالنص) ش: وهو قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] : (التوبة: الآية 28) ، م: (والحائض) ش: أي ويحضره الحائض م: (وهي) ش: أي الحائض م: (ممنوعة عن دخوله) ش: أي دخول المسجد م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، ورواه مسلم ليس فيه "الحكم"، رواه في الطهارة من حديث أنس مطولا، وفي آخره: «إنما هي لذكر الله تعالى» أي المساجد.(9/19)
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يفصل الخصومة في معتكفه، وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات؛ ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد، كالصلاة، ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره، فلا يمنع من دخوله، والحائض تخبر بحالها، فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد، أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها، كما إذا كانت الخصومة في الدابة. ولو جلس في داره لا بأس به، ويأذن للناس بالدخول فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يفصل الخصومة في معتكفه) ش: فيه أحاديث منها ما خرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد في قصة اللعان «أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ إلى أن قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد» . ومنها ما أخرجه الطبراني في معجمه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ أتى رجل فتخطى الناس حتى قرب إليه، فقال: يا رسول الله أقم علي الحد، الحديث وفيه: "فاجلدوه مائة جلدة ولم يكن تزوج» .
م: (وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المسجد لفصل الخصومات) ش: هذا حديث غريب. وفي "صحيح البخاري " في باب من قضى ولاعن في المسجد، ولاعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - في المسجد عن منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقضى شريح والشعبي ويحيى بن معمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في المسجد.
م: (ولأن القضاء عبادة، فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة ونجاسة المشرك في اعتقاده) ش: هذا جواب عن دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتقريره نجاسة المشرك في اعتقاده الباطن، فإنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل للوفود في المسجد م: (لا في ظاهره) ش: أي لا نجاسة في ظاهره م: (فلا يمنع من دخوله) ش: إذ لا يصيب الأرض منه شيء م: (والحائض تخبر بحالها، فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد، أو يبعث) ش: أي القاضي م: (من يفصل بينها) ش: أي بين الحائض م: (وبين خصمها، كما إذا كانت الخصومة في الدابة) ش: فإن قيل: يجوز أن تكون الحائض غير مسلمة لا تعتقد حرمة الدخول في المسجد، فتخبر عن حالها، قلنا: الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فلا بأس بدخولها.
م: (ولو جلس) ش: أي القاضي م: (في داره لا بأس به) ش: ذكر هذا تفريعا على ما تقدم.
وقال شمس الأئمة السرخسي: وإن اختار أن يجلس في داره، فله ذلك بشرط أن لا يمنع أحدا من الدخول عليه؛ لأن لكل أحد حقا في مجلسه م: (ويأذن للناس بالدخول فيها) ش: أي في(9/20)
ويجلس معه من كان يجلس قبل ذلك؛ لأن في جلوسه وحده تهمة.
قال: ولا يقبل هدية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داره م: (ويجلس معه من كان يجلس) ش: معه م: (قيل ذلك لأن جلوسه وحده تهمة) ش: أي تهمة الظلم والرشوة.
وقد روي أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان يحكم حتى يحضر أربعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء، ويشاورهم، لما روي أن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -[الذين] كانوا يحضرون عبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حق، قال أحمد: يحضر مجلس الفقهاء من كل مذهب ويشاورهم فيما يشكل عليه.
[قبول الهدية للقاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يقبل) ش: أي القاضي م: (هدية) ش: الأصل في هذا الباب ما قاله في " المبسوط ": الهدية في الشرع منه وبه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم الشيء الهدية» [....] " وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهدية تذهب وحر الصدر» أي غشه، والوعد يوقظ له البغض في الصدر. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تهادوا تحابوا» ولكن بهذا في حق من لم يتعين العمل من أعمال المسلمين، فأما من تعين لذلك كالقاضي والوالي، فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدي قبل ذلك، إذ هو نوع من الرشوة والسحت. وعن مسروق قال: القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذت الرشوة، فقد بلغت به الكفر.
وروى البخاري - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن أبي حميد الساعدي قال: «استعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من الأزد يقال له ابن الأسد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر أيهدى له أم لا؟!» واستعمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقدم بمال، فقال: من أين لك هذا؟، قال: تناتجت الخيول، وتلاحقت الهدايا، فقال: أي عدو الله هل قعدت في بيتك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟ فأخذ ذلك منه، وجعله في بيت المال، فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كانت بهذه الصفة، فلا يقبل الحاكم الهدية.(9/21)
إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته؛ لأن الأول صلة الرحم، والثاني ليس للقضاء، بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك يصير آكلا بقضائه حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة؛ لأنه لأجل القضاء فيتحاماه، ولا يحضر دعوة إلا أن تكون عامة؛ لأن الخاصة لأجل القضاء فيتهم بالإجابة بخلاف العامة، ويدخل في هذا الجواب قريبه وهو قولهما. وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إلا من ذي رحم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء) ش: أي قبل أن يصير المهدى إليه قاضيا م: (بمهاداته؛ لأن الأول صلة الرحم، والثاني ليس للقضاء، بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك) ش: أي فيما وراء الأول والثاني م: (يصير آكلا بقضائه) ش: والأكل للقضاء حرام وسحت م: (حتى لو كانت للقريب خصومة، لا يقبل هديته) ش:.
م: (وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد، أو كانت له خصومة، لأنه لأجل القضاء فيتحاماه) ش: أي يحترز عنه ولا يأخذه، ثم إذا أخذ الهدية ممن لا يجوز الأخذ منه، اختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيه، قيل يضعها في بيت المال كما مر من قضية عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه. وعامة المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قالوا: يردها على أربابها إن عرف المهدي، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه آخر أشار إليه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " السير الكبير "، وإن لم يعرف المهدي أو كان بعيدا حتى تعذر الرد عليها، حكمها حكم اللقطة، يضعها في بيت المال لأنه أخذها لعمله، وفي عمله نائب عن المسلمين، فكانت الهدايا من حيث المعنى للمسلمين.
م: (ولا يحضر) ش: أي القاضي م: (دعوة إلا أن تكون عامة) ش: وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره ": ولا تجب الدعوة الخاصة للقرابة، ويجيء هذه الآن م: (لأن الخاصة) ش: أي الدعوة الخاصة تكون م: (لأجل القضاء، فيتهم بالإجابة بخلاف العامة) ش: أي الدعوة العامة، فإنها لا تكون للقضاء.
قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو علي النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دعوة العامة عرس وختان، وما سوى ذلك خاصة، وقيل في الحد الفاصل إذا جاوز العشرة فهي عامة، ويجيء الآن ما قاله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويدخل في هذا الجواب) ش: أي إطلاق قول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يحضر دعوة الخاصة م: (قريبه) ش: أي قريب القاضي م: (وهو قولهما) ش: أي قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجيبه) ش: أي القاضي يجيب قريبه في الدعوى الخاصة. وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجيب دعوة الخاصة لقريبه بلا خلاف؛ لأن إجابة دعوته صلة(9/22)
وإن كانت خاصة كالهدية. والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها. قال: ويشهد الجنازة، ويعود المريض؛ لأن ذلك من حقوق المسلمين. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «للمسلم على المسلم ستة حقوق» ، وعد منها هذين، ولا يضيف أحد الخصمين دون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للرحم، وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحضر الولائم لغير الخصم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحضر الخاصة ويحضر العامة إن شاء. وتركها أفضل، إن كانت وليمة النكاح، ولغير النكاح كره ذكره في " الجواهر " وفي " الحلية ": اختلف أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فيمن ولي أمرا من أمور المسلمين، كالقضاة والأئمة، في حضور الولائم على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كغيرهم، والثاني: أنه سقط فرض الإجابة، والثالث: أنه إن كان مرتزقا لم يحضر وإلا يحضر م: (وإن كانت خاصة) ش: واصل بما قبله أي وإن كانت الدعوة خاصة يجيبه لقريبه م: (كالهدية) ش: أي كما في الهدية، حيث يجوز له أخذها من قريبه. ثم أشار إلى تعريف الدعوة الخاصة بقوله: م: (والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها) ش: إيضاح ذلك أن صاحب الدعوة إن كان بحال لو علم أن القاضي لا يحضر، لا يمتنع من اتخاذ الدعوة، فإن القاضي لا يجيب هذه الدعوة، فهذه دعوة عامة. وإن كان بحال لو علم صاحب الدعوة أنه لو اتخذ الدعوة لا يحضرها القاضي، يمتنع ولا يتخذ الدعوة، فهذه دعوة خاصة، فلا يجيبها القاضي؛ لأنها اتخذت له. فإذا حضرها كان آكلا بقضائه. وذكر صدر الإسلام وأبو اليسر - رحمهما الله -: إذا كانت الدعوة عامة، والمضيف خصم، فينبغي أن لا يجيب القاضي دعوة، وإن كانت عامة لأنه يؤدي إلى إيذاء الآخر وإلى التهمة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره": م: (ويشهد) ش: أي القاضي م: (الجنازة، ويعود المريض؛ لأن ذلك) ش: أي المذكور من شهود الجنازة وعيادة المريض م: (من حقوق المسلمين) ش: لأنه أمر مندوب إليه، وليس فيه تهمة أيضا.
م: (قال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: م: ("للمسلم على المسلم ستة حقوق ") ش: الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق المسلم على المسلم ست، قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هن؟ قال: إذا لقيته فسلم، وإذا دعاك فأجب، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» وفي رواية أخرى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يجب للمسلم على أخيه؛ رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض واتباع الجنائز» م: (وعد منها) ش: أي من الست م: (هذين) ش: وهما شهادة الجنازة وعيادة المريض. م: (ولا يضيف أحد الخصمين دون(9/23)
خصمه، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن ذلك، ولأن فيه تهمة.
قال: وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر» ولا يسار أحدهما ولا يشير إليه ولا يلقنه حجة للتهمة، ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر فيترك حقه. ولا يضحك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خصمه، لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نهى عن ذلك) ش: الحديث رواه الطبراني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في معجمه "الأوسط" عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر» م: (ولأن فيه تهمة) ش: أي تهمة الميل.
[تسوية القاضي بين الخصمين]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإذا حضرا) ش: أي الخصمان م: (سوى بينهما في الجلوس والإقبال) ش: أراد بالإقبال تسوية النظر من الجانبين. وكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وسو بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، والمستحب باتفاق أهل العلم أن يجلسهما بين يديه، ولا يجلس أحدهما على يساره والآخر على يمينه؛ لأن لليمين فضلا على اليسار.
وفي " المغني " و " النوازل " و" الفتاوى الكبرى ": تخاصم السلطان مع رجل فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه ويجلس خصم السلطان فيه، ويقعد هو على الأرض، ثم يقضي بينهما حتى لا يكون مفضلا أحدهما، وهذه المسألة تدل على أن القاضي يصلح قاضيا على السلطان الذي قلده، والدليل عليه قصة علي عند شريح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن شريحا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قام عن مجلسه وأجلس عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مجلسه، وقال المرغيناني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وينبغي للخصمين أن يجثوا بين يدي القاضي ولا يتربعان ولا يقعيان ولو فعلا ذلك منعهما القاضي تعظيما للحكم كما يجلس المتعلم بين يدي العالم تعظيما للعلم، ويقف أعوان القاضي بين يديه، ليكون أهيب في أعين الناظرين.
م: (لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر» الحديث رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده " - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فلسوا بينهم في المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» .
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يسار أحدهما) ش: يعني لا يتكلم مع أحدهما سرا م: (ولا يشير إليه) ش: لا بالرأس ولا بالعين ولا بالحاجب، وكل ذلك منهي شرعا م: (ولا يلقنه حجة للتهمة) ش: أي تهمة الميل، ولأن فيه إعانة لأحد الخصمين، وكسر قلب الآخر، وهو معنى قوله م: (ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر) ش: المكسرة بفتح الميم مصدر ميمي بمعنى الكسر م: (فيترك حقه) ش: لأنه يتجنب عن طلب حقه فيترك حقه م: (ولا يضحك) ش: أي القاضي(9/24)
في وجه أحدهما لأنه يجترئ على خصمه ولا يمازحهم ولا واحدا منهما؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء. قال: ويكره تلقين الشاهد. ومعناه أن يقول له: أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم. واستحسنه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير موضع التهمة؛ لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس، فكان تلقينه إحياء للحق بمنزلة الأشخاص والتكفيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (في وجه أحدهما) ش: أي أحد الخصمين م: (لأنه يجترئ على خصمه) ش: بسبب ضحك القاضي في وجهه م: (ولا يمازحهم) ش: في الاختصام م: (ولا واحدا منهما) ش: أي ولا يمازح واحدا من الأخصام م: (لأنه) ش: لأن مزح القاضي م: (يذهب بمهابة القضاء) ش: ولهذا قالوا: ينبغي أن يكون القاضي عبوسا، متواضعا في أفعاله، وفي " الجواهر ": يستحب أن يكون فيه عبوسة من غير غضب.
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ويكره تلقين الشاهد ومعناه) ش: أي معنى ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من كراهته تلقين الشاهد م: (أن يقول له:) ش: أي أن يقول القاضي للشاهد: م: (أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم) ش: حيث يكره م: (واستحسنه) ش: أي تقليد الشاهد م: (أبو يوسف في غير موضع التهمة؛ لأن الشاهد قد يحصر) ش: أي ينحبس لسانه عن البيان م: (لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق) ش: وقيد بقوله في غير موضع التهمة، لأن في موضع التهمة لا يجوز ذلك، مثل أن يدعي المدعي ألفا وخمسمائة، والمدعى عليه ينكر خمسمائة، وشهد الشاهد بالألف، فالقاضي إن قال يحتمل أنه إبراء لخمسمائة، واستفاد الشاهد، علما بذلك، ووقف في شهادته كما في وقف القاضي، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وتأخير قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشير إلى اختيار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بمنزلة الأشخاص) ش: وهو إرسال شخص فليحضر خصمه، ويقال شخص من بلد إلى بلد شخوصا، أي يذهب من حد منع وأشخصه غيره م: (والتكفيل) ش: وهو أخذ الكفيل لأحد الخصمين لأنه لم يكن ذلك من جنس إعانة أحد الخصمين.(9/25)
فصل في الحبس قال: وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه، وأمره بدفع ما عليه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الحبس]
[الحبس جزاء المماطلة]
م: (فصل في الحبس) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الحبس، ولما كان الحبس من أنواع حكم القاضي، ذكره في فصل على حدة، وهو مشروع بالكتاب، وهو قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] (المائدة الآية 33) ، فإن المراد به المجلس، وبالسنة وهو ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبس رجلا بالتهمة» ، غير أنه لم يكن في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سجن وكان يحبس في المسجد أو الدهليز حيث أمكن، ولما كان زمن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحدث السجن بناه من قصب وسماه فقيه اللصوص، فبنى سجنا من مدر فسماه محبسا.
ثم قال الأترازي: كيسا مكيسا بنيت بعد نافع محبسا بابا حصينا، وأمينا كيسا رواه الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الفائق ". والمحبس موضع التجنيس، وهو التذليل والكيس حسن الثاني في الأمور، والمكيس منسوب إلى الكيس المعروف به قوله، وأمينا أي ونصف أمينها بعين السجان كذا في "الفائق ".
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن سجن حتى اشترى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دارا بالمدينة بأربعة آلاف درهم واتخذه محبسا.
م: (قال: وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه، وأمره بدفع ما عليه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلا بد من ظهورها) ش: أي ظهور المماطلة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مطل الغني ظلم» فاستحق الحبس، والمال غير مقدر في حق الحبس يحبس في الدراهم وما دونه؛ لأن مانع ذلك ظلم، فيجازى به والمحبوس في الدين لا يخرج لمجيء رمضان، والفطر والأضحى والجمعة، وصلاة مكتوبة، وحجة فريضة، وحضور جنازة بعض أهله، وموت والده وولده إذا كان ثمة من يكفنه ويغسله، بخلاف ما إذا لم يكن؛ لأنه لزم القيام حينئذ بحق الوالدين.
وقيل: يخرج بكفيله لجنازة الوالدين والأجداد والجدات والأولاد وفي غيرهم لا، وعليه الفتوى. وإن مرض وله خادم لا يخرج، وإلا يخرج لأنه ربما يموت بسببه، وهو ليس بمستحق عليه، ولو احتاج إلى الجماع، دخلت عليه زوجته وجاريته، فيطأهما حيث لا يطلع عليه أحد، وقيل: الوطء ليس من أصول الحوائج، فيجوز أن يمنع بخلاف الطعام. ولا يمنع من دخول أهله وجيرانه عليه، يشاورهم في قضاء الدين، ويمنعون من طول المكث عنده.(9/26)
وهذا إذا ثبت الحق بإقراره؛ لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة فلعله طمع في الإمهال، فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره. قال: فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذا) ش: أي ترك القاضي عجلته بحبس الغريم م: (إذا ثبت الحق بإقراره؛ لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة) ش: يقال: لقيته أول وهلة، أي أول شيء م: (فلعله طمع في الإمهال، فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره) ش: وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وعلى قول الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البينة أيضا، لا يحبسه في أول الوهلة.
وقال في " الأجناس ": قال في كفالة الأصل: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ينبغي للإمام أن يحبس في الديون قرضا كان أو غصبا أو ثمن مبيع أو مهر، لكن لا يحبسه في أول ما يقدم إليه، ويقال له: قم فأرضه فإن عاد إليه حبسه، وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله.
وقال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصواب عندي أن لا يحبسه حتى يقول له: ألك مال، ويستحلفه على ذلك، فإن أقر أن له مالا حبسه، وإن قال: لا مال لي، قال للطالب: أثبت أن له مالا حتى أحبسه، وهو مذهب بعض القضاة. ثم اعلم إذا ثبت إعسار المديون لا يجوز حبسه بلا خلاف ولا بلازمته، بل يمهل إلا أن يوسر. قال عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] (البقرة: الآية 280) ، وعندنا لا يحبس، ولكن للغريم ملازمته ولا يمنعه من الكسب، وهل يلزمه الكسب وإجارة نفسه ليصرف الأجرة والكسب إلى رب الدين عندنا والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان ممن يعتاد إجارة نفسه لزمه به، وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه: وعليه عمل القضاة لظهور المماطلة، وفي وجه: يبيع ماله الظاهر، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - أما لو امتنع من أداء الدين يحبس بلا خلاف.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن امتنع) ش: أي الغريم م: (حبسه في كل دين لزمه عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة) ش: ولكنه إنما يحبسه إذا طلب المدعي ذلك.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": ولا يحبسه عندنا في الإقرار والبينة إلا عند طلب المدعي.
وقال شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحبسه من غير طلبه.(9/27)
لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به وإقدامه على التزامه باختياره دليل يساره إذ هو لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " الذخيرة " لو قال المديون بعد ثبوت الدين: أنا معسر، أو قال: موسر، ولا بينة له، فالقول للمديون مع يمينه، وهو رواية أصحابنا واختيار الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه؛ لأن الأصل الفقر.
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -: إن كان في كل دين أصله مال، كثمن المبيع والقرض، فالقول للمدعي، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه وفي كل دين لا يقابله مال، كالمهر وبدل الخلع، وما أشبه ذلك، فالقول للمديون، إليه أشار محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب النكاح، وفي مسألة ادعاء المرأة نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، فقال: القول للزوج، وقال بعضهم: كل دين لزمه بسبب معاقدته واختياره، فالقول لرب الدين، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه لأن اختيار لزومه بالعقد دليل اليسار.
م: (لأنه) ش: استدلال لما ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لقوله: حبسه لكل دين ... إلخ أي لأن الغريم م: (إذا حصل المال) ش: أي المال الذي هو ثمن المبيع ونحوه من أي جهة كان م: (في يده ثبت غناه به) ش: وزواله عن الملك محتمل، والثابت لا يترك بالمحتمل. والأصل في ذلك أن الأصل في الإنسان الفقر والغنى حادث، فوجب استصحاب المال حتى يعلم حدوث ما يخالفه، وما كان بدلا عن مال، فقد علم حصول الغنى به، فسقط حكم الأصل. ووجب استصحاب الغنى حتى يعلم زواله، فلهذا لم يصدق في الاعتبار، وصار امتناعه ظلما، فحبس لأجله.
م: (وإقدامه على التزامه) ش: بعقد كالمهر والكفالة م: (باختياره دليل يساره إذ هو) ش: أي لأنه م: (لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه) ش: فإذا ادعى الإعسار يريد إسقاطها عن نفسه، فلا يقبل قوله ويحبس، وهو الذي ذكره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وشرحه المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، [و] هو رواية ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يحبس في ذلك ولا يقبل قوله في الإعسار.
وذكر الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أصحابنا: أنه يحبس فيما إذا كان بدلا عن مال حصل في يده خاصة، ولا يحبس فيما سوى ذلك، لأن الحبس عقوبة تستحق بالامتناع مع الغنى، فلا يجوز إثابتها بالظاهر، كسائر العقوبات.
وحاصل المذهب عندنا: أن القاضي لا يسأل المدعي المال إلا إذا ادعى المديون الإعسار، فحينئذ يسأل. فإن قال المدعي: إنه معسر، خلى سبيله، وإن قال: إنه موسر، وقال المديون: إني(9/28)
والمراد بالمهر معجله دون مؤجله.
قال: ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال: إني فقير إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه، لأنه لم توجد دلالة اليسار، فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
معسر، ففيه اختلاف المشايخ، ورأي الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول المديون لأنه متمسك بالأصل. وقيل: إن كان الدين وجب عليه بدلا عن مال، كثمن متاع، أو بدل. قرض، فالقول قول المدعي، وإن كان بدلا عما ليس بمال، كالمهر ونحوه، فالقول قول المدعى عليه. ونسب الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا القول في " أدب القاضي " إلى أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله.
ومن العلماء من قال: يحكم في الزاي، إن تزيا بزي الفقر، كان المقول قول المديون، وإن تزيا بزي الأغنياء، كان القول قول الطالب؛ لأن ذلك علامة ودليل إلا في حق العلوية والفقهاء، فإنهم يتكلفون في لباسهم، حتى لا يذهب ماء وجههم مع حاجتهم، فلا يكون الزي دليلا وعلما على اليسار في حقهم، فإن كان المطلوب ادعى الفقراء، وادعى الطالب أنه غير زيه، وقد كان عليه زي الأغنياء قبل أن يحضر مجلس القاضي فإن القاضي يسأل البينة، فإن أقام البينة على أنه كان عليه زي الأغنياء قبل ذلك، سمع منه البينة، ويجعل القول قوله، وإن لم يمكنه إقامة البينة، يحكم بزيه في الحال، ويجعل القول قول المطلوب، كذا في " شرح آداب القاضي ".
م: (والمراد بالمهر معجله دون مؤجله) ش: لأن العادة جارية بتسليم المعجل، فكان الإقدام على النكاح دليلا على القدرة، والوفاء بالمعجل، فلا يقبل قوله أنه معسر. قال فخر الإسلام البزدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا في المعجل، أما إذا طلبت المرأة المؤجل بعد ما بنى بها، فإن القول قول الزوج أنه عسر؛ لأنه لا دلالة هاهنا على القدرة منه على آدابه؛ فأما في النفقة، فإن القول قول الزوج أنه معسر في تقدير النفقة.
[أقام المدعي بينة على يساره وأقام المديون بينة على إعساره]
م: (قال: ولا يحسبه فيما سوى ذلك) ش: أي فيما سوى المذكور كضمان المتلف والغصب وأرش الجناية. م: (إذا قال: إني فقير، إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه؛ لأنه لم توجد دلالة اليسار، فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة) ش: أي في ثمن المبيع والمهر وغير ذلك.
وفي " الذخيرة ": إذا أقام المدعي بينة على يساره، وأقام المديون بينة على إعساره، فبينة رب الدين أولى، لأن شهود المديون شهدوا بشيء لم يعرفوه.(9/29)
ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال. وفي النفقة القول قول الزوج أنه معسر، وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق. والمسألتان تؤديان القولين الأخيرين، والتخريج على ما قاله في الكتاب إنه ليس بدين مطلق، بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق، وكذا عند أبي حنيفة ضمان الإعتاق، ثم فيما كان القول قول المدعي، إن له مالا أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه، يحبسه شهرين أو ثلاثة، ثم يسأل عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ويروى) ش: عن الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نسبه إلى أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقد مر بيانه م: (أن القول له) ش: أي لمن عليه الدين م: (إلا فيما بدله مال) ش: يعني القول فيما بدله مال للمدعي م: (وفي النفقة القول قول الزوج إنه معسر) ش: يعني إذا ادعت المرأة على زوجها أنه موسر، وادعت نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، وعليه نفقة المعسرين، فالقول قول الزوج.
م: (وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق) ش: يعني إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد.
وزعم أنه معسر، كان القول قوله م: (والمسألتان) ش: وهما مسألة النفقة ومسألة إعتاق العبد المشترك م: (تؤيدان القولين الأخيرين) ش: وبعض النسخ الأخير، وأراد بالقولين الأخيرين قوله ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك، ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال.
م: (والتخريج) ش: أي تخريج مسألة الإنفاق والإعتاق م: (على ما قاله في الكتاب) ش: أي على ما قال القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره "، حيث القول المدعي في كل دين التزمه بعقد مع وجود الالتزام، لم يكن القول للمدعي في المسألتين، فأجاب عنه وقال م: (إنه) ش: أي أن النفقة على تأويل الإنفاق م: (ليس بدين مطلق، بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق) ش: فلو كان دينا مطلقا لم يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء م: (وكذا) ش: أي ولكذا ليس بدين مطلق م: (عند أبي حنيفة ضمان الإعتاق) ش: فإن المريض إذا أعتق في مرض موته عبدا مشتركا، لا يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلما كان كذلك، لم ترد هاتان المسألتان بقضاء القول الأول، وهو قوله حبسه في كل دين ... إلى آخره؛ لأن المراد بالدين هو المطلق منه، إذ به يحصل الاستدلال على القدرة.
م: (ثم فيما كان القول قول المدعي إن له مالا أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه يحبسه) ش: أي الحاكم م: (شهرين أو ثلاثة ثم يسأل) ش: جيرانه وأهل الخبرة م: (عنه) ش: عن يساره وإعساره، وهذا التقدير رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(9/30)
فالحبس لظهور ظلمه في الحال، وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة، فقدره بما ذكره، ويروى غير ذلك من التقدير بشهر أو أربعة إلى ستة أشهر، والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه. قال: فإن لم يظهر له مال خلى سبيله، يعني بعد مضي المدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كتاب الحوالة، والكفالة، وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التقدير فيه بأربعة أشهر، على قياس مدة الإيلاء. وذكر الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن التقدير فيه بشهر.
وقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": ثم قال: والحاصل أنه ليس فيه مضي وقت مقدر، بل الأمر مفوض إلى رأي القاضي، فإن مضى أربعة أشهر، ووقع له أنه متعنت، يستديم حبسه، وإن كان دون ذلك، بأن كان شهرين أو شهرا أو دونه ووقع أنه عاجز لا مال له، أطلقه من السجن.
وقال شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما قال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أوفق الأقاويل، وقال الناصحي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " تهذيب أدب القاضي ": قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يحبسه شهرين أو ثلاثة، وعلى رواية محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قر وفيه أربعة أشهر، وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ستة أشهر، ثم قال: وهو موقوف على رأي القاضي.
م: (فالحبس لظهور ظلمه في الحال) ش: وفي بعض النسخ لظهور مظلمة م: (وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة) ش: أراد بهذه ظهور ماله لو كان [يخفيه] م: (فقدره بما ذكره) ش: أي قدر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما ذكره من الحبس أنه شهران أو ثلاثة م: (ويروى غير ذلك) ش: أي غير الشهرين أو الثلاثة م: (من التقدير بشهر أو أربعة) ش: أشهر م: (إلى ستة أشهر) ش: وقد مر ذلك كله، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والصحيح أن التقدير) ش: في مدة الحبس م: (مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه) ش: أي من الحبس لأن بعض الناس، يضجر بالحبس في مدة قليلة ما لا يضجر آخر في مدة كثيرة. وبه قال الشافعي، وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وقال ابن الماجشون المالكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحبس في القليل أكثر من نصف الشهر، وفي الكثير يبلغ أربعة أشهر، وفيما بين ذلك الشهرين ونحوهما بالنسبة.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإن لم يظهر له) ش: أي الغريم م: (مال خلى سبيله) ش: ولا يحول بينه وبين غرمائه، قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعني بعد مضي المدة لأنه استحق النظرة) ش: بكسر الظاء م: (إلى الميسرة، فيكون حبسه بعد ذلك ظلما. ولو قامت البينة(9/31)
لأنه استحق النظرة إلى الميسرة فيكون حبسه بعد ذلك ظلما، ولو قامت البينة على إفلاسه قبل المدة تقبل في رواية ولا تقبل في رواية، وعلى الثانية عامة المشايخ. قال في الكتاب: خلي سبيله ولا يحول بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى. قال وفي " الجامع الصغير " رجل أقر عند القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على إفلاسه قبل المدة) ش: أي المدة التي رآها القاضي برائة، أو بعد مضي المدة التي اختارها بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كشهر أو شهرين أو أربعة أشهر على ما تقدم م: (تقبل) ش: أي م: (البينة في رواية) ش: وبه قال الشافعي، وأحمد - رحمهما الله - م: (ولا تقبل في رواية) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعلى الثانية) ش: أي الرواية الثانية م: (عامة المشايخ) ش:. وقال الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": هو الصحيح، وفي " الذخيرة ": لو أخبره عن إعساره قبل الحبس واحد عدل أو اثنان، أو شهد بذلك شاهدان، فعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان، في رواية: لا يحبسه وبه يفتي الفضلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو قول إسماعيل ابن حماد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهكذا قال نصر بن يحيى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال الإسكاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعامة مشايخ ما وراء النهر - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يحبسه ولا تقبل هذه البينة؛ لأنه بينة على النفي، إلا إذ تأيدت بمؤيده بعد مضي المدة تأيدت.
وقال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سؤال القاضي عن المحبوس بعد حبسه احتياط، وليس بواجب، ولو طلب يمين الطالب عنه لا يعرف أنه معدم، يحلف، فإن نكل أطلقه، وإن حلف أبد الحبس.
وقال أبو القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كيفية الشهادة: أن يقول: أشهد أنه مفلس، لا نعلم له مالا سوى كسوته التي عليه، وثياب ليله، وقد اختبرنا أمره سرا وعلانية.
م: (قال في الكتاب) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (خلى سبيله ولا يحول بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة) ش: يعني المنع عن ملازمة المديون بعد إخراجه من الحبس في الملازمة هل للطالب ذلك أم لا؟ م: (وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى) ش: أي المنع في باب الحجر بسبب الدين عند قوله، ولا يحول بينه وبين غرماء بعد خروجه من الحبس، يلازمونه ... إلى آخره والمراد من الملازمة الطواف معه، أي طاف حتى يأخذ وأفضل كسبه لا المطالبة.
م: (قال) ش: أي المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وفي " الجامع الصغير " رجل أقر عند القاضي(9/32)
بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله، ومراده إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته، والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده. قال: ويحبس الرجل في نفقة زوجته لأنه ظالم بالامتناع ولا يحبس الوالد في دين ولده، لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله) ش: إنما ذكر رواية الجامع الصغير دفعا لتوهم التناقض بين روايته ورواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا لأنه روى لفظ القدوري في أول الفصل بقوله، وإذا ثبت الحق عند القاضي، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل بحبسه، ثم قال: وهذا إذا ثبت الحق بإقراره.
ولفظ " الجامع الصغير " يدل على جواز الحبس متصلا بالإقرار، وبينهما وهم التناقض، فدفع هذا الوهم بقوله م: (ومراده) ش: يعني مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته) ش:. قال الأترازي يعني مراد محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا ثبت الحق بالإقرار، ثم ثبتت المماطلة، فترافعا إلى القاضي فحينئذ يحبسه لا بمجرد الإقرار، فاندفع ذلك الوهم.
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: معنى المسألة إذا كان جاحدا، فأقر عنده، وظهر القاضي جحوده عند غيره، ومماطلته، أو ظهر له مماطلته بعدما أقر عنده، فحينئذ يحبسه، فأما إذا أقر مرة فلا يحبسه.
م: (والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده) ش: أي الحبس المذكور أولا قبل السؤال في " الجامع الصغير " في قوله: يحبسه، ثم يسأل عنه، قد بينا ذلك قبل هذا في رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنده يحبسه شهرين أو ثلاثة، ثم يسأل عنه، وبينا مدة الحبس أيضا مع الاختلاف المذكور فيها فلا حاجة إلى الإعادة، وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وروي والحبس ومدته بالنصب فيهما.
قلت: إعراب الرفع أن قوله: و"الحبس" مبتدأ أولا نصب على الظرف، ومدته عطف على المبتدأ، وقوله: وقد بيناه، خبر المبتدأ.
وأما وجه النصب، فعلى تقدير بينا الحبس، ومدته بالنصب أيضا عطفا عليه، وقوله: قد بيناه مفسر لذلك المقدر.
م: (قال: ويحبس الرجل في نفقة زوجته؛ لأنه ظالم بالامتناع) ش: وفي أكثر النسخ. قال، أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويحبس الرجل إلى آخره؛ لأنه ظالم فيحبس وإن كان مقدار النفقة يسيرا، بأن كان درهما أو دنقا م: (ولا يحبس الوالد في دين ولده لأنه) ش: أي لأن الحبس م: (نوع(9/33)
نوع عقوبة فلا يستحقه الولد على الوالد كالحدود والقصاص إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه، لأن فيه إحياء لولده، ولأنه لا يتدارك لسقوطها بمضي الزمان، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عقوبة فلا يستحق الولد على الوالد، كالحدود والقصاص) ش: فإن الوالد لا يؤاخذ بهما لأجل ولده م: (إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه) ش: أي على ولده؛ لأن فيه إهلاكه، وفي الإنفاق عليه إحياءه، وهو معنى قوله م: (لأن فيه) ش: أي في الإنفاق عليه م: (إحياء لولده، ولأنه) ش: أي ولأن الإنفاق م: (لا يتدارك لسقوطها) ش: أي لسقوط نفقة الولد م: (بمضي الزمان، والله أعلم بالصواب) ش: أي الزمان، بخلاف الدين حيث لا يسقط بمضي الزمان، فافترقا في هذا الحاكم، فيفترقان في حق الحبس.(9/34)
باب كتاب القاضي إلى القاضي قال: ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به عنده، للحاجة على ما نبين فإن شهدوا على خصم حاضر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب كتاب القاضي إلى القاضي]
[حكم كتاب القاضي إلى القاضي]
م: (باب كتاب القاضي إلى القاضي)
ش: أي هذا باب في بيان حكم كتاب القاضي إلى القاضي، أورد هذا في هذا الكتاب بعد فصل الحبس، لأن هذا من عمل القضاة أيضا، إلا أن السجن يتم بقاض واحد، وهذا باثنين، والواحد قبل الاثنين والقياس يأبى جواز العمل به، لما فيه من شبهة التزوير، إذ الخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم، إلا أنه جوز لحاجة الناس إليه، لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جوزه لحاجة الناس إلى ذلك وعليه أجمع الفقهاء.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق) ش: التي تثبت مع الشبهات دون ما يندرئ بها م: (إذا شهد به عنده) ش: أي إذا شهد بالكتاب عند القاضي المكتوب إليه، وشهد على صيغة المجهول م: (للحاجة) ش: أي لحاجة الناس إليه م: (على ما نبين) ش: إشارة إلى قوله بعد هذا لمساس الحاجة ... إلى آخره.
وفي " الأجناس " لا يكتب القاضي إلى القاضي فيما ينقل ويمول مثل العبد والدابة، والثوب، ويكتب في العقار، ويسمع شهادة المشهور على ذلك إذا بين حدودها الأربع. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو كتبت في العبد، لكتب في الناقة والحمار وفي هذين لا أكتب، فكذلك في العبد ولا جعل الآبق.
قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الكتب في العبد وفي الجارية لا يكتب في قولهم.
وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ": أصله رواية بشر بن الوليد في الجارية. إلى هنا لفظ " الأجناس ".
وقال في شرح الطحاوي " وقال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبل في جميع ذلك، أي يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المنقول وغيره، ثم قال فيه: والفتوى على هذا لتعامل الناس.
م: (فإن شهدوا على خصم حاضر) ش: المراد من الخصم هنا، الوكيل عن الغائب أو المسخر الذي جعل وكيلا لأجل إثبات الحق عليه، والمسخر هو الشخص الذي ينصبه القاضي من جهة(9/35)
حكم بالشهادة لوجود الحجة وكتب بحكمه وهو المدعو سجلا، وإن شهدوا به بغير حضرة الخصم لم يحكم؛ لأن القضاء على الغائب لا يجوز، وكتب بالشهادة ليحكم المكتوب إليه بها، وهذا هو الكتاب الحكمي، وهو نقل الشهادة في الحقيقة، ويختص بشرائط نذكرها إن شاء الله وجوازه لمساس الحاجة؛ لأن المدعي قد يتعذر عليه الجمع بين شهوده وخصمه، فأشبه الشهادة على الشهادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخصم، لإثبات الحق، ولو لم يكن خصما أصلا لا المدعى عليه ولا نائبه وقد حكم القاضي بالشهادة، كان قضاء على الغائب، وهو لا يجوز عندنا.
وعند الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يجوز الحكم على الغائب فلا يحتاج إلى خصم م: (حكم بالشهادة لوجود الحجة، وكتب بحكمه وهو المدعو سجلا) ش: إذ السجل لا يكون إلا بعد الحكم م: (وإن شهدوا به بغير حضرة الخصم لم يحكم؛ لأن القضاء على الغائب لا يجوز، وكتب بالشهادة) ش: أي كتب القاضي بما يسمعه من الشهادة إلى القاضي م: (ليحكم المكتوب إليه) ش: أي القاضي المكتوب إليه م: (بها) ش: أي بهذه الشهادة، لكن إذا ثبت عنده أنه كتاب القاضي الكاتب، وهو بمنزلة نقل الشهادة.
م: (وهذا هو الكتاب الحكمي) ش: أي وهذا الكتاب إلى القاضي يسمى الكتاب الحكمي؛ لأنه يكتب ليحكم به القاضي المكتوب إليه م: (وهو نقل الشهادة في الحقيقة) ش: ألا ترى أن للقاضي الأول أن يبطله قبل أن يبعث به إلى الثاني، وكذا للثاني أن لا ينفذ بكتابه، إلا أن يكون ذلك برأيه كذا في " المبسوط " م: (ويختص) ش: أي كتاب القاضي إلى القاضي م: (بشرائط نذكرها إن شاء الله) ش: في هذا الباب، ومن الشرائط المعلومة خمسة.
ذكرها في " الذخيرة ": وهو أن يكون القاضي الكاتب معلوما، والقاضي المكتوب إليه معلوما، والمدعى به معلوما، والمدعى عليه معلوما، والمدعى به المعلوم ثم إعلام كل واحد من هؤلاء المذكورين يكون بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده أو قبيلته؛ لأن إعلام الإنسان إذا كان غائبا بهذه الأشياء، ولو لم يذكر اسم أبيه وجده لا يحصل التعريف بالاتفاق، وبذكر أبيه دون جده وقبيلته يحصل التعريف عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن كان مشهورا.
م: (وجوازه) ش: أي جواز نقل كتاب الناس إلى القاضي، وهذا هو الموعود بقوله على ما نبين م: (لمساس الحاجة) ش: أي لشدة حاجة الناس إليه م: (لأن المدعي قد يتعذر عليه الجمع بين شهوده وخصمه فأشبه الشهادة على الشهادة) ش: تقرير هذا أن جوازه ثابت لمشابهة الشهادة على الشهادة لاتحاد المناط، وهو تعذر الجمع بين الشهود والخصم، فكما تجوز الشهادة على الشهادة(9/36)
وقوله في الحقوق يندرج تحته الدين والنكاح والنسب والمغصوب والأمانة المجحودة والمضاربة المجحودة؛ لأن كل ذلك بمنزلة الدين، وهو يعرف بالوصف لا يحتاج فيه إلى الإشارة، ويقبل في العقار أيضا لأن التعريف فيه بالتحديد، ولا يقبل في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل في العبد دون الأمة؛ لغلبة الإباق فيه دونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لإحياء حقوق الناس، فكذلك جواز الكتاب لذلك ولا يراد بالشاهد القياس لما ذكرنا أنه مخالف للقياس فيراد به الاتحاد في مناط الاستحسان.
م: (وقوله) ش: أي وقول القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الحقوق يندرج تحته الدين والنكاح) ش: بأن ادعى رجلا نكاحا على امرأة، أو بالعكس، وكذلك الطلاق، إذا ادعت امرأة على زوجها م: (والنسب) ش: بأن ادعى نسبا من الميت م: (والمغصوب) ش: بأن ادعى غصبا على رجل م: (والأمانة المجحودة) ش: الوديعة التي جحدها المودع م: (والمضاربة المجحودة) ش: التي جحدها المضارب، وإنما قيد بالجحد فيهما؛ لأن المودع والمضارب لو كانا مقرين، فلا حاجة إلى كتاب القاضي. م: (لأن ذلك كله) ش: أي لأن المذكور من هذه الأشياء كله م: (بمنزلة الدين) ش: والدين يجوز فيه الكتاب، فكذا يجوز فيما كان بمنزلته.
م: (وهو) ش: أي الدين م: (يعرف بالوصف لا يحتاج فيه إلى الإشارة) ش: فإن قيل: لا نسلم عدم الاحتياج في الإشارة فيما سوى الدين، فإن الشاهد يحتاج أن يشير إلى الرجل والمرأة عند دعوى النكاح من الجانبين، وكذلك في الأمانة والمغصوب.
قلنا: لا بل النكاح ونظائره المذكورة، لا يحتاج إلى الإشارة؛ لأن دعوى المدعي يضمن النكاح لا نفس المرأة، وكذلك نظائره؛ لأنها من الأفعال، وإن كان يلزم في ضمنه الإشارة، والمدعى هو العقد م: (ويقبل في العقار أيضا) ش: أي يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في دعوى العقار أيضا م: (لأن التعريف فيه) ش: أي في العقار م: (بالتحديد) ش: أي ببيان حدوده الأربعة.
م: (ولا يقبل) ش: أي كتاب القاضي إلى القاضي م: (في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة) ش: عند الدعوى والشهادة، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله - في العبيد والجوار، وهو القياس المنصوص عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يجوز في المنقول، وهو أصح الروايتين عنه.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن كتاب القاضي إلى القاضي م: (يقبل في العبد دون الأمة؛ لغلبة الإباق فيه دونها) ش: أي في العبد دون الأمة، لأن العبد يخدم خارج البيت، فيقدر على الإباق غالبا فتمس الحاجة إلى الكتاب، بخلاف الأمة، فإنها تخدم في البيت(9/37)
وعنه: أنه يقبل فيهما بشرائط تعرف في موضعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فلا تقدر على الإباق غالبا، فلا تمس الحاجة. كذا في " شرح أدب القاضي " للصدر الشهيد، قلت: أكثر جوار أهل مصر تخرج إلى الأسواق وغيرها في أكثر الأوقات.
م: (وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواها عنه بشر بن الوليد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أنه يقبل) ش: كتاب القاضي إلى القاضي م: (فيهما) ش: أي في العبد والأمة م: (بشرائط تعرف في موضعها) ش: وموضعه كتاب الإباق من " المبسوط "، وأراد بها بيان حلية العبد وصفته، ونسبه الذي أخذه، والختم في عنقه، وأخذ الكفيل.
وصفة ذلك: بخارى أبق له عبد إلى سمرقند مثلا، فأخذه سمرقندي، ويجوز المولى ببخارى، فطلب من قاضي بخارى أن يكتب بشهادة شهوده عنده بحسب إلى ذلك، ويكتب شهد عندي فلان وفلان بأن العبد الذي من صفته كيت وكيت ملك فلان المدعي وهو اليوم بسمرقند بيد فلان بغير حق، ويشهد على كتابه شاهدين، ويعلمهما ما فيه، ويرسلهما إلى سمرقند، فإذا انتهى المكتوب إليه يحضر العبد مع من هو بيده ليشهدا عنده بالكتاب وبما فيه، فيقبل شهادتهما ويفتح الكتاب ويدفع العبد إلى المدعي، ولا يقضي له لأن شهادة شاهدين الملك لم يكن بحضرة العبد، ويأخذ كفيلا من المدعي بنفس العقد.
ويجعل في عتق العب خاتما من رصاص كيلا يتهم المدعي بالسرقة، ويكتب كتابا إلى قاضي بخارى ويشهد شاهدين على كتابه وختمه، وعلى ما في الكتاب فإذا وصل إلى قاضي بخارى ويشهد بالكتاب وختمه أمر المدعي بشهادة شهوده ليشهدوا بالإشارة إلى العبد، أنه حقه وملكه، فإذا شهدوا بذلك، قضى له بالعبد وكتب إلى ذلك القاضي بما ثبت عنده ليبرئ كفيله.
وفي رواية عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن قاضي بخارى لا يقضي للمدعي بالعبد، لأن الخصم غائب، ولكن يكتب كتابا آخر إلى قاضي سمرقند فيه ما جرى عنده، ويشهد شاهدين على كتابه وختمه وما فيه، ويبعث بالعبد إلى سمرقند حتى يقضي له بحضرة المدعى عليه، فإذا وصل الكتاب إليه يفعل ذلك ويبرئ الكفيل وصفة الكتاب في الجواري صفته في العبد، غير أن القاضي لا يدفع الجارية إلى المدعي، ولكنه يبعث بها معه على يد أمين، لئلا يطأها قبل القضاء بالملك، زاعما أنها ملكه.
ولكن أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قالا: هذا استحسان، فيه بعض قبح، فإنه إذا دفع العبد يستخدمه قهرا، ويستعمله، فيأكل من غلبته قبل القضاء بالملك، وربما يظهر العبد لغيره؛ لأن الحلية والصفة يشتبهان، فإن المختلفين متفقان في الحلي والصفات(9/38)
وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه المتأخرون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قال، ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأن الكتاب يشبه الكتاب، فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأنه ملزم، فلا بد من الحجة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فالأخذ بالقياس أولى.
م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه) ش: أي أن كتاب القاضي إلى القاضي م: (يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه) ش: أي وعلى قول محمد والمشايخ المتأخرون - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في قول، وقال الأسبيجابي: وعليه الفتوى.
وفي " الخلاصة ": ولو كتب اسم القاضي ونسبه، ولم يكتب اسم القاضي والمكتوب إليه ونسبه ولكن كتب إلى من بلغ كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم لا يجوز، وأبي يوسف وسع وأجاز وعليه عمل الناس اليوم، ولو لم يكتب في الكتاب التاريخ لا يقبله، وإن كتب فيه تاريخا ينظر هل هو كان قاضيا في ذلك الوقت أم لا، ولا يكتفي بالشهادة، إذا لم يكتب مكتوبا.
وكذا كونه كتاب القاضي، لا يثبت بمجرد شهادتهم بدون الكتابة وكذا لو شهدوا على أصل الحادثة، ولم يكن مكتوبا، كذا كونه لم يعمل به إلى هنا لفظ " الخلاصة ".
وفي " شرح الطحاوي ": وكتاب القاضي إلى القاضي، في حقوق الناس من الطلاق والعتاق وغيرها جائز إلا في الحدود والقصاص، وفي خزانة الفقه ويجوز كتاب القاضي إلى القاضي في المصرين أو من قاضي مصر إلى قاضي رستاق، ولا يجوز من القاضي الرستاق إلى قاضي مصر.
م: (وقال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين) ش: يعني لا يقبل القاضي المكتوب إليه، كتاب القاضي إليه إلا بحجة تامة، وهي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كما في سائر الحقوق.
وكان الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: بجواز كتاب القاضي إلى القاضي بغير بينة، قياسا على كتاب أهل الحرب ويجيء الجواب عنه عن قريب م: (لأن الكتاب يشبه الكتاب، فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا) ش: أي اشتراط الحجة م: (لأنه) ش: أي لأن كتاب القاضي إلى القاضي م: (ملزم، فلا بد من الحجة) ش: وهذا عليه عامة الفقهاء.
وعن الحسن البصري والعنبري وأبي ثور والإصطخري، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في(9/39)
بخلاف كتاب الاستئمان من أهل الحرب؛ لأنه ليس بملزم، وبخلاف رسول القاضي إلى المزكي ورسوله إلى القاضي؛ لأن الإلزام بالشهادة لا بالتزكية. قال: ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم؛ ليعرفوا ما فيه أو يعلمهم به، لأنه لا شهادة بدون العلم، ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم كيلا يتوهم التغيير، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -؛ لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواية ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية مثل قول الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنهم قالوا: إذا كان القاضي المكتوب إليه يعرف خط القاضي الكاتب وختمه قبله كما في سائر الاستئمان بقوله: م: (بخلاف كتاب الاستئمان من أهل الحرب؛ لأنه ليس بملزم) ش: فإن الإمام بالخيار إن شاء أعطى الأمان وإن شاء لم يعطه، فلا يشترط فيه البينة، وأجاب عن قولهم كما م: (وبخلاف رسول القاضي إلى المزكي ورسوله) ش: أي ورسول المزكي م: (إلى القاضي) ش: حيث يقبل من غير حجة تامة م: (لأن الإلزام بالشهادة) ش: إذ القضاء مضاف إلى الشهادة م: (لا بالتزكية) ش: أي ليس الإلزام بالتزكية، وهذا لو قضى بدون التزكية صح قضاؤه، وإنما التزكية لنوع رجحان الصدق.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقبل قوله يشير إلى أن رسول القاضي إلى القاضي غير معتبر أصلا في حق لزوم القضاء عليه ببينة وغيرها، والقياس يقتضي اتحاد كتابه ورسوله في القبول كما في البيع، فإنه ينعقد بكتابه وينعقد برسول أو اتحادهما في عدمه؛ لأن القياس يأبى جوازها وفرق بينهما بوجهين:
أحدهما: ورود الأثر في جواز الكتاب، وإجماع التابعين على الكتاب دون الرسول، فبقي على القياس.
والثاني أن الكتاب كالخطاب، والكتاب وجد من موضع القضاء، فكان الخطاب من موضع القضاء فيكون حجة، وأما الرسول فقائم مقام الرسل والمرسل في هذا الموضع من يقال، وقول القاضي في غير موضوع قضائه كقول واحد من الرعايا.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويجب أن يقرأ) ش: القاضي الكتاب م: (الكتاب عليهم) ش: أي على الشهود م: (ليعرفوا فيه) ش: أي في الكتاب م: (أو يعلمهم) ش: أي أو يعلم القاضي الشهود م: (به) ش: أي بما في الكتاب م: (لأنه لا شهادة بدون العلم ثم يختمه) ش: أي الكتاب م: (بحضرتهم ويسلمه إليهم؛ كيلا يتوهم التغيير، وهذا) ش: أي ما ذكر من الوجهين م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -) ش: وبه قال الشافعي وأحمد ومالك - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في رواية م: (لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط) ش: ارتفاع شرط على الخبر والمبتدأ هو(9/40)
وكذا حفظ ما في الكتاب عندهما، ولهذا يدفع إليهم كتابا آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا: شيء من ذلك ليس بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة. واختار شمس الأئمة السرخسي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله هذا، وقوله: إن علم ما في الكتاب معناه، لا نعلم ما في الكتاب، فإن كان عند أحد وجه غير هذا فليبين. م: (وكذا) ش: أي وكذا بشرط م: (حفظ ما في الكتاب عندهما) ش: أي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
م: (ولهذا) ش: أي ولكون اشتراط حفظ ما في الكتاب م: (يدفع إليهم) ش: أي إلى الشهود م: (كتابا آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم) ش: فإن فات شيء من الأمور لا يقبل الكتاب عندهما م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخرا) ش: أي في قوله الأخير، إنما قال ذلك لأن قوله الأول مثل قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (شيء من ذلك) ش: هذا مقول القول ولفظ شيء مبتدأ، وإن كان نكرة، لأنه تخصيص بقوله من ذلك إلى شيء كائن من ذلك، أي علم ما في الكتاب، وحفظه والختم بحضرتهم وقوله م: (ليس بشرط) ش: خبر المبتدأ المذكور م: (والشرط) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه) ش: وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة) ش: لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب، وليس في المعاينة احتمال م: (واختار شمس الأئمة السرخسي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: تيسيرا على الناس وأجمعوا في الصك أن الإشهاد عليه لا يصح ما لم يعلم الشاهد ما في الكتاب.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فاحفظ هذا، فإن الناس اعتادوا بخلاف ذلك يشهدون على ما في الصك غير قراءة الحدود وغير ذلك. كذا في " مختلفات القاضي " وما قالاه احتياط وما قاله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - توسع.
ومن الشرائط عندهما، أن يحفظوا شهادة ما في الكتاب من وقت التحمل إلى وقت الأداء كما في جميع الشهادات. كذا في " الذخيرة ".
ومن الشرائط عندهما أن يكون الكتاب معنونا، بأن يكتب فيه: هذا كتاب من فلان بن فلان القاضي ببلد كذا إلى فلان بن فلان القاضي، والشرط العنوان الباطن عندهما، لا على(9/41)
قال، فإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم، لأنه بمنزلة أداء الشهادة فلا بد من حضوره بخلاف سماع القاضي الكاتب، لأنه للنقل لا للحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنوان الظاهر، حيث لو ترك العنوان الظاهر انتفى المكتوب إليه بالعنوان، وجاز ذلك، وعلى العكس لا يجوز.
وصورة الظاهر في زماننا: أن يكتب قبل كتابة التسمية على جانب اليسار من فلان بن فلان إلى القاضي الإمام فلان بن فلان قاضي بلد كذا، ويكتب في جانب اليمين فوق كتابه: بسم الله الحق المبين ونحو ذلك إلى القاضي الإمام فلان بن فلان قاضي بلد كذا، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم فإن كتب إلى قاضي فلان كذا، وفي البلد قاضيان لا يصح، ولو كان قاض واحد يصح ثم يكتب على ظهر الكتاب من قبل اليسار على الصدر من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان قاضي بلد كذا ونواحيها، ويكتب على الظهر من قبل اليمين بسم الله الملك الحق المبين إلى قاضي بلد كذا فلان بن فلان وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، ثم يكتب البسملة هذا كتابي أطال الله بقاء فلان القاضي إلى آخره، كما هو الرسم في الكتاب ثم يكتب: أما بعد.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في تقدير المسافة التي يجوز كتاب القاضي فيها، وكثير منهم قالوا: لا يجوز فيما دون مسافة السفر به.
قال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - في وجه، وحكى الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه: أنه يجوز فيما دون السفر، وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: هذا مذهب أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
[شروط قبول كتاب القاضي إلى القاضي]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (فإذا وصل) ش: أي كتاب القاضي م: (إلى القاضي لم يقبله) ش: وفي بعض النسخ لم يفتكه من الافتكاك.
والأول أوقف لرواية الكتب في " الجوامع " " وفتاوى قاضي خان " م: (إلا بحضرة الخصم لأنه) ش: أي لأن الكتاب م: (بمنزلة أداء الشهادة، فلا بد من حضوره) ش: أي حضور الخصم م: (بخلاف سماع القاضي الكاتب) ش: حيث يسمع الشهادة وإن كان الخصم وهو المدعى عليه غائبا م: (لأنه) ش: أي لأن سماعه م: (للنقل لا للحكم) ش: فكان سماع تلك الشهادة بمنزلة تحمل الفرع شهادة الأصول، وفي التحمل لم يشترط حضور الخصم فكذا هنا.(9/42)
قال: فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقضائه وقرأه علينا وختمه ففتحه القاضي وقرأه على الخصم، وألزمه ما فيه، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله -. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة، كذا ذكره الخصاف لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود، وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم، وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء حتى لو مات أو عزل أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال في " شرح الأقطع ": وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبله من غير حضور خصم؛ لأن الكتاب يختص بالمكتوب إليه، فكان له أن يقبله، والحكم بعد ذلك يقع بما علمه من الكتاب، فاعتبر حضور الخصم عند الحكم به.
م: (قال: فإذا سلمه الشهود إليه) ش: وفي بعض النسخ قال أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا سلم الشهود الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه م: (نظر إلى ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقضائه وقرأه علينا وختمه ففتحه القاضي) ش: المكتوب إليه م: (وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه) ش: أي في الكتاب م: (وهذا) ش: أي المذكور م: (عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) : م: (إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر) ش: أشار إلى ما قال قبل هذا: وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخر شيء من ذلك ليس بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه.
م: (ولم يشترط) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الكتاب) ش: أي في "مختصره " م: (ظهور العدالة للفتح) ش: أي فتح الكتاب لأنه قال: فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه، وقرأه علينا وختمه: فتحه القاضي، ولم يقل فإذا شهدوا وعدلوا، فعلم أنه لم يشترط العدالة وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والصحيح أنه يفض الكتاب) ش: أي يفتحه ويفك ضمته م: (بعد ثبوت العدالة) .
م: (كذا ذكره الخصاف؛ لأنه ربما يحتاج) ش: أي المدعي م: (إلى زيادة الشهود) ش: إذا لم تظهر العدالة م: (وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم) ش: ليشهدوا أن هذا كتاب فلان القاضي وختمه، [ ... ] ، فلا يمكنهم ذلك م: (وإنما يقبله المكتوب إليه) ش: ذكر هذا تعريفا على ما تقدم من مسائل القدوري، أي وإنما يقبل الكتاب القاضي المكتوب إليه م: (إذا كان الكاتب على القضاء حتى لو مات أو عزل) ش: أي القاضي الكاتب م: (أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب)(9/43)
لا يقبله؛ لأنه التحق بواحد من الرعايا، ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله، أو في غير عملهما، وكذلك لو مات المكتوب إليه إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلد كذا، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين؛ لأن غيره صار تبعا له، وهو معروف، بخلاف ما إذا كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه على ما عليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه غير معرف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: بأن فسق أو جن أو ارتد أو لحق بدار الحرب م: (لا يقبله) .
ش: وقال الشافعي وأبو يوسف - رحمهما الله - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يقبله ويعمل به، واستدل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - على عدم القبول بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي الكاتب بالأمور المذكورة م: (التحق بواحد من الرعايا) ش: لأنه حينئذ خرج من أن يكون حاكما فلا ينفذ الحكم بكتابه.
م: (ولهذا) ش: أي ولكونه ملتحقا بواحد من الرعايا م: (لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله أو في غير عملهما) ش: يعني إذا أخبر القاضي قاضيا آخر في غير عمل المخبر لا يقبل كتابه، فلأن لا يقبل كتابه إذا عزل أو مات بالطريق الأولى، كذا قاله تاج الشريعة.
وفي " الذخيرة " [قال] قاضي خان: التقيا في عمل أحدهما أو في مصر ليس من عملهما، فقال أحدهما للآخر: ثبت عندي لفلان كذا فاعمل بما يحق لك لم يقبل منه، ولم ينفذه؛ لأن الخطأ والسماع أو أحدهما وجد من غير القاضي، حيث لم يكن في مكان ولايته م: (وكذلك) ش: أي وكذا لا يقبله قاضي آخر م: (لو مات المكتوب إليه) ش: لأنه كتب إلى غيره، وقد مات م: (إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلد كذا، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين) ش: فحينئذ يقبل الكتاب بعد موت قاضي تلك البلدة المكتوب إليه م: (لأن غيره) ش: أي غير المكتوب إليه م: (صار تبعا له، وهو معروف) ش: أي معلوم الذي صار تبعا معلوم.
م: (بخلاف ما إذا كتب ابتداء) ش: من قاضي كورة كذا فلان بن فلان الفلاني م: (إلى كل من يصل إليه) ش: من قضاة المسلمين، حيث لم يقبل م: (على ما عليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأنه غير معرف) ش: أي مجهول حاصل الكلام أما في الصورة الأولى صرح الكتاب باعتماده على الكل بعد تعريف واحد منهم، بقوله إلى فلان بن فلان قاضي بلد كذا، أو إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين؛ لأنه أتى بما هو شرط، وهو أن يكون من معلوم، ثم صير غيره تبعا له.
وأما في الصورة الثانية، فإن كتب ابتداء من فلان بن فلان قاضي بلد كذا إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، فإنه لا يصلح لأنه معلوم إلى مجهول، والعلم فيه شرط، وهو(9/44)
ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه، ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص؛ لأن فيه شبهة البدلية فصار كالشهادة على الشهادة ولأن مبناهما على الإسقاط وفي قبوله سعي في إثباتهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: الظاهر أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه وقيل رد لقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في جوازه، فإنه حين ابتلي بالقضاء وسع كثيرا، تسهيلا للأمر على الناس.
م: (ولو كان مات الخصم) ش: يعني لو مات المدعى عليه قبل وصول كتاب القاضي إلى القاضي م: (ينفذ) ش: القاضي المكتوب إليه م: (الكتاب على وارثه) ش: أي ورثة الخصم م: (لقيامه) ش: أي لقيام الورثة م: (مقامه) ش: أي مقام الخصم م: (ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وفي قول آخر: يقبل، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - لأن الاعتماد على الشهود [ ... ] م: (لأن فيه) ش: أي في كتاب القاضي م: (شبهة البدلية) ش: لأن للمكتوب إليه صار بدلا عن الكاتب، لأنه لم يشاهد الشهادة م: (فصار كالشهادة على الشهادة) ش: وهي غير مقبولة فيهما، فلا يقبل فيما يسقط بالشبهات م: (ولأن مبناهما) ش: أي مبنى الحدود والقصاص م: (على الإسقاط وفي قبوله) ش: أي وفي قبول كتاب القاضي إلى القاضي فيهما م: (سعى في إثباتهما) ش: فلا يجوز، والله أعلم.(9/45)
فصل آخر ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص اعتبارا بشهادتها فيهما وقد مر الوجه،
وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك، لأنه قلد القضاء دون التقليد به، فصار كتوكيل الوكيل، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث يستخلف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل قضاء المرأة]
فصل آخر أي هذا فصل آخر، قيل لم يمض في هذا الباب فصل قبل هذا حتى يقول فصل آخر، وأجيب بأن هذا فصل آخر في كتاب " أدب القاضي "، فإنه تقدم فصل في الحبس وهذا فصل آخر م: (ويجوز قضاء المرأة في كل شيء) ش: وقال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يجوز لأن المرأة ناقصة للعقل غير أهل للحضور مع الرجال ومحافل الخصوم م: (إلا في الحدود والقصاص) ش: مجمع عليه في عدم الجواز م: (اعتبارا بشهادتهما فيهما) ش: أي قياسا على شهادتهما فإن شهادتها جائزة م: (وقد مر الوجه) ش: أي مر وجه هذا في أول أدب القاضي "، أن حكم القضاء يستقي من حكم الشهادة، لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء، وهي أهل للشهادة في غير الحدود والقصاص، فهي أهل للقضاء في غيرهما.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل: أراد به ما مر من قبل بخطوط من قوله لأن فيه شبهة البدلية، فإنه يدل على أن ما فيه شبهة البدلية لا يعتبر فيها فشهادتها كذلك، وقضاؤها مستفاد من شهادتها، انتهى.
وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: وقد مر الوجه أي في كتاب الحدود، أن فيها شبهة البدلية، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] ... الآية (البقرة الآية: 282) .
[استخلاف القاضي]
م: (وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك) ش: أي الاستخلاف، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، ولو أذن له في الاستخلاف يجوز بلا خلاف. ولو نهاه عن الاستخلاف لا يجوز بلا خلاف. ولو ولاه وسكت عن الإذن والنهي، فعندنا لا يجوز، وبه قالت الأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وعن الإصطخري من أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز إذا ولاه في عمل لا يقدر أن يتولاه بنفسه م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (قلد القضاء دون التقليد به) ش: أي بالقضاء م: (فصار) ش: أي حكمه م: (كتوكيل الوكيل) ش: فإن الوكيل لا يملك إلا إذا فوض إليه ذلك، لأنه مطلق التفويض ليس بإذن الاستخلاف م: (بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث يستخلف) ش: أي(9/46)
لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان الأمر به إذنا في الاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء، ولو قضى الثاني بمحضر من الأول، أو قضى الثاني فأجاز الأول جاز كما في الوكالة، وهذا لأنه حضره رأي الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حيث يجوز له الاستخلاف.
وإن لم يأذن له بذلك م: (لأنه) ش: أي لأن أداء الجمعة م: (على شرف الفوات لتوقته) ش: أي لتوقت أداء الجمعة بوقف تفوت بانقضائه؛ لأن الموانع من إقامتها من المرض والحدث في الصلاة وغيرهما، قد يعتبر به شيء من ذلك، مع ضيق الوقت، ولا يمكن انتظار الإمام الأعظم، لأنها لا تحتمل التأخير عن الوقت م: (فكان الأمر به) ش: أي بأداء الجمعة م: (إذنا بالاستخلاف دلالة) ش: أي من حيث الدلالة وإن لم يكن صريحا.
لكن إنما يجوز ذلك إذا كان ذلك الغير سمع الخطبة؛ لأنها من شرائط افتتاح الجمعة، فلو افتتح الأول الصلاة ثم سبقه الحدث، فاستخلف من لم يشهدها جاز؛ لأن المستخلف [ ... ] مفتتح، واعترض بمن أفسد صلاته، ثم افتتح بهم الجمعة، فإنه جاز وهو مفتتح في هذه الحالة، لم يشهد الخطبة، وأجيب بأنه لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة للأول، التحق بمن يشهد الخطبة.
م: (ولا كذلك القضاء) ش: أي ليس القضاء كالجمعة؛ لأنه غير موقت يفوت بالتأخير عند العذر م: (ولو قضى الثاني) ش: يعني لو استخلف القاضي بدون الإذن من الإمام، وقضى هذا النائب كيف يكون حكمه؟ قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ولو قضى الثاني) ش: أي ولو حكم نائبه الذي ولاه م: (بمحضر من الأول) ش: وهو القاضي المولى من الإمام م: (أو قضى الثاني) ش: وهو النائب عند غيبة المستنيب م: (فأجاز الأول) ش: وهو القاضي المستخلف م: (جاز) ش: إذا كان من أهل القضاء م: (كما في الوكالة) ش: فإن الوكيل إذا لم يأذن له الموكل بالتوكيل، فوكل وتصرف بحضرة الأول وأجازه الأول جاز م: (وهذا) ش: أي وجه الجواز م: (لأنه) ش: هذا يصلح أن يكون دليلا للمسألتين.
أما في هذه المسألة فلأنه، أي فلأن الخليفة م: (حضره رأي الأول) ش: أي رأي القاضي الأول الذي ولاه الخليفة وقت قعوده لاعتماده على علمه وعمله والحكم الذي حضره القاضي، أو أجازه قضاء حضره رأي القاضي فيكون راضيا به.
وأما في الولاية فيجيء في كتابها، فإن قيل: الإذن في الابتداء كالإجازة في الانتهاء فلم اختلف في الجواز وعدمه؟ فأجيب بالمنع، فإن الالتفات أسهل من الابتداء، وإن الحكم الذي(9/47)
وهو الشرط. وإذ فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائبا عن الأصل حتى لا يملك الأول عزله إلا إذا فوض إليه العزل هو الصحيح
قال: وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، بأن يكون قولا لا دليل عليه. وفي " الجامع الصغير ": وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي، ثم جاء قاض آخر يرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أدى له القاضي به في الابتداء لم يحضره رأي القاضي فكأنه رضي الخليفة بتولية القاضي مقيدا به.
م: (وهو الشرط) ش: أي حضور رأي الأول هو شرط الجواز م: (وإذا فوض إليه يملكه) ش: أي إذا قال الخليفة القاضي: ولمن شئت كان له أن يولي غيره م: (فيصير الثاني نائبا عن الأصل) ش: أي فيصير النائب الذي ولاه القاضي المفوض إليه نائبا عن الخليفة م: (حتى لا يملك الأول عزله، إلا إذا فوض إليه العزل وهو الصحيح) ش: أي القاضي الأول لا يملك عزل القاضي الثاني الذي هو نائب القاضي المولى من جهة الخليفة؛ لأنه صار قاضيا من جهة الخليفة، فلا يملك القاضي المستنيب عزله، وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: يملك عزله لأنه نائبه، فصار كوكيله. قلنا: إنه صار قاضيا من جهة الخليفة إلا أن يقول له الخليفة: ولي من شئت واستبدل من شئت، فصار كالوكيل إذا قال له الموكل: اعمل برأيك، صح توكيله على الموكل وصار الثاني وكيله الموكل حتى لو مات الموكل، انعزل الأول والثاني، ولو مات الأول، لا ينعزل وكيله. فكذا إذا عزله الأول.
[الحكم إذا رفع إلى القاضي حكم حاكم]
م: (وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه) ش: أي نفذه م: (إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع) ش: كالحكم ببطلان قضاء القاضي في المجتهدات كالحكم بحل متروك التسمية عامدا، فإنه مخالف لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] م: (الأنعام: الآية 121) ش: أي أو سنته المشهورة كالحكم بحل المطلقة ثلاثا بمجرد نكاح الزوج الثاني بلا دخول على مذهب سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن اشتراط الدخول ثابت بالحديث المشهور وهو حديث العسيلة م: (بأن يكون قولا لا دليل عليه) ش: بيان لمخالفة الإجماع، كما إذا مضى على الدين سنون، فحكم بسقوط الدين عمن عليه.
لتأخير المطالبة، فإنه لا دليل شرعي على ذلك، وعلى النسخة الأولى يكون قوله بأن يكون تعليلا للاستثناء فكأنه يقول عدم تنفيذه إذا كان مخالفا للأدلة المذكورة، بسبب أنه يكون قولا لا دليل عليه.
م: (وفي " الجامع الصغير ": وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي، ثم جاء قاض آخر يرى(9/48)
غير ذلك أمضاه والأصل أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه ينفذ ولا يرده غيره؛ لأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، وقد يرجح الأول باتصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه، ولو قضى في المجتهد فيه، مخالفا لرأيه، ناسيا لمذهبه، نفذ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان عابدا، ففيه روايتان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير ذلك أمضاه) ش: أي غير ما قضى به الأول، إنما ذكر لفظ " الجامع الصغير " بهذا للفظ؛ لأن فيه فائدتين:
إحداهما: أنه قيد بالفقهاء؛ لأن القاضي إذا كان غير عالم بموضع الاجتهاد، فاتفق قضاؤه، فعلى قول عامة المشايخ لا يجب على الثاني تنفيذه. كذا ذكره في " فصول الاستروشيني " - رَحِمَهُ اللَّهُ - محالا إلى " المحيط ". وفي " الذخيرة ": لا ينفذه المدفوع إليه على قول العامة.
والفائدة الثانية: أنه قيد بقوله يرى غير ذلك، ففي رواية القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يتعرض بذلك فيحتمل أن قوله أمضاه فيما إذا كان رأي القاضي موافقا لحكم الأول، فإذا كان مخالفا لا يمضيه، فأبانت رواية " الجامع " بأن ذلك الإمضاء عام، فيما سوى المستثنيات، سواء كان يوافق رأيه أو يخالفه؛ لأن الحكم لاقى مجتهدا فيه، ولا ينقضي باجتهاد آخر.
وقد صح عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قلد القضاء لأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد كثرة اشتغاله، فاختصم إلى أبي الدرداء رجلان في شيء فقضى لأحدهما، ثم لقي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المقضى عليه، فسأله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن حاله، فقال قضى علي، فقال عمر: لو كنت مكانه لقضيت لك، فقال المقضى عليه وما يمنعك من القضاء فقال عمر: ليس هنا نص والرأي مشترك، ويروى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعان بزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين رجلين ثم لقي عمر أحد الخصمين، فقال: إن زيدا قضى علي، والباقي نحوه، وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في حادثة بقضية، ثم قضى فيها بخلاف ذلك، فقيل له في ذلك فقال تلك كما قضيناه هذه كما نقضي.
م: (والأصل) ش: أي في تنفيذ القاضي ما رفع إليه إذا لم يكن مخالفا للأدلة المذكورة م: (أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه) ش: وفي بعض النسخ: محلا مجتهدا فيه م: (ينفذ ولا يرده غيره؛ لأن الاجتهاد الثاني كاجتهاد الأول) ش: في أن كلا منهما يحتمل الخطأ م: (وقد يرجح الاجتهاد الأول باتصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه) ش: درجة، وهو لم يتصل القضاء به م: (ولو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه) ش: حال كونه م: (ناسيا لمذهبه، نفذ عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان عابدا ففيه روايتان) ش: وفي بعض النسخ: فعنه أي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - روايتان:(9/49)
ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين. وعندهما لا ينفذ في الوجهين؛ لأنه قضى بما هو خطأ عنده وعليه الفتوى. ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفا لما ذكرنا، والمراد بالسنة المشهورة منها وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في رواية: لا ينفذ وبه يفتي شمس الأئمة، والأوزجندي؛ لأنه زعم فساد قضائه فتعامل في حقه بزعمه، وفي رواية ينفذ وبه كان يفتي الصدر الشهيد والمرغيناني - رحمهما الله - وأشار إلى وجه هذا بقوله: م: (ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين) ش: لأن كل مجتهد لا يقطع القول بأن الصواب اجتهاده دون اجتهاد خصمه، بل الأمر محتمل عنده، فتعين الصواب فيما اتصل به القضاء حملا للأمر القضاء على الصواب. وذكر في " الذخيرة " الاختلاف في نفاذ القضاء، وفي بعض المواضع ذكر الخلاف في حل الإقدام على القضاء.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (لا ينفذ في الوجهين) ش: أي النسيان والعمد وبه قال الشافعي، ومالك وأحمد - رحمهما الله تعالى - م: (لأنه قضى بما هو خطأ عنده) ش: فيعمل بزعمه قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وعليه الفتوى) ش: لأنه زعم فساد قضائه والمرء مؤاخذ بزعمه، كذا في " المحيط ".
وذكر في " الفتاوى الصغرى " الفتوى على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفاذ القضاء على خلاف المذهب، وفي " فتاوى ظهير الدين " - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحق للسلطان أن ينقض ذلك.
م: (ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفا لما ذكرنا) ش: من الكتاب والسنة المشهورة والإجماع م: (والمراد بالسنة المشهورة) ش: بالرفع لأن خبر لقوله والمراد أي المراد من السنة ليس مطلق السنة بل السنة المشهورة م: (منها) ش: أي من السنة.
والمراد من مخالفة الكتاب مخالفة نص الكتاب الذي لم يختلف السلف في تأويله كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] (النساء: الآية 22) ، فإن السلف اتفقوا على عدم جواز تزوج امرأة الأب وجاريته ووطئها إن وطئها الأب، فلو حكم حاكم بجواز ذلك نقضه، من دفع إليه م: (وفيما اجتمع عليه) ش: أي في الذي اجتمع عليه م: (الجمهور) ش: أي جمهور العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أي أكثرهم، وأجلهم م: (لا يعتبر مخالفة البعض) ش: أي بعض العلماء - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا حكم الحاكم بخلاف ما عليه الأكثر كان حكمه على خلاف الإجماع نقضه من رفع إليه.(9/50)
وذلك خلاف وليس باختلاف، والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول.
قال: وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر بتحريمه، فهو في الباطن كذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ناقلا عن السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وينبغي أن يحمل كلام المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا على ما إذا كان الواحد المخالف ممن لم يسوغ اجتهاده، وذلك لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في جواز ربا الفضل، فإنه لم يسوغ له ذلك فلم يتبعه أحد وأنكروا عليه، فإذا حكم حاكم بجواز ذلك، وجب نقضه لأن الإجماع منعقد على الحرمة بدونه، فأما إذا سوغ له ذلك، لم ينعقد الإجماع بدونه، كقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في اشتراط حجب الأم من الثلث إلى السدس بالجمع من الإخوة وفي إعطائها ثلث الجميع بعد فرض أحد الزوجين، فإن حكم به لم يكن مخالفا للإجماع، وهذا هو المختار عند شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولعله اختاره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يحمل على قول من يرى أن خلاف الأقل غير مانع لانعقاده، لأنه ليس بصحيح عند عامة العلماء - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وذلك) ش: أي مخالفة البعض لما اجتمع عليه الجمهور م: (خلاف) ش: أي مخالفة للأكثر م: (وليس باختلاف) ش: لم يذكر أحد الفرق حينما وقعت عليه من الشروح والفرق بينهما إن الاختلاف أن يكون الطريق مختلفا.
والمقصود واحد كخلاف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والخلاف هو أن يكون الطريق مختلفا والمقصد مختلفا، فافهم فإنه دقيق م: (والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول) ش: وهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وفي " الذخيرة ": إنما اعتبر الخصاف الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن معهم من السلف، ولم يعتبر الخلاف بيننا وبين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والعبرة لحقيقة الاختلاف في صيرورة المحل مجتهدا فيه. انتهى.
والخلاف الذي يجعل المحل مجتهدا فيه هو الاختلاف الذي كان بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والتابعين - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا الذي يقع بعدهم، فعلى هذا إذا حكم الشافعي والمالكي برأيه بما يخالف رأي من تقدم عليه من الصدر الأول، ورفع ذلك إلى حاكم لم ير بذلك كان له أن ينقضه.
[حكم الباطن فيما قضى به القاضي في الظاهر]
م: (قال) ش: أي قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر) ش: أي فيما بينا م: (بتحريمه، فهو في الباطن) ش: أي عند الله م: (كذلك) ش: أي حرام م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: ومن صور التحريم ادعت على زوجها أنه(9/51)
فالقاضي يقضي وكذا إذا قضى بإحلال، وهذا إذا كانت الدعوى بسبب معين، وهي مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور، وقد مرت في النكاح.
قال: ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طلقها ثلاثا، أو أقامت بينة كاذبة وقضى القاضي بالفرقة، وتزوجت بآخر بعد انقضاء العدة، فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولا: لا يحل للزوج الأول وطئها ظاهرا أو باطنا، ويحل للثاني ظاهرا وباطنا علم بحقيقة الحال أولا.
وعلى قول أبي يوسف آخرا ومحمد والشافعي ومالك وأحمد - رحمهما الله - لا يحل للثاني وطئها إذا كان عالما بحقيقة الحال، ومن صورة التحريم أيضا وصبي وصبية سبيا وهما صغيران، فكبرا وأعتقا، ثم تزوج أحدهما الآخر، فجاء حربي مسلما، وأقام بينة أنهما ولداه.
م: (فالقاضي يقضي) ش: بنسبهما ويفرق بينهما، فإن رجع الشهود، أو تبين أنهم زور، لا يسع للزوج وطأها عنده، لأن القضاء بالحرمة نفذ ظاهرا وباطنا، وكذا عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لا يعلم حقيقة كذب الشهود.
م: (وكذا إذا قضى) ش: القاضي م: (بإحلال) ش: يعني إذا قضى القاضي بإحلال شيء في الظاهر، فهو في الباطن كذلك، ومن صوره رجل ادعى على امرأة نكاحا، وهي تجحد، فأقام عليها شاهدي زور، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، حل للزوج وطأها، وحل للمرأة التمكين عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله الأول.
وعند محمد وأبي يوسف في قوله الأخير، وزفر والأئمة الثلاثة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يحل لهما ذلك م: (وهذا) ش: أي هذا الذي ذكرناه م: (إذا كانت الدعوى بسبب معين، وهي مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور، وقد مرت في النكاح) ش: كنكاح وبيع وطلاق وعتاق لا في الأملك المرسلة مثل أن يدعي الملك، ولم يذكروا السبب، فإن الحكم فيها بشهادة الزور، لا ينفذ باطنا بالإجماع.
ومن صور البيع: ما إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور، سواء كانت الدعوى من جهة المشتري، مثل أن قال: بعتني هذه الجارية، أو من جهة البائع مثل أن يقول: اشتريت مني هذه الجارية، فإنه يحل للمشتري وطؤها في الوجهين جميعا.
[القضاء على الغائب]
م: (ولا يقضي القاضي على غائب) ش: ولا يقضي له أيضا عندنا م: (إلا أن يحضر من يقوم مقامه) ش: مثل وكيل الغائب أو وصيه. م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز) ش: إذا كان غائبا(9/52)
لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق. ولنا: أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة، ولا منازعة بدون الإنكار، ولم يوجد، ولأنه يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء؛ لأن أحكامهما مختلفة، ولو أنكر ثم غاب، فكذلك الجواب؛ لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن البلد أو عن مجلس الحكم إذا كان مستترا في البلد قولا واحداَ، وبه قال مالك وأحمد - رحمهما الله - ولو كان غائبا في مجلس الحكم غير مستتر في البلد فقولان أصحهما: أنه لا يحكم بدون حضوره، وبه قال مالك وأحمد، إذ في المستتر تضييع الحقوق، وفي غيره: لا. والثاني أنه يجوز م: (لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق) ش: فيحل للقاضي العمل بمقتضاها م: (ولنا: أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة) ش: لأن الشهادة خبر تحتمل الصدق والكذب، ولا يجوز بناء الحكم على الدليل المحتمل، لأن الشرع جعلها حجة ضرورة قطع المنازعة، ولهذا إذا كان الخصم حاضرا وأقر بالحق لا حاجة إليها م: (ولا منازعة بدون الإنكار) ش: يعني لا تكون المنازعة إلا بالإنكار م: (ولم يوجد) .
ش: فإن قيل: قد قلتم بالشهادة بدون الإنكار إذا حضر الخصم وسكت.
أجيب: بأن الشرع أنزله منكرا حملا لأمره على الصلاح، إذ الظاهر من حال المسلم أن لا يسكت إن كان عليه حق، وكذا في " المبسوط " و" الأسرار " و" الذخيرة ".
فإن قيل: وقف الحكم إلى الحضور المدعى عليه بعد ثبوت البينة غير مفيد، لأن المدعى عليه لو حضر، فإما أن يقر أو ينكر، فعلى الوجهين كان الدعوى لازمة.
قلنا: بل هو مفيد، لأنه يحتمل أن يطعن في البينة، ويثبت طعنه بالحجة ويحتمل أنه يسلم الدعوى، ثم ادعى الأداء إلى المدعي ويثبت بالحجة.
م: (ولأنه) ش: دليل آخر على المطلوب أي ولأن البيان م: (يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء) ش: على الحاكم م: (لأن أحكامهما) ش: أي أحكام القضاء بالبينة، والإقرار م: (مختلفة) ش: فإن حكم القضاء بالبينة وجوب الضمان على الشهود عند الرجوع، ويظهر في الزوائد المتصلة والمنفصلة، فإن الرجل إذا اشترى جارية مولده عنده، فاستحقها رجل بالبينة، فإنه يأخذها وولدها، وإن أقر بها لرجل لم يأخذ ولدها، لأن البينة حجة مطلقة بخلاف الإقرار، فإنه حجة قاصرة لانعدام الولاية على الغير م: (ولو أنكر) ش: المدعى عليه م: (ثم غاب فكذلك الجواب) ش: يعني لا يقضي القاضي في غيبته م: (لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء) ش: لأن البينة إنما تظهر حجة بالقضاء، وبقاؤه شرط وهو محتمل هاهنا.(9/53)
وفيه خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن يقوم مقامه قد يكون نائبا بإنابته كالوكيل أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفيه) ش: أي وفي الوجه م: (خلاف أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: فإنه يقول الشرط الإصرار على الإنكار إلى وقت القضاء، وهو ثابت بعد غيبته بالاستصحاب، وأجيب أن الاستصحاب يصلح للدفع لا للإثبات.
فإن قلت: احتج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على المدعي» ، فاشتراط حضور الخصم لإقامة البينة زيادة عليه، وما قالت هند - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "يا رسول الله إن أبا سفيان شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقد قضى عليه وهو غائب.
قلت: حجتنا نحن بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تقض لأحد الخصمين بشيء حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» رواه الترمذي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال: هذا حديث حسن.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» فدليلنا لأن البينة اسم لما يحصل به التبيان، وليس المراد بالبيان في حق المدعي؛ لأنه حاصل بقوله، ولا في حق القاضي، لأنه حاصل بقول المدعي إذا لم يكن له منازع إنما الحاجة إلى البيان في حق الخصم الجاهد، وذلك إلا بحضوره.
وأما الجواب: عن حديث هند - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فهو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان عالما باستحقاق النفقة على أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألا ترى أنها لم تقم البينة، وقيل: كان هذا فتوى وليس بحكم.
م: (ومن يقوم مقامه) ش: لما ذكر إن القضاء على الغائب لا يجوز إلا أن يحضر من يقوم مقامه بين ذلك بقوله، ومن يقوم مقامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي مقام المدعى عليه الغائب، ولا يخلو هذا إلا بأن يكون م: (قد يكون نائبا بإنابته، كالوكيل أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي) ش: قيد به احترازا عن المسخر من جهة القاضي، فإن فيه اختلاف الروايتان. وذكر في " الذخيرة ": وتفسير المسخر أن ينصب القاضي وكيلا عن الغائب ليسمع القاضي الخصومة عليه وكذا لو أحضر المدعي رجلا غير الخصم ليسمع القاضي الخصومة عليه.(9/54)
وقد يكون حكما بأن كان ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر، وهذا في غير صورة في الكتب. أما إذا كان شرطا لحقه فلا معتبر به في جعله خصما عن الغائب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والقاضي يعلم أنه ليس بخصم لا يسمع الخصومة عليه، ولا على المسخر، وإنما يجوز نصب الوكيل عن خصم اختفى في بيته، ولا يحضر مجلس الحكم ولكن بعد بعث في بعثائه إلى باب داره ونادى على باب داره، وقال: احضر مجلس الحكم وإلا يحكم عليك. أما في غير ذلك الموضع فلا.
م: (وقد يكون حكما) ش: هذا عطف على قوله: قد يكون بإنابته، أي قد يكون من يقوم مقامه حكما م: (بأن كان يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر) ش: أي يكون سببا لا محالة، أما إذا كان سببا في وقت دون وقت، لا ينصب الحاضر خصما عن الغائب. كما إذا قال رجل لامرأة رجل غائب: إن زوجك وكلني أن أحملك إليه، فقالت: قد طلقني ثلاثا، وبرهنت قبلت في حق قصر يد الوكيل عنها لا في حق إثبات الطلاق على الغائب حتى لو حضر الغائب وأنكر الطلاق، أعادت البينة. وأما صورة كون ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر فكثيرة، منها رجل أقام بينة على آخر أن هذه الدار له، اشتراها من فلان الغائب وهو يملكها، وذو اليد غصبها منه وهو ينكر قبلت بينته، ويكون ذلك قضاء على الحاضر والغائب، حتى لو حضر الغائب، وأنكر البيع، لا يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الشراء من المالك سبب لما يدعي على الحاضر فصار الحاضر كالوكيل عن الغائب فصار إنكاره كإنكار الغائب.
م: (وهذا) ش: أي ما يدعي على الغائب سببا لا محالة لما يدعيه على الحاضر م: (في غير صورة في الكتب) ش: ولهذا قال شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وتفسير ذلك في مسائل منها ما ذكرناه الآن، ومنها إذا ادعى على رجل أنه كفيل عن فلان بما يذوب له عليه، فأقر المدعى عليه بالكفالة وأنكر الحق، فبرهن أنه ذاب له على فلان ألف درهم، فإنه يقضي بها، ومنها إذا ادعى الشفعة في دار إنسان، وقال ذو اليد ما اشتريتها من أحد والدار داري، فيبرهن المدعي أنه اشتراها من فلان الغائب، وهو يملكها وأنه شفيعها، ويقضي بالشراء في حق ذي اليد والغائب جميعا.
م: (أما إذا كان شرطا) ش: يعني أما إذا كان ما يدعي على الغائب شرطا م: (لحقه) ش: أي لحق المدعي على الحاضر كمن قال لامرأته: إن طلق فلان امرأته فأنت طالق، فادعت امرأة الحالف عليه أن فلانا طلق امرأته وأقامت على ذلك بينة، فلا تصح هذه البينة ولا يقضي بوقوع الطلاق عليها أشار بقوله م: (فلا معتبر به في جعله خصما عن الغائب) ش: وهو قول عامة المشايخ(9/55)
وقد عرف تمامه في " الجامع ".
قال: ويقرض القاضي أموال اليتامى ويكتب ذكر الحق؛ لأن في الإقراض مصلحتهم لبقاء الأموال محفوظة مضمونة. والقاضي يقدر على الاستخراج والكتابة ليحفظه، وإن أقرض الوصي ضمن؛ لأنه لا يقدر على الاستخراج. والأب بمنزلة الوصي في أصح الروايتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن بينتها على فلان الغائب لا تصح، لأن ذلك ابتداء القضاء على الغائب.
وقال فخر الإسلام الأوزجندي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن البينة تقبل، ويجعل الحاضر خصما عن الغائب كما في السبب، لأن الدعوى والمدعي كما يتوقف على السبب يتوقف على الشرط.
فإن قيل: أليس لو قال لها: إن دخل فلان الدار فأنت طالق، فأقامت المرأة البينة أنه دخل وفلان غائب، كانت البينة صحيحة.
الجواب: إنما صحت هناك لأنه ليس فيها إبطال حق الغائب، فلا يكون قضاء على الغائب. م: (وقد عرفت تمامه) ش: أي تمام هذا المذكور من المسألة م: (في الجامع) ش: الصغير.
[إقراض القاضي من مال اليتامى]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ويقرض) ش: من الإقراض بالضاد المعجمة وفاعله م: (القاضي أموال اليتامى) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أي إلى الثقات والثقة الملي الحسن المعاملة.
وفي الأقضية إنما يملك القاضي الإقراض إذا لم يحصل غلبة لليتيم، أما إذا وجد فلا يملكه، هكذا روي عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (ويكتب ذكر الحق) ش: أي يكتب كتابا وهو الصك لأجل ذكر الحق، وهو الإقراض م: (لأن في الإقراض) ش: أي في إقراض أموالهم م: (مصلحتهم) ش: أي مصلحة اليتامى م: (لبقاء الأموال محفوظة) ش: فإن القاضي لكثرة اشتغاله قد يعجز عن الحفظ بنفسه م: (مضمونة) ش: لأن بالقرض تصير أموالهم مضمونة، فيقرضها، بخلاف الوديعة فإنه وإن حصل الحفظ بها فليست بمضمونة بالهلاك فلم تكن مضمونة.
فإن قيل: نعم هو كذلك، لكن لو لم يؤمن التوى بجحود المستقرض، أجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذا بقوله: م: (والقاضي يقدر على الاستخراج) ش: لكونه معلوما له م: (والكتابة ليحفظه) ش: أي لتحفيظ القاضي بالكتابة، وينتفي النسيان بها م: (وإن أقرض الوصي) ش: أي مال اليتيم م: (ضمن لأنه لا يقدر على الاستخراج) ش: لبقاء مخافة التوى، وإن كان الحفظ والضمان موجودين م: (والأب) ش: في إقراض مال الصغير م: (بمنزلة الوصي) ش: حيث لا يجوز له الإقراض م: (في أصح الروايتين) ش: وهو اختيار الإمام فخر الإسلام والصدر الشهيد(9/56)
لعجزه عن الاستخراج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والعتابي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (لعجزه) ش: [أي] الأب م: (عن الاستخراج) ش: وفي رواية يجوز له ذلك، لأن ولاية الأب تعم المال والنفس، كولاية القاضي وشفقته تمنعه من ترك النظر له، والظاهر أنه يقرضه ممن يأمن جحوده، وإن أخذه الأب قرضا لنفسه، قالوا: يجوز، وروى الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه ليس له ذلك.(9/57)
باب التحكيم وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز؛ لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما، وينفذ حكمه عليهما، وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم؛ لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب التحكيم]
[تعريف التجكيم ومشروعيته]
م: (باب التحكيم)
ش: أي هذا باب في بيان التحكيم، وهو مصدر من حكم بالتشديد، يقال: حكمه، أي فوض إليه الحكم، وهو أيضا من أنواع القضاء، إلا أنه أخر ذكره؛ لأن حكمه أدنى حالا من حكم القاضي، وهذا إذا خالف حكمه مذهب القاضي الذي ينمي إليه أبطله، ولهذا لا يجوز حكمه في الحدود والقصاص، بخلاف حكم القاضي.
ويجوز حكم القاضي رضي الخصم بذلك أم لا، ولا يجوز حكم المحكم إلا برضى الخصمين، وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] (النساء الآية 35) ، فلما جاز التحكيم بين الزوجين دل على جوازه في سائر الخصومات. وأما السنة ما «روى أبو شريح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي عني الفريقان، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " ما أحسن هذا» ، رواه النسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأما الإجماع فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا مجمعين على جواز التحكيم.
م: (وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز؛ لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما، وينفذ حكمه عليهما) ش: ولا ينفذ على غيرهما حتى لو ظفر المشتري بعيب، فحكم هو والبائع رجلا فرده على البائع بحكمه لم يكن للبائع أن يرده على بائعه ولو اصطلح البائع الأول والثاني. والمشتري جميعا على حكمه يرده على البائع الأول استحسانا، والوكيل بالبيع إذا ظفر المشتري بعيب فاصطلحا على حكم فرده بعيب لا يحدث مثله، جاز على الأمر في رواية.
وفي رواية: جاز عليه دون الأمر، وإن كان عيب محدث مثله يلزم البائع إلا إذا حكماه برضا الأمر كذا في " المحيط " م: (وهذا) ش: أي وهذا الذي ذكرناه إنما يصح م: (إذا كان المحكم) ش: بتشديد الكاف المفتوحة م: (بصفة الحاكم) ش: المولى م: (لأنه) ش: أي لأن الحكم م: (بمنزلة القاضي فيما بينهما) ش: أي فيما بين المحكمين.
واعترض بأنه لو كان كذلك، لما وقع التفرقة بينهما في حق التعليق وبالإضافة إلى المستقبل(9/58)
فيشترط أهلية القضاء، ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي لانعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة، والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى، ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما؛ لأنه مقلد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لكنها وقعت، فإنهما جائزان في القضاء دون التحكيم عنده، وأجيب بأن التحكيم صلح معنى حيث لا يثبت إلا بتراضي الخصمين.
والمقصود به قطع المنازعة، والصلح لا يعلق ولا يضاف بخلاف القضاء، والإمارة؛ لأنه تعريض م: (فيشترط أهلية القضاء) ش: هذا نتيجة قوله: لأنه بمنزلة القاضي، فلذلك ذكره بالفاء أي يشترط أهلية القضاء ووقت التحكيم ووقت الحكم، حتى لو حكما عبدا ثم أعتق أو صبيا ثم بلغ، أو ذميا فأسلم، وحكم لا ينفذ حكمه كما في المولى، وكذا لو كان مسلما وقت التحكيم، ثم ارتد وكذا على القلب في الكل لا ينفذ حكمه، كذا في " المغني " و " المحيط ".
م: (ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره"، وهذا كله من إضافة المصدر إلى المفعول، لأنه لو جعل من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، ينقلب حكم المسألة، فإن ذلك جائز، وفي " المغني " يجوز تحكيم المكاتب، والعبد المأذون كالحر، وتحكيم الذمي لا يجوز بين المسلمين، أما لو كان حكما فيما بين الذميين يجوز؛ لأنه من أهل الشهادة بين أهل الذمة دون المسلمين، م: (لانعدام أهلية القضاء) ش: أي في المذكورين م: (اعتبارا بأهلية الشهادة) ش: أي لأجل الاعتبار بأهلية الشهادة، فإنهم غير أهل الشهادة والقضاء مبني عليها.
م: (والفاسق) ش: مبتدأ م: (إذا حكم) ش: على صيغة المجهول بتشديد الكاف م: (يجب أن يجوز) ش: خبر المبتدأ م: (عندنا) ش: خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (كما مر في المولى) ش: أي وفي القاضي الفاسق المولى في أول كتاب " أدب القاضي "، يعني إذا حكم الفاسق ينبغي أن يجوز قياسا على الفاسق إذا ولي القضاء، ولكن لا ينبغي أن يتولى الفاسق القضاء، وكذا لا يحكم الفاسق.
وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك م: (ولكل واحد من المحكمين) ش: بتشديد الكاف المكسورة وفتح الميم م: (أن يرجع ما لم يحكم) ش: أي المحكم م: (عليهما) ش: أي على المحكمين م: (لأنه) ش: أي لأن المحكم م: (مقلد) ش: بفتح اللام المشددة م: (من جهتهما) ش: أي من جهة المحكمين م: (فلا يحكم إلا برضاهما جميعا) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه.(9/59)
وإذا حكم لزمهما لصدور حكمه عن ولاية عليهما، وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه، لأنه لا فائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه. وإن خالفه أبطله؛ لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه.
ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وإذا حكم) ش: أي المحكم م: (لزمهما) ش: أي لزم المحكمين ما حكم به م: (لصدور حكمه) ش: أي حكم المحكم م: (عن ولاية عليهما) ش:، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول مالك، وأحمد عن الشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا بد من تراضيهما بعد الحكم، وهو اختيار المزني م: (وإذا رفع حكمه) ش: أي حكم المحكم م: (إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه، لأنه لا فائدة في نقضه) ش: أي في نقض القاضي حكم هذا المحكم م: (ثم في إبرامه) ش: أي في حكمه قطعا م: (على ذلك الوجه) ش: أي الوجه الذي حكم به المحكم، وفائدة إمضاء الحاكم المحكم أنه لو رفع أي حاكم يخالف مذهبه، لم يتمكن من نقضه ولم يمضه لتمكن، لأن إمضاء الأول بمنزلة حكم نفسه.
م: (وإن خالفه أبطله) ش: أي وإن خالف حكم المحكم من مذهب الحاكم الذي رفع إليه أبطل حكم المحكم م: (لأن حكمه) ش: أي حكم المحكم م: (لا يلزمه) ش: أي لا يلزم الحاكم م: (لعدم التحكيم منه) ش: أي من المحكم بخلاف حكم الحاكم، فإنه لا يبطله الثاني، وإن خالف مذهبه لعموم ولايته، فكان قضاؤه حجة في حق الكل، فلا يجوز لقاض آخر أن يرده، وعند مالك وابن أبي ليلى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: حكم المحكم في المجتهدات نافذ كالمولى فلا يبطله وإن خالف رأيه إلا أن يكون جورا بينا لم يختلف فيه أهل العلم.
[التحكيم في الحدود والقصاص]
م: (ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص) ش: هذا مذهب الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قال: التحكيم لا يجوز في الحدود والقصاص، واختاره القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مختصره "، وكذلك اختاره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والمراد بالحدود: التي هي الواجب حقا لله تعالى. وأما في حد القذف والقصاص فقد اختلفت الروايات فيهما، فقال شمس الأئمة السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح أدب القاضي ": من أصحابنا من قالوا: إنه يجوز هذا في الحدود الواجبة لله تعالى؛ لأن الإمام هو المتعين لاستيفاء حقوق الله تعالى.
وأما في القصاص وحد القذف فيجوز التحكيم؛ لأن الاستيفاء إليها. وفي " الذخيرة "، يجوز التحكيم في القصاص؛ لأنه من حقوق العباد. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز في غير الأموال وما في معناها، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - حتى لا يجوز في حد ولا في لعان ولا في قصاص أو قذف أو طلاق أو عتاق أو(9/60)
لأنه لا ولاية لهما على دمهما، ولهذا لا يملكان الإباحة، فلا يستباح برضاهما. قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات، كالطلاق والنكاح، وغيرهما، وهو صحيح. إلا أنه لا يفتي به، ويقال: يحتاج إلى حكم المولى دفعا لتجاسر العوام فيه، وإن حكماه في دم خطأ فقضى بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا ولاية له عليهم إذ لا تحكيم من جهتهم. ولو حكم على القاتل بالدية في ماله رده القاضي ويقضي بالدية على العاقلة؛ لأنه مخالف لرأيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نسب أو ولاء؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيتعين القاضي المولى كالحدود م: (لأنه لا ولاية لهما على دمهما) ش: هذا دليل القصاص، ولم يذكر دليل الحدود أي؛ لأن الشأن لا ولاية للمحكمين على دمهما م: (ولهذا لا يملكان الإباحة فلا يستباح برضاهما) ش: ولو علل المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - مثل ما علل؛ لأن حكم المحكم ليس بحجة في غير المحكمين، فكانت فيه شبهة والحدود والقصاص لا يستوفي بالشبهات فكان أشمل.
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - من المتأخرين: م: (وتخصيص) ش: القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات، كالطلاق والنكاح وغيرهما) ش: كالكنايات في جعلها رجعية والطلاق المضاف، وهو الظاهر عند أصحابنا، لكن مشايخنا امتنعوا عن هذه الفتوى، وقالوا: يحتاج إلى حكم المولى، كما في الحدود والقصاص كيلا يتجاسر العوام، كذا ذكره الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - " في أدب القاضي".
وفي " الذخيرة " " وفتاوى العتابي " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز حكم المحكم في اليمين المضافة، لكن لا يفتى كيلا يتجاسر الناس.
وقال شمس الأئمة الحلواني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مسألة حكم المحكم تعلم ولا يفتى بها، وكان يقول: ظاهر المذهب أنه يجوز، إلا أن الإمام الأستاذ أبا علي النسفي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان يقول: فكتم هذا الفصل، ولا يفتى به كيلا يتطرق الجهال إلى ذلك فيؤدي إلى هدم مذهبنا م: (وهو صحيح) ش: أي التحكيم في سائر المجتهدات صحيح؛ لأنه هو الظاهر عن أصحابنا.
م: (إلا أنه لا يفتى به ويقال) ش: عند السؤال م: (يحتاج إلى حكم المولى) ش: أي القاضي المولى م: (دفعا) ش: أي للدفع م: (لتجاسر العوام فيه) ش: وقد ذكرناه. م: (وإن حكماه) ش: أي فإن حكم المحكمان المحكم م: (في دم خطأ فقضى بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا ولاية له) ش: أي للمحكم م: (عليهم) ش: أي على العاقلة م: (إذا لا تحكيم من جهتهم) ش: وحكم المحكم لا ينفذ على غير المحكمين م: (ولو حكم على القاتل بالدية في ماله رده القاضي ويقضي بالدية على العاقلة لأنه) ش: أي لأن حكم المحكم على القاتل م: (مخالف لرأيه) ش: أي لرأي القاضي(9/61)
ومخالف للنص أيضا، إلا إذا ثبت القتل بإقراره؛ لأن العاقلة لا تعقله، ويجوز أن يسمع البينة ويقضي بالنكول، وكذا بالإقرار؛ لأنه حكم موافق للشرع، ولو أخبر بإقرار أحد الخصمين أو بعدالة الشهود وهما على تحكيمهما يقبل قوله؛ لأن الولاية قائمة، ولو أخبر بالحكم لا يقبل قوله لانقضاء الولاية كقول المولى بعد العزل.
وحكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده باطل، والمولى والمحكم فيه سواء وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة. فكذلك لا يصح القضاء لهم بخلاف ما إذا حكم عليهم؛ لأنه تقبل شهادته عليهم لانتفاء التهمة، فكذا القضاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومخالف للنص أيضا) ش: وهو حديث حمل بن مالك قوموا قدره، كما سيأتي في كتاب المعاقل - إن شاء الله تعالى - م: (إلا إذا ثبت القتل بإقراره) ش: هذا استثناء من قوله: "رده القاضي" أي رد القاضي قضاءه بالدية في ماله، إلا إذا ثبت القتل بإقرار القاتل، فحينئذ يجوز الحكم بالدية في مال القاتل م: (لأن العاقلة لا تعقله) ش: أي لا تعقل الإقرار ولا الصلح ولا العمد.
م: (ويجوز أن يسمع) ش: أي المحكم م: (البينة ويقضي بالنكول) ش: هذا لفظ القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وكذا بالإقرار لأنه) ش: أي لأن كل واحد من سماع البينة والقضاء بالنكول وبالإقرار م: (حكم موافق للشرع) ش: لأنه ليس الحكم إلا بواحد من هذه الأشياء.
م: (ولو أخبر) ش: أي المحكم م: (بإقرار أحد الخصمين) ش: بأن قال لأحدهما: اعترفت عندي لهذا بكذا م: (أو بعدالة الشهود) ش: مثل أن يقول: قامت عندي وقد ألزمتك بهذا أو حكمت به لهذا عليك، فأنكر المقضي عليه أن يكون أقر عنده بشيء أو قامت عليه بينة بشيء له يلتفت إلى قوله، وقضى القاضي ونفذ؛ لأن المحكم يملك إنشاء الحكم عليه بذلك.
م: (وهما) ش: أي والحال أن المحكمين م: (على تحكيمهما يقبل قوله) ش: أي قول الحكم م: (لأن الولاية قائمة) ش: فيملك إنشاء الحكم، ويملك الإخبار بهذه الأشياء م: (ولو أخبر بالحكم) ش: بأن يقول: كنت حكمت عليك لهذا بكذا م: (لا يقبل قوله لانقضاء الولاية كقوله المولى بعد العزل) ش: لأنه لما حكم صار معزولا، ولا يقبل قوله "إني حكمت بكذا"، كالقاضي المولى إذا قال بعد عزله: حكمت بكذا، لا يقبل قوله فكذا هذا.
[حكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده]
م: (وحكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده باطل، والمولى) ش: أي القاضي المولى م: (والمحكم) ش: أي الذي جعل حكما م: (فيه) ش: أي في بطلان الحكم م: (سواء، وهذا) ش: أي بطلان الحكم م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا تقبل شهادته) ش: أي شهادة المحكم م: (لهؤلاء) ش: أي للوالدين والولد والزوجة م: (لمكان التهمة) ش: وهو ظاهر م: (فكذلك لا يصح القضاء لهم بخلاف ما إذا حكم عليهم؛ لأنه تقبل شهادته عليهم لانتفاء التهمة، فكذا القضاء) ش: إذا قضى عليهم.(9/62)
ولو حكما رجلين لا بد من اجتماعهما؛ لأنه أمر يحتاج فيه إلى الرأي، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو حكما رجلين لا بد من اجتماعهما) ش: حتى لو حكم أحدهما ولم يحكم الآخر لا يجوز م: (لأنه) ش: أي لأن التحكيم م: (أمر يحتاج فيه إلى الرأي، والله أعلم بالصواب) ش: لأن رأي الواحد ليس كرأي الاثنين، ولا يصدقان على ذلك الحكم بعد القيام من مجلس الحكومة حتى يشهد على ذلك غيرهما؛ لأنها بعد القيام كسائر الرعايا، فلا تقبل شهادتهما على فعل ما سواه، والله أعلم بالصواب.
وفي " المحيط ": ولو حكم حرا وعبدا محكما لم يجز، ولو حكم مسلم ومرتد رجلا فحكم بينهما، ثم قتل المرتد أو لحق بدار الحرب لم يجز حكمه عليهما، ولو أمر الإمام رجلا أن يحكم بين الناس، وهو ممن يجوز شهادته جاز، ويصير كالقاضي، ولو أمر القاضي رجلا لم يجز إلا بإذن الإمام ولو حكم لا يجوز إلا أن يجيزه القاضي بعد الحكم، أو يتراضى به الرجلان بعد الحكم.
ولو حكما رجلا فأخرجه القاضي من الحكومة، فحكم بعده فأجاز جاز، وليس للمحكم أن يفوض التحكيم إلى غيره، ولو فرض، وحكم الثاني بغير رضاهما، فأجاز الأول لم يجز إلا أن يخيرا بعد الحكم. وقيل: ينبغي أن يجوز كالوكيل الأول إذا جاز بيع الثاني ولو حكما واحدا، فحكم لأحدهما ثم حكما آخر ينفذ حكم الأول إن كان جائزا عنده، وإلا أبطله.
وكتاب الحكم إلى القاضي لا يجوز، كما لا يجوز كتاب القاضي إليه. ولا يحكم الحكم بكتاب قاض إلا إذا رضي الخصمان، والله أعلم.(9/63)
مسائل شتى من كتاب القضاء
قال: وإذا كان علو لرجل وسفل آخر، فليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا ولا ينقب فيه كوة وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - معناه بغير رضا صاحب العلو،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[مسائل شتى في كتاب القضاء]
[التصرف في محل تعلق به حق محترم للغير]
م: (مسائل شتى) ش: أي هذه مسائل شتى م: (من كتاب القضاء) ش: أي مسائل متفرقة متعلقة بكتاب القضاء وأصل شتى من شت الأمر يشت شتا إذا تفرق. يقال: أمر مشت أي متفرق. وجاءوا أشتاتا، أي متفرقين، وقوم شتى، وأشياء شتى. قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] (الليل الآية: 4) أي إن عملكم لمختلف، وفي تفسير إن أعمالكم لمختلفة، وقد جرت عادة المصنفين أن يذكروا ما شذ من المسائل في آخر الكتاب استدراكا للغاية، ويترجموه بقولهم، مسائل متفرقة أو بقولهم: مسائل شتى، أو بقولهم مسائل منثورة. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكان القياس على هذا أن يذكر صاحب " الهداية " مسائل هذا الفصل في آخر كتاب "أدب القاضي "، انتهى.
قلت: الذي ذكره صاحب " الهداية " هاهنا، هو القياس؛ لأن كل شيء قيل: مسائل شتى من الأبواب والفصول من كتاب " أدب القاضي " ومتعلقاته، فافهم.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا كان علو لرجل وسفل لآخر فليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا) ش: أصل يتد يوتد حذف الياء لوقوعها بين الياء والكسرة، والوتد بفتح الواو وكسر التاء. وقال الجوهري: الوتد بالكسر واحد الأوتاد وبالفتح لغة، وكذلك الود في لغة من يدغم، تقول: وتد الوتد ثم وتدا، وإذا أمرت. قلت: تد وتدك بالميتدة، وهي المدق، انتهى.
قلت: الوتد في لغة البلدتين، الخازوق، وهو قطعة من الخشب أو الحديد يدق في الحائط ليعلق عليه شيء أو يربط به شيء م: (ولا ينقب فيه كوة) ش: قاله الأترازي: الكوة بفتح الكاف كذا في "الديوان " هي الروزن. وفي " المغرب": الكوة نقب البيت والجمع كوى. وقد يضم الكاف في الفرد والجمع - ويستدار مفتاح الماء إلى المزارع والجداول، فيقال: كوى النهر. وقال الجوهري: الكوة نقب البيت والجمع كوا بالمد، وكوى أيضا مقصور. والكوة بالضم لغة ويجمع على كوى.
قلت: الكوة بخش في الحائط غير نافذ من ورائها يحط فيها شيء م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرها من عدم جواز دق الوتد ونقب الكوة م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وكذا لا يفتح بابا ولا يدخل جذعا فيه، ولا يهدم سفله، وكذا لم يكن لصاحب العلو أن يحدث في بنائه إلا أن يضع عليه جذعا، ولا كنيفا لم يكن م: (معناه بغير رضا صاحب العلو) ش: أي معنى قول محمد -(9/64)
وقالا: يصنع ما لا يضر بالعلو، وعلى هذا الخلاف إذا أراد صاحب العلو أن يبني على علوه، قيل: ما حكي عنهما تفسير لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا خلاف فيه. وقيل: الأصل عندهما الإباحة؛ لأنه تصرف في ملكه، والملك يقتضي الإطلاق والحرمة بعارض الضرر، فإذا أشكل لم يجز المنع، والأصل عنده الحظر؛ لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير، كحق المرتهن والمستأجر والإطلاق بعارض، فإذا أشكل لا يزول المنع على أنه لا يعرى عن نوع ضرر بالعلو من توهين بناء أو نقضه، فيمنع عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع ": ليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا ولا ينقب فيه كوة عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (بغير رضا صاحب العلو) ش: حاصله كما يجيء الآن أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما أراد بالمنع ما فيه ضرر ظاهر.
قيل: بل عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحظر أصل والإطلاق يعارض لعدم الضرر، ولا خلاف فيما لم يضر لصاحبه، فإن له أن يصنع ما لا يضر به بالاتفاق وإنما الخلاف في حالة الإشكال أنه يضر به أم لا؟ فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس له ذلك إلا يرضي صاحبه (وقالا:) أي قال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (يصنع ما لا يضر بالعلو) ش: لأن التصرف حصل في ملكه م: (وعلى هذا الخلاف) ش: المذكور بين أبي حنيفة وصاحبيه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (إذا أراد صاحب العلو أن يبني على علوه) ش: بيتا أو يضع عليه جزوعا ونحو ذلك م: (قيل ما حكي عنهما) ش: أي عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (تفسير لقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلا خلاف فيه) ش: قال بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد بالمنع ما فيه ضرر ظاهر، فيكون فصلا مجمعا عليه؛ لأن التصرف حصل في ملكه.
م: (وقيل:) ش: بل بينهم خلاف لأن م: (الأصل عندهما الإباحة؛ لأنه تصرف في ملكه، والملك يقتضي الإطلاق والحرمة بعارض الضرر) ش: أي إطلاق التصرف م: (فإذا أشكل) ش: ولم يعلم أنه يضره أم لا م: (لم يجز المنع) ش: لأن الأصل الإطلاق في تصرف ملكه م: (والأصل عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الحظر) ش: أي المنع م: (لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير) ش: وتعلق حق الغير بملكه بين تصرفه فصار هذا م: (كحق المرتهن والمستأجر) ش: في منع المالك عن التصرف في المرهون والمستأجر.
م: (والإطلاق) ش: أي إطلاق التصرف م: (بعارض) ش: عدم الضرر م: (فإذا أشكل) ش: بأن لم يعلم فيه ضرر أم لا م: (لا يزول المنع على أنه) ش: أي مع أن التصرف فيه م: (لا يعرى عن نوع ضرر بالعلو من توهين البناء ونقضه، فيمنع عنه) ش: ولهذا لا يملك صاحب السفل أن يهدم كل الجدار أو السقف. فكذا بعضه.(9/65)
قال: وإذا كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائغة مستطيلة، وهي غير نافذة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قياس.
وقال قاضي خان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو تصرف صاحب السفل في ساحة السفل بأن حفر بئرا أو ما أشبه، ويتضرر به صاحب العلو له ذلك عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعندهما الحكم معلول لعلة الضرر، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، وفي الأقضية لو انهدم السفل لا يجبر صاحب السفل على البناء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية.
وقالوا في رواية أخرى: يجبر ويخير صاحب العلو، فإن شاء بنى السفل إلى موضع علوه ثم يبني علوه ويمنع صاحب السفل عن السكن فيه حتى يؤدي قيمة السفل.
والصحيح أنه يعتبر قيمته يوم البناء لا وقت الرجوع بخلاف ما لو انهدم دار مشتركة، فبنى أحدهما بغير إذن صاحبه، لا يرجع على صاحبه بشيء، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأصح، لأنه هنا غير مضطر إلى البناء في نصيب شريكه، لأنه يمكنه أن يقاسم المساحة ولهذا لا يجبر الشريك على بناء الجدار المشترك بعد انهدامه عندنا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول وأحمد ومالك - رحمهما الله - في رواية.
ولو كان البيت صغيرا فانهدم، ولا يمكن قسمة الساحة، لا يكون متبرعا في البناء، وهكذا تقول في الطاحون والحمام حتى لو انهدم بعضه يرجع بحصة صاحبه عليه، ولو انهدم كله فإن أمكن إلينا بعد القسمة يكون في البناء متطوعا، وإلا لا، كذا ذكره التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا كانت زائغة) ش: أي سكة. قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله "زائغة" أي سكة غير نافذة وفي حجة الشرع الزائغة كوجه، سميت بذلك لزيغها عن الطريق الأعظم.
وقال الأترازي: الزائغة المحلة سميت بها لميلها من طرف إلى طرف، من زاغت الشمس إذا مالت. وفي "تهذيب ديوان الأدب ": الزائغة الطريق الذي جاز عن الطريق الأعظم م: (مستطيلة) ش: أي طويلة من استطال يعني طال م: (تنشعب عنها زائغة مستطيلة وهي نافذة) ش: أي الزائغة(9/66)
فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى؛ لأن فتحه للمرور ولا حق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا حتى لا يكون لأهل الأولى فيما بيع فيها حق الشفعة، بخلاف النافذة؛ لأن المرور فيها حق العامة، قيل: المنع من المرور لا من فتح الباب؛ لأنه رفع بعض جداره. والأصح أن المنع من الفتح لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور في كل ساعة، ولأنه عساه يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب. وإن كانت مستديرة قد لزق طرفاها فلهم أن يفتحوا بابا، لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها، إذ هي ساحة مشتركة، ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المنشعبة غير نافذة، وكذلك الزائغة الأولى أيضا غير نافذة.
كذا ذكره التمرتاشي والفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - حيث قالا: سكة طويلة غير نافذة، وسكة أخرى عن يمينها أو شمالها غير نافذة ولكن في أكثر الكتب لم يقيد الأولى بكونها غير نافذة، وتعليل الكتاب يقتضي ذلك.
وصورتها هكذا
م: (فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى) ش: أي السفلى م: (لأن فتحه للمرور لاحق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا) ش: أي خاصته م: (حتى لا يكون لأهل الأولى) ش: أي السكة الأولى م: (فيما بيع فيها) ش: أي في السكة القصوى م: (حق الشفعة) ش: لأن السكة لهم خاصة م: (بخلاف النافذة؛ لأن المرور فيها حق العامة) ش: وليست للسكان فيها خاصة م: (قيل: المنع من المرور لا من فتح الباب لأنه) ش: أي لأن الفتح م: (رفع بعض جداره) ش: ولأن يرفع جميع جداره بالهدم، فرفع بعضه أولى، ولهذا لو فتح كوة أو بابا للاستضاءة دون المرور لم يمنع. م: (والأصح أن المنع من الفتح، لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور وفي كل ساعة ولأنه) ش: إذا فعل ذلك م: (عساه) ش: أي لعله م: (يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب) ش: ويكون القول قوله من هذا الوجه فيمنع.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (وإن كانت) ش: أي الزائغة القصوى م: (مستديرة قد لزق طرفاها) ش: يعني سكة اعوجاج حتى بلغ اعوجاجها رأس السكة، والسكة غير نافذة م: (فلهم أن يفتحوا بابا) ش: أي فلكل واحد منهم أن يفتح بابه م: (لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها، إذ هي ساحة مشتركة ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها) ش: بهذه(9/67)
قال: ومن ادعى في دار دعوى، وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها، فهو جائز وهي مسألة الصلح على الإنكار، وسنذكرها في الصلح إن شاء الله تعالى. والمدعي وإن كان مجهولا، فالصلح على معلوم عن مجهول جائز عندنا؛ لأنه جهالة في الساقط فلا تقضي إلى المنازعة على ما عرف. قال: ومن ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له في وقت كذا فسئل البينة فقال: جحدني الهبة، فاشتريتها منه، وأقام المدعي البينة على الشراء قبل الوقت الذي يدعي فيه الهبة لا تقبل بينته لظهور التناقض، إذ هو يدعي الشراء بعد الهبة وهم يشهدون به قبلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصورة:
[ادعى في دار دعوى وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ومن ادعى في دار دعوى وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها فهو جائز) ش: قيل: أراد به إذا كان المدعي به مقدرا معلوما، كالثلث، ونحوه حتى تكون الدعوى صحيحة؛ لأن الصلح إذا كانت الدعوى صحيحة، أما إذا كانت فاسدة أي هذه المسألة م: (وهي مسألة الصلح على الإنكار، وسنذكرها في الصلح - إن شاء الله تعالى -) ش: والصلح على [ ... ] جائز عندنا خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا جواب عما يقال كيف يصح الصلح مع جهالة المدعي ومعلومية مقداره شرط صحة الدعوى، ألا ترى أنه لو ادعى على إنسان شيئا لا يصح دعواه، أجاب المنصف بقوله: م: (والمدعى وإن كان مجهولا فالصلح على معلوم عن مجهول جائز عندنا) ش: ثم علله بقوله م: (لأنه) ش: أي لأن المجهول م: (جهالة في الساقط فلا تفضي إلى المنازعة) ش: والأصل فيه أن ما يجب تسليمه يشترط العلم به، لأن الجهالة تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم، وما لا يجب تسليمه لا تضر الجهالة فيه م: (على ما عرف) ش: في كتاب الصلح.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له في وقت كذا) ش: يعني أنه سلمها إليه في وقت م: (فسئل البينة) ش: على دعواه م: (فقال:) ش: أي المدعي: م: (جحدني الهبة) ش: ولم يكن لي بينة في حق الهبة م: (فاشتريتها منه وأقام المدعي البينة على الشراء قبل الوقت الذي يدعي فيه الهبة لا تقبل بينته لظهور التناقض) ش: والتناقض يمنع صحة الدعوى م: (إذ هو يدعي الشراء بعد الهبة وهم يشهدون به) ش: أي بالشراء م: (قبلها) ش: أي قبل الهبة، أي قبل عقدها.(9/68)
ولو شهدوا به بعدها تقبل لوضوح التوفيق. ولو كان ادعى الهبة ثم أقام البينة على الشراء قبلها ولم يقل جحدني الهبة فاشتريتها، لم تقبل أيضا، ذكره في بعض النسخ؛ لأن دعوى الهبة إقرار منه بالملك للواهب عندها ودعوى الشراء رجوع عنه فعد مناقضا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء بعد الهبة؛ لأنه تقرير ملكه عندها.
ومن قال لآخر: اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر إن أجمع البائع على ترك الخصومة وسعه أن يطأها؛ لأن المشتري لما جحده كان فسخا من جهته إذ الفسخ يثبت به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولو شهودا به) ش: أي بالشراء م: (بعدها) ش: أي بعد الهبة م: (تقبل لوضوح التوفيق) ش: وهذا لأنه يمكنه أن يقول: وهب لي منذ شهر ثم جحدني الهبة فاشتريتها منه منذ أسبوع، فلا تناقض، وفي الوجه الأول: التوفيق غير ممكن، فيتحقق التناقض إذ لا يمكنه أن يقول: وهب لي منذ شهر، ثم جحدني الهبة فاشتريتها منذ سنة. وهذه المسألة تدل على أن التناقض إنما يمنع صحة الدعوى إذا لم يمكن التوفيق، وأما إذا أمكن فلا.
م: (ولو كان ادعى الهبة ثم أقام البينة على الشراء قبلها) ش: أي قبل الهبة م: (ولم يقل جحدني الهبة فاشتريتها، لم تقبل أيضا، ذكره في بعض النسخ) ش: أي بعض نسخ " الجامع الصغير "، ثم ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه عدم قبول البينة هنا للتناقض بقوله: م: (لأن دعوى الهبة إقرار منه بالملك للواهب) ش: في ذلك الوقت م: (ودعوى الشراء) ش: قبل الهبة م: (رجوع عنه) ش: أي الإقرار للواهب م: (فعد مناقضا) ش: فلا يقبل بينته م: (بخلاف ما إذا ادعى الشراء بعد الهبة) ش: حيث تقبل بينته م: (لأنه تقرير ملكه) ش: أي ملك الواهب م: (عندها) ش: أي عند الهبة، فإن قبل ينبغي أن لا تقبل في هذه الصورة أيضا، لأنه ادعى شراء باطلا، لأنه ادعى شراء يملكه بالهبة، أجيب بأنه لا جحد الهبة، فقد فسخها من الأصل وتوقف الفسخ في حق المدعي على رضاه، فإذا قدم على الشراء منه، فقد رضي بذلك الفسخ فيهما بينهما فإذا انفسخت الهبة بتراضيهما، واشترى ما لا يملكه فكان صحيحا.
[قال لآخر اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر]
م: (ومن قال لآخر: اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر) ش: أي الآخر المخاطب م: (إن أجمع البائع) ش: أي إن قصد وعزم بقلبه، وقيل يشهد بلسانه على العزم بالقلب م: (على ترك الخصومة وسعه) ش: أي حل له أي للبائع م: (أن يطأها) ش: أي الجارية وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحل.
وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه لأنه لما باعها فيه على ملك المشتري ما لم يبعها من البائع أو يتقايلا م: (لأن المشتري لما جحده) ش: أي البيع م: (كان فسخا من جهته إذ الفسخ يثبت به)(9/69)
كما إذا تجاحدا، فإذا عزم البائع على ترك الخصومة تم الفسخ وبمجرد العزم، وإن كان لا يثبت الفسخ فقد اقترن بالفعل اقترن الفعل، وهو إمساك الجارية ونقلها وما يضاهيه، ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري فات رضا البائع فيستبد بفسخه.
قال: ومن أقر أنه قبض من فلان عشرة دراهم، ثم ادعى أنها زيوف صدق. وفي بعض النسخ: اقتضى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي بالجحود م: (كما إذا تجاحدا) ش: البيع لأن الإقالة قد تكون بلفظ الإقالة، وبلفظ الرد وبجحودهما، بأن تجاحد البائع لأن الفسخ رفع العقد من الأصل، والجحود إنكار من الأصل فيجعل أحدهما مجازا عن الآخر.
م: (فإذا عزم البائع على ترك الخصومة تم الفسخ) ش: بينهما، ألا ترى إلى ما قالوا في " شرح الجامع الصغير ": إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار بكذا أو بعتك هذا الثوب بكذا، فأخذ الدار أو الثوب وذهب به، كأن ذلك قبولا منه، كذا هذا، فإن قيل: لو جاز قيام الجحود والعزم على ترك الخصومة مقام الفسخ لجاز لامرأة جحد زوجها النكاح، وحرمت على الخصومة أن تتزوج بزوج آخر إقامة لهما مقام الفسخ، لكن ليس لها ذلك، وأجيب بأن الشيء يقوم مقام غيره، إذا احتمل المحل ذلك الغير بالضرورة والنكاح لا يحتمل الفسخ بعد اللزوم، فكيف يقوم غيره مقامه بخلاف البيع م: (وبمجرد العزم) ش: هذا جواب عما يقال: الفسخ لا يثبت بمجرد العزم على الفسخ، ألا ترى أن من له خيار الشرط إذا عزم بقلبه على فسخ العقد، لا ينفسخ العقد بمجرد عزمه فأجاب المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله م: (وبمجرد العزم) ش: أي بمجرد عزم الرجل.
م: (وإن كان لا يثبت الفسخ، فقد اقترن بالفعل) ش: أي فقد اقترن العزم بالفعل م: (وهو إمساك الجارية ونقلها) ش: أي نقل الجارية من موضع الخصومة إلى بيته م: (وما يضاهيه) ش: أي وما يشابه ذلك من الأفعال كالكتابة والعرض على البيع والاستخدام؛ لأن إمساكها لا يحل بدون الفسخ فيتحقق الانفساخ دلالة كمن قال لآخر: أجرتك هذه الدابة يوما بكذا لتركبها إلى مكان كذا، فأخذ المستأجر ليركبها كان ذلك قبولا دلالة؛ لأن الأخذ والاستعمال لا يحل بدون القبول م: (ولأنه) ش: دليل آخر، أي ولأن الشأن م: (لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري) ش: بجحود العقد م: (فات رضا البائع) ش: وفواته يوجب الفسخ لفوات ركن البيع م: (فيستبد بفسخه) ش: فيستقل البائع بفسخ العقد فيجعل عزمه فسخا، والفرق بين الدليلين أن الانفساخ كان في الأول مترتبا على الفسخ من الجانبين، وجعل جحوده فسخا من جانبه. والعزم على ترك الخصومة من جانب البائع، وفي الثاني مترتب على الفسخ من جانب البائع باستبداده.
[أقر الطالب أنه قبض ماله على فلان مائة ثم قال وجدتها زيوفا]
م: (قال: ومن أقر أنه قبض من فلان عشرة دراهم) ش: أي بسبب من الأسباب من استقراض أو ثمن سلعة أو غصب أو وديعة م: (ثم ادعى أنها زيوف صدق) ش: أي القول قوله مع يمينه م: (وفي بعض النسخ) ش: أي في بعض نسخ " الجامع الصغير " م: (اقتضى) ش: أي لفظ اقتضى(9/70)
وهو عبارة عن القبض أيضا ووجهه أن الزيوف من جنس الدراهم، إلا أنها معيبة، ولهذا لو تجوز بها في الصرف والسلم جاز، والقبض لا يختص بالجياد فيصدق؛ لأنه أنكر قبض حقه، بخلاف ما إذا أقر قبض الجياد أو حقه أو الثمن أو استوفى لإقراره بقبض الجياد صريحا أو دلالة فلا يصدق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
موضع قبض م: (وهو) ش: أي لفظ اقتضى م: (عبارة عن القبض أيضا) ش: ولكن لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصل " الجامع الصغير " اقتضى.
وفي " المبسوط " أقر الطالب أنه قبض ماله على فلان مائة، ثم قال: وجدتها زيوفا، فالقول قوله وصل أم فصل، وقوله في الكتاب: "ثم ادعى أنها زيوف صدق" محمول على هذا الرأي وصل أم فصل، وبه صرح المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "جامعه" فقال: هو مصدق وصل أم فصل.
وفي " المبسوط ": في باب الإقرار بالدين: لو قال: لفلان علي ألف من ثمن مبيع، إلا أنها زيوف أو مبهرجة لم يصدق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دعوى الزيافة وصل أم فصل في قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعندهما يصدق إن وصل، ولا يصدق إن فصل. ولو أقر بالمال غصبا أم وديعة، وقال: هي نبهرجة أو زيوف صدق فصل أو وصل، ولو قال: علي ألف من غير ذكر التجارة والغصب، فقال بعض مشايخنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فهو على الخلاف المذكور. وقيل: يصدق هاهنا إذا وصل بالاتفاق، وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله -: إذا فصل لا يقبل في جميع الصور.
م: (ووجهه) ش: أي وجه ما ذكر من تصديقه م: (أن الزيوف من جنس الدراهم، إلا أنها معيبة، ولهذا) ش: أي ولكونها من جنس الدراهم م: (لو تجوز بها في الصرف، والسلم جاز) ش: إذ لو لم تكن من جنسها، كان التجويز استبدالا وهو فيهما لا يجوز، وقد تقدم م: (والقبض لا يختص بالجياد) ش: هذا جواب عما يقال، الإقرار بالقبض يستلزم الإقرار بقبض الحق، وهو الجياد حملا لجهالته على ما له حق قبضه لا ما ليس له ذلك، ولو أقر بقبض حقه، ثم ادعى أنه زيوف، لم يسمع منه، فكذا هذا، فأجاب بقوله والقبض لا يختص بالجياد، للملازمة والزيوف له حق قبضه، لأنه دون حقه، والممنوع من القبض ما يزيد على حقه، وإذا لم يكن القبض مختصا بالجياد، فالإقرار به لا يستلزم الإقرار بقبض الجياد، فبدعواه الزيوف لم يكن متناقضا بل هو ينكر قبض حقه م: (فيصدق لأنه أنكر قبض حقه) ش: لأن القول قول المنكر مع يمينه.
م: (بخلاف ما إذا أقر قبض الجياد أو حقه) ش: أي وأقر أنه قبض حقه م: (أو الثمن) ش: أي أو أقر أنه قبض م: (أو استوفى) ش: أي أقر أنه استوفى حيث لا يصدق م: (لإقراره بقبض الجياد صريحا) ش: في قوله: إنه قبض الجياد م: (أو دلالة) ش: في الثلاثة البقية م: (فلا يصدق) ش: لأنه(9/71)
والنبهرجة كالزيوف وفي الستوقة لا يصدق؛ لأنه ليس من جنس الدراهم حتى لو تجوز به فيما ذكرنا لا يجوز. والزيف ما زيفه بيت المال. والنبهرجة ما يرده التجار، والستوقة ما يغلب عليها الغش.
قال: ومن قال لآخر: لك علي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
متناقض. أما في الأول فظاهر وكذا في غيره، لأن حقه في الجياد، فكان الإقرار بقبض حقه مطلقا أقر بقبض الجياد والاستيفاء عبارة عن القبض بوصف التمام فكان عبارة عن قبض حقه أيضا. وقال السغناقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "النهاية": جمع المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين هذه المسائل الأربع في الجواب بأنه لا يصدق، وليس الحكم فيها على السواء، فإنه إذا أقر بقبض الجياد، ثم ادعى أنها زيوف لا يصدق لا موصولا ولا مفصولا، وفيما بقي يصدق موصولا، ولا يصدق مفصولا، ثم أطال الكلام فيه.
[قال اقتضيت من فلان كذا درهما ثم ادعى أنها نبهرجة]
م: (والنبهرجة كالزيوف) ش: أي في حكم التصديق إذا قال: اقتضيت من فلان كذا درهما، ثم ادعى أنها نبهرجة يصدق، كما إذا قال: إنها زيوفا م: (وفي الستوقة لا يصدق؛ لأنه ليس من جنس الدراهم) ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس هذا الحكم على إطلاقه، فإنه ذكر في " المبسوط " في الإقرار: ولو أقر قبض خمسمائة مما له على الديون، ثم قال بعد أن سكت: هي رصاص لم يصدق؛ لأن اسم الدراهم لا يتناول الرصاص حقيقة، وإن كان موصولا فالقول قوله؛ لأن الرصاص من الدراهم صورة، وإن لم يكن منها معنى، فكان بيانا مغير الظاهر كلامه إلى ما هو محتمل، فيصح موصولا، وكذلك في الستوقة، لأن الرصاص أبعد من الستوقة في اسم الدراهم، والحكم في الرصاص هكذا، فيجب أن يكون كذلك بالطريق الأولى م: (حتى لو تجوز به فيما ذكرنا) ش: أي في الصرف والسلم م: (لا يجوز) ش: لأنه ليس من جنس الدراهم. ثم بين الزيوف والنبهرجة والستوقة ما هي بقوله: م: (والزيف ما زيفه بيت المال) ش: أي رده، وفي المغرب زافت عليه دراهمه، أي صارت مردودة عليه لغش فيها م: (والنبهرجة ما يرده التجار) ش: وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " النبهرج ": الدراهم التي فضتها رديئة، وقيل: التي فيها الغلبة للفضة، وقد استعير لكل باطل ومنه يهرج دمه إذا بطل. م: (والستوقة ما يغلب عليها الغش) ش: وهو بالفتح أردأ من النبهرجة.
وفي " النوازل ": قال أبو نصر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الزيوف هي الدراهم المغشوشة، والنبهرجة هي التي تضرب من غير دار السلطان، والستوقة صفر مموه بالفضة، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: الزيوف ما زيفه بيت المال، والنبهرجة ما يهرجه التجار، و"الستوقة" فارسية معربة، وهي تعريب سدبر. وفي " المبسوط ": الستوقة كالفلوس، فإنه صفر مموه من الجانبين، وقيل: معرب سرطاقة أي الطاقة الأعلى والأسفل فضة والأوسط صفر.
[قال لك علي ألف درهم فقال ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه بل لي عليك]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: ومن قال لآخر: لك علي(9/72)
ألف درهم فقال: ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه: بل لي عليك ألف درهم فليس عليه شيء؛ لأن إقراره هو الأول وقد ارتد برد المقر له. والثاني دعوى فلا بد من الحجة أو تصديق خصمه، بخلاف ما إذا قال لغيره: اشتريت وأنكر الآخر له أن يصدقه؛ لأن أحد المتعاقدين لا يتفرد بالفسخ كما لا يتفرد بالعقد، والمعنى أنه حقهما، فبقي العقد فعمل التصديق. أما المقر له يتفرد برد الإقرار فافترقا. قال: ومن ادعى على آخر مالا، فقال: ما كان لك علي شيء قط، فأقام المدعي البينة على ألف، وأقام هو البينة على القضاء قبلت بينته وكذلك على الإبراء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ألف درهم فقال) ش: أي المقر له م: ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه: بل لي عليك ألف درهم فليس عليه) ش: أي على المقر م: (شيء، لأن إقراره) ش: المعتبر م: (هو الأول وقد ارتد برد المقر له. والثاني) ش: وهو قوله: بل لي عليك ألف درهم م: (دعوى فلا بد من الحجة) ش: أي البينة م: (أو تصديق خصمه) ش: حتى لو صدقه المقر ثانيا، لزمه المال استحسانا م: (بخلاف ما إذا قال لغيره: اشتريت) ش: مني هذا العبد م: (وأنكر الآخر) ش: يعني أقر بالشراء منه وأنكر المقر له م: (له أن يصدقه) ش: بعد ذلك لأن إقراره، وإن كان مما يحتمل الإبطال، لكن المقر لم يستقل بإثباته، فلا ينفرد أحد المتعاقدين بالفسخ، وهو معنى قوله م: (لأن أحد المتعاقدين لا يتفرد بالفسخ كما لا يتفرد بالعقد) ش: يعني أن المقر له لا ينفرد بالرد كما أن المقر لا ينفرد بإثباته.
م: (والمعنى أنه) ش: أي أن الفسخ م: (حقهما، فبقي العقد فعمل التصديق) ش: بخلاف الأول فإن أحدهما ينفرد بالإثبات، فينفرد الآخر بالرد وإليه أشار بقوله م: (أما المقر له يتفرد برد الإقرار فافترقا) ش: أي الحكمان المذكوران.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قلت: إن عزم المقر على ترك الخصومة، وجب أن لا يفيد التصديق بعد الإنكار، فإن الفسخ قد تم، ولهذا، لو كانت جارية حل وطؤها كما تقدم، ويجوز أن يقال: إن قوله: "ثم قال في مكانه" إشارة إلى الجواب عن ذلك فإن العزم والنقل كان دليل الفتح، وبه سقط.
قال في " الكافي ": ذكر في " الهداية " أن أحد العاقدين لا ينفرد بالفسخ، وذكر قبله، ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري، فات رضا البائع، فيستبد بفسخه، والتوفيق بين كلامه صعب، وذلك أنه قال لما تعذر استيفاء الثمن يستبد، وهاهنا قال: لما أقر المشتري في مكانه بالشراء، لم يتعذر الاستيفاء فلا يستبد بالفسخ.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى على آخر مالا فقال: ما كان لك علي شيء قط، فأقام المدعي البينة على ألف، وأقام هو البينة على القضاء قبلت بينته وكذلك على الإبراء) ش: يعني لما تقبل البينة على القضاء، فقيل أيضا(9/73)
وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل؛ لأن القضاء يتلو الوجوب وقد أنكره فيكون مناقضا. ولنا أن التوفيق ممكن؛ لأن غير الحق قد يقضى ويبرأ منه دفعا للخصومة والشغب، ألا ترى أنه يقال قضى بباطل، وقد يصالح على شيء فيثبت ثم يقضي، وكذا إذا قال: ليس لك علي شيء قط، لأن التوفيق أظهر. ولو قال: ما كان لك علي شيء قط، ولا أعرفك، لم تقبل بينته على القضاء، وكذا على الإبراء لتعذر التوفيق؛ لأنه لا يكون بين اثنين أخذ وإعطاء وقضاء واقتضاء، ومعاملة ومصالحة بدون المعرفة. وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تقبل أيضا؛ لأن المحتجب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على الإبراء. م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تقبل) ش: وبه قال ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن القضاء يتلو الوجوب) ش: لأنه تسليم مثل الواجب م: (وقد أنكره فيكون مناقضا) ش: في دعواه، وقبول النية تقتضي دعوى صحيحة م: (ولنا أن التوفيق ممكن لأن غير الحق قد يقضي ويبرأ منه دفعا للخصومة والشغب) .
م: (ألا ترى) ش: توضيح لما قبله م: (أنه يقال قضى بباطل) ش: كما يقال قضى بحق م: (وقد يصالح على شيء) ش: بالإنكار م: (فيثبت ثم يقضي) ش: أي يؤدي، والقضاء يجيء بمعنى الأداء. قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10] (الجمعة: الآية 10) فإذا أديت م: (وكذا إذا قال) ش: أي الرجل المخاطب عند دعوى المال عليه: م: (ليس لك علي شيء قط؛ لأن التوفيق أظهر) ش: لأن يقول ليس لك علي شيء في الحال لأني قد قضيتك حقك، أو لأنك أبرأتني، ألا ترى أنه لو صرح به يصح، وهذا لأن ليس لنفي الحال. فإذا أقام المدعي البينة على المدعى به والمدعى عليه على القضاء أو الإبراء قبل زمان الحال لم يتصور تناقض أصلا ما لو دلت المسألة على قبول البينة عند إمكان التوفيق من غير دعواه.
واستدلال الخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لمسألة الكتاب بفصل دعوى القصاص، والرق فقال: ألا ترى أنه لو ادعى على رجل دم عمد، فلم تثبت عليه أقام المدعى عليه بينة على الإبراء أو العفو أو الصلح معه على مال قبلت، وكذا لو ادعى رقبة جارية، فأنكرت وأقام البينة على رقبتها ثم أقامت هي بينة على أنه أعتقها أو كاتبها أو ألف وأنها أدت إليه قبلت.
م: (ولو قال: ما كان لك علي شيء قط، ولا أعرفك، لم تقبل بينته على القضاء وكذا على الإبراء) ش: أي وكذا لا تقبل بينته على الإبراء م: (لتعذر التوفيق؛ لأنه لا يكون بين اثنين أخذ وإعطاء وقضاء واقتضاء ومعاملة ومصالحة بدون المعرفة) ش: فتعذر التوفيق فبطلت البينة.
م: (وذكر القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي عن أصحابنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (أنه) ش: أي أن بينته على تأويل البرهان م: (تقبل أيضا) ش: على القضاء م: (لأن المحتجب) ش: أي الرجل المحتجب، وهو الذي لا يراه كل أحد لعظمته. وقال تاج الشريعة: المحتجب الذي لا يتولى(9/74)
أو المخدرة قد يؤدي بالشغب على بابه، فيأمر بعض وكلائه بإرضائه ولا يعرفه، ثم يعرفه بعد ذلك فأمكن التوفيق.
قال: ومن ادعى على آخر أنه باعه جاريته، فقال: لم أبعها منك قط، فأقام المشتري البينة على الشراء، فوجد بها أصبعا زائدة فأقام البائع البينة أنه برئ إليه من كل عيب لم تقبل بينة البائع. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه تقبل اعتبارا بما ذكرنا. ووجه الظاهر أن شرط البراءة تغيير للعقد من اقتضاء وصف السلامة إلى غيره، فيستدعي وجود البيع وقد أنكره فكان مناقضا بخلاف الدين؛ لأنه قد يقضي وإن كان باطلا على ما مر.
قال: ذكر حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأمور بنفسه م: (أو المخدرة) ش: أي المرأة المخدرة وهي التي لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم م: (قد يؤدي بالشغب على بابه) ش: الشغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين، وقال الجوهري: الشغب بالتسكين تهييج الشر ولا يقال شغب م: (فيأمر بعض وكلائه بإرضائه ولا يعرفه، ثم يعرفه بعد ذلك فأمكن التوفيق) ش: من حيث أنه عرفه بعد إرضائه بلا معرفة. وقال فخر الدين قاضي خان في "شرح الجامع الصغير ": فعلى هذا لو كان المدعى عليه يتولى الأعمال بنفسه، لا تقبل بينته؛ لأنه لا يمكنه التوفيق من هذا الوجه، وقيل: تقبل البينة على الإبراء في هذا الفصل اتفاق الروايات، لأن الإبراء يتحقق بلا معرفة.
[ادعى على آخر أنه باعه جاريته فقال لم أبعها منك قط فأقام المشتري البينة]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن ادعى على آخر أنه باعه جاريته، فقال: لم أبعها منك قط، فأقام المشتري البينة) ش: أي أقام المدعي البينة م: (على الشراء) ش: منه م: (فوجد) ش: أي المشتري م: (بها) ش: أي الجارية م: (أصبعا زائدة) ش: خص هذا العيب بالذكر دون عيب آخر، لما أنه عيب قديم لا يحدث مثله في مثل تلك المدة م: (فأقام البائع البينة أنه برئ إليه من كل عيب لم تقبل بينة البائع) ش: لأن التوفيق بين الكلامين متعذر.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي بينة البائع م: (تقبل اعتبارا بما ذكرنا) ش: أراد به ما ذكره في مسألة البائع وكيلا من المالك في البيع، فكان المالك في قوله ما بعتها صادقا ثم المالك في دعواه السواء من كل عيب، لا يكون مناقضا م: (ووجه الظاهر) ش: أي ظاهر الرواية م: (أن شرط البراءة) ش: عن العيب م: (تغيير للعقد من اقتضاء وصف السلامة إلى غيره، فيستعدي وجود البيع) ش: لأن الصفة بدون الموصوف غير مقصودة م: (وقد أنكره) ش: أي والحال أن البائع قد أنكر م: (فكان مناقضا) ش: لأن دعوى البراءة تقضي سابقة العقد فلا تسمع بينته م: (بخلاف الدين) ش: فإن هناك تقبل بينة المطلوب على القضاء والإبراء بعد إنكاره أصل الدين إذ التوفيق ممكن، بأن يقول: ما كان لك علي شيء قط، غير أني دفعت المال قطعا للخصومة والملامة، فلما جحدتني أثبته، كذا ذكره المحبوبي م: (لأنه) ش: أي لأن الدين م: (قد يقضى وإن كان باطلا على ما مر) ش: عند قوله لأن غير الحق قد يقضى ويبرأ منه
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ذكر حق) ش: قال تاج الشريعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -(9/75)
كتب في أسفله، ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى، أو كتب في شراء فعلى فلان خلاص ذلك وتسليمه إن شاء الله تعالى بطل الذكر كله، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: إن شاء الله تعالى هو على الخلاص، وعلى من قام بذكر الحق، وقولهما استحسان ذكره في الإقرار؛ لأن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه؛ لأن الذكر للاستيثاق، وكذا الأصل في الكلام الاستبداد، وله أن الكل كشيء واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أي كتاب إقرار بدين، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله ذكر حق أي صك يعني لو كتب ذكر إقرار على نفسه ثم م: (كتب في أسفله، ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي فيه إن شاء الله تعالى، أو كتب في شراء) ش: يعني كتب ذكر إقرار في شراء، يعني في صك الشراء، ثم كتب في آخره وما أدرك فلانا من الدرك م: (فعلى فلان خلاص ذلك وتسليمه إن شاء الله تعالى بطل الذكر كله) ش: يعني يبطل الصك كله حتى يبطل الدين الذي فيه، ويفسد الشراء، وصورتها في " الجامع الصغير " محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في الرجل يكتب على نفسه ذكر الحق، فيكتب في أسفله إن شاء الله تعالى، أو يكتب الشراء فيكتب في أسفله فما أدرك فيه فلانا من درك، فعلى فلان خلاصه إن شاء الله تعالى، قال: إن شاء الله يبطل الدين، ويفسد الشراء وهذا معنى قوله م: (وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: يعني بطلان الصك كله.
م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (إن شاء الله تعالى هو على الخلاص) ش: يعني قوله إن شاء الله تعالى ينصرف إلى قوله على فلان خلاصه م: (وعلى من قام بذكر الحق) ش: والشراء صحيح والمال المقر به لازم م: (وقولهما) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (استحسان ذكره) ش:، أي ذكره محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (في الإقرار) ش: من " المبسوط " م: (لأن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه) .
ش: أي لأن الصك يشتمل على إنشاء ولا تعلق للبعض بالبعض فانصرف إلى الذي يليه م: (لأن الذكر) ش: أي الصك يكتب م: (للاستيثاق) ش: والتأكيد لا للإبطال فكان ذلك دلالة على قصر الاستثناء على الذي يليه م: (وكذا الأصل في الكلام الاستبداد) ش: أي الاستقلال فلا يكون ما في الصك بعضه مرتبا ببعض فينصرف الاستثناء إلى ما يليه.
والجواب: أن الذكر للاستيثاق مطلقا، وإذا لم يكتب في آخره إن شاء الله تعالى، والثاني مسلم، والأول عين النزاع، والأصل في الكلام الاستبداد إذ لم يوجد ما يدل على خلافه، وقد وجد ذلك وهو العطف.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن الكل) ش: فيما نحن فيه م: (كشيء واحد(9/76)
بحكم العطف فيصرف إلى الكل كما في الكلمات المعطوفة، مثل قوله عبده حر وامرأته طالق، وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن شاء الله تعالى، ولو ترك فرجة قالوا: لا يلتحق به ويصير كفاصل السكوت، والله أعلم بالصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بحكم العطف فيصرف إلى الكل كما في الكلمات المعطوفة) ش: بعضها على بعض م: (مثل قوله عبده حر وامرأته طالق، وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن شاء الله تعالى) ش: فإنه ينصرف إلى الجميع ولا يلزمه شيء م: (ولو ترك فرجة) ش: أي موضع بياض قبل قوله، ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى.
م: (قالوا) ش: المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (لا يلتحق) ش: أي قوله: "إن شاء الله" حينئذ م: (به) ش: أي بجميع الصك، بل يلتحق بقوله من قام بذكر الحق م: (ويصير كفاصل السكوت) ش: أي تلك الفرجة كالسكوت في المنطق، فإن قيل: ينبغي أن لا يكتب قوله، ومن قام الآخر أنه توكيل، ولا يصح التوكيل على هذا الوجه، لأنه توكيل لمجهول، والمجهول لا يصلح وكيلا، قلنا: الغرض من كتابته إثبات رضا المعز بتوكيل من يوكله المقولة بالخصومة معه على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فإن التوكيل بالخصومة عنده من غير رضا الخصم لا يصح وكونه توكيلا مجهولا ليس بصائر؛ لأنه في الإسقاط، والإسقاطات تصح مع الجهالة، كما في الصلح على الإنكار.
وقيل: هو للاحتراز عن قول ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز التوكيل بالخصومة من غير رضا الخصم، إلا إذا رضي بوكالة وكيل مجهول لا عن مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن الرضا بالوكالة المجهولة عنده لا تثبت، فوجوده كعدمه، قلت ذكر في كتب المذاهب الأربعة أن عند ابن أبي ليلى يجوز التوكيل بغير رضا الخصم مطلقا، والله أعلم.(9/77)
فصل في القضاء بالمواريث قال: وإذا مات نصراني فجاءت امرأته مسلمة، وقالت: أسلمت بعد موته، وقالت الورثة: أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القول قولها؛ لأن الإسلام حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات. ولنا أن سبب الحرمان ثابت في الحال، فيثبت فيما مضى تحكيما للحال، كما في جريان ماء الطاحونة، وهذا ظاهر، نعتبره للدفع وما ذكره يعتبره للاستحقاق، ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته، وقالت: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة: لا بل أسلمت بعد موته، فالقول قولهم أيضا ولا يحكم الحال، لأن تحكيمه يؤدي إلى جعله حجة للاستحقاق وهي محتاجة إليه أما الورثة فهم الدافعون، ويشهد لهم ظاهر الحدوث أيضا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في القضاء بالمواريث]
[مات نصراني فجاءت امرأته وقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته]
أي هذا فصل في بيان أحكام القضاء بالمواريث، وهو جمع ميراث، أصله متوارث، قلبت الواو ياء لسكونها، وإنكار ما قبلها وهو اسم مثل الإرث ولما كان الموت آخر أحوال البشر ذكر الأحكام المتعلقة به آخرا م: (قال: وإذا مات نصراني فجاءت امرأته مسلمة، وقالت: أسلمت بعد موته، وقالت الورثة: أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة) ش: هذه من مسائل " الجامع الصغير ".
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - القول قولها) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن الإسلام حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات) ش: فيجعل موجودا بعد الموت لا قبله.
م: (ولنا أن سبب الحرمان) ش: أي سبب حرمان المرأة وهو إسلامها من ميراث زوجها النصراني م: (ثابت في الحال، فيثبت فيما مضى تحكيما للحال) ش: أي باستصحاب الحال وتحكيم المال عند عدم دليل آخر واجب والحال يصلح للدفع لا للاستحقاق.
م: (كما في جريان ماء الطاحونة) ش: فإن ربها مع المستأجر إذا اختلفا بعد مضي المدة في جريان الماء وانقطاعه بحكم الحال، فإن كان جاريا في الحال، كان القول قول رب الطاحونة، وإن لم يكن جاريا كان القول قول المستأجر م: (وهذا) ش: أي تحكيم الحال م: (ظاهر) ش: نحن م: (نعتبره للدفع) ش: أي لدفع استحقاقها الميراث م: (وما ذكره) ش: أي: زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (يعتبره للاستحقاق) ش: وفي بعض النسخ: وما ذكره أي زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والظاهر يعتبر للدفع لا للاستحقاق.
م: (ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته، وقالت: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة: لا بل أسلمت بعد موته، فالقول قولهم أيضا) ش: أي للورثة م: (ولا يحكم الحال) ش: أي لا يقال إنها مسلمة في الحال فتكون مسلمة قبل موته فلا يحكم الحال م: (لأن تحكيمه يؤدي إلى(9/78)
قال: ومن مات وله في يد رجل أربعة آلاف درهم وديعة، فقال المستودع: هذا ابن الميت لا وارث له غيره، فإنه يدفع المال إليه، لأنه أقر أن ما في يده حق الوارث خلافة، فصار كما إذا أقر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
جعله حجة للاستحقاق وهي محتاجة إليه) ش: أي إلى الاستحقاق وهو لا يصلح لذلك، وبه يتم الدليل وقوله م: (أما الورثة، فهم الدافعون) ش: إشارة إلى معنى آخر، وهو أن في كل مسألة منها اجتمع نوعا الاستصحاب، أما في الأولى، فلأن نصرانية امرأة النصراني كانت لما تبعه فيما مضى، ثم جاءت مسلمة، فادعت إسلاما حادثا، فبالنظر إلى ما كانت فيما مضى الأصل فيه أن يبقى هو من النوع الأول، وبالنظر إلى ما هو موجود في الحال الأصل فيه أن يكون موجودا فيما مضى، وهو من النوع الثاني.
فلو اعتبرنا الأول حتى كان القول قولها، كان استصحاب الحال مثبتا، وهو باطل، فاعتبرنا الثاني ليكون دافعا، فبالنظر إلى النصرانية يقتضي بقاءها إلى ما بعد الموت، وبالنظر إلى الإسلام يقتضي أن يكون ثابتا قبل موته. فلو اعتبرناه لزم أن يكون الحال مثبتا، وهو لا يصلح، فاعتبرنا الأول ليكون دافعا، والورثة هم الدافعون فيتقيد بهم الاستبدال به وقوله: م: (ويشهد لهم ظاهر الحدوث أيضا) ش: دليل آخر وهو أن الإسلام حادث، والحادث يضاف إلى أقرب الأوقات.
فإن قيل: إن كان ظاهر الحدوث معتبرا في الدلالة، كان ظاهر في المسألة الأولى معارضا للاستصحاب ويحتاج إلى مرجع. والأصل عدمه، فالجواب: أنه معتبر في الدفع لا في الإثبات.
وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبره للإثبات. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ونوقض بنقض إجمالي، وهو أن ما ذكرتم على الاستصحاب لا يصلح للإثبات، ولو كان صحيحا بجميع مقدماته لما قضى فيه بالأجر على المستأجر، إذا كان ماء الطاحونة جاريا عند الاختلاف، لأنه استدلال به لإثبات الأجر.
والجواب: أنه استدلال به لدفع ما يدعي المستأجر على الأجر من ثبوت العيب الموجب بسقوط الأجر، فإنه بالعقد السابق الموجب له، فيكون دافعا لا موجبا. إلى هنا كلامه، ثم قال: واعتبر هذا واستغنى عما في " النهاية ".
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن مات وله في يد رجل أربعة آلاف درهم وديعة فقال المستودع) ش: أي الذي عنده الوديعة م: (هذا ابن الميت لا وارث له غيره، فإنه) ش: أي فإن المستودع م: (يدفع المال إليه) ش: أي إلى ابن الميت م: (لأنه أقر أن ما في يده حق الوارث خلافة) ش: أي من حيث الخلافة عن الميت. م: (فصار) ش: حكم هذا م: (كما إذا أقر)(9/79)
أنه حق المورث وهو حي أصالة، بخلاف ما إذا أقر لرجل أنه وكيل المودع بالقبض، أو أنه اشتراه منه حيث لا يؤمر بالدفع إليه؛ لأنه أقر بقيام حق المودع، إذ هو حي فيكون إقرارا على مال الغير ولا كذلك بعد موته، بخلاف المديون إذا أقر بتوكيل غيره بالقبض؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فيكون إقرارا على نفسه فيؤمر بالدفع إليه ولو قال المودع لآخر: هذا ابنه أيضا، وقال الأول: ليس له ابن غيري قضى بالمال للأول؛ لأنه لما صح إقراره للأول انقطع يده عن المال فيكون هذا إقرارا على الأول، فلا يصح إقراره للثاني كما إذا كان الأول ابنا انقطع يده عن المال، فيكون هذا إقرارا على الأول فلا يصح إقراره للثاني كما لو كان الأول ابنا معروفا، ولأنه حين أقر للأول لا مكذب له فصح، وحين أقر للثاني له مكذب فلم يصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: أي المستودع م: (أنه حق المورث) ش: بكسر الراء م: (وهو حي) ش: أي والحال أنه حي م: (أصالة) ش: أي من حيث الأصالة م: (بخلاف ما أقر) ش: أي المستودع م: (لرجل أنه وكيل المودع) ش: بكسر الدال م: (بالقبض أو أنه اشتراه منه) .
ش: أي أقر أن الرجل المقر له عين الوديعة من المودع م: (حيث لا يؤمر بالدفع إليه؛ لأنه أقر بقيام حق المودع) ش: بكسر الدال م: (إذ هو حي) ش: أي والحال أنه حي م: (فيكون) ش: إقراره م: (إقرارا على مال الغير) ش: فلا يصح لأن إقراره حجة قاصرة عليه، فلا يصح في حق الغير م: (ولا كذلك) ش: أي وليس الحكم كما ذكره م: (بعد موته) ش: أي بعد موت المودع.
م: (بخلاف المديون إذا أقر بتوكيل غيره بالقبض) ش: يعني إذا أقر المديون لرجل أنه وكيل صحاب الدين يقبض الدين حيث يؤمر بالدفع م: (لأن الديون تقضى بأمثالها) ش: لا بأعيانها م: (فيكون إقرارا على نفسه فيؤمر بالدفع إليه) ش: ومن أقر على نفسه يؤمر بالخروج عن عهدته. م: (ولو قال المودع) ش: بفتح الدال م: (لآخر) ش: أي لشخص آخر م: (هذا ابنه أيضا، وقال الأول) ش: أي الابن الأول م: (ليس له ابن غيري قضى بالمال للأول؛ لأنه لما صح إقراره للأول انقطع يده عن المال، فيكون هذا إقرارا على الأول، فلا يصح إقراره للثاني كما إذا كان الأول ابنا) ش: أي الابن الأول ليس له ابن غيري يقضي بالمال للأول؛ لأنه لما صح إقراره للأول م: (انقطع يده عن المال، فيكون هذا إقرارا على الأول، فلا يصح إقراره للثاني كما لو كان الأول) ش: أي الابن الأول م: (ابنا معروفا) ش: لأنه لا مزاحم له م: (ولأنه حين أقر للأول لا مكذب له) ش: يعني لم يكذب به أحد م: (فصح) ش: أي إقراره م: (وحين أقر للثاني) ش: أي للابن الثاني م: (له مكذب) ش: وهو الابن الأول م: (فلم يصح) ش: واعترض بأن تكذيب غيره ينبغي أن لا يؤثر في إقراره، فيجب عليه ضمان نصف ما أدى للأول. وأجابوا بالتزام ذلك إذا دفع الجميع بلا قضاء كالذي أقر بتسليم الوديعة من القاضي بعدما أقر لغير من أقر له القاضي، وأما إن كان الدفع بقضاء، كان في الإقرار الثاني مكذبا شرعا، فلا يلزمه الإقرار.(9/80)
قال: وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة، فإنه لا يؤخذ منهم كفيل ولا من وارث وهذا شيء احتاط به بعض القضاة، وهو ظلم وهذا وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: يأخذ الكفيل، والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة، ولم يقل الشهود: لا نعلم له وارثا غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[أخذ الكفيل من الغرماء والوارث]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة، فإنه لا يؤخذ منهم كفيل) ش: أي من الغرماء م: (ولا من وارث) ش: أي ولا يؤخذ أيضا كفيل من وارث م: (وهذا شيء) ش: أي أخذ الكفيل الشيء م: (احتاط به بعض القضاة) ش: وكان ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفعل كذلك بالكوفة في قضائه م: (وهو ظلم) ش: هذا دليل على أن المجتهد يخطئ ويصيب، ونص على أن الإمام أسبق الأئمة أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه براءة عن مذهب أهل الاعتزال، حيث قالوا: كل مجتهد مصيب. م: (وهذا) ش: أي عدم أخذ الكفيل من الغرماء والوارث م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا: يأخذ الكفيل) ش: أي لا يدفع المال إليهم حتى يأخذ الكفيل، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال في قول آخر: لا يجب أخذ الكفيل؛ بل يستحب. وقيل: إن كان الوارث ممن يحجب وجب، وإلا فلا، وقيل: إن كان الوارث مأمونا لا يجب، وإن كان غير مأمون يجب، وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا الدفع إلى الوارث، إنما يصح إذا كان وارثا لا يحجب بغيره، وإن كان يحجب بغيره لا يدفع المال إليه.
وإن كان وارثا يختلف نصيبه ولا يحجب، ويدفع إليه أقل النصيبين عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أوفر النصيبين، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب، ذكره الصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " أدب القاضي ".
م: (والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة، ولم يقل الشهود: لا نعلم له وارثا غيره) ش: قيد بقوله ولم يقل الشهود.. إلى آخره؛ لأنهم إذا قالوا ذلك، يدفع إليه المال بلا أخذ كفيل بالاتفاق، وعند ابن أبي ليلى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يثبت إرثه حتى يقول الشهود: لا وارث له سواه، ويأخذ الكفيل عنده في هذه الصورة أيضا، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في وجه، وقال في وجه: يجب أخذ الكفيل في جميع الصور.
وإذا شهدوا أنه ابن فلان مالك هذه الدار، ولم يشهدوا على عدد الورثة، ولم يقولوا في شهادتهم: لا نعلم له وارثا غيره، فإن القاضي يتلوم زمانا على قدر ما يرى، وقدر الطحاوي مدة التلوم بالحول فإن حضر وارث غيره قسمت فيما بينتهم، وإن لم يحضر دفع الدار إليه إن كان(9/81)
لهما أن القاضي ناظر للغيب. والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا؛ لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة، كما إذا دفع الآبق واللقطة إلى صاحبه أو أعطى امرأة الغائب النفقة من ماله. ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن حق الحاضر ثابت قطعا أو ظاهرا فلا يؤخر لحق موهوم إلى زمان التكفيل، كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى يبيع في دينه لا يكفل، ولأن المكفول له مجهول، فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء، بخلاف النفقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الحاضر ممن لا يحجب حرمانا كالأب والابن وإن كان يحجب بغيره كالجد والأخ، فإنه لا يدفع إليه، وإن كان ممن يحجب نقصانا كالزوج والزوجة يدفع إليه أوفر النصيبين، وهو النصف والربع عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأقلهما وهو الربع والثمن عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مضطرب.
م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن القاضي ناظر للغيب) ش: بضم الغين المعجمة وتشديد الياء جمع غائب م: (والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا؛ لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة، كما إذا دفع) ش: القاضي اللقطة إلى رجل أثبت عنده أنه صاحبه، فإنه يأخذ منه كفيلا م: (الآبق واللقطة) ش: أي وكما إذا دفع العبد الآبق م: (إلى صاحبه) ش: فإنه يأخذ منه كفيلا احتياطا م: (أو أعطى) ش: أي وكما إذا أعطى م: (امرأة الغائب النفقة من ماله) ش: أي من مال الزوج بأن كان عند إنسان وديعة يقر بها المودع ويقر بقيام النكاح، فإنه يفرض لها النفقة ويأخذ منها كفيلا احتياطا.
م: (ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن حق الحاضر ثابت قطعا) ش: فيما إذا كان القاضي يعرف يقينا أنه لا وارث لميت غير الحاضر م: (أو ظاهرا) ش: فيما إذا لم يعرف القاضي وارثا آخر واحتمل وجود الآخر وعدمه، فإذا كان الأمر كذلك م: (فلا يؤخر) ش: أي حق الحاضر م: (لحق موهوم إلى زمان التكفيل) ش: لأن القاضي ليس بمكلف بإظهاره، بل بما ظهر عنده من الحجة، فكان العمل بالظاهر واجبا عليه م: (كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى يبيع في دينه لا يكفل) ش: أي من المشتري أو من رب الدين مع احتمال مشتر آخر ودين آخر.
فلو أخذ الكفيل بناء على هذا الاحتمال يكون الأدنى معارضا على الحجة الأعلى وأنه لا يجوز م: (ولأن المكفول له مجهول) ش: هذا دليل آخر على عدم جواز أخذ الكفيل، وذلك لما تقدم أن جهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة، وهنا المكفول له مجهول فلا يصح.
م: (فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء) ش: ولم يعين من هو، فإنه لا يصح م: (بخلاف النفقة)(9/82)
لأن حق الزوج ثابت وهو معلوم. وأما الآبق واللقطة ففيه روايتان. والأصح أنه على الخلاف، وقيل: إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد، يكفل بالإجماع؛ لأن الحق غير ثابت. ولهذا كان له أن يمنع. وقوله: ظلم، أي ميل عن سواء السبيل، وهذا يكشف عن مذهبه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المجتهد يخطئ ويصيب، لا كما ظنه البعض. قال: وإذا كانت الدار في يد رجل وأقام الآخر البينة أن أباه مات وتركها ميراثا بينه وبين أخيه فلأن الغائب قضي له بالنصف وترك النصف الآخر في يد الذي هي في يده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: هذا جواب عما استشهد به من المسائل أما النفقة م: (لأن حق الزوج ثابت) ش: في الوديعة م: (وهو) ش: أي الزوج م: (معلوم) ش: أيضا فصحت الكفالة.
م: (وأما الآبق واللقطة ففيه) ش: أي ففي كل واحد منهما م: (روايتان) ش: قال في رواية: لا أحب أن يأخذ منه كفيلا، وقال في رواية: أحب إلي أن يأخذ منه كفيلا م: (والأصح أنه على الخلاف) ش: المذكور إذا ظهر الاستحقاق بالبينة، وقالوا في " شروح الجامع الصغير "، والصحيح أن الرواية الأولى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فعلى ما قالوا لا يصح قياسا على تلك المسألة.
م: (وقيل: إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد) ش: فإنه لمن يطلبه م: (يكفل بالإجماع؛ لأن الحق غير ثابت) ش: لأن العلامة أو قول العبد لا يوجب الاستحقاق م: (ولهذا) ش: أي ولأجل ذلك م: (كان له) ش: أي للقاضي م: (أن يمنع) ش: أي من الدفع، فصح تأخيره للتكفيل صيانة للقضاء.
م: (وقوله) ش: أي وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " حين سأله أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن مسألة قسمة الميراث بين الغرماء م: (ظلم أي ميل عن سواء السبيل) ش: إنما ذكره تمهيدا لما ذكره بقوله: م: (وهذا) ش: أي إطلاق الظلم على المجتهد فيه م: (يكشف عن مذهبه - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض) ش: وهم المعتزلة أن كل مجتهد مصيب، على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإنما وقعوا في هذا الظن بسبب ما نقل عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال ليوسف بن خالد السمتي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كل مجتهد مصيب، والحق عند الله واحد، قلنا: معناه مصيب في الاجتهاد، حتى يكون مثابا، وإن وقع اجتهاده مخالفا عند الله عز وجل. فقد قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو تلاعنا ثلاثا ففرق القاضي بينهما، فقد قضاه وقد أخطأ السنة جعل قضاءه صوابا، مع فتواه أنه يخطئ بالحق عند الله عز وجل، كذا في "التقويم ".
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في] " الجامع الصغير " م: (وإذا كانت الدار في يد رجل وأقام الآخر) ش: أي رجل آخر م: (البينة أن أباه مات وتركها) ش: أي الدار م: (ميراثا بينه وبين أخيه فلأن الغائب قضي له بالنصف) ش: أي بنصف الدار م: (وترك النصف الآخر في الذي هي في يده،(9/83)
ولا يستوثق منه بكفيل، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: إن كان الذي هي في يده جاحدا، أخذ منه وجعل في يد أمين، وإن لم يجحد ترك في يده، لهما أن الجاحد خائن فلا يترك المال في يده، بخلاف المقر لأنه أمين، وله أن القضاء وقع للميت مقصودا واحتمال كونه مختارا للميت ثابت، فلا تنقض يده كما إذا كان مقرا وجحوده قد ارتفع بقضاء القاضي، والظاهر عدم الجحود في المستقبل لصيرورة الحادثة معلومة له وللقاضي. ولو كانت الدعوى في منقول فقد قيل: يؤخذ منه بالاتفاق؛ لأنه يحتاج فيه إلى الحفظ والنزع أبلغ فيه، بخلاف العقار لأنها محصنة بنفسها، ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ولا يستوثق منه) ش: أي من صاحب اليد م: (بكفيل) ش: أي لا يؤخذ من ذي اليد كفيل م: (وهذا) ش: أي ترك النصف الآخر في يد من في يده م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش:. وعدم الاستيثاق بالكفيل هنا فبالإجماع، والخلاف في الذي ذكرناه.
م: (وقالا) ش: أي أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: م: (إن كان الذي هي في يده جاحدا أخذ منه) ش: أي أخذ منه الكفيل م: (وجعل في يد أمين) ش: حتى تقدم الغائب م: (وإن لم يحجد ترك في يده) ش: لأنه أمين م: (لهما) ش: أي لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (أن الجاحد خائن فلا يترك المال في يده، بخلاف المقر لأنه أمين) ش: فترك في يده م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (أن القضاء وقع للميت مقصودا) ش: لأن القضاء بالإرث قضاء للميت، ولهذا يقضي ديونه منه وينفذ وصاياه م: (واحتمال كونه) ش: أي كون صاحب اليد م: (مختارا للميت ثابت، فلا تنقض يده) ش: بقيد من غير مختار له، وإنما قال واحتمال كونه، لأن كون المال بيد من لو بيده باختيار الميت ليس بقطعي.
واحتمال ذلك يفيد المطلوب فاكتفى به م: (كما إذا كان) ش: من بيده م: (مقرا) ش: فإنه إنما يترك الباقي بيده كذلك.
م: (وجحوده) ش: هذا جواب عما ذكراه، ووجهه أن الخيانة الجحود م: (قد ارتفع بقضاء القاضي) ش: وكذا لازمه م: (والظاهر عدم الجحود في المستقبل لصيرورة الحادثة معلومة له) ش: أي للابن م: (وللقاضي) ش: فالظاهر أنه إنما جحد لاشتباه الأمر عليه، وقد زال ذلك بالحجة.
م: (ولو كانت الدعوى في منقول) ش: والمسألة بحالها.
م: (فقد قيل: يؤخذ) ش: أي النصف الآخر م: (منه) ش: أي من الذي يده م: (بالاتفاق؛ لأنه يحتاج فيه إلى الحفظ والنزع أبلغ فيه) ش: أي في القول لأنه لما جحد ربما يتصرف فيه إما لخيانة أو لزعمه أنه ملكه، فالأخذ منه أبلغ في الحفظ.
م: (بخلاف العقار؛ لأنها محصنة بنفسها، ولهذا) ش: أي ولكون العقار محصنة بنفسها(9/84)
يملك الوصي بيع المنقول على الكبير الغائب دون العقار، وكذا حكم وصي الأم والأخ والعم على الصغير. وقيل: المنقول على الخلاف أيضا، وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أظهر لحاجته إلى الحفظ، وإنما لا يؤخذ الكفيل لأنه إنشاء الخصومة، والقاضي إنما نصب لقطعها لا لإنشائها، وإذا حضر الغائب لا يحتاج إلى إعادة البينة ويسلم النصف إليه بذلك القضاء؛ لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فيما يستحق له عليه دينا كان أو عينا؛ لأن المقضي له وعليه إنما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (يملك الوصي بيع المنقول على الكبير الغائب دون العقار، وكذا حكم وصي الأم والأخ والعم على الصغير) ش: من بيع العروض على الكبير، وإنما خصهم بالذكر إذ ليس لهم ولاية التصرف ولهم ولاية الحفظ، وهذا من باب الحفظ م: (وقيل: المنقول على الخلاف أيضا) ش: يعني لا يؤخذ نصيب الغائب من يد المدعى عليه على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافا لهما. وقال الأستروشني - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "فصوله": وأما المنقول فلا شك أن على قولهما يؤخذ نصيب الغائب من يده ويوضع على يدي عدل. واختلف المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال بعضهم: لا ينزع من يده، وقال بعضهم: ينزع من يده.
م: (وقول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه) ش: أي في المنقول م: (أظهر) ش: من قوله في العقار م: (لحاجته إلى الحفظ) ش: أي لحاجة المنقول إلى الحفظ، فإذا لم ينزع من يده كان مضمونا عليه، وإذا نزع منه لم يبق مضمونا عليه، فكان الحفظ في عدم النزع أكثر م: (وإنما لا يؤخذ الكفيل) ش: هذا راجع إلى قوله، ولا تستوثق منه بكفيل، ومعناه أخذ الكفيل م: (لأنه إنشاء الخصومة) ش: لأن من بيده الباقي قد لا تصح نفسه بإعطائه، والقاضي يطالبه فتنشأ الخصومة والقاضي لم ينصب لإنشائها بل لقطعها، وهو معنى قوله م: (والقاضي إنما نصب لقطعها) ش: أي لقطع الخصومة م: (لا لإنشائها) .
فإن قيل: هب أن القاضي لم ينصب لذلك، فيكون الخصم هو الحاضر يطالبه بالكفيل، والقاضي يقطعها بحكمه بإعطائه.
أجاب الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه بقوله: يجعل تركيب الدليل هكذا طلب الكفيل هاهنا إنشاء خصومة وهو مشروع لقطع الخصومة ورفعها، فلما فرضناه رافعا لشيء كان منشأ له، وهذا خلف باطل. م: (وإذا حضر الغائب) ش: وأخذ نصيبه هل يكلف إلى إعادة البينة أم لا، فقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لا يحتاج إلى إعادة البينة) ش: في أخذ نصيبه من ذي اليد م: (ويسلم النصف إليه بذلك القضاء) ش: لأن بينة الحاضر كانت له ولأخيه الغائب م: (لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فيما يستحق له) ش: أي للميت.
م: (وعليه) ش: أي وعلى الميت سواء كان م: (دينا كان أو عينا؛ لأن المقضي له وعليه إنما هو(9/85)
الميت في الحقيقة، وواحد من الورثة يصلح خليفة عنه في ذلك، بخلاف الاستيفاء لنفسه؛ لأنه عامل فيه لنفسه، فلا يصلح نائبا عن غيره، ولهذا لا يستوفي إلا نصيبه، وصار كما إذا قامت البينة بدين الميت إلا أنه إنما يثبت استحقاق الكل على أحد الورثة إذا كان الكل في يده. ذكره في " الجامع "؛ لأنه لا يكون خصما بدون اليد فيقتصر القضاء على ما في يده.
قال: ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الميت في الحقيقة، وواحد من الورثة يصلح خليفة عنه) ش: أي عن الميت م: (في ذلك) ش: الأمر وهو اختيار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - والخصاف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومنهم من قال: يكلف بإعادة البينة على قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قتل العمد إذا أقام الحاضر البينة: أن فلانا قتل أباه عمدا ثم حضر الغائب، يحتاج إلى إقامة البينة.
م: (بخلاف الاستيفاء) ش: جواب عما يقال: لو صلح أحدهم للخلافة كان كالميت، وجاز له استيفاء الجميع كالميت لكن لا يدفع إليه سوى نصيبه بالإجماع. تقرير الجواب: أن الاستيفاء م: (لنفسه) ش: خلاف ذلك م: (لأنه) ش: أي لأن المستوفي م: (عامل فيه لنفسه فلا يصلح نائبا عن غيره) ش: ولقائل أن يقول: فليكن عاملا لنفسه في نصيبه، ونائبا عن غيره فيما زاد ولا محظور فيه.
وجوابه: في المسائل قال: لكن لا يدفع إليه سوى نصيبه بالإجماع وما كان كذلك لا يقبل التشكيك م: (ولهذه) ش: أي ولأجل كون العامل لنفسه لا يصلح أن يكون نائبا لغيره م: (لا يستوفي) ش: الحاضر م: (إلا نصيبه، وصار كما إذا قامت البينة بدين الميت) ش: فإنه يقضي بالكل، ولا يأخذ إلا نصيب نفسه م: (إلا أنه) ش: استثناء من قوله: لأن أحد الورثة ينتصب خصما إلى قوله له وعليه، يعني أنه لو ادعى أحد على أحد الورثة دينا على الميت يكون هو خصما في جميع التركة لا يكون قضاء على جميع الورثة إن كانت التركة جميعها في يده، وهو معنى قوله: إلا أنه أي إلا أن الشأن م: (إنما يثبت استحقاق الكل على أحد الورثة إذا كان الكل) ش: أي كل التركة م: (في يده) ش: أي في يد الحاضر م: (ذكره في " الجامع ") ش: أي " الجامع الكبير " في باب الشهادة في المواريث م: (لأنه) ش: أي لأن الحاضر م: (لا يكون خصما بدون اليد فيقتصر القضاء على ما في يده) ش: وفي " الكافي ": أن دعوى العين لا يتوجه إلا على ذي اليد، وإنما ينتصب أحد الورثة خصما عن الباقين إذا كان المدعي في يده، وهذا بخلاف دعوى الدين، فإن أحد الورثة ينتصب خصما، وإن لم يكن في يده شيء من التركة، وكذا ذكره في " المحيط " و" الذخيرة ".
[قال مالي في المساكين صدقة]
م: (قال: ومن قال: مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة) ش: أي يجب عليه أن يتصدق بجميع ما يملكه من أجناس الأموال التي يجب فيها الزكاة، كالنقدين والسوائم وأموال التجارة بلغ النصاب أم لا، إلا أن المعتبر هو جنس مال الزكاة، والقليل منه، ولهذا قالوا: إذا(9/86)
وإن أوصى بثلث ماله فهو على ثلث كل شيء، والقياس أن يلزمه التصدق بالكل، وبه قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعموم اسم المال كما في الوصية. وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
نذر أن يتصدق بماله وعليه دين يحيط بماله لزمه التصدق به، فإن قضى به دينه لزمه التصدق بقدره عند تملكه، ولا يجب التصدق بالأموال التي لا يجب في جنسها الزكاة كالعقار والرقين وأثاث المنازل وثياب البذلة وغير ذلك.
م: (وإن أوصى بثلث ماله فهو على ثلث كل شيء، والقياس) ش: في الأول أيضا م: (أن يلزمه التصدق بالكل، وبه) ش: أي بالقياس م: (قال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو قول النخعي والليثي - رحمهمها الله -، واستدل زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطيعه» .
والجواب عنه: أنا نحن نقول به، وقد بينا الفرق بين الوصية والنذر، وقال الزهري ومالك وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يتصدق بثلث ماله، سواء كان زيوفا أم لا، لما روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي لبابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين قال: إن من توبتي يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنخلع من مالي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجزئك الثلث» ، والجواب عليه أنه ليس بنذر، وليس هو محل النزاع.
وقال الفقيه أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " شرح الجامع الصغير ": ذكر أبو يوسف [في] " الأمالي " حكاه عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعن نفسه أنه إذا قال: مالي في المساكين صدقة انصرف إلى مال الزكاة، وإذا قال: ما أملك صدقة انصرف إلى جميع الأموال، وفي قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتصدق بثلث ماله.
وفي قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عليه كفارة اليمين. وروي عن الشعبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يجب عليه شيء، إلى هنا لفظ الفقيه أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وجه القياس في التصدق بالكل، ما قاله زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لعموم اسم المال) ش: فإنه عام يتناول ما تجب فيه الزكاة، وما لا يجب فيه الزكاة فينصرف إلى الكل م: (كما في الوصية) ش: فإنه إذا أوصى بثلث ماله ينصرف إلى الكل، ولا يختص بما فيه الزكاة م: (وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى) ش: فإيجاب الله الصدقة في مطلق المال ينصرف إلى مال الزكاة، فكذا إيجاب العبد م: (فينصرف إيجابه) ش: أي إيجاب العبد م: (إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال) ش: ولا يرد الاعتكاف حيث لم يوجب في الشرع من جنسه، وهو معتبر لأنه لبث في مسجد جماعة عبادة، وهو من جنس الوقوف(9/87)
أما الوصية فأخت الميراث؛ لأنها خلافة كهي، فلا تختص بمال دون مال، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله، وهو مال الزكاة. أما الوصية فتقع في حال الاستغناء، فينصرف إلى الكل، وتدخل فيه الأرض العشرية عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنها سبب الصدقة، إذ جهة الصدقة في العشرية راجحة عنده. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تدخل لأنها سبب المؤنة إذ جهة المؤنة راجحة عنده، ولا تدخل أرض الخراج بالإجماع؛ لأنه يتمحض مؤنة. ولو قال: ما أملكه صدقة في المساكين، فقد قيل: يتناول كل مال؛ لأنه أعم من لفظ المال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعرفات، أو لأنه في معنى الصلاة، لأنه انتظار أوقات الصلاة، ولهذا اختص بمسجد جماعة والمنتظر للصلاة كأنه في الصلاة.
م: (أما الوصية فأخذت الميراث لأنها) ش: أي لأن الوصية م: (خلافة كهي) ش: أي كالوراثة أن في كل منهما تمليك مضافا إلى ما بعد الموت م: (فلا تختص) ش: أي الوصية م: (بمال دون مال) ش: كالميراث لا يختص بمال الزكاة م: (ولأن الظاهر) ش: دليل آخر، أي ولأن الظاهر من حال الناذر م: (التزام الصدقة من فاضل ماله، وهو مال الزكاة) ش: لأن الحياة مظنة الحاجة إلى ما تقوم به حوائجه الأصلية فيختص النذر بمال الزكاة.
م: (أما الوصية فتقع في حال الاستغناء) ش: عن الأموال م: (فينصرف إلى الكل) ش أي كل الأموال م: (وتدخل فيه) ش: أي في النذر م: (الأرض العشرية عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنها) ش: أي لأن الأرض العشرية م: (سبب الصدقة) ش: وهي العشر، فكانت الأرض العشرية بمنزلة مال التجارة من حيث أنها من جنس مال الزكاة التي تجب فيها الصدقة.
ولا يقال في عشر يعني المؤنة بالحديث، فقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (إذ جهة الصدقة) ش: أي العبادة م: (في العشرية راجحة عنده) ش: أي عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا تدخل لأنها) ش: أي لأن الأرض العشرية على تأويل المكان أو لتذكير الخبر، كما في قوله: هذا ربي م: (سبب المؤنة إذ جهة المؤنة راجحة عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر الإمام التمرتاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مع محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (ولا تدخل) ش: أي في النذر م: (أرض الخراج بالإجماع) ش: لأن مصرفة المقاتلة وفيهم الأغنياء وقوله م: (لأنه يتمحض مؤنة) ش: يتعلق بقوله: ولا يدخل.
م: (ولو قال: ما أملكه صدقة في المساكين، فقد قيل: يتناول كل مال) ش: وهو رواية أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " الأمالي " وإليه ذهب محمد بن إبراهيم الميداني - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأنه أعم من لفظ المال) ش: إذ الملك يطلق على المال وعلى غيره، يقال النكاح، وملك القصاص وملك المتعة، بخلاف ما لو قال: عبده حر إن(9/88)
والمقيد إيجاب الشرع، وهو مختص بلفظ المال، فلا مخصص في لفظ الملك، فبقي على العموم، والصحيح أنهما سواء؛ لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر، ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته، ثم إذا أصاب شيئا تصدق بمثل ما أمسك؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أملك إلا خمسين درهما، فإن ذلك ينصرف إلى مال الزكاة، وإن نص على لفظ الملك ذكره في " الجامع "، لأن بقرينة الاستثناء أن المراد من الملك المال، إذ استثناء الدراهم يدل أن المستثنى من جنسه.
كذا ذكره المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والمقيد) ش: بتشديد الياء المكسورة، هذا جواب عما يقال الصدقة بالأموال مقيدة في الشرع بأموال الزكاة، فزيادة التعميم خروج عن الاعتبار الواجب الرعاية، وتقرير الجواب أن المقيد م: (إيجاب الشرع) ش: أي المقيد بمال الزكاة إيجاب الشرع م: (وهو مختص بلفظ المال) ش: قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هاتوا ربع عشر أموالكم» م: (فلا مخصص في لفظ الملك) ش: إذ لم يوجد من الله عز وجل إيجاب الصدقة مضافا إلى الملك تخصيصا بأموال الزكاة م: (فبقي على العموم) ش: وفيه نظر؛ لأنه حينئذ لا يكون إيجاب العبد معتبرا بإيجاب الشرع.
م: (والصحيح أنهما) ش: أي أن لفظ "مالي وما أملك" م: (سواء) ش: فيما نحن فيه، يعني يختصان بالأموال الزكوية، وهو اختيار شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في "مبسوطه" وهو اختيار أبي بكر البلخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ م: (لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة) ش: الملتزم بفتح الزاي.
وأراد باللفظين قوله: مالي في المساكين صدقة، وقوله: ما أملك صدقة في المساكين ببيان هذا أن الملتزم بالصدقة، والصدقة إنما تجب على العبد شرعا في المال الفاضل عن الحاجة.
وكذا في إيجاب العبد على نفسه، والفاضل عن الحاجة مال الزكاة، فلذلك اختص لفظ الملك والمال بمال الزكاة بدلالة لسان لفظ الصدقة، هكذا بخط شيخي العلامة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (على ما مر) .
ش: قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إشارة إلى ما ذكر من وجه الاستحسان بقوله: إن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وليس بواضح، لأنه أبطل ذلك الوجه بقوله م: (والمقيد إيجاب الشرع) ش: وهو بلفظ المال، ولعله إشارة إلى قوله: "ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله".
م: (ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته) ش: لأن حاجته هذه مقدمة، إذ لو لم يمسك لاحتاج أن يسأل الناس من يومه، وقبيح أن يتصدق بماله ويسأل الناس من يومه م: (ثم إذا أصاب شيئا) ش: يعني إذا حصل له شيء من الدنيا م: (تصدق بمثل ما أمسك؛ لأن(9/89)
حاجته هذه مقدمة، ولم يقدر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختلاف أحوال الناس فيه. وقيل: المحترف يمسك قوته ليوم وصاحب الغلة لشهر، وصاحب الضياع لسنة على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال. وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله.
قال: ومن أوصى إليه ولم يعلم بالوصاية حتى باع شيئا من التركة، فهو وصي والبيع جائز، ولا يجوز بيع الوكيل حتى يعلم، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز في الفصل الأول أيضا؛ لأن الوصاية إنابة بعد الموت، فتعتبر بالإنابة قبله، وهي الوكالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاجته هذه مقدمة) ش: على الصدقة وغيرها م: (ولم يقدر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: على صيغة المجهول يعني لم يبين في " المبسوط " مقدار ما يمسك م: (لاختلاف أحوال الناس فيه) ش: بكثرة العيال وقلتها.
م: (وقيل: المحترف يمسك قوته ليوم) ش: أي لأجل نفقة يوم؛ لأن يده تصل إلى ما ينفق يوما فيوما م: (وصاحب الغلة) ش: أي صحاب الدور والحوانيت والبيوت التي يؤجرها م: (لشهر) ش: أي يمسك منه لأجل قوته لشهر واحد م: (وصاحب الضياع لسنة) ش: أي يمسك صاحب الضيعة لأجل قوت سنة، لأن يد الدهقان إنما يصل إلى ما ينفق سنة فسنة م: (على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال) ش: تارة يصل إلى المال عند معنى نصف سنة، وتارة في آخر سنة م: (وعلى هذا) ش: أي وعلى هذا الاعتبار م: (صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله) ش: اعتبارا لتفاوت وصولهم إلى المال.
[أوصى إليه ولم يعلم حتى باع شيئا من التركة]
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (ومن أوصى إليه) ش: على صيغة المجهول م: (ولم يعلم بالوصاية) ش: أي ولم يعلم أنه وصي م: (حتى باع شيئا من التركة، فهو وصي والبيع جائز، ولا يجوز بيع الوكيل حتى يعلم) ش: إنه وكيل لتوقف التوكيل على العلم. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يتوقف التوكيل على العلم، كالوصاية.
وفي " الجامع " فإذا أعلمه إنسان فباع فهو جائز، ولا يكون نهيا عن الوكالة، حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل، هذا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه، وفي شروحه أن عندهما يثبت العزل بخبر الواحد، سواء كان عدلا أو فاسقا أو عبدا أو حرا أو غير ذلك كالوكالة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يجوز في الفصل الأول أيضا) ش: يعني لا يجوز بيع الوصي أيضا، قيل: العلم بالوصاية اعتبارا بالوكالة م: (لأن الوصاية إنابة بعد الموت فتعتبر بالإنابة قبله) ش: أي قبل الموت م: (وهي الوكالة) ش: أي الإنابة قبل الموت هي الوكالة.
قال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: لأن الوصاية إنابة، أي جعل الوصي نائبا عن نفسه، والإنابة يعني جعل الغير نائبا عن نفسه لم يوجد في كتب اللغة المتداولة بين الناس، بل هي(9/90)
ووجه الفرق على الظاهر أن الوصاية خلافة لإضافتها إلى زمان بطلان الإنابة، فلا يتوقف على العلم كما في تصرف الوارث أما الوكالة فإنابة لقيام ولاية المنوب عنه، فيتوقف على العلم، وهذا لأنه لو توقف على العلم لا يفوت النظر لقدرة الموكل، وفي الأول يفوت العجز الموصي، ومن أعلمه من الناس بالوكالة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مستعملة فيها بمعنى الرجوع، كقولهم أناب إلى الله أي رجع. فلهذا عيب على صاحب الكتاب استعمال الإنابة، بمعنى جعل الغير نائبا عن نفسه، قال شيخي العلامة صاحب " النهاية ": ليس هذا هو موضع عيب إذ صاحب " الكشاف " استعملها في ذلك في "الكشاف " في سورة الروم، وكفى قوله حجة في اللغة؛ انتهى.
قلت: لا يحتاج إلى هذه الحوالة، فإن الجوهري قال: ناب عني فلان أي قام مقامي، ويستخرج منه صحة قول المصنف.
م: (ووجه الفرق) ش: بينهما م: (على الظاهر أن الوصاية خلافة لإضافتها إلى زمان بطلان الإنابة) ش: وهو بعد الموت م: (فلا يتوقف على العلم كما في تصرف الوارث) ش: بالبيع ولم يعلم بموت المورث فإنه صحيح. م: (أما الوكالة فإنابة لقيام ولاية المنوب عنه، فيتوقف على العلم، وهذا) ش: أي توقف الوكالة على العلم وعدم توقف الوصية عليه.
م: (لأنه) ش: أي لأن التوكيل م: (لو توقف على العلم) ش: أي على العلم، وفي بعض النسخ لأنها لو توقفت عليه أي توقفت الوكالة على العلم م: (لا يفوت النظر لقدرة الموكل، وفي الأول يفوت لعجز الموصي) ش: أراد بالأول من الوصاية لو توقف على العلم يفوت النظر لعجز الموصي، لعدم قدرته، ثم اعلم أن هذا الذي ذكره من عدم جواز التصرف قبل العلم بالوكالة إذا ثبتت مقصودة، وكذلك إذن الصبي والعبد بالتجارة، إن كان قصدا لا يثبت بدون العلم؛ لأن الإذن من الآذان، يعني الإعلام، والإعلام لا يتصور بدون العلم.
أما إذا ثبتت الوكالة في ضمن أمر الحاضر بالتصرف، ففيه روايتان: نحو أن يقول الموكل لرجل: اذهب بعبدي إلى فلان فيبيعه فلان منك، فذهب الرجل بالعبد إليه، وأعلمه أن صاحب العبد أمره ببيعه، فاشتراه صح شراؤه منه، وإن لم يخيره بذلك، واشتراه منه، ذكر محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب "الوكالة " أن البيع جائز، وجعل معرفة المشتري بالتوكيل كمعرفة البائع.
وذكر في كتاب " الزيادات " أنه لا يجوز البيع، وأما العزل القصدي لا يصح بدون العلم، والحكم يصح بدونه، كما إذا مات الموكل، ونحو ذلك، وكذلك الحي.
م: (ومن أعلمه) ش: أي من أعلم الوكيل م: (من الناس بالوكالة) ش: أطلق اسم الناس(9/91)
يجوز تصرفه؛ لأنه إثبات حق لا إلزام أمر. قال: ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقالا: وهو والأول سواء؛ لأنه من المعاملات وبخبر الواحد فيها كفاية. وله أنه خبر ملزم فيكون شهادة من وجه، فيشترط أحد شطريها وهو العدد أو العدالة، بخلاف الأول، وبخلاف رسول الموكل؛ لأن عبارته كعبارة المرسل للحاجة إلى الإرسال، وعلى هذا الخلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليتناول كل مميز صغير أو كبير أو كافر أو مسلم م: (يجوز تصرفه، لأنه إثبات حق لا إلزام أمر) ش: أي إطلاق محض لا يشتمل على شيء من الإلزام، وما كان كذلك فقول الواحد فيه كاف. وفي " أصول شمس الأئمة " - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المعاملات لا إلزام فيها، كالوكالات، والمضاربات، والإذن للعبد في التجارة يكفي فيها خبر الواحد.
وقال الشافعي وأحمد - رحمهما الله - لا يثبت الوكالة والعزل عنها بخبر الواحد، وهذا من باب المعاملات، ولهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة م: (ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده) ش: أي عند الوكيل م: (شاهدان أو رجل عدل) ش: والمراد من الشهادة الإخبار، إذ لفظ الشهادة ليس بشرط، ذكره في " جامع قاضي خان " - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهذا) ش: أي اشتراط الشاهدين أو رجل عدل م: (عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) .
م: (وقالا: هو) ش: أي النهي عن الوكالة م: (والأول) ش: هو الإعلام بالوكالة م: (سواء) ش: في الاكتفاء بخبر الواحد م: (لأنه) ش: أي لأن العزل م: (من المعاملات وبخبر الواحد) ش: أي وبإخبار الواحد م: (فيها) ش: أي في المعاملات م: (كفاية) ش: فيثبت بخبر الفاسق اعتبارا بالوكالة، والإذن للعبد في التجارة بخلاف الديانات، فإنها لا تثبت بخبر الفاسقين، فلأن لا تثبت بخبر الواحد الفاسق أولى، كذا ذكره المحبوبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وله) ش: أي ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (أنه) ش: أي أن العزل م: (خبر ملزم) ش: أما كونه خبر فلأنه كلام يحتمل الكذب يحصل به الإعلام، وأما كونه ملزم لأنه يلزم الامتناع عن التصرف م: (فيكون شهادة من وجه) ش: دون وجه. فمن حيث إنه ضرر يلزم الوكيل من حيث منعه عن التصرف تشترط الشهادة م: (فيشترط أحد شطريها) ش: أي أحد شطري الشهادة م: (وهو) ش: أي أحد شطري الشهادة م: (العدد) ش: بأن يكون اثنان م: (أو العدالة) ش: بأن يكون واحدا عدلا م: (بخلاف الأول) ش: أي التوكيل؛ لأنه لا إلزام فيه بوجه م: (وبخلاف رسول الموكل) ش: فإنه لا يشترط فيه أيضا شيء من ذلك م: (لأن عبارته) ش: أي عبارة الرسول م: (كعبارة المرسل للحاجة إلى الإرسال) ش: إذ ربما لا يتفق لكل أحد في كل وقت بالغ عدل يرسله إلى وكيله. م: (وعلى هذا الخلاف) ش: يعني الذي ذكره بين أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وصاحبيه في اشتراط أحد(9/92)
إذا أخبر المولى بجناية عبده، والشفيع والبكر والمسلم الذي لم يهاجر إلينا، قال: وإذا باع القاضي أو أمينه عبدا للغرماء وأخذ المال فضاع واستحق العبد لم يضمن؛ لأن أمين القاضي قائم مقام القاضي، والقاضي قائم مقام الإمام، وكل واحد منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
شطريها، وهاهنا ست مسائل ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - منها خمسة منها: عزل الوكيل وقد مضى ذكر الأربعة بعد ذلك، الأولى قوله م: (إذا أخبر المولى بجناية عبده) فإن أخبره اثنان أو واحد عدل، فتصرف فيه بعده بعتق أو بيع، كان اختيارا منه للغد، أو إن أخبره فاسق فصدقه فكذلك، وإلا فعلى الاختلاف فعنده لا يكون اختيارا خلافا لهما. الثانية: في قوله م: (والشفيع) ش: إذا أخبره اثنان أو عدل بالبيع، فسكن سقطت شفاعته وإن أخبره فاسق فعلى الاختلاف. الثالثة: هي قوله: م: (والبكر) ش: إذا بلغها تزوج الولي، فسكتت، فإن أخبرها اثنان أو عدل كان رضاء بلا خلاف، وإن أخبرها فاسق، فعلى الاختلاف، الرابعة: هي قوله: م: (والمسلم الذي لم يهاجر إلينا) ش: إذا أخبره اثنان أو عدل مما عليه من الفرائض لزمته وبتركها يجب القضاء. وإن أخبره فاسق وكذبه، فعلى الاختلاف فعنده لا يلزمه خلافا لهما.
والسادسة: التي لم يذكرها المصنف: عزل المأذون إذا أخبره واحد بالحجر من تلقاء نفسه وهو عدل، أو اثنان ثبت الحجر صدق العبد أو كذب، وإن كان فاسقا وكذبه ثبت الحجر عندهما، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيد بتلقاء نفسه؛ لأن حكم الرسول حكم مرسله كما ذكرنا.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير ": م: (وإذا باع القاضي أو أمينه عبدا للغرماء وأخذ المال) ش: أي الثمن م: (فضاع) ش: أي الثمن م: (واستحق العبد لم يضمن) ش: أي القاضي أو أمينه صورة المسألة في " الجامع ": محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عنه في الرجل يموت وعليه دين مائة درهم لرجل وله عبد يساوي مائة درهم، فيرفع الغريم الوصي إلى القاضي، فيأمر بالبيع للغريم في دينه، فيبيعه بمائة درهم لقبض الوصي الثمن، فيهلك ثم يستحق العبد من يد المشتري.
قال: يرجع المشتري على الغريم بالثمن، والوارث إذا بيع له بمنزلة الغريم سواء. إلى هنا لفظ محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أصل " الجامع الصغير "، والمصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر بيع القاضي وبيع أمينه.
ثم ذكر أن أمين القاضي لم يضمن م: (لأن أمين القاضي قائم مقام القاضي، والقاضي قائم مقام الإمام) ش: والإمام لا يضمن، فكذا القاضي أو أمينه وهو معنى قوله م: (وكل واحد منهم) ش: أي(9/93)
لا يلحقه ضمانا كيلا يتقاعد الناس عن قبول هذه الأمانة فتضيع الحقوق ويرجع المشتري على الغرماء؛ لأن البيع واقع لهم، فيرجع عليهم عند تعذر الرجوع على العاقد، كما إذا كان العاقد محجورا عليه ولهذا يباع بطلبهم، وإن أمر القاضي الوصي ببيعه للغرماء، ثم استحق أو مات قبل القبض وضاع المال، رجع المشتري على الوصي لأنه عاقد نيابة عن الميت، وإن كان بإقامة القاضي عنه فصار كما إذا باعه بنفسه.
وقال: ويرجع الوصي على الغرماء لأنه عامل لهم، وإن ظهر للميت مال يرجع الغريم فيه بدينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الإمام والقاضي وأمينه م: (لا يلحقه ضمانا كيلا يتقاعد الناس) ش: أي كل واحد منهم م: (عن قبول هذه الأمانة) ش: خوفا من الضمان م: (فتضيع الحقوق) ش: أي حقوق المسلمين م: (ويرجع المشتري على الغرماء؛ لأن البيع واقع لهم) ش: أي للغرماء فإذا كان ذلك م: (فيرجع عليهم) ش: أي على الغرماء م: (عند تعذر الرجوع على العاقد، كما إذا كان العاقد محجورا عليه) ش: عند تعذر الرجوع.
أطلق لفظ المحجور ليتناول العبد المحجور والصبي المحجور، فإن من وكل صبيا محجورا يعقل البيع والشراء، أو عبدا محجورا جاز العقد بمباشرتهما، ولا يتعلق حقوق العبد بهما، بل يتعلق بموكلهما.
وإذا تعذر تعليق الحقوق هنا على العاقد، يتعلق بأقرب الناس إلى العاقد كما في توكيل المحجور، وأقرب الناس فيما نحن فيه الغريم، لوقوع العقد له كما في الوكيل.
م: (ولهذا) ش: أي لأجل وقوع البيع لأجل الغرماء م: (يباع) ش: أي العبد م: (بطلبهم) ش: أي بطلب الغرماء م: (وإن أمر القاضي الوصي ببيعه للغرماء) ش: أي ببيع العبد م: (ثم استحق أو مات) ش: أي العبد م: (قبل القبض وضاع المال، رجع المشتري على الوصي لأنه) ش: أي لأن الوصي م: (عاقد نيابة عن الميت) ش: هذا ظاهر إذا كان الميت أوصى إليه م: (وإن كان) ش: أي الوصي م: (بإقامة القاضي عنه) ش: أي عن الميت م: (فصار كما إذا باعه) ش: أي كما إذا باعه الميت م: (بنفسه) ش: حال حياته وثمة كان يرجع الحقوق إليه، فكذا هنا لأن القاضي إنما أقامه نائبا عن الميت، لا عن نفسه، وعقد النائب كعقد المنوب عنه.
م: (وقال) ش: يجوز أن يكون فاعله محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه كذا حكي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويجوز أن يكون فاعله المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فتأمل م: (ويرجع الوصي على الغرماء لأنه عامل لهم) ش: أي لأن الوصي عامل للغرماء. ومن عمل عملا لغيره ولحقه ضمان، يرجع على من وقع له العمل م: (وإن ظهر للميت مال) ش: آخر بعد ذلك م: (يرجع الغريم فيه بدينه) ش: أي يأخذ دينه من ذلك، وهل يرجع بما غرم للوصي في ذلك المال، ففيه اختلاف.(9/94)
قالوا: ويجوز أن يقال يرجع بالمائة التي غرمها أيضا؛ لأنه لحقه في أمر الميت، والوارث إذا بيع له بمنزلة الغريم؛ لأنه إذا لم يكن في التركة دين، كان العاقد عاملا له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (قالوا) ش: أي المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: م: (ويجوز أن يقال: يرجع بالمائة التي غرمها أيضا) ش: كما رجع بدينه، وإنما قيد بهذا اللفظ؛ لأن فيه اختلاف. قال أبو الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز أن يقال: يرجع بما ضمن للوصي أو للمشتري م: (لأنه) ش: أي لأن الضمان م: (لحقه في أمر الميت) ش:. وعن بعض المشايخ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يرجع لأن الضمان إنما لحقه بفعله؛ لأن قبض الوصي كقبض الميت.
وفي " الكافي ": الأصح الرجوع لأنه قبض ذلك وهو مضطر فيه م: (والوارث إذا بيع له) ش: أي لأجله يعني إذا احتاج إلى بيع شيء من التركة، وهو صغير فباعه الوصي، ثم اشترى، رجع المشتري بالثمن على الوصي، والوصي على الوارث أشار إليه بقوله م: (بمنزلة الغريم) ش: حيث يرجع م: (لأنه إذا لم يكن في التركة دين كان العاقد عاملا له) ش: أي للوارث.(9/95)
فصل آخر وإذا قال القاضي: قد قضيت على هذا بالرجم، فارجمه، أو بالقطع فاقطعه، أو بالضرب فاضربه وسعك أن تفعل، وعن محمد أنه رجع عن هذا، وقال: لا تأخذ بقوله حتى تعاين الحجة؛ لأن قوله يحتمل الغلط والخطأ، والتدارك غير ممكن، وعلى هذه الرواية لا يقبل كتابه، واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد حال أكثر القضاة في زماننا، إلا في كتاب القاضي للحاجة إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[قول القاضي بانفراده قبل العزل وبعده]
[قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه]
م: (فصل آخر) ش: أي هذا فصل آخر، ومسائل يجمعها أصل واحد يتعلق بكتاب القضاء، وهو أن قول القاضي بانفراده قبل العزل وبعده مقبول أم لا. فلذلك ذكرها في فصل على حدة.
م: (وإذا قال القاضي: قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه) ش: يعني إذا قال القاضي لك: قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه وسعك أن ترجمه م: (أو بالقطع فاقطعه) ش: أي وإذا قال لك قضيت عليه بالقطع وسعك أن تقطعه.
م: (أو بالضرب فاضربه) ش: أي وإذا قال: قضيت عليه بالضرب فاضربه. وقوله: م: (وسعك أن تفعل) ش: جواب قوله: " وإذا قال القاضي" في ثلاث صور.
م: (وعن محمد أنه رجع عن هذا) ش: لأنه كان حكي هذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير "، ثم رجع عنه م: (وقال: تأخذ بقوله) ش: أي بقول هذا القاضي: م: (حتى تعاين الحجة) ش: أي الشهادة بحضرتك.
وقال الكاكي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أو يشهد على ذلك مع القاضي عدل، وهذه رواية ابن سماعة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (لأن قوله) ش: أي قول القاضي م: (يحتمل الغلط والخطأ، والتدارك) ش: بعد وقوع الأمر م: (غير ممكن) ش: لفواته وبه أخذ مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لفساد قضاة هذا الزمان، لا سيما قضاة مصر؛ لأن أكثرهم يقولون بالراشي، فأحكامهم باطلة.
وصدق خبر الواحد بيقين مرتبة الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وغيرهم غير معصومين عن الكذب والغلط على الخصوص في قضاة هذا الزمان بغلط الجهل والفسق فيهم.
م: (وعلى هذه الرواية) ش: أي الرواية التي رويت عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: م: (لا يقبل كتابه) ش: أي كتاب القاضي إلى القاضي.
وقال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (واستحسن المشايخ هذه الرواية) ش: وقالوا: ما أحسن هذا في زماننا م: (لفساد حال أكثر القضاة في زماننا) ش: فلا يؤتمنون م: (إلا في كتاب القاضي) ش: إلى القاضي لم يأخذوا بهذه الرواية م: (للحاجة إليه) ش: أي إلى كتاب القاضي إلى القاضي للضرورة(9/96)
وجه ظاهر الرواية أنه أخبر عن أمر يملك إنشاءه فيقبل لخلوه عن التهمة، ولأن طاعة أولي الأمر واجبة، وفي تصديقه طاعة. وقال الإمام أبو منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطأ والخيانة، وإن كان عدلا جاهلا يستفسر، فإن أحسن التفسير وجب تصديقه، وإلا فلا. وإن كان جاهلا فاسقا أو عالما لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطأ والخيانة.
قال: وإذا عزل القاضي، فقال لرجل: أخذت منك ألفا ودفعتها إلى فلان قضيت بها عليك فقال: الرجل أخذتها ظلما، فالقول قول القاضي، وكذا لو قال: قضيت بقطع يديك في حق هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجه ظاهر) ش: أي وجه ظاهر الرواية م: (أنه) ش: أي أن القاضي م: (أخبر عن أمر يملك إنشاءه) ش: لأن المتولي يتمكن من إنشاء القضاء، ومن [ ... ] تمكن به من الإنشاء لا يرد م: (فيقبل لخلوه عن التهمة) ش: وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه بحث، وهو أنه يتمكن من ذلك بحجة أو بدونها، والثاني ممنوع، والأول [
] إلى غير ظاهر الرواية من معاينة الحجة م: (ولأن طاعة أولي الأمر واجبة) ش: هذا دليل آخر، لأن القاضي من أولي الأمر وطاعة أولي الأمر واجبة م: (وفي تصديقه طاعة) ش: أي طاعة القاضي. وكان ينبغي أن يقال: إطاعته.
م: (وقال الإمام أبو منصور - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: الماتريدي، واسمه محمد بن محمد بن محمود ونسبته إلى " ماتريد " محله من سمرقند، ويقال: ماتريت أيضا بالتاء، م: (إن كان) ش: أي القاضي م: (عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطأ والخيانة، وإن كان عدلا جاهلا يستفسر) ش: أي قضائه لتهمة الخطأ م: (فإن أحسن التفسير) ش: القضاء بأن فسر على وجه اقتضاه الشرع أن يقول مثلا: استفسرت المقر بالزنا، كما هو المعروف فيه وحكمت عليه بالرجم، وثبت عندي بالحجة أنه أخذ نصابا من حرز لا شبهة فيه، وأنه قتل عمدا بلا شبهة، فحينئذ م: (وجب تصديقه) ش: وقبول قوله م: (وإلا فلا) ش: أي فلا يحسن تفسيره، فلا يجب تصديقه ولا يقبل قوله.
م: (وإن كان) ش: أي القاضي م: (جاهلا فاسقا أو عالما لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطأ) ش: في الجهل م: (والخيانة) ش: أي ولتهمة الجناية في الفسق، وهذا على أربعة أقسام، ذكر المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - منها ثلاثة، ولم يذكر القسم الرابع من القسمة العقلية، وهو أن يكون عالما عادلا؛ لأنه يقبل قوله بدون الاستفسار.
م: (قال) ش: أي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " م: (وإذا عزل القاضي، فقال لرجل: أخذت منك ألفا ودفعتها إلى فلان قضيت بها عليك، فقال: الرجل أخذتها ظلما، فالقول قول القاضي، وكذا لو قال) ش: أي القاضي: م: (قضيت بقطع يديك في حق هذا) ش: فالقول قول القاضي، وهذا أي كون القول قول القاضي في تأمين الصورتين.(9/97)
إذا كان الذي قطعت يده والذي أخذ منه المال مقرين أنه فعل ذلك وهو قاض. ووجهه أنهما لما توافقا أنه فعل ذلك في قضائه كان الظاهر شاهدا له، إذ لا يقضي بالجور ظاهرا ولا يمين عليه، لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق ولا يمين على القاضي، ولو أقر القاطع والآخذ بما أقر به القاضي لا يضمن أيضا؛ لأنه فعله في حال القضاء، ودفع القاضي صحيح كما إذا كان معاينا.
ولو زعم المقطوع يده أو المأخوذ ماله أنه فعل ذلك قبل التقليد أو بعد العزل، فالقول للقاضي أيضا، وهو الصحيح؛ لأنه أسند فعله إلى حالة معهودة منافية للضمان، فصار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (إذا كان الذي قطعت يده، والذي أخذ منه المال) ش: حال كونه م: (مقرين أنه) ش: أي أن القاضي م: (فعل ذلك) ش: أي كل واحد من أخذ المال وقطع إليه م: (وهو قاض) ش: يعني في حال قضائه م: (ووجهه) ش: أي وجه كون القول قول القاضي في الوجهين م: (أنهما) ش: أي أن القاضي والمأخوذ منه المال أو المقطوع يده م: (لما توافقا) ش: أي انقضاء م: (أنه) ش: أي أن القاضي م: (فعل ذلك) ش: أي أخذ المال أو القطع حال كونه م: (في قضائه) ش: يعني في حال ولايته فلما اتفقا م: (كان الظاهر) ش: أي ظاهر الحال م: (شاهدا له) ش: أي للقاضي م: (إذ) ش: وفي بعض النسخ م: (لا يقضي بالجور) ش: أي بالظلم والخروج عن الحق م: (ظاهرا) ش: والقول قول من يشهد له الظاهر.
م: (ولا يمين عليه) ش: أي على القاضي م: (لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق ولا يمين على القاضي) ش: لأن إيجابها عليه يقضي إلى تعطيل أمور الناس، بامتناع الدخول في القضاء، ولأنا لو ألزمنا عليه اليمين، لكان خصما، وقضاء الخصم لا يجوز م: (ولو أقر القاطع) ش: أي بأمر القاضي م: (والآخذ) ش: أو أقر أخذ المال بأمر القاضي م: (بما أقر به القاضي) ش: أي بالقطع أو الأخذ م: (لا يضمن) ش: القاضي م: (أيضا لأنه) ش: أي لأن القاطع أو الآخذ م: (فعله في حالة القضاء) ش: وهو صحيح.
م: (ودفع القاضي صحيح) ش: أي دفع القاضي المال إلى رب الدين أو المستحق صحيح، لأنه دفع في حالة القضاء، والظاهر أنه محق م: (كما إذا كان) ش: أي دفع القاضي المال إلى الآخذ بحكم القضاء م: (معاينا) ش: يعني في معاينة المأخوذ منه المال لا يضمن الآخذ، وكذا أقر بما أقر به القاضي م: (ولو زعم المقطوع يده أو المأخوذ ماله أنه) ش: أي أن القاضي م: (فعل ذلك قبل التقليد أو بعد العزل) ش: أي أو فعل بعد عزله م: (فالقول للقاضي أيضا، وهو الصحيح) ش: احترز به عما ذكره شمس الأئمة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "جامعه " أن القول للمدعي إذا قال فعله بعد العزل م: (لأنه) ش: أي لأن القاضي م: (أسند فعله إلى حالة معهودة منافية للضمان) ش: لأنه إذا عرف أنه كان قاضيا، صحت إضافة القطع أو الأخذ إلى حالة القضاء، لأن حالة القضاء معهودة فيتقي بها الضمان، وهو اختيار فخر الإسلام - رَحِمَهُ اللَّهُ - والصدر الشهيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فصار)(9/98)
كما إذا قال: طلقت أو أعتقت، وأنا مجنون والجنون منه كان معهودا. ولو أقر القاطع أو الآخذ في هذا الفصل بما أقر به القاضي يضمنان؛ لأنهما أقرا بسبب الضمان، وقول القاضي مقبول في دفع الضمان عن نفسه لا في إبطال سبب الضمان على غيره بخلاف الأول؛ لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق، ولو كان المال في يد الآخذ قائما، وقد أقر بما أقر به القاضي والمأخوذ منه المال صدق القاضي في أنه فعله في قضائه أو ادعى أنه فعله في غير قضائه، يؤخذ منه؛ لأنه أقر أن اليد كانت له فلا يصدق في دعوى تملكه إلا بحجة، وقول المعزول فيه ليس بحجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ش: إسناد القضاء هما م: (كما إذا قال) ش: من عهد منه الجنون: م: (طلقت) ش: امرأتي م: (أو أعتقت) ش: أي قال: أعتقت عبدي م: (وأنا مجنون والجنون) ش: أي والحال أن الجنون م: (منه كان معهودا) ش: أي معلوما بين الناس، فإن القول قوله حتى لا يقطع الطلاق ولا العتاق لإضافته إلى حالة منافية الإيقاع.
م: (ولو أقر القاطع والآخذ في هذا الفصل) ش: وهو فصل أن المقطوع يده والمأخوذ ماله يزعم أن القاضي قطع وأخذ قبل التقليد أو بعد العزل م: (بما أقر به القاضي يضمنان؛ لأنهما أقرا بسبب الضمان) ش: وهو أخذ المال وقطع اليد م: (وقول القاضي مقبول في دفع الضمان عن نفسه لا في إبطال سبب الضمان على غيره) ش: يعني لا يقبل في ذلك، فإن قيل: ينبغي أن لا يضمن الآخذ والقاطع أيضا؛ لأنهما أسندا الفعل أيضا إلى حالة معهودة للضمان. والجواب أن جهة الضمان راجحة؛ لأن إقرار الرجل على نفسه بسبب الضمان حجة قطعية، وقضاء القاضي حجة ظاهرا والظاهر لا يعارض القطعي.
م: (بخلاف الأول) ش: أي الفصل الأول م: (لأنه ثبت فعله) ش: أي فعل القاضي م: (في قضائه بالتصادق) ش: فكان بمنزلة الثابت معاينة م: (ولو كان المال في يد الآخذ قائما وقد أقر بما أقر به القاضي والمأخوذ منه المال صدق القاضي في أنه فعله في قضائه أو ادعى أنه فعله في غير قضائه يؤخذ منه؛ لأنه أقر أن اليد كانت له) ش: أي للمأخوذ منه م: (فلا يصدق في دعوى تملكه إلا بحجة) ش: لأنه لم يكن له ولاية الآخذ إلا بحجة ظاهرة.
م: (وقول المعزول) ش: أي القاضي المعزول م: (فيه ليس بحجة) ش: لكون شهادة فرد، بخلاف ما لو كان المال هالكا وأن القاضي ينكر وجوب الضمان، والقول قول المنكر، والله أعلم بالصواب.(9/99)
كتاب الشهادة قال: الشهادة فرض تلزم الشهود ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] (البقرة الآية: 282) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] م: (البقرة الآية: 283) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الشهادة]
[حكم الشهادة إذا طلبها المدعي]
م: (كتاب الشهادة) ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الإشهادات وهو جمع شهادة، والشهادة لغة إخبار قاطع، كذا في " الصحاح " يعني الإخبار بالشيء عن شهادة وعيان، لا عن تخمين وحسبان. ومن هذا قالوا: مشتقة من المشاهدة، وعلى المعاينة وإليه الإشارة النبوية بقوله: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد» . وما في الشريعة إخبار عن صدق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء والحكم وسببها في حق التحمل الشهادة، وفي حق الأداء طلب المدعي وركنها استعمال لفظة الشهادة.
وشروطها كثيرة تأتي في أثناء المسائل، وحكمها وجوب الحكم على القاضي بما يثبت بها.
وفي " المبسوط " والقياس يأتي على كون الشهادة حجة تلزمه؛ لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة، إلا أن القياس ترك بالنصوص والإجماع.
ووجه ذكر هذا الكتاب عقيب كتاب "أدب القاضي" ظاهر جدا لأن القاضي يحتاج في حكمه إلى الشاهد فكان ذلك من تتمة حكمه.
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الشهادة فرض) ش: أي أداؤها وتحملها إذا تعين، وفرض كفاية إذا لم يتعين بالإجماع م: (تلزم الشهود، ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي) ش: وقوله: لا يسعهم، تأكيد لقوله يلزم الشهود م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ش: (البقرة الآية: 282) هذا دليل على أن الطلب من المدعي شرط الفريضة، والنهي عن الإباء عند الدعوى أمر بالحضور للأداء.
م: (وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ش: (البقرة الآية: 283) ، إنما خص القلب، وإن كانت الجملة آثمة؛ لأنه رأس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله. كما جاء في الحديث؛ لأنه قيل قد تمكن الإثم في أصله، وملك أشرف شيء منه، ولأن أفعال القلوب أعظم من سائر الجوارح، فأصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، كان من أعظم الذنوب.(9/100)
وإنما يشترط طلب المدعي، لأنها حقه، فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق،
والشهادة في الحدود يخبر فيها الشاهد بين الستر والإظهار، لأنه بين حسبتين: إقامة الحد والتوقي عن الهتك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان آثما مقترفا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ.
م: (وإنما يشترط طلب المدعي؛ لأنها حقه، فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق) ش: لأن الحق لما كان له لم يلزمهم الشهادة قبل طلبه، بل يتوقف على الطلب كما في سائر الحقوق، ونوقض بما إذا علم الشاهد الشهادة، ولم يعلم بها المدعي، ويعلم الشاهد أنه إن لم يشهد يضع حقه، فإنه يجب عليه الشهادة، ولا طلب ثمة. والجواب أنه ألحق بالمطلوب دلالة، فإن الموجب للأداء عند الطلب إحياء الحق وهو فيما ذكرتم موجود، فكان في معناه فألحق به لا يقال: قد مر آنفا أن طلب المدعي سببا لأداء الشهادة وهو خلاف ما ذكره المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله، وإنما يشترط طلب المدعي فإنه يدل على أن طلبه شرط، وهو غير السبب؛ لأن معنى كلامه وإنما يشترط وجود سبب الأداء وهو طلب المدعي. فالطالب سبب وجوده شرط فلا يخالفه حينئذ.
فإن قلت: إنما جعله شرطا، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} [البقرة: 282] ، {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] سببا.
قلت: نعم؛ لأنه خطاب وضع يدل على سبب، وغيره كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] (الإسراء: الآية 78) .
[الشهادة في الحدود]
م: (قال) ش: أي القدوري - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار لأنه) ش: أي لأن الشاهد م: (بين حسبتين) ش: بكسر الحاء تثنية حسبة، والحسبة ما ينتظر به الأجر في الآخرة، وفي "الصحاح" احتسب بهذا جزاء عند الله، والاسم الحسبة بالكسر، وبين الأجر والجمع الحسب، وفلان محتسب البلد ولا تقل محتسب م: (إقامة الحد) ش: حسبة لله تعالى، فيقام عليه الحد والحسبة الأخرى م: (والتوقي عن الهتك) ش: أي التحفظ عن هتك المسلم حسبة لله تعالى، فإن قيل: هذا الذي ذكره معارض لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] (البقرة: الآية 283) ، وتقييد المطلق بخبر الواحد لا يجوز.
الجواب: أن الآية محمولة على الشهادة في حقوق العباد، بدليل سياق الآية، وهي آية المداينة وبالإجماع والنص قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] إلى قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19] (النور: الآية 19) ، والمعنى أن الستر والكتمان إنما يحرم لخوف فوت حق المدعي المحتاج إلى إحياء حقه من الأموال وغيرها.
فأما الحدود فهي حقوق الله تعالى، والله - عز وجل - موصوف بالعطاء والكرم، وليس فيه(9/101)
والستر أفضل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
خوف فوت حقه، فجاز له ذلك أن يختار الشاهد جانب الستر، وإليه أشار المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقوله:
م: (والستر أفضل لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ش: أي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيرا لك» ش: الذي قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا القول لم يشهد عنده بشيء، ولكنه حمل ماعزا إلى أن اعترف عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا كما رواه أبو داود والنسائي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه نعيم بن هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ماعزا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه. وقال لهزال: "لو سترته بثوبك كان خيرا لك» . ثم أخرج أبو داود عن ابن المنكدر: «أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيخبره» انتهى بلفظ أبي داود. ورواه عبد الرزاق - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "مصنفه" ولفظه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهزال: لو سترت بثوبك كان خيرا» .
قلت: لم أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضع، حتى قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الذي شهد عنده وهو رجل يقال له: هزال الأسلمي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو سترته بثوبك"، وفي رواية: "بردائك لكان خيرا لك". انتهى.
وقد قلنا: إن الذي قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا القول لم يشهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يقول الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - شهد عنده رجل يقال له: " هزال الأسلمي - رَحِمَهُ اللَّهُ -" و" هزال " لم يشهد أصلا وإنما حمل ماعزا على أن يعترف عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهزال: «لو سترت بثوبك كان خيرا» .
و" هزال " بفتح الهاء وتشديد الزاي وباللام أسلمي سكن المدينة، وقال المنذري: نعيم بن هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قيل: لا صحبة له وإنما الصحبة لأبيه هزال، وصاحب الذنب اسمه ماعز بن مالك الأسلمي، معدود في المدنيين، والمرأة التي وقع عليها اسمها فاطمة جارية هزال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(9/102)